معاني القرآن وإعرابه للزجاج

الزجاج

سورة الفاتحة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَال أبو إسحاق إِبراهيمُ بنُ السَّري الزجَّاج: هذا كتاب مختصر في إِعرَاب القُرآنِ ومَعَانِيه، وَنَسْألُ اللَّه التَّوْفِيق فِي كُل الأمُورِ. قوله عزَّ وجلَّ: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ): الجالب للباءِ معنى الابتِدَاء، كَأنَّك قُلْتَ: بَدَأتُ بِاسْم اللَّه الرحمن الرحيم، إِلا أنَّهُ لم يُحْتَج لذكر " بَدأت " لأن الحال تنبئ أنك مبتدئ. وسقَطت الألف من باسم اللَّه في اللفظ وكان الأصلُ: " باسم اللَّه " لأنها ألف وصل دخَلتْ ليتَوَصلَ بِهَا إِلى النُطْقِ بالسَّاكِن. والدَّلِيل على ذلِكَ أنَّك إذَا صغرت الاسم قلت سُمَيٌّ والعرب تقول: هَذا اسم، وهذا اسم، وهذا سِمٌ. قال الرَّاجزُ: بِاسمِ الذي في كل سُورَةٍ سِمُهُ.

وسُمه أيضاً روى ذلِك أبُو زَيد الأنصَارِيّ وَغَيْرُه من النَّحويينَ، فَسَقَطَت الألف لمَا ذكَرْنَا. وكذلك قولك: " ابن " الألف فيه ألف وصل، تقول في تصغيره " بُنَى). ومعنى قولنا اسم: إنَّه مشتق من السمو، والسمو الرفعة، والأصل فيهِ سَمَو - بالواو - على وزن جَمَل، وجمعه أسْمَاء، مثل قِنْو وأقناءٍ، وحَنْو وأحْنَاء. وَإنَّما جُعِلَ الاسْم تنويهاً باسم اللَّه على المعنى؛ لأنَّ الْمَعْنَى تحتَ الِإسْمَ. ومنْ قال: إِنَّ اسْما مأخوذ من " وَسَمْتُ " فهو غلط، لأنَّا لا نعرف شيئاً دخلته ألف الوصل وحُذفت فاؤُه، أعني فاءَ الفعل، نحو قولك " عِدَة " و" زِنَة ". وأصْله " وعْدة " و " وَزْنة). فلو كان " اسم " وسمة لكان تصغيره إذا حذفت منه

ألف الوصل " وُسَيْم "، كما أن تصغيرَ عِدة وَصِلة: وُعَيْدة، ووُصَيْلة،! ولا يقْدِر أحَد أنْ يَرى ألِف الوَصْلَ فيما حذفَتْ فاؤه من الأسماء. وسقطت الألف في الكتاب من " بِسْم اللَّه الرحمن الرحيم " ولم تسقط في (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) لأنه اجتمع فيها مع أنها تسقط في اللفظ كثرةُ الاسْتعمَال. وزعم سيبويه أن معنى الباء الإلصاق، تقول كتبتُ بالقلم والمعنى أن الكتابة ملصقة بالقلم، وهي مكسورة أبداً لأنه - لا معنى لها إِلا الخفض فوجب أن يكون لفظها مكسوراً ليفصل بين ما يجُر وهو اسم نحو كاف قولك كزيد، وما يجر وهو حرف نحو بزيد، لأن أصل الحروف التي يُتَكلم بها وهي على حرف واحد الفتحُ أبداً إلا أن تجِيءَ علة تزيلُه لأن الحرف الواحد لا حظ له في الإِعراب، ولكن يقع مبتدأ في الكلام ولا يبتدأ بساكن فاختير الفتح لأنه أخف الحركات، تقول رأيت زيداً وعمراً، فالواو مفتوحة، وكذلك فعمراً الفاءُ مفتوحة، وإِنما كسرت اللام في قولك: " لِزَيد " ليفصل بين لام القسم ولام الِإضافة. ألاترى أنك لوقلت: إِنَّ هذا لِزيدٍ علم أنه ملكه. ولو قلت: " إِن هذا لَزَيدٌ " علم أنَّ المشار إِليه هو زَيد فلذَلكَ كُسِرَت اللام في قولك لِزَيْدٍ ولو قلت: إِنَّ هذا المال لَكَ، وإِنَ هذا لأنْت فتحت اللام لأنَّ اللبس قد زال.

والذي قلناه في اللام هو مذهب سيبويه ويونس والخليل، وأبي عمرو بن العلاء وجميع النحويين الموثُوقِ بِعلْمِهِمْ. وكذلك تقول: أزَيْد في الدار؛ فالألف مفتوحة وليْس في الحُروف المبتدأة مما هو على حرفٍ (حرفٌ) مكسور إِلا الباءُ ولام الأمر وحْدهما وإنما كسرتا للعلة التي ذكرنا، وكذلك لام الِإضافة، والفتح أصلها. وأما لام كي في قولك: جئتُ لِتَقُومَ يا هذا، فهي لام الإضافة التي في قولك " المالُ لِزَيدٍ "، وإنما نُصبت تقوم بإضمار " أنْ " أو " كَيْ " الًتي في معنى " أنْ "، فالمعنى: جئتُ لِقيَامِك. وما قلناه في اشتقاق " اسم " قول لا نعلم أحَداً فسره قَبْلنا.

وأمَّا قولك: ليضْربْ زيد عمراً، فإنما كسرت اللام ليُفْرقَ بينها وبين لام التوكيد، ولا يبالى بشبهها بلام الجر لأنَّ لام الجر لا تقع في الأفعال، وتقع لام التوكيد في الأفعال، ألا ترى أنك لو قلت: لَتَضْرِبْ وأنت تأمر لأشبه لام التوكيد إذا قلت: إنك لتَضْرِبُ. فهذا جملة ما في الحروف التي على حرف واحد. فأما اسم اللَّه عزَّ وجلَّ فالألف فيه ألفُ وصل، وأكْرهُ أنْ أذكر جميع ما قال النحويون في اسم اللَّه أعني قولنا (اللَّه) تنزيهاً للَّهِ عزَّ وجلَّ. ** * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) هذه الصفات للَّهِ عزَّ وجلَّ، معناه فيما ذكر أبو عبيدة: ذو الرحمة. ولا يجوز أنْ يُقَال " الرحْمَنُ " إلَّا للَّهِ، وإنما كان ذَلك لأن بناءَ فَعْلان من أبنية ما يُبالغُ في وَصْفِهِ، ألا ترى أنك إذَا قُلْت غضْبانَ فمعناه الْمُمْتلئ غَضَباً. فَرحْمنُ الَّذي وَسِعَتْ رحْمَتُهُ كل شي فلاَ يَجوزُ أنْ يُقَال لغير الله رحمن. وخُفِضَتْ هذه الصفَاتُ لأنها ثَناء على اللَّه - عزَّ وجلَّ - فكان إعرابُها إعراب اسْمه، ولو قلت فِي غَيْرِ القُرآنِ: بسم اللَّه الكريمَ والكريمُ، والحمد لله رب العالمين، ورب العالَمينَ: جاز ذلك، فمن نصب ربَّ العالمين فإنما ينْصبُ

لأنَّهُ ثَنَاء على اللَّه، كأنه لَمَّا قَال: الحمدُ للَّهِ اسْتدل بهذَا إللفْظِ أنه ذاكر اللَّه، فقوله: رَبِّ الْعَالَمِينَ - كأنه قال أذْكُرُ ربَّ العالمين، وإِذا قال ربُّ العالمين فهو على قولك: هو ربُّ العالمين: قال الشاعر: وكل قوم أطاعوا أمْرَ مُرْشِدهم. . . إِلا نُمَيرا أطاعتْ أمر غَاوِيهَا الطاعِنِينَ ولما يُظْعِنُوا أحَداً. . . والقائِلِينَ لِمنْ دارٌ نخَلِّيهَا فيجِوز أن يُنْصب " الظأعنين " على ضربين: على إنَّه تابع نُميْرا، وعلى الذمِ، كأنَّه قال: أذْكُر الظاعِنِينَ، ولك أَن تَرْفَعَ تريدُ هم الظاعنون، وكذلك لك في " الْقَائِلينَ " النصبُ والرفعُ، ولك أنْ ترفَعهُما جميعاً، ولك أنْ تنْصِبهما جمِيعاً، ولك أن ترفَع الأول وتنصب الثانِي، ولك أن تنْصِبَ الأولَ وترفَعَ الثاني. لا خلاف بين النحويين فيما وَصَفْنا.

(2)

سورة الفاتحة ومن سورة الحمد بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله عزَّ وجلَّ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) (معنى الْحمْد الشُّكْرُ والثناءُ على الله تعالى. . الحمدُ رفع بالابتداءِ، وقوله: (لِلَّهِ) إِخباز عَنِ الْحمْدِ والاختيارُ في الكلَامِ الرفْعُ، فَأمَّا القُرآنُ فلا يُقْرأ فِيه (الحمدُ) إِلا بالرفع، لأن السُّنة تتبع فِي القرآن، ولَا يُلْتَفَتُ فِيَه إِلى غَير الرِّوايةِ الصحِيحَةِ التي قدْ قرأ بها القُراءُ المشْهُورُونَْ بالضَبطِ والثِّقةِ، والرفعُ القَرَاءَةُ، ويجوز ُ في الكلام أن تقول " الحَمْدَ " تريد أحْمَد الله الْحَمْدَ فاستغنيْت عن ذِكْرِ " أحْمَد " لأن حَالَ الحَمدُ يجب أن يكونَ عليها الْخَلْقُ، إلا أنَّ الرفْعَ أحْسَنُ وأبلغ في الثناءِ على الله عزَّ وجلَّ. وقد رُوي عن قوم من العرب: " الحمدَ لله " و " الحمدِ للَّهِ "، وهذه لغة من لا يُلْتَفَتُ إِليه ولا يتشاغل بالرواية عنه. وإِنَما تشاغلْنَا نحنُ بِرِواية هذا الحرف لِنُحَذِّرَ الناس من أنْ يَسْتعْمِلُوه،

(4)

أوْ يَظن - جاهل أنه يجوز ُ في كِتاب الله عزَّ وجلَّ، أو فِي كَلَامٍ، وَلَمْ يأتِ لهذَا نظير في كَلام العَرب. ولا وَجْه لَه. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (رَبِّ الْعَالَمِينَ) قد فسرنا أنه لا يجوز ُ في القرآن إِلا (رَبِّ الْعَالَمِينَ الرحمَنِ الرحيمِ) وَإِنْ كان المرفع والنصب جائزين " في الكلام، ولا يتخَير لكتاب الله عزَّ وجلَّ إلا اللفظ الأفْضل الأجْزَل. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (العالمين) معناه كلُ مَا خلق اللَّه، كَمَا قَال؛ (وَهوَ ربُّ كل شيءٍ) وَهُوَ جَمْع عَالَم، تَقول: هُؤلاءِ عَالَمونَ، ورأيتُ عالَمِين، ولا واحدَ لعَالَمٍ منْ لَفْظه لأن عالَماً جمع لأشياء مختلفة، وأنْ جُعل " عَالَم " لواحد منها صار جمعاً لأشْياء مُتَفِقَة. والنُونُ فُتِحَت في العَالمين لأنَّها نُونُ الْجَمَاعَة وزعم سيبويه أنَّها فتحت ليفرق بينَها وبينَ نون الِإثْنين، تقول: هذان عالمانِ، يا هذا، فتكسر نونَ الِإثنين لالتقاء السَّاكنين، وهذا يُشْرح في موضِعه إِنْ شاءَ اللَّه، وكذلك نون الجماعة فتحت لالتقاء السَّاكنين، ولم تكسر لثقل الكسرة بعد الواو والياء ألا ترى أنك تقول " سَوْفَ " أفعل فتفتح الفَاءَ من " سوْف " لالتقاء السَّاكنين، ولم تَكْسِر لثقل الكسرة بعد الواو وكذلك تقول: أيْنَ زيد فتفتح النون لالتقاء السَّاكنين بعد الياءِ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) القراءَة الخفض على مجرِى الحمدُ للَّهِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ. وإِنْ نصب - في

الكلام - على ما نُصِب عليه (رب العالمين والرحْمنِ الرحِيم) جازَ في الكلام. فأما في الْقراءَةِ فلا أسْتحْسِنه فيها، وقَدْ يجوز أنْ تنْصِب رب العالمين ومالك يومِ الدِّين على النداءِ في الكَلام كما تقول: الحمدُ للَّهِ يا ربَّ العَالمين، " ويا مَالكَ يَوْمِ الدِّين " كأنك. بعد أن قُلْت.: " الحمدُ للهِ " قلت لك الْحْمدُ يا ربَّ العالمين ويا مالك يوم الدين. وقُرِئ (مَلِكِ يَوْمَ الدِّين، ومَالِكِ يَوْمَ الدِّين). وإنما خُصَّ يومُ الدِّين واللَّه عزَّ وجلَّ يَملك كل شَيءٍ لأنه اليومُ الذي يضْطَر فيه الْمخلوقونَ إلى أنْ يعْرِفُوا أن الأمْر كلَّه للَّهِ، ألا تراه يقولُ: (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) وقوله: (يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً) فهو اليوم الذي لا يملك فيه أحد لنفسه ولا لغيره نَفْعاً ولا ضَرَاً. ومن قرأ (مَالِك يَوْم الدِّين) فعلى قوله (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ). وهو بمنزلة مَنِ الْمَالكُ الْيوْم. ومن قرأ (مَلِكِ يَوْم الدِّين) فعلى معنى " ذُو الْمَمْلَكَةِ " في يوم الدين، وقيل إنها قراءَة النبي - صلى الله عليه وسلم -. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (يَوْم الدِّين). الدين في اللغة الجزاءُ، يقال: كما تَدِين تُدَان، المعنى كما تعمل تُعْطى. وتُجَازىَ، قال الشاعر:

(5)

واعلم وأيْقن أن مُلككَ زائل. . . واعلم بأن كما تدِينُ تُدَانُ أي تجازى بما تعمل، والدِّينُ أيضاً في اللغة العَادَة، تقولُ العربُ ما زَال ذلك دِيني، أي عَادَتي. قال الشاعر: تقول إذا دَرَاتُ لها وضيني. . . أهذا دِينه أبداً ودِينِي * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) معنى العبادة في اللغة الطاعةُ مع الخُضُوع، يقال هذا طَرِيق مُعّبد إذا كان مُذللاً بكثْرةِ الوَطءِ، وبعير معبَّدُ، إِذا كانَ مَطْلِيًّا بِالْقَطْرَانِ. فمعنى (إِياك نًعْبُدُ): إِياك نطيع الطاعة التي - نَخضَع مَعها، وموْضِع (إِيَّاكَ) نصبُ بوقوع الفعل عليه وموْضع الكاف في (إِيَّاكَ) خفض بإضافة " إِيَّا " إليها، و " إِيَّا " اسم للمُضْمَر المنصوب إِلا أنهُ يُضاف إلى - سَائِر المضَمَراتِ، نحو: إيَّاكَ ضَربْت وإياه ضربت، وإياي حدَّثْت، ولو قُلتَ: " إيا زَيدٍ " كان قبيحاً لأْنه خُص به الْمُضْمَر. وقد رُوِي عن بعضِ العَرَب، رواه الخليل: (إِذا بَلَغَ الرجُل الستين فإياه وإيَّا الشوابَّ ".

(6)

ومن قال إن إياك بكماله الاسمُ، قيل له: لم نر اسما للمضمر ولا للمظهر يُضَاف وإنَّما يتغيرُ آخرُهُ ويبْقى ما قَبْل آخرِهِ على لفظٍ واحد. والدَّلِيل على إضافته قولُ العرب: " إِذَا بَلغَ الرجُلُ الستِينَ فإياه وإيا الشَواب " يا هَذَا. وإِجراؤُهم الهاءَ في إيَاهُ مَجْرَاها في عصاه. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ). الأصل في نستعين: نَسْتَعْوِن لأنهُ إنما معناه من الْمَعُونَةِ والعَوْن. ولكن الواو قُلِبَتْ ياءً لِثِقَل الكَسْرةِ فيها، ونُقِلَتْ كَسْرَتُهَا إلى العين، وبقيَتْ الياءٌ سَاكِنَة، لأنَّ هذا مِنَ الإعْلالِ الذي يَتْبَع بعضُه بعْضاً نَحو أعان يُعِينَ وَأقَامَ يُقِيمُ، وهذا يُشْرَحُ في مَكانِه شَرْحاً مُسْتَقْصًى إنْ شَاءَ اللَّه. ** قوله عزَّ وجلَّ: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) معناه المنهاج الواضح قال الشاعر: أميرُ المؤْمنين على صراط. . . إذا اعوج المناهج مستقيم أي على طريق واضح. ومعنى (اهْدِنَا وهم مهتدون: ثَبِّتْنا على الْهُدَى. كما تقول للرجل القائم: قم لي حتى أعود إليك. تعني: أثبت لي على ما أنت عليه.

(7)

وقوله عزَّ وجلَّ: (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7) صفة لقوله عزَّ وجلَّ: (الصراط المستقيم)، ولك في عليهم ضَم الهاءِ وكسرُها (تقول: الذين أنعمت عليهِمْ وعليهُمْ) وعلي هاتين اللغتين معظم القُراءِ، ويجوز عليهمو (بالواو) والأصل في هذه - الهَاءُ في قولك: ضربتهو يا فَتى - ومررت بِهُو يا فتى - أنْ يتَكَلم بهَا في الوَصْل بواو، فإذا وَقَفْتَ لخط: ضَربْتُه ومررتُ به. وزعم سيبويه أن الواو زِيدَتْ على الهاءِ في الْمُذَكَرِ كما زيدت الألِف في المَؤنث في قولك: ضَرَبْتُهَا ومررتُ بِهَا، ليَسْتَوي المذكرُ والمؤَنَثُ في باب الزَيَادَةِ. والقولُ في هذه الواو عند أصحاب سيبويه والخليل أنها إِنما زيدتْ لخفاءِ الهاءِ وذلك أنَّ الهاءَ تَخْرجُ منْ أقْصَى الحَلْقِ، والوَاوُ بعدَ الهاءِ أخْرَجَتْها منَ الْخَفَاءِ إلى الإبَانة، فلهذا زِيدَتْ، وتسقط في الوَقْف، كما تَسْقُط الصفةُ والكسرةُ في قولك: أتَانِي زَيْد، ومرَرْتُ بزيد، إفي أنَّها وأو وَصْل فلَا تَثْبتُ لئلا يلتبس الوصل - بالأصل. فإذا قلت: مررت -، بهُو - يا فتى - فَإنْ شِثْتَ قُلْت: مرَرْتُ بِهي فقلَبْتُ الواو ياءً لأن ْكِسار ما قَبْلَهَا، أعني اليَاءَ المنكَسرَةَ فإن قال قائل: بين الكسرة والواو الهاكل، قيل الهاءُ ليست بحاجز حصين، فكأن الكسرةَ تَلِي - الوَاوَ، ولوْ كانَتْ الهاءُ حاجزاً حَصِينا ما زيدتْ الواوُ عليها. وقد قُرِئ فَخَسَفْنَا بهي وبِدَارِهِي الأرْضَ، وبهوُ وبدارِهو الأرضَ، من قراءَة أهلِ الحجاز. فَإِنْ قُلْت: فلانٌ عليه مال، فَلك فيه أرْبَعَةُ أوجُه: إن شِثْتَ كَسَرْتَ

الهاءَ وإنْ شِئْتَ أثْبَت اليَاءَ، وكذلك. في الضم إنْ شِئت ضمَمْتَ الهاء وإنْ شِئْتَ أثْبَتُّ الوَاو، فقلت عَلَيْهِ وعليهي، وعليْهُ وعَلَيْهُو (مَال). وأما قوله عزَّ وجلَّ: (إن تحمل عليه يلهث). وقوله: (إلا ما دمت عليه قائماً) فالقراءَة بالكسر بغير ياءٍ في " عليه" وهي أجود هذه الأربعة ولا ينبغي أن يقرأ بما يجوز إلا أن تثبت به رواية صحيحة أو يقرأ به كثير من القراءِ، فمن قال عليهُ مال (بالضم) فالأصل فيه عليهو مال، ولكن حَذَفَ الواوَ لسكونها وسكون الياءِ واجتماعِ ثَلَاثَةِ أحْرفٍ مُتَجَانسَة، وترك الضمة لتدل على الواو، ومن قال عليهُو فإنما أثبت الواو على الأصل، ويجعل الهاءَ حاجزاً، وهذا أضعف الوجوه لأن الهاءَ ليست بحاجز حصين، ومن قال: عَلَيْهِ مالا فإنما قدر عليهي مال فقلب الواو ياءً للياءِ التي قبلها، ثم حذف الياء لسكونها وسكون الياءِ التي قبلها، " كما قلبت الواو في قوله: مررت به يا فتى. ومن قال: عليهي مال فالحُجةُ في إثْبات الياءِ كالحجة في إثبات الواو ألا ترى أن عليهي مال أجودُ من عليهو مال. وأجود اللغات ما في القرآن وهو قوله عَلَيْهِ (قَائماً) والذي يليه في الجودة عليهُ مال بالضمِ، ثم يلي (هذا) عليهي مال ثم عليهو مال بإثبات الواو، - وهي أردأُ الأرْبَعَة. فَأما قولهم (عَلَيْهُمْ) فأصل الهاءِ فيما وصفنا أنْ تكونَ معها ضمة، إلا أن الوَاوَ قد سَقطت، وإنما تُكْسر الهاءُ للياءِ التِي قَبْلَهَا، وإنَّمَا يكُونُ ما قَبْلَ مِيم

الإضْمَارِ مضْمُوماً، فَإِنمَا أتَتْ هذه الضمةُ لميم الإضْمَار، وقُلِبَت كسرةً للياءِ. وإنَّما كثر " عَلَيْهِمْ " في القرآن (وعليهُم) ولم يكثر (عليهِمي) و (عليهُمُو) لأنَّ الضمة التي على الهاءِ من " عليهم " للميم، فهي أقوى في الثبوت، إلا تَرى أن هذه الضمة تأتي على الْميم في كل ما - لحقته الميم. نحو عليكمْ، وبكُمْ، ومنكُمْ، ولا يجوز في علِيكُمْ: " عَليكِم " (بكسر الكاف) لأن الكافَ حاجز حصينٌ بين الياءِ والميم، فلا تُقْلَبْ كَسْرةً، وقد روي عن بَعْضِ العرب: (عَليكِمْ) و " بِكمْ " (بكسر الكاف). ولا يلتفت إلى هذه الرواية، وأنشدوا. وإنْ قال مولاهم على جُل حادثٍ. . . من الدهر ردوا بَعْضَ أحلَامِكُمْ ردوا (بكسر الكاف) وهذه لغة شاذة، والرواية الصحيحة: فضل أحلامكُم، وعلى الشذوذ أنشد ذلك سيبويه. فَامَّا " عليهمو " فاصل الجمع أن يكون بواو، ولكن الميم استغنى بها عن الواو، والواوُ تثقل على ألسِنَتَهم، حتى إنه ليس في أسمائهم اسم آخره واو

قبلها حركة، فَلِذلك حُذِفَتِ الواو، فأمَّا مَن قرأ " عَلَيْهُمُوا ولا الضالين " فقليل. ولا ينبغي أن يقرأ إلا بالكثير وإِن كان قد قرأ به قوم فإنه أقل من الحذف بكثير في لُغَة العرب. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ). فيخفض (غَيْر) على وجهين، على البَدلِ منَ الذين كأنَّهُ قال: صراط غَيْرِ المغضُوبِ عليهم، ويستقيم أن يكون (غَيْرِ المغْضُوبِ عليهم) من صفة الذين، وإن كان (غير) أصله أن يكونَ في الكلام صفة للنكرة، تقول: مررت برجل غيرِك، فغيرك صفة لرَجل، كأنك قلت: مررتُ برجل آخر. ويصلح أن يكون معناه: مررت برجُل ليس بك وإنما وقع ههنا صفةً للذين. لأن " الذين " ههنا ليس بمقصود قصدُهم فهو بمنزلة قولك: " إني لأمُرُّ بالرجُلَ مِثْلك فأكرمه). ويجوز نصب (غير) على ضربين: على الحال وعلى الاستثناءِ فكأنك قلت: إِلا المغْضُوبَ عليهم، وحق غير من الإعراب في الاستثناءِ النصب إِذا كان ما بعد إِلا مَنْصوباً، فأما الحال فكأنك قُلْتَ فيها: صراط الذين أنعمْت عليهم لا مغْضوباً عليهم. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (ولَا الضالِّينَ).

فإنما عَطفَ بالضالين على المغْضوب عليهم، وِإنما جاز أنْ يقع (لا) في قوله تعالى: (ولا الضالين) لأن معنى (غَيْر) متضَمن معنى النفي، يجيز النحويون: أنت زيداً غير ضَارب، لأنه بمنزلة قولك أنت زيداً لاَ تضْرِبُ، ولا يجيزون أنتَ زيداً مثل ضارب، لأن زيداً من صلة ضارب فلا يَتقَدم عليه. وقول القائلين بعد الفَراغ من الحَمْد، ومن الدعاءِ " آمِين " فيه لغتان. تقول العرب: أمين، وآمين، قال الشاعر: تباعد عني فطْحُل إِذْ دَعوته. . . أمينَ فزاد اللَّه ما بيننا بعدا وقال الشاعر أيضاً: يا رَبِّ لا تسلبنَي حبّها أبداً. . . ويرحم اللَّهُ عبداً قال آمينا ومعناه: اللهم استجب، وهما موضوعان في موضع اسم الاستجابة كما أن " قولنا: (صه) موضوع موضع سكوتاً. وحقهما من الإعراب الوقف لأنهما بمنزلة الأصوات إذْ كانا غير مشْتقين منْ فعل إِلا أن النون فتحت فيهما لالتقاءِ السَّاكنين، فإِن قَال قائل: إلا كسِرت النُون لالتقاءِ السَّاكنين، قيل: الكسرة تَثْقُل بعدَ الياءِ، ألا تَرى أن أيْن، وكيف فتحتا لالتقاءِ السَّاكنين ولم تُكْسَرا لِثِقَلِ الكسرةِ بعدَ الياءِ.

سورة البقرة

سورة البقرة ومن سورة البقرة بسم اللَّه الرحمن الرحيم قوله تبارك وتعالى: (الم (1) زعم أبو عبيدة معمرُ بنُ المثنى أنَّها حُروفُ الهجاءِ افْتتاح كلام. وكذلك؛ (المر)، و (المص)، وزعم أبو الحسن الأخْفش أنَّها افتتاح كلام ودليل ذلك أن الكلام الذي ذُكِرَ قَبلَ السورَةِ قَد تَم. وزعم قطرب أن: (الم) و (المص) و (المر) و (كهيعص) و (ق)،

و (يس) و (نون)، حروف المعجم ذكرت لتدل على أن هذا القرآن مؤلف من هذه الحروف المقطعة التي هي حروف أ. ب. ت. ث. فجاءَ بعضها مقطًعاً وجاءَ تمامها مُؤَلفاً ليدل القوم الذين نزل عليهم القرآن أنه بحروفهم التي يعقلونها لا ريب فيه. ويروى عن الشعبي أنه قال: لِلَّهِ في كُل كتابٍ سِر وسره في القرآن حروف الهجاءِ المذكورة في أوائل السورِ. ويروى عن ابن عباس ثلاثةُ أوجه في (الم) وما أشبهها، فوجه منها أنه قال: أقسم اللَّهُ بهذه الحروف أن هذا الكتاب الَّذِي أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - هو الكتاب الذي عنده، عزَّ وجلَّ لا شك فيه، والقول الثاني عنه أن: (الر)، (وحم)، و (نون)، اسم للرحمن عزَّ وجلَّ - مقطًع في اللفظ موصُول في المعنى. والثالث عنه أنَّه قال: (الم) معناه أنا اللَّه أعلم، و (الر) معناه أنا الله أرى،

و (المص) معناه أنا الله أعلم وأفصل و (المر) معناه أنا الله أعلم وأرى. فهذا جميع ما انتهى إِلينا من قول أهل اللغة والنحويين في معنى (الم) وجميع ما انتهى إلينا من أهل العلم بالتفسير. ونقول في إعراب (الم) و (الر) و (كهيعص) وما أشبه هذه الحروف. هذا باب التهجي.

(هذا باب حروف التهجي) وهي: الألف والباءُ والتاءُ والثاءُ وسائر ما في القرآن منها. فإجْماع النحويين أن هذه الحُروف مَبْنِية على الوقف لا تعرب ومعنى قولنا " مبنية على الوقف " أنك تُقَدرُ أنْ تسكت على كل حرف منها، فالنطق: ألف، لام، ميم، ذلك. والدليل على أنك تقدر السكت عليها جمعك بين ساكنين في قولك (لام) وفي قولك (ميم). والدَّليل على أن حروف الهجاءَ مَبْنيَّة على السكت كما بني العدَدُ على السكْت: أنَك تقول فيها بالوقف مع الجمع بين ساكنين، كما تقول إذا عددت واحدْ. اثنانْ. ثَلاثَهْ. أربعهْ. . . ولولا أنك تقدر السكت لقلت: ثلاثةً، بالتاءِ كما تقول: ثلاثاً يا هذَا. فتصير الهاءَ تاءً مع التنوين واتصال الكلام. وحقها من الإعراب أن تكون سواكن الأواخر، زَعم سيبويه أنك أردْتَ أنَ المعجمَ حروف يُحْكى بها ما فِي الأسْماءِ المَؤلفَةِ من الحروف فجرى

مجرى ما يحكى به نحو (غاق)، وغاق يا فتى، إنما حكى صوت الغُراب. والدليل أيْضاً على أنها مَوْقُوفَة قولُ الشاعر: أقْبَلْتُ من عند زيادكالخَرِف. . . تخطُّ رجْلاي بخَط مخْتَلف تَكَتبَانِ في الطريق لَامَ ألِفْ كأنه قال: لامْ ألِفْ، بسكون " لام " ولكنه ألقى حركة همزة " ألف " على الميم ففتحها. قال أبو إسحاق: وشرح هذه الحروف وتفسيرها أنها ليست تجري مجرى الأسماءِ الْمُتمكنَة، والأفعال المضَارِعة التي يجب لها الإعرابُ وإنما هي تقطيِع الاسم المَؤلف الذي لا يجب الإعراب فيه ألا مع كماله، فقولك " جَعْفر " لا يجب أن تُعْرَبَ منه الجيمَ ولا الْعَيْنَ ولا الفَاءَ ولا الراءَ، دون تكميل الاسم، فإنما هي حكايات وُضِعَتْ على هذه الحروف، فإن أجريتها مَجْرى الأسماءِ وحدثت عنها قلت: هذه كاف حسنة، وهذا كاف حسنٌ. وكذلك سائر حُرُوف الْمُعجَم، فمنْ قال هذه كاف أنثَ لمعْنى الْكَلِمَةِ، ومن ذكر فلمعنى الحرف، والإعرابُ وقع فيها لأنك تخرجها من باب الحكاية. قال الشاعر: كافاً ومِيمين وسيناً طَاسِماً

وقال أيضاً: كما بينت كاف تَلُوح ومِيمُها ذكرَ طَاسِماً لأنه جَعله صفةً للسين، وجعل السين في معنى الحرف وقال تلوح، فأنث الكاف، ذهبَ بها مذهب الكلمة، قال الشاعر يهجو النحويين، وهو يَزيدُ بن الحكم. إذا اجتمعوا على ألف وواو. . . وياءٍ لاح بينهمو جدال فأما إعرابُ (أبِي جَادٍ) و (هَوَزٍ) و (حُطي)، فزعم سيبويه أن هذه مَعْروفاتُ الاشتقاق في كلام العرب، وهي مَصْروفة، تقول: علمْتُ أبَا جادٍ وانتفعتُ بأبي جاد، وكذلك (هوز) تقول: نفعني (هوز)، وانْتَفَعْتُ بهوَزٍ. (وكذلك حُطي)، (وَهُن) مصْروفات منوَّنَات. فأما (كلمون) و (سَعْفَص) و (قُرَيْشِيَات)، فأعْجَمِيات تقول: هذه كَلَمْونَ - يا هذا - وتعلمت كَلَمُونَ وانتفَعْتُ بكلمون، وكذلك (سعفص). فَأما قُرَيْشِيَات فاسْم للجَمْع مصروفة بسبب الألف والتاء تقول: هَذه

قرَيْشِيَات - يا هذا وَعَجبْتُ مِنْ قُريْشِيات (يا هذا). ولقطرب قول آخر في (الم): زعم أنه يجوز: لما لغا القومُ في القرآن فلم يتفهموه حين قالوا (لاَ تَسْمَعُوا لهذا القرآن والغَوْا فِيه) أنْزِلَ ذكرُ هذه الحروف، فسكتوا لمَّا سمعوا الحروف - طمعاً في الظفر بمَا يحبون ليفهموا - بعد الحروف - القرآن وما فيه، فتكون الحجة عليهم أثبت إذا جحدوا بعد تفهم وتعلم. قال أبو إسحاق: والذي اختاره من هذه الأقوال التي قيلت في قوله عزَّ وجلَّ: (الم) بعض ما يروى عن ابن عباسٍ رحمة اللَّه عليه. وهو أن المعنى: (الم) أنا اللَّه أعلم، وأن كل حرف منها له تفسيره. والدليل على ذلك أن العرب تنطق بالحرف الواحد تدل به على الكلمة التي هو منها. قال الشاعر: قلنا لها قفي قَالَتْ قافْ. . . لا تَحْسَبي أنَّا نَسِينَا الإيجَاف فنطق بقاف فقط، يريد قالت أقف. وقال الشاعر أيضاً: نَادَوْهمو أنِ الْجِمُوا ألَاتا. . . قالوا جميعاً كلهم ألَا فَا

تفسيره: نادوهموا أن الجمُوا، ألا تركبون، قالوا جميعاً: ألا فارْكبوا. فإنما نطق بتاءٍ وفاءٍ كما نطق الأول بقَافِ. وأنشد بعض أهل اللغَةِ للقيم بن سَعْد بن مالك: إنْ شئْتَ أشْرَفْناكلانا فدعا. . . اللَّهَ ربا جُهْدَه فاسْمَعَا بالخير خيرات وإنْ شَرا فآى. . . ولا أريد الشر إلا أن تآءَ وأنشد النحويون: بالخير خيرات وإن شرا فا. . . ولا أريد الشر إلا إن تَا يريدون: إن شَرا فَشَر، ولا أريد الشر إلا أن تَشَاء. أنشد جميع البصريين ذلك فهذا الذي أختاره في هذه الحروف واللَّه أعلم بحقيقتها. فأما (ص) فقرأ الحسن: صادِ والقرآن، فكسر الدال، فقال أهل

اللغة: معناه صاد القرآن بعملك، أي تَعَمَّدْهُ، وسقطت الياءُ للأمر ويجوز أن تكون كسرت الدال لالتقاءِ السَّاكنين إذَا نَويتَ الوصلَ. وكذلك قرأ عبد الله بن أبي إِسحاق: " صادِ والقرآن "، وقرأ أيضاً " قافِ والقرآن المجيد). فالكسرُ فى مذهب بن أبي إسحاق لالتقاءِ السَّاكنين. وقَرأ عيسى بن عمر: " صادَ والقرآنِ " - بفتح الدّال - وكذلك قرأ "نونَ والقلم " و " قافَ والقرآنِ " - بالفَتح أيضاً - لالتقاءِ السَّاكنين. قال سيبويه: إذَا نَاديتَ أسْحار والأسْحَارُّ اسمُ نَبْتٍ - مشدد الراءِ - قلت في ترخيمه: يا أسْحار أقْبل، ففتَحْتَ لالتقاءِ الساكِنين كما اخْتَرتَ الفتحَ في قولك عضَّ يا فتى فاتباع الفتحةِ الفَتْحُةَ كاتباع الألفِ الفَتْحَةَ ويجوز: يا أسحار أقْبِل، فتَكْسِر لالتقاء الساكنَيْن. وقال أبو الحسن الأخفش: يجوز أن يكون صادَ وقافَ، ونونَ أسماءً للسور منصوبةً إلا أنها لا تُصْرف كما لا تصرف جملة أسْماءِ المؤَنث. والقولُ الأول أعني التقاءَ السَّاكنين، والفتحَ والكسر من أجل الْتقائها أقيسُ، لأنه يزعم أنه ينْصب هذه الأشياء كأنه قال: أذكر صادَ). وكذلك يجيز في (حم)،

و " طس "، النصبَ و " ياسين " أيضاً على أنها أسماءٌ للسور. ولوكان قرئ بها لكان وجهُه الفتحَ لالتقاءِ السَّاكنين. فأما (كهيعص) " فلا تُبينُ فيها، النون مع الصاد في القراءَة وكذلك (حم عسق) لا تبين فيها، النون مع السين. قال الأخفش وغيره من النحويين: لم تبَين النون لقرب مخرجها من السين والضادِ. فأما " نُونْ والقَلم " فالقراءَة فيها تَبْيين النون مع الواو التي في " والقلم ". وبترك التبيين. إِنْ شئتَ بينْتَ وإِن شئْتَ لَمْ تُبيِّنْ، فقلت " نُونْ والقَلم " لأن النون بعدت قليلاً عن الواو. وأما قوله عزَّ وجلَّ (المَ) اللَّه ففي فتح الميم قولان أحدهُما لِجماعة من النحويين وهو أن هذه الحروف مبنية على الوقف فيجب بعدها قطع ألف الوصل فيكون الأصل: أ. ل. م. اللَّهُ لا إِله إِلا هو. ثمً طرِحتْ فَتْحةُ الهمزَةِ على الميم، وسقطت الهمزة كما تقول: واحدْ إثْنَان، وإن شئت قلت: واحدِ اثْنَان فألقَيْتَ كسرة اثنين على الدال. وقال قوم من النحويين لا يسوغ في اللفظ أن ينطق بثلاثة أحرف سواكنَ فلا بد من فتحة الميم في ألم اللَّه لالتقاءِ السَّاكنين (يعني الميم واللام والتي بعدها). وهذا القول صحيح لا يمكن في اللفظ غيره.

(2)

فأمَّا من زعم أنه إِنما ألقي حركةَ الهمزة فيجب أن يقرأ (الم اللَّه). وهذا لا أعلم اجداً قرأ به إلا ما ذُكر عن الرؤَاسي، فائا من رواه عن عاصم فليس بصحيح الرواية. وقال بعض النحويين لو كانت محركة للالتقاءِ السَّاكنين لكانث مكسورة. وهذا غلط لو فعلنا في التقاءِ السَّاكنين إذا كان الأول منهما ياءً لوجب أن تقول: كيفِ زَيد واين زيد وهذا لا يجوز، وإنما وقع الفتح لثقل الكسرة بعد الياء). . * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) زعم الأخفش وأبو عبيدة أن معناه هذا الكتاب قال الشاعر. أقول له والرمح يأطر متنه. . . تامَّلْ خُفَافاً إنني أنا ذَلكا

قال المعنى إنني أنا هذا. وقال غيرهما من النحويين: إِن معناه القرآن ذلك الكتاب الذي وعدوا به على لسان موسى وعيسى - صلى الله عليهما وسلم - ودليل ذلك قوله تعالى: (وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ) وكذلك قوله: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146). فالمعنى هذا ذلك الكتاب. ويجوز أن يكون قوله " (الم ذَلَكَ الْكِتَابُ) فيقال " ذلك " للشيءِ الذي قد جرى ذكره، فإن شئتَ قلت فيه " هذا " وإنْ شِئتَ قلت فيه " ذلك "، كقولك انفقت ثلاثة وثلاثة فذلك ستة وإن شئت قلت هذا ستة. أو كقوله عزَّ وجلَّ في قصة فرعون: (فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25). ثم قال بعد ذلك: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26). وقال في موضع آخر: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) ثم قال: (إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106). وقال عزَّ وجلَّ (المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ) فقال (ذلك) فجائز - أن المعنى: تلك علامات الكتاب، أي القرآن متكلم به بحروف العرب التي نعقلها على ما وصفنا في شرح حروف الهجاءِ. وموضع (ذلك) رفع لأنه خبر ابتداءٍ على أقول، من قال هذا القرآن ذلك

الكتاب. والكتاب رفع يسميه النحويون عطف البيان نحو قولك: هذا الرجل أخوك فالرجل عطف البيان أي يبين من الذي أشرت إليه، والاسم من ذلك " ذا " والكاف زيدت للمخاطبة ولاحظ لها في الإعراب قال سيبويه: لو كان لها حظ في الإعراب لقلت: " ذاك نفْسِه زيد، وهذا خطأ - لا يجوز إلا (هذاك نَفْسُه زيد). (ولذلك " ذانك " يشهد أن الكاف لا موضع لها. لو كان لها موضع لكان جرا بالإِضافة، والنون لا تدخل مع الإضافة). واللام تزاد مع ذلك للتوكيد، أعني توكيد الاسم لأنها إذا زيدت أسقطت معها " ها). تقول: ذلك الحق وذاك الحق، وها ذاك الحق. ويقبح هذلك الحق لأن اللام قد أكدت معنى الإشارة. وكسرت اللام للالتقاء السَّاكنين، أعني الألف من ذا واللام التي بعدها، وكان ينبغي أن تكون ساكنة ولكنها كسرتَ لما قلناه. وكذلك يجب أن يكون موضع ذلك رفعاً فيمن جعل ذلك خبراً عن (الم). * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (لَا رَيْبَ فِيهِ) معناه لا شك فيه تقول: رابني فلان إذا علمت الريبَة فيه وأرابني إذا أوهمني الريبة قال الشاعر.

أخوك الذي إنْ ربتَه قال إنما. . . أرَبتُ وإنْ عاتبته لأن َ جانبه وموضع (لا ريب) نصب، قال سيبويه: " لا " تعملُ فيما بعدها فتنصبه ونصبها لما بعدها كنصب إن لمَا بعدها إلا أنها تنصبه - بغير تنوين وزعم أنها مع ماب عدها بمنزلة شيءٍ واحد. كأنها جواب قول القائل: هل من رجل في الدار، فمن غير منفصلة من رجل، فإنْ قال قائل فما أنكرت أن يكلون جواب هل رجلَ في الدار؟ قيل: معنى " لا رجل في الدار " عموم النفي، لا يجوز أن يكون في الدار رجل ولا أكثر منه من الرجال إذا قلت: " لا رجل في الدار ". فكذلك " هل مِنْ رجل في الدار " استفهام عنِ الواحد وأكثر منه، فإذا قلت: (هل رجل في الدار) أو (لا رَجُل في الدار) جاز أن يكون في الدار رجلان لأنك إنما أخبَرْتَ أنه ليس فيها واحد فيجوز أن يكون فيها أكثر، فإذا قلت: لا رجُلَ في الدار فهو نفي عام وكذلك (لَا رَيبَ فِيهِ). وفي قوله (فيه) أربعةُ أوجه: - القراءَةُ منها على وجه واحد ولا ينبغي أنْ يُتَجاوَزَ إلى غَيْره وهو (فيهِ هُدى) بكسر الهاءِ (ويجوز في الكلام وفي القراءة لو كان. قرئ به) (فيهي هدى) بإثبات الواو، و " فيهي هدي). بإثبات الياءِ. وقد شرحنا هذه الأوجه في إعراب الحمد.

(3)

فأما قِرَاءَةُ (فيهْ هُدى) بإدغام الهاءَ في الهاء فهو ثقيل في اللفظ، وهو جائز في القياس لأن الحرفين من جنس واحد إلا أنه يثقل في اللفظ لأن حروف الحلق ليست بأصل في الإدغام والحرفان من كلمتين، وحكى الأخفش أنها قِراءَة (1). وموضع (هدَى) نصب، ومعتاه. بيان ونصبه من وجهين أحدُهُما أنْ يكون مَنْصُوباً على الحال من قولك: القرآن ذلك الكتاب هدى ويجوز أن يكون انتصب بقولك: (لا ريْبَ فيه) في حال هدايته فيكون حالاً من قولك لا شك فيه هادياً، ويجوز أن يكون موضعُه رفعاً من جهات: إحْدَاهَا أن يكون خبراً بعد خبرٍ كأنه قال: هذا ذلك الكتاب هدى، أي قَد جمع أنه الكتاب الذي وُعدوا به وأنه هدًى كما تقول: هذا حُلو حامض، تُرِيدُ أنه قد جَمع الطعْمَين ويجوز أن يكلون رفعه على إضمار هو. كأنه لما تمَ الكلام فقيل: (الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ) قيل: هو هدى. ويجوز أن يكون رفعه على قولك: (ذَلِكَ الْكَتابُ لَا رَيْبَ فِيهِ) كأنك قلت ذلك الكتابُ حَقُّا، لأن لا شك فيه بمعنى حق ثم قَال: بعد ذلك: (فِيهِ هُدًى لِلْمُتقِينَ). وقوله عزَّ وجلَّ: (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) معناه يصدقون، وكل مْؤمِن بشيءٍ فهو مصدق به فإذا ذكرتَ مؤمناً ولم تقل هو مؤْمن بكذا وكذا فهو الذي لا يصلح إلا في اللَّه - عزَّ وجلَّ -، وموضع (الذين) جر تبعاً للمتقين ويجوز أن يكون موضعُهُم رفعاً على المدح كأنَّه

_ (1) هي رواية السوسي عن أبي عمرو البصري، وهي متواترة.

لما قيل هدى للمتقين قيل مَنْ هُم فقيل: (الَّذِينَ يؤمِنُونَ بالْغَيْبِ). ويجوز أن يكون موضع الذين نصبا على المدح أيضاً كأنه قيل اذكر الذين. (والذين) لا يظهر فيهم الإعراب، تقول في النصب والرفع والجر: أتاني الذين في الدار ورأيت الذين في الدار ومررت بالذين في الدار. وكذلك الذي في الدار، وإنما منع الإعرابَ لأن الإعراب إنما يكونُ في آخر الأسماءِ، والذي والذين مبهمان لا تتمان إلا بِصِلاتِهِمَا فلذلك مُنِعَتِ الإعرابَ. وأصل - الذي لَذٍ على وزن عَم فاعْلَمْ، كذلك قالَ الخليل وسيبويه والأخفش وجميع من يوثق بعلمه. فإن قال قائل: (فما بالك تقول: أتاني اللذان في الدار ورأيت اللذين في الدار فتعرب كل ما لا يعرب في تثنيته نحو هذان وهذين وأنت لا تعرب هذا ولا هؤُلاءِ؟ فالجواب في ذلك أن جميع ما لا يعرب في الواحد مشبه بالحرف الذي جاء لمعنى فإذا ثنيته فقد بطل شبه الحرف الذي جاءَ لمعنى لأن حروف المعاني لا تثنى. فإِنْ قَال قائِل فَلَمَ منعته الِإعراب في الجمع؟ قلت لأن الجمع الذي ليس على حد التثنية كالواحد، ألا ترى أنك قلت في جميع هذا هؤُلاء يا فتى فجعلته اسماً واحداً للجمع، وكذلك قولك الذين، إِنما هو اسم للجمع كما أن قولك سنين يا فتى اسم للجمع فبنَيتَه كما بنيْت الواحِد. ومن جمع الذين على حد التثنية قال: جاءَني الذونَ في الدار، ورأيت الذين

في الدار. وهذا لا ينبغي أنْ يقع لأن الجمع مستغنى فيه عن حد التثنية. والتثنية ليس لها إلا ضرب واحد. ومعنى قوله: (بالغَيْب): ما غاب عنهم مما أخبرهم به النبي - صلى الله عليه وسلم - من أمر الغيب والنشور والقيامة وكل ما غاب عنهم مما أنبأهم به فهو غيب. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ). معناه يُتمُّونَ الصلاة كما قال: - (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) وضمت الياءُ من يُؤمنون، ويقيمون، لأن كل ما كان على أربعة أحرف نحو أكْرَمَ وأحسَنَ وأقام وآمن فمُسْتَقبله: يُكرم، وُيحْسِنَ، ويؤمِنُ ويُقيمُ (وإنما ضمت أوائل المستقبل ليفرق بيبن ذوات الثلاثة نحو ضرب، وبين ذوات الأربعة نحو دحرج). فما كان على ثلاثة فهو ضرب يَضرب أو تَضرب أو نَضرب. ففصل بالضمة بينهما فإن قال قائل: فهلا فصل بالكسرة؟ قيل الكسرة قد تدخل في نحو تعْلم وتبيَضُ ولأن الضمة مع الياءِ مستعملة، والكسرة لا تستعمل مع الياءِ. فمن قال أنت تعْلم لم يقل هو يِعْلم، فوجب أن يكون الفرق بينهما بالضمة لا غير. - والأصل في يُقيم " يؤقْيِمُ " والأصل في يُكرمُ يؤَكرم ولكن الهمزة

(4)

حذفت لأن الضم دليل على ذوات الأربعة ولو ثبث لوجب أن تقول إذَا أنْبأت عن نَفْسِك: أنا أؤَقْوم وأنا أؤكرْم، فكانت تجتمع همزتانْ فاستثقلتا، فحذفت الهمزة التي هي فاءُ الفعل، وتِبع سائِرُ الفعل بابَ الهمزة فقلت أنت تُكرم ونحن نُكرم وهي تُكرم، كما أنَّ بابَ يَعِدُ حُذفتْ منه الواو لوقوعها بين ياء وكَسْرة. الأصل فيه " يَوْعِد " ثم حذفت في تَعد ونَعد وأعد. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ). معناه يصدِّقُون - قال عزَّ وجلَّ: (وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ) - إلى قوله - (قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ). * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ) إن شئت خففت الهمزة في (أُنْزِلَ) - وكذلك في قوله " أُلئِك " وهذه لغة غير أهل الحجاز، فأما أهل الحجاز فيخففون الهمزة بين الواو والهمزة. قال سيبويه: (إنما فعل بالهمزة ذلك دون سائر الحروف لأنها بَعدَ مخرجها ولأنها نبْرة في الصدر. وهي أبعد الحروف مخرجاً، وأمَّا إِليْك وإليْهم. وعَليْك وعَليْهِمْ، فالأصل في هذا " إلاك "؛ ْ وعَلَاك، وَإِلَاهُمْ وعَلاهم كما تقول إلى زيد وعلى إخوتك، إلا أن الألف غيرتْ مع المضْمَر فأبْدِلت ياء ليفصل بين الألف التي في آخر المتمكنه وبين الألف التي في أواخر غير المتمكنه التي الإضافة لازمة لها، ألا ترى أن إلى وعَلَى ولدى لا تنْفرِد من

(5)

الإضافة، ولذلك قالت العرب في كلا في حال النصب والجر: رأيت كليهما، وكليكما، ومررت بكليهما وكليكما - ففصلت بين الِإضافة إلى المظهر والمضمر لما كان كلا لا ينفرد ولا يكون كلاماً إِلا بالِإضافة. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) موضع (أولئك) رفع بالابتداء، والخبر: (عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ). إلا أن أُولَئِكَ لا يعرب لأنه اسم للِإشارة، وكسرت الهمزة فيه لالتقاءِ السَّاكنين. وكذلك قوله (وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)، إلا أنَّ (هُمْ) دخلت فصلاً، وإن شئت كانت تكريراً للاسم، كما تقول زيد هو العالمُ، فترفع زيداً بالابتداء. وترفع (هو ابتداءً ثانياً، وترفع العالم خبراً " لهو "، والعالم خبراً لزيد. فكذلك قوله أُولَئِكَ هم المفلحون) وإن شئت جعلت (هو) فصلاً وترفع زيداً والعالم على الابتداءِ وخبره، والفصل هو الذي يسميه الكوفيون عماداً. و" سيبويه " يقول إن الفصل لا يصلح إلا مع الأفعال التي لا تتم نحو كان زيد هو العالم، وظنتت زيداً هو العالِمَ". وقال سيبويه دخل الفصل في قوله عزَّ وجلَّ: (. . تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا) وفي قوله: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ) - وفي قوله: (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ). وفي قوله: (وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ).

وما أشبه هذا مما ذكر الله عزَّ وجلَّ. وكذلك (لك) في الكلام في الابتداء والخبر، وفي قولك كان زيد هو العالم ذكرُ هو، وأنت، وأنا. ونحن، دخلت إعْلاماً بأن الخبر مضمون وأن الكلام لمْ يتم، وموضع دخولها إذا كان الخبر معرفة أو ما أشبه المعرفة. وأن " هو " بمنزلة " ما " اللغْوِ في قوله عزَّ وجلَّ: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ) فإنما دخول كا مؤَكدة. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (المفْلحون). يقال لكل من أصاب خيراً مفْلح - وقال عَزَّ وجَل: (قَدْ أفلح المؤمنون) - وقال،: (قدْ أفْلح مَن زكَاها). والفلاح البقاء قل لبيد بن ربيعة:

(6)

نحُل بلاداً كلها حُل قبْلنا. . . ونرجُو الفلاح بعد عادٍ وتبَّعا أي نرجو البقاءَ. وقال عبيد: أفْلِح بما شئْت فَقَدْ يد. . . ركِ بالضعْف وقد يُخْدع الأريب أي أصب خيراً بما شئت. والفَلاح: الأكار، والفِلَاحَة صنَاعَتُه، وإنِما قيل له الفَلاح لأنه يَشُق الأرض ويقالَ فلحت الحديد إذا قطعته. قال الشاعر: قد علمت خيلك انِي الصَّحْصَحُ. . . إن الحَدِيد بالحديد يُفْلَح ويقال للمكاري الفلاح، وإنما قيل له فلاح تشبيهاً بالأكار. قال الشاعر لها رطل تكيل الزيت فيه. . . وفَلاح يسُوق لهَا حِمَارا * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6)

(إنَّ) تنصب الذين، وهي تنصب الأسماءَ وترفع الأخبار، ومعناها في الكلام التوكيد، وهي آلة من آلات القسم، وإنَّما نصبت ورفعت لأنها تشبه بالفعل، وشبهها به أنها لا تَلِي الأفعال ولا تعمَل فيها، وإنما يذكر بعدها الاسم والخبر كما يذكر بعد الفعل الفاعل والمفعول إِلا أنه قُدم المفَعُولُ به فيهَا ليفصل بين ما يشبه بالفعل ولفظه لفظُ الفعل وبين ما يُشَبه به وليسَ لفظُه لفظَ الفعل، وخبرها ههنا جملة الكلام، أعني قوله: (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ). وترفع سواء بالابتداء، وتقوم (أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) مَقَامَْ الخبر كأنه بمنزلة قولك سواء عليهم الإنذارُ وتركُه. وسواءُ موضُوع موضعَ مُسْتَو، لأنك لا تقيم المصادر مقام أسماءِ الفاعلين إلا وتأويلها تأويل أسمائهم. فأما دخول ألف الاستفهام ودخول أم التي للاستفهام والكلام خَبرٌ فإنَّمَا وقع ذلك لمعنى التسوية والتسوية آلتها ألف الاستفهام وأم تقول: أزيد في الدار أم عمرو، فإِنما دخلت الألف وأم لأن عِلْمَك قد استوى فيَ زَيد وعَمْرو. وقد علمت أن أحدهما في الدار لا محالة ولكنك أردت أن تبين لك الذي علمت ويخلص لك علمه مز، غيره، فَلِهذا تقول: قد علمتُ أزيد في الدار أم عمرو، وإنما تريد أن تُسَوّي عند مغ تخبره العلمَ الذي قد خلص عندك. وكذلك (سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم)، دخلت الألف وأم للتسوية. فأما (أأنْذرْتهُمْ) فزعم سيبويه أن من العرب من يحقق الهمزة، ولا يجمع بين الهمزتين وإن كانتا من كلمتين، فأما أهل الحجاز فلا يحققون واحدة منهما، وأما بعض القراء - ابن أبي إِسحاق وغيره - فيجمعون في القراءَة بينهما، فيقرأون (أأنذرتهم)، وكثير من القراء يخفِّف إِحداهما، وزعم سيبويه أن

الخليل كان يرى تخفيف الثانية فيقول: (أانْذرْتهم) فيجعل الثانية بين الهمزة والألف، ولا يجعلها ألفاً خالصة، ومن جعلها ألفاً خالصَةً فقد أخْطأ من جهتين: إحداهما أنه جمع بين ساكنين والأخرى إنَّه أبْدَل منْ همزة متحركة قبْلها حركةُ ألفاً، والحركة الفتح، وإنما حق الهمزة إذا حركت وانفتح ما قبلها: أن تجْعَل بَيْنَ بَيْنَ، أعني بين الهمزة وبين الحرف الذي منه حركتها. فتقول في سأل: سال وفي رؤوف: رووف وفي بئس: بيس (بيْنَ بيْنَ) وهذا في الحكم واحد وإِنما تُحْكِمُه المشافهة. وكان غير الخليل يجيز في مثل قوله تعالى: (فقد جاءَ أشراطها) تخفيف الأولى. وزعم سيبويه أن جماعة من العرب يقرأون: فقد جا أشراطها يحققون الثانية ويخففون الأولى، - وهذا مذهب أبى عمرو بن العلاء وأما الخليل فيقول بتحقيق الأولى فيقول: (فقد جاءَ اشراطها). قال الخليل: وإِنَّما اخترت تخفيف الثانية لإجماع الناس على بدل الثانية في قولك آدم، وآخر، لأن الأصل في آدم: أادم، وفي آخر أاخر. وقول الخليل أقيس، وقول أبى عمرو جيد أيضاً. قال أبو إِسحاق: الهمزة التي للاستفهام ألف مبتدأة: ولا يمكن تخفيف الهمزة المبتدأة ولكن إن ألْقِي همزَة ألف الاستفهام على سكون الميم من عليهم فقلت: " عَلَيْهمَ أنْذَرتهم " جاز. ولكن لم يقرأ به أحد، والهمزتان في

قوله: (فقد جاءَ أشراطها). همزتان في وسط الكلمة ويمكن تخفيف الأولى. فأما من خفف الهمزة الأولى قوله: (أأنذرتهم) فإنه طرحها ألبتَّةَ وألْقَى حركتَها على الميم، ولا أعلم أحداً قرأ بها والواجب على لغة أهل الحجاز أن يكون " عليهم أنْذَرْتهم " فيفتح الميم، ويجعل الهمزة الثانية بين بين بين. وعلى هذا مذهب جميع أهل الحجاز. ويجوز أن يكون (لا يؤْمنون) خبر إِنَّ، كأنه قيل: " إِنَّ الًذينَ كفروا لا يؤمنون، سواء عليهم أأنذرتهم أمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ). هؤلاءِ قوم أنبأ اللَّهُ " تبارك وتعالى " النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أنهمْ لا يؤْمنون كما قال عزَّ وجلَّ: (ولَا أنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتمْ وَلَا أنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أعْبُدُ). فأما الهَمزتان إذا كانتا مكسورتين نحو قوله عزَّ وجلَّ: (عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا) وإذا كانتا مضمومتين نحو قوله: (أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ) فإِن أبا عمرو يخفف الهمزة الأولى فيهما فيقول: "على البغا إِنْ أردْن" "وأوليا أولئك " فيجعل الهمزة الأولى من البغاء بين الهمزة والياء، ويكسرها " ويجعل الهمزة في قولك أولياء أولئك (الأولى) بين الواووالهمزة ويضمها. وحكى أبو عبيدةَ أن أبا عمرو كان يجعل مكان الهمزة الأولى كسرة في البغاء إنْ)، وضمة في أولياء أولئك. أبو عبيدة لا يحكي إلا ما سمع لأنه الثقة المأمون عند العلماء، إِلا إنَّه لا يضبط مثل هذا الموضع لأن الذي قاله محال، لأن الهمزة إذا سقطت وأبدلت منها كسرة وضمة - على ما وصف -

بقيت الحركتان في غير حرف وهذا محال لأن الحركة لا تكون في غير محرَّك. قال أبو إسحاق: والذي حكيناه آنفاً رواية سيبويه عن أبي عمرو وهو اضبط لهذا. وأما قوله: (السفهاءُ ألا) وقوله: (وإِليه النشُوز أأمنتم من في السماءِ أن) - فإن الهمزتين إذا اختلفتا حكى أبو عبيدة أن أبا عمرو كان يبدل من الثانية فتحة وهذا خلاف ما حكاه سيبويه. والقول فيه أيضاً محال لأن الفتحة لا تقوم بذاتها، إِنما تقوم على حرف. وجملة ما يقول النحويون في المَسْالة الأولى في مثل قوله: (على البغاءِ إِنْ) أو (أولياءُ أولئك) ثلاثةُ أقوال على لغة غير أهل الحجاز. فأحد هذه الثلاثة - وهو مذهب سيبويه والخليل - أن يجعل مكان الهمزة الثانية همزة بين بينَ، فإذا كان مضموماً جعل الهمزة بين الواو والهمزة فقال: أولياءُ أولئك) (وإذا كان مكسوراً جعل الهمزة بين الياءِ والهمزة، فقال: على البغاءِين. وأمَّا أبو عَمْرو فَقرأ على ما ذكرناه وأمَّا ابن أبي إسحاق - ومذهَبه مذهب جماعة من القراء - فيجمع بين الهمزتين، فيقرأ أولياءُ أولئِكَ) و (على البغاءِ إنْ أردن) بتحقيق الهمزتين. وأمَّا اختلاف الهمزتين نحو السفهاء ألا) فأكثر القراء على مذهب ابن أبي إسحاق، وأما أبو عمرو فيحقق الهمزة الثانية في رواية سيبويه، ويخفف

الأولى فيجعلها بين الواو والهمزة، فيقول: (السفهاءُ ألا) (بين بين). ويقول: (من في السماي أنْ " فيحقق الثانية، وأما سيبويه والخليل فيقولان: (السفهاءُ ولا). فيجعلان الهمزة الثانية واواً خالصة وفي قوله: (من السماءيَنْ) ياءخالصة مفتوحة. فهذا جميع ما في هذا الباب. وقد ذكر أبو عبيدة أن بعضهم روى عن أبي عمرو أنه كان إذا اجتمعت همزتان طرحت إحداهما، وهذا ليس بثبتٍ لأن القياس لا يوجبه. وأبو عبيد لم يحقق في روايته، لأنه قال: رواه بعضهم، وباب رواية القراءة عن المقرئ يجب أن يقل الاختلاف فيه. فإن كان - هذا صحيحاً عنه فهو يُجَوِّزُهُ في نحو (سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم)، وفي مثل قوله: (آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ) فيطرح همزة الاستفهام لأن أم تدل عليها. قال الشاعر: لعمرك ما أدري إن كنت دارياً. . . شُعَيْثُ بن سَهْم أم شُعَيْثُ بنُ مِنْقَر

(7)

وقال عُمرُ بنُ أبي رَبِيعَةَ: لعَمرُك ما أدْري وإنْ كُنْتُ دَارِياً. . . بِسَبْع رَمَيْنَ الجَمْر أم بِثمانٍ البيت الأول أنشده الخليل وسيبويه، والبيت الثاني صحيح أيضاً. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7) معنى ختم في اللغة وطبع (معنى) واحد. وهو التغطية على الشيء. والاستيثاق - من ألًا يَدْخُله شَيْءٌ كما قال عزَّ وجلَّ: (أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) وقال جلّ ذكره (كلا بَلْ رَانَ عَلى قُلوبِهِمْ). معناه غلب على قلوبهم ما كانوا يكسبون. وكذلك (طبع عليها بكفرهم) وهم كانوا يسمعون ويبصرون ويعقلون ولكنهم لم يستعملوا هذه الحواس استعمالًا يجزي عنهم فصاروا كمن - لا يسمع ولا يبصر. قال الشاعر: أصم عما ساءَه سميع وكذلك قوله جلَّ وعزَّ: وَعَلَى أبْصَارِهِمْ غِشَاوَة). هي الغطاءُ، فأما قوله: (وعلى سمعهم) وهويريد وعلى أسماعهم ففيه

ثلاثة أوجه: فوجه منها أن السمع في معنى المصدر فَوُحِّدَ، كما تقول: يعجبني حديثكم ويعجبني ضربُكُمْ - فوحِّد لأنه مَصْدَر. ويجوز أن يكون لما أضاف السمع إليهم دل على معنى أسماعهم. قال الشاعر: بها جِيَف الحَسْرى فأمَّا عِظامُها. . . فَبيضٌ وأَمَّا جِلْدُها فَصَلِيبُ ْوقال - الشاعرأيضاً: (لا تُنْكِري الْقَتْلَ وَقَدْ سُبينَا. . . في حَلْقِكُمْ عَظْمٌ وقد شَجينَا معناه في حلوقكم، وقال: كأنهُ وجه تركييْن قد غَضبَا. . . مستهدَفٍ لطعان غيرِ تَذييبِ أما (غشاوة)، فكل ما كان مشتملاً على الشيء فهو في كلام العرب مبني على "فِعَالة " نحو الغِشاوة، والعِمَامة، والقِلاَدَة والعصَابة، وكذلك أسْمَاء الصناعات لأن معنى الصناعة الاشتمال على كل ما فيها نحو الخِيَاطة

(8)

والقصَارة، وكذلك على كل من استولى على شيء ما استولى عليه الفِعَالة. نحو الحِلاَقةِ والإمارَةِ. والرفع في (غشاوة) هو الباب وعليه مذهب القُرَّاء والنصب جَائز في النحو على أن المعنى: " وجعل على أبْصَارهم غِشَاوةً ". كما قال اللَّه عزرجل في موضع آخر: (وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة). ومثيله من الشعر مما حمل على معناه قوله: يا ليتَ بعْلَكِ قد غَدا. . . مُتَقَلداً سيفاً ورمحا معناه متقلداً سيفاً وحاملاً رمحاً. ويرري غشوة، والوجه ما ذكرناه وإنما غَشْوة رد إلى الأصل لأن المصادر كلها ترد إلى فَعْلة، والرفع والنصبُ في غَشْوة مثله في غِشَاوة. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) عنى بذلك المنافقين،. وإِعراب (مِنْ) الوقف إلا أنهَا فُتِحَتْ لالتقاءِ السَّاكنين سكون النون. من قولك مِنْ وسكون النون الأولى من الناس، وكان الأصل أن يكسر لالتقاءِ السَّاكنين، ولكنها فتحَت لثقل اجتماع كَسْرَتَيْنِ - لو كان (مِنِ النَّاسِ) لثقل ذلك. فأما عن الناس فلا يجوز فيه إِلا الكسر لأن أول " عن " مفتوح. و " مِنْ " إِعرابُها الوقف لأنها لا تكون اسماً تاما في

(9)

الخبر إلا بصلة، فلا يكون الِإعراب في بعض - الاسم. فأما الإدغام في الياءِ في (من يقول) فلا يكون غيره، تقول: " مَنْ يُقوَّم " فتُدْغِم بغُنَةٍ وبغير غنة. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمَا هُمْ بمُؤْمِنينَ). دخلت الباءُ مؤَكدة لمعنى النفي، لأنك إِذا قلت: " ما زيد أخوك " فلم يسمع السامع " ما " ظن أنك موجب فإِذا قلت: " ما زيد بأخيك " و (ماهم بمُؤمنين) علم السامع أنك تنفي وكذلك جميع ما في كتاب الله عزَّ وجلَّ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) يعني به المنافقين أيضاً. ومعنى (يخادعون): يظهرون غير ما في نفوسهم، والتَقِية تُسَمَّى أيْضاً خِدَاعاً، فكأنهم لَمَّا أظْهَرُوا الِإسْلامِ وأبْطَنُوا الكُفْر صارت تقيتُهُمْ خِدَاعاً. وجاءَ بفَاعِلَ لغير اثنين لأن هذا المثال يقع كثيراً في اللغة للواحد نحو عاقبت اللص، وطارقت النعل. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ). تأويله أن الخداع يرجع عليهم بالعَذاب والعقاب وما يشعرون: أي وما يعلمون أنه يرجع عليهم بالعذاب يقال ما شعرت به: أي ما علمت به وا لَيْتَ شِعْرِي " ما صَنَعْتَ: معناه ليت علمي.

(10)

وقوله عزَّ وجلَّ: (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10) معناه نفاق، وقد يقال السُّقْمُ والمرض في البَدَنِ وفي الدِّين جَميعاً كما يقال الصحة في البدن والدِّين جميعاً. فمعنى قوله: (مرض) قال أبو عيدة: معناه شك ونفاق، والمرض في القلب يصلح لكل ما خرج به الِإنسان عن الصحة في الدين. ص وقوله: - (فَؤَادَهُم اللَّهُ مَرضاً). فيه جوابان، قال بعضهم زادهم الله بكفرهم. كما قال عزَّ وجلَّ: (بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ). وقال بعض أهل اللغة: فزادهم اللَّه بما أنزل عليهم من القرآن فشكوا فيه كما شكوا في الذي قبله. قال: والدليل على ذلك قوله عزَّ وجلَّ: (وَإِذَا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ). إِلى قوله: (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ). وهذا قول بين واضح - واللَّه أعلم. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ). مَعْناه مُوجِع يَصلُ وجعَهُ إِلى قُلُوبهمُ. وتأويل (أَلِيمٌ) في اللغة مُؤْلم. قال الشاعر: وهو عَمْرُو بنُ معدِ يكرب الزبيدي.

(11)

أمِنْ رَيْحَانَة الداعي السميعُ. . . يُؤرقني وأصْحَابي هُجوعُ معنى السميع المسمع. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (بِمَا كَانوا يَكذبُونَ). ويقرأ (يُكَذِّبونَ). فمن قرأ يَكذبونَ بالتخفيف فَإن، كَذِبَهُم قولُهم أنهُمْ مُؤْمنون، - قال الله عزَّ وجلَّ: (وَمَا همْ بِمُؤْمِنِينَ) وأما (يُكَذِّبونَ) بالتثقيل فمعناه بتكذيبهم النبي - صلى الله عليه وسلم -. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) مَعْنَاهُ لَا تَصُدوا عَنْ دين اللَّه، فَيَحْتَمِل (إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ) ضربين من الجواب: أحدهما أنهم يظنون أنهم مصلحون. والثاني أن يريدوا أن هذا الذي يسمونه إفساداً هو عنْدَنَا إِصلاح فأما إعراب قيل فآخره مبني على الفتح، وكذلك كل فعل ماض مبني على الفتح، والأصل في (قيل) قُوِلَ ولكن الكسرة نقلت إلى القاف لأن العين من الفعل في قولك قال نقلت من حركة إِلى سكون، فيجب أن تلزم هذا السكون في سائر تصرف الفعل. وبَعْضُهُمْ يَرُومُ الضمًةَ في قِيل، وقد يجوز في غير القرآن: قد قولَ ذاك " وأفصح اللغات قِيلَ وَغِيضَ ". (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَقَوْا رَبَّهُمْ). وإن شئت قلت: قِيل، وغيض، وسُيق تروم في سائر أوائل ما لم يسم فاعلة الضم في هذا الباب.

(13)

وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13) ْأصل السفَهِ في اللغة خِفَةُ الحلم، وكذلك يقال ثَوْبٌ سَفِيه إِذا كان رقيقاً بالِياً. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (أَلَا إنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ). معنى (أَلَا) اسْتِفْتَاح وَتَنْبِيهٌ " وقوله: (هُم السفهاءُ) يجوز أن يكون خبر إنَّ و (هُم) فَصْلٌ، وهو الذي يسميه الكوفيون العماد. ويجوز أن يكون (هُم) ابتداء، والسفهاءُ خبر الإِبتداء، وهم السفهاءُ خبر إن. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) أنْبَأ الله الْمؤمِنِينَ بِمَا يُسِره المنافقونَ مِنَ الكُفْرِ ومعنى شَيَاطِييهمْ في اللغة: مَرَدَتُهُمْ، وعُتَاتُهُمْ في الكفر، ويقال خلوت إِليه ومعه، ويقال خلوت به، وهو على ضربين: أحدهما جعلت خَلْوتي معه، كما قال: خَلَوْتُ إِليه (أي جعلت خلوتي معه)، وكذلك يقال خَلَوْتُ إِليهِ، ويصلح أن يكون خلوت بِهِ سخرت منه. ونصب (معكم) كنصب الظروف، تقول: إِنا معكم وإِنا خَلْفَكم معناه إِنا مستقرون معكم ومستقرون خلفكم. والقراءَة المجمَعُ عليها فتح العَين وقد يجوز في الاضطرار إسكان العين، ولا يجوز أن يقرأ بها. ويجوز إِنَّا مَعْكُمْ للشاعر إِذا اضطر قال الشاعر: قَرِيشي منكمو وهواي مَعْكُمْ. . . وَإِن كانت زِيَارَتُكُمْ لِمَاما

وفي قوله عزَّ وجلَّ: (خَلَوْا إلَى). وجهان إن شئت أسْكَنْتَ الوَاو وخففت الهمزة وكسرتها فقلت: (خلوْا إلَى) وإن شئت ألقيت الهمزة وكسرت الواو فقلت: " خَلَوِ ليى " وكذلك يقرأ أهل الحجاز وهو جيد بالغ، و (إِنا) الأصل فيه "إننا"، كما قال اللَّه عزَّ وجلَّ: (إنَّنِي معَكُما) ولكن النون حذفت لكثرة النونات، والمحذوف النون الثانية من إِن، لأن في " إن " نونين الأولى ساكنة والثانية متحركة. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (إنما نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ). نحن مبنية عفى الضم، لأن نحن يدل على الجماعة، وجماعة المُضْمَرينَ يدل عليهم - إذا ثَنيتَ الواحدَ من لفظه - الميم والواو، نحو فعلوا، وأنتم، فالواو من جنس الضمة، فلم " يكن بذ من حركة (نَحْنُ) فحركت بالضم لأن الضم من الواو؛ ألا ترى أن واو - الجماعة إذا حركت لالتقاء السَّاكنين ضمت، نحو (اشْتَرَوُا الضلاَلَةَ)، وقد حركها بعضهم إلى الكسر فقال: (اشتروِا الضلالة)، لأن اجتماع السَّاكنين يوجب كسر الأولى إذا كانا من كلمتين، والقراءة المجمع عليها: (اشتروُا الضلالةَ) بالضم، وقد رُويت: (اشْترَوَا الضلالة)، بالفتح، وهو شاذ جِدًّا. و (مستهزئون)؛ القراءَة الجَيدَةُ فيه، تحقيق الهمزة فإذا خَففْتَ الهمزةَ جعلْتَ الهمزةَ بين الواو، والهمزة فقلت "مستهزؤون). فهذا الاختيار بعد التحقيق.

(15)

ويجوز أنْ تُبْدِلَ من الهمزَةِ ياءً فتقول: " مستهزِيُونَ " فأما " مستَهْزون " فضعيف لا وجه لَه إلا شاذًّا على لغة،. من أبدل الهمزة ياء فقال في استهزأت: استهزيت. فيجب على لغة، استهزيت أن يقال، مستهزون. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) فيه أوجه من الجواب: فمعنى استهزاء اللَّه بهم أنْ أظْهرَ لَهُمْ منْ أحْكامِهِ في الدنْيَا خلافَ مَا لهمْ في الآخرة، كما أظهروا من الِإسلام خلاف ما أسَرُّوا. ويجوز أن يكون استهزاؤُه بهم: أخذه إِياهم من حيث لا يعلمون، كما قال عزَّ وجلَّ: (سَنَسْتَدْرجُهمْ منْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُون). ويجوز - واللَّه أعلم - وهوَ (الوجه) المختار عند أهل اللغة أن يكون معنى يستهزئُ بهم يُجازيهِمْ على هُزئِهِمْ بالعَذاب، فسمَّى جزاءَ الذَنْب باسْمِه كما قال عزَّ وجلَّ: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا) فالثانية ليست سيئة في الحقيقة، ولكنها سميت سيئة لازدواج الكلام. وكذلك قوله عزَّ وجلَّ: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) فالأول ظلم والثاني ليس بظلم ولكنه جيءَ في اللغة باسم الذنب ليعلم أنَّه عقاب عليه وجزاء به. فهذه ثلاثة أوجه واللَّه أعلم. وكذلك يجري هذا المجرى قوله عزَّ وجلَّ: (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ)

(16)

(وَيَمْكرُونَ وَيَمْكرُ اللَّهُ). * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ). معنى (وَيَمُدُّهُمْ) يُمْهِلْهم، وهو يدل على الجواب الأول. و (في طغيانهم) (معناه) في غُلوِّهِمْ وكفرهم، ومعنى يعمهون في اللغة يتحيرون، يقال رجل عَمِهٌ وعَامِه، أي متحير، قال الراجز: وَمَهْمَه أطرافه في مَهْمَهِ. . . أعمَى الهُدَى بالجَاهِلِينَ العُمَّهِ * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16) أُولَئِكَ موضعُه رفع بالابتداء وخبرُه (الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ) وقد فسَّرنا " واو " اشتروا وكسرتَها فأمَّا من يبدل من الضمة هَمْزَةً فيقول اشترو الضلالة فغالط لأن الواو المضمومة التي تبدل منها همزة إِنَّمَا يُفْعَل بها ذلك إِذا لزمت صفَتُها نحو قوله عزَّ وجلَّ: (وَإذَا الرُّسُلُ أُقَتَتْ)، إنَّمَا الأصلُ وقَتَتْ وكذلك أَدوَّر، إنما أصْلها أدور. وضمة الواو في قوله: (اشترُوا الضلالة)

إنما هي لالتقاء السَّاكنين. ومثله: (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) لا ينبغي أن تهمزَ الواو فيه. ومعنى الكلام أن كل من ترك شيئاً وتَمسكَ بغَيْره فالعَرَبُ تقول للذِي تَمَسكَ به قد اشتراه، وليس ثم شراءٌ ولا بيع، ولكن رغبته فيه بتمسكه به كرغبة المشتري بماله ما يرغب فيه. قال الشاعر: اخدْت بالجمَّة رأساً أَزْعَرا. . . وبالثنَايَا الواضِحات الدَّرْدَرَا وبالطَويل العمر عمْراً أَقصرا. . . كما اشْتَرى الكافِر إذْ تَنَصَّرَا * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ). معناه فما ربحوا في تجارتهم، لأن التجارة لا تربح وإنما يربح فيها ويوضع فيها والعرب تقول قد خسر بيعك وربحت تجارتك، يريدون بذلك الاختصار وسعة الكلام قال الشاعر:

(17)

وكيف تواصل من أصبحت. . . خلالته كأبي مرحب يريد كخلالة أبي مرحب، وقال اللَّه عزَّ وجلَّ: (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) (والليل والنهار لا يمكران) إنما معناه بل مكرهم في الليل والنهار. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) هذا المثل ضربه اللَّه - جلَّ وعزَّ - للمنافقين في تجملهم بظاهر الِإسلام وحقنهم دماءَهم بما أظهروا فمثل ما تجملوا به من الِإسلام كمثل النار التي يستضىء بها المستوقد وقوله (ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ) معناه، واللَّه أعلم إطلاع اللَّه المؤْمنين على كفرهم، فقد ذهب منهم نور الإِسلام بما أظهر الله عزَّ وجلَّ من كفرهم، ويجوز أن يكون ذهب الله بنورهم في الأخرة، أي عَذَّبهم فلا نور لهم لأن اللَّه جلَّ وعزَّ قد جعل للمؤْمنين نوراً في الآخرةِ وسلب الكافرين ذلك النور، والدليل على ذلك قوله: (انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا). * * * وقوله عزَّ وجلَّ (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18) رفع على خبر الابتداءِ، كأنه قيل: هؤلاءِ الذين قصتهم هذه القصة (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18).

(19)

ويجوز في الكلام صماً بكماً عمياً، على: وتركهم صُمًّا بكماً عُمْياً. ولكن المصحف لا يخالف بقراءة لا تُرْوى، والرفع أيضاً أقوى في المعنى. وأجزل في اللفظ. فمعنى (بُكْمٌ) أنه بمنزلة من وُلدَ أخرس ويقال الأبْكم المسلوبُ الفًؤادِ. وصُم وبُكم واحدهم أصَم وأبْكَمُ، ويجوز أن يَقع جمع أصم صُمَّان، وكذلك أفعَل كله يجوز فيه فُعْلان نحو أسْود، وسُودَان ومعنى سود وسودان واحد، كذلك صُمٌّ وصُمَّان وعُرفي وعُرجان وبكم وبُكْمَان. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) الصيِّب في اللغة المطر وكل نازل من عُلُو إلى أسفل فقد صاب يصوب، قال الشاعر: كأنهم صابت عليهم سحابة. . . صواعقها لطيرهن دبيب وهذا أيضاً مثل يضربه اللَّه عزَّ وجلَّ للمنافقين؛ كان المعنى: أو كأصحاب صيب. فجعل دين الِإسلام لهم مثلاً فيما ينالهم من الشدائد والخوف، وجعل ما يستضيئون به من البرق مثلاً لما يَستضيئون به من الإسلام، وما ينالهم من الخوف في البرق بمنزلة ما يخافونه من القتل. - الدليل على ذلك قوله عزَّ وجلَّ: (يَحْسَبُونَ كُل صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ).

(20)

وقوله عزَّ وجلَّ: (يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) (يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ) فيه لغتان: يقال خَطِفَ يخطَفُ، وخطَف يخْطِف، واللغة العالية التي عليها القراءَة " خَطِفَ يخطَفُ "، وهذا الحرف يروى عن العرب والقراء. وفيه لغات تروى: عن الحسن " يَخَطِّف أبصارهم " بفتح الياءِ والخاءِ وكسر الطاءِ، " ويروى أيضاً " يخطِّف بكسر الياءِ والخاءِ، والطاءِ، ويروى أيضاً لغة أخرى ليست تسوغ في اللفظ لصعوبتها، وهي إسكان الخاءِ والطاءِ. وقد روى سيبويه مثل هذا. رده عليه أصحابه وزعموا أنه غير سائغ في اللفظ وأن الشعرَ لا يجمع في حشوه بين ساكنين، قال: وَمَسْحِهِ مَرُّ عُقابٍ كاسِرِ يبدل من الهاءِ حاءً ويدغم الحاءَ الأولى فى الثانية، والسين ساكنة فيجمع بين ساكنين، فأما بعد يَخْطَف فالجيِّد يَخَطف ويخطف فمن قال يَخَطَف فالأصل يخْتَطِف فأدغمت التاء - في الطاءِ وألقيت على الحاءِ فتحة التاءِ، ومن قال " يخِطَف " كسر الخاءَ لسكونها وسكون الطاءِ، وَزَعَمَ بعض النَحوِيينَ أنَّ الكسْر لالتِقَاءِ الساكِنين ههنا خطأ وأنه يلزم من قال هذا أن يقول

في يَعَضُّ يَعِضُّ، وفي يَمُدُّ يَمِدُّ. وهذا خَلْط غيرُ لازم، لأنه لَوكَسَرَهَا هَهُنَا لالتَبَسَ ما أصله يفعَل ويفعُل بما أصله يَفْعِل، ويخطف ليس أصله غير هذا. ولا يكون مرة على يفتَعِل ومرة على يفتَعَلُ. فَكسِرَ لالتقاءِ السَّاكنين في موضع غير ملبس وامتنع في المُلْبِس من الكسر لالتقاءِ السَّاكنين، وألزم حركة الحرف الذي أدغمه لتدل الحركة عليه. ومعنى خطفت الشيء في اللغة واختطفته أخذته بسرعة. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ). يقال ضاءَ الشيءُ يَضوء وأضَاءَ يُضِيءُ، وهذه اللغة الثانية هي المختارة، ويقال أظْلَمَ وظَلَم، وأظْلَمَ المختارُ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ) وقد فسرنا توحيد السمع، ويقال أذهبته وذهبت به. ويروى أذْهَبْت به وهو لغة قليلة، فأما ذكر (أوْ) في قوله: (مَثَلَهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي). إِلى (أوْ كصيب) فأو دَخلت ههنا لغير شك، وهذه يسميها الحذاق باللغة " وَاوَ اَلِإباحة " فتقول جالس القراءَ أوِ الفُقَهَاءَ، أوْ أصْحَابَ الحديث أوْ أصْحَابَ النحو، فالمعنى أن التمثيل مباح لكم في المنافقين إنْ مثلْتُمُوهم بالذي استوقد ناراَ فذاك مثلهم وإِن مثلتموهم بأصحاب الصيب فهذا مثلهم، أِو مثلتموهم

(21)

بهما جميعاً فهما مثلاهم - كما أنك إذا قلت جالس الحسن أو ابن سيرين فكلاهما أهل أن يجالس - إن جالست الحسن فأنت مطيع وإِن جمعتهما فأنت مطيع. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ). ويروى " أيضاً " حِذَار الموْتِ، والذي عليه قرَّاؤُنَا (حَذَرَ الموت)، وإنما نصت (حذرالموت) لأنه مفعول له، والمعنى يفعلون ذلك لحذر الموت. وليس نصبه لسقوط اللام، وإِنما نصبه أنه في تأويل المصدر كأنه قال يحذرون حذراً لأن جعلهم أصابعهم في آذانهم - من الصواعق يدل على حذرهم الموت، وفال الشاعر: وأغفر عوراءَ الكريم ادِّخَارَهُ. . . وأُعْرِض عن شَتْم اللئِيمِ تَكَرما والمعنى لادخاره - وقوله: وأغفر عوراء الكريم معناه وأدخر الكريم. * * * وقوله عزِّ وجلَّ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) معناه أن الله احْتَجَّ على العرب بأنه خالقهم وخالق مَنْ قَبْلِهُم لأنَّهُمْ كانوا مُقِرينَ بذلك، والدليل على ذلك قوله: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ)

قيل لهم إن كنتم مقرين بأنه خالقكم فاعبدوه، ولا تعبدوا الأصنام - وقوله (لعلكم تَتقُونَ) معناه تتقونَ الحُرُمَاتِ بيْنَكم وتَكُفون عما تأتون مما حرمَه اللَّه، فأما لعل وففيها قولان ههنا، عن بعض أهل اللغة: أحدهما: معناها كي تتقوا، والذي يذهب إليه سيبويه في مثل هذا أنه تَرَج لهم كما قال في قصة فرعون (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى). كأنه قال اذهبا أنتما على رجائكما وطمَعِكُمَا واللَّه عزَّ وجلَّ من وراءِ ذلك وعالم بما يؤُول إِليه أمرُ فِرعون. وأما إِعراب (يَا أيُّها) فأي اسمٌ مُبْهَم مبني على الضم لأنه منادى مفرد والناس صفة لأي لازمة، تقول يا أيها الرجل أقبل، ولا يجوز يَا لرجُل لأن " يا " تَنْبِيهٌ بمنْزِلة التَّعرِيفِ في الرجل فلا يجمع بين " يَا " وبين الألف واللام فتصل إلى الألف واللام بأي. وها لازمه لأي، لِلتَّنْبيه، وهي عوض من الِإضافة في أي لأن أصْل أي أن تكون مضافة في الاستفهام والخبر، وزعم سيبويه عَن الخليل أن المنادى المفرد مبني وصفته مرفوعةٌ رفعاً صحيحاً لأن النداءَ يطرد في كل اسم مفرد. فلما كانت البِنْيَةُ مطردة في المفرد خاصة شبه بالمرفوع فرفعت صفته. والمازني يجيز في يا أيها الرجل النصب في الرجل، ولم يقل بهذا القول أحد من البصريين غيره، وهو قياس لأن موضع المفرد المنادى نصب فحملت صفته على موضعه، وهذا في غير يا أيها الرجل جائز عند جميع النحويين نحو قولك يا زيدُ الظريفُ والظريفَ، والنحويون لا يقولون إِلا يا أيها الرجل، يا أيها

(22)

الناسُ، والعرب لغتها في هذا الرفع ولم يرد عنها غيره، وإنما المنادى في الحقيقة الرجل، ولكن أيُّ صلة إليه وقال أبو الحسن الأخفش إِن الرجل أنْ يَكون صلة لأي أقيس، وليس أحد من البصريين يتابعه على هذا القول. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22) معناه وِطاءً، لم يجعلها حَزْنةً غليظة لا يمكن الاستقرأر عليها. وقوله: (والسماءَ بناءً) كل ما علا على الأرض فاسمه بناءٌ،. ومعناه إنه جعلها سقفاً. كما قال عزَّ وجلَّ: (وَجَعَلْنا السمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً)، ويجوز في قوله: (جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ) وجهان: الإدغام والِإظهار، تقول: جعل لكم وجعل لكم الأرض، فمن أدغم فلاجتماع حرفين من جنس واحد وكثرة الحركات، ومن أظهر - وهو الوجه وعليه أكثر القراءِ - فلأنهما منفصلان من كلمتين. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أنْدَاداً وأنْتُم تَعْلمُون). هذا احتجاج عليهم لِإقرارهم بأنه الله خالقُهم، فقيل لهم لا تجعلوا لله أمثالاً وأنتم تعلمون أنهم لا يَخْلُقون واللَّه الخالق - وفي اللغة فلان ندُّ فلانٍ:، وندِيدُ فُلَانٍ. قال جرير: أتيماً تجعلون إِليَّ نِدًّا. . . وما تيمٌ لِذِي حَسبٍ نَدِيد

(23)

فهذه الآية والتي قبلها احتجاج عليهم في تثبيت توحيد اللَّه عزَّ وجلَّ. ثم احتج عليهم فيما يلي هذه الآية بتثبيت أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: - (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) (فِي رَيْبٍ) معناه في شك. وقوله (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) للعلماءِ فيه قولان أحدهما: قال بعضهم: (مِنْ مثلهِ): من مثل القرآن - كما قال عزَّ وجلَّ: (فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ) وقال بَعْضهم (من مثله) مِنْ بَشَر مِثْلِه. وقوله عزَّ وجلَّ: (وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)). أيْ ادعَوَا من استدعيتم طاعته ورجوتم معونته في الإتيان بسورة من مثله. * * * وقوله: (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24) قيل لهم هذا بعد أن ثبت عليهم أمر التوحيد وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فوعدوا بالعذاب إِن لم يؤمنوا بعد ثبوت الحجة عليهم. وجزم (لَمْ تَفْعَلوا) لأن لمْ أحدثَتْ في الفِعْل المستقبل معنى المضى فجزمتْه، وكل حرف لزم الفعل فأحدث فيه معنى فله فيه من الِإعراب على قسط معناه - فإِن كان ذلك الحرف " أنْ " وأخواتها نحو لَنْ تفعلوا ويريدون " أنْ يطفئوا). فهو نصب لأن أن وما بعده بمنزلة الاسم فقد ضارعت (أنْ الخفيفة) أنَّ المشدَّدة وما بعدها لأنّك إِذا قلت ظننت أنك قائم فمعناه ظننت قيامك، وإِذا قلت أرجو أنْ تَقومَ فمعناه أرجو قيامك، فمعنى " أنْ " وما عملت فيه كمعنى " أنَّ " المشددة وما

(25)

عملت فيه، فلذلك نصبت " أنْ " وجزمت " لَمْ " لأن ما بعدها خرج من تأويل الاسم، وكذلك هي وما بعدها يخرجان من تأويل الاسم: * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (التِي وَقودُها النَّاسُ والحِجَارة). عرفوا عذاب اللَّه عزَّ وجلَّ بأشد الأشياءِ التي يعرفونها لأنه لا شيء في الدنيا أبلغ فيما يؤلم من النار، فقيل لهم إن عذاب اللَّه من أشد الأجناس التي يعرفونها، إلا أنه من هذا الشديد الذي يعرفونه، ويقال إن الحجارة هنا تفسيرها حجارة الكبريت وقوله (وَقودُها) الوقود هو الحطب، وكل ما أوقد به فهو وقود، ويقال هذا وقودك، ويقال قد وقدت النار وقُوداً فالمصدر مضمومٌ ويجوز فيه الفتح. وقد روي وقدت النار وَقوداً وقبلت الشيء قَبُولًا. فقد جاءَ في المصدر (فَعُول) والباب الضم. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25) ذكر ذلك للمؤمنين، وما أعد لهم جزاءً لتصديقهم، بعد أن ذكر لهم جزاءَ الكافرين، وموضع (أنَّ) نصب معناه بشرهم بأن لهم جنات). فلما سقطت الباءُ أفْضَى الفعل إلَى " أن " فَنُصِبَتْ. وقد قال بَعْض النَحويينَ إنَهُ يَجُوز أنْ يكون موضعُ مثل هذا خفضاً وإن سقطت الباءُ من أن، و (جنات) في موضع نصب بأنَّ، إلا أن التاءَ تاءُ جماعة المؤَنث هي في الخفض والنصب على صورة واحدة كما أن ياءَ الجَمْع في النصْب والخَفْضِ

على صورة واحدةٍ، تقول رأيت الزيدين ومررت بالزيدين، ورأيت الهنداتِ، ورغبت في الهنْداتِ. والجنة في لغة العرب البُسْتان، والجنات البساتين "، وهي التي وعد الله بها المتقين وفيها ما تَشْتَهي الأنْفس وتَلَذ الأعين. قوله عزَّ وجلَّ: (كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا). قال أهل اللغة: معنى " مُتَشَابِه " يشبه؛ بعضه بعضاً في الجَوْدَةِ. والحُسْن، وقال أهل التفسير وبعض أهل اللغة " متشابها " يشبه بعضه بعضا في الصورة ويختلف في الطعْم، ودَليل المُفَسرين قوله: (هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ) لأن صورتَهُ الصورة الأولى، ولكن اختلافَ الطعوم على اتفاق الصورَةِ أبلغُ وأعرف عند الخلق، لو رأيت تفاحاً فيه طعم كل الفاكهة لكان غايةً في العجب والدلالة على الحكمة. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ). أي أنهن لا يحتجن إلى ما يحتاج إليه نساءُ أهل الدنيا من الأكْل والشرْب ولا يَحِضْنَ، ولا يحتجن إلى ما يُتَطَهرُ مِنه، وهن على هذا طاهرات طهَارَةَ الأخلاق والعفةِ، فمُطهرة تَجْمَعُ الطهارةَ كلها لأن مُطهًرة أبْلَغ في الكلام من طاهرة، ولأن مطهرة إنما يكون للكثير. وإعْرَابُ (أَزْوَاجٌ) الرفع بـ (وَلَهُمْ) وإنْ شئت بالابتداءِ، ويجوز في (أَزْوَاجٌ) أن يكون واحدتُهن زوجاً وزوجةً قال الله تبارك وتعالى (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) وقال الشاعر:

(26)

فبكى بناتي شَجْوَهُن وزوْجَتِي. . . والطامِعُونَ إليَّ ثم تَصَدَّعُوا * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26) إنْ قال قائل: ما معنى ذكر هذا المثل بعقب ما وعد به أهلُ الجَنةِ وما أعد للكافرين؛ قيل يتصل هذا بقوله: (فَلاَ تَجْعَلوا للَّهِ أندادا) لأن اللَّه عزَّ وجلَّ قال: (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا). وقال: (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا) فقال الكافرون: إن إلَهَ محمدٍ يضْربُ الأمثَالَ بالذُّبَاب، والعَنْكَبُوتِ. فقال اللَّه عزَّ وجلَّ: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا). أيْ، لِهَؤلاءِ الأنداد الذين اتخذتُمُوهُمْ مين دُونِ اللَّهِ، لأن هَذَا في الحقيقة مَثلُ هَؤُلاءِ الأنْدَادِ. فأما إعراب (بَعُوضةً) فالنصبُ من جِهَتين في قَوْلنَا، وذكر بعض النحويين جهةً ثالثة، فأما أجْوَدُ هذِه الجِهَاتِ فأنْ تَكونَ ما زائدة مؤَكدة، كأنه قال: إنَّ الله لا يستحيي أن يضرب بَعُوضة مَثلاً، وَمَثلاً بَعوضَةً، وما زائدة مؤَكدة نحو قوله: (فَبِمَا رَحْمَةٍ من اللَّهِ لِنْتَ لَهم) المعنى فَبرحمة من الله

حَقا، فَمَا في التوكيد بمنزلةِ حَق إلا أنه لا إعرابَ لها، والخافض والناصِب يتخطاهَا إلى مَا بَعْدَهَا، فمعْنَاهَا التوكِيدُ، ومثلُها في التوكيد (لا) في قوله: (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ) معناه لأنْ يعلمَ أهل الكتاب، ويجوز أنْ يكونَ " مَا " نكرة فيكون المعنى: " إنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحِي أنْ يَضْرَب شَيئاً مَثَلاً " وكأن بعوضة في موضع وصف شيء، كأنه قال: إن اللَّه لا يستحيي أن يضرب مثلًا شيئاً من الأشياءِ، بعوضة فما فوقها. وقال بَعْضُ النحويينَ: يجوز أن يكون معناه ما بين بعوضة إلى ما فوقها، والقولان الأولان قول النحويين القدماءِ. والاختيار عند جمع البَصْريينَ أن يكون ما لغوا، والرفع في بعوضة جائز في الإعراب، ولا أحفظ من قرأ به (ولا أعلم) هَلْ قرأ به أحد أم لا، فالرفْعُ على إضْمَارِ هُوَ كأنهُ قال مَثلاً (لذي هو بعوضة وهذا عند سيبويه ضعِيف)، وعنه مندوحة، ولكن من قرأ (تَمَاماً عَلَى الذِي أحْسَن) وقد قرئ به - جاز أن يقرأ (مَثَلاً مَا بعوضَة) ولكنهُ في (الذي أحسنُ) أقوى لأن الذي أطول. وليس للذي مذهب غيرُ الاسْماء. وقالوا في معنى قوله: (فمَا فَوْقَها) قالوا في ذلك قولين: قالوا (فمَا فَوْقَها): أكبَرُ مِنْهَا، وقالوا (فمَا فَوْقَها) في الصغرِ. وبعضُ النحويينَ يختارُون الأول لأن البَعُوضة كأنها نِهَايةُ في الضغرِ فِيمَا يُضْرَبُ بِه المَثلُ، والقولُ الثاني مختارُ أيضاً، لأن المطلوبَ هنا والغرضَ الصغرُ وتقليلُ المَثلِ بِالأنَدَادِ. قوله عزَّ وجلَّ: (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا) يعني صدقوا (فَيَعْلَمُونَ) أن هذا المثل

(27)

حق، (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا) أي ما أراد بالذباب والعنكبوت مثلاً؛ فقال اللَّه عزَّ وجلَّ: (يُضِل بِهِ كَثِيراً). أي يَدعو إلى التصْدِيقِ بِه الخَلْق جميعاً فيكذبُ به الكفارُ - فيُضَلون (وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ) يدل على أنهم المُضَلونَ بِه، ويهدى به كثيراً، يزاد به المؤمنون هدايةً لأن كلما ازْدَادُوا تَصْدِيقاً فقدِ ازْدَادُوا هِدَايةً والفاءُ دخَلَتْ في جواب، أمَّا فِي قوله (فيَعلمون) لأن أما تأتي بمعنى الشرط والجزاءِ كأنَّه إذا قال (أما زيد فقد آمن وأمَّا عمرو فقد كفر) فالمعنى مهما يكن من شيءٍ فقد آمن زيد ومهما يكن من شيءٍ فقد كفر عمرو. وقوله (ماذا) يجوز أن يكون (ما) و (ذا) اسماً واحداً يكون موضعهما نصباً، المعنى أي شيءٍ أراد اللَّه بهذا مثلاً، ويجوز أن يكون (ذا) مع (ما) بمنزلة الذي فيكون المعنى ما الذي أراده اللَّه بهذا مثلاً؛ أو أي شيءٍ الذي أراده اللَّه بهذا مثلاً، ويكون (ما) هنا رفعاً بالابتداء و (ذا) في معنى الذي، وهو خَبَرُ الابتداء وإِعراب (الفاسقين) نصب كأنَّ المعنى وما يَضِل بِه أحَد إلا الفَاسقين. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27) (عهد الله) هنا - واللَّه أعلم - ما أخذ اللَّه على النبيين ومن اتبعهم ألا يَكْفُروا بأمُرِ النبِي - صلى الله عليه وسلم -، دليل ذلك قوله عزَّ وجلَّ: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا).

(28)

فهذا هو العهد المأخوذ على كل من اتبع الأنبياءَ عليهم السلام " أن يؤْمنوا بالرسول المصدقِ لِمَا مَعَهُمْ و - " إصْري " - مثْلُ عهدي. ويجوز أن يكون عهدُ اللَّه الذي أخذَه من بَنِي آدمَ مِنْ ظُهورِهم. حين قال. . . (وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا). وقال قوم أن عَهدَ الله - عز وجل - الاستدلال على تَوْحيده، وأنَّ كل ذِي تَمييز يعلمُ أن اللَّه خَالق فَعَليْهِ الإيمانُ بِهِ، والقولان الأولان في القرآن ما يصدقُ تَفْسيرَهُمَا. فأمَّا إعْرابُ (الَّذِينَ) فالنصْب على الصفَةِ للفَاسِقينَ، وموضع قوله: (أنْ يُوصل) خفض على البدل من الهاء والمعنى ما أمر الله بأنْ يُوصَلِ. وَمَوْضِعُ (أولَئكَ) رفع بالابْتِدَاءِ و (الخَاسِرُونَ) خبرُ الابتدَاءِ وهم بِمَعْنى الفصل وهو الذي يسميه الكوفيون العماد، ويجوز أن يكون أُولَئِكَ رفعاً بالابتداءِ وهم ابتداء ثان، والخاسرون، خبر لِهُمْ و (هُمُ الخاسرون)، خبر عن أولئك. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) فكونهم أمْوَاتاً أوْلاًْ أنَّهمْ كانُوا نُطَفاً ثم جعِلوا حَيواناً ثم أمِيتُوا ثم أحْيُوا ثم يُرجَعُونَ إلى اللَّه - عزَّ وجلَّ - بعد البعث كما قال (مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ) أي مسرعين. وقوله، عزَّ وجلَّ (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا).

(29)

والأجداثُ القبورُ. وَتأويلُ كيف أنها، استفهام في معنى التعجب وهذا الثعجب إنما هو للخلق وللمؤمنين، أي اعجبوا من هؤُلاءِ كيف يَكفُرون وقد ثبتَتْ حجةُ اللَّهِ عَلَيْهمْ ومعنى (وكنتم) وقد كنتم وهذه الواو للحال، وإضمار قد جائز إذا كان في الكلام دليل عليه، وكذلك قوله (أو جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) (وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ). * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29) موضع ما مفعول به وتأويله أن جميع ما في الأرض منعَمُ به عليكم فهو لكم. وفيه قول آخر أن ذلكم دليل على توحيد اللَّه عزَّ وجلَّ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (ثُمَّ اسْتَوى إلىَ السَّمَاءِ). فيه قولان: قال بعضهم: (اسْتَوى إلىَ السَّمَاءِ)، عمد وقصد إلى السماءِ. كما تقول قد فرغ الأمير من بلد كذا وكذا، ثم استوى إلى بلد كذا، معناه قصد بالاستواءِ إليه، وقد قيل (أيضاً) استوى أي صعد أمره إلى السماء وهذا قول ابن عباس، والسماءُ لفظها لفظ الواحد، ومعناها معنى الجمع. والدليل على ذلك قوله: (فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ). ويجوز أن يكون السماءُ جمعاً كما أن السَّمَاوَات جمع كأن واحِدَهُ سَمَاة وسماوة وسماء للجميع. وزعم أبو الحسن الأخفش أن السماءَ جائز أن يكون واحداً يراد به

(30)

الجمع كما تقول "كثر الدِّرْهَمُ والدينار في أيدي الناس ". والسماءُ في اللغة السقف ويقال لكل ما ارتفع وعلا قد سما يسمو، وكل سقف، فهو سماء يا فتى، ومن هذا قيل للسحاب لأنها عالية. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) قال أبو عبيدة " إذ " ههنا زائدة، وهذا إقْدَام مِنْ أبي عبيدة لأن القرآن لا ينبغي أن يتكلم فيه إلا بغاية تجري إلى الحق و (إذ) معناها الوقت، وهي اسم فكيف يكون لغواً، ومعناها الوقت؛ والحجة في (إذ) أنَّ اللَّه تعالى ذكر خلق الناس وغيرهم، فكأنَّه قال ابتدأ خلقكم إذ قال ربك للملائكة (إِني جاعل في الأرض خَليفَةً). وفي ذكر هذه الآية احتجاج على أهل الكتاب بتَثْبيتِ نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّ خَبَرَ آدم وما أمره اللَّه به من سجود الملائكة له معلوم عندهم، وليس هذا مِنْ علم العرب الذي كانت تعلمه، ففي إخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - دليل على تثبيت رسالته إذ آتاهم بما ليس من علم العرب، وإنما هو خبر لا يعلمه إلا من قرأ الكتاب أو أوحي إليه به. وتأويل قوله عزَّ وجلَّ: (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ): روي أن خلقا يقال لهم الجان كانوا في الأرض فأفسدوا وسفكوا

الدماء لبعث اللَّه ملائكتَه فأجْلَتْهم من الأرض، وقيل إن هُؤلاء الملائكة صاروا سكان الأرض بعد الجان، فقالوا يارب (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ). وتأويل استخبارهم هذا على جِهَةِْ الاسْتِعْلام وجهة الحكمة، لا على الإنكار، فكأنهم قالوا يا اللَّه: إن كان هذا ظننا فَعَرفنا وجه الحق فيه. وقال قوم: المعنى فيه غير هذا وهو أن الله عزَّ وجلَّ أعلم الملائكة أنه جاعل في الأرض خليفة، وأن من الخليقة فرقةً تسفك الدماءَ وهي فرقة مِنْ بَنِي آدَم، وأذن اللَّه عزَّ وجلَّ للملائكةِ أنْ يسْألوه عن ذلك وكان إعلامُه إياهم هذا زِيادةً في التثبيت في نفوسهم أنَّه يعلم الغيب، فكأنهم قالوا: أتخلق فيها قوماً يسفكون الدماءَ ويَعصونَك؛ وإنَّما ينبغي إذا عرفوا أنك خلقتهم أن يسبحوا بحمدك كما نسبح، ويقدسُوا كما نقدس، ولَمْ يَقُولُوا هَذَا إلا وقد أذن لهم. ولا يجوز على الملائكة أن تقول شيئاً تتظنى فيه، لأن اللَّه تعالى وصفهم بأنهم يفعلون ما يؤمرون. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (إِنَىِ أعْلمُ ما لا تَعْلَمُونَ). أي أبْتَلِي من تَظُنُون أنَّه يطيع فيهديه الابتلاءُ، فالألف ههنا إِنَّمَا هي على إِيجاب الجعل في هذا القول، كما قال جرير:

(31)

ألسْتُمْ خَيْرَ مَنْ ركب المطايا. . . وأنْدَى العالَمينَ بطون راحِ ومعنى (يَسفِكُ) يصُب، يقال سفك الشيءَ إذا صبَّه ومعنى (نُسَبح بحمدك) نُبَرئُك من السوءِ، وكل مَنْ عمل عَمَلاً قَصدَ به اللَّه فقد سبح، يقال فرغت من تسبيحي أي من صلاتي، وقال سيبويه وغيره من النحويين: إن معنى سُبْحَان الله: براءة اللَّه من السوءِ وتنزيهه من السوءِ، وقال الأعشى: أقول لما جاءَني فخرُهُ. . . سبحانَ من علقمةَ الفاخر. المعنى البراءَة مِنْه ومِنْ فخْرِه. . ومعنى (نُقَدِّسُ لَكَ) أي نطهر أنْفُسَنا لك، وكذلك منْ أطاعك نقدسُه أي نطهّره، ومن هذا بيت المقدس، أي البيت المُطهرُ أو المكان الذي يتطهر فيه من الذنوب. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قال أهل اللغة علم آدم أسماءَ الأجناس، وعرض أصحاب الأسماءِ من

(34)

الناس وغيرهم على الملائكة، فلذا قال: (ثم عرضهم) لأن فيهم من يعقل. وكل ما يعقل يقال لجماعتهم (هم). و (هم) يقال للناس ويقال للملائكة؛ ويقال للجن، - ويقال للجان ويقال للشياطين فكل مميز في الإضمار (هم) هذا مذهب أهل اللغة. وقد قال بعض أهل النظر: إن الفائدة في الِإتيان بالأسماءِ أبلغ منها هي الفائدة بأسماءِ معاني كل صنف من هذه، لأن الحجة في هذا أن الخيل إذا عرضت فقيل ما اسم هذه، قيل خيل، فأي اسم وضع على هذه أنبأ عنها. وإنما الفائدة أن تُنْبِئ باسم كل معنى في كل جنس، فيقال هذه تصلح لكذا. فهذه الفائدة البينة التي يتفق فيها أن تسمى الدابة والبعير بأي اسم شئتَ. والمعنى الذي فيها وهو خاصها معنى واحد وإن اختلفت عليه الأسماءُ واللَّه أعلم. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34) قَرأتِ الْقُراءُ (للملائِكةِ اسْجُدُوا) بالكسر وقرأ أبو جعفر المدني وحده (للملائكةُ اسْجدوا) بالضم. وأبو جعفر من جِلَّةِ أهل المدينة

وأهلِ الثَّبتِ في القَراءَةِ إلا أنه غلط في هذا الحرف (1) لأن الملائكة في موضع خفض فلا يجوز أن يرفع المخفوض ولكنه شبَّه تاءَ التأنيث بكسر ألف الوصل لأنك إذا ابْتدأتَ قلت اسْجُدوا. وليس ينبغي أن يقرأ القرآن بتوهم غيرِ الصواب. (وإذ) في موضع نصب عطف على (إذ) التي قبلها والملائكة واحدهم مَلَك، والأصل فيه مَلأك أنشد سيبويه. فلست لِأنْسي ولكنِ لِمَلأك. . . تنزَّلَ من جوِّ السَّماءِ يَصُوبُ ومعناه صاحب رسالة، ويقال مألُكة ومألَكَة ومألُك جمع مألُكة قال الشاعر: أبلغ النُعمانُ عني مالكاً. . . أنه قدْ طال حَبْسي وانتظاري وقوله: (لآدم) آدمُ في موضع جَر إلا أنه لا ينْصرِفُ لأنَّه على وزن أفعَل: يقول أهل اللغة إن اشتقاقه من أديم الأرض، لأنه خُلقَ مِنْ تُراب. وكذلك الأدمة إنما هي مشبهة بلون التراب. فإذا قلت مررت بآدم وآدم آخر، فإن النحويين يختلفون في أفعل الذي يسمى به وأصله الصفة، فسيبويه

_ (1) قراءة أبي جعفر - رحمه الله - متواترة، ومن ثَمَّ فلا وجه للاعتراض عليها. والله أعلم.

والخليل ومن قال بقولهما يقولون إنه يَنْصرف في النكرة لأنك إِذا نكّرته رددته إلى حال قد كان فيها يَنْصَرِف وقال أبو الحسن الأخفش إذا سَمَّيْتَ به رجلًا فقد أخرجته من باب الصفة، فيجب إذا نكرته أن تصرفه فتقول: مررت بآدمٍ وآدمٍ آخر. ومعنى السجود لآدم عبادة الله عزَّ وجلَّ لا عبادةُ آدم، لأن الله عزَّ وجلَّ: (إنما خلق ما يعقل لعبادته. فإذا ابتدات قلت: اسْجُدوا فضممت الألفَ، والألفُ لا حظ لها في الحركة، أعني هذه الهمزة المبتدأ بها. وإنَّما أدخلت - للساكن الذي بعدها. لأنه لا يبتدأ بساكن، فكان حقها الكسرَ لأن بعدها ساكناً، وتقديرها السكون، فيجب أن تكسر لالتقاءِ السَّاكنين، ولكنها ضمت لاستثقال الضمة بعد الكسر، وكذلك كل ما كان ثالثُه مَضْمُوماً - في الفعل المستقبل نحو قوله (انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ)، ونحو (اقْتُلُوا يُوسُفَ) لأنه من أنَظَر يَنْظُر وقَتَل يقْتُل، وإنما كرهت الضمة بعد الكسرة - لأنها لا تقع في كلام العرب - لثقلها - بعدها. فليس في الكلام مثل فِعُل ولا مثل إفْعُل. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فَسَجَدُوا إلا إبلِيسَ أبَى): قال قوم إن إبليس كان من الملائكة فَاسْتُثْنِيَ منهم في السجود وقال قوم من أهل اللغة: لم يكن إبليس من الملائكة، والدليل على ذلك قوله: (إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ)، فقيل لهُؤلاءِ فكيف جاز أنْ يُستَثْنى منهم؛ فقالوا:

(35)

إن الملائكة - وإياه - أمروا بالسجود، قالوا ودليلنا على أنه أُمِرَ معهم قوله: (إِلا إبْلِيسَ أبى)، فلم يأب إلا وهو مأمور. وهذا القول هو الذي نختاره، لأن إبليس كان من الجن كما قال عزَّ وجلَّ، والقول الآخر غير ممتنع، ويكون (كَانَ مِنَ الْجِنَ) أي كان ضالًا كما أن الجن كانوا ضالين فجعل منهم كما قال في قصته وكان من الكافرين، فتأويلها أنه عمل عملهم فصار بعضَهم كما قال عزَّ وجل (المُنَافِقُونَ والمُنَافِقَاتُ بعضُهم مِنْ بَعْضٍ). وفي هذه الآية من الدلالة على تثبيت الرسالة للنبي - صلى الله عليه وسلم - كما في الآية التي قبلها، والتي تليها؛ لأنه إخبار بما لَيْس من علم العرب ولا يعلمه إلا أهل الكتاب، أو نبي أوحِيَ إليه وإبليس لم يُصْرف - لأنه اسم أعجمي اجتمع فيه العجمة والمعرفة فمنع من الصرفِ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) الرغَدُ الكثيرُ الذي لا يُعَنيك. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ)). أي إنْ عَمِلْتُمَا بأعمال الظالمين صِرْتُما منهم، ومعنى (لَأتَقْرَبا) ههنا - لا تأكلا، ودليل ذلك قوله (وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ) أي لا تقرباها في الأكل. (ولاتقربا) جزم بالنفي. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فَتَكُونَا ينَ الظالِمِين) نصب، لأن جواب النهي بالفاءِ نصب، ونصبه عند سيبويه - والخليل بإضمار أن، والمعنى لا يكن منكما قرب لهذه الشجرة فَكَوْنٌ مِنَ الظالمين، ويجوز أنْ يكونَ فتكونَا جزم على العطف على قوله وَلاَ تَقْرَبَا فَتَكُونَا.

(36)

وقوله عزَّ وجلَّ: (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) معناه أنهما أُزِلَّا بإغْوَاءِ الشيطان إياهُمَا، فصار كأنَّه أزلَّهْمَا، كما تقول للذي يعمل ما يكون وصلة إلى أن يزلك من حال جميلة إلى غيرها: أنت أزْلَلْتَنِي عَنْ هذا، أي قبولي منك أزلنِي، فصرت أنتَ المُزيلَ لِي، ومعنى الشيطان في اللغة الغالي في الكفر المتبعد فيه من الجن والإنس، والشطَنُ في لغة العرب الخَبْل، والأرض الشطون: البعيدةُ، وإنما الشيطان فَيْعال من هذا، (وقد قرئ: (فَأزَالهُمَ الشيطان) من زُلْتُ وأزَالَنِي غيْري. وأزلهما من زَلَلْتُ وأزَلني غيري، ولزَللت ههُنا وجهان: يَصْلح أن يكون فأزلهما الشيطان "أكسبهما الزلة والخَطِيئةَ، ويصلح أن يكون "فأزلهما نحَّاهما" وكلا القراءَتين صواب حسن). * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) جمع الله للنبي - صلى الله عليه وسلم - قصة هبوطهم، وإنما كان إبليس اهبِطَ أولاً. والدليل على ذلك قوله عزَّ وجلَّ (اخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ) وأهْبط آدمُ - وحواءُ بعد فجمع الخَبرُ للنبي - صلى الله عليه وسلم - لأنهمْ قد اجتمعوا - في الهبوط وإن كانت أوْقَاتُهم متفرقة فيه. وقوله - (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) إبْليس عدو للمؤْمنين من ولد آدم. وعداوته لهم كفر، والمؤمنون أعداءُ إبليس، وعداوتهم له إيمان. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ) أي مُقَام وثبوت وقوله (إِلى حِينٍ).

(37)

قال قوم: معنى الحين ههنا إلى يوم القيامة، وقال قوم: إلى فناءِ الآجال أيْ كلُ مستقر إلى فناءِ أجله، والحين والزمان في اللغة منزلة واحدة، وبعض الناس يجعل الحين في غير هذا المَوْضِع ستة أشهر دليله قوله: (تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا). وإنما (كل حين) ههنا جُعِلَ لمدة معلومة والحين يصلح للأوقات كلها إلا أنه - في الاستعمال - في الكثير منها أكثر، يقال ما رأيتُكَ منذُ حين، تريد منذ حين طويل. والأصل على ما أخبرنا به. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إنَهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) الكلمات - واللَّه أعلم - اعتراف آدم عليه السلام وحواء بالذنب لأنهما قالا: (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23). اعترفا بذنبهما وتابا. وفي هذه الآية موعظة لولدهما، وتعريفهم كيف السبيل إلى التنَصُّلِ من الذُنُوب، وأنه لا ينفع إِلا الاعترافُ والتوبةُ، لأن ترك الاعتراف بما حرّم اللَّه - عزَّ وجلَّ - حَرامٌ وكُفْرٌ باللَّه فلا بد من الاعتراف مع التوبة، فينبغي أن يفهم هذا المعنى فإِنه من أعظم ما يحتاج إِليه من الفوائد. وقرأ ابن كثير: (فتلقى آدمَ من ربِّه كَلمَاتٌ)، والاختيار ما عليه الإجماع (1)

_ (1) قراءة ابن كثير متواترة، ومن ثَمَّ فلا يجوز المفاضلة والترجيح بين القراءات. والله أعلم.

(38)

وهو في العربية أقوى، لأن آدم تعلم هذه الكلمات فَقِيلَ تَلقَّى هذه الكلماتِ، والعرب تقول تلقيت هذا من فلان، المعنى فَهْمي قَبِلَهُ من لفْظِه. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) الفائدة في ذكر الآية أنه عزَّ وجلَّ أعلمهم أنه يبتليهم بالطاعة وأنه يُجَازِيهم بالجَنةِ عَلَيْها وبالنَّارِ على تَرْكِهَا، وأن هَذَا الابتلاءَ وقَع عندَ الهبُوط على الأرض. وإعراب (إِمَّا) في هذا الموضع إعراب حروف الشرط والجزاءِ، إلا أن الجزاءَ إذا جاءَ في الفعل معه النون الثقيلة أو الخفيفة لزمتها ما ومعنى لزومها إياها معنى التوكيد، وكذلك معنى دخول النون في الشرط التوكيد. والأبلغ فيما يؤمر العباد به التوكيد عليهم فيه. وفتح ما قبل النون في قوله: (يَأْتِيَنَّكُمْ) لسكون الياءِ وسكون النون الأولى، وجواب الشرط في الفاءِ مع الشرط الثاني وجوابه وهو (فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ)

وجواب (فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ) (قوله) (فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ). و (هُدَايَ): الأكثر في القراءَة والرواية عن العرب (هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ) فالياء في (وهُدَايَ) فتحت لأنها أتت بعد ساكن وأصلها الحركة التي هي الفتح فالأصل أن تقول: هذا غلامِيَ قد جاءَ - بفتح الياءِ - لأنها حرف في موضع اسم مضمر منع الِإعراب فألزم الحركة كما الزمت " هُوَ " وحذف الحركة جائز لأن الياء من حروف المد واللين، فلما سكن ما قبلها لم يكن بد من تحريكها فجعل حظها ما كان لها في الأصل من الحركة وهو الفتح، ومن العرب من يقولون: " هُدَيً وعَصَى "، فمن قرأ بهذه القراءَة فإنما قلبت الألف إِلى - الياءِ، للْيَاءِ التي بعدها، إِلا أن شَأنَّ يَاءِ الإضافة أنْ يُكْسر ما قَبْلَها، فجعل بدلَ كَسْرِ ما قَبلها - إِذْ كانت الألف لا يكسر ما قبلها ولا تكسر هي - قَلْبَها ياءً. وطَىءٌ تقول في هُدًى وعَصاً وأفْعًى وما أشبهَ هذا في الوقفِ هُدَيْ وعَصَيْ (وأفعى)، بغير إِضافة. وأنشد أبو الحسن الأخفش وغيره من النحويين. تبَشري بالرفْهِ والماءِ الروَى. . . وفرج منك قريب قد أتَىْ وبعض العرب يجري ما يجريه في الوقف - في الأصل - مجراه في

(40)

الوقف وليس هذا الوجهَ الجيدَ. وزعم سيبويه أن الذين أبدلوا من الألف الياء، أبدلوها في الوقف ليكون أبين لها. وحكى أيضاً أن قوماً يقولون في الوقف حُبْلَوْ، وأفْعَوْ. وإِنما يحكي أهل اللغة والعلم بها كل ما فيها، ليتميز الجيد المستقيم المطرد من غيره، ويجتنب غير الجَيِّد. فالباب في هذه الأشياء أن ئنْطق بها في الوصل والوقف بألفٍ، فليس إِليك أن تقلب الشيءَ لِعِلةٍ ثم تنطق به على أصله والعلة لمْ تزل، فالقراءَة التي ينبغي أن تُلْزم أهي، (هدَايَ فَلَا خَوْفٌ) إلا أن تثبت برواية صحيحة " هدَيّ " فيقرأ بها. ووجهه من القياس ما وصفنا. فأمَّا قوله: (هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ). وقوله: (إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ) فلا يجوز أن يقرأ هذا صراط علاي، ولا ثمَّ إلاي مرجعكم، لأن الوصل كان في هذا: " إلآي " و " عَلَاي " ولكن الألف أبْدِلَتْ منها مع المضمرات الياءُ، ليفصل بين ما آخره مِما يَجب أن نعْرَبَ ويتَمَكن، ومَا آخره مما لا يجب أن يعرب، فَقلبَتْ هذه الألف ياءً لهذه العلة. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) نصب (بني إِسرائيل) لأنه نداء مضاف، وأصل النداءِ النصب لأن معناه معنى " ناديت " و " دعوت " وإسرائيل في موضع خفض إِلا إنَّه فتح آخره لأنه لا يَنْصَرف، وفيه شيئان يوجبان منعَ الصرف، وهما إنَّه أعجمي وهو معرفة - وإذا كان الاسم كذلك لم يَنْصَرف، إِذا جاوز ثلاثة أحرف عند

النحويين، وفي قوله: (نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) وجْهان، أجودهما فتح الياءِ لأنَّ الذي بعدها ساكبن وهو لام المعرلْة فإستعمالها كثيرَ في الكلام فاختير فتح الياءِ معها لالتقاءِ " السَّاكنين، ولأن الياء لو لم يكن بعدها ساكن كانَ فتحها أقوى في اللغة، ويجوز ُأنْ تحذف الياءُ في اللفظ لالتقاءِ السَّاكنين فتقرأ - (نعمتِ التي) أنعمت بحذف الياءِ، والاختيار إثبات الياء وفتحها لأنه أقوى في العربية وأجزل في اللفظ وأتم للثواب، لأن القارئ يجازى على كل ما يقرؤُه من كتاب اللَّه بكل حرف حسنة، فإن إثباته، أوجَهُ في اللغة. فينبغي إثباته لما وصفنا. فأما قوله عزَّ وجلَّ: (هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31). فلم يكثر القراءُ فتح هذه الياء، وقال أكثرُهُم بفتحها مع الألف واللام. ولعَمْري إن اللام المَعْرفَةَ أكثرُ في الاستعمال، ولكني أقول: الاختيار " أخِيَ اشْدُدْ " بفتح الياءِ لالتقاءِ السَّاكنين، كما فتحوا مع اللام، لأن اجتماع ساكنين مع اللام وغيرها معنى واحد وإن حذفت فالحذف جائز حَسَن إلا أن الأحْسَنَ ما وَصَفْنَا. وأمَّا معنى الآية في التذكير بالنعمة فإنهم ذُكرُوا بِمَا أنْعِمَ بِه على آبائهم من قبلهم، وأنعم به عليهم، والدليل على ذلك قوله: (إذْ جَعَلَ فِيكُمْ أنبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً)، فالذين صادفهم النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكونوا أنبياء وإنَّما ذُكِّروا بما أنعم به على آبائهم وعليهم في أنفسهم وفي آبائهم، وهذا المعنى موجود في كلام العرب معلوم عندها. يفاخر الرجلُ الرجُلَ فيقولُ هَزَمْناكُمْ يَوْمَ " ذي قار "،

ويقول قتلناكم يوم كذا، معناه قَتَل آباؤُنا آباءَكم. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَأوْفُوا بِعَهْدِي أوفِ بِعَهْدِكُمْ). معناه - واللَّه أعلم - قوله: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ) فتمام تبيينه أن يخبروا بما فيه من ذكر نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - وقد بيَّنَّا ما يدُل على ذكر العهد قبل هذا وفيه كفاية. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ). نصب بالأمر كأنه في المعنى " أرهبوني " ويكون الثاني تفسير هذا الفعل المضمر، ولو كان في غير القرآن لجاز: " وَأنَا فَارْهَبُونِ " ولكن الاختيار في الكلام والقرآن والشعر (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) حذفت الياء وأصله " فارهبونِي " - لأنها فاصلة، ومعنى فاصلة رأس آية ليكون النظم على لفظ مُتَسق، ويسمِّي أهلُ اللغة رؤوس الآي الفواصل، وأواخر الأبيات: القوافي. ويقال وَفيْت له بالعهد فأنا وافٍ به، وأوفيت له بالعهد فأنا موف به. والاختيار: - أوفيت، وعليه نزل القرآن كله قال الله عزَّ وجلَّ:

(41)

(وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) وقال: (وأوْفُوا بعَهْدِ اللَّهِ إذَا عَاهَدتُمْ) وقال: (فَأوْفُوا الْكَيْلَ والمِيزَانَ) وكل ما في القرآن بالألف وقال الشاعر في " أوْفَيْتُ ": " ووفيتُ " فجمع بين اللغَتَينِ في بيت واحد: أما ابنُ عوف فقد أوْفى بذمته. . . كما وَفَى بقلاص النجم حاديها * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) يعني القرآن، ويكون أيضاً، (وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ) بِكِتَابِكم وبِالْقُرْآنِ إن شئت عادت الهاءُ على قوله (لما معكم)، وإنما قيل لهم (وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ) لأن الخطاب وقع على حكمائهم فإذا كفروا كفر معهم الأتباع فلذلك قيل لهم: (وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ) فإن قال قائل: كيف تكون الهاءُ لكتابهم؛ قيل له

إنههم إذا كتموا ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - في كتابهم فقد كفروا به كما إنَّه من كتم آية من القرآن فقد كفر به ومعنى (وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ) - إذا كان بالقرآن - لا مؤنَةَ فيه. لأنهم يظهرون أنهم كافرون بالقرآن. . ومعنى (أَوَّلَ كَافِرٍ) أولَ الكافرين،. قال بعض البصريين في هذا قولين: قال الأخفش معناه أول منْ كفَر به، وقال البصريون أيضاً: معناه ولا تكونوا أول فريقٍ كافر به أي بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وكلا القولين صواب حسن. وقال بعض النحوين إن هذا إنما يجوز في فاعل ومفعول تقول الجيش منهزم، والجيش مهزوم، ولا يجوز فيما ذكر: الجيش رجل، والجيش فرس، وهذا في فاعل ومفعول أبين، لأنك إذا قلت الجيش منهزم فقد عُلِمَ أنك تريد هذا الجيش فنقطت في لفظه بفاعل لأن المعنى الذي وضع عليه الجيش معنى يدل على جمع، فهو فَعال. ومفعول يدل على ما يدل عليه الجيش، وإذا قلت الجيش رجل فإنما يكره في هذا أن يتوهم أنك تقلله فأمَّا إِذا عرف معناه فهو سائغ: جيد. تقول: جيشُهُمْ إِنَّما هو فرسٌ ورجُل، أي ليس بكثير، الاتباع فيدل المعنى على أنك تريد الجيش خيل ورجال، وهذا في فاعل ومفعول أبين كما وصفنا. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ). اللغة العليا والقُدْمَى الفتح في الكاف وهي لغة أهل الحِجَازِ، والإمالة في الكاف أيضاً جيّد بالغ في اللغة لأن فاعلا إذا سَلِم من حروف الإطباق

(42)

وحروف المستعلية كانت الإمالة فيه سائغةً إلا في لغة أهل الحجاز، والإمالة لغة بني تميم وغيرهم من العرب، ولسان الناس الذين هم بالعراق جارٍ على لفظ الِإمالة، فالعرب تقول: هذا عابد وهو عابد فيكسرون ما بعدها إلا أن تدخل حروف الِإطباقِ وهي الطاء والظاء والصاد والضاد، لا يجوز في قولك فلانٌ ظالم: ظالم ممال، ولا في طالب: طالب ممال، ولا في صابر صابر: ممال، ولا في ضابطٍ: ضابط ممال، وكذلك حروف الاستعلاءِ وهي: الخاءِ والغين، والقاف، لا يجوز في غافل: غافل ممال ولا في خادم: خادم ممال، ولا في قاهر قاهر: ممال. وباب الإمالة يطول شرحه إلا أن هذا في هذا الموضع هو المقصود وقدر الحاجة. * * * قوله عزَّ وجلَّ: (وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) يقال لبَسْت عليهم الأمرَ ألبِسُه، إذا أعَمَّيته عليهم، ولبِسْت الثوبَ ألبَسُه ومعنى الآية: (لَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ)، والحق ههنا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - وما أتى به من كتاب الله عزَّ وجلَّ، وقوله بالباطل، أي بما يحرفون. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وأنتم تَعْلمُونَ) أي تأتون لبسكم الحق وكتمانه على علم منكم وبصيرةٍ. وإعراب (وَلَا تَلبِسُوا) الجزم بالنهي، وكلامة الجزم سقوط النون، أصله تَلْبِسُون وتَكْتمُونَ، يصلح أن يكون جزماً على معنى ولا تكتموا الحق، ويصلح أن يكون نصباً وعلامة النصب أيضاً سقوط النون، أما إذا نصبت فعلى معنى الجواب بالواو، ومذهب الخليلِ وسيبويه والأخفش وجماعة من البصريين أن

(44)

جميع ما انتصب في هذا الباب فبإضمار أن كأنك قلت لا يكن منكم إلباس الحق وكِتْمَانه، كأنَّه قال وإن تكتموه، ودلَّ تلبسوا على لبس كما تقول: من كذب كانَ شَرًّا، ودل ما في صدر كلامك على الكذب فحذفْتَه. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44) فالألف ألف استفهام، ومعناه: التقرير والتوبيخ ههنا، كأنه قيل لهم: أنتم على هذه الطريقة. ومعنى هذا الكلام - واللَّه أعلم - أنهم كانوا يأمرون أتباعهم بالتمسك بكتابهم ويتركون هم التمسك به، لأن جحْدهم النبي - صلى الله عليه وسلم - هو تركهم التمسك به - ويجوز واللَّه أعلم - أنهم كانوا يأمرون ببذْل الصدقةِ وكانوا يضنون بها، لأنهمَ وُصِفُوا بأنهم قست قلوبهم. وأكلوا الربَا والسُّحْتَ، وَكانوا قد نهوا عن الربا. فمنع الصدقة داخل فِي هذا الباب. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) إن قال قائل لم قيل لهم: استعينوا بالصبر وما الفائدة فيها فإن هذا الخطاب أصله خطاب أهل الكتاب، وكانت لهم رئاسة عند أتباعهم فقيل لهم: استعينوا على ما يُذْهِبُ عنكم شهوَة الرياسة بالصلاة لأن الصلاة يتلى فيها ما يُرغب فيما عند اللَّه، ويزهد في جميع أمر الدنيا، ودليل ذلك قوله: (إِنَّ الصَّلاةَ تنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالمنكَرِ). * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِنهَا لَكَبِيرة إِلا عَلى الْخَاشِعِين). المعنى: إِن الصلاة التي معها الإِيمان بالنبي - صلى الله عليه وسلم - كبيرة تكبر على الكفار وتعْظُمُ عليهم مع الإيمان بالنبي - صلى الله عليه وسلم -. والخاشع المتواضع المطيع المجيب لأن

(46)

المتواضع لا يبالي برياسة كانت له مع كفرٍ إِذا انتقل إِلى الِإيمان. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46) الظن ههنا في معنى اليقين، والمعنى: الذين يوقنون بذلك ولو كانوا شاكين كانوا ضُلالاً كافرين، والظن: بمعنى اليقين موجود في اللغة، قال دريد بن الصمة: فقُلْت لهم ظُنوا بألْفيْ مُقاتِل. . . سَراتهُمُ في الفارِسيّ المُسَرَّدِ ومعناه أيقنوا. وقد قال: بعض أهل العلم من المتقدمين: إِن الظن يقع في معنى العلم الذي لم تشاهده، وإِن كان قام في نفسك حقيقتُه وهذا مذهب، إِلا أن أهل اللغة لم يذكروا هذا. قال أبو إِسحاق: وهذا سمعته من إِسماعيل بن إِسحاق القاضي رحمه اللَّه رواه عن زيد بن أسلم. .

(47)

وقوله (أَنَّهُمْ) ههنا لا يصلح في موضعها إِنهم - بالكسر - لأن الظن واقع فلا بد مِن أن تكونَ تِليه. أنَّ إلا أن يكون في الخبر لام. ويصلح في (أَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) الفتح والكسر، إِلا أن الفتح هو الوجه الذي عليه القراءَة، فإذا قلْت: وإنهُّم إِليه راجعون - في الكلام - حملت الكلام عَلَى المعنى كأنه " وهم إليه راجعون " ودخلت أنْ مَؤكْدة، ولولا ذلك لما جاز أبطالك الظن مع اللام إذا قلت ظننت إنك لعالم. ومعنى (مُلَاقُو رَبِّهِمْ) ملاقون ربهمْ لأن اسم الفاعل ههنا نكرة ولكن النون تحذف استخفافاً، ولا يجوز في القرآن إثباتها لأنه خلاف المصحف، ولا يجوز أن يقع شيء في المصحف مجمع عليه فيخالف، لأن اتباع المصحف أصل تباع السُنة. * * * وقوله: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47) أذكرهم الله عزَّ وجلَّ نعمته عليهم في أسلافهم، والدليل على ذلك قوله عزَّ وجلَّ: (وَإذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعوْن) والمخاطبون بالقرآن لم يروا فرعون ولا آله. ولكنه عزَّ وجلَّ ذكَرهم أنه لم يزل منعماً عليهم لأن إنعامه على أسلافهم إِنعام عليهم، والدليل على ذلك: أن العرب وسائر الناس يقولون: أكرمْتُك

(48)

بإكرامي أخاك،. وإنما الأثرة وصلت إلى أخيه، والعربُ خاصة تجعل ما كان لآبائها فخراً لها، وما كان فيه ذم يعدونه عاراً عليها، وإن كان فيما قَدُم من آبائها وأسلافها. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48) يعني به يوم القيامة، وكانت إليهود تزعم أن آباءَها الأنبياء تشفع لها عند الله فأيئَسُهم اللَّه من ذلك. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلا يؤخَذُ منْهَا عَدْلٌ). العدل ههنا الفِدْية، ومعنى: (لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا) أي لا تجزي فيه، وقيل: لا تجْزِيه، وحَذْفُ (فيه) ههنا سائغ، لأن (في) مع الظرف محذوفة: تقول أتيتك اليوم، وأتيتك في اليوم، فإذا أضمرت قلت أتيتك فيه، ويجوز أنْ تقول أتيْتُكه، قال الشاعر: ويوماً شهِدناه سليماً وعامراً. . . قلِيلاً سوى الطَّعنِ النِهال نوافلُه أراد شهدنا فيه، وقال بعض النحويين: إن المحذوف هنا الهاء لأن الظروف عنده لا يجوز حذفها - وهذا قول الكسائي والبَصريون وجماعةٌ من الكوفيين يقولون: إن المحذوف " فيه ". وفصَّل النحويون في الظروف، وفي الأسماءِ غير الظروف فقالوا: إن الحذف مع الظروف جائز كما كان في ظاهره، فكذلك الحذف في مضمره، لو

قلت الذي سرت اليوم، تريد الذي سرت فيه جائز، لأنك تقول سرت اليوم وسرت فيه، ولو قلت: الذي تكلمت فيه زيد: لم يجز الذي تكلمت زيد لأنك تقول تكلمت اليوم وتكلمت فيه، ولا يجوز في قولك تَكلمْتُ في زيد تكلمْتُ زيداً. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (تُقْبَلُ مِنْهَا شفاعَةٌ). مرفوع لأنه اسم ما لم يسم فاعله، والاسم إذا لم يُسَم من فعَل به رُفع لأن الفعل يصير حديثاً عنه كما كصير حديثاً عن الفاعل، وتقول: لا يُقْبَلُ منها شفاعةٌ، ولا تُقْبلُ، لأن معنى تأنيث ما لا يُنْتجُ غيرحقيقة، فلك في لفظه في الفعل التذكير والتأنيث، تقول: قبِل منك الشفاعة، وقدْ قُبلتْ منك الشفاعة، وكذلك (فمن جاءَه موعظةٌ) لأن معنى موعظة ووعظ، وشفاعة وشفع واحد. فلذلك جاء التذكير والتأنيث على اللفظِ والمعنى وأمَّا ما يعقل ويكون منه النسل والولادة نحو امراة ورجل،، وناقة وجمل فيَصِح في مؤَنثة لفظ التذكير، ولو قلت قام جارتك ونحر ناقتك كان قبيحاً - وهو جائز على قبحه لأن الناقة والجارة تدلان على معنى التأنيث، فاجتزئَ بلفظهما عن تأنِيثِ الفعل، فأمَّا الأسماء التي تقع للمذكرِين وأصحاب المؤنث فلا بد فيها من عَلمِ التأنيث لأن الكلام للفائدة، والقصد به الإبانة، فلو سُمَّيت أمراة بقاسم لم يجز أن يقال جاءَني قاسم، فلا يعلم أمذكراً عَنَيْت أم مؤَنثاً، وليس إلى حذف هذه التاء - إذا كانت فارقة بين معنيين - سبيل، كما إنَّه إذا جرى ذكر رجلين لم يجز أن تقول: قد قام،

(49)

ولا يجوز إلا أن تقول قاما، فعلامة التأنيث فيما فيه اللبس كعلامة التثنية ههنا. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) موضع إذ نصب، كأنه قال: واذكروا إذ نجيناكم مِنْ آل فرعون، وآلُ فرعَون أتْبَاعُه ومن كان على دينه، وكذلك آلُ الأنبياءِ صلوات اللَّه عليهم من كان على دينهم، وكذلك قولنا: صلى اللَّه على محمد وآله: معنى آله من اتبعه من أهل بيته وغيرهم، ومعنى خِطابِهمْ هَهنَا تذكيرهم بالنعمة عليهم في أسلَافِهِمْ كما وصفنا. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (يَسُومُونكُمْ سُوءَ العَذابِ). معنى (يَسُومُونكُمْ) في اللغة. يولونكم، ومعنى سوءَ العذابِ، شديد العذاب، وإن كان العذاب كله سوءًا، فإنما نُكرَ في هذا الموضع لأنه أبلغ ما يعامل به مَرْعِيٌّ. فلذلك قيل سوءَ العذاب، أي ما يبلغ في الإساءَة ما لا غاية بعده. وفسره بقوله: (يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ) والقراءَة المجمع عليها - يُذَبِّحُونَ - بالتشديد - ورواية شاذة يَذْبَحُون أبناءَكم، والقراءَة المجمع عليها أبلغ، لأن (يُذَبِّحُونَ) للتكثير، ويَذْبَحُونَ يصلح أن يكون للقليل وللكثير فمعنى التكثير ههنا أبلغ، و (أبناءَكم) جمع ابن، والأصل كأنه إنما جمع بني وبنو ويقال: ابن بيَّن البنوة، فهي تصلح أن تكون "فعَل" و " فِعْل" كأنه أصله بناية، والذين قالوا بنون كأنَّهم جمعوا "بَنا" وبنون، فأبناءُ جمع " فعَل وَفِعْل ". و"بِنْتٌ" يدل على أنه يَستقيم أن يكون فِعْلًا، ويجوز أن يكون " فَعَل " نقلت إلى " فِعْل " كما نقلت أخت من فَعَل إلى فُعْل، فأمَّا بنات فهو ليس بجمع بنت على لفظها، إنما ردت إلى أصلها فجمعت بنات على أن الأصل في بنت "فِعْله" كأنَّها مما حذفت لامه،

وَالأخفش: يختار أن يكون المحذوف من ابن الواو قال: لأن أكثر ما تحذف الواو بثقلها. والياءُ تحذف أيضاً للثقل. قال أبو إِسحاق: والدليل على ذلك أن يداً قد أجمعوا على أن المحذوف منه الياءُ ولهم دليل قاطع على الإِجماع قال: يديت إِليه يداً، ودم محذوف منه الياءُ، يقال دم ودميان. قال الشاعر: فلو أنَّا على حَجَر ذبِخنا. . . جَرى الدَّميَانِ بالخَبَر اليقينِ والبنوًة ليست بشاهد قاطع في الواو، لأنهم يقولون الفتوة والفتيان في التثنية - قال عزَّ وجلَّ: (وَدَخَلَ مَعَهُ السِجْنَ فَتَيانِ). فابْن يجوز أن يكون المحذوف منه الواو أو الياءُ. وهما عندي متساويان. وقوله عزَّ وجل: (وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ).

(50)

يعني: في النجاة من آل فرعون. والبلاءُ ههنا النعمة، يروي عن الأحنف أنه قال: البلاءُ ثم الثناءُ، أي الأنعام ثُمَّ الشكرُ. قال زهير: جزى اللَّهَ بالِإحْسَان مَا فعَلا بِنَا. . . وأبلاهما خير البلاءِ الذي يبلو وقال الله عزَّ وجلَّ: (وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا). * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50) موضع (إِذْ) نصب كالتي قبلها، ومعنى (فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ): جاءَ تفسيره في آية أخرى، وهو قوله عزَّ وجلَّ: (فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63). أي فانْفرق البحر فصار كالجبال العظام، وصَاروا في قَرَارِه - وكذلك قوله عزَّ وجلَّ: (فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77). معناه طريقاً ذا يبس. وقوله: (وَأغْرَقْنَا آلَ فِرْعَونَ وأنْتُمْ تَنْظُرُونَ) فيه قولان (قالوا) وأنتم

(51)

ترونهم يغرقون ويجوز أن يكون: (وأنتم تنظرون) أي وأنتم مشاهدون تَعلمون ذلك، وإن شغلهم عن أن يروه في ذلك الوقت شاغل يقال مِنْ ذلك: دُور آل فلان تنظر إلى دور بني فلان، أي هي بإزائها والدُّور يعلم أنها لا تبصر شيئاً. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51) ويقرأ: (وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى) وكلاهما جائز (حسن) واختار جماعة من أهل اللغة، وإذ وعدنا بغير ألف: وقالوا: إنما اخترنا هذا لأن المواعدة إنما تكون لغير الآدميين، فاختاروا (وعدنا) وقالوا دليلنا قوله عزَّ وجلَّ (إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ) وما أشبه هذا وهذا الذي ذكروه ليس مثل هذا وواعدنا هنا جيد بالغ، لأن الطاعة في القبول بمنزلة المواعدة، فهو من اللَّه عزَّ وجلَّ وعدٌ ومن موسى قبول واتًبَاعٌ فجرى مجرى المواعدة. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ). ذكرهم بكفر آبائهم مع هذه الآيات العظام، وأعْلمهم أن كفرهم بالنبي ي مع وضوح أمره وما وقفوا عليه من خبره في كتبهم ككفر آبائهمْ. وكان في ذكر هذه الأقاصيص دلالة على تثبيت نُبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن هذه الأقاصيص ليست من علوم العرب، وإنما هى من علوم أهل الكتاب، فأنبأهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بما في كتبهم، وقد علموا أنه منْ العرب الذين لم يقرأوا كتبهم،

(53)

فعلموا إنَّه لمْ يُعَلمْ هذِه الأقاصيص إلا من جهة الوحي، ففي هذه الآيات. إذكارهُم بالنعمة عليهم في أسلافهم، وتثبيت أمر الرسالة كما وصفنا. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53) آتينا بمعنى أعطينا، و (الكتاب) مفعول به، (والفرقان) عطف عليه. وَيَجُوزُ أن يكون الفرقان الكتاب بعينه إلا إنَّه أعيد ذكره، وعَنى به أنه يفرق بين الحق والباطل. وقد قال بعض النحويين وهو قطرب: المعنى: وآتينا محمداً الفرقان، ودليله قوله عزَّ وجلَّ (تَبَارَكَ الًذِي نَزَلَ الفُرُقَانَ عَلَى عَبْدِهِ) يعني به القرآن. والقول الأول هو القول لأن الفرقان قد ذكر لموسى في غير هذا الموضع - قال الله عزَّ وجلَّ: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48). * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (لَعَلَّكم تَهْتَدُونَ). " لعل " إنما ذكرت هنا - واللَّه يعلم أيهتدون أم لا يهتدون - على ما يفعل العباد ويتخاطبون به، أي إن هذا يرجى به الهداية، فخوطبوا على رجائهم. ومثله قوله: (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى): إنما المعنى اذهبا على رجائكما، واللَّه عزَّ وجلَّ عالم بما يكون وهو من ورائه. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إنَهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54) والقراءَة (يَا قَوْمِ) بكسر الميم، وهو نداء مضاف، والاختيار فيه حذف الياءِ، لأن الياء حرف واحد، والنداءُ باب حذف، وهي شي آخر الاسم، كما

أنَّ التنوين في آخره، فحذفت الياءُ، وبقيت الكسرة تدل عليها، ويجوز في الكلام أربعة أوجه. فأمَّا في القرآن فالكسر وحذف الياءِ لأنه أجوَد الأوْجُهِ. وهو إجماع القراءِ، فالذي يجوز في الكلام أن تقول " يَا قَوْمِ إنكم " كما قرئ في القرآن، ويجوز يا قومِي بإثبات الياءِ وسكونها، ويجوز يا قوْمِيَ بتحريك الياءِ، فهذه ثلاثة أوجه في الإضافة، ويجوز ُ يا قومُ بضئم الميم على معنى يا أيها القوم. ومعنى قوله (ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ). يقال لكل من فعل فعلاً يعود عليه بمكروه إِنما أسأت إلى نفسك وظلمت نفسك، وأصل الظلم في اللغة وضع الشيءِ في غير موضعه، والعرب تقول: ومن أشبه أباه فما ظلم، معناه لم يقعْ لَهُ الشبه غيرَ مَوقعهِ، ويقال ظلم الرجل سقاءَه من اللبن إذا شرب " منه " وسقي منه قبل إدراكه، وأرض مظْلُومة إِذا حُفِرَ فيها ولم يكن حفر فيها قبل، أو جاءَ المطر بقربها وتخطاها. قال النابغة: إِلاَّ أَوارِيَّ لأَيَاً ما أُبَيِّنُهَا. . . والنُّؤْيُ كالحوضِ بالمظلومةِ الجَلَدِ ؛ ومعنى قوله (باتخاذُكمُ العِجْلَ) أي اتخذتموه إلهاً. ومعنى قوله (فتُوبوا إِلى بَارِئكُمْ) أي إلى خالقكم، يقال برأ اللَّه الخلق، فالبارئ الخالق، والبريَّة والخلق المخلوقون، إلا أن البريَّة وقعت في أكثر كلامهم غير مهموزة -

وأصلها (أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) وأكثر القراء؛ والكلاَمِ " الْبَرِيَّة " بغير همز. وقد قرأ قومٌ (البَرِيئَةُ) بالهمز، والاختيار ما عليه الجمهور، وروي عن أبي عمرو بن العلاءِ أنه قرأ (إلى بارِئْكمَ) بإسكان الهمز، وهذا رواه سيبويه باختلاس الكسرة، وأحسب أن الرواية الصحيحة ما روى سيبويه فإنه أضبط لمَا رَوَى عن أبي عمرو، والإعْراب أشبه بالرواية عن أبي عمرو لأن حذف الكَسرة في مثل هَذا وحذف الضم إنما يأتي باضطرار مِنَ الشعر، أنشد سيبويه - وزعم إنَّه مما يجُوز في الشعر خاصة. إذا اعْوجَجْنَ قلت صاحبْ قومِ بإسكان الباءِ، وأنشد أيضاً: فاليوم أثمربْ غَيْرَمستحقب. . . إثماً من اللَّه ولا واغل فالكلام الصحيح ان تقول " يا صاحبُ " أقبل، أو يا صاحب أقبل ولا وجْهَ للإسكان، وكذلك " فاليوم أشَرب "، يا هذا وروى غير سيبويه هذه الأبيات على الاستقامة وما ينبغي أن يكون في الكلام والشعر، رووا هذا البيت على ضربين: رووا. فاليوم فَاشْرَبْ غير مستحقب.

(55)

ورووا أيضاً: فاليوم أُسْقَى غيرَ مسْتَحْقب. ورووا أيضاً: إذا اعوججن قلت صَاح - قَوَم. ولم يكن سيبويه ليروي (إن شاءَ اللَّه) إلا ما سمع إلا أن الذي سمعه هُؤلاء هو الثابت في اللغة، وقد ذكر سيبويه أن القياس غير الذي رَوَى. ولا ينبغي أن يُقْرَأ إلا (إلى بارئِكُمْ) بالكسر، وكذلك (عند بَارِئِكُمْ). ومعنى (فاقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ) امتحنهم اللَّه عزَّ وجلَّ بأن جعل توبتهم أن يقتل بعضُهم بعضاً، فيقال إنهم صُفًوا صَفَيْنِ يقتل بَعضهم بعضاً، فمن قُتِل كان شهيداً؛ ومن لم يقتل فتائب مغفور له ما تقدم من ذنبه، ويقال إن السبعين الذين اختارهم موسى - صلى الله عليه وسلم - لم يكونوا ممن عبد العجل، وإنهم هم الذين كانوا يقتلون، والأول أشبه بالآية لأن قوله عزَّ وجلَّ (فاقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ) يدل على أنها توبَة عبدة العجل، وإنما امتحنهم الله عزَّ وجلَّ بهذه المحنة العظيمة لكفرهم بعد الدلالات والآيات العظام. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) معنى (جهرة) غير مُسْتتِرٍ عَنَّا بشيءٍ، يقال فلان يجاهر بالمعاصي أيْ لا يسْتتِر من الناس منها بشيءٍ. وقوله: (فأخذتكم الصاعقة) معنى الصاعقة ما يُصْعقون منه، أيْ يموتون، فأخذتهم الصاعقة فماتوا. الدليل على أنهم ماتوا قوله عزَّ وجلَّ: (ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56).

(57)

وفي هذه الآية ذكر البعث بعد موت وقع في الدنيا. مثل قوله تعالى: (فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ). ومثل قوله عزَّ وجلَّ: (فَقَالَ لَهُم اللَّهُ مُوتوا ثم أحْيَأهُمْ) وذلك احتجاج على مشركي العرب الذين لمْ يكُونوا مُوقنين بالبعث، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالأخبار عمن بعث بعد الموت في الدنيَا مما توافقه عليه إليهود والنصارى، وأرباب الكتب فاحتج - صلى الله عليه وسلم - بحجة اللَّه التي يوافقه عليها جميع من خالفه من أهلِ الكتب. وقوله (لعَلَّكُمْ تشْكُرُون) أي في أن بَعَثَكُم بعد الموت، وأعلمكم أن قدرته عليكم هذه القدرة، وأن الِإقالة بعد الموت لا شيءَ بَعدها، وهي كالمُضْطَرةِ إلى عبادة اللَّه. وقوله: (وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57) سخر اللَّه لهم السحاب يظللهم حين خرجوا إلى الأرض المقدسة. وأنزل عليهم المَنّ والسلوى. وجملة المَن ما يمن اللَّه به مما لا تعب فيه ولا نَصَبَ وأهل التفسير يقولون إن المنَّ شيء يسقط على الشجر حلو يشرب. ويقال إنَّه " التَرَنْجِين "،، ويروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: الكمأة من المَنِّ وماؤها شفاء للعين، ومعنى المنّ على ما وَصفنا في اللغة ما يمن اللَّه به من غير تعب ولا نصب، والسلوى طائر كالسمَاني، وذكر إنَّه كان يأتيهم من هذين ما فيه كفايتُهم.

(58)

وقوله: (كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) قالوا إن معناه من هذه الطيبات، وقالوا أيضاً مما هو حلال لكم. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) الرغد: الواسع الذي لا يُعَنِّي. وقوله: (وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا) أُمِرُوا بأن يدخلوا سَاجِدين. (وَقُولُوا حِطَّةٌ):، هناه وقولوا مسألتنا حطة، أي حط ذنوبنا عنا، وكذلك القراءَة، ولو قرئ حطةً كان وجهها في العربية كأنهم قيل لهم، قولوا احْطُطْ عَنَّا ذنوبنا حطة. فحرَّفوا هذا القول وقالوا لفظة غير هذه اللفظة التي أُمروا بها، وجملة ما قالوا أنه أمْرٌ عظيم سماهم الله به فاسقين. وقوله: (نغْفِرْ لَكُمْ) جزم جواب الأمر، المعنى أن تقولوا ما أمرتم به نغْفرْ لكم خطاياكم، وقرأ بعضهم " نغْفرْ لكم خطِيئَاتِكمْ " والقراءة الأولى أكثر، فمن قال خطيئاتكمْ، فهو جمع خَطِيئة بالألف والتاءِ، نحو سفينة وسفينات، وصحيفة وصحيفات، والقرَاءَة كما وصفنا (نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ)، والأصل في خطايا - خطائِئ فتجمع همزتان تقلب الثانية ياء فتصير خطائي، فأعِلِّ - مثل " حظاعي " ثم يجب أن تقلب الياءُ والكسرة إلى الفتحة والألف - فتصير خطاءَاً، مثل حظاعاً، فيجب بأن تبدل الهمزة ياءً، لوقوعها بين ألفين، لأن الهمزة مجانسة للألفات فاجتمعت ثلاثة أحرف من جنس واحد، وهذا الذي ذكرناه مذهب سيبويه ولسيبويه مذهب آخر أصله للخليل، وهو أنه زعم أن

(59)

خطايا أصلها فعائل، فقلبت إلى فعَالى فكان الأصل عنده خطائى مثل خطائع - فاعلم - ثم قدمت الهمزة فصارت خطائي مثل خطاعي، ثم قلبت بعد ذلك على المذهب الأول - وهذا المذهب ينقص في الإعلال مرتبه واحدة، واللفظ يَؤول في اللفظين خطايا. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59) العذاب وكذلك الرّجْس - قال الشاعر. كمْ رامنا من ذي عَديدٍ مُبْزى. . . حتى وقَمْنا كيده بالرجْز * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (بِمَا كَانُوا يَفسُقُون). أي تبْديلهم ما أمروا به من أن يقولوا حطة. ويُقال فَسَقَ يفْسُق ويفْسِقُ. ويفسُقُ على اللغتين وعليها القراء، ومعنى الفَسْق الخروج عن القصد والحق وكل ما خرج عن شيء فاقد فسق إلا أنَّهُ خص من خرج عن أمر اللَّه بأن قيل فاسق، ولم يحتج إلى أن يقال فسق عن كذا، كما أنه يقال لكل من صَدق بشيء هو مؤمن بكذا ويقال للمصدق بأمر اللَّه مؤمن فيكفي، والعَرب تقول فسَقت الرطبة إذا خرجت عن قشرتها. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60) موضع (إذْ) نصْبٌ على ما تقدمه، كأنَّه قيل واذكر إذ استسقى موسى لقومه إلا أن (إذْ) لايظهر فيها الإعراب. لأنَّها لا تتم إلا بأن توصل، وجَميع ما

لا يتم من هذة المهمة إلا بصلة لا يعرب لأنه بعض اسم ولا يعرب إلا الاسم التام، ولكن إذْ كُسِرت لالتقاء السَّاكنين، - ومعنى استسقى، استدعى أن يُسْقى قوْمُه، وكذلك استنْصرت استدعيْتُ النصْرة. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا). . أكثر القراءَ (اثنتا عشْرَة) بإسكان الشين، ولغة أخرى (اثنتا عَشِرة) عينا - بكسر الشين - وقد قرأ بعض القراءِ عَشِرَةَ - على هذه اللغة، وكلاهما جيد بالغ - و (عيناً) - نصب على التمييز، وجمع ما نصب على - التمييز في العدد على معنى دخول التنوين، وإن لم يذكر في عشرة، لأن التنوين حذف هَهنا مع الإعراب ومعنى قول الناس عندي عشرون درهماً معناه عندي عشرون من الدراهم، فحُذف لفظ الجمع - و "مِنْ" هذه التي خَلَصَ بها جِنسٌ من جِنس وعبر الواحد عن معنى الجمع، فهذا جملة ما انتصب من العدد على التمييز. وفي التفسير أنهم فجَّرَ اللَّه لهم من حَجَرٍ اثنتيْ عَشْرَةَ عيناً لاثْنَي عَشَرَ فريقاً، لكل فريق عين يشربون منها، تتفجر إذا نزلوا فإذا ارتحلوا غارت العين وحَمَلوا الحجر غير متفجر منه ماءً. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ). كان يتفجر لهم الماءُ من اثْنَيْ عشر موضعاً لا يختلف في كل منزل فيعلم كل أناس مشربهم. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَا تعْثَوْا في الأرض مُفسِدِينَ).

(61)

يقال عثا يَعثا عَثْواً وعُثُوًّا. والعَثْوُ أشد الفساد. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61) (فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ) يخرج مجزوم وفيه غير قول: قال بعض النحويين المعنى سَلْه وقل له أخرج لنا يخرج لنا هو وقال في قوله تعالى: (وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا التي هِيَ أحسَنُ) قالوا: المعنى قل لهم قولوا التي هي أحسن أن يقولوا. وقال قوم: معنى (يخرج لنا) معنى الدعاء كأنَّه قال: أخرج لنا. وكذلك (قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة) المعنى قل لعبادي أقيموا، ولكنه صار قبله (ادع) و (قل) فجعل بمنزلة جواب الأمر. وكلا القولين مذهب، ولكنه على الجواب أجود لأن ما في القرآن من لفظ الأمر الذي، ليس معه جَازم - مَرفوع قال اللَّه - عزَّ وجلَّ - (تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل اللَّه). ثم جَاءَ بعد تمام الآية (يَغفِرْلكُم) المعنى آمنوا باللَّه ورسوله وجاهدوا يَغفِرْ لكُم.

وقوله عزَّ وجلَّ: (مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا). في القِثاء لغتان، يقال القُثاءُ والقِثاءُ (يا هذا) و (قد) قرأ بعضهم قُثائِها بالضم، والأجود الأكثر وقثائها بالكسر، وفومها: الفوم الحنطة، ويقال الحُبوب وقال بعض النحويين إِنه يجوز عنده الفُومُ ههنا الثوم، وهذا ما لا يعرف أن الفوم الثوم، وههنا ما يقطع هذا. محال أن يطلب القوم طعاماً لا بُرَّ فيه، والبرُّ أصل الغذاءِ كله، ويقال فوِّمُوا لنا، أي اخْبِزُوا لنا. ولا خلاف عند أهل اللغة أن الفُوم الحنطة، وسائر الحبوب التي تخبز يلحقها اسم الفوم. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ). يعني أن المنَّ والسلوى أرفع من الذي طلبتم، و (أدنى) القراءَة فيه بغير الهمز وقد قرأ بعضهم " أدْنأ " بالذي هو خير، وكلاهما له وجه في اللغة إلا أن ترك الهمزة أولى بالاتباع. أما (أدْنى) غير مهموز، فمعناه الذي هو أقرب

وأقل قيمة، كما تقول، هذا ثوب مقارب، فأما الخَسيس فاللغة فيه أنه مهموز، يقال: دنُوءَ، دَناءَةً، وهو دَنِيء بالهمزة، ويقال هذا أدْنا منه بالهمزة وقوله عزَّ وجلَّ: (اهْبطُوا مِصْرًا) الأكثر في القراءَة إثبات الألف. وقد فرأ بعضهم " اهبطوا مصرَ فإن لكُمْ " بغير ألف، فمن - قرَأ مصرًا بالألف فله وجهان: جَائِز أنْ يراد بها مصراً من الأمصار لأنهم كانوا في تيه، وجائز أن يكون أراد مصر بعينها، فجعل مصراً اسماً للبلد. فصرف لأنه مذكر سمي مذكراً وجائز أن يكون مصر بغير ألف على أنه يريد مصرًا كما قال عزَّ وجلََّّ: (ادخُلوا مِصْرَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِين) وإنما لم يصرف لأنه للمدينة فهو مذكر سمي به مؤَنث. وقوله عزَّ وجلَّ: (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ). (الذِّلَّةُ): الصغار، (الْمَسْكَنَةُ): الخضوع، واشتقاقه: من السكون. إِنما يقال مِسْكين للذي أسكنه الفقر، أي قللَ حركته. * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ)

(62)

يقال بْؤت بكذا وكذا أي احتملته. * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (ذلك بأنهُمْ كانُوا يكفُروَن بآيَاتِ اللَّه). معنى ذلك واللَّهُ أعلم الغضب حل بهم بكفرهم. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ). القراءَة المجمع عليها في النبيين والأنبياءِ والبرِئة طرح لهمزة، وجماعة من أهل المدينة يهمزون جَمِيعَ ما في القرآن من هذا فيقرأون، " النبيئين بغير حق والأنبياء.). واشتقاقه من نبَّأ وأنْبَأ أي أخبر. والأجود ترك الهمْزة، لأن الاستعمال يُوجبُ أن ما كان مهموزاً من فعيل فجمعه فُعَلاء، مثل ظريف وظرفاء ونبيء ونُبَآءَ. فإذا كان من ذوات الياءِ فجمعه أفْعلاءِ، نحو غني وأغنياء، ونبي وأنْبياء. وقدجاءَ أفْعِلاء في الصحيح، وَهُو قليل، قالوا خميس وأخْمِسَاء وأخمس، ونصِيب وأنْصِبَاءَ، فيجوز أن يكون نبي مِن أنبأتُ مما ترك همزه لكثرة الاستعمال، ويجوز أن يكون من نبَأ ينْبُوءُ إذا ارْتفع، فيكون فعيلاً من الرفعة. ْوقوله فيّ وجل: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)

لا يجوز أن يكون لأحد منهم إيمان إلا مع إيمانه بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ودليل ذلك قوله عزَّ وجلَّ: (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ). فتأْويله من آمن باللَّه واليوم الآخر وآمن بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فلهم - أَجرُهم. وجاز أَن يقال فلهم لأن مَنْ لفْظُها لفظُ الوَاحِدِ وتقع على الواحد والاثنين والجمْع والتأنيث والتذكير، فيحمل الكلام على لفظها فيُؤخد ويذكر، ويحمَل على معناها فيُثنَّى ويجْمَعُ ويؤنث. قال الشاعر: تَعَشَّ فإنْ عاهَدْتني لا تخونُني. . . نكنْ مثلَ مَنْ يا ذئبُ يصطحبان وهادوا أصلِه في اللغة تابوا، وكذلك قوله عزَّ وَجلَّ: (إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ) أي: تبْنا إِليْك. وواحد النصارى قيل فيه قولان: قالوا يجوز أن يكون واحدُهمْ نصْران (كما ترى) فيكون نصران ونصارى على وزنِ ندْمَان وندامى - قال الشاعر:

(63)

فَكِلْتاهما خَرَّتْ وأَسْجَدَ رأسُها. . . كما أَسْجَدَتْ نَصْرانَةٌ لم تَحَنَّفِ فنصرانة تأنيث نصرانٍ، ويجوز أن يكون النصارى وأحدهم نصْرى مثل بعير مَهْرِي، وإبل مَهارى. ومعنى الصابئين: الخارجين من دِين إلى دين. يقال صبأ فلان إذا خرج من دينه - يصبأ - يا هذا - ويقال صبأت النجوم إذا ظهرت وصبأ نابه إذا خرج. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ). القراءَة الجيدة الرفع، وكذلك إدْا كررت (لا) في الكلام قلت لا رجلٌ عندي ولا زيْد، و (لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47). وإِن قرئ فلا خوفَ عليهم فهو جيد بالغ الجودة وقد قرئ به. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) المعنى، اذكروا إذ أخذنا ميثاقكم، والطور ههنا الجبل ومعنى أخذنا ميثاقكم: يجوز أن يكون ما أخذه اللَّه عزَّ وجلَّ - حين أخرج الناس كالذر. ودليل هذا قوله: (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ) ثم قال من بعد تمامْ الآية: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) فهذه الآية كالآية التي في البقرة. وهو أحسن المذاهب فيها، وقد قيل أن أخذ الميثاق هو ما أخذ. الله من الميثاق على الرسل ومن اتبعهم. ودليله قوله عزَّ وجلَّ: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ) فالأخذ على النبيين - صلى الله عليهم وسلم - الميثاق يدخل

(65)

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) فيه من اتبعهم، (وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ) أي جئناكم بآية عظيمة، وهي أن الطور -. وهو الجبلُ. رُفع فوقَهم حتى أظلهم وظنوا أنه واقع بهم، فأخبر اللَّه بعظم الآية التي أروها بعد أخذ الميثاق. وأخبر بالشيء الذي لو عذبهم بعده لكان عدلاً في ذلك، ولكنه جعل لهم التوبة بعد ذلك وقال (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ) ذلك أي من بعد الآيات العظام. (فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ). أي لولا أنْ منَّ اللَّه عليكم بالتوبة بعد أن كفرتم مع عظيم هذه الآيات (لكنتم من الخاسرين). * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ). موضع - ما نصب، و (ما آتيناكم) الكتاب الذي هو التوراة ومعنى خذوه بقوة، أي خذوه بجد واتركوا الريب والشك لما بأن لكم من عظيم الآيات. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ) معناه ادْرُسُوا ما فيه وجاز في اللغة أن تقول خذ وخذا، وأصله أوْخُذْ وكذلك " كل " أصله أوكل، ولكن خُذْ وكُلْ اجتمع فيهما كثرة الاستعمال والتقاء همزتين وضمة، فحذفت فاءُ الفعل وهي الهمزة التي كانت في أخذ وآكل فحذفت لما وصفنا من كثرة الاستعمال واجتماع ما يستقلون. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) معنى (علمتم) هناعرفتم، ومثله قوله عز وجل (لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ) ومعناه لا تعرفونهم اللَّه يعرفهم. ومعنى (اعتدوا) ظلموا وجاوزوا ما حُدَّ لهُم، كانوا أمرُوا ألا يصيدوا في السبت "، وكانت الحيتانُ تجْتمع لأمنها في

(66)

السبت، فحبسوها في السبت وأخَذوها في الأحد، فعدوا في السبت لأن صيدهم منعها من التصرف، فجعل الله جزاءَهم في الدنيا - بعدما أراهم من الآيات العظام بأن جعلهم قردة خاسئين، معنى خاسئين مُبْعدِين يقال - خَسَأتُ الكلب أخسؤه خَسْئاً أي بَاعدته وطردْته. وقوله عزَّ وجلَّ: (فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66) (ها) هذه تعود على الأمة التي مسخت ويجوز أن يكون للفَعْلَةِ ومعنى (لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا) يحتمل شيئين من التفسير: يحتمل أن يكون (لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا) لما أسلفت من ذنوبها، ويحتمل أن يكون (لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا) للأمم التي تراها (وماخلفها) مَا يكون بعدها، ومعنى قولك نَكَّلْت به، أي جعلت غيره يَنْكُل أن يفْعل مثل فعله، فيناله مثل الذي ناله. وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمَوْعِظَةً للمُتقِينَ) أي يتعظ بها أهل التقوى فيلزمون ما هم عليه. * * * وقوله عزَّ وَجَل: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67) المعنى واذكروا إِذ قال موسى لقومه، أمروا بذبح بقرة يضرب ببعضها قتيل تشاجروا فِيمَنْ قَتَله، فلم يعلم قاتله، فأمر اللَّه عزَّ وجلَّ بِضَرْب المقتول. بعضو من أعضاءِ البقرة. وزعموا في التفسير أنهم أمروا أن يضربوه بالفخذ اليمنى، أو الذنب، وأحب الله تعالَى أن يُرِيَهمْ كيف إحياء الموتى، وفي هذه الآية، احتجاج على مشركي العرب لأنهم لم يكونوا مؤمنين بالبعث، فأعلمهم النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الخبر الذي لا يجوز أن يَعْلمه إلامَنْ قَرأ الكُتُبَ أو أوحى إليه، وقد علم المشركون

(69)

أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمِّيّ وأن أهل الكتاب يعلمون - وهم يخالفونه - أن ما أخبر به من هذه الأقاصيص حق. (قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا)، فانتفى موسى من الهِزؤِ، لأن الهازىء جاهل لاعب فقال: (أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) فلما وضَح لهم أنه من عند الله (قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ) وإِنَّما سألوا ما هي لأنهم لا يعلمون أن بقرةً يحيا بضرب بعضها ميت. (قَالَ إنَهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ). ارتفع (فَارِضٌ) بإضمار هي ومعنى (لا فَارِضٌ): لا كبيرة، (ولا بكرٌ) لا صَغِيرة). أي ليست بكبيرة ولا صغيرة. (عَوَانٌ) العَوَانُ دون المُسِنَة وفوق الصغيرة. ويقال من الفارض فرضت تَفْرِض فُروضاً ومن العوان قد عوَّنَتْ تُعَوِّن، ويقال حرب عوَان، إذا لم تكن أول حرب، وكانت ثانية. قال زهير: إذا لَقِحَتْ حربٌ عَوانٌ مُضِرَّةٌ. . . ضَروسٌ تُهِرُّ الناسَ أنيابُها عُصْلُ ومعنى (بَيْنَ ذَلِكَ) بين البِكْر والفَارِض، وبين الصغيرة والكبيرة وإِنما جَازَ بين ذلك، و " بين " لا يكون إِلا مع اثنين أو أكثر لأن ذلك ينوب عن الخمَل، فتقول ظننت زيداً قائماً، فيقول القائل " ظننت ذلك ". وقوله عزَّ وجلَّ: (قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إنَهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69)

قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إنَهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) موضع (ما) رفع بالابتداء، لأن تأويله الِإستفهام كَقَولك: أدع لنا ربك يبين لنا أيَّ شيَءٍ لونها ومثله (فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا). ولا يجوز في القراءَة (ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا)، على أن يجعل (ما) لغواً ولا يقرأ القرآن إِلا كَمَا قراتِ القُرَّاء المجمَع عَلَيْهِمْ في الأخذ عنهم. قَالَ إِنه يَقول إِنها: ما بعد القول من باب إن مكسور أبداً، كأنك تذكر القول في صدر كلامك، وإِنما وقعت قلت في كلام العرب أن يحكى بها ما كان كلاماً يقوم بنفسه قبل دخولها فيؤَدي مع ذكرها ذلك اللفظ، تقول: قلت زيد منطلق. كأنك قلت: زيد منطلق، وكذلك إن زيداً منطلق، لا اختلاف بين النحوين في ذلك، إِلا أن قوماً من العرب، وهم بَنو سُلَيم يجعلون باب قلت أجمع كباب ظننت، فيقولون: قلت زيداً منطلقاً، فهذه لغة لا يجوز أن يُوجَد شيءٌ مِنْهَا في كتاب الله عزَّ وجلَّ، ولا يجوز قال أنه يقول إِنها، لا يجوز إِلا الكسر. وأمَّا قوله عزَّ وجلَّ: (صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا) (فَاقِعٌ) نعت للأصفر الشديد الصفرة، يقال أصفر فاقع وأبيض ناصع وأحمر قانٍ، قال الشاعر: ْ يَسْقِي بها ذو تومتين كأنما. . . قنأتْ أنامِله من الفرصاد

(71)

أي احمرت حمرة شديدة، ويقال أحمر قاتم وأبيض يقَقٌ، وَلَهِقَ ولهاق. وأسود حالك؛ وحَلُوك وحلوكي ودَجُوجي، فهذه كلها صفات مبالغة في الألوان، وقد قالوا إن صَفْراءَ ههنا سوداءَ. ومعنى (تَسُر الناظِرينَ) أي تعجب الناظرين. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (قَالَ إنَهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71) معناه ليست بذلول ولا مثيرة. وقوله: (وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ) يقال: سقيته إِذا ناولته فشرب. وأسقيته جعلت له سقياً، فيَصِح ههنا ولا تُسْقِي بالضَم. وقوله: (لَا شِيَةَ فِيهَا). أي ليس فيها لون يفارق لونها، والوَشى في اللغة خلطُ لون بلون وكذلك في الكلام، يقال وشيْت الثوب أشِيه شِيَة ووَشْياً، كَقَوْلك وَديْت فلاناً أدِيه دِيَةً، ونصب (لَا شِيَةَ) فيه على النَّفْي، ولوْ قرئ لَا شيةٌ فيها لجاز، ولكن القراءَة بالنصب. وقوله: (الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ). فيه أربعة أوْجهٍ حكى بعضَها الأخفش: فأجودها " قالوا الآن " بإسكان اللام وحذف الواو مَن اللفظ، وزعم الأخفش أنه يجوز قطع ألف الوصل ههنا فيقول: قالوا: (ألْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ) وهذه رواية، وليس له وجه في القياس ولا هي عندي جائز، ولكن فيها وجهان غير هذين الوجهين: وهما جيدان في العربية، يجوز " قالوا لأن على إلقاءِ الهمزة، وفتح اللام من الآن، وترك

(72)

الواو محذوفة لالتقاءِ الساكنين، ولا يعتد بفتحة اللام. ويجوز: " قَالوا لان جِيتَ بالحق " ولا أعلم أحداً قرأ بها، فلا يَقْرَأن بحرف لم يقرأ به وإِن كان ثَابِتاً في العربية. والذين أظهروا الواو أظهروها لحركة اللام لأنهم كانوا حذفوها لسُكونها. فلما تحركت ردوها. والأجود في العربية حَذْفُها لأن قرأ (ب تقول " الأحمر " ويلقون الهمزة فيقولون " لَحْمر " فيفتحون اللام ويقرأون ألف الوصل لأن اللام في نية السكون، وبعضهم يقولُ - " لَحْمَر " ولا يُقِرُّ ألفَ الوصل يريد الأحمر. فأمَّا نصب (الآن) فهي حركة لالتقاءِ السَّاكنين، ألا ترى أنك تقول: أنا الأن أكرمك، وفي الآن فعلت كذا وكذا، وإنما كان في الأصل مبنياً وحرك لالتقاءِ السَّاكنين، وبنى (الآن)، وفيه الألف واللام، لأن الألف واللام دخلتا بعهد غير متقدم. إِنما تقول الغَلامَ فعل كذا إذا عهدته أنت ومخاطبتك، وهذه الألف واللام تنوبان عن معنى الِإشارة. المعنى أنت إِلى هذا الوقت تفعل، فلم يعرب الآن كما لا يعرب هذا. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) ْ* معناه فَتَدارَأتمْ فيها، أي تدافعتم، أي ألقى بعضكم على بَعْض، - يقال درأتُ فلاناً إِذا دافعتُه، وداريْتُه إِذا لاينته، ودَرَّيْته إِذا خَتَلته، ولكن التاءَ أدغمت فى الدال لأنها. من مخرج واحد، فَلما أدغمت سكنت فاجتلبت لها ألف الوصل، فتقول: ادارا القومْ أي تَدَافَع القوْم.

وقوله عزَّ وجلَّ: (مُخْرُجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ). الأجود في (مُخْرُجٌ) التنوين لأنه إنما هو لِمَا يستقبل أو للحَال، ويجوز حذف التنوين استخفافاً فيقرأ، مخرجُ مَا كنتم تكتمون، فإن كان قُرئ به وإِلا فلا يخالَف القرآن كما شرحنا. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (إن البَقَر تشَابَه عَلَيْنَا) القراءَة في هذا على أوجه، فأجْودها والأكثر (تَشَابَهَ علينا) على فتح الهاءِ والتخفيف، ويجوز " تَشَّابَه " علينا، ويَشَّابَه علينا - بالتاء والياءِ. وقد قرئ " إن البَاقِر يَشَّابَهً عَلينا " والعرب تقول في جمع البقر والجمال. الباقر والجامل، يجعلونه اسماً للجنس، قال طرفة بن العبد: وجامل خوَّع مِنْ نيْبِه. . .زجرُ المُعَلَّى أصُلا وَالسفيح ويروي " مِنِي به " وهو أكثر الرواية، وليس بشيء وقال الشاعر: ما لي رأيتك بعد عهدك موحشا. . . خَلَقاً كحوض الباقر المتهدم وما كان مثل بقرة وبقر، ونخلة ونخل، وسحابة وسحاب، فإن العرب

(74)

تذكره، وتؤَنثه، فتقول هذا بقر وهذه بقر، وهذا نخل وهذه نخل. فمن ذكَّر فلأن في لفظ الجمع أن يعبر عن جنسه فيقال: فتقول هذا جَمْع، وفي لفظه أن يعبر عن الفرقة والقطعة، فتقول هذه جماعة وهذه فرقة - قال اللَّه عزَّ وجلَّ: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ) فذكًر، وواحدته سحابة. وقال: (والنَخْلَ بَاسِقَاتٍ) فجمع على معنى جماعة، ولفظها واحد. فمن قرأ (إن البقرَ تَشَابه علَيْنَا) فمعناه أن جمَاعةَ البقر تَتَشَابَه عَلَيْنَا. فأُدْغِمتِ التاءُ في الشين لقرب مخرج التاءِ من الشين، ومن قرأ تَشَّابَهُ علينا، أراد تتشابه فحذف التاءَ الثانية لاجتماع تاءَين كما قرئ (لعلكم تَذَكرون) ومن قرأ (يَشَّابَه علينا) - بالياءِ - أراد جنس البقر أيضاً، والأصل يتَشَابه علينا، فأدغم التاءُ في الشين. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74) تأويل (قست) في اللغة غلظت ويبست وصلبت فتأويل القسو في القلب ذهاب اللين والرحمة والخضوع والخشوع منه. ومعنى (من بعد ذلك) أي من بعد إِحياءِ الميت لكم بعضوٍ من أعضاءِ البقرة، وهذه آية عظيمة كان يجب على من يشاهدها - فشاهد بمشاهدتها من قدرة عزَّ وجلَّ ما يزيل كل شك - أن يلين قلبه ويخضع، ويحتمل أن يكون (من بعد ذلك) من بعد إِحياءِ الميت والآيات التي تقدمت ذلك نحو مسخ القردة والخنازير ونحو رفع الجبل فوقهم، ونحو انْبِجاس الماءَ من حجر يَحْملونه معهم، وإِنما جاز ذلك وهُؤلاءِ

الجماعة مخاطبون، ولم يقل ذلكم - ولو قال ذلكم كان جيداً - وإنما جاز أن تقول للجماعة بعد ذلك وبعد ذلكم؛ لأن الجماعة تؤَدي عن لفظها: الجميع والفريق، فالخطاب في لفظ واحد، ومعنى جماعة. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً). وقد روي (أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) ومعنى تشبيه القسوة بالحجارة قد - بيناه، ودخول " أو " ههنا لغير معنى الشك ولكنها (أو) التي تأتي للإباحة تقول: الذين ينبغي أن يؤخذ عنهم العلم الحسن أو ابن سيرين، فلست بشاك، وإِنما المعنى ههنا: هذان أهل أن يؤخذ عنهما العلم، فإن أخذته عن الحسن فأنت مصيب، وإن أخذته عن ابن سيرين فأنت مصيب، وإِن أخذته عنهما جميعاً فأنت مصيب، فالتأويل اعلموا أن قلوب هُؤلاء إِن شبهتم قسوتها بالحجارة فأنتم مصيبون أو بما هو أشد فأنتم مصيبون ولا يصلح أن تكون (أو) ههنا بمعنى الواو. وكذلك قوله: (مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً. . . أوكَصَيِّبٍ)، أي إِن مثلْتَهمْ بالمستوقد فذلك مثلهم، وإِن مثلتهم بالصَيِّبِ فهو لهم مثلٌ وقد شرحناه في مكانه شرحاً شافياً كافياً إِن شَاءَ اللَّه. فمن قرأ (أشد قسوة) رفع أشد بإضمار هي كأنَّه قال: أو هي أشد قسوة، ومن نصب (أوأشد قسوة) فهو على خفض في الأصل بمعنى الكاف. ولكن أشد أفعل - لا ينصرف لأنه على لفظ الفعل، وهو نعت ففتح وهو في

موضع جر - ويجوز في قوله تعالى (فهي كالحجارة) (فَهْي) كالحجارة - بإسكان الهاءِ - لأن الفاءَ مع هي قد جَعَلَتْ الكلمة بمنزلة. فخذ، فتحذف الكسرة استثقالاً، وقد روى بعض النحويين أنه يجوز في " هي " الإِسكان في الياءِ من (هي) ولا أعلم أحداً قرأ بها، وهي عندي لا يَجوزُ إسكانها ولا إسكانُ الواو في هو، لا يجوز " هو ربَكُمْ " وقد روى الإِسكان بعضُ النحوِيين وهو رديءٌ لأن كل مضمز فحركته - إذا انفرد - الفتح، نحو أنا رَبكم، فكما لا تسْكن نون أنا لا تسْكن هذه الواو. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ). بين عزَّ وجلَّ كيف كانت قلوبهم أنها أشد قسوة وأصلب من الحجارة وأعلم أن الحجارة تتفجر منها الأنهار، ومنها ما يشَّقَّقُ فيخرج منه الماءَ يعني العيون التي تخرج من الحجارة ولا تكون أنهاراً، ومنها ما يهبط من خشية الله فقالوا إن الذي يهبط من خشية الله نحو الجبل الذي تجلى اللَّه له حين كلم موسى عليه السلام، وقال قوم إِنها أثر الصنعة التي تدل على أنَّها مخلوقة، وهذا خطأ، لأن ليس منها شيء ليس أثر الصنعة بينا في جميعها وإنما. . الهابط منها مجعول فيه التميز كما قال عزَّ وجلَّ: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ). وكما قال: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ). ثم قال: (وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ) فأعلم أن ذلك

(75)

تمييز أراد اللَّه منها، ولو كان يراد بذلك الصنعة لم يقل وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب، لأن أثر الصنعة شامل للمؤمن وغيره. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) هده الألف ألف استِخبارٍ، وتجري في كثير من المواضع مجرى الإنكار والنهي إذا لم يكن معها نفي، كأنَّه أيئسهم من الطمع في إِيمان هذه الفرقة من اليهود، فإذا كان في أول الكلام نفي، فإنكار النفي تثبيت نحو قوله عزَّ وجلَّ: (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى). فجواب (أفتطمعون) " لا " كما وصفنا. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ). يروي في التفسير أنهم سمعوا كلام اللَّه لموسى عليه لسلام فحرفوه فقيل في هؤلاءِ الذين شاهدهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم كفروا وحرفوا فلهم سابقة في كفرهم. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76) المعنى أتخبرونهم بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكره موجود في كتابكم وَصِفتهُ. (لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ) أي لتكون لهم الحجة في إيمانهم بالنبي - صلى الله عليه وسلم - عليكم، إذ كنتم مقَرِّينَ به تخبرون بصحة أمره من كتابكم فهذا بين حجته عليكم عند اللَّه.

(78)

(أفَلَا تَعْقِلُونَ) أي أفلا تعقلون حجة الله عليكم في هذا. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78) معنى الأمَِّي في اللغة المَنسوب إلى ما عليه جِبِلَّةُ أمَّتِه، أي لا يكتب فهو في أنه لا يكتب - على ما ولد عليه، وارتفع (أُمِّيُّونَ) بالابتداء و (مِنهم) الخبر (1) ومن قول الأخفش يرتفع (أُمِّيُّونَ) بفعلهم، كان المعنى واستقر منهم (أُمِّيُّونَ). ومعنى (إِلَّا أَمَانِيَّ) قال الناس في معناه قولين: قالوا معناه لَا يعلمون الكتاب إلا تلاوة، كما قال عزَّ وجلَّ: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) أي إذَا تلا ألقى الشيطان في تلاوته. وقد قيل الأماني أكاذيب العرب، تقول أنت إِنما تتمنى هذا القول أي تَخْتَلِقُه. ويجوز أن يكون آماني منسوباً إلى - القائل إِذا قال ما لا يعلمه فكأنه إنما يتمناه، وهذا مستعمل في كلام الناس، تقول للذي يقول ما لا حَقِيقةَ لَهُ وهو يُحِبَه: هذا مُنًى، وهذه أمْنِيةٌ. وفي لفظ أماني وجهان: العرب تقؤل هذه أمَانٍ وأمَانيَّ - يا هَذا - بالتشديد والتخفيف، فمن قال أمانيَّ بالتشديد فهو مثل أحْدُوثة وأحاديث، وقرقورة وَقراقير، ومن قال أمان بالتخفيف فهو مما اجتمعت فيه الياءان أكثر لثقل الياءِ.

_ (1) إعراب غير جيد لأن المعنى حينئذ الأميون منهم وهذا ليس بشيء إنما صحته أن يكون " منهم " هي المبتدأ "أميون " هي الخبر ومن اسم بمعنى بعض والمعنى بعضهم أميون ومثله (ومن الناس من يقول آمنا) (ومنهم الفاسقون).

(79)

والعرب تقول في أثفية أثافيَّ وأثافٍ، والتخفيف اكز لكثرة استعمالهم أثاف. والأثافي الأحجار التي تجعل تحت القدر. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79) الويل في اللغة كلمة يستعملها كل واقع في هلكة - وأصله في العذاب والهلاك، وارتفع ويل بالابتداءِ وخبره (لِلَّذين) ولو كان في غير القرآن لجاز فويلًا للذين على معنى جعل الله ويلاً للذين، والرفع على معنى ثبوت الويل (لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا). يقال إِن هذا في صفة النبي - صلى الله عليه وسلم -، كتبوا صفته على غيرما كانت عليه في التوزاة، ويقال في التفسير إنهم كتبوا صفته أنه آدم طويل، وكانت صفته فيها أنه آدم ربعة، فبدَّلَوا فألزمهم الله الويل بما كتبت أيديهم ومن كسبهم على ذلك. لأنهم أخذوا عليه الأموال وقبلوا الهدايا. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80) (تمسنا) نصب بلَنْ، وقد اختلف النحويون في علة النصب بـ لن. فرُوي عن الخليل قولان أحدهما أنها نصبت كما نصبت " أن " وليس " ما بعدها بصلة لهَا، لأن " لَنْ يَفْعَلَ "، نفي " سيفعل " فقدم ما بعدها عليها، نحو قولك زيداً لن أضرب

كما تقول زيداً لم أضرب، وقد روى سيبويه عن بعض أصحاب الخليل عن الخليل أنه قال: الأصل في " لن " لا أن ولكن الحذف وقع استخفافاً، وزعم سيبويه أن هذا ليس بجيد، لو كان كذلك لم يجز زيداً لن أضرب، وعلى مذهب سيبويه جميع النحويين وقد حكى هشام عن الكسائي في " لن " مثل هذا القول الشاذ عن الخليل. ولم يأخذ به سيبويه، ولا أصحابه. ومعنى (أَيَّامًا مَعْدُودَةً) قالوا إِنَّما نعَذَّبُ لأننا عبدنا العجل أياماً قيل في عددها قولان، قيل سبعة أيام وقيل أربعون يوماً، - وهذه الحكاية عن إليهود، هم الذين قالوا: (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً). * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا) بقطع الألف هي تقرأ على ضربين: أتخذتم - بتبيين الذال، واتختُم بَإِدغام الذال في التاءِ، والألف قطع لأنها ألف استفهام وتقرير. . وقوله عزَّ وجلَّ: (عِنْد اللَّهِ عَهْداً) المعنى عهد اللَّه إليكم في أنه لا يعذبكم إِلا هذا المقدار. . * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فلنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ)). أي إن حَان لكم عهد فلن يخلفه اللَّه، أم تقولون على الله ما لا تعلمون

(81)

ثم قال عزَّ وجلََّّ: (بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) رداً لقولهم: (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً). * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ). فألحق في هذه الآية، والإجماع أن هذا لليهود خاصة لأنه عزَّ وجلَّ في ذكرهم، وقد قيل: (من كسب سيئة)، الشرك باللَّه وأحاطت به خطيئته: الكبائر، والذي جرى في هذه الأقاصيص إِنما هو إِخبار عن إليهود. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83) القراءَة على ضربين، تعبدون ويعبدون بالياءِ والتاءِ وقد روي وجه ثالث لا يؤخذ به لأنه مخالف للمصحف - قرأ ابن مسعود: لا تعبدوا. ورفع (لا تعبدون) بالتاء على ضربين، على أن (يكون (لا) جواب القسم لأن أخذ الميثاق بمنزلة القسم، والدليل على ذلك قوله: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ) فجاءَ جواب القسم باللام فكذلك هو بالنَفْي بلا، ويجوز أن يكون رفعه على إسقاط " أن " على معنى " ألا تعبدوا " فلما سقطت أن رفعت، وهذا مذهب الأخفش وغيرِه من النحويين، فأما القراءَة بالتاء فعلى معنى الخطاب والحكاية كأنَّه قيل قلنا لهم لا تعبدون إِلا الله. وأمَّا (لا يعبدون) بالياء فإِنهم غيَبٌ، وعلامة الغائب الياء.

ومعنى أخذ الميثاق والعهد قد بَيَّنَاهُ قبل هذا الموضع. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وبِالْوَالِدِيْنِ إِحْسَاناً). نصب على معنى وأحسنوا بالوالدين إِحساناً، بدل من اللفظ أحْسِنُوا و (ذِي القُرْبَى) و (اليَتامَى): جمع على فعالى كما جمع أسير على أُسارى، يقال يَتِم يَيْتمَ يُتْماً ويَتْماً إِذا فقد أباه، هذا للإِنسان فأمَّا غيره فيتمه من قبل أمه. أخبرني بذلك محمد بن يزيد عن الرياشي عن الأصمعي: إن اليتيم في الناس من قبل الأب وفي غير الناس من قبل الأم، والمساكين مأخوذ من السكون، وأحدهم مسكين كأنَّه قد أسكنه الفقر. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) فيها ثلاثة أقوال (حُسْنًا) بالتنوين وإِسكان السين، وحَسَناً بالتنوين وفتح السين، وروى الأخفش " حُسْنَى " غير منون. فأما الوجهان الأولان، فقرأهما الناس، وهما جيدان بالغان في اللغة، وأما

(84)

" حُسْنَى " فكان لا ينبغي أن يقرأ به لأنه باب الأفعل والفعلى، نحو الأحسن والحسنى، والأفضل والفُضلى، لا يستعمل إِلا بالألف واللام، كما قال اللَّه عزَّ وجلَّ: (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى) وقال: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ) وفي قوله حسناً بالتنوين قولان: المعنى قولوا للناس قولاً ذا حسن)، وزعم الأخفش، إنَّه يجوز أن يكون حُسْناً في معنى حَسَناً، فأمَّا حُسَناً فصفة، المعنى قولاً حسناً، وتفسير: (قولوا للناس حسناً) مخاطبة لعلماءِ إليهود " قيل لهم اصْدقوا في صفة النبي - صلى الله عليه وسلم -. (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ). اعلموا أنه قد أخذ عليهم الميثاق وعهد عليهم فيه بالصدق في صفة النبي - صلى الله عليه وسلم. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ). يعني أوائلهم الذين أخذ عليهم الميثاق، وقوله (وَأنتم مُعْرضون) أي وأنتم أيضاَ كأوائلكم في الإعراض عَمَّا عهد إِليكم فيه، ونصب (إِلَّا قَلِيلًا) على الاستثناءِ، والمعنى استثني قليلًا منكم. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) يقال سفكت الدم أسْفِكُه سَفْكاً إِذا صببته، ورفع لا تسفكون على

(85)

القسم، وعلى حذف أن كما وصفنا في قوله: (لا تَعْبُدون) ومثل حذف أن قول طرفة: أَلا أَيُّهذا الزاجري أحضرُ الوغى. . . وأَنْ أشهدَ اللذاتِ هل أَنْتَ مُخْلِدي وواحد الدماءِ دم - يَا هَذَا - مخفف، وأصله دَمَى في قول أكثر النحويين، ودليل من قال إِن أصله دمي قول الشاعر: فَلَوْ أنَّا على حَجَرٍ ذُبِحْنا. . . جَرَى الدَّميَانِ بالخبرِ اليقين وقال قوم أصله دمي إِلا إنَّه لما حذف ورد إليه ما حذف منه حركت ْالميم لتدل الحركة على أنه استعمل محذوفاً. وقوله عزْ وجل: (وَلَا تُخْرِجُونَ أنْفُسكُمْ مِن دِيَارِكُمْ). عطف على لا تسفكون دماءَكم. وقوله: (ثم أقررتم)، أي اعترفتم بأن هذا أخذ عليكم في العهد وأخذ على آبائكم، وأنتم أيها الباقون المخاطبون تشهدون أن هذا حق. * * * ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) (ثُم أنْتُم هَؤُلَاءِ): الخطاب وقع لليهود من بني قريظة وبني النضير. لأنهم نكثوا، فقتل بعضهم بعضاً، وأخرج بعضهم بعضاً من ديارهم وهذا نقض عهدهم

وقوله عزَّ وجلَّ: (تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ). قُرئت بالتخفيف والتشديد، (تَظَاهَرُونَ) و (تَظَّاهَرُونَ) فمن قرأ بالتشديد فالأصل فيه تتظاهرون فأدغم التاءُ في الظاءِ لقرب - المخرجين، ومن قرأ بالتخفيف فالأصل فيه أيضاً تتظاهرون فحذفت التاءُ الثانية لاجتماع تاءَين. وتفسير (تظاهرون) تتعاونون، يقال قد ظاهر فلان فلاناً إذا عاونه منه قوله. (وكان الكافِرُ على ربه ظهيراً)، أي معيناً. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (بالإِثْم والعُدْوَانِ). العُدْوانُ الِإفراطُ في الظلم؛ ويقَالُ عَدَا فلان في ظلمه عدْواً وعُدُوا وعُدْواناً، وعداءً - هذا كله معناه المجاوزة في الظلم. وقوله عزَّ وجلَّ: (ولاَ تَعْدُوا في السَّبْتِ) إِنما هو من هذا، أي لا تظلموا فيه وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ). القراءَة في هذا على وجوه: أسْرَى تَفْدوهم. وأسْرى تُفَادوهم، وأسَارى تفادوهم، ويجوز " أسَارى " ولا أعلم أحد قرأ بها، وأصل الجمع فُعالى. أعلَم الله مناقَضتهم في كتابه وأنه قَد حرَّم عليهم قَتْلَهم وإِخْراجهم من ديارهم، وأنهم يفادونَهم إِذا أسروا ويقتلونهم ويخرجونهم من ديارهم، فوبَّخهم فَقال: (فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا). يعني ما نال بني قريظة وبني النضير، لأن بني النضير أُجْلُوا إِلى الشام

و (بني) قريظة ابيدوا - حكم فيهم بقتل المقاتلة وسبي الذرارى فقال الله عزَّ وجلَّ: (ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا)، ولغيرهم من سائر الكفار الخزيُ في الدنيا القتل وأخذُ الجزية مع الذلة والصغار. ثم أعلم اللَّه عزَّ وجلَّ أن ذَلك غيرُ مُكَفر عن ذنوبهم، وأنهم صائرون بعد ذلك إلى عذاب عظيم فقال (ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا) (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ). ومعنى (ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ). (هَؤُلَاءِ) في معنى الذين، وتَقْتُلُونَ صلة لهُؤلاء كقولك ثم أنتم الذين تقتلون أنفسكم، ومثلُه قوله: (وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى). * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وهُوَ مُحَرم عَلَيْكُم إخراجُهُمْ). (هو) على ضربين: جائز أن يكون إضمار الإخراج الذي تقدم ذكره. قال: (وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ) وهو محرم عليكم إِخراجهم. ثم بين لتراخي الكلام أن ذلك الذي - حرم الِإخراج وجائز أن يكون للقصة، والحديث والخبر، كأنه قال: والخبر محرم عليكم إِخراجهم - كما قال عزَّ وجلَّ: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ). أي الأمر الذي هو الحق توحيد اللَّه عزَّ وجلَّ

(87)

(خِزْيٌَ) يقَال في الشر والسوءِ خزي الرجل خِزْياً، ويقال في الحياءِ خزي يخزي خِزَايةً، ومعنى يردون إلى أشد العذاب، وعذاب عظيم، وعذاب أليم أن، العذاب على ضَربين، على " قدر المعاصي. والدليلُ على ذلك قوله عزّ وجلَّ: فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16). فهذه النار الموصوفة ههنَا لا يدخُلها إلا الكفارِ. وقوله: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87) (ولَقَدْ آتَيْنَا موسى الكِتَابَ) يعني التوراة. وقوله: (وقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بالرُّسُل): أي أرسلنا رسولاً يقْفو رسولاً في دعائهِ إلى توحيد اللَّه والقيام بشرائع دينه، يقال من ذلك فلان يَقْفوْ فلاناً إذا أتبعه. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ). معنى (آتينا) أعطينا، ومعنى (الْبَيِّنَاتِ) الآيات التي يعجز عنها المخلقونَ مما أعطيه عيسَى - صلى الله عليه وسلم - من إحيائه الموتى وإبرائه الأكمهَ والأبرص. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ). معني أيَّدنا، في اللغة قوينا، وشدَدْنا، قال الشاعر: من أن تبدَّلْتَ بآد آدا يريد من أن تبدلت بأيْدٍ آدا، يريد بقوة قوة - الأد والأيْد القوة. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (بِرُوحِ الْقُدُسِ): روح القدس جبريل عليه السلام. والقدس الطهارة وقد بَيَّناه. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ)

(88)

نَصْبُ كلما كَنَصْبِ سائر الظروف، ومعنى استكبرتم أنِفْتم وتعظمْتم من أن تكونوا أتباعاً، لأنهم كانت لَهم رياسة، وكانوا متبوعين فآثروا الدنيَا على الآخرة. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88) تقرأ على وجهين غُلْف وغُلُف، وأجود القراءَتين غلْف بإسكانِ اللام لأن له شاهدا من القرآن ومعنى غلْفٌ ذَواتُ غُلف، الواحد منها أغْلَف وغُلْف مثل أحْمَر وحُمْر، فكأنهم قالوا قلوبنا في أوعية، والدليل على ذلك قوله: (وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ) ومن قرأ (غُلُف) فهو جمع غِلاف وغُلُف، مِثْل مِثال ومُثُل، وحِمار وحُمُر، فيكون معنى هذا: إن قلوَبنا أوعية لِلعلم، والأول أشبه ويجوز أن تُسَكن غُلُف فَيقال غُلْف كما يقال في جمع مثال مُثْل. فأعلم اللَّه عزَّ وجلَّ أن الأمر على خلاف ما قالوا فقال: (بَلْ لعَنَهُمُ اللَّه بِكفرهَم). معنى لعنهم في اللغة أبْعدهم، فالتأويل - واللَّه أعلم - بل طبع اللَّهُ على قلوبهم كما قال: (ختم اللَّه على قلوبهم) ثم أخبر عزَّ وجلَّ أن ذلك مجازاةٌ منه لهم على كفرهم فقال (بل لعنهم اللَّه بكفرهم)، واللعن كما وصفنا الإبعاد. قال الشَّمَّاخ: وماءٍ قد وردت لوَصْل أرْوى. . . عليه الطير كالورق اللَّجين

(89)

ذعَرتُ به القطا ونفيْتُ عَنه. . . مقام الذئب كالرجل اللَّعين * * * وقوله: (وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89) تقرأ (جاءَهم) بفتح الجيم والتفخيم، وهي لغة أهل الحجاز، وهي اللغة العليا القُدمى، والإِمالةُ إلى الكسر لغة بني تميم وكثير من العرب، ووجهها أنها الأصل من ذوات الياءِ فأميلت لتدل عدى ذلك، ومعنى كتابُ اللَّه ههنا القرآن، واشتقاقه من الكَتْبِ وهي جمع كَتْبة وهي الخرزة وكل ما ضممت بعضه إلى بعض على جهة التقارب والاجتماع فقد كتبته، والكَتِيبَة الفرقةُ التي تحارب من هذا اشتقاقها لأن بعضَها منضم إلى بعض، وسمى كلام الله عزَّ وجلَّ الذي أنزل على نبيه كِتَاباً، وقُرآنأ وفُرقاناً فقد فسرنا معنَى كتابٍ. ومعنى قرآن معنى الجمع، يقال ما قرأت هذه الناقة سَلَّى قط أي لم يَضْطَمَّ رحمُها على ولد قط - قال الشاعر: هِجَانِ اللَّون لم تَقْرأ جَنِيناً قال أكثر النَّاس: لم تَجْتمع جنيناً أي لم تضم رحمها على الجنين. وقال قُطْرب في قرآن قولين، أحدهما هذا، وهو المعروف الذي عليه أكثر الناس، والقول الآخر ليس بخارج من الصَّحَّة وهو حسن - قال - لم تقرأ جنيناً - لم تلقه (مجموعاً). وقال يجوز أن يكون معنى قرأت لفظت به

مجموعاً. كما أن لفظت من اللفظ، اشتقاقه من لَفَظْتُ كذا وكذا، إذا ألقيته، فكأن قرأت القرآن لفظت به مجموعاً. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (مصدقٌ لِمَا مَعَهُمْ). أيْ يصدقُ بالتوراة والإنجيل ويخبرهم بما في كتبهم مما لا يعلم إلا بوحي أو قراءَة كُتُبٍ، وقد علموا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أمياً لا يكتب. وقوله: (وكَانُوا منْ قَبْلُ يسْتَفْتِحُونَ على الَّذين كَفَرُوا). ضم (قَبْل) لأنها غاية، كان يدخلها بحق الإعراب الكسرُ والفتحُ، فلما عدلت عن بابها بنيت على الضم، فبنيت على ما لم يكن يدخلها بحق الِإعراب، وإنما عدلت عن بابها لأن أصلها الِإضافة فجعلت مفردة تُنْبئُ عن الِإضافة، المعنى، وكانوا من قبل هذا. ومعنى: (يَسْتَفْتِحُونَ على الَّذِين كَفَرُوا). - فيه قولان: قال بعضهم كانوا يخبرون بصحة أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقيل وكانوا يستفتحون على الذين كفروا: يَسْتنْصرون بذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما جاءَهم ما عرفوا: أي ما كانوا يستنصرون وبصحته يخبرون، كفروا وهم يوقنون أنهم معْتَمِدُون للشقاق عداوة للَّهِ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ). قد فسرنا اللعنة، وجوابُ (وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ) محذوف لأن معناه معروف دلَّ عليه فلما جاءَهم ما عرفوا كفروا به.

(90)

وقوله عزَّ وجلَّ: (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90) بئس إذا وقعت على " ما " جُعِلت معها بمنزلة اسم منكور، وإنما ذلك في نعم وبئس لأنهما لا يعملان في اسم علم، إنما يعملان في اسم منكور دال على جنس، أو اسم فيه ألف ولام يدل على جنس، وإنما كانتا كذلك لأن نعم مستوفية لجميع المدح، وبئس مُسْتوفية لجميع الذم، فإذا قلت نعم الرجل زيد فقد استحق زيد المدح الذي يكون في سائر جنسه. قال أبو إسحاق وفي نِعْم الرجلُ زيد أربع لغات نَعِم الرجل زيد، ونعِمَ الرجل زيد، وبعْم الرجل زيد، ونَحْمَ الرجل زيد، وكذلك إذا قلت بئس الرجل، دلَلْتَ على أنه استوفى الذم الذي يكون في سائر جنسه، فلم يجز إذ كان يستوفى مدح الأجناس أن يعمل في غير لفظ جنس، فإذا كان معها اسمُ جنس بغير ألف ولام فهو نصْبٌ أبداً، وإذا كانت فيه الألف واللام فهو رفْع أبداً، وذلك كقولك نِعْم رجُلاً زَيْد، ونعم الرجُل زيد، فلما نصب رجل فعلى التمييز، وفي نعم اسم مضمر على شريطة التفسير، وزيد مبين مَنْ هذا الممدوح، لأنك إذا قلت نعم الرجل لم يعلم من تعني، فقولك زيد تريد به هذا الممدوح هو زيد. وقال سيبويه والخليل جميعَ ما قلنا في نعم وبئس، وقالا إِنْ شئتَ رفعت زيداً لأنه ابتداءٌ مَؤخَّر. كأنك قلت حين قلت نعم رجلًا زيد، نعم زيد نعم الرجل، وكذلك كانت " ما " في نعم بغير صلة لأن الصلة توضح وتخصص، والقصد فىِ نعم أن يليها اسم منكورٌ أو جنس، فقوله (بئْسما اشْتَرَوْا به أنفسهم) بئس شيئاً اشتروا به أنفسهم. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ). موضعه رفع: المعنى ذلك الشيءُ المذموم أن يكفروا بما أنزل اللَّه.

وقوله عزَّ وجلَّ: (فَنِعِمَّا هيَ)، كأنه قال فنعم شيْئاً هي، وقال قوم إنَّ نعم مع ما بمنزلة حَبَّ مع ذا، تقول حبَّذَا زيد، وحبذا هي ونعِما هي والقول الأول هُو مذهب النحويين وروى جميع النحويين بئسما تزوييج ولا مَهْر والمعنى فيه بئس شيئاً تزويج ولا مهر. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ). معناه أنهم كفروا بغياً وعداوة للنبي - صلى الله عليه وسلم - لأنهم لمْ يُشكَّوا في نبوته - صلى الله عليه وسلم - وإنما حَسَدوه على ما أعطاه الله من الفضل، المعنى: كفروا بغياً لأنْ نزَّلَ اللَّهُ الفضل عَلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ونصب بغيا أنهم مفعولاً له، كما تقول فعلتُ ذلك حذَرَ السر أي لحذر الشر كأنك قلت حَذَرْت حذَراً، ومثله من الشعر قول الشاعر وهو حاتم الطائي: وأعْفرُ عوراءَ الكريم ادِّخَارَه. . . وأعرض عن شتم اللئيم تكرماً المعنى أغفر عوراءَ الكريم لادّخَارِه، وأعرضُ عنْ شتم اللئيم للتكرم. وكأنه قال: أذخر الكريم ادخاراً، وأتكرم على الكريم تكرماً، لأن قوله أغفر عوراءَ الكريم معناه أدخر الكريم، وقوله وأعرض عن شتم اللئيم تكرماً معناه أتكرم على اللئيم، وموضع أن الثانية نصب، المعنى أن يكفروا بما أنزل اللَّه

(91)

لأن ينزل اللَّه، أي كفروا لهذه العلَّةِ، فشرحه كهذا الذي شرحناه. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ): معنى باءُوا في اللغة احتملوا، يقال قد بْؤت بهذا الذنْبِ أيَ تحملته - ومعنى بِغَضبٍ على غَضَبٍ - فيه قولان: قال بعضهم: بغَضبٍ من أجل الكفر بالنبي - صلى الله عليه وسلم - على غَضبٍ على الكفر بعيسى - صلى الله عليه وسلم - يعني بهم إليهود. وقيل (فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ) أي بإثْم استحقوا به النار على إِثم تَقَدم أي استحقوا به أيضاً النَّارَ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91) أي بالقرآن الذي أنزل اللَّه على النبي - صلى الله عليه وسلم - قالوا أنؤمن بما أنْزِل علينَا، وقد بين الله أنهم غيرمؤمنين بما أنزل عليهم، وقد بيَّنَّا ذلك فيما مضى. وقوله تعالى: (وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ). معناه ويكفرون بما بعده، أي بما بعد الذي أنزل عليهم، (وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ)، فهذا يدل على أنهم قد كفروا بما معهم إذْ كفروا بما يُصَدِّقُ ما معهم، نصب مصدقاً على الحال، وهذه حال مؤَكدة، زعم سيبويه والخليلُ وجميع النحوين الموثوقُ بعلمهم أن قولك " هو زيد قائماً " خطأ، لأن قولك هو زيد كناية عن اسم متقدم فليس في الحال فائدة، لأن الحال توجب ههنا إنَّه إذا كان قائماً فهو زيد، فإِذا ترك القيامُ فليس بزيد - وهذا خطأ. فأما قولك هو زيد معروفاً، وهو الحق مصدقاً، ففي الحال فائدة، كأنك قلت انْتَبِهْ لَهُ معروفاً، وكأنه بمنزلة. قولك هو زيد حقاً، فمعروفاً حال لأنه إِنما يكون زيداً لأنه يعرف بزيد، وكذلك " الحق " القرآن هو الحق إِذ كان مصدقاً لكتب الرسل.

(93)

أكْذَبَهُمُ اللَّهُ فى قولهم: (نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا) فقال (قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ). أيْ أيُّ كتاب جُوّز فيه قتل نبي، وأي دين وإيمان جُوز فيه ذلك فإِن قال قائل فَلِمَ قيل لهم فلم تقتلون أنبياءَ الله من قبل، وهؤُلاءِ لَمْ يَقْتُلُوا نبياً قط؟ قيل له قال أهل اللغة في هذا قولين: أحدهما إن الخطاب لمن شُوهِدَ من أهل مكةَ ومنْ غاب خطَابٌ واحد، فإذا قَتَل أسْلافُهم الأنبياءَ وهم مُقِيمُون على ذلك المذهب فقد شَرَكُوهم في قَتْلِهمْ، وقيل أيضاً لِمَ رَضيتمُ بذلك الفعل، وهذا القول الثاني يرجع إلى معنى الأول. وإنما جاز أنْ يُذكر هنا لفظُ الاستقبال والمعنى المضي لقوله (من قبل) ودليل ذلك قوله (قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ) فقوله: (فلم تَقتلون) بمنزلة " فلم قتلتم). وقيل في قوله: (إِنْ كُنتم مؤمنين) قولان: أحدهما ما كنتم مؤمنين وقيلَ إِنَّ إِيمانكم ليس بإيمان. والإيمان ههنا واقع على أصل العقد والدين، فقيل لهم ليس إيمان إيماناً إذَا كان يَدْعُو إلى قتل الأنبياءِ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93) قد بيَّنَّاه فيما مضى. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ). معناه سُقُوا حبَّ العجل، فحذف حب وأقيم العجل مقامه. كما قال الشاعر: وكيف تواصل من أصبحت. . . خلالته كأبي مرحب

(94)

أي كخلالته ابي مرحب، وكما قال: وشر المنايا ميّت بينَ أهْله. . . كهلك الفتى قَدْ أسْلَم الحيَّ حاضِرُه المعنى وشر المنايا منيَّة ميت. . . . وقوله عزَّ وجلَّ: (بِكُفْرِهمْ) أي فعل الله ذلك بهم مجازاة لهم على الكفر كما قال: (بلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بكُفْرِهِمْ). وقوله: (بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) قد فسرناه أي ما كنتم مؤمنين، فبئس الِإيمان يأمركم بالكفر. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94) قيل لهم هذا لأنهم قالوا: (لَنْ يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى) وقالوا: (نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) فقيل لهم إِن كنتم عند أنْفسِكم صادقين فِيما تدّعون فَتَمنوُا الموْت، فإنَ من كان لا يشك في أنه صائر إِلى الجنة، فالجنة عنده آثرُ من الدنيا، فإن كنتم صادقين فتَمنوُا الأثرة والفضل. وللنبي - صلى الله عليه وسلم - وللمسلمين في هذه الآية أعظم حجة وأظهرُ آية وأدلة على الِإسلام، وعلى صحة تثبيت رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه قال لهم: تَمنَّوُا الموت. وأعلمهم أنهم لن يتمنوه أبداً فَلَمْ يتمنَّه منهم واحد لأنهم لو تمنوه لماتُوا من

(95)

ساعتهم، فالدليل على علمهم بأن أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - حق أنهم كَفُوا عن التَمني ولم يُقْدِم واحد منهم عليه فيكون إقْدامُه دفعاَ لقوله: (ولَنْ يتَمنَوْه أبداً). أو يعيش بعد التمني فيكون قد ردَّ ما جاءَ به النبي - صلى الله عليه وسلم - فالحمد للَّهِ الذي أوضَح الحق وبيَّنَه، وقَمع الباطل وأزْهقه. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) يعني - ما قدمت من كفرهِمْ بالنبي - صلى الله عليه وسلم - لأنِهم كفروا وهم يعلمون أنه حق وأنهم إنْ تَمَنَوْه ماتوا، ودليل ذلك إمْسَاكُهُمْ عَن تَمنَيه * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (واللَّهُ عَلِيمٌ بالظَّالِمِينَ). اللَّه عزَّ وجلَّ عليم بالظالمين وغير الظالمين، وانًما الفائدة ههُنا إنَّه عليم بمجازاتهم -، وهذا جرى في كلام الناس المستعمل بينهم إذَا أقبل الرجل على رجل قد أتى إليه منكراً، قال أنا أعرفك، وأنا بصير بك، تأويله أنا أعلم ما أعاملك به وأستعمله معك. فالمعنى إنه عليم بهم - وبصير بما يعملون، أي يجازيهم عليه بالقتل في الدنيا أو بالذلَّة والمسكنة وأداءِ الجِزية، ونصب (لن) كما تنصب (أن) وقد شرحْنا نصبها فيما مضى وذكرنا ما قاله النحويون فيه. ونصب (أبداً) لأنه ظرف من الزمان، المعنى: لن يَتَمَنوهُ في طول عُمرهم إِلى موتهم، وكذلك قولك: لا أكلمك أبداً، المعنى لا أكلمك ما عشت. ومعنى (بما قدمت أيديهم) أي بما تقدمه أيديهم. ويصلح أن يكون بالذي قدمته أيديهم. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96) يعني به علماءَ إليهود هؤلاءِ، المعنى أنك تجدهم في حال دعائهمْ إلى تمنى

الموت أحرص الناس على حياة. ومعنى (لَتَجِدَنَّهُمْ) لَتَعْلَمَنَّهَم. وَمَعْنى (وَمِنَ الَّذِينَ أشْرَكُوا) أي وَلَتَجِدَنَهُمْ أحْرَصَ من الذين أشركوا، وهذا نهاية في التمثيل. والذين أشركوا هم المجوس ومن لا يُؤمن بالبعث. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ). ذكرت الألْفُ لأنها - نهايةُ ما كانت المجوس - تدْعُو به لمُلوكها - كان الملك يُحَيَّا بأن يقال عش ألفَ نَيْبُروزٍ وَألْفَ مِهْرَجَانٍ. يقول فهؤُلاءِ الذين يزعمون أن لهم الجنة، وأنَّ نعيم الجنة له الفضل لاَ يتمنون - الموت وهم أحرص مِمَّن لا يُؤمن بالبعث، وكذلك يجب أن يكون هُؤلاءِ لأنهم كُفَّار بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وهو عِنْدهُم حق، فيعلمون أنهم صائرون إِلى النارِ لا محالة، فهم أحْرصُ لهذه العلة، ولأنهم يعلمون أنهم لو تمنوا الموت لماتوا، لأنهم علموا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حق لولا ذلك لما أمسكوا عن التمني، لأن التمني من واحد منهم كان يثبت قولهم. وإِنما بالغنا في شرح هذه الآيات لأنها نهاية في الاحتجاج في تثْبِيتِ أمْرِ النبي - صلى الله عليه وسلم -. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ). هذا كناية عن (أحدهم) الذي جرى ذكره، كأنه قال: وما أحدهم بمزحزحه من العذاب تعميره، ويصلح أن تكون " هو " كناية عما جرى ذكره - من طول العمر، فيكون: وما تعميره بمزحزحه من العذاب، ثم جعل - أن يعمر مبنياً عن " هو " كأنَّه قال: ذلك الذي ليس بمزحزحه (أن يعمر).

(97)

وقد قال قوم: إن (هو) لِمَجْهول وهذا عند قوم لا يصلح في " ما " إذا جاءَ في خبرها الباءِ مع الجملة: لا يجيز البصريون: " ما هو قائما زيد. يريدون ما الأمر قائماً زيد، ولا كان هو قائماً زيد، يريدون ما الأمر قائماً زيد؛ ولا كان هو قائماً زيد، يريدون كان الأمر قائماً زيد وكذلك لا يجيزون ما هو بقائم زيد يريدون ما الأمْرُ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ). شرحه تقدم في الآية التي قبل هذه وتقول في يود: وددت الرجل أودة وُدًّا أبيْ وِداداً ومودة " وودادة وحكى الكسائي ودَدْتُ الرجلَ والذي يعرفه جميع الناس ودِدْتُه، ولم يحك إلا ما سَمِع إِلا أنه سمع ممن لا يجب أن يؤْخذ بلغته، لأن الإجماع على تصحيح أوَدُّ، وأوَدُّ لَا يكون ماضيه ودَدَتً. فالإجماع يُبْطِل وَدَدْتُ. أعني الإجماع في قولهم أودُ. * * * قوله عزَّ وجلَّ: (قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإنَهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) جبريل في اسمه لغات قرئ ببعضها ومنها ما لم يُقْرأ به، فأجود اللغات جَبْرَئِيل - بفتح الجيم، والهمز، لأن الذي يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في صاحب الصور " جَبْرَئِيل عن يمينه وميكائيل عن يساره، هذا الذي ضبطه أصحاب الحديث، ويقال جَبْرِيل بفتح الجيم وكسرها ويقال أيضاً جبرأَلُّ - بحذف الياءِ وإثبات الهمزة (وتشديد اللام)، ويقال جبرين - بالنون وهذا

(98)

لا يجوز في القرآن - أعني إثبات النون لأنه خلاف المصحف - قال الشاعر: شهِدْنَا فما تَلْقى لنا من كتيبةٍ. . . َ الدهرِ إلا جَبْرَئِيلُ أَمامَها وهذا البيت على لفظ ما في الحديث وما عليه كثير من القراءِ. وقد جاءَ في الشعر جبريل قال الشاعر: وجبريلٌ رسولُ الله فينا. . . وروحُ القُدْسِ ليس له كِفَاءُ و (نما جرى ذكر هذا لأن إليهود قالوا للنبي ي: جبريل عدونا فلو أتاك ميكائيل، لَقَبِلْنَا منك، فقال اللَّه عزَّ وجلًَّ: (قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإنَهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97). ونصب (مصدقاً) على الحال. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98) ميكائيل فيه لغات، ميكائيل وميكال. وقد قرئ. بهما جميعاً، وميكَال - بهمزة بغير ياءٍ. وهذه أسماء أعجمية دفعت إلى العرب فلفظت بها بألفاظ مختلفة - أعني جبريل، وميكائيل. وإسرائيل فيه لغات أيضاً: إسرايِيل وإسرال، وإسرايل. وإِبراهيم وإبراهَم، وأبرَهْم وإبْرَاهام، والقرآن إنما أتى بإبراهيم فقط وعليه القراءة. وأكثر ما أرويه من القراءَة في كتابنا هذا فهو عن أبي عبيد ممَّا رواه

(99)

إسماعيل بن إسحاق عن أبي عبد الرحمن عن أبي عُبَيْد. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99) يعني الآيات التي جرى ذكرها مما قد بيَّنَّاه، والآية في اللغة العلامة. وبينات: واضحات، و " قد " إنما تدخل في الكلام لقوم لا يتوقعون الخبر، واللام في لقد لام قسم. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمَا يَكْفُرُ بِها إلا الفَاسِقُونَ). يعني الذين قد خرجوا عن القصد، وقد بيَّنَّا أن تول العرب فَسقَت الرطبة: خرجت عن قشرتها. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100) معنى نبذه رفضه ورمى به. قال الشاعر: نَظَرتَ إلى عُنْوانه فنبذتَه. . . كنبذك نَعْلا أخلقت من نِعالكَا ونصب أوكلما عاهدوا على الظرف. وهذه الواو في أوكلما تدخل عليها ألف الاستفهام، لأن الاستفهام مستأنف، والألف أمُّ حروف الاستفهام. وهذه الواو تدخل على هل فتقول: وهل زيد عاقل لأن معنى ألف الاستفهام

(101)

موجود في هل، فكأن التقدير أو هل إِلا أن ألف الاستفهام وهَلْ لا يجتمعان لأغناء هل عن الألف. وقوله عزَّ وجلََّّ: (وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) يعني به النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن الذي جاءَ به مصَدّق التوْرَاةَ والِإنجيلَ، و (لَمَّا) يقع بها الشيء لوقوعِ غيره (مُصَدِّقٌ) رفع صفة لرسول، لأنهما نكرتان. ولو نصب كان جائزاَ، لأن (رَسُولٌ) قد وصف بقوله (مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) فلذلك صار النصب يحسن، وموضع " ما " في " (مِصدّق لما معهم) جَر بلام الإِضافة، و " مَعَ " صلة لها، والناصب لمع الاستقرار. المعنى لما استقر معهم. وقوله عزَّ وجلََّّ: (نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ). (الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) يعني به إليهود، والكتاب هنا التوراة و (كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ) فيه قولان: جائز أن يكون القرآن وجائز أن يكون التوراة، لأن الذين كفروا بالنبي قد نبذوا التوراة. وقوله عزَّ وجلََّّ: (كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ). أعْلَمَ أنهم علماء بكتابهم، وأنهم رفضوه على علم به، وعداوةً للنبي صلَّى اللَّه عليه وسلم. وأعْلَمَ أنَّهم نَبذوا كتاب اللَّه. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)

ما كانت تتلوه، والذي كانت الشياطين تلته في ملك سليمان كتاب من السحر فَلِبهتِ اليهود وكَذِبِهم ادعَوْا أن هذا السحر أخذوه عن سليمان وأنه اسم الله الأعظم، يتكسَّبُون بذلكَ، فأعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أنهم رفضوا كتابه واتبعوا السحر، ومعنى على (ملك سليمان)، على عهد ملك سليمان (عَلَيْهِم) فبرأ اللَّه - عزَّ وجلَّ - سليمانَ من السحر، وأظهر محمداً - صلى الله عليه وسلم - عَلَى كذبهم وقال: (وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ). لأن اللَّه جعل الإتيان من سليمان بالسحر كفراً فبرَّأهُ منه، وأعلم أن الشياطين كفروا فقال: (وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا) (يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ) فمن شدد (لَكِنَّ) نصب الشياطين، ومن خفف رفع فقال: (وَلَكِنِ الشيَاطِينُ كَفَرُوا) وقد قرئ بهما جميعاً. وقوله عزَّ وجلَّ: (يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ). وقد قريءَ على الملِكَيْنِ، و (المَلَكَيْنِ) أثْبتُ في الرواية والتفسير جميعاً، المعنى يعلمون الناس السحرَ ويعلمون ما أنزلَ على الملكين فموضع (ما) نصب، نَسق على السحْر، وجائز أن يكونَ واتبعوا ما تَتْلُو الشياطين واتَبعوا ما أنزل على الملكين، فتكون ما - الثانية عطفاً على الأولى. وقوله: (وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ). فيه غير قول: أحدها - وهو أثبتها أن الملكين كانا يعلمان الناس السحر. وعلمتُ، وأعْلَمْتُ جميعاً في اللغة بمعنى واحد. (كانا يعلمان) نَبأ السحر ويأمران باجتنابه - وفي ذلك حكمة لأن سائلاً لو سأل: ما الزنا وما

القذف لوجب أن يوقف ويُعَلَّمَ أنه حرام، فكذلك مجاز إعلام الملكين الناس وأمرهما باجتنابه بعد الإعلام يدل على ما وصفنا، فهذا مستقيم بين، ولا يكون على هذا التأويل تعلم السحر كفراً، إنما يكون العمل به كفراً، كما أن من عَرَفَ الزنا لم يأثَمْ بأنه عرفه، وإنما يأثم بالعمل به. وفيه قَوْل آخر، جائز أن يكون اللَّه عزَّ وجلَّ امتحن بالملكين الناس في ذلك الوقت، وجعل المحنة في الكفر والِإيمان أن يقبل القابل تعلم السحر، فيكون بِتَعلُّمِه كافراً، وبتْرَكِ تعَلمه مؤمناً، لأن السحر قد كان كثر وكان في كل أمة، والدليل على ذلك أن فرعون فزع في أمر موسى - صلى الله عليه وسلم - إلى السحر - فقال: (ائتوني بكل ساحر عليم) وهذا ممكن أن يمْتَحِن اللَّه به كما امتحن بالنهر في قوله (إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإنَهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ). وقد قيل إن السحر ما أنزل على الملكين، ولا أمرا به ولا أتى به سليمانُ عليه السلام. فقال قوم: (وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ)، فيكون " ما " جحْداً، ويكون هاروت وماروت من صفة الشياطين، على تأويل هؤلاء، كان التأويل عندهم على مذهب هؤلاءِ: كان الشياطين هاروت وماروت، ويكون معنى قولهمَا على مذهب هؤلاءِ (إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ) كقول الغاوي والخليع: أنا في ضلال فلا تَرِدْ ما أنا فيه. فهذه ثلاثة أوجه، والوجهان الأولان أشبه بالتأويل وأشبه بالحق عند كثير من أهل اللغة، والقول الثالث له وجه، إلا أن الحديث وما جاءَ في قِصَّةِ الملكين أشبه وأولى أن يؤخذ به

وإنما نذكر مع الإعراب المعنى والتفسير، لأن كتاب اللَّه ينبغي أن يتبين ألا ترى أن اللَّه يقول (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) (فحُضِضْنَا) على التدبر والنظر، ولكن لا ينبغي لأحد أن يتكلم إلا على مذهب اللغة، أو ما يوافق نقلة أهل العلم، واللَّه - أعلم بحقيقة تفسير هذه الآية. فإن النحويين قد ترك كثير منهم الكلام فيها لصعوبتها، وتكلم جماعة منهم وإنما تكلمنا على مذاهبهم. وقال بعض أهل اللغة: إن الذي أنزل على الملكين كلام ليس بسحر إلا إنَّه يفرق به بين المرء وزوجه فهو من باب السحر في التحريم وهذا يحتاج من الشرح إلى مثل ما يحتاج إليه السحر. وقوله عزَّ وجلَّ: (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا). ليس (يَتَعَلَّمُونَ) بجواب لقوله (فلا تكفر) وقد قال أصحاب النحو في هذا قولين - قال بعضهم: إِن قوله يتعلمون عطف على قوله (يُعلِّمونَ) وهذا خطأ، لأن قوله منهما دليل ههنا على أن التعلم من الملكين خاصة وقيل - (فَيَتَعَلَّمُونَ) عطف على ما يوجبه معنى الكلام. المعنى: إنما نحن فتنة فلا تكفر: فلا تتعلم ولا تعمل بالسحر، فيأبون فيتعلمون، وهذا قول حسن. والأجود في هذا أن يكون عطفاً على يعلمان فيتعلمون واستغنى عن ذكر يعلمان بما في الكلام من الدليل عليه.

وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ). الإذن هنا لا يبهون الأمر من الله عزَّ وجلَّ: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ). ولكن المعنى إِلا بعلم الله. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ). المعنى إنَّه يضرهم في الآخرة وِإدْ تعجلوا به في الدنيا نفعاً. وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ). الخلاق النصيب الوافر من الخير، ويعني بذلك الذين يعلمون السحر لأنهم كانوا من علماءِ إليهود. وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ). فيه قولان: قالوا: (لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ): يعني به الذين يُعَلًمُونَ السحْر. والذين علموا أن العالم به لا خلاق له هم المعلمون. . قال أبو إسحاق والأجود عندي أن يكون (لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) راجعاً إلى هُؤلاء الذين قد علموا أنه لا خلاق لهم في الآخرة). أي لمن عُلِّمَ السحرَ ولكن قيل (لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) وأي لو كان علمهم ينفعهم لسُمُّوا عالمين، ولَكِنَّ عِلْمَهُم نبذوه وراء ظهورهم، فقيل لهم (لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) أي ليس يوفون العلم حقه، لأنَّ العالِمَ، إِذا ترك العَمَلَ بِعِلْمِه قيل له لست بعالم ودخول اللام في لقد على جهة القسم والتوكيد. وقال النحويون في (لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ) قولين: جعل بعضهم " مَنْ " بمعنى

(103)

الشرط، وجعل الجواب (مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ). وهذا ليس بموضع شرط ولا جزاء، ولكن المعنى: ولقد علموا الذي اشتراه ما له في الآخرة من خلاق: كما تقول: واللَّه لقد علمت للذي جاءَك ما له من عقل. فأمَّا دخول اللام في الجزاءِ في غير هذا الموضع وفيمن جعل هذا موضع شرط وجزاء مثل قوله: (وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) ونحو (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ) فاللام الثانية هي لام القسم في الحقيقة، لأنك إنما تحلف على فعلك لا على فعل غيرك في قولك: والله لئن جئتني لأكرمنك، فزعم بعض النحويين أن اللام لما دخلت في أول الكلام أشبهت القسم فأجيبت بجوابه وهذا خطأ، لأن جواب القسم ليس يشبه القسم، ولكن اللام الأولى دخلت إعْلاماً أنَّ الجملة بكمالها معقودة للقسم، لأن الجزاء وإن كان للقسم عليه فقد صار للشرط فيه حظ، فلذلك دخلت اللام. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103) مَثُوبة في موضع جواب " لو " لأنها تنْبِئ عن قولك " لأثيبُوا " ومعنى الكلام أن ثواب اللَّه خير لهم من كَسْبِهم بالكُفْر والسحْرِ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (لَوْ كَانُوا يَعلَمُونَ). أي لو كانوا يَعْمَلُونَ بِعِلمِهم، ويعلمون حقيقة ما فيه الفضل.

(104)

وقوله عزَّ وجلَّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) وقرأ الحسن " لا تقولوا راعِناً " بالتنوين، والذي عليه الناس راعنا غير منون، وقد قيل في (راعنا) بغير تنوين ثَلاثةُ أقوال: قال بعضهم راعنا: ارعنا سمعك، وقيل كان المسلمون يقولون للنبي - صلى الله عليه وسلم - راعنا، وكانت إليهود تَتَسَابُّ بينها بهذه الكلمة، وكانوا يسبون النبي - صلى الله عليه وسلم - في نُفُوسهم، فلما سمعوا هذه الكلمة اغتنموا أن يظهروا سَبَّه بلفظ يسمع ولا يلحقهم به في ظاهره شيء، فأظهر اللَّه النبى - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين على ذلك ونهى عن هذه الكلمة. وقال قوم: (لَا تَقُولُوا رَاعِنَا): من المراعاة والمكافأة، فأمروا أن يخاطبوا النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتقدير والتوقير، فقيل لهم لا تقولوا راعنا، أي كافنا في المقال، كما يقول بعضهم لبعض، - (وَقُولُوا انْظُرْنَا) أي أمهلنا واسمعوا، كأنه قيل لهم استَمِعُوا. وقال قوم إِن راعنا كلمة تجري على الهُزُءِ والسخرية، فنهيَ المسلمون أن يَلْتَفِظُوا بها بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأما قراءَة الحسن " راعناً " فالمعنى فيه لا تقولوا حُمْقاً، من الرعونة. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105) المعنى ولا من المشركين، الذين كفروا من أهل الكتاب: إليهود والمشركون في هذا الوضع عَبَدةُ الأوثان. (أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ). - ويُقْرأ أن يُنْزَل عليكم بالتخفيف والتثقيل جميعاً، ويجوز في العربية أن

(106)

يَنْزِلَ عليكم، ولا ينبغي أن يقرأ بهذا الوجه. الثالث، إذ كان لم يقرأ به أحد من القراء المشتهرين. وموضع (مِنْ خَيْرٍ) رفع. المعنى: ما يود الذين كفروا والمشركون أن ينزل عليكم خير من ربكم، ولو كان هذا في الكلام لجاز ولا المشركون، ولكن المصحف لا يخالف، والأجود ما ثبت في المصحف أيضاً، ودخول من ههنا على جهة التوكيد والزيادة كما في " ما جَاءني من أحد)، وما جاءَنى أحد. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) أي يختص بنُبوته من يشاءُ من أخبر - عزَّ وجلَّ - أنه مختار. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) في (نُنْسِهَا) غير وجه قد قرئ به: أو نُنْسِهَا، وَنَنْسَهَا، وَنَنْسُؤها. فأما النسخ في اللغة فإبطال شيء وإقامة آخر مقامه، العرب تقول نسخت الشمسُ الظل، والمعنى أذهبت الظل وحلَّت محلَّه، وقال أهل اللغة في معنى (أو نُنْسِهَا) قولين قال بعضهم، (أو ننسها) من النسيان، وقالوا دليلنا على ذلك قوله عزَّ وجلَّ (سَنُقْرِئُك فَلَا تَنْسَى إلا مَا شَاءَ اللَّهُ) فقد أعلم اللَّه أنه يشاء أن يُنْسى، وهذا القول عندي ليس بجائز، لأن اللَّه عزَّ وجلَّ: قد أنبأ النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله (وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ) إنَّه لا يشاء، أن يذهب بالذي أوحَى به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. وفي قوله (فَلَا تَنْسَى إلا مَا شَاءَ اللَّهُ) قولان يُبْطلان هذا القول الذي حكينا عن بعض أهل اللغة: أحدهما (فلا تنسى) أي لست تترك إلا ما شاءَ اللَّه أن تترك، ويجوز أن يكون إلا ما شاءَ الله مما يلحق بالبشرية، ثم تذكر بعد،

ليس أنه على طريق السلب للنبي - صلى الله عليه وسلم - شيئاً أوتيه من الحكمة وقيل في (أو ننْسِهَا) قول آخر وهو خطأ أيضاً، قالوا أو نَتْرُكُهَا " وهذا يقال فيه نسيت إذا تركت، ولا يقال أنسيت أي تركت، وإنما معنى (أو ننسها) أو نَتركِها أي نأمر بتركها، فإِن قال قائل ما معنى تركها غير النسخ وما الفرق بين الترَك والنسخ؟ فالجواب في ذلك أن النسخ يأتي في الكتاب في نسخ الآية بآية فتُبطِل الثانيةُ العملَ بالأولى. ومعنى الترك أن تأتي الآية بضرب من العمل فيؤمر المسلمون بترك ذَلك بغير آية تَأْتِي ناسخة للتي قبلهَا، نحو (إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ) ثم أمر المسلمون بعد ذلك بترك المِحْنَة. فهذا معنى الترك، ومعنى النسخ قد بيَّنَّاه فهذا هو الحق. ومن قرأ " أو نَنْسؤُها " أراد نؤَخًرُها. والنَّسْءُ في اللغة التأخير، يقال: نسأ اللَّه في أجله وأنْسَأ اللَّه أجله أي أخر أجله. وقوله: (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا). المعنى بخير منها لكم، (أوْ مِثْلِها) فأما ما يؤتى فيه بخير من المنسوخ فتمام الصيام الذي نسخ الِإباحة في الِإفطار لمن استطاع الصيام. ودليل ذلك قوله: (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) فهذا هو خير لنا كما قال اللَّه عزَّ وجلَّ. وأمَّا قوله (أَوْ مِثْلِهَا) أي نأْتي بآية ثوابها كثواب التي قبلها، والفائدة في

(107)

ذلك أن يكون الناسخ اشهل في المأخذ من المنسوخ، والإيمان به أسوغ. والناس إليه أسرع. نحو القِبْلة التي كانت على جهة ثم أمر اللَّه النبي - صلى الله عليه وسلم - بجعل البيت قبلةَ المسلمين وعدل بها عن القصد لبيت المقدس، فهذا - وإِن كان السجود إلى سائر النواحي متساوياً في العمل والثواب، فالذي أمر الله به في ذلك الوقت كان الأصلح، والأدعى للعرب وغيرهم إِلى الإِسلام. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107) لفظ (أَلَمْ) ههنا لفظ استفهام ومعناه التوقيفُ، وجزم (أَلَمْ) ههنا كجزم " لم " لأن حرف الاستفهام لا يغير العامل عن عمله، ومعنى الملك في اللغة تمام القدرة واستحكامها فما كان مما يقال فيه مَلِك سمي المُلْكَ، وما نالته القدرة مما يقال فيه مَالِك فهو مِلْك، تقول: ملكت الشيء أمْلِكه مِلْكاً. وكقوله تعالى، (على مُلك سليمان) أي في سلطانه وقُدْرته. وأَصل هذا من - قولهم ملكتُ العَجين أملُكُه إِذا بالغْتُ في عَجْنِه، ومن هذا قيل في التزويج شهدنا " إِملاكَ " فلان، أي شهدنا عقد أمر نكاحه وتشديده. ومعنى الآية إِن اللَّه يَمْلك السَّمَاوَات والأرض ومن فيهن فهو أعلم بوجه الصلاح فيما يتعبدهم به، من ناسخ ومنسوخ ومتروك وغيره. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ). هذا خطاب للمسلمين يخبرون فيه أن من خالفهم فهو عليهم، وأن اللَّه جلَّ وعزَّ ناصرهم، والفائدة فيه أنه بنَصْره إياهم يغلبون من سواهم.

(108)

وقوله عزَّ وجلَّ: (أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108) أجود القراءَة بتحقيق الهمزة، ويجوز جعلها بَينَ بينَ، يكون بين الهمزة والياء فيلفظ بها سُيل. وهذا إنما تحكمه المشافهة لأن الكتاب فيه غير فاصل بين المتحقق والمُلَيَّن وما جُعِلَ ياءً خالصة، ويجوز كما سِيلَ موسى من قبل، من قولك " سِلْت "، أسَال في معنى سئِلت اسْأل وهي لغة للعرب حجاها جميع النحويين، - ولكن القراءَة على الوجهين اللذين شرحناهما قبل هذا الوجه من تحقيق الهمزة وتليينها. ومعنى (أم) ههنا وفِي كل مكان لا تقع فيه عطفاً على ألف الاستفهام - إِلا أنها لا تكون مبتدأة - أنها تؤذن بمعنى بل ومعنى ألف الاستفهام، المعنى " بل أتريدون أن تسألوا رسولكم كما سُئِل موسى من قبل " فمعنى الآية أنهم نًهوا أن يسألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - ما لا خير لهم في السؤال عنه وما يُكَفِّرهم، وإِنما خوطبوا بهذا بعد وضوح البراهين لهم وإقامتها على مخالفتهم وقد شرحنا ذلك في قوله (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ) وما أشبه ذلك مما تقدم شرحه. - فأُعْلِم المسلمون أن السؤال بعد قيام البراهين كفر كما قال عزَّ وجلَّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ).

(109)

وقوله: (وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ). أي من يسأل عما لا يعنيه النبى - صلى الله عليه وسلم - بعد وضوح الحق فقد ضل سواءَ السبيل أي قصد السبيل. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) يعني به علماءَ إليهود. وقوله: (حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) موصول بود الذين كفروا، لا بقوله حسداً، لأن حسد الإِنسان لا يكون من عند نفسه، ولكن المعنى مودتهم بكفركم من عند أنفسهم، لا أنهم عندهم الحق الكفر، ولا أن كتابهم أمرهم بما هم عليه من الكفر بالنبي - صلى الله عليه وسلم -. الدليل على ذلك قوله: (مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ). * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ). هذا في وقت لم يكن المسلمون أمروا فيه بحرب المشركين، وإِنما كانوا يدعون بالحجج البينة وغاية الرفق حتى بين الله أنهم إنما يعاندون بعد وضوح الحق عندهم فأمر المسلمون بعد ذلك بالحرب. * * * وقوله عزَّ وجلَّ،: (إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي قدير على أن يدعو إِلى دينه بما أحب مما هو عنده الأحكم والأبلغ. ويقال: اقدر على الشيءِ - قَدْراً وقَدَراً وقُدْرة، وقُدْرَاناً، ومَقْدِرَة

(111)

ومقدُرة ومقدَرة. هذه سبعة أوجه مروية كلها، وأضعفها مقدرة - بالكسر -. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) الِإخبار في هذا عن أهل الكتاب، وعقد النصارى معهم في قوله وقالوا لأن الفريقين يقرآن التوراة، ويختلفان في تثبيت رسالة موسى وعيسى، فلذلك قال اللَّه عزَّ وجلَّ: (وقالوا: " فأُجْمِلوا). فالمعنى أن إليهود قالت لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً، والنصارى قالت لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانياً، وجاز أن يلفظ بلفظ جمع لأن معنى (من) معنى جماعة. فَحُمِل الخبر على المعنى. والمعنى إِلا الذين كانوا هودا وكانوا نصارى. وهو جمع هائد وهود، مثل حائل وحول، وبازل وبزل. وقد فسَّرْنَا واحد النصارى وجمعه فيما مضى من الكتاب. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ). هذا كما يقال للذي يدعي ما لا يبرهن حقيقته إنما أنت مُتَمَن. وأمانيهم مشددة، ويجوز في العربية تلك " أمَانِيهِمْ " ولكن القراءَة بالتشديد لا غير، للإِجماع عليه، ولأنه أجود في العربية. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)). أي إِن كنتم عند أنفسكم صادقين فَبَينوا ما الذي دلكم على ثبوت الجنة لكم.

(112)

وقوله عزَّ وجلَّ: (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112) أي فهذا يدخل الجنة، فإن قال قائل فما برهان من آمن في قولكم، قيل ما بيناه، من الاحتجاج للنبي - صلى الله عليه وسلم - ومن إظهار البراهين بأنبائهم ما لا يعلم إِلا من كتاب أو وحي، وبما قيل لهم في تمني الموت، وما أتى به النبي - صلى الله عليه وسلم - من الآيات الدالة على تثبيت الرسالة، فهذا برهان من اسلم وجهه للَّهِ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113) يعني به أن الفريقين يَتْلُوَان التوراة، وقد وقع يينهم هذا الاختلاف وكتابهم واحد، فدل بهذا على ضلالتهم، وحذر بهذا وقوع الاختلاف في القرآن، لأن اختلاف الفريقين أخرجهما إلى الكفر. فتفهموا هذا المكان فإن فيه حجةً عظيمة وعِظَةً في القرآن. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ). يعني به الذين ليسوا بأصحاب كتاب، نحو مشركي العرب والمجوس. المعنى أن هؤلاء أيضاً قالوا: لن يدخل الجنة إلا من كان على ديننا. وقوله عزَّ وجلَّ: (فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ). المعنى يريهم من يدخل الجنة عِياناً، ويدخل النار عيانا. وهذا هو حكم الفصل فيما تصير إليه كل فرقة، فأما الحكم بينهم في العقيدة فقد بينه اللَّه عزَّ وجلَّ - فيما أظهر من حجج المسلمين، وفي عجز الخلق عن أن يأتوا بمثل القرآن. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114) موضع (مَنْ) رفع ولفظها لفظ استفهام، المعنى: وأي أحد أظلم ممن منع

مساجد اللَّه، و (أَظْلَمُ) رفع بخبر الابتداء، وموضع أن نصب على البدل من مساجد اللَّه، المعنى: ومن أظلم ممن منع أن يذكر في مساجد اللَّه اسمه. وقد قيل في شرح هذه الآية غير قول: جاءَ في التفسير أن هذا يعني به الروم، لأنهم كانوا دخلوا بيت المقدس وخربوه، وقيل يعني به مشركو مكة لأنهم سعوا في منع المسلمين من ذكر اللَّه في المسجد الحرام. وقال بعض أهل اللغة غير هذا. زعم أنه يعني به جميع الكفار الذين تظاهروا على الإسلام، ومنعوا جملة المساجد، لأن من قاتل المسلمين حتى منعهم الصلاة فقد منع جميع المساجد وكل موضِع مُتَعَبَّدٍ فيه فهو مسجد، ألا ترى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً " فالمعنى على هذا المذهب: ومن أظلم ممن خالف ملة الإسلام. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ). أعلم اللَّه في هذه الآية أن أمر المسلمين يظهر على جميع من خالفهم حتى لا يمكن دخول مخالف إِلى مساجدهم إلا خائفاً، وهذا كقوله عزَّ وجلَّ: (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ). قوله: (لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ). يرتفع (خِزْيٌ) من وجهتين: إِحدَاهما الابتداءُ، والأخرى الفعل الذي

(115)

ينوب عنه (لهم). المعنى وجب لهم خزي في الدنيا وفي الآخرة عذاب عظيم، والخزي الذي لهم في الدنيا، أن يُقْتَلوا إن كانوا حَرْباً، ويُجْزَوا إن كانوا ذمة، وجعل لهم عظيم العذاب لأنهم أظلم مَن ظلم لقوله: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ). * * * وقوله عزْ وجل: (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115) يرتفعان كما وصفنا من جهتين، ومعنى (للَّهِ) أي هو خالقهما. وقوله: (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ). (تُوَلُّوا) جزم بـ (أيْنَمَا)، والجوإبُ (فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ)، وعلامة الجزم في (تُوَلُّوا) سقوط النون. و (ثَمَّ) موضع نصب ولكن مبني على الفتح لا يجوز أن تقول ثَمًّا زيد. وإنما بني على الفتح لالتقاءِ السَّاكنين، وثم في المكان أشارة بمنزلة هنا زيد؛ فإذا أردت المكان القريب قلت هنا زيد، وإذا أردت المكان المتراخي عنك قلت (ثَمَّ) زيد، وهناك زيد، فإنما منعت (ثَمَّ) الإعراب لإبهامها. ولا أعلم أحداً شرح هذا الشرح لأن هذا غير موجود في كتبهم. ومعنى الآية أنه قيل فيها أنه يعني به البيت الحرام، فقيل أينَما تولوا فثم وجه الله أي فاقصدوا وجه اللَّه بِتَيَمُّمِكم القبلة، ودليل من قال هذا القول قوله: (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ). فقد قيل: إن قوماً كانوا في سفر فأدركتهم ظلمة ومطر فلم يعرفوا القبلة فقيل: (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ).

(116)

وقال بعض أهل اللغة إنما المعنى معنى قوله: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ) فالمعنى على قوله هذا: أن اللَّه معكم أينما تولوا - كأنه أينما تولوا فثم الله (وهو معَكم) وإنَّما حكينا في هذا ما قال الناس: وليس عندنا قطع في هذا، واللَّه عزَّ وجلَّ أعلم بحقيقته - ولكن قوله (إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) يدل على تَوْسيعه على الناس في شيءِ رخص لهم به. * * * (وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116) قالوا) للنصارى ومشركي العرب، لأن النصارى قالت: المسيح ابنُ اللَّه، وقال مشركو العرب الملائكة بنات اللَّه، فقال اللَّه عزَّ وجلَّ: (بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ). القانت في اللغة المُطِيعُ، وقال الفرَّاءُ: (كل له قانتون) هذا خصوص إنما يعني به أهل الطاعة، والكلام يدل على خلاف ما قال، لأن قوله: (مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ) كل إحاطة وإنما تأويله: كل ما خلق اللَّه في السَّمَاوَات والأرض فيه أثَرُ الصنْعَة فهو قانت للَّهِ والدليل على أنه مخلوق - والقانت في اللغة القائم أيضاً ألا ترى أن القنوت إِنما يُسَمًى بِه من دَعا قائماً في الصلاة قانتا، فالمعنى كل له قانت مقر بأنه خالقه، لأن أكثر من يخالف ليس بدفع أنه مخلوق وما كان غير ذلك فأثر الصنْعَةِ بين فيه، فهو قانت على العموم، وإِنما القانت الداعي. وقوله: (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117)

(118)

يعني، أنشاهما على غير حِذَاءٍ ولا مِثَال، وكل من أنْشَأ ما لَم يُسْبَق إليه قيل له أبدعت، ولهذا قيل لكل من خالف السُّنَّةَ والإجماعَ مبتدع، لأنه يأتي في دين الإِسلام بما لم يسبقه إِليه الصحابة والتابعون. وقوله: عزَّ وجلَّ: (وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ). رفع (يكون) من جهتين: إِن شئت على العطف على يقول، وإِن شئت الاستئناف. المعنى فهو يكون، ومعنى الآية قد تكلم الناس فيها بغير قول: قال بعضهم: إِنما يقول له (كُنْ فَيَكُونُ) إِنما يريد، فيحدث كما قال الشاعر: امْتَلأ الحوضُ وقال قَطْنِي. . . مهلاً رويداً قد ملأت بطني والحوض لم يقل. وقال بعض أهل اللغة - (إِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) يقول له وإِن لم يكن حاضراً: كن، لأن ما هو معلوم عنده بمنزلة الحاضر. وقال قائل: (إِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) له معنى من أجلها فكأنه إنما يقول من أجل إِرادته إِياه (كُنْ) أي أحدُث فيحدث، وقال قوم: هذا يجوز أن تكون لأشياءَ معلومة أحدث فيها أشياءَ فكانت، نحو قوله: (فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين). واللَّه أعلم. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118) (لولا) معنى هلا، المعنى: هلا يكلمنا الله أو تأْتينا آية، فأعلم اللَّه عزَّ وجلَّ أن كفرهم في التعنُّتِ بطلب الآيات على اقتراحهم كقول الذين من قبلهم لموسى: (أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً)، وما أشبه هذا، فأعلم الله أن كفرهم متشابه، وأن قلوبهم قد تشابهت في الكفر.

(119)

وقوله عزَّ وجلَّ: (قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ). المعنى فيه أن من أيقن وطلب الحق فقد آتته الآيات البينات، نحو المسلمين ومن لم يشاق من علماءِ إليهود، لأنه لما أتاهم - صلى الله عليه وسلم - بالآيات التي يُعْجَزُ عنها من أنبائهم بما لا يُعلم إلا من وحي، ونحو انشقاق القمر وآياته التي لا تحصى عليه السلام، والقرآن الذي قيل لهم فأتوا بسورة من مثله فعجزوا عن ذلك. ففِي هذا برهان شافٍ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119) نصب (بشيراً ونذيراً) على الحال، ومعنى بشيراً، أي مبشراً المؤمنين بما لهم من الثواب، وينذر المخالفين بما أعد لهم من العقاب. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ). وتقرأ (ولا تَسْألُ)، ورفع القراءتين جميعاً من جهتين، إحداهما أن يكون (ولا تسأل) - استئنافاً، كأنَّه قيل ولست تسأل عن أصحاب الجحيم، كما قال عزَّ وجلَّ: (فإِنما عَلَيْكَ البَلَاغُ وعَلَيْنَا الحِسَابُ) ويجوز أن يكون له الرفع على الحال، فيكون المعنى: أرسلناك غير سائل عن أصحاب الجحيم. ويجوز أيضاً " ولا تَسْألْ عن أصحاب الجحيم " وقد قرئ به فيكون جزماً بلا. وفيه قولان على ما توجبه اللغة: أن يكون أمَرَهُ اللَّهُ بترك المسألة، ويجوز أن يكون النهي لفظاً، ويكون المعنى على تفخيم ما أعد لهم من العقاب. كما يقول لك القائل الذي تَعْلَمُ أنت أنه يجب أن يكون من تسأل عنه في حال جميلة أو حال قبيحة، فتقول لا تسأل عن فلان أي قد صار إلى أكثر مما تريد، ويقال: سالته أسأله مسألة وسؤالاً، والمصادر على فُعَال تقِلُّ في غير

(120)

الأصوات والأدْواءِ فأمَّا في الأصوات فنحو الدعاء والبكاء والصراخ وأما في الأدواء فنحو: الزكام - والسعال وما أشبه ذلك. وإِنما جاءَ في السؤال لأن السؤال لا يكون إلا بصوت. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120) قد شرحنا معنى. إليهود والنصارى. و " ترضى " يقال في مصدره رضي، يرضى، رضاً ومرضاة، ورِضواناً ورُضواناً. ويروي عن عاصم في كل ما في القرآن من (رضوان) الوجهان جميعاً، فأمَّا ما يرويه عنه أبو عمرو (فَرِضوانٍ) بالكسر، وما يرويه أبو بكر بن عياش: فَرُضْوان، والمصادر تأتي على فِعْلان وفُعْلان، فأمَّا فِعْلان، فقولك عرفته عِرْفاناً، وحسبته حسباناً. وأما فُعلان كقولك: غُفرانك لا كفْرانك. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ). (تَتَّبِعَ) نصب بحتى، والخليل وسيبويه وجميع من يوثق بعلمه يقولون إن الناصب للفعل بعد حتى (أن) إلَّا أنها لا تظهر مع حتى، ودليلهم أن حتى غير ناصبة هو أن حتى بإجماع خافضة. قال اللَّه عزَّ وجلَّ: (سلام هي حتى مَطلَعِ الفجر) فخفض مطلع بحتى، ولا نعرف في العربية أن ما يعمل في اسم يعمل في فعل، ولا ما يكون خافضاً لاسم يكون ناصباً لفعل، فقد بانَ أن حتى لا تكون ناصبة، كما أنك إذا قلت: جاءَ زيد ليضربك فالمعنى جاءَ زيد لأن يضربك، لأن اللام خافضة، للاسم، ولا تكون ناصبة - للفعل، وكذلك ما كان زيد ليضربك، اللام خافضة، والناصب ليضربك أن المضمرة. ولا يجوز إظهارها مع هذه اللام، وإنما لم يجز لأنها جواب لما يكون مع الفعل وهو

حرف واحد يقول القائل: سيضربك، وسوف يضربك، فجعل الجواب في النفي بحرف واحد كما كان في الإيجاب بشيءٍ واحد. ونصب ملتهم بتتئع، ومعنى ملتهم في اللغة سنتهم وطريقتهم، ومن هذا المَلة أي الموضع الذي يختبز فيه، لأنها تؤَثر في مكانها كما يؤَثِّر في الطريق. وكلام العرب إذا اتفق لفظه فأكثره مشتق بعضه من بعض، وآخذ بعضه برقاب بعض. . * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى). أي الصراط الذي دعا إليه وهدى إليه هو الطريق أي طريق الحق. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ). إِنما جمع ولم يقل هواهم، لأن جميع الفرق ممن خالف النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن ليرضيهم منه إلا أتباع هواهم. وجمع هوى على أهواءَ، كما يقال جمل وأجمال، وقتب وأقتاب. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ). الخفض في (نصير) القراءَة المجمع عليها، ولو قرئ ولا نصير بالرفع كان جائزاً، لأن معنى من ولي مالك من اللَّه ولي ولا نصير. ومعنى الآية أن الكفار كانوا يسألون النبي - صلى الله عليه وسلم - الهدنة وُيرُونَ إنَّه إِن هادنهم وأمهلهم أسلموا، فأَعلم اللَّه عزَّ وجلَّ أَنهم لن يرضوا عنه حتى يتبع ملتهم، فنهاه اللَّه ووعظه في الركون إِلى شيءٍ مما يدعون إِليه، ثم أعلمه اللَّه عزَّ وجل - وسائِرَ الناس - أن من كان منهم غير متعنت ولا حاسد ولا طالب

(121)

لرياسة تلا التوراة كما أنزلت فذكر فيها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حق فآمن به فقال تعالى: * * * (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121) يعني أن الذين تَلُوا التوراة على حقيقتها، أُولَئِكَ يُؤمنون بالنبي - صلى الله عليه وسلم -. وفي هذا دليل أن غيرهم جاحد لما يعلم حقيقته، لأن هؤُلاءِ كانوا من علماءِ اليهود، وكذلك من آمن من علماءِ النصارى ممن تلا كتبهم. و (الذين) يرفع بالابتداءِ، وخَبَر الابتداءِ (يتلونه)، وإن شئت كان خبر الابتداءِ (يتلونه وأولئك) جميعاً، فيكون للابتداءِ خبران كما تقول هذا حلو حامض). * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122) (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ) نصب لأنه نداء مضاف، وأصل النداءِ النصب، ألا ترى. أنك إذا قلت يا بني زيد، فقال لك قائل: ما صنعت؛ قلت ناديتُ بني زيد، فمحال أن تخبره بغير ما صنعت، وقد شرحناه قبل هذا شرحاً أبلغ من هذا، وإسرائيل لا يتصرف، وقد شرحنا شرحه في مكانه وما فيه من اللغات. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ). موضع (أن) نصب كأنه قال اذكروا أني فضلتكم على العالمين. والدليل من القرآن على أنهم فُضلَوا قول موسى - صلى الله عليه وسلم - (كما قال الله عزَّ وجلَّ: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20).

(123)

وتأويل تفضيلهم في هذه الآية ما أوتوا من الملك وأن فيهم أنبياءَ وأنهم أُعطوا علم التوراة، وأن أمر عيسى ومحمد - صلى الله عليهما وسلم - لم يكونوا يحتاجون فيه إلى آية غير ما سبق عندهم من العلم به، فذكرهم اللَّه عزَّ وجلَّ ما همْ عارفون، ووعظهم فقال: * * * (وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (123) العدل الفدية، وقيل لهم: (ولا تنفعها شفاعة)، لأنهم كانوا يعتمدون على أنهم أبناءُ أنبياءِ اللَّه، وأنهم يَشْفَعُون لهم، فأيئسَهم اللَّه عزَّ وجلَّ من ذلك. وأعلمهم أن من لم يتبع محمداً - صلى الله عليه وسلم - فلَيْسَ يُنْجِيه منْ عذاب اللَّه شيءٌ وهو كافر. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124) المعنى اذكروا إِذ اابتلى إبراهيم ربه، ومعنى (فاتمهن) وفَّى بما أمر به فيهن، وقد اختلفوا في الكلمات: فقال قوم تفسيرها أنه أمره بخمس خلال في الرأس، وخمس خلال في البدَن، فأمَّا اللاتِي في الرأس فالفرْق وقَص الشَارِبِ والسواكُ، والمضْمضَةُ، والاستنشاق، وأمَّا التي في البدن فالختان وحلق العانة والاستنجاءُ وتقليم الأظافر ونتف الإبط. فهذا مذهب قوم وعليه كثير من أهل التفسير. وقال قوم: أن الذي ابتلاه به " ما أمره به من ذبح ولده. وما كان من طرحه في النار، وأمر النجوم التى جرى ذكرها في القرآن في قوله عزَّ وجلَّ: (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا) وما جرى بعد الكواكب من ذكر القمر والشمس، فهذا مذهب قوم.

(125)

وجميع هذه الخلال قد ابتلِيَ بها إبراهيم، وقد وفَّى بما أُمِر به وأتى بما يأتي به المؤْمن بل البر المصطفى المختار، ومعنى ابتلى اختبر. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا). الأم في اللغة القَصْدُ، تقول: أممْتُ كذا وكذا، إذا قصدته وكذلك قوله: (فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا) أي فاقصدوا. والِإمام الذي يْؤتم به فيفعل أهلُه وأمته كما فعل، أي يقصدون - لمَا يقصد. (قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ). فأَعلم اللَّه إبراهيم أن في ذريته الظالم، وقد قرئت (لا ينال عهدي الظالمُون) والمعنى في الرفع والنصب - واحد، لأن النَّيْلَ مشتمل على العهد. وعلى الظالمين إلا أنه منفي عنهم، والقراءَة الجيّدة هي على نصب الظالمين؛. لأن المصحف. هكذا فيه، وتلك القراءَة جيدة (بالغة) إلا أني لا أقرأ بها، ولا ينبغي أن يُقْرأ بها لأنها خلاف المصحف، ولأن المعنى: أن إبراهيم عليه السلام كأنَّه قال: واجعل الإمامة تنال ذريتي (واجعل) هذا العهد ينال ذريتي، قال اللَّه: (لا ينال عهدي الظالمين). فهو على هذا أقوى أيضاً. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) (مثابة) يثوبون إِليه، والمثاب والمثابة واحد، وكذلك المقام والمقامة. قال الشاعر:

وإنِّي لَقَوَّامٌ مَقَاوِمَ لم يكن. . . جريرٌ ولا مَوْلَى جريرٍ يقومُها وواحد المقاوم مقام - وقال زهير: وفيهم مقامات حسان وجوهها. . . وأنْديَة يَنْتَابُها القولُ والفعلُ وواحد المقامات مقامة. والأصل في مثابة مَثْوَبَة. ولكن حركة الواو نقلت إلى التاءِ، وتبعت الواو الحركة فانقلبت ألفاً، وهذا إِعلال إتباع، تبع مثابة باب " ثاب " وأصل ثاب ثَوَبَ، ولكن الواو قلبت ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها لا اختلاف بين النحويين في ذلك. وهذا الباب فيه صعوبة إلا أن كتابنا هذا يتضمن شرح الِإعراب والمعاني فلا بد من استقصائها على حسب ما يعلم. ومعنى قوله: (وَأَمْنًا): (قيل) كان من جنى جناية ثم دخل الحرم لم يقم عليه الحد، ولكن لا يبايع ولا يكلم حتى يضطر إِلى الخروج منه، فيقام عليه الحد. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى)). قرئت " واتخذوا " بالفتح والكسر: وَاتَخَذُوا، واتَّخِذوا روى أن عمر بن الخطاب قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - وقد وقفا على مقام إبراهيم: أليس هذا مقامَ خليل ربنا؟. " وقال بعضهم مقامَ أبينا "، أفَلا نتخذه مصلى؛ فأنزل الله عزَّ وجلَّ: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) فكان الأمر. والقراءَة (واتخذوا)

(126)

بالكسر على هذا الخبر أبين. ولكن ليس يمتنع " واتخَذُوا " لأن الناس اتخذوا هذا، فقال: (وإِذ جعلنا البيت مثابة) (واتخذوا) فعطف بجملة على جملة. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ). معنى (طَهِّراه امنعاه من تعليق الأصنام عليه، والطائفون هم الذين يطوفون بالبيت، والعاكفون المقيمون به، ويقال قد عَكَف يعكُف وَيعْكِف على الشيءِ عُكُوفاً أي أقام عليه، ومن هذا قول الناس: فلان معتكف على الحَرام، أي مقيم عليه. (والرُّكعِ السَجود) سائر من يُصلي فيه من المسلمين. و (بيْتِيَ): الأجود فيه فتح الياءِ، وإن شئت سكَّنتها، والرُّكًع جمع راكع، مثل غاز وغُزًى، والسجود جمع ساجد، كقولك: ساجد وسجود، وشاهد وشهود. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) المعنى واذكروا إِذ قال إبراهيم. وأمنا: ذا أمن. وقوله عزَّ وجل: (وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ. . .) (مَن) نَصْبٌ بدلٌ من أَهله، المعنى أرزق من آمن من أهله دون غيرهم. لأن الله تعالى قد أعلمه أن في ذريته غيرَ مؤمن، لقوله: عزَّ وجلّ؛ (لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ). وقوله عزَّ وجلَّ: (قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ). أكثر القراءَة على فأمتِّعُه (قليلًا) ثم أضطَره، على الإِخبار، وقد

(127)

قرئَ أيضاً - فَأمْتِعْه، ثم اضْطَرَّه، على الدعاءِ، ولفظ الدعاءِ كلفظ الأمر مجزوم، إِلا أنه استعظم أن يقال "أمر" فَمسْألتك مَنْ فوقَك نَحْو أعطني، وأغفر لي دعاءُ ومسْألة، ومسألتُك من دُونَك أمْرُ كقولك لغلامك افعل كذا وكذا. والراءُ مفتوحة في قوله ثم " اضطرَّه " لسكونها وسكون الراءِ التي قبلها الأصل ثم اضطَرِرْه، ويجوز ثم أضطره ولا أعلم أحداً قرأ بها. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) القواعد واحدتها قاعدة وهي كالأساس والأس للبنيان، إلا أن كل قاعدة فهي للتي فوقها، وإِسماعيلُ عطف على إِبراهيم. وقوله: (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا) المعنى يقولان (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا)، ومثله في كتاب اللَّه: (وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ) ومثله: (وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ). (أي يقولون سلام عليكم). * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) تفسير المسلم في اللغة الذي قد استسلم لأمر اللَّه كله " وخضع له، فالمسلم المحققُ هو الذي أظهر القبول لأمر اللَّه كله وأضمر مثل ذلك، وكذلك قوله: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا). . المعنى: قولوا جميعاً خضعنا وأظهرنا الإسلام. وباطنهم غير ظاهِرهم لأن هُؤلاءِ. منافقون فأظهر اللَّه عزَّ وجلَّ النبي على أسْرارِهم، فالمسلم على ضَرْبين مظهِرٌ القبولَ ومبطن مثلَ ما يُظْهِر، فهذا يقال له مؤمن، ومسلم إنما يظهر غير ما يبطن فهذا غير مؤمن، لأن التصديق والِإيمان هو بالإِظهار مع

(130)

القبول، ألا ترى أنهم إنما قيل لهم (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ)، أي أظهرتم الإيمان خشية. وقوله " عزَّ وجلَّ: (وأرِنَا منَاسِكَنَا). معناه عَزِفْنَا متعبداتنا، وكل متعبَّد فهو مَنْسَك ومَنْسِكِ، ومن هذا قيل للعابد ناسك، وقيل للذبيحة المتقرب بها إلى الله تعالى النسيكة، كأنَّ الأصل في النسك إنما هو من الذبيحة للَّهِ جلَّ وعزَّ. وتقرأ أيضاً (وأرنا) على ضربين: بكسر الراءِ وبإسكانها والأجود الكسر. وإنما أسكن أبو عمرو لأنه جعله بمنزلة فَخِذ وعَضُد وهذا ليس بمنزلة فخذ ولا عضد، لأن الأصل في هذا " أرْئِنَا " فالكسرة إنما هي كسرة همزة ألقيت. وطُرحت حركتها على الراء فالكسرة دليل الهمزة، فحذفها قبيح، وهو جائز على بعده لأن الكسر والضم إنما يحذف على جهة الاستثقال. فاللفظ بكسرة الهمزة والكسرة التي في بناءِ الكلمة واللفظ به واحد، ولكن الاختيار ما وصفنا أولاً. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإنَهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) معنى (مَنْ) التقرير والتوبيخ، ولفظها لفظ الاستفهام وموضعها رفع بالابتداءِ، والمعنى ما يرغب عن ملة إبراهيم إلا مَنْ سَفه نَفْسَه، والملَّةُ قد بيناها وهي السُّنَّة والمذهب، وقد أكْثَر النحويونَ واختلفوا في تفسير (سفه نفسه)، وكذلك أهل اللغة، فقال الأخفش: أهل التأويل يزعمون أن المعنى (سَفَه نفسه)، وقال يونس النحوي: أراها لغة،. وذهب يونس إلى أن فَعِل للمبالغة، - كما أن فعُل للمبالغة فذهب في هذا مذهب التأْويل، ويجوز على

هذا القول سَفِهْتُ زيداً بمعنى سَفهْتَ زيداً، وقال أبو عبيدة معناه أهلك نفسه، وأوْبَق نفسه، فهذا غير خارج من مذهب أهل التأويل ومذهبِ يونس. وقال بعض النحويين: إِن نفسه منصوب على التفسير، وقال التفسير في النكرات أكثر نحو طاب زيدٌ بأمره نفسا، وقَر بِه عيْناً وزعم أن هذه المُفَسِّرات المعارف أصل الفعل لها ثم نقل إِلى الفاعل نحو وجِعَ زيدٌ رأسَه، وزعم أن أصل الفعل للرأس وما أشبهه، وأنه لا يجيز تقديم شيءٍ من هذه المنصوبات وجعل (سفه نفسه) من هذا الباب. قال أبو إسحاق: وعندي أن معنى التمييز لا يحتمل التعريف لأن التمييز إِنما هو واحد يدل على جنسٍ أو خلة تخلص من خلال فإذا عرفه صار مقصوداً قصده، وهذا لم يقله أحد ممن تقدم من النحويين. وقال أبو إِسحاق: إِن (سفه نفسه) بمعنى سفُه في نَفْسه إِلا أن " في " حُذِفَتْ، كما حذفت حروف الجر في غير موضع. قال الله عزَّ وجلَّ: (ولا جناح عليكم أنْ تسترضعوا أولادكم). والمعنى أن تسترضعوا لأولادكم، فَحُذِفَ حرف الجرّ في غير ظرف، ومثله قوله عزَّ وجلَّ: (ولا تعزموا عقدة النكاح) أي على عقدة النكاح ومثله قول الشاعر: نُغالي اللحمَ للأضيافِ نَيْئاً. . . ونَرْخُصُهُ إذا نَضِجَ القدورُ المعنى: نغالي باللحم، ومثله قول العرب: ضرب فلان الظهر والبطن

(131)

والمعنى: على الظهر والبطن. فهذا الذي استعمل من حذف حرف الجر موجود في كتاب اللَّه، وفي إشعار العرب وألفاظها المنثورة، وهو عندي مذهب صالح. والقول الجَيِّد عندي في هذا أن سفه في موضع جهل، فالمعنى: - واللَّه أعلم - إلا من جهل نفسه، أي لم يفكر فى نفسه. كقوله عزَّ وجلَّ: (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ)، فوضع جهِل. وعدى كما عدى. فهذا جميع ما قال الناس في هذا، وما حضرنا من القول فيه. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا). معناه اخترناه ولفظه مشتق من الصفوة. (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ). فَالصالحُ في الآخرة الفائز. * * * وقوله: (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) معناه اصطفاه إِذ قال له ربه أسلم: أي في ذلك الوقت (قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ). * * * وقوله: (وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) قوله: (بِهَا) هذه الهاءُ ترجعِ على الملة، لأن إِسلامه هو إِظهار طريقته وسنته ويدل على قوله: (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ) قوله: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ). وإنما كسرت " إنَّ) لأن معنى وصي وأوصى: قَوْل: المعنى قال لهم إِن اللَّه اصطفى لكم الدين، ووصى أبلغ من أوصى، لأن أوصى جائز أن يكون قال لهم مرة واحدة، ووصَّى لا يكون إلا لمرات كثيرة. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ).

(133)

إن قال قائل كيف ينهاهم عن الموت، وهم إنما يمَاتُون، فإنما وقع هذا جملى سعة الكلام، وما تكثر استعماله " العرب " نحو قولهم: " لا أريَنك ههنا "، فلفظ النهي إِنما هو للمتَكَلِّم، وهو في الحقيقة للمُكَلَّمِ. المعنى: لا تكونن ههنا فإن من كان ههنا - رأيته - والمعنى في الآية: ألزموا الإسلام، فإذا أدرككم الموتُ صادَفكم مُسْلمين. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) ْالمعنى: بل أكنتم شهداءَ إذ حضر يعقوب الموت، إذْ قَالَ لِبَنِيهِ " فقولك: (إذ) الثانية، موضعها نصب كموضع الأولى، وهذا بَدَل مؤَكد. وقوله: (قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ). القراءَة على الجمع، وقال بعضهم: (وإله أبيك) كأنه كره أن يجعل العم أباه، وجعل إِبراهيم بدلاً من أبيك مبيناً عنه، وبخفض إسماعيل وإسحاق، كان المعنى إِلهك وإله أبيك وإله إسماعيل، كما تقول: رأيت غلام زيد وعمرو أي غلامهما، ومن قال: (وَإِلَهَ آبَائِكَ) فجمع وهو المجتمع عليه، جعل إبراهيم وإسماعيل وإِسحاق بدلًا، وكان موضعهم خفضاً على البدل المبين عن آبائك. وقوله عزَّ وجلَّ: (إِلَهًا وَاحِدًا). منصوب على ضربين: إن شئت على الحال، كأنهم قالوا نعبد: إلهك في حال وحدانيته، وإِن شئت على البدل. وتكون الفائدة من هذا البدل ذكر التوحيد، فيكون المعنى نعبد إِلهاً واحداً.

(134)

وقوله عزَّ وجلَّ: (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134) معنى (خَلَتْ) مضت، كما تقول لثلاث خلون من الشهر أي مضين. وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ). المعنى: إنما تسألون عن أعمالكم. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) المعنى: قالت إليهود: كونوا هوداً، وقالت النصارى: كونوا نصارى. وجزم تهتدوا على الجواب للأمر، وإنما معنى الشرط قائم في الكلمة. المعنى إن تكونوا على هذه الملة تهتدوا، فجزم تهتدوا على الحقيقة جواب الجزاءِ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (بَلْ مِلةَ إبرَاهِيمَ حَنِيفاً). تنصب الملة على تقدير بل نتبعُ ملة إِبراهيم ويجوز أن تنصب على معنى: بل نكون أهل ملة إِبراهيم، وتحذف " الأهل " كما قال الله عزَّ وجلَّ: (واسْألِ الْقَرْيَةَ الًتِي كُنَّا فِيهَا) لأن القرية لا تُسْأل ولا تجيب. ويجوز الرفع (بل ملةُ إِبراهيم حنيفاً). والأجود والأكثر: النصب. ومجاز الرفع على معنى: قل ملتُنا ودينُنُا ملة إبراهيم، ونصب (حنيفاً) على الحال. المعنى: بل نتبع ملة إِبراهيم في حال حنيفَتِه، ومعنى الحنيفة في اللغة الميل. فالمعنى: أن إبراهيم حنيف إِلى دين اللَّه، دين الِإسلام. كما قال عزَّ وجلَّ: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ) فلم يبعث نبي إِلا به. وإن اختلفت شرائعهم، فالعقد توحيد اللَّه عزَّ وجلَّ والإيمان برسله وِإن اختلفت الشرائع،

(136)

إلا أنَّه لا يجوز أن تُتركَ شريعة نبي، أو يعمل بشريعة نبي قبله تخالف شريعة نبي الأمة التي يكون فيها. وإِنما أخذ الحنفُ من قولهم: - امراة حَنْفَاءُ ورجل أحْنَف، وهو الذي تميل قدماه كل واحدة منهما بأصابعها إِلى أختها بأصابعها، قالت أم الأحنف بن قيس وكانت ترقصه، وخرج سيدَ بَنِي تميم: - والله لولا حَنَف في رجله. . . ودقة في ساقه من هُزْلِه ما كان في فِتْيانِكم منْ مِثْله * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) (لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) المعنى: لا نكفر ببعض ونؤمن ببعض. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) فإِن قال قائل: فهل للإيمان مِثْلٌ هو غير الِإيمان؟ قيل له: المعنى واضح بين، وتأويله: فإِن أتَوْا بتصديق مثل تصديقكم وإِيمانكم - بالأنبياءِ، ووحَّدوا كتوحيدكم - فقد اهتدوا، أي فقد صاروا مسلمين مثلكم. (وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ) أي في مشاقة وعداوة ومن هذا قول الناس: فلان قد شق عصا المسلمين، إِنما هو قد فارق ما اجتمعوا عليه من اتباع إِمامهم، وإِنما صار في شق - غير شق المسلمين. وقوله جمزّ وجلَّ: (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ). هذا ضمان من اللَّه عزَّ وجلَّ في النصر لنبيه - صلى الله عليه وسلم - لأنه إِنما يكفيه إِياهم

(138)

بإظهار ما بعثه به على كل دين سواه - وهذا كقوله: (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) فهذا تأويله - واللَّه أعلم. وكذا قوله: (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي). فإن قال قائل فإن من المرْسَل مَنْ قُتِل. فإن تأويل ذلك - والله أعلم - أن اللَّه غالب هو ورسله بالحجة الواضحة، والآية البينة، ويجوز أن تكون غلبةَ الآخرة لأن الأمر هو على ما يستقر عليه في العاقبة. وقد قيل: إِن الله لم يأمر رسولاً بحرب فاتبع ما أمره الله به في حربه إِلا غَلَب. فعلى هذا التأويل يجوز أن يكون لم يقتل رسول قط محارباً. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138) يجوز أن تكون (صبغة) منصوبة على قوله: (بل نتبع ملة إبراهيم) أي بل نتبع صبغة اللَّه. ويجوز أن يكون نصبها على، بل نكون أهل صبغة الله. كما قلنا في ملة إبراهيم، ويجوز أن ترفع الصبغة على إضمار هي، كأنهم قالوا: هي صبغة اللَّه أي هي ملة إِبراهيم صبغة الله. وقيل: إِنما ذكرت الصبغة لأنَّ قوماً من النصارى كانوا يصبغون أولادهم في ماءٍ لهم، ويقولون هذا تطهير كَمَا أن الختان تطهير لكم: فقيل لهم -: (صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً)، أي التطهير الذي أمر به مبالِغٌ في النظافة. ويجوز أن يكون - واللَّه أعلم - صبغة الله أي خلقة اللَّه - جلَّ وعزَّ - الخلق، فيكون " المعنى:. أن اللَّه ابتدأ الخلق - على الِإسلام، ويكون دليل هذا القول قول الله عزَّ وجلَّ: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى). وجاءَ في الحديث: أنهم

(139)

أخرجهم كالذر، ودليل هذا التأويل أيضاً قوله عزَّ وجلَّ: (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَ) ويجوز أن يكون منه " الخبر: " كل مولودٍ يُولَد على الفطرة حتى يكون أبواه هما اللذان يهودانه أو ينصرانه " وصبغت الثوب إِنما هو غيرت لونه وخلقته. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) في (أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ) لغات فأجودها: (أتحاجوننا) بنونين وإن شئت بنون واحدة - " أتُحَاجُونَّا " على إدغام الأولى في الثانية وهذا وجه جيد، ومنهم من إِذا أدغم أشار إِلى الفتح كما قراوا: (مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ) على الإدغام والِإشارة إِلى الضم، وإِن شئت حذفت إِحدى النونين فقلت (أتحاجونَا) فحذف لاجتماع النونين قال الشاعر: تراه كالثغام يُعَلُّ مسكا. . . يسوءِ الغانِيات إِذَا فَليني يريد فَلَيْنَنَي، ورأيت مذهب المازني وغيره ردُّ هذه القراءَةَ، وكذلك ردُّوا (فبم تبشرونِ) - قال أبو إِسحاق " والأقدام على رد هذه القراءَة غلط لأن نَافِعاً رحمه الله قرأ بها، وأخبرني إِسماعيل بن إسحاق أنَّ نافعاً رحمه اللَّه

(140)

لم يقرأ بحرف إلا وأقل. ما قرأ به إثنان من قراءِ المدينة، ولَه وجْه في العربية فلا ينبغي أن يرد، ولكن " الفتح " في قوله (فبم تبشرونَ) أقوى في العربية. ومعنى قوله: (قلْ أتُحاجُّونَنَا فِي اللَّهِ) أن الله عزَّ وجلَّ أمر المسلمين أن يقولوا لليهود الذين ظاهروا من لا يوحد اللَّه عزَّ وجلَّ مِن النًصارى وعبدةِ الأوْثَانِ، فأمر الله أن يحتج عليهم بأنكم تزعمون أنكم موحدون، ونحن نوحّد فلم ظَاهرْتُمْ مِن لا يوحِّدُ الله جلَّ وعزَّّ (وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ). ثم أعلموهم أنهم مخلصون، وإخلاصهم إِيمانهم بأن الله عزَّ وجلّ واحد، وتصديقهم جميع رسله، فاعلموا أنهم مخلصون، دون من خالفهم. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140) كَأنَّهُمْ قَالُوا لَهُم: بأيِّ الحُجتَين تَتَعَلَّقُون في أمْرِنَا؟ أبالتوحِيد فنحن موحدون، أم باتباع دين الأنبياءِ فنحن متبعون. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ). تأويله: أن النبى الذي أتانا ب (الآيات) المعجزات وأتاكم بها - أعلمكم، وأعلمنا أن الإِسلام دين هُؤلاءِ الأنبياءِ. والأسباط هم " " الذين من ذرية الأنبياءِ، والأسباط اثنا عشر سِبْطاً وهم ولد يعقوب عليه السلام، ومعنى السبط في اللغة: الجماعة الذين يرجعون إلى أب واحد، والسبط في اللغة الشجرة، فالسبط، الذين هم من شجرة واحدة.

(141)

وقوله: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ). يعني بهم هُؤلاءِ الذين هم علماء إليهود، لأنهم قد علموا أن رسالة النبي حق، وإِنما كفروا حسداً - كما قال الله عزَّ وجلَّ - وطلبا لدوام رياستهم وكسبهم، لأنهم كانوا - يتكسبون بإِقامتهم على دينهم فقيل وَمَنْ أظَلَمُ مِمَن كَتَمُ أمرَ النّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ولا أحدَ أظْلَم مِنْه وقوله: (وَمَا اللَّه بغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُوْنَ). يعني: من كتمانكم ماعلمتمه من صحة أمرالنبي - صلى الله عليه وسلم -. * * * وقوله: (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141) المعنى: لها ثواب ما كسبت، ولكم ثواب ما كسبتم. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) فيه قولان، قيل يعني به: كفار أهل مكة، وقيل يعني به: إليهود والسفهاءَ واحدهم سفيه، - مثل شهيد وشهداءُ، وعليم وعلماءُ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا) معنى؛ (مَا وَلَّاهُمْ): ما عدلهم عنها يعني قبلة بيت المقدس. لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أُمِرَ بالصلاة إِلى بيت المقدس، لأن مكة وبيت الله الحرام كانت العرب آلِفةً لِحجّهِ، فأحبَّ اللَّهُ - عزَّ وجلَّ - أن يمتحن القوم بغير ما ألفوه ليظهر من يتبع الرسول - صلى الله عليه وسلم - ممن لا يتبعه، كما قال اللَّه عزَّ وجلَّ: (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ) فامتحن الله ببيت المقدس فيما روى لهذه العلة، والله أعلم. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ). معناه حيث أمر الله أن يُصَلَّى وُيتَعَبَّدُ، فهو له، وعالم به، وهو فيه كما

(143)

قال: (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3) وكما قال: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ). وكما قال: (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ). * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) معناهّ: طريق مستقيم كما يحبُّ الله. * * * وقوله: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143) معنى الأمة: الجماعة أي جماعة كانت إلا أن هذه الجماعة وصفت بأنها وسط. وفي (أُمَّةً وَسَطًا) قولان، قال بعضهم وسطا: عدلًا، وقال بعضهم: أخياراً، واللفظان مختلفان والمعنى واحد، لأن العدل خير والخير عدل. وقيل في صفة النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنه من أوسط قومه جِنْساً، أي من خيارها، والعرب تصف الفَاضِل النسب بأنه: من أوسط قومه، وهذا يعرف حقيقته أهل اللغة لأن العرب تستعمل التمثيل كثيراً " فتمثل القبيلة بالوادي والقاع وما أشبهه فخير الوادي وسطه فيقال: هذا من وسط قومه، ومن وسط الوادي، وسَررِ الوادي وسِرَارة الوادي وسر الوادي، ومعناه كله: من خير مكان فيه، فكذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - من خير مكان في نسب العرب (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) أي خياراً * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) (تَكُونُوا) في موضعْ نصب. المعنى جعلناكم خياراً لأن شهداءَ، فنصب " تكونوا " " بأن. و (شهداءَ) نصب خبر تكونوا، إِلا أن (شهداءَ)

لا ينون، لأنه لا يَنصرِف لأن فيه ألفَ التأنيث، وألف التأنيث يبنى معها الاسم ولم يلحق بعد الفراغ من الاسم فلذَلك لمْ تَنصَرِفْ (شهداءَ). فإن قال قائل: فلم جعل الجمع بألف التأنيث قيل: كما جعل التأنيث في نحو قولك جَريب وأجْربة، وغراب وأغربة وضارب وضَرَبَة، وكَاتِب وكَتبَة. وتأويل (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى الناسِ) فيه قولان: جاءَ في التفسير أن أممَ الأنبياءِ تكذب في الآخرة إذا سُئِلت عمن أرسل إليها فتجْحَدُ أنبياءَها، هذا فَيمنَ جحد في الدنيا منهم فتشهد هذه الأمة بصدق الأنبياءِ، وتشهد عليهم بتكذيبهم، ويشهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لهذه الأمة بصدقهم وإنَّما جازت هذه الشهادة، وإن لم يكونوا ليعاينوا تلك الأمم لأخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - فهذا قول. وقال قوم (لِتَكونُوا شهَداءَ عَلَى النَّاسِ) أي محتجين على سائر من خالفكم، ويكون الرسول محتجاً عليكم ومبيناً لكم. والقول الأول: أشبه بالتفسير وأشبه بقوله: (وَسَطاً) لأن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يحتج عَلَى المسلمين وغيرهم. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ). يعني قِبْلَة بيتِ المقدِس، أي وإن كان اتباعها لكبيرة. المعنى إنه كبير على غير المخلصين، فأما من أخلص فليست بكبيرة عليه، كما قال: (إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ) أي فليست بكبيرة عليهم. وهذه اللام دخلت على " إِنْ " لأن اللام إِذا لم تدخل مع إِنْ الخفيفة كان الكلام جُحْداً فلولا " اللام " كان المعنى " ما كانت كبيرة " فإِذا جاءَت إِن واللام فمعناه التوكيد للقصة، واللام تدخل في

(144)

الخبر، ونحن نشرح دخولها على " الخفيفة " في موضعها إن شاءَ اللَّه. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ). هذه اللام أهي، التي يُسميها النحويون لام الجحود، وهي تنصب الفعل المستأنف. وقد أحكمنا شرحها قبل هذا الموضوع. ومعنى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ): أي من كان صَلَّى إلَى بيْتِ المقدس قبل أن تُحوّل القبلة إِلى البيت الحرام بمكة فصلاتُه غير ضائعة وثوابه قائم، وقيل: إِنَّه كان قوم قالوا: فما نَصنع بصَلاتِنَا التي كنا صليناها إلى بيت المقدس، فأنزل اللَّه عزَّ وجلَّ: (ومَا كَانَ اللَّه ليُضِيعَ إيَمَانَكُمْ) أي تصديقكم بأمر تلك القبلة. وقيل أيضاً: إِنَّ جماعة. من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - تُوفُّوا وهم يصلون إِلى بيت المقدس قبل نقل القبلة إلى بيت اللَّه الحرام، فسئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صلاتهم فأنزل الله عزَّ وجلَّ: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ) إِن شئت قلت لرؤوف، وإِن شئت لرووف رحيم. فهمزت وخففت ومعنى الرأفة كمعنى الرحمة. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) المعنى: في النظر إلى السماءِ، وقيل: تقلب عينك، والمعنى واحد لأن التقلب إنما كان لأن - النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بترك الصلاة إِلى بيت المقدس فكان ينتظر أن ينزل عليه الوحي إلى أي قبلة يُصَلِّي، وتقلب مَصْدر تَقَلَّبَ تقلُّباً، ويجوز في الكلام تِقْلَاباً، ولا يجوز في القرآن لأنه تغيير للمصْحفَ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا):

قد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة حين أمر بأن ينتقل عن الصلاة إِلى بيت المقدس، فأمر بأن يصلي إِلى بيت اللَّه الحرام، وقيل في قوله: (ترضاها) قولان قال قوم معناه تحبها، لا أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن راضياً بتلك القبلة، لأن كل ما أمر الله الأنبياءَ " عليهم السلام " به فهي - راضية به - وإِنما أحبها النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنها كانت - فيما يروى - قبلة الأنبياءِ، وقيل لأنها كانت عنده ادعى لقومه إِلى الِإيمان. وقوله عزَّ وجلَّ: (فَولِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ) أي المسجد الحرام، فأمر أن يستقبل - وهو بالمدينة - مكة، والبيت الحرام، وأمر أن يستقبل البيت حيث كان الناس، ومعنى الشطر: النحو. وشطر منصوب على الظرف. قال الشاعر: إِنّ العَسِيرَ بها داءٌ يخامرها. . . فَشَطْرَها نظر العينين محسور أي فنحوَها، ولا اختلاف بين أهل اللغة أن الشطر النحو، وقول الناس فلان شاطر، معناه " قد أخذ في نحو غير الاستواءِ، فلذلك قيل شاطر لعدوله عن الاستواءِ، يقال قد شطر الرجل يشطُر شِطَارة وشَطَارة، ويقال: هؤلاءِ قوم مشاطرونا أي دورهم تتصل بدورنا -، كما تقوِل هؤلاءِ يناحوننا أي نحن نحوهم، وهم نحونا، فلذلك هم شاطرونا. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ)

(145)

إِن قال قائل ما معنى: (إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ) واللَّه عزَّ وجلَّ - قد علم ما يكون قبل كونه؟ فالجواب في ذلك أن اللَّه يعلم من يتبع الرسول مِمن لا يتبعه من قبل وقوعه وذلك العلم لا تجب به مجازاة في ثواب ولا عقاب ولكن المعنى ليعلم ذلك منهم شهادة فيقع عليهم بذلك العلم اسمُ مطيعين واسمُ عاصين، فيجب ثوابهم على قدر عملهم. ويكون معلومُ مَا في حال وقوع الفعل منهم علم شهادة - كما قال عزَّ وجلَّ: (عَالمُ الغَيْبِ والشَهَادَةِ) فعلمه به قبل وقوعه علم غيب، وعلمه به في حال وقوعه شهادة، وكل ما علمه الله شهادة فقد كان معلوماً عنده غيباً، لأنه يعلمه قبل كونه، وهذا يبين كل ما في القرآن مثله نحو قوله تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31). * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145) زعم بعض. النحويين، أن " لَئِنْ " أجِيب بجواب " لوْ " لأن الماضي وَليها كما وَليَ " لو " فأجيب بجواب " لو " ودخلت كل واحدة منها على أختها قال اللَّه عزَّ وجلَّ: (وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51). فجرت مجرى: " وَلَوْ أرْسَلْنَا رِيحاً " وكذلك قال الأخفش بهذا

القول، قال سيبويه وجميع أصحابه: إن معنى (لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ). ليظَلُّنَّ ومعنى (لَئِنْ) غير معنى " لو " في قول الجماعة، وإِن كان هؤُلاءِ قالوا إِنَّ الجواب متفِق فإِنهم لا يدْفعون أن معنى (لئن) مايستقبل ومعنى " لو " ماض وحقيقة معنى " لو " أنها يمتنع بها الشيء لِامتناع غيره، تقول لو أتيْتني لأكْرمتُك، أي لم تأتني فلمْ أكرمكَ، فإِنما امتنع إكرامي لامتناع إِتيانك. ومعنى " إِنْ " و (لئِنْ) أنه يقع الشيء فيهما، لوقوع غيره في المستقبل تقول إِنْ تأتِنِي اكْرِمْكَ، فالإكرام يقع بوقوع الِإتيان فهذه حقيقة معناهما. فأما التأويل فإنّ أهل الكتاب قد علموا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حق وأن صفته ونبوته في كتابهم، وهم يحققون العلم بذلك فلا تغني الآيات عند من يجد ما يعرف. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ). لأن أهل الكتاب تظاهروا على النبي - صلى الله عليه وسلم - واليهودُ لا تتبع قبلة النصارى، ولا النَصارى تتبع قبلة إليهود، وهم مع ذلك في التظاهر على النبي متفقون. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ)). أي أنك لمنهم أن اتبعتَ أهواءَهم. وهذا الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولسائر أُمَّتِه، لأن ما خوطب به (مِنْ هذَا الجنس) فقد خوطب به الأمة والدليل على ذلك قوله عزَّ وجلَّ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ) أول الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - وليس معه لفظ الأمة، وآخره دليل أن الخطاب عام.

(146)

وقوله عزَّ وجلَّ: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) يعني به علماءُ إليهود. و (الذين) رفع بالابتداءِ، وخبر (الذين) - (يَعْرفونَه)، وفي (يَعْرفونَه) قولان: قال بعضهم: يعرفون أن أمر القبلة وتحول النبي - صلى الله عليه وسلم - من قِبلِ بيتِ المقدس إِلى البيت الحرام حق. كما يعرفون أبناءَهم. وقيل معنى (يَعْرفونَه) يعرفون النبي - صلى الله عليه وسلم - وصِحة أمره. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أي يعلمون (أنَّهُ الحقُّ)، أي يكتمون صِفَتَهُ، ومن لا يعلم أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - وما جاءَ به (وهم يعلمون) أنَّهُ الحقُّ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) أَي من الشاكين والخطاب أيضاً عام أي فلا تكونوا من الشاكين. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148) يقال هذه جِهةٌ ووَجْهةٌ، ووِجْهَةٌ، وكذلك يقال ضَعَة وَوَضْعَةٌ، وَضِعةَ. وقيل في قوله: (هُوَموليًهَا) قَوْلَان: قال بعض أهل اللغة - وهو أكثر القول - " هو " لِكُل: المعنى هو موليها وجهه، أي وكل أهل وجهة هم الذين ولوا وجوههم إِلى تلك الجهة - وقد قرئ أيضاً - هو مُوَلَّاها. وهو حسن. وقال قوم: أي اللَّه - على ما يزعمون - يولي أهل كل ملة القبلة التي يريد، وكلا القولين جائز، واللَّه أعلم. وقوله عزَّ وجلَّ: (فاسْتَبِقُوا الخَيراتِ).

(150)

أي فبادروا إلى القبول من - الله عزَّ وجلَّ، ووَلُّوا وجوهكم حيث أمركم أن تولوا. وقَوله عزَّ وجلَّ: (أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا). أي يرجعكم إِليه. (إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فَتُوفَوْنَ مَا عَمِلتُمْ وأينما تَجزم ما بعدها. لأنها إِذا وصلت ب " ما " جزمت ما بعدها وكان الكلام شرطاً. وكان الجواب جزماً كالشرط. وإِن كانت استفهاماً نحو أين زيد فإِن أجبته - أجبت بالجزم، تقول أين بيتك أزُرْك. المعنى إِنْ أعرف بَيتَك أزرْكَ. وزعمَ بعض النحويين أن قوله: (هّلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) جوابه (يَغْفِرْ لَكُمْ) وهذا خطأٌ لأنه ليست بالدلالة تَجب المغفرة إِنما تجب المغفرة بقبولهم ما يُؤَدي إِليهم النبي - صلى الله عليه وسلم -. ولكن (يغفر لكم ذنوبكم) جواب (تؤمنونَ باللَّه ورسوله وتجاهدون). فإِنه أَمرٌ في لفظ خبر. المعنى: آمنوا باللَّه ورسوله وجاهدوا يغْفِرْ لكُمْ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150) (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ) أي قد عرفكم اللَّه أمر الاحتجاج في القبلة مما قد بيَّنَّاه لئلا يَكون للناس على اللَّه حجة في قوله: (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا) أي هو موليها لئلا يكون. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (إِلَّا الَّذِينَ ظَلمُوا مِنْهُم فلا تَخْشَوْهُمْ). قال بعضهم لكن الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم، والقول عندي أن المعنى في هذا واضح: (المعنى لئلا يكون للناس عليكم حجة، إِلا من ظلم

(151)

باحتجاجه فيما قد وضح له، كما تقول: ما لك على مِنْ حُجة إِلا الظلمَ، أي إلا أن تظلمني، المعنى ما لك عليَّ من حجة ألبتَّة، ولكنك تظلمني، وما لك على حجة إِلا ظلمي. وإِنما سُميّ ظلمة هنا حجة لأن المحتج به سماه حجة - وحجَّتُه دَاحِضَةٌ عِنْدَ اللَّهْ، - قال اللَّه عزَّ وجلَّ: (حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ). سميت حجة إلا أنها حجة مُبْطلَة. ْفليست بحجة موجبة حقاً. وهذا بيانٌ شاف إِن شاءَ اللَّه. وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ) أي عرفتكم لئلا يكون عليكم حجة (وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ)، (وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ). * * * وقوله عزَّ ونجل: (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) (كَمَا) تصلح أن تكون جواباً لما قبلها، فيكون: (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ). والأجود أن تكون (كَمَا) معلقة بقوله عزَّ وجلّ (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ). أي فاذكروني بالشكر والإِخلاص كما أرسلنا فيكُمْ. فإن قال قائل فكيف يكون جواب " (كَمَا أَرْسَلْنَا) (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ)، فالجواب ههنا إنما يصلح أن يكون جوابين لأن قوله، (فَاذْكُرُونِي) أمر، وقوله (أَذْكُرْكُمْ) جزاءُ اذكروني: والمعنى إن تذكروني أَذْكُرْكُمْ. .

(153)

ومعنى الآية أنها خطاب لمشركي العرب، فخاطبهم اللَّه عزَّ وجلَّ بما دلهم على إِثبات رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال كما أرسلنا فيكم محمداً - صلى الله عليه وسلم - وهو رجل منكم أُمِّي تعلمون أنه لم يتل كتاباً قبل رسالته ولا بعدها إلا بما أوحي إليه. وإنكم كنتم أهل جاهلية لا تعلمون الحكمة ولا أخبار الأنبياءِ، ولا آبائهم ولا أقاصيصهم. فأرسل إِليكم النبي - صلى الله عليه وسلم - فأنبأكم بأخبار الأنبياءِ، وبما كان من أخبارهم مع أممهم، لا يدفع ما أخبر به أهل الكتاب، فكما أنعمت عليكم بإِرساله فاذكروني - بتوحيدي، وتصديقه - صلى الله عليه وسلم - (واشكروا لي) أذكركم برحمتي ومغفرتي والثناءِ عليكم. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلا تَكْفُرونِ). الأكثر الذي أتى به القُرَّاءُ حذف الياءات مع النون. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) (يَا أَيُّهَا) نداء مفرد مبهم و (الذين) في موضع رفع صفة لـ (أَيُّهَا). هذا مذهب الخَليل وسيبويه، وأما مذهب الأخفش. فالذين صلة لأي وموضع الذين رفع بإِضمار الذكر العائد على أي كأنَّه على مذهب الأخفش بمنزلة قولك: يا من الذين، أي يا من هم الذين. و" ها " لازمة لأي عوض عما حذف منها للِإضافة، وزيادة في التنبيه. وأي في غير النداءِ لا يكون فيها " هاء " ويحذف معها الذكر العائد عليها، تقول أضرب أيُّهم أفضل، وأيُّهم هو أفضل - تريد الذي هو أفضل. وأجاز

(154)

المازني أن تكون صفة أي نصباً. فأجاز: يا أيها الرجُلَ أقبل، وهذه الِإجازة غير معروفة في كلام العرب، ولم يجز أحد من النحويين هذا المذهب قبله، ولا تابعة عليه أحد بعده - فهذا مطروح مرذول لمخالفته كلام العرب والقرآن وسائر الأخبار. ومعنى (استعينوا بالصبر والصلاة) أي بالثبات على ما أنتم عليه. وإن نالكم فيه مكروه في العاجل، فإِن الله مع الصابرين. وتأويل إن اللَّه مَعَهُمْ أي يظهر دينه على سائر الأديان. لأن من كان الله معه فهو الغالب - كما قال عزَّ وجلَّ: (فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ). ومعنى استعينوا بالصلاة، أي أنكم إِذا صليتم تلوتم في صلاتكم ما تعرفون به فضل ما أنتم عليه فكان ذلك لكم عوناً. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154) بإضمار مكنيهمْ، أي لا تقولوا هم أموات، فنهاهم اللَّهْ أن يُسَمُّوا من قتل في سبيل الله ميْتاً، وأمرهم بأن يسموهم شُهداءَ - فقال: (بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) فأعلمنا أن من قتل في سبيل اللَّه حي. فإِن قال قائل: فما بالنا نرى جثة غير مُتَصرفة؟ فإِن دليل ذلك مثل ما يراه الإنسان في منامه، وجثته غير متصرفة على قدر ما يُرى واللَّه عزَّ وجلَّ قد توفى نفسه في نومه فقال تعالى: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا). وينتبه المنتبه من نومه فيدركه الانتباه وهو في بقية من ذلك، فهذا دليل أن أرواح الشهداءِ جائز أن

(155)

تفارق أجسامهم، وهم عند اللَّه أحياءٌ، فالأمر فيمن قُتِلَ في سبيل الله لا يجب أن يقال له ميت لكن يقال له شهيد وهو عند الله حى. وقد قيل فيها قول غير هذا - وهذا القول الذي ذكرته آنفاً هو - الذي أخْتَاره -. قالوا معنى الأموات أي لا تقولوا هم أموات في دينهم، بل قولوا إِنهم أحْياءٌ في دينهم. وقال أَصحاب هذا القول: دليلنا والله أعلم - قوله: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا) فجعل المهتدي حياً وانَّه حين كان على الضلالة كان ميتاً، والقول الأول أشبه بالدين وألْصقُ بالتفسير. قوله عزَّ وجلَّ: (وَلنَبْلُوَنَكُمْ بشَي منَ الخَوفِ وَالجُوع). (إختلف النحويون في فتح هذه الواوي) فقال سيبويه: إنها مفتوحة لالتقاءِ السَّاكنين، وقالّ غيره من أصحابه أنها مبنيه علي الفتح ص* وقَدْ قال سييويه في لام يفعل، لأنها مع ذلك قد تبنى على الفتحة، فالذين قالوا من أصحابه إِنها مبنية على الفتح غير خارجين من قول له. وكلا القولين جائز.: + * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) ولم يقل بأشياءَ، فإِنما جاءَ على الاختصار، والمعنى يدل على أنَّه وشيءٍ من الخوف وشيءٍ من الجوع وشيءٍ من نقص الأموال والأنفس، وإِنما جعل الله هذا

(156)

الابتلاءَ لأنه أدْعى لمن جاءَ بعد الصحابة ومن كان في عصر - صلى الله عليه وسلم - إِلى اتباعهم لأنهم يعلمون أنه لا يصبر على هذه الأشياءِ إِلا من قد وضح له الحق وبانَ له البرهان، - واللَّه عزَّ وجلَّ - يعطيهم ما ينالهم من المصائب في العاجل والآجل، وما هو أهم نفعاً - لهم فجمع بهذا الدلالة على البصيرة وجوز الثواب للصابرين على ذلك الابتلاء فقال عزَّ وجلَّ: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ): بالصلاة عليهم من رَبِّهم والرحمة وبأنهم المهتدون - فقال عزَّ وجلَّ: (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أي نحن وأموالنا للَّهِ ونحن عبيده يصنع بنا ما شاءَ، وفي ذلك صلاح لنا وخيرٌ. (وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ): أي نحن مصدقون بأنا نُبْعث ونُعْطي الثًوابَ على تصديقنا، والصبرَ علَى ما ابتَلَانا به. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157) والصلاة في اللغة على ضرببن: أحدهما الركوع والسجود، والآخر الرحْمَةُ والثناءُ والدعاءُ - فصلاةٌ الناس على الميت إِنما معناها الدعَاءُ والثناء على الله صلاة، والصلاة من اللَّهْ عزَّ وجلَّ على أنبيائه وعباده معناها الرحمة - لهم، والثناء عليهم، وصلاتنا الركوع والسجود كما وصفنا. والدعاءُ صلاة قال الأعشى: عليك مثل الذي صليتِ فاغتَمِضِي. . . نَوماً فإِن لجنب المرءِ مضطجعاً ويروى مثل الذي صليت، فمن قال عليك مثل الذي صليت، فمعناه

أنه يأمرها بأن تدعو له مثل الذي دعا لها. أي تعيد الدعاءَ له ومن روى عليك مثل الذي صليتِ فهو رَد عليها. كأنه قال عليك مثل دعائك، أن ينالك من الخير مثلُ الذي أرَدْتِ لِي بهذه ودعوتِ به لي - وقال الشاعر: صَلى على يحيى وأشْيَاعِه. . . رَبٌّ كَرِيمٌ وَشَفِيعٌ مُطَاع المعنى عليه الرحمة من اللَّه والثناءُ الجميل. وأصل هذا كله عندي من اللزوم يقال صَلِيَ وأصْلَى واصْطَلى، إذَا لَزِم. ومن هذا ما يُصْلى في النار، أىِ أنه يلزَم. وقال: أهل اللغة في الصلاة هي من الصَّلْوينِ، وهما مُكتَنفَا ذَنب الناقة. وأول موصل الفخذ من الإنسان، وكأنهما في الحقيقة مُكتنف العُصْعُص. والأصل عندي القول الأول. ألا ترى أن الاسم للصيام هو الِإمساك عن الطعام والشراب، وأصل الصيام الثبوت على الإمساك عن الطعام، وكذلك الصلاة إنما هي لزوم ما فرض اللَّه، والصلاة من أعظم الفَرْضِ الذي أمَرَ بلزومه وأما المصلي الذي يأتي في أثر السابق منَ الخَيْل فهو مسمى من الصلوين لا محالة، وهما مكتنفا ذنب الفرس، فكأنة يأتي مع ذلك المكان. - قال الشاعر في الصيام الذي هو ثبوت على القيام: خَيْل صيام وخيل غير صائمة. . . تحت العجاج وخيل تعلك اللجما وقوله تعالى: (وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ).

(158)

الأكثرون في قوله: (إِنَّا لِلَّهِ) - تفخيم الألف ولزوم الفتح - وقد قيل وهو كثير في كلام العرب إِنَّ اللَّه بإِمالة الألف إلى الكسر، وكان ذلك في هذا الحرف بكثرة الاستعمال، وزعم بعض النحوين أن النون كسرت، ولم يفهم ما قاله القوم. إنما الألف ممالة إِلى الكسرة. وزعم أن هذا مثل قولهم: " الحمدِ لله "، فهذا صواب أعني قولهم (إِنَّا لِلَّهِ) بالكسر وقولهم " الحمدِ لله من أعظم الخطأ، فكيف يكون ما هو صواب بإجماع كالخطأ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158) الصفا في اللغة الحجارةُ الصلبة الصلدة التي لا تنبت شيئاً، وهو جمع واحدته ضفاة وصفا، مثل حصاة وحصى، والمروة والمرو: الحجارة اللينة. وهذان الموضعان من شَعَائِر اللَّه، أي من أعلام متعبداته وواحدةُ الشعائر شَعِيرة، والشعائر كلى ما كان منَ موقف أو مسْعى وذبحْ. وإنما قِيلَ شَعَائِرَ لِكُل علَم لما تُعُبد به، لأن قَوْلهمْ شَعَرْتُ بِهِ: عَلِمْتهُ، فلهذَا سُمِّيَتُ الأعلَام التي هِيَ متعبّدَات شَعَائِرُ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا). وإنما كان المسلمون اجتنبوا الطواف بينهما لأن الأوثان كانت قبل الإسلام منصوبة بينهما، فقيل إنَّ نَصْبَ الأوثان بيتهما قبل الإسلام لا يوجب

اجتنابهما، لأن البيت الحرام والمشاعر طُهِّرت بالِإسلام من الأوثان وغيرها. فأعملَم اللَّهُ عزَّ وجلَّ أن هذين من شعائره وأنه لا جُناح في الطوافِ بينهما وأن من تطوع بذلك فاللَّهُ شاكر عليم. والشكر من الله عزَّ وجلَّ المجازاة والثناءُ الجميل، والحج والعمرة يكونان فرضاً وتطوعاً - والطواف بالبيت مجْراهُ مجرى الصلاة إِلا أنه يطوفُ بالبيت الحاجُّ والمعتمر، وغيرُ الحاجِّ والمعتمر، ومعنى قولهم حَجَحْتُ في اللغة قَصَدْتُ، وكل قاصدٍ شيئاً فقد حَجَّهُ، وكذلك كل قاصدٍ شيئا فقد اعتَمرهُ، قال الشاعر: يحجُ مأمومةً في قَعْرِها لَجَفٌ. . . قَاست الطبيب قَذاها كالمغاريدِ وقال الشاعر في قوله اعتمر أي قصد: لقد سما ابن معمر حينَ اعتمرْ. . . مغزىً بعيداً من بعيدٍ وضَبَر * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا). أي لا إثم عليه، والجُناح - أُخِذَ من جنح إِذَا مال وعدل عن القصد وأصل ذلك من جناح الطائر، و (أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا) فيه غير وجه: يَجوز أن يطَوَّف وأن يُطَوِّف، وأن يطُوف بهما، فمن قرأ أن يُطَوِّف بهمَا أراد أن يتطوف فأدمِغت التاء في الطاء لقرب المخرجين، ومن قرأ أن يُطَوِّف بهما فهو من طَوَّف إِذا أكثر التَّطواف. . . وفي قوله عزَّ وجلَّ: (وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا): (وجهان). إِن شئتَ قلت (وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا) على لفظ المضِى ومعناه الاستقبال لأن

(159)

الكلام شرط وجزاء فلفظ الماضي فيهءيُؤول إِلى معنى الاستقبال. ومن قرأ يَطَّوَّعْ - فالأصل يتطوع فأدغمت التاءُ في الطاءِ. ولست تدغم حرفاً من حرف إِلا قلبته إلى لفظ المدغم فيه. وقوله عزَّ وجلَّ: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) هذا إِخبار عن علماءِ إليهود الذين كَتَمُوا ما علِموه من صحة أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله: (مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ) يعني به القرآن. ومعنى (وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ). فيه غيرُ قول، أما ما يُروى عن ابن عباس فقال: (اللَّاعِنُونَ) كل شيء في الأرض إِلا الثقلين، ويروى عنْ ابن مسعود أنه قال (اللَّاعِنُونَ): الاثنان إذا تلاعنا لحقت اللعنة بمستحقها منهما، فإِن لم يستحقها واحدٌ منهما رجعت على إليهود، وقيل (اللَّاعِنُونَ) هم المؤمنون، فكل من آمن باللَّهِ من الإنس والجن والملائكة فهم - اللاعنون لليهود وجميع الكفرة فهذا ما روي في قوله (اللَّاعِنُونَ) واللَّه عزَّ وجلَّ أعلم. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) (الذين) في موضع نصب على الاستثناءِ، والمعنى أن من تاب بعد هذا وتبين منهم أن ما أتى به النبي - صلى الله عليه وسلم - حق، قبل الله توبته. فأعلم الله عزَّ وجلَّ: أنه يقبل التوبة ويرحم ويغفر الذنب الذي لا غاية بعده. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161)

(163)

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) يعني لم يتوبُوا قبل موتهم من كفرهم. (أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ)، واللعنة هي إبعاد اللَّه، وإبعاده عذابه. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ). المعنى لعنة الملائكة ولعنة الناس أجمعين. فإن قال قائل: كيف يلعنه الناس أجمعون، وأهل دينه لا يلعنونه؟ قيل لَهُ إنَّهم يلْعَنُونَه في الآخرة، كما قالَ عزَّ وجلَّ: (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا) وقرأ الحسن: "أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ [وَالْمَلَائِكَةُ وَالنَّاسُ] أَجْمَعِينَ) وهو جيد في العربية إلا أني أكرهه لمخالفته - المصحف، والقراءَة، إنما ينبغي أن يلزم فيها ْالسنة، ولزوم السنة فيها أيضاً أقوى غند أهل العربية، لأن الإجماع في القراءَة إنما يقع على الشيء الجَيِّد البالغ ورفع الملائكة في قراءَة الحسن على تأويل: أُولَئِكَ جزاؤُهم أن لَعنَهُم اللَّهِ والملائكةُ، فعطف الملائكة على موضع إعراب لله في التأويل. ويجوز على هذا عجبت من ضرب زيدٍ وعمرو ومن قيامِكَ وأخُوك: المعنى عجبت من أنْ ضَربَ زيد وعمرو ومن أن قمتَ أنتَ وأخوك. ومعنى (خالدين فيها) أي في اللعنة. وخلودهم فيها خلود في العذاب. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163) أخبَر عزَّ وجلَّ بوحدانيته ثم أخبَرَ بالاحتجاج في الدلالة على أنه واحد فقال:

(164)

(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164) فهذه الآيات تدل على أنه واحد - عزَّ وجلَّ - فأما الآية في أمر السماءِ فمن أعظم الآية لأنهها سقف بغير عمد، والآية في الأرض عظيمة فيما يُرى من سهْلِها وجبلِها وبحارها. وما فيها من معادن الذهب والفضة والرصاص والحديد اللاتي لا يمكن أحد أن ينشئ مثلها، وكذلك في تصريف الرياح، وتصريفها أنها ِتأتي من كل أفق فتكون شمالًا مرة وجنوباً مرة ودبُوراً مرة وصبا مرة، وتأتي لواقح للسحاب. فهذه الأشياءُ وجميع ما بث الله في الأرض دالة على أنه واحد. كما قال عزَّ وجلَّ: (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) - لا إله غيره لأنه لا يأتي آت بمثل هذه الآيات (إلا واحداً). * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165) فأعلم أن بعد هذا البيان والبرهان؛ تُتخذ من دونه الأنداد. وهي الأمثال، فأبان أن من الناس من يتخذ نِدُّا يعلم أنه لا ينفع ولا يضر ولا يأتي بشيء مما ذكرنا، وعنَى بهذا مشركي العرب. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ). أي يُسَوُّون بين هذه الأوثان وبين اللَّه - عزَّ وجلَّ - في المحبة. وقال بعض النحويين، يحبونهم كحبكم أنتم للَّهِ - وهذا قول ليس بشيء - ودليل نقضه قوله: (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) والمعنى أن المخلصين الذين لا يشركون مع اللَّه غيره هم المحبُّون حقاً.

وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) - إذْ يروْنَ العذَاب - (أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا). في هذا غير وجه، يجوز أنَّ القوةَ للَّهِ وأن اللَّه، ويجوز أن القوةَ للَّهِ وإن الله، ولو تَرى الذينَ ظلموا وتُفتح أن مع ترى، وتُكسَر، وكل ذلك قد قُرئ بهِ. قرأ الحسن (ولَوْ يَرَى الَّذِين ظَلَمُوا إذْ يَرَون العَذاب إِنَّ القوةَ، وإِنَّ اللَّهَ). ونحن نفسر ما يجب أن يُجْرَى عليه هذا إن شاءَ اللَّه. من قرأ أنَّ القوةَ - فموضع أن نصب بقوله - ولو يرى الذين ظلموا أن القوة للَّه جميعاً، وكذلك نصب أن الثانية - والمعنى ولو يرى الذين ظلموا شدَّةَ عذاب اللَّه وقوتَه لعلموا مضرة اتخاذهم الأنداد، وقد جرى ذكرُ الأنداد في قوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا). ويجوز أن يكون العامل في أنَّ الجوابَ، على ما جاءَ في التفسير: يروى في تفسير هذا أنه لو رأى الذين كانوا يشركون في الدنيا عذاب الآخرة لعلموا حين يرونه أن القوة للَّهِ جميعاً، ففتح أنَّ أجود وأكثر في القراءَة، وموضعها نصب في هاتين الجهتين على ما وصفنا، ويجوز أن تكون " إنَّ " مكسورةً مستأنفة، فيكون جواب (ولو يرى الذين ظلموا إِذ يرون العذاب) لرأوا أمراً عظيماً لا تبلغ صفته؛ لأن جواب لو إنما يترك لعظيم الموصوف نحو قوله عزَّ وجلَّ: (وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى) المعنى لكان هذا القرآن أبلغ من كل ما وصف. وتكون (أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا)، على الاستئناف. يُخْبِر بقوله: أن القوة للَّهِ جميعاً ويكون الجواب المتروك غير معلق بإِنَّ. ومن قرأ (ولو ترى الذين ظلموا) فإِن التاء خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - يراد به الناس

(166)

كما قال: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107). فهو بمنزلة: ألمْ تَعلموا. وكذلك ولو ترى " الذين ظلموا " بمنزلة - ولو ترون - وتكون (أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا) مستأنفة كما وصفنا. ويكون الجواب - واللَّه أعلم لرأيتم أمراً عظيماً - كما يقول: لو رأيت فلاناً والسياط تأخذه، فيُستغنى عن " الجواب لأن المعنى معلوم. ويجوز فتح أن مع ترى فيكون لرأيتم أيها المخاطبون أن القوة للَّهِ جميعاً، أو لرأيتم أن الأنداد لم تنفع، وإنما بلغت الغاية في الضرر لأن القوة للَّهِ جَميعاً. و (جميعاً) منصوبة - على الحال: المعنى أن القوة - ثابتةَ للَّهِ عزَّ وجلَّ في حال اجتماعها. * * * وقوله: (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) يعني به السادة والأشراف (مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا) وهم الأتباع والسفلة. (وَرَأَوُا الْعَذَابَ) - يُعْنَى به التابِعُونَ والمتبوعون، (وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ)، أي انقطعَ وصْلُهُم الذى كان جمعهم. كما قال: (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) فَبَيْنهُمْ وَصْلُهُمْ. والذي تقطع بينهم في الآخر كان وصل بينهم في الدنيا. وإِنما ضُمَّت الألف في قوله (اتُّبِعُوا) لضمَّةِ التاءِ، والتاءُ ضمت علامة ما لم يُسَمَّ فاعِلُه. فإن قَال قائل: فما لم يسم فاعله مضموم الأول، والتاءُ المضمومة في (اتُّبِعُوا) ثالثة، قيل إنما يضم لما لم يُسَم فاعله الأول من

(167)

متَحركات الفعل، فإذا كان في الأول ساكن اجتلبت له ألف الوصل، وضم ما كان متحركاً، فكان المتحرك من اتبعوا التاء الثانية فضمت دليلاً على ترك الفاعل، وأيضاً فإنَ في (اتُّبِعُوا) ألفَ وصل دخلت من أجل سكون فاءِ الفعل، لأن مثَاله من الفعل افْتعِلوا، فالأف ألف وصل ولا يبنى عليه ضَمة الأول في فِعْل لم يُسَمَّ فاعلُه، والفاءُ ساكنة، والسَّاكنُ لا يُبْنى عليه فلم يبق إلا الثالث، وهو التاءُ فضمت عَلَماً للفعل الذي لم يسم فاعله، فكان الثالث لهذه العلة هو الأول. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167) أي عودة إلى الدنيا فنتبرأ منهم، موضع "أن" رفع، المعنى لو وقع لنا كرورٌ لتبرأنا منهم، كما تبرأوا منا، " يقال تبرات منهم تبرؤا، وبرِئت منه بَرَاءَة وبرِئْت من المرض وبَرَأتُ أيضاً لغتان " أبرأ، بَرءًا، وبريت القلم وغيره وأبريه غير مهموز، وبرأ اللَّهُ الخلقَ بَرءًا. وقوله عزَّ وجلََّّ: (كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ). أي كـ تَبرِّي بعضهم من بعض يريهم اللَّهُ أعمَالَهُمْ حَسَراب عليهم لأن ما عمله الكافر غير نافعه مع كفره، قال الله عزَّ وجلَّ: (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ) وقال: (حَبطَتْ أَعْمَالُهُمْ) ومعنى (أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ) لم يجازهم على ما عَملوا من خير، وهذا كما تقول لمن عَمل عملاً لم يعد عليه فيه نفع: لقد ضَل سَعْيُكَ.

(168)

وقوله عزَّ وجلَّ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) هذا على ضربين: أحدهما الإباحة لأكل جميع الأشياءِ إلا ما قد حظر الله عزَّ وجلَّ من الميتة وما ذَكر معهَا، فيكون (طَيِّبًا) نعتاً للْحَلَال، ويكون طيباً نعتاً لما يستطاب، والأجود أن يكون (طَيِّبًا) من حيث يطيب لكم، أي لا تأكلوا وتنفقوا مما يحرم عليكم كقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ). * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ). أكثر القراءَة خُطُوات بِضَم الخاءِ والطاءِ، وإن شئت أسكنْتَ الطاءَ. (خُطوَات) لثقل الضمة، وإن شئت خُطَواتٍ، وهي قراءَة شاذة ولكنها جائزة في العربية قوية، وأنشد الخَليلُ وسيبويه وجميع البصريين النحويين: ولما رَأوْنا بَادياً رُكُبَاتُنَا. . . عَلَى مَوْطِنٍ لا نَخْلِطُ الجدَّ بالهَزلِ ومعنى (خطوات الشيطان) طرقه، أي لا تَسْلكوا الطريق الذي يدعوكم إليه الشيطان. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170) معنى (ألفينا) صَادَفْنا، فعنَّفهم اللَّه وعاب عليهم تقليدهم آباءَهم. فقال: (أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ).

(171)

المعنى أيتبعون آباءَهمْ وإن كانوا جهالاً، وهذه الواو مفتوحة لأنها واو عطف، دخلت عليها ألف التوبيخ، وهي ألف الاستفهام فبقيت الوَاو مفتوحة على ما يجب لها. * * * قوله عزَّ وجلَّ: (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171) وضرب اللَّه عزَّ وجلَّ لهم هذا المثل، وشبهَهم بالغنم المنعوق بها. بما لا يَسْمَع مُنه إلا الصوتَ، فالمعنى مثلك يا محمد، ومثلهم كمثل الناعق والمنعوق به، بما لا يسمع، لأن سمعهم ما كان ينفعهم، فكانوا في شركهم وَعَدَمِ قبول ما يسيمعون بمنزلة من لم يسمع، والعرب تقول لمن يسمع ولا يعمل بما يسمع: أصم. قال الشاعر: أصمُّ عمَّا سَاءَه سمِيعُ * * * وقوله عزَّ وجلَّ (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ). وصفهم بالبَكَم وهو الخَرَس، وبالعَمَى، لأنهم في تركهم ما يبصرون من الهداية بمنزلة العُمْي. وقد شرحنا هذا في أول السورة شرحاً كافياً إِن شاءَ اللَّه. . * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173) النَّصبُ في (الميتةَ) وماعطف عليها هو القراءَة، ونصبه لأنه مفعول

به، دخلت " ما " تمنع إنَّ من العمل، ويليها الفعل، وقد شرحنا دخول ما مع إن، ويجوز إِنَما حرم عليكُم الميْتَةُ، والذي أختاره أن يكون ما تمنع أن من العمل، ويكون المعنى ما حرم عليكم إِلا الميْتةَ، والدم ولحم الخنزير، لأن " إنما " تأتي إِثباتاً لما يذكر بعدها لما سواه. قال الشاعر: أنا الزائد الحامي الذمار وإنما. . . يدافع عن أحسابهمْ أنا أو مثلي المعنى ما يدافع عن أحسابهم إلا أنا أو مثلي، فالاختيار ما عليه جماعة القراءِ لإتباع السنة، وصحته في المعنى. . ومعنى (مَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ). أي ما رُفَعَ فيه الصوتُ بتسمية غير الله عليه وهذا موجود في اللغة. ومنه الإهلال بالحج إنما هو رفع الصوت بالتلبية. والميتة أصلها الميِّتَةُ، فحذقت الياءُ الثانية استخفافاً لثقل الياءين والكسرة والأجود في القراءَة الميْتَةُ (بالتخفيف). وكذلك في قوله: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ) أصله أو من كان ميِّتاً بالتشديدَ، وتفسير الحذف والتخفيف فيه كتفسيره في الميتة. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ). في تفسيرها ومعناها ثلاثة أوجه: قال بعضهم (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ)، أي فمن اضطر جائعاً غير باغ - غير آكلها تلذذاً - ولا عاد ولا مُجَاوِزٍ ما يدفع عن نفسه الجوع، فلا إِثم عليه.

(174)

وقالوا: - (غَيْرَ بَاغٍ) غير مجاوز قدر حاجته وغير مقصِر عما يقيم به حياته، وقالوا: أيضاً: معنى غيرباغ على إمَام وغيرمتعد على أمتِه، ومعنى البغي في اللغة، قصد الفساد، يقال: بَغَى الجَرْحُ يبغي بغياً، إذا ترامى إلى فساد، هذا إجماع أهل اللغة، تقول ويقال بغى الرجل حاجته يَبْغِيهَا بِغَاءً. والعرب تقول خرج في بِغَاءٍ إبله قال الشاعر: " لا يمْنعنكَ من بِغاءِ الخير تعقادُ التمائم إنَّ الأشائم كالأيامن والأيامنُ كالأشائم ويقال بغت المرأة تبغي بِغَاءً إذا فجرت: قال اللَّه عزَّ وجلَّ: (وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا) أي على الفجور ويقال: ابتَغَى لفلان أنْ يفعل كذا: أي صلح له أن يفعل كذا وكأنه قال: طلب فعل كذا فانطلب له، أي طاوعه، ولكن اجتزئ بقولهم - ابتغى، والبغايا في اللغة شيئان، البغايا الفواجر، والبغايا الإماء، قال الأعشى: والبغَايا يركضن أكْسية ألا. . . ضْرِيج والشرعَبيَّ ذَا الأذيالِ ونصب (غَيْرَ بَاغٍ) على الحال. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) يعني علماءَ إليهود الذين كتموا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم. وقوله: (وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا) أي كتموه لأنهم أخذوا على كِتْمَانِه الرِّشَى.

(أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ). المعنى أن الذين يأكلونه يعذبون به، فكأنهم إنما أكلوا النار وكذلك قوله عزَّ وجلَّ: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ)). أي يُصَيرُهُمْ أكْلُهُ في الآخرة إلى مثل هذه الحالة. و (الَّذِينَ) نصب ب (إِنَّ)، وخبر (إِنَّ) جملة الكلام وهي (أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ)، و (أُولَئِكَ) رفع بالابتداءِ وخبر (أُولَئِكَ) (مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ). * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلاَ يُكَلمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ). فيه غير قول: قال بعضهم معناه يغضب عليهم، كما تقول: فلان لا يكلم فلاناً، تريد هو غضبان عليه. وقال بعضهم معنى (لاَ يُكَلمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ) لا يرسل إليهم الملائكة بالتَحيةِ، وجائز إِن يكون: (لاَ يُكَلمُهُمْ اللَّهُ) لا يسمعهم الله كلامه، ويكون الأبرار وأهل المنزلة الذين رضي اللَّه عنهم يسمعون كلامه. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَا يُزَكِّيهِمْ). أي لا يثنى عليهم، ومن لا يثني اللَّه عليه فهو معذب. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ). معنى (أَلِيمٌ) مؤلم ومعنى مؤلم مبالِغٌ في الوجع. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) (فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) وفيه غير وجه: قال بعضهم أيُّ شيءٍ أصْبرهُمْ على النار. وقال بعضهم: فما أصبرهم على عمل يؤدي إِلى النار لأن هؤلاءِ كانوا علماءَ بأن من عاند النبي - صلى الله عليه وسلم - صار إلى النار. كما تقول ما أصبرَ فلاناً على الجنس أي ما أبقاه منه.

(176)

وقوله عزَّ وجلَّ: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176) المعنى الأمر ذلك، أو ذلك الأمر فذلك مرفوع بالابتداءِ. أو بخبر الابتداءِ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ) بتباعد بعضهم في مَشَاقَّةِ بعض، لأن إليهود والنصارى هم الَّذين اختلفوا في الكتاب ومشاقتهم بعيدة. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177) المعنى ليس البر كله في الصلاة (وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ). . . إلى آخر الآية، فقيل إن هذا خصوص في الأنبياءِ وحدهم، لأن هذه الأشياءِ التي وصفت لا يؤديها بكليتها على حق الواجب إِلا الأنبياءَ عليهم السلام. وجائز أن يكون لسائر الناس، لأن الله عزَّ وجلَّ قد أمر الخلق بجميع ما في هذه الآية. ولك في البرِّ وجهان: لك أن تَقْرَأ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا)، و (لَيْسَ الْبِرُّ أَنْ تُوَلُّوا) فمن نصب جعل أنْ مع صلتها الاسم، فيكون المعنى: ليس توليتُكُم وجُوهَكُم البرَّ كلَّه، ومن رفع البر فالمعنى: ليس البَّر كلُه توليتكم، فيكون البر اسم ليس، وتكون (أَنْ تُوَلُّوا) الخبر. وقوله عؤّ وجلَّ: (وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ). إِذا شددتَ (لَكَنَّ) نصبت البر، وإِذا خففت رفعت البر، فقلت ولكنِ البِر من آمن باللَّه، وكسرتَ النونَ من التخفيف لالتقاءِ السَّاكنين، والمعنى: ولكن ذا البر من آمن باللَّه، ويجوز أن تكون: ولكن البر بَر مَن آمن باللَّه، كما قال الشاعِر:

وكيف تواصل من أصبحت. . . خلالته كأبي مرحب المعنى كخلالة أبي مرحب - ومثله (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا). المعنى وأسال أهل القرية. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (والمُوفونَ بعَهْدِهِمْ إذَا عَاهَدُوا). في رفعها قولان: الأجود أن يكون مرفوعاَ على المدح، لأن النعت إذا طال وكَثُرَ رُفِعَ بعضُه ونُصِب على المدح. المعنى " هم الموفون بعهدهم وجائز أن يكون معطوفاً على من. المعنى ولكن البر، وذو البر المؤمنون والموفون بعهدهم. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَالصَّابِرِينَ). في نصبها وجهان: أجودهما المدح كما وصفنا في النعت إذا طال. المعنى أعني الصابرين، قال بعض النحويين، إِنه معطوف على ذوي القربى. كأنه قال: وآتي المالَ على حبه ذوي القربى والصابرين وهذا لا يصلح إلا أن يكون - والموفون رفع على المدح للمُضْمَرِينَ، لأن ما في الصلة لا يعطف عليه بعد المعطوف على الموصول. ومعنى " وحينَ البَأْسِ " أي شدة الحرب، يقال قد بأس الرجل يَبْأسُ

(178)

بَأساً وبَاساً (وبُؤساً) يا هذا إذا افتقر وقد بؤس الرجل ببؤس، فهو بَئيس إذا اشتدت شجاعته. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) معنى (كُتِبَ عَلَيْكُمُ) فرض عليكم، وقوله (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى): يقال إنه كان لقوم من العرب طَول على آخرين فكانوا يتزوجون فيهم بغير مهور، ويطلبون بالدم أكثر من مقداره، فيقتلون بالعبد من عبيدهم الحر من الذين لهم عليهم طولٌ فأنزل اللَّه عزَّ وجلَّ: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ). أي من ترك له القتل ورضي منه بالدِّية - وهو قاتل متعمد للقتل عفى له بأن ترك له دمُه، ورضي منه بالدية - قال اللَّه عز وجلَّ: (ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ) وذكر أن من كان قبلنا لم يفرض عليهم إلا النفس - كما قال عزَّ وجلَّ: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) أي في التوراة - فتفضل اللَّه على هذه الأمة بالتخفيف والدية إذا رضي بها وفيُ الدم. ومعنى (فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ) على ضربين: جائز أن يكون فعلَى صاحب الدم اتباع بالمعروف، أي المطالبة بالدية، وعلى القاتل أداء بإحسان - وجائز أن يكون الإتباع بالمعروف والأداء بإحسان جميعاً على القاتل - واللَّه أعلم. وقوله غز وجلَّ: (فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ). أي بعد أخذ الدية، ومعنى اعتدى: ظلم، فوثب فقتل قَاتِلَ صَاحِبِه بعد أخذ الدية - (فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ) أي موجع.

(179)

ورفع (فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ) على معنى فعليه اتباع - ولوكان في غير القرآن لجاز فاتباعاً بالمعروف وأداءً على معنى فليتبع أتباعاً ويؤد أداءً. ولكن الرفع أجود في العربية. وهو على ما في المصحف وإجماع القراءِ فلا سبيل إلى غيره. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) (حَيَاةٌ) رفعَ على ضربين: على الابتداءِ، وعلى لكم، كأنَّه قال وثَبَت لكم في القصاص حياة يا أولي الألباب أي يا ذوي العقول. ومعنى الحياة في القصاص أن الرجل - إذا علم أنَّه يُقْتَل إنْ قتَل - أمسك عن القتل ففي إمساكه عن القتل حياة الذي همَّ هو بقتله. - وحياة له؛ لأنه من أجل القصاص أمسك عن القتل فَسَلِم أن يقتل. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) المعنى وكتب عليكم: إلا أن الكلام إذا طال استغنى عن العطف بالواو، وعلم أن معناه معني الواو. ولأن القصة الأولى قد اسْتَتَمَّت وانْقَضَى معنى الفرض فيها، فعلم أن المعنى فرض عليكم القصاص وفرض عليكم الوصية. ومعنى. (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ). هذا الفَرضُ بإجماع نسخته آياتُ المَواريث في سورة النساءِ وهذا مجمع

عليه، ولكن لا بد من تفسيره ليعلم كيف كان وجه الحكمة فيه، لأن اللَّه عزَّ وجلَّ لا يتعبد في وقت من الأوقات إِلا بما فيه الحكمة البالغة فمعنى (كُتِبَ عَلَيْكُمْ): فرض عليكم - إن ترك أحدكم مالا - الوصية (للوالدين والأقربين بالمعروف)، فَرَفَعَ الوصية على ضربين، أحدهما على ما لم يسم فاعله، كأنه قال كتب عليكم الوصية للوالدين، أي فرض عليكم، ويجوز أن تكون رفع الوصية على الابتداءِ، ويجوز أن تكون، للوالدين الخبر، ويكون على مذهب الحكاية، لأن معنى كتب عليكم قيل لكم: الوصية للوالدين والأقربين.، وإِنما أُمِرُوا بالوصية في ذلك الوقت لأنهم كانوا ربما جاوزوا بدفع المال إلى البعَداءِ طلباً للرياءِ والسمعة. ومعنى (حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) ليس هو إنَّه كتب عليه أن يوصي إذا حضره الموت، لأنه إِذا عاين الموت " يكون " في شغل عن الوصية وغيرها. ولكن المعنى كتب عليكم أن توصُّوا وأنتم قادرون على الوَصيةِ، فيقول الرجل إذا حضرني الموت، أي إِذا أنا مِت فلفلان كذا، على قدر - ما أمِرَ به - والذي أمِرَ به أن يجتهد في العدل في وقت الإمْهَال، فيوصي بالمعروف - كما قال اللَّه عزَّ وجلَّ - لوالديه ولأقربيه - ومعنى بالمعروف بالشيءِ الذي يعلم ذو التمييز أنه لا جَنَفَ فيه ولا جَوْر، وقد قال قوم إِن المنسوخ من هذا ما نسخته المواريث. وأمر الوصية في الثلث باق، وهذا القول ليس بشي لأن إجماع المسلمين أن ثلث الرجل له إن شاءَ أن يوصي بشي فله، وإن ترك فجائز (فالآية) في

(181)

قوله: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ). . . الوصية منسوخة بإجماع. وكما وصفنا. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ). نصب على حق ذلك عليكم حقاً، ولوكان في غير القرآن فَرُفعَ كان جائزاً، على معنى ذلك حق على المتقين. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) يعني فمن بدل أمر الوصية بعد سماعهِ إيَّاها، فإِنما إثْمُه على مُبَدلِهِ، ليس على الموصى، - إذا احتاط أو اجتهد فيمن يوصى إليه - إثم، ولا على الموصى له إِثم وإِنما الإثم على الموصي إن بدل. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ). أي قد سمع ما قاله الموصي، وعلم ما يفعله الموصَى إِليه، لأنه عزَّ وجلَّ عالم الغيبِ والشَهَادَة. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182) أي مَيْلاً، أو إثماً، أو قَصَداً لِإثم، (فأصلح بينهم) أي عمل بالإصلاح بين الموصى لهم فلا إثم عليه، أي لأنه إنما يقصد إلى إصلاح بعد أن يكون الموصي قد جعل الوصية بغير المعروف مخالفاً لأمر اللَّه فإِذا ردها الموصى إليه إِلى المعروف، فقد ردها إِلى ما أمر اللَّه به. * * * (وقوله عزَّ وجلَّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) المعنى فرض عليكم الصيام فرضاً كالذي فرض على الذين من قبلكم. وقيل إنه قد كان فرض على النصارى صوم رمضان فَنَقَلُوه عن وقته، وزادوا فيه، ولا أدري كيف وجه هذا الحديث، ولا ثقة ناقليه، ولكن الجملة أن اللَّه عزّ وجلَّ قد أعلمنا أنه فرض على من كان قبلنا الصيام، وأنه فرض علينا كما فرضه على الذين من قبلنا.

(184)

وقوله عزَّ وجلَّ: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ). المعنى أنَّ الصِّيَام وَصْلَة إلى التقي، لأنه من البر الذي يكف الِإنسان عن كثير مما تتطلع إِليه النفس من المعاصي، فلذلك قيل (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ). و" لعل " ههنا على ترجي العباد، والله عزَّ وجلَّ من وراءِ العلم أتتقون أم لا. ولكن المعنى أنه ينبغي لكم بالصوم أن يقوى رجاؤكم في التقوى. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) ْنصب (أَيَّامًا) على ضربين، أجْوَدهما أن تكون على الظرف كأنه، كتب عليكم الصيام في هذه الأيام - والعامل فيه الصيام كان المعنى كتب عليكم أن تصوموا أياماً معدودات. وقال بعض النحويين، إنه منصوب مفعول مَا لم يسَمَّ فاعله. نحو أعَطِيَ زيد المال. وليس هذا بشيءٍ لأن الأيام ههنا معلقة بالصوم. وزيد والمال مفعولان لأعطى. فلك أن تقيم أيهما شئت مقام الفاعل. وليس في هذا إلا نصب الأيام بالصيام. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ). أي فعليه عدة، أو فالذي ينوب عن صومه في وقت الصوم عدة من أيام أُخَرَ. و (أُخَرَ) في موضع جر، إِلا أنها لا تَنْصَرِف فَفتِحَ فيها المجرور. ومعنى (وعلى الذين يطيقونه) أي يطيقون الصوم فدية طعام، مسكين، أي إن أفطر وترك الصوم كان فدية تركه طعام مسكين. وقد قرئ " طعام مساكين "

(185)

فمعنى طعام مساكين فدية أيام يفطر فيها وهذا بإجماع وبنص القرآن منسوخ. نَسخَته الآية التي تَلي هذه. وقوله عزَّ وجلَّ: (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ). رفع خير خبر الابتداءِ. المعنى صومكم خير لكم هذا كان خيراً لهم مع جواز الفدية، فأما ما بعد النسخ فليس بجائز أن يقال: الصوم خير - من الفدية والإفطارِ في هذا الوقت، لأنه ما لا يجوز ألبتَّة فلا يقع تفضيل عليه فيوهم فيه أنه جائز. وقد قيل إِن الصوم الذي كان فرض في أول الإسلام. صوم ثلاثة أيام في كل شهر ويوم عاشوراءِ، ولكن شهر رمضان نَسَخَ الفرضَ في ذلك الصوم كله. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) القراءَة بالرفع ويجوز النصب، وهي قراءَة ليست بالكثيرة ورفعه على ثلاثة أضرب: أحدها الاستئناف. المعنى الصيام الذي كتب عليكم أو الأيام التي كتبت عليكم شهر رمضان، ويجوز أن يكون رفعه على البدل من الصيام فيكون مرفوعاً على ما لم يسم فاعله، المعنى كتب عليكم شهر رمضان. ويجوز أن يكون رفعه على الابتداءِ ويكون الخبر (الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) والوجهان اللذان شرحناهما - " الذي " ْ فيهما رفعٌ على صفة الشهر، ويكون الأمر بالفرض فيه (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) ومعنى من شهد: من كان شاهداً غير مسافر فليصم، ومن كان مسافراً أو مريضاً فقد جُعِل له أن

(186)

يصوم عدةَ أيامِ الْمَرض وأيامِ السفرِ من أيام أخر، ومن نصب شهر رمضان نصبه على وجهين، أحدهما أن يكون بدلاً من أيام معدودات. والوجه الثاني على الأمر، كأنه قال عليكم شهر رمضان. على الِإغْراءِ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ). أيْ أن يُيسِّر عليكم بوضعه عنكم الصوم في السفر والمرض. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلِتُكَمِّلُوا الْعِدَّةَ) (قرئ) بالتشديد، وَلِتُكْمِلُوا بالتخفيف. من كمَّل يكمِّل، وأكمل يُكْمِل. ومعنى اللام والعطف ههنا معنى لطيفْ هذا الكلام معطوف محمول على المعنى. (المعنى) فعل اللَّه ذلك ليسهل عليكم ولتكملوا العدة. قال الشاعر: بَادَت وغُيِّر آيهن مع البلي. . . إلاَّ رَواكدَ جَمْرُهُنَّ هَباءُ ومشججٌ أما سواءُ قذا له. . . فبدا وغيره سَارَه المَعْزَاءُ فعطف مشججٌ على معنى بها رواكد ومشجج، لأنه إذْ قال بادت إلاَّ رَواكدَ علم أن المعنى بَقيَتْ رواكدُ ومشججٌ. وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) المعنى إذا قال قائل: اينَ اللَّهُ. فالله عزَّ وجلَّ قريب لا يخلو منه مكان - كما قال: (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ) وكما قال: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ).

(187)

وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) وقوله عزَّ وجلَّ: (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ). إن شئت قلت إذا دعاني بياء وإن شئت بغير ياء إلا أن المصحف يتبع فيوقف على الحرف كما هو فيه. ومعنى الدعاءِ لِلَّهِ عزَّ وجلَّ على ثلاثة أضرب. فضرب منها توحيده والثناءُ عليه كقولك يا الله لا إله إلا أنت وقَولك: رَبَّنَا لَك الحَمْدُ، فقد دعوتَه بقولك ربنا، ثم أتيت بالثناءِ والتوحيد ومثله: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60). أي يستكبرون عن توحيدي والثناءِ عليَّ، فهذا ضرب من الدعاءِ. وضرب ثانٍ هو مَسْألة الله العفوَ والرحمة، وما يقرب منه كقولك اللهم اغفر لنا. وضرب ثالث هو مسألته من الدنيا كقولك: اللهم ارزقني مالًا وولداً وما أشبه ذلك. وإنما سمي هذا أجمعُ دعاء لأن الِإنسان يصدر في هذه الأشياءِ بقوله يا اللَّه، ويا رب، ويَا حَي. فكذلك سمي دعاءُ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي) أي فليُجِيبُوني. قال الشاعر: وداع دعا يا من يجيب إلى الندا. . . فلم يَسْتَجِبْه عند ذاك مجيب أي فلم يجبه أحد. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187) ْ (الرفث) كلمة جامعة لكل ما يريد الرجل من المرأة، والمعنى ههُنا كناية عن الجماع: أي أحل لكم ليلة الصيام الجماع، لأنه كان في أولَ فرض

الصيام الجماعُ محرماً في ليلة الصيام، والأكل والشربُ بعد العِشَاءِ الآخرة والنوم. فأحل الله الجماع والأكل والشراب إِلى وقت طلوع الفجر. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ). قد قيل فيه غير قول: قيل المعنى، فَتُعانقوهن وُيعَانِقْنكم، وقيل كل فريق منكم يسكن إلى صَاحِبه وُيلابسه - كما قال عزَّ وجلَّ: (وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا). والعرب تسمى المرأة لباساً وإِزاراً قال الشاعر: إذا مَا الضجيع ثَنَى عِطفَه. . . تَثَنَّتْ فكانت عليه لِبَاساً وقال أيضاً: ألاَ أبْلغ أبَا حَفْصٍ رَسُولا. . . فِدًى لكَ من أخِي ثِقَةٍ إِزاري قال أهل اللغة: فدى لك امرأتي. قوله عزَّ وجلَّ: (وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ). قالوا معناه الولد. ويجوز أن يكون - وهو الصحيح عندي - واللَّه أعلم - وابتغوا ما كتب اللَّه لكم: اتبعوا القرآن فيما أبيح لكم فيه وأمرتم به فهو المبتغى.

(188)

وقوله عزَّ وجلَّ: (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ). هما فجران: أحدهما يَبْدُو أسودَ معترضاً وهو الخيط الأسود، والأبيض يطلع ساطعاً يملأ الأفق، وَحَقِيقَتُه: حَتَّى يتبين لكم الليل من النهار، وجعل اللَّه عزّ وجلَّ حدود الصيام طلوع الفجر الواضح، إِلا أن اللَّه عزَّ وجلَّ بين في فرضه ما يستوي في علمه أكثر الناس. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ). معنى الباشرة هنا الجماع. وكان الرجل يخرج من المسجد وهو معتكف فيجامع ثم يعودُ إِلى المسجد، والاعتكاف أن يحبس الرجل نفسه في مَسْجِدِ جَماعةٍ يتعبَّد فيه، فعليه إذا فعل ذلك ألا يُجَامع وألا يتصرَّفَ إلا فيما لا بد له مِنْهُ من حاجته. وقوله عزَّ وجلَّ: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا). معنى الحدود ما منع الله عزَّ وجلَّ من مخالفتها، - ومعنى الحدَّادُ في اللغة الحاجب، وكل من منع شيئاً فهو حدَّاد. وقولهم أحَدَّتَ المرأة على زوجها معناه قطعتِ الزينَةَ وامتنعت منها، والحديد إِنما سمي حديداً لأنه يمتنع به من الأعداءِ. وحَدُّ الدَّار هُوَ مَا يمنع غيرها أن تدخل فيها. وقوله عزَّ وجلََّّ: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ)). أي مثل البيان الذي ذكر، المعنى ما أمرهم به يبين لهم. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188) (تأْكلوا) جزم بلا، لأن " لا " التي ينهي بها تلزم الأفعال دون الأَسماءِ

(189)

وتأثيرها فيها بالجزم، لأن الرفع يدخلها، بوقوعها موضع الأسماءِ والنصب يدخلها لمضارعة الناصب فيها الناصب للأسماءِ، وليس فيها بعد هذين الحيزين إلا الجزم. ومعنى بالباطل أي بالظلم. (وتُدْلُوا بهَا إلى الحُكَّام): أي تعملون على ما يوجبه ظاهر الحكم ويتركون ما قد علمتم أنه الحق، ومعنى تُدْلوا في اللغة إِنَّما أصله من أدْلَيْتُ الدلو إِذا أرسلتها للمليءِ، ودلوتها إذا أخرجتها، ومعنى أدلى لي فلان بحجته أرسلها وأتى بها على صحة، فمعنى (وتُدْلُوا بهَا إلى الحُكَّام) أي تعملون على ما يوجبه الِإدلاءُ بالحجة، وتخونون في الأمانة. (لِتَأكُلُوا فَريقاً مِنْ أموَالِ النَّاسِ بِالإثمِ وأنْتُم تَعْلَمُونَ). أي وأنتم تعلمون أن الحجة عليكم في الباطن، وإن ظهر، خلافها. ويجوز أن يكون (موضع) " وتدلوا " جزماً ونصباً - فأما الجزم فعلى النهي. معطوف على ولا تأكلوا، ويجوز أن تكون نصباً على ما تنصب الواو، وهو الذي يسميه بعض النحويين الصرف، ونصبه بإِضمار أن، المعنى لا تجمعوا بين الأكل بالباطل والِإدلاءِ إِلى الحكام، وقد شرحنا هذا قبل هذا المكان. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189) كان النّبى - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الهلال في بدئه دقيقاً وعن عِظَمِهِ بعد، وعن رجوعه دقيقاً كالعرجون القديم، فأعلم اللَّه عزَّ وجلَّ أنه جعل ذلك ليعلم

الناس، أوقاتهم في حَجهِمْ وَعِدَدِ نِسائِهمْ، وجميع ما يريدون عدمه مشاهرة. لأن هذا أسهل على الناس من حفظ عدد الأيام، ويستوى فيه الحاسب وغير الحاسب. ومعنى الهلال واشتقاقه: من قولهم اسْتَهَل الصبي إِذا بكى حين يولد أو صاح، وكأن قولهم أهَل القوم بالحج والعمرة - أي رفعوا أصواتهم بالتلبية، وإنما قيل له هلال لأنه حين - يرى يهل الناس بذكره ويقال اهِلً الهلال واسْتَهَلً، ولا يقال أهَلّ، ويقال أهلَلْنا. أي رأينا الهلال. وأهللنا شهر كذا وكذا، إِذا دخلنا فيه. وأخبرني من أثق به من رواة البصريين والكوفيين - جميعاً بما أذكره في أسماءِ الهلال وصفات الليالي التي في كل شهر: فأول ذلك: إِنما سمي الشهر شهراً لشهرته وبيانه، وسُمِّيَ هلالا لِمَا وصفنا من رفع الصوت بالِإخبار عنه، وقد اختلف الناس في تسميته هلالًا، وكم ليلةً يُسَمَّى ومَتَى يُسَمَّى قمراً، فقال بعضهم يسمى هلالًا لليلتين من الشهر ثم لا يسمى هلالًا، إِلى أن يعود في الشهر التالي، وقال بعضهم يسمى هلالًا ثلاث ليال ثم يسمى قمراً، وقال بعضهم يسمى هلالًا إِلى أن يحجَّر وتحجيره أن يستدير بخطة دقيقة. وهو قول الأصمعي. وقال بعضهم يسمى هلالًا إِلى أن

يَبْهَرَ ضوؤة سوادَ الليل، فإذا غلب ضوؤة سوادَ الليل قيل له قمر، وهذا لا يكون إِلا في الليلة السابعة، والذي عندي وما عليه الأكثر أنه يسمى هلالاً ابنَ ليلتين، فإِنه في الثالثة يَبِين ضوؤه. واسم القمر الزبرقان، واسم دارته الهالة، واسم ضوئه الفَخْت وقد قال بعض أهل اللغة لا أدري الْفَخْت اسم ضوئه أم ظلْمَتِه، واسم ظلمته على الحقيقة " (واسم ظله) السَّمَر، ولهذا قيل للمتحدثين ليلا سمَّار، ويقال ضاءَ القمر وأضاءَ، ويقال طلع القمر، - ولا يقال أضاءَت القمر أو ضاءَت. قال أبو إسحاق وحدثني من أثق به عن الرِّيَاشي عن أبي زيد، وأخبرني أيضاً من أثق به عن ابن الأعرابي بما أذكره في هذا الفصل: قال أبو زيد الأنصاري، يقال للقمر بنَ ليلةٍ: عَتَمَةَ سُخَيْلة حل أهلها برمَيْلَةِ، وابنَ ليلتين حديث أمَتَين كذبٌ ومَيْن ورواه ابن الأعرابي بكذب ومَيْن، وابن ثلاث حديث فتيات غير جد مؤتلفات. وقيل ابن ثلاث قليل اللبَاث، وابن أربع عتمة ربَع لا جائع ولا مرْضَع، وعن ابن الأعرابي عتمة أم الربع، وابن خمس حديث وأنس،

وقال أبو زيد عشا خَلِفَات قُعْسْ، وابن ست سِمرْوَبِتْ. وابن سَبْع دُلْجَة الضبع وابن ثمان قمر أضحيان وابن تسع عن أبي زيد: انقطع السشسع، وعن غيره يلتقط فيه الجزع، وابن عشر ثلث الشهر، وعن أبي زيد وغيره محنق الفجر. - ولم تقل العرب بعد العشر في صفته ليلة ليلة كما قالت في هده العشر ولكنهم جزأوا صفته أجزاء عشرة، فجعلوا لكل ثلاث ليال صفة فقالوا ثلاث غُرَر، وبعضهم يقول غُز، وثلاث شُهْب، وثلاث بُهْر وبَهْر، وثلاث عُشْر، وثلاث بيض، وثلاث دُرْع، ودُرُع، ومعنى الدرَعُ سواد مُقَدَّم

الشاة وبياضُ مؤخرها، وإنما قيل لها دُرْع ودُرُع لأن القمر يغيب في أولها. فيكون أول الليل أدرع لأن أوله أسود وما بعده مضي، وثلاث خُنْس، لأن القمر يَنْخَنِس فيها أي يَتَأخر، وثلاث دهم، وإنما قيل لها دهم لأنها تُظْلم حتى تَدْهَامّ، وقال بعضهم ثلاث حَنَادِس، وثلاث فُحْم لأن القمر يتفحم فيها، أي يطلع في آخر الليل وثلاث دَادِي، وهي أواخر الشهر وإنما أخذت من الدأداءِ وهو ضرب من السير تسرع فيه الإبل نقل أرجلها إلى موضع أيديها. فالدأدأة آخر نقل القوائم، فكذلك الدأدِيُ في آخر الشهر. وجمع هلال أهله، لأدنى العدد وأكثرِه، لأن فِعالا يجمع في أقل العدد على أفعلة مثل مِثَال وأمْثِلَة وحِمَار وأحْمِرَةُ وإذا جاوز أفعلة جُمِعَ على فُعْل، مثل حُمُر ومُثُل، فكرهوا في التضعيف فعل نحو هُلُل وخُلُل، فقالوا أهِلة وأخِلة، فاقتصروا على جمعِ أدنى العدد، كما اِقتصروا في ذوات الواو والياءِ على ذلك، نحو كِسَاء وأكسية ورِدَاء وأرْدِية. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى) قيل إنه كان قوم من قريش وجماعة معهم من العرب إِذا خرج الرجل منهم في حاجة فلم يقضها ولم تتَيسر له رجع فلم يدخل من باب بيته سنة، يفعل ذلك تَطيرا - فأعلمهم اللَّه عزَّ وجل أن ذلك غَيْرُ بِر، أي الإقامة على الوفاءِ - بهذه السَّنة ليس ببر، وقال الأكثر من أهل التفسير: إنهم الحُمْسُ، وهم قوم من قريش، وبنُو عامر بن صعصعة وثَقيف وخزاعة، كانوا إِذا أحرموا لا يأقطُون الأقط، ولا ينْفُونَ الوَبَرَ ولا يسْلون السَّمْنَ، وإِذا خَرجَ أحدهم من الإحرام

(190)

لم يدخل من باب بيته، وإنما سُمُّوا الحُمْسَ لأنهم تَحمَّسوا في دينهم أي تشددوا. وقال أهل اللغة الحماسة الشدة في الغضب والشدة في القتال، والحماسة على الحقيقة الشدة في كل شيءٍ. وقال العجاج: وكمْ قطَعنا من قِفَافٍ حُمْس أي شِدَاد - فأعلمهم اللَّه عزَّ وجلَّ أن تشددهم في هذا الإحرامْ ليس بِبر. وأعلمهم أن البر التقي فقال: (وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى). المعنى ولكن البر برُّ من اتقى مخالفةَ أمر اللَّه عزَّ وجلَّ، فقال: (وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا) فأمرهم اللَّه بترك سنة الجاهلية في هذه الحماسة. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) قالوا في تفسيره قاتلوا أهلَ مكة، وقال قوم هذا أول فرض الجهاد ثم نسخه (وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً). * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (ولا تَعْتَدُوا). أي لا تظلموا، والاعتداء: مجاوزة الحق، وقيل في تفسيره قولان: قيل لا تعتدوا: لا تقاتلوا غير من أمرتم بقتاله -، ولا تقتلوا غيرهم، وقيل لا تعتدوا: أي لا تجاوزوا إِلى قتل النساءِ والأطفال. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) أي حيث وجدتموهم، يقال ثَقِفْتهُ أثقفه ثَقْفاً وَثَقَافَة، ويقال: رجل ثَقِفٌ لَقِفٌ. ومعنى الآية: لا تَمْتنِعوا من قتلهم في الحرم وغيره.

(193)

وقوله عزَّ وجلَّ: (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ). أي فكفرهم في هذه الأمكنة أشد من القتل. وقَوله عزَّ وجلَّ: (وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ). كانوا قد نُهوا عن ابتدائهم بقتل أو قتال حتى يبتدي المشركون بذلك. وتقرأ: (ولا تَقْتُلوهم عند المسجد الحرام حتى يَقْتُلوكم فيه) أي لا تبدأوهم بقتل حتى يبدأوكم به، وجائز ولا تقتلوهم وإن وقع القتل ببعض دون بعض، لأن اللغة يجوز فيها قتَلْتُ القومَ وإنَّما قُتِلَ بعضُهم إذا كان في الكلام دليل على إرادة المتكلم. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193) هذا أمر من اللَّه عزَّ وجلَّ أن يقاتَل كل كافر لأن المعنى - ههنا في الفتنة والكفر. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) (الشَّهْرُ) رفع بالابتداءِ وخبره (بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ)، ومعناه قتال الشهر الحرام. ويروى أن المشركين سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الشهر الحرام هل فيه قتال:. فأنزل الله عز وجلَّ أن القتل فيه كبير، أي عظيم في الإثم، وإنما سألوا ليَغُرًّوا المسلمين، فإن علموا أنهم لم يؤمروا بقَتلهم قاتلوهم، فأعلمهم الله عزَّ وجلَّ أن القتال فيه محرم إلا أن يبتدئ المُشْرِكُونَ بالقِتَال فيه فيقاتلهم المسلمون: فالمعنى في قوله: (الشَّهْرُ الْحَرَامُ) أي قِتَالَ الشهر الحرام، أي في (الشهر الحرام، بالشهر الحرام). وأعلم اللَّه عزَّ وجلَّ أن هذه الحرمات قصاص، أي لا يجوز للمسلمين إلا قصاصاً. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فَمن اعْتَدى عَليْكُمْ).

(195)

أي من ظلم فقاتل فقد اعتدى، (فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ)، وسُمًيَ الثاني اعتداءً لأنه مجازاة اعتداء فسُمًيَ بِمِثل اسمه، لأن صورة الفعلين واحدة. وإن كان أحدهما طاعة والآخر معصية، والعرب تقُول ظلمني فلان فظلمته أي جازيته بظلمه، وجهل عليَّ فجهلت عليه أي جازيته بجهله. قال الشاعر: ألا لا يجهلنَّ أحد علينا. . . فنَجهل فوق جهل الجاهلينا أي فنكافئ على الجهل بأكثر من مقداره. وقال اللَّه عزَّ وجلَّ: (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ) وقال: (فَيسْخرون منهم سَخر اللَّهُ مِنْهُمْ). جعل اسم مجازاتهم مكراً كما مكروا، وجعل اسم مجازاتهم على سخريتهم سُخرياً، فكذلك: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ). * * * ْوقوله عزَّ وجلَّ: (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195) أيْ في الجهاد في سبيل اللَّه، وكل ما أمر اللَّه به من الخير فهو من سبيل الله، أي من الطريق إلى اللَّه عزَّ وجلَّ. لأن السبيل في اللغة الطريق، وإنما استعمل في الجهاد أكثر لأنه السبيل الذي يقاتل فيه على عقد الدين. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (ولا تُلْقُوا بأيدِيكُم إلى التهْلُكَةِ). أصل بأيديْكُمْ (بأيدِيكم) بكسر الياءِ. ولكن الكسرة لا تثبت في الياءِ (إذا كان ما قبلها مكسوراً) لثقل الكسرة في الياءِ.

(196)

وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195) وقوله عزَّ وجلَّ: (إِلَى التَّهْلُكَةِ) معناه إلى الهلاك، يقال هلك الرجل يهلكُ هَلاكاً وهُلْكاً وتَهْلُكَةً وتَهُلِكَةً. وتهْلُكَة اسم. ومعناه إن لم تنفقوا في سبيل الله هَلَكتم، أي عصيتم الله فهلكتم، وجائز أن يكون هلكتم بتقوية عدوكم عليكم واللَّه أعلم. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ). أي أنفقوا في سبيل الله فمن أنفق في سبيل اللَّه فَمُحْسِن. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196) يجوز في العمرة النصب والرفع: والمعنى في النصْب أتموهما. والمعنى في الرفع وأتموا الحج، والعمرةُ للهِ، أي هي مما تَتَقرَّبون به إلى اللَّه " عزَّ وجلَّ وليس بفَرْض. وقيل أيضاً في قوله عزَّ وجلَّ: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ). غير قول: يُروى عن علي وابنِ مسعود - رحمة الله عليهما - أنهما قالا: إتمامهمَا أن تحرم من دُويرة أهلك، ويروى عن غيرهما إنَّه قال إِتمامُهما أن تكون النفقةُ حلالاً. وينتهي عما نهى الله عنه. وقال بعضهم إِن الحج والعمرةَ لهما مواقف ومشاعر، كالطواف والموقِفُ بعرفة وغير ذلك، فإتمامهما تأدية كل ما فيهما، وهذا بين، ومعنى اعتمر في اللغة قيل فيه قولان. قال بعضهم اعتمر قصد. قَال الشاعر: لَقدْ سما ابن معمر حين اعتمر. . . مغزى بعيداً من بعيد وضَبر

المعنى حين قصد مغزى بعيداً، وقال بعضهم معنى اعتمر: زار من الزيارة، ومعنى العُمْرةِ في العَمل الطوافُ بالبَيْتِ والسعيُ بين الصفا والمروة فقط، والعمرة للِإنسان في كل السنة، والحج وقته وقت واحد من السنة، ومعنى اعتَمر عِنْدي في قصد البيت. أنه إِنما خص بهذا - أعني بذكر اعتمر - لأنه قصد العمل في وضع عامر لهذا قيل معتمر: * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ). الرواية عند أهل اللغة أنه يقال للرجل الذي يمنعه الخوف أو المرض من التصرف قد احصر فهو مُحْصَر - ويقال للرجل الذي حُبِسَ قد حُصِرَ فهو مَحْصُور. وقال الفراءُ: لو قيل للذي حُبِسَ أُحْصِرَ لجاز، كأنه يجعل حابسه بمنزلة المرض والخوف الذي، منعه من التصرف، وألحق في هذا ما عليه أهل اللغة من أنه يقال للذي يمنعه الخوفُ والمرضُ أُحْصِرَ وللمَحبُوس حُصِر، وإِنما كان ذلك هو الحق لأن الرجل إذا امتنع من التصرفَ فقد حبس نفسه، فكأن المَرض أحبسه أي جعله يحبس نفسه، وقوله حصرت فلاناً إنما هو حبسته، لا أنه حبس نفسه، ولا يجوز فيه أحصر. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ). موضع " مَا " رفْع المعنى فواجب عليه ما اسْتَيسَر من الهَديِ، وقد قيل في الهدى: الهَدِي. والهَدِي جمْع هَديًةٍ. وهَدْي، كقولهم في حَذْية السَرجِ حَذِيَّة وحَذْيٌ. وقال بعضهم ما استيسر ما تيسر من الإبل والبقر. وقال بعضهم بعير أو بقرة أو شاة وهذا هو الأجود. (وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ).

قالوا في مَحِلهِ من كان حاجا محله يوم النحر، ولمن كان معتمراً يوم بدخل مكة. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ). - أي فعليه فدية، ولو نصب جاز في اللغة على إضمار فليعط فدية أو فليأت بفدية، وإِنما عليه الفدية إذا حلق رأسه وحل من إِحرامه وقوله (أَوْ نُسُكٍ) أي أو نَسيكة يذبحها، والنسِيكة الذبيحة. . * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ). أي فعليه ما استيسر من الهدي، وموضع (ما) رفع ويجوز أن يكون نصباً على إضمار فليهد ما استيسر من الهدي. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ). معناه فعليه صيام، والنصب، جائز على فليصم هذا الصيام، ولكن القراءَة لا تجوز بما لم يقرأ به. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ) قيل فيها غير قول: قال بعضهم: (كَامِلَةٌ) أي تكمل الثواب. وقال بعضهم (كَامِلَةٌ) في البدل من الهدي. والذي في هذا - واللَّه أعلم - أنه لما قيل (فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم)، جاز أن يَتَوهم المتوهمُ أن الفرض ثلاثة أيام في الحج أو سبعة في الرجوع - فأَعلم اللَّه عزَّ وجلَّ - أن العشرة مفترضة كلها، فالمعنى

(197)

المفروض عليكم صوم عشرة كاملة على ما ذكر من تفرقها في الحج والرجوع. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ). أي هذا الفرض على من لم يكن من أهله بمكة و (حاضري المسجد الحرام) أصله حاضرين المسجدَ الحرام فسقطت النون للإضافة وسقطت الياءُ في الوصل لسكونها وسكون اللام في المسجد، وأما الوقف فتقول فيه متى اضطررت إلى أن تقف (حاضري) * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197) قال أكثر الناس: إن أشهر الحج شوالُ وذُو القَعدة وعشر منْ ذي الحجًة. (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ). وقال بعضهم: لو كانت الشهور التي هي أشهر الحج شوالاً، وذا القعدة لما جاز للذي منزله بينه وبين مكة مسافة أكثر من هذه الأشهر أن يفرض على نفسه الحج. وهذا حقيقته عندي أنه لا ينبغي للإنسان أن يبتدئ بعمل من أعمال الحج قبل هذا الوقت نحو الإحرام، لأنه إذا ابتدأ قبل هذا الوقت أضر بنفسه - فأمر الله عزَّ وجل - أن يكون أقصى الأوقات التي ينبغي للإنسان ألا يتقدمها في عقد فرض الحج على نفسه شوالًا، وقال بعض أهل اللغة: معنى الحج إنما هو في السنة في وقت بعينه، وإنما هو في الأيام التي يأخذ الإنسان فيها في عمل الحج لأن العمرة له - في طول السنة، فينبغي له في ذلك الوقت ألا يَرْفُث ولا يفْسُقَ. وتأويل (فلا رفَثَ ولا فُسْوقَ)، لا جماعَ ولا كلمةً من أسباب الجماع قال الراجز: عن اللَّغَا وَرَفَث التَكَلمِ

والرفث كلمة جامعة لما يريده الرجل من أهله. وأمَّا فَلا فُسُوقَ فإذا نُهيَ عن الجِماع كُلَّهِ فالفسوق داخل فيه - ولكن المعنى - واللَّه أعلم - فلا فسوق أَي لا يخرج عن شيء من أمر الحج - وقالوا في قوله (ولا جدالَ في الحج) قولين: قالوا: (لا جدَالَ في الحَجِّ) - لا شك في الحج، وقالوا لا ينبغي للرجل أن يجادل أخاه فيخرجه الجدال إِلى ما لا ينبغي تعظيماً لأمر الحج، وكلٌّ صَوابٌ، ويجوز فلا رفثٌ ولا فسوق ولا جدالٌ في الحج. وبعضهم يقرأ - وهو أبو عمرو - (فلا رَفَثٌ ولاَ فُسُوقٌ ولا جِدَالٌ في الحج). وكلٌّ صَواب. وقد شرحنا (أن) لا تنصب النكرات بغَير تنوين وبيَّنَّا حقيقةَ نصبها وزَعم سيبويه والخليلُ أنه يجوز أن تُرفَع النًكرات بتَنْوينِ وأن قول العجاج تالله لولا أن يحشَّن الطُّبَّخُ. . . بَي الجَحيمَ حينَ لامُسْتَصرخُ يجب أن يكون رفع مستصرخ بلا، وأن قوله. مَن صَدَّ عن نِيرانِها. . . فأنا ابن قيس لاَ بَراحُ

(198)

وحقيقة ما ارتفَعَ بعدها عند بعض أصحابه على الابتداءِ لأنه إذا لم تنصب فَإنَّما يُجريَ ما بعدها كما يُجرى ما بعد هَل، أي لا تَعْمل فيه شيئاً، فيجوز أن يكون لا رفث على ما قال سيبويه ويجوز أن يكون على الابتداءِ كما وصفنا، ويكون في الحج هو خبر لهذه المرفوعات، ويجوز إِذا نصبت ما قبل المرفوع بغير تنوين وأتيت بما بعده مرفوعاً أن يكون عطفاً على الموضع، ويجوز أن يكون رفعه على ما وصفنا، فأما العطف على الموضع إِذا قلت لا رجل وغلام في الدار فكأنك قلت ما رجل ولا غلام في الدار. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى). يروى أن قوماً كانوا يخرجون في حجهم يَتَأكَّلونَ الناس، يخرجون بغير زاد، فأمروا بأن يتزودوا، وأعلموا مع ذلك أن خير ما تزود به تقوى اللَّه عزَّ وجلَّ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ). (الألباب) واحدها لب، وهي العقول (أُولِي) نصب لأنه نداء مضاف. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) قيل إنهم كانوا يزعمون أنه ليس لِحمَّال ولا أجير ولا تَاجر حج فأعلمهم اللَّه عزَّ وجلَّ. أن ذلك مباح، واف لا جناح فيه، أي لا إِثم فيه، وجناح اسم ليس، والخبر عليكم، وموضع أنْ نصب على تقدير ليس عليكم جناح في أن تبتغوا فلما أسقطت " في " عمل فيها معنى جناح. المعنى لستم تأثمون أن تبتغوا، أي في أن تبتغوا.

وقوله عزَّ وجلَّ: (فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ). قد دل بهذا اللفظ أن الوقوف بها واجب لأن الِإفاضة لا تكون إلا بعد وقوف، ومعنى (أفضتم)، دَفعتم بكثرة، ويقال أفاض القوم في الحديث إذا اندفعوا فيه وأكثروا التصرف. وأفاض الرجل إِناءَه إِذا صبه وأفاضَ البعيرُ بجرته إذا رمى بها متَفرقَةً كثيرة. قال الراعي: وأفضْن بعد كظُومُهن بجرة. . . من ذي الأباطح إذ رعْين حقيلا وأفاض الرجل بالقداح إذا ضرب بها، لأنها تقع منبعثة متفرقة قال أبو ذؤلب: وكأنهنَّ رِبابَة وكأنَّه. . . يَسِر يَفِيض على القِداح ويصدع وكل ما في اللغة من باب الإفاضة فليس يكون إِلا من تَفْرقةٍ اوكثرة. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (مِنْ عَرَفَاتٍ). القراءَة والوجه الكسر والتَنْوينُ، وعرفات اسم لمكان واحد ولفظه لفظ الجمع، والوجه فيه الصرف عند جميع النحوين لأنه بمنزلة الزيدين يستوي نصبه وجره، وليس بمنزلة هاءِ التأنيث -، وقد يجوز منعه من الصرف إذا كان اسماً لواحد، إِلا أنه لا يكون إلا مكسوراً وإن أسقطت التنوين. قال امرؤ القيس:

(199)

تنورثها من أذرعاتَ وأهلُها. . . بيثرب أدنى دارها نظر عال فهذا أكثر الرواية، وقد أنشد بالكسر بغير تنوين، وأما الفتح فخطأ لأن نصب الجمع وفتحه كسر. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ). هو مزدلفة، وهي جمع، يسمى بهما جميعاً المشعر المتعبد * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ). موضع الكاف نصب، والمعنى واذكروه ذكراً مثل هدايته إياكم أي يكون جزاء لهدايته إياكُم، واذكروه بتوحيده، والثناءِ عليه والشكر. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ). معنى (من قبله) أي من قبل هدايته، ومعنى كنتم من قبله (لمن (الضالين) هذا من التوكيد للأمر، كأنه قيل وما كنتم من قبله إلا ضالين. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) قيل كانت الحُمْسُ من قريش وغيرها (وقد بيَّنَّا الحمس فيما تقدم) لا تفيض مع الناس في عرفة - تتمسك بسنتها في الجاهلية، وتفعل ذلك افتخاراً على الناس وتعالياً عليهم، فأمرهم الله عزَّ وجلَّ أن يساووا الناس في الفرض، وأن يقفوا مواقفهم وألا يفيضوا من حيث أفاضوا. وقله عزَّ وجلَّ: (وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). أي سلوه أن يغفرَ لكم من مخالفتكم الناسَ في الِإفاضة والموقف. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200)

(201)

أي متعبداتكم التي أمرتم بها في الحج. (فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ). وكانت العرب إذا قضت مناسكها، وقفت بَيْن المسْجد بمنى وبين الجبل فتعدد فضائل آبائها وتذكر محاسنَ أيامها. فأمرهم اللَّه أن يجعبوا ذلك الذكر له. وأن يزيدوا على ذلك الذكر فيذكروا اللَّه بتوحيده وتعديد نعمه، لأنه إِنْ كانت لآبائهم نعم فهي من اللَّه عزَّ وجلَّ، وهو المشكور عليها. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا). (أَشَدَّ) في موضع خفض ولكنه لا يتصرف لأنه على مثال أفعل، وهو صفته، وِإن شئت كان نصباً على واذكروه أشد ذكراً. و (ذِكْرًا) منصوب على التميز. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا). (آتنا) وقف لأنه دعاء، ومعناه أعطنا في الدنيا، وهُؤلاءِ مشركو العرب كانوا يسألون التوسعة عليهم في الدنيا ولا يسألون حظا من الآخرة لأنهم كانوا غير مؤمنين بالآخرة. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ). يعني هُؤلاءِ، والخلاق النصيب الوافر من الخير. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) هؤُلاءِ المؤمنون يسْألون الحظ في الدنيا والآخرة. والأصل في " قنا " اوْ قِينا - ولكن الواو سقطت كما سقطت من يَقِي، لأن الأصل " يَوْقي " فسقطت الواو

(202)

لوقوعها بين ياء وكسرة، وسقطت ألف الوصل للاستغناء عنها لأنها اجتلبت لسكون الواو، فإذَا أسقطت الواو فلا حاجة بالمتكلم إليها، وسقطت الياءُ للوقف - وللجزم في قول الكوفيين - والمعنى أجعلنا مُوقَيْنَ مِن عذاب النار. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202) أي دعاؤهم مستجاب لأن كسبهم ههنا الذي ذكر هو الدعاءُ وقد ضمن اللَّه الِإجابة لدعاء من دعاه إِذا كان مؤمناً، لأنه قد أعلمنا أنه يضل أعمال الكافرين، ويحبطها، ودعاؤُهم من أعمالهم. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَاللَّهُ سَرِيعُ الحِسَابِ). المعنى أنه قد علم ما للمحاسَب وما عليه قَبْل توقيفه على حسابه، فالفائدة في الحساب علم حقيقته - وقد قيل في بعض التفسير - إِن حساب العبد أسرع من لمح البصر - واللَّه أعلم. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203) قالوا: هي أيام التشريق، (معدودات) يستعمل كثيراً في اللغة للشيءِ القليل - وكل عدد قل أو كثر فهو معدود، ولكن معدودات أدل على القلة، لأن كل قليل يجمع بالألف والتاء، نحو دريْهمَات وجماعات. وقد يجوز وهو حسن كثير أن تقع الألف والتاء للكثير، وقد ذُكِرَ أنه عيبَ عَلى القائل: لنا الجَفَنَاتُ الغر يلمعْن بالضحى. . . وأسيافنا يقطرْنَ من نجدة دمَا فقيل له لم قَلَّلْتَ الجَفَنَاتِ ولَمْ تَقُل: الجِفان. وهذا الخبر - عندي - مَصْنوع لأن الألف والتاء قد تأتي للكثرة - قال اللَّه عزَّ وجلَّ:

(204)

(إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ). وقال: (في جنات)، وقال (في الغرفات آمنون)، فالمسلمون ليسوا في جنات قليلة، ولكن إذا خص القليل في الجمع بالألف والتاء، فالألف والتاء أدل عليه، لأنه يلي التثْنِيَةِ، تقول: حمام، وحمامان وحمامات، فتؤَدى بتاءِ الواحد، فهذا أدل على القليل، وجائز حسن أن يراد به الكثير، ويدل المعنى المُشَاهَدُ على الإرَادَة، كما أن قولك جمع يدل على القليل والكثير. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ). أي من نفر في يومين. (فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى). قيل لمن اتقى قتل الصيد، وقالوا: لمن اتقى التفريط في كل حدود الحج. فموسع عليه في التعجل في نَفْرِه. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) - موضع (مَنْ) رفع على ضربين: على الابتداء، وبالعامل في (مِنْ) وقد شرحنا هذا الباب. ويروى أن رجلًا من ثقيف كان يعجب النبي - صلى الله عليه وسلم - كلامُه، ويظهر له من الجميل خلاف ما في نفسه. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ).

(205)

وإِن قلت ويشْهدُ اللَّه على ما في قلبه فهو جائز إِن كان قد قرئ به والمعنى فيه أن الله عالم بما يُسِرَّه، فأعلم اللَّه عزَّ وجلَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - حقيقةَ أمر هذا المنافق - وقال: (وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ). ومعنى خَصم ألدُّ في اللغة - الشديد الخصومة والجَدَلِ، واشتقاقه من لُدَيْدَي العُنق، وهما صفحتا العنق، وتأويله، أن خصمه في أي وجه أخذ - من يمين أو شمال - من أبواب الخصومة غلبه في ذلك. يقال رجل ألدُّ، وامرأة لَدَّاء وقوم لُدٌّ - وقد لَدَدْتُ فُلاناً ألَده - إِذا جادلته فغلبتُه. وخصام جمع خَصْمٍ، لأن فعلاً يجمع إِذا كان صفة على فِعَالٍ، نحو صَعْب وصِعَاب، وخَدْل وخِدَال. وكذلك أن جعلت خصماً صفة، فهو يجمع على أقل العدد، وأكثره على فَعُول وفِعَالٍ جميعاً، يقال خَصْم وخِصَام وخُصُوم، وإِن كان اسماً فَفِعَال فيه أكْثر العدَدِ، نحو فَرْخ وأفراخ، لأقل العدد، وفِراخ وفُروخ لما جاوز العشرة. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) نصب (لِيُفْسِدَ) على إضمار أن، المعنى لأن يفسد فيها، وعطف ويُهلك علي وُيفسد، ويجوز أن يكون (يُهْلِكَ الحَرْثَ والنَسْلَ) على الاستئناف أي وهو يهلكُ الحرثَ والنسل، أي يعتقد ذلك. وقالوا في (الحرث والنسل): إن الحرث النساء والنسل الأولاد. وهذا غير منكر

(207)

لأن المرأة تُسمَّى حرْثاً - قال اللَّه عزَّ وجلَّ: (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) وأصل هذا إِنما هو في الزرع، وكل ما حرث. فيشبه ما منه الولد بذلك. وقالوا في الحرث هو ما تعرفه من الزرع. لأنه إذَا أفسد في الأرض أبطل - بإفْساده وإِلقائه الفتنة - أمْرَ الزراعة. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207) قال أهل اللغة - (يَشْرِي نَفْسَهُ) يبيع نفسه، ومعنى بيعه نفسه بذلها في الجهاد في سبيل اللَّه. قال الشاعر في شريت بمعنى بعت: وَشَرَيْتُ بُرداً ليتني. . . من بعد برد كنت هامه وقال أهل التفسير هذا رجل كان يقال له صهيب بن سنان. أراده المشركون مع نفر معه على ترك الِإسلام، وقتلوا بعض النفر الذين كانوا معه فقال لهم صهيب أنا شيخ كبير، إن كنت عليكم لم أضُركم " وإِن كنت معكم لم أنفعكم فخلوني وما أنا عليه، وخذوا ماليَ فقبلوا منه ماله، وأتى المدينة فلقيه أبو بكر الصديق رضي اللَّه عنه فقال له: ربح البيع يا صهيب، فرد عليه وأنت فربح بيعك يا أبا بكر وتلا الآية عليه.

(208)

ونصب (ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ) على معنى المفْغول له. المعنى يشريها لابتغاءِ مرضاة اللَّه. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) (كافة) بمعنى الجميع الِإحاطة، فيجوز أن يكون معناه ادخلوا جميعاً، ويجوز أن يكون معناه: ادخلوا في السلم كله أي في جميع شرائعه، ويقال السلْم والسلم - (جميعاً)، ويعني به الِإسلام والصلح، وفيه ثلاث لغات: يقال: السِّلْم، والسَّلَمُ، والسَّلْمُ، وقد قرئ به: (وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ ألْقَى إِلَيْكم السلَامَ). ومعنى (كافة) في اشتقاق اللغة ما يكف الشيء من آخره، من ذلك كفُة القميص، يقال لحاشية القميص كُفة، وكل مستطيل فحرفه كُفَه، ويقال في كل مستدير كِفَّه، وذلك نحو كِفَّة الميزان، ويقال إِنَّما سميت كُفَّة الثوب لأنها تمنعه أن ينتشر، وأصل الكَف المنع، ومن هذا قيل لطرف اليد " كف " لأنها يكف بها عن سائر البدن، وهي الراحة مع الأصابع، ومن هذَا قيل رجل مكفوف، أي قد كُف بصره من أن ينظر: فمعنى الآية: ابْلغُوا في الِإسلام إلى حيث تنتهي شرائعه، فكفوا من أن تعدوا شرائعه. أو ادْخُلُوا كلكم حتى يكف عن عددٍ وأحدٍ لم يدْخل فيه. وقيل في معنى الآية أن قوعاً من إليهود أسلموا فأقاموا على تحريم السبت وتحريم أكل لحوم الِإبل، فأمرهم اللَّه عزَّ وجلَّ - أن يدخلوا في جميع شرائع الِإسلام وقال بعض أهل اللغة: جائز أن يكون أمرَهُمْ - وهم مؤمنون - أن يدخلوا في الِإيمان، أي بأن يقيموا على الِإيمان ويكونوا فيما يستقبلون عليه كما قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ)، وكلاَ القولين

(209)

جائز لأن الله عزَّ وجلَّ، قد أمر بالِإقامة على الِإسلام فقال: (وَلَا تَمُوتُنَّ إِلا وَأنْتم مُسْلِمونَ). * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَا تَتبِعُوا خطواتِ الشيْطَانِ). أي لا تقتفوا آثاره، لأنَّ تَركَكم شيئاً من شرائع الِإسلام اتباع الشيطان. (خُطُواتِ) جمع خطوة، وفيها ثلاث لغات: خُطُوات، وخطَوات، وخُطْوات، وقد بيَّنَّا العلة في هذا الجمع فيما سلف (من الكتاب). * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209) يقال زل يزِل زَلاً وزلَلاً جميعاً، ومَزلَّة، وزل - في الطين زليلًا، ومعنى (زَلَلْتُمْ) تنحيتم عن القصد والشرائع. (فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ). ومعنى (عَزِيزٌ): لا يُعْجِزونه ولا يُعجزه شيء. ومعنى (حَكِيمٌ)، أي حكيم فيما فطركم عليه، وفيما شرع لكم من دينه. * * * ْوقوله عزَّ وجلَّ: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210) قال أهل اللغة معناه يأتيهم اللَّه بما وعدهم من العذاب، والحساب كما قال: (فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا) أي آتاهم بخذلانه إياهم. و (ظُلَلٍ) جمع ظُلَّة. و (الملائكة) تقرأ على وجهين بالضم والكَسْر فمن قرأ الملائكةُ بالرفع،

(211)

فالمعنى ينظرون إلا أن يأتيهُبم اللَّه والملائكةُ، والرفع هو الوجه المختار عند أهل اللغة في القراءَة، ومن قرأ والملائكة، فالمعنى هل ينظرون إلا أن يأتيهُمُ الله في ظلل مِنَ الغمام وظُلَل منَ الملائكة. ومعنى (وَقُضِيَ الأمْرُ) أي فرغ لهم ما كانوا يُوعَدُونَ. ومعنى (وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) وتَرجِعُ الأمور - يقرأان جميعاً - تُرَدُّ فإن قال قائل أليست الأمور - الآن وفي كل وقت - راجعة إِلى الله عزَّ وجلَّ، فالمعنى في هذا: الإعْلامُ في أمر الحساب والثواب والعقاب، أي إِليه تصيرون فيعذب من يشاءُ ويرحم من يشاءُ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211) الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - والمعنى له ولسائر المؤمنين وغيرهم. المعنى أنهم أعْطُوا آياتٍ بينات قد تقدم ذكرها، وقد علموا صحة أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - وجحدوا، وهم عالمون بحقيقته. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ). يعني به في هذا الموضع حُجَجَ اللَّه الدالة على أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - فإن الله شديد العقاب (أي شَدِيدُ التعْذِيبِ). * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212) رُفِعَ على ما لم يسم فاعله، و (زُيِّنَ) جاز فيه لفظ التذكير، ولو كانت زُيِّنَت لكان صواباً. وزين صواب حسن، لأن تأنيث الحياة ليس بحقيقي، لأن معنى الحياة ومعنى العيش واحد، وقد فُصِلَ أيضاً بين الفعل وبين الاسم المؤنث.

(213)

وقيل في قوله (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا) قولان: قال بعضهم زينها لهم إِبْلِيس، لأن اللَّه عزَّ وجلَّ قَد زَهَّد فيها وأعلم أنها متاع الغرور. وقال بعضهم: معناه أن اللَّه عزَّ وجلَّ خلق فيها الأشياءَ المعجبة فنظر إليها الذين كفروا بأكثر من مقدارها، ودليل قول هُؤلاءِ قوله تعالى: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ) وكلٌّ جائز. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا). كان قوم من المشركين يسخرون من المسلمين لأن حالهم في ذات اليد كانت قليلة، فأعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - بأن الذين اتقوا فوقهم يوم القيامة. لأن المسلمين في عليين والفجَّارَ في الجحيم، قال اللَّه - عزَّ وجلَّ - (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29. ومعنى: (واللَّهُ يَرْزقُ مَنْ يَشَاءُ بغَيْر حِسَابٍ). أي ليس يَرْزُق المؤمنَ على قدر إيمانه ولا يَرزُقُ الكافرَ على قدر كفره. فهذا معنى (بغير حساب) - أي ليس يحاسبه بالرزق في الدنيا على قدر العمل، ولكن الرزق في الآخرة على قدر العمل وما يتفضل اللَّه به جلَّ وعزَّ. قوله عزَّ وجلَّ: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213) أي على دين واحد، والأمة في اللغة أشياءُ، فمنها الأمة الدين، وهو هذا، والأمة القَامة يقال فلان حسن الأمَّة، أي حسن القامة. قال الشاعر: وأن معاوية الأكرمين حِسَان الوجُوه طوال الأمَمْ

أي طوال القامات، والأمة القرن من الناس، يقولون قد مضت أمَمٌ أي قرون، والأمة الرجَل الذي لا نظير له. ومنه قوله عزَّ وجلَّ - (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا). قال أبو عبيدة معنى (كَانَ أُمَّةً) كان إمَاماً، والأمة في اللغة النَعْمَةُ والخير. قال عدي بن زيد. ثم بعد الفلاح والرشد والأمَّةِ وارتْهُمُ هناك القبور. أي بعد النعمة والخير، وذكر أبو عمرو الشيباني أن العرب تقول للشيخ إذا كان باقي القوة فلان بِأمَّةٍ، ومعناه راجع إلى الخير والنعمة، لأن بقاءَ قوته من أعظم النعمة، وأصل هذا كله من القصد، يقال أمَمْتُ الشيءَ إذا قصدْتُه، فمعنى الأمة في الدين أن مقصدهم مقصد واحد، ومعنى الأمة في الرجل المنفرد الذي لا نظير له، أن قصده منفرد من قصد سائر الناس. ويروى أن زيد بن عدي بن نفيل يبعث يوم القيامة أمة وحده وإنما

ذلك لأنه أسلم في الجاهلية قبل مبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - فمات موحداً فهذا أمة في وقته لانفراده، وبيت النابغة: حلفت فلم أترك لنفسك ريبة. . . وهل يأثمن ذو أمَّةٍ وهو طائع ويروى ذو أمَةَ، وذو إمة، ويحتمل ضربين من التفسير: ذو أمة: ذو دين وذو أمة: ذو نعمة أسْدَيَتْ إليه، ومعنى الأمة القامة: سائر مقصد الجسد. فليس يخرج شيء من هذا الباب عن معنى أممت أي قصدت، ويقال إِمامنا هذا حَسنُ الأمة أي يقوم بإمامتهِ بنَا في صلاته ويحسن ذلك. وقالوا في معنى الآية غيرَ قول: قالوا كان الناس فيما بين آدم ونوح عليهما السلام - كُفاراً، فبعث الله النبيين يبشرون من أطاع بالجنة، وينذرون من عصي بالنار، وقال قوم: معنى كان الناس أمَّة واحدةً، كان كل من بعث إليه الأنبياءِ كفاراً: (فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) ونصب (مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) على الحال، فالمعنى أن أمم الأنبياءِ الذين بعث إليهم الأنبياءَ كانوا كفاراً - كما كانت هذه الأمة قبل مبعث النبي - صلى الله عليه وسلم. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ). أي ليفصل بينهم بالحكمة. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ). أي ما اختلف في أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا الذين أعْطُوا علمَ حَقيقتِهِ. وقوله: (بَغْيًا بَيْنَهُمْ) نصب (بَغْيًا) على معنى مفعول له، المعنى لم يوقعوا الاختلاف إلا

(214)

للبغي، لأنهم عالمون حقيقة أمره في كتبهم. وقوله عزَّ وجلَّ: (فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ). أي للحق الذي اختلف فيه أهل الزيغ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (بِإِذْنِهِ) أي بعلمه، أي من الحق الذي أمَرَ به. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ). أي إلى طريق الدين الواضح، ومعنى (يَهْدي من يشاءُ): يدله على طريق الهدى إذا طلبه غير متعنت ولا باغ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214) معناه: بل أحسبتم أن تدخلوا الجنة. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ). معنى (مثل الذين): أي صفة الذين، أي ولما يصبكم مثل الذي أصاب الذين خلوا من قبلكم، و (خلوا) - مضوا. (مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ) البأْساءُ والضراءُ: القتل والفقر. و (زُلزلوا) معنى (زلزلوا) - خُوِّفُوا وحُركُوا بما يُؤْذي، وأصل الزلزلة في اللغة من زَلً الشيءَ عن مكانه فإذا قلت زلزلة فتأويله كررت زلزلته من مكانه، وكل ما فيه ترجع كررت فيه فاءُ التفعيل، تقول أقل فلان الشيءَ إذا رفعه من مكانه فإِذا كرر رفعه ورده قيل قلقله، وكذا صل، وصَلْصَل وصَر وصَرْصَرَ، فعلى هذا قياس هذا الباب. فالمعنى أنه يكرر عليهم التحريك بالخوف. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (حتى يقولَ الرسُولُ).

قرئت حتى يقولَ الرسولُ - بالنصب - ويقولُ - بالرفع. وإِذا نصبت بحتىٍ فقلت سرت حتى أدخلها. فزعم سيبويه والخليل وجميع أهل النحو الموثوق بعلمهم أن هذا ينتصب على وجهين. فأحد الوجهين أن يكون الدخول غاية السير، والسير والدخول قد نصبا جميعاً، فالمعنى: سرت إِلى دخولها، وقد مضى الدخول، فعلى هذا نصبت الآية: المعنى وزلزلوا إِلى أن يقول الرسول. وكأنه حتى قول الرسول. ووجهها الآخر في النصب أعني سرت حتى أدخلها أن يكون السير قد وقع والدخول لم يقع، ويكون المعنى سرت كي أدخلها - وليس هذا وَجْه نَصْب الآية. ورفع ما بعد حتى على وجهين، فأحد الوجهين هو وجه الرفع في الآية. والمعنى سرت حتى أدخلها، وقد مضى السير والدخول كأنَّه بمنزلة قولك سرت فأدخلها. بمنزلة: (سِرْتً) فدخلتها، وصارت حتى ههنا مما لا يَعْمَل في الفعل شيئاً، لأنها تلي الجمل، تقول سرت حتى أني دَاخل - وقول الشاعر: فيا عجبا حتى كليب تَسُبُّنِي. . . كَأنَّ أباها نهشَلٌ أو مُجَاشِع فعملها في الجمل في معناها لا في لفظها. والتأويل سرت حتى دخولها وعلى هذا وجه الآية. ويجوز أن يكون السير قد مضى والدخول واقع الآن وقد انقطع السير، تقول سرت حتى أدخلها الأن ما امْنَع فَهذه جملة باب حتى. . ومعنى الآية أن الجهد قد بلغ بالأمم التي قبل هذه الأمة حتى استبطأوا النصر، فقال الله عزَّ وجلَّ: (أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ).

(215)

فأعلم أولياءَه أنَّه ناصرهم لا محالةَ، وأن ذلك قريب منهم كما قال: (فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56). * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215) قيل إِنهم كانوا سألوا: عَلى مَنْ ينبغي أن يُفْضِلوا - فأعلم اللَّه عزَّ وجل أن أول مَن تُفُضِّلَ عليه الوالدان والأقربون، فقال: (قُلْ مَا أنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ) أي من مال: (فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ). أي يحصيه، وإِذا أحصاه جازى عليه، كما قال: (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره). أي يرى المجازاة عليه، لأن رؤْية فعله الماضي لا فائدة فيه. ولا يرى لأنه قد مضى. ومعنى " مَاذَا " في اللغة على ضربين، فأحدهما أن يكون " ذا " في معنى الذي، ويكون ينفقون من صلته، المعنى يسألونك أي شيءٍ الذي ينفقون كأنه أي شيء وجه الذي ينفقون، لأنهم يعلمون ما المنفق ولكنهم أرادوا علم اللَّه وجهه. ومثل جعلهم " ذَا " في معنى الذي قول الشاعر:

(216)

عَدَسْ ما لعَبَّادٍ عليك إمارَةٌ. . . أَمِنْتِ وهذا تَحْملين طليقُ والمعنى والذي تحملينه طليق، فيكون ما رفعاً بالابتداءِ، ويكون ذا خبرها. وجائز أن يكون " مَا " " مع " " ذا " بمنزلة اسم واحد، ويكون المَوضِع نَصباً بـ (ينفقون). المعنى يسألونك أي شيءٍ ينفقون، وهذا إِجماع النحويين، وكذلك الوجه الأول إِجماعٌ أيضاً، ومثل جعلهم ذا بمنزلة اسم واحد، قول الشاعر: دَعِي ماذا علمت سأتقيه. . . ولكن بالمغيب فنبئيني كأنه بمنزلة: دعي الذي علمت. وجزم (وَمَا تَفْعَلوا) بالشرط، واسم الشرط " ما " والجواب (فَإنَّ اللَّه بِهِ عَلِيمٌ) وموضع " ما " نصب بقوله (تَفْعَلوا). * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216) معنى (كتب عليكم) فرض عليكم، والكره يقال فيه كرِهت الشيءَ كًرْهاً وكَرْهاً، وكَرَاهة، وكَرَاهِيَةً، وكل ما في كتاب الله عزَّ وجلَّ من الكُرْهِ فالفتح جائز فيه، تقول الكُره والكَرْه اِلا أن هذا الحرف الذي في هذا الآية - ذكر أبو عبيدةَ - أن الناس مجمعونَ على ضَمهِ، كذلك قراءَة أهل الحجاز وأهل الكوفة جميعاً (وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) فضموا هذا الحرف.

(217)

ارتفع (كُرْهٌ) لأنه خبر الابتداءِ - وتأويله ذو كره - ومعنى كراهتهم القتال أنهم إِنما كرهوه على جِنْس غِلَظَه عليهم ومشقًتِه، لاَ أن المؤمنين يكرهون فرض اللَّه - عزَّ وجلَّ - لأن اللَّه - عزَّ وجلَّ - لا يفعل إِلا ما فيه الحكمة والصلاح. وقوله: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ). (وهو خير لكم) يعني به ههنا القتال، فمعنى الخير فيه، أن مَنْ قُتِلَ فهو شهيد وهذا غاية الخير، وهو إنْ قَتَل مُثاب (أيضاً) وهادِمٌ أمرَ الْكُفْر. وهو مع ذلك يغنم، وجائز أن يستدعِيَ دخولَ من يقاتله في الإسلام، لأن أَمر قتال أهل الإسلام كله كان من الدلالات التي تثبت أمر النبوة - والإسلَام، لأن الله أخبر أنَّه ينصر دينه، ثم أبان النصر بأن العدد القليل يغلبُ العددَ الكثيرَ فهذا ما في القتال من الخير الذي كانوا كرهوه. ومعنى: (وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ). أي عسى أن تحبوا القعود عن القتال فتحرموا ما وصص عن الخير الذي في القتال. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217) (قتالٍ) مخْفُوضٌ على البدل من الشهر الحرام. المعنى يسألونك عن قتال في الشهر الحرام، وقد فسرنا ما في هذه الآية فيما مضى من الكتاب. ورفع (قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ) (قِتَالٌ) مرتفع بالابتداءِ، و (كَبِيرٌ) خبره.

(218)

ورفع (وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ) على الابتداءِ، وخبر هذه الأشياءُ (أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ) والمعنى وصد عن سبيل اللَّه، وكفر به، وإخراج أهلَ المسجد الحرام منه أكبر عند اللَّه أي أعظم إِثْماً. (وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ). أي والكفر أكبر من القتل، المعنى وهذه الأشياءُ كفر، والكفر أكبر من القتل. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمَنْ يَرتَدِدْ مِنكُمْ عنْ دِينه فيمُتْ وهوكَافِرٌ). يرتدد جزم بالشرط، والتضعيف يظهر مع الجزم، لسكون الحرف الثاني - وهو أكثر في اللغة - وقرئَ: (يَا أيَهَا الذين امنوا من يَرتَدَّ) بالإدغام والفتح وهي قراءَة الناسِ إِلا أهلَ المدينة فإِن في مصحفهم مَن يرتدد وكلاهما صواب، والذي في سورة البقرة لا يجوز فيه إلا من يرتَدِدْ لإطباق أهل الأمصار على إِظهار التضعيف وكذلك هو في مَصَاحفهم، والقراءَة سنَة لا تُخَالف، إِذا كان في كل المصحف الحرف على صورة لم تجز القراءَة بغيره. ويجوز أن تقولَ من يرتدَّ منكم فتكسر لالتقاءِ السَّاكنين إِلا أن الفتح أجود لانفتاحَ التاءِ، وإِطباق القراءِ عليه. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218) (الذين) نصب بأنَّ، و (أُولَئِكَ) رفع بالابتداءِ، و (يرجُونَ) خَبَرُ (أُولَئِكَ) و (أُولَئِكَ يَرْجُونَ) خبرُ (إِنَّ الذين) - وإِنما قيل في المؤمنين المجاهدين ههنا أنهم إِنما يرجون

(219)

رحمة اللَّه لأنهم عند أنفسهم غيرُ بالغين ما يَجب لِلَّهِ عليهم، ولا يعملون ما يختمون به أمرهم. وجملة ما أخْبَرَ الله به عن المؤمنين العاملين الصالحاتِ أنَّهم يجازَوْن بالجنة. قال الله عزَّ وجلَّ: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ). * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) (الخمر) المجمع عليه، وقياس كل ما عمل عملها أن يقال له خمر. وأن يكون في التحريم بمنزلتها. وتأويل الخمر في اللغة أنه كل ما ستر العقل، يقال لكل ما ستر الِإنسان مق شجرٍ وغيره خمر، وما ستره من شجر خاصة ضَرَى، " مقصور "، ويقال دخل فلان في خِمَارٍ أي في الكثير الذي يستتر فيه وخِمار المرأة قناعها، وإِنما قيل له خِمار لأنه يغطي، والْخُمرَةُ التي يُسْجَد عليها إنما سميت بذلك لأنها تستر الوجه عن الأرض، وقيل للعجين قد اختمر لأن فطرته قد غطاها الخمر أعني الاختمار - يقال قد اختمر العَجينُ وخَمَرَته، وفَطَرْتُه وأفْطَرتُه. فهذا كله يدل على أن كل مسكر خمر وكل مسكر مخالط العقل ومغط عليه، وليس يقول أحد للشارب إِلا مخمور - من كل سكر - وبه خُمَار، فهذا بَيِّن واضح. وقد لُبِّس على ابي الأسود الدؤُلي فقيل له: إِن هذا المسكر الذي سموه بغير الخمر حلال فظن أن ذلك كما قيل له، ثم قاده طبعه إِلى أن حكم بأنهُمَا واحد، فقال: دع الْخَمْرَ يَشْربْها الغواةُ فإِنَني. . . رأيت أخَاها مجزياً لمكانها

فإلَاَ يكنها أوتكنه فإنه. . . أخوها غذَتْه أمها بلبانها وقال أهل التفسير في قوله عزَّ وجلََّّ: (قُلْ فيهمَا إِثم كَبِير) وقرئت " كثير " قالَ قوم زَهَّد فيها في هذا الموضع وبين تحريمها في سورة المائدة في قوله: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91). ومعنى (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) التًحْضِيضُ على الانتهاءِ والتفديد على ترك الانتهاءِ. وقال قوم: لا بل تحرم بما بين ههنا مما دل عليه الكتاب في موضع آخر. لأنه قال: (إِثْمٌ كبير) وقد حرم الله الإثم نصًّا فقال: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ). وإنما بينا تحريم الخمر وإن كان مجمعاً عليه ليعلم أن نص ذلك في الكتاب. فأما الِإثم الكبير الذي في الخمر فبين، لأنها توقع العداوة والبغضاءَ وتحول بَيْنَ المرءِ وعقله الذي يميز به ويعرف ما يجب لخالقه. والقِمَارُ يورث العداوة والبغضاء وإن مال الإنسان يصير إلى غيره بغير جزاء يؤخذ عليه، وأما المنافع للناس فيه فاللذة في الخمر والربْحُ فِي المُتَجَّرِ فيها، وكذلك المنفَعَةُ في

القمار، يصير الشيءِ إلى الإنسان بغير كد ولا تعب فأَعلم اللَّه أن الإثم فِيهِما (إثم) أكبر من نفعهما. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ). النصنب والرفع في (العفو) جميعاً، مَنْ " جعل (ماذا) اسماً واحداً رد العفو عليه ومن جعل " ما " اسماً و " إذا " خبرها وهي في معنى الذي رد العفو عليه فرفع، كأنه قال: ما الذي ينفقون؟ فقال: العفو، ويجوز أن ينصب العفو وإن كان ما وحدها اسماً فتحمل العفو علي ينفقون، كأنه قيل أنفقوا العفو. ويجوز أيضاً أن ترفع - وإن جعلت (ماذا) بمنزلة شيء واحد على "قل هًو العفوُ". والعفوُ في اللغة الفضل والكثرة، يقال عفا القومُ إذا كثروا. فَأمروا أَن ينفقوا الفضل إلى أن فرضت الزكاة، فكان أهل المكاسب يأخذ أحدهم من كسبه ما يكفيه ويتصدق بباقيه، ويأخذ أهل الذهب والفضة ما يكفيهم في عامهم وينفقون باقيه هذا قد روي في التفسير، والذي عليه الإجماع أن الزكاة في سائر الأشياء قد بينت ما يجب فيها. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (كَذَلِكَ يُبين اللَّه لكُمُ الآياتِ). أي مثل هذا البيان في الخمر والميْسِرْ (يبين الله لكم الآيات): لأن خطاب النبي - صلى الله عليه وسلم - مشتمل على خطاب أمته كما قال عزَّ وجلَّ: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ) ومثل هذا في القرآن كثير يحكي مخاطبة الِإجماع بذلك، وذلكم أكثر في

(220)

اللغة، وقد أتي في القرآن في غير " ذَلِك " للجماعة - قال اللَّه تعالى: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) - والأصل ذلكن، إلا أن الجماعة في معنى القبيل. * * * وقوله عز وجل: لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ). يجوز أن يكون (تتفكرون في الدنيا والآخرة) من صلة تتفكرون المعنى لعلكم تتفكرون في أمر الدنيا وأمر الآخرة -، ويجوز أن يكون في الدنيا والآخرة من صلة كذلك يبين الله لكم الآيات). أي يبين لكم الآيات في أمر الدنيا وأمر الآخرة لعلكم تتفكرون. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220) هذا مما نحكم تفسيره في سورة النساءِ إنْ شاءَ الله، إلا أن جملته أنهم كانوا يظلمون اليتامى، فيتزوجون العشر ويأكلون أموالهم مع أموالهم، فَشُدِّدَ عليهم في أمر اليتامى تشديداً خافوا معه التزويج بنساءِ اليتامى ومخالطتهم، فأعلمهم اللَّه أن الإصلاح لهم هو خير الأشياء، وأن مخالطتهم في التزويج وغيره جائزة مع تحري الِإصلاح فقال: (وإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ) أي فهم إخوانكم. فالرفع على هذا. والنصب جائز " وإِنْ تخالطوهم فإِخوانَكم " أي فإِخوانَكم تخالطون، ولا أعلم أحداً قرأ بها، فلا تقرأَنَّ بها إِلا أن تثبت رواية صحيحة. وقوله عزَّ وجلَّ: (ولَوْشَاءَ اللَّهُ لأعنَتَكُمْ). قال أبو عبيدة معناه لأهلككم، وحقيقته ولو شاءَ الله لكلفكم ما يشتد

(221)

عليكم فتعنتون، وأصل العنتْ في اللغة من قولهم: عنِتَ البعير يعنت إذا حدث في رجله كسر بعد جبر لا يمكنه معه تصريفها، ويقال اكمة غَنوتْ إِذا كان لا يمكن أن يُحازيها إلا بمشقة عنيفة. وقوله عزَّ وجلَّ: (إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)). أي يفعل بعزته ما يحب لا يدفغه عنه دافع. (حَكِيمٌ) أي ذو حكمة فيما أمركم به من أمر اليتامى وغيره. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221) معنى (لَا تَنْكِحُوا) لا تتزوجوا المشركات، ولو قرئت ولا تُنكِحوا المشركات كان وجهاً، ولا أعلم أحداً قرأ بها، والمعنى في هذا ولا تتزوجوا المشركات حتى يؤمن، ومعنى المشركات ههنا لكل من كفر بالنبي - صلى الله عليه وسلم - واللغة تطلق على كل كافر إنما يقال له مشرك - وكان التحريم قد نزل في سائر الكفار في تزويج نسائهم من المسلمين، ثم أحل تزويج نساءِ أهل الكتاب من بينهم. فقال اللَّه - عزَّ وجلَّ: (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ). فإِن قال قائل: من أين يقال لمن كفر بالنبي - صلى الله عليه وسلم - مشرك وإِن قال إِن اللَّه عزَّ وجل واحد؟ فالجواب في ذلك أنه إذا كفر بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فقد زعم أن ما أتى به من القرآن من عند غير اللَّه - جل ثناؤًه - والقرآن إِنما هو من عند اللَّه - عزَّ وجلَّ - لأنه يُعجِز المخلوقين أن يأتوا بمثله - فقد زعم أنه قد أتى غير الله بما لا يأتي به إِلا اللَّه - عزَّ وجلَّ - فقد أشرك به غيره.

(222)

وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221) وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا)). أي لا تزوجوهم مُسْلِمَةً. وقوله: (وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ). معناه وإن اعجبكم، إلا أن " لو " تأتي فْتنوب عن أن في الفعل الماضي. ومعنى الكلام أن الكافر شر من المؤمن لكم وإن أعجبكم أي أعجبكم أمره في باب الدنيا، لان الكافر والكافرة يدعوان إلى النار أي يعملان بأعمال أهل النار - فكأن نَسْلَكُمْ يتربى مَعَ مَنْ هذه حاله. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَاللَّهُ يَدْعُو إلى الْجَنة والْمَغْفِرَةِ بِإذْنِه). أي يدعوكم إلى مخالطة المؤمنين لأن ذلك أوصلُ لكم إلى الجنة ومعنى (بإِذنه) أي بعلمه الذي أعلم إنَّه وصلة لكم إليها. (وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ) أي علاماته، يقال آية وآيٌ، وآيات أكثر وعليها أتى القرآن الكريم. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ). معنى لعل ههنا الترجي لهم أي ليكونوا هم راجين - واللَّه أعلم أيتذكرون أم لا، ولكنهم خوطبوا على قدر لفظهم واستعمالهم. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) يقال حاضت المرأة تحيض حَيْضاً ومَحاضاً ومَحِيضاً، وعند النحويين أن المصدر في هذا الباب " الْمَفْعِل "، و " المفْعَل " جَيِّدٌ بَالِغٌ فيه يقال ما في بُرِّكَ " مَكال " أي كيل ويجوز ما فيه " مَكيل ".

قال الشاعر وهو الراعي: بُنِيَتْ مَرافِقُهُن فَوْق مَزلَّة. . . لا يستطيع بها القرادُ مقيلا أي قيلولة، ومعنى الآية أن العرب كانت تفعل في أمر الحائض ما كانت تفعل المجوس، فكانوا يجتنبون تَكْلِيفها عمل أي شيء وتُجْتَنَبُ في الجماع وسائر ما تُكَلَّفُه النساء، يريدون أنها نجَس، فأعلم اللَّه أن الذي ينبغي أن يجتنب منها بُضْع فقط، وأنها لا تُنَخسُ شيئاً، وأعلم أن المحيض أذى. أي مستقذر، ونهى أن تقرب المرأة حتى تتطهر من حيضها - بالماءِ بعد أن تطهر من الدم أي تنقى منه، فقال: (وَلَا تَقْربُوهُن حَتى يَطْهُرْنَ) - المعنى يتطهرن أي يغتسلن بالماءِ، بعد انقطاع الدم - وَقُرِئَتْ حتى يَطهَّرْنَ " ولكن (فَإِذَا تَطَهَّرْنَ) يدل على (وَلَا تَقْرَبُوهُن حَتى يَطهرْنَ) وكلاهما (يَطْهُرْن) ويطهَّرْن - وقرئ بهما - جيِّدان. ويقال طهَرَت وَطَهُرَتْ جمميعاً وطَهُرَتْ أكثر. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ). أي من الجهات التي يحل فيها أن تُقْرب المرأة، ولا تقربوهن مِنْ حيث لا يَجب، أعني ولا تقربوهن صاحباتٍ ولا عشيقاتٍ، وقد قيل في التفسير: (مِنْ حَيْثُ أمَرَكُمُ اللَّهُ). في الفروج، ولا يجوز أن يُقْربن في الدبر، والذي يروى عن مالك ليس بصحيح لأن إِجماع المسلمين أن الوطءَ، حيث يُبْتَغَى

(223)

النًسْلُ، وأن أمر الدُّبُر فاحشة، وقد جاءَ الحديث أن مَحَاشَّ النساء حرام. ويكنى به عن الدبر. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223) زعم أبو عبيدة أنه كناية، والقول عندي فيه أن معناه أن نساءكمْ حرث لكم منهن تحرثون الولد واللذة. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ)). أي كيف شئتم، أي ائْتوا موضع حرثكم كيف شئتم، وإنما قيل لهم كيف شئتم، لأن إليهود كانت تقول: إِذا جامع الرجل المرأة من خلفٍ خرج الولد أحول، فأَعلم اللَّه أن الجماع إِذا كان في الفرج حلال على كل جهة. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ). أي اتقوا الله فيمَا حَدَّ لكمْ من الجِمَاع وامر الحيْض، (وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ) أي قدموا طاعته واتباعَ أمره، فمن اتَبَعَ ما أمر الله به فقد قَدَّمَ لنفسه خيراً. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) موضع " أنْ " نصب بمعنى عرضة المعنى لا تعرضوا باليمين باللَّهِ في أن تبروا - فلما سقطت " في " أفضى لمعنى الاعتراض، فنصب أن. وقال غير واحد من النحويين إن موضعها جائز أن يكون خفضاً وإن سقطت " في " لأن " أن " الحذف فعها مستعمل، تقول جئت لأن تضرب زيداً، وجئت أن تضرب زيداً، فحذفْتَ اللام مع " أن " ولو قلت جئت ضربَ زيد

(225)

تريد لضرب زيد لم يجز كما جاز مع " أن " لأن " أن " إذا وصلت - دل ما بعدها على الاستقبال. والمعنى: كما تقول: جئتك أن ضربت زيداً، وجئتك أن تضرب زيداً، فلذلك جاز حذف اللام. وإذا قلت: جئتك ضرب زيد لم يدل الضرب على معنى الاستقبال. والنصب في " أن " في هذا الموضع هو الاختيار عند جميع النحويين. ومعنى الآية أنهم كانوا يعتلون في البر بأنهم حلفوا، فأَعلم اللَّه أن الإثم إِنما هو في الإِقامة على ترك البر والتقوى، وإن اليمين إذا كفرت فالذنب فيها مغفور، فقال عزَّ وجلَّ: (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225) فقيل في معنى اللغو غير قول، قال بعضهم معناه: " لا واللَّه " و " بلى واللَّه " وقيل: إِن معنى اللغو الإِثم - فالمعنى لا يؤاخذكم اللَّه بالإِثم في الحلف إِذا كَفًرْتُمْ. وإِنَّمَا قيل له لغو لأن الإثم يسقط فيه إذا وقعت الكفارة. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ). أي بعَزْمكم على ألا تَبَروا وألا تتقوا، وأن تعتلوا في ذلك بأنكم قد حلفتم، ويقال: لغوت ألغو لغْواً، ولغوت ألْغَى لغواً، مثل محوت أمحو محواً، وأمْحَى، ويقال لغيت في الكلام ألغَى لَغًى، إِذا أتيْتَ بلَغْو، وكل ما لا خير فيه مما يؤثَمُ فيه أو يكون غير محتاج إليه في الكلام فهو لغو وَلَغِى. قال العجاج: عَنِ اللَّغا وَرَفَثِ التكلمِ. وجملة الحلف أنه على أرْبَعَة أوجه، فوجهان منها الفقهاءُ يجمعون أن

(226)

الكفارةَ فيهمَا واجبة، وهو قولك: واللَّه لا أفعل أو واللَّه لأفْعَلَنَّ، ففي هاتين الكفارة إِذا آثر أن يُخَالف ما حلف عليه، إذا رأى غيره خيراً منه فهذا فيه الكفارة لا محالة. ووجهان أكثر الفقهاءُ لا يرون فيهما الكفارة، وَهُمَا قَولك: " واللَّه ما قد فعلت "،. وقد فعل أو " واللَّه لقد فعلت " ولم يفعل. فهذا هو كذب أكَّدَهُ بيمين، فينبغي أن يستغفر اللَّه منه، فهذا جملة ما في اليمين. ويجوز أن يكون موضع " أن " رفعاً، فيكون المعنى: "ولا تجعلوا الله عرضة لأيْمَانِكُمْ، أنْ تَبروا وتَتَقُوا وتصلِحُوا أولَى، أي البر والتقى أولى، ويكون أولى محذوفاً كما جاءَ حذف أشياءَ في القرآن. لأن في الكلام دليلاً عليها، يشبه هذا منه: (طاعة وقول معروف) أي طاعة وقول معروف أمْثَل. والنصب في ان والجرُ مذهب النحويين ولا أعلم أحداً منهم ذكر هذا المذهب ونحن نختار ما قالوه لأنه جيد، ولأن الاتباع أحب وإِن كان غيره جائزاً. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ). معناه في هذا الموضع يسمع أيمانكم ويعلم ما تقصدون بها. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) معنى (يُؤْلُونَ) يحلفون، ومعناه في هذا الموضع أن الرجل كان لا يريد

(228)

المرأة فيحلف ألا يقربها أبداً، ولا يُحب أن يزوجها غيره، فكان يتركها لَا أيماً ولا ذاتَ زوج، كانوا يفعلون ذلك في الجاهلية والِإسلام، فجعل اللَّه الأجل الذي يعلم به ما عند الرجل في المرأة آخر مداه نهاية أربعة أشهر، فإذا تمت أربعة أشهر ثمً لَمْ يَفئ الرجُلُ إلى امْرَأتِهِ، أي لم يرجع إليها، فإِن امرأته بعد الأربعة - في قول بعضهم - قَد بَانَتْ مِنْهُ، ذكر الطلاق بلسانه أم لم يذكره. وقال قوْم يْؤخذ بعد الأربعة بأن يطلق أو يَفِيءَ. ويقال آليت أولي إِيلَاءً واليةً، والُوَّةَ، وإِلِوَّةً، و (إِيَلُ). " والكسر أقل اللغات، ومعنى التربص في اللغة الانتظار. وقال الذين احتجوا بأنه لا بد أن يذكر الطلاق بقوله عزَّ وجلَّ: (وإِنْ عَزَمُوا الطلَاقَ فإِنَ اللَّه سَمِيعٌ عَلِيمٌ). وقالوا (سميع) يدل على أنه استماع الطلاق في هذا الموضع، وهذا في اللغة غير مُمْتَنِع، وجائز أن يكون إِنما ذكر (سميع) ههنا من أجل حلفه. أي اللَّه قد سمع حلفه وعلم ما أراده، وكلا الوجهين في اللغة محتمل. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228) يقال طَلَقَتِ المرأةُ طَلَاقاً فهي طَالِق، وقد حكوا طَلُقتْ وقد زَعم قَوم أن تاءَ التأنيثِ حُذِفَتْ من " طالِقَة " لأنه للمؤنثِ لاحظ للذكر فيه، وهذا ليس بشيء، لأن في الكلام شيئاً كثيراً يشترك فيه الْمُذَكَر والمؤَنثُ لا تثبت فيه الهاء في المؤَنث، نحو تولهم بعير ضامر، وناقَةٌ ضَامِر، وبعير ساعل وناقة

ساعل، وهذا أكثر من أن يحصى. وزعم سيبويه وأصحابه أن هذا وقع على لفظ التذكير صفة للمؤَنث لأن المعنى شيء طالق، وحقيقته عندهم أنه على جهة النسب نحو قولهم امراة مذكار ورجل مذكار، وامراة مئناث ورجل مئناث، وإِنما معناه ذات ذكران وذات إِناث، وكذلك مطفل ذات طفل. وكذلك طالق معناه ذات طلاق. فإِذا أجريته على الفعل قلت طالقة. قال الأعشى: أيَا جارتَا بينِي فإِنكِ طَالِقَةٍ. . . كذاكِ امور النَّاسِ غادٍ وَطَارقَة وأما (ثلاثة قروءٍ) فقد اخْتَلَفَ الفقهاءُ وأهل اللغة في تفسيرها وقد ذكرنا في هذا الكتاب جملة قول الفقهاء وجملة قول أهل اللغة: فأما أهل الكوفة فيقولون: الأقْرَاءُ الحَيض، وأما أهل الحجاز ومالك فيقولون الأقراء الطهر، وحجة أهل الكوفة في أن الأقراءَ و (القِراءَ) والقروء الحيض ما يروى عن أم سلمة إنها استفتت لفاطمة بنت أبي حبيش وكانت

مستحاضة فقال - صلى الله عليه وسلم - تنتظر أيام أقرائها وتغتسل فيما سوى ذلك فهذا يعني أنَّها تحبس عن الصلاة أيام حيضها ثم تغتسل فيما سوى أيام الحيضَ، وفي خبر آخر أن فاطمة سألته فقال إِذا أتى قرؤُك فلا تصلي، فإِذا مر فَتَطَهَّرِي. وصلِّي ما بين القرءِ إلى القرءِ، فهذا مذهب الكوفيين، والذي يقويه من مذهب أهل اللغة أن الأصمعي كان يقول: القُرءُ الحيض، ويقال أقرأتِ المرأة إذا حاضت. وقال الكسائي والقراء جميعاً أقرأت المرأة إذا حاضت فهِي مقريءٌ، وقال القراءُ: أقرأت الحاجة إذا تأخرت. وأنشدوا في القرء الحيض وهو بالوقت أشبه: لَه قُروءٌ كقرُوُء الحائض فهذا؛ هو مذهب أهل الكوفة في الأقراء، وما احتج به أهل اللغة مما يقوي مذهبهم، وقال الأخفش أيضاً: أقرأت المرأة إِذا حاضت، وما قرأتْ حيضة ما ضمَّت رحمَها على حيْضة.

وقال أهل الحجاز: الأقراءُ والقرُوُء واحد، وأحدهما قَرءٌ، مثل قولك: فَرْعٌ، وهما الأطهار، واحتجوا في ذلك بما يروى عن عائشة أنها قالت الأقراءَ الأطهار، وهذا مذهب ابن عمرو ومالك، وفقهاءُ أهل المدينة، والذَي يقوي مذهب أهل المدينة في أن الأقراءَ الاطهار. قول الأعشى: مُورِّثَةً مالا وفي الأصل رفعة. . . لما ضاع فيها من قُروء نسائِكا فالذي ضاع هنا الأطهار لا الحيض. وفي هذا مذهب آخر، وهو أن القرءَ الطهر، والقرء الحيض. قال أبو عبيدة: إن القرءَ يصلح للحيض والطهر، قال وأظنهُ من أقْرأتِ النُجومْ إِذَا غابت، وأخبرني من أثق به يدفعه إلى يونس أن الِإقراءَ عنده يَصلح للحيض والطهر، وذكر أبو عمرو بن العلاءِ أن القرءَ - الوقت، وهو يصلح للحيض ويصلح للطهر، ويقال: " هذا قارئ الرِّياح ": لوقت هبوبها. وأنشد أهل اللغة: شَنِئث العُقْر عقر بني شلَيل. . . إِذا هبت لقاريها الرياحُ

أي لوقت هبوبها، وشدة بردها، ويقال " ما قرأت الناقة سلا قط! أي لم تضم رحمها على ولد، وقال عمرو بن كلثوم: نريكَ إذا دخلت على خلاءٍ. . . وقد أمنتْ عيونَ الكاشِحينا ذراعي عَيْطَلٍ أدماءَ بكر. . . هجينَ اللون لم تقرأ جنينا وأكثر أهل اللغة يذهب إلى أنها لم تجمع ولداً قط في رحمها وذكر قطرب هذا القول أيضاً، وزاد في لم تقرأ جنيناً أي لم تلقه مجموعاً. فهذا جميع ما قال الفقهاءُ وأهل اللغة في القرءِ. والذي عندي أن القرءَ في اللغة الجمع، " وأن قولهم قَرَيْتُ الماءَ في الحوض من هذا، وإن كان قد ألْزِمَ الماء - فهو جمعته، وقولك قرأت القرآن أي لفظت به مجموعاً، والقرد يُقْرئُ، أي يجمع ما يأكل في بيته، فإِنما القرءُ اجتماع الدم في البدن، وذلك إنما يكون في الطهر، وقد يكون اجتماعه في الرحم، وكلاهما حسن وليس بخارج عن مذاهب الفقهاءِ، بل هو تحقيق المذهبين، والمقرأة الحوضُ الذي يقرأ فيه الماءُ أي يجمع، والمَقرَأ الِإناءُ الذي يقرأ فيه الضيف. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ). قيل فيه لا يحل لهن أن يكتمن أمر الولد لأنهن إِن فعلن ذلك فإنما يقصدن إِلى إِلزامه غير أبيه. وقد قال قوم هو الحَيْض. وهو بالولد أشبه لأن ما خلق الله في أرحامهن أدل على الولد، لأن اللَّه جلَّ وعزَّ قال: (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ)

وقال: (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا) فوصف خلق الولد. " ومعْنى: (إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ). تأويله إِن كن يصدقن باللَّه وبما أرهب به وخوف من عذابه لأهل الكبائر فلا يكتمن، كما تقول لرجل يظلمُ إِن كنت مؤمناً فلا تظلم، لَا إنَّه يقول له هذا مطلِقاً الظلم لغير المؤمن. ولكن المعنى: إن كنت مؤمناً فينبغي أن يحجزك إِيمانك عن ظلمي. ْوقوله عزَّ وجلَّ: (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ). بعولة جمع بَعْل، مثل ذكر وذكورة، وعم وعمومة أشبه ببَعْلٍ وبعولة. ويقال في جمع ذكر ذِكارة وحجر حِجَارة. وإِنما هذه الهاءُ زيادة مؤَكدة معنى تأْنيث الجماعة، ولكنك لا تدخلها إِلا في الأمكنة التي رواها أهل اللغة، لا تقول في كعب كعوبة ولا في كلب كِلابة، لأن القياس في هذه الأشياءِ معلوم، وقد شرحنا كثيراً مما فيه فيما تقدم من الكتاب. ومعنى (فِي ذَلِكَ) أَي في الأجل الذي امِرْنَ أن يتربصن فيه، فأزواج قبل انقضاءِ القروءِ الثلاثة أحق بردهن إِن رَدُّوهُنَّ على جهة الِإصلاح، ألا ترى قوله: (إِنْ أرَادُوا إِصْلاَحاً). ومعنى قوله عزَّ وجلَّ: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ). أي للنساءِ مثل الذي عَليهنَّ بما أمر الله به من حق الرجل على المرأة. وهو معنى (بِالْمَعْرُوفِ).

(229)

وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ). معناه زيادة فيما للنساءِ عليهن كما قال تعالى: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ). والمعنى أن المرأة تنال من اللَّذة من الرجل كما ينال الرجل، وله الفضل بنفقته وقيامه بما يصلحها. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ). معناهُ مَلِكٌ يحكم بما أراد، ويمتحن بما أحب، إِلا أن ذلك لا يَكون إِلا بحكمة بالغة - فهو عزِيز حكيم فيما شرع لكم من ذلك. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) (الطلاقُ) رفع بالابتداءِ، و (مرتان) الخبر، والمعنى الطلاق الذي تمْلك فيه الرجعة مرتان، يدل عليه (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ) المعنى فالواجب عليكم إِمساك بمعروف أو تسريح بإِحسان. ولو كان في الكلام فإِمساكاً بمعروف كان جائزاً. على فأمسكوهن إمساكاً بمعروف كما قال عزَّ وجلَّ: (فأمسكوهن بمعروف أَو سرحوهن بمعروف)، ومعنى (بمعروف) بما يعرف من إِقامة الحق في إِمساك المرأة. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا). أي مما أعطيتموهن من مهر وغيره. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ). قرئت (يَخَافا)، ويُحافَا - بالفتح والضم - قال أبو عبيدة وغيره: معنى

(230)

(إِلَّا أَنْ يَخَافَا) إِلا أن يوقنا، وحقيقة قوله: (إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ) أن يكون الأغْلب عليهما وعندهما أنهما على ما ظهر منهما من أسباب التباعد الخوفُ في أن لا يقيما حدود اللَّه - ومعنى (حُدُودَ اللَّهِ) ما حدَّه الله جلَّ وعزَّ مما لا تجوز مجاوزته إِلى غيره، وأصل الحدِّ في اللغة المنع، يقال حَدَدْتُ الدار. وحددت حدود الدار، أي بنيت الأمكنة التي تمنع غيرها أن يدخل فيها. وَحَدَدْتُ الرجل أقمت عليه الحد، والحد هو الذي به منع الناس من أن يدخلوا فيما يجلب لهم الأذى والعقوبة، ويقال أحدت المرأة على زوجها وحدت فهي حَادٌّ وَمُحدٌّ، إِذا امتنعت عن الزينة، وأحددت إليه النظر إِذا منعت نظري من غيره وصرفته كله إِليه، وأحْدَدْتُ السكين إِحْدَاداً. قال الشاعر: إِن العبادي أحَدَّ فأسَه. . . فعاد حدُّ فأسه برأسه وَإِنَّمَا قيل للحديد حديد لأنه أمنع ما يمتنع به، والعرب تقول للحاجب والبواب وصاحب السجن: الحَدَّاد، وإِنما قيل له حداد لأنه يمنع من يدخل ومن يخرج، وقول الأعشى: فقمنَا ولمَّا يصحْ ديكُنَا. . . إِلى خمرة عند حَدَّادها أي عند ربها الذي منع منها إِلا بما يريد. ومعنى: (فلا تَعْتَدُوهَا): أي لَا تُجَاوِزُوهَا. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230) أي فإِن طلقها الثالثة، لأن الثنتين قد جرى ذكرهما أيْ فلا تحل له حتى تتزوج زوجاً غيره، وفعل الله ذلك لعلمه بصعوبة تزوج المرأة على الرجل،

(231)

فحرم عليه التزوج بعذ الثلاث لئلا يعجلوا بالطلاق، وأن يَتَثَنتُوا. وقوله عزَّ وجلَّ: (بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا) يدل على ما قلناه. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا) أي فإن طلقها الزوج الثاني فلا جناح عليها وعلى الزوج الأول أن يتراجعا، وموضع أن نصب، المعنى لا يَأثمان في أن يتراجعا. فلما سقطت " في " وصل معنى الفعل فنصب - ويجيز الخليل أن يكون موضع أن خفضا علىْ إِسقاط " في " ومعنى إرادتها في الكلام. وكذلك قال الكسائي. والذي قالاه صواب لأن " أن " يقع فيها الحذف، ويكون جعلها موصولة عوضاً مما حذف، ألا ترى أنك لو قلت لا جناح عليهما الرجوع لم يصلح. والحذف مع أن سائغ فلهذا أجاز الخليل وغيره أن يكون موضِع جر على إِرادة في. ومعنى. (إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ). أي إنْ كان الأغلب عليهما أن يقيما حدود اللَّه. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ). ويُقْرأ "نبينُهَا" بالياءِ والنون جميعاً. (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أي يعلمون أن وعد اللَّه حق وأن ما أتى به رسوله صدق. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231) أي وقت انقضاءِ عدتهن. (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ). أي اتركوهن حتى ينقضي تمام أجلهن ويكن أملك بأنفسهن. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا).

(232)

أي لا تمسكوهن وأنتم لا حاجة بكم إليهن، وقيل إنه كان الرجل يطلق المرأة ويتركها حتى يقرب انقضاءُ أجلها ثم يراجعها إضراراً بها، فنهاهم الله عن هذا الإضرار بهن. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ). أي عَرَّضَها لعذاب اللَّه عزَّ وجلَّ: لأن إتيانَ ما نهى اللَّه عنه تعرض لعذابه، وأصل الظلم وضع الشي - في غير موضعه وقد شرحنا ذلك. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا) أي ما قد بينه لكم من دلالاته، وعلاماته في أمر الطلاق وغيره. وقيل في هذا قولان: قال بعضهم: كان الرجل يُطَلِّقُ وُيعْتِقُ ويقول: كنت لاعباً، فأعلم الله عز وجل أن فرائضه لا لعب فيها، وقال قوم: معنى (وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا)، أي لا تَتْركُوا العَمل بما حدَّد اللَّه لكم فتكونوا مقصرين لاعبين كما تقول للرجل الذي لا يقوم بما يكلفه، - ويتَوَانى فيه: إنما أنت لاعب. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232) (فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ). هذا مخاطبة للأولياءِ، وفي هذا دليلُ أن أمر الأولياءِ بين. لأنَّ المطلَّقة التي تراجع إِنما هي مالِكة بُضْعها إلا أن الولي لا بُد منه، ومعنى (تَعْضُلوهُنَّ): تمنعوهُنَّ وتحبسوهنَّ، من أن ينْكِحن أزْواجَهُنَّ. والأصْل في هذَا فيما رُوي أن معقل بن يسَار طلق أختَه زوجُها،

(233)

فَأبى معقل بن يَسار أن يزَؤَجَها إيَّاه، ومَنَعَها بِحَقّ الولاَية منْ ذلك، فلما نزلت هذه الآية تلاها عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال معقل: رَغِمَ أنْفِي لأمْر اللَّه. وأصل العَضْل من قولهم: عضلت الدجاجة، فهي مُعْضَل، إذا احتبس بيضها ونَشَبَ فلم يَخْرج، ويقَال عضلت الناقة أيضاً، فهي معْضَل إِذا احْتَبس ما في بَطْنِهَا. . . * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ). أي بأمر الله الذي تلا عليكم، (يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ)، أي من صدق بأمر اللَّه ووعيده والبعث وأطاع اللَّه في هذه الحدود. وقال (ذلك يوعظ به) وهو يخاطب جميعاً، وقد شرحنا القول فيه فيما تقدم. وقال بعض أهل اللغة: إنه توُهِّمَ أنَّ ذَا مع الْمعَارف كلمة واحدة. ولا أدْري - منْ غَير قائل هذا - بهذا التوَهم. الله خاطب العرب بما يعقلونه وخاطبهم بأفصح اللغات، وليس في القرآن توهم، تعالى اللَّه - عن هذا، وإِنما حقيقة ذلك وذلكم مخاطبَة الجميع، فالجميع لفظه لفظ واحد، فالمعنى ذلكَ أيها القبيل يُوعظ به من كان منكم يؤمن باللَّه، وقوله عزَّ وجلَّ بعد هذا. (ذَلُكُمْ أزْكَى لَكمْ وأطْهَرُ). يَدُل على أنَّ " ذلك " - و " ذلكم " مخاطبة للجماعة. ومعنى (واللَّهُ يَعْلَمُ وأنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ). أي الله يعلم ما لكم فيه الصلاح في العاجل والآجل، وأنتم غير عالمين إِلا بما أعلمكم. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)

اللفظ لفظ الخبر والمعنى الأمر كما تقول: حسبك درهم فلفظه لفظ الخبر، ومعناه اكتف بدرهم، وكذلك معنى الآية لترضع الوالدات يقال أرضعت المرأة فهي مرضعة، (قولهم) امرأة مرضع بغير هاءٍ، معناه ذات إِرضاع، فإذا أردتم اسْمَ الفاعلَ عَلى أرضعَتْ قلتَ مرضعة لا غير. ويقال: رُضِعَ المولود يُرْضَع، وَرَضَعَ يرْضَع، والأولى أكثر وأوضح. ويقال: الرضَاعَةُ والرضَاعَةُ - بالفتح والكسر - والفتح أكثرُ الكلام وأصحه، وعليه القراءَة (لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ). وروى أبو الحسن الأخفش أن بعض بني تميم تقول الرضاعة بكسر الراءِ، وروى الكسرَ أيضاً غيره، ويقال: الرَّضاع والرضَاعَ ويقال: ما حمله على ذلك إِلا اللؤْم والرضَاعَة بالفتح لا غير ههنا. ويقال: ما حمله عليه إِلا اللؤْم والرضْع مثل. الحلْف والرضْعُ، يقالان جميعا. ومعنى (حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ) أربعة وعشرون شهراً، من يوم يولد إِلى يوم يفطم، وإِنما قيل: (كَامِلَيْنِ) لأن القائل يقُول: قد مضى لذلك عامان وسنتان فيجيز أن السنتين قد مضتا، ويكون أن تبقى منهما بقية، إِذا كان في الكلام دليل على إِرادة المتكلم فإِذا قال: (كَامِلَيْنِ) لم يجز أن تنقصا شيئاً، وتقرأ (لمن أراد أن تَتِمَ الرضاعةُ) و (لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ) وهذا هو الحقُّ في الرضاعة إِلا أن يتراضيا - أعني الوالدين - في الفطام بدون الحولين وُيشَاوَرَا في ذلك.

ومعنى (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ). - أي على الزوج رزْق المرأة المطلقة إذا أرضعت الولد وعليه الْكِسْوة. ومعنى بالمعروف، أي بما يعرفون أنه العدل على قدر الإمكان. ومعنى (لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا). أي لا تكلف إلا قدر إمكانها. وقوله عزَّ وجلَّ: (لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا). قرئت على ضربين لا تضارُّ والدة برفع الراءِ على معنى: لا تكلف نفْس، على الخبر الذي فيه معنى الأمر، ومن قرأ: (لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ) بفتح الراءِ، فالموضع موضع جزم على النهي. الأصل: لا تُضَاررْ، فأدغمت الراءُ الأولى في الثانية وفتحت الثانية لالتقاءِ السَّاكنين، وهذا الاختيار في التضعيف إِذا كان قبله فتح أو ألف الاختيار عضَّ يا رجل، وضَارَّ زيداً يا رجل، ويجوز لَا تُضَار والدة بالكسر، ولا أعلم أحداً قرأ بها، فلا تقرأنَّ بها، وإِنما جاز الكسر لالتقاءِ السَّاكنين لأنه الأصل في تحْريك أحد السَّاكنين. ومعنى (لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا): لا تترك إِرضاع ولدها غيظاً على أبيه فَتضرَّ بهِ لأن الوالدة، أشفق على ولدها من الأجنبية. (وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ). أي لا يأخذْه من أمه للإضرار بها فيضُر بولَدِهِ. (وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ) أي عليه ترك الإِضرار. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ). أي فِطاماً وتراضياً بذلك بعد أن تشاورا وعلماً أن ذلك غير مدخل على الولد ضرراً.

(234)

(فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا). أي فلا إثم عليهما في الفصال على ما وصفنا. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ). معناه تسترضعوا لأولادكم غير الوالدةِ، فلا إثم عليكم. (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ). قيل فيه إذا سلمتم الأمر إلى المسترضَعةِ وقيل إذا أسلمتم ما أعطاه بعضكم لبعض من التراضي في ذلك. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234) هذا للمتوفى عنها زوجُهَا، عليها أن تنتظر بعد وفاته إِذا كانت غير ذاتِ حمْل أربعةَ أشْهُر وعشْراً لا تتزوج فيهن ولا تستعمل الزينة. وقال النحويون في خبر (الذين) غير قول: قال أبو الحسن الأخفش المعني يتربصن بعدهُمْ أو بعد موتهم، وقال غَيْرُه من البصريين أزوَاجُهُمْ يتربصن، وحذف أزواجهم لأن في الكلام دليلاً عليه، وهذا إطباق البصريين وهو صواب. وقال الكوفيون: وهذا القول قول الفراءِ وهو مذهبه أنَّ الأسماءَ إِذا

كانت مضافة إِلى شيءٍ، وكان الاعتماد في الخبر الثاني، أخبر عن الثاني وتُرِكَ " الإخبار عن الأول، وأغنى الإِخبارُ عن الثاني عن الإخبار عن الأول. قالوا: فالمعنى: وأزواج الذين يتوفون يتربصن. وأنْشَد الفَراءُ: لَعَلِّي إِنْ مالَتْ بي الرّيحُ ميْلَةً. . . على ابن أبي ذَبَّانَ أن يتقدما المعنى: لعل ابن أبي ذُبَّان أن يتقدم إِليَّ مالت بِي الريح ميلة عليه. وهذا القول غير جائز. لا يجوز أن يَبْدَأ اسم ولا يحدَّث عنه لأن الكلام إِنما وضع للفائدة، فما لا يفيد فليس بصحيح، وهو أيضاً من قولهم محال، لأن الاسم إنما يرفعه اسم إذا ابتدئ مثله أو ذكر عائد عليه، فهذا على قولهم باطل، لأنه لم يأت اسم يرفعه ولا ذكر عائد عليه. والذي هو الحق في هذه المسألة عندي أن ذكر (الذين) قد جرى ابتداءً وذكر الأزواج قد جرى متصلاً بصلة الذين، فصار الضمير الذي في (يَتَرَبَّصْنَ) يعود عَلَى الأزواجِ مضافاتٍ إِلى الَّذِينَ. . كأنك قلت: يتربَّصُ أزواجهم، ومثل

هذا من الكلام قولك الذي يموت ويُخلف ابنَتَينِ ترثان الثلثين، المعنى ترث ابنتاه الثلثين. ومعنى قوله عزَّ وجلَّ: (وَعَشْرًا) يدخل فيها الأيام. زعم سيبويه أنك إِذا قلت " لخمس بَقِينَ " فقد علم المخاطب أن الأيام داخلة مع الليالي، وزعم غيره أن لفظ التأنيث مغلَّبٌ في هذا الباب. وحكى الفرَّاءُ صُمْنَا عَشْراً من شهر رمضان، فالصوم إنَّما يكون في الأيَّامِ ولكن التأنيث مغلَّبٌ في الليالي - لِإجْمَاعِ أهل اللغة " سرْنَا خَمْساً بيْنَ يوْمٍ وليلة " أنشد سيبوبه: فطافت ثلاثأ بيْنَ يوم وليلة. . . يكون النكير أنْ تَصيح وتَجْأرَا قال سيبوبه هذا باب المؤَنث الذي استعمل للتأنيث والتذكير، والتأنيث أصله، قال تقول: عندي ثلاث بطات ذكور وثلاث منَ الِإبل ذكور، قال لأنك تقول: هذه إبل، وكذلك ثلاث من الغنم ذكور. (قال) فإن قلت عندي ثلاثة ذكورٍ من الِإبل لم يكن إلا التَّذكير، لأنك إِنما ذكرت ذكوراً ثم جئت تقول من الإبل بعد أن مضى - الكلام على التذكير، وليس بين النحويين البصريين والكوفيين خلاف في الذي ذكرنا من باب تأنيث هذه الأشياءِ فإن قلت عندي خمسة بين رجل وامرأة غلبت التذكير لا غير. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ)

(235)

أي غَاية هذه الأشهر والعشر. (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ). أي لا جناح عليكم في أن تتركوهن - إذا انقضت هذه المدة - أن يتزوجن، وأن يتزين زينةً لا ينكر مثلها. وهذا معنى (بالمعروف). * * * وقوله عزَّ وجلَّ َ: (وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235) المعنى أنه لاجناح على الرجل أن يُعَرِّضَ للمرأة التي هي في عدَّةِ بالتزويجِ. والتعريض أن يقول إني فيك لراغب. وإِن قضى الله أمراً كان، وما أشبه هذا من القول. ولا يجوز أن يقطع أمر التزويج والمرأة لم تخرج من عدتها، ومعنى خِطْبَة كمعنى خَطْب، أما خطْبة فهو ماله أول وآخر نحو الرسالة، وحُكِيَ عن بعض العرب " اللهم ارفع عنا هذه الضُغْطَة " فالضغْطَة ضَغْطْ له أول وآخر متصل. ومعنى: (أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ). يقال في كل شيء تستره أكْننته وكَننَتْه، وأكْننته فيِما يَسْترهُ أكثر، وما صُنْتَه تقول فيه كننته فهو مكنون. قال اللَّه عزَّ وجلَّ: (كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49). أي مَصون، وكل واحدة منْهما قَريبَة من الأخرى. وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا). قال أبو عبَيدَةَ: السِّر الإفْصَاح بالنكاح وأنشد: ويحْرم سرُّ جارَتهمْ عليْهمْ. . . ويأْكلُ جَارُهَمْ أنفَ القصَاع

(236)

وقال غيره: كَأن السِّرَ كناية عن الجماع - كما أن الغائطَ كناية عن الموضع وهذا القول عندي صحيح. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ). معناه: لا تَعْزموا على عَقْدِ النكاح، وحذف " عَلَى " استخفافاً كما تقول: ضرب زيد الظهر والبطن، معناه على الظهر والبطن، وقال سيبويه: إِن الحذف في هذه الأشياءِ لا يقاس. وقوله عزَّ وجلَّ: (حَتَّى يَبْلُغَ الكتابُ أجَلَهُ). فعناه حتى يبلغ فرض الكتاب أجله، ويجوز أن يكون الكتاب نفسه في معنى الفرض، فيكون المعنى حتى يبلغ الفرضُ أجلَه - كما قال: عزَّ وجلَّ: (كُتِبَ عَلَيْكُم الصِّيَامُ) أي فرض عليكم، وِإنَّمَا جَازَ أن يَقَعَ (كُتِبَ) في معنى فُرِضَ، لأن ما يكتب يقع في النفوس أنه ثَبَتَ، ومعنَى هذا الفرض الذي يبلغ أجله أيام عدة المطلقة والمتوفي عنها زوجها. * * * ْوقوله عزَّ وجلَّ: (لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) فقد أعلم الله في هذه الآية أن عقد التزويج بغير مهر جائز، وأنه لاَ إِثْم على من طلق من تزوج بها من غير مهر كما أنه لا إِثم على من طلق من تزوج بمهر، وأمر بأن تمتع المتزوج بها بغير مهر إذا طلقت ولم يدخل بها فقال اللَه عزَّ وجلَّ: (ومَتعُوهُن على المُوسِع قَدَرُه وعلى المُقْتِر قَدَرُه). و (قَدرُهُ)، يُقْرآن جميعاً، فقالوا إِن التَمتُّعَ يَكونُ بأشياءَ بأنْ تَخدَم المرأة

(237)

وبأن تُكْسَى، وبأن تُعْطى ما تُنفِقُه، أيَّ ذَلكَ فَعَلَ يُمَتعُ، فذلك جائز له على قدر إمكانه. وقوله عزَّ وجلَّ: (مَتَاعاً بالْمَعْرُوفِ). أي بما تعرفون أنه القصد وقدر الإِمكان، ويجوز أن يكون نصب (متاعاً بالمعروف)، على قوله: ومتعوهن متاعا، يجوز أن يكون منصوباً على الخروج من قوله: على الموسع قدره متاعاً أي مُمَتِّعاً متاعاً. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (حَقاً عَلَى المُحْسِنينَ). منصوب على حق ذلك عليهم حقاً، كما يقال حققت عليه القضاءَ وأحققته، أي أوجبته. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237) أي فعليكم نصف ما فرضتم، ويجوز النصب - (فنصف ما فرضتم). المعنى فَأدُّوا نصفَ ما فرضتم، ولا أعلم أحداً قرأ بها فإِن لم تثبت بها رواية فلا تَقْرَأنَّ بها. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (إِلًا أنْ يَعْفُونَ أوْ يَعْفُوَ الذي بِيَدِهِ عُقْدَة النِّكَاحِ). المعنى إلا أن يعفوَ النساءُ أو يعفوَ الذي بيده عقدة النكاح، وهو الزوج أو الولي إِذَا كان أباً. ومعنى عَفْو المرأة - أن تعفو عن النصف المواجب لها من المهر فتتركه للزوج، أو يعفو الزوج عن النصف فيعطيها الكل. وموضع (أن يعفون) نصب بأن، إِلا أن جماعة المؤَنث في الفعل المضارع تستوي في الرفع والنصب، والجزم، وقد بيَّنَّا ذلك فيما سلف من الكتاب. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ). ظاهر هذا الخطاب للرجال خاصة دون النساءِ، وهو محتمل أن يكون .

(238)

للفريقين لأن الخطاب إِذا وقع على مذكرين ومَؤنثين غلب التذكير لأن الأول أمكن. والأجود في قوله: (وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) الضمُ. ويجوز ُ وَلاَ تَنْسَوْ الفضل بينكم) - وقد شَرَحْنَا العلة فيه. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) قالوا: (الصلاة الوسطى) العصر - وهو أكثر الرواية، وقيل إِنها الغداة وقيل إنها الظهر. واللَّه قَدْ أمر بالمحافظة على جميع الصلَوَاتِ إِلا أن هذه الواو إذا جاءَت مخصصَةً فهي دالة على الفضل للذي تُخَصصُه كما قال: عز وجل: (مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ) فذكرا مخصوصين لفضلهما على الملائكة، وقال يونس النحوي في قوله عزَّ وجلَّ: (فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ) إِنما خص النخل والرمان وقد ذكرت الفاكهة لفضلها على سائرها. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ). القانِت المُطيع والقَانِت - الذاكر اللَّه، كما قال عزَّ وجلَّ: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا) وقيل القانت العابد - وقالوا في قوله عزَّ وجلَّ: (وكانت من القانتين) أي العابدين. والمشهور في اللغة والاستعمال أن القنوت: الدعَاءُ في القيام، وحقيقة القانت أنه القائم بأمر اللَّه، فالداعي إِذا كان قائماً خص بأن يقال له قانت،

(239)

لأنه ذاكر الله عزَّ وجلَّ وهو قائم على رجليه. فحقيقة القنوت العبادَة والدعاءُ لله في حال القيام. ويجوز أن يقع في سائر الطاعة، لأنه إِنْ لم يكن قياماً بالرجْلين فهو قيام بالشيء بالنية. * * * ومعنى: (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239) أي فصلوا ركباناً أو رجالاً، ورجَال جمع راجل ورجال، مثل صاحب وصِحَاب، أي إن لم يمكنكم أن تقوموا قَانتين أي عابدين مُوَفِّينَ الصَّلَاةَ حقَهَا لخوف ينالَكم، فصلوا رجالاً أو ركباناً. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ). أي فَإِذَا أمِنْتُم فَقُومُوا قانتين مُؤَدِّينَ للفرض. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240) (وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ) و (وصيةٌ لأزواجهم) يقرءَان جميعاً. فمن نصب أراد فلْيوصوا وَصِيةً لأزواجهم. ومن رفع فالمعنى فَعَلَيْهِم وصيةٌ لأزواجهم. (مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ) أي مَتَعُوهُنَّ مَتَاعاً إِلى الحَول، ولا تخرجوهن، وهذا منسوخ بإِجماع. نسخَهُ ما قبله وقد بَينَاه. وقيل إِنه نسخته آية المواريث وكلاهما - أعني ما أمر الله به من تربص أربعة أشهر وعشراً، وما جعل لهن من المواريث قد نسخه. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242)

(243)

آياته علاماته ودلالاته على ما فرض عليكم، أي مثل هذا البيان يبين لكم ما هو فرض عليكم، وما فرض عليكم. ومعنى (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) معنى يحتاج إِلى تفسير يبالغ فيه، لأن أهل اللغة والتفسير أخبروا في هذا بما هو ظاهر، وحقيقة هذا أن العاقل ههنا أهو، الذي يعمل بما افْتُرِضَ عليه، لأنه إِن فهم الفرض ولم يعمل به فهو جاهل ليس بعاقل، وحقيقة العقل هو استعمال الأشياءِ المستقيمة متى عُلمَت، ألا ترى إِلى قوله عزَّ وجلَّ: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ)، لو كان هُؤلاء جهالاً غيرَ مميزين ألبَتَّةَ لسقط عنهم التكليف، لأن الله لا يكلف من لا يميز، ويقال جهال وإِن كانوا مميزين. لأنهم آثروا هواهم على ما علموا أنه الحق. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243) معنى (أَلَمْ تَرَ) ألم تعلم، أي ألم ينته علمك إلى خبر هؤُلاءِ وهذه الألف ألف التوقيف، و (تَرَ) متروكة الهمزة، وأصله ألم ترءَ إلى الذين. والعرب مجمعة على ترك الهمزة في هذا. ونصب (حَذَرَ الْمَوْتِ) على أنه مفعول له والمعنى خرجوا لحذر الموت، فلما سقطت اللام نصب على أنه مفعول له وجاز أن يكون نَصبه على المصدر، لأن خروجهم يدل على حذر الموت حذراً. وقيل في تفسير الآية: إِنهم كانوا ثمانية ألوف، أمروا في أيام بني إسرائيل

(244)

إِسرائيل أن يجاهدوا العَدُوَّ، فاعتلوا بأن الموضع الذي ندبوا إِليه ذو طاعون. (فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا). معناه فاماتهم اللَّه، ويقال إِنهم أمِيتوا ثمانية أيامٍ ثم أُحْيوا، وفي ذكر هذه الآية للنبي - صلى الله عليه وسلم - احتجاج على مشركي العرب وعلى أهل الكتاب من إليهود والنصارى، أنه أنْبَأ أهلَ الكتاب بما لا يدفعون صِحَتَه، وهو لم يقرأ كتاباً - صلى الله عليه وسلم -. فالذين تلا عليهم يعلمون إنَّه لمَ يقرأ كتاباً وأنه أمي، فلا يَعْلَم هذه الأقاصيصَ إِلا بوحي، إذْ كانَتْ لَمْ تعْلَم من كتاب فعلم مشركو العرب أن كل من قرأ الكتب يصدقه - صلى الله عليه وسلم - في إخباره أنها كانت في كتبهم، ويعلم العرب الذين نشأ معهم مثل ذلك وأنه ما غاب غيبة يُعَلَّم في مثلها أقاصيصَ الأمم وأخبارَها على حقيقة وصحة، وفي هذه الآية أيضاً معنى الحث على الجهاد. وأن الموت لا يُدْفَعُ بالهَرَب منه. وقوله عزَّ وجلَّ: (إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ). أي تفضل على هُؤلاءِ بأنْ أحياهم بعدَ مَوْتهم فأراهم البَصِيرَةَ التي لا غَايةَ بعدها. وقوله عزَّ وجلَّ: يَعقِب هذه الآية: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) اى لا تهربوا من الموت كما هرب هؤُلاءِ الذين سمعتم خبرهم، فلا ينفعكم الهرب. ومعنى قوله عزَّ وجلَّ مع ذكر القتال: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).

(245)

أي إن قلتم كما قال الذين تقدم ذكرهم بعلة الهرب من الموت سمع قولكم وعلم ما تريدون. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245) معنى القرض في اللغة البلاء اسيئ، والبلاء الحَسَن، والعرب تقول: لك عندي قرض حسن وقرض سيئ، وأصلهُ مَا يُعْطِيه الرجلُ أو يَعْملُه ليجازَى عليه، واللَّه عزَّ وجلَّ: لا يَستَقْرض من عَوَز ولكنه يَبْلو الأخبار، فالقرض كما وصفنا، قال أميةُ بنُ أبي الصلت:. لا تَخْلِطَن خَبِيثاتِ بطيبةٍ. . . وأخلعْ ثيابَك منهَا وانجُ عُريَانَا كل امرىءِ سوف يُجْزَى قَرضَه حَسناً. . . أو سيئاً أو مَدِينَا كالذي دانا وقال الشاعر: وإذا جُوزِيتَ قرضا فاجزه. . . إِنَما يَجْزِي الفتى ليس الجمل فمعنى القرض ما ذكرنَاهُ. قأعلم اللَّه أن ما يعْمل وينفق يرادُ به الجزاءَ فاللَّه يضاعفه أضعافاً كثيرة. والقراءَة فيضاعفَه، و (قرأوا): فيضاعفُه، بالنَّصب والرفع فمن رفع عطف على يقرض، ومن عطف نصب على جواب الاستفهام وقد بَينا

(246)

الجَوابَ بالفاء - ولو كان قرضاً ههنا مصدراً لكان إقراضاً، ولكن قرضاً ههنا اسم لكل ما يلتمس عليه الجزاء. فأما قرضته أقرُضه قرضاً: فجاوزته، وأصل القرض في اللغة القطع. والقِرَاضُ من هذا أخِذ، فإنما أقرضته قطعت له قطعة يجازى عليها. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ). قيل في هذا غير قول: قال بعضهم: معناهُ يُقَترُ ويوسعُ، وقالَ بعضهم يَسْلُب قوماً مَا أنعَمَ علَيهِم ويوسع عَلَى آخَرين (وقيل معنى - يقبض) أي يقبض الصدقات ويخلفها، وإخلافها جائز أن يكون ما يعطي من الثواب في الآخرة، وجائز أن يكون مع الثواب أن يخلفها في الدنيا. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) الملأ أشراف القوم ووجوههمْ، ويروي أن النَبِي - صلى الله عليه وسلم - سَمِعَ رجلًا من الأنصار وقد رجعوا من بدر يقول: ما قتلنا إلا عَجَائِزَ ضلْعاً، فقال - صلى الله عليه وسلم -: أُولَئِكَ المَلَاءُ من قريش، لو حضرتَ فعالهم لاحتَقرْتَ فِعْلَك، والملأ في اللغة الخلُق، يقال أحْسِنوا مَلأكم، أي أخْلَاقَكمْ قال الشاعر: تَنَادَوْا يآل بهثَةَ إذ رأونَا. . . فقلنا أحسِني مَلًأ جُهَيْنَا أي خلقاً، ويقال: أحسني ممَالأةً أي معَاونَةً، ويقال رجل مَلِيء - مهموز - أي بَين المَلآء يا هذا - وأصِل هذا كله في اللغة من شيء واحد. فالمَلأ الرؤساء إِنما سمُّوا بذلك لأنهم ملءٌ بما يحتاج إليه منهم. والمَلأ الذي

في الخُلُق، إنما هو الخلق المليء بما يحتاج إليه، والملا: المُتسَعُ من الأرض غير مهموز، يكتب بالألِف - والياءِ في قول قوم - وأما البصريون فيكتبون بالألِف، قال الشاعر في الملا المقْصورِ الذي يدل على المتسَع من الأرض: ألَا غنيانِي وارفعا الصوتَ بالمَلا. . . فإن المَلَا عندي يزيد المَدَى بُعْدا * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ). الجَزْمُ في (نُقَاتِلْ في سبيل اللَّه) الوجهُ على الجوابِ للْمسْألَة الَّتِي في لَفْظِ الأمْر، أي ابْعَثْ لَنَا - مَلِكاً نُقاتِلْ، أي إنْ تَبعث لنا مَلِكاً نُقَاتِلْ في سبيل الله، ومن قرأ " مَلِكاً يُقَاتِلُ " بالياءِ، فهو على صفة المَلِك ولكن نقاتلْ هو الوجهُ الذي عليه القراء، والرفع فيه بعيد، يجوز على معنى فَإنا نقاتل في سبيل الله، وكثيرٌ مِن النَّحوِّيينَ، لا يُجِيزُ الرفْعَ فِي نُقَاتِل. - وقوله عزَّ وجلَّ: (قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا) أي لعَلكم أن تَجْبنُبوا عَنِ القتال، وقرأ بعضُهم: هل عَسِيتم بكسر السين إن كتب عليكم القتال، وهي قراءَة نافع، وأهل اللغة كلهم يقولون عَسَيْتُ أن أفْعَلَ ويختارونه، وموضع (ألَّا تُقَاتِلُوا) نَصْبٌ أعني موضع " أنْ " لأن (أنَّ) وما عملت فيه كالمصدر، إِذا قلت عسيت أن أفعل ذاك فكأنك قلت عسيت فعل ذَلِكَ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ).

(247)

زعم - أبو الحسن الأخفش أنَ " أنْ " ههنا زائدة - قال: المعنى وما لنا لا نقاتل في سبيل اللَّه، وقال غيره، وَمَا لَنَا فِي ألا نُقاتل في سبيل اللَّه. وأسقط " في " وقَال بعْضُ النحويين إنما دخلت " أن" لأنَّ " ما " معناه ما يمنعنا فلذلك دخلت " أن " لأن الكلام ما لك تفعل كذا وكذا. والقول الصحيح عندي أنَّ " أن " لا تلغى ههنا، وأن المعنى وأي شي لنا في أنْ لا نقاتل في سبيلِ اللَّه، أي أي شيء لنا في ترك القتال. (وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا) ومعني (وَأَبْنَائِنَا)، أي سُبِيَتْ ذرارينا. ولَكِنَّ " في " سقطت مع " أن " لأن الفعلَ مُستَعمل مع أن دالا على وقت معلوم، فيجوز مع " أن " يحذف حرف الجر كما تقول: هربت أن أقول لك كذا وكذا، تريد هربت أن أقول لك كذا وكذا. وقوله عزَّ وجلّ؛ (تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ). (قليلاً) منصموب على الاستثناءِ، فأما - من روى " تَولوْا إِلا قليلٌ منهم " فلا أعرف هذه القراءَة، ولا لها عندي وجه، لأن المصحف على النصب والنحو يوجبها، لأن الاستثناء - إِذا كان أولُ الكلام إِيجاباً - نحو قولك جاءَني القوم إلا زيداً - فليس في زيد المستثنى إِلا النصب - والمعنى تولوا أسْتَثْنِي قَليلاً مِنْهم - وإِنما ذكرت هذه لأن بعضهم روى " فشربوا منه إِلا قليلٌ منهم " وهذا عندي ما لا وجه له. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247)

أي قد أجابكم إلى ما سألتم. من بعث ملك يقاتل، وتقاتلون معه وطالُوت وجالُوت وداوُد. لا تنصرف لأنها أسماء أعجمية، وهي معارف فاجتمع فيها شيئان - التعريف والعجمة، وأما جاموس فلو سميت به رجلًا لانصرف، وإن كان عجمياً لأنه قدتمكن في العربية لأنك تدخل عليه الألف واللام، فتقول الجاموس والراقُودُ. فعلى هذا (قيَاسُ جميع) الباب. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا). أي من أي جهة يكون ذلك. (وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ) أي لم يؤت ما تَتَمَلَّكُ به الملوك. فأعلمهم اللَّه أنه (اصطفاه) ومعناه اختاره، وهو " افتعل " من الصفوة. والأصل اصتفاه فالتاءُ إذا وقعت بعد الصاد أبدلت طاء لأن التاء من مخرج الطاء، والطاء مطبقة، كما أن الصادَ مطبقة، فأبدلوا الطاء من التاء، ليسهل النطق بما بعد الصاد، وكذلك افتعل من الضرب: اضطرب، ومن الظلم اظطلم، ويجوز في اظطلم وجهان آخران، يجوز اطَّلم بطاء مشددة غير معجمة واظَّلم بظاء مشددة قال زهير: هو الجواد الذي يعطيك نائلَهُ. . . عفواً ويُظْلم أحياناً فيظطلم و" فيطَّلم " و " فيظَّلِم ". أعلمهم الله أنه اختاره، وأنه قد زِيدَ في العلم والجسم بسطة، وأعلمهم أن العلم أهو، الذي به يجب أن يقع الاختيار ليس أن اللَّه - جلَّ وعزَّ -:

(248)

لا يُمَلكَ إلا ذا مال، وأعلم أن الزيادة في الجسم مما يهب به العدو، وأعلمهم أنه يؤتِي مُلْكَه من يشاء، وهو جلَّ وعزَّ لا يشاء إلا ما هو الحكمة والعدل. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ). أي يوسع على منِ يشاء ويعلم أين ينبغي أن تكون السعة. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248) أي علامة تمليك اللَّه إياه (أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ). وموضع (أنْ) رَفْع المعنى: إن آية ملكه إتيانُ التابوت ائاكم. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ). أي فيه ما تسكنون به إذا أتاكم، وقيل في التفسير إن السكينة لها رأس كرأس الهِر من زبرجد أو ياقوت، ولها جناحان. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ). قيل في تفسيره: البقيةُ رضاض الألواح وأن التوراة فيه وكتاب آخر جمع التوراة وعصا موسى. فهذا ما رُوِيَ مما فيه، والظاهر، أن فيه (بقية) جائز أن يكون بقية من شيء من علامات الأنبياء، وجائز أن يكون البقية من العلم، وجائز أن يتضمنها جميعاً. والفائدة - كانت - في هذا التابوت أن الأنبياءَ - صلوات اللَّه عليهم - كانت تستفتح به في الحروب، فكان التابوت يكون بين أيديهم فإِذا سُمِعَ من جوفه أنين دف التابوت أي سار والجميع خلفه - واللَّه أعلم بحقيقة ذلك.

(249)

وروي في التفسير أنه كان من خشب الشمشار وكان قد غلب جالوت وأصحابُه عليه فنزلهم بسببه داء، قيل هو الناسور الذي يكون في العنب فعلموا أن الآفة بسببه نزلت، فوضعوه على ثورين فيما يقال، وقيل معنى تحمله الملائكة: إنها كانت تسوق الثورين وجائز أن يقال في اللغة تحمله الملائكة، وإنما كانت تسوق ما يحمله، كما تقول حَمَلْتَ متاعي إلى مكة، أي كنت سبباً لحمله إلى مكة. ومعنى (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ). أي في رجوع التابوت إليكم علامة أن الله ملك طالوت عليكم إذ أنبأكم في قصته بغيب. (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي إن كنتم مصدقين. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) (إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ) معناه مختبركم وممتحنكم بنهر، وهذا لا يجوز أن يقوله إلا نبي، لأن اللَّه عزَّ وجلَّ قال: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ) ومعنى الاختبار بهذا النهر كان ليعلم طالوت من له نيَّة القِتَال معه ومن ليسَتْ له نيَّة. فقال: (فمَنْ شَرِبَ منْه فَلَيْسَ مِني). أي ليس من أصحابي ولا مِمَن تبعني، ومن لم يطعَمْه. (وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإنَهُ مِنِّي) أي لم يتطعم به. (إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ)، غُرفة وغَرفَة قرئ بهما جميعاً فمن قال غَرفَة

كان معناه غرفة واحدة باليد. ومن قال غُرفة كان معناه مقدار ملء اليد. ومعنى (فَشَرِبُوا مِنْهُ إلا قَلِيلاً مِنْهُمْ) شربوا منه ليرجعوا عن الحرب، لأنه قد أعلمهم ذلك. وذكر في التفسير أن القليل الذين لم يشربوا كان عدتهم ثلاثمائة وبضعة عشر رجلًا كعدد أهل بدر. وقوله عزَّ وجلّ؛ (فَلَمَّا جَاوَزَهُ). أي جاوز النهر هُوَ وَالَّذِينَ مَعَهُ. قيل لما رأوا قلتهم، قال بعضهم لبعض: (لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ). أي لا قوةَ، يقال أطقتُ الشيءَ إطاقةً وطَوْقاً، مثل أطعت طاعة وإطاعَة وطَوْعاً. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ). قيل فيه قولان: قال بعضهم وهو مذهب أهل اللغة - قال الذين يوقنُونُ أنهم مُلاقو اللَّه قالوا ولو كانوا شاكين لكانوا ضُلالاً كَافِرين وظننت في اللغة بمعنى أيقنت موجود. قال الشاعر - وهو دريد: فقلت لهم ظُنُّوا بألفَيْ مُدَجَّجٍ. . . سَرَاتُهُمُ في الفارسيِّ المُسَرَّدِ أي أيقنوا. وقال أهل التفسير: معنى (يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ) أي أنهم كانوا يتوهمون أنهم في هذه الموقعة يقتلون في سبيل الله لِقِلَّةِ عَدَدِهمْ، وعظم عددِ عدُوهم. وهم أصحاب جالوت.

(250)

وقوله عزَّ وجلَّ: (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ). أي كم من فرقة، وإنما قيل للفرقة فئة - من قولهم فأوت رأسه بالعصا. وفأيْتُ إذَا شَقِقْتُه، فالفِئَةُ الفِرقَةُ مِنْ هذَا. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ). (أي أن اللَّه ينْصُر الصَّابِرِينَ)، إذا صبروا على طاعته، وما يُزْلِفُ عنده. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) (رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا). أي أصْبُبْ علينا الصبرَ صبًّا، كما تقول: أفرغتُ الإنَاءَ إذا صببْتُ ما فيه. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251) (فَهَزَمُوهُمْ بِإذْنِ اللَّهِ). معناه كسَروهم وردوهم، وأصل الهزم في اللغة كسر الشيء، وثنى بعضه على بعض، يقال سقاء مَهْزوم، إذا كان بعضه قد ثنى على بعض مع جفاف، وقَصب مُتَهزَِّم، ومهْزُوم، قد كسر وشقق، والعرب تقول هَزَمتُ على زيدٍ أي عطفتُ عليه. قال الشاعر: هِزمت عليك اليوم يا بنْتَ مَالكٍ. . . فجُودِي عليْنا بالنوالِ وأنْعِمِي ويقال: سمعت هَزْمةَ الرعْدِ قال الأصْمَعِي كأنهُ صوت فِيه تشقُق: وقوله عزَّ وجلَّ: (وَآتَاهُ اللَّهُ المُلْكَ وَالحِكْمَةَ). أي آتى داود - عليه السلامُ - الملك لأنه مَلَكَ بعد قتله جالوت وأوتي العلم. ومعنى (وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ). قيل ممَّا علَّمه عمَلُ الدرُوعِ، ومنْطِقُ الطيْر.

(252)

وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ). أي لولا ما أمر الله به المسلمين من حرب الكافرين لفسدت الأرض وقيل أيضاً: لولا دفع اللَّه الكافرين بالمسلمين لكثر الكُفْر فنزلت بالناس السخطة واستؤصِل أهلُ الأرض. ويجوز (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ)، ولولا دِفاعُ اللَّه. ونُصِبَ (بَعْضَهُمْ) بدلاً من الناس، المعنى ولولا دفع اللَّه بعض الناس ببعض، و (دفعُ) مرفوع بالابْتِدَاءِ، وقد فسرنا هذا فيما مضى. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252) أي هذِه الآياتُ التي أنْبأت بها وَأنْبِئْتَ، آيات الله أي علاماته التي تدُل على توْحيدِه، وتَثْبيتِ رسالاتِ أنْبِيَائِه، إِذْ كان يعجز عن الِإتيان بمثلها المخلقون. وقوله عزَّ وجل: (وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ). أي وأنت من هؤلاءِ الذين قصصْتُ آياتهم، لأِنَك قدْ اعْطِيتَ مِنَ الآياتِ مثل الذي أعْطُوا وزدْتَ على مَا أعْطُوا. ونحنُ نبين ذلك في الآية التي تليها إِن شاءَ اللَّه. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253) (الرُّسُلُ) صفة لتلك كقولك أولئِك الرسلُ فضلنا بعضهم على بعض إلا أنهُ قيل تِلْك للجماعة، وخبر الابتداءِ (فضلنا بعضهم على بعض). ومعنى: (مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ): أي من كلَّمَهُ اللَّهُ.

تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253) والهاء حُذقت منْ الصلة لطول الاسَم، وهو مُوسى - صلى الله عليه وسلم - أسْمَعَه الله كلامه من غير وحي أتاه به عن اللَّه مَلَك. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ). أي أعطيناه. والبيناتُ الحُجَجُ التي تَدُل على إثبات نُبُوته - صلى الله عليه وسلم - من إبراء الأكْمه والأبرص وإحياءِ المَوْتى والإنباءِ بما غاب عنه. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَرَفعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ). جاءَ في التفسير أنه يُعْنَى به محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - أرْسِل إلى الناس كافة، وليس شيء من الآيات التي أعطيها الأنبياء إلا والذي أُعطى محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - أكثر مُنْه، لأنه - صلى الله عليه وسلم - كلمتْه الشجرةُ، وأطْعَمَ " من كفِّ التمر خلقاً كثيراً، وأمرَّ يدَه على شاة أم معبد فدرت، وحلبت بعد جفاف، ومنها انشقاق القمر، فإِن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى الآيات في الأرض ورآها في السماءِ، والذي جاءَ في آيات النبي كثير. فأما انشقاق القمر وصحته فقد روينا فيه أحاديث: حدثني إسماعيل بن إسحاق قال: (حدثنا محمد بن المُنْهَال، قال حدثنا يزيد ابن زُرَيْع عن سعيد عن قتادة عن أنس قال: سأل أهل مكة النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - آيةً فأراهم انشقاقَ القَمَرِ فِرْقَتَيْن. وحدثني مُسدّد يرْفعه إلى أنس أيضاً مثل ذلك. ونحن نذكر جميع ما روى في هذا الباب في مكانه إِن شاءَ الله، ولكنا ذكرنا ههنا جملة من الآيات لنُبين بها فضل النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فيما أتى به من الآيات. ومن أعظم الآيات القرآنُ الذي أتى به العرب وهم أعلم قوم بالكلام. لهم الأشعار ولهم السجع والخَطَابةُ، وكل ذلك معروف في كلامها، فقيل لهم ائتوا بعشْر سُورٍ فعجزوا عَنْ ذلك، وقيل لهم ائتوا بسورِة ولم يشترط عليهم فيها

(254)

أن تكون كالبقرة وآل عمران وإنما قيل لهم ائتوا بسورة فعجزوا عن ذلك. فهذا معنى (وَرَفَعَ بَعْضَهُم دَرَجَات). * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ). يعني من بعد الرسل: (مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ). أي من بعد ما وضحت لهم البراهين، فلو شاءَ الله ما أمر بالقتال بعد وضوح الحجة، ويجوز أن يكون (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا) أي لو شاءَ اللَّه أن يضطرهم أن يكونوا مؤمنين غير مختلفين لفعل ذلك كمَاِ قال: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى). * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254) أي أنفقوا في الجهاد وليُعِنْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً عليه. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ). يعني يوم القيامة " والخُلَّةُ " الصداقة، ويجوز (لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ)، (لَا بَيْعَ فِيهِ وَلَا خُلَّةَ وَلَا شَفَاعَةَ)، على الرفع بتنوين والنصب (بغير تنوين)، ويجوز (لا بيعَ فيه ولا خلة ولا شفاعةَ) بنصب الأول بغير تنوين وعطف الثاني على موضع الأول، لأن موضعه نصب، إِلا أن التنوين حذف لعلة قد ذكرناها، ويكون دخول " لا " مع حروف العطف مؤَكداً، لأنك إِذا عطفت على موضع ما بعد " لا " عطفته بتنوين. تقول: لا رجلَ وغلاماً لك. قال الشاعر:

(255)

فلا أبَ وابناً مثل مروان وابنِه. . . إذا هُو بالمجد ارتدى أو تأَزَّرَا. ومعنى: (والكَافِرُون هُمُ الظَّالِمُونَ). أي هم الذين وضعوا الأمر غير موضعه وهذا أصل الظلم في اللغة. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255) يروى عن ابن عباس رحمة الله عليه أنَّه قال: أشرف آية في القرآن آية الكرسي. وإعراب (لَا إلهَ إلا هُوَ) النصبُ بغير تنوين في (إِله). المعنى لا إله لكل مخلوق إلا هُو، وهو محمول على موضع الإبتداء المعنى ما إلهٌ للخلق إلا هو، وإن قلت في الكلام لا إِله إِلا الله جاز، أما القرآن فلا يقرأ فيه إلا بما قد قرأت القراءُ بِه، وثَبَتتْ به الرواية الصحيحة، ولو قيل في الكلام لا رجلَ عندك إلا زيداً جاز، ولا إله إلا اللَّهَ جاز ولكن الأجودَ ما في القرآن، وهو أجودُ أيضاً في الكلام. قال اللَّه عزَّ وجلَّ: (إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35). فإذا نصبت بعد إلا فإنما نصبت على الاستثناء. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (الْحَيُّ الْقَيُّومُ) معنى (الْحَيُّ) الدائم البقاء، ومعنى (الْقَيُّومُ) القائم بتدبير سائر أمر خلقه. ويجوز القائم، ومعناهما واحد. فهو الله عزَّ وجلَّ قائم بتدبير أمر الخلق في إنْشائِهِم وَرزْقِهمْ وعلمه

بأمكنتهم وهو قوله عزَّ وجلَّ: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا). ومعنىِ: (لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ) أي لا يأخذه نعاس. (وَلَا نَوْمٌ). وتأويله أنه لا يغفل عن تدبير أمر الخلق. ومعنى: (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ). أي: لا يشفع عنده إلا بِمَا أمر به من دعاء بعض المسلمين لبعْض ومن تعظيم المسلمين أمْرَ الأنبياء والدعاء لهم، وما علمنا من شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنما كان المشركون يزعمون أنَّ الأصنام تشفع لهم، والدليل على ذلك قولهم: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) وذلك قولهم: (وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ)، فَأنْبأ اللَّهُ عزَّ وجلَّ أن الشفاعة ليست إلا ما أعلَم من شَفاعة بَعْضِ المؤمنين لبعض في الدعاء وشفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم -. ومعنى: (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ). أي يعلم الغيب الذي تقدمهم والغيب الذي يأتي من بعدهم. ومعنى: (وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ). أي لا يعلمون الغيبَ لا مِما تقدمهُمْ ولا مما يكُونُ مِنْ بَعْدِهِمْ. ومعنى: (إِلَّا بِمَا شَاءَ): إلا بما أنبأ به ليكون دليلاً على تثبيت نبوتهم. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ). قيل فيه غير قول، قال ابن عباس: كرسيُه علمه، ويروى عَنْ عطاء أنه

(256)

قال: ما السَّمَاوَات والأرض في الكرسي إِلا حَلْقَةٌ في فلاة، وهذا القول بين لأن الذي نعرفه من الكرسي في اللغة الشيءُ الذي يعتمد عليه ويجلس عليه. فهذا يدل أن الكرسي عظيم، عليه السَّمَاوَات والأرضُونَ، والكرسيُّ في اللغة والكراسة إِنما هو الشيءُ الذي ثبت ولزم بعضه بعضاً، والكرسي ما تَلَبَّد بعضُه على بعض في آذان الغنم ومعاطن الِإبل. وقال قوم: (كُرْسِيُّهُ) قدْرتُه التي بها يمسك السَّمَاوَات والأرض. قالوا: وهذا قولك اجعل لهذا الحائط كرسياً، أي اجعل له ما يعْمِدُه وُيمسكه، وهذا قريب من قول ابن عباس رحمه اللَّه. لأن علمه الذي وسع السموات والأرض لا يخرج من هذا. واللَّه أعْلم بحقيقة الكرسي، إِلا أن جملته أنه أمر عظيم من أمره - جلَّ وعزَّ. ومعنى: (وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا). أي لا يُثقله، فجائز أن تكون الهاءُ للَّهِ عزَّ وجلَّ، وجائز أنْ تكون للكرسي، وإِذا كانت للكرسي فهو من أمر اللَّه. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256) (إِكْرَاهَ) نصب بغيرتنوين، ويجوز الرفع " لَا إكْرَاهٌ " ولا يُقرا به إِلَا أن تَثْبت رواية صحيحةٌ وقالوا في (لَا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ) ثلاثة أقوال: قال بعضهم إن هذه نسخها أمر الحرب في قوله جلَّ وعزَّ: (واقْتلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) وقيل إِن هذه الآية نزلت بسبب أهل الكتاب في أنَّ لا يكرهوا بعد أن يؤدوا الجزية، فأما مشركو العرب فلا يقبل منهُم جزية وليس في أمرهم إِلا القَتْلُ أو الإسلام. وقيل معنى (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) أي لا تقولوا فيه لمن دخل بعد حرْبِ أنهُ دخَل مكرهاً، لأنه إِذا رضي بعد الحرب وصح إِسلامه فليس بمكره.

(257)

ومعنى: (فَمَنْ يَكْفُرْ بالطَّاغُوتِ). قيل الطاغوت مَرَدَةَ أهل الكتاب، وقيل إِن الطاغوت الشيطان، وجملته أن من يكفر به، وصدق باللَّهِ وما أمر به فقد استمسك بالعروة الوثقى، أي فقد عقد لنفسه عقداً وثيقاً لا تحله حجة. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (لا انْفِصَام لَهَا): لا انقطاع لها. يقال فصمت الشيءَ أفْصُمُه فصماً أي قطعته. ومعنى: (وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ). أي يسمع ما يعقد على نفسه الإنسان من أمر الإِيمان، ويعلم نيته في ذلك. * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257) يقال قد توليت فلاناً، ووليت فلاناً ولايةً، والوِلَايَةُ بالكسر اسم لكل ما يتولى، ومعنى وَلى على ضروب، فاللَّه - ولي المؤمنين في حِجَاجِهم وهدايتهم، وإقامةِ البرهان لهم لأنه يزيدهم بإِيمانهم هداية، كما قال عزَّ وجلَّ: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى). ووليهم أيضاً في نصرهم وإظهار دينهم على دين مخالفيهم، ووليهم أيضاً بتولي قولهم ومجازاتهم بحسن أعمالهم. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ). أي يخرجهم من ظلمات الجهالة إِلى نور الهدى لأن أمر الضلالة مظلم غير بين، وأمر الهدى واضح كبيان النور. وقد قال قوم (يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) يحكم لهم بأنهم خارجون من الظلمات إلى النُور، وهذا ليس قولَ أهل التفسير، ولا قول أكثر أهل اللغة. إِنما قاله الأخفش وحده.

(258)

والدليل على أنه يزيدهم هدى ما ذكرناه من الآية. وقوله عزَّ وجلَّ: (فَأمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمُ إيمَاناً). ومعنى: (والَّذِينَ كَفَرُوا أوليَاؤُهُم الطاغُوتُ). أي الذين يتولون أمرهم هم الطاغوت. وقد فسرنا الطاغوت. و (الطاغوت) ههنا واحد في معنى جماعة، وهذا جائز في اللغة إذا كان في الكلام دليل على الجماعة. قال الشاعر: بها جِيَف الحَسْرى فأمَّا عِظامُها. . . فَبيضٌ وأَمَّا جِلْدُها فَصَلِيبُ جلدها في معنى جلودها. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258) هذه كلمة يوقف بها المخاطب على أمر يعجب منه، ولفظها لفظ استفهام، تقول في الكلام: ألم تر إلى فلان صنع كذا وصنع كذا. وهذا مما أعْلِمَه النبي - صلى الله عليه وسلم - حُجةً على أهل الكتاب ومشركي العرب لأنه نبأ لا يجوز أن يعلمه إلا من وقف عليه بقراءَة كتاب أو تعليم معلم، أو بوحي من اللَّه عزَّ وجلَّ. فقد علمت العرب الذين نشأ بينهم رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أنه أمِّيٌّ، وأنه لمْ يعَلمْ التوراة والإنجيلَ وأخبارَ من مضى من الأنبياءِ، فَلم يبق وجه تعلم منه هذه الأحاديث إلا الوحيُ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (أنْ آتَاهُ اللَّهُ المُلْكَ). أيْ آتى الكافرَ الملكَ، وهذا هو الذي عليه أهل التفسير وعليه يصح

المعنى، وقال قوم إن الذي آتاه - الله الملك إبراهيمَ عليه السلام وقالوا: اللَّه عزَّ وجلَّ لا يُمَلِكُ الكفَارَ. وإنما قالوا هذا لذكره عزَّ وجلَّ: (آتاه الملك) واللَّه قال: (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ). فتأويل إِيتاءِ الله الكافرَ الملكَ ضرب من امتحانه الذي يَمْتَحنُ الله به خلقه، وهو أعلم بوجه الحكمة فيه. والدليل على أن الكافر هو الذي كان مُلِّكَ إنَّه قال: (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) وأنه دعا برجلين فقتل أحدهما وأطلق الآخر، فلولا أنه كان ملكاً وإبراهيمُ عليه السلام غيرَ ملك لم يتهيأ له أن يقتل وإبراهيم الملك، وهو النبي عليه السلام. وأمَّا معنى احتجاجه على إبراهيم بأنه يحيى ويميت، وترك إبراهيم مناقضته في الإحياءِ والإماتة، فمن أبلغ ما يقطع به الخصوم ترك الإطالة والاحتجاج بالحجة المُسْكِتةِ لأن إبراهيم لما قال له: (فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ) كان جوابه على حسب ما أجاب في المسألة الأولى أن يقول: فأنا أفعلُ ذلك فَتَبَيَّن عجزه وكان في هذا إِسكَات الكَافِرِ فقال اللَّهُ عزً وجل: (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ) وتأويله انقطع وسَكتَ متحَيِّراً، يقال: بهِتَ الرجل يُبْهَتُ بهْتاً إِذا انقطع وتحير، ويقال بهذا المعنى " بَهِتَ الرجل يَيْهَتُ "، ويقال بَهَتُ الرجل أبْهَته بهْتاناً إِذا قابلتُه بكذبٍ.

(259)

وقوله عزَّ وجلَّ: (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259) هذا الكلام معطُوف على معنى الكلام الأول، والمعنى - واللَّه أعلم - أرأيت كالذي مرَّ على قَريةٍ، والقرية في اللغة سميت قرية لاجتماع الناس فيها، يقال قرَيْتُ المَاءَ في الحوضِ إِذَا جمعتُه. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَهِيَ خَاوِية عَلَى عُرُوشِهَا). معنى (خاوية): خالية - و (عروشها) - قال أبو عبيدة: هي الخِيَام وهي بيوت الأعراب، وقال غير أبي عبيدة: معنى (وهي خاوية على عروشها) بَقِيَتْ حيطانُها لا سُقُوف لها. ويقال خَوتِ الدار والمدينة تخْوي خَواءً - ممدود - إِذا خلت من أهلها، ويقال فيها: " خَوِيَتْ " والكلام هو الأول - ويقال للمرأة إِذا خَلَا جوفُها بعدَ الولادةِ وللرجل إِذا خَلا جوفُه من الطًعامِ - قدْ خوِيَ ويخْوَى خَوًى - مقصور - وقد يقال فيه خَوَى يخْوِي - والأولُ فِي هَذَا أجود. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا). معناه منُ أيْنَ يُحيي هَذه اللَّهُ بعْدَ مَوْتِهَا. وقيل في التفسير إِنه كان مؤمناً وقد قيل إِنه كان كافراً، ولا ينكر أن يكون مُؤْمناً أحبَّ أن يزداد بصيرة في إِيمانه فيقول: ليت شعري كيف تُبْعَثُ الأموات كما قال إبراهيم عليه السلام: (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى). * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ). معناه ثم أحياه لأنه لا يُبْعث ولا يتصرف إِلا وهو حي. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (كَمْ لَبِثْتَ).

ْيقرأ بتبيين الثاءِ، وبإِدغام الثاءِ في التاءِ، وإِنما أدغمت لقرب المخرجين. ومعنى: (قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) أنه كان أميت في صدر النهار ثم بعث بعد مائة سنة في آخر النهار، فظنُ أنَّ مقدار لبثه ما بين أول النهار وآخره، فأعلمه اللَّه أنه قد لبث مائة عام وأراه علامة ذلك ببلَى عظام حماره، وأراه طَعَامَه وشَرَابه غير متغير وأراه كيف ينْشِز العِظَامَ، وكيف تُكْتسَى اللحمَ. فقال: (فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ). يجوز بإِثبات الهاءِ وبإِسقاط الهاءِ في الكلام، ومعناه لم تغيره السنون، فمن قال في السنة سانهت فالهاء من أصل الكلمة، ومن قال في السَّنَة سَانَيت فالهاء زيدت لبيان الحركة، ووجه القراءَة على كل حال إثباتُها والوقوف عليها بغير وصل فمن جَعَلَهُ سانيت ووصلها إِن شاءَ أو وقفها على من جعله من سانهت، فأما من قال: إِنه من تغير من أسِنَ الطعام يأسَنُ فخطأٌ. وقد قال بعض النحويين إِنه جائز أن يكون من (التغيير) من قولك من حمإٍ مسنون وكان الأصل عنده " لم يتسنن " ولكنه أبدل من النون ياءً كما قال: تقضي البازي إِذا البازي كَشَرْ.

(260)

يريد تقضض، وهذا ليس من ذاك لأن " مسنون " إنما هو مَصْبُوب على سنة الطريق. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وانْظُرْ إِلى العِظامِ كيْف نُنْشِزُها). يقرأ (نُنْشِزُها) بالزاي، ونُنْشِرُها، ونَنْشُرُهَا بالراءِ، فمن قرأ (نُنْشِزُها) كان معناه نجعلها بعد بِلاها وهجودها ناشزه ينشز بعضها إِلى بعض، أي يرتفع. والنَشَزُ في اللغة ما ارتفع عن الأرض، ومن قرأ (نُنْشِرُها)، و (نَنْشُرُها)، فهُو من أنْشَر اللَّه الموتى ونشرهم - وقد يقال نَشَرهم اللَّه أي بعثهم، كما قال: (وَإِلَيْهِ النُّشُورُ). وقوله عزَّ وجلَّ: (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). معناه: فلما تبين له كيف إِحياء الموتى. قال: (أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)، فإن كان كلما قيل أنه كان مؤمناً، فتأويل ذكره: (أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ليس لأنه لم يكن يعلم قبل ما شاهد ولكن تأويله: أني قد علمت ما كنت أعلمه غيباً - مشاهدة، ومن قرأ (اعْلَمْ أن اللَّه على كل شي قدير) فتأويله إذا جزم أنه يُقْبل على نفِسه فيقول: " اعْلَمْ أيها الِإنسان أن اللَّه على كل شيءٍ قدير " - والرفع على الِإخبار. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260) موضع " إذ " نصب، المعنى اذكر هذه القصة - وقوله (رَبِّ أَرِنِي). أصله أرْإني، ولكن المجمع عليه في كلام العرب والقراءَة طرح الهمزةِ، ويجوز (أرْنِي). وقد فسرنا إلْقَاءَ هذه الكسرة فيما سلف من الكتاب. وموضع (كيف) نصب بقوله: (تُحْيِ الْمَوْتَى) أي بأي حال تُحْيِ الْمَوْتَى وإبراهيم عليه السلام لم يكن شاكا ولكنه لمْ يكن شَاهَدَ إِحْياءَ ميّتٍ، ولا يعْلم كيف تجتمع العظام المتفرقةُ الباليةُ، المستحيلة، من أمكنة متباينة فأحب علم ذلك مشاهدة. ويروى في التفسير أنه كان مرَّ بجيفَةٍ على شاطئ البحر والحيتان تخرج من البحر فتنتف من لحم الجيفة، والطيرُ تَحُط عليها وتَنْسِرُ منها، ودوابُّ الأرض تأكلُ منها، ففكر كيف يجتمع ما تفرق من تلك الجيفة فحلَّ في حيتان البحر وطير السماءِ ودواب الأرض ثم يعود ذلك حياً، فسأل اللَّه تبارك وتعالى أن يريه كيف يحي الموتى، وأمره اللَّه أن يأخذ أربعة من الطير، وهو قوله عز وجل: (فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ). وتقرأ فَصِرْهُنَّ إليك - بالضم والكسر -. قال أهل اللغة: معنى صُرْهُنَّ أملْهن إليك، وأجمعهن إِليك، قال ذلك أكثرُهم، وقال بعضهم: صرهن إليك اقْطَعْهن، فأما نظير صُرهُن أملهن وأجمعهن فقول الشاعر:

(261)

وجاءَت خِلْعةٌ دهسٌ صفايا. . . يصور عنوقَها أحْوى زَنيم المعنى أن هذه الغنم يعطف عنوقها هذا الكبش الأحوى. ومن قال صرت: قطعت، فالمعنى فخذ أربعة من الطير فصرهن أي قَطعْهُنَّ، ثم اجعل على كل جبل منهن جزءًا. المعنى اجعل على كل جبل من كل واحد منهن جزءًا. ففعل ذلك إِبراهيم عليه السلام ثم دعاهن فنظر إِلى الريش يسعى بعضه إِلى بعض، وكذلك العظام واللحَم. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ). (عَزِيزٌ) أي لا يمتنع عليه ما يريد - حكيم فيما يدبر، لا يفعل إِلا ما فيه الحكمة. فشاهد إبراهيم عليه السلام ما كان يعلمه غيباً رأْيَ عيْن، وعلم كيف يفعل اللَّه ذلك. فلما قَصً اللَّه ما فيه البرهانُ والدلالَةُ على أمر تَوْحيده. وما آتاه الرسل من البيِّنَات حثَّ على الجهاد، وأعلن أن من عانده بعد هذه البراهين فقد ركب من الضلال أمراً عظيما وأن من جاهد مَنْ كَفَر بعدَ هذا البرهَان فله - في جهاده ونفقته فيه - الثوابُ العظيم، وأن الله عزَّ وجلَّ وعد في الجنَّة عشْرَ أمْثالِهَا من الجهَاد. ووعد في الجهاد أنْ يُضاعِفَ الواحد بسبع مائة مرة لما في إقامة الحق من التوحيد، وما في الكفر من عظم الفساد فقال: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261)

(264)

أي جواد لا ينقصه ما يتفضَّل به من السعة، عليم حيث يضعه. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264) فالمن أن تمُنَّ بما أعطيت وتعْتَدَّ به كأنك إنما تقصد به الاعتداد والأذى أن تَوبخ المعطي. فأعلم الله عزَّ وجلَّ أن المن والأذى يبطلان الصدقة كما تبطل نفقة المنافق الذي إِنما يعطي وهو لا يُريدُ بذَلك العَطاءِ ما عندَ اللَّه، إنما يعطي ليُوهِمَ أنه مؤمن، وقال عزَّ وجلَّ: (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ). والصفوان الحجر الأملس وكذلك الصفا. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌا). والوابل المطرُ العظيم القطْر - فإذا أصاب هذا المطرُ الحجرَ الذي عليه تراب لم يبْق عليه من التراب شيءٌ، وكذلك تبطل نفقة المنافق ونفقة المنَّان والمؤذِي. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (واللَّه لاَ يَهْدِي القَوْمَ الكَافِرِينَ). أي لا يجعلهم بكفرهم مهتدين، وقيل لا يجعل جزاءَهم على الكفر أنْ يهديهم، ثم ضرب الله لمن ينفق يريد ما عند الله ولا يمن ولايؤذي مثلًا. فقال: (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265) أي ليطلب مرضاة الله وتثبيتاً من أنفسهم، أي ينفقونها مقرين أنها مما يثيب اللَّه عليها.

(266)

(كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ) بفتح الراءِ وبرُبوة. بالضم - وبرِبْوة - بالكسر - وبِرِباوة، وهذا وجه رابع. ْوالربوة ما ارتفع من الأرض، والجنة البستان، وكل ما نبت وكثف وكثر، وستر بعضه بعضاً فهو جنة - والموضع المرتفع إِذا كان له ما يرويه من الماءِ فهو أكثر ريْعاً من المستفِل، فأعلم اللَّه عزَّ وجلَّ أن نفقة هُؤلاءِ المؤمنين تزْكو كما يزكو نبْتُ هذه الجنة التي هي في مكان مرتفع. (أصَابَها وَابلٌ) وهُو المطرُ العظيمُ القَطْر. (فَآتَتْ أُكُلَهَ): أي ثمرها، ويقرأ أكْلَهَا والمعنى واحد. (ضِعْفَينْ): أي مثلين. ْ (فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ). و (الطَّلُّ) المطر الدائمُ الصِّغَارِ القَطْرِ الذي لا يكاد يسيل منه المثاعب. ومعنى: (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ). أي عليم، وإِذا علمه جازى عليه والذي ارتفع عليه (فَطَلٌّ) أنهُ على معنى فإن لم يصبها وابل فالذي يصيبها طَلٌّ. * * * وقوله جل ثَنَاؤُه: (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266) هذا مثل ضَربهُ اللَّه لهم للآخرة وأعْلَمَهُم أن حاجتهم إلَى الأعمال الصالحة كحاجة هذا الكبير الذي له ذُرَية ضُعفاءُ، فإِن احترقت جنته وهو كبير وله ذرية ضعفاءُ انقطع به، وكذلك من لم يكن له في الآخرة عمل يوصله إلى

(267)

الجنة فَحسْرتُه في الآخرة - مع عظيم الحسْرة فيها - كَحَسْرة هذا الكبير المنقَطَعِ به في الدنيا. ومعنى: (فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ). الِإعصار الريح التي تهب، من الأرض كالْعَمُود إِلى نَحْو السماءِ وهي التي تسميها الناس الزَوْبَعةَ، وهي ريح شديدة، لا يقال إنها إعصار حَتَى تهبَّ بِشدةٍ، قال الشاعر: إنْ كنْتَ ريحاً فقد لاقيتَ إِعْصَارَا ومعنى: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ). أي: كهذا البيان الذي قد تبين الصَّدَقَة والجهاد وقصة إِبراهيم - عليه السلام - والذي مرَّ على قرية، وجميع ما سلَف من الآيات أي كَمَثل بيان هذه الأقاصيص (يبين اللَّه لكم الآيات)، أي العَلاَمَات والدّلالات التي تَختَاجُون إِليها في أمْر توحيده، وإثْبَات رسالات رسله وثوابه وعقابه. (لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ). * * * وقوله تبارك اسمه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) فالمعنى أنفقوا من جَيِّد ما كسبتموه من تجارة، ومن وَرِقِ وعين، وكذلك من جَيِّد الثمار، ومعنى (أنفقوا): تصدقوا وكان قوم أتوا في الصدقة بردىءِ الثمار. ويروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر السعاة إلا يُخَرصَ الجُعْرَورَ وَمِعَى الفارة

(268)

وذلك أنها من رديءِ النخل، فأمر ألا تخرص عليهم لئلا يعتلوا به في الصدقة. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ). أي لا تقصدوا إلى رديءِ المال، والثمار فتتصدقوا به، وأنتم (تعلمون أنكم) لا تأخذونه إلا بالِإغماض فيه. ومعنى: (وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ). يقول: أنتم لا تأخذونه إلا بوَكْس. فكيف تعطونه في الصدقة. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ). أي لم يأمركم بأن تتصدقوا من عَوَزٍ. ولكنه لاختبَاركم. فهو حميد على ذلك وعلى جميع نعمه. يقال قد غَنِيَ زيد يغنى غِنى - مقصور - إِذا استغنى، وقد وقد غَنِيَ القومُ إِذا نَزَلوا في مكان يقيهم، والمكان الذي ينزلون فيه مَغْنى، وقد غَنَّى فلان غِنَاء إِذا بالغ في التطريب في الإنشاد حتى يستغنى الشعر أن يزاد في نغمته، وقد غنيت المرأة غُنْيَاناً. قال قيس بن الخطيم: أجَدَّ بعمرة غُنْيانُها. . . فتهجرَ أم شأننا شأنُها غُنْيَانها: غِنَاها. والغواني: النساءُ، قيل إنهن سمين غواني لأنهن غَنِين بجمالهن. وقيل بأزواجهن. وقوله جل وعلا: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268)

(269)

يقال الفقْر والفَقَر جميعاً، والمعنى أنه يحملكم على أن تؤَدوا في الصدقة رديءِ المال يخوفكم الفقْرَ بإعطاءِ الجَيدِ - ومعنى (يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ): يعدكم بالفقر ولكن الباءَ حذفت. وأفْضىَ الفعل فنصب كما قال الشاعر: أَمَرْتُكَ الخير فافعلْ ما أُمِرْتَ به. . . فقد تَرَكْتُكَ ذا مال وذا نَشَبِ ويقال وعدته أعده وَعْداً وعِدة ومَوْعِداً ومَوْعِدَةً وموْعُوداً وموعودة. ومعنى: (وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ). أي بأن لا تَتَصَذقُوا فَتَتقاطَعوا. ومعنى: (وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا). أي يَعِدُكُمْ أن يُجازيكم على صَدقَتكم بالمغْفرةِ، ويَعِدُكم أن يُخْلِفَ عَلَيْكُمْ. ومعنى: (وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ). (واسع) يعطي من سعة، و (عَليمٌ) يعلَم حيث يضع ذَلك، ويعلم الغيبَ والشَهادَةِ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269) معنى (يُؤْتِي) يعطي، و (الحكمة) فيها قولان: قال بعضهم هي النبوة. وُيرْوَى عن ابن مسعود أن الحكمة هي، القرآنُ، وكفى بالقرآن حِكْمةً، لأن الأمَّةَ بهِ صارت علماءَ بعد جهل، وهو وصلة إِلى كل علم يُقَرِّب منَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ: وذَريعة إِلى رحمته؛ لذلك قال الله تعالى: (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا).

(270)

أي أعْطِيَ كل الجلم، وما يوصل إلى رحمة اللَّه، و " يُؤت " جزم بِمَن. ، والجواب (فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا) ومعنى (وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ). أي ما يفكر فكراً يذكر به ما قص من آيات القرآن إلا أولو الألباب، أي ذَوُو العُقول. وواحد الألبَاب لُب، يقال قَد لَبِبْتَ يا رجُل وأنت تَلَب، لَبَابَة ولُبًّا، وقرأتُ على مُحمد بن يزيدَ عن يونس: لَبُبْت لَبَابَةً. وليس في المضاعف على فَعُلْتُ غيرُ هذا، ولم يروه أحد إلا يونسَ، وسألت غير البصريين عنه فلم يَعْرفْهُ. * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270) أي ما تصدقتم به من فرض لأنه في ذكر صدقة الزكاة وهي الفرض والنذر: التطوع، وكل ما نوى الإنسانُ أن يتطوع به فهو نذر. (فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ): أى لا يخفى عليه فهو يجازي عليه، كما قال جلَّ ثَنَاؤه: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ). يقال نذرْت النذْرَ أنذِرُه وأنْذُرُه، والجميع النُّذُورُ، وأنْذَرْتُ القَومَ إذَا أعْلَمْتُهُمْ وخَوفْتُهمْ إنْذَاراً ونَذِيراً ونذراً. قال اللَّه عزَّ وجلَّ: (فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ). وقال جل ثناؤه: (فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ). النذُر مثل النُّكُر، والنذِير مثل النكِير.

(271)

وقوله عزَّ وجلَّ: (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271) معنى (إنْ تُبْدوا): تُظْهِرُوا، يُقَال بَدَا الشيءُ يبدو إذَا ظَهرَ، وأبدَيتُه أنا إبْدَاءً، إذَا أظهرته، وبدا لي بُدَا " إذا تَغيَّر رأي عمَّا كان عليه. و (تُبْدوا) جُزمَ بـ (إنْ)، وقوله: (فَنِعِمَّا هِيَ) الجواب. وروى أبو عُبَيْدٍ أنَّ أبَا جَعْفَر وشَيْبَةَ ونافعاً وعاصماً وأبا عمرو بن العلاءِ قرأوا: (فَنِعِمَّا هِيَ) بكسر النون وجزم العين وتشديد الميم، وروى أن يحيى بن وثاب، والأشْمس وحمزة

والكسائِى قراوا: (فنَعِمَّا هي) - بفتح النون وكسر العين. وذكر أبو عُبَيْدٍ أنَّه رُويَ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله لابن العاص: نعْمَّا بالمال الصَّالح للرجل الصَّالِح. فذكر أبو عبيدٍ أنه يَخْتَار هَذه القراءَة من أجل هذه الروَاية. ولا أحسب أصحابَ الحديث ضَبَطُوا هذَا، ولا هذه القراءَةَ عند البصريين النحويين جائزة ألبتَّة، لأن فيها الجمعَ بينَ ساكنين من غير حرف مَا ولين. فأما مَا قَرأنَاه من حرف عاصم ورواية أبي عمرو (فنِعِمَّا هِي)، بكسر النون والعين، فهذا جَيِّدٌ بَالغ لأن ههنا كسرَ العينِ والنونِ، وكذلك قراءَة أهلِ الكوفة (نَعِمَّا هي) جَيدة لأن الأصل في نِعْمَ نَعِمَ ونعِمَ. ونعْمَ فيها ثلاث لغاتٍ، ولا يجوز مع إدغام الميم نِعْمَّا هي. و " ما " في تأويل - الشيءِ زعم البصريون أن نِعِمَّا هي: نعْمَ الشيءُ هِيَ. وقد فسرنا هذا فيما مضى. ومعنى: (وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ). هذا كان على عهد رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فكان الإخفاء في إِيتاءِ الزكاة أحْسَن، فأمَّا اليومَ فالناس يُسِيئون الظن، فإظهارُ الزكاة أحسنُ، فأمَّا التطوع فإخفاؤُه أحسن، لأنه أدل على أنه يريد اللَّهَ به وحده. يقال أخفَيْتُ الشيءَ إخفاءً إذا سَتَرتُهُ، وخَفِي خَفَاءً إذا اسْتَتَر، وخفَيْتُه أخْفِيه خَفْياً إِذا أظْهَرْتُه، وأهل المدينة يسمون النبَّاشَ: المُخْتَفِي. قال الشاعر في خفيته أظهرته:

(272)

فإِنْ تَدفِنُوا الداءَ لا نخْفِه. . .وإِن تَبْعَثُوا الحرْبَ لا نَقْعُدِ * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272) معناه إِنما عليك الِإبلاغ كما قال - جلَّ وعزَّ - (وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119). ومعنى: (وَلَكنَّ اللَّهَ يَهْدي مَنْ يَشَاءُ). أي يوفق من يشاءُ للهداية، وقال قوم: لَوْ شاءَ الله لهداهم أي لاضطرهم إِلى أن يهتدوا - كما قال: (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4). وكما قال - عزَّ وجلَّ - (ولَوْ شَاءَ اللَّهُ لجَمَعهُم عَلَى الهُدى) وهذا ليس كذلك. هذا فيه: (وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ). فَلاَ مُهتديَ إِلا بتَوفيق الله - كما قال: (وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ باللَّه). ومعنى: (وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ). هذا خاص لِلْمُؤْمِنِينَ، أعْلمهم أنه قد عَلِم أنهم يريدون بِنَفقتهم ما عند اللَّه جلَّ وعزَّ، لأنه إِذا أعلمهم ذلك فقد علموا أنهم مثابون عليه، كما قال: (وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ). * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ). الرفع في (يُكَفِّرُ) والجزمْ جائزان، ويقرأ - ونُكفر عنكم - بالنون والياءِ. وزعم سيبويه أنه يَخْتَار الرفعَ في وُيكَفَرُ، قال لأن ما بعد الفاءِ قد صار بمنزلتِه

(273)

في غير الجزاءِ، وأجاز الجزم على موضع فهو خير لكم لأن المعنى يكن خيراً لكم، وذكر أن بعضهم قرأ: (مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ ويَذَرْهم) بجزم الراءِ، والاختيار عنده الرفع في قوله (ويذرهُم) وفي (ونُكَفِّر) قال: فأمَّا النصب فضعيف جداً، لا يجيزُ (ونُكَفِّرَ عَنْكم) إلا على جهة الاضطرار، وزعم أنه نحو قول الشاعر: سَأتركُ مَنزِلي لبَنِي تَمِيم. . . وألحقَ بالحجاز فأستريحَا إلا أن النصب أقوى قليلاً لأنه إنَّمَا يَجبُ به الشًيءُ بوجُوبِ غيره فضارع الاستفهامَ وما أشبَههُ. هذا قول جميع البصريين وهو بين واضح. * * * قوله عزَّ وجلَّ: (لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273) فُقراء: جمع فقير مثل ظريف وظُرَفَاء وقالوا في (أُحْصِرُوا) قولين: قالوا أحْصَرهم فرضُ الجهاد فَمَنَعَهُم من التصرفِ. وقالوا أحصرهم عَدُوهُم لأنه شَغَلَهُمْ بِجِهادِهِ، ومعنى (أُحْصِرُوا) صاروا إلى أن حصروا أنفسهم للجهاد، كما تقول رَابَط في سبيل اللَّه. ومعنى: (لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ).

أي قد ألزموا أنفسهم أمر الجهادِ فمنعهم ذلك من التصرف وليس لأنهم لا يقدرون أن يتصرفوا. وهذا كقولك، أمرني المولى أن أقيمَ فما أقدرُ على أن أبرحَ، فالمعنى أني قد ألزَمْتُ نفسي طاعَتَهُ، ليْس أنه لا يقدر على الحَرَكةِ " وهو صحيح سَوِي، ويقال ضربتُ في الأرض ضرباً، وَضَرَبَ الفَحْلُ الناقَةَ إذا حَمَل عليها ضِراباً، والضرِيبُ الجليد الذي يسقط على الأرض، يقال ضَرَبَت الأرض وجُلِدت الأرض وَجَلِدَتْ الأرض. وروى الكسائي: ضَرِبَتْ الأرضُ وجَلِدتْ. والأكثر ضَرَبَتْ وجُلِدَات. ومعنى (يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ). أي يحسبهم الجاهل ويخالهم أغنياء من التعفف عن المسألة وإظهارِ التجمل. ومعنى: (لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا). روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال " من سأل وله أربعون درهماً فقد ألْحَفَ " ومعنى " ألحَفَ " أي اشتمل بالمسْألَة، وهو مستغن عنها، واللِّحَافُ من هذا اشتقاقه لأنه يشْمَل الإنْسَان في التغطية. والمَعْنَى أنه ليس منهم سؤَال فيكون منهم إلحاف. كما قال أمرؤ القيس " على لاحِبٍ لا يُهْتدى بمَنارهِ. . . إذا سافَه العَوْدُ النباطيُّ جَرْجَرا المعنى ليس به منار فيهتدى بها، وكذلك ليس من هُؤلاءِ سؤَال فيقع فيه إلحاف.

(274)

وقوله عزَّ وجلَّ: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274) (الذين) رفع بالإبتداء، وجاز أن يكون الخبر ما بعد الفاءِ، ولا يجوز في الكلام " زيد فمنطلق " لأن الفاءَ لا معنى لها -، وإنما صلح في الذين لأنها تأتي بمعنى الشرط والجزاءِ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) المعنى الَّذين يأكلونَ الرِّبَا لا يقومون في الآخرة إلا كما يقومُ المَجْنُون. مِنْ حَالِ جُنُونه. زعم أهل التفسير أن ذلك عَلَمٌ لهُمْ في الموقف، يَعْرفُهُمْ به أهل المَوْقِف، يُعْلَمُ بِه أنَّهُمْ أكَلَةُ الربا في الدنيا يقال بِفُلان مَس، وهو ألْمَس وأوْلَق إذا كان به جنون. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى). جاز تذكير (جاءَه)، وقال: تعالى في موضع آخر (قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) لأن كل تأنيث ليس بحقيقي فتذكيره جائز ألا ترى أن الوعظ والموعظة معبران عن معنى واحد. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ). أي قَد صُفِحَ لَه عَمَّا سَلَفَ (وأمْرُهُ إلَى اللَّه) أي اللَّه وليُّه. ومعنى: (وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ). أي من عاد إلى استحلال الربا فهو كافر، لأن من أحلَّ ما حرَّم اللَّه فهو

(278)

كافر، وهؤُلاءِ قالوا: (إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا) ومن اعتقد هذا فهوكافر. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) نزلت في قوم من أهل الطائف كانوا صُولحوا على أنْ وُضِعَ عَنهُمُ ما كَانَ عَلَيْهِمْ مِنَ الربا، وَجُعلَ لهم أن يأخُذُوا مَا لَهُمْ مِنَ الربَا وكان لهم على قوم مِنْ قُريْش مال فطالَبُوهُمْ عندَ المَحْل بالمال والربَا فقالتْ تلك الفرقة ما بالنا مِنْ أشقى الناس يؤْخذ منا الربا الذي قد وضع عن سائر الناس، فأمر الله عز وجلَّ - بترك هذه البقية، وأعلم أن من كان مؤْمناً قَبلَ عن اللَّه أمرَه ومن أبى فهو حرْبٌ، أي كافر، فقال: (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279) وقال بعضهم قآذِنُوا، فمن قال (فَأْذَنُوا): فالمعنى: أيقِنُوا ومن قال (قآذِنُوا) كان معناه فأعلِمُوا كل مَنْ لمْ يترُكِ الربَا أنَّه حَرْب. يقال قد آذنته بكذا وكذا، أوذنُه إيذَاناً إذا أعْلَمْتُه وقد أذِنَ له يأذنُ إذْناً إذا عَلِمَ بِه. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) أي: وإن وقعَ (ذُوعُسْرَةٍ)، ولو قرئت، وإن كان ذا عُسْرَةٍ لجاز أي وإن كان المدين الذي عليه الدَّينُ ذَا عُسْرةٍ، ولكن لا يُخَالف المصحف والرفع على أن، (إنْ كان) على معنى إنْ وقع ذو عسرة - ورفع (فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ) على فعلى الَّذِي تعاملونه نظرة أي تأخير، يقال بعته بيعاً بِنَظرةٍ. ومن قال فناظرة إلى ميسرة ففاعالة من أسماءِ المَصَادِر نحو (لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ)

(281)

ونحو (تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25). وإنْ شئْتَ قُلتَ إلى مَيْسُرة فأما منْ قَرأ (إلى مَيْسُرِهِ) على جهةِ الإضافة إلى الهاءِ فمخطئ، لأن "ميسُر" مَفْعُل وليْس في الكلام مفعُل. وزعم البصريون أنهم لا يعرفونَ مفْعُلاً إنما يَعْرِفُون مفْعُلَة. فَأمرهم اللَّه بتأخيرِ رأس المال بعد إسقاط الربا، إذا كان المُطَالَبُ مُعْسِراً، وأعلمهم أن الصدقة بِرأس المالِ عَلَيْهِ أفْضَلُ. فقال: (وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ). * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281) هذا يوم القيامة، ويقال إنها آخر آية نزلت من كتاب اللَّه جلَّ وعزَّ. كذا جاءَ في التفسير. وقوله عزَّ وجلَّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ) يقال دَايَنْتُ الرجلَ إذا عاملته بدين، أخَذْتُ منه وأعطيتُه. وتَدايَنَّا على دايَنْتُه، قال الشاعر: - دايَنْتُ ليْلَى والدُّيُونُ تقضَى. . . فمطلت بعضاً وأدَّت بعضاً ويقال دِنْت وأدَّنْتُ أي اقْترضْت، وأدَنْتُ إذا أقْرضْتُ. قال الشاعر: أدانَ وأنبِّأه الأولون. . . بأن المُدَان مَلِيء وفيُّ

فالمعنى إذا كان لبَعْضكم على بعْض ديْن إلى أجل مُسَمَّى فاَكتبوه فأمر الله - عزَّ وجلَّ - بكَتْب الدين، حِفظاً مِنْه للأمْوال، وكذلك الإشهاد فيها وللناسِ من الظلْمِ لأَن صاحب الدَّيْنِ إذا كانت عليه الشهُودُ والبَينَةُ قَلَّ تحديثُه نفسَه بالطمَع في إذْهَابِهِا. فأمر اللَّه - جلَّ وعزَّ - بالإشهاد والكِتَابِ. قال بعض أهل اللغة هذا أدب من اللَّه عزَّ وجلَّ وليس بأمر حَتْم كما قال عزَّ وجلَّ: (وإِذَا حَلَلْتُم فاصْطادوا) - فليس يجب كُلماِ يحل من الإحرام أن يصطاد، وكما قال: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ). وهذا خلاف ما أمَرَ اللَّه به في كتاب الدين والإشهاد لأن هذين جميعاًْ إباحة بعد تحريم - قال الله عزَّ وجلَّ: (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا) وقال: (لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) ثم أباح لهم - إِذا زال الإحرام - الصيدَ " وكذلك " قال: (إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ) فَأبَاحَ لَهُمْ بَعْدَ انْقِضَاءِ الصًلاةِ الابتغاءَ منْ فضْلِهِ، والانتشارَ في الأرض لما أرادوا من بيع وغَيْره. وليست آيةُ الدَّيْنِ كذلك، ولكن الذي رخص في ترك الإشهاد في قول قوم قوله: (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ). أيْ يكتَب بالحق، لا يكتب لصاحب الدين فضلًا على الذي عليه الدين ولا يُنْقصُه مِنْ حقه - فهذا العدل.

ومعنى: (وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ). أي لا يأب أنْ يكتب كما أمره اللَّه به من الحق. وقيل (كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ)، أي كما فضله اللَّه بالكتاب فلا يَمْنَعَن المعْرُوفَ بكتَابِهِ. وأبى يأبَى في اللغة منفرد لَم يَأتِ مِثْلُه إلا قَلَى يَقْلَى، والذي أتَى أبَى يأبى لا غير - فَعَل يَفْعَل، وهذا غير معروف إلا أن يكون في موضع العين من الفعل أو اللام حرف من حروف الحلق، وقد بيَّناها، ولكن القول فيه أن الألف في أبى أشْبَهَت الهَمْزَة فَجاءَ يَفْعَل مفْتُوحاً لِهَذِه العِلة، وهذا القول لإسماعيل بن إسحاق ومثله قلى يلقى. ومعنى قوله عزَّ وجلَّ: (وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا) أي لاَيَنْقُصْ مِنْهُ شَيْئاً. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ). السفيه الخفيف العقل، ومن هذا قيل تسفهت الريح الشيء إذا حركته. واستخفته، قال الشاعر: مَشَيْنَ كما اهتزَّتِ رماحٌ تسفَّهَتْ. . . أَعَالِيَها مَرُّ الرِّياحِ النَّواسِم

فالنساء والصبيان اللاتي لا يميزن تميزاً صحيحاً سفهاء، والضعيف في عقله سفيه، والذي لا يقدر - على الإملاء العيي. وجائز أن يكون الجهول سفيهاً كهؤُلاءِ. ومعنى: (فليملل وليه بالعدل): أي الذي يقوم بأمره، لأن اللَّه أمر ألا نْؤتي السفهاء الأموال. وأمر أن يقام لهم بها فقال: (وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ). فوليه الذي يقوم مقامه في ماله لو كان مميزاً. وقال قوم: ولي الدَّيْنِ. وهذا بعيد: كيف يقبل قول المدعي، وما حاجتنا إلى الكتاب والإشهاد والقول قوله: (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ). معنى رجالكم من أهل ملتكم. وقوله عزَّ وجلَّ: (فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ). أي فالذي يشهد - إن لم يكن - رجلان - رجل وامراتان ومعنى (ممن ترضون من الشهداءِ)، أي ممن ترضون مذهبه، ودل بهذا القول أن في الشهود من ينبغي ألا يرضى. (أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى). مَنْ كسر (أنْ) فالكلامُ علي لَفظ الجَزَاءِ، ومعناه: المعنى في (إن تضِل) إن تَنْسَى إحداهما، تذكرْهَا الذاكرةُ فَتَذْكر. و (فَتُذَكِّرُ) رُفِعَ مع كسر (إنْ)

لا غير - ومن قرأ "أن تَضِلَ قتُذَكرَ " وهي قراءَة أكْثر الناس، فَزَعمَ بعضً أهل اللغة فيها أن الجزاء فيها مقدَّم أصله التاخير وقال: المعنى: استشهدوا امراتين مكان الرجل كي تُذَكرَ الذاكرة - الناسِيَةَ. إن نَسِيَتْ. فلما تقدم الجزاءُ اتصلَ بأول الكلام وفُتِحَتْ أنْ وصارَ جوابهُ مردُوداً عليه. ومثله إني لَيُعْجِبُني أن يسْأل السائلُْ فيعطى، قال - والمعنى إنما يُعجبُه الإعطاء إن سَأل السائِل وزعم أن هذا قول بين. ولست أعرف لِمَ صار الجزَاءُ إدا تقدم - وهو في مكَانه أو في غير مكانِه وجب أن يفتح (أن) معه. وذكر سيبويه والخليل " وجميع النحويين الموثوق بعلمهم أن المعنى استَشهدوا امراتين لأن تُذَكرَ إحداهما الأخري، ومِنْ أجْل أنْ تُذَكرَ إحداهما الأخرى، قال سيبويه: فإن قال إنْسَانُ فلم جاز (أن تضل) وإنما أعد هذا للإذْكار، فالجواب أن الإذكار لما كان سبَبُه الإضْلال جاءت أن يذكر (أن تضل) لأنَّ الإضلال هو السبب الذي أوجب الإذكار. قال ومثله: أعددت هذا الجذع أن يَمِيلَ الحائطُ، فأدعمَهَ، وإنَّما أعددته للدعم لا لِلْمَيل، ولكنْ الميلَ ذُكرَ لأنه سَبَبُ الدعم، كلما ذكر الإضْلال لأنه سبب الاذكار - فهذا هو البيِّن إن شاءَ الله. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا).

يروى عن الحسن أنه قال (وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا) لابتداء الشهادة. أي ولا يأبوا إذا دُعُوا لإقامتها. وهذا الذي قال الحسن هو الحق - واللَّه أعلم - لأن الشهداء إذا أبوا - وكان ذلك لهم - أن يشْهدوا تَوِيتْ حقوقهم وبطلت معاملاتهم فيما يحتاجون إلى التوثق فيه. وقال غير الحسن: (وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا) - وكانت في أعناقهم شهادة - أن يقيموها. فأما إذا لم يكونوا شهداء فهم مخيرون في ابتداء الشهادة، إن شاءُوا شهدوا وإن شاءُوا أبوا. ويدل على توكيد أن الشاهد ينبغي له إذا ما دعي ابتداء أن يجيب. قوله تعالى: (وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ). أي لا تملوا أن تكتبوا ما أشْهَدتم عليه، فقد أمِرُوا بهذا، فهذا يَؤكد أن أمر الشهادة في الابتداءِ واجب، وأنه لا ينبغي أن يُمَل ويقال سئمت أسأم سآمة. سأماً. قال الراجز: لما رأيت أنه لا قامة. . .وأننِي سَاق على السآمَة نزعتُ نزعاً زَعْزَع الدعَامَة ومعنى: (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً). أكثر القراءِ على الرفع (تِجَارَةً حَاضِرَةً) على معنى: إلا أن تقَع تِجارةَ

(283)

حاضِرة. ومن نصب تجارة - وهي قراءَة عاصم فالمعنى إلا أن تَكونَ المُداينة تجارةً حاضرةً. والرفع أكثرُ وهي قراءَة الناس. فرخص اللَّه عزَّ وجلَّ في ترك كتابة ما يديرونه بينهم لكثرة ما تقع المعاملة فيه، وأنه أكثر ما تقع المتاجرة بالشيءِ القليل، وإن وقع فيه الدين. ووكدَ في الاشهاد في البيع فقال: (وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ) وقد بيَّنَّا ما الذي رخص في ترك، الإشهاد. ومعنى: (وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ). قالوا فيه قولين: قال بعضهم: (لَا يُضَارَّ): لا يضارِرْ، فأدغمت الراءُ في الراءِ، وفتحت لالتقاءِ الساكنين، ومعنى (لَا يُضَارَّ) لا يكتب الكاتب إلا بالحق ولا يَشْهدُ الشاهد إلا بالحق. وقال قوم: (وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ): لا يُدْعَى الكاتبُ وهو مشغول لا يمكنه ترك شغله إلا بضرر يدخل عليه، وكذلك لا يُدْعى الشاهد ومجيئُه للشهادة يضُرُّ به والأول أبينُ لقوله: (وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ) فالفاسق أشبه بغير العدل وبمَنْ حرف الكتاب منه بالذي دعا شاهداً ليشهد، ودعا كاتباً ليكتب، وهو مشغول فليسَ يسمَّى هذا فاسقاً ولكن يسمى من كذب في الشهادة ومن حرف الكتاب فاسقاً. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283) قرأ الناس " فرُهُن مقبوضة " و " فَرِهان مقبُوضَة " فأمَّا "رُهُنٌ" فهي قراءَة أبي عَمرو، وذكر فيه غير واحد أنها قرئت: " فَرُهُن " ليُفْصَل بين الرهَانِ في الخَيْل

وبين جَمْع رَهْن في غيرها، ورُهُن ورهان أكثر في اللغَةِ. قالَ الفراء " رُهُن " جمعٍ رِهَانٍ، وقال غَيْرُه: رُهُن وررَهْن " مِثْل سُقُف وسَقْف. وفَعْل وفُعُل قليل إلا إنَّه صحيح قد جاءَ؛ فأما في الصفة فكثير، يقال: فرَس وَرْد، وخيل وُرْد. ورجل ثَط وقَوْم ثُط، والقراءَةُ على " رُهُن " أعجَب إِليَّ لأنها موافقة للمصحف، وما وافق المصحف وصح معناه وقرأت به القراء فهو المُختار. ورِهَان جَيِّد بَالغ. يقال: رهنتُ الرهن وأرهَنْتُه، وأرْهَنْتُ أقلهما. قال الشاعر في أرْهنت: فَلَمَّا خَشِيتُ أظافِيرهُم. . . نَجَوْتُ وَأرْهَنْتهُمْ مَالِكاً وقال في رَهَنْت: أنشده غيرُ واحد:

(284)

فَهَلْ من كاهِنٍ أوْ ذِي إله. . . إذا مَا حان من رَبي قُفول يُرَاهِنُني فيَرهَنُني بَنِيه. . . وأرْهنه بَنِي بما أقولُ لَمَا يَدْري الفقيرُ متى غِنَاه. . . ومَا يَدْري الغَنِيُّ متَى يُعِيلُ * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284) معناه هو خالقهما. (وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ). معناه إن تظهروا العمَل به أو تُسِرُّوه يُحاسبكم به اللَّه، وقد قيل إن هذا منسوخ، روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال تُجَوِّزَ لهذه الأمة عن نسيانها وما حدَّثَتْ به أنْفُسَهَا. ولما ذكر اللَّه - جلَّ وعزَّ - ْ فَرْضَ الصلاة والزكاة والطلاق والحيض والإيلاءِ والجهاد وأقاصيص الأنبياءِ والدَّيْن والربا، ختم السورة بذكر تعظيمه وذكر تصديق نبيه - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين بجميع ذلك فقال: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) أي صدق الرسول بجميع هذه الأشياء التي جرى ذكرها وكذلك المؤْمنون. (كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ) أي صدق بالله وملائكته وكتبه. - وقرأ ابن عباس - وكِتَابه وقرأتْه جماعة من القراءِ. فأمَّا كُتُب فجمع كِتاب، مثل: َ مِثَال ومُثُل، وحمَار وحُمُر. وقيل لابن عباس في قراءَته " وكتابه " فقال كتاب أكثر من كتب. ذهب به إلى اسم الجِنْس

(286)

كما تقول: كثر الدرْهَم في أيدِي الناس. ومعنى: (لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ). أي لا نفعل كما فعل أهل الكتاب قبلنا. الذين آمنوا ببعض الرسل وكفروا ببعض، نحو كفْر إليهود بعيسى، وكفْر النصارى بغيره فأخبر عن المؤمنين أنهم يقولون (لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ). * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا). أي " سَمعْنَا " سَمْع قابِلينَ. و (أطَعْنَا): قِبِلْنَا ما سَمِعْنَا، لأن مَن سمع فلم يعْمل قيل له أصم - كما قال جلَّ وعزَّ: (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ). ليس لأنهم لَا يسْمعون ولكنهم صاروا - في ترك القبول بمنزلة من لا يسمع قال الشاعر: أصَمُّ عمَّا سَاءَهُ سَمِيع ومعنى: (غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ). أي أغفر غُفْرانَك، وفُعْلاَن، من أسْمَاءِ الْمَصَادِر نحو السُّلوان والكُفْران. ومعنى: (وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) أي نحن مقرون بالبعْثِ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286) (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) أي إلا قدرَ طَاقَتها، لا يكلفها فَرضاً من فُروضهِ من صَوْم أوصَلاةٍ أو صَدقَةٍ أو غير ذلك إلا بمقدار طاقتها. ومعنى: (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ). أي لا يؤَاخذ أحداً - بذنب غيره - كما قال - جلَّ وعزَّ: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى).

ومعنى: (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا). قيل فيه قولان: قال بَعضهم إِنَه على مَا جاءَ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "عُفِيَ لِهَذِهِ الأمة عن نِسُيَانِهَا ومَا حَدَّثتْ بِهِ أنفُسَهَا" وقيل: (إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) أي إن تَرَكْنَا. و (أو أخْطَانَا): أيْ كَسَبْنَا خطيئةً واللَّه أعلم. إلا أن هذا الدعاءَ أخبر اللَّه به عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤْمنين وجعله في كتابه نيكون دعاءَ مَنْ يأتي بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة رحمهم اللَّه. وروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن اللَّه - جلَّ وعزَّ - قال في كل فصل من هذا الدعاء فَعلتُ فعلتُ أي اسْتَجَبْتُ. فَهوَ منَ الدعاء الذي ينبغي أن يحفظ وأن يدعى به كثيراً. * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا). كل عقد من قرابة أو عهد فَهُو إصْر، العرب تقول: مَا تأصِرُني على فلان آصرة. أي ما تَعطفني عليه قرابة ولا مِنَة قال الحطيئة: عَطفُوا عليَّ بغير آصرة. . . فقد عَظُمَ الأواصِر أي عطفوا على بغير عهد قرابة، والْمَأصَرُ من هذا مأخوذ إنما هو عقد ليحبس به، ويقال للشيء الذي تعْقَدُ به الأشياء الإصَار. فالمعنى لَا تَحْمِلْ علينا أمْرا يثقُل كما حمَلتَه على الذين من قبلنا نحو ما

أمِرَ به بنو إسرائيل من قتل أنفسهم، أي لا تَمْتَحِنا بما يثقل. (أيضاً) نحو قوله: (وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ). والمعنى لا تمتحنا بمحنة تثقل. ومعنى: (وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ). أي ما يثقل علينا، فإِن قال قائل - فهل يجوز أن يُحَمِّلَ اللَّهُ أحداً ما لا يطيق؟ قيل له: إدْ أردت ما ليس في قدرته ألبتَّة فهذا محال. وإن أردت ما يثقلُ ويخسف فللَّهِ عزَّ وجلَّ أن يفعل من ذلك ما أحب. لأن الذي كلفه بني إسرائيل من قتل أنفسهم (يَثقل)، وهذا كقول القائل: ما أطيقُ كلام فلان، فليس المعنى ليس في قُدرتِي أن ُكَلِّمَهُ ولكنْ معناه في اللغة أنه يثقل عليَّ. ومعنى: (فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ). أي أنْصُرنا عليهم في إقامة الحجة عليهم، وفي غلبنا إِياهم في حربهم وسائر أمرهم، حتى تظهر ديننا على الدِّين كلِّه كما وعدتنا.

سورة آل عمران

سورة آل عمران بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله عزَّ وجلَّ: (الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) أجمعت القراءُ على فتح الميم وقد روي عن الرُّواسي " ألم اللَّه " بتسكين الميم، وقد رَوَى هذه القراءَة بعضهم عن عاصم والمضبوط عن عاصم في رواية أبي بكر بن عَيَّاش وأبي عمرو فتحُ الميم، وفتحُ الميم إجماع. وقد شرحنا معنى (الم). واختلف النحويون في علة فتح الميم، فقال بعض البصريين: جائز أن يكون الميمُ فتحتْ لالتقاء الساكنين، وجائِز أن يكون طرحت عليها فتحة الهمزة لأن نيةَ حروف الهجاءِ الوقف، وهذا أيضاً قول الكوفيين. وذكر أبو الحسن الأخفش أن الميمَ لو كُسرتْ لالتقاءِ السَّاكنين فقيل (الم اللَّه) لجازَ، وهذا غلط من أبي الحسن لأن قبل الميم ياءً مكسوراً ما قبلها فحقها الفتح لالتقاءِ السَّاكنين وذلك لثقل الكسرة مع الياءِ. فَأما (الْقَيَّومُ) فقد روي عن عُمَرَ وابنِ مَسْعود جميعاً أنهُمَا قرءَا (القيَّام) وقد رويت (الْقَيِّمُ)، والذي ينبغي أنْ يُقرأ ما عليه المصحف، وهو القيوم بالواو، والقيِّمُ أيضاً جيد بالغ كثيرَ في العربية، ولكن القراءَةَ بخلاف ما في المصحف

(3)

لا تجوز، لأن المصحفَ مجمع عليه، ولا يعارض الإجماع برواية لا يعلم كيف صحتُها. ومعنى (الْقَيُّومُ): القائمُ بِتَدْبير جميع ما خَلَقَ من إحياءٍ وإنشاءٍ ورَزْقٍ ومَوْتٍ. وأصل قيوم قَيْوُوم، إلا أن الياء إذا سَبَقت الواو بسُكونٍ قُلبَتْ لها الواو وأدغمت الياء فيها وكذلك القيَّام أصله الْقَيْوَام، ومعنى الكتاب ما كتب يقال للقرآن كتاب لأنه يُكتَبُ، ومعنى يكتب في الَلغة يجمع بعضه إلى بعض، والكُتْبَةُ في اللغة الخَرْزة وجمعها كتب والكتيبة القطعة من الجيش العظيمة، إِنما سميت لاجتماع بعضها إلى بعض. ومعنى (مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ) أي للكتب التي تقدمته والرسل التي أتَتْ بهَا. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ) أيْ من قَبْل الْقُرآنِ. وقد اخْتَلَفَ النَحْوُّيونَ في " تَوْرَاة " فَقَالَ الكوفِيُّونَ تَوْرَاة يصلُحُ أنْ يكونَ " تَفْعَلَةَ " مِن وَرَيْتُ بِك زِنَادِي، فالأصل عندهم توْرَيَة إلا أن الياء قلبت ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها. " وتفْعَلة " لا تكاد تُوجد في الكلام، إِنما قالوا في تتْفلَة " تتفَلَة. وقال بعضهم يصلح أن يكون تَفْعِلة مثل تَوْصِيَة ولكن قلبت من تَفْعِلة

(6)

إلي تَفْعَلَة. وكأنَّه يجيز في تَوْصِية تَوْصَاةَ، وهذا رَديءَ ولم يَثْبُتْ في تَوفيَة توفاة، ولا في توقية توقاه. وقال البصريون: أصلها فَوْعلَة، وفوعلة كثير في الكلَامَ مثل الحوقلة. وَدَوْخَلة وما أشبه ذلك. وكل ما قلت فيه فَوْعَلْتُ فمصْدرُهُ فَوْعلَة، فأصلها عندهم " وَوْريَة " ولكن الواو الأولى قلبت تاء كما في " تَوْلَج " وإنما هو فَوْعَل من ولجت، وكما قلبت في تراث. الياءُ الأخيرة، قلبت أيضاً لتحركها وانفتاح ما قبلها بإجماع. وَإنْجِيل: إفْعيل مِن النجْل وهو الأصلِ: هكذا يَقُول جميع أهل اللغة في إنْجِيل. ومعنى: (مِن قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ): أي من قبلِ القُرآن. ومعنى (وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ). أي ما فُرق بِه بين الحَق والباطِل ورُوي عَنْ بَعْض المفسرين أن كل كتاب للَّهِ فُرْقَان. ومعنى: (وَاللَّهُ عَزِيز ذُو انتِقَام) أي قد ذل له كل شيءٍ بأثر صنعته فيه. ومعنى (ذُو انْتِقَام) أي ذُو أنْقَامٍ ممن كَفر به، لأن ذكر الكافرين ههنا جرى. ومعنى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5) أي هو ظاهر له، وهو جلَّ وعَزَّ أنشأه. ومعنى (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6)

(7)

أي على ما يشاءُ من عظم وصغر لون، وضعف وقوة. وله - جلَّ وعزَّ - فِي ذلك حكمة كما قال: (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7) روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - إنَّه قال: الَمحكمات: الآيات في آخر الأنعام. وهي قوله تعالى: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) إِلى آخر هذه الآيات، والآيات المتشابهات (الم والمر) وما اشتبه على إليهود من هذه ونحوها. وقال قوم: معنى (مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ)، أي أحكمت في الِإبانة فإِذا سمعها السامع لم يحتج إِلى تأويلها لأنها ظاهرة بينة نحو ما أنبأ الله من أقاصيص الأنبياءِ مما اعترف به أهل الكتاب وما أخبر الله به من إنشاءِ الخلق من قوله عزَ وجل: (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ) فهذا اعترف القوم به وأقروا بأن الله هو خالقهم، وما أخبر اللَّه به من خلقه من الماءِ كل شيءٍ حي وما خلق لهم من الثمار وسخر لهم من الفلك والرياح وما أشبه ذلك. فهذا ما لم ينكروه، وأنكروا ما احتاجوا فيه إلى النظر والتدبر من أن اللَّه عزَّ وجلَّ يبعثهم بعد أن يصيروا تراباً فقال: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ). (وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48).

فهذا الذي هو المتشابه عليهم، فأعلمهم اللَّه الوجه الذي ينبغي أن يستدلوا به على أن هذا المتشابه عليهم كالظاهر إن تدبروه ونظروا فيه، فقال عزّ وجلَّ: (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا). وقال: (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) أي إذَا كنتم قد أقررتم بالإنسان والابتداءِ فما تنكرون من البعث والنشور؛ وهذا قول كثير من الناس وهو بين واضح. والقول الأول حسن أيضاً. فأما (أُخَرُ) فغير مصروفة. زعم سيبويه والخليل أن (أُخَرُ) فارقت أخواتها والأصلَ الذي عليه بناءُ أخواتِها، لأنْ أخَرَ أصلها أن تكون صفة بالألف واللام. كما تقول الصغرى والصُّغَر، والكبرى والكبَر فَلَما عدلت عن مجرى الألف واللام وَأصْلِ " أفْعَلُ مِنْك " وهي مما لا تكون إلا صفة - منعت الصرف. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ). الزيغ: الجور والميل عن القصد، ويقال زاغ يزيغ إذا جار. ومعنى (ابْتغَاءَ الْفِتْنَة). أي يفعلون ذلك لطلب الفتنة. ولطلب التأوِيل. والفتنة في اللغَةِ على ضروبٍ: فالضرْب الذي ابتغاه هؤلاءِ هو فَسَادُ ذَاتِ الْبَين

في الدِّينِ والحرُوبِ، والفتنة في اللغة: الاسْتِهْتَار بالشيْءِ والغُلُو فيه. يقال: فلان مفتون في طلب الدنيا، أي قد غلا في طلبها وتجاوز القُدْرة. والفتنة الاختبار كقوله عزَّ وجلَّ: (وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) أي اختبرنا، ومعنى ابتغائهم تأويله أنهم طلبوا تأويل بعثهم وإحيائهم، فأعلم الله أن تأويل ذلك ووقتَه لا يعلمه إلا الله. والدليل على ذلك قوله عزَّ وجلَّ: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ) أي يوم يرون ما وعدوا به من البعث والنشور والعذاب (يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ) أي الذين تركوه وتركوا ما أنبأ به النبي - صلى الله عليه وسلم - عن اللَّه - عزَّ وجلَّ من بعثهم، ومُجَازاتِهم. وقوله - عزَّ وجلَّ -: (قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ) أي قد رأينا ما أنبأتنا به الرسل. فالوقْفُ التام قوله: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ) أي لا يعلم أحد متى البعث. (غير اللَّه). ومعنى: (والراسِخُونَ فِي الْعِلْم) أي الثابتون. يقال رسخ الشيءُ يَرْسَخُ رُسوخاً إذا ثبت أي: يقولون صدقنا بأنَّ اللَّه يبعثنا، ويُؤمنون بأنَّ البعثَ حق كما أن الِإنشَاءَ حق، ويقولون: (كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا).

(8)

ويدل على أن الأمر الذي اشتبه عليهم لم يتدبروه. قوله عزَّ وجلَّ: (وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ): أي ذوو العقول. أي ما يتذكر القرآن وما أتى به الرسول - صلى الله عليه وسلم - إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ. * * * قوله عزّ وجلَّ: (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) أي لا تمِلْها عن الهدى والقَصْد، أي لا تضلَّنَا بعد إذ هديتنا. وقيل أيضاً: (لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا) لاَ تَتَعبَّدْنا بما يكون سبباً لزيغ قلوبنا وكلاهما جيد. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9) يدل عَلَى تأويل قوله: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) - فقولهم: (إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ) إِقرار بالبعث ودليل أنهم خالفوا من يتبع المتشابه لأن الذين ابتغوا المتشابه هم الذين أنكروا البعث. (لَا رَيْبَ فِيهِ) لا شك فيه. وقد شرح باستقصاءِ فيماتقدم من كتابنا. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ). جائز أن يكون حكاية عن الموحدين، وجائز أن يكون إخباراً عن اللَّه وجائز فتح " أن اللَّه لا يخلف الميعاد "، فيكون المعنى جامع الناس لأنك لا تخلف الميعاد. أي قد أعلمتنا ذلك ونحن غير شَاكِّين فيه. * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) (وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ). أي الكفار يعذبون وهم وقود أنفسهم، كلما نضجت جلودهما وعظامهم بالاتقاد بدِّلُوا خلوداً غيرها. فعذبهم بجلودهم وعظامهم.

(11)

وقوله جلَّ وعزَّ: (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11) أي كشأن آل فرعون، وكأمر آل فرعون، كذا قال أهل اللغة والقول عندي فيه - واللَّه أعلم - إِن " دأب " ههنا أي اجتهادهم في كفرهم وتظاهرهم على النبي - صلى الله عليه وسلم - كتظاهر آل فرعون على موسى عليه السلام. وموضع الكاف رفع وهو في موضع خبر الابتداءِ، المعنى دأبهم مثلُ دَأبِ آل فرعون، و (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ). يقال دأبتُ أدأب دَأباً ودُؤُوباً إِذا اجتهدت في الشيءِ. ولا يصلح أن تكون الكاف في موضع نصب بـ (كفروا) لأن كفروا في صلة الذين، لا يصلح أن الذين كفروا ككفر آل فرعون لأن الكاف خارجة من الصلة ولا يعمل فيها ما في الصلة. * * * وقوله: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12) وتقرأ (سَيُغْلَبُونَ)، فمن قرأ بالتاءِ فللحكاية والمخاطبة، أي قل لهم في خطابك ستغلبون. ومن قال (سَيُغْلَبُونَ) فالمعنى بلغهم أنهم سيغلبون. وهذا فيه أعظم آية للنبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه أنبأهم بما لم يكن وأنبأهم بغيب، ثم بانَ تصديق ما أنبأ به لأنه - صلى الله عليه وسلم - غلبهم أجمعين كما أنبأهم. - ومعنى (وَبِئْسَ المِهَادُ): بئس المثوى وبئس الفراش. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13) آية علامة من أعْلامِ النَبِى - صلى الله عليه وسلم - التي تدل على تصديقه، والفئةُ في اللغة

الفِرقةِ، وهي مأخوذة من قولهم فَأوْتُ رأسَه بالسيْفِ وفأيتُه إذَا فلقته ومعنى (فِئَتَيْنِ) فرقتين. (فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ): الرفع والخفض جائزان جميعاً. فأما من رفع فالمعنى: إحداهما تقاتِل في سبيل اللَّه والأخْرى كافرة، ومن خَفَضَ جعل فئةً تُقاتِل في سبيل الله وأخْرى كافرة بدلًا من فئتين: المعنى: قد كان لكم آية في فئة تقاتل في سبيل اللَّه وفي أخرى كافرة. وأنشدوا بيت كثير على جهتين: وكنت كذي رجلين رجل صحيحة. . . ورجْل رمى فيها الزمان فَشَفت وأنشدوا أيضاً: رجل صحيحةٍ، ورجل رمى فيها الزمان. على البدل من الرجلين. وقد اختلف أهل اللغة في قوله (يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ) ونحن نبين ما قالوه إن شاءَ اللَّه وما هو الوجه. واللَّه أعلم. زعم الفراءُ أن معنى (يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ) يرونهم ثلاثة أمثالهم قال لأنك إِذا قلت: عندي ألف وأحتاج إلى مثلها فأنت تحتاج إلى ألفين فكأنك قلت أحتاج إلي مثليها - وإذا قلت عندي ألف وأحتاج إِلى مثليها فأنت تحتاج إلى ثلاثة آلا*ف، وهذا باب الغلط فيه غلط بَيِّن في جميع المقاييس وجميع الأشياءِ، لأنا إِنما نعقل مثل الشيءِ ما هو مساو له، ونعقل مثليه ما يساويه مرتين، فإِذا جهلنا المثل فقد بطل التميز، وإنما قال هذا لأن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا ثلاثمائة وأربعة

(14)

عشر رجلاً وكان المشركون تسعَمائةٍ وخمسين رجلاً فالذي قال يبطل في اللفظ ويبطل في معنى الدلالة على الآية التي تُعْجِز، لأنهم إذا رأوهم على هَيْئَتِهِمْ فليس هذا آيَة، فإنْ زَعم أن الآيةَ في هذا غلبةُ القليل على الكثير فقد أبْطَلَ أيضاً لأن القليل يغلب الكثيرَ. موجود ذلك أبداً. فهذا الذي قال يبطل في اللغة وَفِي المَعْنَى وإنَّما الآيةُ في هذا أنَّ المشركين كانوا تسعمائة وخمسين وكان المسلمون ثلاثَمائةٍ وأربعةَ عشرَ فأرى اللَّه - جلَّ وعزَّ - المشركين أنَّ المسلمين أقَل من ثلاثمائة واللَّه قد أعلم المسلمين أن المائة تغلب المائتين فأراهم المشركين على قدر ما أعلمهم أنهم يغلبونهم لِيُقَوِّيَ قلوبهم، وأرى المشركين المسلمين أقل - من عدد المسلمين، ثم ألقَى مع ذلك في قلوبهم الرعب فجعلوا يرون عدداً قليلاً مع رعب شديد حتى غُلِبُوا. والدليل على صحة هذا القول قول اللَّه عزَّ وجلَّ: (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا). فهذا هو الذي فيه آية أن يُرَى الشيء بخلاف صورته - واللَّه أعلم -. ويجوز نصب (فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ). ولا أعلم أحداً قرأ بها. ونصبها من وجهين - أحدهما الحال المعنى التقتا مؤْمنة وكافرة ويجوز نصبها على أعني فِئَةً تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ). * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)

قيل في (زُيِّنَ) قولان: قال بعضهم اللَّه زينها مِحْنَةً كما قال: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7). وقال بعضهم: الشيطان زينها لأن اللَّه قد زهد فيها وأعلم أنَّها متاع الغرور. والقَوْلُ الأول أجودُ لأن جَعْلَهَا زينةً محبوبة موجودٌ واللَّه قد زهَّد فيها بأن أعلم وأرى زوالها، ومعنى (القناطير) عند العرب الشيءُ الكثير من المال وهو جمْع قنطار. فأما أهل التفسير فقالوا أقوالًا غير خارجة من مذهب العرب: قال بعضهم القنطار ملءُ مَسْكِ ثَوْرٍ ذهباً أو فضة وقال بعضهم القنطار ثمانون ألفَ دِرهم. وقال بعضهم: القنطار ألفُ دينار، وقال بعضهم ألف، رطل ذهباً أو فضةً. فهذه جملة ما قال الناس في القنطار. والذي بخرج في اللغة أن القنطار مأخوذ من عقد الشيءِ وأحكامه والقنطرة مأخوذة من ذلك، قكأن القنطار هُوَ الجملة من المال التي تكُون عقدة وثيقة منه. فأمَّا من قال من أهل التفسير إنَّه شيء من الذهب موف، فأقوى منه عندي ما ذكر من إنَّه من الذهب والفضة، لأن اللَّه - جلَّ وعزَّ - ذكر القناطير فيهما، فلا يستقيم أن يكون القنطار في إحداهما دون الأخرى. ومعنى (وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ) في اللغة - الخيل عليها السًيمَاءُ والسُّومَة وهي

(15)

العلامة، ويجوز - وهو حسن - أن يكون المسومة السائمة، وأسِيمَت أرْعِيَتْ. (وَالْأَنْعَامِ) المواشي واحدها نَعَم، أكثر استعمالها في الإبل، (والحرث) الزرع، وهذا كله محبَّب إلى الناس كما قال اللَّه - عزَّ وجلَّ، ثم زهد الله في جميعه. وتأويل التزهيد فيه ليس الامتناع من أنْ يَزْرع الناس، ولا من أن يَكْسِبُوا الشيءَ من جهة، وإنما وجه التزهيد فيه الحث على الصدقة وسلوك سُبل البِرِّ التي أمرَ بِها في ترك الاستكثار من المال وغيره، فهذا وجه التزهيد. فقال جلَّ وعزَّ: (ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) أي ما يتمتع به فيها. (وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ): والمآب في اللغة المرجع، يقال آب الرجل يؤُوب أوْبا وإياباً ومآباً. وأعلم اللَّه - جلَّ وعزَّ - أن خيراً من جميع ما في الدنيا ما أعده لأوليائه فقال: (قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) الرفع في (جَنَّاتٌ) القراءَْة، والخفض جائز على أنْ تكون (جَنَّاتٌ) بدلاً من خير المعنى أؤنبئكم بجنات تجري من تحتها الأنهار ويكون، (للذين اتقوا عند ربهم) من تمام الكلام الأول. ومعنى (وأزواج مطهرة) أي مطهرة من الأدناس ومطهرة مما يحتاج إليه نساءُ أهل الدنيا من الحيض وغيره. (وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ). أكثر القراءَة كسر الراءِ. وروى أبو بكر بن عياش عن عاصم

(16)

" وَرُضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ " بضم الراءِ في كل القرآن، ويقال رَضِيت الشيءَ أرضاه رضا ومرضاة ورِضوا ناًورُضواناً. وموضع (الذين يقولون) خفض صفة (للذين اتقوا) المعنى للمتقين القائلين. (الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) وكذلك (الصابرين والصادقين) ولو كانت رفعاً على الاستئناف لجاز ذلك ولكن القراءَة لا تجاوز. ومعنى القانتين أي القائمين بعبادة اللَّه، وقد فسرنا القنوت فيما مضى. ومعنى المنفقين المتصدقين، وجميع ما في سبيل اللَّه. (وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ). السحر الوقت الذي قبل طلوع الفجر. العرب تقول جئتك بأعلى السحر تريد في أول السحر، وهو أول إدبار الليل إلى طلوع الفجر الظاهر البين. فَاللَّه عزَّ وجلَّ وصفَ هؤُلاءِ بالتَصْدِيقِ والِإنْفَاقِ في سَبِيلِهِ والقيامِ بِعِبَادَتِهِ، ثُمَّ وَصَفَهمُ بِأنهمْ مَعَ ذَلِكَ لِشِدَّةِ خَوْفهِمْ وَوَجَلِهِمْ يستغفرون بالأسحار. * * * وقوله عَزَ وجل: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) قال أبو عبيدة معنى (شهد الله). قضى اللَّه، وحقيقته أنه عَلِمَ وبين اللَّه، لأن الشاهد هو العالم الذي يبين ما علمه، فاللَّه عزَّ وجلَّ - قد دل على تَوْحيدِه بجميع مَا خَلق فَبَيَّن أنَّه لَا يقدِرُ أحدٌ أنْ يُنْشِئَ شَيْئاً واحداً مما أنْشَأ،

(19)

وشهدت الملائكة لما علمت من قدرته وشهد أولو العلم بما ثبت عندهم وتبين من خلقه الذي لا يقدرعليه غيره. وأكثر القراءَة (أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) بفتح الألف في (أنهُ) وقد رُوَيت بالكسر عن ابن عباس، وروى (أنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ) بفتح الألف " والأكثر فتح (أَنَّهُ) وكسر (إِنَّ الدِّينَ). ومن قرأ (إنهُ) بالكسر فالمعنى شَهِد اللَّه أن الدين عند اللَّه الإسلام. وأنَّهُ لاَ إِلَهَ إلا هُوَ. والأجْوَدُ الْفَتْحُ كما وصَفْنَا في الأول، لأن الكلام والتوحيد والنداءَ بالأذان (أشهد أن لا إله إلا الله) وأكثر ما وقع أشْهَد على ذِكر التوحيد وجائز أن يفتح أن الأولى وأن الثانية. فيكون فتح الثانية على جهتين على شهد اللَّه أن لا إله إلا هو وشهد أن الدين عنده الإسلام. * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19) لك في (جَاءَهم) الفتح والتفخيم، ولك الإمالة نحو الكسر فأما الفتح فلغة أهل الحجاز، وهي اللغة العليا القدمى وأما جاءَهم " بالكسر " فلغة تميم. وكثير من العرب وهي جيدة فصيحة أيضاً. فالذي يميل إلى الكسر يدل على

أن الفعل من ذوات الياءِ والذي يفتح فلأن الياء قد انقلبت صورتها إلى الألف وفي الألف حظها من الفتح. وكل مصيب. ونصب (بَغْياً) بقوله: (اختلفوا) والمعنى اختلفوا بغياً، أي للبغي، لم يختلفوا لأنهم رأوا البصيرة والبرهان. قال الأخفش: المعنى " وما اختلف الذين أوتوا الكتاب بغياً بينهم إلا من بعد ما جاءَهم العلم "، والذي هو الأجود أن يكون بغياً منصوباً بما دل عليه (وما اختلف) فيكون المعنى اختلفوا بغياً بينهم. (ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب) أي سريع الحساب له. والجزم هو الوجه في (ومن يكفر) وهي القراءَةُ ولو قرئت بالرفع لكان له وجه من القياس ولكن الجزم أجود وأفصح في المعنى. ومعنى (سريع الحساب) أي سريع المجازاة له كما قال: (وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) وقالوا: جائز أن يكون (سريع الحساب) سريع التعريف للعامل عمله - لأنه جل ثناؤُه - عالم بجميع ما عملوا لا يحتاج إِلى إثبات شيءٍ وتذاكر شيء. ونصب (قائماً بالقسط) حال مَؤكدة لأن الحال المَؤكدة تقع مع الأسماءِ

(20)

في غير الإشارة، تقول إنه زيد معروفاً وهو الحق مصدقاً ولا إله إلا هو قائما بالقسط. والقسط في اللغة العدل: قال اللَّه - (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ) أي بالعدل، ويقال أقسط الرجل إذا عدل وقسط إذا جار والعادل مقسط والجَائِر قَاسِط - ْ قال اللَّه: (وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) أي اعدلوا إن اللَّه يحب العادلين. وقال: (وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا). فإن قال قائل: فمن أين جاءَ من لفظ القسط ما معناه الجور وأصله العدل؟ فإِنما ذلك كقولك عدل الرجل على القوم يعدل عدلا ومعْدِلة. وَمَعْدَلَةً، إذا هو أنصفهم، وَعَدَلَ عَن الحق عدْلاً إِذَا جَارَ، فكذلك جاءَ من لفْظ القَسْطِ ما مَعْناه الجور كما جاءَ ما معناه العَدْلُ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20) إنْ شِئْتَ أسكنت الياء (من وَجْهِيَ) وإِنْ شِئْتَ فتحتها فقلت أسلمت وَجْهِيَ للَّهِ، وقد فسَّرْنَا أمر هذه الياء فيما سلف، والمعنى أن اللَّه عزَّ وجلَّ. أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يحتج على أهل الكتاب والمشركين بأنه اتبع أمر اللَّه الذي هم أجمعون مقرون بأنه خَالِقَهُم، فَدعَاهُم إلى ما أقرُوا به، وأراهم الدلاَلاَتِ والآيَاتِ التي قَد شَرَحْنَا ذكرها بأنه رسولُه - صلى الله عليه وسلم -. ومعنى (أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ) أي قصدت بعبادتي إلى اللَّه جل ثناؤُه وأقررت أنه لَا إِلَه غَيرهُ، وكذلك (مَنِ اتَّبَعَنِ) ويجوز في اللغة أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ أي، أسلمت نفسي - قال اللَّه عزَّ وجلَّ - (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ)

وقال: (ويبقى وَجْهُ رَبِّكَ) المعنى ويبقى ربك والمعنى كل شيءٍ هالك إلا اللَّه عزَّ وجلَّ. (ومن اتبعنِ) لك حذف الياءِ وإثباتها، والأحبّ إليَّ في هذا اتباع المُصْحف لأن اتباعه سنة ومخالفته بدعة، وما حذفَ من هذه الياءات نحو (ومن اتبعن) (لئن أخرتن إلى يوم القيامة) ونحو فيقول (ربي أكرمن) فيقول: (ربي أهانن) فهو على ضربين مع النون، فإذا كان رأس آية فأهل اللغة يسمون أواخر الآي الفواصل فيجيزون حذف الياءات، كما يجيزونَهُ في قوافي الشعر، كما قال الأعشى: ومن شانئ كاسف وجهه. . . إذا ما انتسبتْ له أنكرن وهل يمنعني ارتيادي البلاد. . . من حذر الموت أن يأتين المعنى أن يأتيني وأنكرني، فإذا لم يكن آخر قافية أو آخر آية فالأكثر إثبات الياء، وحذفها جَيِّد بالغ أيضاً بخاصة مع النونات، إلا أن أصل اتبعني " اتبعي " ولكن النون زيدت لتسلم فتحة العين، فالكسرة مع النون تنوب عن الياءِ، فإذا لم تكن النون نحو غلامي وصاحبي فالأجود إثباتها، وحذفها مع غير النون أقل منه مع النون إلا أنه جائز، نقول هذا غلام قد جاء والأجودِ هذا غلامي قد جاءَ، وغلاميَ قد جاءَ، بفتح الياءِ وإسكانها. وحذفها جائز لأنَّ الكسرة دالة عليها.

(21)

وقوله تبارك اسمه: (وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ). الذين أوتوا الكتاب ": إليهود والنصارى، والأميون مشركو العرب لأنهم إنما نسبُوا إلى ما عليه الأمة في الخلقة، لأن الإنسان يخلق غير كاتب، فهذا معنى الأمِّيين، وقال بعض النحويين معنى أأسلمتم الأمر، معناه عندهم اسلمو@ - وحقيقة هذا الكلام أنه لفظ استفهام معناه التوقيف والتهديد، كما تقول للرجل بعد أن تأمره وتؤَكد عليه " أقْبِلْتَ. . وإلا فأنت أعلم ". فأنت إنما تسْأله متوعداً في مسألتك، لعمري هذا دليل أنك تَأمره بأن يفعل. ومعنى.: (وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ). أي ليس عليك هداهم - إنما عليك إقامةُ البُرهانِ لهمْ فإذا بَلغْتَ فقد أدَّيْتَ ما عليك. * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) أي بصير بما يقطع عذرهم فيما دلهم به على وحدانيته وتثبيت رسله. وقال في " إثر هذه الآية: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) أي: أعلام اللَّه التي أتيْتَهُمْ بِهَا. (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ): وقرئت ويُقَاتِلُون، ومعنى (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ) ههنا قيل فيه قولان: ، قيل رضاهم بقتل من سلف منهم النبيين نحو قتل يحيى عليه السلام. وهذا يحتمل - واللَّه أعلم - وقيل ويقتلون النبيين لأنهم قاتلوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وهموا بقتله قال اللَّه - جلَّ وعزَّ، (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ).

(23)

فهذا معنى: (ويقتلون النبيين) واللَّه أعلم. وجاز دخول الفاء في خبر إن، ولا يجوز أن زيداً فقائم وجاز ههنا. . (فبشرهم بعذاب أليم)، لأن (الذي) يوفي فتكون صلته بمنزلة الشرط للجزاءِ فيجاب بالفاءِ. ولا يصلح ليت الذي يقوم فيكرمك لأن (إن) كأنها لم تذكر في الكلام فدخول الجواب بالفاءِ، عليها كدخولها على الابتداءِ والتمني داخل فزيل معنى الابتداءُ والشرط. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) معناه حظَاً وافراً منه. و (يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ). أي يدعون إلى كتاب الله الذي هم به مقرون، وفيه ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - والإنباء برسالته. (ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ). أي جمع كثير وإنما أعرضوا إلا إنَّه لا حجة لهم إلا الجحد بشيءٍ قد أقر به جماعة من علمائهم أنه في كتابهم. ثم أنْبَأ اللَّه - عزَّ وجلَّ - بما حملهم على ذلك وخبَّر بما غرهم. فقال عزَّ وجلَّ: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)

(25)

فموضع (ذلك) رفع المعنى شأنهم ذلك وأمرهم ذلك بقولهم وبظنهم أنهم لا يعذبون إلا أياماً مَعْدُودَات. جاءَ في التفسير أنهم قالوا إنما نعذب أربعين يوماً عبد آباؤُنا فيها العجل، فأعلمَ اللَّهُ تبارك وتعالى أن ذلك فرية منهم، وأنه هو الذي غرهم. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25) المعنى - واللَّه أعلم - فكيف يكون حالهم في ذلك الوقت. وهذا الحرف مستعمل في الكلام، تقول أنا أكرمك وأنت لم تزرني، فكيف إذا زرتني. قوله عزَّ وجلَّ: (لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ): أي لحساب يوم لا شك فيه. * * * وقوله جل شأنه: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) امر اللَّهُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بتقديمه وذكر ما يدل على توحيده، ومعنى (مَالِكَ الْمُلْكِ) أن اللَّه يملك العباد ويملك ما ملكوا. ومعنى: (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ). فيه قولان: - تؤتي الملك الذي هو المال والعبيد والحضرة من تشاءُ وتنزعه ممن تشاءُ، وقيل تؤتي الملك من تشاءُ من جهة الغلبة بالدِّين والطاعة، فجعل اللَّه - عزَّ وجلَّ - كل ما في ملكه ملك غير مسلم للمسلمين

ملكاً غنيمة، وجعلهم أحق بالأملاك كلها منَ كل أهل لمن خالفوا دين الإسلام. وقيل في التفسير إن اللَّه عزَّ وجلَّ - أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه الآيات أن يسأله نقل عزَّ فارس إلى العرب وذل العرب إلى فارس - واللَّه أعلم بحقيقة ذلك. فأما إعراب (اللَّهُمَّ) فضم الهاء وفتح الميم، لا اختلاف فى اللفظ به بين النحويين، فأما العلة فقد اختلف فيها النحويون فقال بعضهم: معنى الكلام يا الله أم بخير، وهذا إقدام عظيم لأن كل ما كان من هذا الهمز الذي طرح فأكثر الكلام الإتيان به، يقال ويل أمه، وويلُ امه، والأكثر إثبات الهمز. ولو كان كما يقول لجاز اومم، واللَّه أم، وكان يجب أن تلزمه ياءُ النداءِ لأن العرب تقول يا اللَّه اغفر لنا، ولم يقل أحد من العرب إلا اللهم، ولم يقل أحد يا اللهم. قال اللَّه عزَّ وجلَّ: (وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ). وقال: (قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ). فهذا القول يبطل من جهات: أحدها أن " يا " ليست في الكلام وأخرى أن هذا المحذوف لم يتكلم به على أصله كما نتكلم بمثله وأنه لا يقدم أمام الدعاءِ هذا الذي ذكره، وزعم أن الصفة التي في الهاءِ ضمة الهمزة التي كانت في أم، وهذا محال أن يترك الضم الذي هو دليل على النداءِ للمفرد. وأن يجعل في اللَّه ضمَة (أم). هذا الحاد في اسم اللَّه - عزَّ وجل.

وزَعمَ أن قولَنا هلم مثل ذلك أن أصلها: هلْ ام - وإنما هِي لُم. والهاءُ للتنبيه، وقال المحتج بهذا القول: أن " يا " قد يقال مع: (اللهم) فيقال: يَا اللَّهُم، ولا يروي أحد عن العرب هذا غيره - زعم أن بعضهم أنشده: ومَا عَليك أن تقولي كلما. . . صليتِ أوْسبَّحتِ يا اللهم مَا اردد علينا شيخنا مسلما وليس يُعارَض الإجماع وما أتى به كتاب اللَّه تعالى ووجد في جميع ديوان العرب بقول قائل أنشدني بعضهم، وليس ذلك البعض بمعروف ولا بمسمى. وقال الخليل وسيبويه وجميع النحويين الموثوقُ بعلمهم: أن " اللهم " بمعنى - يا اللَّه، وأن الميم المشددة عوض من " يا " لأنهم لم يجدوا ياءً مع هذه الميم في كلمة، ووجدوا اسم اللَّه جلَّ وعزَّ مستعملاً بـ (يا) إذا لم يذكر الميم. فعلموا أن الميم من آخر الكلمة بمنزلة يا في أولها، والضمة التي في أولها ضمة الاسم المنادى في المفرد، والميم مفتوحة لسكونها وسكون الميم التي قبلها. - وزعم سيبويه أن هذا الاسم لا يوصف لأنه قد ضمت إِليه الميم، فقال في قوله جلَّ وعزَّ: (قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) أن (فاطرَ) منصوب على النداءِ، وكذلك (مَالِكَ الملْكِ) ولكن لم يذكره في كتابه. والقول عندي أن (مَالِكَ الملْكِ) صفةٌ اللَّه، وأن (فاطر السَّمَاوَاتِ والأرضِ) كذلك - وذلك أن الاسم ومعه الميم بمنزلته ومعه " يا " فلا تمنع الصفة مع الميم كما لاتمنع " مع " يا ".

(27)

فهذا جملة تفسير وإعراب (اللَّهُمَّ). ومعنى: (وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ) على ما ذَكَرْنا في (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ). ومعنى: (بِيَدِكَ الْخَيْرُ). أي بِيَدِكَ الْخَيْرُ كله، خيرُ الدنيا وخيرُ الآخرة. * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27) المعنى: تدخل أحدهما في الآخر يقال: ولج الشيءُ إذا دخل يلج وُلُوجاً وَوَلْجَة، وَالْوَلْج والوَلْجَةُ شيء يكون بين يدي فناء. فمعنى: (تولج الليل في النهار) أي تنقص من الليل فتدخل ذلك النقصان زيادة في النهار، وتنقص من النهار فتدخل ذلك النقصان زيادة في الليل. (وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ). أي تخرج الإنسان من النطْفَةِ، والطائِر من البَيضةِ، وتخرج للناس الحب الذي يعيشون به من الأرض الميتة. (وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ). أي تخرج النطفة من الإنسان، والبيضة من الطائر. ومعنى (وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ). أي بغير تقتير، وهذا مستعمل في اللغة، يقال للذي ينفق موسعا: فلان ينفق بغير حساب، أي يوسع على نفسه، وكأنه لا يحسب ما أنفقه إنفاقاً. وذكر الله جلَّ وعزَّ بعد هذا التقديس والتعظيم أمر المنافقين فقال: (لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28) القراءة بالجزم، وكسر الذال لالتقاءِ السَّاكنين، ولو رفعت لكان وجهاً

فقلت: (لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ). المعنى: أنه من كان مؤمناً فلا ينبغي أن يتخذ الكافر ولياً لأن ولي الكافر راض بكفره، فهو كافر. قال الله جلَّ وعزَّ: (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ). وقال: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ). ومعنى: (مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) أي لا يجعل ولاية لمن هو غير مؤمن، أي لا يتناول الولاية من مكان دون مكان المؤمنين، وهذا كلام جرى على المثل في المكان كما تقول زيد دونك فلست تريد أنه في موضع مستقل وأنك في موضع مرتفع، ولكنك جعلتَ الشرفَ بمنزلةِ الارتفاعِ - في المكان، وجعلت الخِسَّة كالاستقبال في المكان. فالمعنى: أن المكان المرتفع في الولاية مكان المؤْمنين. فهذا بيان قوله: (مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ). ومعنى: (ومَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيءٍ). أي من يَتَول غيرَ المؤمنين فاللَّهُ بَرِيءٌ منه. (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً). و (تَقِيَّةً) قُرئَا جَمِيعاً. فأباح الله جلَّ وعزَّ الكفر مع القصة. والتَقِيَّةُ خوفُ القتل، إِلا أن هذه الِإباحة لا تكون إِلا مع سلامة النية وخوف القتل. (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ).

(30)

معنى: (نَفْسَهُ) إيَّاها إلا أن النفس يستغنى بها هنا عن " إياه " وهو الكلام، وأما قوله عزْ وجل: (تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ) فمِمَّا بِه خوطب العباد على قدر علمهم، ومعناه تعلم ما عندي وما في حقيقتي ولا أعلم ما عندك لا ما في حقيقتك. وفي قوله: (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ) أي تْؤتي الملك من تشاءُ أن تْؤتيهُ، وكذلك (وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ) أن تنزعه منه إِلا أنه حذف لأن فى الكلام ما يدل عليه. * * * يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30) ونصب: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ) بقوله: (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ): كأنه قال ويحذركم اللَّه نفسه في ذلك اليوم، ويجوز أن يكون نصب على قوله: (وِإلى اللَّهِ الْمَصِيْر يَوْمَ تَجِدُ كُل نَفْسٍ، والقول الأول أجود. * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) القراءَة بضم التاء، ويجوز في اللغة: (تَحُبُّون). ولكن الأكثر (تُحِبُّونَ) لأن حببت قليلة في اللغة وزعم الكسائي أنها لغة قد ماتت فيما يحسب. ومعنى: (تُحِبُّونَ اللَّهَ) أي تقصدون طاعته وترضون بشرائعه والمحبة على ضروب، فالمحبة من جهة الملاذ في المطعم والمشرب والنساءِ. والمحبة من اللَّه لخلقه عفوه عنهم وإِنعامه عليهم برحمته ومغفرته وحسن الثناءِ عليهم، ومحبة الإنسان للَّهِ ولرسوله طاعته لهما ورضاه بما أمر اللَّه به، وأتى به رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -.

(32)

وقوله جلَّ وعزَّ: (يَغْفِر لَكمْ ذُنُوْبَكُمْ). القراءَة بإظهار الراءِ مع اللام، وزعم بعض النحويين: أن الراءَ تدغم مع اللام فيجوز. . ويغفر لكم. . وهذا خطأ فاحش ولا أعلم أحداً قرأ به غير أبي عمرو بن العلاء، وأحسب الذين رووا عن أبي عمرو إدغام الراء في اللاَم غالطين. وهو خطأ في العربية لأن اللام تدغم في الراءِ، والنون تدغم في الراء نحو: (قولك) هل رأيت، ومن رأيت. ولا تدغم الراءُ في اللام إذا قلت: مر لي بشيءِ. لأن الراءَ حرف مكرر فلو أدغمت في اللام ذهب التكرير. وهذا إجماع النحويين الموثوق بعلمهم. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32) أي: أظهروا محبَّتكم للَّهِ إن كنتم تحبُّونه بطاعته واتباع رسوله ومعنى: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ). أي فإن اللَّه لا يحبهم، لأن من تولى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد تولى عن الله. ومعنى: (لا يحب الكافرين). لا يغفر لهم ولا يثني عليهم خيراً. وقوله عزَّ وجلَّ: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33)

_ (1) قال في السمين: وقد طعن الزَّجَّاج على مَنْ روى عن أبي عمرو إدغامَ الراء من «يغفر» في لام «لكم» وقال: «هو خطأٌ وغلطٌ على أبي عمرو» وقد تقدَّم تحقيق ذلك وأنه لا خطأٌ ولا غلطٌ، بل هذه لغةٌ للعرب نقلَها الناس، وإن كان البصريون كما يقول الزَّجَّاج لا يُجيزون ذلك. اهـ (الدر المصون)

(34)

معنى اصطفاهم في اللغة: اختارهم أي جعلهم صفوة خلقه، وهذا تمثيل بما يُرى، لأن العرب تمثل المعلوم بالشيءِ المرئي، وإذا سمع السامع ذلك المعلوم كان عنده بمنزلة ما يشاهده عِياناً، فنحن نعين الشيء الصافي أنه النقى من الكدر، فكذلك صفوة اللَّه من خلقه، وفيه ثلاث لغات: صَفْوة وصِفْوة وصُفوة وهم من لا دنس فيهم من جهة من الجهات في الدِّين والخيريَّة. وقيل في معنى اصطفاهم قولان قال قوم: اصطفى دينهم أي اختاره على سائر الأديان. لأن دين هؤُلاء الجماعة الإسلام، وقال اللَّه عزَّ وجلَّ: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ). وقال قوم: اصطفى آدمَ بالرسالة إلَى الملاتكة وإلى ولده. واصطفى نوحاً وإبراهيم وآله بالرِّسالة. ألَا ترى قوله عزَّ وجلَّ: (يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ). فأمره اللَّه تعالى أن ينَبِئَ عنه ملائكته، وآل عمران هم آلُ إبراهيم. * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) المعنى: اصطفى ذرية بعضها من بعض - فيكون نصب (ذُرِّيَّةً) على البدل، وجائزاً أن ينصب على الحال المعنى: واصطفاهم في حال كون بعضهم من بعض. و (ذُرِّيَّةً) قال النحويون: هي فُعْلِيَّة من الذر، لأن اللَّه،

(35)

أخرج الخلق من صلب آدم كالذر، (وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى). وقال بعض النحويين: (ذُرِّيَّةً) أصلها ذروَرة على وزن فُعولة ولكن التضعيف لمَّا كثر أبدل من الراءِ الأخيرة فصارت ذُرويَة ثم أدْغِمَت الواو في الياءِ فصارت ذُرِّيَّةً. والقول الأول أقيس وأجود عند النحويين. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) قال أبو عبيدة: معناه قالت امرأة عمران و " إذ " لغو وكذلك: (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ) قال معناه: وقالت: ولم يصنع أبو عبيدة في هذا شيئاً. قال جميع النحويين: إن (إِذ) يدل على ما مضى من الوقت فكيف يكون الدليل على ما مضى من الوقت لغواً، وهي اسم مع ما بعدها. وقال غير أبي عبيدة منهم أبو الحسن الأخفش، وأبو العباس محمد بن يزيد: المعنى اذكروا إِذ قالت امراة عمران. والمعنى عندي - واللَّه أعلم - غير ما ذهبت إِليه هذه الجماعة وإِنما العامل في (إِذ قالت) معنى الاصطفاءِ - المعنى - واللَّه أعلم - واصطفى آل عمران (إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا). واصطفاهم (إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ). فذكر اصطلفاك يدل على ماوصفنا ومعنى نذرت: يدل على ما وصفنا.

(37)

ومعنى (نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا). أي: جعلته خادماً يخدم في متعَبَّداتِنا، وكان ذلك جائزاً لهم، وكان على أولادهم فرضاً أن يطيعوهم في نذرهم، فكان الرجل ينذر في ولده أن يكون خادماً في متعبَّده ولعبَّادهم، ولم يكن ذلك النذر في النّساءِ إِنما كان ذلك في الذكورة، فلمَّا ولدت امراة عمران مريم قالت: (رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى) وليست الأنثى مما يصلح للنذر، فجعل الله عزَّ وجلَّ من الآيات في مريم - لِمَا أراده اللَّه من أمر عيسى - أن جعلها متقبَّلة في النذر فقال عزَّ وجلَّ: (فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37) الأصل في العربية: بتقبُّل حسن، ولكن قبول محمول على قوله قَبِلَهَا قَبُولاً حسناً، يقال: قَبِلْتُ الشيءَ قَبولاً حَسَناً، (ويجوز قُبُولا) إذا رَضِيتَهُ. وقَبِلَتْ الريح قَبُولاً وهي تَقْبُل، وقَبِلْت بالرجل أقْبَلُ قبالةْ، أي كفلت به، وقد روى قَبِلْتُ بالرَجل في معنى كفلت به على مثال فَعِلت، ويقال: سقى فلان إبله قَبَلاً. أي صب الماءَ في الحوض وهي تشرب منه فأصابها، وكل ما عاينت قلت فيه أتَاني قُبُلا، أي معاينة، وكل ما استقبلك فهو قبل (بالفتح). وتقول لا أكملك إِلى عشر من ذي قِبَل وقَبَل، المعنى قَبَل إلى عشر مما نشاهده من هذه الأيام، ومعنى " قَبِل " عشر نَسْتَقْبلها، ويقال: قَبلت العين تقبل قبلا إذا أقبل النظر على الأنف. وقوله عزَّ وجلَّ: (أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55). وقِبَلا وقَبَلا: كله جائز، فمن قرأ (قُبُلا) فهو جمع قَبِيلٍ وقُبُل مثل رَغيفَ

ورُغُف، المعنى: أو يأتيها العذاب ضُروباً ومن قرأ " قِبَلا " بالكسر فالمعنى: أو يأتيهم العذاب معاينة، ومن قرأ (قَبَلًا) بالفتح فالمعنى: (أو يأتيهم العذاب مقابلا، والقَبْلة: جمع قَبْل شبيهة بالفَلْكةِ، أي بفلكة المِغزل تكون في القلادة. ومعنى: (وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا) أي جعل نشوءَها نشوءًا حسناً، وجاءَ " نباتا " على غير لفظ أنبت، على معنى نبت نباتاً حسناً. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا). في هذا غير وجه، يجوز: (وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّاءُ) - بالمدّ -، " كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّاءُ "، (وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا) - بالقصر " كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا " بالقصر. وفي (زَكَرِيَّا) ثلاث لغات هي المشهورة المعروفة - زكرياءُ بالمد وزكريا - بالقصر غير منون في الجهتين جميعاً، وزكريّ بحذف الألف معرب منون. فإما ترك صرفه فلأن في آخره ألفى التأنيث في المد. وألف التأنيث في القصر، وقال بعض النحويين: إنه لَم يُصرف لأنَّه أعجميّ، وما كانت فيه ألف التأنيث فهو سواء في العربية والعجمية. لأن ما كان أعجميا فهو يتصرف في النكرة، ولا يجوز أن تصرف الأسماءُ التي فيها ألف التأنيث في معرفة ولا نكرة لأن فيها علامةَ التأنيث وأنها مصوغة مع الاسم صيغة واحدة، فقد فارقت هاءَ التأنيث فلذلك لم تصرف في النكرة. ويجوز (كفلها زكرياءَ) بنصب زكرياء، ويجوز في هذا الموضوع زكريا بالقصر، فمن قرأ (كَفَّلَهَا زَكَرِيَّاءُ) رفعه بفعله،

فالمعنى فيما ذكر أبو عبيدة ضمنها، ومعناه في هذا ضمن القيام بأمرها. ومن قرأ (كفلها زكرياءَ) بالنصب - فالمعنى: وكفلها اللَّهُ زكرياءَ، وأما اللغة الثالثة فلا تجوز في القرآن لأنها مخالفة المصحف، وهي كثيرة في كلام العرب. * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ). القصر والمد في زكريا. والقراءَة بهما كثيرة كما وصفنا و (المحراب): أشرف المجالس والمقدم فيها، وقد قيل إن مساجدهُمْ كانت تسمى المحاريب، والمحراب في اللغة الموضع العالي الشريف. قال الشاعر: ربَّة محراب إذا جئتها. . . لم ألقها أوأرتقى سلما ومنه قوله عزَّ ونجل: (وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) ونصب (كُلَّمَا بقوله: (وجد) أي يجد عندها الرزق في كل وقت يدخل عليها المحراب - فيكون ما مع دخل بمنزلة الدخول - أي كل وقت دخول. وقوله عزَّ وجلَّ (قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ). أي من أين لك هذا. (هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ).

(38)

وإِنما سأل زكريا عن الرزق لأنه خاف أن يأتيها - من غير جهته فتبين عنده أنه من عند اللَّه، وذلك من آيات مريم، قال اللَّه تبارك وتعالى: (وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ) فمن آياتها أنها أول امرأة قُبلت في نذر في المتعبد. ومنها أن اللَّه أنشأ فيها عيسى - عليه السلام - من كلمة ألقاها إليها، ومنها أن اللَّه عزَّ وجلَّ - غذاها برزق من عنده لم يجْرِهِ على يد عبد من عبيده، وقد قيل في التفسير أنَّها لم تُلْقَمْ ثدياً قط. ومعنى (إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ). أي بغير تقتير، و (حساب). إِن شئت فتحت الأَلف وألزمتها جهة الفتح، وإن شئت أملتها إِلى الكسر، لانكسار الحاءِ، وذلك كثير في لغة العرب. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) (زكريا) - بالمدّ والقصر على ما وصفنا. المعنى عند ذلك دعا زكريا ربَّه، أي عندما صادف منِ أمر مريم، ثئم سأل اللَّه أن يرزقه ذرية طيبة. و (هنالك) في موضع نصب لأنه ظرف يقع من المكان والأحوال - أحوال الزَّمان. والمعنى في ذلك المكان من الزمان ومن الحال - دعا زكريا ربه كما تقول من هنا قلت كذا وكذا، ومن هنالك قلت كذا وكذا أي من ذلك الوجه وتلك الجهَة، وهذا في غير المكان على المثل جرى. وَكَسْرُ لام (هنالك) وقع لالتقاءِ السَاكنين لأنَّ هنالك إشارة إلى مكان متراخ، أو حال من أحوال الزمان نسبتها إِلى المكان وقال: (طيبة) للفظ ذرية. و (هنالك) لا يجب أن يعرف في رفع ولا جر لأنه في الإشارة إِلى المكان بمنزلة الإشارة في هذا وهذاك إِلى سائر الأشياءِ. فهو مضارع للحروف التي جاءَت لمعنى.

(39)

وقوله عزَّ وجلَّ: (فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) (فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ) و (فناداه الملائكةُ). الوجهان جميعاً جائزان، لأن الجماعة يلحقها اسم التأنيث، لأن معناها معنى جماعة، ويجوز أن يعبر عنها بلفظ التذكير. كما يقال جمع الملائكة. ويجوز أن تقول نادته الملائكة وِإنما ناداه جبرائيل وحده لأن المعنى أتاه النداءُ من هذا الجنس، كما نقول ركب فلان في السفن، وإنما ركب سفينة واحدة، تريد بذلك جعل ركوبه في هذا الجنس. ويجوز (أن اللَّه يُبَشَرك) (إِن اللَّهَ يُبَشِرُكَ) بفتح إن وكسرها فمن فتح فالمعنى نادته بأن اللَّه يبشرك أي نادته بالبشارة، ومن كسر أراد قالت الملائكة: إن اللَّه يبشرك. و (إنَّ) بعد القول أبداً مكسورة. وفي (يبشرك) ثلاث لغات: (إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ) بفتح الباءِ وتشديد الشين وهي قراءَة كثيرة جدا، ويبْشُرُكِ - بإسكان الباءِ وضم الشَين، وقرأ حميد. وحده " يُبْشِرُكِ " - بضم الياءِ وإسكان الباءِ وكسر الشين، فمعنى يُبَشرك. وَيبْشرك: البشارة، ومعنى يُبشرك يسزك ويفرحك. يقال بشرت الرجل أبشره وأبشُرُه إذا افرَحته، ويقال بَشُرَ الرجل يَبْشرُ. وأنشد الأخفش والكسائي وجماعة من النحوين: وإذا لقيت الباهشين إلى النَدا. . . غبراً أكفُّهُمْ بقاع مُمْحِل

فأعنهم وابْشُر بمَا بَشروا به. . . وإذا هم نزلوا بضنك فانزل فهذا على بشر يبشُر إذا فرح، وأصل هذا كله من أنَّ بشرة الإنسان تنبسط عند السرور، ومن هذا قولهم فلان يلقاني بِبشْرٍ، أي بوجه منبسط. ويحيى اسم سماه الله تعالى. تولى هو - عزَّ وجلَّ - ذلك ولم يسم أحد قَبْل يحيى بيحيى، ويحيى لا يتصرف عربيا كان أو أعجميًّا، لأنَّه إن كان أعجميا فقد اجتمع فيه العجمة والتعريف ولو كان عربياً لم ينصرف لشبهه بالفعل وأنه معرفة علم. ونصب (مصدقاً) على الحال. ومعنى (مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ) أي يُصَدِّق بأمْر عيسى لأن يحيى فُرِضَ عليه - وإن كان يحيى أسن من عيسى - اتباعُ عيسى. ومعنى (سَيِّدًا وَحَصُورًا). السيِّد الذي يفوق في الخير قومه، ومعنى (حصوراً) أي لا يأتي النَساءَ، وإنما قيل للذي لا يأتي النَساءَ حصور لأنه حُبِسَ عما يكون من الرجال، كما يقال في الذي لا يتيسر له الكلام قد حُصِرَ في منطقه، والحصور الذي لا ينفق على النَّدامى، وهو ممن يُفْضِلْونَ عليه قال الشاعر:

(40)

وشاربٍ مُربح بالكاس نادمني. . . لا بالحَصُور ولا فيها بسوار ويروى ولا فيها بسَئار، أني نادمني وهو كريم منفق على الندامي، والسؤار المُعَرْبِد يُساوِر نديمهْ أيَ يَثبُ عليه، والسار الذي يُفْضِل في إنائه إذا شرب. والحصور الذي يكتم السر، أي يحبس السر في نفسه قال جرير. ولقد تسقطني الوشاة فصادفوا. . . حَصِراً بسرك يا أميمَ ضنينا والحصير هذا المرمُول الذي يُجلس عليه، إنما سمي حصيراً لأنه دوخل بعضه في بعض في النسيج أي حبس بعضه على بعض. ويقال للسجْن الحصير لأنَّ الناس يُحصرون فيه، ويقال حصرت الرجلَ إذا حبسته، وأحصره المرض إِذا منعه من السير، (والحصير الملك) وقول اللَّه - جل وعلا: (وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا) أي حبسا. ويقال أصاب فلاناً حَصَرٌ. إِذا احتبس عليه بطنه، ويقال في البول أصابه أسر إذا احتبس عليه بوله. ومعنى (مِنَ الصَّالِحِينَ) الصالح الذي يؤَدي إِلى اللَّه ما عليه ويؤَدي إلى الناس حقوقهم. * * * وقوله جل وعلا: (قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40) أي كيف يكون لي غلام. قال الكميت: أنَّى وَمن أين آبك الطَرب من. . . حيث لا صبوة ولا لعب

أي: كيف ومن أين آبك الطرب. ويقال كلام بين الغلوميَّة والغلاميَّة والغلومة. وقوله جلّ وعلا: (وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ). بمعنى قد بلغت الكبر وفي موضع آخر (وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا). وكل شيءٍ صادفته وبلغته فقد صادفك وبلغك. ومعنى (كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ). أي مثل ذلك يفعل اللَّه الَّذِي يشاؤه. وإِنَّما سأل زكريا لأنَّه أحبَّ أن يعلم أيأتِيه الولد وامراته عاقر وهو مسِنٌّ، أم يجعله الله على هيئة من يولَدُ له ويجعل امرأته كذلك، أم يأتيها الولد وهما على الهيئةِ التي لَا يكون معها ولد، فأعلمهما اللَّه أنَّ ذلك هيِّن عليه كما أنشأهما ولم يكونا شيئاً، وأنه يعطيهما الولد وهما في هذا السن. ويقال في (عاقر) قد عقرَتْ المرأة وعَقَرَتْ، وهي عاقر، وهذا دليل أنَّ عاقراً وقع على جهة النَسب، لأنَّ فَعلتْ أسماءُ الفاعلين فيه على فعيلة. نحو ظَرفت فهي ظريفة، وإِنما عاقر له ذات عقر، ويقال قد عقر الرجل يعقر عقراً: إِذَا انقطع عليه الكلام من تعب وكلال. والعَقار كل مال له أصل. وقد قيل إِن النخل خاصّة يقال له عَقَار. وعُقْر دار قوم أصل - مُقَامِهِمْ الذي عليه مُعَوَّلهم، وإِذا انتقلوا عنه لنُجعةٍ فرجوعهم إليه. ويروى عن علي إنَّه قال: " ما

(41)

غزي قوم في عُقْرِ دارهم إلا ذُلُّوا "، أي ما غُزُوا في المكان الذي هو أصل لمقامهم. * * * قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41) ومعنى (رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً). أي علامة أعلم بها الوقت الذي تهب له فيه الغلام. (قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا). أي علامة ذلك أن يُمْسَكَ لسانُك عن الكلام وأنت صحيح سَوِي وقال في موضوع آخر: (آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا) أي وأنت سَوِي. ومعنى الرمز تحريك الشفتين باللفظ من غير إِبانة بصوت إنما هو إشارة بالشفتين، وقد قيل أن الرمز هو إشارة بالعينين، أو الحاجبين والفم، والرمز في اللغة كل ما أشرت به إِلى بيان بلفظ، أي بأي شيء أشرت، أبفم أم بيد أم بعينين والرّمز والترمز في اللغة الحركة والتحرك. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ). قيل سبَّح: صل، ويقال فرغت من سبحتي من صلاتي، وإنما سميت الصلاة تسبيحاً لأن التسبيح تعظيم الله وتبرئته من السوءِ فالصَّلاة يوحَّد الله فيها ويحمد، ويوصف بكل ما يبرئه من السوءِ فلذلك سُمَّيت الصلاة السَّبحة. والإبكار يقال فيه أبكر الرجل يُبْكِر إبْكاراً، وبَكَر يُبَكَر تبكيراً وبَكَر يبكر في كل شيء يتقذَم فيه، وقول الناس فيما تقدم من الثمار: " قد هَرِفَ " خطأ، إنما هي كلمة تبطئة، وإنما تقول العرب في مثل ذلك: قد بكَّر، ويُسمَّى ما يكون منه الباكورة.

(42)

وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42) معنى (اصطفاك): اختارك، وقالوا في طَهَّرَكِ- طَهَّرَكِ من الحيضِ والنفاس - ومعنى طَهَّرَكِ - " واللَّه أعلم - أي جعلك طاهرة من سائر الأدناس إلا أنَّ الأول قد جاءَ في التفسير. وقيل إن معنى (اصطفاك على نساءِ العالمين) أي على نساءِ أهل دهرها. وجائز أن يكون على نساءِ العالمين كلهم، أي اختارك لعيسى على نساءِ العالمين كلهم، فلم يجعل مثل عيسى من امرأة من نساءِ العالمين. * * * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) ومعنى (اقْنُتِي لِرَبِّكِ) أيْ اعبديه بالقول والعمل. (واسجدي واركعي): معنى الركوع قيل السُّجود المعنى اركعي واسجدي، إلا أن الواو إذا ذكرت فمعناها الاجتماع، وليس فيها دليل أن أحد الشَيئين قبل الآخر. لأنها تْؤذن بالاجتماع، والعمل، والحال تدل على تقدم المتقدِّم من الإثنين. . * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) أي الأخبار التي قصصناها عليك في زكريا ويحيى ومريم وعيسى من أنباء الغيب، أي من أخبار ما غاب عنك، وفي هذا دليل على تثبيت نبوة النَبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه أنبأ بما لا يعلم إلا من كتاب أو وحي وقد أجمعوا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أمياً. فإنباؤه إياهم بالأخبار التي في كتبهم علي حقيقتها من غير قراءَة الكتب دليل على أنه نبى وأن اللَّه أوحى إليه بها. ومعنى (إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ). أي هذا أيضاً مما لم تحضره ومعنى (الأقلام) ههنا القِدَاحُ وهي قداح جعلوا

(45)

عليها علامات يعرلون بها أيهم يكفل مريم على جهة القرعة - وإنما قيل للسهم القلم لأنه يقْلَمَ أي يبْرَى، وكل ما قطعت منه شيئاً بعد شيء فقد قَلَمْتَه، من ذلك القلم الذي يكتب به، إنما سمي لأنه قلم مرة بعد مرة، ومن هذا قلمت أظافري. ومعنى (أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ). أي لينظروا أئهم تجب له كفالة مريم، وهو الضمان للقيام بأمرها، ومعنى (لديهم) عندهم وبحضرتهم. (ءذ يَخْتَصِمُونَ ": إذ نصب بقوله (مَا كُنتَ لَدَيْهمْ) و (إِذ) الثانية معلقة بـ (يختصمون) أي إذ يختصمون إذ قالت الملائكة، فإذ منصوبة بـ (يختصمون). ويكون المعنى أنهم اختصموا بسبب مريم وعيسى، وجائز أن يكون نصب إِذ على (وما كنت لديهم). (إِذْ قَالَتِ المَلائِكة). هذا أيضاً مما لم يشاهده. * * * (إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) سمّى اللَّه عزَّ وجلَّ عيسى المسيح، وسمّاه عيسى، وسمي ابتداء أمره كَلِمَةً (منه) فهو - صلى الله عليه وسلم - كلمة من اللَّه ألقاها إلى مريم، ثم كوَّن تلك الكلمة بشراً. * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (اسْمُهُ) وإنما جرى ذكر الكلمة لأن معنى الكلمة معنى

(46)

الولد، المعنى أن اللَّه يبشرك بهذا الولد، (وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ). (وَجِيهًا) منصوب على الحال، والوجيه الذي له المنزلة الرفيعة عند ذوي القَدْر والمعرفة، ويقال قد وَجُهَ الرجلُ يَوْجُه وَجَاهة، ولفلان جَاهٌ عند الناس ووجاهة عند الناس، أي منزلة رفيعة. وقال بعضُ النحوييِن: (وَجِيهًا) منصوب على القطع من عيسى، وقطع ههنا كلمة محال، لأنه إنما بُشَر به في هذه الحال، أي في حال فضله فكيف يكون قطعها منه، ولم يقل لم نصب هذا القطع، فإن كان القطع إنما هو معنى، فليس ذلك المعنى موجوداً في هذا اللفظ، وإن كان القطع هو العامل فما بَينَّ ما هو، وإن كان أراد أن الألف واللام قُطِعَا منه فهذا محال لأنَّ جميع الأحوال نكرات والألف واللام لمعهود، فكيف يقطع من الشيء ما لم يكن فيه قَط. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) معطوف على (وجيهاً)، المعنى يبشرك به وجيهاً ومكلماً الناس في المهد. وجائز أن يعطف يفعل على فاعل، لمضارعه بفعل فاعل. قال الشاعر: بات يعيشها بغضب باتر. . . يقصد في أسواقها وجائر (وَكَهْلاً) أي ويكلم الناس كهلا، أعلمها اللَّه أن عيسى يبقى إلى حال الكهولة. وقيل إن كهلا، أي ينزل من السماءِ لقتل الرجال وهو كهل - واللَّه أعلم. * * * قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) ومعنى (كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ).

(48)

أي يخلق الله ما يشاءُ مثل ذلك. (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) أي يعلمه ذلك وحياً وإلهاماً. * * * وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) ونصب (وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ) على وجهين - أحدهما ويجعله رسولا إلى بني إسرائيل، والاختيار عندي - واللَّه أعلم - ويكلم الناس رسولًا إلى بني إسرائيل والدليل على ذلك أنَّه قال: (أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ). فالمعنى - واللَّه أعلم - ويكلمهم رسولا بأني قد جئتكم بآية من ربكم، ولو قرئت إني قد جئتكم - بالكسر - كان صواباً، المعنى إِني قد جئتكم بآية من ربكم - أي بعلامة تثبت رسالتي. * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ). يصلح أن يكون خفضاً ورفعاً، - فالخفض على البدل من (آية) المعنى جئتكم بأَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ، وجائز أن يكون "إنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ" يخبرهم بهذه الآية ما هي أي أقول لكم أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كهيئة الطير. يقال إنَّه صنع؛ كهيئة الخفاش ونفخ فيه فصار طيراً، وجاز أن يكون فأنفخ فيه للفظ الطين، وقال في موضع آخر (فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي) للفظ الهيئة. (وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ).

(الْأَكْمَهَ) الذي يولد أعمى. قال الراجز هرجت فارتد ارتداد الأكمه * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ). أي اخبركم بمأكولكم، فجائز أن تكون (ما) ههنا في موضع الذي. والمعنى أنبئكم بالذي تأكلونه وتدخرونه، ويجوز أن يكون " ما " وما وقع بعدها بمنزلة المصدر. المعنى أنبئكم بأكلكم وادخاركم والأول أجود. ومعنى تدخرون: جاءَ في التفسير: ما تأكلون في غدوكم. وتدخرون بالدال والذال. وقال بعض النحوين إِنما اختير تدخرون لأن التاءَ تدغم في الذال نحو تَذَكرُونَ، فكرهوا تذخرون لأنه لا يشبه ذلك، فطلبوا حرفاً بين التاء والذال فكان ذلك الحرف الدال. وهذا يحتاج صاحبه إلى أن يعرف الحروف المجهورة والمهموسة: وهي فيما زعم الخليل ضربان: فالمَهْجُورةُ حرْف أشْبع الاعتماد عليه في موضعه، ومنع النفس أن يجري معه، والمهمُوسُ حرف أضعف الاعتماد عليه في موضعه وجرى معه النفس. وإنما قيل (تَدَّخِرُونَ) وَأصْله تذخرون: أي يفتعلون من الذخْر، لأن الذال حرف مجهور لا يمكن النفس أن يجري معه لشدة اعتماده في مكانه والتاء مهموسة، فأبدل من مخرج التاءِ حرف مجهور يشبه الذال في جَهْرِها وهو الدال. فصار تَذْدَخِرُون. ثم أدْغِمَتْ الذال في الدال، وهذا أصل الإدغام أن تُدغِم الأول في الثاني، وتذخِرون جائز - فأما ما قال في الملبس فليس تذخرون ملبساً بشيءٍ.

(50)

وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) نُصِبَ (مُصَدِّقًا) على الحال، المعنى وجئتكم مصدقاً لما بين يدي أي للكتاب الذي أنزِل قبلي فهو أمري أن تتبعوني. (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) أي لم احل لكم شيئاً بغير برهان، فهو حق عليكم اتباعي لأني أنَبئكُمْ ببرهان، وتحليل طيبات كانت حرمت عليكم. (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ): أي اتبعوني. قال أبو عبيدة معنى: (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ). قال معناه: كل الذي حرم عليكم، وهذا مستحيل في اللغة وفي التفسير وما عليه العمل. فَأمَّا اسْتِحَالته في اللغَةِ فإن البعض والجزءَ لا يُكونُ الكُل وَأنْشَدَ في ذلك أبُو عُبيدةَ بيتاً غلط في معناه وهو قولُ لبيد: تَراك مَنْزِلَةٍ إذَا لمْ أرْضَهَا. . . أو يَعْتَلِقْ بَعْضَ النفوس حِمَامُها قال: المعنى " أو يَعْتَلِقْ كل النفوس حمامها" وهذا كلام تستعمله الناس، يقول القائل: بعضنا يعرفك يريد أنا أعرفك، فهذا إنما هو تبعيض صحيح. وإنما جاءَهم عيسى بتحليل ما كان حراماً عليهم. قال اللَّه عزَّ وجلَّ: (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) وهي نحو الشحوم وما يتبعها في التحريم، فأما أن يكون أحَل لهم القتل والسرِقَةَ والزَنَا فمحال.

(51)

ومعنى: (إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51) (هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ) أي هذا طريق الدين مستوياً. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) معنى أحسَّ فى اللغةَ علمَ وَوَجَدَ، ويقال هل أحَسْتَ في معنى هل أحْسَسْتَ ويقال حَسَيْت بالشيء إذا عَلِمْته وعرفتُه " وأنشد الأصمعي: سِوى أنَّ العِتاقَ من المطايا. . . أَحَسْنَ به فَهُنَّ إليه شُوسُ ويقال حَسَّم القائِد، أي قَتَلَهمْ. ومعنى: (مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ). جاءَ في التفسير من أنْصاري مع اللَّه، و (إلى) ههنا إنما قاربت (مع) معنى بأن صار اللفظ لو عبر عنه بـ " مع " أفاد مثل هذا المعنى، لا أنَ (إلى) في معنى " مع " لو قلت ذهب زيد إلى عمرو لم يجز ذهب زيد مع عمرو، لأن (إلى) غاية و " مع " تضم الشيءَ إلى الشيءِ فالمعنى: يضيف نصرته إياي إلى نصرة اللَّه. وقولهم إنَّ، (إلى) في معنى (معَ) ليس بِشيءٍ. والحروف قد تقاربت في الفائدة. فَيَظن الضعيف العِلم باللغة أن معناهما واحد.

من ذلك قوله جلَّ وعزَّ: (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) ولوكانت (على) ههنا. لأدَّت هذه الفائدة، لأنك لو قلت لأصلبنكم على جذوع النخل كان مستقيماً. وأصل (في) إنما هو للوعاءِ، وأصل " على " لِمَا مع الشيء. كقولك: التمر في الجراب. ولو قلت التمر على الجراب لم يصلح في هذا المعنى، ولكن جازَ (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) لأن الجذْعَ يشتمل على المَصْلوب، لأنه قد أخذه من أقطاره. ولو قلت زيد على الجبل وفي الجبل يصلح، لأن الجبل قد اشتمل على زيد، فعلى هذا مجاز هذه الحروف. * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ). قال الحذاق باللغة: (الحواريون): صفوة الأنبياءِ عليهم السلام الذين خلصوا وأخلصوا في التصديق بهم ونصرتهم فسماهم الله جلَّ وعزَّ: (الحواريون) وقد قيل أنهم كانوا قَصارين فسموا الحواريين لتبييضهم الثياب، ثم صار هذا الاسم يستعمل فيمن أشبههم من المصدقين تشبيهاً بهم. وقيل إِنهم كانوا ملوكاً وقيل كانوا صيادين، والذي عليه أهل اللغة أنهم الصفوة كما أخبرتك. ويروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنَّه قال: الزبير ابن عمتي وحَوَارِيِّي من أمتي. ويقال لنساءِ الأنصار حَوارياتٌ، لأنهن تباعدن عن قشف الأعرابيات بنظافتهن. وأنشد أبو عبيدة وغيره لأبي جلدة اليشكري

(53)

فقل للحواريات يبكين غيرنا. . . ولا تبكنا إلا الكلاب النوابح وقال أهل اللغة في المحور وهو العود الذي تدور عليه البكرة قولين. قال بعضهم: إِنما قيل له محور للدوران لأنه يرجع إلى المكان الذي زال منه، - وقيل إِنما قيل له محور لأنه بدورانه ينصقل حتى يصير أبيض، ويقال دقيق حُوَّارَى من هذا أي قد أخذ لبابه وكذلك عجين مُحَوَّرٌ للذي يمسح وجهه بالماءِ حتى يصفو، ويقال عين حوراءَ إِذا اشتد بياضها وخلص واشتد سوادها، ولا يقال امرأة حوراءَ إِلا أن تكون مع حور عينها بيضاءَ، وما روي، في الحديث: " نعوذ باللَّه من الحَوَرِ بعد الكوَرِ " معناه نعوذ باللَّه من الرجوع والخروج عن الجماعة بعد الكوَرِ. أي بعد أن كنا في الكور، أي في الجماعة يقال كارَ الرجل عمامة إِذا لفَّها على رأسه، وحار عمامَتَهُ إذا نقضها، وقد قيل: " بعد الكون " ومعناه بعد أن كنا على استقامة، إلا أن مع الكون محذوفاً في الكلام دليلاً علبه. * * * رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وأما معنى قوله: (فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ) أي اكتبنا مع الذين شهدوا للأنبياءِ بالتصديق، وحقيقة الشاهد أنه الذي يبين تصحيح دعوى المدعي، فالمعنى صدقنا باللَّه واعترفنا بصحة ما جاءَ به النبي - صلى الله عليه وسلم - وثَبَتْنَا، فاكتبنا مع من فعل فعلنا. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54)

(55)

الْمَكْرُ مِنَ الخلائق خِبٌّ وخداع، والمكر من اللَّه المجازاة على ذلك فسمي باسم ذلك لأنه مجازاة عليه كما قال - عزَّ وجلَّ: (اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ). فجعل مُجازَاتِهِمْ على الاستِهْزَاء بالْعذَابِ، لفظُه لفظُ الاستهزاءَ. وكما قَالَ جَل وعز: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا) فالأولى سيئة والمجازاة عليها سُمِّيَتْ باسْمِهَا، وليست في الحقيقة سَيئَةً. وجائز أنْ يكونَ مَكْرُ اللَّهِ اسْتِدْرَاجُهُمْ من حيث لا يعلمون لأن الله سلَّطَ عليهم فَارسَ فغلبتْهم وَقَتَلَتْهمْ، والدليل على ذلك قوله عزَّ وجلَّ: (الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ). وقيل في التفسير أيضاً إن مكر اللَّه بهم كان فِي أمْرِ عيسى أنه - صلى الله عليه وسلم - كان في بيت فيه كوة فدخل رجل ليقتله، ورفع عيسى من البيتِ وخرج الرجل في شَبَهِهِ يخبرهم أنهُ ليْس في البيت فقتلوه. وجملة المكر من اللَّه مجازاتُهم على ما فعلوا. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) (عِيْسَى) اسم أعْجَمِي عدل عن لفظ الأعجميةِ إِلى هذا البناءِ، وهو غير مصروف في المعرفة لاجتماع العجمية والتعريف فيه. ومثال اشتقاقه من كلام العَربِ أنَّ عِيسى: فِعْلىَ،. فالألف يصلح أنْ تكون للتأنِيث، فلا تتصرف في معرفة ولا نكرة، ويكون اشْتِقاقه مِنْ شيئين، أحَدُهمَا العَيَس، وهو بياضٌ

(56)

الإبل، والآخر من العَوْس والعيَاسةِ إلا أنه قلبت الواو يا لانكسار ما قبلها. فأمَّا عيسى عليه السلام فَمَعْدول من يَشوع - كذا يقول أهل السريانية. وقال النحويون في معنى قوله عزَّ وجلَّ: (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ). التقديم والتأخير - المعنى إني رافعك ومطهرك ومتوفيك (1). وقال بعضهم: المعنى على هذا اللفظ كقوله - عزَّ وجلَّ - (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا) فالمعنى على مذْهب هؤُلاءِ - أن الكلام على هذا اللفظ. ومعنى (وَجَاعِلُ الذِينَ اتَبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا). القِرَاءة: بطرح التنوين، والتنوين جائز، ولكن لا تقرأ به إلا أن تكون ثبتت بذلك رواية. ومعنى: (فَوْقَ الًذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ). فيه قولان: أحدهما أنهم فوقهم في الحجة وإقامة البرهان والآخر أنهم فوقهم في اليد والبسطة والغلبة، ويكون (الذين اتبعوك) محمداً - صلى الله عليه وسلم - ومن اتبعه فهم منصورون عَالون. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56) العذاب في الدنيا القتل الذي نالهم وينالهم، وسبي الذاري وأخذ الجزية، وعذاب الآخرة ما أعده اللَّه لهم من النار.

_ (1) قال الإمام فخر الدين الرَّازي ما نصُّه: الصفة الأولى: {إِنّي مُتَوَفّيكَ} ونظيره قوله تعالى حكاية عنه {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِى كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} [المائدة: 117] واختلف أهل التأويل في هاتين الآيتين على طريقين أحدهما: إجراء الآية على ظاهرها من غير تقديم، ولا تأخير فيها والثاني: فرض التقديم والتأخير فيها. أما الطريق الأول فبيانه من وجوه الأول: معنى قوله {إِنّي مُتَوَفّيكَ} أي متمم عمرك، فحينئذ أتوفاك، فلا أتركهم حتى يقتلوك، بل أنا رافعك إلى سمائي، ومقربك بملائكتي، وأصونك عن أن يتمكنوا من قتلك وهذا تأويل حسن والثاني: {مُتَوَفّيكَ} أي مميتك، وهو مروي عن ابن عباس، ومحمد بن إسحاق قالوا: والمقصود أن لا يصل أعداؤه من إليهود إلى قتله ثم إنه بعد ذلك أكرمه بأن رفعه إلى السماء ثم اختلفوا على ثلاثة أوجه أحدها: قال وهب: توفي ثلاث ساعات، ثم رفع وثانيها: قال محمد بن إسحاق: توفي سبع ساعات، ثم أحياه الله ورفعه الثالث: قال الربيع بن أنس: أنه تعالى توفاه حين رفعه إلى السماء، قال تعالى: {الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مِوْتِهَا والتى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا} [الزمر: 42]. الوجه الرابع: في تأويل الآية أن الواو في قوله {مُتَوَفّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَىَّ} تفيد الترتيب فالآية تدل على أنه تعالى يفعل به هذه الأفعال، فأما كيف يفعل، ومتى يفعل، فالأمر فيه موقوف على الدليل، وقد ثبت الدليل أنه حي وورد الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه سينزل ويقتل الدجال» ثم إنه تعالى يتوفاه بعد ذلك. الوجه الخامس: في التأويل ما قاله أبو بكر الواسطي، وهو أن المراد {إِنّي مُتَوَفّيكَ} عن شهواتك وحظوظ نفسك، ثم قال: {وَرَافِعُكَ إِلَىَّ} وذلك لأن من لم يصر فانياً عما سوى الله لا يكون له وصول إلى مقام معرفة الله، وأيضاً فعيسى لما رفع إلى السماء صار حاله كحال الملائكة في زوال الشهوة، والغضب والأخلاق الذميمة. والوجه السادس: إن التوفي أخذ الشيء وافياً، ولما علم الله إن من الناس من يخطر بباله أن الذي رفعه الله هو روحه لا جسده ذكر هذا الكلام ليدل على أنه عليه الصلاة والسلام رفع بتمامه إلى السماء بروحه وبجسده ويدل على صحة هذا التأويل قوله تعالى: {وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَىْء} [النساء: 113]. والوجه السابع: {إِنّي مُتَوَفّيكَ} أي أجعلك كالمتوفى لأنه إذا رفع إلى السماء وانقطع خبره وأثره عن الأرض كان كالمتوفى، وإطلاق اسم الشيء على ما يشابهه في أكثر خواصه وصفاته جائز حسن. الوجه الثامن: أن التوفي هو القبض يقال: وفاني فلان دراهمي وأوفاني وتوفيتها منه، كما يقال: سلم فلان دراهمي إلي وتسلمتها منه، وقد يكون أيضاً توفي بمعنى استوفى وعلى كلا الاحتمالين كان إخراجه من الأرض وإصعاده إلى السماء توفياً له. فإن قيل: فعلى هذا الوجه كان التوفي عين الرفع إليه فيصير قوله {وَرَافِعُكَ إِلَىَّ} تكراراً. قلنا: قوله {إِنّي مُتَوَفّيكَ} يدل على حصول التوفي وهو جنس تحته أنواع بعضها بالموت وبعضها بالإصعاد إلى السماء، فلما قال بعده {وَرَافِعُكَ إِلَىَّ} كان هذا تعييناً للنوع ولم يكن تكراراً. الوجه التاسع: أن يقدر فيه حذف المضاف والتقدير: متوفي عملك بمعنى مستوفي عملك {وَرَافِعُكَ إِلَىَّ} أي ورافع عملك إلي، وهو كقوله {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب} [فاطر: 10] والمراد من هذه الآية أنه تعالى بشّره بقبول طاعته وأعماله، وعرفه أن ما يصل إليه من المتاعب والمشاق في تمشية دينه وإظهار شريعته من الأعداء فهو لا يضيع أجره ولا يهدم ثوابه، فهذه جملة الوجوه المذكورة على قول من يجري الآية على ظاهرها. الطريق الثاني: وهو قول من قال: لا بد في الآية من تقديم وتأخير من غير أن يحتاج فيها إلى تقديم أو تأخير، قالوا إن قوله {وَرَافِعُكَ إِلَىَّ} يقتضي إنه رفعه حياً، والواو لا تقتضي الترتيب، فلم يبق إلا أن يقول فيها تقديم وتأخير، والمعنى: أني رافعك إليّ ومطهرك من الذين كفروا ومتوفيك بعد إنزالي إياك في الدنيا، ومثله من التقديم والتأخير كثير في القرآن. واعلم أن الوجوه الكثيرة التي قدمناها تغني عن التزام مخالفة الظاهر، والله أعلم. أهـ {مفاتيح الغيب حـ 8 صـ 60 - 61}

(57)

(وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ). أي ما لهم من يمنعهم في الدنيا لأن اللَّه - عزَّ وجلَّ - قد أظهر الإسلام على دينهم وجعل الغَلَبة لأهله، ولا أحد ينصرهم في الآخرة من عذاب اللَّه. * * * وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) ومعنى: (وَاللَّهُ لَا يُحِب الظَّالِمِينَ). أي لا يرحمهم، ويعذبهم ولا يثني عليهم خيراً، هذا معنى البغض من الله، ومعنى المحبة منه الرحمة والمغفرة والثناءَ والجميل. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58) أي القصيص الذي جرى نتلوه عليك. (مِنَ الآياتِ). أي من العلامات البينات الدلالات على تثبيت رسالتك إِذ كانت أخباراً لا يعلمها إلا قارئُ كتاب أو مُعلَّم أو من أوْحيت إليه وقد علم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أمِّيًّا لا يكتب ولا يقرأ الكتب على جهله النظر فيها والفائدة منها. فإنه - صلى الله عليه وسلم - لم يعلمه أحد من الناس فلم يبق إلا الوحي، والإخبار بهذه الأخبار التي يجتمع أهل الكتاب على الموافقة بالإخبار بها - من الآيات المعجزات. ومعنى (وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ): أي ذو الحكمة في تأليفه ونظمه وإبانة الفوائد فيه ويصلح أن تكون (ذلك) في معنى الذي ويكون (نتلوه) صلة، فيكون المعنى

(59)

الذي نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم فيكون ذلك ابتداء والخبر من الآيات. * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) (آدم) قد بيَّنَّا أنه لاينصرف وأن اِسمه مأخوذ من أديم الأرض وهو وجهها. ولذا يقال لذي اللون الذي يشبه لون الأرض آدم. و (خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ) ليست بمتصلة بآدم، إنما هو مبين قصة آدم ولا يجوز في الكلام أن تقول مررت بزيد قام، لأن زيداً معرفة لا يتصل به قام ولا يوصل به ولا يكون حالًا، لأن الماضي لا يكون حالاً أتت فيها، ولكنك تقول: مثلك مثل زيد، تريد أنك تشبهه في فعله. ثم تخبر بقصة زيد فتقول: فعل كذا وكذا. وإنما قيل إن مثله كمثل آدم لأن اللَّه أنشأ آدم من غير أب، خلقه من تراب، فكما خلق آدم من غير أب كذلك خلق عيسى عليه السلام. ويروى في التفسير أن قوماً من نصارى نجران صاروا إلى النَبِى - صلى الله عليه وسلم - فقالوا له: إِنك دسبَبْتَ صاحبنا، قال ومن صاحبكم؟ قالوا: عيسى. قال: وما قلت فيه؟ قالوا: قلت إنه عبد. فقال - صلى الله عليه وسلم -: ما ذلك بعار على أخي ولا نقيصة، هو عبد وأنا عبد، قالوا: فأرنا مثله فأنزل اللَّه تبارك وتعالى: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ) إلى آخر الآية. * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) مرفوع على أنه، خَبرُ ابْتِدَاءَ مَحْذوف. المعنى الذي أنْبَانَاك به في قِصة عيسى عليه السلام هو الحق من ربك. (فَلَا تَكُنْ مِنَ المُمْتَرِينَ): أي من الشكاكين، والخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - خِطَاب

(61)

للخلق، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يشكك في قصة عيسى، ومعنى (مِنْ رَبِّكَ) أي أتَاك من عِنْدَ ربك. * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61) (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ) أي في عيسى. (مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ). قيل له هذا بعد أن أوحِيَتْ إِليه البراهين والحجَجُ الْقَاطِعَة في تَثْبِيتِ أمرِ عيسى إنَّه عبد، فأمِرَ بالمُبَاهَلَةِ بعد إقامة الحجة، لأن الحجة قد بلغت النهاية في البيان فأمر اللَّه أن يجتمع هو والنساء والأبناء من المؤمنين، وأن يدعوهم إلى أن يتجمعوا هم وآباؤهم ونساؤُهم، ثم يبتهلون ومعنى الابتهال في اللغة المبالغة في الدعاءِ، وأصله الالتعان ويقال بَهَلَهُ الله أي لَعَنَهُ اللَّه، ومعنى لَعَنَة الله باعَدَهُ اللَّه من رحمته، يقال: ناقة بَاهل وباهلة إذا لم يكن عليها صِرَار، وقد أبهل الرجل ناقته إذا تركها بغير صرار ورجل باهل إذا لم يكن معه عصا. فتأويل الْبَهْل في اللغة المباعدة والمفارقة للشيء. فدعاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المباهلة لأمرين كلاهما فيه بيان أن علماءَهم قد وقفوا على أن أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - حق لأنهم إذْا أبوا أن يلاعنوا دل إِباؤُهم على أنهم قد علموا أنهم إن باهلوه نزل بهم مكروه، وأنهم إِذا تركوا المبالهة دل ذلك ضَعَفَهمْ. ومن لا علم عنده أن فرارهم من المباهلة دليل على أنهم كاذبون، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صادق، وقيل إِن بعضهم قال لبعض: إن باهلتموه اضطرم الوادي عليكم ناراً ولم يبق نصراني ولا نصرانية إلى يوم القيامة. ويروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: " لو باهلوني لاضطرم الوادي عليهم ناراً، وما بقي نصراني ولا نصرانية إلى يوم القيامة ".

(62)

وهذا مكان ينبغي أن يُنْعَمَ النظر فيه، ويعلم المؤمنون بيان ما هو عليه. وما عليه من الضلال مَنْ خالفهم، لأنهم لم يَروِ أحَدٌ أنهم باهلوا النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أجابوا إلى ذلك. * * * ومعنى قوله عزَّ وجلَّ: (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) أي إن هذا الذي أوحينا إليك من هذه البينات والحجج التي آتيناك لهو القصص الحق، ويصلح أن تكون (هو) ههنا فصلًا، وهو الذي يسميه الكوفيون عماداً، ويكون القصص خبر أن، ويصلح أن يكون (هو) ابتداء، والقصص خبره، وهما جميعاً خبر (إنَّ). ومعنى (وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ) من دخلت توكيداَ. ودليلاً على نفي جميع من ادعى المشركون أنهم آلهة. أي إن عيسى ليس بإله، لأنهم زعموا إنَّه إله، فأعلم الله عزَّ وجلَّ أن لا إله إلا هو، وأن من آتاه اللَّه آيات يعجز عنها المخلوقون فذلك غير مخرج له من العبودية للَّه، وتسميته إلهاً كفر باللَّه. ومعنى (الْعَزِيزُ): هو الذي لا يعجزه شيء. و (الْحَكِيمُ): ذو الْحكمة الذي لا يأتي إِلا ما هو حكمة. * * * وقوله جلَّ وعزَّ (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63) أي فإن أعرضوا عما أتيت به من البيان فإِن الله يعلم من يفسد من خلقه فيجازيَهُ على إِفساده. * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64) معنى (سواءٍ) معنى عدل، ومعنى كلمة كلام فيه شرح قصة وإن طال. وكذلك يقول العرب للقصيدة كلمة. يروى أن حسان بن ثابت الأنصاري كان إِذا قيل له أنشد قال للقائل:

هل أنْشِدَتْ كلمة الحويدرة، يعني قصيدته التي أولها: بكرت سمية بكرة فتمتعي ويقال للعدل سواء وسَوَى وسُوًى. قال زهير بن أبي سلمى: أروني خطة لا ضيم فيها. . . يسوي بيننا فيها السواءُ فإن تُرِك السَّوَاءُ فليس بيني. . . وبينكم بني حِصنٍ بناءُ يريد بالسواءِ العدل كذا يقول أهل اللغة، وهو الحق. - وهو من استواء الشيءِ، ولو كان في غير القرآن لجاز: سواءً بيننا وبينكم، فمن قاك سواءٍ جعله نعتاً للكلمة يريد ذات سواءٍ، ومن قال سواءً جعله مصدراً في معنى استواءً، كأن قال: استوت استواءً. وموضع (أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ). موضع " أن " خفض على البدل من كلمة. المعنى تعالوا إلى أن لا نعبد إلا اللَّه، وجائز أن تكون أن في موضع رفع، كأن قائلًا قال: ما الكلمة؟ فأجيب فقيل هي ألا نعبد إلا اللَّه، ولو كان أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ ولا نشركُ به شيئاً لجاز على أن يكون تفسيراً للقصة في تأويل أي كأنهم

(65)

قالوا: أي لا نعبد إلا الله - كما قال عزَّ وجلَّ: (وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا) وقَال قَومٌ معنى أن ههنا معنى يقولون امشوا، والمعنى واحد لأن القول ههنا تفسير لما قصدوا له وكذلك " أي يفسَّر بها، ولوكان (أَلَّا نَعْبُدْ إِلَّا اللَّهَ) بالجزم لجاز على أن يكون " أن " كما فَسَّرنا في تأويل أي"، ويكون (أَلَّا نَعْبُدْ) على جهَةِ النهْي، والمنْهِي هو الناهِي في الحقيقة كأنَّهم نهَوْا أنفُسُهُمْ. ومعنى (وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ). أي نرْجعُ إلى أن معبودنا اللَّه، وأن عيسى بشر، كما أننا بشر فلا نَتخِذْهُ ومعنى (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ). أي مُقِرونَ بالئوحيد مستسلمون لما أتتْنَا بِهِ الأنْبياءُ من قِبل اللَّهِ عزَّ وجلَّ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65) في هذا يبين حجة على إليهود والنصارى جميعاً، لأن إليهود تدعي أن إبْرَاهِيمَ كان يهودياً والنصارى تدعي أنَّه كان نصرانياً، وتدفع إليهود عن دعواهم، وليْسَ يَدفَعُونَ اسمَ صفتِهِ أنهُ كان مُسْلِماً، وأنه لم يَكنِ اسْمُهُ يَهُودِيا ولا نصرانيا ولا مُشْركاً، والتوراةُ والإنجيلُ أنزلَا مِنْ بعْدهِ؛ وليس فيهما اسمه بواحد من أديان إليهود والنصارى والمشركين، واسم الإسلام له في كل الكتب؛ فَدَفْعُ بعضِهِم بعضاً أن يكون مُسمَّى بالاسْماء التي هي غيْر الإسْلام دليل بَينٌ

(67)

على نقض قولهم، وبرهان بَين في تبرئة إبراهيم من سائر الأديَان إلا دين الإسلام. * * * (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) ومعنى (حنِيفاً مُسْلِماً). معنى الحنف في اللغة إقبال صُدُور القَدميْن كل واحدة على أختها إقبالاً يكون خلقةً لا رجوع فيه أبداً، فمعنى الحنيفية في الإسلام الميل إليه والإقامة على ذلك العقد. * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68) أي فهم الذين ينبغي لهم أن يقولوا إنا على دين إبراهيم ولهم ولاية. (وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ). أي يتولى نصرهم لأن حزبهم هم الغالبون، ويتولى مجازاتهم بالْحُسْنى. * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) أي وأنتم تشهدون أنها آياتُ اللَّه لأنكم كُنْتُمْ تُخْبرُونَ بأمْر النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل مَبْعَثِه، وأصْل (لِمَ تَكْفُرُونَ)، لِمَا تكفرون والمعنى لأي شيءٍ تكفُرون. وكذلك (لم تَقولونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ) وكذلك (عم يتساءَلون) و (فبم تبشرون) فإِذا وقفت على هذه الحروف وقفت بالهاءِ، فقلت لمهْ، وبمه، لأن الألف حذفت في هذه الأسماءِ التي للاستفهام خاصة فجوز ذلك، ولا يجوز

(71)

ذلك في الموصلة لأن الألف فيهن ليست آخر الأسماءِ إنما الألف وسط وحذفها لأن حروف الجر عوض منها، فحذفت استخفافاً، لأن الفتحة دالة عليها، ولا يجوز إسكان هذه الحروف. وزعم الكسائي أن الأصل كان في "كم" كما، قال: وكنت أشتهي أن تكون مفتوحة لالتقاءِ السَّاكنين في قولهم: " كم المال " - بالكسر -. وهذا غلط من أبي الحسن، ولو كان كما - يقول لكان " كَمَ مالك " كما أنك تقول: (لِمَ فَعَلْتَ). وليس هذا القول مما يعرج عليه. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71) أي لم تغطون - الحق بباطلكم وأنتم تعلمون أنه الحق؛ يقال: لبست عليهم الأمر ألبسه. قال الله تعالى: (وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبَسُونَ). ويقال: لَبِسْتُ الثوب ألْبَسُهُ، وقال الله عزَّ وجلَّ: (وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا). ولو قيل: (وتكتموا الحق) لجاز، على قولك: لم تجمعون هذا وذاك. ولكن الذي في القرآن أجود في الإعراب.

(72)

وقوله عزَّ وجلَّ: (وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) الطائفة الجماعة، وهم إليهود. (آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ). أي أولَهُ. قال الشاعر: مَنْ كَانَ مَسْروراً بمَقْتَل مالكٍ. . . فليأتِ نِسْوتَنَا بوجْه نَهَارِ يجد النساءَ قَوائماً يَنْدُبْنَه. . . قد جِئنَ قبْل تَبَلُّج الأسْحارِ أي في أول النهار. - وقد قيل في تفسير هذا غير قول، قال بعضهم: معناه، آمنوا بصلاتهم إلى بيت " المقدس وأكفروا بصلاتهم إلى البيت. وقيل: إن علماءِ إليهود قال بعضهم لبعض: قد كنا نخبر أصحابنا بأشياء قد أتى بها محمد - صلى الله عليه وسلم - فإن نحن كفرنا بها كلها اتهمنا أصحابنا ولكن نؤمن ببعض ونكفر ببعض لنوهمهم أننا نصدقه فما يصدق فيه، ونريهم أنا نكذبه فيما ليس عندنا.

(73)

وقيل إنهم إتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - في صدر النهار فقالوا له: إنك الذي خبرْنا في التوراة بأنك مبعوث، ولكن أنظرنا إلى العشي لننظر في أمرنا، فلما كان بالعشي أتوا الأنصار فقالوا لها: قد كنا أعلمناكم أن محمداً هو النبي الذي هو المكتوب في التوراة، إلا أننا نظرنا في التوراة فإذا هو من (ولد هارون ومحمد من ولد إسماعيل) فليس هو النبي الذي عندنا. - وإنما فعلوا ذلك لعل من آمن به يرجع فهذا ما قيل في تفسير الآية. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73) قيل:. المعنى لا تجعلوا تصديقكم النبي في شيء مما جاءَكم به إِلا لليهود، فإنكم إن قلتم ذلك للمشركين كان عوناً لهم على تصديقه وقال أهل اللغة وغيرهم من أهل التفسير: ولا تؤمنوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لمن تبع دينكم، أي لا تصدقوا أن يعطى أحد من علم النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل ما أعطيتم (أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ). ومعنى (أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ): أي ليس يكون لأحد حجة عند اللَّه في الإيمان به لعلم من عنده. إلا من كان مثلكم. وقد قيل في المعنى: (قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ). أي الهدى هو هذا الهدى، لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم.

(75)

قال بعض النحويين معنى: " أن " ههنا معنى " لا " وإنما المعنى أن لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، أي لأن لا تؤتى فحذف " لا " لأن في الكلام دليلًا عليها، كما قال اللَّه عزَّ وجلَّ: (يُبَين اللَّهُ لَكُمْ أنْ تَضِلوا) أي لئلا تضلوا. قال أبو العباس محمد بن يزيد: " لا " ليست مما يحذف ههنا ولكن الإضافة ههنا معلومة، فحذفتَ الأول وأقمتَ الثاني مقامه، المعنى يبين الله لكم كراهة أن تضلوا وكذلك ههنا قال: إن الهدى هدى اللَّه كراهة أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم: أي من خالف دين الإسلام، لأن اللَّه لا يهدي من هو كاذب كفار، فهدى الله بعيد من غير المؤمنين. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ). أي نبوته وهداه يؤتيه من يشاءُ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) اتفق أبو عمرو، وعاصم والأعمش وحمزة على إسكان الهاءِ من (يؤده) وكذلك كل ما أشبه هذا من القرآن اتفقوا على إسكان الهاء فيه، نحو (نُصْلِهِ جَهَنَّمَ) و (نُؤتهِ مِنْهَا) وقوله: (مَا تولى) إِلا حرفاً حُكي عن

أبي عمرو. وحكى أبو عبيدة عن أبي عمرو إنَّه كسر في (أَلْقِهْ إِلَيْهِمْ) ولا فصل بين هذا الحرف وسائر الحروف التي جزمها. أما الحكاية عن أبي عمرو فيه وفي غيره فغلط. كان أبو عمرو يختلس الكسرة، وهذا كما غلطَ عليه في (بَارِئْكُمْ) حكى القراء عنه أنه كان يحذفَ الهمزة فى بارئكم. وحكى سيبويه عنه - وهو في هذا أضبط من غيره - أنه كان يكسر كسراً خفياً، وأمَّا نافع وقُراءُ أهل المدينة فأشبعوا هذه الحروف فكسروا وأثبتوا الياءات مثل (يؤده إليك) وهذا الإسكان الذي حكى عنه هُؤلاءِ غلط بين لا ينبغي أن يقرأ به لأن الهاءَ لا ينبغي أن تجزم ولا تسكن في الوصل إنما تسكن في الوقف. وَفي هذه الحُرُوفِ أربعة أوجُهِ، يجوز إثْبات اليَاءِ، وَيجُوز حَذْفهَا تقول: يؤَده إليك بالكسر، ويجوز: يَؤدِّ هُو إليْكَ بالضم بإثبات الواو بعد الهاءِ، ويجوز حذف الواو وضم الهاءِ. فأما الوقف فلا وجه له، لأن الهاءَ حرف خفي بُيِّن في الوصل بالواو في التذكير، قال سيبويه دخلت الواو فِي التذكير كما دخلت الألف في التأنيث، (نحو) ضربتهو وضربتها، قال أصْحَابه اختيرت الواو لأنها من طرف الشفتين والهاء من الحلق، فأبَانَتْ الواو

الهاءَ، وإنْمَا، تحذف الياءُ لعلة تقلب الواو إليها، فاذا حذفت الياءُ بقيت الكسرة فأما في الوقف فلا يجوز ألبتَّة. وقد أكثر الناس في تفسير القنطار، وقد حكينا ما قال الناس فيه. ولم يتفقوا على تحديد في مقدار وزنه إلا أنهم قد اتفقوا في أنه الكثير من المال. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا): أكثر القراءَة (دُمْتَ) بضم الدال، وقد قرتتْ (دِمْت) فأما دُمْت فمن قولك. دُمْت أدُوم إدْا بقيت على الشيءِ مثل قمتُ أقوم، وأما دِمْتُ - بالكسر - فعلى قولهم دِمْتَ تَدَام، مثل قولك: خِفْتَ تُخَافُ، ويقال قد ديم بفلان وأديمَ به بمعنى دِيرَ به وأدِير به، وهو الذي، به دُوامْ كقولهم: به دُوَام كقولهم: به دوار. ويقال دام المال إذا سكن يدوم فهو دائم ومنه: " نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يُبَال في الماءِ الدائِم " أي الساكن، ويقال قد دوَّم الطائر في الجو تدويماً، وهو يصلح أن يكون من وجهين، من دورانه في طيرانه ويصلح أن يكون من قلة حركة جناحه، لأنه يرى كأنه ساكن الجناح. ومعنى: (قائماً) أي إلا بدوامك قائماً على اقتضاء دينك. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (ذلِكَ بِأنَّهمْ قَالُوا). أي فعلهم ذلك، بقولهم (لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) أي ليس علينا طريق في أخذ مَالِهمْ

(76)

وصف اللَّه عزَّ وجلَّ: أكلَهُمُ السحْت وخيانتهم، وقد قيل في التفسير: إنهم عاملوا قوماً من المشركين فلما انتقلوا إلى الإسلام قالوا ليس علينا لكم سبيل إنما عاملناكم وأنتم على دينكم ذلك. فأعلم اللَّه أنهم يكذبون، قال عزَّ وجلَّ: (ويقُولُونَ على اللَّهِ الكَذِبَ وهُمْ يعْلَمُونَ). أي وهم يعلمون أئهم يَكْذِبُونَ. فرد اللَّه قولهم فقال: ِ (بَلَى): وهو عندي - واللَّه - أعلم - وقف التمام، ثم استأنف فقال عزَّ وجلَّ: (مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76) أي فإن اللَّه يحبه، ويجوز أن يكون استأنف جملة الكلام بقوله بلى لأن قولهم: ليس علينا فيما نفعل جناح. كقولهم نحن أهل تقوى في فعلنا هذا - فأعْلَمَ اللَّه أن أهل الوفاءِ بالعهد والتُّقَى يحبهم اللَّه، وأنهم المتقون، أي الذين يتقون الخيانة والكفر بالنبي - صلى الله عليه وسلم -. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77) (أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ) هذه الجملة خبر (إِنَّ)، ومعنى الخَلاق النصيب الوافر من الخير. ومعنى قوله: (لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ): في قوله: (لا يكلمهم الله) وجهان. أحدهما أن يكون إسْماع الله أولياءَه كلامه بغير سفير، خصوصية يخص اللَّه بها أولياءَه كما كلم موسى فكان ذلك خصوصية له دون البشر أجمعين، وجائز أن يكون (ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم) تأويله الغضب عليهم، والإعراض عنهم كما تقول: " فلان لا ينظر إلى فلان ولا يكلمه، وتأويله أنه غضبان عليه، وإن كلمه بكلام سوء لم ينقض ذلك. ومعنى (وَلَا يُزَكيهِمْ): لا يجعلهم طاهرين ولا يثني عليهم خيراً. ومعنى (عَذَابٌ أَلِيمٌ): أي موجع. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78) هذه اللام في (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا) تؤكد الكلام زيادة على توكيد (إِنَّ) لأن

(79)

(إنَّ) معناها توكيد الكلام، ولذلك صار لضم يوصل بها في الإيجاب، تقول: واللَّه أن زيداً قائِم، وكذلك تصل الضم باللام، فيقول واللَّه لزيد قائم ولا تلي هذه اللام (إن) لا يجوز: " إن لزيداً قائم " بإجماع النحوين كلهم وأهل اللغة. ومعنى (يلوون ألسنتهم بالكتاب): أي يحرفون الكتاب، أي يعدلونْ عن القصد، (ويجوز يُلَوُّونَ - بضم الياءِ والتشديد) (لتَحْسَبْوُه، و - لتْحسِبُوه) - بكسر السين وفتحها - يقال حسِبَ يَحْسَبُ ويَحْسِبُ، جميعاً، ويقال لويت الشيءَ إذا عَدلته عن القصد ليًّا ولويت الغريم لِيَاناً إذا مَطَلْتُه بدينه قال الشاعر: قد كنت داينت بهاحساناً. . . مخافة الإفلاس والليانا * * * وقوله عزَّ وجلَّ) (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) أي أنْ اللَّه لا يصطفى لنبوته الكذبة، ولو فعل ذلك بشر لسلبه اللَّهُ عزَّ وجلَّ: آيَات النبوة وعلاماتها ونصب (ثُمَّ يَقُولَ): على الاشتراك بين أن يْؤتيه وبين يقول، أي لا يجتمع لنبي إتيان النبوة والقول للناس كونوا عباداً لي. (وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ) والربانيون أرباب العلم. والبيان. أي كونوا أصحاب علم، وإنما زيدت الألف والنون للمبالغة في النسب، كما قالوا للكبير اللحية لَحياني ولذي الجمة الوافرة جُماني. وقد قرئَ - (بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ). (تُعَلِّمُونَ) - بضم التاءِ وفتحها. (وبما كنتم تَدْرُسُونَ) أي بعلمكم ودرْسِكُمْ عَلِّمُوا الناس وبيِّنوا لهم. وجاءَ في

(80)

التفسير (كُونُوا رَبَّانِيِّينَ) أي: علماءَ فقَهاءَ ليس مَعْنَاه كما تعلمون فقط، ولكن ليكن هديكم ونيتكم في التعليم هدى العلماء والحكماء، لأن العالم إنما ينبغي أن يقال له عالم إذا عمل بعلمه، وإلا فليس بعالم، قال اللَّه: (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ) ثم قال: (وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) أي لو كانوا وَفُّوا العلمَ حقه - وقد فسرنا ما قيل في هذا في مكانه. * * * ومعنى: (وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80) أي ولا يأمركم أن تعبدوا الملائكة والنبيين لأن الذين قالوا: إن عيسى عليه السلام إله عبدوه وائخذوه ربًّا، وقال قوم من الكفار إن الملائكة أربَابُنَا، ويقال إنهُم الصابئون، ويجوز الرفع في (وَلَا يَأمُركُم) أي لا يأمركم اللَّه. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) موضع (إذ) نصب - المعنى - واللَّه أعلم - واذكر في أقاصيصك (إِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ) - إلى قوله (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ). " ما " ههنا على ضربين: - يصلح أن يكون للشرط والجزاءِ وهو أجود الوجهين، لأن الشرط يوجب أن كل ما وقع من أمر الرسل فهذه طريقته، واللام دخلت في ما كما تدخل في " إنْ " التي للجزاءِ إذا كان في جواب القسم، قال اللَّه عزَّ وجلَّ:

(وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ) وقال: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ). فاللام في "إن " دخلت مؤكدة موطدة للام القسم. ولام القسم هي التي لليمين لأن قولك: واللَّه لئن جئتني لأكرمنك. . . إنما حلفك على فعلك إلا أن الشرطْ معلق به فلذلك دخلت اللام على الشرط فإذا كانت ما في معنى الجزاءِ فموضعها نصب بقوله (لما آتيتكمْ) والجزاءُ قوله (لَتومِنن به) ويجوز أن يكونَ في معنى الذي ويكون موضعها رفعاً. المعنى أخذ اللَّه ميثاقهم أي استحلفَهم للذي آتيتكم، والمعنى آتيتكموه (لتومنن به) فتكون ما رفعا بالابتداءِ ويكون خبر الابتداء (لتْؤمنن به) وحذفت الهاءُ من (لما آتيتكم) لطول الاسم. فأعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ: أنه عهد إلى كل رَسُول أنْ يؤمِنَ بغيره من الرسل فصارَ العهد مشتملاً على الجماعة أن يؤْمن بعضهم ببعض وأن ينصر بَعْضُهُمْ بعضاً. ومعنى قوله: (فاشْهَدُوا وَأنَا مَعكُمْ من الشاهِدِينَ) أي فتبينوا لأن الشاهد هو الذي يصحح دعوى المدعي وشهادة اللَّه للنبيين تبيينه أمر نبوتهم بالآياتِ المعجزات. ويجوز - وقد قرئَ به - (لمَا آتيتكم) فتكون اللام المكسورة معلقة بقوله أخَذَ المعنى أخذ الميثاق لآتيانِكُمْ الكِتَاب والحكمة. وقرأ بعضهم (لما آتَيْنَاكم من كتاب وحكمة) أي لما آتيناكم الكتاب والحكمة أخذَ الميثاقَ ويكون الكلام يُؤول إلى الجزاءِ - كما تقول: لما جئْتني أكرمتك.

(82)

وقوله عزَّ وجلَّ: (فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82) ذلك إشارة إلى أخذ الميثاق بالمعنى: (فمن تولى) أي أعرض عن الإيمان بعد أخذ الميثاق على النبيين. وأخْذُ الميثاق على النبيين مشتمل على الأخذ على أممهم، أي فمن تولى بعد أخذ الميثاق وظهور آيات النبي - صلى الله عليه وسلم - (فَأولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ) أي: الذين خرجوا عن القصد وعن جملة الإيمان. ويصلح أن تكون (همْ) ههنا اسماً مبتدأ، و (الفاسقون) خبرهُ و" هم " " مع " الفاسقون خبر أولئك. وصلح أن يكون (الفاسقون) مرتفعاً بأولئك " وهم " فصل - وهو الذي يسميه الكوفيون العماد. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) أي أفغير دين اللَّه يطلبون، لأنه قد بين أنه دين اللَّه وأنهم كفروا وعاندوا وحسدوا بغياً - كما فعل إِبليس. وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا). جاءَ في التفسير أنه أسلم من في السَّمَاوَات كلهم طوعاً، وأسلم بعض من في الأرض طوعاً وبعض كرهاً. لما كانت السنة فيمن فُرِض قتاله من المشركين أن يقاتَلَ حتى يسلم سمي ذلك كرهاً، وإن كان يسلم حين يسلم طائعاً، إلا أن الوصلة كانت إلى ذلك بِكُرهٍ، ونصب (طوعاً) مصدراً، وضع موضع الحال. كأنه أسلموا طائعين ومكرَهين، كما تقول جءتك ركضاً ومشياً، وجئت راكضاً وماشياً، ويجوز أن يكون واللَّه أعلم - على معنى وله أسلم من في السَّمَاوَات والأرض طوعاً وكرهاً - أي خضعوا من جهة ما فطرهم عليه ودبرهم به،

(85)

لا يمتنع ممتنع من جِبِلَّةٍ جبل عليها، ولا يقدرعلى تغييرها أحب تلك الجِبِلَّةَ أو كرهها. (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ). يدل على تصديق هذا القول. لأن المعنى إنَّه بدأكم على إرادته شئتم أو أبيتم. وهو يبعثكم كما بدأكم. فالتأويل: أتبغون غير الدين الذي هذه صفته. ثم أمر اللَّه - عز وجل - النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمته أن يقولوا آمناً باللَّهِ وما أنزل علينا، وأن يقولوا ويعتقدوا إنهم لا يفرقون بين جميع الرسل في الإيمان بهم. لا يكفرون ببعضهم كما فعلت إليهود والنصارى، وأعلم اللَّه أنه لا يقبل ديناً غير دين الإسلام ولا عملاً إلا من أهله. فقال عز وجلَّ: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85) (يَبْتَغِ) جزم بمن - وقوله: (فَلَنْ يُقْبَل مِنْهُ) الجواب. ومعنى (من الخاسرين) أي ممن خسر عمله، والدليل على ذلك قوله عزَّ وجلَّ: (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ) * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) يقال إنها نزلت في قوم ارتدوا ثم أرادوا الرجوع إلى الإسلام ونيَّتهم الكفر. فأَعلم اللَّه أنَّه لا جهة لهدايتهم لأنهم قد استحقوا أن يضلوا بكفرهم، لأنهم قد كفروا بعد البينات التي هي دليل على صحة أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقيل إنها نزلت في إليهود لأنهم كفروا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أن كانوا - قبل مبعثه - مؤمنين. وكانوا يشهدون بالنبوة لَهُ فلما بعث عليه السلام - وجاءَهم بالآيات المعجزات وأنبأهم بما في كتبهم مما لا يقدرون على دفعه، وهو - أُمِّيٌّ - كفروا به بغياً وحسداً،

(87)

فأَعلم اللَّه أن جزاءَهم اللعنة، فقال: (أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) ومعنى لعن الناس (أجمعين) لهم أن بعضهم يوم القيامة يلعن بعضاً ومن خَالَفهم يلعنهم، وتأويل لعنة اللَّه لهم تبعيده إياهم من رحمته وثنائه عليهم بكفرهم. * * * (خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) ومعنى: (خَالِدِينَ فِيهَا أبَدَاً). أي: فيما توجبُه اللعنة أي في عذاب اللعنة (لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ) أي لا يؤَخرون عن الوقت. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89) أي أظهروا أنهم كانوا على ضلال وأصلحوا ما كانوا أفسدوه وَغرُّوا به مَنْ اتَبَعَهُمْ ممَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَه (فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). أعلم اللَّه عزَّ وجلَّ أن من سعة رحمته وتفضله أن يغفو لمن اجترأ عليه هذا الاجتراء لأن هذا ما لا غاية بعده، وهو أنه كفر بعد تبين الحق. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90) يقال في التفسير أن هَؤُلَاءِ هم النفر الذين ارتدوا بعد إِسلامهم ثم أظهروا

(91)

أنهم يريدون الرجوع إلى الإسلام، فأظهر اللَّه أمرهم لأنهم كانوا يظهرون أنهم يرجعون إلى الإسلام وعندهم الكفر - والدليل على ذلك - قوله - عزَّ وجلَّ: (وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ) لأنهم لو حققوا في التوبة لكانوا غيرَ معتدين، ويدل على ذلك قوله عزَّ وجلَّ: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91) لأن الكافر الذي يعتقد الكفر ويظهر الإيمان عند اللَّه كمظهر الكفر لأن الإيمان هو التصديق والتصديق لا يكون إلا بالنية. ومعنى: (فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أحَدِهِمْ مِلْءُ الأرْضِ ذَهَباً). أي لو عمل من الخير وقدم ملء الأرض ذهباً يتقرب به إلى اللَّه لم ينفعه ذلك مع كفره. قال أبو إسحاق: وكذلك لو افتدى من العذاب بملءِ الأرض ذهباً لم يقبل منه. فأعلم اللَّه عزَّ وجلَّ أنه لا يُثيبُهُمْ على أعمالهم بالخير ولا يقبل منهم الفداءَ من العذاب. وقال بعض النحويين أن الواو مسقطة - قال المعنى فلن يُقبل من أحدهم ملءُ الأرض ذهباً لو افتدى به - وهذا غلط لأن الفائدة في الواو بينة وليست الواو مما يلغي.

يقال ملأت الشيء أملؤه مَلئاً، المصدر بالفتح لا غير - قال سيبويه والخليل: الملءُ - بفتح الميم - الفعل. وتقول: هذا ملءُ هذا أي مقدار ما يملؤُه. كما يقال: رَعَيْت رَعْياً والمال في الرعي فهذا فرق بين. وقال بعض النحويين: يقال مَلأتُ مَلْئاً ومُلْئاً وهذا غلط بين لأن الموصوف ههنا إنه لو ملك مقدار ما يملأ الأرض ما قبل منه، وليس يقال. إن قدر أن يفعل، أي أن يملأ الأرض، إنما المتقرب به الذهب الذي هو ملءُ الأرض، لا أن يَملأ: يقال ملأت الشيء مَلْئاً وقد مَلئَ فلان مَلأً وهو مملوءٌ إذا زكم والملأ أشراف القوم، وتَقول أنت أملأ بهذا أي أثرى وأوثق، ورجل مَلِيءٌ بين الملاءَة، يا هذا. فأما ما يكتبه الكتاب، أنت المَلِيُّ بالياءِ فخطأ وهم مجمعون عليه، هذا غلط. والمُلَاءَةُ التي تلبس، ممدود، والمُلَاوَةُ من الدهر القطعة الطويلة، ومن هذا قولهم. أبْلِ جَديداً وتَمَل حَبيباً أي عش مع حبيبك دهراً طويلًا. و (ذهباً) منصوب على التمييز - قال سيبويه وجميعُ البصريين: إن الاسم المخفوض قد حال بين الذهب وبين الملء أنْ يكون جرًّا وحقيقة تفْسيره: أن المعنى ما يملؤُهُ من الذهب وكذلك إذا قلت: عندي عشرون درهماً أي ما يُعادِل هذا المقدارَ من الدراهِم. وجائز أن يكون - واللَّه أعلم قوله - عزَّ وجلَّ -: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90).

(92)

يعني إليهود لأنهم كانوا تائبين في وقت إيمانهم بالنبي - صلى الله عليه وسلم - قبل مبعثه، فأعلم اللَّه أن تلك التوبة وذلك الإيمانَ ليْسَ بمقبُول، لأنهم كفروا بعده وزادوا كفراً، فإن كفرهم بما كان ينزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - وقتاً بعد وقت زيادة في الكفر - وكذلك الِإقامة عليه زيادة فيه. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92) قال بعضهم: إِن كل ما يتقرب به إلى اللَّه من عمل خير فهو إنفاق. وروي عن ابن عمر أنه اشترى جارية كان هَوِيهَا فلمَّا ملكَها أعْتقهَا ولمْ يُصِبْ منها. فقيل له: أعْتقْتهَا بعد أن كنتَ هويتَها ولم تصب منها. فتلا هذه الآية (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا). وفعل ابن عمر هذا ينبغي أن يقْتَدِيَ به الناس في أن لا يضنوا بجليل ما يملكونه في التقرب به إلى اللَّه تعالى * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ). أي فإن اللَّه يجازي عليه لأنه قال: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) فإذا عمله جوزي عليه. وتأويل (ما) تأويل الشرط والجزاءِ، وموضعها نصب بـ " تنفقوا " المعنى. وأي شيء تنفقوا فإن اللَّه عليم به والفاء جواب الجزاءِ. * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93) موضع " ما " نصب، المعنى إلا الطعام الذي حرَّمه إسرائيل على نفسه. ويروى: أنه وجد وجعاً، وقيل في التفسير: إن ذلك الوجع كِان عرق النساءِ

(94)

فنذر إِنْ أبرأه اللَّه أن يترك أحبَّ الطعام والشراب إِليه. وكان أحب الطعام والشراب إِليه لحومَ الِإبل وألبانَها، فحرم اللَّه ذلك عليهم بمعاصيهم كما قال: (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ). وأعلم الله أن الذي حرمه إسرائيل على نفسه كان من قبل أن تنزل التوراة، وفيه أعظم آية للنبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه أنبأهم بأنهم يدعون أن في كتابهم ما ليس فيه، ودعاهم مع ذلك إِلى أن يأتوا بكتابهم فيتلوه لِيُبَينَ لهم كذبهم فأبوا. فكان إِبَاؤُهم دليلاً على علمهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد صدق فيما أنبأهم به، ولو أتَوْا بِها لم يَكونوا يَخْلونَ من أحد أمرين: إما أن يزيدوا فيها ما ليس فيها في ذلك الوقتْ فيعلم بعضهم أنه قد زيد، أو ينزل اللَّه بهم عقوبة تبين أمرهم، أو أن يأتوا بها على جملتها فيعلم بطلان دعواهم منها. فقصتهم في هذه الآية كقصة النصارى في المباهلة. * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94) أي من بعد ما ذكرنا من ظهور الحجة في افترائه: (فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ). * * * وقوله عزَّ وجلَّ - (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) قيل: إنه أول مسجد وضع للناس، وقيل: إنه أول بيت وضع للحج. ويقال: إنه البيت المعمور وأن الملائكة كانت تحجه من قبل آدم، وإنه البيت العتيق. فأما بناؤُه فلا شك أن إبراهيم بناه. قال اللَّه تعالى: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا) أي يَقولان: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا.

فأما المقْدِس فسليمان بناه. وخبر (إِنَّ) هو (لَلَّذِي بِبَكَّةَ). وهذه لام التوكيد، وقيل: إن بكة موضع البيت وسائر ما حوله مكة. والإجماع أن بكة ومكة الموضع الذي يحج الناس إِليه، وهي البلدة، قال اللَّه - عزَّ وجلَّ: ((بِبَطْنِ مَكةَ) وقال: (لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا). فأما اشتقاقه في اللغة: فيصلح أن يكون الاسم اشتق من إلَبك، وهوبك الناس بعضُهم بعضاً في الطواف أي دفع بعضهم بعضاً، وقيل: إنما سميت ببكة لأنها تبك أعناق الجبابرة. ونصب (مُبَارَكًا) على الحال. المعنى: الذي بمكة في حال بركته. (وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ) يجوز أن يكون هُدًى لِلْعَالَمِينَ في موضع رفع. المعنى: وهو هدى للعالمين. فأماَ مكة - بالميم فتصلح أن يكون اشتقاقها كاشتقاق بكة والميم تبدل من الباءِ، يقال: ضربة لازب ولازم، ويصلح أن يكون الاشتقاق من قولهم: " امْتَكَّ الفصيل " ما في ضرع الناقة إذا مص مصاً شديداً حتى لا يُبْقِي فيه شيئاً. فتكون سميت بذلك لشدة الازدحام فيها - والقول الأول أعني البدل أحسن. ومعنى (أَوَّلَ) في اللغة - على الحقيقة ابتداءُ الشيءِ فجائز أن يكون المبتدأ له آخر، وجائز أن لا يكون له آخر فالواحد أول العدد والعدد غير متناه، ونعيم الجنة أول وهو غير منقطع، وقولك: هذا أول مال كسبته جائز ألا يكون

(97)

بعده كسب، ولكن إرادتك: (هذا ابتداءُ كسبي). ولو قال قائل: أولُ عبد أملِكُه فهو حرٌّ، فملك عبداً أعتق ذلك العبد، لأنه قد ابتدأ الملك فجائز أن يكون (أَوَّلَ بيتٍ) هو البيت الذي لم يكن الحج إلى غيره. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97) قد رويت عن ابن عباس أنَّه قرأ (آية بينة مَقَامُ إبْرَاهِيمَ) جعل مقام إبراهيم هو الآية، والذي عليه الناس: (فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ) والمعنى: فيه آيات بينات: تلك الآيات مقام إبراهيم، ومن الآيات أيضاً: أمنُ من دخله، لأن معنى (وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً) يدل على أن الأمن فيه. فأما رفع (مَقَامُ إبْرَاهِيمَ) فعلى أن يكون على إضمار هي مقام إِبراهيم. قال النحويون: المعنى فيها مقام إبراهيم وهذا كما شرحنا، ومعنى أمنِ من دخله: أن إبراهيم عليه السلام سأل اللَّه أن يؤمِّن سكان مكة فقال: (رب اجعل هذا بلداً آمناً). . فجعل اللَّه عزَّ وجلَّ أمن مكة آية لإبراهيم وكان الناس يتخطفون حول مكة، قال اللَّه: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) فكان الجبار إدْا أراد مكة قصمه اللَّهُ. قال اللَّهُ عزَّ وجلَّ: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ) وكانت فارس قد سبت أهل بيت المقدس فأمَّا أهل مكة فلم يطمع فيهم جبار. ويقال: قد أمن الرجل يأمن أمْناً وأماناً. وقد رويت إمناً، والأكثر الأفصح: (أمْن) بفتح الألف قال اللَّه عزَّ وجلَّ (وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا).

(99)

وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ). يقرأ بفتح الحاءِ وكسر الحاءِ والأصل الفتح: يقال: حججت الشيءَ أحْجه حَجا إذا قصدته. . والحِج اسم العمل - بكسر الحاءِ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا). موضع مَنْ خفض على البدل من " الناس " المعنى: وللَّهِ على من استطاع من الناس حج البيت أن يحج. * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ). قيل فيه غير قول: قال بعضهم من كفر: من قال إن الحج غير مفترض. وقال بعضهم: من أمكنه الحج فأخره إلى أن يموت. وهو قادر عليه فقد كفر. وقيل: إِنها إنما قيلت لليهود لأنهم قالوا: أن القصد إلى مكة غير واجب في حج أو صلاة. فأما الأول فمجمع عليه. ليسِ بين الأمة اختلاف في أن من قال: إن الحج غير واجب على من قدر عليه كافر. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99) أي تبغون لها العوج، يقال في الأمر والدين عوج وفي كل شيءٍ مائل عوج، والعرب تقول: ابغني كذا وكذا، أي أطلبه لي، وتقول: أبَغِنِي كذا وكذا بفتح الألف تريد أعني على طلبه أي أطلبه معي كما تقول: أعْكِمْنِي وأحْلِبْني أي أعِنَي على العَكْمِ والحَلْبِ. ومعنى: (وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ) أي وأنتم تشهدون بما قد ثبت في نفوسكم أن أمر النبي حق واللَّه غير غافل عن عملكم.

(100)

وقوله عزَّ وجلَّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100) يعني بالفريق الصنف، الذين كفروا، أي إن قلدتموهم ردوكم كافرين، أي وإن كنتم على غير دينهم وكنتم في عقدكم ذلك كافرين فكذلك إن أطعتموهم او اتبعتوهم فأنتم كافرون. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101) أي على أي حال يقع منكم الكفر وآيات اللَّه التي أتى بها النبي - صلى الله عليه وسلم - دالة على توحيد اللَّه ونبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - تتلى عليكم وفيكم رسوله يبين لكم هذه الآيات، وجائز أن يقال فيكم رسوله والنبي شاهد، وجائز أن يقال لنا الأن فيكم رسول اللَّه لأن آثاره وعلاماته والقرآن الذي أتى به فينا وهو من الآيات العظام. * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (وَمَنْ يَعْتَصِمْ باللَّهِ). أي من يمتنع باللَّه، ويستمسك بحبل اللَّه (فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ). و" يعتصم " جزم بمن. والجواب: (فَقَدْ هُدِيَ)، ومعنى اعتصمت بكذا وكذا في اللغة: استمسكت وامتنعت به من غيره وكذلك (لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أمْرِ اللَّهِ) ومعنى: (سَآوِي إلَى جَبلٍ يَعْصِمُنِي من الماءِ) أي يمنعني من الماءِ أي لاذا عِصمة ولاذا امتناع من اللَّه. * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) أي اتقوه فيما يحق عليكم أن تتقوه فيه. قال بعضهم (حَقَّ تُقَاتِهِ): أن يطاع

(103)

فلا يعصي وأن يذكر فلا ينسى، ومعنى يذكر فلا ينسى: أن يذكر عند ما يجب من أمره فلا يتجاوز أمره. وقال بعضهم هذه الآية منسوخة نسخها قوله جلَّ وعزَّ: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا). وتقاة: أصلها وقاة وهي من وقيت إلا أن الواو لم تأت في هذا المثال على أصلها، ولم يقل في هذا المثال شيءُ إِلا والتاء فيه مبدلة من الواو وكذلك قالوا تخمة إِنما هي من الوخامة، وكذلك قالوا: في فُعال نحو التراث والتجاه، وتجاه في معنى المواجهة. وهذا المثال فيه أوجه: إِذا بنيت فُعْلَة من وقيت قلت تقاة وهو الذي يختاره النحويون، ولم يأتِ في اللغة على هذا المثال شيءٌ إِلا وقد أبدلت التاء من واوه. ويجوز أن يقال وقاة، وأَقاه لأن الواو إِذا انضمت وكانت أولا فأنت في البدل منها بالخيار، إِن شئت أبدلت منها همزة، وإن شئت أقررتها على هيئتها، وإن شئت في هذا المثال خاصة أبدلت منها التاءَ. * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ). لفظ النهي واقع على الموت والمعنى: واقع على الأمر بالِإقامة على الِإسلام. المعنى: كونوا على الإسلام فإِذا ورد عليكم الموت صادفكم على ذلك. وِإنما جاز هذا لأنه ليس في الكلام لبس، لأنه يعلم منه أنهم لا ينهون عما لا يفعلون، ومثله في الكلام، " لَا أريَنكَ هَهُنَا " فالنهي واقع في اللفظ على المخاطبة والمعنى: لا تكونن ههنا فإن من كان هِهنا رأيته ولكن الكلام قصد به إِلى الِإيجاز والاختصار إِذ لم يكن فيه نقص معنى. * * * (وقوله جلَّ وعزَّ: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)

(جَمِيعًا) منصوب على الحال المعنى: كونوا مجتمعين على الإعتصام به. وتفسير (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ)، أي استمسكوا بعهد اللَّهِ. والحبل في لغة العرب: العهد. قال اَلأعشى. وإِذا أجوز بها حبال قبيلة. . . أخذت من الأخرى إليك حَبالها ومعنى (وَلَا تَفَرَّقُوا): أي تناصروا على دين الله وأصل تفرقوا تتفرقوا إلا أن التاءَ حذفت لاجتماع حرفين من جنس واحد في كلمة، والمحذوفة الثانية لأن الأولى دالة على الاستقبال فلا يجوز حذف الحرف الذي يدل على الاستقبال وهو مجؤوم بالنهي، الأصل ولا تتفرقون فحذفت النون لتدل على الجزم. * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا). ذكَّرهم اللَّه بعظيم النعمة عليهم في الإسلام لأنهم كانوا في جاهليتهم يقتل بعضهم بعضاً، ويستبيح كل غالب منهم من غلبه فحظر عليهم الإِسلام الأنفس والأموال إلا بحقها، فعرفهم اللَّه - عزَّ وجلَّ - ما لهم من الحظ في العاجل في الدخول في الإسلام.

(104)

وقيل نزلت في الأوس والخزرج. لأنهم كانت بينهم في الجاهلية حروب دائمة قد أتت عليها السنون الكثيرة، فأزال الإسلام تلك الحروب وصاروا إخواناً في الإسلام متوادين على ذلك، وأصل الأخ في اللغة أن الأخ مقصدُه مقصد أخيه، وكذلك هويْ الصداقة أن تكون إرادة. كل واحد من الأحخوين موافقة لما يريد صاحبه والعرب تقول: فلان يتوخى مسار فلان أي يقصد ما يسره. وقوله جل وعلا: (وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ). أي كنتم قد أشرفتم على النار وشفا الشيءُ، حرفه مقصور يكتب بالألف، وثثنيته شفوان، وقال - (فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا)، ولم يقل منه لأن المقصود في الخبر النار. أي فأنقذكم منها بالنبي - صلى الله عليه وسلم -. وقوله جل وعلا - (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ). الكاف في موضع نصب. المعنى مثل البيان الذي يتلى عليكم يبين الله لكم آياته. ومعنى (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) أي لتكونوا على رجاءِ هدايته. * * * وقوله جل وعلا: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) اللام مسكنة وأصلها الكسر، الأصل ولتَكن منكم ولكن الكسرة حذفت لأن الواو صارت مع الكلمة كحرف واحد وألزمت الحذف، وإِن قرئت

ولتكن - بالكسر - فجيد على الأصل، ولكن التخفيف أجود وأكثر في كلام العرب. ومعنى - (ولتكن منكم أمَّةٌ) - واللَّه أعلم - ولتكونوا كلكم أمَّة تدعون إلى الخير وتأمرون بالمعروف، ولكن " مِن " تدخل ههنا لتخص المخاطبين من سائر الأجناس وهي مؤَكدة أن الأمر للمخاطبين ومثل هذا من كتاب اللَّه (فاجتنبوا الرجس من الأوثان) ليس يأمرهم باجتناب بعض الأوثان، ولكن المعنى اجتنبوا الأوثان فإِنها رجس ومثله من الشعر قول الشاعر: أخو رغاتب يعطيها ويُسْالُها. . . يأبى الظلامة منه النوفل الزفر أي هو النوفل الزفر، لأنه قد وصفه بإعطاءِ الرغائب، والنوفل الكثير الِإعطاءِ للنوافل، والزفر الذي يحمل الأثقال. والدليل على أنهم أمروا كلهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قوله جل وعلا: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ). ويجوز أن تكون أمرت منهم فرقة، لأن قوله (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ) ذكر الدعاة إِلى الِإيمان، والدعاة ينبغى أن يكونوا علماءَ بما يدعون إِليه

(105)

وليس الخلق كلهم علماءَ والعلم ينوب فيه بعض الناس عن بعض، وكذلك الجهاد. وقوله جل وعلا: (وَأولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ). أي والذين ذكرناهم المفلحون، والمفلح الفائز بما يغتبط به. و (هم) جائز أن يكون ابتداءً و (المفلحون) خبر أولئك و (هم) فصل، وهو الذي يسميه الكوفيون العماد. * * * وقوله جل ثناؤُه: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) أي لا تكونوا كأهل الكتاب، يعني به إليهود والنصارى وكتابهم جميعاً التوراة، وهم مختلفون، كل فرقة منهم - وإن اتفقت في باب النصرانية أو اليهودية - مختلفة أيضاً، كالنصارى الذين هم نسطورية ويعقوبية وملكانية، فأمر اللَّه بالاجتماع على كتابه، وأعلم أن التفرق فيه يخرج أهله إلى مثل ما خرج إليه أهل الكتاب في كفرهم، فأعلم الله أن لهم عذاباً عظيماً، فقال: (وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ). ثم أخبر بوقت ذلك العذاب فقال: (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) أي يثبت لهم العذاب ذلك اليوم، وابيضاضها إشراقها وإسفارها، قال الله عزَّ وجلَّ: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39). أسفرت واستبشرت لما تصير إِليه من ثواب الله ورحمته، وتَسْوَدُ وُجُوهٌ اسودادها لما تصير إِليه من العذاب، قال اللَّه: (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40).

والكلام. تسود وتبيض بفتح التاءِ - الأصل " تسودد " و " تبيَضِض إلا أن الحرفين إذا اجتمعا وتحركا أدغم الأول في الثاني. وكثير من العرب تكسر هذه التاء من تسود وتبيض والقراءَة بالفتح والكسر قليل إلا أن كئيراً من العرب يكسر هذه التاءَ ليُبيِّن أنها من قولك أبيض وأسود فكأن الكسرة دليل على أنه كذلك في الماضي. وقرأ بعضهم " تَسْواد وتَبْياض " وهو جيِّد في العربية إلا أن المصحف ليست فيه ألف فأنا أكرهها لخلافه على أنهُ قد تحذف ألفات في القرآن نحو ألف إبراهيم وإسماعيل ونحو ألف الرحمن؛ ولكن الإجماع على إثبات هذه الألفات المحذوفة فى الكتاب في اللفظ، وتبيَض وتسود إجماع بغير ألف فلا ينبغي أن يقرأ بإثبات الألف. وقوله جل وعلا: (فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ). تدل على أن القراءَة تسود، ومن قرأ بالألف تسواد وتبياض وجب أن يقْرأ: فأما الذين اسوادت وجُوههم. وجواب أما محذوف مع القول. المعنى فيقال لهم: (أكَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ). وحُذفَ القولُ لأن في الكلام دليلاً عليه وهذا كثير في القرآن، كقوله عزَّ وجلَّ: (وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ). المعنى يقولون:

(107)

(سَلَامٌ عَلَيْكُمْ). وكذلك قوله: (وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا) المعنى يقولان: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا - هذه الألف لفظها لفظ الاستفهام ومعناها التقرير والتوبيخ. وإنَّما قيل لهم (أكفرتم بعد إيمانكم) لأنهم كفروا بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد كانوا به مؤمنين قبل مبعثه. وهذا خطاب لأهل الكتاب: وقوله جلّ وعلا: (وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107) (فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ). أي في الثواب - الذي أصارهم اللَّه إليه برحمة - خالدون. أعْلَمَ أنَّه إِنما يدخل الجنة برحمته وإن اجتهد المجتهد في طاعة اللَّه لأن نعم اللَّه عزَّ وجلَّ دون الجنة لا يكافئها اجتهاد الآدميين. وقال (فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ) وهو يريد ثواب رحمة اللَّه كما فال: (واسأل القريةْ) المعنى أهل القرية، كما تقول العرب بنو فلان يطؤُهم الطريق، المعنى يطؤُهم مارة الطريق. وذكر (فيها) ثانية على جهة التوكيد. * * * وقوله جل وعلا: (تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (108) أي تلك التي قد جرى ذكرها حُجَجُ اللَّه وعلاماته نتلوها عليك أي نعرفك إياها وما اللَّه يريد ظلماً للعالمين أي من أعلم اللَّه أنه يعذبه فباستحقاق يعذبه. وقوله جل وعلا: (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109) (وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ). ولو كانت " وإليه ترْجِعُ الأمور " لكان حسناً ولكن إعادة اسم الله أفخم وأوكد، والعرب إذا جرى ذكر شيء مفخم أعادوا لفظه مظهراً غير مضمر، أنشد النحويون قول الشاعر:

(110)

لا أرى الموتَ يَسْبِقُ الموتَ شيءٌ. . . نَغَّصَ الموتُ ذا الغِنَى والفَقيرا فأعادوا ذكر الموت لفخامة في نفوسهم. * * * وقوله جل وعلا: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110) يعني به أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - وقيل في معنى (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ) كنتم عند الله في اللوح المحفوظ - وقيل كنتم منذ آمنتم خير أمة وقال بعضهم معنى (كنتم خير أمة) هذا الخطاب أصله إنَّه خوطب به أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يعم سائر أمَّة محمد، والشريطة في الخيرية ما هو في الكلام وهو قوله عزَّ وجلَّ: (تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ). أي توحدون اللَّه بالإيمان برسوله لأن من كفر بالنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يوحد اللَّه، وذلك أنه يزعم أن الآيات المعجزات التي أتى بها النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذات نفسه. فجعل غير الله يفعل فعل اللَّه. وآيات الأنبياءِ، لا يقدر عليها إلا اللَّه عزَّ وجلَّ. ويدل على أن قوله: (وتؤْمنون باللَّه): تقرون أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - نبي اللَّه. قوله عزَّ وجلَّ: (وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ). فأهل الكتاب كفروا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فصاروا كفاراً باللَّه فأعلم اللَّه أن بعضهم وهو القليل منهم آمن باللَّه فقال: (مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ). والفاسق الذي خرج عن أمر اللَّه.

(111)

ووعد اللَّه النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين في أهل الكتاب أنهم منصورون عليهم، وأنه لا ينالهم من أهل الكتاب اصطلام ولا غلبة فقال: (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111) أي يْؤذونكم بالبهت والتحريف، فأمَّا العاقبة فتكون للمؤمنين. قال اللَّه - عزَّ وجلَّ -: (وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12). يعني به أهل الكتاب؛ وأعلمهم في هذه الآية أنهم إن قاتلوهم ولوهم الأدبار وسلبوا النصر وكذلك كان أمر إليهود. * * * وقوله جل وعلا: (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112) والحبل العهد. فأَعلم اللَّه أنهم بعد عزٍّ كانوا فيه يبلغون في الذلة ما لا يبلغه أهل مكة، وكانوا ذوي منعة ويسار، فأعلم اللَّه أنهم يذلون أبداً إلا أن يعزوا بالذمة التي يعطونها في الإسلام. وما بعد الاستثناءِ، ليس من الأول أنهم أذلاءُ إلا أنهم يعتصمون بالعهد إذا أعطوه. وأعلم اللَّه أنهم جعلتْ عقوبتهم هذه العقوبة الغليظة في الدنيا والآخرة لتغليظ ما ركبوه فقال - جل وعلا: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ). وضع ذلك رفع بالابتداءِ المعنى أمرهم ذلك وحقهم ذلك بكفرهم. وقتلهم الأنبياءَ وأعاد ذكر ذلك ثانية فقال: (ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يعْتَدُون).

(113)

الاعتداءُ المجاوزةْ في كل شيءٍ - مجاوزة القدر - المعنى حقها بكفرهم - فأعلم. الله أنهم غير متساوين فقال: (لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) (لَيْسُوا سَوَاءً) وهذا وقف التمام. أي ليس الذين ذكرنا من أهل الكتاب سواءً. قال أبو عبيدة: (ليسوا سواء) جمع ليس، وهو متقدم كما قال القائل: أكلوني البراغيث وكما قال: عموا وصَمُّوا كثير منهم. وهذا ليس كما قال لأن ذكر أهل الكتاب قد جرى، فأخبر اللَّه أنهم غير متساوين فقال (ليسوا سواءً). ثم أنبأ بافتراقهم فقال: (مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ). قال أهل اللغة معنى قائمة مستقيمة، ولم يبينوا حقيقة هذا وذكر الأخفش المعنى أمة قائمة، أي ذو أمةٍ قائمة والأمة الطريقة من أممت الشيءِ إذا قصدته. فالمعنى واللَّه أعلم: من أهل الكتاب أمَّة قائمة، أي ذوو طريقة قائمة. قال النابغة الذبياني: حلفت فلم أترك لنفسك ريبة. . . وهل يأتمن ذو أمة وهو طائع أي هل يأتمن ذو طريقة من طرائق الدين وهو طائع. فإنما المعنى إنَّه لا يستوي الذين قتلوا الأنبياءَ بغير حق والذين يتلون آيات اللَّه آناءَ الليل وهم ذوو طريقة مستقيمة.

ومعنى (آناءَ الليل) ساعات الليل، قال أهل اللغة واحد آناءِ الليل إنْي وآناءَ مثل، نِحْى وأنْحاءِ وأنشد أهل اللغة في ذلك قول الشاعر: حُلوٌ وَمُرٌّ كطعم القدح مِرتهُ. . . بكل إنْي حداه الليلُ يَنْتَعِل قالوا واحدها إِني مثل مِعْي وأمعاء، وحكى الأخفش (إنْوُ). * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَهُمْ يَسْجُدُونَ). معناه وهم يصلون لأن التلاوة ليست في السجود، وإنما ذكرت الصلاة بالسجود لأن السجود نهاية ما فيها من التواضع والخشوع والتضرع. ومعنى (يَتْلُونَ) فيَ اللغة يُتْبِعُونَ بعض الشيءِ بعضاً، وقد اسْتَتْلَاكَ الشيءَ إذا جعلك تَتْبَعَهُ قال الشاعر:. قد جعلت دلوى تستليني. . . ولا أحب تبع القرين إن لم يُرد سماحتي وَليني وقال بعض أهل اللغة: المعنى منهم أمة قائمة وامة على غير ذلك، وأنشد في ذلك قول الشاعر: عصائي إليها القلب أني لأمره. . . سميع فيما أدري أرشد طلابها ولم يقل أم هو في غَي لأن في الكلام دليلاً عليه، قال: والعرب تضمر هذا إذا عرفت مثل هذا - عرفت المعنى.

(114)

وهذا الذي قال خطأ فاحش في مثل هذا المكان، لأن ذكر أهل الكتاب قد جرى في هذه القصة بأنهم كانوا يكفرون بآيات اللَّه، ويقتلون الأنبياءَ بغير حق، فأعلمَ اللَّهُ جلَّ وعزَّ أن منهم المؤْمنين الذين هم أمَّة قائمة، فما الحاجة إلى أن يقال غير قائمة وإنما المبدوءُ به ههنا ما كان من فعل أكثرهم من الكفر والمشاقة للنبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر من كان مبايناً هُؤلاءِ وذكر في التفسير أن هذا يعني به عبد اللَّه بن سلام وأصحابه: * * * (يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) ومعنى (ويأمرون بالمعروف) ههنا أي يأمرون باتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - (وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ): عن الِإقامة على مشاقته - صلى الله عليه وسلم -. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115) قرئت بالياءِ والتاءِ وكلاهما صواب - كما قال اللَّه عزَّ وجلَّ: (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره) - فالخطاب لسائر الخلق ومن قال (فلن تُكْفَروه) فهو لهُؤلاءِ المذكورين وسائر الخلق داخل معهم في ذلك. وموضع (يفعلوا) جزم بالشرط، وهو (ما) والجواب (فلن يكفروه). * * * قوله عزَّ وجلَّ: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116) أي لا تمنعهم أولادهم مما هو نازل بهم، لأنهم مالوا إلى الأموال في معاندتهم النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن الرياسة إنما قامت لهم - أعني - رؤَساءَ إليهود - بمعاندتهم النبي - صلى الله عليه وسلم -.

(117)

والدليل على أنهم كسبوا بذلك قوله جلَّ وعزَّ: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79). ثم أعلم اللَّه عزَّ وجلَّ أن مثل ما ينفقونه في تظاهرهم على النبي - صلى الله عليه وسلم - في الضرر لهم: (كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117) والصر البرد الشديد. (أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ) - أي زرع قوم ظلموا أنفسهم. فعاقبهم اللَّه بإذهاب زرعهم - فأهلكته. فأعلم أن ضرر نفقتهم عليهم كضرر هذه الريح في هذا الزرع وقيل إنَّه يعني به أهل مكة حين تعاونوا وأنفقوا الأموال على التظاهر على النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال بعضهم: (مثل ما ينفقون)، أي مثل أعمالهم في شِرْكِهِم كمثل هذه الريح. وجعل فيها صر أي صوت، وهذا يخرج في اللغة. وإنما جعل فيها صوتاً لأنه جعل فيها ناراً كأنَّها نار أحرقت الزرع - فالصر على هذا القول صوت لهيب النار، وهذا كله غير مُمْتَنع. وجملته أن ما أنفق في التظاهر على عداوة الدِّين مضر مهلك أهله في العاجل والأجل. * * * قوله جلَّ وعزَّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) " البطانة " الدخلاءِ الذين يستبطنون ويتبسط إليهم، يقال فلان بِطانة لفلان أي مداخل له ومُؤانس، فالمعنى أن المؤمنين أمِروا ألا يداخلوا المنافقين ولا إليهود، وذلك أنهم كانوا لا يبقون غاية في التلبيس على

(119)

المؤمنين. فأمروا بألا يداخلوهم لئلا يفسدوا عليهم دينهم. وأخبر اللَّهُ المؤْمنين بأنهم لا يألونهم خبالا، أي لا يُبْقُون غاية في إلقائهم فيما يضرهم. وأصل الخبال في اللغة ذَهاب الشيءِ قال الشاعر:. ابني سليمي لستم ليد. . . إلايدا مخبولة العضد أي قد ذهبت عضدها. (وَدُّوا مَا عَنِتمْ). أي ودوا عَنَتْكُمْ، ومعنى العنت إدخال المشقة على الإنسان، يقال فلان متعنت فلاناً، أي يقصد إدخال المشقة والأذى عليه، ويقال قد عِنتَ العظم يَعْنَتُ عَنَتَا إذا أصابه شيء بعد الجبر، وأصل هذا كله مرق قولهم: (اكَمَة عُنُوت) إذا كانْت طويلة شاقة المسلك، فتأويل أعنتُّ فلاناً، حَمَلْتُه على المشَقًةِ. * * * قوله عزَّ وجلَّ: (هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119) خطاب للمؤمنين، أعلموا فيه أن منافقي أهل الكتاب لا يحبونهم وأنهم هم يصحبون هؤُلاءِ المنافقين بالبر والنصيحة التي يفعلها المحب وأن المنافقين على ضد ذلك. فأعلم اللَّه جلَّ وعزَّ المؤْمنين ما يُسِرُّه المنافقون وهذا من آيات النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال بعض التحويين: العرب إذا جاءَت إلى اسم مكنى قد وصف (بهذا) جعلته بين (ها) و (ذا)، فيقول القائل أين أنت فيقول المجيب: هأنذا،

قال وذلك إذا أرادوا جهة التقريب، قال فإنما فعلوا ذلك ليفصلوا بين التقريب وغيره. ومعنى التقريب عنده أنك لا تقصد الخبر عن هذا الاسم فتقول هذا زيد. والقول في هذا عندنا أن الاستعمال في المضمر أكثر فقط، أعني أن يفصل بين " ها " و " ذا" لأن التنبيه أنْ يَليَ المضْمَرَ أبْيَنُ. فإن قال قائل: ها زيد ذا، وهذا زيد، جاز، لا اختلاَفَ بين الناس في ذلك، وهذا عندنا على ضربين: - جائز أن يكون " أولا " في معنى الذين كأنه قيل: هأنتم الذين تحبونهم ولا يحبونكم، وجائز أن يكون (تحبونهم) منصوبة على الحال و (أنتم) ابتداء، و (أولاءِ) الخبر. المعنى: انظروا إلى أنفسكم محبين لهم. نهوا في حال محبتهم إياهم. ولم يشرحوا لم كسرت (أولاءِ)، وألاءِ أصلها السكون لأنها للإشارة. ولكن الهمزة كسرت لسكونها وسكون الألف (وتؤمنون) عطف على تحبون. ومعنى (وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ). أي تصدقون بكتب الله كلها. - (وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا). أي نافقوكم. (وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ). فأنبأ اللَّه عزَّ وجلَّ - بنفقاتهم ههنا كما أنبأ به في قوله تعالى:

(120)

(وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ). ويقال عَضَضْتُ أعَضُّ، ويقال رجل عِضٌِ إذا كان ملازم خصم، أي يُصِر على المخاصمة، والفعل منه عَضَضْتُ. والعُضُّ علف الأمصار الذي. تعلفه الإبل نحو النوى والقت والكسب، وإنما قيل له عض لأنه أكثر لبثاً في المال وأبقى شحماً. والأنامل واحدها أنمُلَة وهي أطراف الأصابع ولم يأت على هذا المثال بغير هاء ما يعني غَيْرَ الواحد إلا قولهم قد بلغ أشدهُ. أما الجمع فكثير فيه أو نحو أكعب وأفلس وأيمن وأشمل. * * * قوله عزَّ وجلَّ -: (إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120) أي إِن تظفروا وَتُخْصِبُوا ساءَهم ذلك. (وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا). أي: إِن نالكم ضد ذلك فرحوا، (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا). ضمن اللَّه - جلَّ وعزَّ - للمؤمنيِن النصر إِن صبروا وأعلمهم أن عدوانهم وكيدهم غير ضار لهم. و (لَا يَضُرُّكُمْ) الأجود فيه الضم لالتقاءِ الساكنين الأصل لا يضرركم، ولكن كثيراً من القراءِ والعرب يدغم في موضع الجزم. وأهل الحجاز يظهرون التضعيف وهذه الآية جاءَت فيها اللغتان جميعاً - فقوله تعالى: (إِنْ تَمْسَسْكُمْ) على لغة أهل الحجاز، وقوله: (لَا يَضُرُّكُمْ)

(121)

على لغة غيرهم من العرب وكلا الوجهين حسن، ويجوز (لَا يَضُرُّكُمْ) (ولا يُضِركُمْ) فمن فتح فلأن الفتح خفيف مستعمل فى التقاءِ السَّاكنين في التضعيف، ومن كسر فعلى أصل التقاءِ السَّاكنين، وقد شرحنا هذا فيما سلف من الكتاب. وقرئت: لا يَضِرْكُمْ من الضيْرِ، والضيْرُ والضُّر جميعاً بمعنى واحد. وكذلك الضر - وقد جاءَ في القرآن: (قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50). وَجَاءَ: (وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ). وقدْ ذكرَ الفراءُ أن الكسائي سمع بعض أهل العالية يقول: (ما تضُورُّنِي) فلو قرئت على هذا لا يضُركُم جاز. وهذا غير جائز ولا يقرأ حرف من كتاب الله مخالف فيه الإجماع على قول رجل من أهل العالية. * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) روى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى في منامه كَانَ عليه درْعاً حصينةً. فأولها المدينةَ، فأمر - صلى الله عليه وسلم - المسلمين - حين أقبل إليهم المشركون بالإقامة بها إلى أن يوافيهم المشركون فتكون الحرب بها فَذَلك تَبْوئُةُ المقاعدَ للقتال. قال بعضهم معناه مَواطِنَ للقتال والمعنى واحد. والعامل في " إِذْ " معنى اذكر - المعنى اذكر إذ غدوت. والعامل في (إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122) (تُبَوِّئُ) المعنى كانت التبوئة في ذلك الوقت. ومعنى (تَفَشلا) تَجْبُنَا وَتَخورا. (وَاللَّهَ وليُّهُمَا): أي همت بذلك واللَّه ناصرهما.

(123)

وقوله جلَّ وعزَّ: (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) مَعْنى (أَذِلَّةٌ). عَدَدُكُمْ قليل، وكان المسلمون في تلك الحرب ثَلاثمَائة وبضعة عشر وكانوا في يوم أحد سَبْعَمائةٍ، والكفارُ في يوم أحُدٍ ثلاثة آلاف. وكانوا في يوم حنين اثني عشر ألفاً فأعلم اللَّه - جلَّ وعزَّ - أنهم حينما ألزموا الطاعة أنه ينصرهم، وهم قليل وعدوهم أضعافُهم، وفي يوم أحد نزل بهم ما نزل لمخالفة أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - في أن جاوزوا ما أُمِرُوا به، فجعل الله ذلك لهم عُقُوبة لئلا يَجْبُنُوا وجاءَ في بعض الخبر: " الفِرارُ من الزحف كُفر). ومعناه عندي واللَّه أعلم - من فعْل الكفار، لَا أنه يخرجُ الإنسانَ من الإيمان إلى الكفر. وقد عفا الله فيه، فقال: (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ). وأذلَّة جميع ذَليل، والأصل في فعيل إِذا كان صفة أن يجمع على فُعلاءِ، نحو ظريف وظُرفَاء، وشريك وشُرَكَاء، ولكن فعلاءَ أجتنب في التضعيف. لو قيل جللاءَ وقللاءِ في جليل وقليل، لاجتمع حرفان من جنس واحد، فعدل به إِلَى أفْعِلة من جمع الأسماءِ في فعيل، نحو جريب وأجْربة. وقفيز وأقْفزة. * * * (بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا).

(126)

أي من وجههم، وأ هذا " نعت نفورهم، و (يُمْدِدْكُمْ) جواب الجزاءِ يقال أمددت الجيش بعدد، وأمَد الجرح إذا صارت فيه المِدَّة، يُمِد فهو مُمِدٌّ، ومدَّ النهر ومدَّه نهر آخر. * * * وقوله جلَّ وعزَّْ: (مُسَوِّمِينَ) قرئت (مُسَوِّمِينَ) و (مُسَوَّمِينَ) ومعنى (مُسَوِّمِينَ): أخذ من السَّومَة، وهي العلامة، كانوا يعلمون بصوفة أو بعمامة أو مَا أشبه ذَلك. و (مُسَوَّمِينَ): معلَّمِينَ. وجائز أن يكون مُسَوّمينَ: قد سَوَّمُوا خيلُهم وجعلوهَا سائمة. * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) وما جعل ذكر المدد إلا بشرى لكم ولتمكنوا في حربكم * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127) أي لينقل قطعة منهم. (أوْ يَكْبِتَهُمْ). أي يهزمهم، قال أبو عبيدة: يقال كَبَتِهُ اللَّه لوجهه أي صرعه الله لوجهه، والخائب الذي لم ينل مَا أمَّل. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128) أنزل عليه ذلك - صلى الله عليه وسلم - لأنه في يوم أحُدٍ شُجَّ وكُسِرتْ رباعيته فقال وهو يمسح الدم عن وجهه: كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم، فأعلمه اللَّه جلَّ وعزَّ - أن فلاحَهُم ليس إليْه وأنه ليس له من الأمر شيء

(130)

إلا أن يبلغ الرسالة ويجاهد حتى يظهر الدين، وأن ثوابه على اللَّه - جلَّ وعزَّ - في ذلك. ونصب (أَوْ يَتُوبَ) على ضربين: جائز أن يكون عطفاً على قوله: ليقطع طرفاً من الذين كفروا أو يكبتهم أو يتوب عليهم أو يعذبهم. والوجه الثاني على النصب بأو إذْ كانت في معنى إِلا أن. فالمعنى: ليس لك من الأمر شيء أي: ليس يؤمنون إلا أن يتوب الله عليهم، أو حتى يتوب الله عليهم. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) (الربا) قليلهُ وكثيرهُ قد حُرّم في قوله - جلَّ وعزَّ - (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا). وإِنما كان هذا لأن قوماً من أهل الطائف كانوا يُربون. فإذا بلغ الأجل زادوا فيه وضاعفوا الربا. وقال قوم معناه: لا تُضَاعِفُوا أموَالَكُمْ بالربَا. ومعنى (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ). أي لتكونوا على رجاءِ الفلاح، والمفلح هو الذيْ أدرك ما أمَّل من الخير، واشتقاقه من فَلَحَ الحديد إِذا شقه، فإِنما هو مبالغة في إدراك ما يوصل. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131) أي اتَقوا أن تُحلُّوا ما حرم اللَّه، فإِن من أحلَّ شيئاً مما حرم الله فهو كافر بإِجماع. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ). أي لمن اتَّقى المحارم، وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّ بيْن مصراعي بَاب

(134)

الجنة مسيرةَ أربعين عاماً، وليأتين عليه يومٌ يزدحمُ عليه الناس؛ كما تزدحم الإبل وردت خِمصاً. ظِماءً. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) أي أعدت للذين جرى ذكرهم وللذين يكظمون الغيظ، ويروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " ما من جرْعةٍ يتجرعها الإنسان أعظمُ أجراً من جرعةِ غيظٍ في اللَّه ". يُقال كَظَمْتُ الغيظ أكظمهُ كظْماً إذا أمْسكْتُ على ما في نفسي منه. ويقال كظم البعير على جرته إذا ردها في حلقه، وكظم البعير والناقة كُظوماً إذَا لمْ يجتر. قال الراعي: فأفضْن بعد كُظُومهن بجرة. . . من ذي الأباطِح أذرَعين حقيلًا. والْكِظَامة سير يشد بِهِ الوَتَر على سِيَة القوْس العربيةِ، والكظمية. والكظَائمُ حفائر تحفَر من بئْر إلى بِئر ليجري الماءُ من بعضها إلى بعض وكاظمة موضع بالبادية. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ). الرفع محمول على المعنى، والمعنى وأي أحدٍ يغْفِرُ الذنُوبَ؛ ما يغفرها إلا اللَّه. (وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا)، الإصرار الإقامة على الشيءِ. * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137)

(139)

معنى قد خلت قد مضت، ومعنى سُنَن أهلُ سنن أي أهل طَرائق. والسُّنَّةُ الطَّريقَةُ، وقول الناس: فلان على السُّنَّة معناه على الطريقة، ولم يحتاجوا " أن يقولوا على السُّنَّة المستقيمة لأنَّ في الكلام دليلاً على ذلك، وهذا كقولنا " مؤمن " معناه مصدق وفي الكلام دليل على أنه مؤْمن بأمور الله - عزَّ وجلَّ - التي أمر بالإيمان بها، والمعنى إنكم إذا سِرْتُمْ في أسفاركم عرفتم أخبار قوم اهلكوا بتكذيبهم. * * * ْوقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) أي لا تَضْعُفوا، يُقال وَهَنَ يَهِن إذا ضَعُفَْ فَضمنَ اللَّه عزَّ وجلَّ - النصْر بقوله: (وأنْتُمُ الأعْلَوْنَ). * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ) و (قُرْحٌ) جميعاً يقرأان، وهما عند أهَل اللغة بمعنى واحد ومعناه الجراح وألمُها يُقَالُ قَدْ قَرِحَ يَقْرَحُ قَرْحاً، وأصابه قَرْحٌ، قال بعضهم كأن القُرح الجُرْح، وكأن القَرْح الألم. (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ). أي نجعل الدولة في وقت من الأوقات للكَافرينَ على المؤْمنين إذا عصَوْا فيما يؤمَرُون به، من محَاربة الكفار، فأما إذا أطاعوا فهم مَنْصُورونَ أبداً، كما قال اللَّه - عزَّ وجلَّ - (أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22). ومعنى (وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ). أي ليعلم اللَّه من يُقيم على الإيمَانِ بعد أن تناله الغلبة، أي يجعل لهم الدولَة في وقت من الأوقات ليعلمَ المؤْمنين.

(141)

وتأويل (وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا) - واللَّه عزَّ وجلَّ - قد علمهم قبل ذلك: معناه يعلم ذلك واقعاً منهم - كما قال عز وجل - (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ). أي ليقع ما علمناه غيبأ مشاهدة للناس، ويقع - منكم. وإنما تقع المجازاة على ما علمه اللَّه من الخلق وقوعاً على ما لم يقع وما لم يعلموه - قال الله عزَّ وجلَّ: (وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ). وقال: (إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) المعنى جعل اللَّه الأيام مداولة بين الناس ليمحص المؤْمنين بما يقع عليهم من قتلَ في حربهم، أو ألم أو ذهابَ مال، ويمحق الكافرين: ليستأصلهم. وجائز أن يكون يمحقهم يحبط أعمالهم، وتأويل المحص في اللغة التنْقِيَةُ والتخليص. قال محمد بن يزيد - رحمه اللَّه - يقال مَحَصَ الحبل مَحْصاً، إذا ذَهَبَ منه الوَبرُ حتى يَمْلَصَ وحبل مَحِصٌ أو مَلِصٌ بمعنى واحد. قال وتأويل قول الناس: مَحِّصْ عَنا ذُنُوبَنَا: أي أذهِب عنا ما تعلق بنا من الذنوب. وأخبرنا محمد بن يزيد أن حُنَيْفَ الحَنَاتِمِ ورَدَ ماءً يُقال له (طُويلِع) فقال: " واللَّه إنك لَمَحِصُ الرشا بعيد المستقي مظل على الأعداء ولو سألتني أعناق الإبل لأعطيتك " أي لو تقطعت أعناق الِإبل إليك لقصدتك. ومعنى مَحص الرشَاءِ أي هو طين خر، فالرشا تَتَمَلصُ من اليد. فمعنى يمحِّص

(142)

الذين آمنوا: يخلِّصهم من الذنوب. وقال محمد بن يزيد - رحمه اللَّه - أيضاً وغيره من أهل اللغة مَحَصَ الظبي يَمْحَص إذا عَدا عدْواً شَديداً، وقال هو وحده: تأويله أنه لا يخْلط حدتَه في العَدو وَنْياً ولا فُتُوراً. وقال غيره مَحَص الظبْيُ يَمحص ومحِصَ بمعنى واحد: إذا عَدا عدواً يكادُ أن يَنْفد فيه من شدته. ويقال: ويُستَحَب من الفَرَس أن تُمحَّصَ قوائمه أي تخلص من الرَّهَلِ. قال أبو إسحاق: وقرأتُ عليه أيضاً عن الخليل: المَحصُ التخليص يقال مَحَصت الشيءَ أمْحَصه محْصاً إذا خلصته وقال بعض أهل اللغة: (وليمحص الله الذين آمنوا) أي وليمحص اللَّه ذنوب الذين آمنوا - ولم يُخْبَرُوا بحقيقة المحص ما هو. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وقرأها الحسن: (ويعلمِ الصَّابِرِينَ) بالكسر على العطف ومن، قرأ (ويعلمَ الصابرين) فعلى النصب بالواو. المعنى ولما يقع العلم بالجهاد والعلم بصبر الصابرين، ولما يعلم اللَّه ذلك واقعاً منهم. لأنه - جلَّ وعزَّ -يعلمه غيباً، وإنما يجازيهم على عَملهم. وتأويل (لَمَّا) أنَّها جواب لقَول القَائل قد فَعل فلان فَجوابه لمَّا يفْعل وإذَا قال فَعَل فجوابه لَم يفعل، وإذَا قال: لقد فجوابه مَا

(143)

يفعل، كأنه قال " واللَّه هو يفْعل، يريد ما يُسْتقْبل فجوابه لَنْ يفعل ولا يفعل. هذا مذهب النحويين. * * * وقوله عزَّ وجل: (وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143) أي كنتم تمنون القتال، هو سبب الموت، والمعنى ولقد كنتم تمنون سبب الموت، وذلك أنهم كانوا يتمنونَ أنْ يُطْلَقَ لهم القتال - قال الله عزَّ وجلَّ: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً). وقوله عزَّ " جل: (فَقَدْ رأيْتمُوهُ وأنتُمُ تَنظُرونَ) قيل فيه غير قول. قال الأخفش معناه التوكيد. وقال بعضهم وأنتم تنظرون إلى محمد - صلى الله عليه وسلم -. والمعنى - واللَّه أعلم - فقد رأيتموه وأنتم بصراءُ كما تقول: قد رأيت كذا وكذا، وليس في عينيك عَمَة - أي قد رأيته رؤية حقيقية. وهو راجع إلى معنى التوكيد. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) أي قد مضت من قبله الرسل، المعنى إنَّه يمُوت كما ماتَت الرسُل قبله. (أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ). أي ارتَددْتم عن دينكم - وروي أن بعض من كان في يوم أحُد ارتدَّ،

(145)

وبعضهم مضى مسافة ثلاثة أيام، فأعلم اللَّه جلَّ وعزَّ أن الرسُلَ ليْست باقية في أممها أبداً وأنَّه يجب التمسك بما أتَتْ به، وإن فُقِدَ الرسُولُ بموت أو قتل. وألفْ الاستفهام دخلت على حرف الشرط ومعناها - الدخول على الجزاءِ، المعنى أتنْقلبون على أعقابكم إن مات محمد أو قُتل، لأن الشرط والجزاءَ معلق أحدهما بالآخر فدخلت ألف الاستفهام على الشرط وأنبأت عن معنى الدخول على الجزاءِ، كما أنك إذا قلت هل زيد قائم فإنما تسْتفهم عن قياعه لا من هو، وكذلك قولك ما زيد قائماً إنما نفيت القيام ولم تنف زيداً لكنك أدخلْت " ما " على زيد لتعلُم من الذي نُفى عنه القيامُ. وكذلك قوله عزَّ وجلَّ (أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ). * * * ْوقوله عزَّ وجلَّ: (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145) المعنى ما كانت نفس لتموت إلا بإذن اللَّه، وقوله عزَّ وجلَّ: (كِتَابًا مُؤَجَّلًا) على التوكيد، المعنى كتب اللَّه ذلك كتاباً مؤَجلاً أي كتاباً ذَا أجَل). والأجلُ هو الوقْتٌ الممعلوم، ومثل هذا التوكيد قوله - عزَّ وجلَّ: (كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ) لأنه لما قال: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ) دل ذلك على أننة مفروض عليهم فكان قوله: (كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ) توكيداً. وكذلك قوله عز وجلَّ: (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) لأنه لما قال: (وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ).

(146)

دل ذلك على أنه خَلَق اللَّه وصُنعُه. فقال: (صُنْعَ اللَّهِ) وهذا في القرآن في غير موضع - وهذا مجراه عند جميع النحويين. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا). أي من كان إنما يقصد بعمله الدنيا أعطي منها، وكل نعمة فيها العبد فهي تفضل من اللَّه إعطاء منه. ومن كان قصده بعمله الآخرة آتاه اللَّه منها. وليس في هذا دليل أنه يحرمه خير الدنيا، لأنه لم يقل ومن يرد ثواب الآخرة لم نؤته إلا منها، واللَّه عزَّ وجلَّ ذو الفضل العظيم. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) تفسيرها " كم من نبي "، وفيها لغتان جيدتان بالغتان يقرأ بهما جميعاً. يقرأ. (وَكَأَيِّنْ) بتشديد (وكائن) على وزن فاعل. وأكثر ما جاءَ الشعر على هذه اللغة قال جرير: وكائن بالأباطح من صديق. . . يراني لو أصَبْتُ هو المصابا وقال الشاعر أيضاً:

وكائن رَدَدْنا عنكمو من مدجج. . . يجيء أمام الألف يُردَى مقنعا ومثل التشديد قوله: كَائن في المعاشر من أناس. . . أخوهم فوقَهم وهُمُ كرام أعلم اللَّه جلَّ وعزَّ أن كثيراً من الأنبياءِ قاتَل معه جماعة فلم يهنوا - فقال الله عزَّ وجلَّ: (رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا). وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) معنى (فَمَا وَهَنُوا) فما فَتَروا، (وما ضعفُوا): وما جَبُنُوا عن قتال عدوهم. ومعنى (ما استكانوا): ما خضعوا لعدوهم وتقرأ - وهو الأكثر (رِبِّيُّونَ) بكسر الراءِ، وبعضهم يقرأ (رُبِّيُّونَ) - بضَم الراءِ. وقيل في تفسير (رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ) أنهم الجماعات الكثيرةُ. وقال بعضُهم الربوة عشَرةُ آلاف وقيل الربيون العلماءُ الأتقياءُ: الصُّبُر على ما يُصيبُهُم في الله - عزَّ وجلَّ - وكلا القولين حَسن جميل، وتقرأ: (قُتِلَ معه)، (وقَاتَل معه). فمن قرا قاتل المعنى إنهم قاتلوا وما وهنوا في قتالهم، ومن قرأ قُتِل، فالأجود أن يكون (قُتِلَ) للنبي عليه السلام المعنى. . وكأين من نبي قتل ومعه ربيون فما وهنوا بعد قتله، لأن هولاءِ الذين وهنوا كانوا توهموا أَن النبي - صلى الله عليه وسلم - قتل، فأعلم الله - عزَّ وجلَّ - أن الربانيين بعد قتل نبيهم ما وهنوا. وجائز أن يكون (قُتِلَ) للربانيين، ويكون (فما وهنوا) أي ما وهن من بقي منهم.

(147)

وقوله جلَّ وعزَّ: (وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) تقرأ (قَوْلَهُمْ) بالنصب ويكون الاسم: (إلا أن قالوا) فيكون المعنى ما كان قَوْلهمْ إلا استغفارُهم، أي قولهم اغفر لنا - ومن قرأها بالرفع جعل خبر كان ما بعد إلا، والأكثر في الكلام أن يكون الاسمُ هو ما بعد إلا - قال اللَّه عزَّ وجل (فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا) (مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا). ومعنى: (وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا) أي ثبتنا على دينك. وإذا ثَبتهُمْ على دينهم ثبتوا في حربهم - قال اللَّه عزَّ وجلَّ - (فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا) المعنى تزلَّ عن الدين. * * * وقوله عز وجل: (فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148) أي ظفَّرهم وغَنمهُم. (وَحُسْنُ ثَوَابِ الآخِرَةِ). المغفرة وما أعد لهم من النعيم الدائم. * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150) أي هو وليكم، وإذَا كان وليهم فهو ناصرهم (فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56)). * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151) يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " نُصرت بالرعْبِ ". وقال: "يُرْعَب مني عَدوي من مسيرةِ شهر ". وقال اللَّه عزَّ وجلَّ: (في سورة الحشر: (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ).

(152)

وقوله عزَّ وجلَّ: (بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا). أي أشركوا به مَا لم يُنَزل به حُجةً، والسلطان في اللغة الحجة ومثله (مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29). أي ذهبت عني حجيته. * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) (إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ). معناه تستأصلونهم قتلا، يقال حسهم القائد يحُسهم حسًّا إذَا قتلهم. ويقال هل حَسَسْتَ كذا وكذا أي هل رَأيتَه أو علمته. ويقال ما حَسَسْتَ فلاناً، وهل حَسَسْتَ له - والكسر أكثر - أي ما رفُقْت عليه ولا رحمته ويقال جيءَ به من حِسَّك وبَسَّك، أي من حيث ما كان ولم يكن، كذلك لفظ الأصمعي. وتأويله جيءَ به من حيث تدركه حاسَّة - من حواسِّك، أو يدركه تصَرف من تَصرفك، ومعنى. (بِإِذْنِهِ) بعلمه. * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (حتى إذَا فَشِلْتُم). أي جَبُنتم عن عدوكم، (وتنازعتم) اختلَفْتم (مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ) لأنهم أعطوا النصر فخالفوا فيما قيل لهم في حربهم فعوقبوا بأن ديل منهم ". * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (مِنكمْ مَنْ يُريدُ الدُّنْيَا). أي منكم من قصده الغَنيمة في حربه (وَمنكُم مَنْ يُريدُ الآخِرَةَ). أي يقصد بحربه إلى ما عند اللَّه. * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153) (تُصْعِدُونَ) و (تَصْعَدون) جميعاً، قد قريءَ بهما، فمن قال (تُصْعِدُونَ) فهو لكل من

(154)

ابتدأ مسيراً من مكان فقد أصعد، والصعود إنما يكون من أسفل إلى فوق. ومن قرأ (تَصْعَدون) فالمعنى إذ تَصْعدون في الجبل ولا تَلْوُونَ على أحَدِ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ.: (فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ)، أي أثابكم بأن غممتم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نَالكُم غَمٌّ - بما عوقبتم به للمخَالفَة وقال بعضهم (غَمًّا بِغَمٍّ) إشراف خالد بن الوليد عليهم بعد ما نالهم. * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ) من غنيمة. (وَلَا مَا أَصَابَكُمْ). أي ليكون غمكم بأن خالفتم النبي فقط. * * * وقوله جلَّ وعز: (ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154) (ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا). أي أعقبكم بما نالكم من الرُّعب أن أمنَكم أمْناً تنامون معه، لأن الشديدَ الخوفِ لا يكادُ ينَامُ. و (أمنَةً) اسم تقول أمن الرجل أمْناً وَأمَنَةً، إذا لم ينله خوف. و (نُعَاسًا): منصوب على البدل من (أمَنَةً)، ويقرأ (يغشى) و (تغشى طائفة منكم) فمن قرأ (يغشى) - بالياء - جعله للنعاس ومن قرأ (تغشى) بالتاء جعله للأمنة. والأمنة تَؤدي معنى النعاس. وإن قرئَ يغشى جْاز - وهذه الطائفة هم المؤمنون. (وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ) وهم المُنَافقُونَ. * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ)، أي يظن المنافقون أن أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - مضمحل. (ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ): أي هم على جاهليتهم في ظنهم هذا والقراءَة. (وطائفة قد أهمتهم أنفسهم) - قال سيبويه: المعنى إذ طائفة قد أهمتهم وهذه واو

الحال، ولو قُرئت: (وطائفة قد أهمتهم أنفسهم)، على إضمار فعل (أهم) الذي ظِهر تفسيره كان جائزاً. المعنى وأهمت طائفة أنفسهم، وجائز أن يرتفع على أن يكون الخبر - يظنون ويكون قد أهمتهم نعت طائفة، المعنى وطائفة تهمهم أنفسهم يظنون، أي طائفة يظنون باللَّهِ غير الحق. وقوله عزَّ وجلَّ: (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ). تقرأ (بيُوتكم) بضم الباءَ وكسرها، وروى أبو بكر بن عياش عن عاصم بكسر الباءِ، قال أبو إسحاق: وقرأناها بإقراء أبي عمرو عن عاصم (بُيوتكم) بضم الباء، والضم الأكثر الأجود - والذين كسروا (بِيُوت) كسروها لمجيء الياءِ بعد الباء و" فِعول " ليس بأصل في الكلام، ولا من أمثلة الجمع. فالاختيار (بُيوت) مثل قلب وقُلوب وفَلْس وفُلوس. * * * وقوله عزَّ وجلَّ (لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ). معنى (برزوا) صاروا إلى براز، وهو المكان المنكشف أي لأوصلتهم الأسباب التي عنها يكون القتل إلى مضاجعهم. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَليَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكم). أي يختبره بأعمالكم لأنه علمه غيباً فيعلمه شهادة لأن المجازاة تقع على ما علم مشاهدة، أعني على ما وقع من عامليه، لا على ما هو معلوم منهم. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ). فمن نصب فعلي توكيد (الأمر) ومن رفع فعلي الابتداء - و (للَّه) الخبر ومعنى (الأمر كله لله) أي النصر وما يلقي من الرعب في القلوب للَّهِ. أي كل ذلك لله.

(155)

وقوله جلَّ وعزَّ: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155) هذا خطاب للمؤْمنين خاصة. (إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا). أي لم يَتَولوا في قتالهم على جهة المعاندة، ولا على الفِرار من الزحف رغبة في الدنيا خاصة، وإنما أذكرهم الشيطان خطايا كانت لهم فكرهوا لقاءَ الله. إلا على حال يرضونها، فلذلك عفا عنهم وإلا فأمر الفِرار والتولي في الجهاد إذا كانت العدة أقل من المثلين، أو كانت العدة مثلين، فالفرار أمر عظيم. قال اللَّه عزَّ وجلَّ: (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ) وهذا يدل أن أمر الوعيد لأهل الصلاة أمر ثابت، وأن التولي في الزحف من أعظم الكبائر. - * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) (أَوْ كَانُوا غُزًّى). القراءَة وما ثبت في المصحف على القصر وفُعَّل جمع فاعل نحو

(159)

ضارب، وضُرَّب، وشاهد وشُهدُ، ويقع على فُعَّال نحو حارب وحُراب. وضارب وضُرَّاب. وغُزَّاء. يجوز إلا أنه لا يكون في القراءَة لأنه ممدود. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ) أي: ليجعل ظنهم أنهم لو لم يحضروا - وإذا لم يحضروا الحرب اندفع عنهم ما كتب عليهم. فحسرتهم فيما ينالهم أشد. (وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ). أي ليس الإنسان يمنعه تحرزه من إتيان أجله على ما سبق في علم الله. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ). " ما " بإجماع النحويين ههنا صلة لا تمنع الباءَ من عملها فيما عملت. المعنى فبرحمة من اللَّه لنت لهم. إلا أن " ما " قد أحدثَتْ بدخُولها توكيد المعنى، ولو قرئت فبما رحمة من اللَّه جاز، المعنى فبما هو رحمة كما أجازوِا. . . (مثلاً مَا بَعُوضَةٌ) ولا تقرأنَّ بها، فإن القراءَة سنة ولا يَجُوز أنْ بقْرأ قارئٌ بِمَا لم يقرأ به الصحابة أو التابعون أو من كانَ من قُرَّاءِ الأمصار المشهورين في القراءَة. والمعنى أن ليَّنك لهم مما يُوجب دخولهم في الدين لأنك تأتيهم بالحجج والبراهين مع لين وخلق عظيم. (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ).

(161)

الفَط: الغليظُ الجانب السيئ الخُلُقُ، يقال فظَظْتَ تَفِظُّ فظاظة. وفظَظاً، إلا أن فظاظة أكْثَرُ لثقل التضعيف، وما كان من الأسماءِ على (فَعَل) في المضاعف فغير مدغم نحو المدَدُ والشرَر، وما كان على (فَعْل) فمدغم على كل حال نحو رجل صب، وأصله صَببٌ وكذلك فظ وأصله فظَظ، ومثله من غير المضاعف. قد فرَقْتَ تفرق، فرَقاً، وأنتَ فَرِق، " وإذا اضطر شاعر رد فَعْلاً إلى أصله في المضاعف قال الشاعر: مهلا أعاذل قد جربت من خلقي. . . أني أجود لأقوام وقد ضَنِنُوا والفظ ماء الكرش، والفرث وِسمي فظاً لغلظ مشربه. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَشاوِرْهُمْ فِي الأمْر). أي شاورهم فيما لم يكن عندك فيه وحي، فأما مَا فيه أمر من الله جلَّ وعزِّ ووحي فاشتراك الأراءِ فيه ساقط. وإنما أراد اللَّه عزَّ وجلَّ - بذلك السنة في المشاورة، وأن يكرم أصحابَه بمشاورته إياهم، ثم أمر بعد الإجماع على الرأي بالتوكل على اللَّه - عزَّ وجلَّ - قال: (فَإذَا عَزَمْتَ فَتَوكل عَلَى اللَّهِ). أي لَا تَظن أنك تنال مَنَالاً تحبه إلَّا باللَّهِ جلَّ وعزَّ. * * * قوله عزَّ وجلَّ: (وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161) (وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ) و (أن يُغَل) قرئتا جميعاً. فمن قرأ (أَنْ يَغُلَّ) فالمعنى: وما كان لنبي أن يخونَ أمَّتَه وتفسير ذلك أن

النبي - صلى الله عليه وسلم - جمع الغنائم في غزاة، فجاءه جماعة من المسلمين فقالوا: ألا تقْسم بيْننا غنائمنا فقال - صلى الله عليه وسلم - لو أن لكم عندي مثل أحُد ذهباً ما منعْتكم درهماً أترونني أغُلكم مغْنَمكمُ، ويروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: " ألاَ لا أعرفَنَّ رجُلاً يأتي يوم القِيامة ومعه شاة قد غَلَّهَا لها ثغاء، ألا لا أعرفنَّ رجلاً يأتي يوم القيامة ومعه بعيرٌ قد غلَّه له رُغَاء، ألا لا أعرفَنَّ رجلا يأتي يوم القيامة ومعه فرس قد غلَّه له حَمْحَمة ". ومنِ قرأ (أن يُغلَّ) فهو جائز على ضربين: أي ما كان لنبي أن يغُلَّه أصحابه، أي يخَوِّنُوه - وجاءَ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " لا يَحْبِسْ أحدكم خيطاً ولا مخيطاً ". وأجاز أهل اللغة أن يُغَل أن يُخَوَّنَ، ويقال: أغْلَلْتُ الجلد إذا سلخته فأبقيت فيه شيئاً من الشحم، وقد غل الرجل يَغُلُّ إذا خان لأنه أخذ شيئاً في خفاء، فكل ما كان من هذا الباب فهو راجع إلى هذا، من ذلك الغال وهو الوادي الذي ينبت الشجر وجمعه غُلَّان، ومن ذلك الغِل وهو الحقد، وتقول قد أغلَّت الضيْعَة فهي مُغِلَّة إذا أتَتْ بِشيء وأصلها باق - قال زهير -: فَتُغْلِلْ لكم ما لا تُغِل لأهلها. . . قرى بالعراق من قَفِيزٍ ودرهم والغلَالةُ: الثوبُ الذي يُلْبَسُ " تحت الثياب " والذي يلبس تحت الدرع - درع الحديد - غِلَالَة، وَتَغَلَّلْت بالغالية " وتغليت " إِنما هو جعلها في

أصول الشعر. والغل الماء الذي يجري في أصول الشجر. ومعنى (وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى). معنى (إذا) ههنا ينوب عما مضى من الزمان وما يستقبل جميعاً والأصل في (إذ) الدلالة على ما مضى، تَقولُ أتيتك إذْ قُمتَ وآتَيك إذا جئتني. ولم يقل ههنا " إذ ضربوا في الأرض " لأنه يريد شأنهم هذا أبداً، ومثل ذلك في الكلام: فلان إذَا حدث صدق، وإذا ضُرِبَ صبر. (فإذا) لِمَا يُستقبل، إلا أنه لم يحكم له بهذا المستقبل إلا بما خبر منه فيما مضى. * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (وَشَاوِرْهُمْ في الأمْرِ). يقال شاورت الرجل مْشاوَرةً وشَوارا، وما يكون من ذلك فاسمه المَشُورَة، وبعضهم يقول المشورة. يقال فلان حسن الصورة والمشورة أي حسن الهيئة واللباس وإنهُ لَشئر (صثن) وحسن الشارة والشوار متاعَ البيت. ومعنى شاورت فلان أظهرت في الرأي ما عندي وما عنده، وشُرْت الدابة أشوُرها إذا امتحنتها فعرفت هيئتها في سيرها. ويقال شُرْتُ العسلَ وأشَرْتُ العَسلَ إذا أخذته من مواضع النحل وعسل مشور. قال الأعشى. كأَنَّ القَرنْفُلَ والزَّنْجَبِيلَ. . . باتا بِفيها وأَرْياً مَشُورا والأرْيُ العسلُ، ويقال عسل مُشَار. قال الشاعر: وغناء يأذَنَ الشيخُ لَه. . . وحديث مثل مَاذِيٍّ مُشَار

(162)

قوله جلَّ وعزَّ:. (أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) يقرأ رضوان بكسر الراءِ، ورضوان بضم الراءِ، وقد رويتا جميعاً عن عاصم. (كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ). يروى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين أرمر المسلمين في أحد باتباعه، اتبعه المؤمنون وتخلف عنه جماعة من المنافقين، فأعلم الله جلَّ وعزَّ: - أن من اتبع النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد اتبع رضوان اللَّه، ومن تخلف عنه فقد باءَ بسخط من الله. ومعنى باءَ لذنبه: احتمله، وصار المذنب مأوى الذنب، ولذلك بوأت فلاناً منزلًا أي جعلته ذا منزل. * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163) أي المؤمنون ذوو درجة رفيعة، - والكافرون ذوو درجة عند اللَّه وضيعة ومعنى (هُمْ دَرَجَاتٌ): هم ذوو درجات، لأن الإنسان غير الدرجة كما تقول: الناس طبقات أي ذوو طبقات؛ وأنشد سيبويه. - أنْصب للمنية تعتريهم. . . رجال أم همُو درج السيول

(164)

أي همْ ذوو درج، ويجوز أم همو درجَ السيول على الظرف. * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164) بعث اللَّه محمداً - صلى الله عليه وسلم - رسولاً وهو رجل من الأميين لا يتلو كتاباً ولا يخطه بيمينه، وبعثه بين قوم يَخْبُرونه ويعْرفونه بالصَدق والأمانة وأنه لم يقرأ كتاباً ولا لُقِّنَه فتلا عليهم أقاصيص الأمم السالفة، والأنبياء الماضية لا يدفع أخباره كتاب من كتبِ مخالفته، فأَعلم اللَّه أنه مَنَّ على المؤمنين برساله من قد عُرِفَ أمرُه، فكان تناول الحجة والبرهان وقبول الأخبار والأقاصيص سهلا من قِبَلِه. وفي ذلك أعظم المنة. وقد جاءَ في التفسير إنَّه يراد رسول من العرب ولو كان القصد في ذلك - واللَّه أعلم - أن أمره إنما كانت فيه المنة أنه من العرب لكان العجم لا حجة عليهم فيه. ولكن الأمر - واللَّه أعلم - أن المنَّة فيه أنه قد خُبِرَ أمْرهُ وشَأنهُ وعَلِمَ صدقهُ، وأتى بالبراهين بعد أن قد علموا إنَّه كان واحداً منهم. * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165) هذه الواو واو النسق، دخلت عليها ألف الاستفهام فبقيت مفتوحة على هيئتها قبل دخولها، ومثل ذلك في الكلام قول القائل: تكلم فلان بكذا وكذا، قيقول قائل مجيباً له أوَ هو ممن يقول ذلك. وقيل في التفسير إن هذه المصيبة عنى بها ما نزل بهم يوم أُحُد،

(166)

و (أصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا) أصبتم في يوم أحد مثلها وأصبتم يوم بدر مثلها، فأصبتم مثلَيْ ما أصابكم. (قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا) أي من أين أصابنا هذا. (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) أي أصابكم بمعصيتكم النبي - صلى الله عليه وسلم - وما من قوم أطاعوا نبيهم في حربهم إلا نُصِرُوا، لأنهم إذا أطاعوا فهم حزب اللَّه، وحزب الله هم الغالبون. * * * وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (فَبِإذنَ اللَّهِ) أي ما أصابكمْ كان بعلم اللَّه. وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا) أي ليظهر إيمان المؤمنين بثبوتهم على ما نالهم، ويظهر نفاق المنافقين بفشلهم وقلة الصبر على ما ينزل بهم في ذات اللَّه. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) ْالقراءَة بالرفع (بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) ولو قرئت بل أحياءَ عند ربهم لجاز المعنى أحسَبْهُمْ أحْياءَ وقيل في هذا غير قول: قال بعضهم لا تحسبهم أمواتاً في دينهم بل هم أحياء في دينهم، كما قال اللَّه تعالى: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ). وقال بعضهم: لا تحسبهم كما يقول الكفار إنهم لا يبعثون بل يبعثون. (بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ). وقيل إن أرواحهم تسرح في الجنة وتلذ بنعيمها، فهم أحياء عند ربهم. قال بعضهم: أرواحهم في حواصل طير خضر تسرح في الجنة، ثم تصير إلى قناديل تحت العرش.

(170)

وقوله جل ثناؤُه: (وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) أي لم يلحقوا بهم في الفضل إلا أن لهم فضلاً عظيماً بتصديقهم وإيمانهم أن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. فَمَوضع. " أنْ " خفض: المعنى يستبشرون بأن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) (وأن اللَّهَ لا يُضِيعُ أجْرَ المؤْمِنينَ). (أنَّ) في موضع خفض. المعنى ويَسْتَبْشِرُونَ بأن اللَّه لا يضيع ويجوز (وَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) على معنى واللَّه لا يضيع أجر المؤمنين، وكذلك هي في قراءَة عبد اللَّه (واللَّه لا يُضيع). فهذا يقوى (وَإِنَّ) بالكسر. * * * وقوله - جلَّ وعزَّ -: (الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) أي من بعد ما أصابهم الجرح، ومن قرأ القُرح فمعناه ألم الجرح. (الذين) جائز أن يكون في موضع خفض على النعت للمؤمنين، والأحسن أنْ يكون في موضع رفع بالابتداءِ ويكون خبر الابتداء (للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم). * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) يقال في التفسير إن قائِل هذا نعيم بنُ مسعود الأشجعي بعثه أبو سفيان وأصْحابه يُثَبًطُونَ النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه عن لُقِيِّهِمْ، وكان بين المسلمين وبين المشركين في يوم أحد موعد للقاء ببدر الصغرى، فلم يلتفت المسلمون

(174)

إلى تخويف نعيم وعزموا على لقاء القوم وأجابوه بأن قالوا: (حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ). وتأويل حسبنا اللَّه أي: الذي يكفينا أمَرهُمْ اللَّهُ. * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (فَزَادَهُمْ إِيمَانًا). أي زادهم ذلك التخويف ثبوتاً في دينهم وإقامة على نصرة نبيهم. وصاروا إلى بدر الصغرى، وألقى اللَّه في قلوب المشركين الرعب فلم تغفلوهم. * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) المعنى فلم يخافوا ما خافوا، وصاروا إلى الموعد الذي وعدوا فيه. فانقلبوا بنعمة، أي انقلبوا مؤمنين قد هرب منهم عدوهم. وقيل في التفسير إنهم أقاموا ثلاثاً واشتروا أدْماً وزَبِيباً رَبِحُوا فيه. وكل ذلك جائز، إلا أن إنقلابهم بالنعمة هي نعمة الإيمان والنصر على عدوهم. * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175) أي ذلك التخويف الذي كان فعل الشيطان. أي هو قوله للمخوفين، يخوف أولياءَه. قال أهل العربية: معناه يخوفكم أولياءه، أي من أوليائه. والدليل على ذلك قوله جلَّ وعزَّ: (فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ). أي كنتم مصدقين فقد أعلمتكم أني أنصركم عليهم فقد سقط عنكم الخوف، وقال بعضهم يخوف أولياءه، أي إنما يخاف المنافقون، ومن لا حقيقة لإيمانه. (فَلَا تَخَافُوهُمْ)، أي. لا تخافوا المشركين. * * * وقوله - جلَّ وعزَّ -: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178)

قرئث (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ) وقد قرلْت (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّمَا نُمْلِي) معني (نُمْلِي لَهُمْ) نؤَخرهم - وهؤُلاء قوم أعلم اللَّه النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم لا يؤْمنون أبداً، وأن بقاءَهم يزيدهم كفراً وإثماً. وأما الإعراب - فقال أبو العباس محمد بن يزيد: إن من قرأ بالياء (يَحْسَبَنَّ) فتح أن، وكانت تنوب عن الاسم والخبر تقول حسبت أن زيدا منطلق، ويصح الكسر مع الياءِ - بفتح (ولا يحسبن الذين كفروا إنما نملي لهم) بكسر إنَّ. وهو جائز على قبحه، لأن الحسبان ليس بفعل حقيقي فهو يبطل عمله مع أن، كما يبطل مع اللام، تقول حسبت لَعَبْدُ اللَّه منطلق. وكذلك قد يجوز على بعد: حسبت أن عبد اللَّه منطِلق. ومن قرأ (ولا تحسبن الذين كفروا) لم يجز له، عند البصريين إلا كسر (إن) المعنى: لا تحسبن الذين كفروا، إملاؤُنا خير لهم ودخلت أن مؤَكدة. اذا فتحت (أن) صار المعنى ولا تحسبن الذين كفروا إملائا قال أبو إسحاق وهو عندي في هذا الموضع يجوز على البدل من الذين. المعنى لا نحسبن إملاءَنا للذين كفروا خيراً لهم وقد قرأ بها خلق كثير. ومثل هذه القراءَة من الشعر قول الشاعر: فما كان قيسٌ هُلْكُه هلك واحد. . . ولكنه بنيانُ قوم تهدَّما

(179)

جعل هلكه بدلاً من قيس، المعنى فما كان هلكُ - قيس هلك واحد. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179) يروى في التفسير أن الكفار قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - تخبرنا بأن الإنسان في النار حتى إذا صار مِنْ أهل مِلَّتك قلت إنه من أهل الجنة. فأَعلم اللَّه عزَّ وجلَّ - أن حُكمَ من كفر أن يقال له: إنه من أهل النار، ومن آمن فهو - ما آمن وأقام على إيمانه وأدَّى ما افتُرض عليه - من أهل الجنة، أعلم أن المؤمنين وهم (الطيِّب) مُمَيزَّون من الخبيث أي مخلَّصُون. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ). أي ما كان اللَّه ليعلمكم من " يصير منكم مؤمناً بعد كفره، لأن الغيب إنما يطلع عليه الرسُل لإقَامة البُرهَان، لأنهم رسل وأن ما أتَوا بِه من عند اللَّه، وقد قيل في التفسير: ما با لُنا نحن لا نكون أنبياء، فأَعلم اللَّه أن ذلك إليه، وأنه يختار لرسالاته منْ يشاءُ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180) هذا يعني به علماءَ إليهود الذين بخلوا بما آتاهم اللَّه مِنْ عِلْمِ نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - ومشاقته وعداوته وقد قيل إنهم الذين يبخلون بالمال فيمنعون الزكاة. قال أهل العربية: المعنى، لا يحسبن الذين يبخلون البخل هو خيراً لهم. ودل (يبخلون) على البخل. و (هو) ههنا فصل، وهو الذي يسميه الكوفيون العماد، وقد فسرناه إلا أنا أغفلنا فيه شَيئاً نذكره ههنا:

(181)

زعم سيبويه أن هو، وهما، وهم، وأنا، وأنت، ونحن - وهي، وسائر هذه الأشياءِ إنما تكون فصولاً مع الأفعال التي تختاج إلى اسم وخبر ولم يذكر سيبويه الفصل مع المبتدأ والخبر، ولو تأول متأول أن ذكره الفصل ههنا يدل على أنه جائز في المبتدأ أو الخبر كان ذلك غير ممتنع. قال أبو إسحاق والذي أرى أنا في هذه، (ولا يحسبن الذين يَبْخلون) بالياء. ويكون الاسم محذوفاً. وقد يجوز (ولا تَحسبن الذين يبخلون) على معنى ولا تحسبن بُخل الذين يبخلون، ولكن حذف البخل من ههنا فيه قبح، إلا أن حذفه مِن قولك: (ولا يحسبن الذين يبخلون) قد دل يبخلون فيه على البخل، كما تقول: من كذب كان شرًّا له، والقراءَة بالتاءِ عندي لا تمنع، فيكون مثل (وأسأل القرية) أي أهل القرية، فكذلك يكون معنى هذا: لَا تَحْسبَن بُخْل الباخلين خيراً لهم. وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ). أي اللَّه يغني أهلهما فيغنيان بما فيهما، ليس لأحد فيهما ملك فخوطب القوم بما يعقلون، لأنهم يجعلون ما رجع إلى الإنسان ميراثاً إذا كان ملكاً له. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) هؤلاءِ رؤَساء أهل الكتاب لما نَزَلَت (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً).

(183)

قالوا نرى أنَّ إله محمد يستَقْرض مِنا فنحن إذن أغنياء. وهو فقير، وقالوا هذا تَلْبيساً على ضَعَفَتهمْ، وهم يعلمون أن الله عزَّ وجلَّ: لا يستقرض من عَوَزٍ، ولكنه يبْلو الأخيار فهم يعلمون أن اللَّه سمَّى الإعطاءَ والصَّدَقة قَرضاً، يؤَكد به - أن أضعافه ترجع إلى أهله، وهو عزَّ وجل يقْبض ويبسُط أىِ يوسع ويُقَتر. فأعلم اللَّه عزَّ وجلَّ أنه قد سمِع مقالتهم، وأعلم أن ذَلك مُثْبت عليهم. وأنهم إليه يرْجعونَ فيجازيهِمْ على ذلك وأنه خبير بعملهم. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ). ومعنى (عَذَابَ الْحَرِيقِ) أي عذابٌ مُحْرِق - بالنار، لأن العذاب يكون بِغَيْر النار. فأعلم أن مجازاة هؤُلاء هذا العذاب. وقوله (ذوقوا) هذه كلمة تقال للشيء يوئس من العَفْو يقال ذق ما أنت فيه أي لَسْت بمتَخَلِّص منه. * * * وقوله جل ذكره: (الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183) هذا من نعت (العبيد) الذين قالوا (حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ) أي عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى تكون آيتُه هذه الآية. فأَعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أنَّ أسلافهم قَد أتتهم الرسل بالبينات وبالذي طلبوا. فقتلوهم. فقال: (فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ).

(184)

وهم لم يكونُوا تَوَلَّوْا القتل، ولكن رضوا بقتل أولئك الأنبياءِ فشركوهم في القتل. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184) الزُّبُر: جمع زبور والزبور كل كتاب ذو حكمة. ويقال زبرت إذا كتبت. وزبرت إذا قرأت. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185) (وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ). ولا يجوز "أجُورُكم" علَى رفع الأجور وجعل ما في معنى الذي، لأن يوم القيامة يصير من صلة (توفون)، وتوفون من صلة (ما) فلا يأتي (ما) في الصلة بعد (أُجُوركُمْ) و (أُجُوركُمْ) خبر. وقوله عزَّ وجلَّ ": (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ). أي نُحِّيَ وأزيلَ (فقَدْ فَاز) يقال لكل من نجا من هلكة وكل من لقي ما يغبط به: قد فاز، وتأويله تباعد من المكروه ولقي ما يحب ومعنى قول الناس مفازة إنما هي من مهلكة، ولكنهم تفاءَلوا بأن سموا المهلكة مفازة. والمفازة المنجاة، كما تفاءَلوا بأن سمُّوا اللديغ السليم، وكما سمُّوا الأعمى بالبصير. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186) معناه: لتُخْتَبَرُن أي تقع عليكم المحن، فيعلم المؤمن من غيره، وهذه

(187)

النون دخلت مؤَكدة مع لام القسم وضُمَّت الواوُ لسكونها وسكون النون. ويقال للواحد من المذكرين: لتبلَينَ يا رجل، وللاثنين لتبليَان يا رجلان، ولجماعة الرجال: لتبْلَوُنَّ. وتُفتَح الياءُ من لَتَبْلَينَ في قول سيبويه لسكونها وسكون النون. وفي قول غيره تبنى على الفتح لضم النون إليها كما يبنى ما قبل هاءِ التأنيث، ويقال للمرأة تُبْلَين يا امرأة، وللمرأتين لتبليَان يا امرأتان ولجماعة النساءِ لتُبْلَيْنَانِّ يا نِسْوة، زيدت الألف لاجتماع النونات. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا). روي أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - سمع رجلا من إليهود يقول: " إن اللْه فقير ونحنُ أغنياءُ " فلطمه أبو بكر - رضي الله عنه - فشكا إليهودي ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأله النبي: " ما أراد بلطمك؟ فقال أبو بكر سمعت منه كلمة ما ملكت نفسي معها أن لطمتُه. فأنزل اللَّه عزَّ وجلَّ: (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا). وأذى مقصور يكتب بالياء يقال قد أَذِيَ فلان يأذى أذى. إذا سمع ما يسوءُه. . * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187) (لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ). وليبيننه، بالياءِ والتاءِ، فمن قال ليبيننه بالياءِ، فلأنهم غَيبٌ، ومن قال بالتاءِ حكى المخاطبة التي كانت في وقت أخذ الميثاق، والمعنى أن اللَّه أخذ منهم الميثاق ليبينن أمر نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم -. (فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ).

(188)

معنى (نبذوه) رمَوْا بهِ يقال للذي يطرح الشيء ولا يعْبأ به: قد جعلت هذا الشيء بظهر، وقد رميته بظهر. قال الفرزدق: تَمِيمُ بنَ قَيْسٍ لا تَكونَنَّ حاجَتِي. . . بظَهْرٍ فلا يَعْيا عَليَّ جَوابُها أي لا تتركنها لا يُعْبَأ بها. وأنبأ اللَّه عما حمل إليهود الذين كانوا رؤساءَ على كتمان أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: (وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا) أي قبلوا على ذلك الرشا، وقامت لهم رياسة اكتسبوا بها، فذلك حملهُمْ على الكفر بما يخفونه. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188) هؤلاءِ قوم من أهل الكتاب دخلوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - وخرجوا من عنده فذكروا لمن كان رآهم في ذلك الوقت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أتاهم بأشياءَ قد عرفوها. فحمِدهم من شاهدهم من المسلمين على ذلك، وأبطنوا خلاف ما أظهروا وأقاموا بعد ذلك على الكفر، فأَعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرهم وأعْلمه أنهم ليْسوا بِمَفازة منَ العذَاب أي ليسوا ببعد من العذاب.

(189)

ووقعت (فَلَا تَحْسَبنهم) - مكررة لطول القصة. والعرب تعيدُ إذا طالت القصة في حسبت وما أشبهها، إعلاماً أن الذي جرى متصل بالأول، وتوكيداً للأول، فنقول: لا تظنَن زيداً إذا جاءَك وكلمك بكذا وكذا - فلا تظننه صادقاً، تعيد - فلا تظنن توكيداً - ولو قلت لا تظن زيداً إذا جاءَك وحدثك بكذا وكذا صادقاً جاز، ولكن التكرير أوكد وأوضح للقصة. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189) أي هو خالقهما، ودليل ذلك قوله - عزَّ وجلَّ: (خالق كل شيء) و (خلق السَّمَاوَات والأرض) وأعلم أن في خلقهما واختلافِ الليل والنهارِ آياتٍ لأولى الآلباب " أي ذَوي العقول. والآيات العلامات، أي من العلامات فيهما دليل على أن خالقَهما واحد ليس كمثله شيء. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ) هذا من نعت (أولي الألباب)، أي فهُؤلاءِ يستدلون على توحيد اللَّه - عزَّ وجلَّ - بخلق السَّمَاوَات والأرض وأنهم يذكرون اللَّه في جميع أحوالهم (قِيَاماً وقُعُوداً وعلَى جُنُوبهِم) معناه ومضطجعين، وصلح في اللغة أن يعطف (بعلى) على - (قياماً وقعوداً) لأنْ معناه ينبئُ عن حال في أحوال تصرف الإنسان، تقول: أنا أسير

(194)

الى زيد مماشياً وعلى الخيل. المعنى ماشياً وراكباً. فهؤُلاءِ المستدلون على حقيقة توحيد الله يذكرون - اللَّه في سائر هذه الأحوال. وقد قال بعضهم: (يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ). أي يُصَلونَ على جميع هذه الأحوال على قدر إمكانهم في صحتهم وسَقَمِهم. وحقيقته عندي - واللَّه أعلم - أنهم موحدون اللَّه في كل حال. (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ). فيكون ذلك أزيدَ في بصيرتهم، لأن فكرتهم تُرِيهُمْ عظيم شأنهما. فيكون تمظيمهم للَّهِ على حسب ما يقفون عليه من آثار رحمته. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا). معناه يقولون (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا) أي خلقته دليلاً عليك، وعلى صدق ما أتَتْ به أنبياؤُكَ. لأن الأنبياءَ تأتي بما يَعْجِز عنه المخْلُوتُونَ. فهو كالسماوات والأرض في الدليل على توحيد اللَّه. (سُبْحَانَكَ): معناه براءَة لك من السوءِ وتنزيهاً لك من أن تكون خلقتهما باطلًا. . (فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) أي فقد صدقنا رسلك وأن لَكَ جَنةً ونَاراً فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ. * * * (رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194) معناه والله أعلم - على ألسُنِ رُسلِكَ. وقوله - عزَّ وجلَّ: (وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ).

(195)

أي قد صدقنا يوم القيابة فلا تخزنا، والمُخزى في اللغة المُذلُّ المحقور بأمر قد لزمه بحجة، وكذلك أخْزَيتُه. أي ألزمته حُجة أذَللْتُه معها. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ) أي قد وعدت من آمن بكِ ووحدك الجنة. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195) المعنى فاستجاب لهم ربهم بأني لا أضيع - عمل عامل منكم من ذَكَرٍ أو أنْثَى. وإن قرئت (إنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ). جائز بكسر (إنَّ) ويكون المعنى قال لهم ربهم: إنِّي لا أضيع عمَل عامل منكم. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (ثَوَابًا) مصدر مؤكد، لأن معنى (وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) "لأثيبنهُم" ومثله (كِتَابَ اللَّهِ عَلَيكم) لأن قوله عزَّ وجلَّ (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ. . .). معناه: كتب اللَّه عليكم هذا فـ (كِتَابَ اللَّهِ) - مؤَكد - وكذلك قوله عزَّ وجلَّ: (وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) قد علم أن ذلك صنع اللَّه. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) خطاب للنبى - صلى الله عليه وسلم - وخطاب للخلق في هذا الموضع، المعنى لا يغرنكم أيها المؤمنون. ويروى أن قوماً من الكفار كانوا يتجرون ويربحون في أسفار كانوا يسافرونها، فأعلم اللَّه عزَّ وجلَّ - أن ذلك مما لا ينبغي أن يُغْبَطوا به، لأن

(197)

مصيرهم بكفرهم إلى النار ولا خيرَ بخير بعده النار. فقال عزَّ وجلَّ: (مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) أي ذلك الكسب والربح الذي يربحونه متاع قليل. وأعلم - جلَّ وعزَّ - أن من أراد اللَّه واتقاه فله الجنة فقال (لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198) (نُزُلًا) مَؤكد أيضاً، لأن خلودهم فيها إنزالهم فيها. وواحد الأبرار - بارُّ وأبرَار، مثل صاحب وأصحاب ويجوز أن يكونَ بَرٌّ وأبرار، على فَعْل وأفْعَال، تقول بررت والدي فأنا برٌّ، وأصله برَر، لكن الراءَ أدغمَت للتضعيف. * * * قوله عزَّ وجلَّ: (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199) (خَاشِعِينَ لِلَّهِ). أي من عند أهل الكتاب من يُؤمن خاشعاً للَّهِ -. (لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا). وإنما ذكر هؤُلاءِ لأن ذكر الذين كفروا جرى قبل ذكرهم فقال: (فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا). أخبر - جلَّ وعزَّ - بما حمل إليهود على الكفر، وأخبر بحال من آمن من أهل الكتاب وأنهم - صدقوا في حال خشوع ورغبة عنْ أن يشتروا بآيات اللَّه ثمناً قليلاً. * * * قوله جلَّ وعزَّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200) أي على دينكم، (وَصَابروا): أي عدوكم ورَابطُوا: أقيموا على جهاد

عدوكم بالحرب والحجة، (وَاتَّقُوا اللَّهَ) في كل ما أمركم به، ونهاكم عنه. (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ). ولعل ترج، وهو ترج لهم، أي ليكونوا على رجاءِ فلاح - وإنَّما قيل لهم (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ): أي لعلكم تسلمون من أعمال تبطل أعمالكم هذه. فأما المؤمنون الذين وصفهم اللَّه جل ثناؤُه فقد أفلحوا. قال اللَّه جلَّ وعزَّ: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2). إلى آخر وصف المؤمنين. فهؤُلاءِ قد أفلحوا لا محالة وإنما يكون الترجي مع عمل يتوهم أنه بعض من العمل الصالح.

سورة النساء

سورة النساء بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله - عزَّ وجلَّ - (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1) ابتدأ اللَّه السورة بالموعظة. أخبر بما يوجب أنه واحد وأن حقه عز وجلَّ - أن يُتَقى فقال: (الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ) يعني من آدم عليه السلام، وإنما قيل في اللغة واحدة لأن لفظ النفس مؤَنث، ومعناها مذكر في هذا الموضع، ولو قيل من نفس واحد لجاز. (وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا) حواءَ خُلِقتْ من ضِلْع من أضْلاع آدَم، وبث اللَّه جميع خلق الناس منها. ومعنى " بَث " نشر، يقال: بث الله الخلق، وقال - عزَّ وجلَّ - (كَالفَرَاشِ المبْثُوثِ)،، فهذا يدل على بث. وبعض العرب يقول أبث اللَّهُ الخلقَ، ويُقَال بَثَثتُك سِري وأبْثثتك سِري. وقوله - عزَّ وجلَّ: (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ)

بالتشديد، فالأصل تتساءلون. وأدْغمت التاءُ في السين لقرب مكان هذه من هذه. ومن قرأ بالتخفيف فالأصل تتساءَلُون، إلا أن التاءَ الثانية حذفت لاجتماع التَاءَيْن، وذلك يُستثقل في اللفْظ فوقع الحذف استخفافاً، لأن الكلام غيرُ مُلْبس. ومعنى (تساءَلُون بِهِ) تَطْلُبُونَ حُقُوقكم بِهِ. (والأرْحَامَ) القراءَة الجيِّدةُ نصب الأرحام. المعنى واتقوا الأرحام أن تقطعوها، فأما الجر في الأرحامِ فخطأ في العربية لا يجوز إلا في اضطرار شعر (1)، وخطأ أيضاً في أمْر الدين عظيم، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا تحلفوا بآبائكم ". فكيف يكون تساءَلون به وبالرحم على ذا؟. رأيت أبا إسحاق إسماعيل بن إسحاق يذهب إلى أن الحلف بغير اللَّه أمر عظيم، وأن ذلك خاص للَّهِ - عزَّ وجلَّ - على ما أتت به الرواية. فأما العربية فإجماع النحويين أنه يَقْبحُ أنْ يُنْسق باسم ظاهر على اسم مضمر في حال الجر إلا بإِظهار الجار، يَسْتَقْبح النحوُيون: مررت به وزيدٍ. وبك وزيدٍ، إِلا مع إظهار الخافض حتى يقولوا بك وبزيد، فقال بعضهم: لأن المخفوض حرف مُتَصِل غيرُ منفصل، فكأنَّه كالتنوين في الاسم، فقبح أن يعطف باسم يقُومُ بنفسه على اسم لا يقوم بنفسه. وقد فسر المازي هذا تفسيراً مُقْنِعاً فقال: الثاني في العطف شريك للأول، فإِن كان الأول يصلح شريكاً

_ (1) قال السَّمين: قوله: {والأرحام} الجمهور/ على نصب ميم «والأرحام» وفيه وجهان، أحدهما: أنه عطفٌ على لفظ الجلالة أي: واتقوا الأرحام أي: لا تقطعوها. وقَدَّر بعضهم مضافاً أي: قَطْعَ الأرحام، ويقال: «إنَّ هذا في الحقيقة من عطفِ الخاص على العام، وذلك أن معنى اتقوا الله: اتقوا مخالفَتَه، وقطعُ الأرحام مندرجٌ فيها». والثاني: أنه معطوفٌ على محل المجرور في «به» نحو: مررت بزيد وعمراً، لَمَّا لَم يَشْرَكْه في الإِتباع على اللفظِ تبعه على الموضع. ويؤيد هذا قراءة عبد الله: «وبالأرحام». وقال أبو البقاء: «تُعَظِّمونه والأرحام، لأنَّ الحَلْفَ به تعظيمٌ له». وقرأ حمزة «والأرحامِ» بالجر، وفيها قولان، أحدهما: أنه عطفٌ على الضمير المجرور في «به» من غير إعادة الجار، وهذا لا يجيزه البصريون، وقد تقدَّم تحقيقُ القول في هذه المسألة، وأنَّ فيها ثلاثةَ مذاهب، واحتجاجُ كل فريق في قوله تعالى: {وَكُفْرٌ بِهِ والمسجد} [البقرة: 217]. وقد طَعَنَ جماعة على هذه القراءة كالزَّجَّاج وغيره، حتى يحكى عن الفراء الذي مذهبه جوازُ ذلك أنه قال: «حَدَّثني شريك بن عبد الله عن الأعمش عن إبراهيم قال:» والأرحامِ «بخفض الأرحام هو كقولهم:» أسألك بالله والرحمِ «قال:» وهذا قبيحٌ «لأنَّ العرب لا تَرُدُّ مخفوضاً على مخفوضٍ قد كُنِيَ عنه». والثاني: أنه ليس معطوفاً على الضمير المجرور بل الواوُ للقسم وهو خفضٌ بحرفِ القسم مُقْسَمٌ به، وجوابُ القسم: «إنَّ الله كان عليكم رقيباً». وضُعِّف هذا بوجهين، أحدهما: أن قراءتَيْ النصبِ وإظهار حرف الجر في «بالأرحام» يمنعان من ذلك، والأصل توافقُ القراءات. والثاني: أنه نُهِيَ أن يُحْلَف بغير الله تعالى والأحاديثُ مصرحةٌ بذلك. وقدَّر بعضُهم مضافاً فراراً من ذلك فقال: «تقديره: وربِّ الأرحام: قال أبو البقاء: وهذا قد أَغْنى عنه ما قبله» يعني الحلف بالله تعالى. ولقائل [أن يقول:] «إنَّ لله تعالى أن يُقْسِم بما شاء كما أقسم بمخلوقاتِه كالشمس والنجم والليل، وإن كنا نحن مَنْهيين عن ذلك»، إلا أنَّ المقصودَ من حيث المعنى ليس على القسمِ، فالأَوْلى حَمْلُ هذه القراءةِ على العطفِ على الضمير، ولا التفاتَ إلى طَعْنِ مَنْ طَعَن فيها، وحمزةُ بالرتبة السَّنِيَّة المانعةِ له مِنْ نقلِ قراءة ضعيفة. وقرأ عبد الله أيضاً: «والأرحامُ» رفعاً وهو على الابتداء، والخبر محذوفٌ فقدَّره ابن عطية: «أهلٌ أَنْ توصل»، وقَدَّره الزمخشري: و «الأرحامُ مِمَّا يتقى، أو: مما يُتَساءل به»، وهذا أحسنُ للدلالة اللفظية والمعنوية، بخلاف الأول، فإنه للدلالة المعنوية فقط، وقَدَّره أبو البقاء: «والأرحامُ محترمة» أي: واجبٌ حرمتُها. اهـ (الدُّرُّ المصُون). وقال العلامة الآلوسي: {والأرحام} بالنصب وهو معطوف إما على محل الجار والمجرور إن كان المحل لهما، أو على محل المجرور إن كان المحل له، والكلام على حدّ مررت بزيد، وعمراً، وينصره قراءة (تساءلون به وبالأرحام) وأنهم كانوا يقرنونها في السؤال والمناشدة بالله تعالى ويقولون: أسألك بالله تعالى وبالله سبحانه وبالرحم كما أخرج ذلك غير واحد عن مجاهد، وهو اختيار الفارسي وعلي بن عيسى؛ وإما معطوف على الاسم الجليل أي اتقوا الله تعالى والأرحام وصلوها ولا تقطعوها فإن قطعها مما يجب أن يتقى، وهو رواية ابن حميد عن مجاهد والضحاك عن ابن عباس، وابن المنذر عن عكرمة، وحكي عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه واختاره الفراء والزَّجَّاج، وجوز الواحدي النصب على الإغراء أي والزموا الأرحام وصلوها، وقرأ حمزة بالجر، وخرجت في المشهور على العطف على الضمير المجرور، وضعف ذلك أكثر النحويين بأن الضمير المجرور كبعض الكلمة لشدة اتصاله بها فكما لا يعطف على جزء الكلمة لا يعطف عليه. وأول من شنع على حمزة في هذ القراءة أبو العباس المبرد حتى قال: لا تحل القراءة بها، وتبعه في ذلك جماعة منهم ابن عطية وزعم أنه يردها وجهان: أحدهما: أن ذكر أن الأرحام مما يتساءل بها لا معنى له في الحض على تقوى الله تعالى، ولا فائدة فيها أكثر من الإخبار بأن الأرحام يتساءل بها، وهذا مما يغض من الفصاحة، والثاني: أن في ذكرها على ذلك تقرير التساؤل بها والقسم بحرمتها، والحديث الصحيح يرد ذلك، فقد أخرج الشيخان عنه صلى الله عليه وسلم: " من كان حالفاً فليحلف بالله تعالى أو ليصمت " وأنت تعلم أن حمزة لم يقرأ كذلك من نفسه ولكن أخذ ذلك بل جميع القرآن عن سليمان بن مهران الأعمش والإمام بن أعين ومحمد بن أبى ليلى، وجعفر بن محمد الصادق وكان صالحاً ورعاً ثقة في الحديث من الطبقة الثالثة. وقد قال الإمام أبو حنيفة والثوري ويحيى بن آدم في حقه غلب حمزة الناس على القراءة والفرائض، وأخذ عنه جماعة وتلمذوا عليه منهم إمام الكوفة قراءة وعربية أبو الحسن الكسائي، وهو أحد القراء السبع الذين قال أساطين الدين: إن قراءتهم متواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع هذا لم يقرأ بذلك وحده بل قرأ به جماعة من غير السبعة كابن مسعود وابن عباس وإبراهيم النخعي والحسن البصري وقتادة ومجاهد وغيرهم كما نقله ابن يعيش فالتشنيع على هذا الإمام في غاية الشناعة ونهاية الجسارة والبشاعة وربما يخشى منه الكفر، وما ذكر من امتناع العطف على الضمير المجرور هو مذهب البصريين ولسنا متعبدين باتباعهم، وقد أطال أبو حيان في «البحر» الكلام في الرد عليهم، وادعى أن ما ذهبوا إليه غير صحيح، بل الصحيح ما ذهب إليه الكوفيون من الجواز وورد ذلك في لسان العرب نثراً ونظماً، وإلى ذلك ذهب ابن مالك، وحديث إن ذكر الأرحام حينئذ لا معنى له في الحض على تقوى الله تعالى ساقط من القول لأن التقوى إن أريد بها تقوى خاصة وهي التي في حقوق العباد التي من جملتها صلة الرحم فالتساؤل بالأرحام مما يقتضيه بلا ريب، وإن أريد الأعم فلدخوله فيها وأما شبهة أن في ذكرها تقرير التساؤل بها، والقسم بحرمتها والحديث يرد ذلك للنهي فيه عن الحلف بغير الله تعالى، فقد قيل في جوابها: لا نسلم أن الحلف بغير الله تعالى مطلقاً منهي عنه، بل المنهي عنه ما كان مع اعتقاد وجوب البر، وأما الحلف على سبيل التأكيد مثلاً فمما لا بأس به ففي الخبر «أفلح وأبيه إن صدق». وقد ذكر بعضهم أن قول الشخص لآخر: أسألك بالرحم أن تفعل كذا ليس الغرض منه سوى الاستعطاف وليس هو كقول القائل والرحم لأفعلن كذا، ولقد فعلت كذا، فلا يكون متعلق النهي في شيء، والقول بأن المراد ههنا حكاية ما كانوا يفعلون في الجاهلية لا يخفى ما فيه فافهم وقد خرج ابن جني هذه القراءة على تخريج آخر، فقال في «الخصائص»: باب في أن المحذوف إذا دلت الدلالة عليه كان في حكم الملفوظ به من ذلك. رسم دار وقفت في طلله. . . أي رب رسم دار، وكان رؤبة إذا قيل له: كيف أصبحت؟ يقول: خير عافاك الله تعالى أي بخير يحذف الباء لدلالة الحال عليها، وعلى نحو من هذا تتوجه عندنا قراءة حمزة وفي «شرح المفصل» أن الباء في هذه القراءة محذوفة لتقدم ذكرها، وقد مشى على ذلك أيضاً الزمخشري في «أحاجيه»، وذكر صاحب «الكشف» أنه أقرب من التخريج الأول عند أكثر البصرية لثبوت إضمار الجار في نحو الله لأفعلن وفي نحو ما مثل عبد الله ولا أخيه يقولان ذلك والحمل على ما ثبت هو الوجه، ونقل عن بعضهم أن الواو للقسم على نحو اتق الله تعالى فوالله إنه مطلع عليك وترك الفاء لأن الاستئناف أقوى الأصلين وهو وجه حسن. وقرأ ابن زيد {والأرحام} بالرفع على أنه مبتدأ محذوف الخبر، أي والأرحام كذلك أي مما يتقى لقرينة {اتقوا} أو مما يتساءل به لقرينة {تَسَاءلُونَ} وقدره ابن عطية أهل لأن توصل وابن جني مما يجب أن توصلوه وتحتاطوا فيه ولعل الجملة حينئذ معترضة وإلا ففي العطف خفاء، وقد نبه سبحانه إذ قرن الأرحام باسمه سبحانه على أن صلتها بمكان منه تعالى. اهـ (روح المعاني. 4/ 184 - 185).

(2)

للثاني وإلا لم يصلح أن يكون الثاني شريكاً له. قال: فكما لا تقول مررت بزيد و " ك " فكذلك لا يجوز مررت بك وزيدٍ. وقد جاز ذلك في الشعر. أنشد سيبويه: فاليوم قربْت تهجُونا وتشتُمنا. . . فاذْهب فما بك والأيَّامِ من عجب * * * وقوله: (وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2) أي أعْطوهم أموالهم إذا آنستم منهم رشداً، وإنما يسموْن يَتامَى - بعد أن يؤنس منهم الرُّشُد، وقد زال عنهم اسم يتامى - بالاسم الأول الذي كان لهُم، وقد كان يُقالُ في النبي - صلى الله عليه وسلم - يتيم أبي طالب. وقوله - عزَّ وجلَّ -: (وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ) الطيب مالكم، والخبيث مالُ اليتيم وغيرُه مما ليس لكم، فلا تأكلوا مال اليتيم بدلًا منْ مَالِكم، وكذلك لا تأكُلُوا (أيضاً) (أمْوالَهُمْ إِلَى أمْوالِكُمْ). أي لا تُضِيفُوا أمْوالهم في الأكل إلى أموالكم، أي إن احتجتم إِليها فليس لكم أن تأكلوها مع أموالكم. (إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا)

(3)

والحوبُ: الإثم العظيم، والحُوبُ فعلُ الرجل، تقول: حاب حُوباً كقولك قدْ خان خُوناً. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3) قال مجاهد: إِن تحرجْتُم أن تتركوا ولاية اليتامى إيماناً وتصْديقاً فكذلك تحرجوا من الزنا، وقال غيره: وإنْ خفْتم ألا تعدلوا في أمْر النساءِ فانكحوا ما ذكر اللَّه عزَّ وجلَّ. وقال بعض المفسًرين قولًا ثالثاً، قال أهل البصرة من أهل العربية: يقول ذلك المفسِّرُ - قال إنهم كانوا يتزوجُون العَشْر مِنَ اليتامَى ونحوَ ذلك رغْبةً في مالِهِن فقال اللَّه - جلَّ وعزَّ - (وإن خفتم ألا تُقْسِطُوا في اليتامَى) أي في نكاح اليتامى. ودل عليه (فانكحوا) كذلك قال أبو العباس محمد ابن يزيد، وهو مذهب أهل النظر من أهل التفسير. (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ) لم يقل من طاب والوجه في الآدميين أن يقال مَنْ، وفي الصفاتِ وأسماءِ الأجناس أن يقال (ما). تقول: ما عندك؟ فيقول فرس وطيبٌ. فالمعنى فانكحوا الطيب الحلال على هذه العِدة التي وصفت، لأن ليس كل النساءِ طيباً، قال - عزَّ وجلَّ -: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ).

فَلَيس ممن ذكر ما يطيبُ. وقوله - عزَّ وجلَّ - (مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ) بدل من (مَا طَابَ لكُمْ) ومعناه اثنين اثنين، وثلاثاً ثَلاثاً، وأربعاً أرْبعاً. إلا أنه لا ينصرف لجهتين لا أعلم أن أحداً من النحويين ذكرهما، وهي أنه اجتمع فيه علتان أنَّه معدُول عن اثنين اثنين، وثلاث ثلاثٍ، وأنه عدل عن تأنيثٍ. قال أصحابنا إنه اجتمع فيه عِلتان أنه عُدل عن تأنيث، وأنه نكرة. والنكرة أصل للأسماء بهذا كان ينبغي أن نخففه. لأن النكرة تخفف ولا تعد فرعاً. وقال غيرهم هو معرفة وهذا محال لأنه صفة للنكرة، قال اللَّه - جلَّ وعزَّ -: (جَاعلِ المَلَائِكَةِ رُسُلًا أولي اجْنِحةٍ مَثْنَى وثُلَاثَ وَرَبَاعُ). فهذا مُحال أن يكون أولي أجنحة الثلاثة والأربعة وإِنما معناه أولي أجنحة ثَلاثةً ثَلَاثَةً وأرْبعةً أربعة. قال الشاعر:

ولكنما أهلى بوادٍ أنيسُه ذِئَابٌ. . . تَبَغى الناسَ مَثنَى ومَوْحَدُ فإِنْ قال قائل من الرافضة: إنه قَدْ أحِلَّ لَنا تسْعٌ، لأنَّ قوله: (مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ) يراد به تِسَع، قيل هذا يبطل من جهات: أحدها في اللغة أن مثنى لا يصلح إلا لاثنين اثنين على التفريق. ومنها أنه يصير أعْيى كلام. لو قال قائل في موضع تسعةٍ أعطيك اثنين وثلاثة وأرْبعة يريد تسْعةً، قيل تسعة تغنيك عن هذا، لأن تسعة وضِعتْ لهذا العددِ كله، أعني من واحد إِلى تسعة. وبعد فيكون - على قولهم - من تزوج أقل من تسع أو واحدة فعاصٍ لأنه إِذا كان الذِي أبيح له تسعاً أو واحدةً فليس لنا سبيل إِلى اثنين. لأنه إِذا أمرك من تجب عليك طاعته فقال ادخل هذا المسجدَ في اليوم تسعاً أو واحدة، فدخلت غير هاتين اللتين حددهما لك من المرات فقد عصيْته. هذا قول لا يُعرجُ على مِثله. ولكنَا ذَكرْنَاهُ ليعْلم المسلمون أن أهل هذه المقالة مباينون لأهل الِإسلام في اعتقادِهم، ويعتقدون في ذلك ما لا يشتبه على أحد من الخطأ.

(4)

فأمَّا قوله: (ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا) (فمعناه) ذلك أقْربُ ألا تجُورُوا. وقيل في التَّفْسير: ألّاَ تميلوا، ومعنى تميلوا تجوروا. فأما من قال: (أَلَّا تَعُولُوا): ألا تكثُر عيالُكُمْ، فزعم جميع أهل اللغة أنَّ هذا خطأ، لأن الواحدة تعول، وإِباحةُ كل ما ملكَتْ اليمينُ أزْيدُ في العيال من أربع، ولم يكن في العدد في النكاح حا حين نزلَتْ هذه الآية. والدليل على أنهم كانوا يرغبون في التزويج من اليتامى لمالهنَّ، أنهم كانوا لا يبالون ألَّا يعْدلوا في أمرهم. وقوله - عزَّ وجلَّ - (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ) فالمعنى: وإِن خفتم ألا تقسطوا في نكاح يتامى فانكحوا الطيب الذي قد أحل لكم من غَيْرهنَّ، والمعنى إن أمنتُم الجور في اليتامى فانكحوا منْهنَ كهذه العدة، لأن النساءَ تشتمل على اليتامى وغيرهن. وقوله: (وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4) يقال هو صَدَاق المرأة، وصدُقةُ المرأة، وصُدْقَةُ المرأة. وَصَداقُ المرأة. مفتوح أولها، والذي في القرآن جمع صدقة. ومن قال صُدْقَة قال صُدُقاتهنَّ، كما يقول غرْفة وغُرفات، ويجوز صدْقاتهنَّ، وصُدَقَاتهنَّ. بضم الصاد وفتح

الدال. ويجوز صُدُقاتهنَّ، ولا تقرأنَّ من هذا إِلا ما قد قرئ به لأن القراءَة سُنة لا ينبغي أن يقرأ فيها بكل ما يجيزه النحويون، وإِنْ تتبعْ فالذي روي من المشهورُ في القراءَة أجْودُ عند النحويين، فيجتمع في القراءَة بما قد روى الاتباعُ وإِثباتُ ما هو أقوى في الحجة: إِن شاءَ الله. ومعنى قوله: (نِحْلةٌ) فيه غير قولٍ، قال بعضُهم فريضةً، وقال بعضهم ديانةً، تقول: فلان ينتحل كذا وكذا، أيْ يدينُ به، وقال بعضهم هي نحلة من اللَّه لهن أنْ جعل على الرجال الصداق، ولم يجعل على المرأة شيئاً من الغُرْم، فتلك نحلة من اللَّه للنساءِ يقال - نحلتُ الرجل والمرأة - إِذا وهَبْتُ له - نِحْلةً ونُحْلاً ويقال: قد نَحِلَ جسم فلان ونَحَلَ إِذا دقَّ. والنَّحْلُ جائز أن تكون سميت نحلاً، لأن الله جلّ ثناؤُه نحل الناس العسل الذي يخرج من بطونها. وقوله - جلَّ؛ عزّ - (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا) أي عن شيءٍ من الصداق. و" لكم " خطاب للأزواج، وقال بعضهم للأولياءِ ههنا. و " نفساً " منصوب على التمييز لأنه إِذا قال: طبْن لكم، لم يعلم في أي صنْف وقع الطيبُ. المعنى: فإِن طابت أَنفسهن بذلك. وقد شرحناه قبل هذا المكان شرحاً وافياً. وقوله: (فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا) يقال: هنأَني الطعامُ ومراني. وقال بعضهم: يقال مع هنأني مراني. فإذا لم تذكر هنأَني قلت أَمْرَأَني بالألف. وهذا حقيقته أن مرأني تبَينتُ أنه

(5)

سينهضم وأحمد مغبتهُ، فإذا قلت أمْرأني الطعام فتأويله أنه قد انهضم وحُمدتْ فإن قال قائل: إنما قيل: (فَإِنْ طبْنَ لكمْ عَنْ شَيءٍ منْه نَفْساً) فكيف يجوز أن يقبل الرجل المهر كله، وإنما قيل له منه؟ فالجواب في ذلك أن " منه " ههنا للجنس لما قال عزَّ وجلَّ -: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ). فلم نْؤمر أن نجتنب بعض الأوثان، ولكن المعنى اجتنبوا الرجس الذي هو وثن. أي فكلوا الشيءَ الذي هو مهْر. * * * وقوله: (وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5) قال بعضهم: السفهاء النساء والصبْيان، وقال بعضهم: السفهاء اليتامى، والسفهاء يدل على أنَّه لا يعني به النساء وحدهن، لأن النساءَ أكثر ما يستعمل فيهن جمع سفيهة وهو سفائه، ويجوز سفهاء، كما يقال فقيرةٌ وفقراء. وقال بعضهُمْ: معناه لا تهبوا للسفهاء أموالكم، وهذا عندي - واللَّه أعلم - غير جائز. كذلك قالَ أصْحابنا البصْريونَ بل السفيه أحَق بالهبة لتعذُّر الكسب عليه، ولو مُنِعْنَا منَ الهبَة لهم لما جاز أنْ نوَرِّثهمْ، وإِنما معْنَى: (وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ)، لا تؤتوا السفهاءَ أمْوالهم، والدليل على ذلك قوله: (وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ) وقوله: (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ). وإِنما قيل أموالكم لأن معناه الشيءَ الذي به قوام أمركم، كما قال اللَّه: (ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ) ولم يكن الرجل منهم يقتل نفسه،

(6)

ولكن كان بعضهم يقتل بعْضاً، أي تقتلون الجنس الذي هو جنسُكُمْ. وقرئت " اللاتي جعل اللَّهُ لكمْ قياماً "، وقيماً. يقال: هذا قوام الأمْر وملاكه. المعنى: التي جعلها الله تقيمكم فتقومون بها قياماً، فهو راجع إلى هذا، والمعنى جعلها الله قيمة الأشياءِ فبها يقوم أمْركم. (وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا) أي: علموهم - مع إطعامكم إياهم، وكسوتكم إيَّاهم - أمْر دينهمْ. . . * * * وقوله - عزَّ وجلَّ -: (وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (6) معناه: اختبروا اليتامى. (حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا) معنى: " آنسُتْم ": عَلِمْتمْ. ومعنى (الرشد): الطريقة المستقيمة التي تَثقُونَ مَعَهَا بأنَّهم يحْفظُون أمَوالهُمْ، فادْفَعُوا إِليْهمْ أمْوالَهمْ. (وَلَا تَأكُلُوهَا إسْرَافاً وَبِدَاراً أنْ يكْبُروا) أي مُبادرة كبرهمْ. قال بعضهم لا تأكلوها إسرافاً، لا تأكلُوا منْها، وكلوا القوت على قدر نفعكم إِياهُمْ في توليكم علَيهمْ. وقال بعضهم: معنى: (ومَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيأكلْ بِالْمَعْرُوفِ). أي يأكل قرضاً ولا يأْخذ من مال اليتيم شيئاً، لأن َ المعروف أن يأكل

(7)

الإنسانُ مالَه، ولا يأكُل مال غيره قال: والدليل على ذلك قوله: (فَإذَا دَفَعْتُم إِلَيْهِمْ أمْوَالَهُمْ فَأشْهِدُوا عَلَيهِمْ). * * * وقوله: عزَّ وجلَّ: (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7) كانت العرب لا تُورِّثُ إِلا منْ طَاعن بالرماحِ وزاد عن المال وحاز الغنيمة، فأعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أن حق الميراث على ما ذكر من الفرض. وجاءَت امرأة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعها بنات لها تُوفِّي أبوهُنَّ وهو زوجُها. وقدْ همَّ عمَّا البنات بأخذ المال فنزلت: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) الآية. فقال العمَّان: يا رسول الله أيرثُ من لا يُطاعن بالرماحِ ولا يزُودُ عن المال ولا يحُوزُ الغنيمة؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: أعطيا البنات الثلثين، وأعطيا الزوجة - وهي أمُّهنَّ - الثمُن، وما بقي فلكما، فقالا: فمن يتولى القيام بأمرهما؟ فأمرهما النبي - صلى الله عليه وسلم - أنْ يتوليا ذَلكَ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (نَصِيباً مَفْرُوضاً) هذا منصوب على الحال، المعنى لهؤُلاءِ أنْصِبة على ما ذكرناها في حال الفرض، وهذا كلام مؤَكِّد لأن قوله - جل ثناؤُه - (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ. . .) معناه: إنَّ ذلك مفروض لهنَّ. * * * وقوله - عزَّ وجلَّ -: (وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (8) أي: فأعطوهم منه.

(9)

قال الحسن رحمة اللَّه عليه، والنخَعِي: أدركنا الناس وهم يَقْسِمون عَلى القَرَاباتِ والمساكين. واليَتَامَى من العَين، يَعْنيانِ الوَرِقَ، والذهَبَ، فإذا قُسِمَ الوَرِق والذهب وصارت القسمةُ إلى الأرَضِين والرقيق وما أشبَهَ ذلك؛ قالوا لهم قولاً معروفاً. كانوا يقولون لهم: بورك فيكم. وقال قوم: نَسَخَ الأمَرَ للمَسَاكينِ ومَنْ ذُكرَ في هذه الآية الفَرضُ في القِسْمَةِ، وإِباحةُ الثلث للميِّتِ يجعله حيث شاءَ. قال أبو إسحاق وقد أجمعوا أن الأمر بالقسمة من الميراث للقرابة والمساكين واليتامى قَد أمِر بهما، ولم يجمعوا على نسخها، والأمر في ذلك على ما أجْمعَ عَليْه، واللَّه أعلم. * * * وقواعه: (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9) الكلام في ذُريًة بضم الذال، ويجوز ذِرية، - بكسر الذال، وقد قرئ بهما، إلا أن الضمَّ أجودُ وهي منسوبة إِلى الذر، وهي فُعْلِيَّة منه. ويجوز أن يكون أصلها ذُرُّورَة، ولكن الراءَ أبدلت ياء وأدغمت الواو فيها، فأما الكسر في الذال فلكسر الراءِ كما قالوا في عُتَي: عِتي. وضِعَاف جمعَ ضعيف وضعيفة، كما تقول ظَريف وظِراف وخبيث

(10)

وخباث. وإن قيل ضُعفاءُ جاز، تقول ضعيف وضُعفاءُ. قيل: ومعنى الآية أنهم كانوا يُوصون بأموالهم على قَدْر أهوائهم. ويتركون ضعفة ذراريهم وأولاَدِهم فأمرهم اللَّه - عزْ وجل - أن يُوصُوا لهم، وأن يُجرُوا ذلك من سدَادٍ. وقِيل: قيلَ لَهُم هَذَا بسببِ اليتامى. فوُعظُوا في تَوليتهم اليتامى بأن يفعلُوا كما يحبونَ أنْ يُفعل بأولاَدِهم من بعدهم. وكلا القولين جائر حسن، ألا أن تسميةَ الفرائض قد نَسخَ ذلك بما جعلَ من الأقسام للأولادِ وذَوِي العصبةِ. ثم خوَّف اللَّه عزَّ وجلَّ وغَلًظَ في أمر اليتامى وأوعدَ فقال: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10) (يُقْرأ) (وَسَيُصَلَوْنَ). في هذا - أعني في قوله. . يأكُلونُ أموالَ اليتَامَى " - دليلُ أن مال اليتيم إن أُخِذَ منه على قدْرِ القيامِ له ولم يُتجاوزْ ذلك جاز. بل يستظهر فيه إن أمكن ألا يُقْرب ألبتَّةَ لشدة الوعيد فيه، بأنْ لا يْؤكل منه إِلا قرْضاً، وإن أُخِذَ القَصْدُ وقَدْرُ الحاجةِ على قَدْر نَفْعِه فلا بأس إن شاءَ الله.

(11)

وقوله - عزَّ وجلَّ - (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11) معنى " يُوصِيكم ": يفرض عليكم، لأن الوصية من اللَّه - عزْ وجل - فرض، والدليل على ذلك قوله: (وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ). وهذا من المحكم علينا. (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) المعنى: يستقر للذكر مثلُ حظ الأنثيين، له الثلثان وللابنة الثلث. (فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ) يجوز واحدةً ووَاحِدةٌ ههنا، وقد قرئ بهما جميعاً إِلا أن النَصبَ عندي أجودُ بكثيرٍ، لأَن قوله: (فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ) قد بين أن المعنى فإِن كان الَأولادُ نساءً، وكذلك، وإِنْ كانَتْ المَولُودَة واحدةً فلذلك اخترنا النصبَ، وعليه أكثر القراءَة. فإِن قال قائل إِنما ذكر لنا ما فوق الثنتين وذكرت واحدة فلم أُعْطيَتِ البنتان الثلثين فَسوِّيَ بينَ الثَنْتَين والجماعةِ؟ فقد قال الناس في هذا غير قول: قال بعضهم: أعطيتِ البنتَانِ الثلثين بدليلٍ لا تُفْرَضُ لهما مُسمَى. والدليل أهو، قوله: (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ).

فقد صار للأخت النصف كما أن للابنةِ النصفَ، (فَإِن كَانَتَا اثْنَتين فَلَهُمَا الثُلُثانِ) فأعطيت البنتان الثلثين كَمَا أعُطِيتَ الأختان، وأعطِيَ جملة الأخوات الثلثين قياساً على ما ذكر اللَّه - عزَّ وجلَّ - في جملة البنات، وأعلم اللَّه في مكان آخر أن حظ الابنتين وما فوقهمَا حَظ واحِد في قوله: (وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ). فدلت هذه الآية أن حظَّ الجماعة إِذا كان الميراث مسمى حظ واحدة. وهذا أيضاً في العربية كذا قياسُه لأن منزلة الاثنتين من الثلاث كمنزلة الثلاث من الأربع فالاثنان جمع كما أن الثلاثَ جمعُ، وَصَلَاةُ الاثْنَيْن وَصَلاةُ الاثنتين جَماعَةٌ، والاثنان يحجبان كما تحجب الجماعة. فهذا بيِّن واضحٌ. وهذا جعله اللَّه في كتابه يدل بعضُه على بعضٍ تفْقيهاً لِلمسْلِمينَ وتعليماً، ليعلموا فيما يحزبُهمْ من الأمور على هذه الأدلة. وقال أبو العباس محمد بن يزيد، وكذا قال إسماعيل بن إسحاق - أنه قال: في الآية نفسها دليل أن للبنتين الثلثين، لأنه إِذا قال: للذكر مثل حَظ الأنثيَين، وكان أولُ العددِ ذكراً وأنثى، فللذَّكر الثلثان وللأنثى الثلث، فقد بأن من هذا أن لِلبنْتَين الثلثين، واللَّه قد أعلم أن ما فوق الثنثين لهما الثلثان.

وجميع هذه الأقوال التي ذكرنا حسن جميل بين، فأمَّا ما ذُكِرَ عن ابن عباس من أن البنتين بمنزلة البنت فهذا لا أحسبه صحيحاً عن ابن عباس وهو يَسْتَحيلُ في القِياسِ لأن منزلة الاثنين منزلة الجمع، فالواحد خارج عن الاثنين. ويقال ثلُثْ وربُع وسُدُس، ويجوز تخفيف هذه الأشياءِ لِثقلِ الضَم. فيقال ثِلْث وَرُبْع وسُدْسْ. ومنْ زعم أن الأصل فيه التخفيف وأنَّه ثُقَل فخطأ، لأن الكلامَ موضوع على الإيجاز والتخفِيفُ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ). فالأم لها في الميراث تسمية من جهتين، تسمية السدس مع الولد. وتسمية السدُس مع الإخوة، وتسمية الثلث إِن لم يكن له ولد. والأب يرث من جهة التسمية السدسَ، ويرث بعد التسمية على جهة التعصيب. والأم يحجبها الإخوة عن الثلث فترث معهم السدَس. قال أبو إسحاق: ونذكر من كل شيءِ من هذا مسألةً، إذْ كان أصل الفرائض في الأموال والمواريث في هذه السورة. فإِن مات رجل أو امْرأة فخلفا أبوَيْن، فلام الثلث، والثلثان الباقيان للأب. بهذا جاءَ التنزيل وعليه اجتمعت الأمة. فإِن خلَّف الميت وَلَداً وكان

ذكرا فللأم السدس وللأب السدس، وما بقي فللابن، فإن خلَّف بنتا وأبوين، فللبنت النصف وللأم السدس، وما بقي للأب يأخذ الأب سدساً بحق التسمية، ويأخذ السدس الآخر بحق التعصِيب. فإِن خلَّف الميت - وكانت امراة - زوجاً وأبوين، فللزوجِ النصف وللأم ثلث ما بقي للأب ثلثا ما بقيَ، وهو ثلث أصل المال. وقد ذكر عن ابن عباس إنَّه كان يعطي الأمَّ الثلث من جميع المال. ويعطي الأب السدَس. فيفضل الأم على الأب في هذا الموضعِ. والِإجماع على خلاف ما روي عنه. وقال الذين احتجُوا مع الِإجماع: لو أعلمَنا اللَّه - عزَّ وجلَّ - أن المال بين الأب والأم ولم يسم لكل واحد لوجب أَن نقسمه بينهما نصفين، فلما أعلمنا اللَّه - عزَّ وجلَّ - أنَّ للأم الثُلثَ علمنا أَن للأب الثلثين، فلما دخل على الأب والأم داخل أخذَ نِصْف المال، دخل النقص عليهما جميعاً، فوجب أن يكون الميراث للأبوين إِنَّما هوَ النص، فصار للأم ثلث النصف، وللأب ثلثا النصف. . وقيل في الاحتجاج في هذا قول آخر: قال بعضهم: إِنما قيل: (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ) ولم يرثه ههنا أبواه فقط، بل ورثه أبواه وورثه مَعَ الأبويْن غير الأَبويْن، فرجع ميراث الأم إِلى ثلث ما بقي.

وقال أصحاب هذا الاحتجاج: كيف تفضَلُ الأم على الَأب والإخوة يمنعون الأم الثلث فيقْتصر بها على السدس، ويوفر الباقي على الأب. فيأخذُ الأب خمسة أسْداسٍ، وتأْخُذُ الأم سُدُساً. فإِن توفي رجلٌ أو امراة، وخلَّف إِخوةً ثلاثة فما فوق، وأمًّا وأباً أخذت الأم السدس وأخذ الأبُ الباقِي. هذا إجماع. وقد روي عن ابن عباس في هذا شيء شاذ: رَوَوْا أنَّه كان يُعْطِي الِإخوة هذا السدس الذي منع الإخوةُ الأم أن تأخذهُ، فكان يعطي الأمَّ السُّدسَ، والِإخوة السُّدسَ. ويعطي الأب الثلثين. وهذا لا يقوله أحد من الفقهاءِ. وقد أَجمعتِ فقهاءِ الأمصار أن الإخوة لا يأخذون مع الأبوين. فإِنْ توَفِّي رجُل وخلف أخوين وأبَوَيْن، فقد أجمع الفقهاءِ أن الأخوين يحجبان الأم عن الثلث، إِلا ابن عباس فإِنه كان لا يحجب بأخوين. وحجته أن اللَّه - عزَّ وجلَّ - قال: (فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ) وقال جميع أهل اللغة إِن الأخوين جماعة، كما أن الِإخوة جماعة، لأنك إِذا جمعت واحداً إِلى واحد فهما جماعة، ويقال لهما إِخوة. وحكى سيبويه أَن العرب تقول: قد وضعا رحالهما، يُريدُون رحليْهمَا. وما كان الشيءُ منه واحداً فتثنيتهُ جمع، لأنَّ الأصل هو الجمعُ. قال اللَّه تعالى: (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا). وقال: (وَلِأَبَوَيْهِ) لأن كل واحد منهما قد ولدُهُ.

والأصل في " أًم " أن يقال " أَبَة "، ولكن استُغْنِيَ عنها بأم. وأَبوان تثنية أب، وأبة، وكذلك لو ثنيت ابناً وابنة، - ولم تخَفِ اللبَس - قلت: ابنان. (فَلِأُمِّهِ) تقرأ بضم الهمزة وهي أكثر القراءَات، وتقرأ بالكسر " فلِإمِّهِ "، فأما إِذا كان قبل الهمزة غير كسْرٍ، فالضم لا غيْر، مثل قوله: (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً) لا يجوز وإِمَّه، وكذلك قوله: (مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ)، وإِنما جاز " لِإمِّه " و (فِي أُمِّهَا رَسُولًا) بالكسر، لأن قبل الهمزة كسرة. فاستثقلوا الضمة بعد الكسْرةِ، وليس في كلام العرب مثل: " فِعُل " بكسر الفاءِ وضم العيْن، فلما اختلطت اللام بالاسم شُبهَ بالكلمة الواحدة، فأبدل من الصفَة كسرة،. ومن قال: فلامه كح - بضم الهمزة. أتى بها على أصلها، على أَن اللام تقديرها تقدير الانفصال. وقوله عزَّ وجل: (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ) أي إِن هذه الأنصبة إِنما تجب بعد قضاءِ الدين، وإِنفاذ وصية الميت في فإِن قال قائل: فلم قال أو دَيْنٍ، وهلا كان " من بَعْدِ وصية يوصي بها وَدَيْن؟ فالجواب في هذا أن " أو " تأْتي للإِباحة، فتأْتي لواحد واحدٍ على

انفراد، وتضم الجماعة فيقال جالس الحسن أو الشعبي، والمعنى كل واحد من هؤلاءِ أهل أن يجالس، فإِن جالست الحسن فأنت مصيب، ولو قلت جالس الرجلين فجالست واحداً منهما وتركت الآخر كنت غير متبع ما أمرْت. فلو كان " مِن بعدِ وصيةِ يُوصِي بهَا وديْن " احتمل اللفظ أن يكون هذا إِذا اجتمعت الوصية والدينُ، فإِذا انفردا كان حكم آخر، فإِذا كانت " أو " دلَّت على أن أحدهما إِن كان فالميراث بعده، وكذلك إِن كانا كلاهما وقوله - عزَّ وجلَّ -: (آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا) في هذا غير قول: أمَّا التفسير فإِنه يروى أن الابن إِنْ كان أرفع دَرجةً من أبيه في الجنة أن يرفع إِليه أبوه فيرفع، وكلذلك الأبُ إِن كان أرفعَ درجةً من ابنه سأل يُرْفع ابنه إِليه فأنتم لا تدرون في الدنيا أيهم أقرب لكم نفعاً. أي إِن اللَّه - عزَّ وجلَّ - قد فرض الفرائض على ما هي عنده حكمة، ولو ذلك إِليكم لم تعلموا أيهم لكم أنفع في الدنيا، فوضعْتُم أنتم الأموال على غير حكمة. (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا) أَي عليم بما يصلح خلقه - حكيم فيما فرض من هذه الأَموال وغيرها. وقوله: (فريضةً مِن اللَّهِ).

(12)

منصوب على التوكيد والحال من. . ولأبَويْهِ. . . أي، ولهؤُلاءِ الورثة ما ذكرنا مفروضاً. ففريضة مَؤكدة لقوله (يوصيكم الله). ومعنى (إنَ اللَّه كانَ علِيماً حكِيماً) فيه ثلاثة أقوال: قال سيبويه: كَان القوم شاهدوا علماً وحكمة ومغفرة وتَفَضلا، فقيل لهم إِن الله كان كذلك ولم يزل، أي لم يزل على ما شاهدتم. وقال الحسن: كان عليماً بالأشياءِ قبل خلقها، حكيماً فيما يقدر تدبيره منها. وقال بعضهم: الخبر عن الله في هذه الأشياءِ بالمُضِى، كالخبر بالاستقبال والحال، لأن الأشياءَ عند الله في حال واحدةٍ، ما مضى وما يكونُ وما هو كائن. والقولان الأولان هما الصحيحان لأن العرب خوطبت بما تعقل، ونزل القرآن بلغتها فما أشبه من التفسير كلامها فهو أصح، إِذ كان القرآن بلغتها نزل. وقال بعضهم: الأب تجب عليه النفقة للابن إِذا كان محتاجاً إِلى ذلك. وكذلك الأب تجب نفقته على الابن إِذاكان محتاجاً إِلى ذلك، فهما في النفع في هذا الباب لا يدرى أيهما أقرب نَفْعاً. والقول الأول هو الذي عليه أهل التفسير. * * * وقوله عزَّ وجل: (وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12) (وإِنْ كَانَ رَجُل يُورَثُ كلَالَةً): يقرأ يُورث وُيورِث. . بفتح الراءِ وكسرها -. فمن قرأ يُورِث - بالكسر - فكلالة. . مفعول، ومن قرأ " يُورَثُ " فكلالة منصوب على الحال. زعم أهل اللغة أن الكلالة من قولك " تكلله النسب، أي لم يكن الذي

يَرثُه ابنَه ولا أبَاه. والكلالة سوى الولَدِ والوَالِدِ، والدليل على أن الأب ليس بكلالة قول الشاعر: فإِن أبا المرءِ أحمى له. . . ومولى الكلالة لا يغضبُ وإِنما هو كالإكليل الذي على الرأس. وإنما استُدِل على أن الكلالةَ ههنا الِإخوة لأمٍّ دون الأب بمَا ذُكر في آخر السورة أن للأختين الثلثين وأن للِإخوة كل المال، فعلم ههنا لما جُعِلَ للواحد السدسِ، وللاثنين الثلثَ، ولم يُزادُوا على الثلث شيئاً ما كانوا، عُلِم أنه يعني بهم الِإخوةُ لأمٍّ. فإِن ماتت امراة وخلَّفتْ زوجاً وأُمًّا وإِخوةً لأمٍّ فللزوج النصف وللام السدس، وللِإخوة من الأم الثلث. فإِن خلَّفتْ زوجاً وأُمًّا وإِخوة لأبٍ وأمٍّ وإِخوة لأمٍّ فإن هذه المسألة يسميها بعضهم المسألة المشتركة، وبعضهم يسميها الحمارية. قال بعضهم: إِن الثلث الذي بقي للِإخوة للأمِّ دون الِإخوة للأب والأم، لأن لهؤُلاءِ الذين للأمِّ تسمية وهي الثلث وليس للإِخوة للأب والأم تسمية، فأعطيناهم الثلث. كما أنَّه لو مات رجلٌ وخلَّف أخوين لأمٍّ، وخلَّف مائة أخ لأبٍ وأمٍّ لأعطِي الأخوان للأمِّ الثلث وأعطي المائة الثلثين، فقد صار الِإخوة للأمِّ يفْضلُون في الأنصباءِ الإخوة للأب والأمِّ الأشقاء. وقال بعضهم: الأمُّ واحِدة.

(13)

وسموها الحمارية بأن قالوا: هَبْ أباهم كان حماراً واشتركوا بينه. فسمِّيتْ المشتركة. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ). غير منصوب على الحال. المعنى يوصي بها غير مضار، فمنع اللَّه عزَّ وجلَّ من الضِّرارِ في الوصيةِ. وروي عن أبي هريرة: من ضارَّ في وَصية ألقاهُ الله في واد من جَهنَّم أو من نارٍ ". فالضرار راجع في الوصية إِلى الميراث. (واللَّهُ عَلِيم حَلِيمٌ). أي عليم ما دبر من هذه الفرائض، حليم عمَّنْ عصاه بأن أخرَّهُ وقبل توبته. * * * (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) أي الأمكنة التي لا يَنْبَغِي أنْ تتجَاوَزَ. (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ). أي يقيم حُدَودَه على ما حَدَّ. (يُدْخِلْهُ جَنَاتٍ تَجرِي مِنْ تَحتِهَا الأنْهَارُ خَالِدينَ فِيهَا). أي يدخلهم مقدَّرين الخلود فيها، والحال يستقبل بها، تقول: مَرَرْتُ بِه مَعَهُ بازٍ صَائِداً به غداً، أي مقدراً الصيدَ به غداً. * * * (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14) أي يجاوز ما حدَّه الله وأمر به. (يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا). خالداً من نعتِ النار، ويجوز أن يكون منصوباً على الحال أي يدخله مقدَّراً له الخلود فيها. قوله جَلَّ وعزَّ: (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15)

(16)

الفاحشة الزنا، والتي يُجْمَع اللاتي، واللواتي. قال الشاعر: من اللواتي والتي واللاتي. . . زَعَمْن أنِّي كبِرَتْ لِدَاتِي ويجمع اللاتي بإِثبات الياءِ ويُحذَف الياءُ. قال الشاعر: من اللاءِ لم يحججن يبغينَ حِسْبة. . . ولكن ليقتلن البريء المغَفَّلا (فاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهنَّ أربَعةً مِنْكُمْ). أي من المسلمين. (فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا). هذا كان الفرضَ في الزنا قبل أن ينزل الجَلْدُ، وَيأمُرَ النبى - صلى الله عليه وسلم - بالرجْم، فكان يُحبَسُ الزانيان أبداً. ْوقال بعضهم: (أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا) هو الحد الذي نسخ التخليد في الحبْس والأذى. (وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (16)

(17)

قال بعضهم: كان الحبسُ لِلثيبينِ، والأذَى للبِكْرَيْنِ، يوبخان، فيقال لهما زنيتما وفَجَرْتُمَا وانتهكتما حرمات اللَّه، وقال بعضهم: نسخ الأذى لهما مع الحبس، وقال بعضهم: الأذى لا ينبغي أن يكون منسوخاً عنهما إِلا أن يتوبا، وإِن قوله عزَّ وجلَّ: (وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2). هو من التوبيخ لهما بأن يفضحا على رُؤُوسِ الملأ. أمَّا ما سلف مما كان في أمر الفاجرين فقد استغنى عنه إِلا أن الفائدة فيه أن الشهادة لم تزل في الزنا شهادةَ أربعة نفَر. * * * وقوله تعالى: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17) ليس معناه أنهم يعملون السوءَ وهُم جُهَّال، غيرُ مُميزينَ فإن من لا عقل له ولا تمييز لا حدَّ عليه، وإنَّمَا معنى بجهالة أنهم في اختيارهم اللذة الفانية على اللذة الباقيةِ جُهَّال. فليس ذلك الجهل مسقطاً عنهم العذابَ. لو كان كذلك لم يعذب أحَد ولكنه جهل في الاختيار. ومعنى (يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ) يتوقفون قبل الموت، لأن ما بين الإنسان وبين الموت قريب، فالتوبة مقبولة قبل اليقين بالموت. وقوله: (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18) (حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ) إِنما لم تكن له التوبة، لأنه تاب في وقت لا يمكن الإقلاع بالتصرف فيما يحقق التوبة. (أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا). أي مؤلماً مُوجِعاً، والمؤلم الذي يبلغ إِيجاعُه غاية البُلوغِ.

(19)

وقوله - عزَّ وجلَّ -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19) معناه تكرهوهن على التزويج بِكم. وهذه نزلت لأَنهم كانوا إِذا مات زوج المرأة وَلَه ولَد من غيرها ضَرَبَ ابنه عليها حجاباً، وقال: أنا أحقُّ بها، فتزوجها على العقد الذي كان عقده أبوه من تزوجها ليرثها ما ورثت من أبيه، فأَعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أن ذلك حرام. وقوله تعالى: (وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ). هؤلاءِ غير أُولَئِكَ. حرم الله أن تًعْضل المرأة، ومعنى تعضل تحبس عن التزوج. كان الرجل منهم إِذا تزوج امرأَة ولم تكن من حاجَتِه حَبَسها لتفتدَي منه، فأعلم اللَّه عزّ وجلَّ - أَن ذلك لا يحل. و" تعضلوهن " يصلح أن يكون نصْباً ويصلح أن يكون جزماً. أما النصب فعلى: أَن لا يحل لكم أن ترثوا النساءَ وَلَا أن تعضلوهن، ويصلح أن يكون جزما على النَّهي. (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ). والفاحشة الزنا. (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ). أي بالنصفة في المبيت والنفقة، والإِجمال في القول.

(20)

وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20) معناه إِذا أردتم تخلية المرأة، إِذا أراد الرجل أن يستبدل مكانها وَلمْ تُرِدْ. هذا شددَ اللَّهُ فيه بقوله: (وَلَا تعْضُلُوهُنَّ لتذهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتيتُموهُن). (وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا). القنطار المال العظيم، وقد بيَّنا ما قاله الناس فيه في سورة آل عمران. وقوله - عزَّ وجلَّ: (فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا). فحرم اللَّه الأَخذ من المهر على جهة الإِضرار بقوله: (أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا). والبهتان الباطلُ الذي يُتحيًر من بُطلانه، وبهتان حال موضوعة في موضع المصدرِ، المعنى أتأْخذونه مُبَاهتين وآثمين. * * * (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21) الإِفضاءُ أصله الغشيان، وقال بعضهم إذا خلَا فقد أفضى، غشي أو لم و (أَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا).

(22)

قال بعضهم: هو عقدُ المَهر، وقال بعضهم: الميثاق الغليظ قوله: (فإِمسَاك بِمَعرُوفٍ أو تسْرِيحٌ بِإِحْسَان) وقوله (وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا) والتسريح بإِحسان لا يكون بأن تأخذ منها مهرها. هذا تسريح بإساءَة لا بإِحسَان. * * * وقوله - جلَّ وعزَّ - (وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (22) المعنى: لا تنكحُوا كما كان مَن قبلكم يَنكحُ ما نَكَح أبوه، فهذا معنى (إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ). (إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً). المعنى إِلا ما قد سلف فإِنه كان فاحشةً، أي زناً (وَمَقْتًا). والمقت أشد البُغْض. (وَسَاءَ سَبِيلًا). أي وبئسَ طريقاً. أي ذلك الطريق بئس طريقاً. فالمعنى أنهم أعلموا أن ذلك في الجاهلية كان يقال له مقت، وكان المولود عليه يقال له المَقْتِي. فأعْلِمُوا أن هذا الذي حرم عليهم لم يزل منكراً في قلوبهم ممقوتاً عندهم. وقال أبو العباس محمد بن يزيد: جائز أن تكون " كان " زائدة، فالمعنى على هذا: إِنه فاحِشَة ومقت، وأنشد في ذلك قول الشاعر:

(23)

فكيف إِذا حللتُ بدار قومٍ. . . وجيرانٍ لنا كانوا كرامِ قال أبو إسحاق: هذا غلط من أبي العباس، لأنَّ " كان " لو كانت زائدة لم تنصب خبرها. والدليل على هذا البيتُ الذي أنشده: وجيران لنا كانوا كرام ولم يقل: كانوا كراماً. * * * وقوله: - جلَّ وعزَّ -: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23) هذا يسمى التحريمَ المبهم، وكثيرٌ من أهل العلم لا يفرق في المبهم وغير المبهم تفريقاً مقنعاً، وإِنما كان يسمى هذا المبهم من المحرمات لأنه لا يحل بوجه ولا سبب، واللاحقُ به (وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ) والرضاعة قد أدخلت هذه المحرمات في الِإبهام. (وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ). قد اختلف الناس في هذه فجعلها بعضهم مبهمة وجعلها بعضهم غير مبهمة. فالذي جعلها مبهمة قال إِنَّ الرجل إِذا تزوج المرأة حرمت عليه أمها دخل بها أو لم يَدخُل بها. واحتج بأن (اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ) إِنما هو متصل بالربائب. وروي عن ابن عباس أنه قال: (وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ) من المبهمة.

(وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ). قال أبو العباس محمد بن يزيد: (اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ) نعت للنساءِ اللواتي هن أمهات الربائب لا غير، قال: والدليل على ذلك إِجماع الناس أن الربيبة تحل إِذا لم يُدْخل بأمها، وأن من أجاز أن يكون قوله: (مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ) هو لأمهات نسائكم، يكون المعنى على تقديره، وأمهات نسائكم من نسائكم اللاتي دخلتم بهنَّ. فيخرج أن يكون اللاتي دخلتم بهن لأمهات الربائب. والدليل على أن ما قاله أبو العباس هو الصحيح أن الخبرين إِذا اختلفا لم يكن نعتهما واحداً. لا يجيز النحويون: مررت بنسائك وهربت من نساءِ زيد الظريفات، على أن تكون الظريفات نعتاً لهؤُلاءِ النساءِ وهُؤلاءِ النساءِ. والذين قالوا بهذا القول أعني الذين جعلوا أمهات نسائكم بمنزلة قوله: (مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ) إِنما يجوز لهم أن يكون منصوباً على " أعني " فيكون المعنى أعني اللاتي دخلتم بِهنَّ، وأن يكون (وأمهاتُ نسائكم) تمام هذه التحريمات المبهمات، ويكون الربائب هن اللاتي يحللن إِذا لم يُدْخل بأمهاتهِنَّ قط دون أمهات نسائكم هو الجَيِّد البالغ. فأمَّا الربيبة فبنت امرأة الرجل من غيره، ومعناها مربوبة، لأن الرجل هو يَرُبُّهَا، ويجوز أن تسمى ربيبة لأنه تولى تربيتها، كانت في حجره أو لم تكن تربت في حجره، لأن الرجل إِذا تزوج بأمها سمي ربيبها، والعرب تسمِّي الفاعلين والمفعولين بما يقع بهم ويوقعونه، فيقولون: هذا مقتول وهذا ذبيح، أي قد وقع بهم ذلك. وهذا قاتل أي قد قتل، وهذه أضْحيًةُ آلِ فلان لما قَد

(24)

ضحوْا به، وكذلك هذه قَتُوبَةُ، وهذه حلوبة، أي ما يقتب وُيحْلب. وقوله: (وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ). جمع حليلة وهي امراة ابن الرجل، لا تحل للأب، وهي من المبهمات وحليلة بمعنى مُحلَّة. مشتق من الحلال. (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ). (أَنْ) في موضع رفع، المعنى حرمت هذه الأشياءُ والجمع بين الأختين. (إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ). المعنى سوى ما قد سلف فإِنه مغفور لكم. * * * وقوله: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24) القراءَة بالفتح. قد أجْمَعَ على الفتح في هذه، لأن معناها اللاتي أحْصِنَّ بالأزواج. ولو قرئت والمُحصِناتِ لجاز، لأنهُنَّ يحْصِنَّ فروجهن بأن يتزوجن. وقد قرئت التي سوى هذه " المحْصَنَاتِ " و " والمحصِناتِ ". (إِلا ما ملكتْ أيْمانُكمْ). أي إِنْ ملك الرجلُ محصنة في بلاد الشرك فله أن يطأها، إِلا أن جميع الوطءِ لا يكون في ملك اليمين إِلا عنِ اسْتِبرَاء، وقد قال بعضهم: إِن الرجل إِذا ملك جارية وكانت متزوجة فبيْعُها وملكُها قد أحلَّ فَرْجَها، وإِن لم تكن

أحْصِنَت في بلاد الشرك، والتفسير على ما وصفنا في ذوات الأزواج في الشرك. وقوله: (كِتَابَ اللَّهِ عليْكُم). منصوب على التوكيد محمول على المعنى، لأن معنى قوله: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ) كتب الله عليكم هذا كتاباً كما قال الشاعر: ورُضْت فذلًت صعبة أي إِذْلَالٍ لأن معنى رُضْتُ أذللتُ. وقد يجوز أن يكون منصوباً على جهة الأمر، ويكون (عليكُم) مفَسراً له، فيكون المعنى ألزموا كتاب اللَّه. ولا يجوز أن يكون منصوباً ب (عليكُم)، لأن قولك: عَلَيْك زيداً، ليس لهُ ناصِب متَصرف فيجوز تقديمُ منصوبه. وقول الشاعر: يا أيُّها المائحُ دَلْوي دونَكَا. . . إني رأيْتُ الناسَ يَحْمَدونكا يجوز أن يكون " دلوي " في موضع نصب بإضمار خُذْ دَلْوي، ولا يجوز على أن يكون دونك دلوى لما شرحناه.

ويجوز أن يكون " دلْوي " في موضع رفع، والمعنى هذا دلوي دونكا. ويجوز أن يكون (كتابَ اللَّه علْيكُمْ) رفعاً على معنى هذا فرض اللَّه عليكم، كما قال جلَّ وعزَّ: (لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ). وقوله: (وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ). و (أَحَلَّ) أيضاً يُقرآن جميعاً، ومعنى ما وراءَ ذلكُمْ، ما بعد ذَلِكمْ، أي ما بعد هذه الأشياءِ التي حرمت حلال، على ما شرع اللَّه، إِلا أن السنة قد حرمت تزوُجَ المرأة على عمتها، وكذلك تزوجها على خالتها، ولم يقل اللَّه - عزَّ وجلَّ -: لا أحرم عليكم غير هذا. وقال عزَّ وجلَّ: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ). وأَتَوهَّمُ أن الخالة كالوالدة، وأن العمَّة كالوالد، لأن الوالد في وجوب الحق كالوالدة، وتزوجها على عمتها وخالتها من أعظم العقوق. وقوله عزَّ وجلَّ: (أنْ تبْتَغوا بأمْوالكُمْ). نصب وإِن شئت رفْع. المعنى أحلَّ لكم أن تبتغوا محْصِنينَ غيرَ مسافِحِين. أَى عاقدين التزويج غير مسافحين. أَي غير زناة، والمسَافِحُ والمسافحةُ الزانيان غير الممْتَنِعَيْن منَ الزَنا، فإِذا كانت تزني بواحد فهي ذات خدن. فحرَّم الله الزنا على الجهات كلها، على السفاح وعلى اتخاذ الصديق. والإحصان إِحصان الفرج وهو إِعْفَافه، يقال امْرأَة حَصان بينة الحُصن،

وفرس حصان بينة (التحصن) والتحصين وبناء حصين بَيّنُ الحصَانة. ولو قيل في كله الحِصانة لكان بإِجماع. والسفاح في الزنا اشتق من قولهم سفحت الشيءَ إِذا صبَبْتُه، وأمر الزنا سفاح لأنه جارٍ على غير عقْدٍ، كأنَّه بمنزلة السفُوحِ الذي لا يحبسه شيء. وقوله: (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً). هذه آية قد غلط فيها قوم غلطاً عظيماً جداً لجهلهم باللغة. وذلك أنهم ذهبوا إِلى أن قوله: (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ) من المتعة التي قد أجمع أهل الفقه أنها حرام. وإِنما معنى قوله (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ) أي فما نكحتموه، على الشريطة التي جرت في الآية، آية الإحْصَانِ: (أنْ تَبْتَغُوا بأموالِكُم مُحْصِنينَ)، أَي عاقدين التزويج الذي جرى ذكره. (فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً). أي مهورهن، فإِن استمتع بالدخول بها أعطى المهر تَامًّا، وإِن استَمْتَع بعقد النكاح آتى نصف المهر. والمَتاعُ في اللغة كل ما انتفع به، فهو متاع. وقوله عزَّ وجل، في غير هذا الموضع: (ومتَعُوهُنَّ على المُوسِع قَدَرُه) ليس بمعنى زوجُوهُنَّ المُتَعَ، إِنما المعنى أَعطوهُن ما يَستَمْتِعْنَ به. وكذلك قوله: (للمطلقات متاع بالمعْروف). ومن زَعَم أَن قوله: (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ) المتعة التي هي الشرط في التمتع الذي تعمله الرافضة فقد أخطأ خطأً عظيماً، لأن الآية واضحة بينة.

(25)

وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ). أي لَا إِثم عليكم في أن تهب المرأةُ للرجل مهرها، أو يهب الرجل للمرأة التي لم يدخل بها نصف المهر الذي لا يجب إِلا لمن دخل بها. (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا). أي عليماً بما يصلح أمر العباد - حكيماً فيما فرض لهم من عقد النكاح الذي حفظت به الأموال والأنساب. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25) المحصنات هن الحرائر، وقيل أيضاًَ العفائف، وقد قال بعض أصحابنا: إِنهن الحرائر خاصةً. وزعم من قال إِنهن العفائف: حُرِّم على الناس أن يتزوجوا بغير العفيفة، وليس ينبغي للِإنْسان أن يتزوج بغير عفيفة، واحتج قائل هذا القول بأن قوله عزَّ وجلَّ: (الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3). منسوخ، وأن قوله: (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ) يصلح أَن يكون يتزوج الرجل من أحب من النساء. ْوالدليل على أن المحصنات هن العفائف قوله: (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا) أي أعفَّتْ فرجْها.

والطَوْل: القدرة على المهْر. فقوله: (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا) أَي من لم يقدر على مهر الحرة، يقال: قد طال فلان على فلات طوْلًا. أي كان له فضل عليه في القدرة، وقد طال الشيء يطول طُولاً، وأَطلته إِطالةُ، وقد طال طِوَلُكَ وطِيْلُكَ، وطيَلُك أي طالت مدتك. قال الشاعر: إِنا محيوك فاسْلَمْ أيها الطلَلُ. . . وإِنْ بَلَغتَ وإِن طَالتْ بكَ الطِّيَلُ والطَوَل الحبل. وقال الشاعر: (تعرضُ المُهْرة بالطَوَل اللام مشددة للقافية. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ). الفتيات المملوكات، العرب تقول للأمة فتاة، وللعبد فتى أي من لم يقدر أن يتزوج الحرة جاز له أن يتزوج المملوكة إِذا خاف على نفسه الفجور. (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ). أي اعملوا على ظاهركم في الِإيمان، فإِنكم متعبدون بما ظهر من بعضكم لبعض. وقوله - عزَّ وجلَّ - (بعْضُكُم مِن بعْضٍ).

قيل في الحسبِ أَي كلكم ولد آدم، ويجوز أَن يكون قوله: (بعْضُكُمْ من بَعْضٍ) دينكم واحد لأنه ذكر ههنا المؤْمنات من العبيد. وإِنما قيل لهم ذلك لأن العرب كانت تطعن في الأنساب، وتفخر بالأحساب وتعيرُ بالهُجْنَة، كانوا يُسمُّون ابن الأمة الهَجِينَ، فأعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أن أَمر العبيد وغيرهم مستوفى الِإيمان، وإِنما كُرِه التزوجُ بالأَمة إِذا وُجِدَ إِلى الحُرَّةِ سبيل، لأن ولد الحر من الأمة يصيرون رقيقاَ، ولأن الأَمة مستخدمة ممتهنة تكثر عِشرَة الرجال، وذلك شاق على الزوج، فلذلك كره تزوًجُ الحر بالأمةِ. فأما المفاخرة بالأحساب والتعيير بالأنساب فمن أمر الجاهلية. يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: ثلاثٌ من أمْر الجاهلية، الطعن في الأنساب، والمفاخرة بالأحساب، والاستسقاءُ بالأنواءِ. ولَن تُتْرَك في الِإسلام. وقوله: (فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ). أمر الله أن تنكح بإذن مولاها. وقوله: (فَإِذَا أَحْصِنَّ). وتقرأ (أُحْصِنَّ) بضم الألف. (فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ). أي عليهن نصف الحد، والحد مائةُ جلدةٍ على الحر والحرة غير المُحَصَنَيْن، وعلى المحصنين الرجم، إِلا أن الرجم قتلٌ، والقتلُ لا نِصْف لهُ، فإِنما عليهن نصف الشيءِ الذي له نصف وهوالجلْدُ.

(26)

وقوله عزَّ وجلَّ: (ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ). أَي تَزَوُج الِإماءِ جائز لمن خاف العَنَتَ، والعنَت في اللغَةِ المشقة الشديدةُ. يقال من ذلك: أكمَةٌ عَنوتٌ إِذا كانت شاقة. قال أَبو العباسِ: (العنَت) ههنا الهلاك، وقال غيره: معناه. ذلك لمن خشي أَن تحمِله الشهوةُ على الزنا، فيلقى الِإثم العظيم في الآخرة والحدَّ في الدنيا، وقال بعضهم معناه أن يعشق الأمَة، وليس في الآية عشق، ولكنَّ ذا العشق يلقى عنتاً. وقوله: (وأَنْ تَصبُروا خيْر لَكُمْ). أي الصبْرُ خير لكُمْ لما وصفنا من أن الولَد يصيرون عبيداً. * * * وقوله: (يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) قال الكوفيونَ معنى اللام معنى أن، وأردْتُ، وأمرْت، تطلبان المستقبل، لا يجوز أن تقول: أردت أن قصتُ، ولا أمرت أن قمْتُ، ولم يقولوا لم لا يجوز ذلك. وهذا غلط أن تكون لام الجر تقوم مقام " أن " وتَؤدي معناها، لأن ما كان في معنى أن دخلتْ عليه اللام. تقول: جئتك لكي تفعل كذا وكذا، وجئت لكي تفعل كذا وكذا. وكذلك اللام في قوله: (يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) كاللَّامِ فِي كَيْ. المعنى: أَراده اللَّه عزَّ وجلَّ للتبيين لكم. أَنشد أهل اللغة: أردت لكيما لا ترى لي عبْرة. . . ومَنْ ذا الذي يعطي الكمال فيكمل

(27)

وأنشدنا محمد بن يزيد المبرد: أردت لكيما يعلم الناس أنها. . . سراويل قيسر والوفود شهود فأدخل هذه اللام على " كي "، ولو كانت بمعنى أَنْ لم تدخل اللام عليها، وكذلك أرَدْتُ لأن تقوم، وأمِرْتُ لأن أكُون مُطيعاً. وهذا كقوله تعالى: (إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ) أي إِن كنتم عبارتكم للرؤَيا، وكذلك قوله - عزَّ وجلَّ - أيضاً: (لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ). أَي الذين هم رهبتهم لربِّهمْ. وقوله: (وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ). أي يدلكم على طاعتِهِ كما دل الأنبياءَ والذين اتبعوهم من قبلكم. ومعنى (سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ)، أي طرق الذين من قبلكم، وقد بيَّنَّا ذلك فيما سلف من الكتاب. * * * وقوله: (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27) أي يدلكم بطاعته على ما يكون سبباً لتوبتكم التي يغفر لكم بها ما سلف من ذنوبكم.

(28)

(وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا). أي أن تعدلوا عن القصد. وقوله: (يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28) (وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا) أَي يستميله هواه. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) فحرم اللَّه - جلَّ وعزَّ - المالَ إِلَّا أنْ يُوجَدَ على السُّبُل التي ذكَر من الفرائض في المواريث والمهور والتسري والبيع والصدقات التي ذكر وجوهها. (إِلَّا أن تكُونَ تجارَةً). المعنى: إِلا أن تكون الأموالُ تجارة، ومن قرأ إِلا أن تكون تجارةٌ فمعناه إِلا أن تقع تجارة. (عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أنفُسَكُمْ). فاعلم أَن التجارة تصح برضا البّيعِ والمشْترى. * * * (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) أي ومن يأكلها ويقتل النفس - لأن قوله: (ولا تَقْتُلُوا أنفُسَكُمْ)، أي لا يَقتُل بعضكم بعضاً، فمن فعل ذلك عدواناً وظلماً: معنى العُدوان أن يعْدُوا ما أمرَ به، والظلم أن يضعَ الشيءَ في غير موضعه. وقوله: (فَسَوْفَ نَصْلِيهِ نَاراً). و (نُصْليه ناراً). وعد اللَّه - جلَّ وعزَّ - على أكلِ الأمْوالِ ظُلماً وعلى القِتالَ النارَ.

(31)

(وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا) أي سهلاً، يقال قد يَسَرَ الشيء فهو يسير إِذا سهل، وقد عَسَر الشيءُ وعَسِرَ إِذا لم يسهل فهو عسير. * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31) (تَجْتَنِبُوا) تتْركوا نِهائياً، والكبائر حقيقتها أَنها كل ما وعد اللَّه عليه النار نحو القتل والزنا والسَّرقة وأَكلِ مالِ اليتيم. ويروىَ عن ابن عباس: الكبائر إِلى أن تكون سبعين أَقرب منها إِلى أَن تكون سبعاً. قال بعضهم: الكبائر من أَول سورة النساءَ إِلى رأْس الثلاثين. والكبائر ما كبُرَ وعظم من الذنوب. * * * وقوله - عزَّ وجلَّ - (وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا). الاسم على أَدْخَلْتُ، ومن قال: " مَدخلا " بفتح الميم، فهو مبني على دخل مدخلًا، يعني به ههنا الجنة. * * * وقوله - جلَّ وعزَّ - (وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32) قيل: لا ينْبغي أَن يتمنى الرجل مَالَ غيره ومنْزلَ غيره، فإِن ذلك هو الحسد، ولكن ليقل: اللهم إِني أَسْأَلك من فَضْلِك، وقيل إِنَّ أمَّ سلمةَ قالت: ليْتنا كنا رجالاً فجاهدنا وغزونا وكان لنا ثوابُ الرجال. وقال بعضتهم. قال الرجال: ليتنا فضلنا في الآخرة علَى النسَاء كما فُضلنَا في الدنيا.

(33)

وهذا كله يرجع إِلى تمني الِإنسان ما لِغيره. * * * وقوله - عزَّ وجلَّ - (وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (33) أَي جعلنا الميراث لمن هو موْلى الميِّتِ، والموْلى كلُّ مَنْ يَليك، وكلُّ من والاكَ فهو مولى لك في المحبِّة. والموْلى مولى نعمةٍ نحو مولى العبْدِ. والمولى العَبدُ إِذا عَتَق. وقوله (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ). هؤُلاء كانوا في الجاهلية. كان الرجلُ الذليلَ يأْتي الرَّجلَ العزيزَ فيعاقدُه، أَي يحالفه، ويقولُ له أَنا ابنُك تَرثُنِي وأرثُكَ؛ حرمَتِي حرْمَتُكَ، ودَمِي دَمُك، وثأْرىِ ثَأْرك، وأَمر اللَّهُ - عزَّ وجلَّ - بالوَفاءِ لهم. وقيل إِن ذلك أمِرَ به قبل تسْمِيةِ المَواريث، وقيل أَيضاً أَمَر أَنْ يُوفَّى لهم بعقدهم الذي كان في الجاهلية، ولا يعْقِد المسلمون مِثلَ ذلك. وقال بعضهم الذي يعقد على الموالاة، ويجب أَن يُجْعلَ له نصيب في المال يَذهب إِلى أَنَ ذلك من الثلث الذي هو للميت. وإِجماع الفقهاءِ أنَّه لا ميراث لغير من وُصِفَ من الآباءِ والأبناءِ، وذوي العصبةَ والموالي والأزواج. * * * وقوله عزَّ وجلََّّ: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34) الرجُلُ قيِّم على المرأَة فيما يجب لها عليه، فأمَّا غير ذلك فلا، ويقال هذا قيِّمُ المرأَةِ وقِوَامُها قال الشاعر:

اللَّهُ بيني وبيْن قيِّمها. . . يفرُّ مِنِّي بئها وأتَبع جعل اللَّه عزَّ وجلَّ ذلك للرجال لفضلهم في العلم، والتمييز ولِإنْفاقِهم أموالهم في المهور وأقوات النساءِ. وقوله عزَّ وجلَّ: (فالصالحَاتُ قَانِتات). أي قيماتُ بحقوق أزواجهم. (بمَا حَفِظَ الله). تأويله - واللَّه أعلم - بالشيءِ الذي يحفظ أمْرَ الله ودين الله ويحتمل أَن يكون على معنى بحفظ اللَّه، أَي بأَن يحفَظْنَ اللَّه، وهو راجع إِلى أَمر اللَّه. * * * وقوله (وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ). النشوز كراهة أحدهما صاحبه، يقال نشزت المرأَة تَنْشِزُ وتَنْشُزُ جميعاً وقد قُرئ بهما: (وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فانْشُزوا. .) انشِزوا وانْشُزوا، فانشزوا، واشتقاقه من النَشزِ وهو المكان المرتفع من الأرض، يقال له: نَشْز ونشَز. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ). أي في النوم معهن، والقرب منهن فإنهن إِن كنَّ يحببن أَزواجهن شقَّ عليهن الهجران في المضاجع وإن كنَّ مُبْغِضَاتٍ وافقهن ذلك فكان دليلاً على النشوز مِنْهنَّ.

(35)

يقال هجرت الِإنسان والشيءَ أَهجرهُ هَجراً وهِجراناً، وأهجر فلان منصبَهُ يُهجره إِهْجَاراً. . إِذا تكلم بالقبيح، وهجر الرجل هجراً إِذا هذى. وهجرتُ البعير أَهجره هجراَ إِذا جعلت له هِجَاراً. والهجار حبل يُشد في حَقوِ البَعير وفي رسغِه، وهَجَّرتُ تهجيراً إِذا قمت قت الهاجة، وهو انتصافُ النهار. فأَمر اللَّه - عز وجل - في النساءِ أَن يبدَأْن بالموعظة أَولًا، ثم بالهجران بعْدُ، وإِن لم ينجعا فيهن فالضربُ، ولكن لا يكون ضرباً مبرحاً فإِن أَطعن فيما يُلتمس مِنهنَّ، فلا يُبْغِي عليهن سبيلاً، أَي لا يُطلُب عَليهن طريق عنتٍ. (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا). أَي هو متعال أَن يكلف إِلا بالحق ومقدار الطاقة. * * * وقوله جلّ وعزَّ (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35) قال بعضهم. . (خِفْتُمْ) ههنا في معنى أَيقنتم وهذا خطأ، لو علمنا الشقاق على الحقيقة لم يجنح إلى الحكمين. وإنما يخاف الشقاق والشقاق العداوة، واشتقاقه من - المتشاقين - كل صنف منهن في شق، أَي في ناحيةٍ، فأَمر الله تعالى - (إِنْ خِفْتُمْ) وقوع العداوة بين المرء وزوجه - أَن يبْعَثَوا حَكمين، حكم من أهل المرأَة وحكَماً من أَهل الرجل، والحكم القَيِّم بما يسند إِليه. ويروى عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه اجتمع إليه فئام

(36)

من الناس، - أي جمع كثير مع امراة وزوجها، قد وقع بينهما اختلاف فأمر حكمين أن يتَعَرفا أمْرهُمَا، وقال لهما اتدْرِيانِ ما عليكُمَا؟ إِنَّ عليكما إِنْ رأيتُما أَن تُفرقَا فَرقتُمَا، وإِن رَأيتُما أن تجْمعَا جَمَعْتُمَا. وقال بعضهم على الحكمين أن يَعظَا وُيعرِّفا ما على كل واحدٍ من الزوج والمرأَة في مجاوزةِ الحق، فإِن - رأيا أَن يفرقا فرقا، وإن رأيا أن يَجمعَا جمعاً. وحقيقة أَمر الحكمين أنهما يقصِدان للِإصْلاح، وليس لهما طلاق وإِنما عليهمَا أن يُعرفا الِإمامَ حقيقة ما وقفا عليه، فإن رأى الِإمام أن يفرق فرَّق، أو أن يَجمع جَمَعَ، وإِن وكَّلَهُما بتفريق أو بجمع فهما بمنزلة، وما فعلَ على " رضي اللَه عنه " فهو فِعْلُ للِإمَامِ أنْ يَفَعَلَه، وحَسْبُنا بعلي عليه السلامُ إِمَاماً. فلما قال لهما إِن رأيتما أن تجمعا جمعتما، وإِن رأيتما أن تُفرقا فَرقْتَمَا، كان قد ولَّاهًما ذلك ووكَلهمَا فيه. (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا). أي (عَلِيمًا) بما فيه الصلاح للخلق (خَبِيرًا) بذلك. * * * وقوله: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36) أي لا تعبدوا معه غيره، فإِن ذلك يفسد عبادته. (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا). المعنى أوصاكم الله بعبادته، وأوصاكم بالوالدين إِحساناً، وكذلك قوله تعالى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا). لأن معنى قضى ههنا أمرَ ووَصَّى.

وقال بعض النحويين (إِحْسَاناً) منصوب على وأحسنوا بالوالدين إِحْسَاناً. كما تقول: ضرْباً زيداً، المعنى اضرب زيداً ضرباً. (وَبذي القُرْبَى. .). أمرَ الله بالِإحْسَانِ إِلى ذوي القُرْبَى بَعْدَ الوالدين. و (اليتامَى) في موضع جر. المعنى وباليتامى والمساكين أوصَاكُم أيضاً، وكذلك جميع ما ذكر في هذه الآية، المعنى أحسنوا بهؤلاءِكلهم. (والجَار ذِي القُرْبَى). أي الجار الذي يقاربك وتعرفه وَيعْرفَك. (والجَارِ الجُنُبِ). والجار القريب المتباعد. قال علقمة: فلا تحرِمني نائلاً عَنَ جَنَابةٍ. . . فإِني امرُؤ وَسْطَ القِبَابِ غَرِيب وقوله عزَّ وجلَّ - (وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ). قيل هو الصاحب في السفر. (وابْنِ السبِيلَ). الضَيفُ يجب قِراه، وأنْ يَبَلَّغَ حيْثُ يريد. وقوله: (وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ). أي وأحسنوا بِمِلْك أيمَانكم، موضع ما عطف على ما قبلها. وكانت وصية النبي - صلى الله عليه وسلم - عند وفاته: " الصلاة وما ملكت أيمانكمْ ".

(37)

وقوله عزَّ وجلََّ: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا). المختال: الصَّلِفُ التيَّاه الجهولُ. وإِنما ذكر الاختيالُ في هذه القصة. لأن المختال يأنف من ذوي قرابَاتِه إذا كانوا فقراءَ، ومن جيرانه إذا كانوا كذلك، فلا يُحْسنُ عِشْرتَهم. * * * وقوله: (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (37) والبَخْل جَمِيعاً يُقْرَأ انِ. يُعْنَى به إليهودُ. لأنهم يَبخلون بعِلْمِ مَا كان عِندَهُم من مَبْعث النبي - صلى الله عليه وسلم - (وَيَكْتُمونَ مَا آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ). أي ما أعطاهم من العلم برسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - وقوله: (وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا). أي جعلنا ذلك عَتَاداً لهم، أو مُثْبَتاً لهم. فجائز أن يكون موضع الذين نصباً على البدل، والمعنى: إِنَّ اللَّه لا يحب من كان مختالا فخوراً، أي لا يحب الذين يبخلون. وجائز أن يكونَ رفعُه على الابتداءِ، ويكون الخبر (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ)، ويكون (وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ) عطفاً على (الذين يبخلون). في النصب والرفع. وهُؤلا يُعْنَى بهم المنافِقُون، كانوا يُظهرونَ الِإيمانَ ولا يؤمنون باللَّه واليوم الآخر. * * * (وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38) (وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا) أَي من يكن عمله بما يُسَوِّلُ له الشيطانُ فبئس العملُ عَمَلُه،

(39)

(فَسَاءَ قَرِينًا) منصوب على التفسير، كما تقول: زيد نعم رَجُلاً. وكما قال (سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا). * * * وقوله: (وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا (39) يصلح أَن تكون " مَا " و " ذَا " اسْماً واحداً، المعنى وأيُ شَيءٍ عَلَيْهِمْ. ويجوز أن يكون " ذَا " في معنى الذي، أو تكون " ما " وَحْدَهَا اسْماً. المعنى: وَمَا الَّذِي عَلَيهم (لَوآمَنُوا بِاللَّه وَاليَومِ الآخِرِ وأنْفَقُوا مِما رزَقَهمُ الله). هذا يدل على أن الذين يبخلون (يبخلون) بما عَلِمُوا. (وكان اللَّه بهم عليماً). * * * وقوله جلّ ثناؤُه: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40) مِثْقَال مِفْعَال من الثِقل، أي ما كان وزنه الذرة وقيل لكل ما يُعمَل " وزْن مِثْقَالٍ " تمثيلًا، لأَن الصلاة والصيام والأعمال لا وَزْن لها. لكنَّ الناسَ خوطبوا فيما في قلوبهم بتمثيل ما يُدْرَكُ بأبصَارِهم، لأَن ذلك - أَعني ما يبصَر - أَبينُ لهم. وقوله - عزَّ وجلَّ - (وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا). الأصل في " يكن " " تكون " فسقطت الضمةُ للجزم وسقطت الواو لسكونها وسكون النون، فأَما سقوط النون من " تكن " فأكثر الاستعمال جاءَ في القرآن بإثباتها، وإِسقاطِها قليل - قال الله عزَّ وجلَّ -: (إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا)

(41)

فاجتمع في النون أنها تشبه حروف اللين، وأنها ساكنة. فحذفت استخفافاً لكثرة الاستعمال كما قالوا - لا أدرِ، وَلا أبَلْ، والأجود لم أبال ولا أدري. و (حَسَنةً) يكون فيها الرفع والنصب، المعنى وإِن تكن فَعْلَتُه حسنةً يضاعِفْهَا، ومن قرأ (وإِن تكن حَسَنَةٌ) بالرفع،، رفع على اسم كان، ولا خبر لها وهي ههنا. في مذهب التمام والمعنى وإِن تحدث حسنة يضاعِفْها. (وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا). (ويؤتِ) بغير ياء. سقطت الياءُ للجزم، معطوف على (يضاعِفْهَا)، ووقعت " لَدُنْ " وهي في موضع جِر، وفيها لغَات. يُقَالُ لَدُ ولَدُنْ، وَلَدُن، وَلَدَى. والمعنى واحد ومعناه مِنْ قِبَلِهِ، إِلا أنها لا تتمكن تمكُنَ عِند، لأَنك تقول: " هَذَا القولً عَنِدي صَوَابٌ " ولا يقال: الوقت لَدَنيَّ صواب، وتقول: عندي مال عظيم والمال غائب عنك، و " لدن " لما يليك. * * * قوله - جلَّ وعزَّ - (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41) أي فكيف تكون حال هُؤلاءِ يومَ القيامة، وحذف " تكون حالُهُم " لأنَّ في الكلام دليلًا على ما حذف، و " كيف " لفظها لفظ الاستفهام، ومعناها معنى التوبيخ. قوله: (وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا).

(42)

أي نأتي بكل نبي أمَّةٍ يشهدُ عَليها ولها. * * * وقوله: (يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42) الاختيار الضَّمُ في الواوِ في عَصَوْا الرسول، لالتقاءِ السَّاكنين والكسر جائز، وقد فسرناه فيما مضى. وقوله: (لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ). وبهِمِ الأرض بضم الميم وكسرها. (وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا). أي يودون أنهم لم يبعثوا، وأنهم كانوا والأرضَ سواءَ. وقد جاءَ في التفسير أن البهائم يومَ القيامة تصير تراباً. فيودون أنهم يصيرون تراباً. قوله (وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا). فيه غير قول، قال بعضهم: وَدوا أن الأرض سويت بهم وأنهم لم يكتموا الله حَدِيثاً، لأن قولهم: (وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ) قد كَذبوا فيه، وقال بعضهم: (وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا). مستأنف لأن ما عملوه ظاهر عند اللَّه لا يقدرون على كتمه. * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43) قيل في التفسير: إِنها نزلت قبْل تحريم الخمر، لأن جماعةً مِنْ أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - اجتمعوا فشربوا الخمر فبل تحريمها، وتقدم رجل منهم

فصلى بهم فقرأ: قُلْ يا أيها الكَافِرُونَ أعبُد ما تعْبدُونَ، وأنتم عابدون ما أعْبدُ، وأنا عابد ما عَبَدْتُمْ فنزلت (لا تقربوا الصلاة وأنتُمْ سُكَارَى). ويروى أن عُمَر بنَ الخطاب قال: اللهم إن الخمر تضُرُّ بالعقولِ. وتذهب بالمال، فأنزِلْ فيها أمرك فنزل في سورة المائدة: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ). وقال: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ). والتحريم نص بقوله - عزَّ وجلَّ - (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ). فقد حُرمتِ الخمر بأنه قال: إِنَها إِثم كبير. وقد حرًم اللَّه - عزَّ وجلَّ - الِإثْمَ، فأَمر اللَّه - عزَّ وجلَّ - في ذلك الوقت ألا يَقْرَبَ الصلاةَ السكران وحرم بعْدُ ذَلِك السُّكرَ، لأن إِجماع الأمَّةِ أن السُّكْرَ حرام. وإِنما حُرَّمَ ذُو السُّكُرِ، لأن حقيقة السكر إنَّه لم يزل حراماً وقد بيَّنَّا هذا في سورة البقرة. وقوله: (حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا). أي لا تقربوا الصلاة وأنتم جنُب، إِلا عابري سبيل، أي إِلا مسَافِرين لأن المسافر يُعْوِزُه الماء، وكذلك المريض الذي يضُر به الغُسْلُ. ويروى أن قوماً غسلوا مجدراً فمات، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: قتلوه قتَلَهُم اللَّهُ، كان يجزيه التيممَ. وقال قوم: لاتقربوا مَوْضِعَ الصلاة، حقيقتُه: لا تُصلوا إِذا كنتم جُنباً

(44)

حتى تغتسلوا، إِلا أنْ لا تقدِرُوا على الماءِ، وإِلا أن تخافوا أنْ يَضرْكم الغسْلُ إِضْراراً شديداً، وذلك لا يكونُ إِلا في حالِ مَرضٍ. (فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا). معنى تيمموا أقصِدُوا، والصعيد وجهُ الأرضِ. فعلى الِإنسان في التيممِ أن يضرب بيديْه ضربةً واحِدةً فيمسح بهما جميعاً وجهه، وكذلك يضرب ضربةً واحدةً، فيمسح بهما يديه، والطيبُ هو النظيف الطاهر، ولا يُبَالي أكان في الموضع تراب أم لا، لأَن الصعيد ليس هو التراب، إِنما هو وجه الأرض، تراباً كان أو غيرَه. ولو أن أرضاً كانت كلُها صخراً لا ترابَ عليها ثم ضرب المتيممُ يده على ذلك الصخْرِ لكان ذلك طهُوراً إِذا مسح به وجهه. قال اللَّه عزَّ وَجَل -: (فتُصْبحَ صَعِيداً زلقاً) فأعلمك أن الصعيد يكون زلَقاً، والصُعُداتُ الطُرُقات. وإِنما سمي صعيداً، لأنَّها نِهايةُ ما يُصْعدُ إِليه من باطن الأرض، لا أعلم بين أهلِ اللغةِ اختلافاً في أن الصعيد وجهُ الَأرض. (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا). أي يقبل منكم العفو ويغفرُ لكم، لأَن قبوله التيمُم تسهيل عليكم. * * * وقوله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) قال بعْضُهم: (أَلَمْ تَرَ) أَلَمْ تُخْبر. وقال أهل اللغة أَلم تَعلَمْ، المعنى الم ينته علمك إِلى هُؤلاءِ، ومعناه أعرفْهُم. يُعنَى به علماءُ أَهلِ الكِتَاب، أَعطاهم اللَّه في كِتابِهمْ عِلْمَ نبوةِ النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه عندهم مكتوبٌ في التوراة والإنجيل يأمرُهم بالمعروف وينهَاهُم عن المنكر.

(45)

وقوله: (يشترونَ الضلاَلَةَ). أي يؤثرون التكذيب بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ليأخذوا على ذلكَ الرشَا وَيثْبُتَ لهم رياسَة. وقوله: (وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ). أي تَضِلُّوا طريق الهُدى، لأن السبيل في اللغة الطريق. * * * وقوله: (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45) أي هو أعرف بهم فهو يُعْلِمُكمْ ما هم علَيْه. (وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا). أي اللَّه ناصركم عليهم. ومعنى الباء التوكيد. المعنى وكفى الله ولياً وكفى اللَّه نصيراً، إِلا أن الباء دخلت في اسم الفاعل، لأن معنى الكلام الأمر، المعنى اكتفوا بالله. وقوله - عزَّ وجلَّ - (مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46) فيها قولان: جائز أن تكون مِنْ صلةِ الذين أوتوا الكتاب. والمعنى: ألم تر إِلى الذين أوتوا نصيباً مِن الكتاب من الذين هادوا. وَيجوز ُ أن يكون من الذين هادوا قوم يحرفون الكلم. ويكون (يحرفون) صفةً، والموصوف محذوف. أنشد سيبويه في مثل هذا قول الشاعر:

وما الدَّهرُ إِلا تارتان فمنهما أموتُ. . . وأخرى أبتغي العَيْشَ أكدَحُ المعنى منهما تارة أموت فيها. وقال بعض النحويين المعنى: مَنْ الذين هادوا من يحرفونه فجعل يحرفون صلة من. وهذا لا يجوز. لأنه لا يحذف الموصول وتبقى صلته. وكذلك قول الشاعر: لو قلت ما في قومها لَمْ تِيثَم. . . يفضلها في حَسَب وميسمِ المعنى ما في قومها أحد يفضلها. وزعم النحويون أن هذا إِنما يجوز مع " من " و " في ". وهو جائز إِذا كان " فيما بقي دليل على ما أُلْقَى. لو قلت: ما فيهم يقول ذاك أو ما عندهم يقول ذاك جازَا جميعاً جوازاً واحداً. والمعنى ما عندهم أحد يقول ذاك. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ). كانت إليهود - لُعِنَتْ - تقول للنبي - صلى الله عليه وسلم -: اسمَعْ، وتقول في أنفسها لا أسْمِعتَ. وقيل غَيرَ مسمَعٍ، غير مجاب إِلى ما تدعو إِليه وقوله: (وَرَاعِنَا). هذه كلمة كانت تجري بينهم على حد السُّخرى والهزؤ. وقال بعضهم: كانوا يَسبُّون النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذه الكلمة. وقال بعضهم: كانوا يقولونها

(47)

كِبْراً، كأنَّهم يقولون: ارعِنَا سمعَكَ أي اجعل كلامَك لسَمِعْنَا مَرْعًى. وهذا مما لا تخاطب به الأنبياءُ - (صلوات الله عليهم) - إِنما يخاطبون بالِإجلال والإعظام. وقوله: (لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ). أي يفعلون ذلك مُعَانَدةً للحق وطغياناً في الدين. وأصل " لَيا " لَوياً ولكن الواو أدغمت في الياء لسبقها بالسكون. وقوله: (فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا). أي فلا يُؤمنون إِلَّا إِيماناً قليلاً، لا يجب به أن يُسَمُّوْا المؤْمنين. وقال بعضهم: (فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا) أي إِلا قليلاً منهم، فإنهم آمنوا. * * * وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47) (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا) فيها ثلاثة أقوال. قال بعضهم نجعل وجوههم كأقفائهم. وقال بعضهم نَجَعَلُ وجوههم مَنَابت للشعرُ كأقفائهم. وقال بعضهم " الوجوه " ههنا تمثيل بأمر الدين. المعنى قبل أن نُضِلَّهُمْ مجازاةً لما هم عليه من المعاندة، فنُضِلَّهُمْ ضلالًا لا يؤمنون معه أبداً. * * * وقوله - جلَّ وعزَّ - (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48) أجمع المسلمون أن ما دون الكَبَائِر مغفور، واختلفوا في الكبائر فقال بعضهم: الكبائر التي وعد الله عليها النار لا تُغْفَرُ، وقال المشيخةُ من أهل

(49)

الفقه والْعِلْمِ: جَائِزٌ أن يَغْفِر كل ما دونَ ذَلِكَ بالتَوبة، وبالتَوبةِ يُغفر الشرك وغيره. (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا). افترى اختلق وكذب، إِثْماً عظيماً: أي غير مغْفًور. * * * وقوله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49) (أَلَمْ تَرَ): ألم تخبر في قول بعضهم. وقال أهل اللغة ألم تعلم وتأويله سؤال فيه معنى الِإعلام. تأويله أعلم قصَتهُم، وعلى مجرى اللغة ألم ينته علمك إِلى هؤلاءِ، ومعنى يزكون انفُسَهم أي تزعمون أنهم أزكياء. وتأويل قولنا: زكاءُ الشَيْءِ: في اللغة نماؤُه في الصلاح. وهذا أيضاً يعني به إليهًودُ. وكانوا جاؤوا إِلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بأطفَالِهمْ فقالوا: يا محمد أعلى هؤلاءِ ذنوبٌ؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لا، فقالوا كذا نحن، ما نعمل بالليْلِ يغْفَر بالليْلِ، وما نعمل بالنهار يُغْفَر بالنهار. قال اللَّه - عزَّ وجلَّ -: (بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ). أي يجعل من يشاء زاكياً. (وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا). تأويله ولا يظلمون مِقْدارَ فَتِيلٍ. قال بعضهم: الفتيل ما تَفْتُلُه بين إِصْبَعَيْكَ من الوسخ،. قال بَعضهم: الفتيل ما كان في باطن النَّواةِ من لِحائِها. وقالوا في التفسير: ماكان في ظهرها وهو الذي تَنْبتُ منه النخلة. والقِطْمِير جملة ما التفَّ عليها من لحائها. * * * وقوله - جلَّ وعزًَّ -: (انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (50)

(51)

أي يفعلونه ويختلقونه. ويقال: قد فَرَى الرجلُ يَفْرِي إِذا عمِلَ، وإِذا قَطَع زمن هذا: فرَيْتُ جِلدَه. فتأويله أن هذا القولَ أعني تزكيتَهمْ أنفُسَهُم فِرْيةٌ منهم. (وكَفَى بِهِ إثماً مبيناً). أي كفى هو إِثماً. مَنصوب عَلَى التمييز، أَي كفى به في الآثام. * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51) يعني به علماءُ إليهود. أي أعطوا علم أمْرِ النًبيَ - صلى الله عليه وسلم - فكتموه. (يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ). قال أهل اللغة: كل مَعْبُودٍ من دون اللَّه فَهُو جِبْت وطاغوت. وقيل: الجبتُ والطاغوتُ الكهنةُ والشياطينُ. وقيل في بعض التفسير: الجبت والطاغوت ههنا. حُيي بَنُ أخْطَب، وكعب بنُ الأشرف إليهوديان وهذا غير خارج عما قال أهل اللغة، لأنه إِذَا اتَبَعوا أمْرَهمَا فقد أطاعوهما من دون اللَّه - عزَّ وجلَّ. وقوله: (وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا). وهذا برهانٌ ودليلٌ على معاندة إليهود لأنهم زعموا إن الذين لم يُصدقُوا بشيء من الكتب وعِبادةَ الأصنام، أهدى طريقاً من الذين يُجَامِعُونَهم على كثير مما يصَدقونَ بِه، وهذا عِنادٌ بين. وقوله جلَّ وعزَّ: (سَبِيلًا)

(52)

منصوب على التمييز، كما تقول: هذا أحسن منك وجهاً وهذا أجود منك ثَوباً. لأنك في قولك: " هذا أجودُ منك " قد أبهَمْتَ الشيءَ الذي فَضلتَه به، إِلا أَنْ تريد أنَّ جُمْلته أجْوَدُ مِنْ جملتك فتقول: هذا أجود منك. وتمسك. وقوله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52) أي الذِين بَاعَدَهُم مِنْ رَحْمَتِه. وقد بيَّنَّا أن اللعنة هي المباعدة في جميع اللغة. شقوله: (وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا). أي من يباعِد الله من رحمته فهو مخذول في دعواه وحجته ومغلوب. واليهود خاصةً أبيَنُ خِذْلاناً في أنهم غُلِبُوا من بين جميع سائر أهل الأديان. لأنهم كانوا أكثر عناداً، وأنهم كتموا الحق وهم يعلمونه. * * * وقوله: (أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53) المعنى بل ألهم نصيب من المُلْكِ. (فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا) قال بعضهم: إِنما معناه أنهم لو أعْطُوا الملك، ما أعطوْا الناس نقيراً، وذكر النقير ههنا تمثيل، المعنى لضنَّوا بِالقليل. وأما رفع " يُؤْتُونَ" فعلى " فلا يؤتون الناس نقيراً إِذنْ " ومن نصب فقال: " فإِذا لا يؤتوا الناسَ " جاز له ذلك في غير القراءة فأَما المصحف فلا يخالف.

قال سيبويه: " إِذاً " في عوامل الأفعال بمنزلة " أَظن " في عوامل الأسماءِ، فإِذا ابتدأت إِذَنْ وأنت تريد الاستقبال نصبت لا غير، تقول: إِذَنْ أكرمَكَ، وإِن جعلتها معترضة ألغيتها فقلت: أنا إِذَنْ أكرمُكَ، أي أنا أكرفك إِذَنْ. فإن أتيت بها مع الواو والفاء قلتَ فإِذاً أكرمُك، وإِن شئت فإذَنْ أكرمَكَ. فمن قال فَإِذَنْ أكرمك نصَب بها وجعل الفاء ملصقة بها في اللفظ والمعنى، ومن قال: فإِذن أكرمَك جعل إِذاً لغواً، وجَعَل الفاء في المعنى معلقةً بأكرِمكَ والمعنى فأكرمُكَ إِذَنْ. وتأويل " إِذن ": إِن كان الأمر كما ذكرتَ، أو كما جرى، يقول القائل: زيد يصير إليكَ فتجيب فتقول إِذن أكرمه. تأويله إِنْ كان الأمر على ما تصِفُ وقع إكرامه فَأنْ مع أكرمه مقدرة بعدَ إِذَنْ. المعنى إِكرامك واقع أن كان الأمر كما قلت. قال سيبويه: حكى بعض أصحاب الخليل عن الخليل أن " أنْ " هي العاملة في باب إِذَنْ. فأمَّا سيبويه فالذي يذهب إِليه ونحكيه عنه أن إِذن نفسها الناصبة، وذلك أن (إِذَنْ) لما يستقبل لا غير في حال النسبِ، فجعَلَها بمنزلة أنْ في العمل كما جُعِلَتْ " لكنَّ " نظيرة " إِنَّ " فِي العَمَل في الأسماءَ. وكلا القولين حسن جميل إِلا أن العامِل - عندي - النصْبَ في سائر الأفعال، (أن)، وذلك أجود، إِما أن تقع ظاهرة أو مضمرة. لأن رفع المستقبل بالمضارعة فيجب أن يكون نصبه في مضارعه ما ينصب في باب الأسماء، تقول أظنُّ أنكَ

(54)

منطلق، فالمعنى أظن انطلاقكَ. وتقول أرجُو أن تذهب أي أرجو ذَهَابَك. فَ أن الخفيفة مع المستقبل كالمصدر. كما أن (أن) الشديدة مع اسمها وخبرها كالمصدر، وهو وجه المضارعة. * * * وقوله - عزَّ وجلَّ -: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54) معناه بَلْ أيَحْسُدُونَ النَّاسَ. وهنا يعني به النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت إليهود قد حسدته على ما آتاه اللَّه من النبوة، وهم قد علموا أن النبَوةَ في آل إِبراهيم عليه السلام، فقيل لهم: أتحسدون النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد كانت النبوة في آله وهم آل إبراهيم (عليهما السلام). وقيل في التفسير إِن إليهود قالت: إِن النبي - صلى الله عليه وسلم - شأْنه النساء، حسداً لما أحلَّ لَه مِنهنَّ، فأعلم اللَّه - جلَّ وعزَّ - أن آل إِبراهيم قد أوتوا ملْكاً عظيماً. وَقَالَ بعضهم نالوا من النساءِ أكثر مما نال محمد - صلى الله عليه وسلم - كان لداود مائة امرأة، وكان لسليمانَ ألف ما بين حُرَّةٍ ومملُوكَةٍ. فما بالهم حسدوا النبي - صلى الله عليه وسلم -. * * * وقوله: (فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (55) أي من آمن بالنبي - صلى الله عليه وسلم -. (وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ)

(56)

وقيل منهم مَنْ آمن به أي بهذا الخبر عن سليمان وداود فيما أعْطِيَا مِن النَسَاء. وقوله: (وكفى بجهنم سعيراً) المعنى كفت جهنم شدةَ توقدٍ. * * * وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56) (سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا) أي نَشْويهم في نار. ويروى أن يهودية أهدت إِلى النبي - صلى الله عليه وسلم - شاة مَصْلِيَّة أي مشويَّةً. وقوله: (كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا) الأحسَنُ إِظهار التاءَ ههنا مع الجيم. لئلا تكثر الجيمات، وإِن شئت أَدغم التاء في الجيم؛ لأن الجيم من وسط اللسان والتاء من طرفه، والتاء حرف مهموس فأدغمته في الجيم. فإن قال قائِل بدل الجلد الذى عَصَى بالجلد الذي غير العاصي، فذلك غلط من القَول. لأن العاصي والآلم هو الِإنسان لا الجلد. وجَائز أَنْ يكونَ بُدلَ الجلْدُ النَضِجُ. وأُعيد كَمَا كانَ جلدُه الأول، كما تقول: قد صغت من خاتَمِي خاتَماً آخر فأنت وإِن غيرت الصوغ فالفضة أصل وَاحِد. وقد كان الجلدُ بلِيَ بَعدَ البَعْتَ، فإنشاؤه بعد النضج كإِنشائه بعد البعث. وقوله: (ليَذُوقوا العَذَابَ) أي ليُبْلِغَ في أَلَمِهِمْ. وقوله: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا)

(57)

العزيز البالغ إِرادَتَه، الذي لا يَغْلبُه شي " وهو مع ذلك حكيم فيما يدبر، لأن ّ الملْحدين ربما سَألوا عن العذَابِ كيف وقع فأعلم الله عزَّ وجلَّ أن جميع مَا فعله بحكمةٍ. * * * وقوله: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57) المعنى تجري من تحتها مياه الأنهار، لأن الجاري على الحقيقة الماء. وقوله: (وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا) معنى ظليل يُظل من الريح والحر، وليس كل ظل كذلك. أعلم الله - عزَّ وجلَّ - أن ظِل أهل الجنَّة ظليل لا حَرَّ مَعَه ولا بَرْدَ. وكذلك قوله: (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) لأن ليس كل ظلٍّ مَمْدُوداً. * * * وقوله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58) هذا أمر عَامٌّ للنبي - صلى الله عليه وسلم - وجميع أُمَّتِه. ويروى في التفسير أن العباسَ عمَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يجعلَ له السقَاية والسِّدَانَةَ وهي الحِجبة. وهو أَن يجعل له مع السقاية فتح البيت وإِغلاقَه، فنازعه شيبةُ بن عثمان فقال يا رسول الله اردُدْ عليً ما أخذْت مِنِّي يعني مفتاح الكعبة، فرده - صلى الله عليه وسلم - على شَيْبَة. وقوله: (إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ)

(59)

هذه على أوجه - نِعِمَّا - بكسر النون والعين وإِدغام الميم في الميم. وإِن شئت فتحت النون، وإِن شئت أسكنت العين فقلت نَعْمَّا، إلا أن الأحسنَ عندي الِإدْغام مع كسرِ العَيْن فأمَّا من قرأ نِعْم مَا بإسكان العين والميم، فهو شيءٌ ينكره البَصْرِيُون، ويزْغمون أن اجتماع السَّاكنين أعني العين والميم غير جائز، والذي قالوا بَيِّن، وذلك إنَّه غير ممكن في اللفظ، إِنما يحتال فيه بمشقة في اللفظ. * * * وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59) أي أطيعوا اوُلي الَأمْر مِنكم، فأمر الله عزَّ وجلَّ بطاعته، فيما فرض. وطاعة رسوله وتصديقه فيما أدى عن اللَّه. وأولو الأمر منهم هم أصحابُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن اتبعهم من أهل العلم، وقيل إِنهم همُ الأمراءُ، والأمراءُ إِذا كانوا أولي علم ودينٍ آخذين بما يقوله أهل العلم، فطاعتهم فريضةٌ. وجُمْلَة أولي الأمر من المسلمين من يقول بشأْنهم في أمر دينهم وجميع ما أدى إِلى صلاح له. ويقال: أديت الشيءَ تأدية، والأداءُ اسم مَمْدود وأدوْتُ الرجُل آدو له أدواً إِذا خَتَلْته. قال الشاعر: أدَوْت له لأخْتِله. . .فهيهات الفتى حذرا وأَدِيَ اللبنُ أَدِيًّا إِذا حمض.

(60)

وقوله: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) معنى تنازعتم اختلفتم وتجادلتم وقال كل فريق: القولُ قولي. واشتقاق المنازعة أن كل واحد منهما ينزع الحجة. وفي هذه الآية أَمْر مَؤكد يدل على أَن القصد للاختلاف كفْر، وأنَّ الِإيمان اتباعُ الِإجماع والسُّنةِ. ولا يخلو قوله عزَّ وجلَّ: (فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ). من أحد أمرين: إِمَّا أنْ تَرُدّوا ما اخْتَلَفْتُم فيه إِلى كتاب الله وسنة رسوله، أَو تقولوا إِن لم تعلموه: اللَّه ورسوله أَعلم. (ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) أي إِنَّ رَدَّكم ما اختلفتم فيه إِلى ما أَتى من عند اللَّه وترككم التَحارُب خير، وأحْسَنُ تأْويلاً لَكُم، أَي أَحسنُ عاقبةً لكم. وجائز أن يكون أحسن تأويلًا أيأحسن من تاوُلِكم انتُم. دون رَدَكم إِياه إِلى الكتاب والسُثةِ. وتأْويلًا منصوب على التمييز. * * * وقوله: - (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) يًعْنى به المنافقون. (أَنَّهُمْ) تنوب عن اسم الزعم وَخبرِه. وقوله: (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ) إِلى الكاهن والشيطان.

(61)

ويروى أن رَجُلاً من المنافقين نازعه رجل من إليهود، فقال إليهودي بيني وبينك أبو القاسم وقال المنافق بيني وبينك الكاهن، فلم يرض إليهودي بالكاهن وصار إِلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فحكم لليهودي على المنافق فقال المنافق لا أرضى. بيني وبينك أبو بكر، فحكم أبو بكر أيضاً لليهودي، فلم يرض المنافق وقال بيني وبينك عمرُ فصارا إِلى عمرَ فأخبره إليهودي بأن المنافق قد حَكَمَ عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر فلم يرض بحكمهما. فقال عمر للمنافق: أكذاك؟ قال: نَعَمْ، فقال عمر: اصبروا فإن لي حاجة أدْخُلُ فأقْضِيهَا وأخرج إليكما فدخل وأخذ سيفه وخرج إِلى المنافق فضربه بالسيف حتى قتله، فجاءَ أهله فشكوا عُمَرَ إِلي النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأله عن قِصتِه فقال عمر: إِنه ردَّ حُكمَك يا رسولَ اللَّه، فقال رسول اللَّه: أنت الفارُوق. * * * وقوله: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) أي يَصدُّون عن، حُكْمِكَ. * * * وقوله: (فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) أي فكيف تكون حالُهم إِذا قُتِل صَاحبُهم بما أظهر من الخيانة ورَدَّ حُكْم النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقوله: (ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا) أي ما أرَدْنا بمُطَالَبَتِنَا بدمِ صاحِبِنَا إِلا إِحْسَاناً وطلباً لما يوافق الحق. * * * (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63) اللَّه يعلم ما في قلوب أُولَئِكَ وقلوب غيرهم، إلا أن الفائدة في ذكره

(64)

ههنا الذين يعلم الله ما في قلوبهم أي أُولَئِكَ الذين قد علم اللَّه أنهم منافقون. والفائدة لنا هي: اعلموا أنهم منافقون. * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا) أي أعلمهم أنهم إن ظهر منهم رَدٌّ لحِكُمكَ وكفر، فالقتل حقُهم. يقال قَولٌ بليغٌ إِذا كان يبلغ بعبَارةِ لسانه كُنْهَ مَا في قلبه، ويقال أحمَقُ بَلْغ وبلْغ. وفيه قولان: إنَّه أحمَقُ يبلغ حيث يريد، ويكون " أحمقُ بَلْغ وبلْغ " قد بَلَغَ في الحماقة. والقولُ الأول قول من يُوثَقُ بعِلْمه، والثاني وجه جَيدٌ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64) إي، أذِنَ في ذلك. و" مِنْ " دخلت للتوكيد. المعنى وما أرسلنا رسولاً إِلَّا ليطاع بإِذن اللَّه. وقوله: (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ) " أن " في موضع رفِع: المعنى لو وقع مجيئهم في وقت ظلمهم أنفسهم مع استغفارهم (لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا). * * * وقوله: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65) يُعنَىِ به المنافقون. (حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ) أي فيما وقع من الاختلاف بينهم. (ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ) أي لَا تَضِيقُ صدورُهم من قضيتيكَ. (وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)

(66)

أَي يسلمون لما يأتي به من حُكْمِكَ، لا يعارضونه بشيء، وتسليماً مصدر مَؤكد، والمصادر المؤَكدة بمنزلة ذكر الفعل ثانياً، كأنك إِذا قلت سلمت تسليماً فقد قلْت: سَلَّمْتُ سَلَّمْتُ. وحقُّ التوْكِيد أن يكون محقِّقاً لما تذكره في صَدْرِ كَلَامِك، فإِذا قُلْتَ ضَربتُ ضرباً، فكأنك قُلْتَ أحدَثْتُ ضَرْباً أحَقه ولا أشك فيه، وكذلك (وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) أي يسلمون لحكمك تسليماً، لا يُدْخِلون على أنفسهم فيه شَكاً. * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) " لو " يُمنَعُ بها الشيء لامتناع غيره. تقول لَوْ جاءَني زيد لَجئْتُه. المعنى أن مجيئي امتنع لامتناع مَجِيءِ زيْدٍ، فحقها أن يَلِهَا الأفعالُ. إلَاَ أن (أنَّ) المشدَدةَ تقع بعدها، لأن - " أنَّ " في اللغة تنوب عن الاسم والخبر، تقول ظننت أنك عالم. وهذا كقولك ظننتك عالماً. والمعنى ظننت علمك. فالمعنى في " أنَّ " بَعْدَ " لَوْ " أنها نابَتْ عن الفعل والاسم، كما نابت عن الاسم والخبر. فالمعنى في قوله: (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ) كالمعنى في لو كتبنا عليهم. وجائز أن يكون مضمراً الفعلُ مع (أنَّ) مع وقوع قابلها. المعنى ولو وقع وكتبْنَا عليهم أنْ اقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ أو اخرُجُوا من دِيارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلا قَليلُ مِنْهُمْ. وإِن شئت كسرتها لالتقاء السَّاكنين أعني. . (أَنِ اقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ) وإِن شئت قُلْتَ " أنُ اقتلوا " فضممتها لانضمام التاء. .

وأبو عمرو بن العلاء يختار مع النونات خاصة الكسَرَ ومَعَ سائِر ما في القرآن - إِذا كان ما بعدها مضموماً - الضَّمَ، إِلا قوله: (وَقَالَتِ اخْرُج عليهنَّ)، (وَلقَدِ اسْتُهزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ) ولست أعرف في هذين الحرفين خَاصيةَ أبي عمرو إِياهُمَا بالكَسْرِ إِلا أن يكونَ رَوَى روايةً فاختار الكسرَ لهذه العِلةِ، أو يكون أرادَ أن الكسرَ جازَ أيْضاً كما جاز الضمُ - وهذا أجْوَد التأويلين. وللكسر والضم في هَذِهِ الحروف وجهان جيدانِ قد قَرأت القراءُ بهما. فأمَّا رفع إلا قَليل. مِنْهم. فعلى البدل من الواو. المعنى ما فعله إِلا قليل منهم. والنصب جائز في غير القرآن، على معنى ما فعلوه اسْتَثْنِي قَلِيلاً مِنْهمْ. وعلى ما فسَّرنَا في نصب الاستثناء، فإن كان في النفْي نوعانِ مختلِفَان فالاختيار النصبُ، والبدَل جائز، تقول مَا بِالدارِ أحد إِلا حِمَاراً قال النابغة الذبياني: وَقَفْتُ فيها أُصَيْلالاً أسائلُها. . . عَيَّتْ جواباً وما بالرَّبْعِ مِنْ أحدِ إلاَّ الأَوارِيَّ لأْياً ما أُبَيِّنُها. . . والنُّؤْيُ كالحَوضِ بالمَظلُومة الجَلَدِ

(69)

فقال ما بالربع مِنْ أحدٍ، أي ما بالربعِ أحد إِلَّا أوارِي، لأن الأواري ليست من الناس. وقد يجوز الرفع على البدل، وإِن كان ليس من جنس الأول كما قال الشاعر: وبَلْدَةٍ ليس بها أنيسُ. . . إلاَّ اليَعافيرُ وإلاَّ العِيْسُ فجعل اليعافير والعيسَ بدلا من الأنيس. وجائز أن يكون أنيس ذلك البلد اليعافير والعس. * * * وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) وقوله: (وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا). يعنى النبيين، لأنه قال: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ) أي المطيعون. (مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا). أي الأنبياءَ ومن مَعَهمْ حسنوا رفيقاً. و" رفيقاً " منصوب على التمييز، ينوب عن رفقاء، وقال بعضهم لا ينوب الواحدُ عن الجماعة إِلا أن يكون من أسماء الفاعلين. فلو كان " حسُنَ القوم رجُلًا " لم يجز عنده. ولا فرق بين رفيق ورَجل في هذا المعنى لأن الواحد في

(71)

التمييز ينوب عن الجماعة، وكذلك في المواضع التي لا تكون إِلا جماعةً نحو قولك هُوَ أحسن فتى وأجملُه، المعنى هو أحسن الفتيان وأجملهم، وإذا كان الموضع الذي لا يُلْبِسُ ذِكْرُ الواحد فيه، فهو يُنْبى عن الجماعة كقول الشاعر: بها جِيَف الحَسْرى فأمَّا عِظامُها. . . فَبيضٌ وأَمَّا جِلْدُها فَصَلِيبُ وقال الآخر: في حَلْقِكم عَظم وقد شَجينَا يريد في حلوقكم عِظَام، ولو قلت حسُنَ القوم مجاهداً في سبيل اللَّه. وحسن القوم رجلاً كان واحداً وقوله: (وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا). معناه: كَفَى اللَّهٌ عَلِيمًا، والباء مَؤكدة. المعنى اكتفوا باللَّه عليماً. * * * وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (71) أمر اللَّه أن لا يلْقِيَ المؤمنون بأيديهم إِلى التهلكة وأن يحذروا عدوهم وأن يجاهدوا في الله حق الجهاد، ليبلو الله الأخيارَ وضمِنَ لهم مع ذلك النَصْرَ، لأنه لو تولى اللَّه تعالى قتل أَعدائه بغير سبب للآدميين لم يكونوا مثَابينَ، ولكنه أمر أن يُؤخَذَ الحذَرُ. وقال: (فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا)

(72)

والثُباتُ الجماعات المتفرقة، واحدها ثُبَة. قال زهير ابن أبي سلمى: وقد أَغْدُو على ثُبَةٍ كِرامٍ. . . نَشاوى واجِدين لِما نشاءُ قال سيبويه ثُبة تجمعُ ثُبُون وثُبينَ، في الرفع والنصب والجر وإِنما جُمِعتْ بالواوِ والنون - وكذلك عِزَة وعِضَة - كقوله عزَّ وجلَّ (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) - لأنَّ الواو والنون جُعَلتَا عوضاً من حذف آخر الكلمة. وَثُبة التي هي الجماعة محذُوف آخرها؛ تُصَغَّرُ ثُبيَّة، وَثُبة الحوض وسطُه حيث يثوب الماءُ إِليه تُصَغَّر ثُوبَيْةَ، لأن هذا محذوفة منه عين الفِعْل، وإِنما اشتقت ثبة الجماعة من ثَبيْتُ عَلى الرجُلِ إِذا أثْنَيت عليه في حياته، وتأويله أنك جمعت ذكر محاسنه، فأما الثبَةُ الجماعة من فرقة. فتأويله انفروا جَماعات مُتَفَرقة أو انفروا بعضكم إلى بَعْض. * * * وقال: (وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (72) أي ممن أظهر الِإيمان لمن يبطى عن القتال، يقال قد ابطا الرجل وبَطُوءَ بمعنى، أبطأ تأخر، ومعنى بطوءَ ثقل، إِبطاءً، وبُطْئاً. واللام الأولى التي في " لَمَنْ " لام إِن، واللام التي في ليَبطئَن لام القَسِمُ، ومَنْ موصولة بالجالب للقَسِمَ، كان هذا لو كان كلاماً لقلْتَ إِن منكم لمَن أحلِف واللَّه لِيُبطًئن. والنحويون يجمعون على أن مَنْ ومَا والذي

(73)

لا يُوصَلْنَ بالأمر والنهي إِلا بما يُضْمَر معها من ذكر الخبر، وأن لام القسم إِذا جاءَت مع هذه الحروف فلفظ القَسمِ وما أشْبَه لفْظَهُ مضمر معها. وقوله: (فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ) هذا المَبطِّئ: (قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا). أي لم أشْركهُمْ في مُصِيبَتهم. (وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا (73) أي ظفِرتم وغَنِمْتُمُ. (لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ). (كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ) جائز أن يكون وقع ههنا معترضاً: المعنى: ولئن أصابكم فضل من اللَّه ليقولَنَّ. (يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا) ويكُونَّ: (إِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا) (كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ). ومعنى المودَّة ههنا، أي كأنَّه لم يُعاقِدْكُمْ على الإيمان أي كأنَّه لم يُظهر لكم المودةَ، وجائز أن يكون - واللَّه أعلم - ليقُولَنَّ يا ليتني كنت معهم كأنْ لم تكن بينكم وبينه مَودةً، أي كأنَّه لِم يعاقدكم على أن يجاهِدَ معكم. فلا يكون في العربيَّةِ فيه عيْبٌ ولا ينقص معنَى. . واللَّه أعلم. (فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا). (فَأَفُوزَ) منصوب على جواب التمني بالفاء. وقوله: (فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74)

(75)

أي إِنْ كانَتْ بينكم وبينه عقدة أمَان فليقاتل في سبيل الله معكم. (الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ) أي يبيعون، يقال شريت بمعنى بعت، وشَرَيتُ بمعنى اشتَريْتُ قال يزيد بن مُفرِغ. وشَريْتُ بُرداً ليتني. . . من بَعْد بُردٍ كنتُ هامَهْ بُرْدٌ غلامه، وشريته بعتُه. * * * وقوله: (وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75) " ما " منفصلة. المعنى أَي شيءَ لكم تَارِكِينَ القتالَ. و (لاَ تُقَاتِلُونَ) في موضعِ نَصْبِ على الحال كقوله - عزَّ وجلَّ - (فما لهم عن التَذكِرةِ مُعْرِضين) (والمستضعَفِين) في موضع جَرٍّ. المعنى وما لكم لا تُقَاتِلون في سبيل اللَّه وسبيل المستضعفين. (مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا). يعني بالقرية مكة، أي ما لكم لَا تسعون في خلاص هؤلاءِ. وقوله: (وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا) أي تَولَّنا بنصرك وخَلِّصْنا من أهْل مكة الظالمِ أهلُهَا. فهو نعت لقرية، ووحدَ الظالم لأنه صفة تقع موقع الفِعل تقول مررت بالقرية الصالح أهلهَا كقولك التي صَلَحَ أهْلهَا.

(76)

قال أبو العباس محمد بن يزيد: (والمستضعفين) في موضع جر: من وَجْهَين: المعنى ما لكم لا تقاتلون في سبيل اللَّه وفي المستضعفين. قال وجائز أن يكون عطفاً على اسم اللَّه، أي في سبيل الله وسبيل المستضعفين، قال: واختار أن يكون على " وفي المستضعفين " لاختلاف السبِيلين، لأن معنى سبيل المستضعفين كأنه خلاص المستضعفين، وقول أكثر النحويين كما اخْتار أبو العباس محمد بن يزيد. والوجه الثاني عِندي أشبه بالمعنى، لأن سبيل المستضعفين هي سبيل اللَّه. * * * وقوله جلّ وعر: (الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76) (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ). الطاغُوتُ في قول النحويين أجمعين يذكَر ويؤنًثُ. وفي القرآن دليل على تذكيره وتأنيثه، فأما تذكيره فقوله: (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ)، وأمَّا تأْنيثه فقوله - جلَّ وعزَّ -: (والذِينَ اجتَنَبوا الطاغوت أن يَعبُدوهَا). قال أبو عبيدة: الطاغوت ههنا في معنى جماعة. كما قال الله - عزَّ وجلَّ -: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ) معناه لحم الخنازير كلها. والطاغوت الشيطان، وكل معبود من دون اللَّهِ فهو طاغوت. والدليل على أن الطاغوت الشيطان قوله: (وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60). * * * وقوله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77) قيل كان المسلمون قبل أن يؤمروا بالقتال قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم -: لو أذنت

(78)

لنا أن نعمَلَ مَعَاوِلَ نقاتل بها المشركين، فأمروا بالكف وأداءَ ما افْترِضَ عليهم غير القتال، فلما كتبَ عليهم القتال خشي فريق منهم (وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ). المعنى هَلَّا أخرْتنَا. فأَعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أن متاع الدنيا قليل وأن الآخرة لِأهْل التُّقَى. وأعلمهم أن آجالهم تخطئهم ولو تحصنوا بأمنع الحصون فقال: (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78) لأن مُفَعَّلة، وفعَّل للتكثير، يقال: شاد الرجل بِناءَه يشيده شَيداً إِذا رَفَعَه وإذَا. طَلاَه بالشيد، وهو ما يطلى به البناءُ من الكِلس والجصِّ وغَيرهِ، ويقال أيضاً قد أشَادَ الرجل بِنَاءَهُ. فأمَّا في الذِكْرِ فأشدت بذكْر فُلانٍ لا غير إِذا رَفَعْتَ من ذِكرِه. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ). قيل كانت إليهود - لُعِنَتْ - تَشَاءَمَتْ برسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - عند دخوله المدينة فقالت: منذ دخل المدينة نَقَصَتْ ثمارُنا وغلت أسعارنَا، فأعلمَ اللَّهُ عز وجل أن الخصْبَ والجَدْبَ من عِندِ اللَّهِ. * * * وقوله: (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79) فذا خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - يرادُ به الخلق. ومخاطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - قد تكون للناسِ جميعاً لأنه عليه السلام لِسانهم، والدليل على ذلك قوله: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ). فنادى النبي - صلى الله عليه وسلم - وحده وصار الخطاب شامِلًا له ولسائر أمَّتِه، فمعنى

(80)

(مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ)، أي ما أصبتم من غنيمة أو أتاكم من خِصْبٍ فمن تفضلِ اللَّه. (وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ) أي من جَدْبِ أو غَلَبةٍ في حرب فمِنْ نَفْسِك، أي أصابَكم ذلك بما كَسَبتُمْ كما قال اللَّه جلَّ وعز (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30). ومعنى (وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا). معنى الرسول ههنا مَؤكدٌ لقوله: (وأرسَلنَاكَ) لأن (وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ) تدل على أنه رَسولٌ. (وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا). أَي اللَّه قد شهد أَنه صَادق، وأنه رسوله، و (شَهِيدًا) منصوب على التمييز، لأنَكَ إِذا قلت كفى الله ولم تبين في أي شيء الكفاية كنت مُبْهِماً. والفاء دخلت في قوله جل وعز: (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ) لأن الكلام في تقدير الجزاء، وهو بمنزلة قولك: إِنْ تصبْكَ حَسَنة فمن اللَّه. * * * وقوله: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80) أَي من قبل ما أَتَى به الرسول فإنما قبل ما أمر الله بِه. وقوله: (وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا). تأْويله - واللَّه أعلم - أنك لا تعلم غيبهم إنما لك ما ظهر منهم، والدليل على ذلك ما يتلوه وهو قوله: (وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (81)

قال النحويون تقديره: أمْرنا طاعة. وقال بعضهم مِنَّا طاعة. والمعنى واحد، إلا أن إضمار أمرنا أجمع في القصة وأحسَنُ. وقوله: (فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ) يقال لكل أمر قد قضِيَ بِلَيْل قد بيَّتَ. قال الشاعر: أتوني فلم أدْرِ مَابَيَّتوا. . . وَكَانوا أتوني لأمْرٍ نكْر أي فلست حفيظاً عليهم تعلم ما يغيب عنك من شأنِهم، وهذا ونظائره في كتاب اللَّه من أبين آيات النبي - صلى الله عليه وسلم - ييه، لأنهم ما كانوا يخْفونَ عنه أمْراً إِلا أظهره اللَّه عليه. * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ). فيه وجهان، يجوز أن يكون - واللَّه أعلم - ينزله إِليك في كتابه، وجائز أن يكون يكتب ما يُبَيتون يحفظه عليهم ليُجَازوا به. وقوله: (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ). أي لَا تسمِّ هؤلاءِ بأعيَانِهم لما أحب الله من ستر أمر المنافقين إلى أن يستقيم أمْرُ الِإسلام. فأما قوله: (بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ) فذكَّر ولم يقل بيتت، فلأن

(82)

كل تأنيث غير حقيقي فتعبيره بلفظ التذكير جائز، تقول: قالت طائفة من أهل الكتاب، وقال طائفة من المسلمين لأن طائفة وفريقاً في معنى واحد، فكذلك قوله عزَّ وجلَّ: (فَمن جَاءَهُ موعظَةٌ مِنْ رَبِّه). وقوله: (يَا أئها النَّاسُ قَد جَاءَتْكُمْ مَوعِظَة مِن رَبِّكُم). يعني الوعظ إِذا قلت فمن جاءَه موعظة. وقرأ القراءُ (بيتْ طائفةٌ) على إسكان التاءِ وإدْغامها في الطاء. وروي عن الكسائي أن ذلك إِذا كان في فعل فهو قبيح، ولا فرق في الإدغام ههنا فِي فعل كان أو في اسم لو قلت بَيَّتُ طائفةً وهذا بَيْتُ طائفة - وأنت تريد بيتُ طائفةً كان واحداً. وإنما جاز الإدغام لأن التاءَ والطَاءَ مِن مَخْرج واحدٍ. * * * وقوله: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82) يُعْنَى به المنافقون، أي لو كان ما يخبِرونَ به مما بيتُوا، وما يُسِرُونَ وُيوحَى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. . لولا أنه من عند الله لما كان الإِخبار به غير مختلف. لأن الغيب لا يعلمه إِلا الله. وهذا من آيات النبي - صلى الله عليه وسلم - البينَةِ. ومعنى تدَبَرتُ الشيءَ، نظرتُ في عَاقبته، وقولهم في الخبر: لا تَدَابَروا. أي لا تكونوا أعداءَ، أي لا يُوَلَى بعضُكم دُبُرهَ، يقال قد دَبَر القومُ يَدبُرون دبَاراً إذَا هَلكُوا، وأدْبَرُوا إذا وَلَّى أمرُهم، وإنما تأويله أنه تقضى أنهم إِلى آخره فلم يبق منهم باقية، والدبْرُ النحلُ سُمِّيَ دَبْراً لأنه يُعْقب ما ينتفع به. والدِّبرُ المال الكثير سمِّيَ دِبْرا لكثرته، ولأنه يبقى للأعْقابِ والأدْبارِ،

(83)

وقوله: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83) ْأي أَظهروه ونادَوْا به في الناس، قال الشاعر: أذاع به في الناس حتى كأنه. . . بعلْياءَ نارٌ أوقِدَتْ بثقُوب وكان إِذا علم النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه ظاهر على قوم أمِن مِنهم، أو أعْلمَ تجَمع قوم يخاف من جمع مِثلِهم، أذاع المنافقون ذلك ليحذَر مَنْ يحذر من الكفار، ويقوَى قلب من ينبغي أن يَقْوَى قلبه لما أذاعوا وكان ضَعَفَةُ المُسْلِمين يُشِيعُونَ ذلكَ معهمْ من غير علم بالضرَرِ في ذلك، فقال عز وجل ولو ردوا ذلك إِلى أن يأخذوه من قِبَلِ الرسول ومن قبل أولي الأمْرِ منهم، أي من قِبَلِ ذوي العلم والرأي منهم. وقوله: (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) أي. لعلمه هؤلاءِ الذين أذاعوا به من ضَعَفِة المسلمين من النبي - صلى الله عليه وسلم - وذوي العلم، وكانوا يعلمون مع ذلك هَلْ ينبغي أن يُذَاع أو لا يُذَاعَ. ومعنى (يَسْتَنْبِطُونَهُ) في اللغة يستخرجونه، وأصله من النبط وهو الماء الذي يخرج من البئر في أول ما يحفر، يقال من ذلك: قد أنبط فلان في غضراء، أي استنبط الماءَ من طينٍ حُر. والنبط إنما سمُّوا نبطاً لاستنباطهم ما يخرج من الأرضين. وقوله: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا).

(84)

قال بعضهم: لولا ما أنزله اللَّه عليكم من القرآن، وبين لكم من الآيات على لسان نبيه لاتَبعْتُم الشيطانَ إِلَّا قَلِيلًا، أي كان أولكم بجوار الكفر. وهذا ليس قولُ أحد من أهل اللغة، قال أهل اللغة كلُّهم: المعنى: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا) إِنما هو استثناء من قوله (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) إِلَّا قَلِيلًا). وقال النحويون: المعنى أذاعوا به إِلا قليلًا. وقالوا أن يكون الاستثناء من أذاعوا به إلا قليلًا أجود، لأن مَا عُلِمَ بالاستنباط فليس الأكثر يعرفه، إِنما يستنبط القليل، لأن الفضائل والاستنباط، والاستخراج في القليل من الناس. وهذا في هذا الموضع غلط من النحويين، لأن هذا الاستنباط ليس بشيء يستخرج بنظر وتفكر، إنما هو استنباط خبر، فالأكثر يعرف الخبر، إذا خُبِرَ بِه، وإِنما القليل المبالِغُ في البلادة لا يَعْلَمُ ما يُخْبرُ بِه، والقول الأول مع هذين القولين جائزة كلها. والله أعلم. لأن القرآن قبل أن ينزل والنبي قبل أن يبعث قد كان في الناس القليلُ ممن لم يشاهد القرآن ولا النبي - صلى الله عليه وسلم - مَؤمناً. وقد يجوز أن يقول القائل إِن من كان قبل هذا مَؤمناً فبفضل اللَّه وبرحمته آمَنَ، فالفضل والرحمة لا يخلو منهما من نال ثواب الله جلَّ وعزَّ إلا أن المقصود به في هذا الموضع النبي - صلى الله عليه وسلم - والقرآن. * * * وقوله جلَّ وعزَّ (فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا (84) هذه الفاءَ جواب قوله جلَّ وعزَّ: (وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74).

(85)

(فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ). ويجوز أن يكون متصلاً بقوله: (وما لكم لا تقاتلون في سَبِيل اللَّهِ) أي أيُّ شي لكم في ترك القتال (فقاتل في سبيل الله). فأمره الله بالقتال ولو أنه قاتل وحده، لأنه قد ضمن له النصر. ويروى عن أبي بكر رحمه اللَّه أنه قال في الردةِ، لو خالفتني يميني جاهدتها بشمالي. وقوله: (عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا). البأس الشدة في كل شيءٍ. * * * وقوله: (مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (85) الكفل في اللغة النصيب، أخِذَ من قولهم أكفَلْتَ البعيرَ إِذا أدَرْتَ على سِنَامه أو على موضع من ظهره كساءً، وركبت عليه وإِنما قيل له كفْل، واكْتُفِلَ البَعِيرُ؛ لأنه لم يُسْتَعْمَلْ الظهْرَ كله، إِنما اسْتُعْمِل نَصيب من الظهر، ولم يستعمل كله. وقوله: (وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا). قال بعضهم: المقيت القدير، وقال بعضهم: المقيت الحفيظ، وهو عندي - واللَّه أعلم - بالحفيظ أشبه، لأنه من القُوتِ مشْتَق، يقال: قتَ الرجلَ أقُوتهُ قوتاً إِذا حفظتُ عليه نفسه بما يقوته. والقوتُ اسم ذلك الشيء الذي يحفظ نفسه، ولا فضل فيه على قدرة الحِفْظ، فمعنى المقيت - واللَّه أعلم - الحفيظ الذي يعطي الشيءَ قدر الحاجة من الحفظ قال الشاعر:

(86)

ألِيَ الفضْل أمْ عَلَيَّ إذا. . . حُوسِبت إني عَلى الحِسَابِ مُقِيتُ * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86) قال النحويون: " أحسن " ههنا صفة لا تنصرف لأنه على وزن أفْعَل وهوِ والمعنى فحيوا بتحية أحسن منها، وقيل في التفسير: التحية هنا السلام، وهي تفعله - من حييْت. ومعنى (حَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا): إِذا قيل لكم " السلام عليكم " فقولوا: وعليكم السلام ورحمة الله "، فالتحية التي هي أحسن منها هي وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ". ويقال لكل شيء منتهى، ومنتهى السلام كلمة وبركاته. ويروى أنَّ دَاخِلًا دخل إِلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: السلام عليكم ورحمة اللَّه وبركاته، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - وعليك، ودخل آخر فقال: السلام عليكم فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - وعليكم السلام ورحمة اللَّه، ودخل رجل آخر فقال: السلام عليكم ورحمة اللَّه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - وعليكم السلام ورحمة اللَّه وبركاته فقام الداخل الأول فقال: يا رسول الله سلمت فلم تَزِدْ على " وعليك " وقام هذا فقال السلام عليكم فزدته، وقام هذا فقال: السلام عليكم ورحمة اللَّه فزدته، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - إنك لم تترك من السلام شيئاً، فرددت عليك، وهذان تركا منه شيئاً فزدتهما. وهذا دليل أنَّ آخر ما في السنة من السلام كلمة وبركاته.

(87)

وقوله جلَّ وعزَّ: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا). أي يعطي كل شي من العلم والحفظ والجزاءَ مقدار ما يحسبه، أي يكفيه، تقول حسبك بهذا أي اكتف بهذا. وقوله تعالى: (عَطاءَ حِساباً) أي كافياً، وإنما سُمِّيَ الحساب في المعاملات حساباً لأنه يعلم ما فيه كفاية ليس فيها زيادة على المقدار ولا نقصان. * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87) (لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ). هذه لام القسم كقولك: واللَّه ليجمعنكم، ومعنى القيامة في اللغة - والله أعلم - على ضربين، جائز أن تكون سميت القيامة لأن الناس يقومون من قبورهم، قال الله جلَّ وعزَّ: (يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7). وجائز أن تكون سُمِّيتْ القيامةَ لأن الناس يقومون للحساب. قال الله عزَّ وجلَّ: (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)). ومعنى (لَيَجْمَعَنَّكُمْ) - واللَّه أعلم - أي يجمعكم في الموت وفي قبوركم. * * * وقوله: (فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88) هذا خطاب للمسلمين، وذلك أن قوماً من المنافقين قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - قد اجتوينا المدينة، فلو أذنت لنا فخرجنا إِلى البدو، فلما خرجوا لم يزالوا يرحلون مرحلةً مرحلةً حتى لحقوا بالمشركين، فقال قوم من المسلمين هم كفَار هم كفار، وقال قوم: هُم مسلِمُونَ حتى نعلم أنهم بدَّلوا، فأمر اللَّه بأن يتفق المسلمون على تكفير من احتال على النبي - صلى الله عليه وسلم - وخالفه فقال - عزَّ وجلََّ -: (فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ).

(89)

أي أيُّ شيء لكم في الاختلاف في أمرهم (وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا). وتأويل " أركسهم " في اللغة نَكسَهُم وردَّهم، يقال أرْكَسه ورَكَسَهُ. ومعنى (وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا) أي ردَّهم إلى حُكم الكفار. وقوله: (أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ). أي أتقولون أن هُؤلاءِ مهتدون واللَّه قد أضَلَّهم. (وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا). أي طريقاً إلى الحجة، وقال النحوَيون في نصب " فئتين " إنها منصوبة على الحال، وقال سيبويه: إذا قلت مالك قائماً فإنما معناه لِمَ قُمْتَ ونصب على تأويل أي شيء يستقر لك في هذه الحال، قال غيره إِن " قائماً " ههنا منصوبٌ على جهة فِعل " مَالَ " ويجيز مالك قائماً، ومالك القائمَ يا هذا، ومالك القائمَ خطأ، لأن القائم معرفة فلا يجوز أن تقع حالا، و " ما " حرف من حروف الاستفهام لا تعمل عمل كان، ولو جاز مَالَك القَائِمَ يا هذا، جاز أن يقول ما عندكَ القائمَ، وما بِكَ القَائِمَ، وبالإجماع أن ما عندك القائمَ خطأ، فمالك القائمَ مثله لا فرق في ذلك. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89) (فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ). أي لا تتخذوا من هُؤلاءِ الذين احتالوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى فارقوه أولياءَ. أي لا تقولوا إنهم مؤمنون حتى يهاجروا في سبيل اللَّه، أي حتى يرجعوا إِلى النبي - صلى الله عليه وسلم. وقوله: (فَإِنْ تَوَلَّوْا) أي تولوا عن أن يهاجروا، ولزموا الإِقامة على ما هم عليه (فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا).

(90)

وقوله: (إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90) أي فاقتلوهم إلا من اتصل بقوم بينكم وبينهم ميثاق. ويروى أن هؤُلاءِ اتصلوا ببني مُدْلج وكانوا صلحاً للنبي - صلى الله عليه وسلم -. وقوله: (أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ). معناه ضاقت صدورهم عن قتالكم وقتال قومهم. وقال النحوُيون إن (حَصِرَتْ صُدُورُهُم) معناه أو جاءُوكم قد حَصِرَت صُدورُهم، لأن حَصِرَتْ لا يَكونُ حالاً إلا بقد، وقال بعضهم حصرت صدورهم خبر بعد خبر، كأنه قال: أو جاءُوكم، ثم أخبرَ فقال: (حَصِرتْ صُدُورُهُم أن يُقاتلوكم). * * * وقوله جلَّ وعزَّْ: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ) أي ضيقَ صُدورِهم عن قتالكم إِنما هو لقذف اللَّه الرعبَ في صدورهم. وقرأ بعضهم " حصِرةً صُدُورُهُم " على الحال. * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (91) ستجدون من يظهر لكم الصلح ليأمنكم، وإذا سنحت فتنة كانوا مع أهلها عليكم. وقوله: (كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا). أي انتكسوا عن عهدهم الذي عقدوه. وقوله: (فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ). أي فإِن لم يعتزلوا قتالكم ولم يعاونوا عليكم.

(92)

(وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ). أي المقادة والاستسلام. (وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ) أي، عن الحرب. (فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا). أي حجة بَينَةً بأنهم غَدَرَة، لا يَفُونَ بما يفارقونكم عليه من الهدنة والصلح. * * * وقوله: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92) المعنى ما كان لمؤمن ألبتَّة. و (إِلَّا خَطَأً) استثناء ليس من الَأول. المعنى إِلا أن يخطئ المؤمن فكفَارةُ خَطئِه ما ذكر بَعْدُ. وقال بعض أهل العلم: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً) على معنى أن دم المسلم إِنما يصفح عن أن يؤخذ به القَاتِلُ في الخطأ فقد عفى له عن قتل الخطأ، إِلا أن الله جل ثناؤه فرض في كتابه على القاتل خطأ تحريرَ رقبة وديةً مسلمةً إِلى أولياء المقتول، وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دية الخطأ على العاقِلة، وعلى القاتل أَن يَؤدِّي في ذلك لقوله عزَّ وجلَّ: (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ). ويحتمل أن يكون الصّيَامُ بدَلًا مَن الرقَبةِ وبدلاً مما ينبغي أن يَؤدَّى في الدّيةِ. فَإِنْ قتَل المؤمِنُ خَطَأ رَجُلًا مؤمِناً من قَوْمٍ كفَرةً فعليه تحرير رقبة،

(93)

ولا مال للكفار الذين هم حَربٌ، لأن الدية في الخطأ إنما جعلت - واللَّه أعلم - لِيحَذَرَ الناس حذراً شديداً من أن يخطئوا خطأ يُؤَدي إِلى القَتْل، لتَذْهَبَ الضًغَائنُ بينهُمْ. . (وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ). وإن كان من قوم بينهم وبين المسلمين عَهْدٌ فتحرير رقبة وتسليم الديةِ إِلى ذوي الميثاق لئلا تقع ضغينة بين أهل الميثاق والمؤمنين. ونَصْبُ (تَوْبةً مِنَ اللَّه) على جهةِ نصب فعلْتُ ذلك حذار الشر. المعنى فعليه صيام شهرين وعليه دية إِذَا وَجَدَ توبةً من اللَّه، أي فعل ذلك توبة من اللَّه. فأمَّا قتل النفس فجزاؤه كما قال اللَّه - عزَّ وجلَّ - النَّفْس بِالنَّفْسِ في الدنيا، وفي الآخرة جهنم. * * * قال اللَّه جلَّ وعزَّ: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93) وهذا وعيد شديد في القتل حظَرَ اللَّه عزَّ وجلَّ به الدِّماءَ. * * * وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94) و (فَتَثَبَّتُوا) بالثاء والتاء. ومعنى ضربتم سِرْتم في الأرض وغزوتُم. وقوله: (وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا).

(95)

قرئت السلام بالألف، وقرئت السَّلمَ. فأما السلام فيجوز أن يكون من التسليم، ويجوز أن يكون بمعنى السِّلِمْ، وهو الاستسلام، وإلقاء المقادة إِلى إِرادَةِ المسلمين. ويروى في التفسير أن سبب هذا أن رجلًا انحاز وأظهر الإسلام فقتله رجل من المسلمين وأخذ سَلبَه. فأعلمَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ أن حق من ألقى السلمَ أن يُتَبين أمرُه. ومن قرأ (فتثبتوا) فحقه أن يُتَثَبَّتَ في أمره، وأعلم الله - جلَّ وعزَّ - أن كل من أسلم مِمن كان كافِراً فبمنزلة الذي تعوذ بالإِسلام، فقال عزَّ وجلَّ: (كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ). ْأي مَنَّ عليكم بالإِسلام، وبأنْ قبل ذلك منكم على ما أظهرْتُمْ ثم كرر الأمر بالتبيين فقال عزَّ وجلَّ: (فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا). * * * (لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) قرئت (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) بالرفع و (غيْرَ) بالنصب، فأما الرفع فمن جهتين. إِحداهما أن يكون " غير " صفةً للقاعدين، وإِن كان أصلها أن تكون صِفةً للنكرة. المعنى لا يستوي القاعدون الذين هم غير أولى الضرر، أَي لا يستوي القاعدون الأصحاءُ والمجاهدون وإِن كانوا كلهم مؤمنين. ويجوز أن يكون " غَيْرُ " رفعاً على جهة الاستثناء. المعنى لا يستوي القاعدون والمجاهدونَ

(96)

إِلَّا أَولو الضَرر، فإنهم يساوونَ المجاهدين، لأن الذي أقعدهم عن الجهاد الضرر، والضرر أن يكون ضريراً أو أعمى أو زَمِناً أو مريضاً. ويروى أن ابن أم مكتوم قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - أعلََّ جهادٌ؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا)، فإِما أن تكون من الخِفَافِ أو من الثقال فأنزل اللَّه: (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ). وقوله جلَّ وعزَّ: (فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى) أي وَعَدَ الجنَّة. (وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا). ويجوز أن يكون (غيرَ أولي الضرر) نصباً على الاستثناء من (القاعدين). المعنى: لا يستوي القاعدون إِلَّا أولي الضرر. على أصل الاستثناء النَّصْبُ. ويجوز أن يكون " غَيْرَ " منصوباً على الحال. المعنى: لا يستوي القاعدون في حال صحتهم والمجاهدون. كما تقول: جاءَني زيد غيرَ مريض، أي جاءَني زيد صحيحاً. ويجوز جَرُّ " غيرِ " على الصفة للمؤْمنين، أي لا يستوي القاعدون من المؤْمنين الأصحاءِ والمجاهدونَ. أما الرفع والنصبُ فالقراءَة بهما كثيرة. والجرُّ وجهٌ جيدٌ إِلا أن أهل الأمصَار لَم يقرأوا به وإِن كان وجهاً. لأن القراءة سنة متبعة. * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96) " درجات " في موضع نصب بدلًا من قوله. . أَجْرًا عَظِيمًا) وهو مُفسِّرٌ للآخر. المعنى فَضَّل اللَّه المجاهدين درجاتٍ ومغفرةً ورحمةً. وجائز أن يكون

(97)

منصوباً على التوكيد لـ (أجراً عظيماً) لأن الأجر العظيم هو رفع الدرجات من اللَّه جلَّ وعزَّ والمغفرة والرحمة، كما تقول لك على ألف درهم، لأن قولك على ألف درهم هو اعتراف فكأنك قلت أعرفْها عُرفاً، وكأنه قيل: غفر اللَّه لهُمْ مغفرة، وأجَرهم أجراً عظيماً، لأن قوله (أجراً عظيماً) فيه معنى غَفَر ورَحِمَ وفَضَّل. ويجوز الرفع في قوله (دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً)، ولو قيل: " دَرَجَاتٌ منه ومغفرةٌ ورحمةٌ " كان جائز جائزاً على إِضمار تلك درجات منه ومغفرة كما قال جل ثناؤُه: (لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ) أي ذلك بلاغ. * * * وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) يُعنَى به المشركون الذين تخلفوا عن الهجرة إِلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. فـ (توفاهم)، إِن شئت كان لفظها ماضياً على معنى إِن الذين توفتهم الملائكة وذُكِّرَ الفعلُ لأنه فعل صحيح، ويجوز أن يكون على معنى الاستقبال على معنى أَن الذين تتوفاهم الملائكة، وحذفت التاءُ الثانية لاجتماع تاءَيْن، وقد شرحنا ذلك فيما تقدم من هذا الكتاب. وقوله: (ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ): نصب على الحال. المعنى تتوفاهم في حال ظلمهم أنْفُسَهُم، والأصل ظالمين أنْفُسَهم إِلا أن النون حذفت استخفافاً. والمعنى معنى ثبوتها، كما قال جلَّ وعزَّ (هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ). والمعنى معنى ثبوت التنوين. معنى بالِغاً الكعبةَ. وقوله: (قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ).

(99)

هذء الواو للملائكة أي قال الملائكة للمشركين فيم كنتم أي أكنتم في المشركين أم في أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - وهذا سؤَال توبيخ قد مر نظراؤُه مما قد استقصينا شرحه. وقوله: (كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ) فأَعلم اللَّه أَنهم كانوا مستضعفين عن الهجرة. فقالت لهم الملائكة: (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ) ْ (المستضعفين) نصب على الاستثناءِ من قوله: (مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ. . . إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ)، أي إِلا مَنْ صَدَق أنَّه مستضعَف غيرُ مستطيع حيلةً ولا مهتدٍ سَبيلاً، فأعلم الله أن هؤُلاءِ راجون العَفوَ، كما يرجو المؤْمِنُونَ فقال: (فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99) و" عَسَى " ترج، وما أمر اللَّه به أن يرجى مِن رحمته فبمنزلة الواقع كذلك الظن بأرحِم الراحمين. وقوله: (وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا). تأْريل (كَانَ) في هذا الموضع قد اختلف فيه الناس. فقال الحسن البصري: كان غفوراً لعباده، عن عباده قبل أن يخلقهم. وقال النحويون البصريون: كأنَّ القوم شاهدوا من الله رحمة فأعلموا أن ذلك ليس بحادثِ، وأنَّ الله لم يزل كذلك. وقال قوم " من النحويين:. . " كان "

(100)

و " فعَلَ " من اللَّه بمنزلة ما في الحال، فالمعنى - والله أعلم - والله عفو غفور. والذي قاله الحسن وغيره أدخل في اللغة، وأشبه بكلام العرب. وأما القول الثالث فمعناه يُؤول إِلى ما قاله الحسن وسيبويه، إِلا أن يكون الماضي بمعنى الحال يقِل. وصاحب هذا القول له من الحجة قولنا " غفر الله لفُلَانٍ " بمعنى ليغفر اللَّه له فلما كان في الحال دليل على الاستقبال وقع الماضي مَؤدياً عنها استخفافاً، لأن اختلاف ألفاظ الأفعال إِنما وقع لاختلاف الأوقات، فإِذا أُعْلِمت الأحوال والأوقات استُغني بلفظ بعض الأفعال عن لفظ بعض. الدليل على ذلك قوله جلَّ وعزَّ: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أمثَالِهَا) وقوله: (وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإنَهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتَاباً) معناه من يَتُبْ ومن يجئ بالحسنة يعط عشْر أمثالها. * * * وقوله: (وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100) معنى مراغم معنى مهاجرُ، المعنى يجد في الأرض مُهاجراً، لأن المهاجر لقومه والمراغم بمنزلة واحدة، وإن اختلف اللفظان وقال الشاعر: إِلى بلد غير داني المحل. . . بعيد المراغَمِ وَالمُضْطَرَب وقيل المراغَم ههنا المضطرب، وليس المراغم ههنا إِلا المضطرب في حال هجرة، وإِن كان مشتقاً من الرغام، والرغام التُراب وتأويل قولك رَاغَمْتُ

(102)

فلاناً أي هجرته وَعَاديته، ولم أبالِ رَغْمَ أنفِهِ، أي وإِن لصق أنفه بالتراب. والرغام والرغائم ما يسيل من الأنف، والأنف يوصف بالرغم فيضرب مثلاً لكل ذليل فيقال على رَغْم أنفه. وقوله: (وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102) (وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ) هذه الهاءُ والميم يعودان على المؤْمنين. أي وإِذا كنت أيها النبي في المؤمنين في غزواتهم وخوفهم. (فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا). أي فإذا سجدت الطائفة التي قامت معك. (فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ). جائز أن يكون - واللَّه أعلم - ولتأخذ الجماعة حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ. ويجوز أن يكون الذين هم وُجَاه العَدُو يأْخذون أَسْلِحَتَهُمْ، لأن من في الصلاة غير مقاتل، وجائز أن تكون الجماعة أمرت بحمل السلاح وإِن كان بعضًها لا يقاتل لأنه أرهَب للعَدو وأحرى ألا يقدم علَى الحذِرين المتيقظين المتاهبين للحربِ في كل حال. وقد اختلف الناس في صلاة الخوف فزعم مالك بن أنس أن أحب ما رُوي فيها إِليه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قام يصلي وقامت خلفه طائفة من المؤْمنين وطائفة وُجَاهَ العَدو، فصلى بالطائِفة التي خلفه ركعة وقام فأتمت الطائفة بركعة أخرى وسلَّمت، وهو - صلى الله عليه وسلم - واقف، ثم انصرفت وقامت وجاه العدو، والنبى - صلى الله عليه وسلم - واقف

في الصلاة، وأتت الطائفة التي كانت وُجاه العدو، فَصَلَّى بِهِمْ ركعة ثانية له، وهِي الأولى لهذه الطائفة الأخرى - وجلس النبي - صلى الله عليه وسلم - وقاموا فصلوا ركعة ثانية وحدهم وهو - صلى الله عليه وسلم - قاعد، وقعدوا في الثانية فسلم وسلمُوا بتسليمه، فصلت كل طائفة منهم ركعتين، وصَلَّى النبي - صلى الله عليه وسلم - ركعتين. وقال مالك: هذا أحب ما روي في صلاة الخوف إِليَّ. وأمَّا أَسلحة فجمع سلاح مثل حمار وأحمرة. وسلاح اسم لجملة ما يدفع الناس به عن أنفسهم في الحروب مما يقاتل به خاصَّة، لا يقال للدواب وما أشبهها سلاح. فأمَّا (وَلْيَأْخُذُوا) فالقراءَة على سكون اللام -. . (وَلْيَأْخُذُوا) و (وَلِيَأْخُذُوا) هو الأصل بالكسر إِلا أن الكسر استثقل فيحْذفُ استخفافاً. وحكى الفراء أن لام الأمر قد فتحها بعض العرب في قولك ليجلِس. فقالوا لنجْلِسْ ففتحوا، وهذا خطأ،. لا يجوز فتح لام الأمر لئلا تشبه لام التوكيد. وقد حكى بعض البصريين فتح لام الجر نحو قولك: المال لِزَيْدٍ. تقول: المال لَزَيدٍ وهذه الحكاية في الشذوذ كالأولى، لأن الإِجماع والروايات الصحيحة كسر لام الجر ولام الأمر، ولا يلتفت إِلى الشذوذ، خاصة إِذا لم يروه النحويون القدَمَاءُ الذين هم أصل الرواية، وجميع من ذكرنا من الذين روَوا هذا الشاذ عندنا صادقون في الرواية، إِلا أن الذي سمع منهم مخطئ. وقوله: (وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ).

(103)

الجناح الِإثم، وتأويله من جنحت إذا عدَلْتُ عن المكان أي أخَذْتُ جانباً عن القَصْد، فتأويل لا جناح عليكم أي لا تَعدلون عن الحق إن وضَعَتم أسْلِحتكم. (إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ). و (أَذًى) مقصورة، تقول أذى يأذى أذًى، مثل فزِعَ يفزعُ فزَعاً. وموضع (أن تضعوا) نصْبٌ. أي لا إثم عليكم في أن تضعوا، فلما سقطت " في " عمل ما قبل (أنْ) فيها، ويجوز أن يكون مَوْضعُها جرا بمعنى في. * * * وقوله: (فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103) يعني به صلاة الخوف هذه. (فَاذْكرُوا الله قِيَاماً وَقُعُوداً). أي أذكروه بتوحيده وشكره وتسبيحه، وكل ما يمكن أن يتقرب به منه. * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ). أي إِذا سكنت قلوبكم، ويقال اطمأن الشيء إذا سكن وطَامنْتُه وطَمأنته إذا سكنته، وقد روي " اطبان " بالباء ولكن لا تقرأ بها لأن المصحف لا يخالف ألبتَّة. وقوله: (فَأقِيمُوا الصَّلَاةَ). أي فأتموا، لأنهم جُعِلَ لهم في الخوف قصرها، وأمروا في الأمن بإتمامها. وقوله: (إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا) أي مفروضاً مؤَقتاً فرضه:

(104)

وقوله: (وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104) هذا خطاب للمؤمنين، والقوم ههنا الكفار الذين هم حربُ المؤمنين. وتأويل: (لَا تَهِنُوا) في اللغة لا تضعفوا، يقال وَهَن الرجل يهِنُ إذَا ضعف فهو وهِن. ومعنى (ابتغاءِ القوم): طلب القوم بالحرب. وقوله: (إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ). أي إن تكونوا توجَعُون فإنهم يجدون من الوجع بما يَنَالهم من الجراح والتَعَبَ كما تجدون، وأنتم مع ذلك (تُرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لَا يرجُونَ). أي أنتم ترجون النصر الذي وعدكم الله به، وإظهار دينكم على سائر أديانِ أهل الملل المخالفة لأهل الإسلام وترجُونَ مع ذلك الجنة، وهم - أعني المشركينَ - لايرجون الجنة لأنهم كانوا غير مقرين بالبعث فأنتم ترجون من الله ما لا يرجون. قال بعض أهل التفسير: معنى " ترجون " ههنا تَخَافون، وأجمَعَ أهل اللغة الموثوق بعلمهم: أن الرجاءَ ههنا على معنى الأمل لا على تصريح الخوف. وقال بعضهم: الرجاء لا يكون بمعنى الخوف إِلا مع الجحدِ. قال الشاعر. لا تُرْتَجى حِينَ تُلاقي الذَّائِدا. . . أَسَبْعةً لاقَتْ مَعاً أَمْ واحِداً معناه لا تخاف. وكذلك قوله عزَّ وجلَّ: (مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13). أي لا تخافون للَّه عظمة ولا عظَةً. وإِنما اشتمل الرجاء على معنى الخوف لأن الرجاءَ أمل قد يخاف ألَّا يَتِمَّ.

(105)

وقوله جلَّ وعزَّ: (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) أي بالحق الذي أعْلَمَكَهُ اللَّه عزَّ وجلَّ. وقوله: (وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا): أي لا تكن مخاصماً ولا دَافِعاً عن خَائِن. ويروى أن رجلا من الأنصار كان يقال له أبو طُعْمة أو طِعْمة سرق درعاً وجعله في غِرارَةِ دقيق، وكان فيها خَرْقٌ، فانتثر الدقيق من مكان سرقته إلى منزله فظُنَّ به أنه سارق الدرع وحيص في أمره، فمضى بالدرع إلى رجل من إليهود فَأودعها إياه ثم صار إلى قومه فأعلمه أنه لما اتهم بالدَرع اتبع أثرها فعلم أنها عند إليهودِي، وأن إليهودي سارقها، فجاءَ قومه أي طُعْمة أو طِعْمة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسألوه أن يَعْذِرَهُ عند الناس، وأعلموه أن إليهودي صاحب الدرع، وكان بعضهم قد علم أن أبَا طِعْمةَ قد رمَى إليهودي وهو بريءٌ من الدرع، فهَمَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يَعْذِرَهُ، فأوحى اللَّه إليه وعرفه قصته أي طعمة وأعلمه أنه خائن، ونهاه أن يحتج له، وأمره بالاستغفار مما هم به، وأن يحكم بما أنزل اللَّه في كتابه، فقال: (وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107) يعني أبا طعمة ومن عاونه من قومه، وهم يعلمون أنه سارق. ويروى أن أبا طعمة هذا هرب إلى مكة وارتد عن الِإسلام، وأنه نقب حائطاً بمكة ليسرق أهله فسقط الحائط عليه فقتله. * * * وقوله: (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108) (إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ) كل ما فُكِّرَ فِيه أوخِيض فيه بليل فقد بُيِّتَ.

(109)

يعني به هذا السارق، والذي بيَّتَ من القوم أن قال: أرمِي إليهودِي بأنه سارق الدرع، وأحلِفُ أني لم أسرقها، فتقْبل يميني لأني على ديني، ولا تقبل يمين إليهودي. فهذا ما بُيِّتَ من القول واللَّه أعلم. * * * وقوله: (هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109) يعني به من احتج عن هذا السارق. (فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ). أي في اليوم الذي يؤخذ فيه بالحقائق، وأمر الدُّنيا يَقوم بالشهادات في الحقوق. وجائز أن تكون الشهادة غير حقيقة، فكأنَّه - واللَّه أعلم - قيل لهم إِن يقم الجدال في الدنيا والتغييب عن أمر هذا السارق، فيوم القيامة لا ينفع فيه جدال ولا شهادة. ومعنى قوله " هَا أَنْتُمْ " ها للتنبيه، وأعيدت في أولاءِ. والمعنى - واللَّه اعلم - هَا أَنْتُمْ الذين جادلتم، لأن " هؤلاءِ " و " هذا " يكونان في الِإشارة للمخاطبين بمنزلة الذين، نحو قول الشاعر: وهذا تحملين طليق أي والذي تحملينه طليق. وأصل المجادلة والجدال في اللغة شدة المخاصمة، والجدْل شدة القَتْل، ورَجُل مجدول، أي كأنَّه قد قُتِلَ، والأجدَل الصقر، يقال له أجدَل لأنه من أشد الطيور قوةً. . وأعلم الله - جلَّ وعزَّ - أن التوبة مبذولة في كل ذنب دُونَ الشرك فقال جلَّ ثناؤه.

(110)

(وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110) أي يسأله المغفرة مع إِقلاع، لأنه إذا كان مقيماً على الإصرار فليس بتائب. * * * وقوله: (وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111) ولا يؤخَذُ الإثم بالإثم. وقوله: (وَمَنْ يَكْسِبِ خَطِيئَة أو إِثماً ثمً يَرمِ به بَرِيئاً). قيل (إثماً) لأن اللَّه قد سَمَّى بعضَ المعاصي خطايا، وسمى بَعْضَهَا آثاماً. فأعلم الله جلَّ وعزَّ أن من كسب خطيئة، ويقع عليها اسم الإثم أو اسم الخطيئة، ثم رَمَى به من لم يعلمه وهو منه بريء. . (فقد احتَمَلَ بُهْتَاناً). و" البهتان " الكذبُ الذي يُتحيرُ من عِظَمِه وبيانه، يقال قد بَهَتَ فلان فلاناً إذا كذب عليه، وقد بُهِت الرجل يُبْهَتُ إذَا تحيَّر قال اللَّه عزَّ وجلَّ (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ). ويجوز أن يكون - والله أعلم - (ومن يكسب خطيئة أو إثْماً) أي من يقع عليه خَطَأ نحو قَتْلِ الخطإِ الذي يقع فيه القومْ وَلَا إثم فيه. فيكونُ أن يرمي بذلك غيره فقد احتمل بهتاناً. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113) هذا خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -، والطائِفة هُم طُعمَةُ هذا السارق، لأن بعضهم

(114)

قد كان وقف على أنه سارق، وسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يَعذِرَهُ. فالتأويل - واللَّه أعلم - لولا فضل اللَّه عليك ورحمتُه بما أوحَى إليك. وأعلمك أمْرَ هذا السارق لهمَّت طائفة أن يضلوك، والمعنى في همَّت طائفة منهم أنْ يُضِلوكَ. أي، فَبِفَضْلِ اللَّه ورحمته صرفَ اللَّه عنك أن تعمل ما هَمَّت به الطائفة. وقال بعضهم معنى " أنْ يُضِلوكَ " أن يُخَطِّئُوكَ في حُكْمِكَ. * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ). أي لأنهم هم يعملون عمل الضالين. واللَّه يعصم نبيه - صلى الله عليه وسلم - من متابعتهم. والِإضلال راجع عليهم وواقع بهم. وقوله: (وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ). أي مع عصمة اللَّه إياك، ونصره دينه دين الحق. وقوله: (وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ). أي بين في كتابِه ما فيه الحكمة التي لا يقع لك مَعها ضَلَال. * * * وقوله: (لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114) النجوي في الكلام ما تنفرِدُ به الجماعة أو الاثنان سِرا كان أو ظاهراً. ومعنى نَجوْتُ الشيءَ في اللغة خَلَّصتُه وألقيتُه، يقال نجوت الجلْدَ إذا ألقيتُه عن البعير وغيره. قال الشاعر:

فقلت انْجُوَا عنها نَجا الجِلْدِ إِنه سَيُرْضِيكما منها سَنامٌ وغارِبُهْ وقد نجوت فلاناً إذا استنكَهْتُه. قال الشاعر: نَجَوْتُ مُجالِداً فوَجَدْتُ منه. . . كريح الكلب ماتَ حَديثَ عَهْدِ ونجوت الوَبَرَ واستنجيته إذا خلصتَه. قال الشاعر: فَتَبازَتْ فَتَبازَخْتُ لهَا. . . جِلْسةَ الأعسرِ يَسْتَنْجِي الوَتَرْ وأصله كله من النجوة، وهُوَ ما ارتفع من الأرض قال الشاعر: فَمَنْ بِنَجْوَتِه كمَنْ بِعَقْوته. . . والمُستَكِنُّ كمَنْ يَمْشِي بقِرواحِ

(115)

ويقال: ما أنجى فلان شيئاً وما نجا شيئاً منذ أيام، أيْ لَم يَدْخُل الغائِط. والمعنى واللَّه أعلم: لا خير في كثير من نجواهم، أي مما يدبرونه بينهم من الكلام. (إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ). فيجوز أن يكون موضع " مَنْ " خفضاً، المعنى إلا في نجوى من صدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس، ويجوز أن يكون - واللَّه أعلم - استثناءً ليس من الأول ويكون موضعها نصباً، ويكون على معنى لكن من أمر بصدقة أو معروف ففي نجواه خير. وأعلم الله عزَّ وجلَّ أن ذلك إنما ينفع من ابتغى به ما عند اللَّه فقال: (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا). ومعنى (ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ) طلب مرضاة اللَّه. ونصب (ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ) لأنه مفعُول له. المعنى ومن يَفْعَل ذلك لابتغاءِ مرضاة اللَّه، وهو راجع إلى تأويل المصدر، كأنه قال: ومن يبتغ ابتغاءَ مرضاة اللَّه، ثم عاد الأمر إلى ذكر طعمة هذا ومن أشبهه فقال: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115) لأن طعمة هذا كان قد تبين لصه ما أوْحَى اللَّهُ إلى نبيه في أمرِه، وأظهر مِنْ سَرِقَتِه في الآية ما فيه بَلَاغ، فعَادى النبي - صلى الله عليه وسلم - وصار إلى مكة، وأقام مع المشركين.

ومعنى (نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى) نَدَعة ومَا اختار لنفسه في الدنيا لأن اللَّه جلَّ وعزَّ وعد بالعذاب في الآخرة، وأعلم تعالى أنه لا يغفر الشرك، وذكر قبل هذه الآية: (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110). وأعلم بعدها أن الشرك لا يجوز أن يغفره ما أَقام المشرك عليه، فإن قال قائل فإنما قال: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) فإن سُمِّيَ رجل كافراً ولم يشرك مع اللَّه غيره فهو خارج عن قوله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ)؟ فالجواب في هذا أن كل كافر مشرك باللَّه لأن الكافر إِذا كفر بنبِي فقد زعم أن الآيات التي أتى بها ليست من عند اللَّه، فيجعل ما لا يكون إلا للهِ لغير اللَّهِ فيصير مشركاً. فكل كافِرٍ مشرك. فالمعنى أن الله لا يغفر كُفْرَ من كفَر بِه وبنَبيٍّ من أنبيائِه لأن كفره بنبيه كفر به. (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا). لأن جعلَه مع اللَّه غيرَه من أبعد الضلال والعَمَى، وهذا أكثرُ ما جَرَى ههنا من أجل الذين عَبَدوا الأصنَام. والدليل على ذلك قوله عزَّ وجلَّ بعقب هذا: (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا) فَأمَّا (نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ). ففيها أوجه، يجوز فيها نولهي - بإِثبات الياء، ويجوز نُوَلهو بإِثبات الواو: ويجوز " نولهِ " بكسر الهاءِ، فأما " نولَهْ " - بإِسكان الهاءِ و " نَصْلِه جهنم "، فلا يجوز إسكان الهاءِ لأن الهاءَ حقها أن يكون معها - ياءٌ، وأما حذف الياءِ فضعيف فيها، ولا يجوز حذف الياءِ ولا تُبَقى الكسرة التي تدل عليها.

(117)

وقوله: (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117) إِنْ يدعُونَ تقرأ إلا أُنُثاً، وإلا أُثُنَا - بتقديم الثاءِ، وتأخيرها. فمن قال أناث فهو جمع أنثى وإِناث، ومن قال أُنُث فهو جمع إِنَاث، لأن إِناثاً على وزن مِثال، وإنَاث وأُنث مِثْل مِثَال ومُثُل. ومن قال أُثُنا فإِنه جمع وثَن. والأصل وُثُن، إِلا أنَّ الواو إِذا انْضَمَّتَ يجوز إِبدالها همزة، كقوله تعالى: (وإِذَا الرُّسلُ أُقَتَتْ) الأصل وُقِّتَتْ، ومثال وُثُن في الجمع مثل سُقُف. وجائز - أن يكون اثْن مثل أسد وأسد، وجائز أن يكون اثُن أصلها اثْن، فاتبعت الضمَّةُ الضَمَّةَ. * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا). يعني به إبليس لأنهم إِذا أطاعوه فيما سَوَّلَ لهم فقد عَبدُوه، وَيدعُونَ في معنى يعبدُونَ، لأنهم إِذَا دَعوْا اللَّهَ مخلصين فقد عبدوه. وكذلك قوله: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) أي اعبدُونِي. والدليل على ذلك قوله عزَّ وجلَّ: (إِنَّ الَّذِينَ يستَكْبِرُونَ عنْ عِبادتِي). ومعنى (مَرِيدًا) أي خارج عن الطاعة مُتَمَلِصٌ مِنْهَا، ويُقَال " شجرة مَرْدَاءُ. إِذا تناثر ورقُها، ومن ذلك يسمى من لم تنبت له لحية أمردُ أي أملس موضعِ اللحية، وقد مرَدَ الرجل يمردُ مُروداً إِذا عتا وخرج عن الطاعة. * * * (وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) قيل في مفروض إِن معناه مؤقت، وجاءَ في بعض التفسير من كل ألف واحد للَّهِ وسائرهم لإبليس.

(119)

ومعنى مفروض - واللَّه أعلم - أي أفترضه على نفسي وأصل الفرض في اللغة القطعُ، والفُرْضَة الثلْمة تكون في النهر، يقال سقاها بالفِرَاضِ وبالفُرَضِ، والفرْض الحز الذي يكون في المسواك يشد فيه الخيط، والفَرْض فِي القَوسِ الحز الذي يشدُّ فيه الوتر، والفَريضَةُ في سائر ما افْتُرِضَ ما أمر الله به العباد فجَعَلهُ أمراً حَتْماً عليهم قاطعاً، وكذلك قوله: (وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ) أي جعلتم لهُنَّ قطعة من المالِ وقد فرضت الرجُلَ جعلتُ له قطعة من مال الفيءِ. فأما قول الشاعر: إِذا أكلتُ سمكاً وفَرْضا. . . ذهبت طولًا وذهبت عرضا فالفَرضُ ههنا التمر، وإنما سُمي التمر فَرضاً لأنه يؤخذ في فِرَاضِ الصدقة. * * * وقوله: (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119) (وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ). أي أجمع لهم مع الإضْلَال أن أوهِمهم أنهم ينالون من الآخرة حظاً. كَمَا قال: (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَيطَانُ أعمَالَهمْ). (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ). كانه - واللَّه أعلم - ولآمُرنَهم بِتَبْتِيكِ آذان الأنعام فليبتكُنَ، أي يشقِقُن، يقال بتكْتُ الشيءَ أبْتِكه بَتْكاً إِذا قطعته، وبِتْكَة وبِتَكُ، مثل قطعة وقطع، وهذا في البَحِيرةِ، كانت الجاهلية إِذا ولدت الناقة خمسة أبطن فكان الخامس ذكَراً شقوا أذن الناقة وأمتنعوا من الانتفاع بها ولم تطرد عن ماءٍ

(121)

ولا مرْعًى، وإِذا لقيها المعْي لم يركبها. فهذا تأويل (فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ). سَوَّلَ لهم إِبليس أن في تركها لا ينتفع بها قربة إِلى الله. (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ). قيل إِن معناه أن الله خلق الأنعام ليركبوها ويأكلوها فحرموها على أَنفسَهِم، وخلق الشمس والقمر والأرض والحجارة سخْرة للناس ينْتَفعون بها فعبدهَا المشرِكون، فغيروا خلق اللَّه، أي دِينَ اللَّه، لأن الله فطر الخلق على الِإسلام، خلقهم من بطن آدَمَ كالذر، وأشهدَهُمْ أنه ربهم فآمنوا، فمن كفر فقد غير فِطْرَة الله التي فَطَرَ الناسَ عليها. فأمَّا قوله: (لاَ تَبديلَ لِخَلق الله)، فإنَّ معناهُ ما خلقه الله هو الصحيح، لا يقْدِر أحد أن يُبَدل معنى صحة الدين. وقال بعضهم: (فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ) هو الخصاءُ لأن الذي يخصي الفحل قد غير خلق اللَّه. ومعنى (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا). أي ما يعبدون إِلا ما قد سموه باسم الِإناثِ، يعني به المشركون، سَمُّوا الأصنام اللات والعزى ومناة، وما أشبهه، وقيل إِن مَعْنى قوله: (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا) أى مَوَاتا، والموات كلها يخبر عنها كما يخبر عن المؤنث، تقول من ذلك: هذه الأحجار تعجبني، ولا تقول يعجبونني، وكذلك الدراهم تنفعني. وقوله: (أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121) (وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا).

(123)

أي لا يجدون عنها مَعْدِلًا ولا مَلْجأ. يقال حِصْتُ عَن الرجُل أحِيصُ، وروَوْا جِضْتُ عنه أجيضُ بالجيم والضاد المعجمة، بمعنى حِصْتُ، ولا يجوز ذلك في القرآن، وإِن كان المعنى واحداً والخط غير مخالف، لأن القرآن سنة لا تخالف فيه الرواية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والسلف وقراءِ الأمصار بما يجوز في النحو واللُغَة، وما فيه أفْصَحُ ممَّا يَجُوزُ. فالاتباع فيه أولى. يقال حُصْتُ أحُوصُ حوْصاً وحياصاً، إِذا خِطْتُ، قال الأصمَعي: يقال حُصْ عين صَقْرك أي خِطْ عينه، والْحَوصُ في العَيْن ضيقُ مُؤَخرها. والخَوصُ بالخاءِ - مُعْجمة - غُؤورُهَا. * * * وقوله: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123) اسم ليس مضمر، المعنى ليس ثواب الله بأمانيكم ولا أمانِي أهل الكتاب، وقد جرى ما يدل على إِضمار الثواب، وهو قوله: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا). أي إِنما يدخل الجنة من آمن وَعَمَل صَالحاً. ليس كما يتمنى أهل الكتاب، لأنهم كانوا يزعمون أنهم أبناءُ الله وأحباؤه. وقالوا: (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً)، فأعلمَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ أن دخول الجنة وثواب الله على الحسنات والسيئات ليس بالأماني ولكنه بالأعمال. ثم ذكر بعض ذلك فقال عزَّ وجلَّ:

(124)

(مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ). أي لا ينفعه تمنيه. (وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124) فأعلم الله أن عامل السوءِ لا ينفعه تمنيه، ولا يتولاه فتَوَل ولا ينصره نَاصِرٌ. وقد احتج قومٌ من أصحاب الوعيد بقوله: (وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا). فزعموا أن هذا يدل على أن من عَمِلَ السوءَ جُزِيَ به. وقد أعلم اللَّه عزَّ وجلَّ أنَّه يَغْفِر ما دُونَ الشركِ لمن يشاء، فعامِل السوءِ - ما لم يكن كافِراً - مرجو له العَفوُ والرحمة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - شافِعٌ لأمته يشفع فيهم. ومعنى: (وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا). النقير النقطه في ظهر النواة، وهي مَنْبتِ النخلة، والمعنى: ولا يظلمون مقدار ذلك. * * * (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125) وقوله: (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا). الخليل المحب الذي ليس في محبته خَلَل فجائز أن يكون إِبراهيم سمى خليلَ الله بأنَّه الذِي أحبه الله واصطفاه محبةً تامَّةً كامِلةً. وقيل أيضاً الخليل الفقير، فجائز أن يكون فقير اللَّه، أي الذي لم يَجْعَلْ فقره وفاقته إِلا إِلى الله مخلصاً في ذلك، قال الله عزَّ وجلَّ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ). ومثل أن إِبراهيم الخليل الفقير إِلى اللَّه قول زهير يمدح هرم بن سنان

وإن أتاه خليل يوم مسغبةِ. . . يقولً لا غائب مالي ولا حَرمُ وجاءَ في التفسير أن إبراهيم كان يضيفُ الضَيفان ويطعِم المساكينَ الطعامَ، وأصاب الناسَ جَدْبٌ فبعث إِلى خليل له كان بمصر يمْتارُ منه. فقال ذلك الخليل لنفسه: لو كان إبراهيم إنما يريد المِيرَةَ لنفسه لوجهَت إِليه بها، ولكنه يريدها للناس فرجع غلمان إِبراهيم بغير ميرة، فاجتازوا ببطحاءَ لَيِّنَةٍ فأخذوا من رَمْل كان فيها وجعلوه في أوعِيتهمْ استحياءً من الناس أن يرجِعوا بغير شيءٍ، فلما رآهم عليه السلام، سألهم عن الخبر فأعلموه، فحملته عينه فنام مهموماً، وانتبهت امرأته وقد بصرت بالأوعية مملوءَة، فأمرت بأن يخرج منها ويخبز فأخرج منها طعام في غاية الحسْن فاختُبِزَ، وانتبه إبراهيم وشئمَّ رائحة الطعام، فقال: مِن أين هذا؟ فقالت امراته من عد خليلك المصري. فقال إبراهيم هذا من عند خليلي اللَّه عزَّ وجلَّ. فهذا ما روي في التفسير وهو من آيات الأنبياءً عليهم السلام غير منكر. والذي فسرنا من الاشتقاق لا يخالف هذا. والخلة الصداقة، والخلة الحاجة. فأمَّا معنى الحاجةِ فإِنه الاختلال الذي يلحق الِإنسان فيما يحتاج إِليه. وأمَّا الخلة الصداقة فمعناها إنَّه يسُد كل محب خَلَلَ صاحبه في المودة وفي الحاجة إليه، والخلل كل فرجة تقع في شيء، والخِلَال الذي يتخلل به. وإنما سمي خلالاً لأنه، يتبع به الخلل بين الأسْنانِ. وقول الشاعر:

(126)

ونظرن من خَلَلِ الستور بأعينٍ. . . مرضَى مخالِطها السِّقام صحاح فإن معناه نظرن من الفرجُ التي تقع في الستور. وقوله القائل: " لك خلَّةُ مِن خِلَال " تأويله أني أُخلَى لك من رأيي أو مما عندي عن خلة من خِلَال. وتأويل أَخلِّي إِنما هو أخلل، وجائز أن يكون أخلي منْ الخلوةِ، والخلوةُ والخلل يرجعان إِلى معنى، والخِل الطريق في الرملِ معناه أنه انفرجتْ فِيه فرجة فصارت طريقاً. والخَل الذي يؤكل إنما سمي خلًّا لأنه اختلَّ منه طعم الحلاوةِ. * * * وقوله: (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا (126) أي إِن إبراهيم الذي اتخذه اللَّه خليلاً هو عبد اللَّه، وهو له وكل ما في السَّمَاوَات والأرض. * * * وقوله: (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا (127) (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ) موضع " ما " رفع. المعنى اللَّه يفتيكم فيهن، وما يتلى عليكم في الكتاب. أيضاً يفتيكم فِيهِن. ويجوز أن يكون " ما " في موضع جر، وهو بعيد جدا، لأن الظاهر لا يعطف على المضمر، فلذلك اختير الرفع، ولأن معنى الرفع أيضاً أبيَنُ، لأن ما يتلى فِي الكتاب هو الذي بين ما سألوا. فالمعنى: (قل الله يفتيكم فيهن)، وكتابه يفتيكم فيهن. وقوله: (وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ).

(128)

المعنى وترغبون عن أن تنكحوهنَّ. وقوله: (والمسْتضْعَفِينَ مِنَ الولْدَانِ). يعني اليتامى، وموضع " المستضغفين " جر، عطف على قوله: (وما يتلى عليكم فِي الكِتابِ فِي يَتَامَى النَساءِ) المعنى وفي المستضعفين من الولدان والذي يفتِيهم من القرآن قوله عزَّ وجلَّ: (وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ) والذي تُلِيَ عليهم في التزويج هو قوله: (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ). فالمعنى قل الله يفتيكم فيهنَّ، وهذه الأشْياءُ التي في الكتاب يُفْتيكُم فيهن. وقوله: (وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ) " أن " في موضع جر: المعنى وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء وفي أن تقوموا لليتامى بالقسط. * * * وقوله: (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128) النشوز من بعْلِ المرأة أن يسيء عشرتها وأن يمنعها نفسه ونَفَقَتَه واللَّه عز وجلَّ قال في النساءِ: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ)، وقال: (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ)، وقال: (وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا). فَشدد

الله في العدل في أمر النساء فلَوْ لَمْ يعْلَم عزَّ وجلََّّ أن رضَا المرأةِ مِنْ زوجِهَا بالإقامة على منعها - في كئير من الأوقاتِ - نفَسَه ومَنعِها بعض ما يَحْتَاج إليه لما جاز الإمساك إلا على غاية العدل والمعروف، فجعل الله عزَّ وجلَّ الصلحَ جائزاً بين الرجلِ وامرأتِهِ إِذا رضِيت منه بإِيثار غيرها عليه. فقال: " لا إثم عليهما في أن يتصالحا بينهما صلحاً. والصلح خير من الفرقة ". وقوله: (وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ). وهو أن المرأة تشح على مكانها من زوجها، والرجل يشح على المرة بنفسه إن كان غيرها أحب إليه منها. وقوله: (وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا). أي إن تحسنوا إليهن، وتحملوا عشرتهن. (فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا). أي يخْبُرُ ذلك فيجازيكم عليه. فإِن قال قائل إنما قِيلَ: (وإِن امرأة خافت)، ولم يُقَلْ وإِنْ نَشَزَ رجُلٌ على المرأة لأن الخائف للشيء ليس بمتيقنٍ له؟ فالجواب في هذا إِنْ خَافَتْ الإقامةَ منهُ على النشُوزِ والإعراضِ، وليس أن تخاف الإقامة إِلا وقد بدا منه شيء، فأما التفرقة بين (إن) الجزاء والفعل الماضي فجيد. ولكن " إن " وقعت التفرقة بين " إِنْ " والفعلِ المستقبلِ فذلك قبيح. إن قلتَ: إن امرأة تخاف - فهو قبيح، لأن " إِنْ " لا يفصل بينها وبين ما يُجْزَمُ، وذلك في الشعر جائز في (إنْ) وغيرها. قال عدي بن زيد.

(134)

فمَتى واغِلٌ يَنُبْهُمْ يُحَيُّوهُ. . . وتُعْطَفْ عليه كأْسُ الساقي فأما الماضي فـ "إِنْ " غير عَامِلةٍ في لفظه، و " إنْ " أُمُّ حُرُوفِ الجَزْم. فجاز أن تفرق بينها وبينَ الفِعْل، وامراة ارتفعت بفعل مضمرٍ يدل عليه ما بعد الاسم، المعنى إنْ خافَت امْرأة خَافَتْ فأمَّا غير " إِن " فالفصل يقبح فيه مع الماضي والمستقبل جميعاً، لو قلت: " متى زيد جاءَني أكرمته ". كان قبيحاً. ولو قلت إن اللَّهُ أمكنني فعلتُ كان حسناً جميلاً. * * * وقوله: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134) كان مشركو العرب لا يؤمنون بالبعث، وكانوا مُقِرينْ بأن اللَّهَ خالقهم. فكان تقربُهم إلى الله عزَّ وجلَّ إنما هو ليُعْطِيهُمْ من خير الدنيا، ويَصرِفَ عنهم شَرها، فأعلم الله عزَّ وجلَّ أن خير الدنيا والآخرة عنده. * * * وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135) القسط والِإقساطُ العدل، يقال أقسط الرجل يُقسِط إقساطاً إِذا عدل وأتى بالقسطِ، ويقال قسط الرجل قُسُوطاً إِذا جَارَ. قال الله جلَّ وعزَّ: (وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ). أي اعدلوا إن الله يُحب العَادِلينَ. وقال جلَّ وعزَّْ: (وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا). أي الجائرون، يقال قسط البعيرُ قسْطاً إِذَا يَبِسَتْ يدُه، ويدٌ قَسْطاءُ أي يابسة، فكأن أقسط أقام الشيءَ على حقيقةِ التعديل، وكأنَّ قَسَطَ بمعنى جارَ معناه يَبَّسَ الشيءَ، وأفْسَدَ جِهتَهُ المستقيمةَ. وقوله: (وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ)

المعنى قوموا بالعدل وأشهدوا للَّهِ بالحق، وإن كان الحق على نفس الشاهد أو على والديه وأقْر بِيه. (إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا). أي إِن يكن المشهود له فقيراً فاللَّه أولى به، وكذلك إن يكن المشهود عليه غنياً فاللَّه أولى به، فالتأويل أقيموا الشهادةَ لِلهِ على أنْفسِكمْ وأقاربكم، ولا تميلوا في الشهادة رحمةً للفقير، ولا تَحِيفوا لاحتَفَالِ غِنَى عَنِيٍّ عِندَكم. وقوله: (فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا). أي لا تتبعوا الهوى فتعدلوا. (وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا). قرأ عاصِم وأبو عمرو بن العلاءَ وأهلُ المدينَة " تَلْووا " بواوين، وقرأ يَحيى ابنُ وثاب والأعمش وحمزة بواو واحدة " تَلوا "، والأشبه على ما جاءَ في التفسير ومَذْهَبِ أهل المدينة وأبي عمروٍ، لأنه جاءَ في التفسير أن " لَوَى الحاكِم في قضيتِه " أعرَضَ. (فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا). يقال لويت فلاناً حقه إِذا دَفَعته به ومطَلْته، ويجوز أن يكون " وأن تَلُو " أصله تَلْوُوا فأبدلوا من الواو المضمومة - همزة فصارت تلووا - بإسكان اللام - ثم طرِحَت الهمزَة وطرِحَتْ حَركتها على اللام فصار تفما كما قيل في أدورٍ اذوَّرٍ ثم طرحت الهمزة فصَارَتْ آدر. ويجوز أن يكونَ وإِنْ تَلُوا من الولاية، وتُعْرِضُوا أي إِن قمتم بالأمر أو أعرضتم عنه، فإِنَ اللَّهَ كان بمَا تَعملون خَبيراً.

(136)

وقوله: (فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ). قيل كالمحبوسة لا أيِّماً ولا ذات بَعل. * * * وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136) قيل فيه قولان: - يا أيها الذين آمنوا أقيموا على الايمان باللَّهِ كما قال عزَّ وجلَّ (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا)، أي وَعَدَ مَنْ أقام على الِإيمان من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - الذين ذكروا في هذه القصة مغفرة وأجراً عظيماً. وقيل يُعْنَى بهذ! المنافقون الذين أظهروا التصديق وأسروا التكذيب. فقيل: يا أيها الذين أظْهَرُوا الإيمان آمِنُوا باللَّه ورسوله أي أبطنوا مثل ما أظهرتم. والتأويل الأول أشبه واللَّه أعلم. * * * وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137) قيل فيه غير قول: قال بعضهم يُعْنَى به إليهودُ لأنَّهم آمنوا بموسى ثم كفروا بعزير ثم آمنوا بعزيرٍ ثم كفروا بعِيسَى، ثم ازدَادُوا كفْرأ بكفرهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم -. وقيل جائز أنْ يكون محاربٌ آمن ثم كَفَر ثم آمَن ثم كَفَر. وقيل جائز أن يكون منافِقٌ أظهر الِإيمان وأبطن الكفرَ ثم آمن بعد ثم كفر وازداد كفراً بإقامته على الكفر.

(138)

فإن قال قائل: اللَّه جلَّ وعزَّ لا يغفر كُفْر مرةٍ واحدةٍ فلم قيل ههنا فيمن آمن ثُمَّ كفر ثُمَّ آمن ثُمَّ كفر: (لم يكن اللَّه ليغفر لهم) وما الفائدة في هذا؟ فالجواب في هذا - واللَّه أعلم - أن اللَّه عزَّ وجلَّ يغفر للكافر إِذا آمن بعد كفره، فإن كفر بعد إيمانه لم يغفر اللَّه له الكفر الأول، لأن اللَّه جلَّ وعزَّْ يقبل التوبة، فإِذا كفر بعد إيمان قبله كفْر فهو مطالب بجميع كفره. ولا يجوز أن يكون إذا آمن بعد ذلك لا يغفر له، لأن اللَّه جل ثناؤُه يغفر لكل مؤمن بعد كفره. والدليل على ذلك قوله جلَّ وعزَّ: (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ). وهذا في القرآن كثير، وهو شبيه بالِإجماع أيضاً. ومعنى: (وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا) أي لا يجعلهم بكفرهم مهتدين بل يضلهم، لأنه جلَّ وعزَّ يضل الفاسقين. * * * وقوله - جلَّ وعزَّ: (بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) معنى (أليم) موجع. قال " بشر " أي اجعل في مكان بشارتهم " لَهُمْ العَذَابُ " العرب تقول تَحيتكَ الضرْبُ، وعتابك السيف أي لك - بدلًأ من التحية. . . هذا. قال الشاعر: وخيل قد دَلَفْتُ لها بِخيل. . . تحية بينِهم ضربٌ وجيع * * * وقوله جلَّ وعزَّ (الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139) (أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ) أي أيبْتَغِي المنافقون عند الكافرين العزة. والعزة المَنْعَة وشدة الغَلَبَةَ وهو مأخوذ من قولهم أرضٌ عَزاز.

(140)

قال الأصْمَعى: العَزَاز: النفَلُ مِنَ الأرضِ والصُّلب الحجارة، الذي يسرع منه جريُ الماءِ والسيل هذا لفظ الأصْمعي. فتأويل العزة الغَلَبَةُ والشَدة التي لا يتعلق بها إِذلال. قالت الخنساءَ: كأن لم يكونوا حمىً يُتَقَى. . . إِذ الناسُ إِذ ذاك من عزٍّ بزَّا أي من قوى وغلب سلب. ويقال: قد استعِز على المريض إذا اشتد وجَعَه، وكذلك قول الناس: يَعِزُّ علي أن تَفْعل، أي يشتد، فأما قولهم قد عَزَّ الشيء إِذا لم يوجد فتأويله قد اشتد وجوده أي صعب أن يُوجَدَ، والمآب، واحدٌ. وقوله: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140) أعلَمَ الله عزَّ وجلَّ المؤْمنين أن المنافقين يَهْزأونَ بكتاب اللَّه، فأمروا ألا يقعدوا مَعَهمْ حَتَّى يخوضوا في حديث غيره أي في حديت غير القرآن. وقوله: (إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ). أي إِنكم إِذا جالستموهم على الخوض في كتاب اللَّه بالهزؤ فأنتم مِثْلُهُمْ.

(141)

وقوله: (الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141) (أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) هذا يقوله المنافقون إِذا كان للكافرين نصيبٌ قالوا: ألم نستحوِذ عليكم، أي ألم نغلب عليكم بالموالاة لكم، ونمنعكم من المؤْمنين بما كنا نعلمكم مِن أخْبَارِهم. ونَسْتَحوِذ في اللغة: نستولي على الشيءِ، يقال حاذ الحمار آتنَه إِذا استولى عليها وجَمعَها، وكذلك حازها. قال الشَاعر. يحُوذهنَ وله حُوذِيُّ ورَووه أيضاً: يحوزهن وله حُوزيُّ قال النحويون: اسْتَحْوَذَ خرج على أصْله، فمن قال حَاذَ يحوذُ لم يقل إِلا استحاذ يستحيذ، ومن قال أحوَذَ فهو كما قال بعضهم أجْودتَ وأطيَبْت بمعنى أجدْتَ وأطبْتَ، فأخرجه على الأصْل قال: اسْتَحْوَذَ. وقوله: (وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا). أي إِن اللَّه ناصِرُ المؤمنين بالحجة والغلبة، فلن يجعل للكافرين أبداً على المؤْمنين سَبِيلًا. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) أي يخادعون النبي - صلى الله عليه وسلم - بإظهارهم له الِإيمان وإِبطانِهم الكفْرِ، فجعل

(144)

الله عزَّ وجلَّ مخادعة النبي - صلى الله عليه وسلم - مخادعة له. كما قال عزَّ وجلَّ: (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ). ومعنى قوله: (وهو خَادِعُهُمْ). فيه غير قول: قال بَعْضهُمْ: مُخادعةُ اللَّه إياهم جزاؤُهم على المخادعة بالعذاب، وكذلك قوله: (ويمكُرونَ ويمْكُرُ اللَّهُ). وقيل وهو خادِعُهُم بأمره عزَّ وجلَّ بالقبول منهم ما أظهروا، فاللَّه خادعهُمْ بذلك. * * * وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144) أي لا تجعلوهم بِطَانتَكُمْ وخَاصَّتَكُمْ. (أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا). أي حجة ظاهرة، والسلطان في اللغة الحجة، وإِنما قيل للخليفة والأمير سلطان لأن معناه أنه ذو الحجة. والعربُ تُؤَنَث السلطان وتذكره، فتقول: قَضَتْ عليك بهذا السلْطَان، وأمَرَتْكَ به السلطانُ. وزعم قوم من الرواة أن التأنيث فيه أكثر، ولم يُخْتلَفْ في التذكير. وأحسب الذين (رَووْا) لم يَضْبطُوا مَعْنَى الكثرة من القلة. والتذكير (فيه) أكثر، فأمَّا القرآن فلم يأت فيه ذكر السلطان إلا مذكراً، قال الله عزَّ وجلَّ: (لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ)

(145)

وقال: هَلَكَ عَني سُلْطَانِيَهْ)، وقال: (سُلْطَاناً مُبِيناً). فجميع ما في القرآن من ذكر السلطان مذكر، ولو كان التأنيث أكثر لكان في كتاب الله جلَّ وعزَّ. فإن قال قائل إنما رَووْا أن السلطان بين الناس هو المونث قيل إِنما السلطان معناه ذو السلطان. والسلطان الحجة. والاحتجاج والحجة معناهما واحد. فأما التأنيث فصحيح، إِلا أنه أقل من التذكير، فمن قال: قضت به عليك السلطان أراد قضت عليكَ به الحجة، وقضت عليك حجة الوالي، ومن قال قضى به عليك السلطانُ ذهب إلى معنى صاحبُ السلطانِ. وجائز أن يكون ذهب به إِلى البرهَانِ والاحتجاجِ، أي قضى به عليك البرهان. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) قال أبو عبيدة معمر بن المثَنى: جهنم أدْرَاك، أَي مَنازِل، فكل منزلة منها دَرَك. والقراءَة: الدرَك بفتح الراءَ. والدَّرْكُ بتسكين الراءَ، فأما أهل المدينة وأهل البصرة فيقرأونها. . (الدرَك) بفتح الراءَ وأما أهل الكوفة والأعمش وحمزة ويحيى بن وثاب، فيقرأون (الدرْك). وقد اختلف فيها عن عاصم، فرواها بعضهم عنه الدرَك ورواها بعضهم الدرْك - بالحركة والسكون جمِيعاً - واللغتان حكاهما جميعاً أهل اللغة، إلا أن الاختيار فتح الراءَ، لِإجماع المَدَنيين والبصرِيين عليها وأن أحداً من المحدثين ما رواها إِلا الدرَك بفتح الراءَ. فلذلك اخترنا الدرَك. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَنْ تَجِدَ لَهمْ نَصِيرًا). أي لا يمنعهم مانع من عذاب الله عزَّ وجلَّ ولا يشْفَعُ لهم شافع.

(146)

وقوله عزَّ وجلَّ َ: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146) (وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا) الخط حذفت منه الياءُ في هذا الموضع، وزعم النحويون أن الياء حذفت من الخط كما حذفت في اللفظ، لأن الياء سقطت من اللفظ لسكونها وسكون اللام في " اللَّه " وكذلك قوله: (يَومَ يُنَادِ المُنَادِ) الياء من يناد حذفت في الخط لهذه العلة، وكذلك (سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ) و (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ) فالواوات حذفت ههنا لالتقاءِ السَّاكنين، فأما قول الله عزَّ وجلَّ: - (ذلك مَا كُنَّا نَبغِ)، فهو كقوله (يُنَادِ المُنَا). و (يدع الداع)، فهذه الياءاتُ من نحو (نَبْغِ) حذفت لأن الكسرة دلت على الياء فحذفت الياء لثقلها، وليس الوجه عند النحويين حَذْفها. فأمَّا المنادي والداعي فحذفت الياء منها كما حذفت قبل دخُول الألف واللام، لأنك تقول: هذا داع وهذا منادٍ. فأما (وَالليل إِذَا يسرِ). فحذفت الياء لأنها رَأسُ آية، ورُؤُوس الآي الحذف جائز فيها كما يجوز في آخر الأبيات. * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148) وإلَّا مَنْ ظَلَم، يقرأ بهما جميعاً. فالمعنى أن المظلوم جائز أن يظهر بظُلَامَته تَشكياً، والظالم يجهر بالسوءِ من القول ظلماً واعتداءً، وموضع " مَنْ " نصبٌ بالوجهين جميعاً، لأنه استثناء ليس من الأول

(153)

المعنى: لا يحب الله الجهر بالسوءِ من القول لكن المظلوم يظهر بظلامته تشكياً، ولكن الظالم يجهر بذلك ظلماً. ويجوز أن يكون موضع " مَنْ " رفعاً على معنى لا يحب اللَّه أن يجهر بالسوءِ من القول إِلَّا من ظلم فيكون " من " بَدلًا من معنى أحدٍ، المعنى: لا يحب الله أن يجهر أحد بالسوءِ من القول إلا المظلوم. وفيها وجه آخر لا أعلم النحويين ذكروه، وهو أن يكونَ " إِلا مُنْ ظَلَمَ " على معنى لكن الظالم اجهروا له بالسوء من القول، وهذا بَعْدُ استثناء ليس من الأول. وهو وجه حَسَنٌ، وموضعه نَصْبٌ. وقد روي أن هذا ورد في الضيف إِذا أُسِيءَ إِليه، فله أن يشكو لك. وحقيقته ما قلناه. واللَّه أعلم. * * * وقوله: (يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153) وهذا حين قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم -: (وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ). أي فقد سألوا موسى بعد أن جاءَهم بالآيات، فقالوا: (أرنَا الله جَهْرَةً). وقال أهل اللغة في (جَهْرَةً) قولين: قال أبو عبيدة: قالوا جهرةً أرنَا اللَّه، لأنهم إِذا رأوا الله فالسر جهرة، فإِنما جَهْرةٌ صفة لقولهم. وقال بعضهم (أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً)، إِنما معناه أرنا رؤْيةً بينةً منكشفةً ظاهرة لأن من علِم الله عزَّ وجلَّ فقد زَادَ عِلْماً، ولكن سألوه رؤْية يُدْرِكونها بأبصَارِهم.

(155)

ودليل هذا القول قوله عزْ وجلَّ: (وَإذْ قُلْتُم يا مُوسى لَنْ نُومِنَ لَكَ حَتى نَرَى الله جَهرةً). وهذا عندي هو القول البين إنْ شَاءَ اللَّه. * * * وقوله: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155) (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ) " ما " لغْوُ في اللفظ، المعنى فبنقضهم ميثاقهم حقًّا، فكما أن حقًّا لتوكيد الأمر فكذلك " ما " دخلت للتوكيد. وتأْويل نَقْضِهم مِيثَاقَهم أن اللَّه عزَّ وجلَّ أخذ عليهم الميثاق في أن يُبَينُوا ما أنْزل عليهم من ذكْر النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيره. قال اللَّه عزَّ وجل: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ). والجالب للباءَ والعامل فيها قوله عزَّ وجلَّ: (حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ). المعنى بنقضهم ميثاقهم، والأشياء التي ذكرت بعدَه. وقوله " فبظلم " بدل من قوله: فبما نقضِهم. وقوله: (قُلُوبُنَا غُلْفٌ) أي أوعية للعلم. (بَلْ طَبعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكفْرِهِمْ). وإِن شئت أدغمت اللام في الطاء، وكذلك: (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) يُدْغَمُ فتقول: بَـ طبَعَ، وبـ تُؤثُرنَ، جعل اللَّه مجَازاتهمْ على كفرهم أن طبع على قلوبهِم. وقوله: (وَقوْلهم علَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظيماً).

(157)

البهتان الكذب الذي يُحيِّر من شِذتِه وعِظَمِه، وذلك أنَّ إليهود - لعنها اللَّه - رمت مريم، وهي صفوة الله على نساءِ العالمين، بأمْرٍ عظِيمٍ. وقوله: (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) (إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ). أي باعترافهم بقتلهم إياه. (وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ). فإنما عُذِّبوا أو يُعَذبون عذابَ من قتل، أو كان شُبِّهَ لَهم لأنهم قد أتوا الأمر على أنَّه قتل نبي. وجاءَ في التفسير أن عيسى لما أراد اللَّه جل ثناؤه رفعه إِليه وتطهيره منهم، قال لأصحابه؛ أيكُم يرْضَى أن يُلْقَى عليه شبهي فَيُقْتلَ ويُصلَب ويدخل الجنة، فقال رجل منهم أنا فألقى عليه شبهه فقتل. ورفع الله عيسى إِليه، وهذا كله غير ممتنع، لأنا لا نشك في أنه شُبِّه لَهُمْ. وقوله: (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ). أي الذين اختلفوا في قتله شاكون، لأن بعضهم زعم أنَّه إِله، وما قُتِلَ. وبَعضهم ذكر إنَّه قُتِلَ، وهم في ذلك شَاكُون. (مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ). (اتِّبَاعَ) منصوب بالاستثناء، وهو استثناء ليس من الأول. المعنى ما لهم به من علم لكنهم يتبعون الظن. وإِن رُفعَ جاز على أن يُجْعَلَ عليهم اتباعُ الظن. كما تقول العرب: تحيتك الضربُ وعتابُكَ السيفُ. قال الشاعر: وخيل قد دَلَفْتُ لها بخيلٍ. . . تحية بينهم ضربٌ وجيعُ * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا).

(158)

قال بعضهم: الهاء للعلم. المعنى وما قتلوا علمهم يقيناً، كما تقول: أنا أقتل الشيءَ علماً، تأويله إني أعلمه علماً تامًّا. وقال بعضهم: (وما قتلوه) الهاء لعيسى كما قال: وما قتلوه وما صلبوه. وكلا القولين جائز. * * * وقوله: (بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158) إدغام اللام في الراء هو الكلام وعليه القراءَة، لأن اللام قريبة من مخرج الراء، والراء متمكنة، وفيها كالتكرير، فلذلك اختير الإدغام فيها، وإنْ لَمْ تُدْغم لأنه مِنْ كلمتين جاز. * * * وقوله: (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159) المعنى: ومَا مهم من أحد إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ، وكذلك قوله: (وَإنْ مِنكُمْ إلا وَارِدُهَا). المعنى ما منكم أحد إلا واردها، وكذلك (وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ) المعنى وما منا أحد إلا له مَقَام مَعْلوم. ومثله قول الشاعر: لو قلت ما في قومها لَمْ تِيثَم. . . يفضلها في حَسَب وميسمِ المعنى ما في قومها أحد يَفضلها. فالمعنى (لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ)، فالهَاء في " موته " راجعة على

(162)

كافرٍ في بعض الأقاويل، وقد قيل: ما من أحد إلا لَيُؤْمِنَنَّ بعيسى ممن كفر به قبل مَوْته، لأن الميت قبل موته يعاين عمله فيعلم صالحه من طالحه، وكل كافر إِذا عَاينَ آمَنَ بكل نبي كَفرَ به قبل مَوْته. وقالوا في الهاء في قوله: (لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ) أي بعيسى. وقال بعضهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم -. والقولان واحد، لأن من كفر بنبي عَاينَ قبل موته أنه كان على ضلال، وآمن حيث لا ينفعه الِإيمانُ. وقال بعضهم: (إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ) أي سيؤْمن بعيسى إِذا نزل لقتل المسيح الدجَّال، وهذا بعيدُ في اللغَةٍ، لأنه قال: (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ). والذين يبقون إِلى ذلك الوقت إنما هم شرذمة منهم، ولكنه يحتمل أنهم كلهم يقولون إن عيسى الذي ينزل لقتل الدجال. نحن نؤمن، فيجوز على هذا. واللَّه أعلم بحقيقته. * * * وقوله: (لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (162) يُعْنَى بالراسخين الثابتون في العلم من أهل الكتاب أنهم لِعِلْمِهمْ آمنوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وسائر الأنبياء عليهم السلام. (والمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ). نسق عَلى " ما " المعنى يُؤمنون بما أنزل إِليك وبالمقيمين الصلاة أي ويُؤمنون بالنبيين المقيمين الصلاة. وقال بعضهم " المقيمين " عطف على الهاء والميم، المعنى: لكن

الراسخون في العلم منهم ومن المقيمين الصلاة يُؤمنون بما أنزل إليْك، وهذا عند النحويين رَدِيء، أعني العطف على الهاء والميم لأنه لا يعطف بالظاهر المجرور على المضمر المجرور إِلا في شعْرٍ، وذهب بعضهم أن هذا وهْمٌ من الكاتب. وقال بعضهم: في كتاب اللَّه أشياء ستصلحها العرب بألسنتها، وهذا القول عند أهل اللغة بعيد جداً، لأن الذين جمعوا القرآن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم أهل اللغة وهم القدوة وهم قريبو العهد بالِإسلام فكيف يتركون في كتاب اللَّه شيئاً يصلحه غيرهم، وهم الذين أخذوه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجمعوه، وهذا ساقط عَمَّنْ لا يَعْلَم بَعْدَهُمْ وساقط عمن يعْلَمُ، لأنهم يُقْتَدى بهمْ فهذا مما لا ينبغي أن يُنسب إِليهم رحمةُ الله عليهم. والقرآن محكَم لا لحن فيه، ولا تَتكلم العرب بأجود منه في الِإعراب، كما قال عزَّ وجلَّ (تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ)، وقال: (بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ). ولسيبويه والخليل وجميع النحويين في هذا باب يسمونه باب المدحِ قد بَينوا فيه صحةَ هذا وجَوْدتهَ. وقال النحويون: إِذا قلتَ مَرَرْت بزيدِ الكريم. وأنتَ تريد أن تخلص زيداً من غيره فالجر هو الكلام حتى يُعْرَفَ زيد الكريمُ من زيد غير الكريمِ، وإذا أردت المدح والثناءَ فإن شئت نصبت فقلت مررت بزيد الكريمَ كأنك قُلتَ أذكُر الكريمَ، وإن شئت قلت بزيد الكريمُ على تقدير هو الكريم، وجاءني قومكَ المطعمينَ في المحل، والمغيثون في الشدائد، على معنى أذكر المطعمينَ، وهم المُغيثُون في الشدَائد، وعلى هذا الآية، لأنه لما قال: (يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) عُلمَ أَنَّهُمْ

(163)

يُقِيمون الصًلاَة ويؤتُون الزكاةَ. فقال: (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ)، على معنى، أذكُر المُقِيمينَ الصلاةَ، وهم المْؤتوْنَ الزكاة، وأنشدوا بيت الخزنق بنت بدر بن هفان: لا يَبْعَدَنْ قَوْمي الَّذين هُمُو. . . سُمُّ العُداة وآفَة ُ الجُزرِ النازلين بكل معترك. . . والطيبون معاقد الأزُر على معنى اذكر النازلين، رفعه ونصبه على المدح. وبعضهم يرفع النازلين وينصب الطيبين، وكله واحد جائز حسن. فعلى هذه الآية. فأما من قال إنه وهم فقد بيَّنَّا ما فيه كفاية. والذي ذكرناه من الاحتجاج في ذلك مذهب أصحابنا البصريين. * * * وقوله: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163) هذا جواب لهم حين سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ينزل عليهم كتاباً من السماءِ، وقد جرى ذكر ذلك قبل هذه الآية. وهو قوله: (يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ) فأَعلم اللَّه نبيه أن شأنه في الوحي كشأْن الأنبياءِ الذين سلفوا قبله، وهذا احتجاج عليهم، فقال: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ) وسائر الأنبياءُ الذين ذكروا في هذه الآية. وقوله: (وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا). القراءَة فيه بفتح الزاي وضمها، وأكثر القراء على فتح الزاي. وقد قرأت جماعة زُبُوراً بضم الزاي، منهم الأعمش وحمزة، فمن قرأ زَبُوراً، بفتح الزاي فمعناه كتاباً، وهذا الوجه عند أهل اللغة، لأن الآثار كذا جاءَت زَبُور دَاوُدَ، كما جاءَ تَوْراةُ موسَى وإِنْجِيل عِيسى.

(164)

ومن قرأ زُبوراً بضم الزاي فمعناه وآتيناه كُتُباً، جمع زَبْر وزُبُور ويقال زبرت الكتاب أزْبرُه زَبْراً إذا كتبتَ، وزَبَرتُ أزْبُر زَبْراً، وأزْبِرُ إِذا قرأت. والزَبْرُ في اللغة إِحكام العمل قي البئر خاصة، تقول: بئر مزبورة إذا كانت مطوية بالحجارة، والزبر إِحكام الكتاب. وقول الشاعر: هَوْ جَاءُ لَيْسَ لِلُبها زَبْرُ يصف ريحاً، جعل هذا مثلاً لَهَا، كأنه قال ليس لشأنها قوة في الاستواءِ. وقوله جلَّ وعزَّ: (آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ) واحدها زُبْرَة، وهي قطع الحديد. * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164) " رسلًا " منصوب من جهتين، أجودهما أن يكون منصوباً بفعل مضمَرِ. الذي ظهر يفسِرهُ، المعنى وقد قصصنا رسلاً عليك قد قصَصْناهم، كما تقول رأيت زيداً وعمراً أكرمته، المعنى وأكرمت عمراً أكرمته. وجائز أن يحمل (وَرُسُلًا) على معنى (إِنَا أوحينا إِليك)، لأن معناه إِنا أرسلنا إِليك: موحين إليك، وأرسلنا رُسُلًا قد قصصناهم عليك. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا). أخْبَرَ الله عزْ وجل بتخصيص نَبِي مِمن ذكر، فأعلم عزَّ وجلَّ أن موسى كُلِمَّ بغير وَحي، وأكد ذلك بقوله تكليماً، فهو كلام كما يعقلُ الكلام لا شك في ذلك.

(166)

وقوله - جلَّ وعزَّ -: (لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (166) القراءَة الرفع مع تخفيف " لكن "، والنصب جائز " لَكِنَّ الله يَشهَدُ، إِلا أنه لا يقرأ بما يجوز في العربية إلا أن يَثْبُتَ به رواية عن الصحابة وقراء الأمصار. ومعنى (لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ) يبين، لأن الشاهِدَ هو المبين لما يشهَدُ به. فاللَّه جلَّ وعزَّ يبينه ويعلم مع إبانتهِ أنه حق. (وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا) معناه: وكفى الله شهيداً، والباءُ دخلت مَؤكدة، المعنى اكتفوا باللَّه في شهادته، ومعنى (أنْزَلَهُ بعِلْمِه) أي أنزل القرآن الذي فيه علْمُه. وقوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (170) (فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ). اختلف أهل العربية في تفسير نصب " خير "، فقال الكسائي: انتصب لخروجه من الكلام، قال: وهذا تقوله العرب في الكلام التام نحو قولك لتقومَنَّ خيراً لك، فإِذا كان الكلام ناقصاً رفعوا فقالوا: إِن تنته خير لك. وقال الفَراءُ: انتصب هذا وقوله (خَيْرًا لَكُمْ) لأنه متصل بالأمر وهو من صفته، ألا ترى أنك تقول انته هو خير لك فلما سقطت هو اتصل بما قبله، وهو معرفة فانتصب، ولم يقل هُو ولَا الكسائِي من أي المنصوبات هو، ولا شرحوه بأكثر من هذا. وقال الخليل وجميع البصريين: إِنَّ هذا محمول على معنا، لأنك إِذا قلت: انْتَه خيْراً فأنت تدفعه عن أمر وتدخِله في غيره، كأنك قلت انْتَهِ وائتِ خيرٌ لك وادخُلْ فيما هوخير لك. وأنشد الخليل وسيبويه قول عمر بن أبي ربيعة:

(171)

فَواعِديهِ سَرْحَتَيْ مالِكٍ. . . أَو الرُّبى بينهما أَسْهَلا كأنه قال إِيتي مكاناً أسْهلا. * * * وقوله: عزَّ وجلَّ: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171) (سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ). معنى سبحانه تبرئته من أن يكون له ولد، وهذا قول أهل العربية. وجاءَ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن معنى " سبحان الله " تبرئة الله من السوءِ، وتفسير أهل العربية موافق لما جاءَ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا) الرفع لا غير، ورفعه بإضمار لا تقولوا آلِهتنَا ثَلَاثَةٌ. (إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ) أي ما هو إلا إِلَهٌ وَاحِدٌ. وقوله: (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ) أي، فكيف يكون إِلهاً وهو ابن مريم، وكيف يكون إِلهاً وأمه قبله واللَّه عزَّ وجلَّ القديم الذي لم يَزل. (لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ). الغلو مجاوز القدرِ في الظلم. * * * وقوله: (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172) أي ليس يستنكف الذي تزعمون أنه إِله أن يكون عبداً للَّهِ. (ولا الْملائِكَةُ الْمُقَربُونَ)

(174)

والملائكة - واللَّه أعلم - أكرم من النبيين، ألا ترى أن نُوحاً عليه السلام قال: (وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ)، فقال عزَّ وجلَّ: (لن يستنكف المسيح) من العبودةِ للَّهِ. ومعنى يستنكف أي لن يأْنف، وأصله في اللغة من نَكَفْتُ الدَّمْعَ إِذا نحيته بإِصبعك من خدك. قال الشاعر: فبانوا فلولا ما تذكر منهم. . . من الخُلفِ لم يُنْكَفْ لعَينيكَ مَدمعُ فتأويل لَنْ يستنكف لن ينقبض، ولن يمتنع من عبودَةِ اللَّه. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174) (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا). يُعنَى به - واللَّه أعلم - القرآن، لأن النور هو الذي يُبَينُ الأشياءَ حتى تُرَى. وَمثَّلَ اللَّه عزَّ وجلَّ ما يَعْلم بالقلب عِلْماً واضِحاً لما يرى بالعَيْن رُؤْيَة منكشفة بَينَة. والكلَالَةَ قد بَيَّناها أول السورة. وقوله: (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176) (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ). جاز مع " إن " تقديم الاسم قبل الفعل، لأن " إِنْ " لا تعمل في الماضي. ولأنها أُمُّ الجزاءِ. والنحويون يذهبون إِلى أن مَعَها فعلاً مضمراً، الذي ظهر يفسره، والمعنى إِن هلك امرؤ هلك. وقوله: (يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا). قيل فيها قولان، قال بعضُهم: المعنى يبين اللَّه لكم أن لَا تضلوا

فأضمرت لا،. وقال البصريون إِن " لا " لا تضمر، وإِن المعنى: يبيِّن الله لكم كراهة أن تضلوا، ولكن حذفت " كراهة "، لأن في الكلام دليلاً عليها، وإِنما جاز الحذف عندهم على أحد، قوله: (وَاسْألِ القَرْيةَ) والمعنى واسأل أهل القرية، فحذف الأول جائز، ويبقى المضاف يدل على المحذوف، قالوا فأما حذف " لا " وهي حرف جاءَ لمعنى النفي فلا يجوز، ولكن " لا " تدخل في الكلام مَؤكدة، وهي لغو كقوله: (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ). ومثله قول الشاعر: وما ألوم البيض ألَّا تسخرَا. . . لما رأين الشمط القَفَنْدَرا المعنى وما ألوم البيض أن تسخر. ومثل دخول " لا " توكيداً قوله عزَّ وجلَّ: (لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ). و (لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ). فإن قال قائل: أفيجوز أن تَقول لا أحلف عليك، تريد أحلف عليك؟. قيل " لا " لأن لا، إنما تلغى إِذا مضى صدر الكلام على غير النَفي، فإِذا بنيت الكلام على النفي فقد نقضت الِإيجاب، وإِنما جاز أن تلغى " لا " في أول السورة، لأن القرآن كله كالسورة الواحدة، ألا ترى أن جواب الشيء قد

يقع وبينهما سُورٌ كما قال جلَّ وعزَّ جواباً لقوله: (وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6). فقال: (ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2). ومثله في القرآن كثير.

سورة المائدة

سورة المائدة ومن سورة المائدة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله جلَّ وعزَّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1) خاطب اللَّه جلَّ وعزَّ جميع المؤْمنين بالوفاءِ بالعقود التي عقدها اللَّه عليهم، والعقود التي يعقدها بعضهم على بعضٍ على ما يوجبه الدين، فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) أي يا أيها الذين صدقوا النبي - صلى الله عليه وسلم - أوْفوا بالعُقود، والعقود العهود، يقال: وفيت بالعهْدِ وأوفيتُ. والعقود واحذها عَقْد، وهي - أوكد العهودِ يقال: عهدت إلى فلان في كذا وكذا، تأويله ألزَمتُه ذلك. فإنما قلت عاقدته أو عَقَدت عليه، فتأويله أنك ألْزمْته ذلك باستيثاق. وقال بعضهم أوفوا بالعقودِ أي كان عقد بعضُكم على بعض في الجاهلية، نحو الموالاة، ونحو قوله: (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ) والمواريث تنسخ العقودَ في باب المواريث. يقال عقدت الحبلَ والعهد فهو معْقود. قال الحطيئة: قَوْمٌ إِذا عَقَدوا عَقْداً لجارِهمُ. . . شَدُّوا العِناجَ وشَدُّوا فَوْقَه الكَرَبَا

تأويله أنهم يوفون عهودَهم بالوفاءِ بها، ويقال أعقَدْتُ العسَل ونحوه فهو مُعقدَ وعَقِيدٌ، وروى بعضهم: عقدت العسل والكلام أعقَدْت. قال الشاعِر: وكأَنَّ رُبّاً أَو كحِيلاً مُعْقَداً حَشَّ القيانُ به جوانِبَ قُمْقُمِ * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ). قال بعضهم: بهيمة الأنعام: الظباءُ والبقر الوحْشِيةُ والحُمْرُ الوحشيةُ. والأنعام في اللغة تشتمل على الِإبل والبقر والغنم. فالتأويل - واللَّه أعلم - أحلت لكم بهيمة الأنعام، أي أحلت لكم الِإبل والبقرُ والغنمُ والوحْشُ. والدليل على أن الأنعام مشتملة على ما وصفنا قوله عز وجلَّ: (وَمِنَ الأنْعَامِ حَمُولَةً وفَرْشاً) فالحمولة الإِبل التي تُحَمَّلُ والفرْشُ صغار الِإبل، قال (ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ) ثم قال: (وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ) وهذا مردود على قوله:

(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ)، وأنشأ (وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا). ثم ذكر ثمانية أزواج بدلاً من قوله: (وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا). والسورَة تدعَى سورة الأنعام، فبهيمة الأنعام هذه، وإِنما قيل لها بهيمة الأَنعام لأن كل حي لا يميز فهو بهيمة، وإِنما قيل له بهيمة لأنه أبهم عن أي يميز، فأعلم اللَّه عز وجلَّ أن الذي أحِل لنا مما أبهِم هذه الأشياءُ. وقوله: (إِلَّا مَا يُتْلَى عَليْكُم). موضع ما نصب بـ (إِلَّا)، وتأويله أُحلَّت لكم بهيمة الأنعام (إِلا ما يتلى عليكم) من الميتةِ والدم والموقُوذَةِ والمُتَرَديَةِ والنطِيحَة (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ) أي أُحلَّتْ لكم هذه لا مُحِلينَ الصيْدَ (وَأَنْتُمْ حُرُمٌ). وقال أبو الحسن الأخفش: انتصب (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ) على قوله: (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود)، كأنَّه قيل: أوفوا بالعُقودِ غير مُحِلَى الصيْدِ. وقال بعضهم يجوز أن تكون " ما " في موضع رفع على أَنه يذهب إِلى أنه يجوز جاءَ إخوتك إِلَّا زيدٌ، وهذا عند البصريين باطل لأَن المعنى عند هذا القائل: جاءَ إخوتك وزيد. كأنَّه يعطف بها كما يعطف بلا، ويجوز عند البصريين جاءَ الرجال إلا زيد على معنى جاءَ الرجال غَيرُ زيد، على أن تكون صفة للنكرة أو مَا قَاربَ النكرةَ من الأجناسِ. وقوله: (وَأَنْتُمْ حُرُمٌ). أي مُحرمونَ. وأَحَدُ الخرُم حرام، - يقال رجل حَرامٌ وقوم حُرُم. قال الشاعر:

(2)

فقلتُ لها فِيئي إِلَيكِ فإِنَّني. . . حَرامٌ وإِني بعد ذاكَ لَبِيبُ أي ملبٍّ. وقوله: (إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ). أي الخلق له عزَّ وجلَّ، يُحِل منه ما يشاءُ لمنْ يشاءُ، وُيحُرَمُ مَا يُرِيدُ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَئَانُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2) الشعائر واحدتها شعيرة، ومعناه ما أشْعِرَ أي أعْلمَ ليُهدَى إِلى بيت اللَّه الحرام. وقال قوم شعائر الله يُعنَى بِه جميع مُتَعَبداتِ اللَّهِ التي أشْعَرهَا اللَّه. أي جعلها أعلاماً لنا. (وَلَا الْهديَ) الهَدْيُ واحِدَتُهُ هَدْيةٌ مثلُ جَدْيةَ وجَدْي يعني حَدَبةُ السَّرج. و (القلائد) كانوا يقلدون بِلِحاء الشَجرَ ويعتصمون بذلك وهذا كله كان للمشركين، وكان قد أمِرَ المسلمون بأن لا يحلوا هذه الأشياءَ التي يَتَقربُ بها المشركون إِلى الله وكذلك (وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ) وهذا كله منسوخ. وكذلك (ولا الشهر الحرام) وهو المُحرم لأن القتَال كان مرفوعاً فيه، فَنسخَ جميع ذلك قوله: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ).

وقوله: (وإِذَا حَلَلْتُم فاصطَادوا). هذا اللفظ أمرٌ ومعناه الِإباحة، لأن اللَّه عزَّ وجل حرم الصيدَ على المحرم، وأباحَه لَهُ إِذَا حَلَّ من إِحْرامه، ليس أنه واجب عليه إِذا حَلَّ أن يصطاد، ومثله قوله: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) تأْويله أنه أبيح لكم بعد الفراغ من الصلاة، ومثل ذلك في الكلام: لا تَدْخُلَنَ هذه الدار حتى تُوديَ ثمنها، فإِذا أديت فَادْخُلْها، تأويله فإذا أديت فقد أُبيح لك دُخولها. وقوله: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَئَانُ قَوْمٍ). أي لا يحملنكم بغضُ قومِ، يقال شنئته شنآناً معناه أبغضته إِبغاضاً. والشنآن مصدر مثل غَلَى غَليَاناً، ونَزَا نَزَوَاناً، فالمعنى لا يكْسَبَنكم بُغْضُ قومٍ أن تعتدوا. وموضع " أن " نصب، أي تعتدوا لأن صَدوكم عَن المسْجد الحرامِ فموضعُ أن الأولى نصب مفعول له، وموضع أن الثانِيةِ نصب مفعول به. المعنى لا يكسبنكم بغضُ قوم أي بغضكم قوماً الاعْتِدَاءَ بصدهم إِيَّاكُمْ عَنِ المَسْجِدِ الحرامِ يُقالُ فلان جريمة أهله أي هو كاسبهم. وقيل في التفسير لا يحملنكم بغض قوم، والمعنى واحد. وقال الأخفش لا يُحِقَّنَّ لكم بُغْضُ قَوْمٍ. وهذه أَلفاظ مختلفة والمعنى واحد. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى).

(3)

وهذا كله منسوخ إِلا التعاوُنَ مِن المسلمين على البر. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3) (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ). أصله الميتَة بالتشديد، إِلا أنه مخفف، ولو قرئت الميتَةُ لجاز يقال مَيِّت، ومَيْت، والمعنى واحد. وقال بعضهم الميِّت يقال لما لَمْ يَمتْ. والميْتُ لما قَدْ مَاتَ، وهذا خطأ إِنما ميِّت يصلح لما قد مات، ولما سَيَمُوت. قال اللَّه عزَّ وجلَّ: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ). وقال الشاعر في تصديق أن الميْتَ والميِّتَ بمعنى واحد: ليس مَن مات فاسْتراحَ بمَيْتٍ إِنما المَيْتُ مَيِّتُ الأَحْياءِ فجعل الميت مخففاً من الميت. وقوله: (وَالدَّمُ). قيل إنهم كانوا يجعلون الدم في المباعر ويشوونها ويأكلونها، فأعلم اللَّه عزَّ وجلَّ أن الدم المسفوح، أَي المصْبُوبَ حرام، فأمَّا المُتَلَطَخُ بالدم فهوكاللحم في الحل. وقوله: (وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِه). موضعه رفع، والمعنى: وحرم عليكم ما أهل لغير اللَّه به، ومعنى (أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِه) ذكر عليه اسمُ غيرِ اللَّه، وقد فسرنا أن الِإهلال رفع الصوت

بالشيءِ فَمَا يتقَرَّب به من الذبح لغير اللَّه، أو ذكر غير اسمه فحرام. (ولحم الخنزير) حرام، حرم الله أكله، وملكه، والخنزير يشمل على الذكر والأنثى. وقوله (وَالْمُنْخَنِقَةُ). وهي التي تنخنق بِرِبْقَتِها أي بالحبل الذي تشدُّ به، وبأي جِهة اختنقت فهي حرام. وقوله: (والمَوْقُوذةُ). وهي التي تُقْتَلُ ضرباً، يقال وَقَذْتُها أوْقِذُها وَقْذاً وأوقَذْتُها أوقِذُها إِيقَاذاً. إذَا أثْخَنْتُهَا ضرباً. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (والنطِيحَةُ). وهي التي تَنْطِحُ أو تُنْطَحُ فَتَموتُ. وقوله: (وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ). موضع " ما " أيضاً رفع عطف على ما قبْلَها. وقوله: (إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ). أي إِلا ما أدرَكْتُم ذَكاتَه مِنْ هَذه التي وصفْنَا، وموضع " ما " نصب أي حُرمت عليكم هذه الأشياءُ إِلَّا الشيء الذي أدْركَ ذَبحُه مِنْهَا، وكل ذَبحٍ ذكاةٌ، ومعنى التذكية أن يدركها وفيها بقية تَشْخبُ معها الأوداج، وتضطرب اضطراب المذبوح الذي أدْرِكَتْ ذَكاتُه. وأهل العلم يقولون إِنْ أَخْرجَ السَّبُع الحشْوةَ، أو قَطَعَ الجَوفَ قطعاً خرج معه الحَشْوة فلا ذكاة لذلك، وتأويله إنَّه يصير في حالة مَا لَا يُؤَثر في حياتِه الذبْحُ، وأصل الذكاء في اللغة كلها تمام الشيءِ،

فمن ذلك الذَّكاءُ في السن والفهم، وهو تمام السن، قال الخليل: الذَكاءُ في السِّنِ أن يأتي على قروحِه سنة، وذلك تمائم استِكمال القُوةِ. قال زهير: يُفَضّلُه إذا اجْتَهِدُوا عليْهِ. . . تمامُ السِّنِّ منه والذَّكاءُ وَقيل جري المذْكِيَاتِ غِلاب. أي جَرْي المَسَانِّ التي قد تأسَّنتَ. وتأويل تمام السِّن النهايةُ في الشباب فإِذا نقص عن ذلك أو زاد فلا يقال لها الذكاء والذكاء في الفهم أن يكون فَهِماً تامًّا سريعَ القَبول، وذَكَيْتُ النارَ إِنما هو مِنْ هذا. تأويله أتمَمت إشعالها. (إِلا مَا ذَكيْتمْ) ما أذْكَيْتُم ذَبْحة على التمام. وقوله: (وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ). والنُصبُ الحجارة التي كانوا يعْبدونَها، وهي الأوثانُ واحِدُها نِصاب. وجائز أن يكون واحدأاً، وجمعه أنصاب. وقوله: (وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ). موضع " أن " رفع، والمعنى وحرم عليكم الاستقسام بالأزلام. وواحد الأزلام زُلَم، وزَلَم، وهي سِهَام كانَتْ في الجاهلية مَكْتوب على بعضها " أمرَنِي رَبِّي " وعَلى بعضها: " نهاني رَبِّي - فإذا أراد الرَّجُلُ سَفَراً أو أمراً يهتَم به

اهتماماً شديداً ضرب تلك القِدَاح، فإِن خرج السهم الذي عليه " أمرني رَبِّي مضَى لحاجته، وإن خرج الذي عليه " نهاني ربي " لم يمض في أمره، فأعلم اللَّه عزَّ وجلٌ أن ذلك حرام، ولا فرق بين ذلك وبين قول المنجمين: لا تخرج من أجْل نَجْم كَذَاِ، وأخرج من أجل طلوع نجم كذا، لأن الله جلَّ وعزَّ قال: (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا) وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " خمس لا يَعْلَمهِن إلا اللَّه، وذكر الآية التي في آخر سورة لقمان. (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ). وهذا هو دخول في علم اللَّه الذي هو غيب، وهو حرام كالأزلام التي ذكرها الله جلٌ وعز أنها حرام. والاستقسام بالأزلام فسْق. والفِسْق اسم لِكُل ما أعلم الله أنه مُخْرِج عن الحلال إِلى الحرام، فقد ذَم اللًه به جميعَ الخارجين مِن متَعَبَّداته وأصله عند أهْلِ اللغة قد فَسقَتِ الرَطَبَة إذَا خَرَجَتْ عَنْ قِشْرها. ولو كان بَعض هذه المَرْفوعَاتِ نَصْباً على المعنى لجاز في غير القرآن. لو قلتَ حرمَتْ على الناس الميتَةُ والدمَ ولحمَ الخنزير، وتحمله على مَعْنَى وحَرمَْ الله الدَمَ ولحمَ الخِنْزِير لجاز ذلك، فأمَّا القرآن فخطأ فيه أن نقْرأ بما لم يَقْرأ به مَنْ هو قُدْوةٌ في القِراءَةِ، لأن القراءَة سنة لا تتَجاوَز. وقوله: (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ). "اليومَ " منصوب عَلى الظرف، وَلَيْسَ يُرادُ به - واللَّه أعلم - يوماً بعَيْنه.

معناه الآنَ يئِس الذين كفروا من دينكم، وهذا كما تقول أنا اليومَ قَدْ كَبرْتُ. وهذا الشأن لا يصلح في اليوم. تريد أنا الآن، وفي هذا الزمان ومعناه: أن قد حَوَّل الله الخَوفَ الذي كاد يلحقكم منهم اليوم ويئِسُوا مِنْ بُطْلان الإِسْلَام وجاءَكمْ مَا كُنتم توعدون من قوله: (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ). والدِّينُ اسم لجميع ما تعَبَّدَ اللَّه خلقَهُ، وأمرهم بالإِقامة عليْه، والذِي به يُجزون، والذي أمرهم أن يكون عادَتَهم. وقد بينَّا ذلك في قوله: (مَالِكِ يَوْمِ الدينِ). وقوله: (فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ). أي فليكن خوفكم لِلًه وحده، فقد أمنْتُم أن يَظْهَرَ دين على الِإسلام وكذلك - واللَّه أعلم -. قوله: (اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لكُمْ دينَكُمْ). أي الآن أكملْت لكم الدين بأن كَفَيتكم خَوف عَدوكم وأظهرتكم عليهم، كما تقول: الآن كَمُلَ لَنَا الملكُ وكملَ لَنَا ما نريد، بأن كفينا مَنْ كنا نَخافه. وقد قيل أيضاً: (اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لكُمْ دينَكُمْ) أي أكملت لكم فَرْض ما تحتاجون إِليه في دينكم. وذلك جائز حسن، فأَما أن يكون دين الله في وقت من الأوقات غيرَ كامل فلا. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ). أي فمن دَعته الضرورة في مجاعة، لأن َ المخمصَةَ شدةُ ضمور البطنِ. (غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ).

(4)

أي غير مائِل إِلى إِثم. (فَإِنَ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٍ). أي فإِن الله أباحه ذلك رحمة منه وتسهيلاً على خلقه، وكذلك فَمَنِ اضْطر غَير بَاغٍ وَلَا عَادٍ، أي غير آكل لها على جهة الاستحلال وَلا عَاد: أي مجاوزِ لقدر الحاجة، وغير آكل لها على جهة التلذذ فإِن اللَّهَ غَفُورٌ رحيم. * * * وقوله: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4) (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ) موضع " ما " رفع، إِن شئت جَعلتها وحدها اسما، ويكون خبرها قوله: (ذا). ويكون أحل من صلة ما، والتأويل: يسألونك أي شيءٍ أحِل لهم. وجائز أن تكون " ما "، و " ذا "، اسماً واحداً، وهي أيضاً رَفْعُ بالابتداءِ والتأويل على هذا: يسألونك أي شيءٍ أحِل لهُم، وأحل لهم خبر الابتداءِ. (قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ). فالطيبات كل شيءٍ لم يأت تَحريمه في كتاب ولا سنة، والكلام يدل على أنهم سألوا عن الصيْدِ فيما سألوا عنه، ولكن حُذِفَ ذكرُ صيدِ " مَا عَلًمْتُمْ). . لأن في الكلام دليلاً عليه، كما قال: (واسأل الْقَرْيَةَ). المعنى واسأل أهل القرية. " وقوله: (مُكَلِّبِينَ). أي في هذه الحال يقال رجل مُكلِّب، وكَلَّاب، أي صاحب صيد بالكلاب، وفي هذا دليل أن لحم صيد الكلب الذي لم يُعلَّم حرام إِذا لم تُدْرَك ذَكاتُه، فإِذا أرسَل المرسلُ كلب الصيْدِ فصادَ فقَتَل صَيْدَه، وقد ذكر الصائدُ اسم اللَّه على الصيد فهوحلال بلا اختلاف بين الناس في ذلك.

وقوله عزَّ وجلَّ: (فَكُلْوا مِمَّا أمْسَكْنَ عَلَيكمْ). فاختلف الفقهاء فيه إِذا أكل من الصيدِ، فقال بعضهم يْؤكل (منه) وإِن أكل منه. وكل ذلك في اللغة غير مُمتنع لأنه قدْ يُمْسك الصيد إِذا قَتَله ولم يأكل منه، وقد يمسَكُ وقد أكل منه. ومعنى: (تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ). أي تؤدبونَهنَّ أنْ يمسِكنَ الصيدَ عليكمِ، فإِنْ غَابَ الصيْد فماتَ فإِنه غير ممْسَك. وفي الحديث: " كُلْ ما أَصْمَيْت ودع ما أَنْمَيْت). ومعنى كل مَا أصْميْت أي إن صِدْتَ صيداً بكلبِ أو غيرِه فمات وأنْت تَرَاه ماتَ بصَيْدك فهو ما أصْمَيتَ، وأصل الصمَيَان في اللَغة السرعةً والخِفة. فالمعنى: كلْ ما أصمَيتَ أي ما قتلته بصَيْدِك وأنت تراه أسرع في الموت، فرأيته وعلمت - لا محالة - إنَّه مات بصيدك، ومعنى ما أنميت، أي ما غاب عنك فمات ولم تره، فلست تدري أمات بصيدك أم عَرَضَ له عَارضٌ آخَر فقتله، يقَال نمتِ الرَّمِيةً إِذا مضتْ والسهم فيها، وأنميت الرميةَ إذَا رَميتُها فمضت والسهم فيها. قال امرؤ القيس: فهْو لا تَنْمِي رَمِيَّته. . . ما له لا عُدَّ مِنْ نَفَرِه وقال الحَرِث بن وعْلَة الشَيْبَانِي: ( قالت سليمى قد غَنيتَ فتًى. . . فالآن لا تصمِي ولا تَنْمِي

(5)

وقوله جلَّ وعز: (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5) (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ) أي ذبائح أهل الكتاب حل لكم، وقد أجمع المسلمون أن ذبائحَ أهلِ الكتاب حلال للمسلمين، واختلفوا فيما سواها من الأطعمة، والذبائح هى من الأطعمة، فالظاهر - واللَّه أعلم - أن جميع طعامهم حلال كالذبائح. (وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ). تأويله حل لكم أن تطعموهم، لأن الحلال والحرام والفرائض بعد عقد التوحيد، إنما يعقد على أهل الشريعة والملة، فأما الكفَارُ فالواجِب فيهم القتلِ إِلَّا مَنْ أدَّى الجِزْيةَ مِنْ أهِل الكِتَابِ. وقوله: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) أي وأحلَّ لكم المحصنات وهن العفائف وقيل الحرائر، والكتاب يدل على أن الأمَةَ إِذا كانت غيرَ مؤْمِنَةٍ لم يجز التزويج بها، لقوله: (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ). فإِذا آتيتموهُنَّ أيإِذا أعطيتموهن الأجر على جهة التزويج لا على جهة السِّفَاح وهو الزنَا. وقوله: (وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ).

(6)

وهن الصديقات والأصدقاء، فحرم الله عَز وجل الجماع على جهة السفاح، أو على جهة اتخاذ الصدِيقة، وأحلَّة على جهة الإِحصَانِ، وهو التزويج، على ما عليه جماعة العلماءِ. وقوله: (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) أي من بدل شيئاً مما أحَل الله فجعله حَراماً، أو أحَل شيئاً مما حَرمَ الله فهو كَافِرٌ بإجماعٍ، وقد حَبِط عَمَلُهُ أي حَبِطَ جميع ما تَقَرب بِه إِلى اللَّهِ جَل ثَناؤه، ومن غير ذلك. * * * وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6) المعنى إِذا أردتم القيام إِلى الصلاة، وإِنما جاز ذلك لأن في الكلام والاستعمال دليلًا على معنى الِإرادة، ومثل ذلك قول الله عزَّ وجلَّ (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98). المعنى إذا أردت أن تقرأ القرآن فاستعذ باللَّه من الشيطان الرجيم. وقوله: (وأرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ). القراءَة بالنصب، وقد قرِئت بالخفض، وكلا الوجهين جائز في العربية فمن قَرَأ بالنصب فالمعنى: فاغسلوا وُجُوهَكُم وَأيديَكم إِلى المرافق وأرجُلَكم إِلى الكعبين، وامسحوا برؤُوسكم على التقْديم والتأْخير والواو جائز فيها ذلك كما قال جلَّ وعزَّ: (يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43).

والمعنى واركعي واسجدي لأن الركوع قبل السجود، ومن قرأ: وَأرجُلِكم - بالجر عطف على الرؤوس. وقال بعضهم نزل جبريل بالمسح، والسنة في الغَسل. وقال بعض أهل اللغة هو جَر على الجِوَارِ، فأما الخفض على الجوار فلا يكون في كلمات اللَّه، ولكن المسح على هذا التحديد في القرآن كالغُسل لأن قوله: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ)، فذكر الحدَّ في الغسل لليد إِلى المرافق، ولليد من أطراف الأصابع إلى الكتفِ، ففرض علينا أن نغسل بعض اليد من أطراف الأصابع إِلى المرفق، فالمرفق منقَطِع مما لا يُغْسَل ودخل فيما يُغْسَل. وقد قال بعض أهل اللغة معناهُ مع المرافق، واليَدُ المرفق داخل فيها، فلو كان اغسلوا أيديَكم مع المرفَق، لم تكن في المرافق فَائِدة وكانت اليد كلها يجب أن تغسل، ولكنه لما قيل إلى المرافق اقتطعت في الغسل من حَد المِرفق، والمِرفَق في اللغة ما جاوز الإِبرة وهو المكان الذي يُرتَفَقُ به، أي يتكأ عليه على المرفقة وغيرها. فالمرافق حَد ما ينتهَي إِليه في الغسْل منها، وليس يحتاج إلى تأويل (مع). ولما حدَّ في الرِّجْلِ إِلى الكعْبين، والرِّجْل من أصل الفخذ إِلى القَدَم عُلمَ أن الغُسْلَ من أطراف الأصابع إِلى الكعبين، والكعبان هما العظمان الناتئان في آخر الساق مع القدم، وكل مِفْصَل من العظام فهو كعب، إِلا أن

هذين الكعبين ظاهران عن يَمْنَة فوق القدم وَيسْرَتِه، فلذلك لم يحتج إلى أن يقال الكعبان اللذان صِفَتهما كذا وكذا. فالدَّلِيل على أن الغسل هو الواجب في الرجل، والدليل على أن المَسْحَ على الرجل لا يجوز هو تحديد إِلى الكعبين كما جاءَ في تحديد اليد إِلى المرافق، ولم يجئْ في شيء في المسح تحديد، قال فامسحوا برؤوسكم بغير تحديد في القرآن وكذلك قوله: (فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ) ويجوز وأرجُلِكم بالجر على معنى واغسلوا، لأن قوله إِلى الكعبين قد دل على ذلك كما وصفنا، وينسق بالغسل على المسح كما قال الشاعر: يا ليت بعلك قد غدا. . . متقلداً سيفاً ورمحا المعنى متقلداً سيفاً وحاملاً رمحاً. وكذلك قال الآخر: علفْتها تبناً وماءً بارداً المعنى وسقيتها ماءً بارداً. وقوله: (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا). يقال للواحد رجل جُنُبٍ، ورجُلان جُنُبٌ، وقوم جُنُب وامراة جُنب، كما يقال رَجُلٌ رِضًى وقوم رضًى وإِنما هو على تأويل ذَووا أجنُبٍ، لأنه مصدر. والمصدر يقوم مقام ما أضيف إِليه، ومن العرب من يُثَنِّي ويَجْمَعُ ويجعل

(8)

المصدر بمنزلة اسم الفاعل، وإِذا جمع جنب، قلت في الرِّجال جُنبون، وفي النساءِ جُنُبات، وللاثنين جُنبان. وقوله: (فَاطَّهَّرُوا). معناه فتطهروا، إِلا أن التاءَ تدغم في الطاءِ لأنهما من مكان واحد. وهما مع الدال من طرف اللسان، وأصول الثنايا العليا، فإِذا أدغمت التاء في الطاءِ. سقط أول الكلمة فزيد فيها ألف الوصل، فابتدأت فقلت اطهروا. وبين عزَّ وجلَّ ما طهارة الجنب في سورة النساءِ بالغسل فقال: (وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا). والغائط - كناية عن مكان الحَدَثِ، والغِيطَان ما انخفض من الأرض. وقوله: عزَّ وجلَّ: (فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا). أي اقصدوا، وقد بيَّنَّا الصعيد في سورة النساءِ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ). أي من ضيق. (وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ). واللام دخلت لتبيّنَ الِإرادة. المعنى إِرادته ليطهركم. قال الشاعر: أرِيدُ لأنْسى ذكرها فكأنَّمَا. . . تَمثَلُ لي ليلَى بكُل سَبِيل وقوله عزَّ وجلَّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَئَانُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8) (قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ) أي بالعدل.

(9)

(شهَدَاءَ). أي مُبَينين عن دين الله لأن الشاهد يبيِّن ما شهد عليه. وقوله: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَئَانُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا). فشنآن قوم معناه بُغْضٍ قوم. أي: لا يحملنكم بغضكم المشركين على ترك العدل. ومن قال شنآن قوم، فمعناه بُغْضُ قوم، ويقال: أجرَمَني كذا وكذا، وجَرَمَنِي، وجرمني، وأجرَمتً بمعنى واحد. وقد قيل لا يَجْرِمَنَّكُمْ: لا يُدخِلَنَّكم في الجُرم كما تقول آثمته أي أدخلته في الِإثم. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) هذا تمام الكلام، يقال وعدت الرجل تريد وعدته خيراً، وأوعَدتُ الرجُلَ تريد أوعَدتُه شرا، وَإِذَا ذكرت الموعود قُلْتَ فيهما جميعاً واعَدتُه. وإِذَا لم تذكر الموعود قلت في الخير وعدته وفي الشر أوعدتُه. فقال عزَّ وجلَّ: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)، فدل على الخير، ثم بين ذلك الخير فقال: (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) أَي تغْطِية على ذنوبهم. (وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) جزاء على إِيمانهم. * * * وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) يُرْوى في التفسير أَن بني قُرَيظة وبني النَضِير كانوا عاهدوا النبي - صلى الله عليه وسلم - على تَرك القِتَال وعلى أَنْ يُعينهم في دِيَاتِهم ويُعينُوه في ديات المسلمين، فأصِيبَ رَجُلان من المسلمين فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم في دياتهما، فَوَعَدُوه

(12)

لِوَقْتٍ يصير إليهم فيه، فصار النبي هو وأبو بكر وعمرُ وعليٌّ، فلما صاروا إِليهم هموا بالغدرِ وأن يَقْتًلوا النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن معه، فأوحى الله إِليه وأعلمه ما عزموا عليه، فخرجوا من المكان الذي كانوا فيه، فأعلمهم إليهود أن قُدُورَهم تغلي، فأعلمهم - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قد نزل عليه الوحي بما عزموا عليه. وهذه من الآيات التي تدل على نبوته. وقيل إِن هذا مردود على قوله: (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ) أي قَد أُعطِيتُم الظفَر عليهم، فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ). وكلا الوجهين - واللَّه أعلم - جائز، لأن الله جل ثناؤه قد أظهر الِإسلام على سائر الأديان. * * * وقوله: (وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12) أي أخذ الله منهم الميثاق على توحيده والإِيمان برسله. (وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا). النقيب في اللغة كالأمير، والكفيل، ونحن نُبَينُ حقيقَتَه واشتقاقه إِن شاءَ اللَّه. يقال: نَقَبَ الرجل على القوم يَنْقبُ إذا صار نَقيباً عليهم، وما كان الرجل نقيباً، ولقد نقبَ، وصناعته النقابة وكذلك عَرَفَ عَليْهم إذَا صار عريفاً،

ولقد عَرفَ، ويقال لأول ما يبدو من الجرب النُّقْبة، وُيجْمَعُ: النُّقُب. قال الشاعر: مُتَبَذِّلاً تَبدُو مَحاسِنُه. . . يَضَعُ الهِناءَ مواضِعَ النُّقْبِ والنُّقْبَة وجمعُها نُقُب سراويل تلبسه المرأة بلا رجلين، ويقال فلانة حسنة النُّقْبة والنُّقَابِ، ويقال في فلان مناقب جميلة، وهو حسن النقِيبَة، أي حسن الخليقة، ويقال كَلْبٌ نقِيبٌ، وهو أن تُنْقَبَ حَنْجَرَةُ الكلْب لئلا يرتفع صوته في نُباحِه، وإِنما يفعل ذلك البخلاءُ من العرب لئلا يطرقهم ضيف بسماع نُبَاح الكلاب. وهذا الباب كله يجمعه التأْثير الذي له عمق ودخول، فمن ذلك نقبتُ الحائط، أي بلغت في الثقب آخره، ومن ذلك النقبة من الجَرَبِ لأنه داء شديد الدخول، والدليل على ذلك أن البعيرَ يُطْلَى بالهَنَاءِ فيوجد طعم القطران

(13)

في لحمه.، والنُّقْبَةُ هذه السراويل التي لا رِجَلَينِ لها، قد بُولغ في فتحها ونَقْبِها، وَنقاب المرأة وهو ما ظهر من تَلَثُّمِها من العينين والمَحَاجر، والنَّقَبُ والنُّقْب الطريق في الجبل، وإِنما قيل نقيب لأنه يعلم دخيلة أمر القوم ويعرف مناقبهم، وهو الطريق إِلى معرفة أمورهم. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَعَزَّرْتُمُوهُمْ). قال أبو عبيدة: (عَزَّرْتُمُوهُمْ) عظمتموهم. قال غيره: عزرتموهم: نَصَرْتموهم. وهذا هو الحق - واللَّه أعلم - وذلك أن العَزْر في اللغة الرَّدُّ. وتأْويل عزَّرْت فلاناً - أي أدَّبْتُه - فعلت به ما يَرْدَعُه عن القبيح كما أن نَكَّلتُ به، فعلت به ما يجب أن ينكل معه عن المعاوَدَةِ، فتأويل (عَزَّرْتُمُوهُمْ) نصرتوهم بأن تردوا عنهم أعداءَهم. وقال الله عزَّ وجلَّ (وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ) فلو كان التعزير هو التوقير لكان الأجود في اللغة الاستعانة والنصرة إِذا وجبت، فالتعظيم داخل فيها، لأن نصرة الأنبياءِ هي المدافعة عنهم والذَبُّ عن دَمِهِم وتعظيمهم وتوقيرهم. وقوله عزَّ وجلَّ: (فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ). أي فقد ضل قصد السبيل. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) (فَبِمَا نَقْضِهِمْ) " ما " لغو، المعنى: فبنقضهم ميثاقهم، ومعنى " ما " الملغاة في العمل توكيد القِصةِ. (لَعَنَّاهُمْ) أي باعَدْنَاهم من الرَّحمةِ، وجعلنا قلوبهم قاسية أي يابسةً،

يقال للرجل الرحيم: لَيْنُ القلب، وللرجل غير الرحيم: قاسي القلب ويابس القلب، والقاسي في اللغة، والقاسِح - بالحاءِ -: الشديد الصلابة. وقوله: (يًحَرفونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِط). الكلم جمع كلمة، وتأويل يحرفون؛ يُغيرونه على غير ما أنزل. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ). معنى نسوا: تركوا نصيباً مما ذكروا به. وقوله: (وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ). خائنة في معنى خيانة، المعنى: لا تزال تطلع على خيانة منهم، وفاعلة في أسماءِ المصادر كثيرة، نحو عافاه اللَّه عافية، وقوله: (فَأُهْلِكوا بِالطَّاغِيَةِ)، وقد يقال رجل خائنة. قال الشاعِر: حَدَّثتَ نفسك بالوفاءِ ولم تَكُنْ. . .لِلغَدرِ خَائنةٌ مُغِلَّ الِإصبَع قال خائنة على المبالغة لأنه يخاطب رجلاً، يقول: لا تحملن فتغلل

(14)

اصبعك في المتاع فتدخلها للخيانة، (ومُغِل يَدَك مِنْ خَائِنَةٍ) ويجوز أن يكون - واللَّه أعلم - على خائنة أن على فِرْقَةٍ خائنة. وقوله: (إِلا قَليلاً مِنْهُمْ). مَنصُوبٌ بالاستثناءِ. وقوله: (وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14) (فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) يُعنَى به النصارى، وَيعْنِي قولُه: أغريْنَا ألصقْنَا بهم ذلك، يقال: غريتُ بالرجل غَرىً - مَقْصُورٌ - إِذَا لصِقتَ بِه، وهذا قول الأصمعي وقال غيرُ الأصْمَعِي: غَرِيتُ به غَرَاءً، وهو الغِرَاءُ الذي يُغْرَّى إِنما تلصق به الأشياءُ، وتأويل (أغرَينا بينهم العداوة والبغضاءَ) أنَّهمْ صَارُوا فِرقاً يُكفِّر بعضهم بَعضاً، مِنهُم النَسْطُوريةُ، واليَعْقُوبيةُ والمَلْكَانِيَّةَ، وهم الرُوم، فكل فرقة مِنهم تعادي الأخرى. * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ). النور هو: محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - والهدى أو النور هو الذي يبين الأشياءَ، وُيرى الأبْصَارَ حقيقتَها، فمثل ما أتى به النبي - صلى الله عليه وسلم - في القلوب في بيانه وكشفه الظلمات كمثل النور. * * * (يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) (يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ). ورُضوانه - بالكسر والضم. (سُبُلَ السَّلَامِ). جميع سبيل، والسُبُل: الطُرُق، فجائز أن يكون - واللَّه أعلم - طرق السلام أي طرق السلَامَةِ التي من ملكها سلم في دينه، وجائز أن يكون - واللَّه أَعلم - سبل السلام، طرق اللَّه، والسلام اسم من أسماءِ اللَّه.

(19)

وقوله: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19) (عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ). أي: على انقطاع، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بُعث بعد انقطاع الرسل لأن الرسل كانت إِلى وقت رفع عيسى تَتْرى، أي متواترة، يجيءُ بعضها في إثر بعض. * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ). قال بعضهم معناه أنْ لَا تقولوا ما جاءَنا من بشير، أي بعث اللَّه النبي - صلى الله عليه وسلم - لئلا تقولوا ما جاءَنا من بشير. ومثله قوله عزَّ وجلَّ: (يُبَين اللَّهُ لَكُمْ أن تَضِلوا) معناه أن لا تضلوا. وقال بعضهم: أن تقولوا: معناه كَراهَةَ أن تَقُولوا. وحذفت كراهة، كما قال جلَّ وعزَّ: (وَاسْألِ الْقَرْيةَ). معناه: سَلْ أهلَ القَرْيَةِ. وقد استقْصَيْنا شرح هذا في آخر سورة النساءِ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20) (وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا). مثل جعلكم تملكون أمركم لا يَغْلبكم عليه غالب. وقال بعضهم: جعلكم ذَوي مَنازِل لا يُدْخَل عليكم فيها إِلَّا بِإِذْن. والمعنى راجع إِلى ملك الأمر. وقوله: (وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ). وهو أن اللَّه - جلَّ وعزَّ - أنزَلَ علَيْهِم المَنَّ والسَّلْوَى، وظلَّلَ عَلَيْهم الغمام. * * * وقوله: (يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21) المقدسة: المطهَّرة، وقيل في التفسير إنها دمشق، وفلسطين، وبعض

(22)

الأردن وبيت المَقْدِسِ، وإِنما سمِّي بالمَقْدِس لأن المَقْدِس: المكان الذي يتطهر فيه. فتأويله البيت الذي يُطَهَرُ الِإنسان من العيوب، ومن هذا قيل: القدس، أي الذي يتطهر منه، كما قيل: مَطْهَرة لما يُتَوضأ مِنْه، إنما هي مَفْعَلَةً من الطهر. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22) تأويل الجبار من الآدميين: العاتي الذي يَجْبرُ النَّاسَ عَلَى مَا يُريدُ، واللَّه - عزَّ وجلَّ - الجبار العَزِيزُ، وهو الممتنع من أن يُزَلَّ، واللَّه عزَّ وجلَّ يأمر بما أراد، لا رَادَّ لأمْرِه، ولا مُعَقَبَ لحُكْمِه. وإِنَّمَا وَصَفوهم بالقُدرَةِ والتكبُّر، والمَنَعةِ. و (قوماً) منصوب بـ أن، و (جبارين) من صفتهم، والخَبرُ قوله: (فيها). * * * وقوله (قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) أي أنعَمَ اللَّهُ عليهما بالِإيما أن. (آدْخُفوا عَلَيهِم البَابَ). فكأنَّهما عِلِمَا أن ذَلِك البابَ إِذا دُخِلَ منه وقع الغَلبُ. * * * وقوله: (قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24) أي لسْنَا نقْبل مَشُورَةً في دُخُوولها، ولا أمراً، وفيها هُؤلاءِ الجبارون، فأعلم اللَّه جلَّ ثناؤه أن أهل الكتاب هؤلاءِ غير قابلين من الأنبياءِ قَبْلَ النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأن الخلافَ شأْنُهم. وفي هذا الِإعلام دليل على تصحيح نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه أعلمهم

(25)

ما لا يُعْلَمُ إِلا من قراءَة كتاب أو إِخْبارٍ، أو وَحْي، والنبي - صلى الله عليه وسلم - منشؤه معروف بالخُلوِّ من ذكر أقاصيص بني إِسرائيل، وبحيث لا يقرأ كتبَهُمْ، فلم يبق في علم ذلك إِلا الوحي. وقوله: (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا). كلام العرب: اذهب أنت وزيد، والنحويون يستقبحون اذهب وزيد. لأنه لا يعطف بالاسم الظاهر على المضمر، والمضمر في النية لا علامة له، فكان الاسم يصير معطوفاً على ما هو متصل بالفعل غير مفارق له. فأمَّا قوله: (فَأجْمِعُوا أمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ) فمن رفع فإِنما يجوز ذلك لأن المفعول يقوي الكلام، وكذلك ضربْتُ زيداً وعمرٌو. كما يقوي الكلام دُخولُ لا، قال الله جل ثناؤه: (لَوْ شَاءَ اللَّهَ مَا أشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا). * * * وقوله: (قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25) (أَخِي) في موضع رفع، وجائز أن يكون في موضع نصبٍ. المعنى: قال ربي إِني لا أملك إِلا نفسي، وأخي أيضاً لا يملك إِلا نفسه، ورفعه من جهتين إِحداهما: أن يكون نَسَقاً على موضع إِنَي. المعنى أَنا لا أملك إِلا نفسي وأخي كذلك. ومثله قوله: (أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) وجائز أن يكون عطفاً على " ما " في قوله أملك

(26)

فالمعنى أنا لا أملك أنا وأخي إِلًا أنفسنا، وجائز أن يكون أخي في موضع نصب من جهتين إِحداهما: أن يكون نسقاً على الياء في إِني. المعنى إني وأخي لا نملك إِلا أنفسنا، وإني لا أملك إِلا نفسي. وأن أخي لا يملك إلا نفسه، وجائز أن يكون معطوفاً على نفسي، فيكون المعنى لا أملك إِلا نفسي، ولا أملك إِلا أخي، لأن أخاه إِذا كان مطيعاً له فهو ملك طاعته. وقوله: (إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أنْبِياءَ). لا يصرف (أنبياء) لأنه مبني على ألف التأنيث، وهو غير مصروف في المعرفة والنكرة لأن فيه علامة التأنيث، وهي مع أنَّها علامة التأنيث مبنية مع الاسم على غير خروج التأنيث عن التذكير نحو قائم، وقائمة. وقوله: (قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26) يعني أن الأرض المقدسة محرَّمٌ عليهم دخولُها أيهم ممنوعون من ذلك، قال بعض النحويين: أربَعينَ سَنَةً يجوز أن تكون منصوبة بقوله (مُحَرَّمَةٌ). ويجوز أن يكون منصوباً بقوله (يَتِيهُونَ)، أما نصبه ب (مُحَرَّمَةٌ) فخطأ، لأن التفسير جاءَ بأنها محرمة عليهم أبداً. فنصب أربعين سنة بقولهم (يتيهون). وقيل عذبهم اللَّه بأن مكثوا في التيه أربعين سنة سَيارَةً لا يقِرهُمْ قَرار إِلى أن مات البالغون الذين عصوا اللَّه ونشأ الصغار ووُلدَ مَنْ لم يدخل في جملتهم في المعصية، وقيل إن موسى وهارون كانا معهم في التَيهِ. قال بعضُهم لم يكن موسى وهارون في التَيه لأن التَيه عذاب، والأنبياءً لا يعذبون. وجائز أن يكون

(27)

كانَا في التَيه وأن الله جل اسمه سَهّل عليْهما ذلك كما سهَّل على إبراهيم النار فجعلها عليه بَرداً وَسَلاماً وشأنها الإِحراق. وقوله: (فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ). جائز أن يكون هذا خطاباً لموسى، وجائز أن يكون خطاباً لمحمد - صلى الله عليه وسلم - أي لا تحزن على قوم لم يزل شأنهم المعاصي ومخالفة الرسل. * * * وقوله: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) قيلَ كانا رجلين من بني إسرائيل لأن القُرْبانَ كان تأكله النار فى زمن بني إسرائيل، ومثل ذلك قوله: (إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ) وقيل ابنا آدم لصلبه، أحدهما هابيل والآخر قابيل، فقربا قرباناً. (فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ). وكان الرجل إِذا قرب قُرباناً سجد وتَنْزِل النار فتأكل قربانه، فذلك علامة قبول القُرْبان، فنزلت النار وأكلت قربان هابيل، ولم تأْكل قربان قَابِيل. فحسده قابيل وتوعده بالقتل فقال: (لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ). المعنى قال الذي لم يُتَقبَّلْ منه لاقتلنك، وحذف ذكر الذي لم يتقبل منه، لأن في الكلام دليلاً عليه، ومثل ذلك في الكلام إِذا رأيت الحاكم والمظلوم كنت معه، المعنى كنت مع المظلوم، ويقال إِن السيف كان ممنوعاً في ذلك الوقت كما كان حين كان النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة وكما كان ممنوعاً في زمن عيسى، فقال: (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28)

(29)

أي: ما أنا بمجازيك ولا مقَاتلكَ، ولا قاتِلُكَ: (إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ). * * * (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) أي أن ترجع إِلى الله بإثمي وإِثمك. (فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ). معنى بإِثمي: بإثم قتلي وإثمك الذي من أجله لم يُتَقَبًلْ قربانك أي إِن قتلتني فأنا مريدٌ ذلك. وَذَلِكَ جزاءَ الظَّالِمِينَ. * * * (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30) (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ) تَابَعَتْة. وقال أبو العباس محمد بن يزيد المبرد: (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ) فَغَلَتْ من الطَوْع. والعرب تقول: طاع لهذه الظبية أصول هذه الشجرة، وطاع له كذا وكذا، أي أتاه طوعاً. وقوله: (فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ). أي مِمًن خَسِر حَسَناتِه. وكان حين قتله سلَبه ثيابَه وتركه عَارِياً بالأرض القفار. * * * (فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31) قال بعضهم بعث الله غراباً يبحث على غراب آخر مَيت (لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ). وقيل بل أكرمه الله بأن بعث غراباً حثا عليه التراب، (لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي). (قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ). يقال عَجَزْت عن الأمر أعْجِز عَجْزاً ومعْجَزةَ ومَعْجِزَةً، فأما " يا وْيلَتَى "

(32)

فالوقف عليها في غير القرآن يا ويلتاه، والنداءُ لغير الآدميين نحو (يا حسرة على البعاد) و (يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ)، وقال (يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ). فإنما وقع في كلام العرب على تنبيه المخاطبين، وأن الوقت الذي تدعى له هذه الأشياءَ هو وقتها، فالمعنى يا ويلتى تَعَالَيْ، فإِنه من إِبَّانِك، فإنه قد لزمني الويل، وكذلك يا عجباً، المعنى يا أيها العجب هذا وقتك فعلى هذا كلام العرب. وقوله: (فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31) مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32) الأجود أن يكون (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ). يقال أجلْتُ الشيء أأجلَهُ أجلاً إِذَا جنيتُه قالَ خَوَّاتُ بن جبير: وأَهلِ خباءٍ صالحٍ كُنتُ بينهم. . . قد احْتَرَبوا في عاجل أَنا آجله أي أنا جَانِيه. وتأويل الويل في اللغة قال سيبويه، الويل كلمة تقال عند الهلكة، وقيل الوَيْلُ واد في جهنم، وهذا غير خارج من مذاهب أهل اللغة. لأن من وقع في ذلك فقد وقع في هلكة: وقوله: (أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ). " فساد " معطوف على " نفس "، المعنى بغير فسادٍ، فكأنما قتل الناس جميعاً،

(33)

أي المؤمنون كلهم خُصَماء القاتِلِ، وقد وَتَرهم وتْرَ مَن قَصَد لِقَتلهم جميعاً. (وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا). أي من استنقذها من غَرقٍ أَو حَرقٍ أو هَدْمِ، أو ما يُميت لا محالة، أو استنقذها من ضلالةٍ. (فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا). أي أجره على اللَّه أجرُ من أَحياهم أجمعين. وجائز أن يكون في إِسدائه إِليهم المعروفَ بإحيائه أخاهم المْؤمِن بمنزلة من أحيا كلَّ واحد منهم. فإن قال قائل، كيف يكون ثوابه ثوابَ من أحياهم جميعاً؟ فالجواب في هذا كالجواب في قوله تعالى (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا) فالتأْويل أن الثواب الذي إِذا جعل للحسنة كان غاية مَا يُتَمَنَّى يُعطَى العاملُ لها عشرةَ أمثَالِه. * * * وقوله: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) موضع " أن " رفع المعنى: إِنما جزاؤهم القتل أَو الصلب أو القطع للأيدي والأرجل من خلاف، لأن القائل إِذا قال: إِنما جزاؤك دينار. فالمعنى ما جزاؤُك إِلا دينار. ْوقولُ العلماءِ إنَّ هذه الآية نزلت في الكفار خاصة. وروي في التفسير أن أبا بَرْزَة الأسْلَمِي كان عاهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ألا يعرض لما يُريدُ النبي - صلى الله عليه وسلم -

(34)

بسوء، وألا يمنع من ذلك، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يمنع من يريد أبا بَرْزَةَ، فمر قوم يريدون النبي بأبي بَرْزةَ، فَعرَضَ أصحابه لهم فقتلوا وأخذوا المال فأنزل اللَّه تعالى على نبيه وأتاه جبريل فأعلمه أنَّّ اللَّه يأمره أن من أدركه منهم قَدْ قَتَلَ وأخذَ المالَ قَتَلَه وصَلَبه، ومن قَتَل ولم يأخذ المال قَتَله، ومن أخذ المال ولم يقتل قَطَع يدَة لأخذه المال وقطَع رجْلَه لِإخافة السبيل. . وقال بعضهم: المسلمون مخيرون في أمر المشركين، إِن شاؤوا قتلوهم وصلبوهم أو قطعوا أيديَهم وأرجلَهم من خلاف. ومعنى: (يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ) فيه قولان. قال بعضهم من قتله فَدَمُه هَدَرٌ أي لا يطالب قاتله بدمه. وقيل: (أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ) أن يُقَاتَلُوا حَيْث تَوجهوا منها، لا يترَكوا فارِين. يقال نفيت الشيءَ أنفِيه نَفْياً ونفَايَةً والنُّفَايَة ما يطرح ويُنْفَى، القليل. مثل البراية والنُّحَّاتَة. وقوله: (ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا). يقال خَزِيِ الرجِل يَخْزَى خِزْياً إِذا افتضحَ وتَحيَّر فضِيحةً. وقد خَزَى يَخْزِي خِزَاية، إذَا استَحا كأنه يتحير أن يَفْعَلَ قبيحاً. * * * وقوله: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34) جائز أن يكون موضع الذين رفعاً بالابتداءِ، وخبره (فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). المعنى غفور رحيم لهم، المعنى: لكن التائبون من قبل القدرة عليهم. فاللَّه غفور رحيم لهم. وجائز أن يكون (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ)

(35)

موضع " الذين " نصب، فيكون المعنى جزاؤهم الذي وَصفَنَا إِلَّا التَائِبين. ثم قال بعد: (أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) واللَّه جلَّ وعزَّ، جعل التوبةَ لك، فادْرَأوا عنهم الحدود التي وجبت عليهم في كُفرهم ليكون ذلك أدعى إِلى الدخول في الِإسلام. وجَعَل توبة المؤمنين من الزنا والقتل والسرقة لا ترفع عنهم إِقامة الحدود عليهم، وتدفع عنهم العذاب في الآخرة، لأن في إِقامة الحدود الصلاح للمؤمنين، والحياةَ، قال الله جل ثناؤه: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ). * * * وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) معناه اطلبوا إِليهِ القُرْبةَ. (وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ). أي لعلكم تظفرون بعَدُوكم، والمُفْلح الفائز بما فيه غايةُ صلاح حاله. * * * وقوله: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) اختلف النحويون في تفسير الرفع فيهما. قال سيبويه وكثير من البصريين إِن هذا وقوله: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ). وقوله: (وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا). هذه الأشياء مرفوعة على معنى: وفيما فَرض اللَّه عليكم السارقُ والسارقة، والزانِيَةُ والزانِي، أو السارق والسارقة فيما فرض اللَّه عليكم. ومعنى قولهمْ هذا: فيما فرض عليكم حكم السارق والسارقة. وقال سيبويه: الاختيار في هذا النصبُ في العربيَّة. كما تقول زيداً أضربْهُ، وقال أبتِ العامَّةُ القراءَة إِلاَّ بالرَّفْع، يعني بالعامة

الجماعةَ. وقرأ عيسى ابن عمر: " وَالسَّارِقَ وَالسَّارِقَةَ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا ". وكذلك الزانيةَ والزانيَ، وهذه القِراءَةُ وإِن كان القارئ بها مقَدَّماً لا أحب أن يُقرأ بها، لأن الجماعة أولى بالاتباع، إذْ كانتِ القراءَة سنَة. قال أبو إسحاق: ودلِيلِي أن القراءَةَ الجيدةَ بالرفع في. . والزَانيَةُ والزاني. في، (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) قوله جل ثناؤة: (واللذان يأتيانها منكم فآذوهما). وقال غير سيبويه من البصريين. وهو محمد بن يزيد المبرد: اختَارُ أن يكون (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) رفعاً بالابتداءَ، لأن القصد ليس إِلى واحدٍ بعينه. فليس هو مثل قولك زيداً فأضربه، إِنما هو كقولك: من سرق فاقطع يده. ومن زنى فاجْلِدْه، وهذا القول هو المختارُ، وهو مذهب بعض البصريين والكوفيين. وقيل " أَيْدِيَهُمَا " يعْني به أَيْمانهُما . وفي قراءَة ابن مسعود "والسَّارقون والسارقاتُ فاقْطَعُوا أَيْمانَهُمْ." قال بعض النحويين: إِنما جعلت تثنية ما في الإِنسان منه واحد؛ لأنَّ أكثر أَعضائه فيه منه اثنان فحمل ما كان فيه الواحد على مثل ذلك. قال لأن للِإنسان عينين فإِذا ثنيت قلت عيونهما فجعلت قلوبكما وظهورهما في القرآن، وكذلك أيديهما، وهذا خطأ، إِنما ينبغي أن يُفصل بين ما في الشيء منه واحد، وبين ما في الشيء منه اثنان.

وقال قوم: إنَّمَا فَعلْنا ذلِك للفصل بين ما في الشيء منه واحد وبين ما في الشيءُ منه اثنان فجعل ما في الشيء منه واحد تثنيته جمعاً نحو قول الله عزَّ وجلَّ: (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا). قال أبو إسحاق: وحقيقة هذا الباب أن كل ما كان في الشيء منه واحد لم يُثنَّ، ولفِظَ به على لفظ الجمع، لأن الِإضافة تُبينه، فإِذا قُلْتَ أشْبَعت بطونهما علم أن للاثنين بطنين فقط، وأصل التثنية الجمعُ لأنك إِذا ثنيت الواحدَ فقد جمعتَ واحداً إِلى واحِدٍ، وكان الأصل أن يقال اثْنا رِجال، ولكنْ " رجلان " يدل على جنس الشيء وعدده، فالتثنية يحتاج إِليها للاختصار، فإِذا لم يكن اختصار رُدَّ الشيءُ إِلى أصْله، وأصلُهُ الجمع. فإذا قلت قلوبهما فالتثنية في " هما " قد أغنتك عن تثنية قَلْب فصار الاختصار ههنا ترك تثنية قلب، وإن ثني ما كان في الشيء منه واحد فذلك جائز عند النحويين. قال الشاعر: ظهراهما مثل ظهور الترسين. فجاءَ بالتثنيةِ والجمع في بيت واحد. وحكى سيبويه أنه قد يجمع المفرد والذي ليس من شيء إِذا أردت به التثنية. وحُكِيَ عن العرب: " وَضَعَا رِحالهما " يريد رَحْلَيْ راحِلتِهما.

(41)

وأجمعت الفقهاء أن السارق يقطع حُرَّا كانَ أو عبداً، وأن السارقة تقطع حُرَّة كانت أو أمَة، وأجمعوا أن القطع من الرسغ، والرسغ المفصل بين الكف والساعد، ويقال رُسْغ ورُصْغ والشين أجود (جَزَاءً بِمَا كَسَبَا). (جَزَاءً) نصبٌ لأنه مفعول به. المعنى فاقْطَعوا بجزاءِ فعلهم. وكذلك (نَكَالًا مِنَ اللَّهِ)، وإِنْ شئتَ كانا منصوبين على المصدر الذي دل عليه فاقطعوا، لأن معنى فاقطعوا جازوهم وَنكِّلُوا بهم. * * * وقوله جلَّ وعز: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41) (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) إِن شئت قلت يَحْزُنُك وَيحزَنْكَ بالفتح والضم. أي لا يحزنك مُسَارَعَتهُمْ في الكفر إِذ كنت موعوداً بالنصر عليهم. والله أعلم. وقوله: (مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ). أي لا تحزنك المسارعةُ في الكُفْر منَ المنَافِقين ومنَ الذِين هادُوا. ثم قالَ: (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ). هذا تمام الكلام، ورفع (سَمَّاعُونَ) من جهتين: إحداهما هم (سَمَّاعُونَ) للكذب أي منافقون، واليهود سماعون للكذب. و (سَمَّاعُونَ)، فيه وجهان - واللَّه أعلم - أحدهما أنَّهم مسمعُونَ لِلكَذِبِ، أي قَابُلون للكَذب، لأن الِإنسان يسمع الحق والبَاطِلَ، ولكن يقال: لا تسمع من فلان قوله أي لا تقبل قوله، ومنه " سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَه "، أَي تَقَبَّل الله حمده، فتأويله أنهم يَقْبَلُونَ الكذِبَ. والوجه الآخر في (سَمَّاعُونَ) أَن معناه أنهم يسمعون منك لِيَكذِبُوا عليك. وذلك أَنهم إِذا جالسوه تهيأَ أن يقولوا سَمِعْنَا مِنْهُ كَذَا، وكَذَا.

(سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ). أي هم مستمعون منك لقوم آخرين " لَمْ يأتُوك " أي هم عُيُون لأولئكَ الغُيَّبِ ويجوز أن يكون رفع " سماعون " على معنى ومن الذين هادوا سماعون فيكون الِإخبار أن السَّماعين مِنهم، ويرتفع منهم كما تقول: في قومك عقلاءُ. هذا مذهب الأخفش، وزعم سيبويه أن هذا يرتفع بالابتداء. وقوله: (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ) أي من بعد أن وضَعه اللَّهُ موضِعَهُ أي فرض فروضَه، وأحلَّ حلاله وحرًم حرامه وقوله: (إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا). (إِنْ أُوتِيتُمْ) هذا الحكمَ المحرَّفَ فخذوه. (وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا) أي احذروا إِن أفتاكم النبي - صلى الله عليه وسلم - بغير ما حدَّدْنَا لكم، فاحذروا أن تَعْمَلوا به. وكان السبب في هذا فيما رُوِيَ أن الزنَا كثُر في أشراف إليهودِ وخَيْبر. وكان في التوراة أَن على المحصنين الرجم فزنى رجُل وامْراة، فطمعت إليهودُ أن يكون نزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - الجلد في المحصنين، وكانوا قد حَرَّفُوا وَصَارُوا يَجْلِدُون المحصنيْنِ وَيسُودُونَ وجُوهَهُمَا، فأوحى الله جل ثناؤه أنَّهمْ يستفتونه في أمر هاتين المراتين، وأعلَمَهُ أن اللَّه يأمرهم عن أعلَمِهِمْ بالتوراة، فأعلموه إنَّه ليس بحَاضِرٍ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - قَدْ علِمتُ، وكان جبريل قد أعلمه مكانه فأمرهم أن يحضروه، فأَحضروه، وأَوحى اللَّه إِلى نبيهِ أن يستحلفهم

ليصْدُقُنَّه، فلما حَضَر عالِمُهم قال له النبي: أسالك بالذي أنزل التوراة على موسى، ورفع فوقكم الطور، وفلق لكم البحرَ، هل في التوراة أن يُرجمَ المحصنان إِذا زَنَيَا؟ قال: نَعَمْ. فوثب عليه سفلة إليهود، فقال خفتُ إِن كذبْته أن ينزل بنا عذابٌ. ويقال إن الذي سأله النبي - صلى الله عليه وسلم - ابنُ صُورِيَا إليهودي، وكان حديث السِّن، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - أنت أعلم قومك بالتوراة؟ قال: كذا يقولون. وكان هو المخبر له بأن الرجم فيها، وأنَّه ساءَل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أشياءَ كان يعرفها من أعلامه فلما أنبأه النبي - صلى الله عليه وسلم - بها قال أشهد أن لا إله إِلا اللَّه وأنك رسول الله الأمي العربى الذي بشَّر به المرسلُونَ. وهذا الذي ذكرناه من أمر الزانيين مشهور في روايةِ المفسرينِ وهو يُبَينَ قوله: (إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا). والقائل يقول ما تفسير هذا، فلذلك شرحناه، وبالله الحول والقُوةُ. وقوله: (وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ). قيل فضيحته وقيل أيضاً كفره، ويجوز أن يكون اختباره بما يظْهر به أمره، يقال فتنت الحديد إِذا أَحْمِيتُه، وفتنت الرجل إِذا أزلته عما كان عليه، ومنه قوله: (وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ) أي وإن كادوا لَيُزِيلُونَكَ. وقوله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ). أي أن يُهينَهمُ. (لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ).

(42)

قيل لهم في الدنيا فضيحة بما أظهر الله من كذبِهِمْ، وقيل لهم في الدنيا خزي بأخذ الجزية منهم، وضرب الذَلةِ والمسكَنة عَلَيْهم، ثم عاد عزَّ وجل في وصفهم فقال: (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) ويقرأ (لِلسُّحُتِ) جميعاً، تأويله أن الرشَا التي يأكلونها يعاقبهم الله بها أن يُسْحِتَهمْ بعذَابِ، كما قال جل وعز: (لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ). ومثل هذا قوله: (إنما يأكلون في بطونهم ناراً). أي يأكلون ما عاقبته النار، يقال سَحَته وأسْحَتَه إِذا استأصله، وقال بعضهم سَحَتَه: اذْهَبَه قليلاً قليلاً إِلى أن استأْصله ومثل أسحته قول الفرزدق. وعَضّ زمانٍ يا ابنَ مَرْوانَ لم يَدَعْ. . . من المالِ إِلاَّ مُسْحَتاً أَو مُجَلَّفُ ويجوز أن يكون سحتَه وأسْحتَهُ إِذا استأصله، كان ذلك شيئاً بعد شيء. أَو كان دفعة واحدةً. وقوله (فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ). أجمعت العلماء على أن هذه الآية تدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مُخَيَّر بها في الحكم بين أهل الذَمَّةِ. وقيل في بعض الأقاويل: إِن التخيير نسخ بقوله: (وأن احكم بينهم بما أنزل الله). وقوله: (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ). أي العَدْل.

(44)

وقوله: (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44) أي فيها نور أي بيان أن أمْر رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حق، وفيها بيان الحكم الذي جاءوا يستفتون فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويجوز أن يكون المعنى على التقديم والتأخير، على معنى: إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور للذين هادوا، يحكم بها النبيون الذين أسلموا والربانِيون، ويجوز أن يكون " يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا. أي يحكم النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما سألوهُ بما في التَوْراة. ويجوز أن يكون للذين هادوا للذين تابوا، أي النبيون والربانيون هم العلماءُ والأحبار وهم العلماءُ الخُيارُ يحكمُون للتائبين مِن الكفر. (بما استُحْفِظُوا مِنْ كتَابِ اللَّهِ). أي استُوعُوا. وقوله: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) أي من زعم أن حكماً من أحكام اللَّه التي أتَتْ بها الأنبياءُ عليهم السلام باطل فهو كافر، أجمعت الفقهاءَ أن من قال إِن المحصَنَين لا يجب أن يرجما إذا زنيا وكانا حُرَّين - كافِرٌ، وإنما كفر من رد حكماً من أَحكام النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه مكذِبٌ له، ومن كذب النبي فهو كافر. * * * وقوله: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45) أي في التوراةِ. (أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ). وروي أن النبي قرأ والعَينُ بالعَيْنِ والقراءة والعَيْنَ بالعَيْن (وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ).

(48)

بالرفع والنصب جميعاً لا اختلاف بين أهل العربية في ذلك، فَمَنْ قرأ العَيْنَ بالعيْنِ أراد أن العيْنَ بالعَيْنِ، ومن قرأ، والعَيْنُ بالعين فَرفْعُهُ على وجهين، على العطف على موضع النفس بالنفس والعاملِ فيها. المعنى وكتبنا عليهم النفسُ بالنَفِس، أي قلنا لهم النفس بالنفس، ويجوز كسر إن، ولا أعلم أحداً قرأ بها فلا تقرأنَّ بها إِلا أن تثبت رواية صحيحة. ويجوز أن تكون العينُ بالعَيْن، ورفعُه على الاستئناف. وفيها وجه آخر، يجوز أن يكون عطفاً على المضمر في النفس، لأن المضمر في النفس في موضع رفع. المعنى أن النفس مأخوذة هي بالنفس، والعَيْنُ معطوفة على هي. وقوله: (فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ) قال بعضهم من تصدق به أي بحقه فهو كفارة للجارحِ إذا ترك المجروحُ حقَهُ، رفع القصاص عن الجارح. وقال بعضهم هو كفارة للمجروح أي يكفر الله عنه بعفوه ما سلف من ذنوبه. * * * وقوله: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) (وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ) رواها بعضهم ومهيمَناً - بفتح الميم الثانية - وهي عربية ولا أحب القراءَة بها، لأن الِإجماع في القراءَة على كسر الميم في قوله: (المؤمن المهيمِنُ). واختلف الناس في تفسير قوله: (المؤمنُ المُهَيْمِنُ)، واختلف الناس في تفسير قوله: (وَمُهَيْمِناً عَلَيْه) فقال بعضهم: معناه وشاهداً عليه، وقال بعضهم رقيباً عليه، وقال

(50)

بعضهم معناه مُؤتَمَناً عليه. وقال بعضهم: المهيمنُ اسم من أسماءِ الله في الكتب القديمة، وقال بعضهم: مُهيمِن في معنى مؤتمن إلا أن الهاءَ بدل من الهمزة، والأصْلُ مؤتمناً عليه كما قالوا: هَرَقْتُ الماءَ، وأرقت الماءَ، وكما قالوا: إِياك وهياك، وهذا قول أبي العباس محمد بن يزيد، وهو على مذهب العربية حَسَن ومُوافِق لِبعْضِ ما جاءَ في التفسير، لأن معناه مؤتمن. وقوله: (ولْيَحْكُمْ أهْلُ الإنْجِيلِ). قرئت بإسكان اللام وجزم الميم على مذهب الأمر، وقرئت ولِيَحْكمَ بكسر اللام وفتح الميم على معنى ولأن يحكمَ ويجوز كسر اللام مع الجزم وَلِيَحكُمْ أهل الإنجيل، ولكنه لم يقرأ به فيما علمتُ، والأصل كان كسر اللام، ولكن الكَسرَةَ حُذِفَت استثقالَاَ. والِإنجيل القراءَة فيه بكسر الهمزة. ورويت عن الحسن الأنجيل بفتح الهمزة، وهذه قولةٌ ضعيفة، لأن أنجيل أفعيل، وليس في كلام العرب هذا المثال، وإِنجيل إِفعِيلُ من النجل وهو الأصل، وللقائل أن يقول إِن إنجيل اسم أعجَمي فلا يُنْكَرُ أن يقع بفتح الهمزة لأن كثيراً من الأسماء الأعجمية تخالف أمثلة العرب نحو آجرّ وإِبرَاهيم وهَابيل وقابيل، فلا ينكر أن يجيء إنجيل وإِنما كُرِهَتِ القراءَة بها لأن إِسنادها عن الحسن لا أدري هل هو من ناحية يوثق بها أم لا. * * * وقوله: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50) أي تطلب إليهود في حكم الزانيين حكماً لم يأَمر الله به وهو أهل الكتاب كما تفعل الجاهلية. وقوله: (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ).

(51)

أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50) أي من أيْقَنَ تبيَّن عدلَ اللَّهِ وحكمَهُ. و (حُكْمًا) منصوب على التفسير. * * * وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ). أي من عاضدهم على المسلمين فإنه من عاضدَه. * * * وقوله: (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52) والمرض ههنا النفاق في الدِّين، ومعنى يسارعون فيهم، أي في معاونتهم على المسلمين. (يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ). أي نخشى ألَّا يتم الأمر للنبي - صلى الله عليه وسلم -، ومعنى دائرة أي يدور الأمر عن حاله التي يكون عليها. وقوله: (فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ). أي فعسى اللَّه أن يُظْهِر الْمسلِمين. و" عَسَى " من الله جلَّ وعزَّ واجبة. وقوله عزَّ وجلَّ: (أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ)، أي أو أن يؤمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بإظهار أمر المنافعين بقتلهم. (فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ). * * * وقوله: (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53) أي يقول المؤمنون الذين باطنهم وظاهرهم واحد: هُؤلاءِ الذين حَلَفوا وأكَدوا أيمَانَهم أنهم مْؤمِنُونَ وأنهم معكم أعوانكم على من خالفكم. (حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ).

(54)

أي ذَهَب مَا أظْهروهُ مِنَ الإيمان، وبطل كل خيرٍ عَمِلُوه بكفرهم وصَدهِم. عن سبيل اللَّه كما قال: (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ). المعنى ويقول الذين آمنوا في ذلك الوقت، أي في وقتٍ يظهر اللَّه نفاقهم فيه. * * * وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54) فيها من العربية ثلاثة أوجه، مَنْ يَرتدِدْ، ومن يَرْتَد بفتح الدال وَمَنْ يَرْتَد مِنْكُم، بكسر الدال. ولا يجوز في القراءَة الكسر لأنه لم يُرْوَ أنه قرئ به. وأمَّا (مَنْ يَرتدِدْ) فهو الأصل، لأن التضعيف إِذا سَكَنَ الثانِي من المضَعَفَيْنِ ظَهرَ التضعيف، نحو قوله: (إِنْ يمسَسكُم قرحٌ) ولو قرئت إن يمسكم قرح كان صواباً، ولكن لا تَقْرَأن بِهِ لمخالفتِه المصحفَ، ولأن القراءَة سُنَّة. وقد ثبت عن نافع وأهل الشام يرتدِدْ بدالَيْنِ، وموضع يرتد جزم، والأصل كما قُلْنَا يرتدد، وأدغمت الدال الأولى في الثانية، وحركت الثانية بالفتح لالتقاءِ السَّاكنين، قال أبو عبيدٍ: إنهم كَرِهوا اجتماعَ حَرْفَيْن متحركين وأحسبه غلِطَ، لأن اجتماع حرفين متحركين من جنس واحد أكثر في الكلام من أنْ يحصَى نحو شَرَرٍ وَمَددٍ، وَقِدَدٍ، وخدَدٍ، والكسر في قوله من يرتَد يجوز لالتقاءِ السَّاكنين لأنه أصل. والفاءُ جواب للجزاءَ، أي إِن ارتد أحدٌ عن دينه، أي الذي هو الِإيمان.

(55)

(فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ). أي بقوم مؤمنين غير منافقين. (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ). أي جانبهم ليِّنٌ على المؤمنين، ليس أنهم أذلاء مهَانون. (أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ). أي جانبهم غليظ على الكافرين. وقوله: (يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ). لأن المنافقين كانوا يراقبون الكفارَ ويظَاهِرونَهم، ويخَافونَ لَوْمَهُم. فأعلم اللَّه عزَّ وجلَّ أن الصحيحَ الإيمانِ لا يخاف في نصرة الدين بِيدِه ولا لِسَانِه لَوْمَةَ لَائِم. ثم أعلم الله عزَّ وجلَّ أن ذلك لا يكون إلا بتسديده وتوفيقه فقال عزَّ وجلَّ: (ذَلِكَ فَضلُ اللَّهِ يؤتيهِ مَنْ يَشَاءُ). أي محبتهم لِلَّهِ ولين جانبهم للمسلمين، وشدتهم على الكافرين فضل من اللَّه عزَّ وجلَّ عليهم، لا توفيق لهم إِلا به عزَّ وجلَّ. * * * وقوله: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) بيَّن من هم المؤمنون فقال: (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ). وإِقامتها تمامها بجميع فَرْضِها، وأولُ فروضها صحة الِإيمان بِها وهذا كقولك: فلان قائم بِعِلْمِه الذِي وَليَه، تأويله إنَّه يوَفَي العَمَلَ حقوقه، ومعنى

" يُقِيمُونَ " من قولك هذا قِوام الأمر، فأما قوله: (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ). فمخفوض على نعتِ قوم، وإن شئت كانت نصباً على وجهين أحدهما الحال، على معنى يحبهم ويحبونة في حال تذللهم على المؤمنين وتعززِهِم عَلى الكافرين، ويجوز أن يكون نصباً على المدح. * * * فأما قوله عزَّ وجلَّ: (وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ). أي قفينا على آثَارِ الرسل بعيسَى أي جعلناه يقفوهم. وقوله: (مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ). أي لما تَقَدًم من التوراة، ونصب " مُصَدِّقًا " على الحال وهو جائز أن يكون من صفَةِ الِإنجيل فهو منصوب بقوله: " آتيناه " المعنى. آتيناه الإنجيل مُستقِراً فيه هدًى ونورٌ ومصدقاً. ويجُوزُ أن يكونَ حالًا من عيسى. المعنى وآتيناه الإنجيل هَادِياً ومُصَدِّقًا، لأنَّهُ إِذا قيل آتيناه الِإنجيل فيه هدى، فالذي أتى بالهدى هو هادٍ والأحسَنُ أنْ يكونَ على معنى وقَفَيْنَا بِعِيسَى آتِياً بالِإنْجيل وهادياً ومصدقاً لما بين يديه من التوراة، والدليل على أنه من صفة عيسى قوله: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ). * * * وقوله: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا). قال بعضهم: الشَرعَةُ الدينُ والمنهاج الطريق، وقيل: الشرعة والمنهاج جميعاً الطريق، والطريق ههنا الدين، ولكن اللفظ إِذا اختلف أتِي مِنْهُ بألفاظ تُؤَكدُ بِها القصة والأمر نحو قول الشاعر:

(57)

حُيِّيتَ مِن طللٍ تقادم عهدُه. . . أقوى وأقفر بَعْدَ أمِّ الْهَيْثَم فإِن معنى أقوى وأقفر يدل على الْخَلْوَةِ، إِلا أن اللفظين أوكد في الخُلوِّ من لفط واحد. وقال أبو العباس محمد بن يزيد: (شرعة) معناها ابتداءُ الطريق. والمنهاج الطريق المستَمِر، قال: وهذه الألفاظ إِذا تكررت في مثل هذا فللزيادة في الفائدة، قال وكذلك قول الحطيئة: ألا حَبَذَا هِنْدٌ وَأرْضٌ بها هندُ. . . وَهِنْدُ أتى مِنْ دونها النَّأْيُ والبُعْدُ قال: النَّأْيُ لكل ما قل بعده منك أوْ كثرَ، كأنَّه يقول: النأي المفارقة قلَّت أو كثرتْ، والبُعْدُ إِنَّمَا يسْتَعْمَلُ في الشيءِ البعيد ومعنى البعيدِ عندَه ما كَثرتْ مسافةُ مُفَارقَتِه، وكانَّهُ يقُول لِمَا قرب منه هو ناءٍ عني، وكذلك لما بعُدَ عنه، والنأْي عنده المفارقة. * * * وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) هُزءَاً فيه لغات، إِن شئت قلت هُزُؤا بضم الزاي وتحقيق الهمزة، وهو الأصل والأجْودُ، وإِن شئت قلت هُزُواً وَأبدَلتَ من الهمزة واواً، لانضمام ما قبلها وأنها مفتوحة، وإِنْ شئتَ قلت: هُزْءاً بإسكان الزاي وتحقيقِ الهمزة. فهذه الأوجه الثلاثةُ جَيدَة يُقْرأ بِهِنَّ. وفيها وجه آخر. ولا تجوز القراءَة به لأنه لم يقرأ به، وهو أن يقول هُزَاً مثل هُدًى وذلك يجوز إِذا أردت تخفيفَ همزة

(59)

هُزءٍ فيمن أسكن الزاي أن يقول هُزَاً. تطرح حركتها على الزاي كما تقول رَأيْتَ خَباً تُريدُ خَبْئاً. * * * وقوله: (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ). النصب فيه على العطف على قوله: (لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا) أي، ولَا تَتخِذُوا الكُفَّار أوْلياءَ، ويجوز والكفارِ أولياءَ على العطف على الَّذِينَ أوتوا الكتاب، المعنى من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وَمِن الكفارِ أولياءَ. * * * وقوله: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59) يقال: نقَمْتُ على الرجُلِ أنقِمُ، ونقِمْتُ عليه أنقَم. والأجْودُ نقَمْتُ أنقِمُ، وكذلك الأكثر في القراءَة: (وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ). وأنشد بيت ابن قيس الرقيات. مَا نَقِمُوا مِنْ أُميَّة إِلَّا. . . أنهمْ يحْلُمُون إِن غَضِبُوا بالفتح والكسر، نقَمُوا ونقِمُوا، ومعنى نقمت بالغت في كراهة الشَيءِ. وقوله: (وأنَّ أكْثَرَكُمْ فَاسِقونَ). المعنى: هل تكرهون منا إِلا إِيماننا وفِسْقَكُمْ، أي إِنما كرهتم إِيماننا

(60)

وأنتم تعلمون أنا على حق لأنكم فَسَقْتُمْ، بأن أقمتم على دينكم لمحبتكم الرياسة، وكسبكم بها الأموالَ. فإِن قال قائل: وكيف يعلم عالِمٌ أن دِيناً من الأدْيانِ حق فيْؤثر الباطِل على الْحق؟ فالجواب في هذا أن أكثر ما نشاهده كذلك. مِنْ ذلِكَ أنَّ الإنسانَ يعْلَمُ أن الْقَتْل يُورِدُ النار فَيقْتُلُ، إِما إِيثَاراً لِشِفَاءِ غيظه أو لأخْذِ مال. ومنها أنَّ إِبْلِيسَ قَدْ علِم أنَّ الله يُدْخِلُه النَّارُ بِمعْصِيتِهِ فآثر هواه على قُرْبه من اللَّه، وعمِل على دُخول النارِ وهذا بابٌ بينٌ. * * * وقوله: (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60) أي: بِشَرٍّ مما نَقَمْتُمْ مِن إِيماننا ثواباً، و " مَثُوبَةً" منصوب على التمييز. وقوله: (مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ). وضع " منْ " إِن شئت كان رفعاً، وإِن شئت كان جراً فأما من جر فيجعله بدلًا مِنْ شَر. المعنى أؤنبئُكُمْ بمن لعنه اللَّه، ومَن رفع فبإِضمار هو، كأن قائلًا قال: منْ ذلك؟ فقيل هو من لعنه اللَّه، كما قال جلَّ ثناؤه: (قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ) كأنه فال: هي النار. وقوله: (وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ). الطاغُوتُ هو الشيطان، وتأويل وَعَبَدَ الطاغوتَ: أطاعه فيما سَوَّلَ لَه وأغراهُ به، وقَدْ قُرئَتْ: (وعَبْدَ الطَاغوتِ). والذي أختارُ (وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) وروي عن ابن مسعودٍ وعَبَدوا الطَاغوتَ، وهذا يقوي (وَعَبَدَ الطَاغُوتَ)، ومن قال وعَبُدَ الطاغوتِ. فَضم الباءَ وجَر الطاغوت، فإِنه عند بعض أهل العربيةِ ليس بالوجه من جهتين إِحداهما، أن عَبُد على فَعُلٍ، وليس هذا

من أمثلة الجمع، لأنهم فسروه خَدَمُ الطاغوتِ والثاني أن يكونَ محمولاً على وجعل منهم عَبُدَ الطاغوتِ. فأما من قرأ " وَعُبُدَ الطاغُوتِ " فهو جمع عبيد وَعُبُد، مثلُ رغِيفٍ ورغُفُ وسَرِيرٍ وسُررٍ، ويكون على معنى وجعل منهم عُبُدَ الطاغوتِ على جعلت زيداً أخاك، أي نَسَبْتُه إِليكَ، ووجه وعَبُد الطاغوت - بفتح العين وضم الباء - أن الاسم يبنى على فَعُل كما قالوا عَلُمٌ زيد. وكما أقول رَجُل حَذُر، تأويل حَذرٍ أنَّه مبالغ في الحَذَرِ، فتأويل عَبُد أنهُ بلغ الغاية في طاعة الشيطان، وكان اللفظَ لفظُ واحدٍ يَدُل على الجمع. كما تقول للقوم: منكم عَبُدُ العصا، تريد منكم عَبِيدُ العَصَا. ويجوز بعد هذه الثَلَاثَةِ الأوْجُهِ الرفعُ في قوله وعَبُدَ الطاغوتِ، فيقول وعَبُدُ الطاغوتِ، وكذلك وعُبُدُ الطَاغُوتِ بالرفع، ولا تقرأن بِهذين الوجهين وإِن كانا جائزين، لأن القراءَة لا تبتدع على وجه يجوز، وإِنما سبيل القراءَة اتباع مَنْ تَقَدَّم، فيجوز رفع، وعَبُدُ الطَاغُوتِ، وعُبُدْ الطاغوت، على معنى الذًمً، والمعنى وهم عُبُد الطاغوت، كأنَّه لما قال: (مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وغَضِبَ عَلَيهِ وجَعَلَ مِنْهمُ القِرَدَةَ والخنازيرَ)، دَل الكلامُ على اتبَاعِهم الشَيَاطينَ، فقيل وهم عُبُدُ الطاغوتِ. ويجوز أن يكون بدلًا من " مَنْ " في رَفع " مَنْ " كَأنه لما قِيل منهم من لعَنَهُ اللَّه، وغضِبَ عليه، قيلَ هم عَبُدُ الطاغوت وعُبُدُ الطاغُوتِ، ويجوز في الكلام أيضاً، وعَبْدَ الطاغوت - بإسكان الباء - وفتح الدال. ويكون على وجهين، أحدهما أن يكونَ مخفَفاً من عَبُد - كما يُقَال في عَضدٍ عَضْد. وجائز أن يكون " عَبْد " اسْماً واحداً يدل على الجنس، وكذلك يجوز في عبد الرفع

(63)

والنصب من جهتين كما وصفنا في عبد، ويجوز أن يكون النصبُ من جهتين: إِحداهما على وجعل منهم عَبْدَ الطاغوتِ ويجوز أن يكون منصوباً عاد الذم، على أعني عبدَ الطاغوت،. ويجوز في وعَبْد وعَبُد وعُبُد الجر على البَدَل من " من " ويكون المعنى: هل أُنَبِّئُكُمْ بمَنْ لعنه الله وعَبدِ الطاغوت. ولا يجوز القراءَة بشيء من هذه الأوجه إِلا بالثلاثة التي رُوَيتْ وقرأ بها القراء وهي عَبَدَ الطَاغُوتَ. وهي أجودها، ثم وعَبُدَ الطاغُوتِ ثم وعُبُدَ الطاغوتِ. وقوله: (أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ). أي هُؤلاءِ الذين هذه صَفْتهم (شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ). أي عن قصد السبيل، و " مكاناً " منصوب على التفسير. * * * وقوله: (لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63) وهم علَماؤهم ورؤساؤهم. والحَبْر " العالِمُ، والحِبْرُ المِدَادُ بالكسرِ، فأعلم اللَّه أن رؤساءَهم وسِفْلتَهمْ مُشْترِكون في الكفر. ومعنى: (لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ): هلَّا ينهاهم، ثم أخبَرَ عَزَّ وجلَّ بعظيم فِريتهم فقال: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64) أَي: قالوا يده مُمْسِكة عن الاتساع علينَا. كما قال الله جَلَّ وعزَّ (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ) تَأويله لا تمسِكها عنِ الِإنفاق قال بعضهم: معنى (يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ) نعْمَتُه مقبوضة عَنَّا، وهذا القول خطأ ينقضُه: (بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ). فيكون المعنى: بلْ نِعْمَتَاهُ مبسُوطتانِ، نِعَمُ اللَّهِ أكثرُ مِن أن تُحصى.

وقال بعضهم: وقالوا يَدُ اللَّهِ مغْلُولة عَنْ أعدائنا، أي لا يُعذَبُنا. وقال بعض اهل اللغة إنَّما أجِيبُوا على قَدْرِ كَلَامِهِمْ. كما قالُوا يدُ الله مغْلُولة، يريدون به تبخيل اللَّه. فقيل: (بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ). أي هو جَوَاد (يُنْفِق كَيْفَ يشَاءُ) ومعنى (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ) أي جُعِلُوا بُخَلَاءَ. فهُم أبخَلُ قَوْم وَقيلَ (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ) أي غُلتْ فِي نَارِ جُهَنم. وقوله: (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا). أي كلما نزل عليك شيء من القرآن كفروا به فيزِيدُ كفرهم والطغيان الغُلو والكفر هَهُنَاكَ. وقوله: (وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) جعلهم اللَّه مختلفين في دينهم متباغضين، كما قال: (تحسَبُهم جميعاً وقُلُوبُهُمْ شتَّى) فألقى اللَّهُ بينهم العداوة، وهي أحدُ الأسباب التي أذهب الله بها جَدَّهم وشَوْكَتَهُمْ. وقوله: (كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ). هذا مثل أي كلما جمعوا على النبي والمسلمين وأعدوا لحِربِهم فرق اللَّه جمعهم وأفْسد ذات بينِهمْ. وقوله: (وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا).

(66)

اي يجتهدون في دفع الِإسلام ومحو ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - من كُتُبِهِمْ. * * * وقوله: (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66) أي لَوْعَمِلُوا بِمَا فِيهِمَا، ولم يكتُمُوا ما علموا من ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيهمَا. (وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ). وهو - واللَّه اعلَم - القرآن. أي لو عَمِلُوا بما في هذه الكتب من ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأظهروا أمره. (لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ). قيل إِنه كان أصابهم جَدْبٌ، فأعلمَ اللَّهُ أنَّهم لو اتَقوا لأوسع عليهم في رِزقِهِمْ، ودَلَّ بهذا على ما أصابَهُم من الجدب فيما عاقبَهمْ بِه. ومعنى (لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ). أي لأكلوا من قطر السماءِ. (وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ). مِن نَبَات الأرضِ. وقيل قد يكون هذا من جهة التوسِعَةِ كما تقول فلان في خير من قرنِه إِلى قدمِه، وقد أعلم الله جل وعَزَّ أن التُّقى سعة في الرزق فقال: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا). وقال: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) وقال في قصة نوح: (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ) وهي البساتين. فوعدهم الله أتم الغنى على الِإيمان والاستغفار. وقوله: (مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ).

(67)

أي من أهل الكتاب، قال بعضهم يعنى بهذا مَنْ آمَن مِنْهُمْ وقيل يعنى به طائفة لم تُناصِب النبى - صلى الله عليه وسلم - مناصبة هؤلاءِ، والذي أظُنُّه - واللَّه أعلم - أنَّه لا يسمي اللَّه من كان على شيءٍ من الكفر مُقْتصِداً. (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ). المعنى بئس شيئاً عَمَلُهم. * * * وقوله: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67) وتقرأ رسالاته. والمعنى بلغ جميع ما أنزل إِليْكَ مِنْ رَبك، وإِن تركت منه شيئاً فما بلغتَ، أي لا تراقبن أحداً ولا تتركن شيئاً من ذلك خوفاً مِنْ أن ينالك مكروه. (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ). أي يحُول بَيْنَهُمْ وبيَن أن ينَالكَ منهم مَكْروهٌ، فَأَعْلَمَه الله جلَّ وعزَّ أنه يَسْلَمْ مِنهمْ. وفي هذا آية للنبي - صلى الله عليه وسلم - بَيِّنَة. * * * قوله: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69) اختلف أهل العربية في تفسير رفع الصابئين، فَقَالَ بعضهم نَصْبُ " إِنَّ " ضَعُفَ فنسقَ بـ (الصَّابِئُونَ) على " الَّذِينَ " لأَن الأصل فيهم الرفع. وهو قول الكسائي، وقال الفراءُ مثل ذلك إِلا أَنه ذكر أَن هذا يجوز في النسق على مثل " الذين " وعلى المضمر، يجوز إِني وزيد قائمان، وأنه لا يجيز إِنَّ زيداً وعمرو قائمان. وهذا التفسير إِقدام عظيم على كتاب اللَّه وذلك أَنهم زعموا أن نَصْبَ

" إِنَّ " ضعيف لأنها إِنما تغيِّرُ الاسم ولا تغير الخبرَ، وهذا غلط لأن " إنَّ " عملت عَملَيْن النَصْبَ، والرفع، ولَيْسَ في العربية ناصب ليس معه مرفُوع لأن كل منصوب مشبه بالمفعول، والمفعول لا يكون بغير فاعل إِلا فيما لم يسم فاعله، وكيف يكون نصب " إِنَّ " ضعيفاً وهي تتخطى الظروف فتنصب ما بعدها. نحو قوله: " (إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ) ونَصْبً إِنَّ مِنْ أقْوَى المنْصوبَاتِ. وقال سيبويه والخليلً، وجميع البصريين إِن قوله: (وَالصَّابِئُونَ) محمول. على التأخير، ومرفوع بالابتداءِ. المعنى إِن الذين آمنوا والذين هادوا مَنْ آمن باللَّهِ واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم، والصابئون والنصارى كذلك أَيْضاً، أي من آمن باللَّه واليوم الآخر فلا خوف عليهم، وأنشدوا في ذلك قول الشاعر: وإلا فاعلموا أنَّا وأنتم. . . بغاة ما بقينا في شقاق المعنى وإِلا فاعلموا أنَّا بغَاة ما بقينا في شقاق، وأنتم أيضاً كذلك. وزعم سيبويه أن قوماً من العرب يغْلِطونَ فيقولون إِنهم أجمعونَ ذاهبون، وإِنك وزيد ذاهبان. فجعل سيبويه هذا غلطاً وجعله كقول الشاعر:

(70)

بدا لي أنى لسْتُ مدرِك مَا مَضى. . . ولا سَابِقٌ شيئاً إِذا كان جائياً فأما (مَن آمَنَ بِاللَّهِ) وقد ذكر الذين آمنوا، فإنما يعني الذين آمنوا هَهنا المنافقين الذين أظهروا الِإيمان بألْسنتهم، ودل على أن المعنى هنا مَا تقدَّم من قوله: (لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ). ومعنى الصابئ الخارج عن جملة الأدْيان لأنهم لا يدينون بالكتُب. والعرب تقول قد صبأ نَابُ البعير، وصبأ سِنُّ الصَّبِيِّ إِذا خرج. فأمَّا قولهم ضبأت بالضادِ المعجمة فمعناه اختبأت في الأرض. ومنه اشتُق اسم ضابئ. وقال الكسائي، الصابئون نسق على ما في هادوا، كأنه قال هادوا هم والصابئون. وهذا القول خطأ من جهتين، إِحداهما أن الصابى يشارك إليهودِي في إليهودية وَإِن ذَكَرَ أن هادوا في معنى تابوا فهذا خطأٌ في هذا الموضع أيضاً لأن معنى الذين آمنوا ههنا إِنما هو إِيمان بأفواههم، لأنه يُعْنَى بِه المنَافِقُونَ، ألا ترى اأه قال من آمَنَ باللَّه، فلو كانوا مؤمنين لم يحتج أن يقال إِنْ آمنوا فلهم أجرهم. وقوله: (لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70) المعنى كلًمَا جَاءَهُم رسُولٌ كذبوا فريقاً وقَتَلوا فريقاً. أمَّا التَكْذيبُ فاليهودُ والنصارى مشتركة فيه، وأمَّا القتل فكانَتْ إليهود خاصَّة - دون

(71)

النَّصَارى - يَقْتُلون الأنبياءَ، وكانت الرسل على ضربين، رسل تأتي بالشرائع والكتب نحو موسى وعيسى وإبراهيم ومحمد - صلى الله عليهم وسلم -، فهؤُلاءْ معصومون من الخلق، لم يوصل إِلى قتل واحدٍ منهم، ورُسُل تأتي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والحث على التمسك بالدين نحو يحيى وزكريا - صلى الله عليهما وسلم. * * * وقوله: (وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71) تقرأ (أَلَّا تَكُونَ) بالنصْب، و (أَلَّا تَكُونُ) بالرفْع. فمن قرأ بالرفع فالمعنى أنه لا تكون فتنة، أي حسبوا فعلهم غير فَاتنٍ لهم وذلك أنهم كانوا يقولون إِنهم أبناءُ اللَّه وأحباؤه. (فَعَمُوا وَصَمُّوا). هَذا مثل، تأويله أنهم لم يعملوا بما سمعوا ولا بما رَأوْا من الآيات. فصاروا كالعُمْى الصُّمِّ. (ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ). أي أرسل إِليهم محمداً - صلى الله عليه وسلم - يعلمهم أن اللَّه جلَّ وعزَّ قد تاب عليهم إِن آمنوا وصَدَّقوا، فلِم يُؤمنوا أكثرهم، فقال عزَّ وجلَّ: (ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ). أي بعد أن ازداد لهم الأمر وضوحاً بالنبي عليه السلام. كثير منهم يرتفع من ثلاثة أوجه، أحدها أن تكون بدلًا من الواو، كأنه لما قال (عَمُوا وَصَمُّوا) أبدل الكثير منهم، أي عمي وصم كثير منهم كما تقول: جاءَني قومُك أكثرهُمْ، وجائز أن يكون جُمعَ الفعلُ مُقَدَّماً كما حكى أَهل اللغة أكلوني

(73)

البراغيث، والوجه أن يكون كثير منهم خبر ابتداءٍ محذوف، المعنى ذوو العمى والصمم كثير مِنهم. * * * وقوله: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) معناه أنهم قالوا الله أحد ثلاثة آلهة، أو وَاحِد من ثلاثة آلهة، ولا يجوز في ثلاثة إِلا الجر، لأن المعنى أحد ثلاثة، فإن قلت زيد ثالث اثنين أو رابع ثلاثة جاز الجر والنَّصْبُ، فأما النصب فعلى قولك كان القوم ثلاثة فَرَبَعَهُم. وأنا رابعهم غداً، أو رابع الثلاثة غداً، ومن جر فعلى حذف التنوين، كما قال عزَّ وجلَّ: (هَدْيَاً بالغَ الكَعْبَة). وقوله: (ومَا مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ). دخلت " من " مَؤكدة، والمعنى ما إِله إِلا إِله واحد. وقوله: (وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ). معنى الذين كفروا منهم. الذين أقاموا على هذا الدين وهذا القول. * * * وقوله: (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) أي إِبراؤُه الأكمه والأبرص وإتيانه بالآيات المعجزات ليس بأنه إِله، إِنما أتى بالآيات كما أتى موسى بالآيات، وكما أتى إِبراهيم بالآيات. (وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ). أي مبالغة في الصدق والتصديق، وإِنما وقع عليها صِدِّيقَةٌ لأنه أرسل إِليها جبريل، فقال الله عزَّ وجلَّ: (وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ)،

(77)

وصِدِّيق فِعيلٌ من أبنية المبالغة كما تقول فلان سِكيت أي مبالغ في السكوت. وقوله: (كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ). هذا احتجاج بين، أي إِنما يعيشان بالغذاءِ كما يعيش سائر الآدميين. فكيف يَكُون إِلَهاً من لا يقيمه إِلا أكل الطعام. وقوله: (انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ). أي العلامات الواضحة. (ثُمَّ انْظُرْ) أي انظر بعد البيان. (أَنَّى يُؤْفَكُونَ). أي من أين يصرَفُونَ عَن الحق الواضح. وكل شيءٍ صرفته عن شيءٍ وقَلَبْتَه عَنْه، تقول أفَكْتُه آفِكه إفْكاً، والِإفك الكذب إِنما سمِّيَ لأنه صرف عن الحق، والمؤْتفكات الرياح التي تأتي من جهات على غير قصد واحد. وقوله: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77) أهواءَ جمع هوى، وهَوَى النفْسِ مقمبورٌ لأنه مثل الفَرقَ وفَعل جمعه أفْعال، وتأويله لا تتبعوا شَهَواتِهمْ لأنهم آثروا الشهوات على البيان والبرهان. وما في القرآن مِن ذكر اتباع الهَوَى مَذْمُوم نحو قوله: (وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) وقوله: (وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى) وقوله: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى).

(78)

ومعنى (وَأَضَلُّوا كَثِيرًا) الكثير اتبعوهم. (وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ). أي ضلوا بإضلالهم عن قصد السبيل. * * * وقوله: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) تأويل لعِنوا بُوعِدُوا من رحمة اللَّه. (عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) جاءَ في التفسير أن قوماً اجتمعوا على منْكرٍ، فأتاهم داود عليه السلام ينهاهم عنه، فاستأذن عليهم فقالوا نحن قرودٌ وما نفقه ما تقول، فقال كونوا قِردَةً، فمسخهم الله قِردَةً، وأن قوماً اجتمعوا على عيسى يَسُبُّونه في أُمِّه وًيرْجمونَه فسأل الله أن يجعلهم خنازير فصاروا خنازير، وذلك لعنهم على لسان داودَ وعيسَى. وجائز أن يكون داود وعيسى أعْلِمَا أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - نَبيُ وأنهُما لعنا مَنْ كَفَرَ بِه. وقوله؛ (ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ). أي ذلك اللعْن بمعصيتهم واعتدائهم. و" ذلك " الكاف فيه للمخاطبة، واللام في ذَلِك كسرتْ لالتقاء السَّاكنين. ولم يذكر الكوفيون كسر هذه اللام في شيءٍ من كُتبهم ولا عَرفُوه، وهذه من الأشياءِ التي كان ينبغي أن يتكلموا فيها، إِذ كان " ذلك " إِشارة إِلى كل متراخ عنك، إِلا أن تركهم الكلام أعودُ علَيْهم مِنْ تَكلُّمِهمْ إذ كان أول ما نطقوا به في فَعِلَ قد نقض سائر العربية، وقد بيَّنَّا ذلك قديماً.

(79)

وقوله: (كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) أي لبئس سْيئاً فعِلهم، واللام دَخَلَتْ للقَسم والتوكِيد وقد بيَّنَّا لِم فُتِحت، وسائر الحروف التي جاءَت يعْني لم فتِحتْ وكسرت ولم يبين الكوفيون شيئاً من ذلك. وقوله: (تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) (أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) (أنْ) يجوز أن يكون نصباً على تأويل بئس الشيءُ ذلك لأنْ سخط اللَّه عَلَيْهم، أي لأن أكسبهم السَّخْطةَ، ويجوز أن يكون " أنْ " في موضع رفع على إضمار هو، كأنَّه قيل هو أن سَخط اللَّهُ عَليهمْ، كما تقول نِعْمَ الرجُلُ. * * * وقوله: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وذلك أن اليَهودَ ظاهَروا المشركين على المؤْمنين، والمؤْمنون يُؤمنون بموسى والتوراة التي أتى بها، وكان ينبغي أن يكونُوا إلى من وافقهم في الِإيمان بنَبيهمْ وكتابهم أقرب، فظاهروا المشركين حَسَداً للنبي - صلى الله عليه وسلم -. وقوله: (لَتَجِدَنَّ) هذه اللام لام القسم، والنون دَخَلَتْ تَفْصِلُ بينَ الحال والاسْتقْبَالِ، هذا مذهب الخليل وسيبويه، ومن يُوثق بعِلْمِه. وقوله: (عَدَاوَةً) مَنْصُوب على التمييز. (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى). في هذه غير وجه، جاءَ في التفسير أن نيفاً وثلاثين من الْحَبَشِ من

(84)

النصارى جاءُوا وجماعةً معهم، فأسلموا لمَّا تلا عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - (القرآن). وجائز أن يكون يُعْنَى بِه النَصارَى لأنهم كانوا أقَل مظاهرة للمشركِينَ من اليهود، ويكون قوله: (وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ). على معنى (ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا)، ومنهم قوم إِذَا سَمِعُوا ما أُنْزلَ إلى الرسولِ، يعني به ههنا مؤمنيهم، والقُسُّ والقِيس من رؤَساءِ النصَارَى، فأمَّا القَس في اللُغَة فهي النميمة ونشر الحديث، يقال: قس فلان الحديث قسًّا. ومعنى (فَاكتُبْنَا مَعَ الشًاهِدينَ). أي مع من شهد من أنْبِيائك عليْهِم السلام ومؤمِني عِبَادك بأنَكَ لا إِله غيْرك. * * * وقوله: (وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) موْضع (لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ) نصب على الحال، المعنى أي شيء لنا تاركين للإيمان، أي في حال تركنا للإِيمان، وذلك أن قومهم عنفوهم على إيمَانِهم فأجابُوهم بأن قالوا ما لنا لا نؤمن بالله. * * * وقوله عزَّ وجل: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86) الجَحِيم النَّار الشديدة الوَقُود، وقد جَحِمَ فلان النار إذا شدَّد وقودَها، - وُيقال لِعَيْن الأسَد جَحْمة لشدة توقدها، ويقال لوقود الحرب، وهو شدة القتال فيها: جَاحِم. قال الشاعر: =

(87)

والخيل لا يبقى لجاحمها التخيل والمراحُ إِلا الفتى الصّبَّارُ في النَجَداتِ والفرس الوَقَاحُ * * * وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) هذه قيل نزلت لأن َ جماعةً من أصحاب النبي كانوا هَمُّوا بأن يرفضوا الدنيا ويجتنبوا الطيبات ويخْصُوا أنفسهم، فأعلم الله أن شريعة نبيه عليه السلام غير ذلك، والطيبات لا ينبغي أن تجتنب ألبتَّة، وسمي الخصاءُ اعتداءً، فقال عزَّ وجلَّ: (ولا تعتدوا)، أي لا تَجُبُّوا أنفسكم فإِن ذلك اعتداء. * * * وقوله: (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89) اللغو في كلام العرب ما اطرح ولم يعقد عليه أمر، ويسمَّى ما ليس مُعتَدًّا به - وإِن كان مَوجُوداً - لغواً. قال الشاعر: أو مِائةً تجعل أولَادَها. . . لَغْواً وعُرْضُ المائةِ الجَلْمَدُ (الذي يعارضها في قوة الجلمد)، يعني بذلك نوقاً، يقول: مائة لا تجعل أولادها من عددها. أعلم اللَّه عزَّ وجلَّ أن اليمين التي يُؤاخَذُ بها العَبْدُ وتجب في بعضها

الكفارَةُ ما جرى على عقدٍ، ومعنى فكفارته إطعامُ عَشَرةِ مَسَاكين، أي فكفارة المُؤَاخَذَةِ فيه إِذا حَنَثَ أن يُطْعَم عَشَرَة مساكين إِن كانوا ذكوراً أو إِناثاً وذكوراً أجزأه ذلك، ولكن وقع لفظ التذكير لأنه المُغَلَّبُ في الكلام. ومعنى (مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ). قال بعضهم أعدله كما قال جلَّ وعزَّ: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) أي عَدْلاً، و (أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) على ضربين أحدهما أوسطه في القدر والقيمة، والآخر أوسَطه في الشبع لا يكون المأكول يفرط في أكله فيؤكل منه فوق القصدِ وقدر الحاجة، ولا يكون دون المعنى عن الجوع. (أَوْ كِسْوَتُهُم). والكسوة أن يكسوهم نحو الِإزَار والعِمَامة أو ما أشبه ذلك. (أَوْ تَحرِيرُ رَقَبةٍ). فخير الحالف أحدَ هذه الثلاثة، وأفضلها عند الله أكثَرُها نَفْعاً، وأحسنُها موقعاً من المساكين، أو من المعتق، فإِن كان الناس في جَدْب لا يقدرون على المأْكول إِلا بما هو أشد تكلفاً من الكسوة أو الِإعتاق، فالِإطعام أفضل. لأن به قِوَامَ الحياةِ وإِلا فالِإعتاق أو الكسوة أفضل. (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ). أَي من كان لا يقدر على شيء مما حُذدَّ في الكفارة، فعليه صيام ثلاثة أيامٍ، وصيام ثلاثة مرتفع بالابتداءِ، وخبره كفارته أَو فكفارته صيام ثلاثة أيام. ويجوز فصيامٌ ثلاثةَ أَيامٍ كما قال عزَّ وجلَّ: (أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14).

(90)

(أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا). (ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ). أي ذلك الذي يغطي على آثامكم، يقال كَفَرْتُ الشيءَ إِذا غطَّيتُه، ومنه قوله عزَّ وجلَّ: (أعجب الكفَارَ نباتُه)، والكفار الذين يغطون الزرع ويصلحونه، والكافر إِنما سمي كافراً، لأنه ستر بكفره الِإيمان. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) فالخمر معروف وهو ما خامر العقل، وقد فسرناه، والميسرُ القَمارُ كله، وأصله إنَّه كان قماراً في الجزور، وكانوا يقسمون الجَزورَ في قول الأصمعي على ثمانية وعشرين جزءاً، وفي قول أبي عمرو الشيباني على عشرة أجزاء، وقال أبو عبيدة لا أعرف عَدَدَ الأجزاء، وكانوا يضربون عليها بالقداح وهي سهامُ خَشبٍ. لها أسماء نبينها على حقيقتها في كتابنا إِن شاءَ اللَّه، فيحصل كل رجل من ذلك القمار على قدر إِمكانه، فهذَا أصْل الميْسرِ، والقمار كلُّه كالميْسر وقد بيَّنَّا الأنصاب والأزلام في أول السورة. فأعلمَ اللَّهُ أن القِمارَ والخَمرَ والاسْتِقْسَامَ بالأزْلامِ وعبادةَ الَأوثان رجسٌ. والرجس في اللغة اسم لكل ما استُقْذِرَ من عمل، فبالغ الله في ذَمَ هذه الأشياء، وسماها رجْساً، وأعلم أَن الشيطان يُسَوِّلُ ذلك لِبَني آدم، يقال رَجِسَ الرجلً يَرْجَسُ، ورجَسَ يَرْجُسُ، إِذَا عمل عملاً قبيحاً، والرجْسُ بفتح الراء

شِدَّةُ الصوْتِ، فكان الرجس العمل الذي يقبح ذكره، ويرتفع في القبح. ويقال سحاب ورَعْد رجَّاسٌ إِذا كان شديد الصوت. قال الشاعر: وكل رَجَّاسٍ يَسُوقَ الرُّجَّسَا وأمَّا الرجز بالزاي فالعذابُ، أو العمل الذي يَؤدي إِلى العذاب. قال اللَّه: (لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ) أي كشفت عنا العذاب، وقوله: (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) قالوا عبادة الأوثان. وأصل الرجْز في اللغة تتابع الحركات، فمِنْ ذلك قولهم رجزاءَ إِذا كانت ترتعد قوائمها عند قيامها. ومن هذا رَجَزُ الشَعر لأنه أقْصَر أبيَاتِ الشَعْرِ، والانتقال فيه من بيت إلى بيت سريع نحو قوله: يا ليتني فيها جذع أخب فيها وأضع ونحو قولهم: صَبْراً بَنِي عَبْدِ الدارِ ونحو قولهم: ما هاج أحزانا وشجوا قد شجا

وزعم الخليل أن الرجَزَ ليس بشعر، وإِنما هو أنصاف أبْيَات أو أَثلاث. ودليل الخليل في ذلك ماروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلًا وتأتيك من لم تزوَّدْ بالأخبار. قال الخليل: لوكان نصف البيت شعراً ما جرى على لسان النبي - صلى الله عليه وسلم - سَتُبدِي لك الأيَّامُ مَا كَنْتَ جَاهِلاً وجاءَ النصف الثاني على غير تأْليف الشعر، لأن نصف البيت لا يقال له شِعرٌ ولا بَيتٌ، ولو جاز أن يقال لنصف البيت شعر لقيلَ لِجُزْءٍ منه شعر. وجرى على لسان النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما روَى: أَنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب قال بعضهم: إِنما هوَ لا كذِبَ أنا ابن عبد المطلب، بفتح الباءِ على الوصل. قال الخليل: فلو كان شعراً لم يجر على لسان النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال اللَّه: (وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ)، أي ما يَسَفَل له. قال الأخفش كان قول الخليل إِن هذه الأشياءَ شعرٌ، وأنا أقول: إِنها ليست بشعر، وذكر أنه ألْزَم الخليلَ أن الخليل اعتقده. ومعنى الرجز العذاب المُقَلْقِلُ لشدتِه قلْقَلةً شَدِيدَةً متتابعة. ومعنى فاجتَنِبُوهَ: أَي اتركوه.

(94)

واشتقاقه في اللغة كونوا جانباً منه أي في ناحية. * * * وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94) هذه اللام لامُ القَسَمِ، واللام مفتوحة لالتقاءِ السَّاكنين في قول بعضهم اغزُوَنَ يا رَجُل، فأمَّا لام لَتُبْلَوُن، فزعم سيبويه أنها مبنية على الفتح. وقد أَحكمنا شرحَ هذا قبل هذا الموضِع. ومعنى: " ليبلونكم ": ليختبرنَّ طاعتكم من معصيتكم. ميه بِشيءٍ مِنَ الصيدِ). فَقال عزَّ وجلَّ بشيءٍ من الصيْدِ فبَّعض، وهو يحتمل وَجْهَيْن أَحدهما أنه على صيد البَر دُونَ صَيْدِ البَحْر، والثاني أَنه لَمَّا عَنى الصَّيدَ ما داموا في الإحرام كان ذلك بعضَ الصََّيْدِ. وجائز أن يكون على وجه ثالث، ويكون " مِنْ " هذه تبين جنساً من الأَجناس، تقول: لأمتحننك بشيءٍ من الوَرِق، أي لامتحننك بالجنس الذي هو ورق، كما قال جلّ ثناؤُه: (وفَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأوْثَانِ) والأَوثان كلها رجس. المعنى فاجتنبوا الرجس الذي هو وثن. ومعنى قوله: (تَنالُه أَيدِيكمْ ورماحُكُمْ). الذي تناله الأيدي نحو بيض النَعام وفراخِه وما كان صغيراً ينهض من مجْثمِهِ مِن غَيرِ النعام وسائر ما يفوق اليد بحركته من سائر الوحش. فحرم جميع صيد البر الجراد وكل ما يصطاد فحرام صيده ما داموا حرماً. وبيَّن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ كل ما اصْطِيد في الحرم حرام، كانوا محرمين أَو غير محرمين. وقوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95)

(وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا) أي عمداً لِقتلِه، كأنه ناسٍ إنَّه محرِم، ومتَعمِّد للقتل، وجائز أن يقصد القتل وهو يعلم أنَّه محرم. وقوله: (فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ). و (فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ) برفع مثل وجرَها، فمن رفَعهُما جميعاً فرفعه على معْنى فعليه جزاء مثل الذِي قَتلَ، فيكون " مِثْل " من نَعْتِ الجزاء، ويكون أن ترفع " جزاءَ " على الابتداءِ ويكون مثل قتَل خبر الابتداءِ، ويكون المعنى فجزاء ذلك الفعل مِثلُ ما قَتَلَ، ومن جرَّ أراد فعليه جزاءُ مِثل ذلك المقتول من النَّعمِ، والنعمً في اللغة هي الِإبل والبقر والغَنَمُ، وإِن انفَردت الِإبل منها قيل لها نَعم وإِن انفردت الغنمُ والبقرُ لم تسَمَّ نعَماً. فكان عليه بحذاءِ حمار الوحش وبقرةِ الوحش بَدَنةً، وعليه بحذاءِ الظباءِ من الغنم شاة. وقوله عزَّ وجلَّ: (يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ). أَي من أَهل ملتكم، فعلى قاتل الصيد أَن يسْألى فقيهيْنِ عَدْلَيْن عن جزاءِ ما قَتَل، ويقولان له: أَقتلتَ صيْداً قبْل هَذَا وأنْتَ مُحرِم فإِن اعْترف بأنه قتل صيداً قبْل ذَلِك لم يَحْكُمَا عليه بشيء، لقول الله عزَّ وجلَّ: (ومن عاد فيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ). وإِن لم يعترف نَظَرا فيما قتل. فإِن كان كالِإبل حكماً عليه بها (هَدْياَ بَالِغَ الكعْبةِ) وإِن كان كالشاءَ حكما عليه بمثل ذلك. وإِن كانت القيمة لا تبلغ نظرا فقدرا قيمة ذلك، وأطعم بثمن ذلك المساكين، كل مِسكين - قال بعضهم - صاعاً من حِنطة، وقال بعضهم نصف صاع أَوْ صَامَ بعَدْلِ ذلك على ما توجِبُه السُّنَّةُ. ويجوز أَن تكون " أَو " - وهو الَأجود في اللغة - للتخيير، فإن شاءَ أَهدىَ وإن شاتَ قوَّما له الهدْيَ وأَطْعَم بدلَه على ما وصفنا. وجعل مثل ذلك صياماً لَأن " أَو " للتخيير، وقال بعضهم كأَنَّهُ إِن لم يقدر على الِإبلِ والغَنمِ

فينبغِي أن يُطعِم أو يصُومَ، والذي يوجبه اللفظُ التخييرُ، وأهلُ الفِقْهِ أعلمُ بالسنة في ذلك، إِلَّا أَني أختارُ على مذهب اللغة أنَّه مخير. وقوله: (هَدْياً بَالِغَ الكعْبَةِ). منصوب على الحال. المعنى يحكمان به مقَذَراً أن يُهْدَى. و (بالغ الكعبة) لفظُه لفظ مَعْرفة، ومعناه النكرة، المعنى بالغاً الكعبة، إِلا أن التَّنْوِينَ حُذِف استِخفَافاً. ومعنى قوله: (أوعَدْلُ ذلِك). أو مِثل ذلك، قال بعضهم عَدْلُ الشيء مثله من جنسه، وعَدْلُه مثله من غير جنسه - بفتح العين، وقال إِلا أن بعض العرب يغلط فيجعل العَدْل والعِدْل في معنى المثل، وإِن كان من غير جنس الأول. قال البصريون العَدْل والعِدل في معنى المثل، والمعنى واحد كان، لمثل من الجنس أو من غير الجنس، كما أن المثل ما كان من جِنْسِ الشيءِ ومِنْ غير جِنْسِه، مِثْل، ولم يقولوا إِن العرب غلطت، وَلَيْسَ إِذا أخْطا مخطئ يوجب أن تقول أن بعض العرب غلط. وقوله: (صِيَاماً). منصوب على التمييز. المعنى أو مثل ذلك من الصيام. (لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِه). " الوَبَالُ " ثِقْلُ الشيءِ في المكروه، ومنه قولهم طعام وبيل، وماء وبيل، إِذا كانا ثقيلين غيرُ نَامِيَينِ في المَالِ، قال عزَّ وجلَّ: (فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا) أَي ثقتيلَاَ شديداً، والوبيلُ خشبةُ القصَّارِ ومن هذا قيل لها وبيل. قال طرفة ابن العبدِ.

(96)

عقيلة شيخ كالوبيل يلنْدَدٍ وقوله: (وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ). الفاءٌ جواب الجزاء والمعنى أنه - واللَّه أعلم - ومن عاد مستَحِلًّا للصيد بعد أنْ حَرمَه الله منه فينتقم اللَّهُ مِنه أي فيعذبه اللَّهُ. وجائز أن يكون: من عاد مستخفًّا بأمر اللَّه فجزاؤُه العذاب كجزاءِ قاتل النفس. * * * وقوله: (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96) أي أحل لكم صيدَ البحر، وأحل لكم طَعَامَ البحر للسَّيَّارَةِ، فَأمَّا صَيدُه فمعروفٌ، وأمَّا طَعَامُه فقد اختُلِفَ فيه، فقالَ بعضهم: ما نَضَبَ الماءَ عنه فأخِذَ بغَيْر صَيد فهو طعامه، وقال طعامه هو كل ما سقاه الماء فأنبت فهو طعام البحر، لأنه نبت عن ماءِ البحر، فأعلمهم اللَّه أن الذي أحل لهم كثير في البر والبحر، وأن الذي حُرمَ عَليهم إنما هو صيد البر في حال الإِحرام. وسَنَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - تحريمَ الصيد في الحرم ليكون قد أعْذَر إِليهم من الانتقام ممن عاود ما حرم اللَّه عليه مع كثرة ما أحل اللَّهُ لَهُ. و (مَتَاعاً): منصوب مصدر مؤكد، لأنه لما قال أجل لكم كان دَليلاً على أنه قد مَتَّعَهُمْ به، كما أنه لما قال: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ) كان دليلَاَ على أنه قد كتب عليهم ذلك، فقال: (كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ).

(97)

وقوله جلَّ وعزَّ: (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) قيل إِنما سُمِّيتِ الكعبةَ لتربيع أعلاها. ومعنى (قِياماً للناسِ) أي مما أمِروا بِه أن يقوموا بالفرض فيه. وكذلك: (والشَهْرَ الحَرامَ والهَدْيَ والقَلائِدَ). فأمَّا مَن قَال إِنه أمن فلأنَّ اللَّه قال: (وَمَنْ دَخَله كَانَ آمِناً) ولم تَزَلْ العرب تترك القتال في الشهر الحرام، وكان يسمى رَجَب الأصَمّ لأنه لا يسمع فيه صوت السلاح. وأما من قال جُعِلت هذه الأشياء ليَقومَ الناس بها فإنما عنى متعبداتهم بالحج وَأسْبَابِه. وقوله: (ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ). فيه قولان: أحدهما أن الله لما آمَنَ مِنَ الخوف البلدَ الحَرَامَ، والناسق كان يقتل بعضعهم بعضاً، وجعلَ الشهرَ الحرامَ يُمتَنَع فِيه من القتل، والقوم أهل جاهلية، فدل بذلك أنه يعلم ما في السَّمَاوات ومَا في الأرْض إذْ جَعَل في أعْظمِ الأوْقَاتِ فساداً ما يؤمن به، وفيه قول آخر وهو عندي أبين، وهو أن ذلك مَرْدُود على ما أنبأ اللَّه به على لسان نبيه في هذه السورةِ من قوله: (مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ). فأخبر بنفاقهم الذي كان مسْتَتَراً عن المسلمين، وما أخبر به أنهم (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ). فأظهر الله ما كانوا أسَروه من قصة الزانيين، ومسألتِهمْ إياه - صلى الله عليه وسلم - وما شَرَحْناه مما كانوا عليه في ذلك. فأظهر الله جلَّ وعزَّ: نبيه والمؤمِنِينَ على جميع ما ستروا عَنْهُمْ.

(101)

فالمعنى - واللَّه أعلم - ذلك لتعلموا الغيب الذي أنْبأتُكُمْ به عن اللَّه. يدلكم على إنَّه يعلم ما في السَّمَاوَات وما في الأرض. ودليل هذا القول قوله جلَّ وعزَّ: (مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99). * * * وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) (تُبْدَ لكم) - تُظْهَر لَكُم، يقال بدا لي الشَيء يبدو إذَا ظَهَر. جاءَ في التفسير أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب الناس فأعلمهم أن الله قد فرض عليهم الحج، فقام رجل من بني أسدٍ فقال: يا رسول اللَّه أفي كل عام؟ فأعرض عنه - صلى الله عليه وسلم - فعادَ الرجلُ ثانية، فأعرض عنه، ثم عاد ثالثة فقال - صلى الله عليه وسلم - ما يُؤمنك أن أقول نَعَمْ فَتجبُ فلا تقومون بها فتكفرون. تأويل " تكفرون "، - واللَّه أعلم - ههنا أنكم تَدْفَعُونَ لِثِقَلِهَا وُجُوبَهَا فتكفرون. وقال - صلى الله عليه وسلم -: " اتركوني ما تركْتُكُمْ فإِنما هلك منْ كَانَ قَبلَكم بكثرة اخْتِلَافِهِمْ على أنبيائهم ". وسأله - صلى الله عليه وسلم - رجل كان يتنازعه اثنان يدَّعِيَ كل واحد منهما أنَّه أبوه فأخبر - صلى الله عليه وسلم - بأبيه منهما، فأعلم الله عزَّ وجلَّ أن السوال عن مثل هذا الجنس لا ينبغي أن يقع. فإنه إِذَا ظهرَ منهُ الجوابُ سَاءَ ذَلِك. وخاصَّةً في وقت سُؤَالِ النبي - صلى الله عليه وسلم - عن جهة تبيين الآيات، فنهى الله عن ذلك، وأعلم أنَّه قد عفا عنها، ولا وجهَ عَن مسألة ما نهى اللَّه عنه، وفيه فضيحة على السائل إِن ظهر.

و (أشياءَ) في موضع جر إلا أنها فتحت لأنها لَا تَنْصرِفُ. وقال الكسائي أشبه آخرُها آخَرَ حَمْرَاءَ، ووزْنُها عندَه أفْعال، وكثر اسْتِعْمَالَهُمْ فلم تُصْرَف. وقد أجمع البصريون وأكثر الكوفيين على أن قول الكسائي خطأ في هذا، وألزموه ألا يصْرفَْ أبناءً وأسماءً. وقال الأخفش - سعيدُ بنُ مسعدة - والْفَراءُ: أصلها أفعلاءَ كما تقول هَيْن وأهوِنَاءَ إلا إنَّه كان الأصلُ أشْيئاءَ على وزْنِ " أشبِعاع، فاجْتَمَعَتْ هَمزتَان بينهما ألف، فحذفت الهمزة الأولى. وهذا غلط أيضاً؛ لأن شيئاً فَعْلٌ، وفَعْل لا يجمع على أفعلا " فأما هَين. فأصله أهيِنُ، فجمع على أفعلاءَ، كما يجمع فعيل على أفعلاء مثل نصيب وأنصباءَ. وقال الخليل: أشياءَ اسم للجميع كان أصله فعلاءَ - شيئاء فاستثقلت الهمزتان فقلبت الأولى إلى أول الكلمة فَجعلَت لفْعاءَ كما قالوا أنْوق فقلبوا أينق، كما قلبوا قووس فقالوا قِسيّ. ويُصَذقُ قولَ الخليل جمعهُم أشياءَ على أشاوى، وأشَايَاه وقول الخليل هو مَذهَب سيبويه وأبِي عُثْمانَ المازني وجميعِ البصريين إِلا الزيادى منهم، فإنه كان يميل إلى قول الأخفش. وذكروا أن المازني ناظر الأخفش في هذا فقطع المازنى الأخْفَشَ. وذلك أنه سأله: كيف تُصغرُ أشياءَ فقال: أشَيَّاء، فاعلم. ولو كانت أفعلاءُ لرُدَّتْ في التصغير إلى واحدها، فقيل شُيَيْئَات، وإِجماع البصريين أن تصغير

(103)

أصدقاءَ إذا كان للمَؤنثات صُديِّقَات وإن كان للمذكرين صُدَيِّقُون. * * * وقوله: (مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103) أثبتُ ما رَوينا في تفسير هذه الأسماء عن أهل اللغة ما أذكره ههنا: قال أهل اللغة: الْبَحِيرةُ ناقةٌ كانت إذا نُتجت خمسة أبطُن وكان آخرُها ذكراً، نحروا أذْنَها - أي شَقوهَا - وامتنعوا من ركوبها وذبْحهَا، ولا تطرد عن ماءٍ ولا تمنع مِن مَرْعًى، وإِذا لقِيها المعُيى لم يركبها. والسائبة. كان الرجل إذَا نذَر لقدوم من سَفَر أو بُرءٍ منْ عِلَّة أو ما أشبه ذلك قال ناقتي هذه سائبة، فكانت كالبحيرة في أن لا ينتفع بها وأنْ لَا تُجْلَى عن مَاء ولا تَمْنعُ من مَرْعًى. وكان الرجل إذا أعتَقَ عبداً قال هو سائِبةٌ، فلا عقل بينهما ولا ميراث. وأما الوَصِيلَةُ ففي الغنم، كانت الشاة إِذا ولدت أنثى فهي لهم وإِذا ولدت ذكراً وأنثى قالوا وصلت أخاها، فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم. وأمَّا الحامِي فالذكر من الإبل. كانت العرب إِذا نتجت من صلب الفحل عشرة أبْطن، حُمِي ظهرهُ فلا يحمل عليه، ولا يمنع من ماءٍ ولا مرعى. فأعلم اللُّه أنَّه لَمْ يُحَرَمْ من هذه الأشياءِ شيئاً، وأن الذين كفروا افْتروْا على اللَّه. * * * وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) معناه إِنما ألزمكم اللَّه أمرَ أنْفُسَكُمْ.

(106)

(لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ). أي لا يُؤاخذكم اللَّه بذنوب غيركم، وليس يُوجبُ لفظُ هذه الآيةِ ترك الأمْرِ بالمعروف والنهيِ عَن المنكر، وأعلم أنه لا يضر المْؤمِنَ كفرُ الكافِرِ. فإذا تَركَ المؤْمنُ الأمرَ بالْمَعروفِ وهو مستطيع ذلك فهو ضَال، وليس بِمُهْتَدِ. وَإِعْرًابُ: (لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ) الأجود أن يكون رفعاً ويكون على جهة الخبرِ. المعنى ليس يضُركم مَنْ ضَل إِذَا اهْتَدَيتُم. ويجُوزُ أن يكونَ موضعُهُ جزماً، ويكون الأصل لا يضرُركم إِلا أن الراءَ الأولى أدغِمَتْ في الثانِيَةِ فَضُمَّتِ الثانية لالتقاءِ السَّاكنين، ويجوز في العرَبِيةِ على جهة النهيِ لا يضركم بفتح الراءِ، ولا يَضُركم بكسرها. ولكن القراءَة لا تُخَالَفُ، ولأنَّ الضم أجْوَدُ كان الموضعُ رفعاً أو جَزْماً. فأمَّا من ضَمَّ لالتقاءِ السَّاكنين فأتبع الضمَّ الضمَّ، وأمَّا من كسر فلان أصل التقاءِ السَّاكنين الكسر، وأمَّا من فتح فلخفة الفتح فتح لالتقاءِ السَّاكنين. وهذا النهي للفظ غائب يراد به المخاطبون، إذا قلت: لا يَضْررْكَ كفرُ الكافر، فالمعنى لا تَعُدَّنَ أنت كفْرُه ضَرَراً، كما أنك إِذَا قلتَ لا أرنيك ههنا، فالنهي في اللفظ لنفسك، ومعناه لمخَاطَبِكَ، معناه لا تكونن ههنا. * * * وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ (106) معناه أنَّ الشَهادةَ في وقت الوصية هي للموت ليس أن الموتَ حاضرُه وهو يُوصِي بما يَقُولُ الموصِي، صحيحاً كان أو غَير صحيحٍ: إِذا حَضَرَنِي الموتُ، أو إذَا مِتُ فافعلوا واصْنَعُوا. والشهادة ترتفع من جهتين: أحدهما أن تَرتَفِعَ بالابتداءِ ويكون خبرها " اثنان "، والمعنى شهادة هذه الحال شهادةُ اثنين، فتحذف شهادة ويَقُومُ اثنان مقامها.

ويجوز أن يكون رفع (شهادةُ بينِكم) على قوله وفِيما فرض اللَّه عليكم في شهادتكم أن يشهد اثنان، فيرتفع اثنان بشهادة، والمعنى أن يشهد اثنان فيرتفع اثنان بشهادة، والمعنى أ، يشهد اثنان ذوا عَدْل منكم. معنى " مِنْكُمْ " قيل فيه قولان، قال بعضُهم منكم من أهل دينكم. (أوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكمْ) من غير أهْلِ مِلَّتكم. وقال بعضهم: (ذَوَا عَدْل مِنْكم) من أهل الميت، أو آخرَان مِن غَيْركم مِن غَيرِ أهلِ الميِّت، واحتجِ هؤلاءِ بأن قوله: (فَيَقْسِمَان باللَّهِ إِن ارتَبتم لَا نَشْتَرِي بِه ثَمَناً وَلَو كَانَ ذَا قربى) يَدل على أن مِنْكم مِنْ ذَوِي قَراباتِكم. وقال هؤلاءِ إِذا كانوا أيضاً عُدولًا مِنْ قَرَابَاتِ الميِّتِ، فهم أولى لأنهم أعلم بأحوال الأهْل مِن الغرائب، وأعلم بما يُصلِحُهم، واحتجوا أيضاً بأن (ذَوَى عَدْل) لا يكونان من غير أهل ملة الِإسلام لأن الكفر قد باعدَ من العدالة. فأَعلم اللَّه عزَّ وجلَّ أن الوصيةَ ينبغي أن يكونَ شاهدها عَدلَيْن من أهل الميت أو من غير أهله إِن كان الْموصِي في حضرٍ وكذلك إِن كان في سفر. فقوله: (إِن أَنتمْ ضَرَبتُم في الأرضِ فَأصابَتْكُمْ مصِيبَةُ الْمَوْتِ). ذكر الموت في السفر بعد قوله: إِذا حضر أحدكم الموت حين الوصية، فكان في الآية - واللَّه أعلم - دليلًا على الشهادة في الحضر والسفر. وقد جاءَ في التفسير أن اثنين كانا شَهِدَا في السفر غير مسلمين

(107)

وللإِجماع أن الشهود لا يجب أن يحلفوا. وقد أجاز قوم في السفر شهادة الذِّميين. وقال الله عَز وجل: (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ) وقال: (مِمَّنْ تَرضَونَ منَ الشهَدَاءِ) والشاهد إِذا عُلِمَ أنه كذاب لم تجر أن تقْبَل شهادته، وقد علمنا أن النصارى زعمت أن الله ثالث ثلاثة وأن إليهود قالت إن الْعَزَيرَ ابنَ الله وعَلِمنَا أنهم كَاذِبُونَ، فكيف يجوز أن تُقْبَلَ شهادَة منْ هوَ مقِيمٌ عَلى الْكَذِب؟ ومعنى قوله: (تَحبِسُونَهُمَا من بَعْد الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ). كان الناس بالحجاز يحلفون بعد صلاة العصر، لأنه وقت اجتماع الناس. وقوله: (إِن ارتَبْتُمْ). إِنْ وَقَعَ في أنفسِكم مِنهم رَيْبٌ، أي ظننتم بهم رِيبَة. وقوله: (فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) أي فإِن اطلِع على أنهما قَد خَانَا. (فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ). وقد قرئت الأولَيْنَ ويجوز (مِن الَّذِينَ اسْتَحَق عَلَيْهِمً الأَوْلَيَانِ) وهذا موضع من أصعب ما في القرآن في الإعراب. فأوليان في قول أكثر البصريين يرتفِعان على البدل مما في (يقومان). المعنى: " فَلْيَقًمْ الأولَيان بالميت مقام هذين الخائنين). (فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا).

(108)

فإِذا ارتفع الأوليان على البدل، فاللذان في استحق من الضمير معنى الوصية، المعنى فليقم الأوليان من الَّذِينَ استحقت الوصية عليهم، أو استحق الِإيصاء عليهم. وقال بعضهم: مَعْنَى (مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ) معناه: استُحِق فيهم، وقامت " على " مقام " في " كما قامت " في " مقام " على " في قوله: (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) ومعناه: على جذوع النخل. وقال بعضهم معنى على (مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ) كما قال: (الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ) أي إِذا اكتالوا من الناس. وقيل أن في " استحق " ذكر الِإثم، لأن قوله عزَّ وجلَّ: (فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ) كان المعنى: الذين جَنِيَ الإِثْمُ عَلَيْهِم. وقيل إِن " الأولَيَانِ " جائز أن يرتفعا باستحق، ويكون معناهما الأوليان باليَمِينِ، أي بأن يُحلفا من يشهدُ بعدهما، فإِن جاز شهادة النَّصرانيين كان " الأولَيَانِ " على هذا القول النصرانيين، أو الآخران من غير بيت الميت. وأجود هذه الأقوال أن يكون الأولَيَان بَدَلا، على أن المعنى: لِيَقُمِ الأولَيَانِ من الذين استحق عليهم الوصية. ومن قرأ (الأوَّلينَ) رده على الذين، وكان المعنى من الذين استحق عليهم الإِيصاء الأولين. واحتج من قرا بهذا فقال: أرأيت إِن كان الأولَيَانِ صغيرين؟. * * * وقوله: (ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108) أي ذلك أقرب من الإتيان بالشهادة على وجهها، وأقرب إِلى أن يخافوا. * * * وقوله: (يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109)

(110)

أَما نَصْبُ " يوم " فمحمول على قوله. . . (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا) أي، وَاتَّقُوا يومَ يجمَع اللَّهُ الرسل، كما قال: (وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا). ومعنى المسألة من الله تعالى للرسل تكون على جهة التوبيخ للذين أرسلوا إِليهم، كما قال عزَّ وجلَّ: (وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9). فَإِنَّمَا تسأل ليوَبَّخ قَاتِلُوهَا، وأمَّا إِجابة الرسل وقولهم: " لَا عِلْم لَنَا " فقد قال الناس في هذا غير قول: جاءَ في بعض التفسير إنَّه عزَبَتْ عنهم أفهامهم لهول يوم القيامة فقالوا: لا علم لنا مع عِلْمِك. وقال بعضهم: لو كانت عزبت أفهامهم لم يقولوا إِنك أنت علام الغيوب. وَقَال بعضهم معنى قول الرسل (لا علم لنا) أي بما غاب عَنا مِمن أرْسِلْنَا إِليه، أنت يا رَبنَا تَعْلم بَاطِنَهم ولَسنَا نعلم غيبهم إِنك أنت علام الغيوب. * * * وقوله: (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110) أمَّا نعمته على وَالِدَتِه فَإِنه اصطفاها وطهرها واصطفاها على نساءِ العالمين، وكان رِزْةُها يأتيها من عنده وهي في محرابها. وقوله: (إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ). أي أيَّدتك بجبريل، جائز أن يكون قوله به، إِذ حاولت بنو إِسرائيل

(111)

قتله، وجائز أن يكون أيَّده به في كل أحواله، لأن في الكلام دليلاً على ذلك. وقوله: (تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ). أي أيَّدتُكَ مُكَلِّماً النَّاسَ في المهد (وَكَهْلًا) أي أيدتُكَ كَهْلا، وجائز أن يكون (وَكَهْلًا) محمولاً على تكلم، كان المعنى أيدتك مخاطباً للناس في صغرك ومخاطباً الناس كهلاً، وقرأ بعضهم: " أَأْيَدْتُكَ " على أفْعَلتكَ من الأيد وقرأ بعضهم آيَدْتك على فاعلتك أي عاونتك. وقوله: (وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي). الأكمه قال بعضهم: الذي يولد أعمى، قال الخليل هو الذي يولد أعمى، وهو الذي يَعْمَى بعد أن كان بصيراً. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111) قال بعضهم: (أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ) أي أَلْهَمتُهم كما قال: (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا) أي ألهمها. وقال بعضهم (أوحيت إِلى الحواريين) معناه: أمرهم. وأنشدوا قول الشاعر: الحمد للَّهِ الذي استَهلًَّت. . . بإِذنه السَّماءُ واطمأنَّت أوحَى لها القَرارَ فاسْتَقَرت قالوا معناه: أمرها. وقال بعضهم: معنى (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ) أتيْتُهمْ في الوحي

(112)

إِليك بالبراهين والآيات التي استدلوا بها على الِإيمان فآمنوا بي. * * * وقوله: (إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) جائز أن يكون موضع " عيسى " نصباً، كما تقول: يا زيدَ بنْ عَمْرو، لأن ابْناً إِذا أضيف إِلى اسمٍ مَعْروفٍ عَلم أو أضيف إِلى كُنيةٍ معروفة جُعِلَ وما قبله كالشيء الواحد فجميع النحويين يختارون يا زيدَ بنَ عَمْرٍو، وكلهم يجيزون: " يا زيدُ بنَ عَمروٍ. وعلى هذا جائز أن يكونَ موضع عيسى موضِعَ اسم مبني على الضمِّ، قَالوا كلُّهم فَإِنْ قلت يا زيدُ بنَ أخِينا، ويا زيدُ ابنَ الرجلِ الصالحِ فضممت زيداً لا غيْر. لأن النصب إِنما يكون إِذا أضيف ابن إِلي عَلَمٍ كما وصفنا. وقد قُرئ: (هل تَسْتَطِيعُ رَبَّك) و (هل يَستَطيعُ رَبُّك). فمن قرأ (هل تَسْتَطِيعُ رَبَّك). فالمعنى هل تستدعي إِجَابَتَه وطاعَتَه في أن يُنْزِلَ علينا، ومن قراها (هل يَستَطيعُ رَبُّك) كان معناه هل يقدر ربُّك. قال أبو إسحاق: وليس المعنى عندي - واللَّه أعلم - أنهم جهلوا أن اللَّه يقدر على أن ينزل مائدة، ولكن وجه السؤال هل ترينا أنت أن ربَّك يُرينَا ما سَألنَا من أجلِكَ من آياتك التي تدل على نبوتك. فأمَّا المائدة فقال أبو عبيدة: إنها في المعنى مَفعُولة ولفظها فاعلة، قال: وهي مثل عِيشَةٍ راضية، وقال إِن المائدة من العطاءِ، والممتاد المفتَعل المطلوب منه العطاءَ. قال الشاعر: إِنَي أميرُ المؤْمِنين المُمتَاد وَمَادَ زيد عمراً إذا أعطاه. والأصل عندي في مائدة أنها فاعلة من ماد يميدُ إِذَا تحرَّكَ فكأنَّها تميد بما عليها. وقيل في التفسير إِنها أنزلت عليهم في يوم الأحد وكان عليها خبز

(114)

وسمك، فالنصارى تجعل الأحد عيدا - فيما قيل - لذلك. وقال بعضهم إِنها لم تنْزَل للتَّهَوُّدِ الذي وقع في الكفر بعد نزولها، والأشبه أن تكون لأن نزولَها قد جَاءَ ذكره في هَذِه القِصةِ. قال اللَّه عزَّ وجلَّ: (إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ) وقال غير أهل الِإسلام إِنها نزلت، والأخبار أنها انتهت، فالتصديق بها واجب. فأمَّا وجه مَسْألةِ الحواريين عيسى المائدة فيحمل ضربين أحدهما أن يكُونوا ازْدَادُوا تثبيتاً، كما قال إبراهيم: (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى). وجائز أن تكون مسألتهم المائدة قبل علمهم أنه أبرأ الأكمه والأبرص وأنَّه أحيا الموتى. وأما قول عيسى للحواريين: (اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ). فإِنَّما أمَرهم ألَّا يقترحوا هم الآيات، وألَّا يقوموا بين يدي الله ورسوله. لأن الله قد أراهم الآيات والبراهين بإحياءِ الموتى وهو أوكد فيما سألوا وطلبوا. * * * وقوله: (قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) ذكر سيبويه أن (اللَّهُمَّ) كالصوتِ وأنه لَا يُوصَف، وأن (رَبَّنَا) منصوب على نداءٍ آخر، وقد شرحنا هذا قبل شرحاً تاماً. ومعنى قوله: (وآيةً مِنْك).

(115)

أي فتكون لنا علامة منك. وأمَّا قوله: (قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115) فجائز، أن يكون يُعجِّلُ لهم العذابَ في الدنيا، وجائز أن يكون في الآخرة لقوله: (لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ) * * * وقوله: (وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) فَالمسألة ههنا على وَجْهِ التَوْبيخِ للذين ادَّعَوْا عليه لأنهم مجْمِعونَ أنه صادق الخبر وأنَّه لا يكذبهم وهو الصادق عندَهم فذلك أوكَدُ في الحجةِ عَلَيْهِمْ وأبلَغُ في توبيخهم، والتوبيخ ضَرْبٌ من العقوبة. قال: (سبْحَانَكَ). أي براءٌ أنت من السوءِ. (مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ). وأمَّا قوله: (تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ). و" الْغُيُوبِ " بالكسر والضم. قال أبو إسحاق: هذا موضع أعني (تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ) يُلَبِّسُ به أهلُ الِإلحَادِ على مَنْ ضَعُف علمه باللغة ولا تعلم حقيقة هذا إلا من اللغة، قال أهل اللغة: النفس في كلام العرب تجري على ضربين أحدهما قولك خرجت نفس فلان وفي نَفْسِ فلانٍ أن يَفْعَل كذا وكذا. والضرب الآخر معنى النفس فيه معنى جملة الشيء ومعنى حقيقة الشيءِ، قتلَ

(117)

فلان نفسه، وأهْلك فلان نفسه، فليس معناه أن الِإهلاك وقع ببعضه، إِنما الِإهلاك وقع بذاته كلها، ووقع بحقيقته، ومعنى تعلم ما في نفسي، أي تعلم ما أضْمره، ولا أعلم ما في نفسك. لا أعلم ما في حقيقتك وما عندي علمه، فالتأويل أنك تعلم ما أعلم ولا أعلم ما تعلم، ويدل عليه: (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ). فإِنما هو راجع إِلى الفائدة في المعلوم والتوكيد أن الغيب لا يعلمه إلا اللَّه جلّ ثناؤه. * * * وقوله: (مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) (أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) جائز أن تَكُون في معنى " أي " مُفَسِّرةً، المعنى ما قلت لهم إِلا ما أمرتني به أي اعبدوا، ويجوز أن تكون " أن " في موضع جَر على البَدَل من الهاءِ، وتكون " أن " موصولة ب (اعبدوا الله) ومعناه إِلا مَا أمرْتَني بِهِ بأن يَعبدوا اللَّه. ويجوز أن يكونَ موضعها نصباً على البدل، من (ما). المعنى ما قلت لهم شيئاً إِلا أن اعبدوا اللَّه، أي ما ذكرت لهم إِلا عبادة اللَّه. * * * وقوله: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)). معنى قول عيسى - عليه السلام - (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ) اختلف أهل النظر في تفسير قول عيسى: (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ). فَقَال بعضُهم معناه إِن تغفر لَهُمْ كذِبَهُم عليَّ. وقالوا لا يجوز أن يقول عيسى عليه السلام: إِن الله يجوز أن يغفِرَ الكُفْرَ، وكأنه على هذا القول: إِن تغفر لهم الحكاية فقط، هذا قول أبي العباس محمد بن يزيد،

(119)

ولا أدري أشَيءٌ سَمِعَه أم اسْتَخْرجَه، والذي عندي واللَّه أعلم، أن عيسى قد علم أن منهم من آمن ومنهم من أقام على الكفر، فقال عيسى في جملتهم. (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ) أي إِن تعذبْ من كفر منهم. فإنهم عبادك وأنت العادلُ عليهم لأنك أوضحت لهم الحق وكفروا بعد وجوب الحجة عليهم، وَإنْ تَغْفِرْ لمن أقلعَ منهم وآمن فذلك تفضل منك لأنه قد كان لك ألا تَقْبلهم وألا تغفر لهم بعد عظيم فريتهم، وأنت في مغفرتك لهم عزيز لا يمتنع عليك ما تريد، " حكيم " في ذلك. وقال بعض الناس: جائز أن يكون اللَّه لم يُعْلمْ عِيسى أنَّه لَا يَغْفِرُ الشرك، وهذا قول لا يعرج عليه لأن قوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) لا يخص شيئاً من أمَّة محمد - صلى الله عليه وسلم - دون غيرها، لأن هذا خبر والخبر لا ينسخ، وهذا القول دار في المناظرة وليس شيئاً يعتقده أحد يوثق بعلمه. * * * وقوله: (قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) القراءَة برفع " اليوم " ونصب " اليوم " جميعاً، فأمَّا من رفع اليوم فعلى خبر هذا اليوم، قال الله اليوم ذو منفعة صدق الصادقين ومن نصب فعلى أن يوم منصوب على الظرف، المعنى قال اللَّه: هذا لعيسى في يوم ينفع الصادقين صدقهم، أي قال اللَّه هذا في يوم القيامة، ويجوز أن يكون قال الله هذه الأشياء وهذا الذي ذكرناه يقع في يوم ينفع الصادقين صدقهم، وزعم بعضهم أن (يوم) منصوب لأنه مضاف إِلى الفعل، وهو في موضع رفع بمنزله يومَئذ

مبني على الفتح في كل حال، وهذا عند البصريين خطأ، لا يجيزون هذا يومَ آتيك يريدون هذا يوم إِتيانك لأن آتيك فعلٌ مضارع، فالإِضافة إِليه لا تزيل الِإعراب عن جهته ولكنهم يجيزون ذلك يومَ نفعَ زيداً صِدْقه، لأن الفعل الماضي غيرُ مضارع، فهي إِضافة إلى غير متمكن وإِلى غير ما ضارع المتمكن، وفيها وجه ثالث. (هذا يومٌ يَنْفَعَ الصادقين) بتنوين " يوم " على إِضمار (هذا يوم ينفع - فيه الصادقين صدقهم)، ويكون كقوله: (وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا). ومثله قول الشاعر: وما الدَّهرُ إِلا تارتان فمنهما أموتُ. . . وأخرى أبتغي العَيْشَ أكدَحُ المعنى فمنهما تارة أموت فيها.

سورة الأنعام

سورة الأنعام بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قال أبو إِسحاق: بلغني مِنْ حَيث أثق بِه أن سورةَ الأنعام نزلتْ كلها جملة واحدة، نزل بها سبعون ألف ملك لهم زَجَل بالتسبيح، وأن أكثرها احتجاج على مشركي العرب. على من كذَب بالبعث والنشور، فابتدأ اللَّه عزَّ وجلَّ بحمده فقال: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) فذكر أعظم الأشياء المخلوقة لأن السماءَ بغير عمد ترونها والأرض غيرُ مائِدةٍ بنا، ثم ذكر الظلُماتِ والنورَ، وذكَر أمرَ الليل والنهار، وهو مما به قِوَامُ الخَلق، فأعلمَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ أن هذه خَلْق له، وأن خالقها لا شيءَ مثْلُه. وأعلم مع ذلك أن الذين كفروا بِرَبهِم يَعدِلونَ، أي يجعلون لِلَّهِ عَدِيلاً. فيعبدون الحجارة المَوَاتَ، وهم يُقرون أنَّ الله خَالِق مَا وَصف، ثم أعلمهم اللَّه عزَّ وجلَّ أنه خَلَقهم مِنْ طِين، وذكر في غَيرِ هذا المَوْضع أحوالَ المخلوقين في النُطَفِ والعَلَقِ والمُضَغِ المخَلَّقَةِ وَغَيرِ المخَلَّقَةِ، وذلك أن المشركين شَكوا في البعث وقالوا: (مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) فأعلمهم

(2)

عزَّ وجلَّ أن الذي أنَشَأهمْ وأنشأ العِظَامَ وخلق هذه الأشيَاءَ لَا مِنْ شَيءٍ قادرٌ على أن يخلقَ مِثلَهَا، - وهُويُحيِيهِمْ بَعدَ مَوتهِم، فقال عزَّ وجلَّ: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2) أي جعل لحياتكم أجلاً أي وَقْتاً تَحيون فيه. (وأجَلٌ مُسَمًى عنْدَه) يعني أمرَ الساعة والبعث، (ثُمَّ أنتم) بعد هذا البيان. (تَمتَرَوُنَ) أي تَشكونَ. * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3) " في " موصولة في المعنى بما يدل عليه اسم اللَّه، المعنى هو الخالق العالم بما يصلحُ به أمرُ السماءِ والأرضِ، المعنى هوَ المتفرد بالتدبِير في السَّمَاوَات والأرض، ولو قلت هو زيد في البيت والدار لم يجز إِلا أن يكون في الكلام دليلٌ على أن زَيداً يدبر أمر البيت والدار، فيكون المعنى هو المدَبِّر في الدارِ والبيتِ، ولو قلتَ هو المعتَضِد الخليفة في الشرق والغَربِ، أو قلت هو المعتَضِدُ في الشرق والغَربِ جَازَ على هذا. ويجوز أن يكون خَبَراً بعد خبرٍ كأنه قيل إِنه هو اللَّه، وهو في السَّمَاوَات وفي الأرض، ومثل هذا القول الأول - (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ) ويجوز أن يكون وهو الله في السَّمَاوَات وفي الأرض، أي هو المعبود فيهما، وهذا نحو القول الأَول. قوله عزَّ وجلَّ: (فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (5) دَل بهذا أنهم كانوا يستهزئُون، وقد ذَكر استهزاؤهم في غير هذا المكان، ومعنى إِتيانه أي تَأوِيله: المعنى سيعلَمُونَ ما يؤول إِليه استهزاؤُهم. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (6) وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)

(7)

موضع " كَم " نصب بـ "أهلكنا " إِلَّا أن هذا الاستفهامَ لا يَعمل فيه مَا قَبلَهُ وَقِيلَ القرنُ ثَمَانُون سنةً وقيل سَبعونَ، والذي يقع عندي - واللَّه أعلم - أن القرن أهلُ مُدةٍ كان فيها نبي أو كان فيها طبقة من أهل العلم. قَلَّت السنُونَ أو كثرت. والدليل على هذا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - خَيركم قَرْنِي، أي أصحَابِي، رحمة اللَّه عليهم ثمَ الذين يَلُونَهم يَعني التابعين، ثم الذين يلونهم يعني الذين أخذُوا عَن التَابِعين. وجائز أن يكون القرن لجملة الأمة وهؤُلاء قُرون فيها. وإِنما اشتقاق القرن من الاقتران، فتأويله أن القرن الذين كانوا مقْتَرِنِينَ في ذلك الوقت، والذين يأتون بعدهم ذوو اقتران آخر. وقوله عزَّ وجلَّ: (وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا). أي ذات غيث كثير، ومِفْعَال من أسماءَ المبالغة يقال دِيمَةُ مِدْرَار، إِذا كان مطرها غَزِيراً دائماً، وهذا كقولهم امرأة مِذْكار، إِذا كانت كثيرة الولادة للذكور، وَكَذَا مِئْنَاثٌ في الإناث. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أعلم الله عزَّ وجلَّ أنهم قد أصِلُوا في السَّيئ البَاطِل في دفع النبوة. لأنهم قد رَأوا القَمَر انشقً فأعرَضُوا، وقالوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ. وكذلك يقولون في كل ما يَعْجِزُ عنه المخلوقون سحر، هذا عين الدفع

(8)

لغاية الحق والنور الساطع المبين، فلو رَأوا الكتاب ينزل من السماءِ لقالوا سِحرْ كما أنهم قالوا في انشقاق القمر سحر. * * * (وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8) يعنون على النبي - صلى الله عليه وسلم -. (وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ). يعني - واللَّه أعلم - أن الآيات مما لا يَقَعُ مَعَهُ إِنْظَارْ. ومعنى (لَقُضِيَ الْأَمْرُ) أي لتم بإِهْلَاكِهِمْ. و" قُضِيَ " في اللغة على ضُروبٍ كَلَها يَرجِعُ إِلىٍ معنى انقطاع الشيءِ وتمامه، فمنه قوله تعالى: (ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) معناه ثُمَّ حَتَمَ بعد ذلك فأتمَّه، ومِنْه الأمر وهو قوله: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) معناه أمَرَ إِلا أنَّه أمر قَاطِع حَتْمٌ. ومنه الإعلَامُ وقوله: (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ) أي أعلمناهم إِعلاماً قاطعاً، ومنه القضاءُ الفَصلُ في الحُكْمِ، وهو قوله: (وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) ومثل ذلك قولك قَد قَضَى القَاضي بَينَ الخُصُوم، أي قد قطع بينهم في الحكم، ومن ذلك قد قضى فلان دَيْنَه، تأويله قطع ما لغريمه عليه فأدَّاه إِلَيه وَقَطع ما بَينَه وبَينَه. وكل ما أُحكِم فقد قُضِيَ، تقول قد قضيت هذا الثوب، وقد قضَيتُ هَذه الدارَ إِذا عَمِلْتُها وأحكمت عمَلها. قال أبو ذُؤَيب الهذلي: وعليهما مسرودتان قضاهما. . . داودُ أو صَنَع السَّوابغَ تبَّع

(9)

وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9) أي لو أرسلنا إِليهم مَلَكاً لم نرسله إِلا في صورة إِنْسَانٍ، لأن الملَكَ فيمَا قِيلَ لو نَظَرِ إِلَيه نَاظِر على هَيئَتِه لَصَعقِ، وكانت الملائكةُ تأتي الأنبِيَاءَ في صورَةِ الإنْس، فمن ذلك أن جِبرِيلَ كان يأتي النبي عليه السلام إذَا نَزَل بِالوَحيِ في صورة دِحْيَةَ الكَلْبِى ومنه نبأ الخَصْم إِذ تَسَوَّرُوا المِحْرابَ، لأنَّهُمَا ورَدَا على دَاودَ وهُما مَلَكانِ في صورَة رَجلَين يَخْتصِمَانِ إِليه. ومنه أنَّ الملائِكةَ أتتْ إبراهيم في صورة الضِّيفان وكذلك أتتْ لوطاً، فلذلك قيل: (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا). * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ). يقال لبَست الأمْرَ عَلَى القوم ألْبِسه إِذا شَبَّهتُه عَلَيهِم، وأشكَلْتُه عليهم. وكانوا هم يَلْبِسونَ عَلَى ضَعَفَتِهِمْ في أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيقولون: إِنما هذا بشر مثلكم فقال (ولو أنزلنا ملكاً) فرأوا هُمُ المَلَكَ رَجُلًا لكان يَلْحَقُهُمْ فيه من اللبس مثل ما لحق ضعفتهم منهم. * * * وقوله: (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (10) الحَيْقُ في اللغَةِ ما يشتمل على الإِنسان من مكروه فَعَلَهُ. ومنه قوله عزَّ وجلَّ: (وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ)، أي لا تَرجع عاقبةُ مَكْرُوهِهِ إِلَّا عليهم. ْوقوله عزَّ وجلَّ: (قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (12) اللَّه عزَّ وجلَّ تفضل على العباد بأن أمهَلَهُم عِنْدَ كفرهم وَإِقْدَامِهم على

(13)

كبائِر مَا نَهاهُم عَنْه بأن أنْظَرهُم وَعَمًرهم وَفَسَح لَهُم ليَتوبُوا، فذلك كَتْبُه الرحمةَ على نفسه، فأما (لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) فهو احتجاج على المشركين الذين دفعوا البعث، فقال عزَّ وجاق: (لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) أي: إِلى اليوم الذي أنكرتموه، كما تقول قد جمعت هُؤلاءِ إِلى هُؤلاءِ، أي ضممت بينهم في الجَمع. وقوله: (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ). ذكر الأخفش أن " الذين " بدل من الكاف والميم. المعنى ليجمعن هؤُلاءِ المشركين الذين خسروا أنفسهم إِلى هذا اليوم الذي يجحدونه ويكفرون به، والذي عندي أن قوله: (الذين خَسرُوا انفُسَهم). في موضع رفع على الابتداءِ، وخبره (فهم لا يومنون) لأن " لَيَجْمَعنَّكم " مشتمل على سائر الخلق. على الذين خسروا أنفسهم وَغَيْرِهم، وهذه اللام في ليجمعنَّكم لام قسم. فجائز أن يَكون تمامُ الكَلَامِ كَتَبَ ربكُمْ عَلَى نَفْسِه الرحمةَ، ثم استأنف فقال لَيَجْمَعنَّكم، وكأنَّ المعنى: واللَّه ليجمعنكم، وجائز أن - يكون ليجمعنكم بدلاً من الرحمة مُفَسِّراً لها، لأنه لما قال كتب ربكم على نفسه الرحمة فَسَّر ررحمته بأنه يُمْهلهم إِلى يوم القيامة، ويكون في الِإمهال ما فسرنا آنفاً * * * وقوله: (وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13) هذا أيضاً احتجاج على المشركين لأنهم لم يُنْكِرُوا أنَّ مَا استقر في الليل والنَّهَارِ لِلَّهِ، أي هو خالقه وَمُدَبِّره، فالذي هو كذلك قادر على إِحياءِ الموتى، ثم زَادَ في الاحتجاج والبيان فقال عزَّ وجلَّ: (قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14)

(16)

أي خالق السَّمَاوَات والأرض. فإن قال قائل فقوله: (إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ) معناه انشقت فكيف يكون الفَطْرُ في معنى الخَلْق والانفطار في معنى الانشقاق؛ فإِنهما يَرْجِعَان إِلى شِيءٍ واحد، لأن معنى فطرهما خَلقهما خلْقاً قاطعاً، - والانْفِطَار والفُطُورُ تقَطع وتشقق. وقوله: (وَهو يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ). وًيقْرَأ " ولا يَطْعَمُ "، والاختيار عند البصراء بالعربية، وهو يُطْعمُ وَلَا يَطعَمُ بفتح الياء في الثاني. قالوا معناه: وهو يرزق وُيطْعِم ولا يَأْكل لأنه الحي الذي ليس كمثله شيء، ومن قرأ (ولا يُطْعَمْ) فالمعنى أنه المولى الذي يَرْزُق وَلاَ يُرْزَقُ، كما أن بعض الْعَبيد يَرْزُق مولاه. والاختيار في " فاطِر " الجرُ لأنَّه مِن صفة الله جلَّ وعزَّ، والرفع والنصب جائزان على المدح لله جلَّ وعزَّ والثَّناءِ عليه. فمن رفع فعلى إِضمار هو. المعنى هو فاطر السَّمَاوَات والأرض، وهو يُطعِم ولا يُطعم، ومن نصب فعلى معنى اذكر، وأعني بهذا الاحتجاج عليهم، لأن من فطر السَّمَاوَات والأرض وأَنشأَ ما فيهما وأحكم - تدبيرهما وأطعم من فيهما فهو الذي ليس كمثله شيء. * * * وقوله: (مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16) أي من يَصْرِفْ اللَّهُ عنه العذاب يومئذ - يعني يوم القيامة الذي ذكر أنهم يجمعون فيه، وتُقْرأ أيضاً (من يُصرَف عَنْهُ يومئذ فقد رَحمِه)، أَي من يُصْرَف عنه العذابُ يومئذ. * * * وقوله: (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19)

(20)

والشاهد هو الْمُبَيِّن لدَعْوَى المدعِي، فأمر الله جَل ثنَاؤُه نبيه بأن يحتج عَلَيْهم باللَّه الواحِد الذي خلق السموات الأرض وخلق الظلمات والنور. وخلقهم أطواراً على ما بَين في كتابه، وأمر أن يعْلِمهم أن شهادة اللَّه بأنه واحد، وَإِقامة البراهين في توحيده أكبر شهادةً، وأن القرآن الذي أتى به يشهد له بأنه رسوله فقال: (قل اللَّهُ شهيدٌ بَيْني وَبَيْنَكمْ)، الذي اعترفتم بأنه خالق هذه الأشياء: (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ). ففي الِإنذار دليل على نبوته، لأنه لَمْ يَأت أحد بمثله، ولا يأتي بمثله لأن فيه أخبارَ الأمم السالفة، جاءَ بها عليه السلام. وهو أُمِّيٌّ لا يقرأ الكُتُبَ، وأنبأ بما سيكون، وكان ما أنبأ به حقًا، ثم قال: (واللَّه يَعْصمك من النَّاس) وكان - صلى الله عليه وسلم - مَعْصُوماً منهم. وقال: (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) فأظهر الله دين الإِسلام على سائر الأديان بالحجة القاطعة. وغَلَبَة المسلمين على أكثر أقطار الأرض وقال في إليهود. وكانوا في وقت مبعثه أعزَ قومٍ وأمتنه: (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ)، فَهُمْ أذلَّاءُ إِلى يوم القيامةِ. فأنبأ الله في القرآن بما كان وما يكون، وأتى به مؤَلَّفاً تأْلِيفاً لم يَقْدرْ أحد مِن العرب أن يأْتيَ بسورة مثله، وهو في الوقت الذي قيل لهم ليأْتوا بسورة من مثله، خُطَباءُ شعراءُ لم يكن عندهم أوْجَزَ من الكَلام المنثور. والموزون، فعجزوا عن ذلك. * * * وقوله: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) أي يَعرِفون محمداً - صلى الله عليه وسلم - أنَّه نَبي كما يَعرفُونَ أبنَاءَهُم، وُيروَى عن عمرَ بنِ الخطابِ أنهُ قال

(23)

لعَبد اللَّهِ بنِ سَلاَم: يا أبا حمزة: هل عرفت محمداً كما عرفت ابنك؟ قال نَعَم، لأن الله بعث أمِينه في سَمائه إِلى أمِينِه في أرضِه بِنعتِه فعرفْتُه، فأمّا ابني فما أدري ما أحدَثَتْ أُمُّه. فقال صدقت يا حمزة. وقوله: (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ). رفع على نعت (الذين آتيناهم الكتاب) وجائز أن يكون على الابتداءِ. ويكون (فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) خَبَره. والذين خسروا أنفسهم الأشبه أن يكون ههنا يعني بِه أهل الكتاب. وجائز أن - يكون يعني به جملة الكفار من أهل الكتاب وغَيرِهم. * * * وقوله: (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) إِنْ شِئْتَ نصبت " فِتْنَتَهم " على خَبرِ يَكنْ، ويكون أن قَالوا هو الاسم وأنث " تكن " وهو (إِلا أن قَالُوا) لأن " أن قالوا " ههنا هو الفتنة. ويجوز أن يكون تأويل " أن قَالوا " إِلا مَقَالَتُهم. ويجوز رفع الفتنة وتأْنيث " تكن " ويكون الخبر (أَنْ قَالُوا) والاسم (فِتْنَتُهُمْ). ويجوز ُ ثم لَم يَكًنْ فتنتَهُم إِلا أن قالوا، فتذكر " يكن " لأنه معلق ب (أَنْ قَالُوا)، ويجوز ثم لم يكن فتنتهم بالياءِ ورفع الفتنة، لأن الفتنة والافتتان في معنَى واحد. وتأويل هذه الآية تأْويل حسن في اللغة لطيف لا يفهمه إِلا من عرف معانيَ الكلام وتَصَرُّفَ العربِ فِي ذلك، واللَّه جلَّ وعزَّ ذَكَرَ في هذه

(25)

الأقاصِيصِ التِي جَرتْ في أمر المشْركِينَ وهم مُفْتَتِنُونَ بشِركِهِم. أعلم اللَّهُ أنه لم يكن افتتانهم بشركهم، وإِقَامتُهم عليه إِلا أن تَبرأوا مِنه وانْتَفَوا مِنْه، فَحَلَفُوا أنهم ما كانوا مشركين. وَمِثْلُ ذَلِكَ في اللغة أنْ ترى إِنْسَاناً يُحِب غَاوِياً، فإِذا وقع في هَلَكَةٍ تَبرأ منه، فتقول له ما كانت محبتك لفلان إِلا أن انْتَفَيتَ مِنْه. ويجوز (وَاللَّهِ رَبِّنَا) على جر (رَبِّنَا) على النعتِ والثناءِ لقوله (وَاللَّهِ). ويجوز (وَاللَّهِ رَبَّنَا) بنصب (رَبَّنَا)، ويكون النصب على وجهين، على الدعاءِ، قالوا واللَّه يا رَبِّنَا ما كنَا مشركين. ويجوز نصبه على أعني: المعنى أعني (رَبِّنَا). وأذْكر ربنا، ويجوز رفعه على إِضمار هو، ويكون مَرفُوعاً عَلَى المَدحِ. والقراءَةُ الْجَر والنَّصبُ، فأمَّا الرفع فلا أعلَمُ أحداً قرأ به. * * * وَقَوله: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25) (أَكِنَّةً) جمع كِنان وهو الغِطاءُ، مثل عِنَان وأعِنَّة. فأمَّا (أَنْ يَفْقَهُوهُ) فمنصوب على أنه مَفْعولٌ له، والمعنى وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً، لكراهة أن يفقهوه فلما حذفت اللام نصبت الكراهة، ولما حذفت الكراهة انتقل نصبها إِلى أنْ. وقوله: (وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا). الوقر: ثقل السمع وهو بالفتح، يقال في أذنه وَقْر، وقد وُقِرَتْ الأذن توقَر. قال الشاعر:

وَكَلامٍ سَيِّئ قد وقرت. . . أذُني منه وما بي مِنْ صَمَم والوِقْر - بكسر الواو - أن يحمل البعير أو غيره مقدار ما يطيق، يقال عليه وِقْرٌ، ونَخْلةٌ موقِرٌ وَموقرة بالكسر أكثر، وموقِر مِثْل مرضِع، أَي ذات وقْرِ، كما أن تلك ذات رَضاعٍ، وإِنما فعل بهم ذَلكَ مجازَاة لهم بإِقامتهم على كَفْرِهِم. وليس المعنى أنهم لم يَفْهَموه ولم يَسمَعوه، ولكنهم لَما عَدَلُوا عَنْه وصَرَفُوا فِكْرهم عَما هم علَيه، في سوءِ العاقبة كانوا بمنزلة من لم يعلم ولم يسمع. وقوله: (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا). أي: كل علامة تَدلهم على نبوتكَ، ثم أعلم الله عزَّ وجلَّ مقدارَ احتجاجِهِم وجَدَلِهم وأنهم إِنما يستعملون في الاحتجاج أن يقولوا هذا أساطير الأولين، ويقولون افترى على الله كذباً، فأعلمَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ أنهم ليس يعَارِضُونَ ما احتُج بِه عَلَيهم من الحق، حيث قيل لهم: (فَأْتوا بسورَةٍ مِن مِثلِهِ)، وحَيثُ شَق لهم القمرَ، وحيث أنزل على نبيه عليه السلام (واللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ). فما أتى أحدٌ بسورةٍ ولا قدَرَ على ضَر النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا على قَتْلِهِ، وأنبأ عزَّ وجلَّ بما سيكون في كتابِهِ فَوُجدَ ذلكَ أجمَعُ. فقال اللَّه عزَّ وجلَّ: (حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ). واحدها إِسطار، وأسطُورة. وتأْويل السَّطْر في اللغة أن تَجعَل شيئاً مُمتَدا

(26)

مَؤلفاً، فمن ذلك سَطرُ الكتاب، يقال: سَطرٌ وَسُطَر، فمن قال سطر جمعه أَسطار، قَال رُؤبةُ. إِني وأسطارٍ سُطِرنَ سَطْرَا. . . لقائلٌ يا نَصرُ نَصراً نَصْرَا وجمع أسْطَار أسَاطير، فعلى هذا - عِنْدي - أَساطير الأولينَ. ومن قال سَطَر. فجمعه أسطُر، وجمعُ الجمع أساطِرَة، وأساطير قال الشماخ في جمع سَطْر: كما خط عبرانية يمنية. . . بتيماءَ حبَر ثم عرَّض أسطرَا * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26) أي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنْ يُتَبعَ، وَينْأونَ عنه، أي يتَبَاعَدونَ عنه، يقال: نأيتُ عن الشيْءِ أنأَى نأْياً، إِذَا بَعُدت عنه، والنُّؤى حاجز يُجعَل حول البيت لَئِلا يَدخُلَهُ الماءُ من خَارِجٍ، تحفَر حَفِيرَة حولَ البَيتِ فيجْعَلُ تُرابُها على شَفِيرِ الحَفِيرةِ. فيمنَغ الترابً الماءَ أن يدخل من خارِجٍ، وهو مأْخوذ مِنَ النَأيِ أَي مباعِذ للماءِمن البيْتِ. وقال بعضهم: إِنه يعنى به بعض أَهل النبي - صلى الله عليه وسلم -، أي وهم ينهون عن أَذَى النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - ويَتَبَاعَدُونَ عَنْهُ، أَي لا يَتّبعُونَهُ. والكلامُ مُتصِل بذكر جَماعَةِ أَهل الكتاب، والمشركين.

(27)

والقول الأول أشْبَهُ بالمعنَى. * * * قوله: (وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) القراءَة - أكثر ها بالفتْح والتَفْخِيم، والِإمالة حسنة جَيدَةُ، وهي مذهب أبي عمرو. أعني كسر الألف من " النَّارِ "، وإِنما حَسُنَتْ الِإمالة في قوله (كمثل الحِمَارِ يحمل أسفاراً)، وأصحَاب النَّارِ، لأن الراءَ بعد الألف مكسورة، وهي، حرف كأنَّه مكَرر في اللسان، فصارت الكسرة فيه كالكسرتين. ومعنى (وُقِفُوا عَلَى النَّارِ) يحتمل ثلاثة أوجه - جائز أن يكونوا عَايَنُوها. وجائز أن يكونوا عليها وَهِيَ تَحتَهم، والأجود أن يكون معنى وقفوا على النار أُدخِلوها فَعَرَفوا مقدارَ عَذَابهَا، كما تقول في الكلام: قد وَقَفْتَ على ما عندَ فلانٍ، تريد قد فهمته وتَبَينْتَه. (فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ). أكثر القراءِ بالرفع في قوله: (وَلَا نُكَذِّبُ بِآيَاتِ رَبِّنَا)، ويكون المعنى أَنَّهم تمنوا الرد، وضمِنوا أنهم لا يُكَذِّبونَ. المعنى: يا ليتنا نرد، ونحن لاَ نكذب، بآيات ربنا رُدِدنا أم لم نرد، ونكونَ من المؤمنين، أي قَد عَايَنا وَشَاهَدنَا مَا لَا نكَذْب مَعَه أبداً. قال سيبويه مِثله دَعني ولا أعود، أي وأنا لا أعود تَركْتَنِي أو لم تَتْرُكْني. ويجوز الرفع على وجه آخر، على معنى يا ليتَنَا نرد، ويا ليتنا لا نكَذِّبَ بآيات رَبِّنَا، كأنَّهم تَمنَّوا الرد والتوفيق للتصديق، ونَكون منَ المؤمِنينَ الرفع والنصب أيضاً فيه جَائِزَانِ، فأمَّا النَصب فعلى يا ليتنا نرد وتكون يا ليتنا نرد ولا نكذب

(28)

على الجواب بالواو في التمني كما تقول ليتك تصير إِلينا ونكرمَكَ، المعنى لَيتَ مَصِيرَكَ يَقَعُ، وَإِكْرَامَنَا، ويكون المعنى: لَيتَ ردَّنا وقع وأن لا نُكذِّبَ. أي إِن رُدِدْنا لم نكذبْ. * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28) أي بل ظهر للذين اتَبَعُوا الغُوَاةَ ما كان الغواةُ يخفون عنهم من أمر البعث والنشُورِ. لأن المتصِلَ بهذا قولُه عزَّ وجلَّ: (وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ). فأنكروا البعث ليُجرَّئوا عنى المعاصي. (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ). قال بعضهم لَو رُدوا ولم يُعَايِنوا العَذَاب، لعَادُوا، كأنَّه يَذْهب إِلى أنهم لَم يُشَاهِدوا ما يضطرهم إِلى الارتِدَاع، وهذا - عَلَّهُ - بيّنٌ. لأن هذا القول منهم بعد أن بُعِثوا وعَلِمُوا أمرَ القِيَامَةِ وَعَايَنُوا النَّارَ، فالمعنى أن أكثر من عايَنَ مِنَ اليَهودِ والمشركين قَدْ عَلِمَ أن أمر اللَّهِ حَق فرَكَنَ إِلى الرفَاهِيةِ، وأن الشيء متأخر عنه إِلى أمدٍ كما فَعَل إِبليس الذي قد شاهد من بَراهين الله ما لا غاية بعده، فأعلم اللَّه عزَّ وجلَّ أنهم لَوْ رُدُّوا لعَادُوا لأنهم قَدْ كَفَرُوا بَعْدَ وُجُوبِ الحُجةِ عَلَيْهم. وقال بعض المفسرين: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل فقيل له: ما بال أهْل النار عملوا في عُمْرٍ قصيرٍ بعَمل أهل النار فَخُلِّدُوا في النارِ وأهلُ الجنة عملوا في عمر قصير بعمل أهل الجنَّةِ فخلدوا في الجنَّةِ، فقال: إِن الفريقين كان كل واحدٍ مِنهمَا على أنه لو عاش أبداً عَمِل بذلك العَمَل. * * * وقوله: (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31)

كل ما جاءَ فُجَاءَة فقد بَغَتَ، يقال قد بَغَتَهُ الأمر يَبْغَتُه بغْتاً وبَغتةً، إذَا أتاه فُجاءَةً. قال الشاعر: ولكنهم ماتوا ولم أخْشَ بغتةً. . . وأفْظَعُ شيء حين يَفْجَؤكَ البَغْت وقوله: (يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مافَرطْنَا فِيهَا). إِن قال قائل: ما معنى دُعَاءِ الحَسْرَةِ، وَهِيَ لاَ تعقل ولا تجيب؟ فالجواب عن ذلك أن العربَ إذا اجْتَهدتْ في الإخْبارِ عنْ عَظِيم تقع فيه جعلته نداءً، فلفظه لفظ ما ينبَّه، والمنبَّه غَيرُهُ. مثل قَوله عزَّ وجلَّ: (يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ). وقوله: (يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ) وقوله: (يَا وْيلنَا من بعثنا من مَرْقَدِنَا هَذَا). . فهذا أبلغ من أن تقول: أنا حَسِرٌ عَلَى العباد، وأبلغ من أن تقول: الحسرة علينا في تفريطنا. قال سيبويه: " إنَّكَ إذا قلت يا عجباه، فكأنك قلت احضُرْ وتعال يا عجبُ فإنه مِنْ أزمَانِكَ، وتأويل " يا حَسْرتَاهُ " انتَبهُوا على أننا قد خسرنا " وهذا مثله في الكلام في أنك أدْخَلْتَ عليه يا للتنبيه، وأنت تريد الناس قولك: لَا أريَنَّكَ هَهنَا، فلفظُك لفْظُ النَاهِي نفسه، ولكنه لمَا علم أن الِإنسان لا يحتاج أن يلفظ بنهي نَفْسِه دَخل المخَاطَبُ في النَهيِ فصار المعنى: لا تكونَنَّ ههنا،

(33)

فإِنك إِذَا كنْتَ رأيتُكَ، وكذلك يَا حَسْرتَنَا، قد علم أن الحسْرَةَ لا تُدْعَى، فوقع التنبيه للمخاطبين. ومعنى: (فَرطْنَا فِيها) قَدَّمْنَا العَجْزَ. وقوله: (وَهُمْ يَحْمِلُونَ أوزَارَهُمْ). أي يحملون ثِقل ذُنوبهم، وهذا مَثل. جائز أن يكون جُعِل ما ينالهم من العذاب بمنزلة أثقل ما يُحَمَّل، لأن الثقل قد يستعمل في الوِزْرِ، وفي الحال، فَتقُول في الحال قد ثقل على خطاب فلان، تأويله قد كَرهتُ خِطَابَه كراهةً اشْتَدت عَلَيَّ، فتأويل الوزر الثقل من هذه الجهة، واشتقاقه من الوزر، وهو الجَبَل الذي يَعْتَصِم بِه الملك والنبي، أي يُعينُه. ومنه قوله تعالى: (وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا). سأل مُوسَى رَبَّه أن يجعل أخاه وزيراً له. وكذلك قوله تعالى: (ألَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ). أي بِئس الشّيءُ شيئاً أي يَحْملونه، وقد فسرنا عمل نعم وبئس فيما مضى من الكتاب، وكذلك (سَاءَ مَثَلاً القوْمُ) أي: مثل القوم. * * * وقوله: (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) (لَا يُكَذِّبُونَكَ) ولا يُكْذِبُونك، ومعنى كذَبْتُه قُلت لَه كذبْتَ، ومَعْنى أكذبتُهُ ادعيت أن ما أتى به كذِب، وتفسير قوله: (لَا يُكَذِّبُونَكَ)، أي لا يَقْدِرُونَ أن يقولوا لك فيما أنْباتَ به مِما فِي كُتُبِهُمْ كذبت. ووجه آخر: إنهم لا يكذبونك بقلوبهم، أي يَعْلَمُون أنك صادق.

(34)

(وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ). لأنهم إِنما جحدوا براهين الله جلَّ وعزَّ وجائز أن يكون فإِنَّهم لا يُكذبونك، أي أنت عندهم صادق، لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يُسمَّى فيهم الأمين قبل الرسالة، ولكنهم جحدوا بألسنتهم ما تشهد قلوبهم يكذبهم فيه. ثم عَزَّى الله نبيه وصَبرهُ بأن أخبره أن الرسلَ قبلَه قد كَذبتهم أمم فقال: (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) أي إِذ قال الله لرسوله: (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)، وإِذ قال: (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) فَلا مبدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ أي لا يخلف الله وعده ولا يغلب أولياءَه أحَدٌ. ثم أعلم الله عزَّ وجلَّ رسُوله أنه يأتي من الآيات بما أحب، وأنه - صلى الله عليه وسلم - بشر لا يقدر على الِإتيان بآية إلا بما شاءَ الله من الآيات فقال: (وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35) أي إِن كان عَظمَ عليك أن أعْرضوا إِذ طَلبوا منك أنْ تُنزِّلَ عليهم ملَكاً. لأنهم قالوا: (لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَك) ثم أعلم اللَّه جلَّ وعزَّ أنهم لو نزلتْ عليهم الملائِكة وأتاهم عظيم من الآيات ما آمَنُوا. وقوله: (فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ).

والنفق الطريق النافذ في الأرض، والنافقاءُ ممدود أحَدُ جِحَرَةِ اليَرْبُوع يَخْرِقُهُ من باطن الأرْض إلى جلدَة الأرض فإِذا بَلَغَ الجلدة أرَقها حتى إن رابَة دَبِيب رفع برأسه هذا المكان وخرج منه. ومن هذا سُمِّيَ المنافق منافقاً، لأنه أبطن غير ما أظهر، كالنافقاءِ الذي ظاهرهُ غَيْرُ بَينٍ، وباطنه حَفْر في الأرْض. وقوله: (أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ). والسُّلَّم مشتق من السَّلامَةِ، وهو الشيءُ الذي يسلمك إِلى مصعدك. المعنى فإِن استطعت هذا فافعل، وليس في القرآن فَافعَل لأنه قد يحذف ما في الكلام دليل عليه، ومثل ذلك قولك: إن رأيت أن تمضي معنا إلى فلان. ولا تذكر فافعل. فأعلمَ اللَّهُ نبيه - صلى الله عليه وسلم - أنَّه لا يستطيع أن يأْتي بآية إلا بإِذن اللَّه. وإِعلامه النبي هذا هو إِعْلام الخلق أنهم إنما اقترحوا هم الآيات وأعلم الله جلَّ وعزَّ أنَّه قادر على أن يُنزلَ آية آية، وأنَّه لو أُنزلت الملائكة وكلمهم الموتى ما كانوا ليُؤمنوا إلا أن يشاء اللَّه. وقوله: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى). فيه غير قوْل، فأحدُها أنه لو شاءَ الله أن يَطْبَعَهُم عَلى الهدى لفعل ذلك، وقول آخر: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى) أي: لو شاءَ لأنْزَل عليهم آية تَضْطرهم إِلى الِإيمان كقوله جلَّ وعزَّ: (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4).

(36)

فإِنما أنْزَل الله الآيات التي يُفكر الناس مَعها، فيْؤجَرُ ذو البَصَر، ويثاب على الِإيمان بالآيات، ولو كانَتْ نَارٌ تنزل على من يكفر أو يُرْمَى بحَجَرِ من السَّماءِ لانَ كل واحد. * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36) أي الذين يسمعون سَماعَ قَابِلِينَ، وجَعَلَ من لم يَقْبَل بِمَنْزلَة الأصم. قال الشاعر: أصَمَّ عَمَّا سَاءَه سَميعُ (والمَوتَى يَبعَثُهم اللَّهُ). أي يحييهم (ثم إِليه يُرْجَعُون). * * * وقوله: (وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (37) (قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً) أي آية تجمعهم على الهُدَى. * * * وقوله: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) يجوز ولا طائر بالرفع على العطف على موضع دابَّة. التأْويل وما دابَّة في الأرض ولا طائر، والجر أجود وأكبر على معنى وما من دابة وَلاَ طَائرٍ. وقال (يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ) على جهة التوكيد لأنك قد تقول للرجل: طِرْ في حاجتي أي أسرع، وجميع ما خلق اللَّه عزَّ وجلَّ فليس يخلو من هاتين المنزلتين، إِما أنْ يَدِبَّ أَو يَطيرَ. (إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ). أَي: في الخلق والموت والبعث.

(40)

وقوله: (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) الساعة اسم للوقت الذي يُصْعَقُ فيه العباد، واسم للوقت الذي يُبْعَثُ فيه العباد، والمعنى إن أتتكم الساعة التي وُعِدْتُم فيها بالبَعْثِ والفناءِ، لأنَّ قبلَ البعث موتَ الخلق كله. * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (أغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ). أي أتدعون هذه الأصنَام والحجارةَ التي عبدتموها من دون اللَّه، فاحتج اللَّه عليهم بما لا يَدْفَعُونَه، لأنهم كانوا إذا مَسَّهُمُ الضر دعوا اللَّه. وقال النحويون في هذه الكاف التي في قوله: (أَرَأَيْتَكُمْ) غَيرَ قَولٍ: قال الفراء لفظها لفظ نصبٍ، وتأويلها تأْويل رفع، قال: ومثلها الكاف في قوله: دُونَك زيداً، قال: الكاف في موضع خفض، وتأويلها تأْويل الرفع، لأن المعنى خذ زيداً. وهذا لم يقله من تقدَّم من النحويين، وهو خطأٌ لأن قولك أرأيتكَ زيداً ما شأنُه! تصير " أرأيت " قد تعدت إلى الكاف وإِلى زيد. فيصير لـ " رأيتَ " اسمان، فيصير المعنى أرأيت نفسك زيداً ما حاله. وهذا محال. والذي يذهب إِليه النحويون الموثوقُ بعلمهم أن الكاف لا موضع لها. وإنما المعنى أرأيت زيداً ما حاله. وإِنما الكاف زيادة في بيان الخطاب. وهي المعتمد عليها في الخطاب، اعلم أنك تقول إِذا كانت الكاف زائدة للخطاب، للواحد الذكر: أرأيتكَ زيداً ما حَالُه بفتح التاءِ والكاف، وتقول للمؤَنث أرَأيتَكِ زيداً ما حاله يا امرأة، وتفتح على أصل خِطابِ الذكر، وتكسر الكاف لأنها قد صارت آخر ما في الكلمة والمبيّنة عن الخطاب، وتقول

(41)

للاثنين أرأيتَكُما زيداً مَا حَالُه وأرأيتَكُم زيداً ما حاله - للجماعة، فَتُوحد التاءُ، فكما وجب أن توحدَها في الشية والجمع وجب أن تذكرها مع المؤنث، فإذا سَألْتَ النسوة قلت أرَأيتَكُن زيداً ما حَالُه. وتثنية المؤنث كتثنية المذكر في كل شيء، فإنْ عديتَ الفاعِل إلى المفعول في هذا الباب، صارت الكاف مَفْعُولَه، تَقُولُ: رَأيتُنِي عالماً بِفُلاَنٍ، فإذا سألت عن هذا الشرطِ قُلْتَ للرجل: أرأيتَكَ عَالِماً بِفُلَانٍ، وتقول للاثنين على هذا: أرأيتاكما عالمين بفلانٍ. وللجميع أرأَيتموكم عَالِمينَ بفلان، لأن هذا في تأويل أرأيتم أنفُسَكم. وتقول للمرأة: أرأيتكِ عالمة بفلَانٍ - بكسر التاءِ والكاف - وتقول للاثنين أرأيتُما كما عالمين بفلان وللجماعة أرأيْتَكُن عالمات بفلان فعلى هذا قياس هذين البابين. * * * وقوله: (بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41) (بل) استدراك، وإيجاب بَعد نفي، تقول: مَا جَاءَ زَيدٌ بل عَمْرو فأعلمهم الله جلَّ وعزَّ أنهم لا يدعون في حال الشدائد إلا إياهُ، وفي ذلك أعظم الحجة عليهم، لأنهم قد عبدوا الأصنام. وقوله: (فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ). المعنى فيكشف الضر الذي من أجله دَعَوْتُمْ، وهذا على اتساع الكلام. مثل سَل القَريَةَ: المعنى سَلْ أهْلَ القرية. * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ). " وتنسون " ههنا على ضربين: جائز أن يكون تَنْسَوْنَ تَتْرُكُونَ، وجائز أن يكون المعنى إنكم في ترككم دعاءَهم بمنزلة من يَسْهُونَ.

(42)

وقوله: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) قِيلَ الباسَا " الجوع، والضراءُ النقص في الأموال والأنفس. والمعنى أن اللَّه جلَّ ثناؤه أعلم نبيَه - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قد أرْسَل الرسلَ قبله إلى قوم بلغوا من القسوة إلى أن أخِذوا بالشدة في أنْفسِهم وأمْوَالِهم ليخضعوا ويَذِلوا لأمْرِ اللَّه، لأنَّ القُلوبَ تخْشع. والنفوسَ تضْرَع عند ما يكون من أمر الله في البأساءِ والضراءِ. فَلَمْ تخْشَعْ ولم تَضْرَعْ. وقال: (لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ). ومعنى لعل ترج، وهذا الترجي للعباد، أخَذَهم اللَّه بذلك ليكونَ ما يَرجوه العباد منه بالتضرع، كما قال عزَّ وجلَّ في قصة فرعون: (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) قال سيبويه: المعنَى اذهبا على رجائكما، واللَّه عالم بما يكون وراءَ ذلك. * * * وقوله: (فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43) المعنى فهَلَّا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا. (وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ) أي أقاموا على كفرهم. * * * وقوله: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) أي فتحنا عليهم أبْوَابَ كل شَيْءٍ كان مغلقاً عليهم من الخير. (حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا). أي حتى إذا ظَنُّوا أنَّ كل مَا نَزلَ بهم لم يكن انْتِقَاماً مِنَ اللَّه جلَّ وعزَّ. وأنهم لَمَّا فُتحَ عليهم ظَنوا أن ذلك باسْتِحْقَاقِهِمْ (أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً). أي فاجأهم عذابُنَا من حيث لا يَشعرون.

(45)

وقوله جلَّ وعزَّ: (فإذا هم مُبْلِسُونَ). " المبلس " الشديد الحسرة، واليائس الحزين. * * * وقوله: (فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45) حَمِد الله عزَّ وجلَّ نفسه على أن قطع دَابِرَهُم، واسْتَأصل شأْفَتَهمْ. لأنه جلَّ وعزَّ أرسل إليهم الرسُلَ، وأنْظرَهمْ بَعْدَ كُفْرِهِم، وَأخَذَهُمْ بِالْبَأسَاءِ والضراء فبالغ جلَّ وعزَّ في إنْذَارِهِمْ وإمْهَالِهِمْ، فحَمِدَ نفْسَهُ، لأنه محمودٌ في إمْهَالِهِ مَنْ كفَرَ بِهِ وانتظارِه تَوْبَتَه. * * * وقوله: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) أي بسمعكم، ويكون ما عطف على السمع داخلًا في القصة إِذ كان معطوفاً على السمع. وقوله: (انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ). أي " يُعْرِضُونَ ". أعلم الله جلَّ وعزَّ أنَّه يُصَرفُ لهم الآيات، وهي العلامات التي تدل على توحيده، وصحة نبوة نَبِيهِ - صلى الله عليه وسلم - ثم هم يُعْرضون عما وضح لهم وظهر عندهم. * * * وقوله: (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47) الْبَغْتَةُ الْمفَاجَأة، والجهر أو يَأتِيَهِمْ وَهمْ يَرَوْنَه. (هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ).

(48)

أي هَلْ يُهْلَك اِلَأ أنْتُمْ ومَن أشبَهَكُمْ، لأنكم كفرتم مُعَانِدين، فقد علمتم أَنكم ظالمون. * * * وقوله: (وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) أي ليس إِرْسَالُهم بأن يأتوا الناس بما يَقْتَرِحُون عليهم من الآيات وإنَّمَا يأتون من الآيات بما يبَين الله به براهينهم، وإِنما قصدُهم التبشيرُ والِإنذارُ. * * * وقوله: (قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50) هذا متصل بقوله: (لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ). فأعلمهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لا يملك خزائِنَ الله التِي بِهَا يَرزُق وُيعْطِي، وأنه لا يعلم الْغَيْبَ فيخبِرَهُمْ بِمَا غَابَ عَنْه مِمَّا مضَى، وما سَيَكُونُ إلا بِوَحْيٍ من اللَّهِ جلَّ وعزَّ. (وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ). أي الْملَك يشاهِد من أمورِ الله عزَّ وجلَّ ما لا يشَاهِدهُ الْبشر، فأعْلَمهمْ أنه يتبعُ الوحْي فقال: (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ). أي ما أنْبأتكم به مِنْ غيبِ فيما مضى، وفيما سيكُون فهو بوحي من اللَّه، فَأمَّا الِإنْباءُ بِما مَضَى، فإخَبار بقصصٍ الأمَمِ السالِفةِ، والإخبَارُ بما سيكون كقوله: (غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ). فوجد من ذلك ما أنبأ به، ونحو قوله: (واللَّهُ يَعْصِمُكَ مِن النَّاسِ)

(51)

فاجتهدوا في قَتْله، فلم يَصِلُوا إِلَى ذلك. وقوله: (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) وما يُرْوى مِن الأخبَار عنه بما يَكُون أكثرُ من أن يُحْصَى. * * * وقوله: (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51) قوله: (وَأَنْذِرْ بِهِ)، أي بالقُرْآن، وإِنما ذكر الذين يخافون الحشر، دُونَ غَيْرهم وهو - صلى الله عليه وسلم - منذر جميع الْخلْقِ، لأن الًذِين يَخافُونَ الْحَشرَ الحجةُ عليهم أوجبُ، لأنهم أفهمُ بِالْميعاد. فهم أحَدُ رَجُلَيْنِ، إِمًا رَجلٌ مُسْلِم فيؤَدي حق اللَّهِ في إِسْلاَمِهِ، وإِما رَجُلُ مِنْ أهلِ الْكِتَابِ، فأهلُ الْكِتَابِ أجمعُونَ مُعْتَرِفُونَ بأن اللَّه جَل ثَنَاوه خَالِقهمْ، وَأنَّهمْ مَبْعوثون. وقوله: (لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ). لأن النصارى، واليهود ذكرت أنَّها أبناءُ اللَّه وأحِباؤُه، فأعلمَ اللَّهُ أنَّه لا ولي له إِلَّا المؤمنون، وأنَّ أهلَ الكُفْر ليسَ لهم عنْ دُون اللَّهِ ولي وَلَا شَفِيع. * * * وقوله: (وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52) كان قوم من المشركين أرادوا الحيلة على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا لوْ باعَدْت عَنك هَؤُلاءِ السفْلة والْعَبِيدَ لجَلَسَ إِليك الكبراءُ والأشْرَافُ. وكانوا عَنَوْا بالذين قَدرُوا أن يباعِدَهم النبي - صلى الله عليه وسلم - صُهَيْباً وخَبَّاباً، وعمَّار بنَ يَاسرٍ وسلمانَ الفارِسي وبلالاً. فأَعلم اللَّه عزَّ وجلََّ، أن أمْرَ الدِّين هو المقَدَّم، ونهاه أنْ يُبَاعِدَ هَؤُلَاءِ، وَأَعْلَمَهُ أنهم يُرِيدُون ما عند الله فَشهِدَ لهم بصحة النيات وأنهم مُخْلِصُونَ في ذلك للهِ، فقال: (يُرِيدُونَ وَجْههُ)، أي يُرِيدُونَ اللَّهَ ويقْصِدُونَ الطُرقَ التي أمرهم بقصدها وإِنما قَدرُوا بهذا أن يُبَاعِدَهُم فتكونَ لهم حُجة عَلَيْهِ. واللَّه قد أعلم

(53)

في قصة نوح إنَّه اتَبَعَ نُوحاً مَنْ كانَ عندهم مِن أرَاذِلهم، فقال: (قَالُوا أنومِنُ لَك واتبَعَكَ الأرْذَلُونَ)، وقالوا: (مَا نَرَاك اتبَعَكَ إلا الَّذِينَ هُمْ أرَاذِلُنَا). وقوله عزَّ وجل: (فتَكُونَْ مِنَ الظَّالِمِينَ). جوابُ (ولا تَطْردُ)، وقوله " فتطردَهم " جواب (مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ). * * * ومعنى: (وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53) أي اخْتَبَرْنا وَابْتَلَيْنا، (لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا). أَي ليكُونَ ذَلك آيةً أنَّهم اتبَعُوا الرسُولُ وصَبَرُوا عَلى الشدة، وهم في حال شديدة. * * * وقوله: (وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54) أي الذين يُصَدقُون بِحُجَجِنا، وبراهينَنَا (فَقُلْ سَلَام عَلَيْكُمْ). خلا سمعت أبا العباس محمد بن يزيد يذكر أن السلام في اللغة أربعة أشياء فمنها سَلَّمْتُ سَلاماً - مصدر سَلَّمْتُ، ومنها السلام جمع سلامة، ومنها السلام اسم من أسماءِ الله تعالى، ومنها السلامُ شجر، ومنه قوله: إِلَّا سلامٌ وَحَرْمَلُ. ومعنى السلام الذي هو مصدر سَلَّمْتُ، إنَّه دعاء للإِنْسَانِ أن يَسْلَم من

الآفات " في دينه ونفسه، وتأويلُه التخَلص. و"السلَامُ " اسمٌ من أسْمَاءِ اللَّه " تأويله - واللَّه واعلم - ذُو السلَامِ أي هو الذي يملك السلام الذي هو تخليص من المكروه، فأما السلامُ الشجَر فهو شَجَر عِظَامٌ قوِي أحْسَبُه سُميَ بِذلك لسلَامَتِهِ مِنَ الآفاتِ. والسِّلام الْحِجَارَةُ الصلْبَةُ سميت بذلك لسلامتها من الرخاوة، والصلْح يُسَمَّى السِّلْمَ والسَّلْم والسَّلَمَ، سمي بهذا لأن معناه السلامة مِنَ الشَر. والسَّلْم دَلْوٌ لَهَا عُرْوَة وَاحِدَة نحو دَلْوِ السَّقَائِينَ، سُميتْ الذَلْوُ سَلْماً لأنها أقَل عُرًى من سائر الدِّلاء فهِى أسلَمُهَا من الآفاتِ والسُّلَّمُ الذي يرتقى عليه سُمِّي بهذا لأنه يُسَلِّمُك إِلى حَيْث تريدُ، والسُّلَّمُ السبَبُ إلى الشَيءِ، سُمِّي بهذا لأنهُ يؤدي إِلَى غَيْرِهِ، كما يُؤَدي السُّلَّمُ الذي يُرْتَقَى عَلَيْهِ. * * * وقوله: (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ). بفتحهما جميعاً، ويجوز أن يكونَ " إنَّه - فإِنَّه " بكسرهما جميعاً ويجوز فتح الأولى وكسر الثانية، ويجوز كسر الأولى وفتح الثانية. فأما فتح الأولى والثانية فعلى أن موضع أن الأولى نصب. المعنى: كتب ربكم على نفسه الْمَغْفِرَةَ، وهي بَدَل مِنَ الرحْمَةِ. كأنَّه قال: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ وهي المغفرة للمذْنِبِينَ التائبين، لأن معنى إنَّه (غفورٌ رحيم) المغفرة منه. ويجوز أن تكون الثانية وقعت مَؤكدة للأولى، لأن المعنى: كتب ربكم أنه (غَفُورٌ رحيم) فلما طال الكلام أعيد ذكر إِنَّ. فأما كسرهما جميعاً فعلى مذهب الحكاية، كأنَّه لما قال (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) قال: (أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) بالكسر.

(55)

وجعلت الفاءُ جواباً للجزاءِ وكُسِرَتْ إِنَّ دخلت على ابتداءٍ وخبر، كأنك قلت فهو غفُورٌ رَحِيمٌ. إِلا أن الكلام بـ إِنَّ أوكدُ. وَمَنْ كسرَ الأولَى فعل ما ذكرنا من الحكاية، وَإِذا فتح الثانية مع كسر الأولى. لأن مَعناها المصدَرُ، والخبرُ محذُوفٌ. المعنى إِنه مَن عَمِل كذا وَكذا فمغفرةُ اللَّه له. ومن فتح الأولى وكسرَ الثانِيةَ فالمعنى رَاجعٌ إلى المَصْدَرِ. وكأنَكَ لَم تَذْكُر إن الثانية، المعنى كتب ربكم على نفسه أنه غفورٌ رَحِيمْ. ومعنى (كتب) أوجَبَ ذَلِكَ إيجاباً مَؤكَداً، وجائز أن يكون كتب ذلك في اللوح المحفوظ، وإِنما خوطب الخلقُ بما يعقلون، فهم يعقلون أن توكيد الشيء المؤَخر إِنما يحفظ بالكِتَابِ، ونحن نشرح ذلك في موضعه شرحاً أوكد من هذا إنْ شَاءَ اللَّهُ. ومعنى: يعملون السوءَ بجهالة، أي ليس بأنهم يجهلون أنه سُوء. لو أتى المسلم ما يجهل أنَّه سوءٌ لكان كمن لم يتعمد سوءاً، ولَم يُوقع سوءاً. وقولك عمل فلان كذا وكذا بجهالة يحتمل أمرين، فأحدُهما أنَّه عمله وهو جاهل بالمكروه فيه، أي لم يعرف أن فيه مكروهاً، والآخر أقدم عليه على بصيرة، وَعَلِمَ أن عاقبته مكروهة، قآثر العَاجِلَ فجعل جاهلًا، فإِنه آثر القليل على الراحة الكثيرة والعافية الدائمة. فهذا معنى: (مَنْ عَمِلَ مِنْكُم سُوءًا بِجَهَالَةٍ). * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55) يقرأ بالتاءِ والياءِ، فمن قرأ بالتاءِ فلان السبيل الطريق، وَهُو يُذكر ويَؤنْثُ، ويجوز وجه ثالث: ولتَستَبينَ سبيلَ المُجرِمِينَ - بنصب السبيل -، لأن المعنى ولتستبين أنت يا محمد سبيلَ المجرمين. فإِن قال قائل أفلم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - مُستبيناً سبِيلَ المجرمين؟ فالجواب في هذا أن جميع ما يخاطب به

(56)

المؤْمنون يخاطب به النبي - صلى الله عليه وسلم -. فكأنَّه قال ولتستبينوا المجرمين، أي لتَزْدَادُوا استِبَانَةً لها، ولم يحتج أن يَقُولَ ولتَستبين سبيل المؤْمنين مع ذكر سبيل المجرمين، لأن سبيل المجرمين إذا استبانت فقد بانت معها سبيل المؤمنين. وجائز أن يكون المعنى: ولتستبين سبيلُ المجرمين ولتستبين سبيلُ المؤْمنين. إلا أن الذكر والخطاب ههنا في ذكر المجرمين فَذُكِرُوا وتُرِكَ ذِكر سبيل المؤْمنين، لأن في الكلام دَليلاً عليها كما قال عزْ وجلَّ: (سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحَرَّ) ولم يقُلْ تقيكم البردَ، لأن الساترَ يَستُر منَ الحَرِ والبَردِ. ولكن جرى ذكر الحرِّ لأنهم كانوا في مكانهم أكثرَ مُعَانَاةً له مِن البرد. * * * وقوله: (قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) كانوا يعبدون الأصنام، وقالوا (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى). فأعلم اللَّه عزْ وجل أنه لا يُعبَدُ غَيرُه. وقوله: (قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ). أَي إنما عَبَدْتموهَا عَلى طَريقِ الهَوَى لا على طريق البيِّنَةِ والبُرهان. وقوله: (قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا). معنى إِذَن معنى الشرط، المعنى قَدْ ضَلَلتُ إِنْ عَبَدْتُها. وقوله: (وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ). أي وما أنا من النبيين الذين سلكوا طريق الهدى * * * وقوله: (قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57)

أي على أمرٍ بين، لا مُتبع هوًى. (وَكَذبتُمْ بِهِ) هذه الهاءُ كناية عن البيان، أي وكذبتم بالبيان، لأن البينة والبيان في معنى وَاحدٍ، ويكون " وكذبتم به " أي بما أتَيْتُكُمْ به. لأنه هو البيان. وقوله. (مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ). والذي استعجلوا به الآيات التي اقْتَرَحُوهَا عَلَيه. فأعلم - صلى الله عليه وسلم - أن ذلك عند الله، فقال: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ). هذه كتبت ههنا بغير ياء على اللفظ، لأن الياء أسقطت لالتقاء السَّاكنين كما كتبوا. . (سَنَدْعُ الزَّبَانِيَة) بغير واو. وقرئت: (يَقْضِ الْحَقَّ)، وقرأ ابن عباس (يقضي بالحق)، إلا أنَّ القُراءَ لا يقرأون (يقضي بالحق) لمخالفة المصحف. و (يقضي الحق) فيه وجهان: جائز أن يكون الحق صفة للمصدر، المعنى يَقْضِي القَضَاءَ الحق، ويجوز أن يكون يقضي الحق يَصنَع الحق، أي كل ما صنَعَه عزَّ وجلَّ فهو حق وحِكمة، إلا أن (وَهُوَخَير الفَاصِلين) يدل على معنى القضاءِ الذي هو الحكم، فأما قضى في معِنى صنع فمثله قول الهُذَلي. وعليهما مسرودتان قضاهما. . . داودُ أو صَنَع السَّوابغَ تبَّع

(59)

أي صنعهما داود، ومن قرأ (يَقُصُّ الْحَقَّ) فمعناه أن جميع ما أنبأ به وأمر به فهو من أقاصيص الحق. * * * وقوله: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59) معنى مفاتح الغيب، أي عنده الوصلةُ إلى علمِ الغَيْبِ، وكل مَا لاَ يُعْلمَ إذا اسْتُعلِمَ يقال فيه افتَحْ عَلى. قوله: (وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا). المعنى: أنه يَعْلَمُها سَاقِطَة وثَابتَةً، وأنْتَ تَقُول: مَا يجيئك أحد إلا وأنَا أعْرِفه، فليس معناه إلا وأنا أعرفه في حال مَجيئه فقط. ويجوز (وَلَا حَبَّةٍ) ويجوز (وَلَا حَبَّةٌ). فمن رفع فعلى ضربين، جائز أنْ يكونَ على معنى ما تسقط ورقَةٌ وَلاَ حبة في ظلماتِ الأرضِ ولا رَطب وَلَا يَابس (إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ). و (فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) هنا على معنيين يَتَصَرف، ويجوز أن يكون معنى (فِي كِتَاب مُبين) أن يكون اللَّه أثبت ذلك فى كتاب من قبل أن يُخْلَقَ كما قال: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا)، فأعلم أنه قد أثبت ما خلق من قبل خلقه. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60) أي يُنيمُكَمْ فيتوَفى نفوسَكم التي بها تميزون كما قال - عزَّ وجلَّ -: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا). ومعنى: (يَبْعَثكُمْ فِيه).

(61)

أي ينبهكم من نومكم فيه في النهار. (لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى). أي يَبْعَثكُمْ من نومكم إلى أنْ تَبلُغُوا أجَالكمْ. * * * وقوله: (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61) الحفظة الملائكة، واحِدهم حَافِظَ والجمع حَفَظَةَ. مثل كاتِبِ وَكَتَبَة. وفَاعِل وفَعَلَة. وقوله: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَاا). أي هؤلاءِ الحَفَظَةُ لِأنه قال: (وُيرْسِل عليكمْ حَفَظَةً). (وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ). أي لا يَغْفُلون ولا يَتَوانَوْنَ، ومعنى التفْريطِ في اللغَةِ، تقدمة العجز. فالمعنى أنهم لا يعجزون. * * * وقوله: (قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) يجوز في القراءَة يُنْجِيكم بالتخفيف. لقوله: (لَئِنْ أنْجيتنَا). و (لئن أنْجَانا) والأجود (يُنَجِّيكُمْ) بالتشْدِيد للكَثْرةِ. ومعنى (ظُلُماتِ البَر والبَحَرِ) شَدَائِد البَر والبَحْرِ، والعَرَبُ تَقول لِليومِ الذيْ تلقى فيه شِدةً يَوْم مُظْلِم، حتى إنهم يقولون يوم ذُو كواكب أي قد اشْتَدتْ ظُلْمَتُه حتى صَارَ كالليل. قِال الشاعر.

(65)

بني أسدٍ هل تعلمون بلاءَنا. . . إذا كان يوم ذو كواكب أشْهب وأنشدوا: فِدًى لبني ذُهْلِ بنِ شيبان ناقتي. . . إذا كان يوماً ذا كواكب أشنعَا فمعنء: (ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) شدائدهما. وقوله: (تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً). بالضم والكسر في (خُفُية)، والمعنى تدعونه مُظْهِرين الضراعةَ، وهي شدة الفَقْر إلى الشيءِ والحَاجة، وتدعُونَه خُفية أي تدعونه في أنفسكم تُضْمِرُون في فقركم وحاجاتكم إليه كما تضمرون. وقوله: (لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ). أي في أي شدة وقَعتَم قُلْتُم: لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ. فأمَر اللَّه عزَّ وجلَّ - أنْ يسألهم على جهة التوبيخ لهم والتقرير بأنه ينجيهم ثُمَّ هُمْ يُشركُون مَعه الأصنَامَ التي عَلِمُوا أنهَا مِن صَنْعَتِهِم، أنَّها لا تنفع ولا تضر، وأنه قادر على تعذيبهم فقال: (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65) نحو الحجارة التي أمْطَرَهَا على قومِ لُوط، ونحو الطوفان الذي غرقَ به قَومَ فِرعَوْن. (أوْ مِنْ تَحْتِ أرْجُلِكُم).

(66)

نحو الخسف الذي نال قارُون ومَن خسِف بِهِ. (أو يَلبِسَكُم شِيعَاً). معنى (يَلبِسَكم) يخلط أمرَكم خَلْطَ اضطراب، لا خلط اتفاق يقال لبَسْتُ الأمر ألْبِسُه لم أبينه، وخلطت بعضه بِبَعض ويقال: لبِستُ الثوبَ ألْبَسُه. ومعنى (شِيعاً) أي يجْعَلكم فِرَقاً، لا تكونون شيعة وَاحدةً فإِذا كنتم مختلفين قاتل بعضكم بعضاً، وهو معنى قوله (وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ). ويروى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأل اللَّه جلَّ وعزَّ ألَّا يَبْتَلِيَ هذه الأمة بعذاب يَستأصِلُها به، وَألَّا يُذيق بعضها بأسَ بَعض، فأجابَه في صرف العذاب، ولم يُجِبْهُ في ألا يذيق بعضها بأسَ بعض وأن لا تختلف. * * * (وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) أي إِنما أدعوكم إلى. اللَّه وإِلى شريعته، ولم أومَر بحربكم ولا أخذكم بالِإيمان كما يؤخذ الموكل بالشيءِ يُلزمُ بُلُوغ آخره. * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67) أي لأخذكم بالإيمان على جهةِ الحَرْب، واضْطِرَارِكم إِليهِ ومُقَاتلتكم عَليه، مُسْتقر، أي وَقْت. (وَسَوْفَ تَعْلَمُون). جائز أن يكون وعدهم بعذاب الآخرة، وجائز أن يكون وعدهم بالحربِ، وأخذهم بالإِيمان شاءُوا أو أبَوْا، إِلا أنْ يُعْطِيَ أهْل الكِتاب الجزية.

(69)

وقوله: (وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69) أي وما عليك أيها النبي وعلى المؤمنين من حسابهم أي من كفرهم. ومُخالفتِهم أمرَ اللَّهِ. (وَلَكِنْ ذِكْرَى). أي ولكن عليكم أن تُذكرُوهم. و (ذِكْرَى) يجوز أن يكون في موضع رفع ونصب، فمن نصب فالمعنى ولكن ذكرُوهم ذِكْرَى، ومن رفع فعلى وجهين، أحدُهما ولكن عليكم أن تُذَكرُوهم، كما قال: (إنْ عَلَيْكَ إلاَّ البلاغ). وجائز أن يكون: ولكن الذين تأمرون به ذكرى. (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ). أيْ لِتُرجَى مِنْهم التقْوى. * * * وقوله: (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70) معنى تبْسل - بِعَمَلِهَا تكون غير قادرة على التخلص، والمسْتَبْسِلُ المُسْتَسْلِمُ الذي يعلم أَنه لاَ يقدرُ عَلى التخلص. قال الشاعر: وَإبْسَالي بَنِيّ بغير جُرْم. . . بَعَونَاهُ وَلا بِدَم مُراقِ أي إسلامي إياهُم، وقيل (أَنْ تُبْسَل) تَرْهَنَ، والمعنى واحد ويقال أسدُ

(71)

باسِل، وشُجَاعٌ بَاسِل، وتأويلُه أن معه من الإقْدامِ ما يستبسل له قِرنُه. ويُقَالُ هذا بَسْل عَلَيْكَ أي حَرام عَليك فجائز أن يكون أسَدٌ بَاسِل من هذا، أي لا يُقْدَرُ عَلَيه، ويقال أعط الرافِيَ بسلَتَه، أي أجرَتَهُ، وإنما تأويله أنه عمل الشيءَ الذي قد استبسل صَاحِبُه مَعه. * * * وقوله: (قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71) (وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ) أي نرجع إلى الكفر، ويقال لكل من أدبَرَ قَدْ رَجَعَ إلى خلف ورَجَعَ القَهْقَرى. وقوله: (كالذِي استهْوَتْه الشيَاطِينُ فِي الأرضِ). أي كالذي زَينَتْ له الشياطِين هواه. وقوله (حَيرَانَ). منصوب على الحال، أي كالذي استهوته فِي حَالِ حَيرتِه. وقوله: (لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى). قيل في التفْسِيرِ يُعنى بهذا عبد الرحمن بن أبي بكر، (ائْتِنَا) أي تابِعنا في إيماننا. (وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ). أي يدعونه ويقولون له (أُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ). العرب تقول أمَرْتُك بأنْ تفعل، وأمَرتُك لِتفْعَل، وَأمَرْتُك بأنْ تَفْعَلَ، فمن قال أمَرتُك بأن تفعَل فالباءُ للإلصاق، المعنى وقع الأمر بهذا الفِعلِ. ومن قال أمَرتُك أنْ تفعل فعلى حذف الباءِ. ومن قال أمرتك لتفعَل فقد أخبر بالعِلَّةِ التي لها وقع الأمر. المعنى أمِرْنا للإسلام.

(72)

وقوله جلَّ وعزَّ: (وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) فيه وجهان أحدهما أن تكون أمرنا لأن نسلم ولأنْ نُقيم الصلاة ويجوز أن يكون محمولًا على المعنى، لأن المعنى أُمِرنا بالإسْلَامِ. وبإقامة الصلاة. ومَوضِع أن نصب، لأن الباء لما سقطت أَفْضى الفعل فنصب. وفيه وجه آخر، يجوز أن يكون محمولًاعلى قوله: (يَدْعُونه إلى الهُدى ائتِنا) (وأن أقيموالصلاة). أي ويدعونه أن أقيموا الصلاة. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73) (وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ). نصب " يومَ " على وَجهين، أحدهما على معنى واتقُوهُ وَيوْمَ يَقُولُ فيكون نسقاً على الهاءِ، كما قال عزَّ وجلَّ: (وَاتقُوا يوْماً لا تجزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْس شَيْئاً) والأجوَد أن يكون على معنى واذكر يقول كن فيكون، لأن بعده. . (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ). وفيه وجه ثالث وهو العطف على السَّمَاوَات والأرض. المعنى وهو الذي خلق السَّمَاوَات والأرض بالحق وخلق يوم يقول كن فيكون. فإن قال قائل: إن يوْم القِيَامَةِ لم يَأتِ بَعْدُ. فإن مَا أنبأنا اللَّه بكونه فحقيقته واقع لا محالة. وقوله: (كُنْ فَيكون). قال بعضهم: المخاطبة ههنا للصورِ المعنى ويوم يقول للصور كن فيكون، وما ذكر من الصور يدل عليه. وقيل إن قولُه (كُنْ) فيه أسماءُ جميع ما يخلق في ذلك الوقت المعنى:

" ويوْمَ يَقُولُ للشَيءِ كُن فيكونُ " وهذا ذكِرَ ليَدل على سرعة أمر البَعْثِ والساعة. كأنه قال: ويوم يقول للخلق مُوتوا فيموتُون وانْتُشِرُوا فينْتشِرُون. كأنه يَأمُر الحيَاة فتكون فيهم، والموت فيحلْ أولاً يفنى جميع الخلْقِ. وقيل (ويوم يقولُ كُنْ فَيَكُون) (قَوْلُهُ) أي يأمر فيقع أمْرُه، و (الْحَقُّ) من نعتِ (قَوْلُهُ) كما تقول: قد قلت فكانَ قولك، فالمعنى ليس أنك قلت فكان الكلام، إنما المعنى أنه كان ما دلَّ عليه القول. وعلى القول الأول قد رُفِعَ (قَوْلُهُ) بالابتداءِ و (الْحَقُّ) خبر الابتداءِ. وقوله: (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ). يجوز أن يكون نصب (يومَ) على (وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) مُبَيناً عن قوله: (وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ)، ويجوز أن يكون منصوباً بقوله (الحق). المعنى. و " قَوْله الحق يَوْمَ يُنفخُ في الصورِ ". فإِن قال قائل: للَّهِ الملك في كل وقت. فلم خُصَّ يَوْمُ القِيامة، وَيوم ينفخُ في الصورِ؟ فالجواب في هذا أنه في اليوم الذي لا يظهر فيه من أحدٍ نفع لأحدٍ ولا ضَر. كما قال: (والأمر يَوْمَئِذٍ للَّهِ) والأمر في كل وقت للَّهِ جلَّ وعزَّ. وقالوا في الصورِ قَولَيْن: قيل في التفسير: إن الصورَ اسم لقَرْنٍ يُنفخُ فِيهِ وقيل: الصور جمع صورة، وكلاهما جائز، وأثبتُها في الحديث والرواية أن الصور قرنٌ، والصور جمع صورة: أهل اللغة على هذا.

(74)

وقوله: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74) (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ) بالنصب والضم، فمن قرأ بالضم فعلى النداءِ، المعنى يا آزَر أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا. وليس بين النسَّابِيَنِ خِلاف أن اسم أبي إِبراهيم " تارِح " والذي في القرآن يَدُل على أن: اسمه آزرُ، وقيل آزرُ عندهم ذَمٌّ في لُغتِهم، كأنه: وَإذ قال إبراهيم لأبيهِ يا مخطئ أتتَخِذُ أصناماً. وَإذا كان كذلك فالاختيار الرفعُ. وجائز أن يكون وصفاً له، كأنه قال: وإذ قال إِبراهيمُ لأبِيهِ المخطئ. وقيل آزرُ اسمُ صنم، فإذا كان اسم صَنمٍ فموضعُه نصبٌ على إِضمار الفِعْلِ كأنه قال وإذ قال إبراهيم لأبيه أتتخِذُ آزرَ إلهاً؟ أتتخذ أصناماً آلهة؟. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) أي وَمِثلُ مَا وصَفْنا من قِصةِ إِبراهيم من قوله لأبيه ما قال نُرِيه ملكوت السَّمَاوَاتِ والأرضِ، أي القدرة التي تقوى بها دلالته على توحيد اللَّه جلَّ وعزَّ. وتقول في الكلام لِمن فعل بك خيراً أو شرا كذلك أجزيك. ومعنى قوله: (وَلِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ). أي نريه ملكوت السَّمَاوَات والأرض لما فعل، وليَثبُت على اليقين. والملكُوت بمنزلة الملك، إِلا أن الملكوت أبلغ في اللغة من الملك، لأن الواو والتاءَ تزادان للمبالغة، ومثل الملكوت الرغبُوت، والرهَبُوت. وَوَزْنه من الفعل فَعَلُوت وفي المثل رَهَبُوتي خَيْرْ مِنْ رَغبُوتي، وهذا كقولهم، أو فرقاً خيراً من حُبَّ، وَمن روَى رَهَبُوتي خيرٌ من رحموتي فمعنى صحيح. يحقق من اللسان أن تكون له هيبة ترهب بها خير من أن يُرْحَم.

(76)

وقوله جلَّ وعزَّ: (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) يقال جَنَّ عليه الليلُ وأجَنَّهِ الليلُ إِذا أظلمَ حَتى يَستتِر بظلمته ويقال لكل ما سَتَر قَدْ جَنَّ، وقد أجَن، ويقال جَنَّه الليلُ، ولكن الاختيار جَنَّ عليه الليل وأجَنَّه الليلُ. وقيل إِنَّ قومَ إبراهيم كانوا يعبدون الأصنامَ والشمسَ والقمرَ والكواكِبَ، فلما بلغ إبراهيم المبلغ الذي يجب معه النظر، وتجب به على العبد الحجة، نظر في الأشياءِ التي كان يَعبُدُها قومُه فلما رأى الكوكب الذي كانوا يعبدونه، قال لهم هَذَا رَبِّي أي فى زعمكم، كما قال الله جلَّ وعزَّ: (أيْنَ شركائي الذين كنتم تزعمون) فأضافهم إلى نفسه حكاية لقولهم. (فَلَمَّا أَفَلَ). أي فلما غاب، يقال أفَلَ النجمُ يأفِل وبَأفُلُ أُفُولًا، إذا غَابَ: (قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ). أي لا أحب من كانت حالته أن يطلع وَيسِير على هيئةٍ يُتبين معها أنه محدَث منتقل من مكان إلى مكان، كما يَفْعَلُ سائرُ الأشياءِ التي أجمعتم معي على أنها ليست بآلهة، أي لا أتخِذُ ما هذه حالُه إلهاً، كما أنكم لا تتخذون كل ما جرى مجرى هذا من سائر الأشياءِ آلِهة، ليس أنه جعل الحجة عليهم أنَّ ما غاب ليس بإِله، لأن السماءَ والأرض ظاهرتان غيرُ غائِبَتَيْنِ وليس يُدعَى فيهما هذه الدعْوَى. وإِنما أرادَ التبيِين لهم القريب، لأن غَيْبُوَبتهُ أقْربُ ما

(78)

الَناظرون به فيما يظهر لهم، كما قال: (فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ. وقد قيل إنه قال هذا وهو ينظر لِنفْسِه، فكأنه على هذا القول بمنزلة قوله: - (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى). وإبراهيم قد أنبأ اللَّهُ - عز وجل - عنه بقوله. (إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)، فلا شك أنه سلِيمٌ من أن يكون الشك دَخَلُه في أمر اللَّه. واللَّه أعلم. وجائز أن يكون على إضمار القول، كأنه قال: (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي)، كأنه قال: تَقُولُون هذا ربي، أى أنتم تقولون هذا رَبي، كما قال جلَّ وعزَّ: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا). المعنى يقولان تقبل منا. واللَّه أعلم بحقيقة هذا. والذي عندي في هذا القول أنه قال لهم: تقُولونَ هذا رَبي، أي هذا يُدَبرني، لأنه فيما يُرْوَى أنهم كانوا أصحاب نجوم، فاحتج عليهم بأن الذي تزعمون أنه مُدَبِّرٌ إنما يرى فيه أثر مُدَبَّر لا غير. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) (فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً). . (فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا). يقال قد بَزَغَ القمرُ إذا ابتدأ في الطلوع، وكذلك الشمس. والحجة في الشمس والقمر كالحجة في الكوكب.

(79)

واحتج الذين قالوا إنَّه قال (هَذَا رَبِّي) على وجه الظن والتفكُر بقوله: (لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ). وهذا لا يوجب ذلك. لأن الأنبياءَ تسأل اللَّه أن يثَبتَهَا على الهدى وتعلم أنه لولا هداية اللَّه ما اهتَدَتْ. وإبراهيم يقول: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ). * * * وقوله: (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا) أي مَائِلاً إلى الإسلام ميلاً لا رجوع مَعَهُ، والحنف أن يكون في القدم ميل، وهو أن تميل إِبهام القدم إِلى إِبهام القدم، فتقبل هذه القدم على هذِه القَدم، ويكون ذلك خِلْقَةً. والحنيف الصحيح الميل إلى الإسلام الثابت فيه. ومعنى (وَجَّهْتُ وَجْهِيَ) أي جعلت قصدي بعبادتي توحيدي اللَّه عزَّ وجلَّ. * * * وقوله جل وعلا: (وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) المعنى حَاجوه في اللَّه، فقال: (أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ). ومحاجَتهم إِياه كانت - واللَّه أعلم - فيما عبَدوا مع اللَّه عزَّ وجلَّ من الكواكب والشمس والقمر والأصنام، فقال: (أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ). أي في توحيد اللَّه. (وَقدْ هَدَانِي). وقد بين لي ما به اهتديت. (وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ). أي هذه الأشياء التي تعبدُونها لا تَضر ولا تنفع، ولا أخافها. (إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا).

(81)

إلا أن يشاءَ أن يعذبني بذَنْبٍ إن كان مني. وموضعُ (أنْ) نَصْبٌ، أي لا أخاف إلا مشيئة اللَّه. * * * (وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) أيٍ ولا تخافون أنتم شِرْكَكُمْ باللَّهِ ما لم يُنرلْ بِهِ عليكم سلطاناً، أي حُجة بَينَة. (فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ). أيْ أحَق بأن يأمَنَ من العذاب، المُوحِّد أمِ المُشْرك * * * وقوله: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) قالوا جائز أن يكون هذا قول اللَّه (أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ) غير حكاية عن إِبراهيم، وجائز أن يكون إبراهيم قال ذلك. * * * وقوله: وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) داود وصليمان نسق على نوح، كأنه قال: وهدينا داود وسليمان وجائز أن يكون من ذرية نوح، وجائز أن يكون من ذرية إبرَاهيمَ، لأن ذِكْرَهُما جميعاً قد جرى.، وأسماء الأنبياء التي جاءَت بعد قوله: (وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ) نسق على نوح، إلا أن الْيَسَع يُقَال فيه اللَّيْسَع واليَسعَ، بتشديد اللام وتخفيفها. * * * وقوله: (وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) أي هدينا هُؤلاءِ، وهدينا بعض آبَائهم وَإِخْوَانِهمْ. ومعنى قوله: (وَاجْتَبَيْناهُمْ). مثل اخترناهم، وهو مأخوذ من جبيت الماءَ في الحوْضِ إذا جمعته.

(89)

وقوله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89) (فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ). أي: الذين قد كفَروا، ويكفرون، مِمن أرسلت إِليه. (فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ). أي قد وَكَلْنا بالإيمان بها، وَقِيلَ في هذه ثلاثة أقْوال. قيل يعني بذلك الأنبياءَ الذين جرى ذكرهم آمنوا بما أتى به النبي - صلى الله عليه وسلم - في وقت مَبعثِهم، وقيل يعني به الملائكة. وقيل أيضاً يعني به مَنْ آمَنَ مِنْ أصحاب النبي وأتباعه. وهو واللَّه أعلم يعني به الأنبياءَ الذين تقدموا لقوله تبارك وتعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90) أي الأنبياء الذين ذكرناهُمُ الذين هدى اللَّه فبهداهم اقتده أي اصْبِرْ كَمَا صَبَرُوا، فإن قومهم قد كذبوهم فصبروا على ما كذبوا وَأُوذُوا، فاقْتَدِ بِهِمْ. وهذه الهاء التي في " اقتَدِهْ " إنما تثبت في الوقف، تبين بها كسرة الدال، فإن وَصَلْتَ قلتَ " اقتدِ " (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ). قال أبو إسحاق: والذي أختار من أثِق بعلمه أن يُوقَف عند هذه الهاء. وكذلك في قوله (فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20). وكذلك (لَمْ يَتَسَنَّهْ) وكذلك (وما أدْراكَ ما هيهْ) وقد بيَّنَّا ما في " يَتَسَنَّهْ " في سورة البقرة. وقوله: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91)

(92)

معناه ما عظَّموا اللَّه حق عَظَمَته إِذ جحدوا تنزيله، وذلك أن جماعة من اليهود - من منافقيهم - جاءُوا وهم يعاندون النبي - صلى الله عليه وسلم - يجادلونه ويصُدُّون عنه. وكان سِمَتُهم سِمَةَ الأحْبَارِ، وكانوا يتنعَّمُونَ ولا يتعبدونَ، فأعلمهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن - في التوراة أن الله جلَّ وعزَّ لا يحب الحَبْرَ السَّمِين، فجحدوا التوراة، وقالوا: (مَا أنزَلَ اللَّه عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ)، فقال الله عزَّ وجل: (قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا). يُظهرون ما يُحبون من ذلك ويُخفون كثيراً. (وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا). أي عُلِّمْتُمْ على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم - (مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ). يقال لكل من كان في عمل لا يجدي إِنما أنت لاعب. * * * وقوله: (وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92) (وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا). تقرأ بالتاء والياء جميعاً في لِتُنْذِرَ المعنى أنزلناه للبركة والإنذار. ومعنى أم القرى أي أهل أم القرى، و (مَنْ حَوْلَهَا) عطف عليهم. وأُمّ الْقُرَى مكة سميت أُمَّ الْقُرَى لأنها كانت أعظم القرى شأناً. * * * وقوله: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93) جاءَ في التفسير أنه يعني به مسيلمة، وَصَاحِبَ صَنْعَاءَ، لأنهما ادعيا النبوة.

(وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ). موضع " من " جر. المعنى: ومن أظلم ممن افترى ومن قال سَأنزِلُ مثل ما أنزل اللَّه، وهذا جواب لقولهم: لو نشاءُ لقلنا مِثلَ هَذَا. وقوله: (ولوْ ترىَ إِذْ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ المَوْتِ). جواب " لو " محذوف، المعنى: ولو ترى إذ الظالمون فِي غَمَرات المَوْتِ لرأيت عذاباً عظيماً، ويقال لكل من كان في شي كثير: قد غَمرَ فُلاناً ذلك، ويقال قد غمر فلَاناً الدَّيْن، تأويله: قد كثر فصار فيما يعلم بمنزلة ما يُبْصَر قَدْ غَمَرَ وَغطى من كثرتِه. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ). (أي) عليهم بالعذاب. ومعنى (أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ). فيه وجهان - الله أَعلم -. يقولون (أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ) فجائز أن يكون كما تقول للذي تعذبهُ لأزْهقَنَّ نفسك، ولأخرجَنَّ نَفْسك - فهم يقولون - واللَّه أعلم. (أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ) على هذا المعنى. وجائز أن يكون المعنى خلِّصُوا أنفسكم. أي لستم تقدرون على الخلاص. (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ). أي العذاب الذي يقع به العذاب الشديد.

(94)

وقوله تعالى: (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94) أمَّا معنى (فُرَادَى) فكل وَاحدٍ مُنْفَرِدٌ مِن شريكه في الغَيِّ وشَقِيقهِ. ومعنى: (كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ). جاءَ في التَفْسِير: عُرَاةً غُرْلًا، والغُرْلُ هُمُ الغُلْف. والذي تحتمله اللغة أيضاً. كما بدأناكم أول مَرةٍ، أي كان بعثكم كخلقكم. وقوله: (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ). الرفع أجود، ومعناه لقد تقطع وَصْلُكُم. والنصب جائز. المعنى: لقد تقطع ماكنتم فيه من الشركة بينكم. * * * وقوله: (إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) أي يشق الحبة اليابسة الميتة والنواة اليابسة فيُخْرِجُ مِنها ورقاً أخضَر. وهو معنى، (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ). أي يخرج النبات الغض الطرِيَّ الخَضِرَ من الحب اليابس. (وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ). ويخرج الحب اليابس من النَبات الحى النامي. احتج اللَّه جل ثناؤُه عليهم بما يُشَاهدُونَ من خَلْقِه لأنَّهم أنكرُوا البعث فأعلمهم أنه الذي خلق هذه الأشياءَ وأنه قادر على بعثهم. وقوله: (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ). أي فمن أين تصرفونَ عن الحق. * * * وقوله جلَّ وعزَّْ: (فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96)

(98)

مَعنى الإصباح والصبح وأحد، جائز أن يكون خالِقُ الإصباح وجائز أن يكون معناه شاق الصبح، وهو راجع إلى معنى خالق الصبع. وقوله: (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا). النصب في الشمس والقَمر هي القراءَة. والجر جائز على معنى وجاعل (الشمس والقمر حسباناً)، لأن في جاعل معنى جَعَلَ. وبه نصبتَ (سكناً) ولا يجوز جَاعِلُ الليلُ سكناً، لأن أسماءَ الفاعلين إذا كان الفعل قد رفع أضيفت إلى ما بعدها لَا غَيْر تقول هذا ضارِبَ زَيْدٍ أمْسِ. فإجماع النحويين أنه لا يجوز في زيد النصْب، وعلى ذلك أكثر الكوفيين، وبعض الكوفيين يجيز النصْبَ. فإذا قلت هذا مُعْطِي زَيْدٍ درهماً فنصب الدرْهَمَ محمول على أعطى. * * * وقوله: (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) الأكثر في القراءَة (مُسْتَقَرٌّ) بفتح القاف، وقد قرئت بكسرها و (مُسْتَوْدَعٌ) بالفتح لا غير. وأما رفع مستقر ومستودع فعلى معنى لكم مستقَرٌّ ولكم مستودعٌ. ومن قرأ بالكسر، فمستقر ومُسْتَوْدَع فعلى معنى فمنكم مستقر ومنكم مستودَع. وتأويل مستقر أي مستقر في الرحم ومستودَع أي منكم مستودع في أصلاب الرجال، وعلى هذا أيضاً فمستَقَر بفتح القاف، ومستودَعٌ. أي فلهم مستَقَر ولكم في الأصلاب مستودعٌ وجائز أن يكون فمستقِر - بالكسر - ومستودعَ أي: فمنكم مستقر في الأحياءِ ومنكم مستودعَ أي مستقر في الدنيا موجود، ومستودَع في الأصلاب لم يخلق بعْدُ. وجائز أن يكون

(99)

فمستقِرٌّ بالكسر، ومستودع فمنكم مستقر في الأحياءِ ومنكم مستودع في الثرى. وهذه الأقوال كلها قد قيلت واللَّه أعلم بحقيقة ذلك * * * وقوله: (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99) قال أهل اللغة أصل كلمة ماء ماه إلا أن الهمزة أبدلت من الهاءِ لِخفَاءِ الهاءِ، والدليل على ذلك قولهم أمواه في جمعه، ومياه، ويصَغر مُويه. قال الشاعر: سَقى اللهُ أَمْواهاً عَرَفْتُ مَكانَها. . . جُراباً وَمَلْكوماً وبَذَّرَ والْغَمْرا وقوله: (فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا) معنى خَضِر كمعنى أخْضَر، يقال اخْضر فهو أخضر وخضِر، مِثل أعوز فهو أعْوَر وعَوِر. وقوله: (وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ). (قِنْوَانٌ) جمع قِنْو مثل صِنْو وصِنْوَان، وإذا ثَنيتَ القِنْو فهما قِنْوانِ يا هذا بكسر النون، والقنْوُ العِذْق بكسر العين وهي الكباسة، والعَذْق النخلة. و (دَانِيَةٌ) أي قريبة المتناوَل، ولم يقل ومنها قنوان بعيدةٌ. لأن في الكلام دليلاً أن البعيدة السحيقة من النخل قد كانت غير سحيقة، واجتزِئ بذكر القريبة عن ذكر البعيدة، كما قال عزَّ وجلَّ: (سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) ولم يقل وسرابيل تقيكم البرد. لأن في الكلام دليلاً على أنها تقي البرد لأن ما يستر من الحر يستر من البرد.

وقوله: (وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ). عطف على قوله (خضِراً) أي فأخرجنا من الماءِ خَضراً وجَناب من أعناب والجنة البستان، وإنما سمي البستان جنة، وكل نبت متكاثف يستر بعضه بعضاً فهو جنة، وهو مشتق من جننت الشيءَ إذا سترته. ومن هذا قيل للترس مِجَن لأنه يستر. وقولى: (وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ). أي في الطعم وفيه مايشبه طعمُ بعضِه طعْمَ بَعْض. وَقرَنَ الزيتُونَ بالرمان لأنهما شجرتان تعرف العرب أن ورقهما يشتمل على الغصن من أوله إلى آخره. قال الشاعر: بورك الميت الغريب كما. . . بورك نَضْرُ الرمَّانِ والزيتون ومعناه أن البركة في ورقه واشتماله على عوده كله. وقوله: (انظُرُوا إلَى ثَمَرهِ). يقال ثمرة وثَمَرٌ وثمَارٌ، وثُمُر جمع ثِمارٍ، فمن قرأ إلى ثُمُره بالضم أراد جَمْعَ الجَمْعِ، وإن شئت قُلْت إلى ثمْره فخففت لثقل الضمةِ. (وَيَنْعِهِ). الينعُ النضْجُ، يقال يَنعَ الشجرُ وأينع إذا أدرك. قال الشاعر:

(100)

في قباب حول دَسْكَرَةٍ. . . حوْلَها الزيتون قدْ يَنعَا قال أبو عبيدة البيت ليزيد بن معاوية أو للأحوص. احتج اللَّه عليهم بتصريف ما خلق ونقْلِه من حال إلى حال، بما يعلمون أنه لا يقدر عليه المخلوقونَ، وأنه كذلك يبعثهم لأنهم كانوا يُنكِرُونَ البَعْثَ فقال لهم: (إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ). فأعلمهم أن فيما قص دليلاً لمن صَدَّق. * * * وقوله: (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100) المعنى أنهم أطاعوا الجنَ فيما سولت لهم من شِرْكِهِمْ. فَجَعَلُوهم شركاءَ للَّهِ عزَّ وجلَّ وكان بعضهم ينسب إلى الجن الأفعال التي لا تكونُ إلا لله عزَّ وجلَّ فقال: (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ). فالهاء والميم إن شئت كانت عائدة عليهم، أي فجعلوا للَّهِ الذي خلقهم شركاءَ لا يخلقون. وجائز إن تكون الهاءَ والميم تعودان على الجن، فيكون المعنى: وجعلوا للَّهِ شركاءَ الجن واللَّه خلق الجن. وكيف يكون الشريك لله المحدَثَ الذي لم يكُنْ ثُمَّ كَانَ. فأما نصب الجن فمن وجهين أحدهما أن يَكون الجن مفعولاً فيكون المعنى وجعلوا للَّهِ الجن شركاءَ، ويكون الشركاء مفعولًا ثانياً كما قال: (وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا). وجائز أن يكون الجن بَدَلًا من (شرَكَاءَ) ومفسراً للشركاءَ. وقوله: (وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ).

(101)

معنى خرقوا اختلقوا وَكَذَبوا، وذلك لأنهم زعموا أن الملائكة بنات الله، وزعمت النصارى أن المسيح ابنُ اللَّه، وذكرت إليهود أن عزيرَ ابنُ اللَّه، فأعلم جل ثناؤه أنهم اختلقوا ذلك بغير علم، أي لم يَذكُرُوه عَنْ عِلْم. وإنما ذكروه تَكذباً. وقوله: (سُبْحَانَه وَتَعَالَى). أي: براءَته من السوءِ، ومعنى سبحانه التبْرِئَة عَنْ كُل سُوءٍ، لا اختلاف بين أهل اللغة في معنى التسبيح أن التبرئة للَّهِ جلَّ وعزَّ. * * * وقوله: (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) أي هو خالق السَّمَاوَات والأرض. (أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ). أي من أين يكون له وَلَدٌ، والولد لا يكون إلا من صَاحِبَةٌ. (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ). فاحتج جلَّ وعزَّ في نَفْيِ الْوَلَد بأنه خَالق كُل شيء، فليس كمثله شيء. وكيف يكونُ الولدُ لمن لَا مِثْلَ لَه، فإِذا نسب إليه الولَدُ فَقَدْ جُعِلَ لَهُ مِثل. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103) أعلم عزَّ وجلَّ أنَّه يُدْرِك الأبصارَ، وفي هذا الإعْلَام دَليلُ أن خَلْقَهُ لا يُدْرِكُونَ الأبْصَارَ، أي لا يَعْرفونَ كيف حَقيقَةُ البَصَر، وما الشيء الذي صار به الِإنسان يُبْصرُ بعَيْنَيه دُونَ أنْ يُبْصِرَ من غيرهما من سائر أعضائه، فأعلم أنْ خَلْقاً مِنْ خَلْقِهِ لَا يُدْرِك المخلوقون كنهه، ولا يحيطون بعلمه، فكيف به عزَّ وجلَّ؟؟!!!

(104)

فالأبصار لا تحيط به (وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ). فأما ما جاءَ من الأخبار في الرؤية وصح عن رسول اللَّه فغير مدفوع. وليس في هذه الآية دَلِيلٌ عَلَى دفْعِه، لأن معنى هذه الآية معنى إدراك الشيء والإحاطة بحقيقته. وهذا مذهب أهل السنة والعِلْمِ والحديث. * * * وقوله: (قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104) أي قد جاءَكم القرآن الذي فيه البيانُ والبصائرُ. (فَمَنْ أبْصَرَ فَلِنَفْسِه). المعنى فلنفسه نَفْعُ ذَلِكَ. (وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيهَا). أي فَعَلَى نَفْسه ضَرَرُ ذلك، لأن اللَّه جل ثناؤُه غَنِي عن خَلْقِه. وقوله: (وَمَا أنَا عَليكم بِحَفِيظٍ). أي لستُ آخذُكم بالإيمان أخْذَ الحفيظ والوكيل، وهذا قبل الأمر بالقتال، فلما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقتال صار حفيظاً عليهم ومسيطراً على كل من تَوَلَّى. * * * وقوله: (وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105) أي وَمِثْلَ ما بيَّنَّا نُبَيِّن الآيَات. وموضعُ الكاف نَصبٌ. التي في أول كذلك. المعنى ونصرف الآيات في مثل ما صرفناهما فيما تُلِيَ عَلَيكَ. وقوله: (وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ). فيها خمسة أوجه، فالقراءَة دَرَستَ. بفتح الدال وفتح التاءِ ومعناه وليقولوا قرأت كتُبَ أهل الكتاب وتقرأ أيضاً دَارَسْتَ، أي ذاكرت أهل

(107)

الكتاب. وقال بعضهم: (وليقولوا دَرَسَتْ) أي هذه الأخبارَ التي تَتْلُوهَا عَلَينَا قديمة قد دَرَسَتْ، أي قد مضت وامَّحَتْ. وذكر الأخْفَشُ دَرُستْ بضم الراءِ ومعناها (دَرَسَتْ) إلا أن درُست بضم الراءِ أشد مبالغة، وحَكَى دُرِسَتْ بكسر الراءِ أي قرئت. وقوله: (وَلنُبيِّنَهُ لقَوم يَعلَمُون). إن قال قائل: إنما صُرفَت الآياتُ ليقولُوا دَرَسْتَ؟ فالجواب في هذا أن السبب الذي أدَّاهُمْ إلى أنْ يقُولُوا دَرَسَتَ هُوَ تلاوة الآيات. وهذه اللام يسميها أهل اللغة لام الصيرورة، وهذا كقوله تعالى: (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا) فهم لم يلتقطوه يطلبون بأخذه أن يعاديهم ولكن كانت عاقبة أمره أن صار لهم عدواً وحَزَناً. وكما تقول: كتب فلان هذا الكتاب لِحَتْفِهِ، فهو لم يقصد بالكتاب أن يُهْلِكَ نَفْسَه، ولكن العَاقِبَةَ كانت الهلاكَ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107) أي لو شاءَ اللَّه لجعلهم مؤمنين، وقيل لو شاءَ اللَّه لأنزل عليهم آية تَضْطَرهم إلى الإيمان، وقال بعضهم (لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا). أي لو شاءَ لاستأصلهم فقطع سبب شركهم. * * * وقوله: (وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108) نُهُوا في ذلك الوقت قبل القِتالِ أن يَلْعَنُوا الأصْنَامَ التي يَعْبُدهَا المشركُونَ.

(109)

(فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ). أي فَيسُبًّوا اللَّه ظلماً، وقال بعضهم فيسبوا اللَّه عُدُوَّا. وعَدُوَّا ههنا في معنى جماعة، كأنه قيل: فيسبوا اللَّه أعدَاءً. وعُدُوًّا منصوب في هذا القول على الحال. وعَدْواً منصوب على المصدَرِ على إرادة اللام، لأن المعنى فيعتدون عَدْوَاً، أييظلمون طلماً. ويكون بإرادة اللام أأي فيبسوا الله للظلم، وفيها وجه آخر. فيبسوا الله عُدواً - بضم الدال - وهو في معنى عُدُوا ويقال في الظلم عَدَا فلان عَدْواً وعُدُواً، وعُدُواناً، وعَدَاءً. أي ظلماً جاوز فيه القدْرَا. وقوله تعالى عزَّ وجلَّ: (كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ). فيه غير قول: أنه بمنزلة (طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ) فذلك تزيين أعمالهم. قال اللَّه عزَّ وجلَّ: (بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بكفْرِهم). وقال بعضهم: (زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ) أي زَيَّنَ لكل أمَّةٍ العَمل الذي هو فرض عليهم. والقول الأول أجوذ. لأنة بمنزلة (طَبَعَ الله عَلَى قُلوبهم). والدليل على ذلك، ونقض هذا قوله: (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ). * * * وقوله: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109) أي اجتهدوا في المبالغة فى اليمين. (لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا).

وإنما حلفوا على ما اقترحُوا هُمْ من الآيات، وإنما قالوا: (لَنْ نُومِنَ لكَ حَتَى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعاً) إلى قوله: (والملائكة قَبيلاً). أي تأتي بهم كفيلًا، أي يَكْفُلون. فأعلم اللَّه عزَّ وجلَّ أن الآيَاتِ عِنْدَ اللَّهِ. ويروى أن المؤمنين قالوا: لو أنْزِلَ عليهم آية لعلهم كانوا يؤمنون، فقال الله عزَّ وجلَّ: (قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ). أي وما يُدريكم، أي لَستُم تعلمون الغيبَ، فلا تدرون أنهم يؤمنون. كما تقول للرجل إذا قال لك: افْعَل بي كذا وكذا حتى أفْعَل كذا وكذا مما لا تعلم أنه يفعله لا محالة: ما يدريك. ثم استأنف فقال: (أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ). هذه هي القراءَة، وقرئت أيضاً (إِنَّها إذا جَاءَت لَا يؤمنون). وزعم سيبويه عن الخليل أن معناها لعلها إذا جاءَت لا يؤمنون، وهي قراءَة أهل المدينة، وقال الخليل: إنها كقولهم إِيت السوق أنك تشتري شيئاً، أي لعلك. وقد قال بعضهم إنها " أن " التِي على أصل الباب، وجعل " لا " لَغْواً. قال: والمعنى وما يُشْعِركم أنها إذا جاءَت يؤمِنُونَ، كما قال عزَّ وجلَّ: (وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (95).

(111)

والقول الأولُ أقوى وأجودُ في العربية والكسرُ أَحَسَنُها وأجودها. والذي ذكر أن " لا " لَغْوٌ غَالِطٌ، لأن ما كان لغواً لا يكون غير لغو. من قرأ: إنها إذا جاءَت - بكسر إنَّ - فالإِجماع أن " لا " غير لغو، فليس يجوز أن يكون معنى لفظةٍ مرةً النفي ومرة الإيجاب. وقد أجمعوا أن معنى أن ههنا إذا فتحت معنى لعل، والإجماع أولى بالِإتباع. وقد بينْتُ الحجة في دفع. ما قاله من زعم أن لا لغو. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111) هذا جواب قول المؤمنين: لعلهم يؤمنون. فأعلم اللَّه عزَّ وجلَّ أنهم لا يؤمنون، وهذا كإِعْلام نوح: (أنهُ لَنْ يُؤمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إلا مَنْ قَدْ آمَنَ). ومعنى (قُبُلًا) جمع قبيل، ومعناه الكفيل. ويكون المعنى: وحَشَرْنَا عَليْهِم كل شيء قبيلاً قبيلاً. ويجوز أن يكون قُبُلٌ جمعَ قبيل. ومعناه الكفيل. ويكون المعنى: لو حشرنا عليهم كل شيءٍ ونجعل لهم بصحة ما نقول ما كانوا ليؤمنوا، ويجوز أن يكون " قُبُلاً " في معنى ما يقابِلهم، أي لَوْ حَشَرْنَا عليهم كل شيء فقابَلهمْ. ويجوز وحشرنا عليهم كل شيء قِبَلًا أيْ عِيَاناً، ويجوز قُبْلاً على تخفيف قُبُل وكل ما كان على هذا المثال فتخفيفه جائز، نحو الصُّحف والصحْف والكُتب والكتْبُ، والرسُل والرسْل.

(112)

ومعنى (إلا أنْ يَشَاءَ اللَّهُ) أي إلا أنْ يَهْدِيَهُمْ اللَّه. وجائز أن يكون نُنَزِّلُ عليهم آية تضطرهم إلى الإيمَانِ. * * * وقوله: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) أي وكما جعلنا لك ولأُمَّتِك شياطين الجن والإنس أعداءً كذلك جَعَلْنَا لِمَنْ تَقَدَّمَكَ من الأنبياءِ وأمَمِهم. و (عَدُوًّا) في معنى أعداءِ. و (شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ) منصوب على البَدلِ مِنْ (عَدُوًّا). ومفَسِّراً له. ويجوز أن يكون (عَدُوًّا) مَنْصوباً على أنه مفعول ثان. المعنى وكذلك شياطين الجن والإنس أعداءِ للأنبياءِ وأممهم. (يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا). الزخرف في اللغة الزينة. والمعنى أن بعضهم. يزَيِّن لبعض الأعمالَ القبيحة. و (غُرُورًا) مَنْصوب على المصدَر، وهذا المصدرُ محمول على المعنى. لأن مبنى إيحاءِ الزخْرف من القول معنى الغرور. وكأنه قال يَغرونَ غُروراً. (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُة). أيْ لَوْ شَاءَ الله لَمَنَع الشيَاطِينَ من الوَسْوَسَةِ للإنْس والجِنِّ ولكن اللَّهَ يمتحن ما يعلم أنه الأبلغ في الحكمة والأجْزل في الثواب والأصْلَح للعبَادِ. * * * وقوله: (وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113) - معنى " لتَصغى " لتمِيلَ، أي وليَصِيرَ أمرهم إلى ذلك. ويجوز، وَلتَصْغَى إِليْهِ أفْئِدَة. يقال صَغَوْت أصْغَى مثل محوتُ أمْحى، وإِنما جاز أصغَى وكان ينبغي أن يكونَ أصْغو لموضع الغَيْن، لأنها تفتح هي وأخواتها. وهو أن يفعُل ويفْعِل

(116)

يصير معها في كثير من الكلام يفعَل نحو صبَغَ يصْبَغ وأصله يصبُغُ، وهو يقال ومِثْلُ ذهَبَ يذهبُ، كأنه كان يَذْهُب، ويقال صَغَيْتُ أصْغَى أيضاً، وأصغَيْتُ، أَصغَى شاذ، وأصْغَيْتُ أصْغِي جيِّدٌ بَالغ كثير وأفْئِدَة: جمع فؤاد، مثل غراب وأغربة. ومعنى: (وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ). جائز أن يكون وليعملوا ما هم عاملون من الذنوب، يقال قد اقترف فلان ذنباً، أي قد عمل ذنباً. ويجوز " ولْيقْتَرفُوا " أي ليخْتَلِقُوا ولْيَكْذِبُوا، وهذه لاَم أنْ، المعنى ولأن يَرْضَوْه ولْيَقْتَرِفُوا على أن اللام لامُ أمر ومعناه معنى التهدُّدِ والوعيدِ، كما تقول افْعَل ما شئت، فلفظه لفظ الأمر ومعناه معنى التهدُّدِ. * * * وقوله: (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116) أعْلَمَ اللَّه عزَّ وجلَّ - أن أكثرهم من الذين اتبعوا أكابِرَهم لَيْس عند أنفسهم أنهم على بصائر، وأنهم إِنما يَظُنون، ومنهم من عانَدَ، ومن يعلم أن النبي حق. فإن قال قائل: كيف يعذبُون وهم ظانون، وهل يجوز أن يعَذَبَ من كفر وهو ظَانٌّ، ومَن لم يكفر وهو على يقين؟ فالجواب في هذا أن اللَّه جل ثناؤُه قد ذكر أنَّه يعذَبُ على الظَنِّ. وذلك قوله: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27). والحجة

(117)

في هذا أنهم عُذَبُوا عَلى هذا الظن، لأنهم اتبعوا أهْواءَهم وتركوا التماس البصيرة من حيث يجب واقتصروا على الظن والجهل. * * * وقوله: (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117) موضعا مَنْ " رفع بالابتداءِ، ولفظها. لفظ الاستفهام. المعنى: إن ربك هو أعلم أي الناس يَضِل عن سبيله، وهذا مثل قوله: (لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12). * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) معناه كلوا مما أخْلَصْتم ذبحه للَّهِ، والمنْعُ من الميْتَةِ دَاخِل في هذا. وليس بين الناس اختلاف في أن المشركين ناظروا المسلمين، فقالوا لهم: تتركون ما سبقكم الله إلى إماتَتِه وتأكلون ما أمَتُّم أنْتمْ فأعلم جلَّ وعزَّْ أن الميتةَ حرام وأن ما قصِدَ بتَزكِيته اتَبَاعُ أمْرِ اللَّه عزَّ وجلَّ فذلك الحَلال. فقال: (وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) وَمَوْضِغ (أنْ) نَصْبٌ لأن " في " سقطت فَوَصَل المَعْنَى إلى (أنْ) فَنَصَبَها. المعنى أي شيءٍ يقع لكم في أن لا تأكلوا. وسيبويه يجيز أنْ يكونَ موضع (أنْ) جرا وإِن سَقَطتَ " في "، والنصْب عنده أجود. - قال أبو إسحاق: ولا اختلافَ بين الناسِ في أن الموضع نصْبٌ. (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ). وحُرمَ جميعاً، أي فصل لكم الحلالَ مِن الحرامِ، وأحَلَّ لكمْ في الاضطرار ما حَرَّمَ عليكم.

(120)

فموضع (ما) نصب في قوله: (إلا مَا اضْطرِرْتمْ إلَيْه). ومعنى ما اضْطُرِرْتم دعَتْكمُ شِدة الضرورَةِ، أي شِدة المَجَاعةِ إلى أكله. (وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ). أي إن الذين يُحِلُّون المَيْتة ويُناظِرونكم في إحلالها، وكذلك كل ما يضلونَ فيه، إنما يتبعون فيه الهوى والشهوة ولا بَصِيرةَ ولا علمَ عندهم. * * * وقوله: (وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120) جاءَ في التفسير أن ظاهرهُ الزنَا، وباطنه اتخاذ الأخدان والأصدقاء على جهة الريبة. والذي يدُل عليه الكلام أن المعنى - واللَّه أعلم - اتركرا الإثم - ظَهراً، أو بَطْناً، أي لا تقربوا ما حرَّم اللَّه عليكم جَهْراً ولا سِرًّا. * * * وقوله: جلَّ وعزَّ: (وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121) أي مِما لَمْ يُخْلَصْ ذبْحُه للَّهِ عزَّ وجلَّ. (وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) ومعنى الفِسْق الخروجُ عن الحق والدِّين، يقال فسقت الرطبة، إذا خرجت عن قشرتها. (وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ). أي يُوَسوِسُ الشيطانُ لوَليِّه فَيُلْقي في قلبه الجدال بالباطِل، وهو ما وصفنا من أن المُشْركين جادلوا المسلمين في الميتة. - (وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ). هذه الآية فيها دليل أنَّ كل مَنْ أحَلَّ شيئاً مما حرمَ الله عليه أوحرَّم شيئاً مما أحلَّ الله له فهو مُشرِكٌ. لو أحلَّ مُحِل الميتة في غير اضطرار، أو أحل الزنا لَكان مُشركاً بإِجماع الأمَّةِ، وإن أطاع اللَّه في جميع ما أمر به، وإنما سُمِّي مُشْرِكاً لأنه اتبع غير اللَّه، فأشرك باللَّه غيره،

(122)

وقوله: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122) جاءَ في التفسير أنه يعني به النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو جهل بن هشام فالنبي - صلى الله عليه وسلم - هُدِيَ وأعْطِيَ نُورَ الإسْلامِ والنُبوةَ والحكمَةَ، وأبو جهل في ظلمات الكفر. ويجوز أنْ تكون هذه الآية عامةً لكل من هداه الله ولكل من أضَلَّه اللَّهُ. فأعلم اللَّهَ جلَّ وعزَّ أن مَثَل المهْتدِي مَثَلُ الميتِ الذي أُحْييَ وجُعِلَ مستضيئاً يمشي في الناس بنور الحكمة والإيمان، ومثل الكافر مثل من هو في الظلمات لا يتخلص منها. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123) موضع الكاف نصب معطوفة على ما قبلها، وهو قوله: (كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) المعنى مثل ذلك الذي قصصنا عليك زُيَِّنَ لِلْكَافِرينَ عملُهم. (وكذلك جعلنا) أي ومثلَ ذلك (جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا)، لأن الأكابر ما هم فيه من الرياسة والسَّعةِ أدعى لهم إلى المكر والكفر، والدليل على ذلك قوله: (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرزْقَ لعبادِهِ لبغَوْا في الأرْضِ) وقوله: (وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ). ومعنى: (وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ). أي ذلك المكر يحيق بهمْ، لأنهم بمكرهم يُعَذَبُونَ. * * * وقوله: (وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124) هذه الهاءُ والميم تعودان على الأكابر الذين جَرَى ذِكْرُهُمْ لأنهم

(125)

قالوا: لَن نُؤمِنَ حتى نُعْطَى منَ الآيَاتِ مثل ما أعْطِيَ الأنْبياء وأعلم اللَّهٌ عزَّ وجلَّ أنه أعلم من يصلح، فقال جلَّ وعزَّ: (وَلَقَدْ اخْتَرنَاهُمْ عَلَى عِلْم عَلَى العَاَلمِينَ). وقوله: (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ). أي هو أعلم بمَن يخْتَصُّ للرسالة. وقال بعضهم لا يبلغ في تصديق الرسل إلا أن يكونوا قبل مَبعثهم مُطَاعِين في قَوْمِهِمْ، لأن الطعن كان يتسع عَلَيْهم، ويقال إنما كانوا أكابرَ ورؤَساءَ فاتبِعُوا. (سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ). أي هم وِإن كانوا أكابرَ في الدنيا سيصيبُهم صغارٌ عِنْد اللَّه أي مَذَلَّة. و" عِند " متصلة بِـ (سيُصِيبُهم) عند اللَّه صغار. وجائز أن تكون " عند " متصلة بصغار فيكون المعنى سيصيب الذين أجْرَمُوا صَغَارٌ ثابت لهم عند، للَّهِ. ولا تصلح أن تكونَ " من " محذوفة من (عِنْدَ) إنما المحذوف (في) من (عند) في المعنى إذا قلت: زيد عند عمروٍ والمعنى زيد في حضرة عمرو. * * * (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125) يروى عن ابن مسعودٍ أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -: وهَل ينشرح الصدر؟ فقال نعم، يدخل الْقَلْبَ النورُ، فقال ابن مسعودٍ: هل لذلك من علم؟ قال نعم، التجافي عن دَارِ الغُرُورِ، والإنابة إِلى دار الخلود والاستعداد للموت قبل الموت.

(127)

(وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا) يُروى عن ابن عباس أنه قال: الْحَرَج موضع الشجر الملتف، فكان قلبَ الكافرَ لا تَصِلُ إِليه الحكمة. كما لا تصل الراعية إلى الموضع الذي يلتف فيه الشجر. وأهل اللغة أيضاً يقولونه: الشجر الملتف يقال له ألْحَرَج. والحرج في اللغة أضيق الضيق والذي قال ابن عباس صحيح حَسَنٌ. فالمعنى عند أهل اللغة إنَّه ضيق جدًّا. ويجوز حَرِجاً - بكسر الراءِ - فمن قال حَرِج فهو بمنزلة قولهم: رجل دَنِفٌ، لأن قولك دَنَف ههنا وَحَرَج ليس من أسماءِ الفاعلين. إِنما هو بمنزلة قولهم: رَخلٌ عَدْل أي ذو عَدْل. وقوله: (كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ). وَيصَّاعَدُ أيضاً، وأصله يَتَصَاعَدُ ويَتَصَعَّدُ، إِلَّا أنَّ التَاءَ تدغم في الصًاد لقربها منها. ومعنى كأنما يصَّعَّد في السماءِ - واللَّه أعلم - كأنه قد كلف أن يَصْعَد إِلى السماءِ إذَا دُعِيَ إلى الِإسلام مِنْ ضِيق صَدْرِهِ عنه. ويجوز أن يكون - واللَّه أعلم - كأنَّ قلبه يصعد في السماءِ نبُوًّا على الِإسلام واستماع الحكمة. (كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ). أي مثل قصصنا عليك يجعل الله الرجس على الذين لا يُؤمنون. وَالرَجْسُ اللعنةُ في الدنيا والعذابُ في الآخرة. وقوله جلَّ وعزّ: (لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (127)

(128)

أي للمؤْمنين دار السلام، وقال بعضهم: السلام اسم من أسماءِ اللَّه. ودليله: (السَّلاَمُ الْمُومِنُ الْمُهَيْمِنُ). ويجوز أن تكون سميت الجنة دار السلام لأنها دارُ السَلامة الدائمة التي لا تنقطع. * * * وقوله: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128) المعنى - واللَّه أعلم - فيقال لهم: (يَا مَعْشَر الْجِنَ قَدْ اسْتَكثَرْتُمْ مِنَ الِإنْسَ). المعنى قد استكثرتم ممن أضللتموهم من الإنس. (وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ). جاءَ في التفسير أن استمتاع الِإنس بالْجِن أن الرجُلَ كان إذا سافر سفراً فخاف أو أصابَ صيداً، قال أعوذُ بِرَبِّ هذا الوادي، وبصاحب هذا الوادي يعني به الجِنَّ، واستمتاعُ الجِنِّ بالِإنس أنَّ الِإنْسِي قد اعترف له بأنَّه يقدر أن يدفع عنه. والذي يدل عليه اللفظ - واللَّه أعلم - هو قبول الإنس من الجن ما كانوا يُغْوُونهم به لِقَوْله: (اسْتَكْثَرْتُم مِنَ الِإنْسِ). فأما من كان يقول هذا أعني يستعيذ بالجنِّ فقليل. (قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ). الْمَثْوَى الْمُقَامُ. (خَالِدِينَ فِيهَا). منصوب على الحال، المعنى: النار مُقَامُكم في حال خُلُودٍ دائم. وقوله: (إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ). معنى الاستثناء عندي ههنا - واللَّه أعلم - إِنَّمَا هو من يوم القيامة، لأن

(130)

قوله: (وًيوْمَ يَحْشَرُهُمْ جَمِيعاً) هو يوم القيامة، فقال خالدين فيها مُذ يُبعثون إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ مِن مِقْدَارِ حَشْرِهِمْ من قبورِهم، ومقدارِ مدَّتِهم في محاسبتهم، وجائز أن يكون إلا ما شاءَ الله أن يعذبهم به من أصناف العذاب، كما قال جلَّ وعزَّ: (لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ). فيجوز واللَّه أعلم إلا ما شاءَ ربك من مقدار حشرهم ومحاسبتهم ويجوز أن يكون إلا ما شاءَ ربك مما يزيدهم من العذاب. وقوله: (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ). أي هو حكيم فيما جعله من جزائهم، وحكيم في غيره. * * * وقوله: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130) فقال: (رُسُلٌ مِنْكُمْ) وإِنما المرسل من الِإنس دون الجن، فإِنما جاز ذلك لأن الجماعة تعقل وتخاطب، فالرسل: هم بعض من يعقل. وهذا كقوله: عزَّ وجلَّ: (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ). وَإنَّمَا يخرجُ ذَلك مِنَ الْمِلْح. أي البحر الذي ليس بعذبٍ، فقال منهما لأن ذكرهما قَدْ جُمِعَ. فهذا جائز في اللغة، في كل ما اتَّفَقَ في أصله كما اتفقت الجِن مع الإنس في باب التمييز. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131) زَعَمَ سيبويه أنَّ موضِعَ ذلك رفع. المعنى: الأمر ذلك لأنه (لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ). وقال بعضُهُم: يجوز أن يكون موضعها نصباً. المعنى: قيل ذَلك لأنه

(133)

لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ، والمعنى يخرج على جميع القولين لأن المعنى يدل على أمْر الإرسالِ، فكأنه - واللَّه أعلم - ذلك الذي قصصنا عليك من أمر الرسل أمْر عَذَاب مَنْ كذَّبَ بها لأنه لم يكن مهلك القرى بظلمِ، أيِ لا يهلكهم حتى يبعث إليهم رسولًا. كما قال عزَّ وجلَّ: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15). وقوله: (وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) (كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ). مَوضع الكاف نصب. المعنى (وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ) مثل ما أنشأكم. يقال: أنشأَ اللَّه الخلق إذا خلقه وأبدأه، وكل من ابتدأ شيئاً فقد أنشأه. ومن ذلك قولك فأنشأ الشاعر يقول، أي ابتدأ من نفسه، والنشَأ الصغارُ من الأولادُ. قال نُصَيبٌ: وَلَوْلَا أن يقال صَبَا نصَيبٌ. . . لقلت بنفسي النَشَأُ الصِّغَار ولهذا يقال للصغار نَشءٌ حَسَنٌ، ونُشوءُ حَسَن، أي قد ظهر له ابتداء حسن. * * * وقوله: (قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135) ومكاناتكُمْ، المعنى اعملوا عَلَى تمكنكم. ويجوز أن يكون المعنى اعملوا على ما أنتم عليه، ويقال للرجل إِذا أمرته أن يثبت على حال: على مكانتك يا فلان، أي أثبت على ما أنت عليه.

(138)

فإِن قال قائل فكيف يجوز أن يَأمُرَهُمْ النبي - صلى الله عليه وسلم - أنْ يُقِيمُوا على الكفر فيقول لهم: (اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ)، فإِنما معنى هذا الأمْرِ المبَالغة في الوَعِيدِ، لأن قوله لهم: (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ). قد أعلمهم أن من عمل بعملهم فَإلى النار مصيرُه، فقال لهم: اقيموا على ما أنتم عليه إِن رضيتم العذاب بالنار. * * * (وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138) والحامي الذي حَمَى ظهرَه أنْ يُرْكَبَ، (وَأنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا). فأعلم الله عزَّ وجلَّ انَّ ذَلِكَ افتَرَاء، أي يفعلون ذلك افتراءً عليه، وهو منصوب بقوله: (لَا يَذْكُرُونَ اسمَ اللَّهِ). وهذا يسميه سيبويه مَفْعُول لَهُ. وَحَقِيقَتُة أن قوله: (لَا يَذْكُرونَ) بمعنَى يَفْتَرُون، فكأنه قال يفترون افتراءً. * * * (وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139) وكأنَّه إذَا جَعَلُوا لأصْنَامِهِمْ مما في بطون الأنعام شيئاً جَعَلُوه مَا يَكُون ذَكَراً مَوْلُوداً حيا يَأكُله الذكْرَان خَاصةً. ولا يجيزون أن يأكلَ النساءُ شيئاً. فإن كان ذكراً ميتاً اشترك فيه الرجَالُ والنساء وهو قوله عزَّ وجلَّ: (وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَا). ثم قال: (خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا). فهو على ضربين: أجودهما أن يكون أنثَ الْخَبَرَ، وجعل معنى " ما " التأنيث لأنها في معنى الجماعة، كأنَّهم قالوا جَمَاعَةً مَا فِي بُطُون هذه الأنعام

(140)

خالصة لذكورنا، وُيرَدُّ (وَمُحَرَّمٌ) على لفظ ما، وقال بعضهم أنَثَه لتأنِيث الأنعام، والذي في بطون الأنعام ليس بمنزلة بعض الشيءِ، لأن قولك: سَقَطَتْ بعض أَصَابعه " بعض أصابع " إصْبَعٌ وهي واحدة منها، والذي في بطون الأنعام: مَا في بَطْن كل وَاحِدَ غيرها. وَمَنْ قال يجوز على أن الجملة اأعام فكأنه قال: وقالوا الأنعام التي في بطون الأنعام خَالِصَةٌ لذكورنا. والقول الأول الذي شرحنا أبيَن، لقوله (وَمُحَرَّمٌ)، لأنه دليل على الحمل المعنى في " ما " عَلَى اللفظ. وقرأ بعضهم (خالصةً لِذكورنا)، فهو عندي - واللَّه أعلم - ما خَلصَ حَيا. ويجوز (وإِن يَكنْ ميْتَةً) بالياء والتاءَات، ونَصْبَ (ميتة). المعنى وإِن تكن تلك الحمول التي في البطون ميتةً، ومن قرأ وإن يكن فعلى لفظ ما، المعنى إِن يكن ما في البطن ميتة، ويجوز " وإِنْ تكن مَيْتَةٌ " بالتاءِ ورفع الميتة، ويكون " تَكنْ " بمعنى الحدوث والوقوع كأنَّه وإِن تَقَعْ مَيْتَة وإن تَحْدُثْ مَيْتَة. وقوله: (سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهمْ). المعنى - واللَّه أعلم - سيجزيهم جزاءَ وصفهم الذي هو كذِب. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (140) (سَفَهًا) منصوب على معنى اللام أي للسفه، مثل فعلت ذلك حذرَ الشر. ويجوز أن يكون منصوباً على تأويل المصدر، لأن قتلهم أولادهم قد سَفِهوا فيه، فكأنَّه قال: سفِهوا سَفْهاً، فقال

(141)

عزَ وجل: (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ). وقد فسرنا نصب (افتراءً). ومعنى الافتراءِ ههنا الكذب. ثم احتج الله عليهم ونَبَّه على عظم مَا أتَوْه فِي أنْ أقْدَمُوا على الْكَذِب على اللَّه وأقْدَمُوا على أن شَرعُوا من الدِّينِ مَا لمْ يَأذَنْ به اللَّهُ فقال: (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141) فكأنه قال افتروا على اللَّه وهو المحدث للأشياءِ الفاعل ما لا يقدر أحدٌ على الإتيان بمثله، فقال عزَّ وجل: (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ) أي: ابتدع جنَاتٍ مَعْرُوشاتٍ، والْجَناتُ الْبَسَاتِينُ. (وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ). ومعنى المعروشات ههنا الكروم. (وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ). في حال اختلاف أكْلُهِ. وهذه مسألة شديدة في النحو إِلا على من عرف حقيقتها، لأن للقائل أن يقول كيف أنشأهُ في حَال اختلاف أكله وهو قد نشأ من قبلِ وقُوعِ أكْلِهِ. وأكْلُه ثمره؟ فالجواب في ذلك أنه عزْ وجلَّ قدَّرَ إنشَاءَه بقوله: (هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ). فأعلم عزَّ وجلَّ إنَّه المنشئ له في حال اخْتلافِ أكلِهِ، ويجوز أنشأه ولا أكل فيه مختلفاً أكُلُه، لأن المعنى مُقَدِّراً ذلك فيه، كما تقول.: لتدخُلُنَّ منزل زيد آكلين شاربين، المعنى تدخلون مُقَدِّرِينَ ذلك. وسيبويه دل على ذلك وبيَّنه في قوله: مررت برجل معه صقر - صائداً به غداً، فنصب صائداً على الحال، والمعنى مُقَدِّراً الصيد. ومعنى (مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ).

على ضربين، فأحدهما أن بعضه يشبه بعضاً، وبعضه يخالف بعضاً ويكون أن يكون مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ، أنْ تكونَ الثمَارُ يُشْبِه بعضها بعضاً في النظر وتختلف في الطعوم. وقوله: (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ). ثَمَرَ جمعُ ثَمَرَةٍ، ويجوز مِن ثمُرِهِ، ويكون الثمُر جمعُ ثِمَار فيكون بمنزلة حُمُر جمع حمارٍ. ويجوز من ثمْره. . بإِسكان الميم. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ). يجوز الْحَصَادُ والحِصَادُ، وتقرأ بهما جميعاً، ومثله الجَداد والْجِدادَ لِصِرَامَ النَّخل. اختلف الناسُ في تأويل (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ) فقيل إن الآية مكيَّةٌ. وروي أن ثابت بن قيس بن شماس صَرَمَ خَمْسَمائَةِ نَخْلة ففرَّق ثِمَارَها كُلَّه ولم يُدْخِلْ مِنْهُ شَيْئاً إلى مَنْزِله، فأنزل اللَّه - عزَّ وجلَّ -: (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا). فيكون على هذا التأويل أن الإنسان إذا أعطى كل ماله ولم يوصل إلى عياله وأهله منه شيئاً فقد أسْرَفَ، لأنه جاءَ في الخبر: ابْدَأ بِمَنْ تعُول. وقال قومٌ إِنها مَدَنية، ومعنى (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ)، أدُّوا مَا افْتُرِضَ عليكم في صَدَقَتِه، ولا اختلاف بين المسلمين في أمر الزكوات أن الثمار إذا

(142)

حصدت وجب إِخراج ما يجب فيها من الصدقة فيما فرض فيه الصدقة، فعلى هذا التأْويل يكون: (وَلَا تُسْرِفُوا) أي لا تنْفِقوا أموالكم وصَدَقاتِكمْ على غير الجهة التي افْتُرِضتْ عليكم، كما قال المشركون: " هذا ليس كائناً " وحرموا ما أحل اللَّه، فلا يكون إِسرافٌ أبْيَنَ من صرف الأموال فيما يُسْخِط اللَّه. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142) نسق على الجنات، المعنى وهو الذي أنشأ جناتٍ، وأنشأ من الأنعامِ حَمُولةً وَفَرْشاً والحَمولة الِإبل التي تُحَمَّلُ. وأجْمَعَ أهل اللغة على أن الفَرْشَ صغارها. وقال بعض المفسرين: الفرشُ صغارُ الِإبِلِ وإِن البقر والغَنم من الفرش الذي جاءَ في التفسير، يدل عليه قوله: (ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ) وقوله (وَمِن الِإبِلِ اثْنَيْنِ وَمِن الْبَقَرِ اثْنَيْنِ). فلما جاءَ هذا بدلًا من قوله (حَمُولةً وَفَرْشاً) جعله للبقرِ والغنم مع الِإبل. وقوله: (كُلُوا مِما رَزَقَكَمُ الله). أي لا تُحَرِّموا ما حَرمْتم مما جرى ذكره. (وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ). في خُطوات ثلاثة أوجه: ضم الطاءِ وفتحها وإِسْكانها. ومعنى خطوَاتِ الشيطانِ. طُرُق الشيطان، قال بعضهم تَخَطَي الشَيطانِ الحلالَ إِلى الحرام. والذي تدل عليه اللغة أن المعنى لا تسلكوا الطريقَ الذي يُسَوِّله لَكَم الشيطان.

(143)

وقوله: (ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (143) بَدَل من (حَمُولَةً وَفَرْشًا) والزوج في اللغة الواحد الذي يكون معه آخر: (مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ). والضَّأْنُ جمع ضائن وضَأن، مثل تاجر وتَجْر. (وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ). هذا احتجاج عليهم. بَيَّن اللَّه عزَّ وجلَّ بِهِ فِرْيَتَهمْ وَكذِبَهمْ فيما ادَّعَوْه مِنْ أن مَا فِي بُطونِ الأنْعَامِ حلال للذكور ومحرم على الإناث وما حرمُوا مِنْ سائر ما وَصَفْنَا، فقيل لهم آلذَّكرَيْنِ حرَّمَ فإن كان حرمَ من الغنَمَ ذُكُورَهَا فكل ذُكُورِها حرام، وإِن كان حرَّم الأنثيين فكل الإناثِ حَرَام، وإن كان حرمَ ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين فقد حرم الأوْلاَدَ، وكلُّهَا أوْلاَدٌ فَكُلُّها حَرَام. وكذلك الاحتجاج في قوله: (وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ). فقيل لهم (نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ). أي فسروا ما حرمتم بعلم، أي وأنتم لا علم لكم لأنكم لا تؤمنُونَ بكِتَاب. * * * (وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144) (أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا). أي هل شاهدتم الله قد حرم هذَا إِذ كنْتُمْ لاَ تؤمِنُونَ برسول. ثم بين ظلْمَهُم فقال: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ). وقد بَيَّن الاحتجاج أنهم لا يؤْمنون بِنَبيٍّ ولا يَدَّعُون أن نبياً خبَّرهم عن الله أن هذا حرام، ولا أنهم شاهدوا اللَّه قد حَرَّمَ ذلك. ثم قال:

(145)

(قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145) فأعلمهم - صلى الله عليه وسلم - أن التحريم والتحليل إنما يَقْبَلُه بالوَحي أو التنزيل فقال: (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا). والمسْفُوح المصْبُوب، فكأنه إذا ذَبَحوا أكَلُوا الدَّمَ كما يأكلونَ اللحمَ. (أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ). والرجْسُ اسم لما يُسْتقْذرُ، وللعذاب. (أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ). أي رُفِعَ الصوْتِ على ذَبْحِهِ باسمِ غَيْر اللَّهِ، وكانوا يذكرون أسماءَ أوْثانَهم على ذَبَائحهم. " فَفِسْق " عطف على لَحْمِ خِنْزِيرٍ، المعنى إلا أن يكون المأكول ميتةً أو دَماً مسْفُوحاً أو لحمَ خِنْزِيرٍ أو فِسْقاً. فسُمِّيَ ما ذكر عليه غير اسم اللَّه فِسْقاً، أي خُرُوجاً مِنَ الدِّينِ. (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ). أيْ دَعَتْه الضرُورةُ إلى أكْله فَأكَلَه غيرَ باغٍ، أي غير قاصد لتحليل ما حرم اللَّه. (وَلَا عَادٍ). أي ولا مُجَاوزٍ للقَصْد وقَدْرَ الحاجة. و " العَادِي " الظالمُ. (فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). أي يغفر لمن لم يَتَعَدَّ. فأما إعراب (آلذَّكَرَيْنِ) فالئصْبُ بـ (حَرَّمَ). وَتَثْبُتُ ألف المعرفة مع ألف الاستفهام لئلا يلتبس الاستفهام بالخبر،

(146)

لأنه لو قيل ألذكرين حَرَّمَ بألف واحدة لالتبس الاستفهام بالخبر. وقد يجوز جمع أم حذف الألف لأن أم تدل على الاستفهام لأنه لو قيل ألرجلَ ضربت أم الغلامَ لَدَلَّتْ " أمْ " على أن الأول، داخل في الاستفهام. وقد أجاز سيبويه أن يكون البيت على ذلك وهو قوله: لَعَمْرُكَ ما أَدْري وإِن كنتُ دارياً شُعَيْثُ بنُ سَهْم أَمْ شُعْيْثُ بنُ مِنْقَرِ فأجاز أن يكون على أشعيثُ بن سهم، ولكن القراءَة بتبيين الألف الثانية في قوله: (آلذَّكَرَيْنِ). * * * وقوله: (وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146) ئعْنَى بِه الإبل والنعامُ، لأن النعام ذوات ظفر كالإبل. (وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا). فقال بعض الناس:. حُرمَتْ عليهم الثرُوب، وأحل لهم ما سواها مما حملت الظهور. (أَوِ الْحَوَايَا) وهي المباعرُ واحدها حَاوِية وحاوِيَاءُ وحَوِيَّة. (أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ). نحو شحم الإلية. وهذا أكثر القولين، وقال قوم حُرمَتْ عَليهم الثروبُ. وأحل لهم ما حملت الظهور وصارت الحوايا أو ما اختلط بعظم إِلا ما حملت الظهور فإِنه غير محرم، و " أوْ " دخلت على طريق الِإباحة، كما قال جَلَّ وعزَّ:

(148)

(وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا (24). فالمعنى كل هُؤلاءِ أهل أن يُعصَى. فاعصِ هذا، واعصِ هذا و" أو " بليغة في هذا المعنى، لأنك إِذا قلت: لا تطع زيداً وعمراً فجائز أن تكون نهيتني عن طاعتهما معاً في حال إِن أطَعتُ زيداً على حِدَتِه لم أكُنْ عَصيتُكَ، وإذا قلتَ: لا تطعْ زيداً أو عمراً أوخالداً، فالمعنى أن هُؤلاءِ كلهم أهل ألا يُطاعَ فلا تطع واحداً منهم ولا تطع الجماعة. ومثله جالس الحسن أو ابن سِيرين أو الشَعبي، فليس المعنى أني آمرك بمجالسة وَاحد منهم، ولكن مَعْنَى " أوْ " الِإباحة. المعنى كُلهم أهل أن يُجَالَس، فإِن جالست واحداً منهم فأنت مصيب وإِن جالست الجماعة فأنت مصيب. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148) زعم سيبويه أن العَطْفَ بالظاهر على المضمر المرفوع قبيح، يستقبح قمت وزيدٌ، وقام وزيدٌ، فإن جاءَت " لَا " حَسُنَ الكلامُ فقلت: لا قمتُ ولَا زيد، كما أَنَه إذا أَكد فقال قمت أَنت وزيد حَسُن، وهو جائز في الشعر. فأما معنى الآية فإن اللَّه جل ثناؤُه أخبر عنهم بما سَيَقولُونَه، وقولهم: (لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا) جَعَلُوا هَذَا القَوْلَ حُجةَ فِي إِقامَتهمْ عَلى شِركِهِِم فأعلم اللَّه عزَّ وجلَّ أنَّ (كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا). والحُجَّةُ عَليهم في هذا أنهُم إِذا اعْتَقَدُوا أن كُل مَنْ كان على شيءٍ. والأشياءً تجري بمشيئة الله تعالى - فهو على صَوابٍ فلاَ مَعنى إِذن - على قولهم - للرسَالةِ والأنبياءِ، فيقال لهم: فالذين على دين يخالفكم، أليس هو على ما شاءَ اللَّه، فينبغي ألا تَقُولوا إِنهمْ ضالُّونَ، وهو عزَّ وجلَّ يَفْعَلُ مَا يَشاء،

(149)

وهو قادر على أن يَهْدِيَ الخلْق أجمَعين، وليس لِلعِباد على الله أن يَفْعَل بهم كل مَا يَقْدِرُ عَليهْ، فقال عزَّ وجلَّ: (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149) فحجته البالغة تَبْيينهُ أنَّهُ الواحدُ وإرْسالُه الأنبياءَ بالحجج التي يعجز عنها المخلوقون: * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150) زعم سيبويه أنها " ها، ضمت إليها " لُمَّ " وجَعلتا كالكلمة الواحدة. فأكثر اللغات أن يقال هَلُمَّ للواحد والاثنين والجماعة. بذلك جاءَ القرآن نحو قولهم: (هَلُمَّ إِلَيْنَا). ومعنى (هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ) أي فهاتوا شهداءَكم، وقربوا شهداءَكم، ومن العرب من يثني ويجمع ويؤَنث، فيقول للذكر هَلُمَّ، وللاثنين هلمَّا وللجماعة هَلُمُّوا، ْ وللمرأَة هَلُمِّي وللاثنتين هلمَّا، وللنسوة هَلْمُمْنَ. وفتحت الميم، لأنها مُدْغمة كما فتحت رُدَّ في الأمر لالتقاءِ السَّاكنين. ولا يجوز هَلُم إلينا للواحد بالضم. كما يجوز في رُد الفتح؛ والضم والكسر، لأنها لا تتصرف. وقوله: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) فَـ " مَا " في مَوْصع نصب إِنْ شِئْتَ بـ (أَتْلُ). والمعنى تعالوا أتْلُ الذي حرَّمَ ربكم عليكم، وجائز أن تكون " ما " منصوبة بـ (حَرَّم) لأن التلاوة بمنزلة القول. كأنه قال: أقول أي شيءٍ حرَّم ربكم عليكم، أهذا أم هذا، فجائز أن يكون الذي تَلاهُ عَلَيْهم قَوْله: (إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا). ويكوِن (أَلَّا تُشْرِكُوا) منصوبة بمعنى طرح اللام أي: أبين لكم الحرامَ لئلاً تُشْرِكُوا بِه شَيْئاً، لأنهم

(152)

إِذَا حَرَّمُوا ما أحَل اللَّه فقد جَعَلُوا غيرَ اللَّه - في القَبُول منه - بمنزلة الله جلَّ وعزَّ فَصَارُوا بِذلك مُشْرِكينَ. ويجوز أن يَكونَ (أَلَّا تُشْرِكُوا) مَحْمُولاً على المعنى، فيكون: " أتل عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا به شيئاً " فالمعنى أتْلُ عَليْكُم تَحْرِيمَ الشرْكِ بهِ. وجائز أن يكون على معنى أوصِيكم (أَلَّا تُشْرِكُوا بِه شيئاً) لأن قوله: (وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَاناً) محمولٌ على معنى أوصيكم بالوالدين إحساناً. وقوله: (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ). أي لَا تَقْتُلُوا أولادكم من فَقْرٍ، أي من خَوْفِ فَقْرٍ. (وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ). بدل من الفواحش في موضع نصب. المعنى لا تَقْرَبوا ما ظهر من الفواحش وما بطن، جاءَ في التفسير أنَّ مَا بَطنَ منها الزنَا، وما ظهر اتخاذُ الأخْدَان وَالأصدقاءِ على جهة الريبة. وظاهر الكلام أن الذي جرى من الشرك باللَّه عزَّ وجلَّ وقتل الأولاد وجميع ما حرَّموه مما أحَل اللَّهُ عزَّ وجلَّ فَوَاحش، فقال: ولا تَقْربوا هذه الفَوَاحِشَ مظْهرين ولَا مُبْطِنِينَ، واللَّه أعلم. وقوله: (ذلِكمْ وَصَّاكمْ بِهِ). يدل على أن معنى (أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا). * * * وقوله: (وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) قال بعضهم: التي هي أحسن رُكُوبُ دابتِه واستخدام خادِمه، وليس في

(154)

الظاهر أن هذا هو المراد، وإنما التي هي أحسن حفظ ماله عليه، وتثْمِيرُه بما وُجِدَ إليه السبيل. قوله: (حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ). " حَتَّى " محمولة على المعنى، المعنى احْفَظُوه عليه حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ. أي فإذا بلغ أشده فادفعوه إليه. وبلوبخ أشُده أن يؤنَس منه الرُّشْدُ مَع أنْ يكونَ بالغاً. وقال بعضهم: (حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) حَتى يَبْلُغ ثمانيَ عَشْرة سَنة، ولسْتُ أعْرفُ مَا وَجْهُ ذلك بأن يبلغَ قبل الثماني عشرة وَقد أنِسَ منه رشداً فدفْعُ مالِه إلَيه واجب. وقوله " جلَّ وعزَّ: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى). أي إذا شَهِدْتم أوْ حَكَمتُم فاعْدِلوا، ولو كان المشهودُ عليه أوْ لَهُ ذَا قربى. * * * (قوله: (ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154) الأكثر في القراءَة بفتحَ النون، ويجوز (أحْسنُ) على إضْمارِ على الذي هو أحسنُ. فأما الفتح فعلى أن (أحسنَ) فعل ماض مبني على الفتح. وأجاز الكوفيون أن يكون في موضع جَر، وأن يكون صفة الذي، وهَذَا عند البصريين خَطَأٌ فاحش، زعم البصريون أنهم لا يعرفون " الَّذِي " إلا موْصُولَة، ولا تُوصَفُ إلا بَعْدَ تَمَام صلتها، وقد أجمع الكوفِيونَ مَعَهُمْ على أن الوَجْهَ صِلتُها، فيحتاجون أن يثبتوا أنها رفعت موصولة ولا صلة لها، فأمَّا دخول " ثم " في قوله: (ثُمَّ آتَيْنَا) وقد علمنا أن (ثُمَّ) لا يكون الذي بَعْدهَا أبداً مَعناه التقْدِيم أِ، وقد علمنا أن القرآن أنزل مِن بعْدِ موسى، وبعد التوراة.

(155)

ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154) فقال: (ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ) فإنما دخلت ثم في العطف على التلاوة. والمعنى قُلْ تَعَالَوْا أتْلُ مَا حَرَّمَ رَبكُمْ عَلَيكُمْ، أتْلُ عليْكم ألا تَقْتلُوا أولادَكم، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله، ثم أتلو ما آتاه اللَّه موسى. ومعنى (عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ) يكون على " تماماً على المحسن " المعنى: تماماً من الله على المحسنين، ويكون (تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ) أي على الذي أَحْسَنَه مُوسَى مِنْ طاعَةِ اللَّهِ واتبَاع أمرِه. ويجوز تماماً على الذي هُوَ أحْسنُ الأشْياءِ. و" تمام " منصوب مفعول له، وكذلك وتفصيلاً لكل شيء. المعنى آتيناه لهذه العلة أي للتمام والتفصيل. * * * وقوله: (وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) والمبارَكُ ما يأتي من قِبَلِهِ. الخيرُ الكثيرُ، وهو من نعت (كتاب) ومن قرأ " أنْزَلْنَاهُ مُبَارَكاً " جاز ذلك في غير القراءَةِ، لأن المصحف لا يُخَالَفُ ألبَتَّةَ. وقوله: (فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ). أيْ لِتَكونوا رَاجِينَ للرحْمَةِ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156) قال بعضهم: معناه أنْزَلْنَاهُ لئلا تَقُولُوا إِنما أنزِلَ الكتابُ أي أنزلناه لتنْقَطِعَ حُجتُهمْ، وإِنْ كانت الحجةُ للَّهِ عزَّ وجلَّ، لأن الكتُبَ التي أنْزِلَتْ قبلَ النبي - صلى الله عليه وسلم - قد كانت فيها الحجة، ولم يكن اللَّه عَزَّ وجلَّ: لِيَتْركَ خَلقَه سُدًى بغير حجة، ولكن في تنزيل الكتاب والنبي - صلى الله عليه وسلم - غاية الحجة، والزيادة في الإبَانةِ.

(157)

وقال البَصْريون: معناه أنزلناه، كراهةَ أن تقولوا، ولا يُجِيزون إضمار " لا " لَا يقولون جئتُ أنْ أكْرِمَك، أي لئلا أكرمَك، ولكن يجوز فعلت ذلك أن أكرمَك، على إضمار محبة أن أكرمك، وكراهة أن أكرمكَ، وتكون الحال تنبئ عن الضمير. فالمعنى: أنزل الكتاب كراهة أن يقولوا: - إِنما أنزلت الكتُب على أصحاب موسى وعيسى. (وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ). المعنى: وما كنا إلا غافلين عن تلاوة كتبهم. * * * (أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ (157) (أَوْ تَقُولُوا) المعنى أو كراهة أنْ تَقُولُوا. (لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ). وإنما كانوا يقولون (لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ) لأنهم كانوا مُدِلِّين بالأذهان وحُسْنِ الأفْهَام، وذلك أنهم يحفظون أشعارهم وأخبارهم وآثارهم، وهم أُمِّيونَ لا يَكْتُبونَ. وقوله: (فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ). أي فقد جاءَكم ما فيه البيان وقطعُ الشُّبُهَاتِ عَنْكُمْ. * * * وقوله: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158) (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ). أي إلا أنْ تَأتِيهم ملائكةُ الموْتِ. (أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ). أو يأتي إهْلاَكُ رَبِّك إيَّاهم وانْتِقامُهُ مِنْهُم، إمَّا بعذَاب عاجل أو بالقيامة. وهذا كقولنا: قَدْ نَزَلَ فُلان ببَلَد كَذا وكَذَا، وقد أتَاهُمْ فُلانٌ أي قَدْ أوْقَع بِهِمْ. وقوله: (أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ).

(159)

نحو خروج الدابة: أو طلوع الشمس منْ مغربها. وقوله: (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ). أي لا يَنْفَعُها الإيمَانُ عِند الآية التي تضْطَركم إلى الإيمان، لأن اللَّه جلَّ ثناؤه قال: (إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) وبعث الرسل بالآيات التي تُتدَبَّر، فيكون للمؤمِنِ بها ثوابٌ ولو بعث اللَّه على كل من لم يؤمن عذاباً، لاضطر الناس إلى الإيمان به: وسقط التكليف والجزاء. * * * وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159) قال بعضهم: هذه نزلت قبل الحرب، أي ليس عليك قِتَالُهم إنَّمَا أمْرُهُمْ إلَى اللَّهِ. ومعنى (وَكَانُوا شِيَعًا) أي كانوا مُتَفَرقِين فِي دِينهمْ. يعنى به إليهود والنصارى، لأن النصارى بَعْضُها يكفر بعضاً وكذلك اليهودُ، وهم أيضاً أهْلُ التوراة، وبعضهم يكفر بعضاً، أعني إليهود تكفر النصارى، والنصارى تكفر إليهودَ. وفي هذه الآية حَث على أن تكون كلمةُ المسلمين واحدة، وأن لا يتفرقُوا في الدين وأن لا يبتدعوا البدع ما استطاعُوا. فقوله: (لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ). يدل على أن مَن فَرقَ دِينَه مِن أهْلِ مِلةِ الإسْلَامِ وابْتَدع البِدعَ فقد صَارَ بِهِ مِنْهُمْ. ومعنى شَيَّعْتُ في اللغة اتَّبَعتُ. والعرب تقول: شاعكم السِّلْمُ وأشاعكم

(160)

السَّلْمُ، ومَعْنَاهُ: تَبِعكُمْ السِّلْمُ. قال الشاعر: ألا يا نخْلة من ذَاتِ عرقٍ. . . بَرود الظل شايعَكِ الظلام وتقول: آتيتك غداً أو شيَعَهُ أي أو اليومَ الذي يتبعه، فمعنى الشيعة الذين يتبع بعضهم بعضاً، ومعنى الشيعُ الفرقُ التي كل فرقة منهم يتبع بعضهم بعضاً وليس كلهم متفقين. * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160) القراءَة: (فلَهُ عَشْرُ أمْثَالِهَا)، والمعنى فله عَشْرُ حَسَنات أمثالها وكما يجوز عندي خمسة أثواباً، ويجوز فله عَشْرُ مِثْلِها في غير القراءَة فيكون المثل في لفظ الواحد وفي معنى الجميع، كما قال:، (إنكم إذاً مِثْلُهمْ). ومن قال أمثالها فهو كقوله: (ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) وإنما جاءَ على المثل التوحيدُ. وَأنْ يكون في معنى الجميع، لأنه على قدر ما يشبه به، تقول مررت بقوم مِثلكم، وبقوم أمثالكم.

(161)

فأما معنى الآية فإنه من غامض المعاني التي عند أهل اللغة لأن المجازاة على الحسنة من اللَّه جلَّ ثناؤُه بدخول الجنة شيء لا يُبْلَغُ وصفُ مِقْدارِه، فإذا قال: عَشْرُ امثَالها. أو قال: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ). مع قوله: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً)، فمعنى هذا كله أن جزاءَ اللَّه جلَّ ثناؤُه على الحسنات على التضعيف للمثل الواحد الذي هو النهاية في التقدير في النفوس، ويضاعف الله ذلك بما بين عشرة أضعاف إلى سبعمائة ضعف إِلى أضعاف كثيرة. وأجمع المفسرون على قوله: (وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا) لأن السيئة ههنا الشرك باللَّهِ. وقالوا: (من جاءَ بالحسنة) هي قول لا إله إلا اللَّه، وأصل الحسنات التوحيد، وأسوأ السيئات الكفر باللَّه جلَّ وعزَّ. * * * (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) والصراط الدين الذي دلني على الذين الذي هو دين الحق، ثم فسر ذلك فقال: (دِينًا قِيَمًا). والقيم هو المستقيم، وقرئت (ديناً قَيِّمًا) وقِيِّم مصدر كالصغر والكبر، إلا أنه لم يقل " قِوَمٌ " مثل قوله: (لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا) لأن قولك قام قيماً

(162)

كأنه على قَوُمَ أو قَوِمَ، فلما اعتل فصار قام اعتل قِيَم، فأما حِوَل فهو على أنه جار على غير فعل. وأما نصب (دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا). فمحمول على المعنى، لأنه لما قال: هَدَاني إلى صراطٍ مستقيم، دل على عَرفَنِي ديناً قِيماً. ويجوز أن يكون على البدل من معنى هدَاني إلى صراط مستقيم. المعنى هداني صراطاً مستقيماً، دِيناً قِيماً، كما قال - جلَّ وعزَّ -: (وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا). و (مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ) بدل من (دِينًا قِيَمًا) و (حنيفاً) مصوب على الحال من إبراهيم، المعنى هداني وعرفني ملة إبراهيم في حال حنيفيته، وهو ههنا لإبراهيم حسَن منه لغيره. (وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ). وقد فسرنا معنى الحنيفية وأنها الميل إلى الإسلام ميلاً لا رجوع معه. * * * وقوله (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) قالوا: النسك الذبْحُ، والنسكُ مَا يُتَقربُ به إلى اللَّه جلَّ وعزَّ. (وَمَحْيَايَ وَمَمَاتي). الياء ياء الإضافة، فتحت لأن أصلَها الفتح، ويجوز إسكانها إذا كان ما قبلها متحركاً. يجوز (مَمَاتي) وِإن شئتَ قرأت " مَمَاتِيَ لله " بفتح الياء. وإنْ شئْتَ أسْكنْتَ فأما يَاءُ محيايَ فلا بُدَّ من فتحها لأن قبلها ساكن. ومعنى الآية أنه يخبر بأنه إنما يتقرب بالصلاة وسائر المناسك إلى اللَّه جلَّ وعزَّ لا إلى غيره، كما كان المشركونَ يذبحون لأصنامهم. فأعلم أنه اللَّهُ وحده بقوله: (لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) * * * وقوله: (قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164) أي هو ابتدع الأشياءَ كلها لا يقدر أحد على ابتداع شيءٍ منها.

(165)

وقوله: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى). أي لا تؤخذ نفس آثمة بإثم أخرى، لا يؤخذ أحدٌ بذنب غيْره. * * * وقوله:) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165) قيل خلائف الأرض أُمَّة محمد - صلى الله عليه وسلم - لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين فأُمَّتُه قد خلفت سائر الأمم. وقال بعضهم: خلائف الأرض يخلف بعضكم بعضاً. (وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ). فدلَّ بهذا أنه فضَّل بعضَ الناس ليختبرهم فيما رزقهم وهو جل ثناؤُه عالم بما يكون منهم قبل ذلك، إلا أنه اختبرهم ليظهر منهم ما يكون عليه الثواب والعقاب. وقوله: (إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ). إن قال قائل: كيف قيل سريع العقاب. وعقابَه إنما يكون في القيامة. وإن كان بعضُه قد وقع في الدنيا؟ فإنما ذلك لأن أمرَ الساعة سريع، لأن كل ما زال وإن تَطَاوَلَ فهو بمنزله ما لم يُحَسَّ سُرْعَة، وكذلك قوله جل ثناؤُه: (وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) وكذلك قوله جلَّ وعزَّ: (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7).

سورة الأعراف

سورة الأعراف بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله عزَّ وجلَّ: (المص (1) قد فسرنا هذه الحروف في أول سورة البقرة، إلا أنا أعدنا ههنا شيئاً من تفسيرها لشي في إعرابها، والذي اخترنا في تفسيرها. قولُ ابن عباسٍ أن (المص) معناه أنا اللَّه أعلم وَأفصِّلُ وقال بعض النحويين موضع هذه الحروف رفع بما بعدها، قال: (المص كتاب)، كتاب مرتفع بالمص، وكأن معناه المص حروف كِتَابٍ أنزل إِليك، وهذا لو كان كما وصف لكان بعد هذه الحروف أبداً ذكر الكتاب؛ فقوله: (الم اللَّهُ لَا إِلهَ إلا هُوَ) يدل على أن (الم) لا مرافع لها على قوله، وكذلك: (يَس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ)، وكذلك: (حَم عسق كَذَلِكَ يُوحَى إليْك)، وقوله: (حم والكتاب المبين إنا أنزلناه). فهذه الأشياءُ تدل على أن الأمر علي غير ما ذكر، ولو كان كذلك أيضاً لما كان (الم) مكرراً، ولا (حم) مكرراً.

وقد أجمع النحويون على أن قوله عزَّ وجلَّ (كتابٌ أنْزِلَ إِليك) مرفوع بغير هذه الحروف، المعنى هذا كتاب أنزلَ إِليك، وهو مُجْمِع مَعَهُم على أن ما قَالُوه جائز فيجب اتباعُهم من قولهِ وَقَوْلهِمْ، ويجب على قائل هذا القول التثبيت على مخالفتهم، ولو كان كما يصف لكان مُضمِراً اسمين فكان المعنى (الم) بعض حروف كتاب أنزل إليك، فيكون قد أضمر المضاف وما أضيف إِليه، وهذا ليس بجائز. فإن قال قائل قد يقول ألف. با. تا. ثا. ثمانية وعشرون حرفاً، وإنما ذكرت أرَبعة فمن أين جاز ذلك، قيل قد صار اسم هذه ألف. با. تا. ثا، كما أنك تقول: الْحَمْدُ سَبْعُ آياتٍ فالحمد اسم لجملة السورة، وليس اسم الكتاب الم، ولا اسم القرآن " طسم). وهذا فرق بَيْن. وهذه الحروف كما وصفناحروف هجاء مَبْنِية على الوقف، وهي في موضع جُمَلٍ، والجملة إِذا كانت ابتداءً وخبَراً فقط لا موضع لها. فإِذا كان معنى كهيعص، معنى الكاف كافٍ، ومعنى الهاء هادٍ، ومعنى اليَاء والْعَيْن مِن عَلِيم ومعنى الصاد من صَذوقٍ، وكان معنى " الم " أنا أعْلَمَ، فإِنما موضعها كموضع الشيء الذي هُوَ تأويل لَهَا. ولا موضع في الِإعراب لقولك: أنا اللَّه أعلم، ولا لقولك؛ هو هاد، وهو كاف، إِنما يرتفع بعض هذا ببعض. والجملة لا موضع لها.

(2)

وقوله: (كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) فمعنى الحرج الضيق. وفيه وجهان، أحدهما أن يكون لاَ يَضِق صدْرُكَ بالإبلاغ ولا تخافن، لأنه يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: رب إِني أخاف أن يثلغوا رأسي فيجعلوه كالخبزةِ، فأعلم الله عزَّ وجلَّ أنَّه في أمان منهم، فقال: (وَاللَّهُ يَعصِمُك مِنَ النَّاسِ)، وقال: (فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ). أي فلا - يَضِيقَنَ صَدْرُكَ من تَأدِيَةِ مَا أرْسِلْتَ بِهِ. وقيل أيضا: فلا تَشُكَن فيه. وكلا التفسيرين له وجه، فَأما تأويل فلا تَشُكَنَّ، وتأويل (فَلَا تَكونَنََّ مِنَ المُمْتِرِين)، وتأويل: (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ) فإِن ما خوطب به - صلى الله عليه وسلم - فهو خطاب لأمتِهِ، فكأنه بمنزله " فلا تشكوا ولا ترتابوا ". وقوله: (لِتنْذِرَ بهِ). معناه التقديم، والمعنى واللَّه أعلم - كتاب أنزل إِليك لتنذر به وذكرى للمؤمنين، فلا يكن في صدرك حرج منه. (وَذِكرَى) يصلح أن يكون في موضع رفع ونصب وَجَرٍّ فأمَّا النصب فعلى قولك: أنْزِلَ لِتنْذِرَ به وذكرى للمؤمنين، أي ولتذكر به ذكرى، لأن في الإِنذارِ مَعنى التذكير.

(3)

ويجوز أن يكون وَهُوَ ذكرى للمؤمنين كقولك وهو ذكر للمؤمنين. فأما الجر فعلى معنى لِتُنْذِرَ، لأن معنى " لِتنْذِرَ " لأن تُنْذِرَ فهو في موضع جر. المعنى للإنذار والذكرَى. فأما ذِكْرَى فمصدر فيه ألف التأنيث، بمنزلة دعوت دعوى، وبمنزلة رَجَعْتُهُ رُجْعَى. واتقَيْتُ تقوى، إلا أنه اسم في موضع المصدر. * * * وقوله: (اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3) أي اتبِعُوا القرآن، وَمَا أتِيَ به عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه مما أنزل عليه لقوله جلَّ وعزَّ: (وَمَا آتَاكُمُ الرسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا). (وَلَا تَتبِعُوا مِنْ دُونهِ أوْليَاءَ). أي لَا تَتَوَلَّوْا مَنْ عَدَلَ عن دين الحق، ومن ارتضى مذهباً من المذاهب. فالمؤْمن وليُّ المْؤمِن. (وَالْمُومِنُونَ وَالْمُومِنَاتُ بَعْضُهُمْ أوْليَاءُ بَعْض). * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (قَلِيلًا مَا تَذَكرُونَ). ما زائدة مُؤَكِدَة، المعنى قليلًا تذكرون، وفي تذكرون وجهان في القراءَة: قَلِيلًا مَا تَذَّكرون - بالتشديد - في الذال، والمعنى: قليلاً ما تتذكرون، إلا أن التاءَ تدغمُ في الذال لقرب مكان هذه من مكان هذه. ومن قرأ (تَذَكَّرُونَ) فالأصل - أيضاً - تتذكرون، إلَّا أنَّه حذف إِحدى التاءَين، وهي التاءُ الثانية لأنهما زائدتان، إِلا أن الأولى تدل على معنى الاستقبال فلا يجوز حذفها، والثانية إنما دَخَلَتْ على معنى فعلت الشيءَ عَلَى تمهُّل، نحو تَفَهَّمْتُ وَتَعَلَّمْتُ، أي أحدثت الشيءَ على مَهَلٍ، وتدخل على

(4)

معنى إظهار الشيءِ والحقيقة غيره، كافولك تقيَّسْتُ أي أظهرت أني قَيْسِيٌّ. فإنما المحذوف من تتفعلون الثانية، لأن الباقي في الكلمة من تشديد العين من تفعل يدل على معنى الكلمةِ، ولو حذفت تاء " استقبال " لبطل معنى الاستقبال. * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4) المعنى وكم من أهل قرية أهلكناهم، إلا أن أهل حذف لأن في الكلام دليلًا عليه. وقوله: (فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا). محمول على لفظ القرية، ولو قيل فجاءَهم لكان صواباً. وقوله: (أَوْ هُمْ قَائِلُونَ). قال بعض النحويين: المعنى وهم قائلون، والواو فيما ذكر محذوفة وهذا لا يحتاج إلى ضمير الواو، ولو قلت: جاءَني زيد راجلًا أو وهو فارس. أوجاءَني زيد هو فارس لم تحتج إلى واو، لأن الذكر قد عاد إلى الأول. ومعنى (بَيَاتًا): ليلًا، يقال بات بياتاً حسناً، وبيتةً حسنَة، والمصدر في الِإصابات بيتاً. والبيت بيت الشعر وكذلك بيت المدَرِ، وإنما أصل تسميته من أنه يصلح للمبيت، ويقال لفلان بيتة وليلة وَبَيْتُ ليلة، أي ما يكفيه من القوت في ليلة. ومعنى (أوْ هُمْ قائِلُونَ). أي أو جاءَهم بأسنا نهاراً في وقت القائلة، يقال قِلتُ من القائلة،

(5)

فالمعنى إِنهم جاءَهم بأسنا غفلة، وهم غير متوقعين له، إِما ليلاً وهم نائمون. أو نهاراً وهم قائلون كأنهم غافِلون. وأو ههنا دخلت على جهة تصرف الشيءِ ووقوعِه، إما مرة كذا، وإِما مرةً كذَا، فهي في الخبر ههنا بمنزلة أو في الإباحة، تقول جالس زيداً أو عمراً، أي كل واحدٍ منهما أهلٌ أن يُجَالِسَ، وَاو ههنا أحسن من الواو، لأن الواو تتضمن اجتماع الشيئين، لو قلت: ضربت القوم قياماً وقعوداً، لأوجَبَتِ الواو أنك ضريتهم وهم على هاتين الحالتين، وَإِذَا قلتَ: ضربتهم قياماً أو ضربتهم قعوداً، ْ ولم تكن شاكًا، فإِنما المعنى أنك ضربتهم مرة على هذه الحال، ومرة على هذه الحال. وموضع " كم " رفع بالابتداء وخبرها أهلكناها، وهو أحسن من أن تكون في موضع نصب، لأن قولك زيد ضربْتُه أجوَدُ من زيداً ضربتُه. - والنصب جَيد عربي أيضاً مثله قوله جلَّ وعزَّ: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ). * * * وقوله: (فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5) المعنى - واللَّه أعلم - أنهم لم يحصلوا مما كانوا ينتحلونه من المذهب والذين ويدعونه إِلاَّ عَلَى اعتراف بأنهم كانوا ظالمين، والدعوى اسم لما يَدَّعِيه، والدعوى يصلح أنْ تكونَ في معنى الدعَاءِ لو قلت: اللهم أشركنا في صالح دعاءِ المسلمين ودعوى المسلمين جاز، حكى سيبويه ذلك وأنشد:

(8)

وَلَّت ودَعْواهَا كثير صَخَبُه وموضع " أن " الأحسن أن يكون رفعاً، وأن تكون الدعوى في موضع نصب، كما قال جل ثناؤُه: (مَا كانَ حجتهم إلا أنْ قَالوا) ويجوز أن يكون في موضع نصب، ويكون الدعوى في موضع رفع إِلا أن الدعوى إذا كانت في موضع رفع فالأكثر في اللفظ " فما كانَتْ دَعْوَاهمْ " كذا وكذا. " إِلا أن " لأنَّ الدعوى مَؤنثة. في اللفظ، ويجوز كان دعواه باطلًا وباطلة. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) اختلف الناس في ذكر الميزان في القيامة، وجاءَ في بعض التفسير أنه ميزان له كِفَّتَان، وأن الميزانَ أنْزلَ إِلى الدنيا ليتعامل الناس بالعدل وتوزن به الأعمال، وقال بعضهم: الميزانُ العدلُ، وذهب إِلى قولك هذا في وزن هذا، وإن لم يكن مما يوزنُ، وتأويله أنه قد قام في النفس مساوياً لغيره كما يقوم الوزن في مِرآةِ العَيْنِ. وقال بعضهم: الميزانُ الكتابُ الذي فيه أعمال الخلق، وهذا كله في باب اللغة - والاحتجاج سائغ، إِلا أن الأوْلَى مِنْ هذا أن يُتبَعَ مَا جَاءَ بالأسانيد الصحاح. فإن جاءَ في الخبر أنه ميزان له كِفَّتَان، من حيث يَنقُلُ أهلُ الثقة، فينبغي أن يُقْبَلَ ذَلِكَ. وقد روي عن جرير عن الضحاك أن الميزانَ الْعدْلُ، والله أعلم بحقيقة ذلك، إلا أن جملة أعمال الْعِبَادِ مَوْزُونَةٌ على غاية العَدْل والحَق. وهو قوله: (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

(10)

وقد فسرنا المفلح فيما تقدم. وقوله: (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (10) معنى التمكين في الأرض التمليك والقدرة. ومعنى المعايش يحتمل أن يكون ما يعيشون به، ويمكن أن يكونَ الوصلةَ إلى ما يعيشون به. وأكثر القراءِ على ترك الهمْزِ فِي معايش، وقد رَوَوْهَا عَن نَافِع مَهْمُوزَةً. وجميعُ النحويين البصريين يزعمون أن همزها خطأ، وذكروا أن الهمز إنما يكون في هذه الياء إذَا كانت زائدة نحو صحيفة وصحائف، فأما مَعَايش فمن الْعَيْش، الياء أصلية وصحيفة من الصحُف لأن الياء زائدة، وإنما همزت لأنهُ لَا حَظَّ لها في الحركة، وقد قَرُبَتْ من آخر الكلمة وَلَزمَتْهَا الْحَرَكَةُ فَأوْجَبُوا فيها الهمزَ، وإذا جَمَعْتَ مَقَاماً قلت مَقَاوِمَ. وأنشد النحويون: وإني لقوام مقاوم لم يكن. . . جرير ولا مولى جرير يقومها وقد أجمع النحويون على أن حكوا مصائِب في جمع مصيبة، بالهمز. وأجمعوا أن الاختيار مصاوب. وهذه عندهم من الشاذ، أعني مصايب. وهذا عندي إنما هو بدل من الواو المكسورة، كما قالوا في وسادة: إسادة، إلا أن هذا البدل في المكسورة يقع أولاً كما يقع في المضمومة، نحو (أُقِّتَتْ) وإنما هو من الوقت والمضمومة تبدل في غير أول نحو ادؤُر، يقولون ادؤُ فحملوا المكسورة على ذلك.

(11)

ولا أعلم احداً فَسَّرَ ذَلِكَ غيري، وهو أحسن من أن يجعل الشيءُ خطأ إذ نطقت به العرب وكان له وجه من القياس، إلا أنه من جنس البدل الذي إنما يتبع فيه السماع، ولا يجعل قياساً مستمراً. فأما ما رواه نافع من معائش بالهمز فلا أعرف له وجهاً، إلا أن لفظَ هذه الياءِ التي من نفس الكلمة أسْكِنَ في معيشة فصار على لفظ صحيفة، فحمل الجمع على ذلك، ولا أحب القراءَة بالهمز إذ كَانَ أكْثرُ النَّاسِ إنَّمَا يَقْرأونَ بترك الهمز، ولو كان مما يهمزُ لجاز تحقيقه وترك همزه، فكيف وهو مما لا أصل له في الهمز؛ وهو كتاب اللَّه عزَّ وجلَّ الذي ينبغي أن يقال فيه إلى ما عليه الأكثر لأن القراءَة سنة فالأوْلى فيها الاتباع، والأولى اتباع الأكثر. وزعم الأخفش أن مصائب إنما وقعت الهمزة فيها بدلاً من الواو أُعلَّت في مصيبة، - وهذا ردِيءِ. لا يلزم أن أقول في مقام مقائِم ولفي معونة معائن. * * * وقوله جلَّ وعزَّ: " (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) زعم الأخفش أن (ثم) ههنا في معنى الواو، وهذا خطأ لا يجيزه الخليل وسيبويه وجميع من يوثق بعربيته، إنما ثم للشيءِ الذي يكون بعد المذكور قبله لا غير، وإنما المعنى في هذا الخطاب ذكر ابتداءُ خلق آدم أولًا، فإِنما المعنى إِنا بدأنا خلق آدم ثم صورناه، فابتداء خلق آدم التراب، الدليل على ذلك قوله عزَّ وجلَّ (إن مثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَل آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَاب). فبدأ اللَّه خلق آدم تراباً، وبدأ خلق حواءَ من ضلع من أضلاعه، ثم

وقعت الصورة بعد ذلك، فهذا معنى (خلقناكم ثم صورناكم). أي هذا أصل خلقكم. ثم خلق الله نطفاً ثم صُوِّرُوا. فثمَّ إِنما هي لما بعدُ. * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ). أي بعد الفراغ من خَلْق آدمَ أمِرَتِ الملائكَةَ بالسجود. وقوله: (إِلَّا إِبْلِيسَ لمْ يَكنْ مِنَ السَّاجدِين). استثناء ليس من الأول، ولكنه ممن أمِرَ بالسجود. الدليل على ذلك قوله. (مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ). فدل بقوله: (إِذْ أَمَرْتُكَ) أنَّ إبْلِيسَ أمِرَ بالسجود مع الملائكة، ومعنى (مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ) إلْغَاءُ " لا " وهي مَؤكدة، المعنى: ما منعك أن تسجد فمسألته عن هذا واللَّه قد علم ما منعه، توبيخ له وَلْيُظْهِرَ أنه معاند، وأنه ركب المعصية خلَافاً للَّهِ، وكل من خالف اللَّه في أمره فلم يَرَهُ وَاجِباً عليه كافر بإجماع، لو ترك تارك صلاةً قال إنها لا تجب كان كافراً بإِجماع الأمة. فأعلم اللَّه جل ثناؤُه أن معصية إبليس معصية معانَدَة وكفر، وقد أعلم الله أنه من الكافرين فقال: (إلا إبْلِيسَ أبَى واسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكَافِرِينَ). فَالْفَصْلُ بين معصية إبليس ومعصيةِ آدمَ وحَوَّاءَ أنَّ إبليس عاند وأقام ولم يتب، وأن آدم وحواءَ اعترفا بالذنب وقالا: (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

ومثل " أَلَّا " في قوله: (أَلَّا تَسْجُدَ) قوله: (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ) أي: لأن يعلم أهل الكتاب، وقول الشاعر: ابى جودُه لاَ البخل واستعجلت به. . . نعم من فتى لا يمنع الجوعَ قاتله قالوا معناه أبى جودُه البخلَ. وقال أبو عمرو بنُ العلاءِ: الروَايَةُ أبى جوده البخل. واستعجلت به " نَعَمْ "، والذي قاله أبو عمرو حسن، المعنى أبى جوده " لا " التي تُبخل الإِنسان، كأنَّه إِذا قيل: لا تسرف ولا تبذر مالك أبى جودُه " لا " هذه، واِستعجلت به " نعم "، فقال: نعم أفعل ولا أترك الجودَ. وهذان القولان في البيت هما قولا العلماء، وأرى فيه وجهاً آخر وهو عندي حسن. أرى أن تكون " لا " غير لغو، وأن يكون البخل منصوباً بدلاً من " لا ". المعنى أبى جوده البُخْلَ واستعجلت به " نعم ". وموضع " ما " في قوله: (مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ) رفع، المعنى أي شيء منعك في السجود، فلم يقل منعني كذا وكذا فأتى بالشيء في معنى الجواب. ولفظه غير جواب، لأن قوله: (أنَا خَيرٌ مِنْهُ) في معنى منعني من السجود فَضلى عَلَيْه. ومثل هذا في الجواب أن يَقول الرجل كيف كنت، فَيَقولُ: أنا صالح، وإنما الجواب كنت صحالحاً، ولكن المعنى إنَّه قد أجابه بما احتاج إليه وزاده أنه في حال مسألته إياه صالح فقال اللَّه عزْ وجلَّ:

(13)

(قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) لأنه قد استكبر بهذا الجواب فأعلمه اللَّه أنه صاغر بهذا الفِعْل. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) أي أخرنِي إلى يَومِ البَعْثِ، فلَم يُجَب إلى الإِنْظَارِ إلَى يَوْمِ البعث بعينه، وأُعْلمَ أنه منظور إلى يوم الوقْت المعلُومِ. * * * (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) في قوله: (أغويتني) قولان. قال بعضهم: فبما أضْلَلْتَنِي وقال بعضهم: فبما دَعَوْتني إلى شيء غَوِيت به، أي غويتُ من أجْل آدم. (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ). ولا اختلاف بين النحويين في أن " على " محذوفة، ومن ذلك قولك: ضرِبَ زيد الظهْر والبَطْنَ. * * * وقوله: (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) معناه - واللَّه أعلم - ثم لآتينهمْ في الضلَال من جميع جهاتهم. وقيل من بين أيديهم أي لأضِلنَّهم في جميع ما يُتَوَقعُ. وقيل أيضاً: لأخوِّفنََّهم الفَقرَ. والحقيقةُ - واللَّه أعلم - أي أنْصَرِفُ لهم في الإضلال في جميع جهاتهم. * * * وقوله: (قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18) - ْ معنى مَذْءُوم كمعنى مَذْمُوم، يُقَالُ: ذَأمْتُه أذْأمُه ذَأماً، إذَا رَعَبْتَه وَذَمَمْتَه. ومعنى (مَدْحُورًا) مُبْعَداً من رحمة اللَّه.

وقوله: (لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ). هذه اللام لام القسمِ تدخلُ توطئة للأمر. (لأملأنَّ). والكلام بمعنى الشرط والجزاء، كأنه قيل: من تبعك أعَذبُه، فدخلت اللام للمبالغة والتوكيد، ولام لأملأنَّ لام القسمِ ولام " من تبعك " توطئة لها ةيجوز في الكلام: واللَّه من جاءَكَ لأضْربنه، ولا يجوز ُ: واللَّه لَمَنْ جَاءَكَ أضربه، وأنت تريدُ لأضربنه، ولكن يجوز: واللَّهِ لمنْ جاءَك أضْربْهُ تريد لأضْربَنَّه. وقال بعضهم في قوله: (ثُمَّ لآتِيَنهُمْ مِنْ بَيْنِ أيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهمْ) أي لأغْوَينهُمْ فيما أمِرُوا به. وقوله: (وَعَن شَمَائِلِهمْ) أي: لأغوَينهم فيما نُهُوا عَنْه والذي أظنه - والله أعلم - على هذا المذهب: أني أغويهم حتى يُكَذِّبُوا بأمور الأمم السالِفةِ - بالبَعْث، كما ذكر في هذا. ومعنى: (وَعَنْ أيْمَانِهمْ وَعَنْ شمَائِلِهمْ). أي لأضلنهمُ فيما يَعْقلونَ، لأن الكسب يقال فيه: ذَلكَ بمَا كسبتْ يَدَاك، وإن كانت اليدان لم تجنيا شيئاً، إلا أنه يقال لكل ما عمله عامل كسَبَتْ يَدَاكَ، لأن اليَدَيْن الأصلُ في التصرف فجعلتا مثلًا لجميع مَا عُمِلَ بغيرهِمَا. قال اللَّه عزَّ وجلَّ (ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ)، وقال: ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ).

(19)

وقال: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ) ثم فَسَّر فقال: (مَا أغْنَى عَنْهُ مَالُهَ ومَا كَسَبَ). * * * وقوله: (وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) هذا الاختيارُ، أعنِي ذكر أنْتَ، تقول اذهب أنْتَ وزيد، ولو قلت: اذهب وزيد كان قبيحاً. وقد فسًرناهُ فيما سَلَف: وقوله: (وَلَ اتَقْرَبَا هَذِه الشَّجرَةَ). قال بعضهم: هي السنْبلَةُ، وقيل هي شَجرةُ الكَرْمِ. وقوله: (فَتكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ). الأجود أن يكون. " فتكونا " في موضع نصب على جوانب الأمر بالفاءِ. أي فإِنكما إن قربتماها كنتما من الظالمين. ويجوز أن يكونَ في موضع جزم عطفاً على قوله: وَلاَ تَقْرَبَا فَتكُونَا، أي فلا تكونا من الظالمين. * * * وقوله: (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) تدل واللَّه أعلم على مَعْنى قوله: (قال مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِه الشَّجرَةِ إِلَّا أنْ تَكُونَا مَلَكَيْن). ويجوز ُمَلِكين، لأن قوله: (هَلْ أدُلُّكَ عَلَى شَجرَة الخُلْدِ وَمُلْك لَا يَبْلَى) يدل على مَلِكَيْن وأحسبه قد قرئ به، فتدل - واللَّه أعلم - على أن القول إنَّما كان وسوسة من إبليس. والأجود أنْ يكون خطاباً، لقوله (وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21)

(22)

أي فَحَلَفَ لَهما: (فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) أي دَلَاَهُمَا فِىِ المعصية بأن غرهما. (فَلَمَّا ذَاقَا الشَجرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا). أي ظهرت لهما فروجُهُمَا، وإنما السَّوْءَةُ كناية عن الفَرْجِ، إلا أن الأصلَ - في التسمية السَّوءَةُ. وقوله عزَّ وجلَّ (وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ). مَعْنى طَفِقَا أخَذَا في الفِعْل، والأكثر طَفِقَ يَطْفَقُ. وقَدْ رُوَيتْ طَفَق يطفِقُ، بكسر الفاءِ. وقِيلَ: كان ورقُ الجنةِ ذلك ورقَ التين، ومعنى يَخْصفَانِ، يجعلانِ وَرَقَةً على ورَقَة، ومنه قيل للخَصَّافِ الذي يَرْقَع النَعْلَ: هو يخصِفُ. قال الشاعر: أو يخصف النعلَ لهْفِي أيَّةً صَنَعَا وًيجُوزُ يَخْصِفَانِ وَيخصِّفَان، والأصل الكسر في الخاءِ، وفتحها وتشديدُ الصَّادِ، وَيكون المعنى: يَخْتَصِفَانِ. وفي هذه الآية دليل على أن أمْرَ التكشُفِ وإظهَار السوءَة قبيح من لدُنْ

(26)

آدم. ألا ترى أنه ذكر عظم شَأنها في المعصِية فقال: (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْءَاتِهِمَا). وأنهما بادَرَا يسْتَتِرَانِ لقُبْحِ التكَشف. وقوله: (وَوُرِيَ عَنْهُمَا). يجوز فيه أوُرىَ، لأنَّ الواوَ مَضْمومَة، إنْ شِئْتَ أبْدلتَ منها همزة، إلا أن القراءَة تُتبَعُ في ذلك. والقراءَةُ المشهورةُ وخط المصحف (ووُرِيَ) بالواو. ومعنى (إلا أنْ تكُونَا مَلَكَيْنِ) وقوله: (ذاقَا الشجرَةَ،). يدل على أنهما ذاقاها ذَوْقاً ولم يُبالِغَا في الأكْلِ. * * * وقوله: (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26) ويقرأ (ورياشاً) والريشُ اللباس. العرب تقول: أعْطَيْتُه بريشتهِ، أي بكسوته، والريش. كل ما سَتَر الرجُلَ في جِسْمِه ومعيشتِه، يقال: ترَيَّشَ فلان أي صار له مَا يَعيش بِه، أنشد سيبويه وغيرُه. فريشي منكمو وهواي معكم. . . وِإن كانت زيارتكم لماما (وَلِبَاسُ التَّقْوَى). برفع اللباس، فمن نصَبَ عطفَ به على الريش يكون المعنى: أنزلنا عليكم لباس التقوى، ويرْفَعُ خيراً بِذلِكَ. ومن رفع اللباس فَرَفْعُه على ضربين: أحدهما أن يكون مبتدأ ويكون ذلك من صفته، ويكون (خَيْر) خبرَ الابتداء. المعنى ولباسُ التقوى المشِارُ إليه خَيْر. ويجوز أن يكون. (وَلبَاسُ التقْوَى) مرفوعاً بإضمار " هو " المعنى هو

(27)

لباس التقوى: أي وستر العورة لبَاسُ المتقِينَ. ثم قال: (ذَلِكَ خَيْرٌ) ويكون على أن لباس التقوى مرفوعٌ بالابتداءِ، ويكون (ذلِكَ) خَيْرٌ يرتفع به " خَيْرٌ " على أنه خبر ذلك. ويكون ذلك بمنزلة " هو " كأنه - واللَّه أعلم - ولباس التقوى هو خير، لأن أسماءَ الإشارة تقرب فيما يعود من الذكر من المضمر. والوجهان الأوَّلاَنِ أبينُ في العربية. * * * وقوله: (يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27) (حيثُ) في موضوع جر إلا أنها بُنِيَتْ على الضَّم، وأصلها أن تكون موقوفةً، لأنها ليست لمكانٍ بعينه وأن ما بعدها صلة لها، لَيْسَتْ بمضافة إليه. ": منَ العَربِ من يقول: ومن حَيْثَ خَرَجْتَ، فيفتح لالتقاءِ السَّاكنين، ومنهم من يقول مِن حوْثٌ خَرجتَ. ولا تقرأ بهاتين اللغتين لأنهما لم يقرأ بواحد منهما ولا هما في جودة حَيْثُ المبنيَّةِ على الضم. وقوله: (إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ). (جَعَلْنَا) في اللغة على ضُرُوب، منها جعلت بعض الشيءِ فوق بَعْض. أي عملته وهَيأته على هذه الصيغَة، ومنها جَعلَ - زيدٌ فُلاناً عاقِلًا، تأويله: سماه عَاقِلًا، ومنها جَعلَ يَقُولُ كذا وكذا، تأويله أنه أخذ في القول. فأما مَعْنَى الآيةَ فعلى ضربين - واللَّه أعلم -. أحدهما أن يكون الكفار عُوقبوا بأن سُلِّطَتْ عليهم الشيَاطين تزيدهم فِي غَيِّهم عقُوبةً على كُفْرِهِمْ كما قَالَ عزَّ وجلَّ: (أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83).

(28)

أي تَحْمِلُهمْ على المعاصي حَمْلاً شَدِيداً، تَزعجهم في شدّةِ الغَى. ويجوز إِنَا جعَلْنَا الشَيَاطِينَ أوليَاءَ لفَذِينَ لَا مهلؤمِنُونَ، أيسوينا بين الشياطين والكافرين في الذهاب عن اللَّه. كما قال: (المنَافقون وائنَافِقَات بعْضُهُم منْ بَعْضٍ). * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28) معنى الفاحشة ما يشتد قبحه من الذنوب. (قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا). فأعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أنه لا يأمر بالفحشَاءِ لأن حكمتَه وجميعَ ما خلق تدل على أنه لاَ يفعلُ إلا المسْتَحسَنَ، فكيف يأمر بالفحشاءِ. وقد احتج عليهم في غير هذا الموضوع بما قد بينَّاه في سورة الأنعام. * * * وقوله: (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) أي بالعَدْلِ، فكيف يأمُرُ بالفَحشاءِ من يعْلَم أنه لا يفعل إلا الحكمة. ولا يثبت إِلا العدلَ مِنْ أمْرِه، فإِذا كان يأمر بالعدل - والعدْل ما قام في النفوس أنه مستقيم لا ينكره مميز - فكيف بالفحشاءِ، والفحشاء ما عظم قبحه. ثم وبَّخَهُم فقال: (أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ). أي أتكْذِبونه. وقوله: (وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ). أي وَقْتَ كل صَلَاةٍ اقصدوه بصلاتكم.

(30)

(وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ). أي مخلصين له الطاعة. احتج عليهم في إِنكارهم البعث. وهو متصل بقوله: (فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ). فقال: (كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ). أي فليس بعثكم بأشد من ابتدائكم. * * * وقوله: (فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30) معناه إِنه أضَل فَريقاً حَق عليهم الضلالة. ثم قال: (إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ). ولو قُرِئَتْ أنَّهم اتَخَذوا الشياطين لكانت تجوز، ولكن الِإجماع على الكَسْرِ. وقوله: (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ). يدل على أن دوماً ينتحلون الِإسلامَ ويزعمونَ أن من كان كافراً، وهو لَا يعلم إنَّه كافر فليس بكافرٍ مُبْطِلُون لأمر نِحْلتِهمْ، لأن الله جل ثناؤُه قد أعلمنا أنهم يَحْسَبون أنهمْ مهتدون، ولا اختلاف بين أهل اللغة في أن الحُسْبَانَ ليس تأْويله غيرَ مَا يُعْلم من معنى حسب. والدليل على أن الله قد سماهم بظنهم كَفَرةً قوله عزَّ وجل: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27). فأعلمَ أنهم بالظنِ كافِرونَ، وأنهم معذبون.

(31)

وقوله: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) هذا أمرٌ بالاسْتِتَارِ في الصلوات، وكان أهلُ الجاهلية يطوفون عُراةً. وَيقُولون: لا نطوف حول البيتِ في ثياب قَدْ أذْنَبْنَا فِيهَا، وكانت المرأة تطوف عُرْيَانَة أيضاً إلا أنها كانت تشُدُّ في حَقْويها أشياءَ من سُيورٍ مقطعة، تُسَمِّي العرب ذلك الرهْط، قالت امرأة تطوف وعليها رهط: اليَوْمَ يَبْدو بعضُه أوكُلُّه. . . فما بدا منه فلا أُحِلُّه تعني الفرجَ، لأن السيورْ لا تستُر سَتْراً تَامًّا. فأمر الله بَعْدَ ذِكرِه عقوبةَ آدم وحواءَ في أن بَدَتْ لهما سوءَاتُهما. بالاستتار في وقت كل صلاة، بعد أن أعلم أن التعرِّيَ وظُهُورَ السوءَةِ مكروه من لدن آدم، وقوله بعقب الاستتار: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا). لأنهم ادَّعَوْا أنَّ اللَّه جلّ ثناؤُه قد حرم عليهم شيئاً مما في بطون الأنعام، وحرم عَلَيْهم البَحِيرَةَ والسائبة، وكانوا يزعُمونَ فيما يأتون من الفحشاءِ كالتعري وما أشبَهَهُ - أن الله جل ثناؤُه - أمرهم بذلك فأمرهم اللَّه بالاستتار، وأن يأكلوا - ما زعموا أن الله عزَّ وجلَّ حرَّمَه مما لم يحرمه، وأن يشربوا مما

(32)

زعموا أن اللَّه - جلَّ وعزَّ - حرم عليهم شربه، لأن ألبان البحيرة والسائبة كانت عندهم حراماً. * * * وقوله: - جلَّ وعزَّ -: (وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ). والإسراف أن يَأكُلَ مَا لَا يَحِل أكْلُه مما حرمَ اللَّه تعالى أنْ يؤكَلَ شَيء منه، أو تأكَل مما أحل لك فوق القصد ومقدار الحاجة، فأعلم اللَّه عزَّ وجلَ أنه لا يحب من أسرف، ومن لم يحْبِبْهُ اللَّه عزَّ وجلَّ فهو في النار ثم قَررَهم ووَبخهم فقال: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) أي من حرم أن تلبسوا في طَوَافِكُمْ مَا يَسْتُركمْ. (وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ). أي ومن حرم الطيبات مما رزق اللَّه، أي من حرم هذه الأشياءَ التي ذكرتم أنها حرام. ثم قال عزَّ وجلَّ: (قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِةِ). وتقرأ (خَالِصَةً) و (خَالِصَةٌ) يومَ القيامة. المعنى أنها حلال للمؤْمنين، وقد يَشْرَكُهمْ فيها الكافرون. أعلم عزَّ وجلَّ أن الطَّيبَات تَخْلُصُ للمؤْمنين في الآخرة ولا يَشْرَكُهُمْ فيها كافر. فأما إِعراب " خَالصَةٌ " فهو أنهُ. خبر بعد خبر، كما تقول: زيد عاقِل لَبِيب. فالمعنى قل هي ثابتة للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصةٌ يومَ القيامة. ومن قرأ (خَالِصَةً) جعل خالصة منصوباً على الحال، على أن العامل في قولك في الحياة الدنيا في تأويل الحال. كأنك قلتَ: هي ثابتة للمؤمنين مستقرة في الحياة الدنيا خالصةً يوم القيامة.

(33)

وقوله: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33) (وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا) موضِع (أَنْ) نَصْب: المعنى حرم اللَّه الفواحش تَحريمَ الشَرك. ومَعْنى (لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا) أَي لم ينزل به حجةً. * * * وقوله عزَّ وجلَّ (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34) أي وَقْت مَؤقَت. (فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ). المعنى: ولا يستقدمون ساعة، ولا أقل من ساعة، ولكن ذكِرَتِ الساعة لأنها أقل أسماءِ الأوقات. * * * وقوله: (يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) آدم لا ينصرفُ لأنه على قدر أفعَل وهو معرفة، وهو مشتق من أدمَةِ الأرْض، وهو وجهها، فسمي بما خلق منه،، اللَّه عزَّ وجلَّ أعلم. وقوله: (إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ). هذه " إِن " التي للجزاء، ضمَّتْ إِليها ما. والأصل في اللفظ " إِنْ ما " مفصولة، ولكنها مدغمة، وكتبتْ على الِإدغام، فإذا ضُمَّتْ إن إِلى ما، لزم الفِعْلَ النون الثقِيلة أو الخفيفة، وجواب الجزاءِ في الفاء أي" في قوله: (فمَن اتقى وأصْلَحَ). فإِنما تلزم " مَا " النونُ لأن ما تدخل مَؤكَدة فتلزمها النون كما تلزم اللامَ النُونُ في القَسمَ إِذا قلت: واللَّهِ لَتَفْعَلنَّ، فما توكيد، كما أن اللام توكيد. فلزمت النون كما لزمت لامَ القسم. * * * وقوله: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37) أيُّ ظُلْمٍ أشنع من الكذب على الله؟؟!!! وقوله: ْ (أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ). أي ما أَخبر الثه جلَّ ثناؤُه عن جزائهم نحو قوله: (فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14). 334

ونحو قوله: (يَسْلُكْهُ عَذَاباً صُعًداً) ونحو قوله: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ). ونحو: (إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ)، فهذه أنصِبَتهُمْ من الكتاب على قدر ذُنوبهم في كفرهم. (حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا). زعم سيبويه - والخليل - أن " حَتَّى " و " إِمَّا " و " إِلَّا " لا تجوز فيهن الِإمالة. لا يجيز: (حتى إِذا جاءَتهم) ولا يجيز " أمَّا "، ولا " لا إِله إِلَّا اللَّهُ "، هذا لحن كله، وزعم أن هذه ألفات الفَتح لأنَّها أواخر حروف جاءَت لمعنًى، فَفُصِلَ بينها وبين أواخر الأسماءِ التي فيها الألف نحو حُبْلَى وهدى، إِلا أن حتى كُتبتْ بالياءِ، لأنها على أربعة أحرف، فأشبهت سكرى. و" إِمَّا " التِي للتخيير شبهت بأن التي ضمت إِليها " ما " مثل قوله: (إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا). كُتبَتْ بالألف لما وصفنا، و " إِلًا " أيضاً كُتَبتْ بالألف أنها لو كُتَبَتْ بالياءِ لأشبهت إلى. وقوله: (حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ). فيه - واللَّه أعلم - وَجْهان: يكون: حتى إذا جاءَتهم ملائكة الموت يتوفونهم سألوهم عند المعاينة. فيعرفون عند موتهم أنهم كانوا كافرين، لأنهم (قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا). أي بطلوا وذهبوا.

(38)

ويجوز - واللَّه أعلم - أن يكون: - حتى إذا جاءَتهم رسلنا ملائكة العذاب يتوفونهم، فيكون (يَتَوَفوْنَهُمْ) في هذا الموضع على ضربين: أحدهما يتوفونهم عذاباً، وهذا كما تقول: قد قتلت فلاناً بالعَذاب وإن لم يمت. ودليل هذا القول قوله عزْ وجلَّ: (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ). وجائز وهو أضعف الوجهين أنهم يتوفون عدَّتهم واللَّه أعلم. * * * وقوله: (قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38) (كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا). لأنهم ضل بعضهم باتباع بعض. (حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا). أي تداركوا، وأدغمت التاءُ في الدال، فإذا وقفت على قوله " حتى إذا " لم تبتدئ حتى تَأتيَ بألف الوصل، قتقول: ادَّارَكُوا فتأتي بألف الوصل لسكون الدال فيها. ومعنى تداركوا اجتمعوا. وقوله " (جميعاً) منصوب على الحال، المعنى حتى إِذا تداركوا فيها مجتمعين. (قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا). أي قالت أخراهم: دعتهم أولاهم فاتبع الآخِرُ - الأولَ. فأعلم التابعونَ أن المتبوعين أضَلُّوهُمْ بأن دَعَوْهم إلى الضلال، والمعنى قالت أخراهم يا ربنا هؤُلاءِ أضلونا، لأولاهم، تعني أولاهم. وقوله: (فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ).

(40)

أي عذاباً مُضاعَفاً لأن الضعف في كلام العرب على ضربين أحدهما المثل، والآخر أن يكون في معنى تضعيف الشيءِ. (قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ). أي للتابع والمتبوع لأنهم قد دخلوا في الكفر جميعاً، أي لكل عذاب مضاعف، فمن قرأ: (وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ) بالتاءِ. أي ولكن لا تعلمون أيها المخاطبون ما لكل فريق منكم من العذاب. ومن قرأ (وَلكِنْ لَا يَعْلَمُون) - بالياءِ، أي ولكن لا يعلم كل فريق مقدار عذَابِ الفريق الآخر. ويجوز - واللَّه أعلم - ولكن لا تعلمون يا أهل الدنيا مقدار ذلك. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) أي كذبُوا بحججنا وأعلامِنَا التي تدل على نبوة الأنبياءِ وتوحيد اللَّه. (لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ). أي لا تَصْعَدُ أرواحهم ولا أعمالهم، لأن أعمال المؤْمنين وأرواحهم تصعد إِلى السماءِ، قال اللَّه عزَّ وجلَّ: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ). ويجوز لا تُفْتَح ولا تُفَتَّحُ بالتخفيف والتشديد، وبالياءِ والتاءِ. وقال بعضهم: لا تفتح لهم أبواب السماءِ، أي أبواب الجنة، لأن الجنة في السماءِ، والدليل على ذلك قوله: (وَلاَ يَدْخُلُونَ الجنَّةَ). فكأنه لا تفتح لهم أبواب الجنة ولا يدخلونها (حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ).

(41)

فالخياط الإبرة، وسمها ثقبها. المعنى لا يدخلون الجنة أبداً. وسئل ابن مسعود عن الجَمَلِ فقال هو زوج الناقة. كأنه استجهل من سأله عن الجمل. وقرأ بعضهم الجُمل، وفسَّروه فقالوا قَلسُ السفينة. * * * وقوله عزَّ وجلَّ (وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ) أي ومثل ذلك الذي وصفنا نجزي المجرمين. والمجرمون - واللَّه أعلم - ههنا الكافرون، لأن الذي ذكر منْ قصتهم التكذيبُ بآيات اللَّه، والاستكبار عنها. * * * (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41) أي فراش من نار. (وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ). أي غاشية فوق غاشية من النار. وقوله: (وَكَذلك نَجْزي الظَّالِمِينَ). والظالمون ههنا الكافرون. وقوله " غَوَاشٍ) زعم سيبويه والخليل جميعاً أن النون هنا عوض من الياء لأن غواشيَ لا تنصرف، والأصل فيها غَوَاشي، بإسكان الياءِ. فإذا ذهَبَت الضمةُ أدْخَلْت التنوين عوضاً منها، كذلك فسر أصحاب سيبويه، وكان سيبويه يذهب إلى أن التنوين عوَض من ذهاب حركة الياءِ، والياءُ سقطت لسكونها وسكون التنوين. فإذا وقفت فالاختيار أن تقف بغير ياءٍ، فتقول

(42)

غَوَاش، لتدل أن الياء كانت تحذف في الوَصْل. وبعض العرب إذا وقف قال غَوَاشي، بإثبات الياءِ. ولا أرى ذلك في القرآن لأن الياء محذوفة في المصحف، والكتاب على الوقف. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42) أي عملوا الصالحات بقدر طاقتهم، لأن معنى الوسع ما يقدر عليه. وقوله: (أُولَئِكَ أَصْحَابُ الجنَّة هُمْ فيها خَالدُونَ). أُولَئِكَ رفع بالابتداءِ، وأصحاب خبر، وهم والجملة خبر الذين، ويرجع على الذين أسماءِ الإشارة، أعني أولئك. * * * قوله: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) قال بعضهم: ذهبت الأحقاد التي كانت في قلوبهم، وحقيقته - والله أعلم - أنه لا يحسد بعضُ أهل الجنَّة بعضاً في عُلو الرُتبة، لأن الحسدَ غل. * * * وقوله تعالى: (تجْرِي من تحْتِهُمُ الأنْهارُ). في معنى الحال، المعنى ونزعْنا ما في صدورهم من غل في هذه الحال، ويجوز أن يكون " تجري " إخباراً عن صفة حالهم، فيكون تجري مستأنفاً. ومعنى (هَدَانا لهذا). أي هدانا لما صيرَنا إِلى هذا، يقال: هديت الرجل هداية وهدى وهدْياً. وأهْدَيت الهَدْيَة فهي مُهداة، وأهديت العروس إلى زوجها وهديْتُها. وقوله جلَّ وِعز: (وَنودُوا أنْ تلكُمُ الْجَنَّةُ).

(44)

في موضع نصب، وهَهُنَا الهاءُ مضمرة، وهي مخففَة من الثقيلة. والمعنى نودوا بأنه تلكم الجنَّةُ. والأجود - عندي - أن تكون أن في موضع تفسير النداءِ، كان المعنى، ونودوا أن تلكم الجنة، أي قيل ألهم،: تلكم الجنة، وإنما قال: تلكم، لأنهم وُعدوا بها في الدنيا، فكأنه قيل: هذه تلكم التي وعدتم بها. وجائز أن يكون عاينوها فقيل لهم من قبل دخولها إشارة إلى ما يرَوْنَه: تلكم الجنة، كما تقول لما تراه: ذلك الرجل أخوك. ولو قلت: هذا الرجل لأنه يراك جاز، لأن هذا وهُؤلاءِ لما قرب منك، وذاك وتلك لما بَعُدَ عنك. رأيته أو لم تره. * * * وقوله: (وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) معنى " أن " ههنا إن شئت كان مفسراً لما نادى به أصحاب الجنة. والمعنى أي قد وجدنا، ويجوز أن تكون أن الشديدة وخففت، المعنى أنه قد وجدنا. قال الشاعر: في فتية كسيوف الهند قد علموا. . . أن هالك كل من يحفى وينتعل وقوله: (قَالوا نَعَمْ). وفي بعض اللغات قالوا نَعِمْ في معنى نَعَمْ - موقوفةُ الآخر - لأنها حرف جاءَ لمعنى.

(51)

وقوله: (فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ). ويجوز أنَّ لعْنةَ اللَّه على الظَّالِمِينَ، وقد قرئ بهما جميعاً والمخففة مخففة من الشديدة، ويجوز أن تكون المخففة في معنى أي الخفيفة التي هي تفسير، كأنَّها تفسير لما أّذَّنُوا فيه. * * * وقوله: (الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51) (فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا). أي نتركهم في عذابهم كما تركوا العمل للقاءِ يومهم هذا. ومعنى: (وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ). و" كجحدِهم " و " ما " نسقُ على " كما، في موضع جر. * * * وقوله: (وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هدى في موضع نصْبٍ، أي فصلناه هادياً وذا رحمة. ويجوز هدى ورحمةٌ نقوم يؤمنون على الاستئناف، المعنى هو هُدًى ورحمةٌ لقوم يؤمنون. * * * وقوله: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (53) (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ). معناه هل ينظرون إِلا ما يؤُول إليه أمرهم من البعث، وهذا التأويل والله أعلم - هو قوله (وَمَا يَعْلَمُ تَأوِيلَهُ إلا اللَّهُ)، أي ما يعلم متى يكون البعث. وما يؤُول إِليه إِلا اللَّه: (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) بالبعث - واللَّه أعلم -. وقوله: (يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ). (يومَ) منصوب بقوله: (يقول) و (الذين نسوه) على ضربين:

(54)

جائز أن يكون صاروا في الإعراض عنه بمنزلة من نُسِيَ وجائز أن يكونوا نسوه وتركوا العمل له والإيمانَ به. وقوله:. (أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ). (أَوْ) نسق على قوله (من شفعاءَ)، " كأنهم قالوا: هل يشفع لنا شافع أو هل نرد. * * * وقوله عزَّ وجلَّ (فَنَعْمَلَ) منصوب على جواب الفاءِ للاستفهام. ويجوز أن تنصب (أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ)، أي إِن رددنا استغنينا عن الشفاعة. * * * وقوله: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54) (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ). و (يُغَشِّي اللَّيْلَ النَّهَارَ)، جميعاً يقرأ بهما. والمعنى أن الليل يأتي على النهار فيغطيه، ولم يقل يغشى النهارَ الليْلَ. لأن في الكلام دليلاً عليه، وقد جاءَ في موضع آخر: (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ). وقوله تعالى: (وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ). أي خلق النجوم جارِيَاب مَجَارِيَهُنَّ بأمرِه. * * * وقوله: (وَعَلى الأعْرافِ رِجَالٌ). وقوله: (وَنادَى أصْحَابُ الأعْرَافِ) اختلف الناس في أصحاب الأعراف، فقال قوم: هم قومُ استوت حسناتهم وسيئاتُهم، فلم يستحقوا الجنة بالحسنات، ولا النار بالسيئات. فكانوا على الحجاب الذي بين الجنة والنار. والأعراف أعَالي السُّورِ، ويُقَالُ لكل عَال عُرْف وجمعُه أعراف.

ويجوز أن يكون - واللَّه أعلم - على الأعراف على معرفة - أهل الجنة وأهل النار هُؤلاءِ الرجال، فقال قوم ما ذكرنا، وإن اللَّه يدخلهم الجنة، وقال قوم أصحاب الأعراف أنبياء وقال قوم ملائكة. ومعرفتهم كُلًّا بِسيماهُمْ يعرفون أصحاب الجنة بأن سيماهم إِسْفَارُ الوُجوه والضحِكُ والاسْتِبْشَارُ كما قال عزَّ وجل: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39). ويعرفون أصحاب النار بسيماهم وسيماهم اسوداد الوجوه وَغُبْرَتُها - كما قال جلَّ وعزَّ: (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ). و (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) والقَتَرة كالدُّخَان. وقوله: (مَا أغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وما كنتم تَسْتَكْبِرُونَ). هذا - واللَّه أعلم - خطاب أصحاب الأعراف لأهل النار، وقرئت تستكثرون بالثاءِ. وأما تجوله: (أهَؤُلاءِ الَّذِينَ أقْسَمْتُمْ). يعني أهل الجنة كأنه قيل لهم: يا أهلَ النار أهُؤلاءِ الذين حلفتم لاَ ينالهم الله برحمة). (ادخُلُوا الجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ). وإن شئت بالفتح لا خوفَ عليكم. فجائز أن يكون (ادْخُلوا الجنَّةَ) خطاباً من أصحاب الأعراف لأهل

(55)

الجنة، لأن كل ما يقوله أصحاب الأعراف فَعَنِ اللَّه تعالى. وجائز أن يكون خطاباً من اللَّه عزَّ وجلَّ لأهل الجنة. وقوله: (وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ). فأعلم اللَّه عزْ وجل: أن ابن آدم غيرُ مستغن عن الطعام والشراب وإن كان معذباً. فأعلمهم أهلُ الجنة أنْ اللَّه حرمها على الكافرين، يَعْنون أن اللَّه حرم طعامَ أهل الجنة وشرابَهم على أهل النار، لأنهم إنما يشربون الحميمَ الذي يُصْهَرُ به مَا في بُطُونهمْ. * * * وقوله: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) قال قوم: تضرعوا تملقاً، وحقيقته - واللَّه أعلم - أن يَدْعُوه خاضعين متعبدين. و (خُفْيَةً) أي اعتقدوا عبادته في أنْفُسِكم، لأن الدعاءَ معناه العبادة. وقوله: (إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ). والمعتدون المجاوزون ما أمِروا به، وَهُمُ الظالمونَ. * * * وقوله: (وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56) (وَادْعُوهُ حوْفاً وطَمَعَاً). أي ادْعوه خائِفين عذَابه وطامعين في رحمته، ويروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: لَنْ يَدْخُلُ الجنة أحدٌ بعَمَلِه، قالوا: ولا أنت يا رسول اللَّه؟ قال ولا أنا إلا أن يتَغمدنيَ اللَّهُ برحمته. وقوله: (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ). إنما قيل (قَرِيبٌ) لأن الرحمة والغفْرَانَ في معنَى واحدٍ وكذلك كل تأنيث ليس بحقيقي. وقال الأخفش جائز أن تكون الرحمةُ ههنا في معنى المَطَر.

(57)

وقال بعضهم: هذا ذُكرَ ليفصل بين القريب من القرابة، والقريب من القُرْبِ، وهذا غلط، أن كل ما قَرُبَ من مكان أوْ نَسَبٍ فهو جارٍ على ما يصيبه من التأنيث والتذكير. * * * وقوله: (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) (بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ). و (نُشْرًا) أيضاً بضم النون وفتحها - وقرأ عاصم بُشْرًى بالياء. فمن قرأ (نُشْرًا) فالمعنى وهو الذي يُنْشِر الرياح مُنْشَرةً نشْراً. ومن قال نُشْراً فهو جمع نشورٍ ونُشُرٍ. ومن قرأ بُشْراً فهو جمع بشيرةٍ وبُشُرٍ كما قال جلَّ وعزَّ: (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الريَاحَ بُشْرًا). وقوله: (بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِه). أي بين يدي المطر الذي هو رحمة، (حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا) أي حتى إِذا أَقَلَّتْ الريح سَحَابًا، يقال: أقل فلان الشيء إِذا هو حمله، وفلان لا يَسْتقلُّ بحَمْلِه. فالمعنى حتى إِذا حملت سحاباً ثقالاً، والسحاب جمع سحابة. (ثِقَالًا) أي ثقالًا بالماءِ. (سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ). ومَيْتٍ جميعاً. (فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ). جائز أن يكون: فأنزلنا بالسحاب الماءَ، فَأخْرَجْنَا بِه مِنْ كل الثمَرَاتِ. الأحسن - واللَّه أعلم - فأخرجنا بالماءِ من كل الثمرات، وجائز أن يكون أخرجنا بالبلد من كُل الئمرات، لأن البَلَدَ ليس يُخَصُّ به ههنا بلَدٌ سوى سائر البُلْدَانِ.

(58)

وقوله عزْ وجلَّ: (كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى). أي مثلَ ذَلكَ الإخراجِ الذي أشرنا إِليه نخرج الموتى. وقوله: (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ). لعل ترج، وإنما خوطب العباد على قدر علمهم، وما يرجوه بعضهم من بعض، واللَّه يعلم أي تَذَكرون أم لا. وقوله: (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ). أي لعلكم بما بينَّاهُ لكم تستَدِلُّونَ على توحِيد اللَّهِ وأنه يبعث الموتى. * * * وقوله: (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58) وقرأها أهل المدينة نكَدًا - بفتح الكاف - ويجوز فيه وجهان آخران: إِلَّا نَكْدًا ونُكْدًا - بضم النون وإسكان الكاف ولا يقرأ بالمضمومة، لأنه لم تثبت به رواية في القرآن. * * * وقوله (قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60) وهم الرؤساء والأشراف، وقال بعضهم يعنى به الرجال. - وقد بيَّنَّا المَلأ فيما سبق من الكتاب. وقوله: (أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) هذه الواو واو العطف. دخلت عليها ألف الاستفهام، فبقيت مفتوحة. وقد بيَّنَّا أمرها في الكتاب. وقوله: (فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (64) (في الفُلْكِ). والفلك السفينة، يكون الفلك واحداً، ويكون جمعاً.

(65)

وقوله: (قَوْمًا عَمِينَ). أي قد عَموا عن الحق والِإيمان. * * * وقوله: (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65) المعنى: لقد أرسلنا نوحاً إِلى قومه، وأرسلنا إِلى عادٍ أخاهم هودًا. وقيل للأنبياءِ أخوهم وإن كانوا كفرة، يعني به أنَّه قد أتاهم بَشَرٌ مثلُهم من وَلدِ أبيهم آدمَ، وهو أرْجح عليهم. وجائز أن يكون أخاهم لأنه من قومهم ليكون أفهمَ لَهُمْ بأن يأخذوا عن رجل مِنْهُمْ. * * * وقوله: (قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66) السفاهة خِفَةُ الحلم والرأي، يقال ثوبٌ سفيه إذَا كان خفيفاً. وقوله: (وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ). وكفروا به ظانِّينَ لَا مُسْتيْقنين. * * * وقوله: (قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67) هذا موضع أدب للخلق في حسن الجوار وفي المخاطبة، أنه دفع ما نسبوه إليه من السفاهة بأن قال ليس بي سفاهة، فدفعهم بنفي ما قالوا فقط. وقوله: (وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ). أي الذي أنبئكم به مِنْ عند الله، لأنه أمَرَهمْ بِعِبَادَةِ اللَّه جلَّ وعزَّّ وتوحيده. * * * وقوله: (أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) وَخُلَفَاءَ جمع خليفة على التذكير لا على اللفظ، مثل ظَريف وَظُرَفَاءَ.

(73)

ْوجائز أن يجمع خلائف على اللفظ، مثل طريفة وَطَرَائف. وقوله - جلَّ وعزَّ -: (وَزَادَكُمْ في الْخَلْقِ بَسْطَةً). في التفسير أنَّه كان أقصَرُهُم، طولُهُ ستونَ ذِرَاعاً وَأطْوَلهُمْ مائة ذِراع. وقوله: (فَاذُكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ). معناه نِعَمَ اللَّه، واحدها إلى. قال الشاعر: أَبيض لا يَرْهَب الهُزالَ ولا. . . يَقْطعُ رُحْماً ولا يَخُون إِلاَّ ويجوز أن يكون واحدها إليْ وإِليَّ. * * * وقوله: (وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أي أرْسَلْنَا إِلى ثَمُودَ أخاهم صَالِحاً. وثمودُ في كتاب اللَّه مصروف وغيرُ مصروف. فأما المصروف فقوله: (ألَا إن ثَمُوداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ ألا بُعْداً لِثَمُود). الثاني غَيْرُ مصروفٍ، فالذي صرفه جَعَلَهُ اسماً للحي، فيكونُ مُذَكَراً سمي به مُذَكرٌ وَمَنْ لم يصرِفْه جعله اسْماً للقَبيلة. وقوله: (مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ). وتقرأ غَيرِه، فمن رفع فالمعنى ما لكم إِلهٌ غيرُهُ، ودخلت " مِنْ " مَؤكدةً. ومَنْ جَرَّ جعله صفةٌ لإلَهٍ. وأجاز بعضهم النصبَ في غَيْر وهو جائز في غير القرآن، على النصب على الاستثناءِ وعلى الحال من النكرة. ولا يجوز في القرآن لأنه لم يقرأ به. وأجاز الفراء. . ما جاءَني غيرَكَ بِنَصْبِ غيرَ، وهذا خطأٌ

بيِّن، إنما أنشد الخليل وسيبويه بيتاً أجازا فيه نصب غير، فاستشهد هو بذلك البيت واستهواه اللفظ في قولهما إن الموضعَ موضِعُ رفع. وإنما أضيفت غير في البيت إلى شيءٍ غير متمكن فبنيت على الفتح كما يبنى يوم إذَا أضِيفَ إلى إذْ على الفتح. والبيت قول الشاعر: لم يَمْنع الشُّرْبَ منها غَيْرَ أَن نطقت. . . حمامة في غُصُونٍ ذاتِ أَوْقالِ وأكثرهم ينشده غيرَ أن نطقت، فلما أضاف غير إلى " أنْ " فتح غير، ولو قلت: ما جاءَ في غيرَك لم يجز. ولوجاز هذا لجاز ما جاءَني زيداً. وقوله: (قَدْجَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبكُمْ). دعاهم إلى التوحيد ودلهم على نُبُوتةِ بالناقة فقال: (هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لكُمْ آيَةً). (آيَةً) انتصب على الحال، أي أنظروا إلى هَذه الناقَةِ آية أي عَلامَةً. وقد اختلف في خبرها، فقيل في بعض التفسير: إِن الملأ من قوم صالح كانوا بين يديه فسألوه آية وكانت بين يديه صفاة - وهي الصخرة - فأخرج الله منها ناقة معها سَقْبُها أي وَلَدُها. وجاءَ في بعض التفسير أنه أخذ ناقة من سائر النوق، وجعل الله لها

(74)

شِرْباً يوماً وَلَهُمْ شربُ يومِ. وذُكِرَتْ قصته في غير هذا الموضع فقال: (هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155). فكانت تشرب يوما ثم تُفْحِجُ يوماً آخر في وادِ فلا تزال تحتلب ولا ينقطع حلَبُها ذلك اليوم. فجائز أن يكون أمرُ خروجها من الصخرة صحيحاً، وجائز أن يكون أمر حلبها صحيحاً. وكل منهما آية معجزة تدل على النبوة. وجائز أن تكونَ الرِّوَايَتَانِ صحيحتَيْنِ فَيُجْمَعُ أنَّها خرجت من صخرة وأن حَلْبَهَا على ما ذَكَرْنَا. ولم يكن ليقول: (قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) فتكون آية فيها لبسٌ. وقوله: (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) أي لما أهلكهم وورثكم الأرض. (وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ). أي أنزلكم. قال الشاعر: وبُوِّئَتْ في صَمِيمِ مَعْشَرِها. . . وتَمَّ في قَوْمِها مُبَوَّؤُها أي أنزلت من الْكَرَم في صميم النسب. وقوله: (وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ). يقال: نَحَتَ يَنْحِتُ، ويقال أيضاً نَحَتَ يَنْحَتُ، لأن فيه حرفاً من حروف ويروى أنهم لطول أعمارهم كانوا يحتاجون أن ينحتوا بيوتاً في الجبال،

(77)

لأن السقوفَ والأبنية كانت تبلى قبل فناءِ أعمارهم. * * * وقوله: (فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) (وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ). أي جاوزوا المقدَارَ فى الْكُفْر. * * * (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78) والرجفة: الزلزلة الشديدة. ويروى أنه لما قال لهم: (تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ) أصبحوا في أول يوم مصفرة وجوهُهم، وفي اليوم الثاني محمرة وجوههم وفي اليوم الثالث مسودَّةً وجوههم، وفي اليوم الرابع أتاهم العذاب. ويقال إِن ابتداءَ عقرهم الناقة كان في يوم الأربعاءِ، وأخذهم العذاب في يوم السبت. وقوله: (فَأصْبَحُوا نَادمينَ). أي في وقت لا ينفعهم الندم. وأصْبَحُوا جَاثمِينَ. في اليوم الذي أخذتهم فيه الرجفة. ومعنى (جَاثِمِينَ) قد خمدوا من شدة العذاب. وقال بعضهم أصْبَحُوا كالرماد الجاثِم. * * * وقوله: (وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80) أي وأرسلنا لوطاً إِذ قال لقومه. وقال الأخفش ويجوز أن يكون منصوباً على واذكر لوطاً إِذ قال لقومه. والوجهُ أن يكون معطوفاً على الإرسال. وقال بعض أهل اللغة: لوط مشتق من لطتُ الحَوْضَ إذا مَلَّسَتَه بالطين. وهذا غلط. لأن لوطاً من الأسماءِ الأعجمية ليس من العربية، فأما لطت

(82)

الحوض وهذا ألوط بقلبي من هذا، فمعناه ألصق بقلبي. واللِّيطُ القِشرُ. وهذا صحيح في اللغة. ولكن الاسم أعجمي كإِبراهيم وإِسحاق، لا نقول إنه مشتق من السُّحْقِ وهو البعدُ. وهو كتاب الله الذي لا ينبغي أن يقدم على تفسيره إلا برواية صحيحة وحجة واضحة. وقوله: (أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ). هذا دليل أن فاحشة اللواط لم يفعلها أحد قبل قوم لوط. وقد اختلف الناس في حَدِّ اللُّوطِي، فقال بعضهم هو كالزاني. وروي أن أبا بكر حرق رجلاً يقال له الفجاءَة بالنار في اللواط. وقال بعضهم: يجب أنْ يقتلَ مُحْصَناً أو غير مُحْصَنٍ، لأن الله تبارك وتعالى قتل فاعليه بالحجارة. فخاطبهم لوط فقال: (أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ). وقال في موضع آخر: (إنكمْ لتأتون الفاحشة). والفاحشة الشيءَ الغليظ القبيح. * * * وقوله: (وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) يجوز أن يكون " جَوَابَ " مرفوعاً. (وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا) والأجود النصب وعليه القراءَة.

(83)

(إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ). أي يتطهرون عن عملكم. * * * وقوله: (فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83) في التفسير أنَّ أهلَه ابنتاه. (إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ) قيل في الغابرين ههنا قولان. قال أهل اللغة: من الغابرين من الباقين. أي من الباقين في الموضع الذي عذبوا فيه. وَأنْشَدَ أبو عَبَيْدَة معمر بن المثنى. فما وَنَى محمدٌ مُذْ أَنْ غَفَرْ. . . له الإِلهُ ما مَضَى وما غَبَرْ أي ما بقي. وفال بعضهم: (من الغابرين) أي من الغائبين عن النجاة. وكلاهما وجه. واللَّه أعلم. * * * وقوله: (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) مَدْيَنُ لا ينصرف لأنه اسم للقبيلة أو البلدة، وجائز أن يكون أعجمياً. وقوله: (قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ). قال بعض النحويين؛ لم يكن لشعيب آية إِلا النبوة، وهذا غلط فاحش. قال قد جاءَتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل فجاءَ بالفاءَ جواباً للجزاء، فكيف يقول: قد جاءَتكم بينة من ربكم ولم يكن له آية إِلا النبوة، فإن كان مع النبوة آية فقد جاءَهم بها. وقد أخطأ القائل بقوله: لم تكن له آية، ولو ادَّعَى مُدَّعٍ النبوة بغير آية لم تُقْبَلْ منه، ولكن الِقول في شعيب أن آيته كما قال بينَة.

(86)

إِلا أن الله جل ثناؤه ذكر بعض آيات الأنبياءِ في القرآن وبعضهم لم يذكرآيته، فمن لم تذكر آيته لا يقال: لا آية له. وآيات محمد النبي - صلى الله عليه وسلم - لم تذكر كلها في القرآن ولا أكثرها. وقوله: (وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ) البَخْسُ النقْص والقِلَّة، يقال بخست أبخس بالسين، وبخصت عيْنَه بالصاد لا غير مثل فقأت عينيه. (وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا). أي لا تعملوا فيها بالمعاصي وَبخِس الناس بعد أنْ أصلحها الله بالأمر بالعدل وإرسال الرسل. * * * ْوقوله: (وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) أي بكل طريق. ومعنى توعدون أي توعدون من آمن بشعيب بالعذاب والتهدد يقال: وعدته خيراً، ووعدته شرًّا، فإِذا لم تذكر واحداً منهما. قلت في الخير وعدته وفي الشر أوعدته. وقوله: (وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ). أي عن الطريق التي آمن اللَّه من آمن بها. (وَتَبْغُونَهَا عِوَجًاأ). أي وتريدون الاعوجاج والعدول عن القصد. يقال في الدين وفيما يعلم إذا كان على غير استواء عوج بكسر العين وفي الحائط والعودِ عَوَج بفتح العَيْن.

(88)

وقوله: (وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ). جائز أن يكون (فَكَثَّرَكُمْ) جعلكم أغنياءَ بعد أن كنتم فقراءَ، وجائز أن يكون كان عددهم قليلاً فكثرهم، وجائز أن يكونوا غير ذوي مقدرة وأقدار فكثرهم، إلا أنه ذكرهم بنعمة الله عليهم كما قال: (فاذكروا آلاءَ اللَّهِ) أي نعم اللَّهِ. * * * وقوله: (قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) المعنى: ليكونن أحدُ الأمْرَين، ولا تُقارُّ على مخالفتنا. وقوله: (قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ). أي أتعيدوننا في ملتكم وإن كرهناها. فإِن قال قائل: كيف قالوا لشُعَيب: أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا، وشعيب نَبِيٌّ؟ ففيه قولان: أحدهما: لما أشرَكُوا الذين كانوا على مِلَّتهم قالوا: أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا. وجائز أنْ يقال: قد عَادَ عليَّ من فلان مكروه، وإن لم يكن سبقه مكروه قبل ذلك وإنما تأويله إنَّه قد لحقني منه مكروه. وقوله: (قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89) (وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ). اختلف الناس في تأويل هذا، فأولى التأويلات باللفْظ أن يكون: (وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) لأنه لا يكون غير ما يشاءَ اللَّه. وهذا مذهب أهل السنة. قال اللَّه عزْ وجل: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ). والمشيئة في اللغة بيِّنة لا تحتاج إِلى تأويل.

فالمعنى: ما يكون لنا أن نعود فيها إِلا أن يكون الله عزَّ وجلَّ قد سبق في علمه ومشيئته أنا نعود فيها. وتصديق ذلك قوله: (وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا). ثم قال (عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا). وفي موضع آخر: (وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ). وقال قوم: (وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا) أي فاللَّه لا يشاءُ الكفر، قالوا: هذا مثل قولك: لَا أكلِّمك حتى يبيضَّ الفار وَيشيبَ الغُرابُ، والفارُ لا يبيض، والغراب لا يشيب. قالوا فكذلك تأويل الآية. قال أبو إسحاق: وهذا خطأ لمخالفته أكثر من ألف موضع في القرآن لا تحتمل تأويلين، ولا يحدث شيءٌ إِلا بمشيئته وعن علمه. إِما أن يكونَ عَلِمَهُ حادثاً فشاءَه حادثاً، أو عَلِمَهُ غيرَ حادثٍ فشاءَه غيرَ حادث. ولا يجوز لما مكنَ الخلق من التصرف أن يُحدثَ الممتنعَ موجوداً، ولا يكون ما علمه أنَّه يُوجَدُ ممتنعاً. وسنةُ الرَسول عليه السلام تشهد بذلك ولكن اللَّه تبارك وتعالى غيب عن الخلق علمه فيهم، ومشيئته من أعمالهم فأمرهم ونهاهم. لأن الحجة إِنما تثبت من جهة الأمر والنهي، وكل ذلك جائز على ما سبق في العلم وجرت به المشيئة، قال الله تعالى: (وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا). . الآية. فسقوط الورقة منسوب إِليها وهو خلقه فيها كما خلقها، وكذلك إِلى آخر الآية.

وقال: (يَعْلَمُ مَا فِي أنْفُسِكمْ فاحْذَروه)، وما في النفوس من الخواطر الجائلة والهم الجائل والعزم الجائل فيها. فلا يجوز عدم ما علمه كائناً فيها، ولا يجوز كون ما علمه معدوماً. فحذرهم مخالفةَ ظاهر أمره ونهيه لأن عليهم السمع والطاعة للأمر إذا أمروا به، وهم جارون على ما عَلِمَ منهم أنَّهم يختارون الطاعة، ويختارون المعْصِيَة، فلا سبيل إِلى أن يختاروا خلاف ما علم أنهم يختارونه. وإن لم يكن الأمر على ما قلنا وجَب أن يكون قولهم: علم اللَّه أفعال العبَادِ قبل كونها إِنما هو علم مجاز لا علم حقيقة. واللَّه تعالى عالم على حقيقة لا مجاز، والحمد للَّهِ. وقال قوم - وهو بعد القول الأول قريب -: إِن المعنى: (وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا). أي قد تبرأنَا من جميع ملَّتِكُمْ فما يكون لنا أن نعود في شيءَ منها إِلا أن يشاءَ اللَّه وجهاً من وجوه البر الذي تتقربون به إلى اللَّه، فيأمرنا به، فنكونَ بهذَا قد عُدْنا. قال أبو إسحاق: والذي عندي - وهو إِن شاءَ اللَّه الْحَقُّ - القول الأول. لأن قوله: (بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا)، إنَّما هو، النجاة من الكفر وأعمال المعاصي لا من أعمال البر. وقوله: (وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا). (عِلْمًا) منصوب على التمييز. وقوله: (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ). أهل عُمان يسمُون القاضي الفاتح والفتاح.

(91)

وجائز أن يكون افتح بيننا وبين قومنا بالحق، أي أظهر أمْرنَا حتى ينفتح ما بيننا وبين قومنا وينكشف، فجائز أن يكون يسألون بهذا أن ينزلَ بقومهمْ من العذاب والهلكة ما يظهر به أن الحق مَعَهُمْ. * * * وقوله: (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91) هي الزِلزلة الشديدة. وقوله جلَّ وعزَّ: (فأصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثمينَ). أي أجْسَاماً مُلْقاة في الأرض كَالرمَاد الجَاثِم. * * * وقوله: (الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92) (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا). أي كَأَنْ لَمْ ينزلوا فيها. قال الاصمعي: المَغَاني المنازِلُ التي نزلوا بها، يقال غَنينا بمكان كذا وكذا، أي نَزَلْنَا به. ويكون (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا). كَأَنْ لَمْ ينزلوا كان لم يعيشوا فيها مستغنين، كما قال حاتم طيٍّ: غَنِينَا زَماناً بالتَّصَعْلُكِ والغِنى. . . فكُلاًّ سقاناه بكَأسَيْهما الدهرُ فما زادنا بَغْياً على ذي قرابةٍ. . . غِنانا ولا أَزْرَى بأَحْسابنا الفَقْرُ والعرب تقول للفقير الصعلوك. * * * وقوله: (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93) أي حين نزل بهم العذاب تولى عنهم. (وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ).

(94)

معنى آسى أحْزَن - أي كيف يَشْتد حُزني. يقال: أسِيت عَلى الشيءِ آسَى أسىً إِذا اشتدَ حزنُك عَليْه. قال الشاعر: وانْحَلَبَتْ عيناه مِن فرْطِ الأسى. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) يقال لكل مدينة قرية، وإِنما سمِّيَتْ بأنه يجتمع فيها الناس، يقال قريت الماءَ في الحوضِ إِذا جمعته فيه، فسمِّيْتْ قريةً لاجتماع الناس فيها. ومكَةُ أم القرى، لأن أهل القرَى يؤمونها أي يقصدونها. وقوله: (إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ). قيل: الْبَأْسَاء كل ما نالهم مِن شِدَّة في أموَالهم، والضَراءُ ما نالهم من الأمراض، وقيل: الضراء ما نالهم في الأموال، والْبَأْسَاء ما نالهم في أنْفَسهم. وقوله: (لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ). أي يَخْضعون، والأصْلُ يتَضَرعُون، فأدغمت التاءِ في الضادِ. * * * وقوله: (ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95) أي كَثروا وَكَثُرَتْ أمْوالهم. وقوله: (قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ). فأخذهم الله ليعتبروا ويُقْلعُوا عن الكفر وتكذيب الأنبياءِ، فقالوا مسَّ

(96)

آباءَنا مثلُ هذا، أي قد جرت عادة الزمان بهذا، وليست هذه عقوبة، فبين اللَّه تأولهم بخَطئِهِمْ، وقد علموا أن الأممَ قَد أهْلِكتْ بِكُفْرِهِم قَبْلَهُم. وقوله: (فَأخَذْنَاهم بَغْتَةً) أي فجأة (وهُمْ لَا يَشعرُون). فهذا ما أخبر اللَّه تعالى به عن الأمم السالفةِ لتعتبرَ أمَّةُ محمد - صلى الله عليه وسلم - فقال: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96) أي أتاهم الغيث من السماء والنَباتُ من الأرض. وجعل ذلك زاكياً كثيراً. * * * وقوله: (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أي ليلاً، أي أفَأمِنت الأمةُ التي كذبت النبي محمداً - صلى الله عليه وسلم - أن يأتيهم بَأْسُنَا بَيَاتًا. أي ليلاً. (وَهُمْ نَائمُونَ). يقال نام الرجل ينام نوماً فهو نائم. وهو حسن النِيمةِ، ورجل نُومةٌ إِذا كان خَسِيساً لا يؤبه له، ورَجُل نُوَمة إذا كان كثير النوم، وفلان حسن النِّيمة أي حسن هيئة النوم، والنِّيمُ - الفرو. والفاءَ في قوله: (أَفَأَمِنَ) والواو في قوله (أَوَأَمِنَ) أمِنَ، فتحت لأنها واو عطف وفاء عطف دخلت عليها ألف الاستفهام. وقوله: (وَهُمْ يَلْعَبُونَ). يقال لكل من كان في شيء لا يُجْدي أو في ضلال: إِنما أنت لاعب. وإنَّمَا قيل لهم: (ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُون). أي وهم في غير ما يجدي عليهم. * * * وقوله: (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99) أي وأمنوا عذاب الله أن يأتيهم بغتة وهم لا يشعرون.

(100)

وقوله: (أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (100) وتقرأ (نَهْدِ) بالنُونِ، فمن قرأ نهدي بالنون فمعناه أولَمْ نبَينْ. لأن قولك: هديته الطريق معناه بَيَّنْت له الطريق. ومن قرأ بالياء كان المعنى أو لم يبين الله لهم أنَّه لو يشاء أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ. وقوله: (وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ). ليس بمحمول على أصَبْنَاهم. المعنى ونحن نطبع على قلوبهم، لأنه لو حمل على أصبْنَاهمْ لكان ولطبعنا، لأنه على لفظ الماضي، وفي مَعْنَاه. ويجوز أن يكون محمولاً على الماضي، ولفظه لفظ المستقبل كما أن لو نشاءَ معناه لوشئنا. * * * وقوله (تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101) وهذا إِخبار عن قومٍ لا يؤمِنونَ. كما قال جلَّ وعزَّ: (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ). وكما قال للنبِى - صلى الله عليه وسلم -: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3). فهذا إِخبار من الله جَل وعز أنَّ هؤلاَءِ لَا يؤمِنُون.

(102)

وقال قوم: (فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ. .) أيْ لَيْسُوا مؤمنين بتكذيبهم، وهذا ليس بشيءٍ، لأن قوله: (كَذَلكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلوبِ الكَافِرينَ). . يَدُلَ على أنهم قد طُبعَ عَلَى قُلُوبِهمْ. وموضع الكاف في " كذلك " نصْبٌ. المعنى مثل ذلك يطبعَ الله على قُلوبِ الكافرِين. * * * وقوله: (وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102) هذه " إِن " تدخل واللامَ على معنى التوكيد واليمين. وتدخل على الأخْبَار. تقول: إِن ظننت زيْداً لَقَائِماً. * * * وقوله: (ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَإِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) (فَظَلَمُوا بِهَا). أي بالآيات التي جاءَتهم، لأنهم إِذا جاءَتهم الآيات فكفروا بها فقد ظلموا أبْين الظُلْم، لأن الظلم وضعُ الشيء في غير مَوْضِعِه، فجعلوا بدل وجوب الإيمان بها الكفر، فذلك معنى قوله (فظَلموا بِهَا). * * * وقوله (حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105) (حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ). وتقرأ (حَقِيقٌ عَلَيَّ أَنْ لَا أَقُولَ) ومن قرأ حقيق عَلَيًَّ أن لا أقول فالمعنى واجب عَليَّ: تركُ القول على اللَّه إِلا بالحقً. * * * وقوله: (قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) قد أوجب فرعونُ أنَّه ليس بآيةٍ كما ادعى، لأنه قد أوجَبَ له الصدق إن اتى بآية يعجز عنها المخلوقون. * * * وقوله (فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107)

(108)

إن شئت قلت: " عَصَا هُو " بالواو. والأجْوَدُ حَذْفُها، أعْنِي الواوَ لسكونها وسكون الألف، والهاء ليست بحاجز. وقوله: (فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ). قال أبو عبيدة وغيره: الثعبان الحية. . وقال غيره: الحية الذَكَرُ. وقال اللَّه في موضع آخر (فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى). ومعنى (مُبينُ). أي مبينٌ أنَّها حَيَّة. * * * وقوله: (وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108) معنى نزع يده أظهرها وأبانها. وقال في مَوضع آخر (وَأدْخِل يَدَكَ في جَيْبِكَ تَخْرجْ بَيْضاءَ). وفي موضع آخر (وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ). فهذا دليل أن معنى نزع يده إخراجُها من جيبه وإِخراجها من جناحِهِ. وجناح الرجل عَضُدُه وقَلَّ جناحُ الرجل عِطفُه. وتأويل الجناحين من الِإنسان أنهما كالجَنَاحَين من الطائر. وهما العَضُدانِ. وقوله: (تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ). أي تخرج لونها أبيض حُوريًّا.

(109)

وكان موسى فيما يُرْوَى أدِمَ. (مِنْ غَيرِ سُوء). أي تخرج بيضاءَ بياضاً ليس بِبرص، بياضاً يدل على أنَّه آية. وكانت عصا موسى إِنما تكون حيَّة، عندَ إِظهارهَا بها الآية، ثم تعود عصا، كما قال اللَّه عزَّ وجلَّ: (سَنُعيدُهَا سيرَتَها الأُولى). * * * وقوله: (قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109) وفي هذا الموضع (قال المَلأ مِنْ قَوْم فِرْعَون). الملأ هُمُ الوُجُوهُ، وذوُو الرأي، وإِنما سُمُّواملأً لأنهم مُلئوا بما يحتاج إليه مِنهُم. وقرُئَتْ لسَحَّارٌ عَليمٌ. * * * (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110) قال فرعون مجيباً لهم: (فمَاذَا تَأمُرونَ). ويجوز أن يكون " فمَاذا تأمُرون " من قول الملأ، كأنهمْ خاطبوا فرعون ومن يَخُصُّهُ، وجائز أن يكون الخطاب لفرعونَ وحده، لأنه يقال للرئيس المطاع: ما ترون في هذا؟ أي ما ترى أنت وجندُكَ. و" مَاذا " يصلح أن تكون " ماذا " اسماً واحِداً، ويكون في موضع نصب. ويكون المعنى أي شيء تأْمُرون.

(111)

ويصلح أن يكون " ذا " في موضع الذي، وتكون ما في معنى رفع. ويكون المعنى ما الذي تأمُرون. * * * وقوله (قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111) تفسير (أَرْجِهْ) أخرِّه، ومعناه أخِّرْ أمرَهَ ولا تعجل في أمرِه بحكم فتكون عَجَلتكَ حجة عليك. وفي قوله (أَرْجِهْ) ثلاثة أوجُه قد قرئ بها. قرأ أبو عَمْرو: أرجِئه وأخاه. وقرأ جماعة من القراءِ: أرجِهِ وأخاه، وقرأ بعْضُهمْ أرجِهْ وأخاهُ - بإسكان الهاءِ. وفيها أوجه لا أعلمها قرئ بها. يجوز أرجِهو وأخاه، وأرجهي. وأرجئهي، وأرجهو بغير همزٍ. فأمَّا من قرأ أرجِه بإسكان الهاء فلا يعرفها الحذاق بالنحو، وَيزعُمُون أن هاءَ الإِضْمارِ اسم لا يجوز إِسكانها. وزعم بعضُ النحويين أن إِسكانها جائز. وقد رْويت لعمري في القراءَة إِلا أن التحريك أكثر وأجْوَد. وزعم أيضاً هذا أن هاء التأنيث يجوز إِسكانها وهذا لا يجوز. واستشهد في هذا بشعر مجهول، قال أنشدني بعضهم: لمَّا رأَى أَنْ لا دَعَهْ ولا شِبَعْ مالَ إلى أَرْطاةِ حِقْفٍ فاضْطَجَعْ وهذا شعر لا يعرف قائله ولا هو بشيء، ولو قاله شاعر مذكور لقيل أخطأت، لأنَّ الشاعِر قد يجوز أن يخطئ.

(112)

وأنشد أيضاً آخر أجهل من هذا وهو قوله لست إِذن لزغْبَلهْ. . . إِن لم أغيِّر بَكْلتي إِن لم أساو بالطُول. فجزم الهاءَ في زغبله، وجعلها هاء، وإِنما هي تاء في الوصل. وهذا مذهب لا يعرج عليه. * * * وقوله: (يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112) وَسَحَّارٍ جميعاً قد قرئ بهما. وقوله: (قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) أي لكم مع الأجر المنزلة الرفيعة عندي. * * * وقوله: (قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) (وَاسْتَرْهَبُوهُمْ). أي استدعوا رهبَتَهُم حتى رهبهم الناس. * * * وقوله (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117) وتلقَفَ مخففة ومثقلة، يقال لقفْت الشيء ألْقَفُه. ومعنى قوله (يَأْفِكُونَ): أي يأتون بالإفك وهو الكذب، وذلك أنهم زعَموا أَن حبَالهم وعصيهم حيات فكذبوا في ذلك، وإنما قيل إنهم جعلوا الزئبق وصوَّروها بصوَر الحيَّات، فاضطرب الزئبق لأنه لا يستقر. وقوله: (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66). ْفلمَّا ألقى مُوسى عصاه بلعت عصيهم وحبالَهم) قال الشاعر: أنت عصا موسى التي لم تزل. . . تلقف ما يَأفِكهُ السَّاحِرُ

(126)

هذا البيت أنشِد لأبي عبيدة، وزعم التَوزي صاحَبُ أبي عبيْدَة أنَّه لا يعرفه. وهو صحيح في المعنى. وقوله جلَّ وعز: (وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126) يقال نقِمت أنقِم، ونقِمْتُ أنقَمُ، الأجود نَقَمتُ أنقِمُ والقراءَة مَا تَنْقِم وهي أفصح اللغتين. وقوله: (رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا). أي، يشتمل علَيْنَا. وقوله: (وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127) ويُقْرأ (وإِلَاهَتَك) ويجوز (وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ). فَمن نَصَب " (وَيَذَرَكَ) ردَّه على جواب الاستفهام بالواو. المعنى أيكون منك أن تذر موسى، وأن يذَرَك. ومن قال (وَيَذَرُكَ) جَعَلَة مستأنفاً، يكون المعنى: أتذَرُ موسى وهو يذرك وآلهتك. والأجود أن يكون معطوفاً على (أتذَرُ) فكون أتذَرُ موسى وأيَذَرُكَ موسى. أي أتطْلِقُ هذا له. وأمَّا من قرأ وآلهتك، فإِنَّ المعنى أن فِرعَون كانت له أصنام يعبدها قومه تقرباً إليه. * * * وقوله: (قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) " عسَى " طمعٌ وإِشفاق، إِلا أن ما يطمع اللَّه فيه فهو واجبٌ، وهو معنى قول المفسرين: إن عَسَى من اللَّه واجبٌ. وَمعنى: (فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) أي يرى ذلك بوقوع منكم، لأن اللَّه جلَّ وعزَّ لا يجازيهم على ما يعلمه منهم من خطيئاتهم التي يعلم أنهم عامِلوهَا لا محالة، إِنما يجازيهمْ على ما وقع منهم.

(130)

وقوله: (وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) السنين في كلام العرب الجدُوبُ، يقال مستهم السَّنَةُ، ومعناه جَدْبُ السنة وشِدَّةِ السنة ونقص الثمرات. (لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ). إِنما أخِذُوا بالضراءِ لأن أحوال الشِدةِ تُرِقُ القُلُوب وتُرَغبُ فيما عند اللَّه وفي الرجوع إِليه، ألا ترى إِلى قوله جلَّ وعزَّ: (وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ)، وقال جلً وعز: (وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51). * * * وقوله: (فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (131) أي إِذا جاءَهم الخِصْبُ قالوا أعْطِينَا هذا باستحقاق. (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ). أي جَدْبُ أو ضُر. (يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ). المعنى: يتطيَّرُوا. فأدغمَت التاءُ في الطاءِ، لأنهما من مَكان واحد من طرف اللسانِ وأصول الثنايا. وتفسير قوله: (يَطَّيَّرُوا): يتشاءَموا، وإِنما قالت العرب الطيرةُ ويتطير فيما يكرهونَ، على ما اصطلحوا عليه بينهم، جعلوا ذلك أمراً يتشامون به فقال عزّ وجلَّ: (أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ).

(132)

المعنى: ألاَ إِنما الشْؤم الذي يلحقهم هو الذي وعدوا به في الآخرة لا ما ينالهم في الدنيا، وقال بعضهم: " طَائِرهم " حظهم، والمعنى واحد. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) زعم بعض النحويين أن أصل " مهما ": مَا تأتنا به، ولكن أبدل من الألف الأولى الهاء، ليختلف اللفظ، فما الأولى هي ما الجزاءُ، وما الثانية هي التي تزاد تأكيداً للجزاءِ، ودليل النحويين على ذلك إنَّه ليس شيء من حروف الجزاءِ إلا و " ما ". . تزاد فيه، قال اللَّه جلَّ ثناؤه: (فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ) كقولك إن تثقفهم في الحرب فشَرِدْهم. وقوله: (وَإمَا تُعْرِضَنَّ عنهم) أيضاً وهذا في كتاب الله كثير. وقالوا: جائز أن تكون " مَهْ " بمعنى الكف)، كما تقول مَهْ أي أكفف. وتكون " ما " الثانية للشرط والجزاءِ، كأنهم قالوا واللَّه أعلم - أكفف مَا تأتينا به من آية. والتفسير الأول هو الكلام وعليه استعمال الناس. وهذا ليس فيما فيه من التفسير شيء لأنه يخل اختلاف هَذين التفسيرين بمعنى الكلام. * * * وقوله: (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133) قال الأخفش: الطوفان جمع طوفانَه. وقيل في التفسير إن الطوفان المطر الذي يُغرقُ من كثرته. قال الله جلَّ وعزَّ في قصة نوح:

(134)

(فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ). وقيل الطوفان الموت العظيم. وقوله: (وَالْقُمَّلَ). قال فيه أبو عبيدة هو الْحَنْمَان صِغار القِرْدَان. واختلف في تفسيره فقال بعضهم هِيَ دَوَاب أصغَرُ من الْقَمْل. (وَالدَّمَ). قيل إِن اللَّه جلَّ وعزَّ: جعل مَاءَهمْ دَماً، فكان الِإسرائيلي يستقي الماءَ عذباً صافياً، فإِذا أخذه القبطِى تحوَّلَ دَماً صَافِياً. وقوله: (آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ). أي إِن بعضها منفصل مِنْ بعض، ويقال إِنه كان بين الآية والآية ثمانية أيَّامٍ، وأرسلت عليهم الضفادِع تَدْخل في ثِيَابِهِمْ وفي طعامِهِمْ. و (آيَاتٍ) منصوب على الحال، وهي العلامات. * * * وقوله: (وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134) والرجز اسم للعذاب. (قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ). وكانوا قد أخذوا بني إِسرائيل بالكد الشَدِيدِ حتى قالوا لموسى: (أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا). فيقال إِنهم كانوا يستعملون بنى إسرائيل في تلبين اللَّبِن، وكان

(135)

فرعون وأصحابه من القبطِ يفعلون ذلك ببني إِسرائيل، فلما بعث موسى أَعطوهم اللَّبِنَ يُلَبِّنُونَه، ومنعُوهم التبْن لِيَكون ذلِكَ أشق عليهم. * * * وقوله: (فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) وهو البحرِ، وكذلك هو في الكتب الأول. * * * (فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136) (وكانُوا عَنْهَا غَافِلِين). أي كانوا لا يعتبرون بالآيات التي تنزل بهم. * * * وقوله: (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137) يعني بني إِسرائيل، وكان منهم داوُد وسليمان مَلكوا الأرْضَ وقوله: (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى). يعنى ما وعدهم اللَّه به من إِهلاك عَدوِّهِمْ واستخلافِهِمْ في الأرْضِ. (وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ). و (يَعْرُشُونَ) جَمِيعاً. يقال عرَشْ يَعْرِش ويعْرُشُ، إِذا هو بنى. * * * (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) ومعنى: (يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ). أي يواظبون عليها ويلازمونها، يقال لكل من لزم شيئاً وواظب عَليْهِ. عكفَ يَعْكِف ويعْكفُ. ومن هذا قيل للملازم للمسجد معتكف. * * * وقوله: (إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139) (مُتَبَّرٌ) مُهلك وَمُدَمَّر، ويقال لكل إِناءٍ مكسَّرٍ مُتَبَّرٌ، وَكُسَارَتُه يقال له التَبْر. * * * وقوله: (قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140)

(141)

أي أغيْرَ اللَّه أطلب لكم إلهاً: (وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ). * * * وقوله: (وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141) المعنى: واذكروا إِذ أنجيناكم من آل فِرْعَوْن. (يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ). معنى يسومونكم يولُونكم. * * * وقوله: (وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142) ((وَوَاعَدْنَا مُوسَى) (وَوَعَدْنَا مُوسَى). (ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ). قيل أمره الله أن يصوم ثلاثين يَوْماً، وأن يعمل فيها بما يقرِبه إلى اللَّهِ. وقيل في العَشرِ أنزِلت عَليْهِ التَوْراة وكُلِّمَ فِيهَا. وقال بعضهم لما صام ثلاثين يوماً أنكرَ خُلُوفَ فِيهِ فاسْتَاكَ بعود خَرُّوبِ، فقالت الملائكة إنا كنا نَسْتَنْشِئ مِن فيكَ رائحة المسك فأفسدته بالسواكَ. فزيدت عَليه عَشْر ليالٍ. وقد قال في موضع آخر: (وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً). فهذا دليل أن المواعدة كانت أربعين ليلةً كاملة. واللَّه جلَّ وعزَّ أعلم. * * * وقوله: (وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي). يجوز هارون بالفتح وهو في موضع جر بدلاً من أخيه، ويجوز لأخيه هارونُ بضم النُونِ، ويكون المعنى وقال موسى لأخيه، يا هَارون (اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي). * * * (وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) (وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا). أي للوقتِ الذي وقَتْنَا له. (وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ).

كلم الله موسى تكليماً. خصَّه اللَّهُ أنه لم يكن بينه وبين الله جل ثناؤه وفيما سَمِعَ أحَدٌ، ولا مَلَك أسْمَعه اللَّهُ كَلَامَهُ، فلما سمع الْكَلاَمَ (قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ). أي قد خاطبتني من حيْثُ لا أراك، والمعنى أرني نفْسَك. وقوله: (أَرِنِي أَنْظُرْ) مجزوم جواب الأمر. (قَالَ لَنْ تَرَانِي) ولن نفي لما يستقل. (وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي). (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ). أي ظهر وبان. (جَعَلَهُ دَكًّا). يجوز " دكًّا " بالتنوين، ودَكَاءَ بغَير تنوينٍ، أي " جَعله مَدْقُوقاً مع الأرض. يقال دككت الشيءَ إِذا دققته، أدُكه دَكًّا، والدكَّاءُ والدَّكاوَاتُ الروابي التي مع الأرض ناشزة عنها، لا تبلغ أن تكون جبلا. وقوله: (وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا). (صَعِقًا) منصوب على الحال، وقيل إِنه خرَّ مَيِّتاً، وقيل خرَّ مَغشياً عليه. (فَلَمًا أفَاقَ). ولا يكاد يقال للميت قد أفاق من مَوْته، ولكن للذي غشي عليه والذي يذهب عقله قد أفاق من علته، لأن الله جلَّ ثناؤُه قال في الذين ماتوا: (ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ). وقوله: (قَالَ سُبْحَانَكَ).

(144)

أي تنزيهاً لك من السوءِ. جاءَ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن قوْله " سبحان اللَّه " تنزيه للَّهِ من السوءِ. وأهل اللغة كذلك يقُولون من غير مَعْرِفةِ بما فيه. عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكن تفسيره يجمعون عليه. * * * وقوله: (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ). أي أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ بأنك لا ترى في الدنيا. هذا معنى (أرني انظرْ إِليك) إِلى آخره الآية، وهو قول أهل الْعِلْم وأهل السنة. وقال قوم: معنى (أرني أنْظُر إِليك)، أرني أمراً عظيماً لا يُرَى مِثْلُه في الدنيا مما لا تحتمله بنية موسى، قالوا فأعلمه أنَّه لن يرى ذلك الأمْر، وأن معنى. (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ): تجلى أمر رَبِّه. وهذا خطأ لا يعرفه أهل اللغة، ولا في الكلام دليل أن موسى أراد أن يرى أمراً عظيماً من أمْرِ اللَّه، وقد أراه اللَّه من الآيات في نفسه ما لا غاية بَعْدَه. قد أراه عصاه ثعباناً مبيناً، وَأراه يده تخرج بيضاءَ من غير سوءٍ وكان أدم، وفرَق البحر بعصاه. فأراه من الآيات العظام ما يستغنى به عن أن يطلبَ أمراً من أَمر الله عظيماً، ولكن لما سَمِعَ كلام الله قال: رب أرني أنظُر إِليك، سمعت كلامك فأنا أحب أن أراك. فأعلمه الله جل ثناؤُه إنَّه لن يراه. ذم أمره الله أن يشكره، فقال: (يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) أي اتخذتك صفوةً على الناس. (بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي).

(145)

ولو كان إِنما تَبعَ كَلَامَ غير الله لما قال برسالاتي وبكلامي، لأن الملائكة تنزل إلى الأنبياءِ بكلام اللَّه. وقوله: (فَخُذْ مَا آتيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرين). ثم أعلَم اللَّه جل ثناؤه أنَّه قد أعطاه من كل شيءٍ يحتاج من أمر الدِّين مع ما أراه من الآياتِ فقال جلَّ وعزَّ: (وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145) وقيل في التفسير إِنهما كانا لوحين. ويجوز في اللغة أن يقال للوحين ألواح. ويجوز أن يكون ألواح جمع أكثَر مِنَ اثْنَين. وقوله: (فَخُذْهَا بِقُوة) أي خُذْها بقوةٍ فى دينك وَحجتِكِ. وقوله: (وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا). في هذا وجهان، وهو نحو قوله: (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) ونحو قوله: (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ). فيحتمل وجْهيْن: أحدهمَا أنَّهمْ أمِروِا بالخيْرِ ونُهُوا عن الشرِ، وعرفوا مَا لَهم فِي ذَلِكَ، فقيلَ (وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا) ويجوز أن يكون نَحوَ ما أمِرْنا به من الانتصار بعد الظلم، ونحو القصَاص في الجرُوح إِذ قال: (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ). (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41). فهذا كله حَسَنٌ والعفو أحسنُ من القِصاصِ والصَبْرُ أحسن من الانتصار.

(146)

وَقَوله: (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146) أي اجعَلُ جزاءَهم الِإضْلالَ عن هداية آياتي. ومعنَى (يَتَكَبَّرُونَ) أي أنهم يرون أنهم أفضَلُ الخلقِ وأن لهم من الحق ما ليس لغيْرِهِم. وهذه الصفة لا تكون إِلَّا للَّهِ جلَّ ثناؤُه خاصةً لأن الله تبارك وتعالى هو الذي له القدرَة والفضلُ الذي ليس مثله، وَذَلِكَ يَسْتحقُ أن يقال له: المتكَبر، وليس لأحدٍ أنْ يتكبر لأن الناس في الحقوق سواء. فليس لأحدٍ مَا ليْسَ لِغَيره واللَّه جل ثناؤُه المتكبرُ. أعلم الله أن هُؤلاءِ يتكبرون في الأرض بغير الحق. وقوله: (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا). وسبيل الغى هو سبيل الضلال، يقال: غوَى الرجل يَغْوِي غيًّا وهو غاوٍ إذا ضَل. وقوله: (ذَلِكَ بأنَّهُمْ كذَّبوا بآياتِنا). " ذَلِكَ " يصلح أن يكون رفعاً، أيإِن أمرَهم ذلك، ويجوز أن يكون نصباً على معنَى فَعَل اللَّهُ بهم ذلك بأنهم كذبوا بآياتِنَا. (وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلينَ). " غافلين " يصلح أن يكون - واللَّه أَعلم - كانوا في تركهم الِإيمان بها والنظَرِ فيها والتدبر لها بمنزلة الغافلين. ويجوز أن يكون (وكانوا) عن جوابها غافلين كما تَقول: ما أغفَلَ فلاناً عما يُرَادُ به. * * * وقوله: (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148) و (مِنْ حُلِيِّهِمْ) ومن حِلِيِّهِمْ.

فمن قرأ من (حَلْيِهم) فالحَلْيُ اسم لمَّا يُحَسَّن به من الذهب والفضة. ومن قرأ (من حُلِيَهِمْ) بضم الحاءِ - فهو جمع حَلْيٍ على حُلِيٍّ مثل حَقْوٍ وحُقِيٍّ، ومن كسر الحاءِ فقال - من حِلِيِّهِمْ - أتْبَعَ الحاءِ كسر اللام. ومعنى (من بَعْده) أي من بعد ما جَاءَ الميقات، وخَلفَه هارون في قومه. وكان لهم حَلْيٌ يجمعونه في أيام زِينتهم، وكان لِلْقُبةِ حَلى عند بني إِسرائيل. فقال لهم السامري، وكانَ رجلًا مطاعاً فِيهم ذَا قَدْر، وكانوا قد سألوا موسى أن يجعل لهم إِلهاً يعبدونه كما رأوا قوم فرعون يَعْبًدُون الأصنامَ. فجمع السامِرِي ذلك الحلى، وهو قولهم: (وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا) أي ألقيناها. (فكذَلِكَ ألقَى السَّامِرِيُّ) أي وكذلك طرح السَّامِرِيُّ ما كان عندَه من الحلي فصاغه في العجل. فقال اللَّه تعالى: (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا). والجسد هو الذي لا يعقل ولا يميز، إِنما معنى الجَسَد معنى الجثة فقط. (لَهُ خُوَارٌ): أي له صوت. وقيل له خوار - بالحاءِ والجيم - وكلاهما من الصوت، وكان قد عمله. كما تعْمَل هذه الآلات التي تصوِّت بالْخَيْلِ، فجعله في بيت وأعلمهمُ أن إلَهَهمْ وإِله موسى عندى. ويقال في التفسير إِنَّه سُمِعَ صَوْته مرةً واحدةً فقط. فقال الله عزَّ وجلَّ:

(149)

(أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا). أي لا يُبَين لهم طريقاً إِلى حجة. * * * وقوله: (وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (149) يقال للرجل النادم على مَا فَعَلَ الْخَسِر عَلَى ما فرط منه، قد سُقِطَ في يده وأسْقِطَ، وقد رُوِيتْ سُقِطَ في القراءَة، فالمعنى: ولما سقط الندم في أَيديهم، كما تقول للذي يحصل على شيء - وَإِنْ كَانَ مما لا يكون في اليد - قد حصل في يده من هذا مكروه، تُشَبِّهُ ما يحصُل في القلب وفي النفس بما يرى بالعَيْنِ. * * * وقوله: (وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) (غَضْبَانَ) منصوب على الحال، وهو على مثال فعلان، وله فَعْلى نحو غَضْبَى - لم ينصرف، لأن فيه الأَلفَ والنونَ، كألفي حمراء، والأسف: الشديد الغضب، قال الله جلَّ وعزَّ: (فَلَما آسَفُونَا انتقمنا منهم)، أي فلما أغضبونَا. وقوله: (أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ). يقال عجلت الأمر والشيءَ سبقته، وأعجلته استحثثته. (قَالَ ابْنَ أُمَّ). بالفتح وإِن شئت بن أُمِّ بالكسر، فمن قَالَ ابْنَ أُمَّ بالفتح فإِنه إِنما فتحوا في ابْنَ أُمِّ وابن عم لكثرة استعمالهم هذا الاسم. وأن النداءَ كلام محتملٍ للحذف فجعلوا " ابن " و " أمَّ " شيئاً واحداً نحو خمسة عشر. ومن قال ابن أمِّ - بالكسر - فإِنه أضافه إِلى نفسه بعدَ أن جعله اسماً واحداً، ومن العرب من

(152)

يقول: يا ابن أمِّي بإثباتِ الياء. قال الشاعر: يا ابن أمي ويا شُسقَيقَ نَفْسِي. . . أنْتَ خَليْتَنِي لَدَهْر شَدِيد * * * وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) المعنى اتخذوا العجل إِلهاً. وقوله: (وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا). لحقتهم الذلة أنهم رأوا أنهم قد ضلوا وذَلًّوا، والذَلَّةُ هو ما أمروا به مِنْ قَتْل أنفُسِهِمْ، وقيل إن الذَلَّة أخذ الجزيةِ، وأخذ الجزية لم يقع في الذين عبدوا العجل، لأن الله جلَّ وعزَّ تاب عليهم بِقَتْلِهِمْ أنفُسهمْ. * * * وقوله: (وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154) يقال سكت يسكُتُ سَكْتاً إِدْا هو سكن، وسكت يسكتُ سُكُوتاً وَسَكْتاً إِذا قطع الكلام، ويقال: رجل سِكِّيت بيّنَ السُّكُوت والساكوتةِ إِذا كان كَثِيرَ السكوتِ، وأصاب فلاناً سُكَّات إِذا أصابه داء منعه من الكلام، والسُّكَيْتُ - بالتخفيف والتشديد - الذي يجيء آخِرَ الْخَيْلُ. وروى بعضهم: " ولما سُكِتَ عن موسى الغضبُ " ولا تقرأن به لأنه خلاف المصحف. قول بعضهم: (وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ) معناه: وَلَمَّا سَكَتَ موسَى عن الغضب، على القلب، كما قالوا: أدخَلْتُ الْقَلَنْسوَّةَ في رَأْسِي. المعنى أدْخلت رأسي في الْقَلَنْسُوَةِ. والقول الذي معناه سكن قول أهل العربية. * * * وقوله: (وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155)

(156)

معناه واختار موسى من قومه، وكان موسى اختار من اثني عشر سِبطاً من كل سبطٍ ستة رجال، فبلغوا اثنين وسبعين رَجُلاً فَخَفَّفَ منهم رَجليْن. ومعنى اختار قومه، اختار من قومه فحذفت " من " وَوُصِلَ الفعلُ فَنُصِبَ. يقال اخترت من الرجال زيد واخترت الرجال زيداً. وأنشدوا: ومنا الذي اختارَ الرجالَ سماحة. . . وجوداً إِذا هب الرياح الزعارع وقوله: (فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ). وهي الحركة الشديدة والزلزلة الشديدة. يقال إِنه رجف بهم الجَبل فماتوا فقال: (قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ). أي لو شئت أمتَّهم من قبل أن تأْتيهم بما أوْجَبَ عليهم الرجفة. * * * وقوله: (وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) (إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ). معناه تُبْنَا إِليك. (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيءٍ). أَي كل ما خَلَقْته فبرحمتي وفضلي يعيش، فمعناه ورحمتي وَسِعَتْ كل شيءٍ في الدنيا. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فسَأَكتُبها للذينَ يَتَقُونَ). في الآخرة، أي أجازيهم بها في الآخرة.

(157)

قوله عزَّ وجلَّ: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) الْأُمِّيُّ: هو على خلقة الأمَّة، لم يتعلم الكتاب فهو على جِبِلَّتِهِ. وقوله: (الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ). وهذا أَبلغ في الاحتجاج عليهم لأنه إخبار بما في كُتُبهم. والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يكتب ولا قرأ التوراة والِإنجيلَ، ولا عَاشَر أهلَهما فإتيانه بما فيهما من آيات الله العظام. ومُحال أن يجيءَ مُدَّع إِلى قوم فيقول لهم ذِكْرِي في كتابكم، وليس ذلك فيه. وذكره قد أنبأ من آمن من أهل الكتاب به. وقوله: (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ). يجوز أن يكون (يَأْمُرُهُمْ) مستأنفاً. وقوله: (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ). أي يحل لهم ما حُرِّمَ عليهم من طيباتِ الطَّعام. ويجوز (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ) أي ما أخذ مِن وجْههِ طيِّباً. (وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ). والإصر ما عقدته من عَقْد ثقيل. (وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) والأغلال تمثيل، أَلا ترى أنك تقول: جعلت هذا طوقاً في عُنقِك. وليس هناك طوق، وإِنما تأويله أني قَدْ وَلَّيتُكَ هذا وألزمتك القِيَامَ بِه، فجعلتُ لزومَه لك كالطوق في عنقك. والأغلال التي كانت عليهم: - كان عليهم أَنه من قتَلَ قُتِل، لا يُقْبَلُ في ذلك ديَة، وكان عليهم إِذا أَصاب جلودَهُم شيءُ من البَوْل أَن يَقرِضُوه، وكان عليهم ألا يَعْمَلُوا فىِ السبْتِ. فهذه الَأغْلال التي كانت عليهم.

(159)

وقوله: (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ). أي بمحمد - صلى الله عليه وسلم -. (وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ). اختلف أهل اللغة في معنى قوله: (وَعَزَّرُوهُ) وقوله: عَزَرْتُ فُلاناً أعزرُه وأعزُره عزْراً، قال بعضهم: معنى عَزَرْته رَدَدتُه، وقال بعضهم معنَى عَزْرتُه أَغَثْتُه، وقال بعضهم: يقال عَزَرْتُ الرجلَ أعزِرُه إِذا لمتُهُ، ويقال عزَّرْت فلاناً، قال بعضهم عَزَّرْتْ فُلاناً نصرتُه، وقال بعضهم منِعتُ منه. فالمعنى: (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ) معنى عزَّروه منعوا أعداءه من الكُفْرِ به. وقال بعضهم: عَزَّروه بمعنى نصروه، والمعنى قريب لأن مَنْعَ الأعداء منه نصرته. ومعنى عزَّرْتُ فلاناً إِذا ضَرَبْتُه ضرباً دونَ الحدِّ، يمنعه بِضَرْبه إِياه عن مُعَاودَةِ مثل عمله. وقوله: عَزَّرْتُه رَدَدْتُه يجوز أن يكون منه التعزيز، أي فَعَلْتُ به ما يَرُدُّه عَنْ المعْصيَةِ. وقوله: (وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ). أي واتَبَعَوا الحقَّ الذي بيانه في القلوب كبيان النورِ في العيون. * * * وقوله: (وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159) أَي يَدْعُونَ الناس إِلى الهداية بالحق. (وَبِهِ يَعْدِلُونَ). أَي وبالحق يحكمون. وقوله: (وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160) (وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا) ويجوز عَشِرَةَ- بكسر الشين - المعنى قطعناهم اثنتي عشرة فرقة أسْبَاطاً

(163)

من نعت " فرقة " كأنه قال: جَعَلْنَاهم أسباطاً وفرقناهم أَسْبَاطاً فيكون أَسباطاً بدلاً من اثنتي عشرة. وهو الوجه. وقوله: (أُمَمًا) من نعت (أَسباطاً). قال بعضهم: " السِّبْطُ القرن الذي يجيءَ بَعْدَ قَرْنٍ، والصحيح أَن الأسباط في وَلَدِهِ إِسحاق بمنزلة الْقَبَائِل في وَلَدِ إِسْمَاعِيل " فَوَلَدُ كُل من وُلِدَ من أولاد يعقوب سبط وَوَلَدُ كُل من وَلَدِهِ من وَلَدِ إِسماعيل قبيلة. وإِنما سُمِّيَ هُؤلاءِ بالأسْبَاطِ، وهؤُلاءِ بالقبائل، لِيُفْصَل بين وَلدِ إِسْمَاعِيلَ وَوَلَد إِسْحَاقَ. ومعنى القبيلة من وَلَدِ إِسماعيل معنى الجماعة يقال لِكل جماعة مِنْ وَلدٍ قَبِيلَة وكذلك يقال لكل جمع على شيء واحد: قبيلٌ، قال اللَّه جلَّ وعزَّ: (إنَهُ يَرَاكمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ من حيث لا تَرَوْنَهُمْ). فأما الأَسباط فهو مُشْتَق من السَّبَطِ، والسُّبَطُ ضرب من الشَجر تُعْلفُة الِإبِلُ، ويقال للشجرة لها قبائلُ. فكذلك الأسباطُ من السَّبَط. كأنه جعَلَ إِسحاق بمنزلة شجرة، وجعِلَ إسماعيلُ بمنزلة شجرة. وكذلك يَفْعَلُ النسابُونَ في النسب يجعلون الوالد بمنزلة الشَّجَرَةِ ويجعلون الأولاد بمنزلة أغصانها، ويقال: طُوبِىَ لِطرْحِ فلانٍ، وفلان من شجرةٍ صَالِحَةٍ - فهذا - واللَّه أعلم - معنى الأسبَاطِ والسِّبْطِ. * * * وقوله جلّ ثناؤه: (وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163)

السؤَال على ضربين، فأحد الضربين أن قال لِتَسْتَخْبرَ عما لَا تَعْلَمُ لَتَعْلَمَ، والضرب الثاني أن تسأل مستخبراً على وجه التقرير، فتقولُ للرجُلِ أنا فعلتُ كذا؛ وأنت تعلم أنك لم تفعل، فإِنما تسأله لِتُقَررَهُ وَتُوَبخَهُ. فمعنى أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يسأل أهل الكتاب عن أهل هذه القرية - وقد أخبر الله جلَّ ثناؤُه بِقِصتِهَا لِيُقررَهُم بقديم كفرهم، وأن يُعْلِمهُمْ ما لا يُعْلم إِلَّا بكتاب أو وَحْىِ. (إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ). أي إِذ يظلمون فِي السبْتِ، يقال أعَدَا، فلان يَعدُو عُدْواناً، وعِدَاءَ وَعَدْواً، وَعُدُوًّا - إِذَا ظَلَمَ. وقوله: (إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ). حيتان - جمع حوتٍ، وَأكْثرُ ما تسَمًي العربُ السمَك الْحِيتَانَ والنينان. (إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ) موضع " إِذ " نصبٌ، المعنى سَلْهُم عن عُدُوهِمْ في السبْتِ، أي سلهم عن وقت ذلك. (إِذ تَأَتِيهِمْ). في موضع نصبٍ أَيْضاً ب (يعدون). المعنى سلهم إِذ عَدَوْا في وقت الِإتْيانِ. (شُرَّعًا). أي ظاهرة، وكانت الحيتان تأتي ظاهرة فكانوا يحتالون بِحَبْسِها في يوم السبت ثم يأْخذونها في يوم الأحدت ويقال إِنهم جاهروا بأخذها في يوم السبتِ.

(164)

وقوله: (كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ). أي مثل هذا الاختبار الشديد نختبرُهُمْ. وموضع الكاف نصب بقوله: (نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ). أي شددت عليهم المحنة بِفِسْقِهِمْ. ويحتمل - على بعد - أن يكون: ويومِ لا يَسْبِتونَ لا تأْتيهم كذلك أي لا تأْتيهم شرعاً، ويكون نَبلوهم مستأْنفة، وذلك القول الأول قول الناس وهو الجَيِّد. * * * (وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) الأصل لِمَا، ولكن الألف تحذف مع حروف الجر نحو لِمَ وعَم وَبِمَ. قال اللَه تعالى: (فبِمَ تُبَشِّرُونَ)، (عَمَ يَتَسَاءَلُونَ). ومعنى الآية أنهم لَامُوهُمْ في عظة قوم يعلمون أنهم غير مُقْلِعينَ. هذا الأغلَب عليْهمِ في العلم بهم. (اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا). ومعنى (أَوْ) - واللَّه أعلم - أنهم أخبروهم - على قدر ما رأوا من أعمالهم - أنهُم مًهْلَكُون في الدنيا أو معذبونَ في الآخرة لا محالة. وقوله: (قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ). المعنى قالوا موعظتنا إِياهم معذرة إِلى ربكم وَلَعَلهُمْ يتقُونَ. فالمعنى أنهم قالوا: الأمر بالمعْروف وَاجبٌ علينا، فعلينا موعظة هؤلاءِ لعَلهُمْ يتقونَ، أي وجائز عندنا أَن ينتفعوا بالمعذرة

(165)

ويجوز النصْبُ في " مَعْذِرَة " فيكُون المعنَى في قوله: (قالوا معذرة إِلى رَبِّكم) على معنى يعتذرون مَعْذِرةً. * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165) (نَسُوا) يجوز أن يكون في معنى تركوا، ويجوز أن يكون تركهم بمنزلة من نَسِيَ. وقوله: (أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ). أي شديد، يقال بَئِس يَبؤُس بَأساً إِذَا اشْتَد، وقيل إِنَّ القوم كانوا ثَلاثَ فِرقٍ، فرقةٌ عملت بالسوءِ، وفرقة نهت عن السوءِ، وفرقةٌ أمسكت عن النهي. وقيل كانوا فرقتين، فرقة نَهتْ عن السوءِ وفرقة عملت بالسوءِ، وبعض الفرقة التي فيها من نهى عن السوءِ مؤمن غير راض بما فَعَل أهلُ السُّوءِ فدخلوا في النجاة مع الذين ينهون عن السوءِ، ونَزَلَ العَذابُ بالذِينَ عَدَوْا في السبت. * * * وقوله: (فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166) العاتي: الشديدُ الدخولِ في الفساد، المتمرد الذي لا يَقْبَلُ موعِظة. وقوله: (قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ). جائز أن يكونُوا أمروا بأن يكونوا كذلك بقول سُمِعَ، فيكون أبلغ في الآية والنازلة بِهِمْ، وجائز أن يكون " فقلنا لهم " من قوله: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82). ومعنى " خَاسِئينَ ": أي مُبْعَدِينَ.

(167)

وقال قوم: جائز أن تكون هذه القردة المتوَلِّدةُ أصلها منهم وقال قوم المسخُ لا يبقى ولا يَتَولد، والجملة أنا أخْبِرْنَا بأنهُمْ جُعِلُوا قردة، والقِردةُ هي التي نعرفها. وهي أكثر شيءٍ في الحيوان شبهاً بابن آدم، واللَّهُ أعلم كيف كانَ أمْرُهُمْ بعدَ كونهم قِرَدَة. * * * وقوله: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167) قال بَعضهم: تَأَذَّنَ: تَألَّى ربك ليبعثن عَليْهم، وقيل: إن تَأَذَّنَ أعلم. والعرب تقول: تعلم أن هذا كذا، في معنى أعلم. قال زهير: تَعلَّمْ أن شرَّ الناسِ حي. . . ينادي في شعارهمو يسار وقال زهير أيضاً: فقلت تَعَلَّمْ أن للصيد غِرةً. . . وإِلا تضيعها فإنك قَاتله. وقوله: (لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ). أي من يوليهم سوءَ العذاب. فإِن قال قائل قد جعلوا قِردةً فكيف يبْقَون إِلى يوْمِ القِيَامَةِ؟ فالمعنى أن الذكر لليهودِ، فمنهم من مُسخ، وجُعِل منهم القِردة والخنَازيرَ ومن بقي فمعانِدٌ لأمر اللَّه، فهم مُذَلُّون بالقتل، إِلا أن يُعْطُوا الجزية، فهم مذَلَّون بها وهم في كل مكان أذلُّ أهلِه. قال الله عزَّ وجلَّ: (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ).

(169)

أي إِلا أن يعطوا الذَمَّةَ والعَهدَ. * * * وقوله: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (169) يقال للذي يجىءُ في أثر قرنٍ خَلْف. والخَلَفُ ما أخْلفَ علَيْكَ بدَلًا مما أخذ منك، وُيقَالُ: في هذا خَلَفٌ أيضاً، فأمَّا ما أخلف عليك بدلًا مما ذهب منك فهو الخَلَفُ بفتح اللام. وقوله: (وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى). قيل إنهم كانوا يَرْتَشون على الحكم، ويحكمون بجورٍ، وقيل إِنهم كانوا يرتشون ويحكمون بحق، وكل ذلك عرَضٌ خسيس. وقوله: (وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ). فالفائدة أنهم كانوا يذنبون بأخذهم الرشِيَ، ويقولوا سيغفر لنا من غير أن يَتُوبُوا، لأن قوله: (وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ) دليل على إِصرارهم على الذنب، واللَّه جلَّ وعزَّ وَعَدَ بالمغْفِرَةِ في العظائم التي توجب النار مع التوبة. فقال: (أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ). أي فهم ذاكرون لما أخِذَ عليهم. * * * وقوله: (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170) " الذين " في موضع رفع، وفيها قولان، أعني في (إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ)، قال قوم: إِنا لا نضيع أجر المصلحين منهم، وهو الذي نختار

(172)

لأن كل من كان غير مؤمن وأصلح فأجره ساقط، قال اللَّه جلَّ وعزَّْ: (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ). وقال: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4). فالمعنى: (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ) أي يؤمنون به، ويحكمون بما فيه إنا لا نضيع أجر المصلح منهم والمصلح المقيم على الِإيمان المؤَدَّى فرائضه اعتقاداً وعَمَلاً، ومثله: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا) أي لا نضيع أجر من أحسن منهم عمَلاً. وقال قوم: المصلحون لفظ يخالف لفظ الأول، ومعناه معنى الأول فَعَادَ الذكر في المعنى وإن لم يكن عائداً في اللفظ، ولا يجيز هؤلاءِ زيد قام أبو عمرو. لأن أبا عمرو لا يوجبه لفظ زيد. فإن قال قائل: المؤْمن أنا أكرم من اتقى اللَّه، جاز، لأن معنى من اتقى اللَّه معنى المؤمن، فقد صار بمنزلة قولك زيد ضربته، لأن الذكر إِذا تقدَّم فالهاء عائدة عليه، لا محالة، وإِن كان لفظها غير لفظه، لأن ضمير الغائب لا يكون إلا هاءً في النصبِ. * * * وقوله: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172)

(175)

موضع (إِذ) نصب. المعنى واذكر (إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ). (مِنْ ظُهُورِهِمْ) بَدل من قوله: (مِنْ بَنِي آدَمَ) المعنى وإذ أخذ ربك ذُزيتِهُمْ وذرياتِهمْ جميعاً. وقوله: (وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى). قال بعضهم: خلق اللَّه الناسَ كالذَّرِ من صلب آدَمَ، وأشهدَهُمْ على توحيده، وهذا جائز أن يكون جعل لأمثَال الذَّرِ فهْماً تعقل به أمره. كما قال: (قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ) وكما قال: (وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ). وكل مولودٍ يُولَدُ على الفطرة معناه أنه يُولَدُ وفي قلبه توحيد اللَّه، حتى يكون أبواه هما اللذان يهودانه وينصرانه. وقال قوم: معناه أنَّ الله جَل ثَنَاؤُه، أخرج بني آدم بعضهم من ظهور بعض. ومعنى (وَأشْهَدَهُمْ عَلَى أنْفُسِهم ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ). أن كلَّ بالغ يَعْلَمُ أنَّ اللَّهَ واحدٌ، لأن كل ما خلق الله تعالى دليل على توحيده، وقالوا لولا ذلك لم تكن على الكافر حجة. وقالوا فمعنى (وَأشْهَدَهُمْ عَلَى أنْفُسِهم ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ) دَلَّهُمْ بخَلْقِه على توحيده. * * * وقوله: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) هذا نسق على ما قبله، المعنى اتلُ عليهم إِذ أخذ ربك من بني آدم. واتْلُ عَليهْمْ نبَأ الذِي آتَيْناهُ آياتِنَا فانْسَلَخَ منْها). هذا فيه غير قول، قيل إِنه كان عنده اسم اللَّه الأعظَم فدعا به على

(176)

موسى وأصحابه، وقيل إنه أمَيَّةُ بن أبِي الصلت، وكان عنده علم من الكتب، وقيل إنه يعني به منافقو أهل الكتَاب. وقوله: (فَكَانَ مِنَ الغَاوِينَ). أي الفاسدين الهالكينَ. * * * وقوله: (وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) أي لو شئنا أن نحول بينه وبين المعْصِيةِ لفعلْنا، (وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ). معناه ولكنه سكن إلى الدنيا، يقال أخْلدَ فلان إلى كذا وكذا، وخلد إلى كذا وكذا، وأخْلدَ أكْثرُ في اللغة، والمعنى أنه سكن إلى لذات الأرْض. (وَاتبَعَ هَوَاهُ). أي لم يرفعه بها لاتباعه هواه. وقوله: (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ). ضرب اللَّه عزَّ وجلَّ: بالتارِك لآياته والعَادِلِ عنها. أحسن مثل في أخَسِّ أحْوالِه، فقال عزْ وجل: (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ) إذا كان الكلب لهثان، وذلك أن الكلب إذا كان يلهث فهو لا يقدر لنفسه على ضَر وَلَا نَفْع، لأن التمثيل به على أنه يلهث على كل حال حملت عليه أوتركته، فالمعنى فمثله كمثل الكلب لاهثاً ثم قال: (ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا). * * * وقال: (سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177) المعنى: ساءَ مثلاً مَثَلُ القوْم. * * * وقوله: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179) (أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ). وصفهم بأنهم لا يُبْصرون بعُيُونهِم ولا يعقلون بقلوبهم. جَعَلَهُم في

(180)

تركهم الحق وإعراضهم عنه، بمنزلة من لا يُبْصر ولا يعقل. ثم قال جلَّ وعزَّ (بَلْ هُمْ أَضَلُّ). وذلك أن الأنعام تُبْصرُ منافِعَها ومضارَّها فتلزم بعض ما لا تُبصِرُه. وهُؤلاءِ يعلم أكثَرُهُمْ أنَّه مُعَاندٌ فيقدمُ عَلى النَار. وقال جلَّ وعزَّ: (فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) أي على عمل أهل النار. * * * وقوله: (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180) لا ينبغي أن يدعوه أحد بما لم يصف نفسه به، أو لم يسم به نَفْسَه. فيقول في الدعاءِ. يا الله يَا رَحْمَنُ يَا جَوَادُ، ولا ينبغي أن يقول: " يا سبحان " لأنه لم يصف نفسه بهذه اللفظة. وتقول يا رحيم، ولا يقول: يا رفيق، وتقول يا قوي، ولا تقول يا جَلْدُ. * * * وقوله: (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) أي ألم يَسْتدِلوا بما أنبأهم به من ملكوت السَّمَاواتِ والأرْض. (وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ). أي إن كانوا يُسَوفُونَ بالتوبة فعسى أن يكون قدْ اقترب أجَلهُمْ. فالمعنى: أولمْ ينظروا فيما دَلَّهم اللَّه جل ثناؤه على توحيده فكفروا به بذلك فَلعلَّهُم قد قرُبَتْ آجالُهم فيموتون على الكفر. (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ).

(186)

وقوله: (مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186) الطغيانُ: الغلو في الكفر. ويعمهون: يتحيَّرون. ويجوز الجزمُ والرفعُ في (يَذَرُهُمْ). فمن جَزَمَ عطف على موضع الفاء. المعنى من يضلل الله يذرهُ في طغيانه عَامهاً. ومن قرأ (ويذَرُهُمْ) فهو رفع على الاستئناف. * * * وقوله: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (187) والساعة ههنا التي يموت فيها الخلق. ومعنى مُرساها مُثَبِّتها، يقال - رسا الشيء يرسو إِذا ثبت فهو راسٍ وكذلك جبالٌ راسيات، أي ثابتات. وأرْسيْته إِذا أثبتُّه. فالمعنى يسألونك عن الساعة متى وقوعها. وقوله: (لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ). أي لا يظهرها في وقتها إلا هو. ومعنى: (ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ). قيل فيه قولان، قال قوم: (ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) ثقل وقوعها على أهل السماوات والأرْضِ. ثم أعلم جلَّ ثناؤه كيف وقوعها فقال جلَّ وعزَّ: (لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً). أي إلا فجأة. وقوله: (يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا). المعنى - واللَّه أعلم - يسألونك عنها كأنك فَرحٌ بسَؤالهم، يقال تحفيتُ بفلان

(188)

في المسْألَةِ إِذا سألت سؤالًا أظهرت فيه المحببَّةَ والبِربهِ، وأحْفَى فُلان بفُلانٍ في المسألة، وإِنما تأويله الكثرة ويقال حَفِت الدَّابَّةُ تَحْفَى حَفىً، مَقْصُور إذا كثر المشي حتى يؤلمها والحفاء ممدود أن يَمْشِيَ الرجُلُ بغيرِ نَعْلٍ. وقيل: (كَأنَّكَ حَفِيٌ عَنْهَا)، كأنك أكثرت المسألة عنها. وقوله: (قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ). مَعْنَى (إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ) لا يعلمها إِلا هوَ. * * * وقوله: (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188) (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ). أي لادَّخَرتُ زمن الخِصْبِ لزمن الجَدْب. وقيل (لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ) أي لو كنتُ أعلم ما أسأل عنه من الغيب في الساعة وغيرها. وقوله: (وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ). أي لم يَلْحَقْني تكذيبٌ. وقيل أيضاً: (وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ) أي ما بي من جُنُون، لأنهم نسبوا النبي - صلى الله عليه وسلم - إِلى الجنون، فقال: (وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ). ثم بَيَّن لهم مادَلَّهُم عَلى توحيدِ الله عزَّ وجلَّ فقال: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ). يعني آدمَ. (وجَعَلَ مِنْها زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا) (فَلَمَّا تَغَشَّاهَا).

(190)

كناية عن الجماع أحسن كناية. (حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً). يعني المَني، والحمْل ما كان في البَطْن - بفَتْح الحاءِ - أو أخرجَته الشجرة، والحمْلُ بكسر الحاءِ ما يُحْمَلُ. وقوله: (فَمَرَّتْ بِهِ). معنى مرت به استمرت، قعدت وقامت لَمْ يُثْقِلهَا. (فَلَمَّا أَثْقَلَتْ). أي دَنت ولَادَتُها، لأنه أولَ أمره كان خفيفاً، فلما جُعِل إنساناً ودنت الولادة أثْقلتْ. وقوله: (دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا). أي دعا آدم وحواءٌ رَبهمَا. (لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) يروى في التفسير أنَّ إِبليس - عليه اللعنة - جاء إلى حواءَ فقال: أتدرين ما في بطنك؟ فقالت لا أدري، قال فَلعله بهيمة ثم قال: إن دعوت الله أن يجعله إِنساناً أتَسمِينَه باسمي؟: فقالت، نعم فسمته عَبْد الحارِث، وهو الحارث. وهذا يروى في التفسير. وقيل إن آدمَ وحواءَ أصْل. فضرب، هذا مثلاً لمشركي العرب وَعُرَفُوا كيف بَدَأ الخلقَ، فقيل فلما آتاهما اللَّه - لكل ذَكر وأنْثى - آتاه اللَّهُ ولداً ذكراً أو أُنثى - هو خَلَقَه وصوَّره.

(199)

(جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاءَ) يعني الذين عبدوا الأصنام. (فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ). الأول هو الذي عليه التفسير، ومن قرأ " شِرْكاً " فهو مصدرُ شَرِكْتً الرجلَ أشركه شِرْكاً. قال بعضُهم: كان يَنْبغِي أنْ يكونَ على قراءَة من قرأ شِرْكاً جعلا لَغَيرِه شِرْكاً، يقول لأنهما لا ينكران أن الأصل الله عزَّ وجلَّ فالشرك إِنما يجعل لغيره، وهذا على معنى جعلا له ذَا شرْك فحذف ذا مثل (وَاسْأَل الْقَرْيَةَ) (1). * * * وقوله: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) والعفوُ الفضل، والعفوُ ما أتى بغير كُلْفَة. (وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ). أي بالمعروف. (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ). * * * وقوله: (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) لادنى حركة تكون، تقوك: قد نَزَغْتهُ إِذَا حركْته. فالمعنى إِنْ نَالَك مِن الشيطان أدْنى نزغ أي وسْوسة. وقوله: (مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ). يقال: طفْت أطُوفُ، وطاف الخيالُ يَطيفً. وقوله: (تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ). أي تفكروا فيما هو أوضح لهم من الحجة. (فإِذا هم مُبْصِرونَ) على بصيرة. * * * وقوله: (وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202)

_ (1) قال الإمام فخر الدين الرَّازي ما نصُّه: اعلم أنه تعالى رجع في هذه الآية إلى تقرير أمر التوحيد وإبطال الشرك وفيه مسائل: المسألة الأولى: المروي عن ابن عباس {هُوَ الذى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحدة} وهي نفس آدم {وجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} أي حواء خلقها الله من ضلع آدم عليه السلام من غير أذى {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا} آدم {حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا فَلَمَّا أَثْقَلَت} أي ثقل الولد في بطنها أتاها إبليس في صورة رجل وقال: ما هذا يا حواء إني أخاف أن يكون كلباً أو بهيمة وما يدريك من أين يخرج؟ أمن دبرك فيقتلك أو ينشق بطنك؟ فخافت حواء، وذكرت ذلك لآدم عليه السلام، فلم يزالا في هم من ذلك، ثم أتاها وقال: إن سألت الله أن يجعله صالحاً سوياً مثلك ويسهل خروجه من بطنك تسميه عبد الحرث، وكان اسم إبليس في الملائكة الحرث فذلك قوله: {فَلَمَّا ءاتاهما صالحا جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا ءاتاهما} أي لما آتاهما الله ولداً سوياً صالحاً جعلا له شريكاً أي جعل آدم وحواء له شريكاً، والمراد به الحرث هذا تمام القصة. واعلم أن هذا التأويل فاسد ويدل عليه وجوه: الأول: أنه تعالى قال: {فتعالى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ} وذلك يدل على أن الذين أتوا بهذا الشرك جماعة. الثاني: أنه تعالى قال بعده: {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [الأعراف: 191] وهذا يدل على أن المقصود من هذه الآية الرد على من جعل الأصنام شركاء لله تعالى، وما جرى لإبليس اللعين في هذه الآية ذكر. الثالث: لو كان المراد إبليس لقال: (أيشركون من لا يخلق شيئاً)، ولم يقل (ما لا يخلق شيئاً)، لأن العاقل إنما يذكر بصيغة «من» لا بصيغة «ما» الرابع: أن آدم عليه السلام كان أشد الناس معرفة بإبليس، وكان عالماً بجميع الأسماء كما قال تعالى: {وَعَلَّمَ ءادَمَ الأسماء كُلَّهَا} فكان لا بد وأن يكون قد علم أن اسم إبليس هو الحرث فمع العداوة الشديدة التي بينه وبين آدم ومع علمه بأن اسمه هو الحرث كيف سمى ولد نفسه بعبد الحرث؟ وكيف ضاقت عليه الأسماء حتى أنه لم يجد سوى هذا الاسم؟ الخامس: أن الواحد منا لو حصل له ولد يرجو منه الخير والصلاح، فجاءه إنسان ودعاه إلى أن يسميه بمثل هذه الأسماء لزجره وأنكر عليه أشد الإنكار. فآدم عليه السلام مع نبوته وعلمه الكثير الذي حصل من قوله: {وَعَلَّمَ ءادَمَ الأسماء كُلَّهَا} [البقرة: 31] وتجاربه الكثيرة التي حصلت له بسبب الزلة التي وقع فيها لأجل وسوسة إبليس، كيف لم يتنبه لهذا القدر وكيف لم يعرف أن ذلك من الأفعال المنكرة التي يجب على العاقل الاحتراز منها السادس: أن بتقدير أن آدم عليه السلام، سماه بعبد الحرث، فلا يخلو إما أن يقال إنه جعل هذا اللفظ اسم علم له، أو جعله صفة له، بمعنى أنه أخبر بهذا اللفظ أنه عبد الحرث ومخلوق من قبله. فإن كان الأول لم يكن هذا شركاً بالله لأن أسماء الأعلام والألقاب لا تفيد في المسميات فائدة، فلم يلزم من التسمية بهذا اللفظ حصول الإشراك، وإن كان الثاني كان هذا قولاً بأن آدم عليه السلام اعتقد أن لله شريكاً في الخلق والإيجاد والتكوين وذلك يوجب الجزم بتكفير آدم، وذلك لا يقوله عاقل. فثبت بهذه الوجوه أن هذا القول فاسد ويجب على العاقل المسلم أن لا يلتفت إليه. إذا عرفت هذا فنقول: في تأويل الآية وجوه صحيحة سليمة خالية عن هذه المفاسد. التأويل الأول: ما ذكره القفال فقال: إنه تعالى ذكر هذه القصة على تمثيل ضرب المثل وبيان أن هذه الحالة صورة حالة هؤلاء المشركين في جهلهم، وقولهم بالشرك، وتقرير هذا الكلام كأنه تعالى يقول: هو الذي خلق كل واحد منكم من نفس واحدة وجعل من جنسها زوجها إنساناً يساويه في الإنسانية، فلما تغشى الزوج زوجته وظهر الحمل، دعا الزوج والزوجة ربهما لئن آتيتنا ولداً صالحاً سوياً لنكونن من الشاكرين لآلائك ونعمائك. فلما آتاهما الله ولداً صالحاً سوياً، جعل الزوج والزوجة لله شركاء فيما آتاهما، لأنهم تارة ينسبون ذلك الولد إلى الطبائع كما هو قول الطبائعيين، وتارة إلى الكواكب كما هو قول المنجمين، وتارة إلى الأصنام والأوثان كما هو قول عبدة الأصنام. ثم قال تعالى: {فتعالى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي تنزه الله عن ذلك الشرك، وهذا جواب في غاية الصحة والسداد. التأويل الثاني: بأن يكون الخطاب لقريش الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم آل قصي، والمراد من قوله: هو الذى خلقكم من نفس قصي وَجعل من جنسها زوجها عربية قرشية ليسكن إليها، فلما آتاهما ما طلبا من الولد الصالح السوي جعلا له شركاء فيما آتاهما حيث سميا أولادهما الأربعة بعبد مناف، وعبد العزى، وعبد قصي، وعبد اللات، وجعل الضمير في {يُشْرِكُونَ} لهما ولأعقابهما الذين اقتدوا بهما في الشرك. التأويل الثالث: أن نسلم أن هذه الآية وردت في شرح قصة آدم عليه السلام وعلى هذا التقدير ففي دفع هذا الإشكال وجوه: الأول: أن المشركين كانوا يقولون إن آدم عليه السلام كان يعبد الأصنام، ويرجع في طلب الخير ودفع الشر إليها، فذكر تعالى قصة آدم وحواء عليهما السلام، وحكى عنهما أنهما قالا: {لَئِنْ ءاتَيْتَنَا صالحا لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين} أي ذكرا أنه تعالى لو آتاهما ولداً سوياً صالحاً لاشتغلوا بشكر تلك النعمة، ثم قال: {فَلَمَّا ءاتاهما صالحا جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء} فقوله: {جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء} ورد بمعنى الاستفهام على سبيل الإنكار والتبعيد، والتقرير: فلما آتاهما صالحاً أجعلا له شركاء فيما آتاهما؟ ثم قال: {فتعالى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي تعالى الله عن شرك هؤلاء المشركين الذين يقولون بالشرك وينسبونه إلى آدم عليه السلام، ونظيره أن ينعم رجل على رجل بوجوه كثيرة من الأنعام، ثم يقال لذلك المنعم: أن ذلك المنعم عليه يقصد ذمك وإيصال الشر إليك، فيقول ذلك المنعم: فعلت في حق فلان كذا وأحسنت إليه بكذا وكذا وأحسنت إليه بكذا وكذا، ثم إنه يقابلني بالشر والإساءة والبغي؟ على التبعيد فكذا ههنا. الوجه الثاني: في الجواب أن نقول: أن هذه القصة من أولها إلى آخرها في حق آدم وحواء ولا إشكال في شيء من ألفاظها إلا قوله: {فَلَمَّا ءاتاهما صالحا جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا ءاتاهما} فنقول: التقدير، فلما آتاهما ولداً صالحاً سوياً جعلا له شركاء أي جعل أولادهما له شركاء على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، وكذا فيما آتاهما، أي فيما آتى أولادهما ونظيره قوله: {واسئل القرية} [يوسف: 82] أي واسأل أهل القرية. فإن قيل: فعلى هذا التأويل ما الفائدة في التثنية في قوله: {جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء}. قلنا: لأن ولده قسمان ذكر وأنثى فقوله: {جَعَلاَ} المراد منه الذكر والأنثى مرة عبر عنهما بلفظ التثنية لكونهما صنفين ونوعين، ومرة عبر عنهما بلفظ الجمع، وهو قوله تعالى: {فتعالى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ}. الوجه الثالث: في الجواب سلمنا أن الضمير في قوله: {جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا ءاتاهما} عائد إلى آدم وحواء عليهما السلام، إلا أنه قيل: إنه تعالى لما آتاهما الولد الصالح عزما على أن يجعلاه وقفاً على خدمة الله وطاعته وعبوديته على الإطلاق. ثم بدا لهم في ذلك، فتارة كانوا ينتفعون به في مصالح الدنيا ومنافعها، وتارة كانوا يأمرونه بخدمة الله وطاعته. وهذا العمل وإن كان منا قربة وطاعة، إلا أن حسنات الأبرار سيئات المقربين، فلهذا قال تعالى: {فتعالى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ} والمراد من هذه الآية ما نقل عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال حاكياً عن الله سبحانه: «أنا أغنى الأغنياء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه غيري تركته وشركه» وعلى هذا التقدير: فالإشكال زائل. الوجه الرابع: في التأويل أن نقول: سلمنا صحة تلك القصة المذكورة، إلا أنا نقول: إنهم سموا بعبد الحرث لأجل أنهم اعتقدوا أنه إنما سلم من الآفة والمرض بسبب دعاء ذلك الشخص المسمى بالحرث، وقد يسمى المنعم عليه عبداً للمنعم. يقال في المثل: أنا عبد من تعلمت منه حرفاً، ورأيت بعض الأفاضل كتب على عنوان: كتابة عبد وده فلان. قال الشاعر: وإني لعبد الضيف ما دام ثاويا. . ولا شيمة لي بعدها تشبه العبدا فآدم وحواء عليهما السلام سميا ذلك الولد بعبد الحرث تنبيهاً على أنه إنما سلم من الآفات ببركة دعائه، وهذا لا يقدح في كونه عبد الله من جهة أنه مملوكه ومخلوقه، إلا أنا قد ذكرنا أن حسنات الأبرار سيئات المقربين فلما حصل الاشتراك في لفظ العبد لا جرم صار آدم عليه السلام معاتباً في هذا العمل بسبب الاشتراك الحاصل في مجرد لفظ العبد، فهذا جملة ما نقوله في تأويل هذه الآية. أهـ {مفاتيح الغيب حـ 15 صـ 70 - 72}

(203)

هذا معناه التًقْدِيمُ، المعنى (لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ). (وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ). يعني الشياطين، لأنَّ الكفار إخوانُ الشياطين، والْغَيُّ الْجَهْلً، والوقوع في الحركة. ويقال أقصر يُقصِرُ، وقَصَّرَ، يُقَصر. * * * وقوله: (وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203) أي هلا اختلقتها، أي هلا أتَيْتَ بها من نفسك، فأعْلمَهُم - صلى الله عليه وسلم - أن الآيات من قِبل اللَّه جل ثناؤه. وقوله: (إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ). أي هذا القرآن الذي أتَيْت به بصائر من ربكم، واحدة البصائر بصيرة. والبصيرة والبصائر طرائق الدَّم، قال الأشْعَر الْجُعْفِي. راحوا بصائرهم على أكْتَافِهمْ. . . وَبَصِيرَتي يَعْدُو بها عَتَدُ وَأيُّ والبصيرة التُّرْس، وجمعها بصائر. وجميع هذا أيضاً معناه ظهور الشيء وبيانه.

(204)

وقوله: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) يروى أن الكلام في الصلاة كان جائِزاً، فكان يدخل الرجلُ فيقول: كم صَلَّيْتُمْ فيقال: صلينا كذا. فلما نزلت فاستمعوا له وأنصِتوا حرم الكلامُ في الصلاة إِلا ما كان مما يتقرب به إِلى اللَّه جل ثناؤُه. ومما ذكَرَتْهُ الفقهاءُ نحو التسبيح والتهليل والتكبير والاستغفار وما أشبه ذلك. من ذكر الله جلَّ وعز ومسألته العفو. ويجوز أن يكون فاستمعوا له وأنصِتُوا، اعملوا بما فيه ولا تجاوزوا لأن معنى قول القائل: سمع اللَّه دُعاءَكَ. تأويله: أجاب الله دعَاءَك، لأن اللَّه جلّ ثناؤُه سميع عليم. * * * وقوله: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205) (بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ). الآصال جمع. أصُلٍ، والأصل جمع أصيل، فالآصال جمع الجمع. والآصال العَشِيات. * * * وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206) يعنى به الْملاَئكة. (وَيُسَبِّحُونَهُ) ينزهُونَهُ عَن السوءِ. فإِن قال قائل: الله جل ثناؤُه في كل مكانٍ، قال الله تعالى: (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ) فمن أين قيل للملائكة: (عِنْدَ رَبِّكَ)، فتأويله إنَهُ من قَرُب من رحمة الله وَمِنْ تَفَضُلِهِ وإِحسانه.

سورة الأنفال

سورة الأنفال بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله جلَّ وعزَّ: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1) (الأنْفَال) الْغَنَائِم، واحدها نَفَل، قال لبيد: إِن تقوى ربنا خير نَفَل. . . وبإِذن الله رَيْثِي وَعَجَلْ وإِنما يَسْألوا عَنْهَا لأنَّهَا فيما رُوِيَ كانت حَراماً عَلَى من كَانَ قبلهم. ويُروى أن الناسَ في غَزَاةِ بَدْرٍ كانوا قليلين، فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - لمن جاءَ بأسير غنْماً ومن جاءَ بأسيرين على حسب ذلك. وقيل أيضاً انه نفل في السرايا فقال الله جلَّ وعز: (الأنفَال للَّهِ والرسُولِ). * * * وقوله: (كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) أي بالحق الواجب، ويكون تأويله: (كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ). كذلك نَنْفل من رأيْنَا وإِن كرِهوا. لأن بعض الصحابة قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - حين جعل لكل مَن أتى بأسير شيئاً، قال يبقى أكثر الناس بغير شيءٍ.

(2)

فموضع الكاف في " كما " نصب، المعنى الأنفال ثابتة لك مثل إِخْراج ربِّكَ إِياك مِن بَيتكَ بالحق. وقوله: (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ). معنى (ذَاتَ بَيْنِكُمْ) حقيقة وصْلِكُم، والبَيْنُ: الوَصْلُ، قال تعالى: (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) أي وصلكم. فالمعنى: اتقُوا اللَّهَ وكُونوا مُجْتَمعينَ على ما أمر الله ورسُولُه، وكذلك اللهم أصلح ذات البَيْن، أي أصلح الحال التي بها يجتمع المسلمون. وقوله: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ). أي اقبَلُوا ما أمِرْتُمْ بِه في الغنائم وغيرها. * * * وقوله: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) تأويله: إذا ذكِرَت عظمةُ اللَّهِ وقُدْرَتُه، وما خوَّف به مَنْ عصاه، وَجلَتْ قلُوبُهُم أي فَزِعَتْ لذلك قال الشاعِر: لعمرك ما أدري وإِني لأوجل. . . على أيِّنا تعدو المنية أول يقال: وَجِل يَوْجل وَجَلاً، ويقال في معنى يوجَل ياجَلُ يِيجل وييْجَل،

(4)

هذه أربع لغَات حكاها سيبويه وأجودُهَا يَوْجَل، قال اللَّه عزَّ وجلَّ: (لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53)). وقوله: (وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا). تأويل: الإيمان التصديق، وكل ما تلى عليهم من عند اللَّه صدقوا به فزاد تصديقهم، بذلك زيادَة إيمانهم. وقوله: (أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) (حَقًّا) منصوب بمعنى دلَّت عليه الجملةُ. والجملة هي (أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ) حقا. فالمعنى أحُق ذَلك حقا. وقوله: (لَهُمْ دَرَجَات عِندَ رَبِّهِمْ) أي لهم مَنَازِل في الرفعة على قدر منازلهم. * * * وقوله: (يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) وعدهم الله جلَّ وعزَّ في غَزَاةِ بدر أنَّهُم يظفرون بأهل مكة وبالعِيرِ وهي الإبل لِكراهَتِهم القِتالَ، فَجَادَلوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وقالوا إنما خرجنا إِلى العير. وقوله: (كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ). أي وهم كانوا في خروجهم للقتال كأنهم يساقون إِلى الموت لِقلَّة عدَدهم وأنهم رَجَّالَة، يروى أنهم إنما كان فيهم فارسان فخافوا. * * * وقوله: (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) المعنى: واذكروا إذ يعدكم الله أن لكم إِحدى الطائفتين.

(9)

(أَنَّهَا لَكُمْ) في موضع نَصْبٍ على البدَل من (إحدى) ومثله قرله: (وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ) المعنى: ولولا أن تطؤوهم. وقوله: (وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ). أي تودُّون أنَّ الطائفة التي ليسَت فيها حرب وَلا سِلاح، وهي الإبلِ تكونُ لكم، وذاتُ الشوْكةِ ذاتُ السِلاح، يقال: فلان شَاك في السلاح. وشائِك في السلاح وشَالٌّ السلاح بتشديد الكاف من الشكَةِ، ومثل شاكي قول الشاعر: فَتَعَرَّفوني إنَّني أنا ذاكُمُ. . . شاكٍ سِلاحِي في الحوادِثِ مُعلِمُ وقوله: (وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ). أي ظفركم بذات الشوكة أقطعُ لدابرهم. * * * وقوله: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) لما رأوا أنفسهم في قلة عَدَدٍ استغاثوا فَأمَدَّهم اللَّه بالملائكة. قال اللَّه - عزَّ وجلَّ -: (أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ). يقال: رَدِفت الرجلَ إذا ركبْت خَلْفَهُ، وَأرْدَفته إذا أرْكَبْته خلفي، ويقال: هذه دابة لا ترادِف، ولا يقال لا تُرْدَفُ، ويقال أردَفْتُ الرجُلَ إذا جئتُ بعده، فمعنى (مُرْدِفِين) يأتون فرقة بعد فِرْقة، ويقرأ مُرْدَفِين، ويجوز في اللغة

(10)

(مَردَّفِين)، ويجوز مُرِدِّفين ومُرَدَّفِين. يَجوز في الراءِ مع تشديد الدال: كسرُها وفتحها وَضمها، والدال مُشدَّدَة مكسورة على كل حال: قال سيبويه: الأصل مُرْتَدِفِينَ. فأدغمت التاءُ في الدال فصارت مُرَدَّفينَ، لأنك طرحت حركة التاءِ على الراءِ، قال: وإن شئت لم تطرح حركة التاءِ وكسرت الراءَ لالتقاءِ السَّاكنين، والذين ضموا الراءَ جعلوها تابعة لضمة الميم. * * * وقوله: (وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10) أي ما جعل اللَّه المدَدَ إلا بشرى. * * * وقوله: (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11) " إذْ " مَوْضِعُها نصبٌ على معنى وما جعله اللَّه إلا بشرى في ذلك الوقت، ويجوز على أن يكون: اذكروا إذ يغشيكم النعاس. يقال: نَعَسَ الرجل يَنْعَسُ نُعَاساً وهو نَاعس، وبعضهم يقول: نَعْسان ولكنْ لا أشتهيها. وَ (أمَنَةً) منصوب مفعول له كقولك: فعلت ذلك حَذَرَ الشر. والتاوِبل أن اللَّه أمَّنهم أمْناً حتى غشيهم النعاس لِمَا وَعَدهم من النَصر. يقال: قد آمنتُ آمَنُ أمْناً - بفتح الألف - وَأمَاناً وأمَنَةً. وقوله: (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ). كان المشركون قد نزلوا على الماءِ وسبقوا المسلمين، ونزل المسلمون في رَمْلٍ تسوخ فيه الأرجُلُ، وأصابت بعضهم الجنابة فوسوس لهم الشيطانُ بأن عَدُوَّهم يقدرون على الماء وهم لا يقدرون على الماءِ، وَخيلَ إِليهم أن

(12)

ذلك عَوْنٌ من اللَّه لعدوهم، فأمطر اللَّه المكان الذي كانوا فيه فَتَطَهرُوا من الماءِ، واستوت الأرض التي كانوا عليها حتى أمكن الوقوفُ فيها والتصرفُ. وهذا من آيات اللَّه جل ثناؤُه التي تدل على نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأمْر بدر كان من أعظم الآيات لأن عَدَدَ الْمُسْلِمين كان قليلاً جداً، وكانوا رجَّالةً فأيدهم الله، وكان المشركون أضْعَافَهُم، وَأمَدَّهُم اللَّه بالملائكة. قال بعضهم: كان الملائكة خمسةَ آلاف، وقال بعضهم تسعة آلاف. وقوله: (وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشيْطَانِ). أي وَسَاوِسَهُ وخطاياه. (وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ). أي وَيُثَبِّتَ بالماءِ الذي أنزله على الرمْل حَتى اسْتَوى، وجائز أن يكون زين به للربط على قلوبهم، فيكون المعنى " وَليْرْبطَ عَلَى قُلُوبكُمْ وَيُثَبِّتَ" بالربط الأقدام. * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12) " إذ " في موضع نصب على " وَليَرْبِطَ إذْ يُوحِي " ويجوز أن يكون على " اذكر وا ". (فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا). جائز أن يكون أنهم يُثَبتُوهم بأشياءَ يلقُونَهَا في قُلُوبِهِمْ تَقْوَى بها. وَجَائِزَ أن يكونوا يَرَوْنهم مدَداً، فإذا عاينوا نصر الملائكة ثبتوا.

(13)

وقوله: (فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ). أباحهم اللَّه قتلهم بكل نوع في الحرب. . وَاحِدُ الْبَنانِ: بَنَانَة، وَمَعْناهُ ههنا الأصابعُ وغيرها من جميع الأعضاء. وإِنما اشتقاق البنان من قولهم أبَنَّ بِالمكان إذا أقَام به، فالبناءُ به يَعْتَملُ كلَ ما يَكُونُ للإقامة والحياةِ. * * * وقوله: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13) (شَاقُّوا). جانبوا، صَارُوا في شِقٍّ غَيْرِ شِقِّ الْمؤمِنِينَ، وَمثلُ شَاقُوا جَانَبُوا وَحَازَبوا وَحَارَبوا. معنى حَازَبوا صارَهُؤلاءِ حِزْباً وهُؤلاءِ حِزْباً. (وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ). (يُشَاقِقْ، وَيُشاقِّ) جميعاً، إِلا أنها ههنا يشاقق، بإظهار التضعيف مع الجزم وهي لغة أهل الحجاز، وغيرهم يدغِم، فإِذا أدْغمَتَ قلتَ: من يُشاقَّ زيداً أهِنْه، بفتح القاف، لأن القافين ساكنتان فحركت الثانية بالفتح لالتقاءِ السَّاكنين ولأن قبلها ألفاً، وإِن شئت كَسَرْتَ فقلتَ يُشاقِّ زَيْداً، كسرت القاف لأن أصل التقاءِ السَّاكنين الكسر. فإذا استقبلتها ألف ولام اخترت الكَسْر فقلت (وَمَنْ يُشاقِّ اللَّه). ولا أعلم أحداً قرَأ بها. * * * وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) يقال: أزحَفْتُ للْقَوْمِ إِذا ثَبَت لهم، فالمعنى: إِذا وَاقَفْتموهم للقتال. (فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ). أي لا تنهزموا حتى تُدْبِرُوا.

(16)

وقوله: (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16) يعني يوم حربهم. (إِلَّا مُتَحَرِّفًا). منصوب على الحال ويجوز أن يكون النصب في متحرف، ومتحيز على الاستثناءِ، أي إلا رجلاً متحيزاً، أي يكون منفرداً فينحاز ليكون مع المقاتلة. . وأصل (مُتَحَيِّز) متَحَيْوزِ فأدْغمت الياءُ في الواو. * * * وقوله: (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) ويقرأ، وَلَكِنِ اللَّهُ قَتَلَهُمْ، فمن شَدَّدَ نَصَبَ لَنَصْبِ (لكنَّ) وَمَنْ خفف أبطل عملها ورفع قولَه: (اللَّهُ) بالابتداءِ. أضافَ اللَّهُ قتلهم إليه، لأنه هو الذي تَوَلى نَصْرَهُمْ، وَأظْهَرَ فِي ذلك الآيات المعجزات. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمَا رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ). ليس هذا نَفْيَ رمي النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكن العرب خوطبت بما تعقل. ويروى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي بكر الصديق: ناولني كفا من بَطْحاءَ، فناوله كفًّا فرمى بها فلم يبق منهم أحدٌ - أعني من الْعَدُو إِلا شُغِلَ بعينه فأعلم اللَّه - جلَّ وعزَّ - أن كفًّا من تُراب أوْ حصًى لاَ يَمْلأ عيونَ ذلك الجيش الكثير

(18)

برَمْية بَشَرٍ، وأنه عزَّ وجلَّ تولى إيصَال ذلكَ إلى أبْصَارِهم، فقال عزَّ وجلَّ: (وَمَا رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ). أي لَمْ يُصِبْ رَمْيُكَ ذَاكَ ويبلغْ ذلك المبلغ بكَ، إنما اللَّه عزَ وجل تولى ذلك، فهذا مجازُ (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى). * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا). أي لينصرهم نصراً جميلاً، ويختبرهم بالتي هي أحسن. ومعنى يبليهم ههنا يُسْديَ إليْهم. * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18) بتشديد الهاءِ والنصب في (كَيْدِ) ويجوز الجر في (كَيْدِ) وإضافة (مُوهِن) إليه. ففيه أرْبَعة أوجُه. في النصب وجهان، وفي الجر وجهان. وموضع (ذلكم) رفع، المعنى الأمر ذلكم وأن اللَّه، والأمرُ أن اللَّه موهن. وقوله: (ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ). موضع (ذلكم) رفع على إضمار الأمر، المعنى: الأمر ذلكم فذقوه، فمن قال: إنه يَرْفعُ ذلكم بما عادَ عليه من الهاءِ أو بالابتداءِ وجعل الخبر فذُوقوه. فقد أخطأ من قبل أن مَا بَعدَ الفاءِ لا يكونُ خبراً لمبتدأ. لا يجوز زيد فمنطلق، ولا زيد فاضربُه، إلا أن تضمر " هذا " تريد هذا زيد فاضربه. قال الشاعر: وقائِلَةٍ خَوْلانُ فانْكِحْ فتاتَهُمْ. . . وأُكْرُومَةُ الحَيّيْنِ خِلْوٌ كما هِيا

(19)

وذكر بعضهم: أن تكون في موضع نصب على إضمار واعلموا أن للكافرين عذاب النار. ويلزم على هذا أن يقال: زيد منطلق وعمرا قائماً. على معنى وَاعْلَمْ عمراً قائماً، بل يلزمه أن يقول عمراً منطلقاً، لأن المخبر مُعْلِم، وَلَكِنهُ لَمْ يَجُز إِضمار أعلم ههنا، لأن كل كلام يُخبَر به أو يستخبر فيه فأنت مُعْلِمٌ به. فاستغنى عن إِظهار العلم أو إِضماره. وهذا القول لَمْ يَقُلْه أحَد مِنَ النَحَويين. * * * وقوله: (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19) معناه: إِن تستنصروا فقد جاءَكم النصر، ويجوز أن يكون معناه إِن تستحكموا فقد جاءَكم الحُكْم.؛ وقد أتى التفسير بالمعنيين جميعاً. رووا أن أبا جهل قال يوم بدرٍ: " اللهم أقْطَعُنَا للرحم، وأفسَدُنَا للجماعة فأحنه اليومَ " فسأل الله أن يحكُمَ بحيْنُ من كان كذلك، فنصر النبي - صلى الله عليه وسلم - ونال الحَيْنُ أبا جهلٍ وأصحابه، فقال اللَّه جلَّ وعزَّ: (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ) أي إِن تَستَقْضُوا فقد جاءَكم القضاءُ. وقيل إِنه قال: اللهم انصر أحبَّ الفِئَتَينْ إِليك، فهذا يَدلُّ على أن معناه: إِنْ تَسْتَنْصِروا. وكلا الوجهين جَيدٌ. * * * وقوله: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21) يُعنَى به الذين قالوا: قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقلْنَا مِثْل هَذَا. فسماهم اللَّه جل ثناؤُه لَا يَسْمعونَ، لأنهمْ اسْتَمَعُوا استماعَ عداوة وبغضاءَ، فلم يتفهموا، ولم يتفكرُوا. فكانوا بمنزلة من لم يسمَعْ. * * * وقوله: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22)

(23)

يعنى به هؤُلاءِ الذين يسمعون ويفهمون فيكونون في ترك القبول بمنزلة من لم يسمع ولم يَعْقِل. * * * (وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) أي لوعلم اللَّه فيهم خيراً لأسمَعَهُم جوابَ كل ما يَسألونَ عَنْهُ. ثم قال جلَّ وعزَّ: (وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ). أي لو بَيَّن لَهُم كل ما يعتلجُ في نفوسهم لتوَلَّوْا - وَهُمْ مُعْرضُونَ - لمعانَدَتِهِمْ. * * * وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) أي لما يكون سبباً للحياة وهو العلم. وجائز أن يكون لما يكون سبَباً للحياة الدائمة، في نعيم الآخرة. ومعنى استجيبوا في معنى أجيبوا. قال الشاعر: وداع دعا يا من يجيب إِلى الندا. . . فلم يستجبه عند ذاك مجيب أي فلم يُجبْه. وقوله: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ). قيل فيه ثلاثةُ أقوال، قال بعضهم يَحُول بينَ المؤْمِنِ والكُفْر، ويحول بين الكافِر والإيمان بالموت، أي يحول بين الإِنسان وما يسوف به نفسه بالموت، وقيل: (يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) معناه: واعلموا أن الله مع المرءِ في القرب بهذه المنزلة. كما قال: جلَّ وعزّ: (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) وقيل إِنهم كانوا يفكرُون في كَثْرَةِ عَدُوهِمْ وَقِلَّةِ عَدَدِهِمْ فيدخل في

(25)

قلوبهم الخوفُ، فأعلمَ اللَّهُ جلَّ ثناؤه أنه يحول بين المرءِ وَقَلْبِهِ بأن يبدُله بالخوفِ الأمن، ويُبَدِّلَ عَدُوَّهم - بظنهم أنهم قادرون عليْه - الجُبْنَ والخَوَرَ. * * * (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25) أي اتقوا أن يُبَدَلَ الظالمون بنقمة من اللَّه، يُعنى بهذا مَرَدَة المنافِقِينَ الذين كانوا يصدُّونَ عن الإيمان باللَّهِ. وزعم بعض النحويين أنَّ الكلام جزاء فيه طرف من النهي، فَإِذَا قلْتَ: أنزِل عن الدابة لا تَطْرَحْكَ ولا تَطْرَحَنك، فهذا جواب الأمر بلفظ النهي، فالمعنى: إنْ تَنْزل عنها لا تطرحك فإِذا أتيت بالنُون الخفيفة أو الثقيلة كان أوكَدَ للكلام. ومثله: (يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ) إِنها أمَرتْ بالدخول ثم نَهَتْهُم أن يُحْطِمَهُم سليمانُ فقالت: (لَا يَحْطِمنكمْ سلَيْمَانُ وجنودُه). فلفظ النهي لِسلَيْمانَ، ومعناه للنمْلِ، كما تقول: لا أريَنكَ هَهنَا، فلفظ النهي لنَفْسِكَ ومعناه: " لا تَكُونَن هَهُنَا فإِني أراك ". * * * وقوله: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30) المعنى: واذْكُرْ إِذ يمكُرُ بك الذِين كفروا. فأذكَرَه اللَّه جل ثناؤُه نِعْمَةَ مَا أنعَمَ عليه من النَّصْرِ والطفَرِ يوم بدْرٍ ذلك فقال (وَإِذْ يمكُرُ بكَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي اذكر تلكَ الخلال. (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ). لأن مكر الله إِنما هو مجازاة ونصر للمؤْمنين، فاللَّه خير الماكرين.

(31)

(وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) وقد دُعوا بأن يَأتوا بِسُورَةٍ واحِدَةٍ من مثل القرآن فلم يَأْتُوا. وقوله: (إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ). واحدتها أسطورة، يعنون ما سَطَّرَة الأوَلُونَ من الأكاذيب. ثم قالوا: (اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) القراءَة على نصب (الْحَقَّ) على خَبَرِ " كان " وَدَخَلَتْ " هُوَ " للفَصْل. وقد شرحنا هذا فيما سلف من الكتاب. وَاعْلَمْ أن (هُوَ) لا موضع لها في قولنا، وأنها بمنزلة " ما " المؤَكَدَة. ودخلت ليُعْلَم أن الحق ليس بصفة لهذا أو أنه خبر، ويجوز هو الحق مِنْ عِنْدكَ ولا أعلم أحداً قرأ بها. ولا اختلاف بين النحويين في إِجازتها ولكن القراءَة سُنَّة لا يقرأ فيها إِلا بقراءَة مَرْويةٍ. وقوله: (فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ). المعنى: واذكر إِذ قالوا هذا القولَ، وقالوا على وجه الدفع لهُ وقالوه والنبي - صلى الله عليه وسلم - بين أظهرهم. فأعلَمَ الله إنَّه لم يكن ليُعَذِبَهمْ وَرَسُوله بين أظهرهم. فقال: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)

(34)

أي: وَمَا كَانَ اللَّهُ ليعذبهم ومنهم من يؤول أمرُه إِلى الِإسلام. قال: (وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34) المعنى: أي شيءٍ لهم في ترك العذاب، أي في دَفْعِه عَنهُم. (وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ). المعنى: وهم يَصُدُّونَ عن المسجدِ الحَرام أولياءَهُ وما كانوا أولياءَه. (إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ). المعنى: ما أولياؤُهُ إِلا المتقون. فأعلم الله النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه لم يكن ليعذِبَهم بالعذاب الذي وقع بهم من القتل والسبي وهو بَيْن أظهُرهِم، ولا لِيُوقع ذلك العذاب بمن يؤُول أمْرُه إِلى الِإسلامِ مِنْهُمْ، وأعلمه إنَّه لا يدفع العذاب عن جملتهم الذي أوقعه بِهِمْ، ثم أعلم أنهم ما كانوا مع صَدِّهِمْ أولياءَ الْمسجدِ الحرام وَأولياءَ اللَّه، إِنهم إِنما كانَ تَقَربُهُمْ إِلى الله جلَّ وعزَّ بالصفير والتصفيق فقال جلَّ وعزَّ: (وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35) فالمكَاءُ الصفير، والتصدِيَةُ التصفيق. * * * وقوله: (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37) أي ليميز ما أَنفقه المؤْمنون في طاعة الله مما أَنفقه المشركون في معصية اللَّه، (وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا).

(39)

والركْمُ أن يَجْعَلَ بعضَ الشيءِ على بعض، ويقال رَكمتُ الشيءَ أركُمهُ ركماً، والرُّكام الاسم. (فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ). أي يجعل بعض ما أنفقه المشركون على بعض، ويجْعَلُ عليهم في النارِ، فيكون مما يُعذبُونَ بِه، كما قال جلَّ وعزَّ: (فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ). * * * وقوله: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) أَي حَتى لا يُفْتَنَ الناسُ فتنة كُفْر. ويدلُّ على معنى فتنة كفر قوله عز وجلَّ: (وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ). * * * وقوله: (وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40) المعنى: فإِن أقاموا على كفرهم وعَدَاوتهم فاعْلَمُوا أن الله مولاكم، أي هو المولى لكم، فلا تضركُم مُعَادَاتهم. * * * وقوله: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41) كثر اختلاف الناس في تأْوِيل هذه الآية والعمل بها وجُمْلَتُها أنَّها مال من الأمْوَالِ التي فَرَضَ الله جل ثناؤُه فيها الفُروضَ، والأموال التي جرى فيها ذكَر الفُروض للفقراءِ والمسَاكينِ وَمَنْ أَشْبهم ثلاثة أصنافٍ. سمى الله كل صنف منها، فسمى ما كان من الأموال التي يأخدْها المسلمون من المشركين في حال الحرب أَنْفَالَاَ وغَنَائِمَ، وسمى ما صار إِلى المسلمين مما لم يُؤخَذ في الحرب من الخراج والجزية فيئاً، وسَمَى ما خرج أَموال المسلمين

كالزكاة، وما نذووا من نذر، وتقربوا به إِلى الله جلَّ وعزَّ صَدَقَةً، فهذه جملة تسمية الأموال. ونحن نبين في هذه الآية ما قاله جمهوو الفقهاء وما توجبه اللغة إِن شاءَ اللَّه. قال أبو إسحاق: اجمعت الفقهاء أن أربَعةَ أخماس الغنيمة لأهل الحرب خاصة، والخمس الذي سُمِّي في قوله: (فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ) إِلى آخر الآية في الاختلاف. فأما الشافعي فذكر أن هَذَا الخُمس مقسوم على ما سمَّى اللَّه جلَّ وعزَّ من أهل قسمته وجعل قوله: (فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) افتتاحُ كلامٍ. قال أبو إِسحاق، وأحسب معنى " افتتاح كلام " عنده " هذا أن الأشياءَ كلها لِلَّهِ عزَّ وجلَّ، فابتدأ وافتتح الكلام. فإنَ قال قائل: (فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) كما قال (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ)، ثم قَسّم هذا الخمس على خمْسَةِ أَنْصِبَاءَ، خمسٍ للنبي - صلى الله عليه وسلم - وخمس ليتامى المسلمين لا ليتامى آل النبي - صلى الله عليه وسلم - وخمس في المساكين - مَساكين المسْلمين لا مساكين النبي - صلى الله عليه وسلم - وخمس لابن السمبيل. ولا يرى الشَافعي أن يَتْركَ صنفاً من هذه الأصناف بغيرِ حظ في القسمة. قال أبو إسحاق: وبلغني أنه يرى أن يُفضَّلَ بعضهُم على بعض على قدر الحاجة، ويرى في سهم الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - أن يصرف إلى ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصرفه فيه. والذي رُوِيَ أنَّه كان يصرف الخمس في عُدَدٍ للمسلمين نحو اتخاذ

السلاح الذي تقوى به شوكتهم. فهذا مذهب الشافعي وهو على لفظ ما في الكتاب. فأما أبو حنيفة - ومن قال: بقوله - فيقسم هذا الخمس على ثلاثة أصناف، يسقط ما للرسول من القسمة، وما لذوي القُرْبَى، وحجته في هذا أن أبا بكر وعمرَ لم يعطيا سَهْمَ ذوي القربى، وأن سهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ذهب بوفاته، لأن الأنبياء لا تورثُ. فيُقَسَّم على اليتامى والمساكين وابن السبيل على قدر حاجة كل فريق منهم ويعطي بعضاً دون بعض منهم خاصةً، إِلَّا إنَّه لا يخرج القَسْم عن هُؤلاءِ الثلاثة. وأما مذهب مَالِك فيُرْوَى أن قوله في هذا الخمس، وفي الفيءِ أنه إنما ذكر هُؤلاءِ المُسَمَّوْنَ لأنهم من أهم مَنْ يدفع إليهم، فهو يجِيزُ أن يَقْسِمَ بينهم، ويجيز أن يُعْطِيَ بعضاً دون بعض، ويجوز أن يُخْرِجَهُمْ مِن القسم إِن كان أمرُ غيرهم أهمَّ من أمرهم، فيفعل هذا على قدر الحاجة. وحجته في هذا أن أمرَ الصدَقاتِ لم يزل يجري في الاستعمال على ما يراه الناس. وقال الله عزَّ وجلَّ: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ). فلو أن رَجُلاً وجبت عليه خمسة دراهم لأخرجها إِلى صنف من هذه أو إِلى ما شاءَ من هذه الأصناف، ولو كان دْكر التسْمِية يوجب الحق للجماعة لما جاز أن يُخَصَّ وَاحد دون غيره، ولا أن يُنْقَصَ واحد مما يُعَطى غَيْرُه

قال أبو إسحاق: مِنْ - حجَج مالك في أن ذكر هؤلاءِ إنما وقع للخصوص. قوله تعالى: (مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ). فذكر جملة الملائكة، فقد دخل جبريل وميكال في الجملة وذكِرَا بأسمائهم لخصوصِهِمَا، وكذلك ذكر هؤلاءِ في القسمة والفيءِ والصدقة، لأنهم من أهم مَنْ يصرف إليه الأموال من البر والصدقة. قال أبو إسحاق: ومن الحجةِ لمالك أيضاً قول الله عزَّ وجلَّ: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ). فللرجل أن ينفق في البر على هذه الأصناف وعلى صنف منها، وله أن يخرج عن هذه الأصناف، لا اختلاف بين الناس في ذلك. قال أبو إسحاق: هذا جهلة ما علمناه من أقوال الفقهاءِ في هذه الآية. وقوله عزْ وجلَّ: (إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا). يجوز أن يكون " إنْ كنْتمْ " مُعَلقَةً بقوله: (فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40). . . إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ) فأيقِنوا أن اللَّه نَصَرَكم إِذ كنتم قد شاهدتم مِنْ نَصْره ما شاهدتم. ويجوز أنْ يَكُونَ (إِنْ كُنتمْ آمَنتُمْ بِاللَّه) معناها: اعلموا أن مَا غَنِمْتمْ من شيءٍ فأن للَّه خمسه وللرسول يأمران فيه بما يريدان إنْ كنتم آمَنْتمْ باللَّه فأقبلوا ما أمِرْتم به في الغنيمة. * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (يَوْمَ الْفُرْقَانِ). هو يوم بدر، لأن الله عزَّ وجلَّ أظهر فيه مِنْ نَصْرِهِ بإرداف الملائكة

(42)

والِإمداد بهم للمسْلِمِينَ مَا كانَ فيه فرْقانَّ بين الحق والباطل، ثم أكد التبينَ في ذلك فقال عزَّ وجلَّ: (إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42) (إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا) أي الدنيا منكم، والعدوة شفير الوادي، يقال: عِدْوة، وعُدْوَة وعدى الوادي مقصور، فالمعنى إِذ أنتم بالعدْوَةِ الدُّنْيَا، أي بشفير الوادى الذي يلي المدينة. (وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقصْوَى). بشفير الوادي الذي يلي مكَةَ. (وَالركْبُ أسْفَلَ منْكمْ). الركْبُ: العير التي كان فيها أبو سفيان على شاطئ البحر. فأعلم اللَّه جلَّ وعزَّ أن نَصْرَ المؤمنين وهم في هذا الموضع فرقان. قال أبو إِسحاق: قد بيَّنَّا أنه كان رَمْلًا تسوخ فيه الأرْخل، ولم يكونوا على ماءٍ، وكان المشرِكونَ نَازِلينَ على موْضِع فيه الماءُ، وهم مع ذلك يُحامونَ عن العِيرِ، فهو أشدُّ لِشوْكَتِهِمْ، فجعل اللَّه جلَّ وعزَّ النصرَ في هذه الحال، مع قلة عَدَدِ المسلمين وكَثْرَة عَدَد المشركين وشِدةِ شَوكَتِهِم، فرقَاناً. ويجوز فىٍ قوله: (وَالركْبُ أسْفَلَ منْكمْ) وجهان: الوجه أن تنصب (أسْفَلَ)، وعلَيه القراءَة. ويجَوز أن ترفع (أسْفَلُ) على أنك تريد والركبُ أسْفَلُ منكم أي أشَد تَسَفُلاً. ومن نصب أرادَ والركب مكاناً (أسْفَلَ) منكم.

وقوله: (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ). جعل اللَّه عزَّ وجل القاصِدَ للحق بمنزلة الحيِّ، وجعل الضَالَّ بمنزلة الهَالِك، ويجوز حَيِي بياءَين، وحَيَّ بياءٍ مشددَة مدْغَمة، وقد قرئ بهما جميعاً. فأمَّا الخليل وسيبويه فيجيزان الِإدغام والِإظهار إِذا كانت الحركة في الثاني لَازِمةً، فأمَّا من أدغَم فلاجتماع حرفين من جنس واحد. وأمَّا من أظهر فلأن الحرف الثاني ينتقل عن لفظ الياءِ، تقول حَييَ يَحْيَا، والمحيا والممات. فعلى هذا يجوز ُ الِإظهارُ. فأمَّا قوله عزَّ وجلَّ: (هُوَ يحْيي وُيميتُ) وقوله: (أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40). فلا يجوز فيه عند جميع البصريين إلا يُحْيي بياءيْنِ ظاهرَتَيْنِ وأجاز بعضهم. يُحيّ بياءَ واحدة مشددة مُدْغَمة. وذكر أن بعضهم أنشد: وكأنها بين النساءِ سبيكة. . . تمشي بسدة بَيْتِهَا فَتَعي ولو كان هذا المنشد المستشهد أعلمنا من هذا الشاعر، ومن أي القبائل هو وهل هو مِمَن يْؤخذ بشعره أم لا مَا كان يضره ذلك. وليس ينبغي أن يُحْمل كتاب الله على " أنشدني بعضُهُمْ " ولا على بيْت شَاذ لو عرف قائله وكان مِمنْ يْؤخذ بقوله لم يجز. وهذا عندنا لا يجوز في كلامٍ ولا شِعْرٍ، لأن الحرفَ الثانِيَ إِذَا كانَ

(43)

يسكن من غير المعتل نحو: " لم يَوَدَّ " فالاختيار إِظهار التضعيف، فكيف إِذا كان من المعتل. * * * وقوله: (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43) رويت عن الحسن أن معناها في عينك التي تنام بها. وكثير من أصحابِ النحو يذهبون إِلى هذا المَذْهَب. ومعناه عندهم: إِذ يريكهم الله في موضع منامك أي بِعَيْنك ثم حذف الموضِعُ، وأقام المقام مكانه، وهذا مَذْهَبٌ حسن. ولكنه قد جاءَ في التفسير أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رآهم في النوم قَلِيلًا، وقص الرؤْيا على - أصحابه فقالوا: صَدَقَتْ رُؤْيَاكَ يا رسول اللَّه، وهذا المذهب أسوغ في العربية، لأنَّه قَد جاءَ: (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ) فدَل بهذا أن هذا رؤْية الالتقاءِ، وأن تلك رؤْيةُ النوم. ويجوز على هذا المذهب الأول أن يكون الخطاب الأول للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأن الخطاب الثاني لجميع من شاهدَ الحربَ وللنبي - صلى الله عليه وسلم -. وقوله: (وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ). أي لتأخرتم عن حربهمْ وكِعْتُمْ وَجَبُنْتُمْ، يقال فشِلَ فشَلاً إِذَا جَبنَ وهابَ أن يَتَقدم. * * * وقوله: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55) عنى أن هؤلاءِ لا يُؤمنون أبداً، كما قال لنُوح: (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ). * * * وقوله: (فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57)

(58)

معناه افعل بِهِمْ فعلاً من القَتْلِ تُفَرِقُ به مَنْ خَلْفَهمْ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (تَثْقَفَنَّهُمْ) معناه تصادفَنهُمْ وَتَلْقينَّهُمْ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58) أي نقضاً للعهد. (فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ). أي انبذ عهدهم الذي عاهَدْتهم عليه أي ارم به. على سواءَ، أَي لِتكُونَ وَهُمْ سَواءً في العداوة. (إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ). أي الذين يخونون في عهدهم وغيره. * * * وقوله: (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِم). معناه عادةُ هُؤلاءِ في كفرهم كعادة آل فرعون في كفرهم، فجوزي هُؤلاءِ بالقتل والسَّبىِ كما جوزيَ آل فرعونَ بالإِغراق والإِهْلَاكِ، كذا قال بعض أهل اللغة، فِي الدأَب أَنه العادة. وقال أَبو إِسحاق: وحقيقة الداب إِدَامَة العَمَل، تقول: فلان يداب في كذا وكذا أَىِ يداوم عليه ويواظب، وُيتْعِبُ نفسه فيه. وهذا التفسير معنى العادة إِلا أن هذا أَبيَنُ وأَكشفُ. * * * وقوله: (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48) موضع " إِذْ " نصبٌ، المعنى: اذكر إِذ زيَنَ لهم الشيطان أَعمالهم. (وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ). تمثل لهم إِبليس في صورة رَجُل يقالُ له سُراقة بنُ مالك بنُ جُعْثُم من كنانة، وقال لهم: لَنْ يَغْلِبكم أَحَدٌ، وَأَنَا جَارٌ لكم من بني كنانة. (فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ).

(59)

توافَقَتَا حتَى رَأت كُل وَاحِدةٍ الأخْرَى، فَبَصرَ إِبليسُ بالمَلائكَة تنزل من السّماءِ فنكص على عقبيه. (وَقَالَ إِنَّي بَرِيءٌ مِنْكمْ). وذلك أَنه عُنِّفَ لهَرَبِه، فقال: (إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ). ومعنى نكص رجع بِخِزْيٍ. فإِن قال قائل: كيف يقول إِبليس: (إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ) وهو كافِر؟ فالجواب في ذلك أنَّه ظن الوقت الذي أُنْظِرَ إِليْه قَدْ حَضر. * * * وقوله: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ (59) معناها: لَا يَحْسَبَنَّ من أفلت من هذه الحرب قَدْ سَبَق إِلى الحياة. والقراءَة الجيدةُ (وَلَا تَحْسَبَنَّ) بالتاءِ على مخاطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - وتكون " تَحْسَبَنَّ " عاملة في الذين، ويكون (سبقوا) الخبر. ويجوز فتح السين وكسرها، وقد قرأ بعض القراءِ، ولا يحسَبَنَ الذين كفروا، بالياء وَوَجهها ضعيف عند أهل العربية إِلا أنَّها جائزة على أن يكون المعنى، ولا يحسبن الذين كفروا أن سبقوا، لأنها في حرف ابن مسعود إنهم سبقوا، فإِذا كانت كذلك فهو بمنزلة قولك: حسبت أن أقوم وحسبت أقومُ على حذف (أن) وتكون أقوم وقام تنوب عن الاسم والخبر كما أنك إِذا قلت: ظننت لَزَيْد خَيْر مِنْكَ. فقد نابت الجملةُ عن اسم الظَنِّ وخَبرِه وفيها وجه آخر: ولا يحسبَنَ قبيلُ المُؤْمِنينَ الَّذِينَ كَفَروا سَبَقُوا.

(60)

ويجوز فيها أوجُهٌ لَم يُقْرأ بِهَا، يجوز " ولا يُحْسَبَنَّ الذينَ كفروا سبقوا " و" لا يَحْسبُنَّ الذين كفروا ". أي لا يحسب المؤمنون الذين كفروا سبقوا. ولكن القراءَة سنة، لا يُقْرأ إِلا بما قرأت به القراءُ. ويجوز إِنهم بكسر إِنَّ، ويجوز أنَّهم. فيكون المعنى: ولا يَحْسَبَنَ الَّذِينَ كفروا أَنهم يعجزون. ويكون (أن) بَدَلًا مِن (سَبقُوا). قال أبو إسحاق: هذا الوجه ضعيف، لأن " لا " لا تكون لَغْواً في موضع يجوز أن تقع فيه غير لغوٍ. وقوله: (يُعْجِزُونَ) فتحُ النون الاختيارُ، ويجوز كسرها على أن يكون المعنى أنهم لا يَعجزُونَنِي، بحذف النون الأولى لاجتماع النونين. قال الشاعر: رأته كالنعام يُعَلُّ مِسْكاً. . . يسوءُ الغاليات إِذا فَلَينِي يريد فلينني. * * * وقوله: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60) (وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ). (وَآخَرِينَ) عطف على قوله (تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ). أي وترهبون آخرين منْ دُونهِمْ. * * * وقوله: (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) السَّلْمُ: الصلح والمسالمة، يقال: سِلْمٌ وسَلَمٌ وسَلَم في معنى واحِد. أي إِن مالُوا إِلى الصلح فَمِلْ إِلَيْه. * * * (وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) أي إِن أرَادُوا بإِظهارِ الصلْح خَدِيعَتك، (فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ).

(63)

أي فإِن الذي يتولى كفايتك اللَّه. (وَمَنِ اتبَعَكَ مِنَ الْمؤمِنِينَ). موضع " مَنْ " نصبٌ ورَفْعٌ، أما مَنْ نَصب فعلى تأْويل الكاف، المعنى فإِن اللَّه يكفيك ويكفي من اتبَعَكَ من المؤْمنين، ومن رفع فعلى العطف على اللَّه والمعنى: فإن حسبك اللَّهَ وتُبَّاعُك مِن المؤْمنينَ. (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ). ومعنى (أَيَّدَكَ) قَوَاكَ. (وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63) أي جمعهم على المودة على الِإيمان. وقوله: (لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا). (جَمِيعًا) منصوب على الحال. (مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ). أعلم الله جلَّ وعزَّ أن تأليف قلوب المؤمنين من الآيات العظام وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بُعِث إِلى قوم أنَفتهم شديدةٌ، ونصرة بعضهم بعضاً ومعاوَنَتُه أبلغ نصرةٍ وَمعَاوَنَةٍ، كان يُلْطَم من القبيلة لطمةً فيقاتل عنه حَتَى يُدْرَكَ ثَأرهُ، فألَّف الايمان بين قلوبهم حتى قاتل الرجل أباه وأخاه وابنه، فأَعلم اللَّه عزَّ وجلَّ أن هذا ما تَوَلَّاة منهم إِلا هو. * * * وقوله: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65) تأويله حُثَّهم على القتال. وتأويل التحريض في اللغة أن يحث الِإنسان على الشَيء حثًّا يعلم معه أنه حَارضٌ إِن تخلف عنه، والحارض الذي قدْ قَارَبَ الهلاكَ، وقَوله تعالى:

(66)

(حَتَى تَكُونَ حَرَضاً) أي حتى تَذوب غَمًّا فتقارب الهلاك فتكون من الهالكين. * * * وقوله: (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ). لا يجوز إِلا كسر العين. وزعم أهل اللغة أن أول عشرين كسِرَ كما كُسِرَ أولُ اثنين، لأن عِشْرين من عَشْرةٍ مثل اثنين من واحِدٍ. ودليلهم على ذلك فتحهم ثلاثِين كفتح ثلاثةٍ. وكسرة تِسعين ككسرة تسعة. * * * وقوله: (الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66) (وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا). قرئَت على ثلاثةِ أوْجُهٍ: قُرئت ضَعْفاً بفتح الضادِ، وضُعْفاً بضم الضادِ والمعنى واحِدٌ، يقال هوِ الضعفُ والضُّعْف، والمَكْثُ والمُكْثُ، والفَقْرُ والفُقْر، وباب فَعْلٍ وفعْل بمعنَى واحِدٍ في اللغة كثير. وقرأ بعض الشيخة: وعلم أن فيكم ضُعَفَاءَ على فُعَلَاءَ، على جمع ضعيف وضعَفاءَ ولم يَصْرفْ ولم يُنَوَّنْ لأن فعلاءَ في آخرها ألف التأنيث. (فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ). وقُرئت " فإِن تكن " بالتاءِ، فمن أنث فلأن لفظَ المائة مَؤنث، ومن ذكَّر فلأنَّ المائة وقعت على عَدَد فذكِّر. * * * وقوله: (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) ويقرأ أسُارَى، فمن قرأ أسْرَى فهو جمع أسِير وأسْرَى. وَفعْلى جمع لكل ما أصِيبوا به في أبدانهم وعُقُولهم، يقال: هالك وهلكى، ومريض ومَرْضَى، وأحمق وحَمْقَى، وسَكْران وسَكرى.

(75)

ومن قرأ أسارَى فهو جمع الجمعِ، تقول أَسير وأسارى. قال أبو إِسحاق: ولا أعلم أحداً قرأها أسارى. وهي جائزة ولا تقرأن بها إِلا أن تثبت رواية صحيحة. (حَتَى يثْخِنَ فِي الأرْضِ). معناه حتى يبالغ في قتل أعدائه، ويجوز أن يكون حتى يتمكن في الأرض. والِإثخان في كل شيء قوة الشيء وشدته يقال قد أثخنته. * * * ومعنى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75) (وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ). أي بعضهم في المواريث أولى ببعض. وهذه المواريث في الولاية بالهجرة منسوخة، نسخها ما في سورة النساءِ من الفرائض. * * * وقوله: (وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ). معناه تذهب صَوْلتكم وقوتكم، ويقال في الأولِ: الريحُ معَ فُلان، أي الدَّوْلَةُ.

سورة براءة

سورة براءة قوله جلَّ وعزَّ (بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) سُئل أبَيُّ بنَّ كعب: ما بال براءَة لم تفتتح بـ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. فقال: لأنها نزلت في آخر ما نزل من القرآن، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمر في أول كل سورة بـ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: ولم يأمر في سورة براءَة بذلك فَضُمَّتْ إلى سورة الأنفال لشبهها بها. يعني أن أمْرَ العهودِ مذكور في سورة الأنفال وهذه نزلت بنقض العهود فكانت ملتبسة بالأنفال في الشبه. قال أبو إِسحاق: أخبرنا بعض أصحابنا عن صاحبنا أبي العباس محمد ابن يزيد المبرد أنَّه قال: لم تفتتح ب " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ "، لأن " بسم اللَّه " افتتاح للخير. وأول " براءَة " وَعيدٌ ونقض عُهود، فلذلك لم تفتتح بـ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. و (براءَة) نزلت في سنة تسع من الهجرة، وافتتحت مكة في سَنَةِ ثمان. وَوَلَّى رسولً الله - صلى الله عليه وسلم - عَتَابَ بنَ أسَيدٍ للوقوف بالناس في الموسم فاجتمع في

تلك السنة في الموقف ومعالم الحج وأسبابه المسلمون والمشركون، فلما كان في سنة تسع وَلى رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر الصديق الوقوفَ بالناس وأمر بتلاوة براءَة، وولى تلاوتها عَلياً وقال في ذلك: لن يُبَلِّغَ عني إِلا رجُل مني، وذلك لأن العربَ جَرت عادتها في عقد عقودها ونقضها أن يتولى ذلك على القبيلة رَجلٌ منها، فكان جائزاً أن يقول العربُ إِذا تلى عليها نقض. العهد من الرسول: هذا خِلاف ما نعرف فينا في نقض العهود، فأزاح رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - هذه العِلَّةَ، فَتًليَتْ براءَة في الموقف: (بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) أي قدْ بَرِئ من إِعطائهم العهودَ والوفاءَ لهم، ذلك أن نكثوا. (بَرَاءَةٌ) مرتفعة على وجهين أحدهما على خبر الابتداء، على معنى هذه الآيات براءَة من الله ورسوله، وعلى الابتداء، يكون الخبر (إِلى الذين عاهدتم) لأَن براءَة موصولة بِـ مِنْ، وصار كقولك: القصد إِلى زيد، والتبرؤُ إِليك، وكلاهما جائز حسن، يقالي بَرئْتُ في الرجلِ والدين براءَةً،. وبرِئْتُ من المرَضِ وبَرَات أيضاً بُرْءَاً، وقد روَوْا برات ابرُؤَ بُرُوءاً، ولم نجد فيما لامه همزة فعَلْت أفعُل، نحو قرأت أقرا، وهنأت البعير أهنؤُه.

(2)

وقد استقصى العلماء باللغة هذا فلم يجدوه إِلا في هذا الحرف وُيقال برَيْت القَلمَ - وكل شَيءٍ نَحَتُه - أبْرِيه بَرْيَا، غير مهموز، وكذلك بَرَاةُ السيْرُ غير مهموز، والبُرَةُ حَلَقَة من حَدِيد في أنف الناقة، فإِذا كانت من شعر فهي خِزَامَةُ. والذي في انف البعير من خَشب يقال له الخِشَاش، يقال أبريت الناقة أبْرِيها براءَ إِذا جَعَلْت لها بُرَةً. ولا يقال إِلا بالألف أبْريْتُ، ومن الخزامة خَزَمْتُ - بغير ألف - وكذلك من الخِشاش خَشَشْتُ، والبُرَةُ الخلخال من هذا، وتجمع البرةُ بُرين والبُريَ. * * * وقوله: (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2) أي اذهبوا؛ وأقبلوا وَأدبِرُوا أربعةَ أشْهُرٍ. (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ). أي وإِن أجَّلْتُم هذه الأربعة الأشهر فلن تفوتوا اللَّه (وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ). الأجْوَدُ فتح (أَنَّ) علَى معنى اعلموا أن الله مخزي الكافرين، ويجوز كَسْرها على معنى الاستئناف، وهذا ضمان من الله عزَّ وجلَّ بنَصْرِهِ المؤْمنين على الكافرين. * * * (وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3) عطف على (بَرَاءَة) ومعناه: وإعلان من الله ورسوله، يقال آذنته بالشيء إِذا أعلمته به. (إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ). قيل يَومُ الحج الأكبر هو يوم عرفة، والحج الأكبر الوُقوف بعرفة. وقيل الحج الأصغر العمرة.

(4)

والِإجماع أنَّه من فاته الوقوف بعرفة فقد فاته الحج. وقال بعضهم إِنما سُمي يومَ الحج الأكبر لأنه اتفقت فيه أعياد أهل المِلَّةِ، كان اتفق في ذلك اليوم عيدُ النصارى واليهودِ والمجوسِ وهذا لا يُسمى بهِ يومُ الحج الأكبر، لأنه أعيادُ غير المسلمين، إِنما فيها تعظم كفر باللَّه، فليست من الحج الأكبر في شيءِ. إجماع المسلمين على أن الوقوف بعرفة أكْبَرُ الحجِّ. * * * وقوله: (إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) " الذين " في موضع نصب، أي وقعت البراءَة من المعاهدين الناقضين للعهود. (إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ). أي ليسوا داخلين في البراءَة ما لم ينقضوا العهود. * * * وقوله: (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) أي اقتلوا هؤلاءَ الذين نقضوا العهدَ، وَنُقِضَ عَهْدُهُمْ وَأحِلوا هذه المدةَ. ويقال إِن الأربَعةَ الأشْهرِ كانت عشرين من ذي الحجة والمحرم وصفر وربيعاً الأول، وعشرا من ربيع الآخر، لأن البراءَة وقعت في يوم عرفة، فكان هذا الوقت ابتداءَ الأجل. (وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ). قال أبو عبَيْدَة: المعنى كل طريقٍ. قال أبو الحسن الأخْفَش " على " محذوفة. المعنى اقعدوا لهم على كل مَرْصد وأنشد: نُغالي اللَّحمَ للأَضْيافِ نِيئاً. . . ونُرْخِصُهُ إِذا نَضِجَ القَديرُ

(6)

المعنى نغالي باللحم، فحذف الباءَ ههنا، وكذلك حذف (على). قال أبو إسحاق: كل مَرصَد ظرف، كقولك ذهبت مَذْهَباً. وذهبت طريقاً، وذهبت كل طريق. فلست تحتاج أن تقول في هذا إلا ما تقوله في الظروف مثل خلف وأمام وقدام. وقوله: (فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ). أي إِن تابوا وآمنوا فهم مثلكم، قد درأ عَنْهم إِيمانهم وَتَوْبَتهمْ إثمَ كفرهم ونكثهِم العهودَ. * * * وقوله: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6) المعنى إن طلب منك أحد منهم أن تجيرَه منَ القَتْل إلى أن يسمع كلام اللَّه (فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ). (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ). أي الأمر ذلك، أي وجب أن يعرفوا وأن يُجَازوا بجَهْلِهمْ وبِمَا يَتَبينُونَ الإسلام. وأما الإِعراب في أحَد معِ " إِنْ " فالرفع بفِعل مُضْمر الذي ظهر يفسرُه. المعنى وإن استجارك أحد. ومن زعم أنه يرفع أحَداً بالابتداءِ فخطأ. لأن الجزاءَ لا يتخطى ما يرفع بالابتداء ويعمل فيما بعده.

(7)

فلو أظهرت المستقبل لقلت: إِن أحدٌ يقمْ أكرمهُ ولا يجوز إِنْ يَقمُ أحدٌ زَيُدٌ يَقُمْ. لا يجوز أن ترفع زيْداً بفعل مضمر الذي ظهر يفسِّرُه ويَجزم. وإِنما جاز في " إن، لأن " إن، يلزمها الفِعْلُ. وجواب الجزاءِ يكون بالفِعْل وغيره. ولا يجوز أن تُضْمِرَ وتجزم بعد المبتدأ. لأنك تقول ههنا إن تأتني فزيد يقوم، فالموضع موضع ابتداءٍ. وإنما يجوز الفصل في باب " إنْ " لأن " إِنْ " أمُّ الجزاءِ، ولا تزول عنه إلى غيره، فأما أخَواتُها فلا يجوز ذلك فيها إلا في الشِعر. قال عدي بن زيد. فمتى واغل يزرهم يُحيوه. . . وتُعطَفْ عليه كأسُ السَّاقي * * * وقوله: (كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) (إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ). أي ليس العهد إلا لهُؤلاءِ الذين لم ينكثوا. فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فاسْتَقِيمُوا لَهُمْ). أي ما أقاموا على الوفاءِ بعَهْدهِمْ، وموضع " الذين " نصب بالاستثناءِ.

(8)

وقوله: (كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8) وحذف مع كيف جملة " يكون لهم عهد " لأنه قد ذكر قبل ذلك. قال الشاعر يرثي أخاً له مات: وخَبرتُمانِي أنما الموت بالقُرَى. . . فكيف وهاتا هَضبة وقليب أي فكيف مات وليس بقرية. ومثله قول الحطيئة: وكيف ولم أعْلمْهمُوخَذَلُوكُمُو. . . عَلَى مُعْظَم ولَا أدِيمَكُمُو قَدُّوا أي فكيف تَلومونني على مدح قوم، وتَذُمونَهُمْ، واستغنى عن ذكر " ذَلِك " مع ذكر كيف، لأنه قد جرى في القصيدة ما يدل على ما أضْمِرَ. قال أبو عبيدة الإل: العهدُ، والذِّمَّة ما يتذَمم منه، وقال غيره: الذمة. العهد، وقيل في الإل غير قول. قيل: الإل: القرابة، وقيل: الِإل: الحلف، وقيل: الِإل: العهْدُ، وقيل الإل اسم من أَسماءِ اللَّه، وهذا عندنا ليس بالوجه لأن أسماءَ اللَّه جلَّ وعز معروفة معلومة كما سمعَت في القرآن وتُلِيَتْ في الأخبار قال الله جلَّ وعزَّ: (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا). فالداعي يقول: يا اللَّه، يا رحمن، يا ربُّ، يا مْؤمِن، يَا مهيَمن.

(12)

ولم يَسْمَعْ " يا إلُّ في الدعاءِ. وحقيقة " الإلّ " عندي على ما تُوحيه اللغة تحديد الشيءِ فمن ذلك: الإلَّةُ: الحربة، لأنَّها محدَّدَة، ومن ذلك: إذُن مُؤلَّلة، إذا كانت محدَّدَة. والأل يُخرَجُ في جميع ما فُسِرَ من العهْدِ والجوار على هذا، وكذلك القرابَة، فإِذا قلت في العهد بَيْنَهُما إِلٌّ فمعناه جواز يحاد الإنسان، وإذا قُلْتَهُ في القرابة فتأوِيله القرابَة الدانِية التي تحادُّ الإنسانَ. * * * وقوله - جلَّ وعزَّ -: (وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) أي رؤساءَ الكافرين، وقادتهم، لأن الِإمام متبَع. وهذه الآية توجب قَتلَ الذِميِّ إذا أظْهَرَ الطعنَ في الإسلام لأن العهد معقود عليه بألَّا يطعَنَ، فإِذا طعنَ فقد نكث. وقوله: (أَئِمَّةَ الْكُفْرِ) فيها عند النحويين لُغة واحدة: أيمة بهمزة وياء والقرَاءُ يقرَأون (أَئِمَّةَ) بهمزتين، وأيمة بهمزة وياء فأما النحويون فلا يجيزون اجتماع الهمزتين ههنا، لأنهما لا يجتمعان في كلمة، ومن قرأ أئمة - بهمزتين - فينبغي أن يقرأ يا بني أأدم، والاجتماع أن آدم فيه همزة واحدة. فالاختلاف راجع إلى الإِجماع، إلا أن النحويين يستصعِبون هذه المسألة. ولهم فيها غير قول: يقولون إِذا فضلنا رجلاً في الإمَامة: هذا أوَمُّ من هذا ويقول بعضهم أيُمَّ من هذا، فالأصل في اللغة أأْمِمَةٌ لأنه جمع إِمامٍ، مثل مِثَال وأمْثلَةٍ، ولكن

الميمين لما اجتمعتا أدغمت الأولى في الثانية وألغِيت حركتها على الهمزة. فصار أئِمة، فأبدل النحويون من الهمزة الياء. ومن قال: هذا أيَمَّ من هذا جعل هذه الهمزة كلما تحركت أبْدَلَ مِنها قال أبو إسحاق: والذي قال: (هَذا أوَمُّ مِن هذا) كانت عنده أصلها أَأَم. فلم يمكِنْه أن يُبدِلَ منها ألِفاً لاجتماع السَّاكنين، فجعلها واواً مفتُوحة، لأنه قال: إذا جمعت آدمَ قُلتَ أوادِمَ. وهذا هو القياس الذي جعلها ياءً. قال: قد صارت الياءُ في أئمة بدَلاً لازماً. وهذا مذهب الأخفشِ، والأول مذهب المازني. قال أبو إسحاق وأظنه أقْيَسَ الوَجْهَين، أعني: هذا أوَمُّ مِنْ هَذَا، فأما أئِمة باجتماع الهمزتين، فليس من مذاهب أصحابنا، إلا ما يحكى عن ابن إسحاق فإنه كان يحب اجتماعهما وليس ذلك عندي جائزاً، لأن هذا الحرف في أئمة قد وقع فيه التضعيف والإدغام، فلما أدغم وقعت علة في الحرف. وطرحت حركته على الهمزة فكان تركها دليلاً على أنها همزة قد وقع عليها حركة ما بعدها، وعلى هذا القياسِ يجوز: هذا أأمُّ مِنْ هذا والذي بدأنا به هو الاختيار من أن لا تجتمع همزتان. * * * وقوله: (إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ). وتقرأ (لا إِيمان لَهُمْ) فمن قرأ: (لا أيمَان لهمْ) بالفتح فقد وصفهم بالنكث في العهد، وهو أجودُ القراءَتين، ومن قرأ " لا إيمَانَ لهم " فقد وصفهم بالردةِ، أي لا إِسْلامَ لَهم، ويجوز أن يكون نَفَى عنهم الإيمان لأنهم لم يُؤمنوا، كما تقول: لا عِلْمَ لِفُلانٍ.

(13)

ويجوز أن يكون لا أيمَانَ لَهُمْ إذَا كنتمْ أنْتُمْ آمَنْتُموهُمْ، فنقضوا هم عَهدكُم، فقد بطل الأمان الذي أعطيتموهم، أي لا إيمانَ لَهُمْ: على " آمنتُ إيماناً على المصدر ". (لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ). أي لِيُرْجَى منهم الانتهاء والنكث: النقض في كل شي. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) هذا على وجه التوبيخ، ومعناه الحضُّ على قتالهم، وقيل في قوله: (وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ). أنهم كانوا قاتلوا حُلفاء الرسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -. وقوله: (أتَخْشَوْنَهُمْ). معناه أتَخْشَونَ أنْ يَنَالَكُمْ مِنْ قِتَالِهم مَكْرُوهٌ. (فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ). أي فمكرُوهُ عَذابِ اللَّهِ أحق أن يُخْشَى. (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أيْ مصدقِينَ بعقاب اللَّه وثوابه. * * * وقوله: (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) (وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ). فيه دليل أنه اشتد غضبهم للَّهِ عزَّ وجلَّ، فوعد اللَّه في هذه الآية النصْرَ. وفيها دليل على تثبيت النُبُوة، لأنه قال عزَّ وجلَّ: (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ). فوعدهم اللَّه النصْرَ وَوَفَّى به، ودل على صدق ما أتى به النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقوله تعالى: (وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15)

(16)

(وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ) ليس بجواب لقوله: (قَاتِلُوهُمْ) ولكنه مستأنف، لأن (يتوب) ليس من جنس ما يُجاب به (قاتلوهم). * * * وقوله: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16) الله جلَّ وعزَّ قد علم قَبْلَ أمْرهم بالقِتَالِ من يُقَاتلُ مِمنْ لَا يُقَاتِلُ ولكنه كان يعلم ذلك غيباً، فأرادَ العلمَ الذي يُجازي عَلَيْهِ لأنه جلَّ وعزَّ إنما يجازي على ما عملوا. وسورة " براءَة " كانت تُسَمَّى الْحافِرةَ، لأنها حَفَرت عن قلوبِ المنافقين. وذلك أنه لما فُرِضَ القِتالُ تبين المنافقُ من غيره، ومن يُوالي المؤمِنين مِمن يوالي أعداءَهم فقال جلَّ وعزَّ: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً). والوَليجة: البِطَانَةُ، وهي مأخوذة مِنْ وَلَجَ الشيء يلِجُ إِذا دَخَلَ. أي ولم يَتَخِذوا بينهم وبينَ الكافرين دَخيلَةَ مَوَدةٍ. * * * وقوله: (مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17) (شَاهِدِينَ) حال. المعنى ما كانت لهم عمارةُ المسجد الحرام في حال إِقرارهم بالكفر. (أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ). أي كُفْرُهُمْ قد أذهبَ ثوابَْ أعمالهم. * * * وقوله: (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)

(19)

ولم يذكر الرسول في هذَا، لأن فيه دليلاً بقوله وأقَامَ الصلاةَ التي أتى بتحديدها الرسول. (وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ). تأويله لم يخف في باب الدين إلا اللَّه. (فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ). عسى واجبة من اللَّه. * * * وقوله: (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) المعنى أجعلتم أهل سِقَايَةَ الحَاجِّ وأهَلَ عِمَارَةِ المَسْجِدِ الحرامِ كمن آمن باللَّه واليوم الآخِر وجَاهَد. واختلف الناس في تفسير هذه الآية: فقيل: إنه سأل المشركون إليهودَ فقالوا نحن سُقَاةُ الحَاجِّ وَعُمَّارُ المسجد الحَرامِ. أفَنَحْنُ أفْضَلُ أم محمد وأصحابه؟ فقالت لهم إليهود عناداً للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أنتم أفضل. وقيل إنه تفاخر المسلمون المجاهدون والذين لم يهاجروا ولم يجاهدوا. فأعلم الله جلَّ وعزَّ أن المجاهدينَ والمهاجرين أعظمُ دَرَجَةً عند اللَّه، فقال: (الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) (درجةً) منصوب على التمييز، المعنى أعظمُ من غَيْرهمْ درَجَة. (وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ).

(21)

والفائز الذي يظفر بأمنيته من الخير. * * * (يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) أي يُعْلِمْهم في الدنيا ما لهم في الآخرة. وقوله: (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) أي وفي حنين، أي ونصركم في يوم حنين، وحنين: اسمُ وَادٍ بين مكة والطائفِ. وقوله: (فِي مَوَاطِنَ كَثيرةٍ) أي في أمكنةٍ، كقولك في مقامَاب. تقول استوطن فلان بالمكان إذا أقام فيه. وزعم بعضُ النحويينَ أن (مواطن) لم ينصرف ههنا لأنه جَمْع. وأنها لا تُجْمَعُ. قال أبو إِسحاق: وإنما لم تُجْمَعْ لأنها لا تدخل عليها الألف والتاءُ، لا نقول مَوَاطِنات، ولا حَدَائدات إلا في شعْر، وإِنما سمعَ قَوْلَ الخليل أنه جمع لا يكون عنى مثال الواحد، وتأويله عند الخليل أن الجموع أبَداً تَتَنَاهى إِليه فليس بعده جمع، لو كسرت أي جمعت على التكسير أقوال، فقلت أقاوِيل لم يتهيأ لك أن تكَسر أقاوِيل، ولكنك قد تقول أقاويلات. قال الشاعر: فَهُنَّ يَعْلَكِنَّ حَدائداتها

وإنما لم ينصرف (مواطن) عند الخليل لأنه جمع وأنه ليس على مثال. الواحدِ ومعنى ليس على مثال الواحد، أي ليس في ألفاظ الواحد ما جاءَ على لفظه وأنه لا يجمع كما يحمع الواحد جمعَ تكْسِيرٍ. ومعنى الآية أن اللَّه جلَّ وعزَّ أعْلَمهم أنَّه ليس بكثرتهم يَغْلِبُون وأنهم إنما يغلبون بنصر اللَّه إياهم فقال جلَّ وعزَّْ: (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا). يروى أنهم كانوا اثنى عشر ألفاً في ذلك اليوم، وقال بعضهم: كانوا عَشَرة آلاف فأعجبوا بكثرتهم، فجعل الله عقوبتهم على إعجابهم بالكثرة - وَقَوْلهم: " لن نغْلَب اليومَ مِنْ قلَّةٍ بأن رَعَّبهم حتى وَلَّوْا مُدْبِرِين، فلم يبق مع رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - إلا العَبَاسُ بنُ عبدِ المطلِب وأبو سُفيانَ بن حَرْبٍ، ثم أنْزَلَ اللَّه عليهم السكينة حتى عادوا وَظَفِرُوا فأراهم اللَّه في ذلك اليوم من آياتِه ما زادهم تَبْييناً بنُبُوة النبيِ - صلى الله عليه وسلم -. وقوله: (إنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ). وقرئت مَسْجِدَ اللَّه، فمن قرأ (مَسجِدَ اللَّهٍِ) عَنَى به المسجدَ الحرامَ ودَخَل معه غيْرُه، كما تقول: ما أسْهَلَ عَلَى فُلانٍ إنْفاقَ الدِّرْهَم والدينَارِ، أيْ هَذَا الجنس سَهْل عَليْه إِنفَاقُه. ويجوز أن يكون مساجد الله يعني به المسجد الحرام، كما تقول إِذا

(28)

ركب الرجل الفرس، قد صار فلان يركب الخَيْلَ، فعلى هذا تجري الأسماءُ التي تُعَبِّرُ عَنِ الأجْنَاسَ. * * * وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28) يقال لكل مُسْتَقْذرٍ نَجَس، فإِذا ذكرتَ الرجسَ قلتَ: هو رِجْس نَجِسٌ. وهذا وقع في سنةِ تسع من الهجرةِ، أمِرَ المسلمون بمنع المشركين من الحج وَبِقتْلِهِمْ حيثُ ثقِفُوهُمْ. (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ). كان لأهل مكة مكسبة، ورفق ممن كان يحج من المشركين. فأعْلَمَهُمُ اللَّه أنه يعوضهم من ذلك. والعيلة: الفقر. قال الشاعر: وما يدري الفقير متى غناهُ. . . وما يدري الغني متى يعيلُ * * * وقوله - جلَّ وعزَّ -: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29) معناه: الذين لا يؤمنون باللَّه إِيمانَ الموحّدِين، لأنهم أقروا بأن اللَّه خالِقُهم، وأنه له ولدٌ. وأشرك المشركون معه الأصنام، فأعلم الله عزَّ وجلَّ أن هذا غيرُ إيمانٍ باللَّه، وأن إيمانهم بالبعث ليس على جهة إِيماننا لأنهم لا يقرون بأن أهل الجنة يأكلون ويشربُون وليس يقرون باليوم الآخر كما أعلم اللَّه جلَّ وعزَّْ وليس يدينون بدين الحق، فأمر الله بقتل الكافرين كافةً إِلا أن يُعْطُوا الجِزيَةَ عَنْ يَدٍ، وَفُرِض قَبُولُ الجِزْيَةِ من أهلِ الكتابِ وهم النَّصَارى واليهود.

(30)

وَسَنَ رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - في المجوس والصابئين أن يجروا مجرى أهل الكتاب في قبول الجزية. فأمَّا عَبَدَةُ الأوثان من العرب فليس فيهم إِلا القتْلُ. وكذلك مِنْ غَيْرِهِمْ. وقوله: (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ). قيل معنى (عَنْ يَدٍ) عَنْ ذلٍّ، وقيل عن يَدٍ عن قهر وذُلٍّ، كما تقول اليد في هذا لِفلان. أي الأمر النافذ. لفُلانٍ. وقيل (عَنْ يَدٍ) أي عن إنْعَامٍ عليهم بذلك، لأن قبول الجزية منهم وتركَ أنْفسِهِم نعمة عليهم، ويد من المعروف جزيلة. * * * وقوله: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) قرئتْ (عُزَيْرٌ) بالتنوين وبغير تنوين، والوجه إِثبات التنوين لأن " ابْناً " خبَر. وإِنما يحذف التنوين في الصفةِ نحو قولك: جاءَني زيد بن عمروٍ، فيحذف التنوين لالتقاء السَّاكنين وأنَّ ابناً مضاف إِلى عَلَم وأن النعت والمنْعُوتَ كالشيء الواحد. فإِذا كان خبراً فالتنوين وقد يجوز حذف التنوين على ضعف لالتقاء السَّاكنين وقد قرئت (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2). بحذف التنوين، لسكونها وسكون الباءِ في قوله: (عُزيْر ابن اللَّهِ). وفيه وجه آخر: أن يكون الخبر محذوفاً، فيكون معناها عزير ابن اللَّه معبودنا، فيكون " ابْنُ " نَعْتاً. ولا اختلاف بين النحويين أن إثبات التنوين أجود. * * * وقوله: (ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ).

إن قال قائل: كل قول هو بالفم فما الفائدة في قوله بأفواههم؟ فالفَائِدَة فِيه عظيمة بيِّنَة. المعنى أنَّه ليس فيه بيان ولا برهان إِنما هو قول بالفم لا معنى تحته صحيح، لأنهم معترفون بأن الله لم يتخذْ صَاحِبَة فكيف يَزْعمونَ لَه ولَداً، فإِنما هو تَكذُّبٌ وقولٌ فقط. وقوله ة (يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ). أي يشَابِهون في قولهم هذا ما تقدم مِنْ كَفَرَتِهِمْ، أي إِنما قالوه اتباعاً لمن تقدم من كَفَرَتِهِمْ. الدليل على ذلك قوله: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ). أي قبلوا مِنْهمْ أن العزَيْرَ والمسيحَ ابنا الله تعالى. وهذا معنى: (يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ) وقرئ يضَاهُونَ، وأصل المضاهاة في اللغة المشابهة، والأكثر تَرْكُ الهمزةِ، واشتقاقه من قولهم: امْرَأةْ ضيْهَاء. وهي التي لا ينبت لها ثدي، وقيل هي التي لا تحيض. وإنما معناها أنها أشبهت الرجال في أنَّها لا ثدْيَ لها، وكذلك إِذا لم تحض. وضهياء فعلاء. الهمزة زائدة كما زيدت في شمأل، وغرقئ البيضة، ولا نعلم أنها زيدت غير أول، إِلا في هذه الأشياءَ. ويجوز أن تكون " فَعْيَل " وإِن كانت بِنِيَةً ليس لها في الكلام نظير. فإِنا قد نعرف كثيراً مما لا ثَاني له. من ذلك قولهم كَنَهْبَل وهو الشجر العظام، تقديره فَنَعْلل، وكذلك قَرَنْفل، لا نظير له وتقديره فَعَنْلُل. وقد قيل:

(34)

إبِل لا نظير له وإن كان قد جاءَ إطِل وهو الخصْرُ، وقالوا إِيْطِل ثم حذفوا فقالوا إطِلِ، فيجوز أن يكون " يُضاهِئون " من هذا بالهمز، وتكون همزة ضهياءَ أصلًا في الهمز. * * * وقوله: (سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ). معناها تنزيهاً له من شركهم. * * * وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) أكثر التفسير إنما هو للمشركين، وقد قيل إِنها فيمن منع الزكاة من أهل القِبْلة لأن من أدى من ماله زكاته فقد أنفق في سبيل الله ما يجب من ماله. وقوله: (وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ). دخلت إلا، ولا جُحْدَ في الكلام، وأنت لا تقول ضربت إِلا زَيْداً، لأن الكلام غير دال عَلَى المحذوف. وإذا قلت: (وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ). فالمعنى يأبى اللَّه كل شيءَ إلا أن يُتم نورَه وزعم بعض النحويين أن في " يأبى " طرفاً من الجحد، والجَحْدُ والتحقيق ليسا بذي أطراف، وآلةُ الجحد لا، وَمَا، ولم، ولن، وليس، فهذه لا أطراف لها. ينطق بها على حالها، ولا يكون الِإيجاب جُحْداً ولو جاز هذا على أن فيه طرفاً من الجحد لجاز: كرهت إِلا أخاك، ولا دليل ههنا على

(36)

المكروه، ما هو ولا من هو، فكرهتُ مثل أبَيْتُ، إلا أن أبيتُ الحذف مستعمل وقوله: (وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ). فقال: (الذهب والفضَة) ولم يقل ولا ينفُقُونَهما في سبيل اللَّه، فإِنما جاز ذلك لأن المعنى يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقون المكنوز في سبيل الله. ويجوز أن يكون محمولًا على الأموال، فيكون: (ولا ينفقونها)، ولا ينفقون الأموال، ويجوز أن يكون: ولا ينفقونها. ولا ينفقون الفضة، وحذف الذهب لأنه داخل في الفضَّةِ كما قال الشاعر: نحن بما عندنا وأنت بما. . . عندك راضٍ والرأي مختلف. يريد نحن بما عندنا راضون، وأنت بما عندك راضٍ. فحذف " راضون " فكذلك يكون المعنى: والذين يكنزون الذهب ولا ينفقونه في سبيل اللَّه، والفضة ولا ينفقونها في سبيل اللَّه. * * * وقوله: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) أعلم اللَّه جلَّ وعزَّ: أن عدة شهور المسلمين، الذين تُعُبِّدُوا بَأن يجعلوا لِسَنَتِهِمْ - اثنا عشر شهراً، على منازل القمر، فجعل حجهم وَأعيَادَهمْ

وصلَاتهمْ في أعبادهم هذا العَدَد، فالحج والصوم يكون مرة في الشتاءِ ومرة في الصيف، وفي فصول الأزمان على قدر الشُهور ودَوَرَان السنِين، وكانت أعياد أهل الكتاب وَمتعَبَّدَاتهمْ في سنَتِهم يَعْملونَ فيها على أن السنة ثلاثمائة يوم وخمسة وستون يوماً وبعضُ يوم، على هذا يجري أمر النصارى واليهود. فأعلم اللَّه جلَّ وعزَّ أن سِنِي المسْلِمِينَ على الأهِلَّةِ. وقوله: (مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) الأربعة الحرم: المحرم ورجب وذو القعدة وذو الحجة. (فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ). قيل في الأربعة، وقيل في الاثني عشر. فمن قال في الأربعة قال: أراد تعظيم شأن المعاصي - كما قال جلَّ وعزَّ: (فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) فالفسوق لا يجوز في حج ولا غيره، ولكنه عزَّ وجلَّ عرف الأيام التي تكون فيها المعَاصِي أَكْثَرَ إثماً وعقاباً. وقوله: (وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً). فـ " كافَّةً " منصوب على الحال، وهو مصدر عَلَى فَاعِله كما قالوا العاقِبة والعافِية. وهو في موضع قَاتِلوا المشركين محيطين بهم باعتقاد مقاتَلِتِهمْ. وهذا مشتق من كُفَّةِ الشيء، وهي حَرْفُه، وإِنما أخذ من أن الشيءَ إذا انتهى إِلى ذلك كُفَّ عن الزيادة، ولا يجوز أنْ يُثَنَّى ولا يَجْمَع، ولا يقال قاتلوهم كافَّاتٍ ولا كافِّين، كما أنك إِذا قلت: قاتلوهم عامَّة لم تثَنِّ ولم تجمَعْ، وكذلك خَاصََّةً.

(37)

هذا مذهب النحويين. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَاعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ مَعَ الْمَتقِينَ). تأويله أنه ضامن لهم النصْر. * * * وقوله: (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37) النسيء - هذا - تأخير الشيء، وكانوا يُحَرمونَ القتال في المحرم فإِذا عزموا على أن يقاتلوا فيه جعلوا صفراً كالمحرم، وقاتلوا في المحرم وأبدلوا صَفَراً منه، فأعلمَ اللَّهُ جلَّ وعزَّ أن ذلك زيادة في الكفر. (لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ). فيجعلوا صَفَراً كالمحرم في العدةِ، ويقولوا: إن هذه أربعة بمنزلة أربعة. والمواطأة المماثلة والاتفاق على الشيء. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) الِإجماع في الروايات أن هذا كان في غَزْوَةِ تَبًوكَ، وذلك أن الناس خرجوا فيه على ضَيْقَةٍ شديدة شاقةٍ. وقوله عزَّ وجلَّ: (اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ). المعنى تثاقلتم، إلا أن التاءَ ادْغِمَتْ في التَاءِ، فصارت ثاءَ ساكنة. فابتدئت بألف الوصل - الابتداء -. وفي (اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ) عندي غير وجه. منها أن مَعْنَاهُ تثاقلْتُمْ إِلى الِإقامة بأرضِكم، ومنها اثَّاقَلْتُمْ إِلى شهوات الدنيا. وقوله: (أرضِيتمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ). أي أرضِيتمْ بنعيم الحياة الدُنيا من نعيم الآخرة

(39)

(فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ). أي ما يتمتع به في الدنيا قليل عندما يتمتع به أولياءُ اللَّهِ في الجَنة. وقوله: (إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) هذا وعيد شديد في التخلف عن الجهاد، وأعلم انَه يستبدل لِنَصْرِ دينه ونبيه قوماً غيرَ مُثاقِلِين عنِ النصْرِ إِلى أعدائه إِذ أعلمهم اللَّه عزَّ وجل أنهم إن تركوا نصره فلن يَضُرهُ ذلك شيئاً كما لم يضرره إذ كان بمكة لا ناصرين له. فقال عزْ وجل: (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) وكان المشركون قد أجمعوا على قتله - صلى الله عليه وسلم - فمضى هو وأبو بكر الصديق هارباً منهم في الليل، وترك عَلِياً عَلَى فِراشِهِ ليرَوْا شخصه على الفراش فلا يعلمون وقت مُضيِّهِ، وأطلعا أسماءَ بنت أبي بكر على مكانهما في الغَار، وَمَر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عَلَى ثُمَامَة، وهي شجرة صغيرةٌ ضعيفة فأمر أبا بكر أن يأخذها معه، فلما صارا إِلى الغار، أمر أبا بكرٍ فجعلها عَلَى باب الغار، ثم سبق أبو بكر إِلى دُخُولِ الغارِ فانبطح فيه، وألقى نفسه، فقال رسول اللَّه: لم فَعَلْتَ ذلك؟ فقال: لأنَّ هَذِه الغِيرَان تكون فيها الهوامُّ المؤْذية والسباع فأحْبَبْتُ إِن كان فيها شيء أن أقيكَ بِنَفْسِي يا رسول اللَّه. ونظر أبو بكر إِلى جحر في الغار فسدَّه برجله، وقال إِنْ خَرَجَ منه ما يؤذِي وقيتُكَ منه. فلما أصبح المشركون اجتازوا بالغار فبكى أبو بكر الصديق فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يُبكيك؟ فقال: أخاف أنْ تُقْتَلَ فلا يُعْبد اللَّه بَعْدَ اليوم. فقال له رسول اللَّه: (لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) أي إِنَّ الله تعالى يمنعُهُم مِنا وَيَنْصُرُنَا،

(41)

فقال: أهكذا يا رسول اللَّه: قال نَعمْ فرقأ دمعُ أبو بكر وسكن. وقال المشركون حين اجتازوا بالغار: لو كان فيه أحَد لم تكُنْ ببابه هذه الثمامة. (فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا). أيده بملائكة يَصْرِفون وجوهَ الكُفَار وأبْصَارَهُمْ عن أنْ يَرَوْه. وقوله: (سَكِينَتهُ عَلَيْهِ). يجوز أن تكون الهاءَ التي في عليه لأبي بكر، وجائز أن تكون ترجع على النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن اللَّه جل ثناؤُه ألقى في قلبه ما سَكَن بِه وعلم أنهمْ غيرُ وَاصِلين إليه. فأعلم الله أنهم إنْ تَركوا نصْرَه، نَصَرَه كما نصره في هذه الحال. وَثَانِيَ اثنين مَنصُوبٌ على الحال. المعنى فقد نَصَرَهُ الله أحدَ اثنين. أي نصرَهُ منفرداً إلا مِنْ أبِي بكر - رضي الله عنه -. * * * وقال جلَّ وعزَّ: (انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41) فقيل (خِفَافًا وَثِقَالًا) أي مُوسِرين ومُعْسِرين. وقيل (خِفَافًا وَثِقَالًا) خفَتْ عليكم الحركة أوْ ثقلت، وقيل ركباناً ومُشاة، وقيل أيضاً شباباً وشيوخاً. وُيروَى أن ابنَ أمِّ مَكْتُومٍ جاءَ إِلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال أعَليَّ أن أنفر، فقال نَعَم، حتى أنزل اللَّه عزَّ وجلَّ: (لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ). * * * (لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42) العرَضُ كل ما عرض لك من منافع الدنيا، فالمعنى: لو كانت غنيمة قريبة، أي لو كان ما دُعُوا إِليه غُنْماً، وسفراً قاصِداً أي سَهْلاً قريباً لاتبعوك لَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ.

(43)

أي بعدت عليهم الغاية التي تقصدها. وكان هذا حين دُعُوا إلى غزوَةِ تبوك، فَثَقلَ عَلَيهِمُ الخروجُ. إلى نواحي الشام. * * * وقوله: (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43) أي حتى يَتبين لك من يُنَافِق مِمن يصُحِّح. ثم أعلمه جل وعلا أن عَلامة النفاق في ذلك الوقت الاستئذان في التخففِ عن الجهاد فقال: (لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) موضع " أن " نَصْبٌ. المعنى لا يستأذنك هُؤلاءِ في أن يجاهدوا، ولكن " في " حُذِفتْ فأفضى الفعلُ فنَصَبَ " أن ". قال سيبويه، ويجوز أن يكونَ موضعها جَرا، لأن حَذْفها هَهُنا إِنما جاز مع ظهور " أن " فلو أظهرت المصدَر لم تحذف في " لا يستاذنك القوم الجهادَ " حتى تقول في الجهاد ويجوز لا يستأذنك القوم أن يجاهدوا. * * * وقوله: (إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) وأعْلَمَ اللَّهُ جل ثنَاؤهُ أنَّ مَنِ ارْتَابَ وشكَّ في اللَّهِ وفي البَعْثِ فهو كافر. * * * (وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46) أي فَتَرْكَهُمْ العدة دليل على إِرَادَتهم التَخفَف. (وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ). والتَثْبِيط ردُّكَ الِإنسانَ عَنِ الشيءِ يفعله، أي كره الله أن يخرجوا معكم فردهم عن الخروج. ثم أعلم عزَّ وجلَّ: (لم كره ذلك فقال: (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47)

(49)

والخبال الفساد، وذهاب الشيء. قَال الشاعر: أبني لُبيْني لَستُمَا بِيَدِ. . . إلا يداً مخبولة العَضُد أي فاسدة العَضُدِ. (وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ). يقال أوْضعتُ في السير إذا أسرعت، ولأسرعوا فيما يخل بكم. (يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ). أي فيكم من يسمع ويؤدي إليهمِ ما يريدونَ. وجائز أن يكون (سَمَّاعُونَ لَهُمْ) من يقبل مِنهُمْ. وفي المصحف مكتوب " ولأوضَعوا) ولا أوضعوا، ومثله في القرآن: (أَوْ لا أذْبَحنَّهُ " بزيادة ألف أيضاً، وهذا إِنما حَقُّه على اللفظ وَلأوْضَعُوا. ولكن الفتحة كانت تكتبُ قبل العرَبى ألفاً. والكتاب أبتدئ به في العربي بقرب نزولِ القرآنِ فوقع فيه زيادات في أمكنة واتباع الشيء بنقص عن الحروف. فكتبت " ولا أوضعوا " بلام وألف، بدلاً من الفتحة، وبهمزة. فهذا مجاز ما وقع من هذا النحو في الكتاب. * * * (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49) أي لا تؤثمني بأمرك إِياي بالخروج، وذلك غير متيسر لي فآثم. وقيل إِن المنافقين هزئوا بالمسلمين في غزوة تبوك، فقالوا أتريدون بنات

(50)

الأصْفَر: فقال: (لَا تَفْتِنِّي) أي (لَا تَفْتِنِّي) ببنات الأصفر. فأعلمَ اللَّهُ تعالى أنهم قد سقطوا في الفتنة أي سقطوا في الإثم. * * * (إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) أي قد علمنا بالحزم في التخلف عنك. فأعلم الله جلَّ وعزَّ أن المسلمين لَنْ يُصيبهم إِلا ما كتب الله لهمْ فقال جلَّ وعزَّ: (قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) أي ما قدَّر علينا كما قال: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا). ثم أكدَ ذلك فقال: (إِنَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ). وفيه وجه آحْر إنَّه (لَنْ يُصِيبَنَا إلا مَا كَتَبَ اللَّه لَنَا) ما بيَّن لنا في كتابه. من أنا نَظْفَر، فتكون تلك حسنى لنا أو نُقْتَل فتكون الشهادة حسْنَى لنا أيضاً، أي فقد كتب اللَّه لنا ما يصيبنا أو عَلِمْنَا ما لنا فيه حظ، ثم بيَّنَ جل ثناؤُه فقال تعالى: (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52) إلا الظفَر أو الشهادة. (وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا). فأنتم تربصونَ بنا إِحدى الحسنيَيْن، ونحن نَتَربصُ بكم إحدى الشَّرَّتَيْن. فبين ما تنتظرونه وننتظره فرق عظيم.

(53)

وقوله جلَّ وعزَّ: (قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53) وإن شئت كُرْهاً بالضم، هذا لفظ أمْرٍ ومعناه معنى الشرط والجزاء. والمعنى أنفقوا طائعين أو مكرهين لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ. ومثل هذا من الشعر قول كثير: أَسِيئي بنا أَو أَحْسِنِي لا مَلومةٌ. . . لَدَيْنا ولا مَقْلِيَّةٌ إنْ تَقَلَّتِ فلمْ يأمرها بالإساءَة، ولكن أعلَمَها أنها إِن أساءَت أو أحسَنَتْ فهو على عهدهَا. فإِن قال قائل كيف كان الخبر في معنى الأمر؟ قلنا هو، كقولك: غفر اللَّه لزيدٍ، ورحم اللَّه زيداً. فمعناه: اللهم ارحم زيداً. * * * (وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54) مَوْضِع " أن " الأولى نَصْبٌ، وموضِع " أنِ " الثانية رفع. المعنى ما منعهم من قبول نفقاتهم إلَّا كفْرهم. ويجوز " أن يُقبَلَ مِنْهُم نَفَقَاتهُمْ " لأن النفقَات في معنى الإِنفاق،. .، ويجوز: وما منعهم من أن يَقْبلَ مِنهمْ نَفَقَاتِهمْ إلا أنهمْ كَفَروا، وهذا لا يجوز أن يقرأ به لأنه لم يروَ في القراءَة. وقوله: (وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى). وكَسَالى - بالضم والفتْحِ - جمع كسلان، وكقولكَ سكران وسُكارى وسَكارى. ويجوز ولا يَأتونَ الصلاَةَ إِلا وهم كَسْلى. ولا يجوز ذلك في القرآن. (وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ).

(55)

القراءَة على فتح الكاف (1)، ويجوز الكسر إلا وهم كارِهونَ، ولم يرْوَ في القرآن (1). * * * وقوله: (فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55) معناه - واللَّه أعلم - فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الدنيا، إنما يريد اللَّه ليعذبهم بها في الآخرة. ويجوز واللَّه أعلم: إنما يريد اللَّه ليعذبهم بها في الدنيا أي هم ينفقونها في الدنيا، وهم منافقون فهم متعذبون بإنْفَاقها إذ كانوا ينفقونها على كرهٍ. وقوله: (وَتَزْهَقَ أنْفُسُهُمْ وهُمْ كَافِرُونَ). معناه، وتخرج أنْفُسهم أي يغْلُظ عليهم المكروه حتى تزهق أنفُسُهم. * * * (وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) أي يحلفون باللَّهِ أنهم مؤمنون كما أنتم مؤمِنونَ، وما هُمْ مِنْكُمْ لأنهم يظهرون الإيمان ويُبطنون الكفر (وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ). أي يفرقون أن يُظْهِرُوا ما هم عليه فيقتلُوا، ثم أعلم جلَّ وعزَّ أنهم لو وجدوا مخْلَصاً فيه لفارقوكم، فقال جلَّ وعزَّ: (لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) والملجأ واللَّجَأ، مقصورٌ ومهموزٌ، وهو المكان الًذِي يُتَحَصَّنُ فيه. ومَغَارَات جمع مَغَارة، وهو الموضع يغور فيه الِإنسان، أي يستتر فيه. ويقرأ: (أو مُغاراتٌ) بضم الميم لأنه يقال أغْرَتُ وَغُرْتُ، إِذا دخلت الغَوْر.

_ (1) بدون إمالة، والمراد بالكسر الِإمالة. (2) في القراءة بهذه الإمالة.

(58)

وقوله: (أَوْ مُدَّخَلًا). ويقرأ أو مُدْخَلاً بالتخفيف، ويقرأ أو مَدْخلاً. فأما (مُدَّخَل) فأصله مُدْتخل، ولكن التاء والدال من مكان واحد فكان الكلام من وجه واحدٍ أخف، ومن قال مَدْخَلاً فهو من دَخَلَ يَدْخُل مدْخلًا. ومن قال مُدْخَلاً فهو من أدْخَلْتُه مُدْخَلاً. قال الشاعر: الحمدُ لله مُمْسَانا ومُصْبَحُنا. . . بالخَيْرْ صبحَناربِّي وَمَسَّانَا ومَعْنَى مُدَّخَل ومُدْخل أنهم لو وجدوا قوماً يدْخُلون في جُمْلَتِهِمْ أو يُدْخلونَهُمْ في جُمْلَتِهِمْ: (لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ). المعنى لوْ وَجَدوا هذه الأشياءَ (لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ). أي يسرعون إِسراعاً لا يَرُد وجُوهَهَمْ شَيء. ومن هذا قيل: فرس جمُوحٌ للذي إِذا حمَل لم يَرُدَّهُ اللجام. * * * وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وتقرأ يَلْمُزُونَكَ: يُقالُ لَمَزْتُ الرجُلَ ألْمِزُهُ بكسر الميم، وألْمُزُه بِضَم الميم إِذَ عِبْتُهُ، وكذلك هَمزْتُه أهمزُه إِذا عِبْتُه. قال الشاعر: إِذا لَقِيتُك تبدي لي مُكاشرةً. . . وإِن تَغَيَّبْتُ كنتَ الهامِزَ اللُّمَزَهْ

(60)

واللمزة الكثير العيْب للناس، وقال بعضهم: اللُّمَزَة العَيِب. بكسر العَيْنِ أي بكسْرِ عيْيهِ عيِب كنهِم، إِذَا عاب. يراد به عيْب صاحِبِه وقالوا: اللُّمْزَةُ الْعيبُ بالمسارَّة. وهذا كله يرجع إلى العَيب. * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60) وهم قوم كانوا يُعْطَوْنَ: يُتألَّفُون عَلى أن يُسْلِمُوا. وهذا غير مُسْتَعْمل اليَوْمَ لظهور الِإسلام. (وفِي الرقَابِ). كأنْ يُعَاوِنَ المكَاتبَ حتَى يفكً رقبتَه: (وَالْغَارِمِينَ). وهم الذين لزمهم الذَين في الحمَالَةِ، والحمالةُ، الِإعْطاءُ في الذِّمَّة ويجوز أن يكون الغارم الَّذِي لزمَه الذَيْنُ في غيْرِ مَعْصِيَةٍ، فالأولى أن يكون الدين الذِي يقضى عَنْهُ في غير مَعْصِيَةٍ، لأنَّ ذَا المعْصِيَةِ إِن أُدِّيَ عنه الدَّيْن كان ذلك تَقوية عَلَى المَعَاصي. (وَفِي سَبيلِ اللَّهِ). أي وللمجاهدين حَقٌ في الصدَقَةِ. (وابْنِ السبِيلِ) ابنُ الطَريقِ. وتأويله الذى قُطعَ عليه الطريق. (فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ)

(61)

مَنْصُوبٌ على التَوْكِيدِ، لأن قوله: إِنَّما الصَّدَقَاتُ لهؤُلاءِ كقولك فَرَضَ اللَّه الصدقَاتِ لهُؤلاءِ. وقد بينَّا في أول الأنفالِ ما قيل في جميع الأموال، واسْتَقْصَيْنَاهُ. ويجوز فرِيضَةٌ مِنَ اللَّهِ على ذلك ولا أعلمه قرئ به. * * * وقوله: (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61) وتفسير الآية أن مِنَ المنَافِقينَ مَنْ كانَ يَعيبُ النبى - صلى الله عليه وسلم - وَيقُولُ: إِنْ بَلغَه عَنَي حَلَفْتُ له وَقَبِل مِنِّي لأنَّهُ أذُنٌ. فأعلمَ اللَّهُ تعالى أنهُ (أذُنُ خَيْرٍ لكُمْ). أي مُسْتَمِعُ خَيْرِ لَكُمْ، ثم بَين مِمَنَ يَقْبَلُ فقال: (يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ). أي هو أُذُن خَيْرٍ لا أُذُنُ شَر، يَسْمَعُ ما ينزله الله عليه، فيصَدِّق به. ويُصدق المؤمنين فيما يُخْبِرُونَه بِه. (وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ). أي هو رحمةٌ، لأنه كان سَبَبَ المؤمنين في إِيمَانِهِمْ. وَمَن قرأ أذنٌ خَيرٌ لَكُمْ، فالمعنى فإن من يَسْمَعُ منكم ويكون قريباً منكم قابلًا للعُذْرِ خيرٌ لكم. ويروى في هذه الآية أن رَجُلًا مِنَ المُنَافِقِينَ قال: لو كان ما أتى به محمد حقا فنَحن حَمِير، فقال له ابن امرأته إِنَّ مَا أتَى بِه لحق، وإِنَّكَ لَشَر من دَابتِكَ هَذِهِ وبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال بعض من حَضَرهُ نَعْتذِر إِليه ونحلف له فإِنه أُذُن.

(62)

وقوله: (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62) قال بَعْضُ النحويينَ: إِن هذه اللامَ بِمعنَى القَسَم، أيْ يَحْلِفُون بالله لكم لَيُرْضُنَّكُمْ وهذا خطأٌ لأنهم إِنَّمَا حَلَفُوا أنَّهُمْ مَا قالُوا ما حُكِي عنهُمْ ليُرْضُوكُمْ باليمين، ولم يَحْلِفُوا أنَّهُمْ يُرضُون فيما يستقبل. (وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ). وقوله: (إنْ كانوا مُومِنِين). أي إِن كانوا على ما يُظْهرُون فكان ينبغي ألا يَعِيبُوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فيكونون بتوليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وتَرْكِ عَيْبِه مؤمنين. ويجوز في قَوْله (وَرَحْمةٌ) الجر على العطف عَلَى (خَيْر). فيكون المعنى قل أُذُن خير لكم وأذُنُ رَحْمَةِ للمؤْمنين. وقوله: (أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ)، ولم يَقُل يُرْضوهُمَا، لأن المعْنَى يَدُلُ عليه فحذف استخفافاً، المعنى واللَّه أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ، وَرَسُوله أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ، كما قال الشاعر: نحن بما عندنا وأنت بما. . . عندك راضٍ والأمرَ مختلفُ المعنى نحن بما عندنا راضون وأنت بما عندك رَاضٍ. * * * وقوله: (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63) معناه من يعادي اللَّه ورَسوله، ومن يشاقِق الله ورَسُولَه. واشتقَاقُه من اللغَة كقولك من يجانب الله ورَسُوله، أي من يكونُ في حَدٍّ، واللَّه ورسوله في حَدٍّ.

(64)

(فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ). والقراءَةُ بالفتح والكسر: " فَأَنَّ لَهُ "، فمن كسر فعلى الاستئناف بعد الفاءِ، كما تقول فله نار جهنم، ودَخَلت إِنْ مؤكدَة، وَمَنْ قَال: فَأَنَّ لَهُ، فإِنما أعاد " فَانَ " توكيداً، لأنه لما طال الكلام كان إِعَادَتُها أوكَدُ. * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِم سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64) لفظ يَحَذرُ لفظ الخبر، ومعناه الأمرُ، لأنهُ لَا لَبْسَ في الكلام في أنه أمر، فهو كقولك ليْحذَر المنافقونَ، وعلى هذا يجوز في كل ما يؤمَرُ به أن تقول يُفْعَلُ ذَلكَ، فَيَنُوبُ عن قَولك ليفُعلْ ذلكَ. ويجوز أن يكون خبراً عَنْهُم لأنهم كانوا يكفرون عناداً وَحَسَداً. وَدَليل هذا القول: (قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ). * * * وقوله: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) وذلك أنهُمْ قالوا: إِنما كنا نخوض كما يَخُوضُ الركْبُ. * * * وقوله: (لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66) تأويله إنَّه قد ظهر كفركم بَعدَ إِظهاركُم الِإيمان. (إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً). والقراءَةُ (إِنْ نَعْفُ) وَ (إِنْ يُعْفَ، وإِنْ يَعْفُ) جيدَةٌ، ولا أعلم أحداً من المشهورين قرأ بها. ويروى أن هاتين الطائفتين إِنما كانوا ثلاثة نَفَر فَهَزِئ اثْنَان وضَحِكَ وَاحِدٌ، فجُعِل طائفة للواحد. وكذلك قالوا في قوله: (وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ). يَرادُ بهِ نَفْسٌ طائفَة.

(67)

والطائفة في اللغَةِ أصْلها الجماعةُ، لأَنها المقدار الذِي يطيف بالشىءِ. وقد يجوز أن يقال للواحد طائفة يراد بها نفس طائِفة يراد به نفس طائفَة. * * * وقوله: (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67) هذا يتلو قوله تعالى: (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إنَّهُمْ لَمنْكُمْ). أي ليس المنافقون من المؤْمنين، لأن المنافقين، (يَأْمُرُونَ بِالمنكَرِ) أي يأمرون بالكفر بالنبي - صلى الله عليه وسلم -. (وًينْهَوْنَ عَنِ المَعْرُوفِ). أي ينهون عن الِإيمان به. (وًيقْبِضُونَ أيْدِيَهُمْ). أي لا يتصدَّقون ولا يُزَكُّونَ. (نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ). أي تركوا أمر اللَّه فتركهم اللَّهُ من رحمته وتوفيقه. * * * وقوله: (وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68) (هِيَ حَسْبُهُمْ). أي كفايةُ ذُنُوبِهِمْ كما تقول: عذبتك حسب فعْلِكَ، وحَسْبُ فُلان ما نَزَل به، أي ذَلكَ عَلى قَدرْ فعله. * * * وقوله: (كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69) (كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ). موضع الكاف نصب، أي وعدهم اللَّه على الكفر به كما وعد الذين من قبلهم. وقوله: (فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِم) قيل فاستمتعوا بحِظهم منَ الدنيا وقيل فاستمتعوا بدينهم. والخلاق النصيب الذي هو عند صاحبه وافرُ الحظ. * * * (أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70)

(72)

ألم يأتهم خبر الذين هلكوا في الدنيا بذنوبهم فيتعظوا. و (المُوتَفِكَاتِ). جمع مْؤتفكة، ائتفكت بهم الأرض، أيانقلبت، يقال إِنهم قوم لوط. ويقال إِنهم جميعُ مَنْ أُهْلِكَ، كما تقول للهالك انقلبت عليه الدنيا. (فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظلِمُونَ). أعلمَ اللَّهُ جلَّ ثناؤه أن تعذيبه إِياهم باستحقاقهم، وأن ذلك عدل * * * وقوله: (وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72) (وَرِضْوانُ). وتقرأ ورُضْوان ورِضوان، وهما جميعاً عن عاصم. ومعنى (وَرِضْوَانٌ من اللَّهِ أكبرُ)، أي أكبر مما هم فيه من النعيم. * * * وقوله: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) أمر بجهادهم، والمعنى جاهدهم بالقتل والحجة، فالحجة على المنافقين جهاد لهم. * * * وقوله: (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74) (وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا). قيل إِنهم كانوا هَمُّوا بقتل رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وأنهم كانوا اثني عَشَر رجُلاً عزموا على أن يقفوا له بعقبة على طريقه، ويغتالوه، فأعلمه الله ذلك. فلما بلغ إِليهم أمرَ مَنْ نحاهم عن طريقه، وسماهم رَجُلاً رجُلاً. فهذه من أعظم آياته، لأن الأمر إِنما عُلِمَ في قصتِهم بالوحي. (وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ).

(75)

وإِنما قيل أغناهم اللَّه ورسوله، لأن أموَالهم كثرت من الغنائم، فكان سبب ذلك رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -. وقوله: (يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ). معناه مؤلِماً. وإِنما قال في الدنيا لأنهُم أمِرَ بقَتلِهِم. وَيجُوز: (وما نَقِمُوا). * * * (وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) الأصل: لنتصَدقن، ولكن التاءَ أدْغِمَتْ في الصاد لقربها منها. * * * وقوله: (فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77) يجوز أن يكون " فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ ". قال: (فأعقبهم نفاقاً) أَي أضلهم الله بفعلهم. * * * وقوله: (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79) يَلْمِزُون، ويلْمُزون - بكسر الميم وضمها - ومعناه يَعيبونَ وكانوا عابُوا أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فىِ صدقات أَتوا بها النبي - صلى الله عليه وسلم -. يروى أَن عبد الرحمن أتَى بصُرةٍ تملأ الكف، وأن رجُلًا كان يقال له أبو عقيل، أَتَى بصَاعٍ من تَمْر، فعابوه بذلك وقالوا: إِن محمداً غَنِيٌّ عن صاعِ هذا وإِنما أَتَى بهذا ليُذَكِرَ بنفسِهِ. فهو معنى (والذينَ لا يجدون إِلا جُهْدَهم) " جَهْدَهُمْ "، بالفتح والضم. (فَيَسْخرُونَ مِنَهُمْ).

(80)

(فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ). والسِخْرِيَّ من الله المجازاة على فعلهم وقد بيَّنَّا ذلك. * * * وقوله جلَّ وعزْ: (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80) فيروى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أستَغْفرُ لهم أكثَرَ مِنْ سَبعين مرة فنزلت (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ). * * * وقوله: (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81) بمعنى مخالَفة رسول اللَّه. وهو منصوب لأنه مفعول له، المعنى بأن قعدوا لمخالفة رسول اللَّه. ويقرأ خَلْفَ رسول اللَّه، ويكون ههنا أنهم تأخَّروا عن الجِهاد في سبيل اللَّه. (وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا). وهذا وعيد في ترك الجهاد. ويجوز لا تنفُروا بضم الفاءِ. * * * (فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) (جزاءً) مفعول له، المعنى: وليبكوا جزاءً لهذا الفعل. * * * وقوله: (وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84) يروى أنَّها نزلت في عبد الله بن أبي، وكَانَ رأسَ المنَافِقينَ فلما حضرته الوفاة بعث إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسأله أحَدَ ثَوْبيْه ليُكفَنَ به، فبعث إِليه رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - بأحدهما، فأرسل المنافق إِلى رَسول الله أريد الذي كان يلي جلدك من ثِيَابِك، فوجه إِليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك. فقيل له فيه: لم وجَّهت إِليه بقميصك يكفن فيه وهو كافر؟ فقال: إِن قميصي لن يغني عنه شيئاً من اللَّه، وإِني أؤمل من اللَّهِ أن يَدْخُلَ في الِإسلام خلق كثير بهذا السبب، فيروى أنه أسلم من الخزرج ألفٌ لما راوه يطلب الاستشفاءَ بثوب رسول اللَّه. وأراد الصلاةَ عَليْه.

(90)

فنزل الوحي عليه - صلى الله عليه وسلم - (وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ). ويروى أنَّه - صلى الله عليه وسلم - صلَّى عليه وَإِنَّما مجاز الصلاة عليه أنه كان ظاهره ظاهر الإِسلام، فأعلمه الله جلَّ وعزَّ أَنه إِذا عَلمَ منه النفاق فلا صلاة عليه (وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ). كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إِذا دفن الميت وقف على قبره ودعا له. * * * وقوله: (وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90) المعَذِّرُونَ - بتشديد الذال - وتُقْرأ المُعْذِرُونَ، فمن قرأ: المُعْذِرُونَ. فتأويله الذين أعذَرُوا أي: جاءُوا بِعُذْرٍ، ومنْ قرأ: الْمُعَذِّرُونَ بتشديد الذال فتأويله المعْتَذِرُونَ، إِلا أن التَاءَ أدْغِمَتْ في الذال لقرب مخرجهما. ومعنى المعْتَذِرينَ الذين يعتذرون، كان لهم عذرٌ أو لم يكن لهم. وهو ههنا أشبه بأن يكون لهم عذر. وأنشدوا: إلى الحول ثم اسم السلام عليكما. . . ومن يبك حولاً كاملاً فقد اعتذر المعنى فقد جَاءَ بعذر، ويجوز المعِذِّرون - بكسر العين - لأن الأصل المعتذرون، فأسكنت التاءُ وأدْغمت في - الذال ونقلت حركتها إِلى العَيْن فصار الفتح أولى الأشياءِ، ومن كسر العين حرك لالتقاءِ السَّاكنين، ويجوز المُعُذُرون، باتباع: الضَمةَ التي قبلَها وهذان الوجهان - كسر العين وضمها - لم يُقْرَأ بِهِما، وإِنما يجوز في النحو، وهما جهتان يثقل اللفظ بهما، فالقراءَة بهما مطروحة. ويجوز أن يكون المُعذرُونَ: الذين: يعَذَرون، يُوهمون أنَّ لهم عذار ولا عُذْرَ لهم. وقوله: (اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ).

(97)

قيل (أولو الطول) هم أولو الغِنى، وقيل أولو الفَضْلِ في المعنى والرأي والجاه. والطَوْل الفضل في القدرة على هذه الأشياءِ. وقوله: (رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87) الخوالف: - النساءَ، وقد يجوز أن يكون جمع خالفة في الرجال. والخالف الذي هو غير مُنْجِب. ولم يأت في فاعل فواعل إلا في حرفين. فارس وفوارس، وهالك، وهوالك. * * * وقوله: (الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) هؤُلاءِ أعراب كانوا حول المدينة، فكفرهم أشدُّ لأنهم أقسى وأجفى من أهل المدَرِ، وهم أيضاً أبعد من سماع التنريل وإِنذار الرسول. وقوله: (وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ). " أن " في موضع نَصْبٍ، لأن الباءَ محذوفة من أن. المعنى أَجْدَرُ بترك العلم، تقول: أنت جدير أن تفعل كذا، وبأن تفعل كذا، كما تقول أنت خليق أن تفعل، أي هذا الفعل ميسَّر فيك. فإِذا حُذِفَتْ الباءُ، لم يصلح إِلا بأن. وإِن أتيت بالباءِ صلح بأن وغيره، تقول أنت جدير أن تقوم وجدير بالقيام، فإِذا قلت، أنت جدير القيامَ، كان خطأً، وإِنما صلح مع أن لأن أن تدل على الاستقبال، فكأنَّها عوض - من المحذوف. * * * وقوله: (وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) (وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ). أي الموت والقتل. * * * وقوله: (وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99) (قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ). فيها ثلاثة أوجه قُرُبَاتٍ بضم الراءِ، وقُرْبَاتٍ بإسكانها وقُرَبَاتٍ بفتح الراءَ.

(100)

(وَصَلَوَاتِ الرسُولِ). وكذلك: (وَصلِّ عَلَيْهمْ). معناه دعاء الرسول. قَالَ الأعشى: تقول بِنْتِي وقد قربت مُرْتَحَلا. . . يا ربِّ جَنِب أبي الأوْصَابَ والوَجَعَا عَليكِ مثلُ الذي صليت فاغتمضي. . . عيناً فإِن لجنبِ الأرضِ مُضطجعا إِن شئت قلت عليك مثلُ الذي، ومثلَ الذي، فمن قال: " عليك مثلَ الذي صلَّيتِ " ققد أمرها بالدعاءِ، كأنَّه قال ادعي مِثْلَ الذي دعوت، ومن قال مثلُ فالمعنى عليك مثل هذا الدعاءِ. أي ثبت عليك مثل هذا. * * * وقوله: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) ويجوز والأنصارُ، فمن قال: " والأنصْارِ " نَسَقَ عَلَى المُهَاجِرين. المعنى: والسابقون الأولون من المهاجرين ومن الأنصار، ومن قال: والأنصارُ نسق به على " والسَّابِقون " كأنه قال: " والسابقون والأنصارُ ". وقوله: (والَّذِينَ اتَبَعُوهُمْ بِإحْسَانٍ). أي من اتبعهم إلى يَوْم القيامة. (رضِيَ اللَّهُ عَنهُمْ وَرَضُوا عَنَهُ). تأويله: - واللَّه أعلم - أن اللَّه رَضِيَ أفعَالَهم، وأنهم رضوا ما جازاهم اللَّه به. * * * وقوله: (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101)

(103)

مقدَّم ومؤَخر، (مَرَدُوا) متصل بقوله منافقون. (سَنُعَذِبُهُمْ مَرتَينِ). أي سنعذبهم بالإنفاق وبالفعل، وقيل بالقَتْل وعذابِ القَبْر. (ثمَ يُرَدونَ إلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ). أي يُعذبون في الآخرة. * * * وقوله: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) يصلح أن تكون تطهرهم بها نعْتاً للصدقة، كأنه قال: خذ من أموالهم صدقة مطهرة، والأجْودُ أن يكونَ تطهرهم للنبي - صلى الله عليه وسلم. المعنى خذ من أموالهم صدقة فإنك تطهرهم بها، ويجوز " تطهرْهُمْ " بالجزم على جواب الأمْر. المعنى إِن تأخذ من أموالهم تطهرهم وتزَكهمْ. ولا يجوز في القراءَة إلا بإثبات الياءِ في تزكيهم، اتباعاً للمصحف. (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ). أي ادع لهم. و (سَكَنٌ) أي: يسكنون بها. * * * وقوله: (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) تأويله ويقْبَلُ الصَّدَقَاتِ، وكذلك ما يروى " إن الصدَقَةَ تقع في يد اللَّه جلَّ وعزَّ تأويله أن الصَّدَقَةَ يتقبلُها الله جل ثناؤه ويضاعف عليها. * * * وقوله جلَّ وعزَّْ (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106) (وَآخَرُونَ مُرْجَأُوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ) معنى (مُرْجَأُوْنَ) مؤخرون. يقال أرجأتُ الأمْر، إذا أخَّرْته. ويقرأ (مُرْجَوْنَ) على أرْجَيْتُ. و (آخرون) عطف على قوله: (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ). المعنى: من أهل المدينة منافقون ومنهم آخرون مُرْجَوْنَ.

(107)

ويقال إنهم الثلاثة الذين خُلِّفُوا (إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ). (إِمَّا) لوقوع أحد الشيئين، واللَّهُ عزَّ وجلَّ عالم بما يصير إليه أمرهم، إلا أنْ هذا للعباد، خوطبوا بما يعْلَمُون، فالمعنى لكنْ أمرهم عندكم علي هذا في الخوف والرجَاءِ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) " الذين " في وضع رَفع، المعنى ومنهم الَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا. انتصب (ضِرَارًا) مفعولًا له. المعنى اتخذوه للضرار والكفر والتفريق والإرصاد. فلما حُذِفتِ اللام أفضى الفعلُ فنصبَ، ويجوز أن يكون مصدراً محمولًا على المعنى؛ لأن اتخاذهم المسجدَ على غير التقوى معناه ضارُّوا به ضِرَارًا. وتفسير الآية أن قوماً من منافقي الأتصار أرادوا أن يفرقوا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من يصلي معه من المؤمنين فاتخذوا مَسْجِداً يقطعون به المؤمنين والنبي - صلى الله عليه وسلم - عن مَسْجِد قُباءَ. (وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ). كان رجل يقالُ له: أبوعمرو الراهب حَارَب النبي - صلى الله عليه وسلم - ومضى إِلى هِرَقْل، وكان أحَدَ المنافقين، فقالوا نبني هذا المسجد وننتظر أبا عَامِرٍ حتَى يجيءَ، فيصلي فيه، فالإِرصاد، الانتظار.

(108)

واتخذوا هذا المسجدَ مُضارة وكفْراً، لأن عِنَادَ النبي - صلى الله عليه وسلم - كفر وأطلَعَ اللَّهُ نبيه - صلى الله عليه وسلم - على طَويتهمْ، وعلى أنهم سيحلفون كاذبين، فقال جلَّ وعزَّ: (وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ). وكانوا دعوا النبي - صلى الله عليه وسلم - ليصَلِّيَ فيه فأنزل اللَّه جل ثناؤه: (لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) ْثم بين الله عزَّ وجلَّ: أي المسجدين أحق بالقيام فيه فقال: (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ). يعني به مسجد قُبَاءَ. (أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ). " وَأنْ " في موضع نصبٍ، المعنى: لمسجد أسس على التقوى أحقُّ بأن نقوم فيه. (فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا). يروى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقف بباب المسجد فقال: (إِن اللهَ أحسن عليكم الثناءَ في طَهوركم فبِمَ تَطَهرون؟ فقالوا نغسل إثر الغائط بالماء. وهُؤلاء قومٌ من الأنصار. * * * وقوله: (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) ويجوز " أَفَمَنْ أُسِّسَ بُنْيَانُهُ "، ويجوز " أَفَمَنْ أَساسُ بُنْيَانِهُ " ويجوز " أَفَمَنْ أُسُسُ بُنْيَانِهُ ". فأمَّا (أَسَّسَ بُنْيَانَهُ)، و (أُسِّسَ بُنْيَانُهُ)، فقراءَتان جَيدَتان، والذي ذُكِرَ غير هاتين جائزُ في العربية، غير جائز في القراءَة، إِلا أن تثبتَ به رواية. المعنى أن من أسس بنيانه على التقوى خير ممن أَسَّسَ بُنْيَانَهُ على الكفر فقال: (عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ).

(110)

وشفا الشيء حَرْفُه وحدُّه، والشفا مقصور يكتب الألف ويثنى شفوين. ومعنى (هَارٍ) هَائِر وهذا من المقلوب، كما قالوا في لاث الشيءُ إذا دار فهوَ لاثٍ والأصل لَائث وكما قالوا شاك السلاح وشائك. قال الشاعِر: فَتَعَرَّفوني إنَّني أنا ذاكُمُ. . . شاكٍ سِلاحِي في الحوادِثِ مُعلِمُ وكما قال العجاج: لَاثٍ به الأشاءُ والعُبْريُّ الأشَاءُ النخل، والعُبْريُّ السدْرُ الذي على شاطئ الأنهار ومعنى لاثٍ به مطيف به. (فانْهارَ بِه في نَارِ جَهَنَّمَ). وهذا مثل، المعنى أن بناءَ هذا المسجد الذي بني ضراراً وكفْراً كبناء على جَرْف جهنم يتهور بأهله فيها. * * * وقوله: (لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110) قال بعضهم لا يزال كفراً، وقال بعضهم لا يزال شكاً. والريبة من الريب، والريْبُ الشَّكُّ. فأعلمَ اللَّهُ جلَّ وعز أن بناءَهم لا يزالون شاكين فيه، وجائز أن يكون اللَّه جل ثناؤه جعل عقوبتهم أنْ ألْزَمَهمْ الضلال بركوبهم هذا الأمر الغليظ. (إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ).

(111)

ويجوز: " إلا أنْ يَقْطِعَ قُلُوبَهم " معناه إلا أنْ يَمُوتوا. وقال بعضهم: إلا أن يتوبوا توبة تتقطع بها قلوُبهم ندماً وأسَفاً على تفريطهم. * * * وقوله: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) يروى: أنه تاجرهم فأغلى لهم الثمن. وهذا كما قال: (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضلَالَةَ بِالهُدَى فَمَا رَبحَتْ تِجَارَتُهُمْ). (يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا). بالمعنى لأن معنى قوله: (بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ)، وعدهم الجنة وعْداً عليه حَقًّا. ولو كانت في غير القرآن جاز الرفع على معنى ذلك وعد عليه حق. وقوله: (فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ). يَدُل أن أهل كُل مِلَّةٍ أمِروا بالقتال وأوعدوا عليه الجنة. * * * وقوله: (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112) يصلح أن يكون رفعه على وجوهٍ: أحدها المدح كأنه قال هُؤلاءِ التائبون، أو هم التائبون. ويجوز أن يكون على البدل. المعنى يقاتل التائبون، وهذا مذهبُ أهْلِ اللغة. قال. أبو إسحاق: والذي عندي واللَّه أعلم أن قوله: التائبون العابدونَ رفع بالابتداءِ، وخبرُه مُضمر، المعنى التائبون العابدون إلى آخر الآية لهم الجنة أيضاً، أي من لم يجاهِد غيرَ معانِدٍ ولا قَاصِد لتَرْك الجهادِ، لأن بعض

(113)

المسلمين يجزى عن بعض في الجهاد. فمن كانت هذه صفته فَلَهُ الجنة أيضاً. التائبون الذين تابوا من الكفْرِ، والعابدون: الذين عبدوا اللَّه وحدَه. والراكعون الساجدُونَ الذين أدُّوا ما افترض الله عليهم في الركوع والسُّجُودِ. (الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ). الآمِرُونَ بالإيمانِ باللَّهِ. (وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ) عن الكفر باللَّه. ويجوز الْآمِرُونَ بجميع المعروف، الناهون عن جميع المنكر. (والحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ). القائمون بما أمر اللَّه به. وقوله: (السَّائِحُونَ). في قول أهل اللغة والتفسير جميعاً: الصائمونَ. ومَذْهَبُ الحسن أنهم الذين يصومون الفرض. وقد قيل: إِنهم الذين يديمون الصيام. وقول الحسن في هذا أبْيَن. وكذلك (الراكعون الساجِدُون) عند الحسن هم الذين يُؤدُّونَ ما افترِضَ عليهم في ركوعهم وسجودهم. * * * وقوله: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) يروى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عرض على عَمِّه أبي طالب الِإسْلاَمَ عند وَفاتِه، وذكر له وجُوبَ حَقِّه عَليه، فَأبى أبو طَالب فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لأستغفرنَ لك حتى أُنْهَى عن ذلك. ويروى أنَّه استغفر لأُمِّه، ويروى إنَّه استغفر لأبيه، وأنَّ

(114)

المؤمنين ذكروا محاسن آبائِهم في الجاهلية وسألوا أن يستغفروا لآبائهم لما كان من محاسنَ كانت لهم، فأعلم اللَّه عزَّ وجلَّ أن ذلك لا يجوز فقال: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى). وقوله: (مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) أي من بعد ما تبين لهم أنهم ماتوا كافرين. ثم أعلم جلَّ وعزَّ كيف كان استغفار إبراهيم لأبيه فقال: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114) فيروى أنه كان وعده أن يستغفر له أيام حياته، ويروى أن أبا إبراهيبم كان وعد إبراهيم أن يُسْلم إن استغفر له، فلما تبين له إِقامته على الكفر تبرَّأ منه. وقال اللَّه تعالى: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ) إِلى قوله: (إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ). أي تأسَّوْا بِإبْرَاهِيمَ فِي هذا القول. وقوله: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ). يروى أن عمر سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الأوَّاه، فقال: الأوَّاه الدَّعَّاءُ، والأوَّاه فِي أكثر الروَاية الدَّعَّاء ويروى أن الأوَّاه الفقيه، ويروى أن الأوَّاه المؤمن بلغة الحبشة. ويروى أن الأوَّاه الرحيم الرفيق. قال أبو عبيدة: (الأوَّاه) المتأوِّه شَفَقاً وفرقاً المتضرع يقيناً، يريد أن يكون

(115)

تضرعه على يقين بالِإجابة ولزوماً للطاعة. وقد انتظم قولُ أبي عبيدَةَ أكثرَ ما رُوِي في الأوَّاه وأنشد أبو عبيدة: إِذا ما قمتُ أَرْحَلُها بليلٍ. . . تأَوَّهُ آهَةَ الرجلِ الحزينِ * * * وقوله: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) يروى أنه لما نزل تحريم الخمر ووقعت الحدود قال المسلمون فيمن مات قبل ذلك ولم يدرك التحريم اسألوا عن حالهم، فأعلم اللَّه جلَّ وعزَّ أنه لا يؤَاخذهم بِمَا حَرم مما لم يحرم عَليْهِم. وجائز أن يكون: إِذا وفقَ اللَّه للهداية فلا إِضلال بعدَهَا، لأن من يهد اللَّهُ فلا مُضِلَّ لَه. * * * وقوله: (لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) معناها في وقت العُسرةِ، لأن السَّاعَةَ تقعُ على كل زمانٍ، وكان في ذلك الوقت حر شديد، وكان القوم في ضيقة شديدة، وكان الجمل بين جماعة يَعْتَقِبُونَ عليه، وكانوا من الشدة والفقْر ربما اقتسم الثمرةَ اثنان وربما مصَّ الثمرة الجماعة ليشربوا عليها الماءَ، وربما نَحروُا الِإبل فشربوا من ماءِ كُرُّوشِهَا من الحر. فأعلمَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ أنَّه قد تاب عليهم من بعد ما كاد يَزيغُ قُلوبَ فريق منهم، أي نن بعد ما كادوا يَقْفِلون مِنْ غَزْوَتهِم للشدةِ، ليس أنَّه يزيغ عن الِإيمان، إنما هو أن كادوا يرجعون فتاب الله عليهم بأن أقفَلهم من غَزْوَتهِمْ.

(119)

وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) على نسق الكلام يدل على أنهم أمِروا بأن يكونوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في الشدهَ والرخاءِ. ويجوز - واللَّهُ أعلم - على هذا قوله: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ). وقد رويت عن بعضهم " مِنَ الصادِقِينَ " والمعنى واحد، ويجوز أن يكون ممن يصدق ولا يكذب في قول ولا فعل. * * * وقوله: (مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) الظمأ العطشُ، والنصَب: التعَبُ. (ولا مخمصة) المخمصة: المجاعة، فأعلم اللَّه أنه يجازيهم على جميع ذلك، وأنَّه يكتب لهم عَمَلاً صالحاً. * * * وقوله: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122) هذا لفظ خبر فيه معنى أمر كما كان (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) والمعنى أنهم كانوا إذا كانت سَريةٌ نفروا فيها بأجمعهم. فأَعلم اللَّه جلَّ وعزَّ أنَّه ينبغي أن ينفر بعضهم ويبقى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بعضٌ لئلا يبقى وحدَه. ولئلا يخلو من خرج منهم من فائدة منه، فقال جلَّ وعزَّ: (فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ). المعنى أنهم إِذَا بَقِيَتْ منهم بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - بقية فسَمِعُوا منه وَحْياً أعْلمُوا الذين نفروا ما علموا فاستوَوْا في العلم، ولم يخلوا منه. وجائز - واللَّه أعلم - أن يكون هذا دليلاً على فرض الجهاد يجزى الجماعة فيه عن الجماعَة.

(123)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123) (غِلْظَةً) فيها ثلاث لغات غِلْظَة، وغُلْظَة، وغَلْظَةً. فهذا دليل أنه ينبغي أن يُقَاتِلَ أهل كلِّ ثَغرٍ الذِينَ يَلُونَهُمْ وقيل إن هذا يعنَى به العرب، وقيل إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كانَ ربَّما تخطى في حربه الذين يَلُونه من الأعداءِ ليكون ذلك أهيبَ له فأمر بقتال من يليه لِيسْتَنَّ بذلك. وقوله: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ). أي اللَّهُ آمر مَنْ نَصَرة بالحِرب. * * * وقوله: (وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا). المعنى: وتاب على الثلاثة الذين خُلِّفُوا، ويقال إنهم هم المرجَوْن لأمر الله. * * * وقوله: (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وأضاف الإِيمان إلى السُّورةِ لأنه يزيد بسببها. * * * وقوله: (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125) أي شَكٌّ ونفاق. (فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ). أي زادتهم كفْراً إِلى كفرهم، لأنهم كلما كفروا بسورة ازداد كفرهم. * * * وقوله: (أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) معناه يُخْتَبَرونَ في كل عام، وقيل يُختبرون بالدعاءِ إلى الجهاد. وقيل يختبرون أنه ينزل عليهم العذاب والمكروه. * * * وقوله: (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (127) يقولون ذلك إِيماء لأنهم منافقون لا يظهرون ذلك. (هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ).

(128)

يقولون ذلك اسْتِسْراراً وتَحَذراً من أن يُعلِمَ بِهمُ اللَّه - عزَّ وجلَّ - وهو أعلم. (ثُمَّ انْصَرَفُوا). أي يفعلون ذلك وينصرفون، فجائز أنْ يكون ينصرفون عن المكان الذي اسْتَحقُوا فيه، وجائز أن يكون ينصرفون عن العمل بشيء مما يستمعون. (صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ). أي أضلهم الله مُجازَاة على فعلهم. * * * وقوله: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) أي هو بَشَر مثلكم. أي فهو أوكد للحجة عليكم لأنكم تفهمون عمَّن هو مثلكم. وجائز أن يكون عنى به إنَّه عربي كما أنكم عربٌ، فأنتم تَخْبُرونَه وقد وقفتم على مذهبه. (عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ). أي عزيز عليه عنتكم، والعنتُ لقاءُ الشَدةِ. (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ). أي حَرِيصٌ عَلَى إِيمَانِكم. * * * (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129) أي الذي يكفيني اللَّه. (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ). والعظيمُ ههنا جائزان. * * * وقوله: (مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ).

دخلت " مِنْ " في الزمان، والأصل مُنْذُْ ومُذْ، هذا أكَثر الاستعمال في الزمان. و" من " جائز دخولها لأنها الأصل في ابتداءِ الغاية والتبعيض. ومثل هذا قول زهير: لِمَنِ الدِّيارُ بقُنَّةِ الحِجْرِ. . . أَقْوَيْنَ من حِجَجٍ ومن دَهْرِ وقيل إِن معنى هذا مُذْ حِجج ومُذْ شَهْر.

سورة يونس

سورة يونس بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قولها عزَّ وجلَّ: (الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1) قد بيَّنَّا في أول البقرةِ ما قيل من " الر " وما أشبه ذلك. وقوله: (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ). أي الآياتِ التي جرى ذِكرُها هِيَ آياتُ الكِتاب الحكيم. * * * وقوله: (أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2) يعنى بالناس ههنا أهل مكة، ويروى أنهم قالوا: العجب أن اللَّهَ لم يجد رسولاً يرسله إلى الناس إلا يتيمَ أبي طالب، وجائز - واللَّه أعلم - أنهم عجبوا من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنذرهم وبَشَّر الذين آمنوا، والِإنذار والبِشَارَةُ مُتّصِلَان بالبعث والنشور، فَعجِبوا أن أعلَمَهُمْ أنهم يبعثون ويجازَوْنَ بالحسنة والسيئةِ. فقال: (أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ). فموضع (أن) الأولى رفع، المعنى: أكان للناس عَجباً وَحْيُنَا وموضعُ " أن " الثَانِيةِ نصبٌ بـ أوْحَيْنَا، وموضع " أنَّ " المشددة نصب بـ بَشِّرِ، والقراءة

(3)

الفتح، ويجوز كسرها: (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) لأنَّ البِشارة قول، فالمعنى: قُلْ لَهُمْ إِنَّ لهمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِهمْ ولكنَّه لا يُقْرأ بهَا إلا أن تثبتَ بها رواية لأن القراءةَ سنةٌ. وَالقَدَم الصِّدْق: المنزلة الرفيعة. (قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ) - و (لَسَاحِرٌ مِبين) - جميعاً. وإنما قالوا " لسحر مبين " لَمَّا أنذرهم بالبعث والنشور. * * * وقوله: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3) أعلمهم أنَّ الَّذِي خَلَق السَّمَاواتِ والأَرْضَ وَقدْرَتُه هذه القُدرَة قادِرٌ على بَعْثِهِمْ بعْدَ مَوْتهم. وقوله: (مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ). ولم يجر للشفيع ذكر قبل هذا، ولكن الذِينَ خوطِبوا كانوا يقولون إنَّ الأصنامَ شُفَعَاؤنا عندَ اللَّهِ، فالذَكْرُ جرى بعد في الشُّفَعَاء. فقوله: (مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) أي لَا يَشفَعُ شَفِيع إِلَّا لِمَنْ ارْتَضَى اللَّهُ. قال اللَّه - جلَّ وعزَّ: (وَلَا يَشْفَعُونَ إلا لِمَنِ ارْتَضى) (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ). أي فاعبدوه وحده. * * * وقوله: (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4)

(5)

يدُلُّ على أنَّ الأمْرَ في العَجَبِ كان في البَعْثِ والنشًورِ. (جَمِيعًا) منصوب على الحال. وقوله: (حَقًّا). (وَعْدَ اللَّهِ) منصوب على معنى وَعَدَكُم اللَّهُ وَعداً، لأن قوله: (مَرْجِعُكُمْ) معناه الوعدُ بالرجوع، وَ (حَقًّا) منصوب على أَحُقُّ ذلك حَقًّا. ويجوز من غير القراءة وَعْدُ اللَّهِ حقٌّ. (إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ). قرئت (إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ)، وقرئت أنَّه - بفتح الألف وكسرها. جميعاً. كثيرتان في القراءة، فمن فتح فالمعنى: إليه مَرْجعُكم جميعاً لأنه يبدأ الخلق، ومَن كَسرَ كَسرَ على الاسْتِئْنَافِ والابْتِدَاءِ (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ). أي بالعدل. * * * وقوله: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) (وَقَدَّرَهُ) يَعْنِي القَمَرَ، لأنه المقدَّرُ لِعِلْمِ السِّنين والحساب، وقد يجوز أن يكون المعنى وقدّرهما منازل فحذف أحدهما اختصاراً وإيجازاً كما قال الشاعر: نحن بما عندنا وأنت بما. . . عندك راضٍ والرأي مختلف

(10)

وقوله: (دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10) معنى (دعواهم) دعاؤهم، يعني إن دعاء أهلِ الجنة تنزيه الله وتعظيمه. (وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ). جائز أن يكون ما يُحَيِّي به بعضهم بعضاً سلام، وجائز أن يكون اللَّه يحييهم منها بالسلام. (وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ). أعلم اللَّه أنهم يبتدَئون بتعظيم الله رب العالمين. وَ (أنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) - بالتخفيف - على حذف أنَّ الشديدة والهاء، والمعنى أنه الحمد للَّهِ رب العالمين. * * * وقوله: (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11) يُروَى أنهم لَوْ أجِيبُوا في الدعَاءِ على أنفسهم وأهليهم، كقول الرجُلِ لابنه وحميمه: أماتَكَ اللَّهُ، وفعل بك كذا وكذا. وجائز أن يكون عنى قوله: (فَأمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ)، وما أشْبَهَ ذلِكَ فلو عجل الله ذلك كما يُعجِّلُ لَهُم الخيرَ لأهْلَكَهُمْ بِه. ونصب (استعجالهم) على مثل استعجالهم بالخير، أي على نعت مصدرٍ محذوف. والمعنى: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ للنَّاسِ الشَر تَعْجيلاً مثل استعجالهم بالخير، (لَقُضِيَ إلْيهِمْ أجَلُهُمْ). وَيقرأ: لقَضَى إليهم أجَلَهم جميعاً، جَيِّدتَانِ، وَلَقُضِيَ أحسنهما، لأن

(12)

قوله: (ولو يعجل اللَّه للناس الشر) يتصل به (لقُضِيَ إلْيْهِمْ أجَلُهم). (فَنَذَرُ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا في طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ). الطغيان في كل شيء ارتفاعه وعُلوُّه. والعَمَهُ التَحَير. المعنى فنذر الذين لا يرجون لقاءنا في غُلُوهمْ وكُفْرِهِمْ يتحيرُونَ. * * * وقوله: (وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12) المعنى - واللَّه أعلم -: وإذا مسَّ الِإنسانَ الضر من حال من الأحوال فجائز أن يكون دعانا لجنبه، ودعانا وهو سَطِيح، أو دَعَانَا قَائِماً. ويجور أن يكون: وإذا مس الِإنسانَ الضر لجنبه أو مَسَّهُ قاعداً، أو مَسَّهُ قائِماً، دَعَانَا. (فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ). المعنى مَر في العافية على ما كان عليه قبل أن يبْتَلَى، ولم يتعظ بما نَالَه. وقوله: (كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ). ويجوز زَيَّن للمسرفين. موضع الكاف نصب على مفعول ما لم يسم فاعله المعنى زُينَ للمسْرِفين عملُهم كذلك أي مثل ذلك، أي جعل جَزَاءَهم الإضلالَ بإسرافهم بكفرهم.

(13)

وقوله: (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) المعنى كالمعنى من قوله: (فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ). أعلم اللَّه - جل ثناؤه أنهم لَا يؤمِئونَ وَلَوْ أبْقَاهمْ أبَداً. فجائز أن يكون جَعَلَ جَزاءَهُمْ الطبْعَ عَلَى قُلوبِهم، وَجَائز أن يكون أعلم ما قَدْ عَلِمَ منْهُمْ. والدَّليلُ عَلَى أنَّه طبع على قلوبهم جَزَاءً لهم قوله: (كَذَلِكَ نَجْزِي القَوْمَ المُجْرِمِينَ). قوله: (كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ). (كَأَنْ) مخففة من الشديدة، المعنى كأنَّه لَم يَدْعُنَا. قالت الخنساء: كأنْ لم يكونوا حِمًى يُتَّقَى. . . إذْ الناسُ إذ ذاك من عزَّ بزَّا أي كأنهم لم يكونوا. * * * وقوله: (ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14) موضع (كَيْفَ) نَصْبٌ بقوله (تَعْمَلُونَ) لأنها حرف استفهام، ولَا يعمل فيها (لِنَنظرَ) لأن ما قبل الاستفهام لا يعمل في الاستفهام. ولو قلت: لننظر أخيْراً تعمَلُونَ أمْ شَرًّا كان العاملُ في خيرٍ وشَيءٍ تَعْمَلُونَ. * * * وقوله: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) منصوب على الحال. (قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا).

(16)

لا يؤمنون بالبعث والنشور. (ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ). أي إيت بقرآنٍ لَيس فيه ذكرُ البعْت والنُشُور وليس فيه عَيْبُ آلِهَتِنَا. . أو " بَدِّلْهُ " أي أو بدل منه ذكر البعث والنشور. (قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ) تأويله: إِنَّ الَّذِي أتَيْتُ به مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لا مِنْ عِنْدِي فأبدله. * * * (قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16) ويجوز (عُمْرًا) بإسكان الميم، أي قد لبثت فيكم من قبل أن يُوحَى إليَّ لا أتْلُو كِتَاباً ولا أخُطُه بيميني، وهذا دليل على أنه أوحي إليَّ؛ إذْ كنتم تعرفونني بينكم، نَشأْتُ لا أقرأ كتاباً، وإخْبارِي إياكُم أقَاصِيصَ الأولين مِنْ غَيرِ كِتابٍ ولا تلقينٍ يَدُلُ عَلَى أنَّ مَا أتيتُ به من عند اللَّه وَحْي. * * * وقوله: (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18) المعنى: ما لا يَضرهم إن لم يعبدوه، ولا ينفعهم إن عبدوه. (وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ). أي أتعبدون مَا لَا يسمعُ ولَا يُبصِرُ ولا يُميِّزُ، وتزْعُمون أنها تَشْفعُ عندَ اللَّه، فتُخْبِرونَ بالكَذَبِ. * * * (وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19)

(21)

قيل يعنى بالناس ههنا العرب الذين كانوا على الشرك. اختلفوا: آمن بعضٌ وكفر بعضٌ. وقيل: ما كانَ الناسُ إلا أُمَّةً واحدةً، أي ولدوا على الفطرة، واختلفوا بعد الفطرة. (وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ). ويجوز لقَضَى بينهم، أي لولا أنَّ اللَّه - جلَّ وعزَّ - جعل لهم أجلاً في - القضاء بينهم، لفَصَلَ بينهم في وقت اختلافهم. و (بَيْنَ) منصوبة لأنها ظرف. * * * وقوله: (وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21) يُعنَى بالناس ههنا الكافرونَ. وقوله: (إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا). جواب الجزاء، وهو كقوله: (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ) المعنى وإن تصبهم سيئة قنطوا، وإذا أذقنا الناس رحمة مكروا. فإذا تنوب عن جواب الشرط كما ينوب الفعل. * * * وقوله: (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) ويجوز هو الذي يَسِيركُمْ، ولا أعلم أحَداً قَرأ بِها.

(حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ). الفُلك يكون واحداً ويكون جمعاً، كما أن فُعْلًا في قَوْلك أُسْدٌ، جمع أَسَدٍ، وفُعْل وفَعَل من باب واحد، جاز أن يَكُونَ جَمعُ الفَلَكِ فُلُكاً. (وَجَرَيْنَ بِهِمْ). ابتداءُ الكَلام خطابٌ، وبعد ذلك إخبارٌ عن غائبٍ لأن من أقام الغائبَ مقام مَنْ يُخَاطِبُه جاز أنْ يردَّه إلى الغائب. قال الشاعر: شطت مزار العاشقين فأصبحت. . . عسراً على طلابك ابْنَةَ مَخْرَمِ ومثل الآية قول كثير. أَسِيئي بنا أَو أَحْسِنِي لا مَلومةٌ. . . لَدَيْنا ولا مَقْلِيَّةٌ إنْ تَقَلَّتِ وقرأ بعضهم: هو الذي يَنْشُركُمْ. وأكثر ما جاء في التفسير في قوله: (وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً) يعنى به آدم عليه السلام. (فَاخْتَلَفُوا) اختلف هابيل وقابيل. وقوله: (جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ).

(23)

المعنى من كل أمكنة الموج. (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ). يقال لكل من وقع من بلَاء قد أحيط به، أي أحاط به البلاء وَقيل أحاطت بهم الملائكة. * * * (فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23) المعنى فلمَّا أنجاهم بغَوْا، والبغي التَّرامي في الفساد. قال الأصْمَعِي: يقال بغى الجَرْحُ يبغي بَغْياً إذا ترامى إلى فَسادٍ. وبغت المرأة بِغَاءً إذا فَجَرَتْ. وقوله: (إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا). وتقرأ (متاعُ الحياة الدنيا)، خبراً لقوله: (بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ). ويجوز أن يكون خبر الابتداء (على أنْفُسَكُمْ). ويكون (متاعُ الحياة الدنيا) على إضمار هو. ومعنى الكلام أن ما تنالونه بهذا الفساد والبغي إنما تتمتعون به في الدنيا (ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ). ومن نصب (متاعَ الحياة الدنيا) فعلى المصدر، المعنى تتمتعون متاع الحياة الدنيا، لأن قوله (إنما بغيكم عَلى أنفسكم) يدل على أنهم يتمتعون. ومعنى (بغيكم على أنفسكم) أي عملكم بالظلم عليكم يرجع، كما قال جلَّ وعزَّ: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا). وقوله: (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) (حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ). ويقرأ، وأَزْيَنَتْ.

(25)

والزخرف كمال حسن الشيء، فمن قرأ. . و " وَازَّيَّنَتْ " فالمعنى وتزَينَتْ فأدغمت التاء في الزاي، وسكنت الزاي فاجتلبت لها ألف الوصل، ومن قرأ: " وأَزْيَنَتْ " بالتخفيف فهو على أفعلتْ أي جاءت بالزينة، وازَّيَّنَتْ بالتشديد أجود في العربية، لأن أزيَنَتْ الأجود فيه في الكلام أزانَتْ. (وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَاا). أي قادرون على الانتفاع بها. وقوله: (كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ). أي كأن لم تَعْمَرْ بالأمس، والمغاني المنازل التي يعمرها الناس بالنزول بها، يقال: غنينا بمكان كذا وكذا إذا نزلوا به. * * * وقوله: (وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25) السَّلَامُ: هو اللَّه جلَّ وعزَّ - فاللَّه يدعو إلى داره، ودارُه الجنة. وجوز - وَاللَّهُ أعلم - أن يكون دار السلام الدار التي يُسْلَمُ فيها من الآفات. * * * وقوله: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26) الحسنى الجنة، و " زِيَادَةٌ" في التفسير النظر إلى وجه اللَّه - جلَّ وعزَّ. ويجوز أن تكون الزيادة تضعيف الحسنات لأنه قال - جلَّ وعزَّ: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا). والقول في النظر إلى وجه الله كثير في التفسير وهو مرويٌّبا بالأسانيد الصحاح)، لا يشك في ذلك. (وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ). القتر: الغبرة التي فيها سواد، (وَلَا يَرْهَقُ) لا يغشى

(27)

وقوله جلَّ وعزَّ، لأهل النار: (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27) (كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا). ويقرأ قِطْعاً من الليل مظلماً من نعت القطْع، ومن قرأ قِطَعاً جعل مظلماً حالًا من الليل. المعنى أغْشِيَتْ وجوهُهُم قِطَعاً من الليل في حال ظُلْمته. * * * وقوله: (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28) (جميعاً) منصوب على الحال (ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ). مكانكم منصوب على الأمر، كأنه قيل لهم انتظروا مكانكم حتى نَفْصِلَ بينكم، والعرب تتوعد فتقول مكانك، وانتَظِرْ، فهي كلمة جرت على الوعيد. (فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ). من قولك زِلْت الشيءَ عَنْ مَكانِه أَزِيلُه، وزيَّلْت للكثرْة، ومن هذا إذَا نحيته عن مكانه. * * * وقوله: (فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29) معناه كفى اللَّه شهيداً، و (شَهِيدًا) منصوب إن شئت على التمييز، وإن شثت على الحال. * * * (إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ). معناه: ما كنا عن عبادتكم إلا غافلين. قوله: (هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (30)

(هنالك) ظرف. المعنى: في ذلك الوقت تبلو، وهو منصوب بـ تبلو إلا أنه غير متمكن، واللام زائدة، والأصل هناك، وكسرت اللام لسكونها وسكون الألف، والكاف للمخاطبة. ومعنى (تَبْلُو) تُخْبَرُ، أي تعلم كل نفس ما قدمت. ومثل هنالك قول زهير هُنالِكَ إنْ يستخْبِلُوا المال يَخْبلوا. . . وإن يُسْألُوا يُعطُوا وإن يَيسروا يُغْلوا وقرئت - هنالك (تَتْلو) بتاءين، وفسرها الأخفش وغيره من النحويين تتلو من التلاوة، أي تقرأ كل نفس، ودليل ذلك قوله: (وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) - إلى قوله: (اقْرَأْ كِتَابَكَ). وفسروه أيضاً: تَتْبَعُ كُل نَفْس ما أسلفت. ومثله قول الشاعر: قد جعلت دَلْوِي تَسْتَتْلِيْني. . . ولا أحب تبع القرين أي تستتبعني، أي تستدعي اتباعي لها. (وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ). القراءة (الْحَقِّ) من صفة اللٌه عزَّ وجلَّ - ويجوز الحقُّ والحقَّ. والنصب

(31)

من جهتين إحداهما رُدُّو حَقا، ثم أدخِلت الألف واللام، ويجوز على تقدير هو مَوْلَاهُمُ الحق، أي يحق ذلك حقاً، وفيه جهة ثالثة في النصب على المدح: هي: اذكر مولاهم الحق. ومن قرأ " الحقُّ " - بضم القاف - فعلى هو مولاهم الحق، لا من جعلوا معه من الشركاء. (وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ). (فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ). بعد أنْ قُرِّروا فقيل لهم: (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ). لما خوطبوا بما لا يقدر عليه إلا اللَّه - جلَّ وعزَّ - كان فيه دليل على توحيده. * * * وقوله: (كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) الكاف في موضع نَصْبٍ، أي مثل أفعالهم جَازَاهُمْ رَبُّكَ. وقوله: (أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ). أي حق عليهم أنهم لا يؤمنون، فإنهم لا يؤمنون بدل من كلمة رَبِّكَ. أعلم اللَّه أنهم بأعمالهم قد مُنِعُوا من الِإيمان، وجائز أن تكون الكلمة حَقت علَيهم لأنهم لا يؤمنون، فإنهم لا يؤمنون بدل من كلمة ربك وتكون الكلمة ما وُعِدوا به من العقاب.

(35)

وقوله: (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35) (قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ). تَقول هديت إلى الحق، وهدَيتُ الحقَّ بمعنى واحدٍ، لأن " هَدَيْتُ " يتعدى إلى المهدِيين وإلى الحقِّ. يتعدى بحرف جر. المعنى يهدي من يشاء للحق. (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى) أي: قُررُوُا، فقيلَ لهم: أيٌّ أولى بالاتباع؛ الذي يهدي أم الذي لا يَهْدِي إلَّا أَنْ يُهْدَى. وجاء في التفسير أنه يعنى به الأصنام. وفي يهدي قراءات، قرأ بعضهم أَمَّنْ لَا يَهْدْي بإسْكان الهاءِ والدال. وهذه القراءة مَرْوِيَة إلا أن اللفظ بها ممتنع، فلست أدري كيف قرئ بها وهي شاذَّة. وقد حكى سيبويه أن مثلها قد يتكلم به. وقرأ أبو عمرو بن العلاء أَمَّنْ لَا يَهَدِّي - بفتح الهاء - وهذا صحيح جَيدٌ بالغ - الأصل يَهْتَدِي فأدْغَم التاء في الدال وطرح فتحتها على الهاء والذين جمعوا بين ساكنين. الأصل عندهم أيضاً يَهْتَدِي، فأدغمت التاء في الدال وتركت الهاء ساكنة، فاجتمع ساكنان. وقرأ عاصم أَمَّنْ لَا يَهِدِّي، وهي في الجودة كفتح الهاء في الجودة. والهاء على هذه القراءة مكسورة لالتقاء السَّاكنين. ورويت عن عاصم أيضاً " يَهِدِّي " بكسر الهاء والياء. أتْبَعَ الكسرةَ الكسرةَ، وهي رديئة لنقل الكسر في الياء.

(37)

وقرئت أَمَّنْ لَا يَهْدِي بدال خفيفة. فهذه خمسة أوجه قد قرئ بها هذَا الحرفُ وقوله: (فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ). (مَا لَكُمْ) كلام تام، كأنَّه قيل لهم: أي شيء لكم في عِبادَةِ الأوثانِ، ثم قيل لهم: (كيْفَ تحكُمُون) أي: على أي حال تحكمون، فموضع كيف نصب بـ (تحكُمُون). * * * وقوله: (وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37) هذا جواب لقولهم: (ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ). وجَوَابٌ لقولهم افتراه، والمعنى وما كان هذا القرآن لأن يفترى من دون الله ويجوز ُ أن يكون المعنى: وما كان هذا القرآن افتراءً، كما تقول: وما كان هذا الكلام كِذباً. (وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بيْنَ يَدَيْهِ). وفيه وجهان أحدهما أن يكون تصديق الشيء الذي القرآن بين يديه، أي الذي قبل سماعكم القرآن، أي تصديقٌ من أنباء الأمَمِ السالفة وأقاصيص أنْبائِهِم. ويجوز أن يكون " ولكن تصديق الذي بين يدي القرآن "، أي تصديق الشيء الذي تقدمَه القرآن أي يدل على البعث والنشور. وقرئ ولكن تَصْدِيقٌ الذي بين يديه، فمن نصب فإن المعنى ولكن كان تصديق الذي بين يديه، ومن رفع فعلى ولكن تصديق الذي هو بين يديه. ومن رفع قال: (وَتَفْصِيلُ الكِتَابِ).

(38)

وقوله: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) المعنى بل أيَقَولُونَ افْتَراهُ هذا تقرير لهم لإقامةِ الحجةِ عليهِمْ: (قُلْ فَأتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ). أي أتقولون النبى اختلقه وأتَى به من ذَاتِ نَفْسِه، فَأتُوا بسُورةٍ من مثله. أي بسورة مثل سُوَرِةٍ منه، وإنما قيل مثله، يراد سُورةٌ منه لأنه إنما التمس من هذا شبه الجنس. (وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ). ممن هو في التكذيب مثلكم، وإنْ خالفكم في أشياء. (إنْ كُنْتُم صَادِقِينَ) في أنَّه اختلقه. * * * (بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39) هذا - واللَّه أعلم - قيل في الذين كذبوا، وهم شَاكوُنَ (وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ). أي لم يكن معهم عِلْمُ تَأويله، وهذا دليلٌ أن علم التأويل ينبغي أن يُنْظَرَ فِيه، ويجوز أن يكون: (وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ) لَمْ يأتِهمْ ما يؤول إليه أمرهم في التكذيبِ به من العقوبة. ودليل هذا القول: (كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ). (كيْفَ) فِي مَوْضِع نَصْبٍ على خبر كان، ولا يجوز أن يعمل فيها. . " انْظَر " لأن ما قبل الاستفهام لا يعمل فيه. * * * وقوله: (وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40) أي منهم من يعلم أنه حق فيصدِّق به، أو يعاند فيظهر الكفر،

(42)

(وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ) أي منهم من يشك ولا يُصَدِّقُ. * * * (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42) أي ظاهرهم ظاهر من يستمع، وهم لِشَدةِ عَدَاوَتهم وبغضهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - وسوء استماعهم بمنزله الصُّم. (وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ). أي ولو كانوا مع ذلك جُهَّالاً. وهذا مثل قول الشَّاعر. أصم عما ساءه سميعُ * * * (وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ (43) أي يُقْبل عليك بالنظر وهو كالأعمى من بُغْضه لك وكراهته لما يراه من آياتك، كما قال اللَّه - جل ثناؤه - (يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ). * * * وقوله: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45) أي قَرُب عندهم ما بين مَوْتهِم وبَعْثِهِم، كما قال - عزَّ وجلَّ: (لَبِثْنَا يَوْمًا أوْ بَعْضَ يَوْمٍ). (يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ). يَعْرفً بعضهُم بعضاً، وفي معرفة بعضِهِم بعضاً وعلم بعضهم بإضلال بعض، التوبيخُ لهم وإثبات الحجةِ عَلَيْهِمَ. * * * (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ). يجوز - واللَّه أعلم - أن يكون هَذا إعْلَاماً من اللَّه - جَلَّ وعَزَ - بعد أن

(46)

بيَّن الدَلالة على أمْرِ البَعْثِ والنُشُورِ، أنَّه من كذبَْ بَعْدِ هذه الآية فقد خَسِرَ وَيجوز أن يكون - والله أعلم - بِتَعارُفِهِمْ بَيْنَهُم يقولون قَدْ خَسر الَّذِينَ كَذَبُوا بلقاء اللَّه. * * * وقوله: (وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46) يقال في التفسير إنه يعنى به وَقْعَةُ بَدْرٍ، وقيل إنَّ اللَّهِ - جلَّ وعزَّ - أعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ينتقم من بعض هذه الأمَّةِ ولم يُعْلِمْه أيكونُ ذلك قبل وفاته أم بَعْدَهَا. والذي تدل عليه الآية أنَّ اللَّه - جَل وعز - أعلمَه أنه إن لم ينتقم منهم في العاجل انتقم منهم في الآجل، لأن قوله: (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ) يدل على ذلك. وقد أعلم كيف المجازاة على الكفر والمعاصي. * * * وقوله: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (47) المعنى - واللَّه أعلم - أنَّ كل رسول شَاهِدٌ على أمَّتِه بإيمانهم وكُفْرهم. كما قال - جلَّ وعزَّ - (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا). وكما قال جلَّ وعزَّ: (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30). ويجوز - واللَّه أعلم - أنَّ اللَّه أعلم أنه لا يعذِّبُ قوماً إلا بعد الإعذَارِ إليهم والإِنذار، أي لم يعذبهم حتى يجيئهم الرسول، كما قال - جلَّ وعزَّ -:

(50)

(وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا). وكَما قال: (رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ). * * * وقوله - جلّ وعزَّ: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) البَيَاتُ كلً ما كان بِليْلٍ، وهو منصوبٌ على الوَقْتِ. وقوله: (مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ). (ما) في موضع رفع من جهتين: إحداهما أن يكون ذَا بمعنى. . " ما الَّذِي " يستعجِلُ منه المُجرِمُونَ، ويجوز أن يكون " مَاذَا " اسماً وَاحِداً، ويكون المعنى: أي شيء يستعجل منه المجْرِمُون والهاء في منه يعود على العذاب نصب، فيكون المعنى: أي شيء يستعجل المجرمون من اللَّه - جلَّ وعزَّ -. والأجْوَدُ أن تكون الهاء تعود على العذاب، لقوله: (أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ). وقوله: (آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ). المعنى: آلْآنَ تْؤمِنُونَ، فَزعمَ القراءُ أن. . " آلأن " إنما هو " أَأَنْ كَذَا وكَذَا "، وأن الألف واللام دخلت على جهة الحكاية. وما كان على جهة الحكاية نحو قولك " قام " إذا سميت به فجعلته مبنياً على الفتح لم تدخله الألف واللام. وَ " الآن " عِند سيبويه مبني على الفتح. نحو " نحن لِنَ الآنَ نصيرُ إليك). فتفتح لأن الألف واللام إنما تدخلُ لِعهْدٍ. و" الآنَ " لم تعهده قبل هذا

(53)

الوقت، فدخلت الألف واللام للِإشارة إلى الوقتِ. والمعني نحن من هذا الوقت نفعل، فلما تضمنت معنى هذا، وجب أنْ تَكُونَ موقوفة ففتحت لالتقاء السَّاكنين، وهما الألف واللام. * * * وقوله: (وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53) أي لستم ممن يُعْجِزُ أن يُجازَى عَلى كفْره. * * * (وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (54) (وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ). هَؤُلاء الدُّعاةُ الرؤَسَاءُ الكفرة، أسَروا ندامتهم. * * * وقوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) (قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ). يعني القرآنَ. * * * وقوله: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58) اللام أصلها الكسر. و (فَبِذَلك) بدل من قوله. . (بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ). وهو يدل على أنه يعني به القرآن أيضاً. * * * وقوله: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59) " مَا " في موضع نصب بـ (أَنْزَلَ)، والمعنى إنكم جعلتم البحائر والسوائب حراماً واللَّه لم يحَرَّمْ ذلك.

(61)

وقوله: (وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61) أيْ أيُّ وَقْتٍ تكونُ في شأن من عبادة اللَّه، وما تلوتَ بهِ - من الشَأنِ مِنْ قُرآنٍ. (إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ) أي إذ تَنْتَشِرُونَ فيه، يُقال: أفاض القوم في الحديث إذَا انْتَشَرُوا فيه وخاضوا. (وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ). يقرأ يَعْزُبُ وَيعْزِبُ - بضم الزاي وكسرها - ومعناه ما يبْعُد، والمثقال: والثقْلُ في معنًى واحدٍ. (وَلَا أصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أكْبَرَ). فالفتح على. . ما يعزب عن ربك من مثقال ذَرة ولا مِثْقَالٍ أصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ ولا أكبرَ، والموضع موضع جر إلا أنه فتح لأنه لا يصرف. ومن رفع فالمعنى: ما يَعْزُبُ عن ربك مثقالُ ذرَّةٍ ولا أصْغَرُ من ذلك ولا أكبَرُ إلا في كِتَابٍ مُبين. والخبر قوله: (إِلَا في كِتَابٍ مُبينٍ). * * * وقَولُه: (لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64) جاء في أكثر التفسير. البشرى، الرؤيا الصالحة يراها المؤمن في منامه. وفي الآخرة، الجنة، وهو - واللَّه أعلم - أن البشرى ما بشرهم الله به، وهو

(65)

قوله: (يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21). وهذا يدل عليه: (لَا تَبْدِيلَ لِكلِمَاتِ اللَّهِ). وقوله (وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65) أي لا يحزنك إيَعادُهمْ وتكذيبهم وتظاهرهم عليكَ. (إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ). إن الغلبة للَّهِ فهو ناصِركَ وناصر دينه. * * * (أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (66) يفعل فيهم ما يشاء. * * * وقوله: (قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (68) (إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا). المعنى ما عندكم من حجة بهذا. * * * (قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (69) هذا وقف التمام، وقوله: (مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70) مَرْفُوع على معنى ذلك متاع في الدنيا، ولو كانت نصباً لجَازَتْ، إِلا أنه لا يقرأ بها لمخالفة المصحف. * * * وقوله: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71) (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ). ويقرأ. . فاجْمَعُوا أمرَكم وشُركاءَكُمْ. زعم القراءُ أنَّ معناه: فاجْمَعُوا أمرَكم وادْعُوا شركاءكم. وهذا غلط لأن الكلام لا فائدة فيه، لأنهم إن كانوا يدعون شركاءهم لأنْ يجمعوا أمرهم،

فالمعنى فأجمعوا أمركم مع شركائكم، كما تقول لو ترِكَتِ الناقَةُ وفصِيلَها لَرَضعها، المعنى لو تُرِكَت مَعَ فصيلها لَرَضعَها. ومن قرأ - " وشُرَكَاؤُكُمْ " جاز أن يعطف به على الواو، لأن المنصوب قد قوَّى الكلام. لو قلت لو تُرِكْتَ اليومَ وزيد لعلمت جاز، ولو قلت لو تركت وزيدٌ لقبح، لأنك لا تعطف على الضمير المرفوع حتى تقوِّيَ المرفوع بلفظ معه. ومن قرأ. . " وشُركاءَكم " في قوله فاجْمَعُو أمركم - بوصل الألف. فنصبه على ضربين: أحدهما العطف على الأمر، المعنى فاجْمَعوا أمركم واجمَعُوا شُركاءكم، ويكون فاجمعوا مع شركائكم أمْرَكُم. (ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً). أي ليكن أمركم ظاهراً منكشفاً، كما قال رؤبة: بَلْ لَو شَهِدتَ النَّاسَ إذ تُكُمُّوا. . . بغمة لو لم تُفَرّجْ غُمُّوا غُمُوا بالمكروه، بِغُمَّةٍ، أي ما يَسْتَرهم، واشتقاق ذَلكَ من الغَمَامَةِ التي تستُر، ويجوز ثم لا يكن أمركم عليكم غُمَّةً أي غَمًّا.

(77)

(ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ). قرئت ثم أفضوا إِلَيَّ، فمن قال: (ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ) فالمعنى: ثم افعلوا ما تريدون. و " ثُمَّ افْضوا " - بالفاء - وهي قريبة المعنى منها. * * * وقوله: (قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) هذا الكلام تقرير لقولهم: (فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ). هذا اللفظ؛ أيْ إنَّ هذا لسحر مبين. ثُمَّ قَررَهُمْ فقال: (أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ). والمفلح الذي يفوز بإرادته أي فكيف يكون هذا سحراً وقد أفلح الذي أتى به، أي فاز، وفلح في حجتَه. * * * (قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (78) أيْ لتَصْرِفَنَا وَتَعْدِلَنَا، يقال لفَتُّه عن الأمر ألفِته لَفْتاً إذا عَدَلْته عنه، ومن هذا قولهم التفت إليه أي عدل وجْهَه إليه. (وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ). الْكِبْرِيَاءُ: الملك، وإنما سُمِّيَ الملك كبرياء لأنه أكبر ما يطلَب من أمر الدنيا. وقوله: (فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) (مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ).

(83)

أي قال موسى: الذي جئتم به السِّحْر، ويقرأ ما جئتم به، آلسِّحرَ. والمعنى أي شىء جئتم به آلسِّحرُ. هوعلى جهة التوبيخ لهم. * * * (فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَإِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83) قيل إنه مكث يدعو الآباء فلم يؤمنوا، وآمنت طائفة من أوْلادِهم. (عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهمْ أنْ يَفْتِنَهُمْ). جاز أن يقال - مَلَئِهِمْ لأن فرعون ذو أصحابٍ يأتمرون له، والملأ من القوم الرُؤَسَاءُ الًذِينَ يُرْجَعُ إلىَ قولهم. * * * وقوله: (فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) أي لا تُهلكنا وتعَذَبْنَا فَيَظُنُ آلُ فرعون إنا إنما عُذَبْنَا لأنَنَا على ضلال. * * * وقوله: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87) (وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً). جاء في التفسير: اجعلوا صلاتكم إلى البيت الحرام، وقيل: اجعلوا بيوتكم قبلة أي صلوا في بيوتكم لتأمنوا من الخوف لأنهم آمنوا على خوف من فرعون. * * * وقوله: (وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88) (رَبَّنَا لِيَضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ). ويقرأ (لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ) أي، إنك آتيت فرعون وملأه زينةً وأمْوَالاً في الحياة الدنيا فأصَارَهم ذلك إلى الضلال كما قال - جلَّ وعزَّ - (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا) أي فالتَقَطُوهُ وآلَ أمرُه أنْ صار لهم عَدُوًّا وَحَزَنًا، لا أنهم قصدوا إلى أتى يكون لهم عدواً وحزناً. (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ).

(89)

جاء في التفسير أي اجعل سُكَرَهُمْ حجارة. وتأويل تطميس الشيء إذهابُه عن صورتِه والانتفاع به على الحال الأولى التي كان عليها. (وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ). أي اطبع على قلوبهم. (فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ). دعاءٌ أيضاً عليهم. ويجوز - واللَّه أعلم - ما قاله محمد بن يزيد. ذكر أن قوله: (فَلَا يُومِنُوا) عطف على قوله: (لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ) أي ربنا إنك آتيتهم ليضلوا فلا يؤمنوا. * * * * وقوله: (قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89) يروى في التفسير أن موسى دعا، وأن هارون أمَّن عَلَى دُعائِهِ. وفي الآية دليل أنهما دَعَوَا جَميعاً لأن قوله: (قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا) يدل أن الدعْوةَ منهما جميعاً، والمُؤَمِّنُ عِلى دُعاء الداعي دَاعٍ أيْضاً لأن قوله " آمين " تأويله استجب فهو سائل كسؤال الداعي. وقوله: (وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ). موضع (تَتَّبِعَانِّ) جزم، إلا أن النون الشديدةَ دخلت للنهي مؤكِّدةً. وكُسِرتْ لسكونها وسُكون النون التي قبلها، واختير لها الكسر لأنها بعد الألف، فشبهت بنون الاثنين. (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90)

(92)

جعلهُ الله يَبَساً حتى جَاوَزُوه. * * * وقوله: (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92) (نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ) نلقيك عُرياناً وقيل ننجيك ببدنك نلقيك على نَجْوةٍ من الأرض، وإنما كان ذلك آيةً لأنه كان يَدَّعِي أنَّه إلهٌ وكان يعبُده قومُه، فبيَّنَ اللَّه أمْرَه وأنه عَبْدٌ. وفيه من الآية أنه غرِق القومُ وأُخْرِجَ هو مِنْ بيْنهم فكان في ذلك آية. * * * وقوله: (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94) هذه آية قد كثر سُؤَالُ الناسِ عنها وخوضُهم فيها جِدَّا، وفي السورة ما يدل على بيانها وكشف حقيقتها: والمعنى أن اللَّه - جلَّ وعزَّ - خاطب النبي - صلى الله عليه وسلم - وذلك الخطاب شامل للخلق فالمعنى: إن كنتم في شك فاسألوا. والدليل على ذلك قوله في آخر السورة: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ). فأعلم اللَّه - جلَّ وعزَّ - أن نبيه - صلى الله عليه وسلم - ليس في شَكٍّ، وأمرُه أن يتْلُو عليهم ذَلِكَ. ويروى عن الحسن أنه قال: لم يَسألْ ولم يَشُد، فهذا بَيِّن جداً. والدليل على أن المخاطبة للنبي مخاطبةٌ للناس قوله: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ). فقال (طَلَّقْتُمُ) ولفظ أول الخَطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -

(98)

وحده فهذا أحسن الأقوال وفيها قولان آخران. (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ)، كما تقول للرجل: إن كنت أبي فتعطف عليَّ، أي إن كنت أبي فواجِبٌ أن تتعطف على، ليس أنه شك في أنه أبوه. وفيها وجْهٌ ثَالِثٌ: أن تكون " أنْ " في معنى " مَا " فَيكون المعنى ما كنت في شك مِما أنْزَلنا إليْكَ، فاسأل الذين يقرأون، أي لسنا نأمرك لأنك شاك. ولكن لتزداد، كما قال إبراهيم: (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) فالزيادة في التثبيت ليست مما يبطل صحة القَصد (1). * * * (فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98) فهلَّا كانت قرية. قال الشاعر. تَعُّدُونَ عَقْرَ النِّيبِ أَفْضَلَ مَجْدِكُم. . . بَنِي ضَوْطَرَى لَوْلا الكَمِيَّ المُقَنَّعَا

_ (1) قال الإمام فخر الدين الرَّازي ما نصُّه: اختلف المفسرون: في أن المخاطب بهذا الخطاب من هو؟ فقيل النبي عليه الصلاة والسلام. وقيل غيره، أما من قال بالأول: فاختلفوا على وجوه. الوجه الأول: أن الخطاب مع النبي عليه الصلاة والسلام في الظاهر، والمراد غيره كقوله تعالى: {يا أيها النبى اتق الله وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين} [الأحزاب: 1] وكقوله: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] وكقوله: {ياعيسى ابن مَرْيَمَ أَءنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ} [المائدة: 116] ومن الأمثلة المشهورة: إياك أعني واسمعي يا جاره. والذي يدل على صحة ما ذكرناه وجوه: الأول: قوله تعالى في آخر السورة {يا أيها الناس إِن كُنتُمْ فِى شَكّ مّن دِينِى} [يونس: 104] فبين أن المذكور في أول الآية على سبيل الرمز، هم المذكورون في هذه الآية على سبيل التصريح. الثاني: أن الرسول لو كان شاكاً في نبوة نفسه لكان شك غيره في نبوته أولى وهذا يوجب سقوط الشريعة بالكلية. والثالث: أن بتقدير أن يكون شاكاً في نبوة نفسه، فكيف يزول ذلك الشك بأخبار أهل الكتاب عن نبوته مع أنهم في الأكثر كفار، وإن حصل فيهم من كان مؤمناً إلا أن قوله ليس بحجة لا سيما وقد تقرر أن ما في أيديهم من التوراة والإنجيل، فالكل مصحف محرف، فثبت أن الحق هو أن الخطاب، وإن كان في الظاهر مع الرسول صلى الله عليه وسلم إلا أن المراد هو الأمة، ومثل هذا معتاد، فإن السلطان الكبير إذا كان له أمير، وكان تحت راية ذلك الأمير جمع، فإذا أراد أن يأمر الرعية بأمر مخصوص، فإنه لا يوجه خطابه عليهم، بل يوجه ذلك الخطاب على ذلك الأمير الذي جعله أميراً عليهم، ليكون ذلك أقوى تأثيراً في قلوبهم. الوجه الثاني: أنه تعالى علم أن الرسول لم يشك في ذلك، إلا أن المقصود أنه متى سمع هذا الكلام، فإنه يصرح ويقول: «يا رب لا أشك ولا أطلب الحجة من قول أهل الكتاب بل يكفيني ما أنزلته علي من الدلائل الظاهرة» ونظيره قوله تعالى للملائكة: {أَهَؤُلاَء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ} [سبأ: 40] والمقصود أن يصرحوا بالجواب الحق ويقولوا: {سبحانك أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن} [سبأ: 41] وكما قال لعيسى عليه السلام: {أأنت قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذونى وَأُمّىَ إلهين مِن دُونِ الله} [المائدة: 116] والمقصود منه أن يصرح عيسى عليه السلام بالبراءة عن ذلك فكذا ههنا. الوجه الثالث: هو أن محمداً عليه الصلاة والسلام كان من البشر، وكان حصول الخواطر المشوشة والأفكار المضطربة في قلبه من الجائزات، وتلك الخواطر لا تندفع إلا بإيراد الدلائل وتقرير البينات، فهو تعالى أنزل هذا النوع من التقريرات حتى أن بسببها تزول عن خاطره تلك الوساوس، ونظيره قوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يوحى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ} [هود: 12] وأقول تمام التقرير في هذا الباب إن قوله: {فَإِن كُنتَ فِي شَكّ} فافعل كذا وكذا قضية شرطية والقضية الشرطية لا إشعار فيها ألبتة بأن الشرط وقع أو لم يقع. ولا بأن الجزاء وقع أو لم يقع، بل ليس فيها إلا بيان أن ماهية ذلك الشرط مستلزمة لماهية ذلك الجزاء فقط، والدليل عليه أنك إذا قلت إن كانت الخمسة زوجاً كانت منقسمة بمتساويين، فهو كلام حق، لأن معناه أن كون الخمسة زوجاً يستلزم كونها منقسمة بمتساويين، ثم لا يدل هذا الكلام على أن الخمسة زوج ولا على أنها منقسمة بمتساويين فكذا ههنا هذه الآية، تدل على أنه لو حصل هذا الشك لكان الواجب فيه هو فعل كذا وكذا، فأما إن هذا الشك وقع أو لم يقع، فليس في الآية دلالة عليه، والفائدة في إنزال هذه الآية على الرسول أن تكثير الدلائل وتقويتها مما يزيد في قوة اليقين وطمأنينة النفس وسكون الصدر، ولهذا السبب أكثر الله في كتابه من تقرير دلائل التوحيد والنبوة. والوجه الرابع: في تقرير هذا المعنى أن تقول: المقصود من ذكر هذا الكلام استمالة قلوب الكفار وتقريبهم من قبول الإيمان، وذلك لأنهم طالبوه مرة بعد أخرى، بما يدل على صحة نبوته وكأنهم استحيوا من تلك المعاودات والمطالبات، وذلك الاستحياء صار مانعاً لهم عن قبول الإيمان فقال تعالى: {فَإِن كُنتَ فِي شَكّ} من نبوتك فتمسك بالدلائل القلائل، يعني أولى الناس بأن لا يشك في نبوته هو نفسه، ثم مع هذا إن طلب هو من نفسه دليلاً على نبوة نفسه بعد ما سبق من الدلائل الباهرة والبينات القاهرة فإنه ليس فيه عيب ولا يحصل بسببه نقصان، فإذا لم يستقبح منه ذلك في حق نفسه فلأن لا يستقبح من غيره طلب الدلائل كان أولى، فثبت أن المقصود بهذا الكلام استمالة القوم وإزالة الحياء عنهم في تكثير المناظرات. الوجه الخامس: أن يكون التقدير أنك لست شاكاً ألبتة ولو كنت شاكاً لكان لك طرق كثيرة في إزالة ذلك الشك كقوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] والمعنى أنه لو فرض ذلك الممتنع واقعاً، لزم منه المحال الفلاني فكذا ههنا. ولو فرضنا وقوع هذا الشك فارجع إلى التوراة والإنجيل لتعرف بهما أن هذا الشك زائل وهذه الشبهة باطلة. الوجه السادس: قال الزَّجَّاج: إن الله خاطب الرسول في قوله: {فَإِن كُنتَ فِي شَكّ} وهو شامل للخلق وهو كقوله: {يأيُّهَا النبى إِذَا طَلَّقْتُمُ النساء} [الطلاق: 1] قال: وهذا أحسن الأقاويل، قال القاضي: هذا بعيد لأنه متى كان الرسول داخلاً تحت هذا الخطاب فقد عاد السؤال، سواء أريد معه غيره أو لم يرد وإن جاز أن يراد هو مع غيره، فما الذي يمنع أن يراد بانفراده كما يقتضيه الظاهر، ثم قال: ومثل هذا التأويل يدل على قلة التحصيل. الوجه السابع: هو أن لفظ {إن} في قوله: {إِن كُنتَ فِى شَكّ} للنفي أي ما كنت في شك قبل يعني لا نأمرك بالسؤال لأنك شاك لكن لتزداد يقيناً كما ازداد إبراهيم عليه السلام بمعاينة إحياء الموتى يقيناً. وأما الوجه الثاني: وهو أن يقال هذا الخطاب ليس مع الرسول فتقريره أن الناس في زمانه كانوا فرقاً ثلاثة، المصدقون به والمكذبون له والمتوقفون في أمره الشاكون فيه، فخاطبهم الله تعالى بهذا الخطاب فقال: إن كنت أيها الإنسان في شك مما أنزلنا إليك من الهدى على لسان محمد فاسأل أهل الكتاب ليدلوك على صحة نبوته، وإنما وحد الله تعالى ذلك وهو يريد الجمع، كما في قوله: {يا أيها الإنسان مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ الكريم * الذى خَلَقَكَ} [الانفطار: 6، 7] و {يا أَيُّهَا الإنسان إِنَّكَ كَادِحٌ} [الانشقاق: 6] وقوله: {فَإِذَا مَسَّ الإنسان ضُرٌّ} [الزمر: 49] ولم يرد في جميع هذه الآيات إنساناً بعينه، بل المراد هو الجماعة فكذا ههنا ولما ذكر الله تعالى لهم ما يزيل ذلك الشك عنهم حذرهم من أن يلحقوا بالقسم الثاني وهم المكذبون فقال: {وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الذين كَذَّبُواْ بآيات الله فَتَكُونَ مِنَ الخاسرين}. اهـ {مفاتيح الغيب حـ 17 صـ 128 - 130}

أي فهلَّا تَعُدُّون الكميَّ، والكمي الداخل في السلاح. والمعنى: فهلَّا كان أهل قرية آمنوا. وقوله (إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ). استثناء ليس من الأول، كأنه قال لكن قوم يونس لما آمنوا. وقوله: (فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا). معناه هلَّا كانت قرية آمنت في وقت ينفعهم الِإيمان، وجرى هذا بعقب قول فرعون لما أدركه الغرق: (آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ). فأعلم اللَّه - جلَّ وعزَّ - أن الِإيمان لا ينفع عند وقوع العذاب ولا عند حُضُورِ الموت الذي لَا يُشَك فيه. قال اللَّه - جلَّ وعزَّ -: (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ). وقوم يونس - واللَّه أعلم - لم يقع بهم العذاب، إنما رأوا الآية التي تدل على العذاب، فلما آمنوا كُشِفَتْ عنهم. ومثل ذلك العليل الذي يتوب في مَرَضِه وهو يرجو في مرضه العافيةَ ولا يخافُ الموتَ فتوْبتُه صحيحة أما الذي يعاين فلا توبة له، قال اللَّه - عزَّ وجلَّ في قِصتِه: (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ). فأمَا النصب في قوله (إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ) فمثله من الشعر قول النابغة:

(100)

وَقَفْتُ فيها أُصَيْلالاً أسائلُها. . . عَيَّتْ جواباً وما بالرَّبْعِ مِنْ أحدِ إلاَّ الأَوارِيَّ لأْياً ما أُبَيِّنُها. . . والنُّؤْيُ كالحَوضِ بالمَظلُومة الجَلَدِ ويجوز الرفع على أن يكون على معنى فَهَلَّا كانت قرية آمنت غير قومِ يونس، فيكون. . (إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ) صفة. ويجوز أن يكون بدلاً من الأول، لأن معنى قوم يونس محمول على معنى هَلَّا كان قوْمُ قريةٍ، أو قوم نبي آمنوا إلا قوم يونس. ولا أعلم أحداً قرأ بالرفع. وفي الرفع وجه آخر وهو البدل، وإن لم يكن الثاني من جنس الأول، كما قال الشاعر. وبلدة ليس بها أنيس. . . إلا اليعافير وإلا العيس * * * وقوله: (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100)

(103)

معناها وما كان لنفس الوصلة إلى الِإيمان إلا بمَا أعْلَمها اللَّهُ منه. ويكون أيضاً إلا بتوفيق اللَّه، وهو إذنه. (وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ). والرجس العذاب، ويقال هو الرجزُ. * * * وقوله: (ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103) ونُنْجِى، أي إذا أهلكت قرية أنجى الله الأنبياء، والمؤمنين مما يَنْزِل بأهْلها. فإن قال قائل: فهلَّا كانت قرية آمَنَت، ألم يؤمن أحَدٌ من أهل القرى؟ فالمعنى أن أهل القرى ذكر الله في جمهورهم الكفر، فقال: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96). فأما من قرأ. . " نجِّي المومِنِينَ " فلا وجه له. وقد نجِّي النجاء المؤمنين. . وهذا روي في القراءة عن عاصم في سورة الأنبياء ولا وجْهَ له. .

سورة هود

سورة هود بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله: (الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) كتاب مرفوع بإضمارِ هذا كتابٌ. وقال بعضهم: (كتابٌ) خبرُ " الر " وهَذَا غلض، لأن قوله: (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ) ليس هو (الر) وحدها. وفي التفسير (أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ) بالأمر والنهي والحلال والحرام ثم فصلت بالوعد والوعيد. والمعنى - واللَّه أعلم - أنَّ آيَاتِه أحْكِمتْ وَفُصِّلَت بجميع ما يحتاج إليه من الدلالة على التوحيد، وإثبات نبوة الأنبياء - عليهم السلام - وإقَامَةِ الشرائع. والدليل على ذلك قوله: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) وقوله: (وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ). ويدل على هذا قوله: (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ). المعنى (أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ).

(3)

أي من عند حكيم خبير، لِـ أنْ لا تعبدوا إلا اللَّه. وموضع أن نصب على كل حال. (وقوله: (إنني) مقول قول مقَدرٍ، أي قل يا محمد لهم إنَّنِي لكم منه. أي من جهة اللَّه " نَذِيرٌ " أي مُخَوِّفٌ من عَذَابِه لمنْ كفرَ. و" بَشِير " بالجنة لمن آمَنَ. وقوله: (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) أي وأمركم بالاستغفار. (ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا). أي يُبْقِيكمْ ولا يَسْتَأصِلُكمْ بالعذاب كما استأصلَ أهل القرى الذين كفروا. (وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ). أي من كان ذا فَضْلٍ في دينه فَضَله اللَّه بالثواب، وفَضله بالمنزلة (في الدنيا) بالدين كما فَضلَ أصْحَاب نبيه (عليه السلام). * * * وقوله: (أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5) (أَلَا) معناها التنبيه ولا حَظَّ لها في الإعراب، وما بَعْدَها مبتدأ. ومعنى (يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا)، أي يُسِرون عداوة النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقيل إن طائفة من المشركين قالت: إذَا أغْلَقْنَا أبوَابَنَا وأرْخَيْنَا سُتُورَنا. واسْتَغْشَيْنَا ثِيَابَنَا، وثَنَيْنَا صُدُورَنَا على عداوةِ محمد - صلى الله عليه وسلم - كيف يعلم بِنَا، فأعْلَمَ - عز وجل -

(6)

بما كتموه فقال جلّ ثناؤه: (أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ). وقرِئَتْ " أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنَوْني صدورُهم ". قرأها الأعمش ورُوِيتْ عن ابن عباس " تَثْنَوْني " صدورُهم. عَلَى مِثال تَفْعَوْعِلُ ومعناها المبالغة في الشيء، ومثل ذلك قد احْلَوْلَى الشيء إذَا بلغ الغايةَ في الحلاوة. * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6) (وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا). قِيلَ (مُسْتَقَرَّهَا) مَأواها على ظهر الأرض، (وَمُسْتَوْدَعَهَا) ما تصير إليه، وقيل أيضاً: (مُسْتَقَرَّهَا) في الأصْلاب (وَمُسْتَوْدَعَهَا) من الأرحام. وقوله: (كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ). أى ذلك ثابت من علم اللَّه. فجائزٌ أن يكون في كتاب، وكذلك قوله - جلَّ وعز -: (إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا). * * * وقوله: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) الله قادر على أن يخلقَها في لحظة، لأنه على كل شيء قدير، وإذا خَلَقَهمَا وقَدَّرَهمَا هذا القدْر العَظِيم - والسَّمَاء ليسَ بينها وبَيْنَ الأرْضِ عَمَدٌ يُرَى - في سِتَة أَيَّامٍ علم أنَّ مَنْ كانَتْ قدرَته هذه القدرة لم يُعْجزْه شَيءٌ. قال اللَّه - جلَّ وعزَّ -: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى). وكان المشركون يُكذِّبُونَ بأنَّه يَبعَث الموتَى، ويُقِرُونَ أنه خَالِق السماوات والأرض.

(8)

وقوله: (وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الماءِ). هذا يدل على أن العرشَ والماءَ كانا قبلَ السَّمَاوَاتِ والأرضِ. وقوله: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا). معناه ليختبركم الاختبار الذي يجازيكم عليه، وهو قد علم قبل ذلك أيُّهم أحْسنُ عملاً، إلا أنَّه يجازيهم على أعمالهم لَا عَلى عِلْمِه فيهم. * * * (وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ). ويقرأ إلا ساحِر مبين، والسحر باطل عندهم، فكأنَّهم قالوا: إنْ هَذَا إلا بَاطِل بَيِّنٌ. وأعلمهم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أنَّ القدرةَ عَلَى خَلْقِ السَّمَاواتِ والأرْضِ تدل على بَعْث الموْتى. وأهلُ الكفر مختلفون في البعث فالمشركون يقولون أنهم لا يُبْعَثُونَ ألبتَّةَ ولا يرْجعُونَ بعد موتهم، واليهود والنصارى يَزْعُمُ أن لا أكْلَ ولا شُربَ ولَا غَشْياً للنساءِ في الجنة وكل كافر بالبعث على جهته. * * * (وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (8) معناه إلى أجل وحين معلوم، كما قال الله تعالى. . (وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ). أي بعد حين. وقوله: (أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا). (يَوْمَ يَأْتِيهِمْ) منصوبٌ بمصروف، المعنى ليس العذاب مصروفاً عَنْهُمْ يَوْمَ يأتيهمْ.

(9)

(وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئونَ). كما تقول أحاط بفلان عَمَلُه، وأهلَكَة كَسْبُه، أي أهلكه جزاءُ كسبِه وعاقبتُه. * * * وقوله - جلَّ وعزَّ -: (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) يعني الكافر، والرحْمَة الرزق، ههنا، والإِنسان اسم للجنس في معنى الناس. * * * وقوله: (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11) استثناء ليس من الأول، المعنى لكن الذين صبروا وعملوا الصالحات (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ). * * * وقوله: (فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12) يُرْوَى أن المشركين قالوا للنبِى - صلى الله عليه وسلم - لَوْ تَرَكْتَ عيْبَنَا وسَبَّ آلِهتِنَا لجالسناك، ومعنى (أن يقولوا لَوْلَا أنْزِلَ عليه كنْزٌ) معناه كراهةَ أن يَقولُوا. (إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ). أي إنما عليك أن تنْذِرَهُم وتَأتِيهُمُ من الآيات بما يُوحَى إليك وليس عليك أن تأتيهم بشهواتهم واقتراحهم الآيات. ثم أعلمهم وجه الاحتجاج عليهم فقال جلَّ وعزَّ. (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) أي، أيقولون افتراه.

(14)

(قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ). أي مثل سورة منه، أيّ سورة منها. (وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ). أي اطلبوا أن يعاونكم على ذلك كل من قدرْتم عَليه، ورجَوْتمْ مُظَاهَرَتَه ومعاوَنَتَه. * * * (فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14) ومعنى (أنْزِلَ بِعلْمِ اللَّهِ)، أي أنْزِلَ واللَّه عَالِم بإنْزَاله، وعالم أنه حق من عنده. ويجوز أن يكون - واللَّه أعلم - (بِعِلْمِ اللَّهِ) أي بما أنبأَ الله فِيهِ من غَيْب وَدَلَّ على ما سَيكون وما سلف مما لم يَقْرأ بِه النبي - صلى الله عليه وسلم - كتاباً وهذا دليل على أنه من عند اللَّه. * * * وقوله تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أي نجازيهم على أعمالهم في الدُّنْيَا. فأمَّا كان في باب حروفِ الجزاء ففيها قولان: قال أبو العباس محمد بنُ يزيد: جائزٌ أن تكون لِقُوَّتهَا عَلى معنى المضِيِّ عبارةً عن كل فعل مَاضٍ، فهذا هو قوتها، وكذلك تتأوَلُ قوله (إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ).

(17)

وحقيقها - واللَّه أعلم - من تعلم منه هذا، فهذا على باب سائر الأفعال. إلا أنَّ معنى (كان) إخبار عن الحالِ فيما مضى من الدهر، فإذا قلت سيكون عالماً فقد أنْبأتَ أن حاله سَتَقع فيما يستقبل، فإنما معنى كان ويكون العبارة عن الأفعال والأحوال. * * * وقوله - جلَّ وعزَّ: (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (17) قيل في التفسير إنه يعنيْ محمداَ - صلى الله عليه وسلم - ويتلوه شاهد منه، أي شاهد مِنْ رَبِّه، والشاهِد جبْريل، وقيل يَتْلوه البرهان، والذي جرى ذكر البَيِّنَة، لأن البينة والبرهان بمعنىً واحدٍ. وقيل (وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ) يعني لسان النبي - صلى الله عليه وسلم - أي أفمن كان على بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّه، وكان معه من الفضل ما يبين تلك البينة كان هو وغيره سواء، وترك ذكر المضادِّ لَه لأن فيما بعده دليلاً - عليه. * * * وقوله: (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ). ويجوز أن يكون - واللَّه أعلم - أفمن كان على بينة من ربه يعني به النبي - صلى الله عليه وسلم - وسائر المؤمنين. ويكون معنى. . (وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ) يتلوه ويتبعه. أي يتبع البيانَ شاهدٌ من ذَلِكَ البيانِ، ويكون الدليل على هذا القول: (أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) ويكون دليله أيضاً: (الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ)، فاتباع الشاهد بعد البيان كاتباع التفصيل بعد الأحْكَامِ. * * * وقوله: (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً).

(18)

أي وكان من قبل هذا كتابُ موسى دَليلاً على أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويكون كتاب موسى على العطف على: قوله (وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى) أي وكان يتلوه كتاب موسى، لأن النبي بَشَر به موسى وعيسى في التورَاةِ والإِنجيلِ، قال اللَّه - جلَّ وعزَّْ -: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ). ونصب (إمَاماً) على الحال، لأن كِتَابَ موسى معرفة. (فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ). يجوز كسر الميم في مِرْيةٍ وضمها، وقد قُرئ بهما جَميعاً في مِرْيَةَ وفرْية. ويجوز نصب (كتاب موسى)، ويكون المعنى: ويتلوه شاهدٌ منه وهو الذي كان يتْلِو كتابَ موسى. والأجْودُ الرفعُ، والقِراءةُ بالرْفع لا غير. * * * وقوله: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الأشهاد هم الأنبياء والمؤمنون، وقال أولئك يعْرضون على رَبِّهم. والخلقُ كلهم يُعْرضون على ربهم، كما قال جلَّ ثناؤه (إليْنَا مَرْجِعُهُمْ) (إلَيْنَا يُرْجَعُونَ) فذكر عرضهم على ربهم توكيداً لحالهم في الانتقام منهم. * * * وقوله: (أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ). لعنة الله إبعاده من يلعنه من عفوه ورحمته. * * * (الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19)

(20)

أي: يَصُدُّونَعن طريق الِإيمان بالنبي - صلى الله عليه وسلم - يريدون رَدَّ السبيل التي هي الِإيمان والاستواء إلى الكُفْرِ والاعوجاجِ عن القصد. (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ). ذكرت هم ثانية على جهة التوكيد لثشأنِهِمْ في الكًفْر. * * * وقوله: (أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20) أي اللَّه لا يعجزه انتقامٌ من دَارِ الدنيا، ولا وَليٌّ يمنع من انتقام الله لمن أراد به النقمة، ثم استأنف فقال: (يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ). فوصف مضاعفة العذاب على قَدْر ما وَصَفَ من عِظَم كًفْرهم بنبيه - صلى الله عليه وسلم - وبالبعث والنشور. * * * (مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ). أي مِنْ شدةِ كًفْرِهم وعَداوَتهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - لا يستطيعون أن يسمعوا ما يقول. ثم بيّنَ - جلَّ وعزَّ - ضَرَرَ ذلك عليهم فقال: (أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21). * * * وقوله: (لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22) قال المفسرون: المعنى جزاء حقاً، أنهم في الآخرة هم الأخسرون وزعم سيبويه أن جرم بمعنى حَق. قال الشاعر.

(24)

ولقد طَعَنْت أبا عيينة طعنة. . . جَرمَت فزَارَة بعدها أن يَغضبُوا معناه أحقَّت فزَارةَ الطعنةُ بالغضب. ومعنى " لا " نفي لما ظنُّوا أنَّه ينفعُهم، كأن المعنى لا ينفعهم ذلك جرَمَ أَنَّهم في الآخِرةِ هُمُ الَأخْسرون، أي كَسَبَ ذلكَ الفعلُ لهم الخسرانَ ثم ضرب اللَّهُ مثلاً للمؤمنين والكافرين فقال: (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (24) ومثل فريق الكافرين كالأعمى والأصم لأنهم في عداوتهم وتركهم التفهم كمن لا يسمع ولا يبصر. * * * وقوله: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) كسر إنَّ في القراءة على معنى قال لهم إنِّي لكم نذير مُبين، ويجوز أَنِّي لكم نذير مبينٌ على معنى: لقد أرسلنا نوحاً إلى قومه بالِإنذار أنْ لاَ تَعْبُدوا إِلَّا اللَّه إِنِّي أنذركم لتُوَحدوا اللَّهَ، وأن تَتْركوا عبادَة غيره. (أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) يجوز في غير القراءة: إني أخاف عليكم عذاب يومٍ ألِيماً، لأن الأليم صفة للعذاب، وإنما وصف اليوم بالألم، لأن الألمَ فيه يقع، والمعنى عذاب يومٍ مُؤلمٍ، أي مُوجِعٍ. (فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27)

(28)

(الملأ) رُوسَاء القَوْمِ وكبراؤهم الَّذِينَ هم مُلاءٌ بالرأي وبما يحتاج إليه منهم. أي فأجابوه بهذا الجوابِ وَالْقوْلِ. (مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا). أي ما نراك إلا إنساناً مثلنا، (وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا). أي لم يتَبِعْكَ الملأُ مِنا، وإنما اتبعك أخِسَّاؤُنا. وقوله: (بَادِيَ الرَّأْيِ). بغبر همزٍ في بادي، وأبو عَمْروٍ يهْمِزُ بَادِئَ الرأي، أي اتبعوا اتباعاً في ظاهر ما يرى، هذا فيمن لم يهْمزْ، ويكون التفسير على نوعين في هذا أحَدهمَا أن يكون اتبعُوكَ في الظاهر، وبَاطِنُهم عَلَى خلاف ذلِك. ويجوز أن يكونَ اتبعوك في ظاهر الرأي ولم يتَدَبًرُوا مَا قُلتَ ولم يفكًرُوا فيه وقراءة أبي عمرو على هذا التفسير الثاني. أي: اتبعوكَ ابتداء الرأي، أي حين ابتدأوا ينظرون وإذا فكروا لم يتبعوك. فأما نصب بَاديَ الرأيِ فعلى: اتبعوك في ظاهر الرأي، وعلى ظاهر الرأي، كأنَّه قال: الاتباع الذي لم يفكروا فيه. ومن قال باديَ الرأي فعلى ذلك نَصَبَه. * * * (قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28) (فَعَمِيَتْ) كذا أكثر القراءة - بفتح العين والتخفيف - وقد قرِئَتْ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ - بضم العَيْن وتَشْدِيد الميم - هذا ما أجابهم به في أن قالوا: إن الذين اتبعُوكَ إنما اتبعوك غير

(29)

محقِّقِين. فأعلمهم أنهم مُحَققونَ بهذا القول لأنه إذا كان على بَينةٍ، ممن آمن به فعالِمٌ بَصِير مَفْضُول له، وأن من لم يفهم البينَةَ فقد عَمِيَ عليه الصواب. وقوله: (فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ). أي فعَمِيتِ البينَةُ عليكم (أَنُلْزِمُكُمُوهَا). القراءة بضم الميم، ويجوز إسْكانُها عَلَى بُعْدٍ لِكثْرةِ الحركات وثقَل الضَمَّةِ بعدَ الكسرة. وسيبَوَيه والخليل لا يُجيزَانِ إسكانَ حرف الإعراب إلا في اضطرارٍ. فأما ما رُوِيَ عن أبي عَمْرو مِن الِإسْكانِ فلم يُضبْط ذلك عنه، ورواه عنه سيبويه أنه كان يخفف الحركات ويختلسها، وهذا هو الوجه. * * * وقوله: (وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29) (وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ). وَإذَا لَاقُوا ربًهُمْ جَازَى مَنْ ظَلَمهُمْ وطردَهُم، بجزائِه من العَذَاب. * * * وقوله: (وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31) (وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا). (تَزْدَرِي) تستسفِل وتستخس. يقال: ززيْت على الرجُل إذَا عِبْتُ عَلَيْه وخسَّسْتَ فِعْلَه. وأزْريْتُ إذَا قَصَّرتُ به وتَزْدَرِي أصله تزتَرِي بالتاء، إلا أن هذه التاءَ تبدل بعد الزَّاي دَالًا، لأن التاء من حروف الهمس، وحروف الهمس خفيَّة فالتاء بعد الزاي تخفى، فأُبدِلَتْ منها الدال لِجَهْرِهَا، وكذلك يفتعل من الزينة يَزْدَان، تقول: أنت تزدان يا هذا. وقوله: (وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا).

(32)

لأنهم قالوا: (اتَبَعَكَ أرَاذِلُنَا). وقوله: (اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ). أي إن كنتم تزعمون أنهم إنما اتبعُوني في ظَاهِر الرَّأْي والذي أدعو إليه توحيد اللَّه، فإذا رأيت من يُوَحد الله جل ثناؤه عملتُ على ظاهره، واللَّه أعلم بما في نفْسِه، لا يعلم الغيب إلَّا اللَّه. * * * وقوله: (قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) (فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا) ويقرأ فأكْثرتَ جَدَلنا، والجَدَل والجِدال المبالَغة في الخصُومةِ والمنافَرة، وهو مأخوذٌ مِنَ الجَدْل وهو لتعدة الفتْل، والصَّقْر يقال له أَجْدَل لأنَّه من أشَدِّ الطير. * * * وقوله: (وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) (يُغْوِيَكُمْ) يُضِلكم ويهلككم. * * * وقوله: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35) معناه بل أيقولون افتراه. (قل إن افتَريتُهُ فَعَلَى إِجْرَامِي). من قولك أجرم الرجل إجرَاماً، ويقال جَرمَ في معنى أجْرَمَ، وأكثر ما تستعمل أجرم فِي كَسْبِ الِإثم خاصَّةً يقال رجل مجْرِم وجَارم. ويجوز فَعَليَّ أَجْرامي على جمع جُرْم وهو على نحو قوله: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ) وأَسْرَارَهُمْ إلا أن القراءة بكسر الألف. وإجرامي على المصدَرِ. * * * (وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) فلذلك - واللَّه أعلم - استجارَ نوح بقوله: (لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27).

(37)

أعْلِمَ أنَّهم لَا يَلدُون إلاً الكَفَرةَ. بقوله تعالى: (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ). مَعْناهُ لا تحزن ولا تَسْتَكِنْ. * * * وقوله: (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) الفلْك السفينة، والفَلَك يكون واحداً ويكونُ جمعاً كما أنهم قالوا أَسَدٌ وأُسْد، قالوا في الواحد فَلَك وفي الجمع فلْك، لأن فَعْلا وفَعَلا جمعها واحدٍ ويأتيان بمعنى كثيراً، يقال العُجْم والعَجَم، والعُرْب والعَرَبِ والفُلكْ والفَلَكَ. والفَلْكة يُقَال لكلّ شيءٍ مسْتَديرٍ أو في استدارة. ومعنى: (بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا). أي بإبْصَارنا إليْكَ وحفظنا لك، وبما أوحيْنا إليْك (وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ). المعنى: لا تخاطبني في إمهال الذين كفروا إنهم مغرقون. ثم أخبر اللَّه - جَلً ثناؤه - بعَمله الفلك فقال: (وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) يقال في التفسير إنهم كانوا يَقولون: هذا الذي يزعم أنه نبي مُرْسَل صار نجَّاراً، فقال: (إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ). أي نحن نستجهِلكُمْ كما تستجهلوننا، ثم أعْلَمَهمْ بِمَا يَكون عاقبة أمْرِهم فقال:

(39)

(فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39) أي فسوف تعْلَمون من هو أحق بالخْري، ومن هو أحْمدُ عاقِبةً. * * * (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40) أعلم اللَّه - جلَّ وعزَّ - نوحاً أنْ وَقْتَ إهلاكهم فَوْرُ التَّنُور. وقيل في التَّنُور أقْوالٌ. قيل إن التَّنُورَ وجه الأرْض. ويقال إن الماء فارَ من ناحيةِ مَسْجد الكُوفَةِ ويقال إن الماء فار من تَنُورِ الخابزَةِ، وقيل التَنُور تنوير الصبْح. والجملة أن الماء فار من الأرض وجاءَ من السَّماء قال اللَّه - جلَّ وعزّ - (فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12). فالماء فَوْرُه من تَنُّورٍ أو من ناحية المسجد أو من وجه الأرض، أو في وقت الصبح لا يمنع أن يكون ذلك العلامةَ لِإهلاكِ القوم. (قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ). أي: من كل شيء، والزوج في كلام العرب واحدٌ ويجوز أن يكون معه واحد، والاثنان يقال لهما زَوْجَانِ يقول الرجل: على زوجان من الخفاف. وتقول: عِنْدي زوجان من الطير، وإنما تريد ذكر أو أنثى فقط. وتقرأ من كلِّ زوجين - على الِإضافة - والمعنى واحد في الزَوْجين أضَفْتَ أم لم تضِفْ. (وَأهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ).

(41)

أي واحملْ مَنْ آمَن، ويقال إن الذين آمنوا معه كانوا ثمانين نفساً. فقال تعالى: (وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ). لأن ثمانمين قليل في جُمْلَةِ أُمَّةِ قَوْمِ نوحِ. * * * (وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) أي باللَّهِ تجري، وبه تستقرُّ. ومعنى قًلْنَا بِاسْمِ اللَّه أي باللَّه. وقد قرئت على وجوه، قرئت مَجْرَاها بفتح الميم، ومُرسَاهَا بضم الميم. وقرئت مُجْراها ومُرْسَاها بضم الميمين جميعاً. ويجوز مَجْرَاها ومَرْسَاها، وكل صواب حسن. فأما من قرأ مجراها بفتح الميم، فالمعنى جَرْيُها ومُرْسَاها المعنى وباللَّه يقع إرساؤها، أي إِقْرارها. ومن قرأ مُجْراها ومُرْسَاهَا. فمعنى ذلك باللَّه إجرأؤها وباللَّه إِرْسَاؤها يقال: أجريته مُجْرى وإجْراءً في معنى واحد. ومن قال مَجرَاها ومَرسَاهَا، فهو على جَرَتْ جَرْياً ومَجرى، وَرَسَتْ رسُوَّا ومَرْسىً. والْمُرسَى مستقرها. والمعنى أن الله جلَّ وعزَّ أمَرَهُمْ أن يُسَمُّوا في وقت جريها ووقت استقرارها. ومُرْساها في موضع جر على الصفة للَّهِ - جلَّ وعزَّ -. ويجوز فيه شيء لم يقرأ به ولا ينبغي أن يقرأ به لأن القراءة سنة متبعة:

(42)

باسم اللَّه مُجْرِيَها علي وَجْهيْنِ: أحدهما الحال، المعنى مُجْرِياً لَهَا ومُرْسِياً لها. كما تقول مررت بزيدٍ ضَارِبَها على الحال. ويجوز أن يكون منصوباً على المدح، أعني مُجرِيَها ومُرْسِيَهَا. ويجوز أن يكون مُجْرِيها ومُرْسِيها في موضع رفع على إضمار هو مجريها ومرسيها. * * * وقوله: (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قيل إن السَّمَاءَ والأرضَ التقى ماؤهما فطبق بينَهُمَا وجرت السفينة في ذلك الماء. وقوله: (وَهِيَ تَجْرِيِ بِهِمْ فِي مَوْجٍ كالجِبَالِ). إن الموج لا يكون إلا فوقِ الماء، وجاء في التفسير أن الماء جَاوَزَ كل شيء خَمَسَةَ عَشَر ذِرَاعاً، قال اللَّه - عزَّ وجلَّ: (فالْتَفَى الماءُعلى أمْرٍ قَدْ قُدِرَ). فجائز أن يكون يلتقي ماء السماء وماء الأرض وما يطبق ما بينهما. وجائز أن يطبق ما بينهما. والموج تَمَوُّجُ المَاءِ، وأكثر ما يُعْرَفُ تكونُه في عُلُوِّ الماء، وجائز أن يتموج داخل الماء. . والرواية في السفينة أكثر ما قيل في طولها أنه كان ألفاً ومائتي ذراع. وقيل ستمائة ذراع. وقيل إن نوحاً بعث وله أربعون سنةً ولبث في قومه كما قال الله - جل ثناؤه - ألْفَ سَنَةٍ إلا خَمْسين عَاماً. . وعمل السفينة في خمسين سنة ولبث بعد الطوفان ستين سنة.

(43)

وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) (وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ). يجوز أن يكون كان في معزل من دينه، أي دين أبيه ويجوز أنْ يكونَ - وهو أشبه - أن يكون في معزل من السفينة - (يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا). الكسر أجود القراءة أعني كسر الياء، ويجوز كسرها وفتحها من جهتين، إحداهما أن الأصل با بُنَيي، والياء تحذف في النداء، أعني ياء الِإضافة، وتبقى الكسرة تدل عليها، ويجوز أن تحذَفَ الياء لسكون الراء منَ ارْكبْ، وتقَرُّ في الكتاب على ما هي في اللفظ. والفتح من جهتين، الأصل يا بُنيَّا فتبدل الألف من ياء الِإضافة. العرب تقول: يا غلاما أقبل، ثم تحذف الألف لسكونها وسكون الراء. ويقَرُّ في الكتاب على حذفها في اللفظ ويجوز أن تحذف ألف النداء كما تحذف ياء الإضافة، وإنما حذفت ياء الإضافة وألف الِإضافة في النداء كما يحْذَفُ التنوين، لأن ياء الِإضافة زيادة في الاسم كما أن التنوين زيادة فيه، ويجوز وجه آخر لم يقرأ به وهو إثبات الياء، يا بُنَيِّي، وهذه تَثْقُل لاجتماع الياءات. * * * (قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) أي يمنعني من الماء، والمعنى من تَغْرِيقِ الماء (قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ). هذا استثناء ليس من الأول، وموضع " مَنْ " نَصْبٌ المعنى لكن مَنْ رَحم اللَّهُ، فإنه مَعْصُوم، ويكون (لاَ عَاصِمَ) معناه لا ذَا عِصْمَةٍ، كما قالوا: (عِيشَة رَاضِيَةٌ)، مَعناه مُرْضية وجاز راضية على جهة النسب أي في عيشةٍ ذات رضا.

(44)

وتكون " من " " على هذا التفسير في موضع رفع، ويكون المعنى لا مَعْصُومَْ إلا المرحوم. وقوله: (وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) (وَغِيضَ الْمَاءُ). يقال غاض الماء يغيض إذا غاب في الأرض، ويجوز إشْمامُ الضَم في الغين. (وَقُضِيَ الأمْرُ) أي هلاك قوم نوح. (وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ). والْجُودِيّ جبل بناحية آمِدَ. * * * وقوله: (وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46) قرأ الحسنُ وابنُ سيرين " عَمِلَ غَيْرَ صَالِحٍ " وكان مذهبُهمَا أنه ليس بابنه، لم يولد من صلبه، قال الحسن: واللَّه ما هو بابنه. وقال ابن عباس وابن مسعود إنه ابنه، ولم يبتل اللَّه نبِيا في أهْلِه بمثلِ هَذِه البَلْوَى. فأمَّا من قرأ: (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ). فيجوز أن يكون يعني به أنه ذو عمل غير صالح، كما قالت الخنساء. ترتع ما رتعت حتى إذا ادكرت. . . فإنما هي إقبال وإدبار

(50)

أي ذات إقبالٍ، وقد قال الله - عزَّ وجلَّ - (وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ) فنسبه إليه. وللقائلِ أن يقول نسبه إليه على الاستعمال، كما قال اللَّه - جلَّ وعزَّ - (أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ)، فنسبهم إليه على قولهم، واللَّهُ لا شريك له، ولكن الأجودَ في التفسير أن يكون: إنه ليس من أهلك الذين وَعَدْتكَ أن أنَجِّيَهُمْ، ويجوز أن يكون (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) إنَّه لَيْسَ من أهلِ دينِك. * * * (فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ). ويقرأ " فلاتسألَنَّ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ". * * * وقوله: (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50) المعنى وأرْسلنا إلى عادٍ أخاهُم هُودًا. وقيل أخاهم من جهتين: إحْدَاهُما أنه منهم وبيِّن بلسانهم، والأخرى أنه أخوهم من ولد آدم، بشر مثلهم.

(52)

(قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ). وإن شئت غَيرِه، غيرِه من نعت الِإله، و " غَيْرُه " على معنى ما لكم إلهٌ عيرُه. * * * (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52) كان أصابهم جَدْبٌ فاعْلَمَهُم أنَّهم إن اسْتَغْفَرُوا ربَّهُمْ وتابوا أرسل السماء عليهم مدراراً. والتوبة الندم على ما سلف، والعزمُ على ترك العَوْدِ في الذنوب. والإقامةِ على أداء الفرائض. وَنصب (مِدْرَاراً) على الحال، كأنَّه قال يرسل السماء عليكم دارَّة، ومعنى مدرار المبالغة، وكان قومٌ هودِ - أعني عاداً - أهلُ بساتين وزُرُوع وعَمَارَةٍ. وكانت مساكنهم الرمالَ التي هي بين الشام واليَمَن، فدعاهم هودٌ إلى توحيد اللَّه واستغفاره وترك عبادة الأوثان، فلم يطيعوه وتوعدهم بالعذاب فأقاموا على كفرهم، فبعث الله عليهم الريح، فكانت تدخل في أنوفهم وتخرج من أدْبَارِهم وتُقَطعُهمْ عُضْواً عُضْواً (وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا). أيْ يزِدْكم قوةَ في النعمة التي لكم ويجوز أن يكون: ويزدكم قوةً في أبْدَانِكُمْ. * * * (إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) أي ما نقول إلا مسَّك بعض أصنامنا بجنونٍ، بِسَبِّكَ إيَّاهَا فقال لهم

(55)

(إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) وهذه من أعظم آيات الرسُل أن يكون الرسول وَحْدَه، وأمتُه متعاونة عليه، فيقول لها: كِيدُونِي ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ، فلا يستطيِع وَاحدٌ مِنهم ضَرَّه. وكذلك قال نوحٌ لِقَوْمِه: (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71). وقال محمد - صلى الله عليه وسلم - (فَإنْ كَانَ لَكمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ). فهذه هن أعظم آيات الرسل وأدَلَّها على رِسَالَاتِهِمْ. * * * (إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) (مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا) أي هي في قبضتِه، وَتَنَالُهَا بِمَا تَشاء قُدرَتُه، ثم قال: (إن رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ). أي هو سبحانه وإن كانت قَدْرَته تنالها بما شاء، فهو لا يشاء إلاَّ العَدْل. * * * (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57) المعنى فإن تَتَولًوْا. (فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ). فجعل (فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ) في موضع قَدْ ثَبتَتِ الحجة عليكم (وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ). * * * وقوله: (وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58) (نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا) يحتمل أن يكون بما أرَيْنَاهم من الهدى والبيان الذي هو رحمة،

(60)

ويحتمل أن يكون (بِرَحْمَةٍ مِنَّا) أي لا ينجو أحد وإن اجتهد إلا برحمة من اللَّه - جلَّ وعزَّ - (وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ). أي مما عُذب بِهِ قوم عاد الكفار في الدنيا ومما يُعذبُونَ به في الآخرة. * * * (وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60) " أَلَا " ابتداء وتنبيه. وَ (بُعْدًا) منصوب على أبْعَدَهُمُ اللَّه بُعْدًا، ومعنى بُعْدًا أي بُعْدًا من رحمة اللَّه. * * * (وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) المعنى: وأرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحاً. وثمود لم ينصرف لأنه اسمِ قبيلة، ومن جعله اسماً للحيِّ صرفه وقد جاء في القرآن مصروفاً: (الا إنَّ ثَمُودًا كَفَروا رَبَّهُمْ). * * * (قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ). ثم بين ما هي فقال: (هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً). يقال: إنها خرجت من حَجَرٍ، وفي هذا أعظم الآيات، ويقال إنها كانت تَرِدُ المَاء لا تَرِدَ الماء معها دَابةٌ، فإذا كان يوم لا تَرِد، وردَتْ الوَارِدَةُ كلها. وفي هذا أعظَمُ آية.

(64)

ونَصْبٌ آية على الحَال. المعنى إن قال هذه نَاقَةُ اللَّهِ آيةً أو آية لكُمْ. فكأنه قال: انتبهوا لها في هذه الحالة. والآية العلامة. (فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64) وتأكل من أرض اللَّهِ، فمن قرأ تَأكلْ بالجزم فَهوَ جَوَابُ الأمر. وقد بيَّنَّا مثله في سورة البقرة، ومن قرأ تأكلُ فمعناهُ فذروها في حال أكلها. ويجوز في الرفع وجه آخر، على الاستئناف. المعنى فإنها تأكل في أرض اللَّه. (وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ). (فَيَأْخُذَكُمْ) جواب النَهْيِ، والمعنى عذاب يَقْرُبُ مِمن مَسَّها بالسُّوءِ. أي فإن عقرتموها لم تُمْهَلُوا. * * * (فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) فأهلكوا بَعْدَ الثلاثِ، وَقَدْ بيَّنا في الأعراف كيف أهلكوا. * * * وقوله: (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (68) معناه كان لم ينزلوا فيها. قال الأصْمعي: المَغَانِي المَنازِل التي نزلوا بها. يقال غَنِينَا بمكان كذَا وكَذا إذَا نَزَلوا به. * * * وقوله - جلَّ وعزَّ -: (وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) بالبشر ى، بالولد. (قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ). وقَالوا سَلاَمٌ، يُقْرأ أن جميعاً، فأما قوله (سَلاماً) فمنصوبٌ على سَلَمْنا سَلاَماً، وأما سَلاَمٌ فمرفوع على معنى أمري سَلاَمٌ (وَمَنْ قَرَا سَلامٌ) فمرْفُوعٌ عَلَى أمري سلام.

(70)

أي لَسْتُ مُرِيداً غير السلامة والصفح (فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ). أي ما أقام حتى جاء بعجل حنيذٍ. والحنيذ المشويُّ بالحِجَارَة وقيل: الحنيذ المشوي حَتَّى يَقْطُرَ. والعربُ تقولً: احْنِذِ الفرس أي اجعل عليه الجُلَّ حَتَّى يقطرَ عَرقاً. وقيل الحنيذ المشوي فقط. وقيل: الحنيذ السَّمِيطُ. ويقال حَنَذَته الشمس والنار إذَا شوته. * * * (فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70) لم يأكلوا لأنهم ملائكة، ويقال إنهم كانت العلامةُ لديْهم في الضيفان إذا قصدوا لِخيْرٍ الأكلَ. يقال: نكِرْت الشيءَ وأنكرت، ويقل في اللغة أنكر ويَقِل منكور. والكلام أنكر ومنكور. و (أَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً). معناه أضمر منهم خوفاً (قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ). ألا تراه قال في موضع آخر: (إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33). * * * (وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71) يروى أنها ضحِكتْ لأنها كانت قالت لإبراهيم: اضْمُمْ لوطاً ابنَ أخيك

إليْك، فإني أعلمُ أنه سينزل بهؤلاء القومِ عذابٌ، فضحكت سروراً لمَّا أتى الأمر على ما تَوَهَّمَتْ. فأما مَن قال: ضحكت: حَاضَتْ فليس بشيء (فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ). يقرأ يعقوبُ ويعقوبَ - بالرفع والنصب وفي هذه البشارة بشارة بالوَلَدِ وَوَلَد الوَلَدِ، يقالُ هذا ابني من الوراء. أي هذا ابن ابني. فبشرناها بأنها تلد إسحاق وأنها تعيش حَتَى ترى وَلَدَه. وروينا في التفسير أن عُمْرَهَا كان تسعاً وثمانين، وأن عمر إبراهيم كان تسعاً وتسعين في وقت البشارة. فأما من قرأ: (وَمِن وراءِ إسحاقَ يعقوبَ)، فيعقوب في موضع نصب محمول على موضع فبشرناها بإسحاق، محمول على المعنى، المعنى: وهبنا لها إسحاق ووهبنا لها يعقوب. ومن قرأ يَعْقُوبُ فرفْعُه على ضربين، أحدهما الابتداء مَؤخَّراً، معناه التَّقديم، والمعنى ويعقوب مُحْدَثٌ لها من وراء إسحاق. ويجوز أن يكون مرفوعاً بالفعل الذي يعمل في " مِنْ وَرَاء " كأنَّه قال وثبت لها من وراء إسحاق يعقوب. ومن زعم أن يعقوب في موضع جر فخطأ زعمُه، ذلك لأن الجارَّ لا يفصلُ بينه وبين المجرور، ولا بينه وبين الواو العاطفة، لا يجوز مررت بزيد

(72)

في الدارِ، والبيْتِ عَمْروٍ ولا في البيتِ عَمْرو، حتى تقولَ وَعَمروٍ في البيت. * * * (قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) المصحف فيه يا ويلتي بالياء، والْقِراءَة بالألف، إن شِئت على التضخيم، وَإِنْ شِئْتَ عَلَى الِإمَالة. والأصل يَا ويلَتِي فَأبْدِلَ من الياء والكسرةِ الألف، لأن الفتح والألف أخف من الياء والكسرة. ويجوز الوقف عليه بغير الهاء. والاختيار أنْ يوقف عليه بأنهاء، يا ويلَتَاهُ. فأمَّا المصحف فلا يخالف، ولا يوقف عليه بغير الهاء، فإن اضطر واقف وقف بغير الهاء. فأمَّا الهمزتان بعد " يَا وَيلَتَى " ففيهما ثلاثة أوجه، إن شئت حَقَّقْتَ الأولى وخَفَّفْتَ الثانيةَ، فقلتَ يا وَيلَتَى أألِدُ، وإن شئتَ - وهو الاختيار خفَّفْت الأولى وخفَّفْتَ الثانية فقلت يا وْيلَتَى آلِدُ، وإن شئت حَقَّقْتَهُما جميعاً فقلت أَألدُ وتحقيق الهمزتين مذهب ابن أبي إسحاق. (وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً). القراءة النصب وكذلك هي في المصحف المجمع عليه، وهو منصوب على الحال، والحال ههنا نصبها من لطيف النحو وغامضه. ذلك أنك إذَا قلت هذا زيد قائما، فإن كنت تقصد أن تخبر من يعرف زيداً أنه زيدٌ لم يجز أن تقول: هذا زيد قائماً، لأنه يكون زيداً ما دَام

(74)

قائماً، فإذا زال عن القيام فليس بزيدٍ، وإنما تقول ذاك لِلذي يعرف زيداً: هذا زيدٌ قَائِماً فيعمَلُ في الحال التنبيه، والمعنى انتبه لزيد في حال قيامه. وَأشِيرُ لك إلى زيد حال قيامه، لأن " هذا " إشارة إلى ما حضر، فالنصب الوجْهُ كما ذكرنا ويجوز الرفع. وزعم سيبويه والخليلُ أن النصبَ من أربعةِ أوْجهٍ: فوجه منها أن تقول: هذا زيد قائم فترفع زيداً بهذا وترفع قائماً خبر ثانياً، كأنك قلت: هو قائم أو هذا قائم. ويجوز أن تجعل زَيْداً وقَائِماً جميعاً خبرين عن هذا فترفعهما جميعاً خبراً بهذا، كما تقول: هذا حُلْوٌ حَامِضٌ تريد أنه جمعَ الطعمين. ويجوز أن تجعلَ زيداً بدلاً من هذَا، كأنك قلت زيد قائم. ويجوز أن تجعل زيداً مبَيِّناً عن هذا، كأنك أردت: هذا قائم، ثم بينت من هو بقولك زيد. فهذه أربعة أوجه. * * * (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) الرَّوْعُ: الفزغ. يعني ارتياعُه لمّا نكرهم حين لم يأكلوا من العِجل. والرُّوع - بضم الراء - النفس. يقال وقر ذلك في رُوعِي، أي في نَفْسي ومن خَلَدِي. (وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ). يجادلنا حكاية حال قد مضت لأن " لَمَّا " جعلت في الكلام، لِمَا قد وقعَ

لوقوعِ غَيرِه. تقول: لما جَاءَ زيد جاء عمرو. وَيجوز لمَّا جاء زيد يتكلم وعمرو، على ضربين: أحدُهُمَا أن إنْ لما كانت شرطاً للمستقبل وقع الماضي فيها في مَعنى المستقبل، نحو إن جاء زيد جِئتُ. والوجه الثاني - وهو الذي أختارُه - أن يكون حالًا لحكاية قد مضت. المعنى فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءَتْه البُشْرى أخَذَ يُجَادِلُنا في قوم لوط، وأقبل يجادِلنَا. ولم يذكر في الكلام أخذ وأقبل، لأن في كل كلام يخاطب به المخاطب معنى أخَذَ وأقْبَلَ إذَا أرَدْتَ حكايةَ الحَالِ، لأنك إذَا قلتَ: قام زيد، دللت على فعل ماضٍ. وإذا قلت أخَذ زيْدْ يَقُولُ دللت على حال ممتدة من أجلها ذكرتَ أخَذَ وأقْبَلَ. وكذلك جعل زيد يقول كذا وكذا، وكَرَبَ يَقول كذا وكذا وقد ذكرنا (الأوَّاه) في غير هذا الموضع، وهو المبتهل إلى اللَّه المتخشع في ابتهاله، الرحيم الذي يكثر من التأوه خوفاً وإشفاقاً من الذنوب. ويروى أن مجادلته في قوم لوط أنه قال للملائكة وقد أعلَمُوه أنهم مُهلِكُوهم، فقال أرأيتم إنْ كانَ فِيها خمسُونَ من المؤمنين أتهلكونَهُمْ مَعَهمْ إلى أن بلغ خمسةً، فقالوا لا، فقال اللَّه - عزَّ وجلَّ -: (فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36).

(76)

ويروى أنهم كانوا جَمْعاً كثيراً، أكثرُ ما رُوِي فيهم أنهم كانوا أربعة آلاف. (يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76) المعنى جَادَلَنا فقلنا يا إبراهيم أعْرض عن هذا. ويروى أن إبراهيم لَمَّا جَاءته الملائكةُ كان يعمَلُ في أرض له وكلما عمل دَبْرَةً من الدِّبَارِ وهي التي تسمى المشارات غَرَّز بَالَتَهُ وصَلَّى، فقالت الملائكة حقيق على اللَّه أن يتَّخِذَ إبراهيم خليلاً. * * * وقوله: (وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) معناه ساءَه مَجيئُهم، لأنهم استضافوه فخاف عليهِمْ قومَه، فلما مَشَى معهُمْ قليلاً قال لهنَّ: إن أهل هذه القرية شَرُّ خلقِ الله وكان قَدْ عُهِدَ إلى الرسُل ألَّا يهلكوهم حتى يَشْهَد عليهم لوط ثلاث مرات، ثم جَازَ عليهم بعد ذلك قليلاً، وردَّ عليهم القول ثم فَعلَ ذلكَ ثالثةً ومَضَوا معه. (سِيءَ بِهِمْ) أصله سُوِئ بهم، من السّوءِ إلا أن الواو أُسكِنتْ وثُقِلت كسرتها إلى السِّين، ومن خفَّفَ الهمزة قال: سِي بِهِمْ (وضاق بهم ذَرْعاً). يقال ضاق زيد بأمْرِهِ ذَرْعاً إذا لم يجد من المكروه في ذلك الأمر مَخْلَصاً. (وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ).

(78)

أي شديد، فلما أضافهم مضت امرأته - عجوز السوء - فقالت لقومه إنه استضاف لوطاً قومٌ، لمْ أر أحْسنَ وجوهاً مِنْهُمْ وَلَا أطْيَبَ رَائِحةً، ولا أنظف ثياباً. * * * (وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) أي يسرعون في المجيء، فراوَدوه عن ضيفه، وحاولوا فتح بابه. فأعلمته الملائكة أنهم رسل اللَّهِ وأن قومَه الفسقَةَ لن يصلوا إليهم. فقال لهم لوط حين رَاوَدوه: (هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي). فقيل إنهم عُرِضَ عليهم التزويج، وكأنه عرضه عليهم إنْ أسْلَمُوا وقيل: (هَؤُلَاءِ بَنَاتِي): نساء أُمَّتِي، فكأنَّه قال لهم التزويج أطهر لكم. فلما حاولوا فتح البابِ طمس اللَّه أعْينَهمْ. قال اللَّه - عزَّ وجلَّ -: (وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ). ولما استعجلوه بالعذاب، قالت لهم الرسل: (إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ). (هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) القراءة بالرفع في أطْهر، وقد رُوِيتْ عن الحسن هن أطهرَ لكم، وعن عيسى بن عمر. وذكر سيبويه إنْ ابنَ مَروانَ لَحَن في هَذِه في نَصْبَهَا. ْوليس يُجيز أحدٌ من البصريين وأصحَابِهِمْ نصبَ أطْهر، ويجيزها

(81)

غيرهم. والذين يجيزونها يجعلون " هُنَّ " في هذا بمنزلتها في " كان " فإذا قالوا: هؤلاء بَنَاتِي أطْهَر لَكم، أجازوا هُنُّ أطهَر لَكمْ، كما يجيزون كان زيد هو أطهر مِنْ عَمْروٍ. وهذا ليس بمنزلة كان. إنما يجوز أن يقع " هو " وتثنيتها وجمعها " عماداً " فيما لا يتم الكلام إلا به، نحو كان زيد أخاكَ. لأنهم إنما أدخلوا " هُمْ " ليُعْلِمُوا أن الخَبَرَ لا بد منه، وأنه ليس بصفة للأول. وباب " هذا " يتم الكلام بخبره، إذا قلت: هذا زيد فهو كلام تام. ولو جاز هذا لجاز جاء زيد هو أنْبَلُ من عمرو. وإجماع النحويين الكوفيين والبصريين أنه لا يجوز قدمَ زيد هو أنْبلَ مِنك حتى يرْفَعوا فيقولوا هو أنبل منك. وبعد فالذين قرأوا بالرفع هم قُراءُ الأمْصارِ، وهم الأكثر. والحسن قد قرأ " الشياطون " والشياطون ممتنع في العربيةِ. وقد قال بعضهم: إن المشركين في ذلك الدهر قد كان لهم أن يتزوجوا من المسلمين. * * * وقوله: (قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ). أي بظلمةٍ من الليل. يقال: معنى قِطْع من الليل أي قطعةٍ صالحةٍ،

وكذلك مَضى عِنْك من الليل، وسعْوٌ مِنَ الليْلِ. ويقرأ: (فَأسْرِ) بإثباتِ الهمزَةِ في " اللفظ، ويقرأ: فَاسْرِ يقال أسْرَيْت وسَرَيْت إذَا سِرْت ليلاً. قال الشاعر: سرَيْت بهم حتى تكلَّ مَطيُّهم. . . وحتى الجِيادُ ما يُقَدْن بأَرْسانِ وقال النابغَة أسرَتْ عَلَيْهِمْ من الجوزاء سارِية. . . تزْجِي الشمَال عليها جامدُ البَردِ وقد روَوْا في هذا البيت سَرَتْ. وقال اللَّه - جَل وعز -.: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ). وقوله: (إِلَّا امْرَأَتَكَ). يجوز فيه النصب والرفعُ فمن قرأ: (إِلَّا امْرَأَتَكَ). بالنصْبِ فَعَلَى معنى

(82)

فأسر بأهلك (إِلَّا امْرَأَتَكَ)، ومن قرأ بالرفع، حَمَلَهُ عَلَى مَعْنَى: (ولا يلتفِتْ منكم أحدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ). * * * وقوله: (فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) (جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا). يقال إن جبريل جعل جناحه في أسْفَلِهَا ثم رَفَعها إلى السماء حتَى سمع أهلُ السماءِ نُباحَ الكِلابِ وصِيَاح الدجَاجِ، ثم قَلَبَها عَلَيْهِمْ. (وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83) وقد قال الناس في سِجيل أقْوالًا، ففي التفسير أنها مِنْ جِلٍّ وحِجَارَة. وقال أهل اللغة: هو فارِسِي مُعرَّبٌ، والعرب لا تعرف هذا. والذي عندي أنه إذَا كان هذا التفسيرُ صَحيحاً فهو فارِسي أعْرِبَ لأن اللَّه - جلَّ وَعَزَّ - قد ذكر هذه الحجارة في قصة قوم لوط، فقال: (لِنُرْسِلَ عَليْهِمْ حِجَارةً مِنْ طِينٍ) فقد تبين للعرب ما عُنِيَ بـ سجيل. وَمِنْ كلام الفرسِ ما لا يحْصَى مما قد أعْرَبتْهُ العَرَبُ. نحو جاموس وديباج. فلا أنْكِرَ أن هذا مِما أعْرِبَ. وقال أبو عبيدة معمرُ بنُ المثَنَّى: تأويله كسَيْرَة شديدة، وقالَ إن مثل ذلك قول الشاعر:

ورَجْلةٍ يَضْرِبون البَيْضَ عن عُرُضٍ. . . ضَرْباً تَوَاصَتْ به الأَبْطالُ سِجِّينا والبيت لابن مُقْبِل، وسِجين وسِجيل بمعنى وَاحدٍ. وقال بعضهم: سِجيل من أسْجَلتهُ أي أرْسَلْتَهُ فكأنَّها مُرْسَلَة عَلَيهْم. وقال بعضهم من سِجيلٍ، من أسْجَلْتُ إذا أعْطيتُ، فجعله من السَّجْل وهو الدلْو. قال الفَضلُ بنُ عباس: من يُساجِلْنِي يساجِل ماجداً. . . يَملأ الدلو إلَى عَقْد الكَربُ وقيل من سِجيل كقولك مما سُجِّلَ أي مما كتب لهم، وهذا القول إذا فُسِّرَ فهُوَ أثبتها. لأن في كتاب اللَّه تعالى دَلِيلاً عليه. قال - جلَّ وعزَّ -: (كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9).

(84)

سِجيل في معنى سِجين. فالمعنى إنها حجَارَة مما كتب اللَّه - جل ثناؤه - أنه يُعَذَبُهُمْ بها. وهذا أحْسنُ ما مَرَّ فيها عِنْدِي. فامّا قوله: (مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ). فمعناه أن بعضها يأتي مَعَ بَعْض كالمطرِ. وأما (مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ) فروي عن الحسن أنها مُعْلَّمَة ببياض وحُمْرةٍ. وقال غيرُه: مُسَوَّمَةً بعَلامَةٍ يعلم بها أنها ليست مِنْ حِجَارةِ أهْلِ الدنيا، وتُعْلَم بسيماها أنها مما عذب اللَّهُ بها. (وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ). قِيلَ إنها ما هي من ظالمي هذه الأمة بِبَعِيدٍ. * * * (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) المعنى أرسلْنا إلى أهل مَدين أخَاهُمْ شعَيْباً، فحذف أهل وأقام مَدْين مقامَه. ومَدْين اسمُ المَدينة أو القبيلة فلذلك لم ينصرف. * * * وقوله: (بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) ومعناه طاعة اللَّه (خيرٌ لكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ). ويجوز أنْ يكون مَعْنَاهُ الحال التي تَبْقَى لكم من الخير خير لكم. * * * (قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) ويقرأ: أصَلَواتك. (تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا). هذا دليل أنهم كانوا يعبدون غير اللَّه - جلَّ وعزَّ - (أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ).

(88)

المعنى إنا قَدْ تَرَاضَيْنَا بالبخس فيما بَيْنَنَا. وفي التفسير أنَّه نهاهم أن يَحْذِفُوا الدرَاهِمَ. أي (أن) يكسروها. (إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ). قيل كنى بذَا عن أنهُمْ قالوا له: إنك السَّفِيهُ الجاهِل. وقيل إنهُمْ قالوا له هذا على وجه السِّخرِيّ. * * * وقوله: (قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88) وجواب الشرط ههنا متروك. المعنى: إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي اتَّبعُ الضلاَلُز فترك الجواب لعلم المخَاطَبينَ بالمعنى، وقد مر ما تُرِكَ جَوَابُه لأنه مَعْلُوم وشرحُه في أمكنتِه. وقوله: (وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا). أي: حَلالاً، وقيل:. رزقاً حَسَناً ما وُفقَ لَه مِنَ الطاعَةِ. (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ). أي لست أنهاكم عن شيء وأدْخُلُ فيه، وإنما أختار لكم ما أختار لنفسي، ومعنى " مَا أخَالِفُكَ إليه "، أي ما أقصد بخلافك القَصْدَ إلى أن أرْتكِبَهُ. (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ). أي بقدر طاقَتِي، وَقَدْرُ طَاقَتِي إبْلَاغُكم وإنذَارُكم، ولست قادراً على إجبَاركم على الطاعةِ. ثم قال:

(89)

(وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ). فأعْلَمَ أنه لا يقدر هو ولا غيرُه على الطاعة إلاَ بتوفيق اللَّه. ومعنى (إِلَيْهِ أُنِيبُ) إليه أرجع. * * * (وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) مَوضع أنْ نَصْبٌ، المعنى لا تكْسِبَنَّكُمْ عداوتُكم إيَّايَ أنْ يُصيبَكم عذابُ العاجلة (مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِي). وكان إهلاك قوم لوط أقربَ الإهْلَاكات التي عرفوها، فكأنَّه قال لهم: العظةُ في قوم لوط قريبة مِنكم. * * * (قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91) وكان ضرِيراً. وحِمْيرُ تُسمَي المكفوف ضعيفاً، وهذا كما قيل ضَرِير أي قد ضُر بذهاب بَصَرِهِ، وكذلك قد كُفَّ عن التصَرفِ بذهاب بصره. (وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ). أي لولا عشيرتك لرجمناك أي لَقَتلناك بالرجْم، والرجم من سَيئ القتلات، وكان رهطه من أهل مِلَّتِهِمْ فلذلك أظهروا الميل إلَيْهِمْ والإكرام لهم. * * * (قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) أي أنتم تزعمون أنكم تتركون قَتْلِي إكراماً لِرهْطِي - واللَّه - جلَّ وعزَّ - أولى بأن يتبعَ أمْرُه. (وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا).

(94)

أىْ نَبَذْتُموه رَرَاءَ ظهوركم، والعرب تقول لكل من لا يعبأ بأمْرٍ قد جعل فلانٌ الأمر بظهره. قال الشاعر: تَمِيمُ بنَ قَيْسٍ لا تَكونَنَّ حاجَتِي. . . بظَهْرٍ فلا يَعْيا عَليَّ جَوابُها * * * وقوله - جلَّ وعزَّ -: (وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94) يروى أن جبريلَ صَاحَ بِهِمْ صَيْحَةً فماتوا في أمْكِنَتِهمْ، فأصبحوا جاثمين لا يقدرون على حركة قَدْ مَاتوا. * * * (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95) كان لم ينزلوا فيها، يقال: غَنِينَا بِانمَكانِ اذَا أنزَلْنَا بِهِ). (أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ).

(96)

(ألَا) حرف يُبتدأ الكلام به، وهو تنبيه للمخاطب ومعنى (بُعْدًا لِمدْيَنَ) أنهم قد بُعُدوا مِنْ رَحْمةِ اللَّهِ، وهو منصوب على المصدر، المعنى أبْعَدَهُم الله فبعُدوا بعدًا. ودليل ذلك: (كما بَعِدتْ ثَمُودُ). ويجوز بعَدَت وَبَعُدَتْ. * * * وقوله: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (96) أي بعلاماتنا التي تدل على صِحة نبوته. (وَسُلْطَانٍ مُبينٍ). أي وحجة بَينةٍ. والسُّلْطانُ إنَّما سُمِّيَ سُلْطَاناً لأنه حُجةٌ اللَّه في أرْضِه. واشتقاق السلطان مِنَ السليط، والسليط ما يُضَاءُ بِهِ، ومن هذا قيلَ للزيْت سَليط. * * * (إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَإِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) مَلؤهُ أشرافُ قوْمِهِ، الَّذِينَ هم مِلَاءٌ بالرأيِ والمَقْدِرَة (فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ). أي استحبُّوا العَمَى علىَ الهُدَى. * * * (يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) يقال قَدَمْتُ القَوْم أقدُمُهُمْ قَدْماً وقُدُوماً إذَا تَقدْمتُهُمْ. أي يقدُمُهم إلى النَّارِ، ويدُل على ذلك قوله: (فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ).

(99)

وقوله: (وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99) كل شيءٍ جعَلْتَه عَوْناً لِشَيْء وأسندتَ به شيئاً فقدْ رَفَدْتَه، يقال عمدتُ الحائِطَ وأسنَدْتُه ورَفَدْتهُ بمعنى واحدٍ، والمرْفَدُ القَدَح العظيم. * * * وقوله: (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) أي: من القُرى التي أهْلِكتْ قَائِمٌ قد بقيت حِيطَانُه، نحو قوله: (وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ). (وَحَصِيدٌ) مخسوف به، وهي مأ قَد انمحى أثَرُه. * * * وقوله: (وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) (وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ). معناه غير تخسير، ومنه قوله (تَبَّتْ يَدَا أبِي لَهَبٍ) أي خسِرَت. * * * وقوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) فأعلم اللَّه - عَز وجل - أنه يحيي الخلق ويبعثهم في ذلك اليوم ويشهدوا به. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) الذي يختاره النحويون: يوم يأتي لا تكلم نفس إلآ بإذنه. بإثبات الياء. والذي في المصحف وعليه القراء القراءات بكسر التاء من غير ياء. وهذيل تستعمل حذف هذه الياءات كثِيراً. وقد ذكر سيبويه والخليل أن العربَ تقول لا أدْرِ فتحذف الياء وتجتزي بالكسْرِ، إلا أنَّهم يزعمون أن ذلك لكثرة الاستعمال. والأجود في النحو إِثبات الياء والذي أراه اتباع المصحف مع إجماع القراء، لأن القراءة سنة، وقد جاء مثله في كلام العرب. وهذة الآية فيها سؤال أكثر ما يَسْألُ عنه أهل الإلحاد في الدِّين فيقولون لم قال: (يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ)، و (هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36)

وقال في مواضع من ذكر القيامة (فَأقْبَلَ بَعْضهُمْ عَلَى بَعْضِ يَتَلَاوَمُونَ). وقال: (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا) وقال: (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ). وقال (فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ). ونحن نفسر هذا على ما قالت العلماء المتقدمون في اللغة المسلمون الصحيحو الِإسلام: قالوا: قوله - عزَّ وجلَّ -: (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ) اللَّه عالم بأعمالهم فَسألهُم سؤال توبيخ وتقرير لإيجاب الحجة عليهم. وقوله: (فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ) أي لا يُسْألُ ليُعْلَمَ ذلك منه، لأن اللَّه قد علم أعمالهم قبل أن يعملوها. وكذلك قوله عزَّ وجلَّ: (لا ينطقون)، أي لا ينطقون بحجة تجبُ لَهم، وإنما يتكلمون بالإقْرارِ بذنوبِهِمْ ولَوْمِ بعضهم بعضاً وطَرْحِ بَعضِهِم الذنوبَ على بعض، فأمَّا التكلم والنطق بحجة لهم فلا، وهذا كما تقول للذي يخاطبك كثيراً وخطابه فارغ من الحجة: ما تكلمت بشيء، وما نطقت بشيء فسمي مَن تكلم بما لاحجةَ له فيه، غير متكلم - كما قال عزَّ وجلَّ: (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهمْ لَا يُبصِرونَ) وهم يُبْصِرون وَيسْمعُونَ إلا أنهم في أنهم لا يقبلون ولا يُفكَرُونَ فيما يسمعون ولا يتأتَلونَ، بمنزلة الصمّ. قال الشاعر:

(106)

أصم عما ساءه سميعُ فهذا قولٌ حسن. وقال قوم: ذلك اليوم طويل وله مواضع ومواطن ومواقف، في بعضها يُمْنَعُونَ منِ الكلام وفي بعضها يطلق لهم الكلامُ. فهذا يدل عليه (لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ). وكلا القولين حسن جميل. * * * (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) من شديد الأنين وقبيحه. (وَشَهِيقٌ) والشهيق الأنين الشديد المرتفع جدا. وزعم أهل اللغة من البصريين والكوفيين أن الزفير بمنزلة ابتداء صوت الحمار في النهيق، والشهيق بمنزلة آخر صوته في النهيق. وقوله تعالى: (خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107) (إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ). فيها أربعة أقوال (1). قولان منها لأهل اللغة البصريين والكوفيين جميعاً. قالوا: المعنى خالدين فيها إلا ما شاء ربك بمعنى سوى ما شاء ربُّك. كما تقول: لو كان معنا رجل إلا زَيْداً أي رجل سوى زيدٍ ولك عندي ألف درهم سوى الألفين، وإلا الألفين اللذين لك عِنْدِي. فالمعنى على هذا خالدين فيها مقدار دوام السَّمَاوَات والأرض سوى ما شاء ربك من الخلو والزيادة كما قلت سوى الألفين اللتين عَليَّ. وقالوا قولًا آخر: (إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ) ولا يشاء أن يخرجهم منها، كما تقول أنا أفعل كذا وكذا إلا أن أشاء غير ذلك ثم تقيم على ذلك الفعل وأنت قادر على غير ذلك، فتكون الفائدة في هذا الكلام أن لو شاء يخرجهم لَقَدَرَ، ولكنه قد أعلمنا أنهم خالدون أبداً.

_ (1) قال الإمام فخر الدين الرازي ما نصه: ثم قال تعالى: {خالدين فِيهَا مَا دَامَتِ السموات والأرض إِلا ما شاء رَبَّكَ} وفيه مسألتان: المسألة الأولى: قال قوم إن عذاب الكفار منقطع ولها نهاية، واحتجوا بالقرآن والمعقول. أما القرآن فآيات منها هذه الآية والاستدلال بها من وجهين: الأول: أنه تعالى قال: {مَا دَامَتِ السموات والأرض} دل هذا النص على أن مدة عقابهم مساوية لمدة بقاء السموات والأرض، ثم توافقنا على أن مدة بقاء السموات والأرض متناهية فلزم أن تكون مدة عقاب الكفار منقطعة. الثاني: أن قوله: {إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ} استثناء من مدة عقابهم وذلك يدل على زوال ذلك العذاب في وقت هذا الاستثناء ومما تمسكوا به أيضاً قوله تعالى في سورة عم يتساءلون: {لابثين فِيهَا أَحْقَاباً} [النبأ: 23] بين تعالى أن لبثهم في ذلك العذاب لا يكون إلا أحقاباً معدودة. وأما العقل فوجهان: الأول: أن معصية الكافر متناهية ومقابلة الجرم المتناهي بعقاب لا نهاية له ظلم وأنه لا يجوز. الثاني: أن ذلك العقاب ضرر خال عن النفع فيكون قبيحاً بيان خلوه عن النفع أن ذلك النفع لا يرجع إلى الله تعالى لكونه متعالياً عن النفع والضرر ولا إلى ذلك المعاقب لأنه في حقه ضرر محض ولا إلى غيره، لأن أهل الجنة مشغولون بلذاتهم فلا فائدة لهم في الالتذاذ بالعذاب الدائم في حق غيرهم، فثبت أن ذلك العذاب ضرر خال عن جميع جهات النفع فوجب أن لا يجوز، وأما الجمهور الأعظم من الأمة، فقد اتفقوا على أن عذاب الكافر دائم وعند هذا احتاجوا إلى الجواب عن التمسك بهذه الآية. أما قوله: {خالدين فِيهَا مَا دَامَتِ السموات والأرض} فذكروا عنه جوابين: الأول: قالوا المراد سموات الآخرة وأرضها. قالوا والدليل على أن في الآخرة سماء وأرضاً قوله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض والسموات} [إبراهيم: 48] وقوله: {وَأَوْرَثَنَا الأرض نَتَبَوَّأُ مِنَ الجنة حَيْثُ نَشَاء} [الزمر: 74] وأيضاً لا بد لأهل الآخرة مما يقلهم ويظلهم، وذلك هو الأرض والسموات. ولقائل أن يقول: التشبيه إنما يحسن ويجوز إذا كان حال المشبه به معلوماً مقرراً فيشبه به غيره تأكيداً لثبوت الحكم في المشبه ووجود السموات والأرض في الآخرة غير معلوم وبتقدير أن يكون وجوده معلوماً إلا أن بقاءها على وجه لا يفنى ألبتة غير معلوم، فإذا كان أصل وجودهما مجهولاً لأكثر الخلق ودوامهما أيضاً مجهولاً للأكثر، كان تشبيه عقاب الأشقياء به في الدوام كلاماً عديم الفائدة، أقصى ما في الباب أن يقال: لما ثبت بالقرآن وجود سموات وأرض في الآخرة وثبت دوامهما وجب الاعتراف به، وحينئذ يحسن التشبيه، إلا أنا نقول: لما كان الطريق في إثبات دوام سموات أهل الآخرة ودوام أرضهم هو السمع، ثم السمع دل على دوام عقاب الكافر، فحينئذ الدليل الذي دل على ثبوت الحكم في الأصل حاصل بعينه في الفرع، وفي هذه الصورة أجمعوا على أن القياس ضائع والتشبيه باطل، فكذا ههنا. والوجه الثاني: في الجواب قالوا إن العرب يعبرون عن الدوام والأبد بقولهم ما دامت السموات والأرض، ونظيره أيضاً قولهم ما اختلف الليل والنهار، وما طما البحر، وما أقام الجبل، وأنه تعالى خاطب العرب على عرفهم في كلامهم فلما ذكروا هذه الأشياء بناء على اعتقادهم أنها باقية أبد الآباد، علمنا أن هذه الألفاظ بحسب عرفهم تفيد الأبد والدوام الخالي عن الانقطاع. ولقائل أن يقول: هل تسلمون أن قول القائل: خالدين فيها ما دامت السموات والأرض، يمنع من بقائها موجودة بعد فناء السموات، أو تقولون إنه لا يدل على هذا المعنى، فإن كان الأول، فالإشكال لازم، لأن النص لما دل على أنه يجب أن تكون مدة كونهم في النار مساوية لمدة بقاء السموات ويمنع من حصول بقائهم في النار بعد فناء السموات، ثم ثبت أنه لا بد من فناء السموات فعندها يلزمكم القول بانقطاع ذلك العقاب، وأما إن قلتم هذا الكلام لا يمنع بقاء كونهم في النار بعد فناء السموات والأرض، فلا حاجة بكم إلى هذا الجواب ألبتة، فثبت أن هذا الجواب على كلا التقديرين ضائع. واعلم أن الجواب الحق عندي في هذا الباب شيء آخر، وهو أن المعهود من الآية أنه متى كانت السموات والأرض دائمتين، كان كونهم في النار باقياً فهذا يقتضي أن كلما حصل الشرط حصل المشروط ولا يقتضي أنه إذا عدم الشرط يعدم المشروط: ألا ترى أنا نقول: إن كان هذا إنساناً فهو حيوان. فإن قلنا: لكنه إنسان فإنه ينتج أنه حيوان، أما إذا قلنا لكنه ليس بإنسان لم ينتج أنه ليس بحيوان، لأنه ثبت في علم المنطق أن استثناء نقيض المقدم لا ينتج شيئاً، فكذا ههنا إذا قلنا متى دامت السموات دام عقابهم، فإذا قلنا لكن السموات دائمة لزم أن يكون عقابهم حاصلاً، أما إذا قلنا لكنه ما بقيت السموات لم يلزم عدم دوام عقابهم. فإن قالوا: فإذا كان العقاب حاصلاً سواء بقيت السموات أو لم تبق لم يبق لهذا التشبيه فائدة؟ قلنا بل فيه أعظم الفوائد وهو أنه يدل على نفاذ ذلك العذاب دهراً دهراً، وزماناً لا يحيط العقل بطوله وامتداده، فأما أنه هل يحصل له آخر أم لا فذلك يستفاد من دلائل أخر، وهذا الجواب الذي قررته جواب حق ولكنه إنما يفهمه إنسان ألف شيئاً من المعقولات. وأما الشبهة الثانية: وهي التمسك بقوله تعالى: {إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ} فقد ذكروا فيه أنواعاً من الأجوبة. الوجه الأول: في الجواب وهو الذي ذكره ابن قتيبة وابن الأنباري والفراء. قالوا هذا استثناء استثناه الله تعالى ولا يفعله ألبتة، كقولك: والله لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك مع أن عزيمتك تكون على ضربه، فكذا ههنا وطولوا في تقرير هذا الجواب، وفي ضرب الأمثلة فيه، وحاصله ما ذكرناه. ولقائل أن يقول: هذا ضعيف لأنه إذا قال: لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك، معناه: لأضربنك إلا إذا رأيت أن الأولى ترك مضرب، وهذا لا يدل ألبتة على أن هذه الرؤية قد حصلت أم لا بخلاف قوله: {خالدين فِيهَا مَا دَامَتِ السموات والأرض إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ} فإن معناه الحكم بخلودهم فيها إلا المدة التي شاء ربك، فههنا اللفظ يدل على أن هذه المشيئة قد حصلت جزماً، فكيف يحصل قياس هذا الكلام على ذلك الكلام. الوجه الثاني: في الجواب أن يقال: إن كلمة {إِلا} ههنا وردت بمعنى: سوى. والمعنى أنه تعالى لما قال: {خالدين فِيهَا مَا دَامَتِ السموات والأرض} فهم منه أنهم يكونون في النار في جميع مدة بقاء السموات والأرض في الدنيا، ثم قال سوى ما يتجاوز ذلك من الخلود الدائم فذكر أولاً في خلودهم ماليس عند العرب أطول منه، ثم زاد عليه الدوام الذي لا آخر له بقوله: {إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ} المعنى: إلا ما شاء ربك من الزيادة التي لا آخر لها. الوجه الثالث: في الجواب وهو أن المراد من هذا الاستثناء زمان وقوفهم في الموقف فكأنه تعالى قال فأما الذين شقوا ففي النار إلا وقت وقوفهم للمحاسبة فإنهم في ذلك الوقت لا يكونون في النار، وقال أبو بكر الأصم المراد إلا ما شاء ربك وهو حال كونهم في القبر، أو المراد إلا ما شاء ربك حال عمرهم في الدنيا وهذه الأقوال الثلاثة متقاربة، والمعنى: خالدين فيها بمقدار مكثهم في الدنيا أو في البرزخ أو مقدار وقوفهم للحساب ثم يصيرون إلى النار. الوجه الرابع: في الجواب قالوا: الاستثناء يرجع إلى قوله: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} [هود: 106] وتقريره أن نقول: قوله: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خالدين فِيهَا} يفيد حصول الزفير والشهيق مع الخلود فإذا دخل الاستثناء عليه وجب أن يحصل وقت لا يحصل فيه هذا المجموع لكنه ثبت في المعقولات أنه كما ينتفي المجموع بانتفاء جميع أجزائه فكذلك ينتفي بانتفاء فرد واحد من أجزائه فإذا انتهوا آخر الأمر إلى أن يصيروا ساكنين هامدين خامدين فحينئذ لم يبق لهم زفير وشهيق فانتفى أحد أجزاء ذلك المجموع فحينئذ يصح ذلك الاستثناء من غير حاجة إلى الحكم بانقطاع كونهم في النار. الوجه الخامس: في الجواب أن يحمل هذا الاستثناء على أن أهل العذاب لا يكونون أبداً في النار، بل قد ينقلون إلى البرد والزمهرير وسائر أنواع العذاب وذلك يكفي في صحة هذا الاستثناء. الوجه السادس: في الجواب قال قوم: هذا الاستثناء يفيد إخراج أهل التوحيد من النار، لأن قوله: {فَأَمَّا الذين شَقُواْ فَفِي النار} يفيد أن جملة الأشقياء محكوم عليهم بهذا الحكم، ثم قوله: {إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ} يوجب أن لا يبقى ذلك الحكم على ذلك المجموع. ويكفي في زوال حكم الخلود عن المجموع زواله عن بعضهم، فوجب أن لا يبقى حكم الخلود لبعض الأشقياء، ولما ثبت أن الخلود واجب للكفار وجب أن يقال: الذين زال حكم الخلود عنهم هم الفساق من أهل الصلاة، وهذا كلام قوي في هذا الباب. فإن قيل: فهذا الوجه إنما يتعين إذا فسدت سائر الوجوه التي ذكرتموها، فما الدليل على فسادها، وأيضاً فمثل هذا الاستثناء مذكور في جانب السعداء، فإنه تعالى قال: {وَأَمَّا الذين سُعِدُواْ فَفِى الجنة خالدين فِيهَا مَا دَامَتِ السموات والأرض إلا مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ}. قلنا: إنا بهذا الوجه بينا أن هذه الآية لا تدل على انقطاع وعيد الكفار، ثم إذا أردنا الاستدلال بهذه الآية على صحة قولنا في أنه تعالى يخرج الفساق من أهل الصلاة من النار. قلنا: أما حمل كلمة «إلا» على سوى فهو عدول عن الظاهر، وأما حمل الاستثناء على حال عمر الدنيا والبرزخ والموقف فبعيد أيضاً، لأن الاستثناء وقع عن الخلود في النار، ومن المعلوم أن الخلود في النار كيفية من كيفيات الحصول في النار، فقبل الحصول في النار امتنع حصول الخلود في النار، وإذا لم يحصل الخلود لم يحصل المستثنى منه وامتنع حصول الاستثناء. وأم

(109)

فهذان المذهبان من مذاهب أهل اللغة. وقولان آخران: قال بعضهم إذا حُشِرُوا وبُعِثُوا فهم في شروط القِيامَةِ فالاستثناء وقع من الخلود بمقدار موقفهم للحساب. والمعنى خالدين فيها ما دامت السَّمَاوَات والأرض إلا مقدار موقفهم للمحاسَبةِ. وفيها قول رابع: أن الاستثناء وقع على أن لهم فيها زفيراً وشهيقاً إلا ما شاء ربك من أنواع العذاب التي لم تُذكر. وكذلك لأهل الجنة نعيمُ ما ذُكر ولهم ما لم يذكر مما شاء ربكَ. ويدل عليه - واللَّه أعلم - عَطاءً غَيرَ مَجْذُوذٍ). أي غير مقطوع. قَالَ النابعةُ تقُدُّ السُّلُوقِيَّ المُضاعَفَ نَسْجُه. . . وتوقِد بالصُّفَّاحِ نارَ الحُباحِبِ يصف السيوف وأنها تقطع الدُّرُوع * * * وقوله - عزَّ وجلَّ -: (فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109) أي نوفيهم ما يصيبهم من خير أو شر. * * * وقوله: (وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111) قرئت بتشديد النون وتخفيفها، وقرئت " لَمَا " بتخفيف الميم ولَمَّا

بتشديدها (1). فأمَّا تشديد " إنَّ " والنصب فعلى باب إنَّ، وأما تخفيفها وترك النصب على حاله فلأن " إنَّ " مشبهة بالفعل فإذا حذف منها التشديد بقي العمل على حاله، وأما تخفيف " لَمَا " فهو الوجه والقياس. ولام لمَّا لام إن و " مَا " زَائدةٌ مؤكدة. لم تغيِّر المعنى ولا العمل. وأمَّا التشديد في " لَمَّا " فزعم بعض النحويين أن معناه " لَمَنْ مَا " ثم انْقلبتْ النون ميماً فاجتمع ثلاث ميمات فحذفت إحداها - وهي الوسطى، فبقيت لَمَّا - وهذا القول ليس بشيء لأن " مَنْ " لا يجوز حذفها، لأنها اسم على حرفين، ولكن التشديد فيه قَوْلَانِ: أحدهما يروى عن المازني. زعم المازنى أن أصْلَها لَمَا ثم شددت الميم. وهذا القول ليس بشيء أيضاً. لأن الحروف نحو " رُبَّ " وما أشبهها تخفف. ولسنا نثَقل ما كان على حرفين فهذا منْتَقِض. وقال بعضهم قولًا لا يجوز غيره - واللَّه أعلم - أن " لَمَّا " في معنى: إلا. . كما تقول سألتك لَمَّا فعلت كذا وكذا. وَإِلَّا فعلت كذا. ومثلهُ: (إنْ كل نَفْس لَمَّا عَلَيْهَا حَافِط). معناه " إلا " وتأويل اللام مع " إن " الخفيفة إنما هو تأويل الجُحد والتحقْيقِ، إلا أن " إنْ " إذا قلت إنْ زَيداً لَعَالم هي " مَا " ولكن اللام دخلت عليها لئلا يُشْبِهَ المنفي المثبتَ فتكون المشددة بدخول اللام عليها بمعنى المخففة إذَا دخلت عليها اللام. فعلى هذاجاءَتْ " أن " الناصبة. فجائز أن تكون " أنَّ " النَاصِبَةُ مِنْ حيث دخلت عليها اللام كما دخلت على إن غير الناصبة دخلت عليها " لَمَّا " ودخلت عليها " إلا " فصار الكلام في تخليص التحقيق له بمنزلة ما نفى عنه غير المذكور بعد " لما "، ووجب له ما بعد " لَمَّا "

_ (1) قال السَّمين: قوله تعالى: {وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ}: هذه الآيةُ الكريمة مما تَكَلَّم الناسُ فيها قديماً وحديثاً، وعَسُر على أكثرِهم تلخيصُها قراءةً وتخريجاً، وقد سَهَّل اللَّه تعالى، فذكرْتُ أقاويلهم وما هو الراجحُ منها. فقرأ نافع وابن كثير وأبو بكر عن عاصم: «وإنْ» بالتخفيف، والباقون بالتشديد. وأمَّا «لمَّا» فقرأها مشددةً هنا وفي يس، وفي سورة الزخرف، وفي سورة السمآء والطارق، ابنُ عامر وعاصمٌ وحمزةُ، إلا أن عن ابن عامر في الزخرف خلافاً: فروى عنه هشامٌ وجهين، وروى عنه ابن ذكوان التخفيفَ فقط، والباقون قرؤوا جميع ذلك بالتخفيف. وتلخص من هذا: أنَّ نافعاً وابن كثير قرآ: «وإنْ» و «لَمَا» مخففتين، وأنَّ أبا بكر عن عاصم خَفَّفَ «إنَّ» وثَقَّل «لمَّا»، وأن ابن عامر وحمزة وحفصاً عن عاصم شددوا «إنَّ» و «لمَّا» معاً، وأن أبا عمرو والكسائي شدَّدا «إنَّ» وخَفَّفا «لَمَّا». فهذه أربعُ مراتب للقراء في هذين الحرفين. هذا في المتواتر، وأمَّا في الشاذ، فقد قرىء أربعُ قراءاتٍ أُخَر، إحداها: قراءةُ أُبَيّ والحسن وأبان بن تغلب «وإنْ كل» بتخفيفها، ورفع «كل»، «لَمَّا» بالتشديد، الثانية: قراءة اليزيدي وسليمان بن أرقم: «لمَّاً» مشددة منونة، ولم يتعرَّضوا لتخفيف «إنَّ» ولا لتشديدها. الثالثة: قراءة الأعمش وهي في حرف ابن مسعود كذلك: «وإنْ كلٌّ إلا»: بتخفيفِ «إنْ» ورفع «كل». الرابعة. قال أبو حاتم: «الذي في مُصْحف أبي {وإنْ مِنْ كلٍ إلا لَيُوَفِّيَنَّهم}. هذا ما يتعلَّق بها من جهة التلاوة، أمَّا ما يتعلق بها من حيث التخريجُ فقد اضطرب الناسُ فيه اضطراباً كثيراً، حتى قال أبو شامة:» وأمَّا هذه الآيةُ فمعناها على القراءات من أشكلِ الآيات، وتسهيلُ ذلك بعون اللَّه أنْ أذكرَ كلَّ قراءةٍ على حِدَتِها وما قيل فيها. فأمَّا / قراءةُ الحَرَمِيَّيْن ففيها إعمال إنْ المخففة، وهي لغة ثانية عن العرب. قال سبويه: «حَدَّثَنا مَنْ نثق به أنه سَمع مِن العرب مَنْ يقول:» إنْ عمراً لمنطلقٌ «كما قالوا: 2711. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . كأن ثَدْيَيْهِ حُقَّانِ قال:» ووجهُه مِن القياس أنَّ «إنْ» مُشْبِهَةٌ في نصبها بالفعل، والفعلُ يعمل محذوفاً كما يَعْمل غيرَ محذوف نحو: «لم يكُ زيد منطلقاً» {فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ} [هود: 109] وكذلك لا أَدْرِ «. قلت: وهذا مذهبُ البصريين، أعني أنَّ هذه الأحرفَ إذا خُفِّف بعضُها جاز أن تعملَ وأن تُهْمَلَ ك» إنْ «، والأكثر الإِهمالُ، وقد أُجْمع عليه في قوله: {وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا [مُحْضَرُونَ]}، وبعضُها يجب إعمالُه ك» أنْ «بالفتح و» كأنْ «، ولكنهما لا يَعْملان في مُظْهَرٍ ولا ضميرٍ بارزٍ إلا ضرورةً، وبعضُها يَجِبُ إهمالُه عند الجمهور ك» لكن «. وأمَّا الكوفيون فيُوجبون الإِهمالَ في «إنْ» المخففةِ، والسَّماعُ حُجَّةٌ عليهم، بدليل هذه القراءة المتواترة. وقد أنشدَ سيبويهِ على إعمالِ هذه الحروفِ مخففةً قولَه: 2712. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . كأنْ ظبيةٌ تَعْطُو إلى وارِقِ السَّلَمْ قال الفراء: «لم نَسْمَعِ العربَ تُخَفِّفُ وتَعْمل إلا مع المكنى كقوله: 2713 - فلو أنْكِ في يومِ الرَّخاء سَأَلْتِني. . . طلاقَكِ لم أَبْخَلْ وأنتِ صديقُ قال:» لأنَّ المكنى لا يَظْهر فيه إعرابٌ، وأمَّا مع الظاهر فالرفع «. قلت: وقد تقدَّم ما أنشده سيبويهِ وقولُ الآخر: 2714. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . كأنْ ثَدْيَيْه حُقَّانِ و [قوله]: 2715 كأنْ وَرِيْدَيْه رِشاءُ خُلْبِ. . . هذا ما يتعلق ب» إنْ «. وأمَّا» لَمَا «في هذه القراءة فاللامُ فيها هي لامُ» إنْ «الداخلةُ في الخبر. و» ما «يجوز أن تكونَ موصولةً بمعنى الذي واقعةً على مَنْ يَعْقل كقوله تعالى: {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء} [النساء: 3] فأوقع» ما «على العاقل. واللام في» ليوفِّيَنَّهم «جوابُ قسمٍ مضمر، والجملةُ مِن القسم وجوابِه صلةٌ للموصول، والتقدير: وإنْ كلاً لَلذين واللَّه ليوفيَّنهم. ويجوز أن تكونَ هنا نكرةً موصوفةً، والجملةُ القسميةُ وجوابُها صفةٌ ل» ما «والتقدير: وإنْ كلاً لخَلْقٌ أو لفريقٌ واللَّهِ ليوفِّيَنَّهم، والموصولُ وصلتُه أو الموصوفُ وصفتُه خبرٌ ل» إنْ «. وقال بعضُهم: اللامُ الأولى هي الموطِّئةُ للقسَم، ولمَّا اجتمع اللامان، واتفقا في اللفظ فُصِل بينهما ب» ما «كما فُصِل بالألف بين النونين في» يَضْرِبْنانِّ «، وبين الهمزتين في نحو: أأنت. فظاهرُ هذه العبارة أنَّ» ما «هنا زائدةٌ جي بها للفصل إصلاحاً لِلَّفظ، وعبارةُ الفارسي مُؤْذِنَةٌ بهذا، إلا أنه جَعَلَ اللامَ الأولى لامَ» إنْ «فقال:» العُرْفُ أن تُدْخِل لامَ الابتداء على الخبر، والخبرُ هنا هو القَسَمُ وفيه لام تَدْخل على جوابه، فلمَّا اجتمع اللامان والقسمُ محذوفٌ، واتفقا في اللفظ وفي تَلَقِّي القسم، فَصَلوا بينهما كما فَصَلوا بين إنَّ واللام «. وقد صَرَّح الزمخشري بذلك فقال:» واللامُ في «لَمَا» موطِّئةٌ للقسم و «ما» مزيدةٌ «ونَصَّ الحوفيُّ على أنها لام» إنْ «. وقال أبو شامة:» واللامُ في «لَمَا» هي الفارقة بين المخففة من الثقيلة والنافية «وفي هذا نظرٌ؛ لأنَّ الفارقةَ إنما يؤتى بها عند التباسِها بالنافية، والالتباسُ إنما يجيء عند إهمالها نحو:» إنْ زيدٌ لقائم «وهي في الآية الكريمة مُعْمَلة فلا التباسَ بالنافية، فلا يُقال إنها فارقة. فتلخَّص في كلٍ من اللام و «ما» ثلاثة أوجه، أحدها: في اللام: أنها للابتداء الداخلة على خبر «إنْ». الثاني: لامٌ موطئة للقسم. الثالث: أنَّها جوابُ القسم كُرِّرَتْ تأكيداً. وأحدها في «ما»: أنها موصولة. الثاني: أنها نكرة. الثالث: أنها مزيدة للفصل بين اللامين. وأمَّا قراءةُ أبي بكر ففيها أوجه/، أحدها: ما ذهب إليه الفراء وجماعة من نحاة البصرة والكوفة، وهو أن الأصل: لَمِنْ ما، بكسر الميم على أنها مِنْ الجارة دخلت على «ما» الموصولة «أو الموصوفة كما تقرَّر، أي: لَمِنَ الذين واللَّهِ ليوفِّيَنَّهم، أو لَمِنْ خَلْقٍ واللَّهِ ليوفِّينَّهم، فلمَّا اجتمعت النونُ ساكنةً قبل ميم» ما «وجب إدغامُها فيها فقُلِبَتْ ميماً، وأُدْغمت فصار في اللفظ ثلاثةُ أمثال، فخُفِّفَتْ الكلمةُ بحذف إحداها فصار اللفظُ كما ترى» لمَّا «. قال نصر ابن علي الشيرازي:» وَصَلَ «مِنْ» الجارة ب «ما» فانقلبت النون أيضاً ميماً للإِدغام، فاجتمعت ثلاث ميمات فَحُذِفت إحداهن، فبقي «لمَّا» بالتشديد «. قال: و» ما «هنا بمعنى» مَنْ «وهو اسم لجماعة الناس كما قال تعالى: {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء} أي مَنْ طاب، والمعنى: وإنْ كلاً مِن الذين ليوفِّينَّهم ربُّك أعمالهم، أو جماعة ليوفِّيَنَّهم ربُّك أعمالَهم». وقد عَيَّن المهدويُّ الميمَ المحذوفة فقال: «حُذِفت الميمُ المكسورة، والتقدير، لَمِنْ خلقٍ ليوفِّيَنَّهم». الثاني: ما ذهب إليه المهدويُّ ومكي وهو: أن يكونَ الأصل: لمَنْ ما بفتح ميم «مَنْ» على أنها موصولة أو موصوفة، و «ما» بعدها مزيدةٌ فقال: «فقلبت النونُ ميماً، وأُدْغمت في الميم التي بعدها، فاجتمع ثلاثُ ميمات، فحُذِفَت الوُسْطى منهن، وهي المبدلةُ من النون، فقيل» لَمَّا «. قال مكي:» والتقدير: وإنْ كلاً لَخَلْقٌ لَيوفينَّهم ربك أعمالهم «، فترجعُ إلى معنى القراءة الأولى بالتخفيف، وهذا الذي حكاه الزَّجَّاج عن بعضهم فقال:» زَعَمَ بعضُ النحويين أن أصله لمَنْ ما، ثم قلبت النون ميماً، فاجتمعت ثلاثُ ميمات، فَحُذِفت الوسطى «قال:» وهذا القولُ ليس بشيءٍ، لأنَّ «مَنْ» لا يجوز حَذْفُ بعضها لأنها اسمٌ على حرفين «. وقال النحاس:» قال أبو إسحاق: هذا خطأ، لأنه تُحْذف النونُ مِنْ «مَنْ» فيبقى حرفٌ واحد «. وقد رَدَّه الفارسيُّ أيضاً فقال:» إذ لم يَقْوَ الإِدغام على تحريك الساكن قبل الحرف المدغم في نحو «قدم مالك» فأَنْ لا يجوزُ الحَذْفُ أَجْدَرُ «قال:» على أنَّ في هذه السورة ميماتٍ اجتمعَتْ في الإِدغام أكثرَ ممَّا كانَتْ تجتمع في «لَمَنْ ما» ولم يُحذفْ منها شيءٌ، وذلك في قولِه تعالى: {وعلى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ} [هود: 48]، فإذا لم يُحْذَفْ شيءٌ مِنْ هذا فأن لا يُحْذَفَ ثَمَّ أَجْدَرُ «. قلت: اجتمع في» أمم ممَّن مَعَك «ثمانيةُ ميماتٍ وذلك أن» أمماً «فيها ميمان وتنوين، والتنوين يُقْلب ميماً لإِدغامه في ميم» مِنْ «ومعنا نونان: نونُ مِنْ الجارة ونون مَنْ الموصولة فيقلبان أيضاً ميماً لإِدغامهما في الميم بعدهما، ومعنا ميم» معك «، فحَصَّل معنا خمسُ ميماتٍ ملفوظٌ بها، وثلاثٌ منقلبةٌ إحداها عن تنوين، واثنتان نون. واستدلَّ الفراء على أن أصل» لَمَّا «» لمِنْ ما «بقول الشاعر: 2716 وإنَّا لمِنْ ما نَضْرِبُ الكبشَ ضَرْبَةً. . . على رأسِه تُلقي اللسانَ من الفم وبقول الآخر: 2717 وإني لَمِنْ ما أُصْدِرُ الأمرَ وجهَه. . . إذا هو أَعْيا بالسبيل مصادرُهْ قلت: وقد تقدَّم في سورة آل عمران في قراءة مَنْ قرأ {وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين لَمَآ آتَيْتُكُم} [آل عمران: 81] بتشديد» لمَّا «أن الأصل:» لمن ما «فَفُعل فيه ما تقدَّم، وهذا أحد الأوجه المذكورة في تخريج هذا الحرف في سورته، وذكرْتُ ما قاله الناسُ فيه، فعليك بالنظر فيه. وقال أبو شامة:» وما قاله الفراء استنباطٌ حسنٌ وهو قريبٌ من قولهم: {لَّكِنَّ هُوَ الله رَبِّي} [الكهف: 38] إن أصله: لكن أنا، ثم حُذِفت الهمزة، وأُدْغِمَتِ النونُ في النون، وكذا قولهم: «أم

(114)

فتقول على هذا الحد إن كلهم لَمَّا يُحبّني - معناه يؤول إلى معنى ما كلهم إلا يُحبّني، وكذلك يجوز إنْ كلًّا لما يُحِبُّني، بحذاء إنْ كلًّا لَما يُحِبُّنِي، فدخلت " لَمَّا " محققَةً كما دخلت اللام محَققةً وصار تأويل الجملة تأويل المنفي والمحقق. وحكى سيبويه وجميع البصريين أن " لَمَّا " تستعمل بمعنى إلا. ويجوز إن كلا لَمًّا لَيُوفينهم، معناه وأن كُلًّا لَيُوفَينهم جَمْعاً. لأن معنى اللَّمّ الجمع يقال لممت الشيء ألمُه لَمًّا إذا جَمعْتُه. فَأمَّا قولهم: لَمَّ اللَّه شَعَثَك، فتأويله جمع اللَّه لك ما يُذْهِبُ شَعَثَك. * * * وقوله تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114) فَطَرفا النهار غُدُوُّه وعَشِيه، وصلاة طرفي الئهارِ الغدَاة والظهر والعصرُ. (وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ). ويجوز وزُلُفاً من الليل - بضم الزاي واللام - وهو منصوب على الظرف كما تقول حَيِّنَا طَرفي النهارِ وأول الليل - ومعنى (زُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ) الصلاة القريبة من أول الليل، وزلَفاً جمع زُلْفة، يعنى بالزلف من الليل المغرب وعشاء الآخرة. (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ). أي إن هذه الصلوات تكفر ما بينها من الذنوب. وهذا يُصَدِّقُ ما في الخبر مِنْ تكفير الصَّلَواتِ الذنوبَ. والزُلُف واحد مثل الحُلُم. وجائز أنْ يكونَ جَمْعاً - على زَلِيف مِنَ الليل فيكون مثلَ القَرِيبِ والقُرُب، ولكن الزُّلَف أجودُ في الجمع. وما علمت أنَّ زَليفاً يستعملُ في الليْل

(116)

وقوله: (فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) (أُولُو بَقِيَّةٍ). معناه أولو تمييز، ويجوز أن يكون معناه " أولو " طاعة. ومعنى البقية إذَا قلتَ فلان في بَقِيَّةٍ، معناه فيه فضل فيما يمدح به. (إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ). استثناء منقطع، المعنى لكنَّ قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ ممن نهى عن الفساد. (وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ). معناه اتبعوا الشيء الذي به تدوم لهم التُرْفَةُ والنعيم، وركنوا إلى الدنيا فلم يقبلوا ما ينقص تُرْفَتَهُمْ في كسب أو عمل. * * * (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117) يجوز أن يكون وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ أحداً وهوَ يظلمهُ - كما قال: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا). وجائز أن يكون معناه: وما كان ربك لِيهلِك القرى - ومعناه أهل القرى - بظلم وأهلها يتَعاطَوْن فيما بينهم بالنصفة. (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) أي لو شاء لجمعهم على هدايته، كما قال - عز وجل -: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى). * * * (وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119) " مَنْ " استثناء، على معنى: لكن من رحم ربك فإنه غير مخالف.

(120)

وقوله: (وَلذَلِكَ خَلَقَهُمْ). أي خَلَقَهُمْ للسعادة والشقاء، فاختلافهم في الدِّين يؤدي بهم إلى سعادة أو شَقَاء. وقيل: ولذلكَ خَلَقَهُمْ أي لرحمته خَلَقَهم، لقوله (إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ). والقوْلُ الأول يدل عليه. (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ). (لَأَمْلَأَنَّ) لَفْظُ القَسمِ، أيْ فتمَّ قَولُه (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ) (1). * * * (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) (كُلًّا) منصوب بـ (نَقُصُّ)، المعنى وكل الذي يُحتاجُ إليه من أنباء الرسل نقُص عليْكَ. و" ما " منصوبة بدل من كل. المعنى: نقص عليك ما نُثبتُ به فؤادك. ومعنى تَثْبِيْتُ الفؤادِ تسكين القلب، وهو ههنا ليس للشك، ولكن كلما كان الدلالة والبرهان أكثر كان القلب أثبت كما قال إبراهيم: (وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي). (وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ). يجوز أن يكون وجاءك في هذه السُّورة، لأن فيها أقاصيص الأنبياء ومواعظ وذكر مَا فِي الجنَّةِ والنَّارِ. ويجوز أن يكون قوله: (وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ). أي في ذكري هذه الآيات التي ذُكِرَتْ قبل هذا الموضع. أي جاءك الحق في أن الخَلقَ يُجَازَوْنَ بأنْصِبَائِهِمْ في قوله: (وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ)، وَفِي قَوله: (وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ).

_ (1) قال الإمام زين الدين محمد بن أبى بكر الرَّازى فإن قيل: قوله تعالى: (وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) إشارة إلى ماذا؟ قلنا: قلنا هو إشارة إلى ما عليه الفريقان من حال الاختلاف، أهل الرحمة للرحمة، وقد فسره ابن عباس رضى ألله عنهما فقال: خلقهم فريقين فريق رحمهم فلم يختلفوا، وفريق لم يرحمهم فاختلفوا، وقيل: هو إشارة إلى معنى الرحمة وهو الترحم وعلى هذا يكون الضمير في خلقهم للذين رحمهم فلم يختلفوا وقيل: هو إشارة إلى الاختلاف والضمير في خلقهم للمختلفين، واللام على الوجه الأول والثالث لام العاقبة والضرورة لا لام كى وهى التى تسمى لام الغرض والمقصود، لأن الخلق للاختلاف في الدين لا يليق بالحكمة، ونظير هذه اللام قوله تعالى: (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا). وقول الشاعر: لدوا للموت وابنوا للخراب. . . فكلكم يصير إلى التراب وقيل: إنها لام التمكين والاقتدار كما في قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا) وقوله تعالى: (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا) والتكمين والاقتدار حاصل، وإن لم يسكن بعض الناس في الليل، ولم يركب بعض هذه الدواب، ومعنى التمكين والاقتدار هنا أنه سبحانه وتعالى أقدرهم على قبول حكم الاختلاف ومكنهم منه، وقيل: اللام هنا بمعنى على، كما في قوله تعالى: (وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) وقول تعالى: (يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا). أهـ {أنموذج جليل في أسئلةٍ وأجوبةٍ عن غرائبِ آي التنزيل صـ 213 - 214}

وقد جاءَهُ في القرآن كُلِّهِ الحقُّ، ولكنه ذكرها هنا توكيداً، وليس إذا قيل قد جاءك في هذه الحق وجب أن يكون لم يأتك الحق إلا في هذه، ولكن بعض الحق أوكدُ من بَعض في ظهوره عندنا وخفائه علينا، لا في عينه. إذَا قُلْتَ: فُلانٌ في الحق وأنت تريد أنه يجود بنفسه، فليس هو في غير تلك الحال في باطل، ولكن ذِكْرُ الحق ههنا أغنَى عَنْ ذكر الموتِ لعظمه وأنه يحصل عنده على الحق.

سورة يوسف

سورة يوسف (مدنية) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) المعنى هذه الآيات، تلك الآيات. " المُبينُ " الذي وعدتم به في التوراة كما قال: (الم ذلك الكتاب). * * * وقوله: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) هذه الهاء تصلح لشيئين، أحدهما أن تكون للكتاب، المعنى إنا أنزلنا الكتاب قرآناً عربياً. ومعنى (قُرْآنًا) مجموع، ويجوز: أن يكون (إنا أنْزَلنَاهُ) أي أنزلنا خبَرَ يُوسُفُ وقِصتَهُ. ويروى أن علماءَ إليهود قالوا. لِكُبَراءِ المُشْرِكين: سَلُوا محمداً لم انتقل آلُ يعقوبَ من الشام إلى مصر، وعن قصة يُوسُفَ فقال اللَّه عزَّ وجلَّ: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا). ودليل هذا القول قولُه - عزَّ وجلَّ -: (لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (7). * * * وقوله: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)

(4)

أي نبين لك أحْسَن البَيَانِ والقاصُّ الذي يأتي بالقِصةِ على حقيقتها. (بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ). أي بِوَحْيِنَا إلَيْكَ هذا القرآنَ. القراءةُ نصبُ القرآنِ ويجوز الجر والرفْع جميعاً. ولا أعلم أحداً قَرأ بهما. فأمَّا الجر فعلى البدل من قوله: (بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ) فيكون المعنى نحن نقص عليك أحسن القصص بهذا القرآن، ولا تَقْرأنَّ بها. والرفع على ترجمة مَا أِوْحَيْنا إليك، كان قَائِلًا قال: ما هو؟ وما هذا فقيل هذا القرآن، ولا تقرأنَّ بها أيضاً. (وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ). أي من الغافلين عن فصة يوسف وإخوته، لأنه عليه السلام إنما عَلِمَ ذلك بالوحي. * * * (إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4) يجوز أن يكون موضع " إذْ " نَصْبا. المعنى نَقصُّ عليك إذْ قال يوسف لأبيه ويجوز أن يكون على معنى اذكر إذ قال يوسف لأبيه. (يَا أَبَتِ إِنِّي). في قوله: (يَا أَبَتِ إِنِّي) قراءتان: (يَا أَبَتِ إِنِّي)، (يَا أَبَتَ إِنِّي) - بالخفض والنصب. وأجاز بعض أهل العربية يا أبةُ إنِّي. فمن قرأ (يَا أَبَتِ إِنِّي) - بكسر التاء - فعلى الإضافة إلى نفسه وحذف الياء، لأن ياء الإضافةِ تحذف في النداء، وقد ذكِرَ ذَلِكَ فيما سلف من

الكتاب، وأما إدْخَالُ التَأنِيثِ في الأب فإنما دخلت في النداء خاصة، والمذكر قد سمّي باسم لِمؤنَثٍ فِيه عَلَامَة التأنِيثِ، وُيوصَفُ بما فيه هاء التانبث. فأما المذكر الذي يسمى بِمُؤنث فقولهم عين ونفس يراد به الرجل. وأما الصِّفة فقولهم غلام يَفَعَة، ورَجُل رَبْعَة. والتاء كثرت ولزمت في الأب عوضاً من تاء الِإضافة. والوقف عليها يا أبَهْ وإن كانت في المصحف بالتاء. وزعم الفراء أنك إذا كسرت وقفت بالتاء لا غير، وإذا فتحت وقفت بالتاء والهاء، وَلَا فرق بين الكسر والفتح. وزعم قطرب أن الفتح على جهات: إحْداها أنك أردت يا أبة ثم حذفت التنْوينَ، وعلى يَا أبَتاه وَعَلَى قول قولُ الطرماح. يا دارُ أقْوَتْ بعد أَصرامِها. . . عاماً وما يُبْكِيكَ من عامِها وهذا الذي قاله قطرب خطأ كله. التنوين لا يحذف من المنادى

المنصوب، لأن النصب إعرابُ المنادى، ولا يجوز معرَبٌ منصرف غير منون في حال النصب وأما قوله: يا دارَ أقوت، بنصب الدارِ - فلم يَرْوِه أحَد من أصحابنا ولا أعْرفُ له وجهاً. أنشد سيبويه والخليل وجميع البصريين يَا دَارُ أقْوتْ، بضَم الراء. وأما يا أبتاه، فالنُّدبة ههنا - لا معنى لها. ولكن الفَتْحَ يجوزُ على أنه أبْدَلَ من تَاء الإضافة ألفاً ثم حذف الألف وبقيت الفتحة، كما تحذف بالإضافة. وَأمَّا " يَا أبةُ إني " بالرفع فلا يجوز إلا على ضعف، لأن الهاء ههنا جعلت بدلاً من ياء الإضافة. (إني رَأيْتُ أحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً). القراءة بفتح العين وفتح جميع الحروف في أحَدَ عَشَر. وقد روي بتسكين العين في القراءة: (أحَدَ عْشرَ كوكَباً " قرأ بها بَعْضُ أهلِ المدينة وهي غير منكرة مَا كَانَ قبل العين حرف متحرك لكثرة الحركات في قوله أحَد عَشَر فأمَّا اثنا عَشَرَ فلا يجوز فيها. الإسكان في العين. وقد رويت لغة أخرى وهي، أحد اعْشرَ وهذه الرواية في الرداءة وتَرْكِ الاستعمال بمنزلة الحمدِ للَّهِ، لا يلتفت إليها. فأمَّا التسكين في العين فقراءة صحيحة كثيرة ولكنَّ سيبويه والخليلَ وجميعَ أصحابهم لا يجيزون إلا فتح العين، إلَّا أن قُطْرُباً قد روى إسكان العين ورواه الفراء أيضاً، وقد قُرئ به. فأمَّا ما لا اختلاف فيه ففتح العين. و (كوكباً) منصوب على التمييز.

(6)

(والشمْسَ والْقَمَرَ رَأيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ). فكرر رأيتهم توكيداً، المعنى رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقَمَرَ لِي سَاجِدين فكرر (رأيتهم) لَما طال الكلام. فأمَّا قوله (سَاجِدِين) فحقيقته فِعْلُ كُلِّ ما يعقل، وجَمعُه وجمعُ ضميرَه بالواو والنون في الرفع، والياء والنون في النصب والجر. فإذا وصف غير الناس والملائكة بأنه يعبد ويتكلم فقد دخل في المُمَيزين وصار الِإخْبَارُ عنه كالإخبَارِ عنهم. فمن ذلك قوله: (قَالَت نَمْلَةٌ يا أنها النمْل ادْخلُوا مَسَاكِنَكُمْ) وقوله: (بَلْ فَعَلَه كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْألُوهُمْ إنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ) وقال: (وَكل في فَلَكٍ يَسْبَحُون). فَالوَاوُ والنونُ دَخَلَتَا لما وَصَفْنَا مِنْ دخولهم في التمييز، والألف والتاء والنون لكل مؤنث ولكل مَوَاتٍ لا يَعقل غَيْرِ المميزين، فإذا جَعَلَ اللَّه عزَّ وجل غير المميزة كالمميزَةِ فكذلك تكون أفعالُها والأنْباء عنها. * * * وقوله: (وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6) معناه يختارك ويصطفيك، وهو مشتق مِنْ جَبَيْتَ الشَيءَ إذَاحَصَّلْتَه لنفسِكَ، ومنه جَبَيْتُ الماءَ في الحوض. وموضع الكاف في قوله " كذَلِكَ " نصبٌ، المعنى ومثل مارأيتَ تأويلَه، (يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ)

(7)

قيل يعلمك تأويل الرؤيا وقيل يعلمك تأويل أحادِيثِ الأنبياء والأمَمِ، يعني الكتب وكلاهما جائز - واللَّه أعلم -. (وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ). المعنى يتمها كما أتمها على أبويك، فقد فَسَّر لَهُ يَعْقوبُ الرؤيا. والتأويل أنه لما قال له إني رأيت أحد عشر كوكباً والشَمْس والقَمَرَ رَأيْتُهمْ لي سَاجِدين، فتأوَّلَ الأحَدَ عَشَرَ كوكباً أحَدَ عَشَرَ نفْساً لَهُمْ فَضْل وأنهم يُسْتضَاءُ بهمْ، لأنَّ الكَواكِب لَا شيءَ أضْوأ مِنْهَا وبها يُهْتَدَىَ. قال اللَّه جلَّ وعزَّ: (وبالنَّجْمِ هُمْ يَهتدُون). فتأول الشمس والقَمَرَ أبَويه. فالقمرُ الأبُ والشمسُ الأم والأخذ عَشرَ كَوْكَباً إخْوَتُه، فتأوَّل له أنه يكون نَبِيًّا، وأن إخوته يكونون أنبياء لأنه أعْلَمَهُ أن اللَّه يُتمُّ نعمتَه عَلَيْه وَعَلَى إخْوَته كما أتَمَّها على أبَويهِ إبراهيمَ وإسحاقَ، فإتمام النعمَةِ عَلَيْهِم أن يكونوا أنْبِيَاء إذ قال: (كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ). وقوله: (لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ). الرؤيا فيها أربعُ لغاتٍ " رُؤْيَا بالهمز، ورويا بالواو بلا همز، وهاتان يُقْرأُ بِهمَا ورُيَّاك بالإدغامِ، ورِيَّاك بكسر الراء - وَلاَ تَقْرأ بهَاتَيْنِ. ويوسف فيه لغتان، يوسُفُ بضم السِّينِ ويوسف بكسر السِّينِ وكذلك يُونُس، وُيونِس. وحَكَوْا يُونَسَ بفتح النُونِ، حكاها قطرب وهي شاذة. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (7) (آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ) وَقُرِئَتْ آية. ومعناه عِبْرَةُ، وقَدْ رُويت في غير هذا المصحف عِبْرة للسائلين، وهذا معنى الآية. ويجوز أن تكون " آية " بَصِيراً للسائلين الذين

(8)

سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فَأنْبأهُم بقصةِ يُوسُفَ. وهو عنها غافل لم يقْرأ كتاباً ولم يأته إلا من جهة الوحي جَوَاباً لهم: حين سألو. * * * وقوله: (إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (8) أي: إِنَّ أَبَانَا قَدَّمَ اثنين صَغِيريْن في المَحبَّةِ عَلَيْنا، ونحن عُصْبَة، أي جماعة نفعنا أكثر من نفع هذين. (إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ). هذا موضع ينبغي أن يُتَفَهَّمَ، إنما عَنَوْا أن أبَاهُمْ ضَالٌّ في محبَّة هذين ولَوْ وَصَفُوه بالضلالة في الدين كانوا كُفَاراً. والعُصْبةُ في كلام العرب العَشِيرةُ ونحوهم. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9) (وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ). أي تَتُوبونَ من بعد قتله. وقوله: (أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا). معناه - والله أعلم - أرضاً يَبْعدُ بها عن أَبِيه لأنَّه لن يَخْلُوَ مِن أَنْ يكونَ في أرض. قوله: (يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ). يدل على أنَّهم تآمروا في أن يَطْرحُوه في أَرض لا يَقْدِرُ عليه فيها أبوه و (أَرْضًا) منصوب على إسقاط (في) وإفْضَاءِ الفِعْل إليها. لأن (أَرْضًا) لَيْسَتْ من الظروف المبْهِمة. * * * (قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (10) الغَيابَةُ كل مَا غَابَ أَو غَيبَ عَنْكَ شيئاً، قال المنخل:

(11)

وإن أنا يَوْماً غيبتني منيَّتِي. . . فسيري بسيري في العشيرة والأصْلِ والجب البئر التي ليست بمطويَّةٍ، وسُمّيتْ جُبًّا من أنها قُطِعَتْ قَطْعاً. ولم يحدث فيها غير القطع، مِنْ طيٍّ وما أشْبَههَ. وروَوْا أن اسم الذي أشارَ عَليهم بِألَّا يَقْتلوهُ يَهُوذَا، وَكانَ مِنْ أَشَدهم. (يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ). هذا أكثر القراءة - بالياء - وقرأ الحسن تلتقطه بالتاء، وأجاز ذلك جميع النحويين، وزعموا أن ذلك إنما جاز لأن بعض السيارة سيَّارةٌ، فكأنَّه قال: تلتقطه سَيَّارةُ بعض السَّيَّارَةِ. وأنشدوا: وتشرق بالقول الذي قد أذعَتَهُ. . . كما شرِقتْ صدرُ القناة من الدم. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11) (مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ). قرئت على أربعة أوجُهٍ (1)، على إشْمَامِ الميم الضَّمَّ - تأمنُنا، وعلى الِإدغام وترك الإشمام، (تَأْمَنَّا)، وقرئت (تأمَنُنَا) بنونَين وضمة بينهُمَا. وقرأ يحيى ابن وَثَّابِ تِيْمَنَّا. وقراءة يحيى تخالف المصحفَ، وهي في العَرَبيةِ جَائزةٌ بكسر التاَء في كل ما ماضيه على فَعِلَ نحو أَمِنَ - يا هذا - والإِدغام لأن الحرفين من جنس واحدٍ

_ (1) قال السَّمين: قوله تعالى: {لاَ تَأْمَنَّا}: حالٌ وتقدَّم نظيرُه. وقرأ العامَّة «تأمَنَّا» بالإِخفاء، وهو عبارةٌ عن تضعيفِ الصوت بالحركة والفصل بين النونين، لا أنَّ النونَ تُسَكَّن رَأْساً، فيكون ذلك إخفاءً لا إدغاماً. قال الداني: «وهو قولُ عامَّةِ أئمَّتنا وهو الصوابُ لتأكيد دلالته وصحته في القياس». وقرأ بعضُهم ذلك بالإِشمام، وهو عبارةٌ عن ضمِّ الشفتين إشارةً إلى حركة الفعل مع الإِدغامِ الصريح كما يشير إليها الواقف، وفيه عُسْرٌ كبير قالوا: وتكون الإِشارة إلى الضمة بعد الإِدغام أو قبل كمالِه، والإِشمامُ يقع بإزاء معانٍ هذا مِنْ جُمْلتها، ومنها إشراب الكسرةِ شيئاً مِن الضم نحو: {قِيلَ} [البقرة: 11] و {وَغِيضَ} [هود: 44] وبابه، وقد تقدم أولَ البقرة. ومنها إشمامُ أحدِ حرفين شيئاً من الآخر كإشمام الصاد زاياً في {الصراط} [الفاتحة: 5]: {وَمَنْ أَصْدَقُ} [النساء: 78] وبابهما، وقد تقدم ذلك أيضاً في الفاتحة والنساء. فهذا خَلْطُ حرفٍ بحرف، كما أنَّ ما قبله خَلْطُ حركة بحركة. ومنها الإِشارةُ إلى الضمة في الوقفِ خاصةً، وإنما يراه البصير دونَ الأعمى. وقرأ أبو جعفر بالإِدغامِ الصريح من غير إشمامٍ. وقرأ الحسن ذلك بالإِظهار مبالغةً في بيان إِعراب الفعل وللمحافظة على حركة الإِعراب. اتفق الجمهورُ على الإِخفاء أو الإِشمام كما تقدم تحقيقه. وقرأ ابن هرمز «لا تَأْمُنَّا» بضم الميم، نَقَل حركةَ النون الأولى عند إرادةِ إدغامها بعد سَلْب الميمِ حركَتها، وخطُّ المصحف بنون واحدة، ففي قراءة الحسن مخالفة لها. وقرأ أبو رزين وابن وثاب «لا تِيْمَنَّا» بكسر حرف المضارعة، إلا أنَّ ابنَ وثَّابٍ سَهَّل الهمزةَ. قال الشيخ: «ومجيئُه بعد» مالك «والمعنى يُرْشد إلى أنه نَفْيٌ لا نَهْيٌ وليس كقولهم» ما أَحْسَنَنا «في التعجب؛ لأنه لو أدغم لالتبسَ بالنفي». قلت: وما أبعد هذا عن تَوَهُّم النهي حتى يَنُصَّ عليه. وقوله «لالتبس بالنفي» صحيح. اهـ (الدر المصون).

(12)

والإشمام يدل على الضَّمَّة المحذوفة، وترك الِإشمام جيِّدٌ، لأن الميم مفتوحةٌ فلا تُغَيَّر، والإِظهار في " تأمَنُنا " جيِّدٌ، لأن النونين من كلمتين. * * * وقوله - عزَّ وجلَّ -: (أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12) (غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ) بالياء، وقُرئت (نرتع ونلعب) بالنون، وَقُرئَتْ يُرْتَع ويُلْعَب - بضم الياء - وقرئت نَرْتَع ونَلْعَبْ. فجَزْمُ هذه القراءاتِ. كُلِّها على جواب الأمر (1). المعنى أَرْسلْهُ إنْ ترْسله يرتِعْ، وكذلك يُرْتَع، وكذلِك يَرْتَع وَيلْعَبْ - بكسر العين -. وكسر العين من الرعْي، المعنى يَرْتَعِي ويلْعَبْ، كأنهم قالوا يرعى ماشيَتهُ وَيلْعبْ، فيجتمع النفْعُ والسرورُ، وَيرْتَعُ من الرتْعَة، أي يتسع في الخصب، وكل مُخْصِبٍ فَهُوَ رَاتِع. * * * وقوله: (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15) (وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ). وقرئت غَيَابَاتِ الْجُبِّ، وقد فسرنا الْجُبَّ. وجاء في التفسير أَنها بئر بَيْتِ المَقْدِسِ. (وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ). هذا جائز أن يكون من صلة لَتُنَبِّئَنَّهُمْ وهم لا يشعرون. وجائز أن يكون من صلة " وأوحينا " المعنى: وأوحينا إليه وهم لَا يشعرون - أي أنبأناه بالوحي وهم لا يشعرون أنه نبيٌّ قد أُوحي إليه. * * * (وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16) (عِشَاءً) منصوب على الظرف. (إنا ذَهَبْنَا نَسْتَبقُ). وقِيلَ نَنْتَضِلْ

_ (1) قال السَّمين: قوله تعالى: {يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ}: فيها أربعَ عَشَرَة قراءةً إحداها: قراءةُ نافعٍ بالياء مِنْ تحت وكسرِ العين. الثانية: قراءةُ البزي عن ابن كثير «نَرْتَع ونلعب» بالنونِ وكسرِ العين. الثالثة: قراءةُ قنبل، وقد اخْتُلِفَ عليه فنُقِل عنه ثبوتُ الياء بعد العين وَصْلاً وَوَقْفاً وحَذْفُها وصلاً ووقفاً، فيوافق البزيَّ في أحد الوجهين عنه، فعنه قراءتان. الخامسة: قراءة أبي عمرو وابن عامر «نرتَعْ ونلعبْ» بالنون وسكون العين والباء. السادسة: قراءة الكوفيين: «يرتعْ ويلعبْ» بالياء من تحت وسكون العين والباء. وقرأ جعفر بن محمد «نرتع» بالنون «ويلعب» بالياء، ورُوِيَتْ عن ابن كثير. وقرأ العلاء بن سيابة «يَرْتَع ويلعبُ» بالياء فيهما وكسر العين وضم الباء. وقرأ مجاهد وقتادة وابن محيصن «نُرْتَعْ» بضم النون وسكون العين والباء. وقرأ أبو رجاء كذلك، إلا أنه بالياء مِنْ تحت فيهما. والنخعي ويعقوب «نرتع» بالنون و «يلعب» بالياء. والفعلان في هذه القراءات كلها مبنيُّ للفاعل. وقرأ زيد بن علي «يُرْتَع ويُلْعَب» بالياء مِنْ تحت مبنيّين للمفعول. وقرىء «نرتعي ونلعبُ» بثبوت الياء ورفع الباء. وقرأ ابن أبي عبلة «نَرْعي ونلعب» فهذه أربعَ عشرةَ قراءةً، منها ستٌّ في السبع المتواتِر وثمانٍ في الشاذ. فَمَنْ قرأ بالنون أسند الفعلَ إلى إخوة يوسف، ومَنْ قرأ بالياء أسند الفعل إليه دونهم، ومَنْ كسَر العين اعتقد أنه جزم بحذف حرفِ العلة، وجعله مأخوذاً [مِنْ] يَفْتَعِل من الرَّعْي كيرتمي مِن الرمي. ومَنْ سَكَّن العينَ اعتقد أنه جَزَمَهَ بحذف الحركة وجعله مأخوذاً مِنْ رتعَ يَرْتَعُ إذا اتِّسع في الخِصْب قال: 2747. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وإذا يَخْلُو له لَحْمي رَتَعْ ومَنْ سكَّن الباءَ جعله مجزوماً، ومَنْ رفعها جعله مرفوعاً على الاستئناف أي: وهو يلعب، ومَنْ غاير بين الفعلين فقرأ بالياء مِنْ تحت في «يلعب» دون «نرتع» فلأنَّ اللعبَ مُناسب للصغار. ومَنْ قَرَأَ: «نُرْتِع» رباعياً جعل مفعوله محذوفاً، أي: نُرْعي مواشِينَا، ومَنْ بناها للمفعول فالوجهُ أنه أضمر/ المفعولَ الذي لم يُسَمَّ فاعلُه وهو ضمير الغد، والأصل: نرتع فيه ونلعب فيه، ثم اتُّسع فيه فَحُذِفَ حرفُ الجر فتعدَّى إليه الفعلُ بنفسه فصار: نرتعه ونلعبه، فلمَّا بناه للمفعول قام الضمير المنصوب مقام فاعله فانقلب مرفوعاً واستتر في رافعه، فهو في الاتساع كقوله: 2748 ويومٍ شَهِدْناه سُلَيْمى وعامراً. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ومَنْ رفع الفعلين جعلَهما حالَيْن، وتكون حالاً مقدرة. وأمَّا إثبات الياء في «نَرْتعي» مع جزم «نلعب» وهي قراءةُ قنبل فقد تجرأ بعض الناس ورَدَّها، وقال ابن عطية: «هي قراءةٌ ضعيفة لا تجوز إلا في الشعر» وقيل: هي لغةُ مَنْ يجزم بالحركة المقدرة وأنشد: 2749 ألم يَأْتيك والأنباءُ تَنْمي. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وقد تقدَّمَتْ هذه المسألةُ مستوفاةً. و «نَرْتع» يحتمل أنْ يكونَ وزنُه تَفْتَعِلْ مِن الرعي وهو أَكْلُ المَرْعَى، ويكون على حَذْف مضاف: نرتع مواشينا، أو من المراعاة للشيء قال: 2750 تَرْتَعِي السَّفْحَ فالكَثيبَ فَذَاقا. . . رٍ فَرَوْضَ القطا فَذَاتَ الرِّئالِ ويحتمل أن يكونَ وزنُه نَفْعَل مِنْ: رَتَعَ يَرْتَعُ إذا أقام في خِصْب وسَعَة، ومنه قول الغضبان بن القبعثرى: «القَيْدُ والرَّتَعَةُ وقِلَّةُ المَنَعَة» وقال الشاعر: 2751 أكفراً بعد رَدِّ الموت عني. . . وبعد عطائِك المِئَةَ الرِّتاعا. اهـ (الدر المصون).

(17)

(قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17) (فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا) أي بمصدِّق لَنَا. (وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ). ليس يريدون أنَّ يَعْقُوبَ - عليه السلام - لا يُصَدِّق من يَعْلَم أنه صادق، هذا مُحال، لاَ يُوصَفُ الأنْبِياءُ بذلك، ولكن المعنى: لو كنا عندك من أهل الثقَةِ والصدْق لاتهَمتَنا فِي يُوسُفَ لمحبَّتِكَ إيَّاهُ، وظننت أنا قد كَذَبْنَاكَ. * * * وقوله: (وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18) يروى أنهم - رحمة " اللَّه عَلَيْهِم - لمَّا طَرَحُوا يُوسُفَ عليه السلام في الْجُبِّ أخَذوا قميصَه وذَبَحوا جَدْياً فلطخوا القميصَ بدم الجَدْي. وقيل سخْلَة. والمعنى واحد، فلما رأى يعقوب - صلى الله عليه وسلم - القميصَ قال: كَذَبْتُم، لو أكله الذئبُ لخرقَ قمِيصَهُ. وقيل إنه قال إِنْ كَان هَذا الذئبُ لحلِيماً، أشْفقَ على القميص فلم يمزقْهُ، وأَكَل ابني فالدَّمُ دمٌ كذِب، أَيْ ذُو كذِبٍ، والمعنى دم مكذوب (قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا). أي بل زَيَّنَتْ أنفسُكم أَمْراً في قِصةِ يوسُفَ (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ). معناه صبر لا جَزَع فيه ولَا شَكْوى إلى النَّاسِ. وصبر جميل مرفوع على ضرِبَيْنِ: المعنى فشأني صَبْر جَميل، والذي أعتقده صبرٌ جميل، ويجوز أن يكون عَلَى " فصَبْرِي صبر جَميلٌ " وهذا لفظ قُطْربُ: فَصَبْري صَبرٌ جَميل. والأول مذهب الخليل وجميع أصحابه. ويجوز في غير القرآن فصَبْراً جميلاً. وأنشدوا في الرفع:

(19)

شكا إِليَّ جملي طولَ السُّرى. . . يا جملي ليس إليَّ المشتكى صبرٌ جُمَيْلٌ فكِلانا مُبْتَلى وصبراً جميلاً منصوب على مثل (فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا). * * * وقوله: (وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19) الوارد الذي يرد الماء ليسقي للقوم. (فَأَدْلَى دَلْوَهُ). يقال: أَدْلَيْتَ الدلْوَ إذَا أرْسلتَها لتملأها، وَدَلَوْتَها إذَا أخرجْتَها. (قَالَ يَا بُشْرَايَ) (1). بألف وياء مفتوحة، وقرئت يا بُشْرَيَّ، وقد فسرناها في قوله: (فَمَنْ تَبعَ هُدَايَ)، وتفسيرها أن ياء الإضافة تغيِّر ما قبلها ولا يُبَينُ معها الإعراب، فإذا كان قبلها ألف فالاختيار أَلَّا تغير الألف، وبعض العرب يبدل الألف معها ياء، فيكون بدَلَها بمنزلة تغيير الحروف قبلها. وقرئت: (يا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ)، بغير ياء. ومعنى النداء في هذه الأشياء التي لا تجيب ولا تعقل إنما هو على تنبيه المخاطبين، وتوكيد القصةِ. إذا قلتَ يا عجَباهُ فكأنك قلت: اعجبوا ويا أيها العجبُ هذا مِنْ حِينكَ. وكذلك إِذَا قال يا بُشراي فكأنَّه قال: أبشروا، وكأنه قال يا أيتها البشرى هذا من إِبَّانِكِ وأوَانِكِ. وقوله - عزَّ وجلَّ -: (وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً). لَمَّا وجدُوهُ أحبوا أَنْ لَا يُعْلَم بأنه مَوجُودٌ، وأَن يُوهِمُوا أنه بضاعة دفعها

_ (1) قال السَّمين: قوله: {يابشراى} قرأ الكوفيون بحذف ياء الإِضافة، وأمال ألفَ فعلى الأخوان، وأمالها ورش بين بين على أصله، وعن أبي عمرو الوجهان، ولكن الأشهرَ عنه عدمُ الإِمالة، وليس ذلك مِنْ أصله على ما قُرِّر في علم القراءات. وقرأ الباقون «يا بشراي» مضافة لياء المتكلم، ونداء البشرى على حدِّ قولِه: {ياحسرتا على} [الزمر: 56] {ياحسرة عَلَى العباد} [يس: 30] كأنه يقول: يا بشرى هذا وقتُ أوانِ أن تُنادَيْ ويُصاحَ بكِ. ومَنْ زعم أنَّ «بشرى» اسم رجل كالسدِّي فقد أَبْعَدَ. وقرأ ورش عن نافع «يا بُشْراْيْ» بسكون الياء، وهو جمعٌ بين ساكنين في الوصل، وهذا كما تقدم في {وَمَحْيَايَ} [الأنعام: 162]، فعليك بالالتفات إليه. وقال الزمخشري: «وليس بالوجه لما فيه من التقاء الساكنين على غير حَدِّه إلا أن يَقْصِدَ الوقف». وقرأ الجحدري وابن أبي إسحاق والحسن: «يا بُشْرَيَّ» بقلبِ الألفِ ياءً وإدغامها في ياء الإِضافة وهي لغة هُذَلِيَّة تقدَّم الكلامُ عليها في البقرة عند قوله: {فَمَنْ تَبِعَ هُدَيَّ} [البقرة: 38]. وقال الزمخشري: «وفي قراءة الحسن يا بُشْرَيَّ بالياء مكان الألف جُعِلَتْ الياءُ بمنزلة الكسرة قبل ياء الإِضافة وهي لغة للعرب مشهورة، سمعت أهلَ السروات يقولون في دعائهم: يا سيدي ومَوْلَيَّ». اهـ (الدر المصون).

(20)

إليهم أهل الماء، وبضاعة منصوب على الحال، كأنَّه قال: وأسَروه جَاعِليِه بضاعةً. * * * وقوله: (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20) قيل بخس: ظلم، لأن الإنسانَ الموجود لا يحل بيعُه، وقيل: بخس نقصان، وأكثر التفسير على أن بخساً ظلماً. وجاء في التفسير أنه بيع بعشرين درهماً، وقيلَ باثنَيْن وَعِشرينَ دِرْهماً أخذ كل واحد من إخوته درهمين، وقيل بأربعين درهماً، ورُوِيَ كُل ذَلكَ. وقوله (وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ) (فيه) ليست بصلة الزاهدين، المعنى: وكانوا من الزاهدينَ ثم بيَّن في أي شيء زهدوا. فكأنَّه قال: زهدوا فيه، وهذا في الظروف جائز. فأما المفعولات فلا يجوز فيها، لا يجوز كنت زيداً من الضاربين، لأن زيداً من صلةِ الضاربين فلا يتقدم الموصول صلته. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21) مصر مفتوحة في موضع الجر إلا أنَّها لا تَنْصَرِفُ، لأنها اسم والمدينة بعينها، وهي معرفة (لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا). (مَثْوَاهُ) مُقَامُه. المعنى أحسني إليه في طول مُقامِه عنْدَنَا. ويروى أنَّ أَفْرَسَ الناس ثلاثة، وأن أجودهم فراسة العزيز في فراسته في

(22)

يوسف، وابنة شعيب في فراستها في موسى حين قالت: (يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) وأبو بكر في تَوْليتهِ عمرَ الخلافة بعدَهُ. وقوله: (وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ) أي ومثل الذي وصفنا مَكنا ليوسف في الأرضِ. (وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ). جائز أن يكون تأويل الرؤيَا، وأن يَكُونَ تأويل أحاديثِ الأنْبِيَاءِ. * * * (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22) الأشُدُّ من نحو سبع عشرة سنة إلى نحو الأربعين، آتيناه حُكْماً وعِلْماً. أي جَعَلْنَاه حَكيماً عَالِماً، ولَيْس كل عالمٍ حَكِيماً. الحكيم العالِمُ المستعملُ علمَه، الممتنع من استعمال ما يُجَهَّلُ فيه. وأصل أَحْكَمْتُ افي اللغَةِ مَنَعْتُ، ومن هذا حَكَمَةُ الذَائةِ، لأن الفارس يمنع بها الدائةَ من إرَادَتِها. (وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ). أي ومثل مَا وَصَفْنَا من تعليم يوسفَ نَجْزي المُحْسِنينَ. * * * (وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) المعنى أنها رَاوَدْته عما أرادَتْه مما يريد النساء من الرجَالِ، فَعُلِمَ بِتَرْكِهِ ذكرَ الفَاحِشَةِ نفسها ما راودته عليه (1). (وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ). المعنى هَلُمَّ لَكَ، أي أَقْبل إلى مَا أَدعوكَ إليهِ.

_ (1) قال السَّمين: قوله تعالى: {وَرَاوَدَتْهُ}: أي: طالَبَتْه برفقٍ ولين قولٍ، والمُراوَدَةُ المصدر، والرِّيادة: طَلَبُ النِّكاح، ومشى رُوَيْداً، أي: ترفَّق في مِشْيتِه، والرَّوْدُ، الرِّفْقُ في الأمور والتأنِّي فيها، ورادَتِ المرأةُ في مَشْيها تَرُوْدُ رَوَدَاناً من ذلك، والمِرْوَدُ هذه الآلةُ منه، والإرادةُ منقولةٌ مِنْ راد يرود إذا سعى في طلب حاجة، وقد تقدَّم ذلك في البقرة، وتعدى هنا ب «عن» لأنه ضُمِّن معنى خادَعَتْ، أي: خادَعَتْه عن نفسه، والمفاعلةُ هنا من الواحد نحو: داوَيْتُ المريض، ويحتمل أن تكون على بابها، فإنَّ كلاً منهما كان يطلبُ مِنْ صاحبه شيئاً برفق، هي تطلُب منه الفعلَ وهو يطلبُ منها التركَ. والتشديد في «غَلَّقَتْ» للتكثير لتعدُّد المجال. اهـ (الدر المصون).

وفي (هَيْتَ لَكَ) لُغَات: يجوز هَيْتُ لك، وهَيْتِ. وأجْودها وأكثرها هيتَ - بفتح التاء - ورُوِيتْ عنْ علي صلوات اللَّه عليه: هِيتِ لَكَ فأمَّا الفتحُ مع فتح التاء والهاء، فهو أكثر كلام العرب. قال الشاعر:. أبلغ أمير المؤمنين. . . أخا العِراقِ إذا أَتَيْتَا أنَّ العِراقَْ وأهْلَهُ. . . عُنُق إليكَ فهيْتَ هَيْتا أي فأقبل وتعالَ. وحكى قطرب أنه أنشده بعض أهل الحجاز لطرفة بن العبد: ليس قومي بالأبعدين إذا ما. . . قال داع من العشيرةِ هَيْت هم يُجيبونَ ذَا هَلُمَّ سرَاعاً. . . كالأبَابِيلِ لا يُغَادَرُ بَيْتُ رُوَيتْ عن ابن عباسٍ هِئْتُ لَكَ مهموزةً مكسورة الهاء، من الهَيْئةِ كأنها قالت تَهَيأتُ لك، فأما الفتح في (هيْتَ) فلأنها بمنزلة الأصوات، ليس منها فعل يتصَرَّفُ ففُتحت التاءُ لسكونها وسكون الياء، وأختير الفتح لأن قبل التاء ياء كما قالوا: كيْفَ وأيْنَ، ومن قال هيتِ لك - بكسر التاء، فلأن أصل التقاء السَّاكنين حركة الكسر، ومن قال: هَيتُ ضمها لأنها في معنى الغاياتِ، كأنها قالت: دُعائي لك، ولما حذفت الإضافةُ وتضمنتْ معناها بُنيتْ على الضم كما بُنيتْ حَيْثُ ومُنْذُ يا هذا. وَقِراءةُ عَلِيٍّ " هِئْتُ لك " بمنزلة هيتَ والحجة فيها كالحجة فيها مفتوحة (1).

_ (1) قال السَّمين: قوله: {هَيْتَ لَكَ} اختلف أهلُ النحوِ في هذه اللفظة: هل هي عربيةٌ أم معرَّبةٌ، فقيل: معربةٌ من القبطية بمعنى هلمَّ لك، قاله السدي. وقيل: من السريانية، قاله ابن عباس والحسن. وقيل: هي من العبرانية وأصلها هَيْتَلَخ، أي: تعالَه فأعربه القرآن، قاله أبو زيد الأنصاري. وقيل: هل لغة حَوْرانية وقعت إلى أهل الحجاز فتكلَّموا بها ومعناها تعال، قاله الكسائي والفراء، وهو منقولٌ عن عكرمة. والجمهور على أنها عربية، قال مجاهد: «هي كلمة حَثٍّ وإقبال، ثم هي في بعض اللغات تَتَعَيَّن فعليَّتُها، وفي بعضها اسميتُها، وفي بعضها يجوز الأمران، وستعرف ذلك من القراءات المذكورة فيها: فقرأ نافع وابن ذكوان» هِيْتَ «بكسر الهاء وياء ساكنة وتاء مفتوحة. وقرأ» هَيْتُ «بفتح الهاء وياءٍ ساكنةٍ وتاء مضمومة ابنُ كثير. وقرأ» هِئْتَ «بكسر الهاء وهمزةٍ ساكنة وتاءٍ مفتوحةٍ أو مضمومةٍ هشامٌ. وقرأ» هَيْتَ «بفتح الهاء وياءٍ ساكنةٍ وتاءٍ مفتوحةٍ الباقون، فهذه خمس قراءات في السبع. وقرأ ابن عباس وأبو الأسود والحسن وابن محيصن بفتح الهاء وياء ساكنة وتاء مكسورة. وحكى النحاس أنه قُرىء بكسر الهاء والتاء بينهما ياء ساكنة. وقرأ ابن عباس أيضاً» هُيِيْتُ «بضم الهاء وكسر الياء بعدها ياء ساكنة ثم تاء مضمومة بزنة حُيِيْتُ. وقرأ زيد بن علي وابن أبي إسحاق بكسر الهاء وياء ساكنة وتاء مضمومة. فهذه أربع في الشاذ فصارت تسع قراءات. فيتعيَّن كونُها اسمَ فعل في غير قراءة ابن عباس» هُيِيْتُ «بزنة حُيِيْتُ. وفي غيرِ قراءة كسر الهاء سواءً كان ذلك بالياء أم بالهمز: فَمَنْ فَتَحَ التاء بناها على الفتح تخفيفاً نحو: أيْنَ وكَيْفَ، ومَنْ ضَمَّها كابن كثير فتشبيهاً ب» حيث «، ومَنْ كسر فعلى أصلِ التقاء الساكنين كجَيْرِ، وفَتْحُ الهاء وكَسْرُها لغتان. ويَتَعَيَّنُ فعليَّتُها في قراءة ابن عباس» هُيِيْتُ «بزنة» حُيِيْت «فإنها فيها فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ للمفعول مسندٌ لضمير المتكلم مِنْ هَيَّأْتُ الشيءَ، ويحتمل الأمرين في قراءةِ مَنْ كسر الهاء وضمَّ التاء، فيحتملُ أن تكونَ فيه اسمَ فعلٍ بُنِيَتْ على الضمِّ كحَيْثُ، وأن تكونَ فعلاً مسنداً لضمير المتكلم مِنْ هاءَ الرجلُ يَهِيءُ كجاء يَجيء وله حينئذٍ معنيان، أحدهما: أن يكون بمعنى حَسُنَ هَيْئَةً. والثاني: أن يكونَ بمعنى تهيَّأ، يُقال: هِئْتُ، أي: حَسُنَتْ هيئتي أو تهيَّأْتُ. وجوَّز أبو البقاء أن تكون «هِئْتُ» هذه مِنْ: هاءَ يَهاء، كشاء يشاء. وقد طعن جماعةٌ على قراءة هشام التي بالهمز وفتح التاء، فقال الفارسي: «يشبه أن [يكون] الهمز وفَتْحُ التاء وَهْماً من الراوي، لأنَّ الخطاب مِن المرأة ليوسف ولم يتهيَّأْ لها بدليل قوله:» وراوَدَتْه «و {أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب} [يوسف: 52] وتابعه على ذلك جماعة. وقال مكي بن أبي طالب:» يجب أن يكون اللفظُ «هِئْتِ لي» ولم يَقْرأ بذلك أحدٌ «وأيضاً فإن المعنى على خلافِه لأنه لم يَزَلْ/ يَفِرُّ منها ويتباعد عنها، وهي تراوِدُه وتطلبه وتَقُدُّ قميصه، فكيف يُخْبر أنها تهيَّأ لها؟ وقد أجاب بعضهُم عن هذين الإِشكالين بأن المعنى: تهيَّأ لي أمرُك، لأنها لم تكنْ تقدِر على الخَلْوَة به في كل وقت، أو يكون المعنى: حَسُنَتْ هيئتك. و» لك «متعلقٌ بمحذوف على سبيل البيان كأنها قالت: القول لك أو الخطاب لك، كهي في» سقياً لك ورعياً لك «. قلت: واللامُ متعلقةٌ بمحذوف على كل قراءة إلا قراءةً ثبت فيها كونُها فعلاً، فإنها حينئذٍ تتعلَّقُ بالفعل، إذ لا حاجةَ إلى تقديرِ شيءٍ آخرَ. وقال أبو البقاء:» والأشبهُ أن تكونَ الهمزةُ بدلاً من الياء، أو تكونَ لغةً في الكلمة التي هي اسم للفعل، وليست فعلاً لأن ذلك يوجب أن يكونَ الخطابُ ليوسف عليه السلام، وهو فاسدٌ لوجهين، أحدهما: أنه لم يتهيَّأ لها وإنما هي تهيَّأَتْ له. والثاني: أنه قال لك، ولو أرادَ الخطابَ لكان هِئْتَ لي «. قلت: قد تقدَّم جوابُه. وقوله:» إن الهمزة بدلٌ من الياء «هذا عكسُ لغة العرب إذ قد عَهِدْناهم يُبْدلون الهمزة الساكنة ياءً إذا انكسر ما قبلها نحو: بير وذيب، ولا يَقْبلون الياءَ المكسورَ ما قبلها همزةً نحو: مِيل ودِيك، وأيضاً فإن غيرَه جعل الياءَ الصريحة مع كسر الهاء كقراءة نافع وابن ذكوان محتملةً لأَنْ تكونَ بدلاً من الهمزة، قالوا: فيعود الكلام فيها كالكلام في قراءة هشام. واعلم أنَّ القراءةَ التي استشكلها الفارسي هي المشهورةُ عن هشام، وأمَّا ضمُّ التاءِ فغيرُ مشهورٍ عنه، وهذا قد أَتْقَنْتُه في شرح» حِرْز الأماني «. اهـ (الدر المصون).

(24)

ثم قال: (مَعَاذَ اللَّهِ). مصدر، المعنى أعوذُ باللَّهِ أَنْ أَفْعَلَ هَذا، تَقُولُ: عُذْتُ عِياذاً ومَعَاذاً. (إِنَّهُ رَبِّي). أي إن العزيز صَاحبي (أحْسَن مَثوايَ)، أي تَولَّانِي في طُولِ مَقَامِي (إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ). أي: إِن فعلت هذا فخنته في أهله بعدما أكرمني فأنا ظالم. [ويجوز أن يكون «إِنه ربي» يعني الله عز وجل «أحسن مثواي» أي: تولَّاني في طول مُقامي.] (2) * * * (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) أكثَرُ المفسِّرِين أنه هَمَّ بها حتى رأى صورة يعقوب عليه السلام، وهو يقول له: يا يوسف أَتَهُمُّ بِفِعْلِ السفَهاءِ وأنت مكتوب فِي ديوانِ الأنبياء، وقيل إنه رأى في البيت مكتوباً: (وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32). وهذا مذهب أهل التَفْسِير، ولسنا نشكُّ أنه قد رأى برهاناً قطعه عَما هَمَّ به (2). وقال قوم: المعنى (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ). وذَهَبُوا إلى أن المعنى لَوْلاَ أن رَأَى برهان رَبِّهِ لَهَمَّ بِهَا. والذي عليه المفسرون أنه هَمَّ بها وأنه جَلَسَ منها مجلس الرجُلِ من المرأة إلا أَن اللَّه تفضل بأن أراه البُرهانَ، أَلَا تَراه قال: (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ). والمعنى لَوْلاَ أنْ رأى بُرْهَان رَبِّهِ لأمْضَى ما هَمَّ بِه. وليس في الكلام بكثير أتى تقول: ضربتك لولا زيد، ولا هممت بك لولا زيد، إنما الكلام لولا زيد لهَمَمْتُ بك. و (لولا) تجابُ باللامِ، فلو

_ (1) زيادة حكاها ابن الجوزي عن الزَّجَّاج. اهـ (زاد المسير. 4/ 203). (2) قال الإمام فخر الدين الرازي: اعلم أن هذه الآية من المهمات التي يجب الاعتناء بالبحث عنها وفي هذه الآية مسائل: المسألة الأولى: في أنه عليه السلام هل صدر عنه ذنب أم لا؟ وفي هذه المسألة قولان: الأول: أن يوسف عليه السلام هم بالفاحشة. قال الواحدي في كتاب «البسيط» قال المفسرون: الموثوق بعلمهم المرجوع إلى روايتهم هم يوسف أيضاً بهذه المرأة هما صحيحاً وجلس منها مجلس الرجل من المرأة، فلما رأى البرهان من ربه زالت كل شهوة عنه. قال جعفر الصادق رضي الله عنه بإسناده عن علي عليه السلام أنه قال: طمعت فيه وطمع فيها فكان طمعه فيها أنه هم أن يحل التكة، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: حل الهميان وجلس منها مجلس الخائن وعنه أيضاً أنها استلقت له وجلس بين رجليها ينزع ثيابه، ثم إن الواحدي طول في كلمات عديمة الفائدة في هذا الباب، وما ذكر آية يحتج بها ولا حديثاً صحيحاً يعول عليه في تصحيح هذه المقالة، وما أمعن النظر في تلك الكلمات العارية عن الفائدة روي أن يوسف عليه السلام لما قال: {ذلك لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بالغيب} [يوسف: 52] قال له جبريل عليه السلام ولا حين هممت يا يوسف فقال يوسف عند ذلك: {وَمَا أُبَرّىء نَفْسِى} [يوسف: 53] ثم قال والذين أثبتوا هذا العمل ليوسف كانوا أعرف بحقوق الأنبياء عليهم السلام وارتفاع منازلهم عند الله تعالى من الذين نفوا لهم عنه، فهذا خلاصة كلامه في هذا الباب. والقول الثاني: أن يوسف عليه السلام كان بريئاً عن العمل الباطل، والهم المحرم، وهذا قول المحققين من المفسرين والمتكلمين، وبه نقول وعنه نذب. واعلم أن الدلائل الدالة على وجوب عصمة الأنبياء عليهم السلام كثيرة، ولقد استقصيناها في سورة البقرة في قصة آدم عليه السلام فلا نعيدها إلا أنا نزيد ههنا وجوهاً: فالحجة الأولى: أن الزنا من منكرات الكبائر والخيانة في معرض الأمانة أيضاً من منكرات الذنوب، وأيضاً مقابلة الإحسان العظيم بالإساءة الموجبة للفضيحة التامة والعار الشديد أيضاً من منكرات الذنوب، وأيضاً الصبي إذا تربى في حجر إنسان وبقي مكفي المؤنة مصون العرض من أول صباه إلى زمان شبابه وكما قوته فإقدام هذا الصبي على إيصال أقبح أنواع الإساءة إلى ذلك المنعم المعظم من منكرات الأعمال. إذا ثبت هذا فنقول: إن هذه المعصية التي نسبوها إلى يوسف عليه السلام كانت موصوفة بجميع هذه الجهات الأربع ومثل هذه المعصية لو نسبت إلى أفسق خلق الله تعالى وأبعدهم عن كل خير لاستنكف منه، فكيف يجوز إسنادها إلى الرسول عليه الصلاة والسلاما المؤيد بالمعجزات القاهرة الباهرة. ثم إنه تعالى قال في غير هذه الواقعة: {كذلك لِنَصْرِفَ عَنْهُ السوء والفحشاء} [يوسف: 24] وذلك يدل على أن ماهية السوء والفحشاء مصروفة عنه، ولا شك أن المعصية التي نسبوها إليه أعظم أنواع وأفحش أقسام الفحشاء فكيف يليق برب العالمين أن يشهد في عين هذه الواقعة بكونه بريئاً من السوء مع أنه كان قد أتى بأعظم أنواع السوء والفحشاء. وأيضاً فالآية تدل على قولنا من وجه آخر، وذلك لأنا نقول هب أن هذه الآية لا تدل على نفي هذه المعصية عنه، إلا أنه لا شك أنها تفيد المدح العظيم والثناء البالغ، فلا يليق بحكمة الله تعالى أن يحكى عن إنسان إقدامه على معصية عظيمة ثم إنه يمدحه ويثني عليه بأعظم الدمائح والأثنية عقيب أن حكى عنه ذلك الذنب العظيم، فإن مثاله ما إذا حكى السلطان عن بعض عبيده أقبح الذنوب وأفحش الأعمال ثم إنه يذكره بالمدح العظيم والثناء البالغ عقيبه، فإن ذلك يستنكر جداً فكذا ههنا والله أعلم. الثالث: أن الأنبياء عليهم السلام متى صدرت منهم زلة، أو هفوة استعظموا ذلك وأتبعوها بإظهار الندامة والتوبة والتواضع، ولو كان يوسف عليه السلام أقدم ههنا على هذه الكبيرة المنكرة لكان من المحال أن لا يتبعها بالتوبة والاستغفار ولو أتى بالتوبة لحكى الله تعالى عنه إتيانه بها كما في سائر المواضع وحيث لم يوجد شيء من ذلك علمنا أنه ما صدر عنه في هذه الواقعة ذنب ولا معصية. الرابع: أن كل من كان له تعلق بتلك الواقعة فقد شهد ببراءة يوسف عليه السلام من المعصية. واعلم أن الذين لهم تعلق بهذه الواقعة يوسف عليه السلام، وتلك المرأة وزوجها، والنسوة والشهود ورب العالمين شهد ببراءته عن الذنب، وإبليس أقر ببراءته أيضاً عن المعصية، وإذا كان الأمر كذلك، فحينئذ لم يبق للمسلم توقف في هذا الباب. أما بيان أن يوسف عليه السلام ادعى البراءة عن الذنب فهو قوله عليه السلام: {هِىَ رَاوَدَتْنِى عَن نَّفْسِى} [يوسف: 26] وقوله عليه السلام: {رَبّ السجن أَحَبُّ إِلَىَّ مِمَّا يَدْعُونَنِى إِلَيْهِ} [يوسف: 33] وأما بيان أن المرأة اعترفت بذلك فلأنها قالت للنسوة: {وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فاستعصم} [يوسف: 32] وأيضاً قالت: {قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ} [يوسف: 51] وأما بيان أن زوج المرأة أقر بذلك، فهو قوله: {إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ * يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا واستغفرى لِذَنبِكِ} [يوسف: 28، 29] وأما الشهود فقوله تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكاذبين} [يوسف: 26] وأما شهادة الله تعالى بذلك فقوله: {كذلك لِنَصْرِفَ عَنْهُ السوء والفحشاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المخلصين} [يوسف: 24] فقد شهد الله تعالى في هذه الآية على طهارته أربع مرات: أولها: قوله: {لِنَصْرِفَ عَنْهُ السوء} واللام للتأكيد والمبالغة. والثاني: قوله: {والفحشاء} أي كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء. والثالث: قوله: {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا} مع أنه تعالى قال: {وَعِبَادُ الرحمن الذين يَمْشُونَ على الأرض هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجاهلون قَالُواْ سَلاَماً} [الفرقان: 63] والرابع: قوله: {المخلصين} وفيه قراءتان: تارة باسم الفاعل وأخرى باسم المفعول فوروده باسم الفاعل يدل على كونه آتياً بالطاعات والقربات مع صفة الأخلاص. ووروده باسم المفعول يدل على أن الله تعالى استخلصه لنفسه واصطفاه لحضرته، وعلى كلا الوجهين فإنه من أدل الألفاظ على كونه منزهاً عما أضافوه إليه، وأما بيان أن إبليس أقر بطهارته، فلأنه قال: {فبعزتك لأغوينهم أجمعين * إلا عبادك منهم المخلصين} [ص: 82، 83] فأقر بأنه لا يمكنه إغواء المخلصين ويوسف من المخلصين لقوله تعالى: {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المخلصين} فكان هذا إقراراً من إبليس بأنه ما أغواه وما أضله عن طريقة الهدى، وعند هذا نقول هؤلاء الجهال الذين نسبوا إلى يوسف عليه السلام هذه الفضيحة إن كانوا من أتباع دين الله تعالى فليقبلوا شهادة الله تعالى على طهارته وإن كانوا من أتباع إبليس وجنوده فليقبلوا شهادة إبليس على طهارته ولعلهم يقولون كنا في أول الأمر تلامذة إبليس إلى أن تخرجنا عليه فزدنا عليه في السفاهة كما قال الخوارزمي: وكنت امرأ من جند إبليس فارتقى. . بي الدهر حتى صار إبليس من جندي فلو مات قبلي كنت أحسن بعده. . طرائق فسق ليس يحسنها بعدي فثبت بهذه الدلائل أن يوسف عليه السلام برىء عما يقوله هؤلاء الجهال. وإذا عرفت هذا فنقول: الكلام على ظاهر هذه الآية يقع في مقامين: المقام الأول: أن نقول لا نسلم أن يوسف عليه السلام هم بها. والدليل عليه: أنه تعالى قال: {وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبّهِ} وجواب {لَوْلاَ} ههنا مقدم، وهو كما يقال: قد كنت من الهالكين لولا أن فلاناً خلصك، وطعن الزَّجَّاج في هذا الجواب من وجهين: الأول: أن تقديم جواب {لَوْلاَ} شاذ وغير موجود في الكلام الفصيح. الثاني: أن {لَوْلاَ} يجاب جوابها باللام، فلو كان الأمر على ما ذكرتم لقال: ولقد همت ولهم بها لولا. وذكر غير الزَّجَّاج سؤالاً ثالثاً وهو أنه لو لم يوجد الهم لما كان لقوله: {لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبّهِ} فائدة. واعلم أن ما ذكره الزَّجَّاج بعيد، لأنا نسلم أن تأخير جواب {لَوْلاَ} حسن جائز، إلا أن جوازه لا يمنع من جواز تقديم هذا الجواب، وكيف ونقل عن سيبويه أنه قال: إنهم يقدمون الأهم فالأهم، والذي هم بشأنه أعنى فكان الأمر في جواز التقديم والتأخير مربوطاً بشدة الاهتمام. وأما تعيين بعض الألفاظ بالمنع فذلك مما لا يليق بالحكمة، وأيضاً ذكر جواب {لَوْلاَ} باللام جائز. أما هذا لا يدل على أن ذكره بغير اللام لا يجوز، ثم إنا نذكر آية أخرى تدل على فساد قول الزَّجَّاج في هذين السؤالين، وهو قوله تعالى: {إِن كَادَتْ لَتُبْدِى بِهِ لَوْلا أَن رَّبَطْنَا على قَلْبِهَا} [القصص: 10]. وأما السؤال الثالث: وهو أنه لو لم يوجد الهم لم يبق لقوله: {لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبّهِ} فائدة. فنقول: بل فيه أعظم الفوائد، وهو بيان أن ترك الهم بها ما كان لعدم رغبته في النساء، وعدم قدرته عليهن بل لأجل أن دلائل دين الله منعته عن ذلك العمل، ثم نقول: إن الذي يدل على أن جواب {لَوْلاَ} ما ذكرناه أن {لَوْلاَ} تستدعي جواباً، وهذا المذكور يصلح جواباً له، فوجب الحكم بكونه جواباً له لا يقال إنا نضمر له جواباً، وترك الجواب كثير في القرآن، لأنا نقول: لا نزاع أنه كثير في القرآن، إلا أن الأصل أن لا يكون محذوفاً. وأيضاً فالجواب إنما يحسن تركه وحذفه إذا حصل في اللفظ ما يدل على تعينه، وههنا بتقدير أن يكون الجواب محذوفاً فليس في

(25)

كان: ولقد هَمَّتْ بِهِ وَلَهمَّ بها لولا أن رأى أي برهان رَبِّه لكان يجوز على بعد (1). وقوله: (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ). أي كذلك أرَيْنَاهُ البُرهَانَ لنَصْرِفَ عنه السُّوءَ والفَحْشَاءَ، فالسوءُ - خيانة صاحبه، والفحشاء ركوب الفاحشة. (إِنَهُ مِن عِبَادِنَا المُخْلَصِينَ). أي الذين أخلصوا، أخْلَصَهُمُ اللَّهُ مِن الأسْوَاءِ والفواحش، مثل المُصْطَفَيْنَ. وَقُرِئتْ مِنَ المخْلِصِينَ بكسر اللام، أي الذين أخْلَصوا دينَهُمْ للَّهِ عزَّ وجلَّ. * * * وقوله: (وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَا الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25) أي استبقا إلى الباب، يعني به يوسف وامرأة العزيز. (وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ). والقدُّ القطع، أي خَرقَتْه خَرْقاً انقَدَّ مِنْه. (وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَا الْبَابِ). أي صادفا سيدها لدى الباب فحصرها في ذلك الوقت كيدٌ لَمَّا فَاجأَتْ سَيِّدَهَا. (قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ). أي ما جزاؤه إلا السِّجْن. (أوْ عَذَابٌ ألِيمٌ). أي عذاب مُوجع. قال يوسف: (هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26)

_ (1) قال السَّمين: قوله تعالى: {لولا أَن رَّأَى}: جوابُ لولا: إمَّا متقدِّمٌ عليها وهو قوله: «وَهَمَّ بها» عند مَنْ يُجيز تقديمَ جوابِ أدواتِ الشرط عليها، وإمَّا محذوفٌ لدلالة هذا عليه عند مَنْ لا يرى ذلك، وقد تقدَّم تقريرُ المذهبينِ ومَنْ عُزِيا إليه غيرَ مرة كقولهم: «أنت ظالمٌ إن فعلْتَ»، أي: إنْ فَعَلْتَ فأنت ظالمٌ، ولا تقول: إنَّ «أنت ظالمٌ» هو الجوابُ بل دالٌّ عليه، وعلى هذا فالوقفُ عند قوله: «برهان ربه» والمعنى: لولا رؤيتُه برهانَ ربه لهمَّ بها لكنه امتنع هَمُّه بها لوجودِ رؤيةِ برهان ربه، فلم يَحْصُل منه هَمٌّ ألبتَّةَ كقولك: «لولا زيدٌ لأكرمتك» فالمعنى أن الإِكرام ممتنعٌ لوجود زيد، بهذا يُتَخَلَّص من الأشكال الذي يورَدُ وهو: كيف يليق بنبيٍّ أن يَهُمَّ بامرأة؟. قال الزمخشري: فإن قلت: قوله «وهمَّ بها» داخلٌ تحت القَسَم في قوله: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ} أم خارجٌ عنه؟ قلت: الأمران جائزان، ومِنْ حَقِّ القارىء إذا قَصَدَ خروجَه من حكم القَسَم وجَعَلَه كلاماً برأسه أن يَقِفَ على قوله: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ} ويبتدىء قولَه: {وَهَمَّ بِهَا لولا أَن رأى بُرْهَانَ رَبِّهِ} وفيه أيضاً إشعارٌ بالفرق بين الهَمَّيْن. فإن قُلْتَ: لِمَ جَعَلْتَ جَوابَ «لولا» محذوفاً يدلُّ عليه «وهَمَّ بها» وهَلاَّ جَعَلْتَه هو الجوابَ مقدَّماً. قلت. لأنَّ «لولا» لا يتقدَّم عليها جوابُها مِنْ قِبَلِ أنه في حكم الشرط، وللشرط صدرُ الكلام وهو [مع] ما في حَيِّزه من الجملتين مثلُ كلمةٍ واحدة، ولا يجوز تقديمُ بعضِ الكلمة على بعض، وأمَّا حَذْفُ بعضها إذا دَلَّ عليه الدليل فهو جائز «. قلت: قوله» وأمَّا حَذْفُ بعضها «إلى آخره جواب عن سؤالٍ مقدرٍ وهو: فإذا كان جوابُ الشرط مع الجملتين بمنزلةِ كلمةٍ فينبغي أنْ لا يُحْذَفَ منهما شيءٌ، لأن الكلمةَ لا يُحذف منها شيءٌ. فأجاب بأنه يجوز إذا دلَّ دليلٌ على ذلك. وهو كما قال. ثم قال:» فإن قلت: لِمَ جَعَلْتَ «لولا» متعلقةً ب «هَمَّ بها» وحدَه، ولم تَجْعَلْها متعلقةً بجملةِ قوله: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا}؟ لأنَّ الهمَّ لا يتعلَّق بالجواهر ولكن بالمعاني، فلا بد من تقدير المخالطة، والمخالطةُ لا تكون إلا بين اثنين معاً، فكأنه قيل: / ولقد هَمَّا بالمخالطة لولا أنْ مَنَعَ مَانعُ أحدِهما. قلت: نِعْم ما قلت، ولكن اللَّه سبحانه قد جاء بالهمَّين على سبيل التفصيل حيث قال: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا}. قلت: والزَّجَّاج لم يرتضِ هذه المقالة، أعني كون قوله: «لولا» متعلقةً ب «همَّ بها» فإنه قال: «ولو كان الكلامُ» ولهمَّ بها «لكان بعيداً، فكيف مع سقوط اللام»؟ يعني الزجاج أنه لا جائزٌ أن يكونَ «وهمَّ بها» جواباً ل «لولا»؛ لأنه لو كان جوابَها لاقترن باللام لأنه مثبت، وعلى تقدير أنه كان مقترناً باللام كان يَبْعُدُ مِنْ جهةٍ أخرى وهي تقديمُ الجوابِ عليها. وجواب ما قاله الزجاج ما قدَّمْتُه عن الزمخشري من أَنَّ الجوابَ محذوف مدلولٌ عليه بما تقدَّم. وأمَّا قولُه: «ولو كان الكلام» ولهمَّ بها «فغيرُ لازمٍ»؛ لأنه متى كان جوابُ «لو» و «لولا» مثبتاً جاز فيه الأمران: اللامُ وعَدَمُها، وإن كان الإِتيان باللامِ وهو الأكثر. وتابع ابنُ عطية الزجاجَ أيضاً في هذا المعنى فقال: «قولُ مَنْ قال: إنَّ الكلام قد تَمَّ في قوله: {وَلَقَدْ هَمَّتَ بِهِ} وإنَّ جوابَ» لولا «في قوله:» وهمَّ بها «، وإن المعنى: لولا أن رأى البرهانَ لهَمَّ بها، فلم يَهُمَّ يوسفُ عليه السلام» قال: «وهذا قول يردُّه لسان العرب وأقوال السلف» أمَّا قولُه: «يردُّه لسان العرب» فليس كذا؛ لأنَّ وِزانَ هذه الآية وِزانُ قولِه: {إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لولا أَن رَّبَطْنَا على قَلْبِهَا} [القصص: 10] فقوله إن كادَتْ: إمَّا أن يكون جواباً عند مَنْ يرى ذلك، وإمَّا أن يكونَ دالاً على الجواب، وليس فيه خروجٌ عن كلام العرب. هذا معنى ما ردَّ به عليه الشيخ. قلت: وكأن ابن عطية إنما يعني بالخروج عن لسانِ العرب تجرُّدَ الجوابِ من اللام على تقدير جواز تقديمِه، والغرض أن اللامَ لم تُوْجد. اهـ (الدر المصون).

(27)

أي هي التِي أرادَتِ السًّوءَ. (وَشهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أهْلِهَا). قيل إنه رجل حكيم، وقيل إنَّه طِفْل (إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) أي إن كان هو المقبل عليها وهي الدافعة له عن نفسها فيجب أن تكون خرقت قميصه من قُبُل، وإن كان هو المتباعدَ مِنْهَا، وهي التابعة له في استباقهما فيجب أن يكون قَدُّ القَميصِ من دبُرٍ. والقراءة من قُبُل ومن دُبُرٍ، ومن قبْل ومن دُبْرٍ. ويجوز من قُبُل بغير تنوين، ومن دُبُر، على الغاية، أيْ مِنْ قُبْله. أما الفتح فبعيدٌ في قوله: من قُبْلَ ومن دُبْرَ. لأن الذي يفتح يجعله مبنياً على الفتح فيشبهه بما لا ينصرف فيجعله. ممتنعاً من الصرف لأنه معرفة ومُزَالٌ عن بابه، وهذا الوجه يجيزه البصريون. فأمَّا قُبْلُ وقُبُلُ فالتسكين في الباء جائز، وقد روي عن ابن أبي إسحاق الفتح والضم جميعاً، والفتح أكثر في الرواية عنه، ولا أعلم أحداً من البصريين ذكر الفتح غَيرَه. * * * (فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) أي إن قولَكِ: (ما جزاءُ مَنْ أَرَادَ بأَهلِكَ سُوءًا). . . من كَيْدِكُنَّ.

(29)

فأمَّا دخول " كَانَ مع " إن " الجزاءَ، وَكونُ الفِعْلِ بعدَهَا لِمَا مَضَى ففيه قولان: قال محمد بن يزيد: " كان " لقوتها وأنها عبارة عن الأفعال لم تغيرها إِنِ الجزاء الخَفِيفَةُ. والقول الثاني أَن " كان " عبارة عَنِ الأفعَالِ - وأن كان في معنى الاستقبال ههنا - عَبَّرتْ عن فعل ماض، المعنى إن يكن قَمِيصُهُ قُذ، أيْ إنْ يُعْلَمْ قَمِيصُه قُدَّ مِنْ قُبل فالْعِلْمُ مَا وقع بعد، فكذلك الكون لا يكون لأنه مؤدٍّ عن العلم. * * * (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29) معناه يا يوسف اكتم هذا الأمر ولا تذكره. (وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ). ويرْوى أنهُ كان قَليلَ الغَيْرَةِ. * * * ْوقوله عزَّ وجلَّ: (ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ). (بَدَا) فعل استغْنى عَنْ فَاعِل. العربُ تقولُ: قد بَدا لي بَدَاء أي تغير رأي عما كان عليه. وأكثر العرب تقول: قد بدا لي، ولم يذكر بَدَاءً، لكثرته لأنه في الكلام دَلِيلاً على تغير رأيه، فَتُرِكَ الفاعلُ وهُوَ مُرَاد. ثم بين ما البَدَاءُ فقال لَيَسْجُننه حَتى حينٍ، كأنَّهم قالوا: لَيَسْجُنَنهُ، والرأي الذي كاد لهم قبل: قيل إن العزيز أمره بالإعراض فقط ثم تغير رأيه عن ذلك. * * * وقوله: (وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30) يقال نِسوة ونُسْوة - بالضم والكَسْرِ - وقيل: (تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ).

(31)

أي عَبْدَهَا وغلامَها، لأن استعمالَهم كان للغلام المملوك أن يُسمَّى فتى. (قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا) (1). أي بلغ حُبُّه إلى شِغَافَ قَلْبها، وفي الشغاف ثلاثة أقوال: قال بعضهم الشغَاف غلاف القلب. وقيل: هو داء يكون في الجوف في الشراسيف. وأنشدوا: وقد حال هَمُّ دون ذلك دَاخِلُ. . . دخولَ الشغَافِ تبتَغِيه الأصَابعُ وقد قُرِئَتْ شَعَفَها بالعين، ومعنى شعَفها ذهب بها كل مذهب مشتق من شَعَفَاتِ الجبال، أي رُؤوس الجبال، فإذا قلت فلان مشعُوف بكذا، فمعناه أنه قد ذهب به الحبِّ أقصى المذاهب. * * * (فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) إن قال قائل: لم سُمِّيَ قولُهنَّ مكراً؟ فالجواب فيه أنها قد أطلعتهن، فاسْتَكْتَمَتْهُنَّ فمكرنَ بها وأَفْشَيْنَ سِرها، فلما سمعت بما فَعَلْنَ أرادت أَنْ يُوقَعْني فيما وقعت فبه فأرسلت إليهن. (أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً). (اعْتَدَتْ) أفعلت من العَتَادِ، وكل ما اتخَذْتَه عُدةً للشيء فهو عَتَادَ ومعنى (مُتَّكَأً) ما يُتكأ عليه لطعام أو شَرَاب أو حديث.

_ (1) قال السَّمين: قوله: {قَدْ شَغَفَهَا} هذه الجملةُ يجوز أن [تكون] خبراً ثانياً، وأن تكونَ مستأنفة، وأن تكونَ حالاً: إمَّا من فاعل «تُراوِدُ» وإمَّا مِنْ مفعوله. و «حبَّاً» تمييزٌ، وهو منقولٌ من الفاعلية، والأصل: قد شَغَفها حبُّه. والعامَّة على «شَغَفها» بالغين المعجمة مفتوحةً بمعنى خَرَقَ شِغاف قلبها، وهو مأخوذ من الشَّغاف والشَّغاف: حجاب القلب جُليْدَة رقيقة. وقيل: سويداء القلب. وقيل: داءٌ يَصل إلى القلب من أجل الحب وقيل: جُلَيْدَةٌ رقيقة يقال لها لسان القلب ليسَتْ محيطةً به، ومعنى شَغَفَ قلبَه، أي: خرق حجابَه أو أصابه فأحرقه بحرارة الحبِّ، وهو مِنْ شَغَفَ البعيرَ بالهِناء إذا طَلاَه بالقَطِران فأحرقه. والمَشْغوف: مَنْ وصل الحبُّ لقلبه، قال الأعشى: 2768 تَعْصِي الوُشاةَ وكان الحُبُّ آوِنَةً. . . مِمَّا يُزَيِّنُ للمَشْغوف ما صنعا وقال النابغة الذبياني: 2769 وقد حالَ هَمٌّ دونَ ذلك والِجٌ. . . مكانَ الشَّغافِ تَبْتَغيه الأصابعُ وقرأ ثابت البناني بكسر الغين. قيل: وهي لغة تميم. وقرأ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وعلي بن الحسين وابنه محمد وابنه جعفر والشعبي وقتادة بفتح العين المهملة، وروي عن ثابت البناني وأبي رجاء كَسْرُ المهملة أيضاً. واختلف الناس في ذلك فقيل: هو مِنْ شَعَفَ البعيرَ إذا هَنَأَ فأحرقه بالقَطِران، قاله الزمخشري، وأنشد: 2770. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . كما شَعَفَ المَهْنُؤْءَةَ الرجلُ الطالي والناسُ إنما يَرْوونه بالمعجمة ويُفَسِّرونه بأنه أصاب حبي شَغَافَ قلبها أي أحرق حجابَه، وهي جُلَيْدَة رقيقة دونه، «كما شَغَفَ»، أي: كما أَحْرق وبالغ المهنوءة، أي: المَطْلِيَّة بالهِناء وهو القَطِران، ولا ينشدونه بالمهملة. وقال أبو البقاء لمَّا حكى هذه القراءة: «مِنْ قولك: فلان مَشْعوفٌ بكذا، أي: مغرى به، وعلى هذه الأقوال فمعناها متقارب. وفرَّق بعضُهم بينهما فقال ابن زيد:» الشَّغَف يعني بالمعجمة في الحب، والشَّعَفُ في البغض «. وقال الشعبي:» الشَّغَف والمَشْغوف بالغين منقوطةً في الحُبِّ، والشَّعَفُ الجنون، والمَشْعوف: المجنون «. اهـ (الدر المصون).

(وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ). يعالجن بالسكين ما يأكلْنَ، وقال بعضهم مُتْكَأً، وقالوا واحدته مُتْكَة وهي الأتْرُجُّ. والقراءة الجيدة (مُتْكَأً) بالهمز، يقال: تِكئَ الرجلُ - يتْكَأُ، تُكَأً، والتكَا أصله من وكَأت، وإنما متكأ مفتعل، وأصله موتكأ مثل مُوتَزن منَ الوزن (1). (وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ). إن شئت ضممت التاء، وإن شئت كسرتَ، والكسر الأصل لسكون التاء والخاء، ومن ضم التاء فلثقل الضمة بعد الكسرة. وأعتدت لهن الطعام وجعلت في أيديهن السكاكين، وأمرته بالخروج عليهن في هيئته، ولم يكن يتهيأ له أن لا يخرج؛ لأنه بمنزلة العبد لها. (فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ). أردن أن يقطعن الطعام الذي في أيديهن فَدَهِشْنَ لَمَّا رأينَه فَخَدشْنَ أيديَهُن. ولم يقطعن الأيدي حتى تَبيَن منهنَّ. وهذا مسْتعمل فى الكلام. يقول الرجل: قد لطعت يدِي. يعني أنك قد خدشتها. ومعنى (أَكْبَرْنَهُ) أعظمنه. ويقال: (أَكْبَرْنَهُ) حِضْنَ. وقد رُوِيتْ عن مجاهد. وليس ذلك بمعروف في اللغة. وقد أنشدوا بيتاً في هذا وهو قوله: يَأْتي النساءَ على أَطْهارِهِنّ ولا. . . يَأْتي النساءَ إِذا أَكْبَرْنَ إِكْباراً

_ (1) قال السَّمين: قوله: {مُتَّكَئاً} العامَّةُ على ضم الميم وتشديدِ التاءِ وفَتْحِ الكاف والهمز، وهو مفعولٌ به بأَعْتَدَتْ، أي: هَيَّأَتْ وأَحْضَرَتْ. والمتَّكأ الشيءُ الذي يُتَّكَأُ عليه من وسادةٍ ونحوها. وقيل: المتكأ: مكان الاتِّكاء. وقيل: طعام يُحَزُّ حَزَّاً وهو قول مجاهد. قال القتبيُّ:» يُقال: اتَّكَأْنا عند فلانٍ، أي: أَكَلْنا «. قال الزمخشري:» مِنْ قولك: اتَّكَأْنا عند فلان: طَعِمنا، على سبيل الكناية؛ لأنه مِنْ «دَعَوْتَه ليَطْعَمَ عندك»: اتخذتَ له تُكَأَة يتكِىء عليها. قال جميل: 2771 فَظَلِلْنا بنعمةٍ واتَّكَأْنا. . . وشَرِبْنا الحَلالَ مِنْ قُلَلِهْ « انتهى. قلت: فقوله:» وشَرِبْنا «مُرَشِّح لمعنى اتَّكَأْنا بأكلنا. وقرأ أبو جعفر والزهري» مُتَّكَا «مشدد التاء دون همزٍ وفيه وجهان، أحدهما: أن يكونَ أصلُه مُتَّكأ كقراءة العامَّة وإنما خُفِّفَ همزُه كقولهم تَوَضَّيْتُ في تَوَضَّأْتُ، فصار بزنة مُتَّقَى. والثاني: أن يكونَ مُفْتَعَلاً مِنْ أَوْكَيْتُ القِرْبة إذا شَدَدْتَ فاها بالوِكاء، فالمعنى: أَعْتَدَتْ شيئاً يَشْتَدِدْن عليه: إمَّا بالاتِّكاء وإمَّا بالقطع بالسكين، وهذا الثاني تخريج أبي الفتح. وقرأ الحسن وابن هرمز» مُتَّكاءً «بالتشديد والمدِّ، وهي كقراءةِ العامَّة إلا أنه أشبع الفتحة فتولَّد منها ألفٌ كقوله: 2772. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ومِنْ ذَمِّ الرجالِ بمنتزاحِ وقوله: 2773 يَنْباع مِنْ ذفرى غَضُوبٍ جَسْرَةٍ. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وقوله: 2774 أَعوذُ باللَّه مِنَ العَقْرابِ. . . الشَّائِلاتِ عُقَدَ الأَذْنابِ أي: بمنتزح ويَنْبَع والعقرب الشائلة. وقرأ ابن عباس وابن عمر ومجاهد وقتادة/ والضحاك والجحدري وأبان بن تغلب» مُتْكَاً «بضم الميم وسكون التاء وتنوين الكاف، وكذلك قرأ ابن هرمز وعبد اللَّه ومعاذ، إلا أنهما فتحا الميم. والمُتْكُ بالضم والفتح الأُتْرُجُّ، ويقال الأُتْرُنْجُ لغتان، وأنشدوا: 2775 فَأَهْدَتْ مُتْكَةً لبني أبيها. . . تَخُبُّ بها العَثَمْثَمَةُ الوَقاحُ وقيل: بل هو اسم لجميع ما يُقطع بالسكين كالأُتْرُجِّ وغيره من الفواكه، ونشدوا: 2776 نَشْرَبُ الإِثمَ بالصُّواعِ جِهاراً. . . وترى المُتْكَ بيننا مُسْتعارا قيل: وهو مِنْ مَتَك بمعنى بَتَك الشيءَ، أي: قطعه، فعلى هذا يحتمل أن تكونَ الميم بدلاً من الباء وهو بدل مُطَّرد في لغة قومٍ، واحتُمِل أن يكونَ من مادةٍ أخرى وافَقَتْ هذه. وقيل: بالضم العسلُ الخالص عند الخليل، والأُتْرُجُّ عند الأصمعي. ونقل أبو عمرو فيه اللغات الثلاث، أعني ضمَّ الميمِ وفتحَها وكسرَها قال: وهو الشرابُ الخالص. وقال المفضل: هو بالضم المائدة، أو الخمر في لغة كِنْدة. وقوله: {لَهُنَّ مُتَّكَئاً}: إمَّا أَنْ يريدَ كل واحدةٍ مُتَّكَأً، ويَدُلُّ له قوله: {وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً}، وإمَّا أن يريدَ الجنس. اهـ (الدر المصون).

وهذه اللفظة ليست بمعروفة في اللغة. والهاء في (أَكْبَرْنَهُ) تنفي هذا؛ لأنه لا يجوز أن يقول: النساء قد حِضْنَهُ يا هذا؛ لأن حضن لا يتعدى إلى مفعول. (وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ). وحاشا للَّهِ، يقرأان - بحذف الألف وإثباتها - ومعناه الاستثناء. المعنى فيما فسَّره أهل التفسير: وقلْنَ: معاذ اللَّه ما هذا بشراً. وأما على مذهب المحققين من أهل اللغة، فحاشا مشتقة من قولك: كنْت في حشا فُلانٍ، أي في ناحية فلانٍ، فالمعنى في " حَاش للَّهِ، بَرأَهُ اللَّه من هذا. من التَّنَحِّي، المعنى قد نحَّى الله هذا مِنْ هَذَا، إذا قلت حاشا لزيد من هذا فمعناه قد تنحَّى زيد من هذا، وتباعد منه، كما أنك تقول قَدْ تَنحَّى من الناحية، وكذلك قد تحاشى، من هذا الفِعْلِ (1). * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (مَا هَذَا بَشَرًا). هذه القراءة المعروفة، وقد رُوَيتْ: ما هذا بِشِرى، أي ما هذا بعد مُشْتَرى. وهذه القراءة ليست بشيء، لأن مثل بِشِريٍّ " يكتب في المصحف بالياء (2). وقولها: (إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) " مَلَك " مطابق في اللفظ لِبَشرٍ. وسيبويه، والخليل وجميع النحويين القدماء يزعمون أَن بشراً منصوب

_ (1) قال السَّمين: قوله: {حَاشَ للَّهِ}» حاشى «عَدَّها النحويون من الأدوات المترددةِ بين الحرفية والفعلية فإنْ جَرَّتْ فهي حرفٌ، وإنْ نَصَبَتْ فهي فعلٌ، وهي من أدواتِ الاستثناء ولم يَعْرف سيبويه فعليَّتها وعَرَفَها غيرُه، وحَكَوا عن العرب» غَفَر اللَّه لي ولِمنْ سمع دعائي حاشى الشيطانَ وابنَ الأصبغ «بالنصب، وأنشدوا: 2780 حشى رَهْطَ النبيِّ فإنَّ منهمْ. . . بُحوراً لا تكدِّرُها الدِّلاءُ بنصب» رَهْط «. و» حشى «لغةٌ في حاشى كما سيأتي. وقال الزمخشري:» حاشى كلمةٌ تفيد التنزيه في باب الاستثناء تقول: أساءَ القومُ حاشى زيدٍ قال: 2781 حاشى أبي ثوبانَ إنَّ بهِ. . . ضِنَّاً عنِ المَلْحاة والشَّتْم وهي حرفٌ من حروف الجر فوُضِعَتْ موضعَ التنزيه والبراءة، فمعنى حاشى اللَّهِ: براءة اللَّهِ وتنزيه اللَّه، وهي قراءة ابن مسعود «. قال الشيخ:» وما ذكر أنها تفيد التنزيهَ في باب الاستثناء غير معروف عند النحويين، لا فرقَ بين قولك: «قام القومُ إلا زيداً» و «قام القوم حاشى زيدٍ»، ولَمَّا مَثَّل بقوله: «أساء القومُ حاشى زيدٍ» وفَهِم هو من هذا التمثيلِ براءةَ زيدٍ من الإِساءة جعل ذلك مستفاداً منها في كل موضعٍ، وأمَّا ما أنشده مِنْ قوله: حاشا أبي ثوبان، فهكذا ينشده ابن عطية وأكثرُ النحاة، وهو بيتٌ ركَّبوا فيه صدرَ بيتٍ على عجز آخَرَ وَهْماً من بيتين، وهما: 2782 حاشى أبي ثَوْبان إنَّ أبا. . . ثَوْبانَ ليس ببُكْمَةٍ فَدْمِ عمرَو بنَ عبدِ اللَّه إنَّ به. . . ضِنَّاً عن المَلْحاةِ والشَّتْمِ قلت: قوله «إنَّ المعنى الذي ذكره الزمخشري لا يعرفه النحاة لم ينكروه وإنما لم يذكروه في كتبهم؛ لأنهم غالبُ فنهم في صناعة الألفاظ دون المعاني، ولمَّا ذكروا مع أدواتِ الاستثناء» ليس «و» لا يكون «و» غير «لم يذكروا معانيهَا، إذ مرادُهم مساواتُها ل» إلا «في الإِخراج وذلك لا يمنعُ من زيادةِ معنى في تلك الأدوات. وزعم المبرد وغيره كابن عطية أنها تتعيَّنُ فعليَّتُها إذا وقع بعدها حرفُ جر كالآية الكريمة، قالوا لأن حرفَ الجرِّ لا يدخل على مثله إلا تأكيداً كقوله: 2783. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ولا لِلِما بهم أبداً دواءُ وقول الآخر: 2784 فأَصْبَحْنَ لا يَسْأَلْنني عن بما به. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . فتعيَّن أن تكونَ فعلاً، فاعلُه ضمير يوسف أي: حاشى يوسف، و» للَّه «جارٌّ ومجرورٌ متعلقٌ بالفعل قبله، واللامُ تفيد العلةَ أي: حاشى يوسفَ أن يقارِفَ ما رَمَتْه به لطاعة اللَّه ولمكانه منه أو لترفيع اللَّه أن يرمى بما رَمَتْه به، أي: جانَبَ المعصيةَ لأجل اللَّه. وأجاب الناسُ عن ذلك بأنَّ حاشى في الآية الكريمة ليست حرفاً ولا فعلاً، وإنما هي اسمُ مصدرٍ بدلٌ من اللفظة بفعله كأنه قيل: تنزيهاً للَّه وبراءةً له، وإنما لم يُنَوَّنْ مراعاةً لأصله الذي نُقِل منه وهو الحرف، ألا تراهم قالوا: مِنْ عن يمينه فجعلوا» عن «اسماً ولم يُعْربوه، وقالوا» مِنْ عليه «فلم يُثْبتوا ألفه مع المضمر، بل أَبْقَوا» عن «على بنائه، وقلبوا ألف» على «مع المضمر، مراعاةً لأصلها، كذا أجاب الزمخشري، وتابعه الشيخُ ولم يَعْزُ له الجواب. وفيه نظر. أمَّا قوله:» مراعاة لأصله «فيقتضي أنه نُقِل من الحرفية إلى الاسمية، وليس ذلك إلا في جانب الأعلام، يعني أنهم يُسَمُّون الشخصَ بالحرف، ولهم في ذلك مذهبان: الإِعرابُ والحكاية، أمَّا أنَّهم ينقلون الحرف إلى الاسم، أي: يجعلونه اسماً فهذا غيرُ معروفٍ. وأمَّا استشهادُه ب» عن «و» على «فلا يفيده ذلك؛ لأنَّ» عن «حالَ كونِها اسماً إنما بُنيت لشبهها بالحرفِ في الوضع على حرفين لا أنها باقيةٌ على بنائها. وأمَّا قَلْبُ ألفِ «على» مع الضمير فلا دلالة فيه لأنَّا عَهدنا ذلك فيما هو ثابتُ الاسمية بالاتفاق ك «لدى». والأَوْلى أن يقال: الذي يظهر في الجواب عن قراءةِ العامة أنها اسمُ منصوبٌ كما تقدَّم تقريره، ويدلُّ عليه قراءة أبي السمَّال «حاشاً للَّه» منصوباً، ولكنهم أَبْدلوا التنوين ألفاً كما يبدلونه في الوقف، ثم إنهم أَجْروا الوصل مجرى الوقف كما فعلوا ذلك في مواضعَ كثيرةٍ تقدَّم منها جملةٌ وسيمر بك مثلها. وقيل في الجواب عن ذلك: بل بُنيت «حاشا» في حال اسميتها لشبهها ب «حاشا» في حال حرفيَّتها لفظاً ومعنى، كما بُنِيَتْ «عن» و «على» لما ذكرنا. وقال بعضُهم: إنَّ اللامَ زائدةٌ. وهذا ضعيفٌ جداً بابُه الشعرُ. واسْتَدَلَّ المبرد وأتباعُه على فعليتها بمجيء المضارعِ منها. قال النابغة الذبياني: 2785 ولا أرى فاعِلاً في الناسِ يُشْبِهُهُ. . . ولا أُحاشي من الأقوامِ مِنْ أَحَدِ قالوا: وتَصَرُّفُ الكلمةِ من الماضي إلى المستقبل دليلُ فعليَّتها لا محالةَ. وقد أجاب الجمهور عن ذلك: بأنَّ ذلك مأخوذٌ من لفظِ الحرفِ كما قالوا: «سَوَّفْتُ بزيد» و «لَوْلَيْت له»، أي: قلت له: سوف أفعلُ. وقلت له: لو كان ولو كان، وهذا من ذلك، وهو محتمل. وممَّن رَجَّح جانبَ الفعلية أبو علي الفارسي قال: «لا تَخْلو» حاش «في قوله:» حاش للَّه «من أن تكونَ الحرفَ الجارَّ في الاستثناء، أو تكون فعلاً على فاعَل، ولا يجوز أن تكونَ الحرفَ الجارَّ لأنه لا يدخل على مثله، ولأن الحروفَ لا يُحْذَفُ منها إذ لم يكن فيها تضعيف، فثبت أنه فاعَل مِن الحشا الذي يُراد به الناحية، والمعنى: أنه صار في حَشَاً، أي في ناحية، وفاعل» حاش «» يوسف «والتقدير: بَعُدَ من هذا الأمرِ للَّه، أي: لخوفِه». قوله: «حرفُ الجر لا يدخل على مثله» مُسَلَّم، ولكن ليس هو هنا حرفَ جر كما تقدَّم تقريرُه. وقوله: «لا يُحْذف من الحرفِ إلا إذا كان مضعفاً» ممنوع، ويدلُّ له قولهم «مُنْ» في «منذ» إذا جُرَّ بها، فحذفوا عينها ولا تضعيفَ. قالوا: ويدلُّ على أنَّ أصلَها «منذ» بالنون تصغيرُها على «مُنَيْذ» وهذا مقرَّر في بابه. وقرأ أبو عمرو وحده «حاشى» بألفين: ألفٍ بعد الحاء، وألف بعد الشين في كلمتي هذه السورة وصلاً، وبحذفها وقفاً إتباعاً للرسم كما سننبِّه عليه. والباقون بحذف الألفِ الأخيرةِ وصلاً ووقفاً. فأمَّا قراءةُ أبي عمروٍ فإنه جاء فيها بالكلمة على أصلها. وأمَّا الباقون فإنهم اتَّبعوا في ذلك الرسمَ ولمَّا طال اللفظ حَسُن تخفيفُه بالحذف ولا سيما على قول مَنْ يَدَّعي فعليَّتَها، كالفارسي. قال الفارسي: «وأمَّا حذفُ الألف فعلى» لم يَكُ «و» لا أَدْرِ «و» أصاب الناسَ جُهْدٌ، ولَوْ تَرَ أهلَ مكة «، و [قوله]: 2786 وصَّانيَ العجَّاجُ فيما وَصَّني/. . . في شعر رؤبة، يريد: لم يكن، ولا أدري، ولو ترى، ووصَّاني. وقال أبو عبيد:» رأيتُها في الذي يقال: إنه الإِمام مصحف عثمان رضي اللَّه عنه: «حاش للَّه» بغير ألف، والأخرى «مثلُها». وحكى الكسائي أنها رآها في مصحف عبد اللَّه كذلك، قالوا: فعلى ما قال أبو عبيد والكسائي تُرَجَّح هذه القراءةُ، ولأنَّ عليها ستةً من السبعة، ونقل الفراء أن الإِتمامَ لغةُ بعض العرب، والحذفُ لغة أهل الحجاز قال: «ومِنْ العرب من يقول:» حشى زيد «أراد حشى لزيد». فقد نقل الفراءُ أن اللغاتِ الثلاثَ مسموعةٌ، ولكنَّ لغةَ الحجازِ مُرَجَّحَةٌ عندهم. وقرأ الأعمش في طائفة «حشى للَّه» بحذف الألفين وقد تقدَّم أن الفراء حكاها لغةً عن بعض العرب، وعليه قوله: 2787 حشى رَهْطِ النبيِّ. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت. وقرأ أُبَي وعبد اللَّه «حاشى اللَّهِ» بجرِّ الجلالة، وفيها وجهان، أحدهما: أن تكونَ اسماً مضافاً للجلالة [نحو: «سبحان اللَّه» وهو اختيارُ الزمخشري. الثاني: أنه حرفُ استثناء جُرَّ به ما بعده، وإليه ذهب الفارسي،] وفي جَعْلِهِ «حاشى» حرفَ جرٍّ مُراداً به الاستثناءُ نظرٌ، إذ لم يتقدَّم في الكلام شيءٌ يستثنى منه الاسمُ المعظَّم بخلافِ «قام القومُ حاشى زيد». واعلمْ أنَّ النحويين لمَّا ذكروا هذا الحرفَ جعلوه من المتردد بين الفعلية والحرفية، عند مَنْ أثبتَ فعليَّتَه، وجعله في ذلك كخلا وعدا، عند مَنْ أثبت حرفيَّة «عدا»، وكان ينبغي أن يذكروه من المتردد بين الاسميةِ والفعلية والحرفية، كما فعلوا ذلك في «على» فقالوا: يكون حرف جر في «عليك»، واسماً في قوله: «مِنْ عليه»، وفعلاً في قوله: 2788 عَلاَ زيدُنا يومَ النَّقا. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وإن كان فيه نظرٌ ذكرتُه مستوفىً في غير هذا المكان، ملخصُه أن «على» حالَ كونها فعلاً غير «على» حال كونها غيرَ فعل، بدليل أنَّ ألف الفعلية منقلبة عن واو، ويدخلها التصريف والاشتقاق دون ذَيْنَكَ. وقد يتعلَّق مَنْ ينتصر للفارسي بهذا فيقول: لو كانت «حاشى» في قراءة العامَّة اسماً لذكر ذلك النحويون عند تردُّدِها بين الحرفية والفعلية، فلمَّا لم يذكروه دَلَّ على عدمِ اسميتها. وقرأ الحسن «حاشْ» بسكون الشين وصلاً ووقفاً كأنه أجرى الوصلَ مجرى الوقف. ونقل ابن عطية عن الحسن أنه قرأ: «حاشى الإِله» قال: «محذوفاً مِنْ حاشى» يعني أنه قرأ بحذف الألف الأخيرة، ويدلُّ على ذلك ما صرَّح به صاحب «اللوامح» فإنه قال: «بحذف الألف» ثم قال: وهذا يدلُّ على أنه حرفُ جرٍ يَجُرُّ ما بعده، فأما «الإِله» فإنه فكَّه عن الإِدغامِ، وهو مصدرٌ أقيم مُقام المفعول، ومعناه المعبود، وحُذِفت الألف من «حاشى» للتخفيف « قال الشيخ:» وهذا الذي قاله ابن عطية وصاحبُ «اللوامح» من أنَّ الألف في «حاشى» في قراءة الحسن محذوفةُ الألف لا يتعيَّنُ، إلا إنْ نَقَل عنه أنه يقف في هذه القراءةِ بسكون الشين، فإن لم يُنْقَلْ عنه في ذلك شيءٌ فاحتمل أن تكونَ الألفُ حُذِفت لالتقاء الساكنين؛ إذا الأصلُ: «حاشى الإِله» ثم نَقَل فحذف الهمزة وحَرَّك اللام بحركتها، ولم يَعْتَدَّ بهذا التحريك لأنه عارض، كما تنحذف في «يَخْشى الإِله»، ولو اعتدَّ بالحركة لم تُحْذف الألف «. قلت: الظاهر أن الحسنَ يقف في هذه القراءة بسكون الشين، ويُسْتأنس له بأنه سكَّن الشين في الرواية الأخرى عنه، فلمَّا جِيءَ بشيءٍ يُحْتَمَلُ ينبغي أن يُحْمَلَ على ما صُرِّح به. وقول صاحب «اللوامح»: «وهذا

(32)

خبرَ مَا، ويجعلونه بمنزلة ليس وَ " مَا " مَعناها معنى ليس في النفي، وهذه لغة أهل الحجاز، وهي اللغَةُ القُدْمَى الجيدَةُ. وزعم بعضهم أن الرفْعَ في قولك: (مَا هَذَا بَشَرًا) أقْوى الوجهين، وهذا غلط، لأن كتاب اللَّه ولغة رسول اللَّه أقْوى الأشياء وأقوى اللغات. ولغة بني تميم: ما هذا بشر. ولا تجوز القراءة بها إلَّا بروايةٍ صَحيحةٍ. والدليل على ذلك إجماعهم على: (مَا هُنَّ أمَّهَاتِهِمْ) وما قرأ أحَد ما هُنَّ أُمَّهَاتُهمْ. * * * وقوله: (قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) (لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ). القراءة الجيدة تخفيف لَيَكُونًا. والوقوف عليها بالألف، لأن النون الخفيفة تبدل منها في الوقف الألف، تقول: اضْرباً زيداً، فإذا وقفت قلت: اضربَا، كما أبدلت في: رأيتُ زيداً الألف من التنوين، وقد قرئت: ولتكونَنَّ - بتشديد النُّونِ، وأكرهها لخلاف المصحف، لأنَّ الشديدة لا يُبْدَلُ منها شيء. (مِنَ الصَّاغِرِينَ). مِنَ المذَلِّيِنَ. * * * (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33) والسَّجْن جميعاً - بكسر السين وفتحها - فمن فتح فعلى المصدر. المعنى أَنْ أُسْجَنَ أَحبُّ إليَّ، ومن كسرَ فعَلَى اسم المكَانِ، فيكون المعنى: نُزولُ السجنِ أَحبُّ إليَّ مِمًا يَدْعُونَنِي إليْهِ، أي من ركوب المعصية. (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ). أي إلا تعْصِمْني أَصْبُ إليْهِنَّ، أَي أَمِلْ إلَيْهن. يقال: صبا إلى اللَّهْوِ يصبو صُبُوًّا، وصِبِيًّا، وَصَبًّا، إذا مالَ إلَيْه (1).

_ (1) قال السَّمين: قوله: {أَصْبُ} قرأ العامة بتخفيف الباء مِنْ صَبا يَصْبو أي: رَقَّ شَوْقُه. والصَّبْوة: المَيْلُ إلى الهوى، ومنه «الصَّبا» لأنَّ النفوس تَصْبو إليها أي: تميل، لطيب نسميِها ورَوْحِها يقال: صَبَا يَصْبُو صَباءً وصُبُوَّاً، وصَبِيَ يصبى صَبَاً، والصِّبا بالكسر اللَّهْوُ واللعب. وقرأت فرقة «أَصَبُّ» بتشديدها مِنْ صَبْبتُ صَبابة فأنا صَبٌّ، والصَّبابَةُ: رِقَّةُ الشوق وإفراطه كأنه لفرط حبه ينصبُّ فيما يَهْواه كما ينصبُّ الماء اهـ (الدر المصون).

(36)

وقال: (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ). . وجائز أن يكون يَعْني امرأة العزيز وحدها، ألا أنه أراد كيْدَها وكيدَ جميع النساء، وجَائز أن يكون كيدَها وكيدَ النِسْوَةِ اللاتِي رَأَيْنَ يوسُف حِينَ أرَتهُن إيَّاهُ. * * * (وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) ولم يقل فحبس لأن في قوله: (وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ) دليلاً أنه حُبسَ. و" فَتَيان، جَائز أَنْ يكونَا حَدَثَيْنِ أوْ شَيْخَيْن، لأنهم كانوا يُسَمونَ المملوك فَتًى. (قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا). ولم يقل إني أراني في النوم أعْصِرُ خَمراً، لأن الحال تدُلُّ على أنه ليس يرى نفسه في اليقظة يَعْصِرُ خَمراً. وقال أهل اللغة: الخمرُ في لُغَةِ عُمَان اسم للْعِنَبِ، فكأنَّه قال: أراني أعصر عِنَباً، ويجوز أن يكونَ عَنَى الخمْرَ بعينها، لأنه يُقَالُ للذِي يَصْنَعُ من التَمْرِ الدبْس هذا يَعْمَلُ دِبْساً، وإنَّمَا يعْمَلُ التمرَ حتَى يصيرَ دِبْساً، وكذلك كل شيء نُقِلَ مِنْ شيء. وكذلك قوله أعصِرُ خمراً، أي أعصِرُ عِنَبَ الخمْرِ أي العِنَبَ الَّذِي يكونُ عَصِيرُه خمراً. (وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ). أي تأويل ما رأينا. وقولهما (نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ) يدل على أنهما رأيا ذلك في النوم، لأنه لا تأويل لرُؤية اليقظة غير ما يراه الإِنسان. (إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ).

(37)

جاء في التفسير أنه كان يعين المظلوم وينصر الضعيف، ويعود العليل. وقيل من المحسنين، أي ممن يُحسِنُ التأويل. وهذا دليل أنَّ أمر الرؤيا صحيح، وأنها لم تزل في الأمم الخالية، ومن دفع أمر الرؤيا وَأنَّه منها ما يصح فليس بمسلم لأنه يدفع القرآن والأثر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنه روي عن رسول الله أن الرؤيا جزء من أربعين جزءاً من النبوة. وتأويله أن الأنبياء يُخْبِرُونَ بما سَيَكُون. والرؤيا الصادقة تدل على ما سيكونُ. * * * (قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وليس هذا جواب ما سألا عنه، إنما سألا أن يخبر هما بتأوِيلِ مَا رَأياه فأحب يوسف عليه السلام أن يدعُوهما إلى الِإيمان وأن يعلمهما أنه نَبي، وأن يدلهما على نبوته بآية معجزة، فأعلمهما أنه يخبرهما بِكلِّ طَعَام يؤتيان به قبل أن يرياه، ثم أعْلَمَهُما أن كل ذلك مما عرفه الله إياه فقال: (ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي). أي لست أخبركما عَلَى جِهَةِ التَكَهُّنِ، والتنَجُّمِ، إنما أخبركما بِوَحي منَ اللَّهِ وعِلْمٍ، ثم أعْلَمَهمَا أن هذا لا يكون إلا لمؤمِنٍ بِنَبِي فقال: (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38) أي اتباعا الِإيمان بتوفيق اللَّه لنا بفضله علينا (وعلى الناس) بأن دلهم على دينه المؤدِّي إلى صلاحهم.

(39)

(وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ) ثم قال لهما: (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) فَدَعَاهم إلى توحيد اللَّه بعد أنْ علمهما أنه يخبرهما بالغيب، ثم قال (مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40) أي أنتم جعلتم هذه الأسماء آلهةً. ثم أخبرهم بتأويل الرؤيا بعد أن دعاهم إلى الإيمان. فأما تكرير قوله هم فعلى جهة التوكيد. * * * وقوله: (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41) فكان هذا صاحبَ شَراب الملك، فأعلمه أن تأويل ما رأى هو هذا. ويجوز فيُسْقِي، والأجود فيَسْقِي، تقول سقيته بمنزلة ناولته فشرب. وأسقيته جعلْتُ له سَقْياً، تقول أسقيته من كذا وكذا أي جعلت له سقياً. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ). لَمَّا تأول لهما الرؤيا قال الذي أنْبَأهُ بأنَّه يُصْلَبُ أنه لم يَرَ شَيئاً فأعلَمه أنَّ ذلك واقع به وإنْ لَمْ يَرَ، كما أعْلَمَهُمَا بخبر ما يَأتِيَهما من الطعام. * * * (وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42) أي عند الملك صاحبك. (فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ).

(43)

أنسى يُوسُفَ الشيطانُ أن يَذْكُرَ اللَّهَ. (فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ). اختلفوا في البِضَعْ فَقَال بعضهم: البضع ما بين الثلاث إلى الخمس. وقال قطرب إلى السبع. وقال الأصمعي وهو القول الصحيح: البضْعُ ما بين الثلاث إلى التَسْع، واشتقاق البضْع والبَضْعَةِ مِنْ قَطَعْتَ الشيءَ فمعناه القِطعَة ممن العَدَدِ، فَجُعِلَ لِمَا دُون العَشَرةِ من الثلاث إلى التًسع. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43) (سَبْعٌ عِجَافٌ). العجَاف التي قد بلغت في الهُزَالِ الغايةَ والنهايَةَ. (يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ). الملأ الذين يرجع إليهم في الأمور، ويقتدي بآرائهم. (إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ). هذه اللام أدخلت على المفعول لِتُبيُنَ المعنى إن كنتم تعبرون، وعابرين ثم بين باللام فقال للرؤيا. ومعنى عبَّرت الرؤيا وعَبَرْتُها خبرت بآخر ما يؤول إليه أمرها. واشتققته من عَبْرِ النهْرِ، وهو شَاطِئ النهْرِ، فتأويل عبرت النَهْرَ، أي بلغتُ إلى عِبْرِه، أي شاطئه، وهو آخر عَرْضِهِ. * * * (قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44) والضغث في اللغة الحُزْمةُ والباقَةُ من الشيء، كالبقل وما أشبهه، فقالوا له: رُؤْياكَ أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ، أي حُزَم أخلاطٍ ليست برؤيا بينةٍ.

_ (1) هذا رأي لبعض المفسرين، والأقرب أن الشيطان أنسى الرجل الناجي أن يذكر يوسف عند الملك، ويقوي هذا ما يأتي من قوله (وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45).

(45)

(وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ). أي ليس للرؤية المختلطة عندنا تأويل. * * * (وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) أي بعد حين، وقرأ ابن عباس: واذَّكرَ بَعْدَ أمَهٍ، والأمهُ النسيَانُ، يقال أمِهَ يَأمَهُ أمَهاً. هذا الصحيح بفتح الميم، وروى بعضهم عن أبي عبيدة: أمْهُ بسكون الميم، وليس ذلك بصحيح عنه، لأن المصدَرَ أنه يأمَهُ أمَهٌ لا غير. وقرأ الحسَنُ: أنا آتيكم بتأويله، وأكرهها، لخلاف المصحف. (وَادَّكَرَ) أصله واذْتَكَرَ، ولكن التاء أبدل منها الذال وأدغمت الذالُ في الدال. ويجوز واذَّكر بالذال، والأجود الدال (1). وقوله - عزَّ وجلَّ -: (يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) أراد يا يوسف، والندَاء يجوز في المعرفة حذف يا منه، فتقول: يا زيد. أقبل، وزيدُ أقبل. قال الشاعر: محمد تفد نفسك كل نفس. . . إذا مَا خِفْتَ مِن أمْر تَبَالا أرادَ يَا مُحَمدُ. والصًذيق المبالغ في الصِّدْقة، والتصديق. وقوله: (لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ). أي لعلهم يعلمون تأويل رؤيا الملك، ويجوز أن يكون: لعلهم يعلمون

_ (1) قال السَّمين: قوله تعالى: {وادكر}: فيه وجهان، أظهرهما: أنها جملةٌ حاليةٌ: إمَّا مِن الموصول، وإمَّا مِنْ عائده وهو فاعل «نجا». والثاني: أنها عطفٌ على «نجا» فلا مَحَلَّ لها لنسَقِها على ما لا محلًّ له. والعامَّةُ على «ادَّكَرَ» بدالٍ مهملة مشددة وأصلها: اذْتَكَرَ افتعل مِنْ الذِّكر، فوقعت تاءُ الافتعال بعد الذال فأُبْدِلت دالاً فاجتمع متقاربان فأُبْدِلَ الأول مِنْ جنس الثاني وأُدغم. وقرأ الحسن البصري بذالٍ معجمة. ووجَّهوها بأنه أبدل التاءَ ذالاً مِنْ جنس الأولى وأدغم، وكذا الحكم في {مُّدَّكِرٍ} [القمر: 15] كما سيأتي في سورته إنْ شاء اللَّه تعالى. والعامَّةُ على «أُمَّة» بضم الهمزة وتشديد الميم وتاء منونة، وهي المدة الطويلة. وقرأ الأشهب العقيلي بكسر الهمزة، وفسَّروها بالنعمة، أي: بعد نعمةٍ أنعم بها عليه وهي خَلاصُه من السجن ونجاتُه من القتل، وأنشد الزمخشري لعديّ: 2798 ثم بعد الفَلاَح والمُلْكِ والإِمْ. . . مَةِ وارَتْهُمُ هناك القبورُ وأنشد غيره: 2799 ألا لا أرى ذا إمَّةٍ أصبحَتْ به. . . فَتَتْركه الأيامُ وهي كما هيا وقرأ ابن عباس وزيد بن علي وقتادة والضحاك وأبو رجاء «أَمَهٍ» بفتح الهمزة وتخفيف الميم وهاء منونة من الأَمَهِ، وهو النسيان، يقال: أَمِهَ يَأْمَهُ أَمَهاً وأمْهاً بفتح الميم وسكونها، والسكونُ غيرُ مَقيسٍ. وقرأ مجاهد وعكرمة وشُبَيْل بن عَزْرَة: «بعد أَمْهٍ» بسكون الميم، وقد تقدَّم أنه مصدرٌ لأَمِه على غير قياس. قال الزمخشري: «ومَنْ قرأ بسكون الميم فقد خُطِّئ». قال الشيخ: «وهذا على عادتِه في نسبته الخطأ إلى القراء» قلت: لم يَنْسِبْ هو إليهم خطأً؛ وإنما حكى أنَّ بعضَهم خطَّأ هذا القارئ فإنه قال: «خُطِّئ» بلفظِ ما لم يُسَمَّ فاعلُه، ولم يقل فقد أخطأ، على أنه إذا صَحَّ أنَّ مَنْ ذكره قرأ بذلك فلا سبيلَ إلى الخطأ إليه ألبتَّةََ. و «بعد» منصوب ب «ادَّكر». اهـ (الدر المصون).

(47)

مكانك فيكون ذلك سبب خَلَاصِكَ من الحبْسِ. * * * (قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) أي تَدْأبُونَ دَأباً، ودَلَّ على تَدْأبُونَ (تَزْرَعُونَ). والدَّأبُ الملازمَةُ للشيء والعادةُ. وقوله: (ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49) (وَفِيهِ يَعْصِرُونَ). وقُرئت: وفيه يُعْصَرَونَ، فمن قال وفيه يَعْصِرونَ بالياء أيْ يأتي العام بعد أرْبَعَ عشرةَ سنةً الذي فيه، يُغَاث الناس فيَعصِرونَ فيه الزيْتَ والعِنبَ. ومن قرأ يُعْصَرونَ أرَادَ يُمْطَرُونَ، من قوله: (وَأنْزَلْنَا مِنَ المُعْصِرَاتِ مَاءً ثَخاجاً "، وَمَنْ قرأ: وَفِيه تَعْصِرون، فإن شاء كان على تأويل يَعْصِرُونَ، وأن شاء كان على تأويل وفيه تَنْجوْنَ من البلاء، وتعتصمون بالخِصْب. قال عَدِي بنُ زَيْدٍ: لو بغير الماء حلقي شَرِق. . . كنت كالغضانِ بالماء اعتصَارِي ويقال: فلان في عَصَرٍ وفي عُصْرٍ، إذا كان في حِصْنٍ لا يُقْدَرُ عليه. * * * وقوله سبحانه: (وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) لما أعْلِمَ بمكانه من العلم بالتأويل طَلَبَه (قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ). أي إلى صاحبك، ورب الشيء صاحبُه

_ (1) قال السَّمين: قوله: {يَعْصِرُونَ} قرأ الأخوان» تَعْصِرون «بالخطاب، والباقون بياء الغيبة، وهما واضحتان، لتقدُّم مخاطبٍ وغائب، فكلُّ قراءةٍ تَرْجِعُ إلى ما يليق به. و» يَعْصِرون «يحتمل أوجهاً، أظهرُها: أنه مِنْ عَصَرَ العِنَبَ أو الزيتون أو نحو ذلك. والثاني: أنه مِنْ عَصَر الضَّرْع إذا حَلَبَه. والثالث: أنه من العُصْرة وهي النجاة، والعَصَر: المَنْجى. وقال أبو زبيد في عثمان رضي اللَّه عنه: 2800 صادِياً يَسْتغيث غيرَ مُغَاثٍ. . . ولقد كان عُصْرَة المَنْجودِ ويَعْضُد هذا الوجهَ مطابقةُ قولِه {فِيهِ يُغَاثُ الناس} يُقال: عَصَره يَعْصِرُه، أي: أنجاه. وقرأ جعفر بن محمد والأعرج:» يُعْصَرون «بالياء من تحت، وعيسى البصرة بالتاء من فوق، وهو في كلتا القراءتين مبنيٌّ للمفعول. وفي هاتين القراءتين تأويلان، أحدهما: أنها مِنْ عَصَره، إذا أنجاه، قال الزمخشري:» وهو مطابِقٌ للإِغاثة «. والثاني: قاله قطرب أنها من الإِعصار، وهو إمطار السحابة الماءَ كقولِه: {وَأَنزَلْنَا مِنَ المعصرات} [النبأ: 14]. قال الزمخشري:» وقرىء «يُعْصَرون»: يُمْطَرون مِنْ أَعْصَرَتِ السَّحابة، وفيه وجهان: إمَّا أن يُضَمَّن أَعْصَرت معنى مُطِرَتْ فيُعَدَّى تعديتَه، وإمَّا أن يقال: الأصل: أُعْصِرَتْ عليهم فَحَذَفَ الجارَّ وأوصل الفعلَ [إلى ضميرهم، أو يُسْنَدُ الإِعصارُ إليهم مجازاً فجُعِلوا مُعْصَرين «]. وقرأ زيد بن علي:» تِعِصِّرون «بكسر التاء والعين والصادِ مشددَّة، وأصلها تَعْتصرون فأدغم التاء في الصاد، وأتبع العينَ للصاد، ثم أتبع التاء للعين، وتقدَّم تحريره في {أَمَّن لاَّ يهدي} [يونس: 35]. ونقل النقاش قراءةَ» يُعَصِّرون «بضم الياء وفتح العين وكسر الصادِ مشددةً مِنْ» عَصَّر «للتكثير. وهذه القراءةُ وقراءةُ زيدٍ المتقدمة تحتملان أن يكونا مِن العَصْر للنبات أو الضرع، أو النجاة كقول الآخر: 2801 لو بغيرِ الماءِ حَلْقي شَرِقٌ. . . كنت كالغَصَّانِ بالماءِ اعتصاري أي: نجاتي. اهـ (الدر المصون).

(51)

(فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ). ويجوز اللائي قطعْن، أي اسألْه أن يستعمِل صحةَ بَراءَتِي مما قُرِفْتُ به. وُيرْوَى أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لو كنت في مكان يوسف ثم جاءني الرسول لبادرت إليه أنه - صلى الله عليه وسلم - استحسن حزم يوسف وصَبْرَه حين دعاه الملكُ فلم يبادِرْ إليه حتى يعلَمَ أنه قد استقر عند الملك صحةُ بَراءَتِه. * * * (قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) لم يفرد يوسفُ عليه السلام امرأة العزيز بالذكر، حُسْنُ عِشْرَةٍ منه وَأدَبٍ. فخلطها بالنسْوةِ. وقوله: (قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ). قُرِئَتْ " حَاشَ للَّهِ " و " حَاشا لِلَّهِ" وقرأ الحسنُ: حَاشْ للَّهِ بتسكين الشين. ولا اختلاف بين النحويين أن الِإسْكَانَ غير جائزٍ، لأن الجَمْعَ بين ساكنين لا يجوز ولا هُوَ مِنْ كَلام العَرَب. (مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ). فأعلم النسوةُ الملكَ ببراءة يوسفَ، وقالت - امرأة العزيز: (الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ). أي بَرَزَ وتبيَّن، واشتقَاقَه في اللغة من الحِصَّةِ، أي بانت حصَّةُ الحق وجهتُه من جهة الباطل. * * * (ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52) هذا قول يُوسفَ عليه السلام، المعنى إني أردت التبيين للمَلِكِ أمْرَ أمرأته والنسوة، ليعلم أني لم أخنه بالغيب. و" ذلك " مرفوع بالابتداء، وإن شئت عَلَى خَبرِ الابْتِداء. كأنَّه قال: أمْري ذَلِكَ.

(53)

وُيروَى أن جبريل عليه السلام قال له: ولا حِينَ حلَلْتَْ التكة (1)، وقيل ولا حين هممت، فقال: (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53) موضع ما نصب على الاستثناء. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) (أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي). جزم جواب الأمر، ومعنى أَسْتَخْلِصْهُ: أي أجْعَلْه خالصاً لي، لا يشركني فيه أحد. (فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ) أي عرفنا أمانتك وبراءتك مما قرفت به. * * * (قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) أي على أموالها (إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ). أي أحْفظها وأعلمُ وُجُوهَ مُتصَرفَاتها، وإنماسأله أن يجعله على خزائن الأرض لأن الأنبياء بُعِثُوا في قامة الحق والعدْلِ ووضع الأشياء مواضعَها، فعلم يوسف عليه السلام أنه لا أحد أقوَمُ بذلك منه، ولا أوضَعُ له في مواضعها. . فسأل ذلك إرادة للصلاح. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) وهذا - واللَّه أعلم - قد كان قبله كلام جرَّ إليه ما يُوجب طلبَ أخيهم منهم، - لأنه لا يقول ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ من غَير أن يجريَ مَا يُوجِبُ هذا القول. فكأنَّه - واللَّهُ أعلم - سألهم عن أخبارهمْ وأمْرِهِم وعدَدِهم، فاجْتَرَأ لقول هذه المسألة.

_ (1) من الإسرائيليات المنكرة.

(60)

(أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ). لأنه حين أنزلهم أحسن ضيافتهم. * * * وقوله: (فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ (60) القراءة بكسر التُون، ويجوز الفتح بفتح النون لأنها نون جماعة كما قال: (فَبِمَ تُبَشرُونَ) بفتح النون، وتكون (وَلَا تَقْرَبُونِ) لفظه لفظ الخبر ومعناه معنى الأمر. * * * (قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61) (وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ) توكيد. * * * (وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62) (وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ). ولفِتْيَيهِ، قُرِئَتَا جميعاً، والفتيان والفتية المماليك في هذا الموضع. (اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) وفي هذا وجهان، أي إذا رأوا بضاعتهم مردودة عليهم، علموا أن ما كيلَ لهم مِنَ الطعام لم يؤخذ منهم ثمنُه، وأن وضع البضاعة في الرحال لم يكن إلا عن أمْر يُوسُفَ، ويجوز أن يكون (لعلهم يَرْجِعُونَ) يَرُّدون البضاعة. لأنها ثمن ما اكتالوه. ولأنهم لا يأخذون شيئاً ألا بثمنه. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63) (فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ). أي إن أرسلته معنا اكتلنا، وإلا فقد مُنِعْنَا الكيلَ. * * * (قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64)

(65)

أي كذلك قلتم لي في يوسف: (أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12). فقد ضمنتم لي حفظ يوسف وكذلكم ضمانكم هذا عندي. (فَاللَّهُ خَيْرٌ حِفْظاً). وتقرأ (حَافِظًا). وحفظاً منصوب على التمييز، و (حَافِظًا) منصوب على الحال، ويجوز أن يكون حافظاً على التمييز أيضاً. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) (وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ). وتقرأ رِدَّتْ بكسر الراء، والأصل رُدِدَتْ، فأدغمت الدال الأولى في الثانية وبقيت الراء مضمومةً. ومن كسر الراء جعل كسرتها منقوله من الدال. كما فعل ذلك في قِيلَ وبيع لتدل أن أصلَ - الدال الكسر. وقد حكى قطرب أنه يقال في ضُرِبَ زيد؛ ضُرْبَ زَيْدٌ وضِرْبَ زيدٌ - بكسر الضاد. أسكن الراء، ونقل كسرتها إلى الضاد. وعلى هذه اللغة يجوز في كَبِدٍ كِبْد. * * * (قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي). أي ما نريد، وما في موضع نصب، المعنى أي شيء نريد وقد رُدَّتْ علينا بضاعتنا، ويجوز أن يكون (ما) نفياً، كأنَّهم قالوا ما نبغي شيئاً. (هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا). (وَنَمِيرُ أهْلَنَا). يقال: مِرْتُهم أميرهم ميراً إذا أتيتهم بالمير. (وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ). لأنه كان يكال لكل رجل وقْرُ بَعير. (ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ).

(66)

أي ذلك كيل سهل، أي سهل على الذي يمضي إليه. * * * (قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66) (إلا أنْ يُحَاطَ بِكُمْ). فموضع أن نصب، والمعنى لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا لإحَاطَةٍ بِكُمْ، أي لا لتمتنعوا من الإتيان به إلا لهذا، وهذا يسمى مفعولاً له، وإلا ههنا تأتي بمعنى تحقيق الجزاء، تقول: ما تأتي - إلا لأخْذِ - الدرَاهِم وإلا أن نأخذ الدراهم، ومعنى الإحاطة بهم، أنه يحال بينهم وبينه فلا يقدروا على الإتيان به. * * * (وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) قد خاف عليهم العين، وأمر العين صحيح - واللَّه أعلم - وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه عَوّذَ الحسَنَ والحسيْنَ فقال في دعوته: وأعيذكما من كل عين لامَّة. * * * وقوله: (وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (68) أي إلا خوف العين، وتأويل (مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ) قُدَّرَ أن تصيبهم لأصابتهم وهم متفرقون كما تصيبهم مجتمعين. وجائز أن يكون: لايغني مع قضاء الله شيء. (وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ). أي لذو علم لتعليمنا إياه، ونصب حاجة استثناء ليس من الأول، المعنى لكن حاجة في نفس يعقوب قضاها. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (69) (آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ) أي ضَمَّ إليه أخاه. (فَلَا تَبْتَئِسْ): أي لا تحزن ولا تستكن

(70)

(فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70) ْأي أعلم معلم، يقال آذنته بالشيء فهو مُؤذَن به أي أعلمته وأذنت أكثرت الإعلام بالشيء. (أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ). المعنى: يا أيها الأصحاب للعير، ولكن قال: أيتها العير، وهو يريد أهل العير، كما قال: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ) يريد أهل القرية وأَنَّثَ " أيَّا " لأنه جعلها للعير. * * * وقوله: (قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72) وقرئت " صَوَاعَ الملك "، وقرئت " صَاعَ الملكِ "، قرأ أبو هريرة صاغ الملك، وقرئت صوغ الملك - بالغين معجمة. (وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ). أي حمل بعير من الطعام (وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ) أي كفيل. الضواع هو الصاع بعينه، وهو يذكر ويؤنث، وكذلك الصاعُ يذكر ْويؤنث، وجاء في التفسير أنه إناء مستطيل يشبه المكوك، كان يشرب به الملكُ، وهو السقاية. وقيل إنه كان مصنوعاً من فضة مموَّهاً بذهب. وقيل إنه كان من مِسٍّ، وقيل إنه كان يشبه الطاسَ. * * * (قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73) معنى تَاللَّهِ: واللَّه، إلا أن التاء لا يقسسم بها إلا في (اللَّه) لا يجوز تالرحمن ولا تَرَبِّي لأفعلنَّ، والتاء بدل من الواو كما قالوا في وراثٍ تُراث،

(75)

وكما قالوا - يتزِنُ، وأصله يَوْتَزِنُ مِنَ الوزن وإنَّمَا قالوا: (لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ)، لأنهم كانوا لا يَنْزِلُونَ على قوم ظلماً. ولا يرعون زرع أحَدٍ وجعلوا على أفواه إبلهم الأكفةَ لئلا تعبث في زرع، وقالوا: (وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ). لأنهم قد كانوا فيما روي ردوا البضاعة التي وجدوها في رحالهم، أي فمن رَدَّ مَا وَجَده كيف يكون سارقاً. * * * (قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74) قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) أي مِثْلُ هذا الجزاءِ نجزي الظالمين، وكان جزاء السارق عندهم أن يُستَعْبَدَ بسَرقَتِهِ، يَصيرُ عَبْداً لأنه سرق. فأمَّا رفعُ (قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ) فمن جهتين: أحدهما أن هو جزاؤه ابتداء، ويكون من وجد في رحله الخبر، ويكون المعنى جزاء السَّرق الإنسانُ الموجود في رحله السَّرَقُ. ويكون قوله (فَهُوَ جَزَاؤُهُ) زيادةً فى الإبانة. كما تقول: جزاء السارق القطع فهو جزاؤه. فهذا جزاؤه، زيادةٌ في الإبانة. ويجوز أن يكون يرتفع بالابتداء، ويكون (مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ). هذه الجملة خبر الجزاء، والعائد عليه من الجملة " جَزَاؤُهُ " الذي بعد قوله " فهو "، كأنَّه قيل: قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو هو، أيْ فهو الجزاء، ولكن الإظهار كان أحسن ههنا لئلا يقع في الكلام لبس، ولئلا يتوهم أن (هو) إذا عادت ثانية فليست براجعة على الجزاء، والعرب إذا أقحمت أمر الشيء جعلت العائد عليه إعادة لفظه بعينه. أنشد جميع النحويين:

(76)

لا أرى الموت يسبق الموت شيء. . . نغص الموتُ ذا الغنى والفقيرا ولم يقل: لا أرى الموت يسبقه شيء. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76) (ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ). رجع بالتأنيث على السقاية، ويجوز أن يكون أنث الصواع. (كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ). أي في سيرة الملك، وما يدين به الملك، لأن السارق في دين الملك كان يغرم مِثْلَي مَا سَرِقَ، وكان عند آل يعقوبَ وفي مَذْهَبِهِم أنْ يَصِيرَ السارقُ عَبْداً يَسْتَرِقَهُ صاحب الشيء المسروق. (إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ). موضع (أَنْ) نصب، لما سقطت الباء أفضى الفعل فنصب، المعنى ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا بمشيئة اللَّه. (نَرْفَعُ دَرَجَاتِ مَنْ نَشَاءُ). على إضافة الدرجات إلى " من " ويجوز (دَرَجَاتٍ) بالتنوين، على أن يكون (مَنْ) في موضع نصب، المعنى نرفع من نشاء دَرَجاتٍ. ويجوز رفع درجات من نشاء، وهي حسنة، ولا أعلمها رُوِيتْ فلا تقرأن بها إن لم تصح فيها رواية. (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ). قيل في التفسير: فوق كل ذي علم عليم حتى ينتهي العلم إلى اللَّهِ عزَّ وجلَّ. * * * (قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (77)

(78)

يعنون يوسف، ويروى أنه كان فى صغره أخَذَ صُورَةً مما كان يتعبد به بعض من يخالف أهْلَ مِلَّةِ الإسلام من ذهب، وهذا الذي أخذه كان على جهة الإِنكار، لئلا يُعظَّمَ مثل ذلك (فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ). أي لبم يظهرها لهم. (قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا). وهذا إضمار على شريطة التفسير، لأن قوله (قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا) بَدَلٌ من (ها) في قوله: (فَأَسَرَّهَا). المعنى: فَأَسَرَّ يوسف في نفسه قوله: (أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا) المعنى - واللَّه أعلم - (أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا) في السرقِ بالصحَةِ لأنكم سَرَقْتُمْ أخَاكُمْ مِنْ أبيكم. (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ). أي اللَّه أعلمُ أسرق أخ لَهُ أمْ لا. * * * (قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) والعزيز الملك (إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا). (شَيْخًا). من نعت أبٍ، وأبٌ مَنْصُوبٌ بـ (إنَّ) و (كَبِيرًا) من نعت شيخ. (فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ). أي ممن يُحسِنُ ولا يُعَامِلُ بالتحديد في واجب لأنه كان أعطاهم الطعام وأعطاهم ثمنه في رده البضاعة لهم، فطالبُوه بأن يُحْسِنَ.

(79)

(قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (79) (مَعَاذَ اللَّهِ) منصوب على المصدر المعنى أعوذ باللَّهِ مَعاذاً، وموضع أن نَصْبٌ، المعنى أعوذ باللَّهِ من أخذ أحَدٍ إلا مَنْ وَجَدْنا متاعنا عنده، فلما سَقَطَتْ (من) أفضى الفعل فنصب. (إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ) أي إن أخذنا غيره فنحن ظالمون. * * * (فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80) المعنى خَلَصوا يَتَناجَوْنَ، أي خَلَصُوا مُتَنَاجِينَ فيما يعملُون في ذهابهم إلى أبيهم، وليس معهم أخوهم، و " نجِيٌّ " لفظ واحد في معنى جمع، وكذلك (وإذْ هُمْ نَجْوَى). ويجوز قوَم نجيٌّ وقوم نَجْوَى وقوم أَنْجِية. قال الشاعرُ إني إذا ما القومُ صاروا أنْجيَهْ واختلف القولُ اختلاف الأرْشِيَة هناكَ أوصيني ولا توصي بَيهْ ومعنى خلصوا انفردوا وليس معهم أخوهم. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ). أجِود الأوجه أن يكون (مَا) لغواً، فيكون المعنى: وَمِنْ قَبْلُ فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ - ويجوز أن يكون ما في موضع رفع، فيكون المعنى ومن قَبْلِ

(81)

تفريطكم في يوسف، أي وقع تفريطكم في يوسف، ويجوز أن يكون (ما) في موضع نصْبٍ نسق على (أنَّ)، المعنى ألم تعلموا أن أباكم، وتعلموا تفريطبهم في يوسف. (فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي). أي لن أبرح أرض مصر، وإلا فَالناس كلهم على الأرض. (أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي). نسق على (حَتَّى يَأْذَنَ)، ويجوز أن يكون " أو " على جَوابِ " لَنْ " المعنى لن أبرح الأرض حتى يحكم اللَّه لي. * * * وقوله: (ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81) (إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ). ويجوز سُرقَ، إلا أن سرق آكد في القراءة، وسُرِّقَ يكون على ضربين، " سُرِّق عُلِم أَنهُ سَرَقَ، وسُرِّق اتهمَ بالسرق. * * * ْ (قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83) أي زيَّنت لكم أنفسكم وحببت إليكم أنفسكم. (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ). المعنى فأمري صبر جميل أو فصبري صبر جميل، وقد فسرنا هذا فيما سبق من السور: * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) (يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ) معناه يا حزناه، والأصل يا أسفي إلا أن " يا " الإضافة يجوز أن تبدل ألفاً لخفة الألف والفتحة. (فَهُوَ كَظِيمٌ) أي محزون. * * * (قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85)

معنى تاللَّه: واللَّه، و " لا " مضمرة، المعنى واللَّه لا تفتأ تذكر يوسف أي لاَ تزال تذكر يوسف. (حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً). والحَرَضُ الفاسد في جسمه، أي حتى تكون مُدْنَفاً مريضاً. والحرض الفاسد في أخلاقه، وقولهم: حَرضْتُ فلاناً على فلانٍ، تَأويلُه أفسدته عليه. وإنما جاز إضمار " لا " في قوله (تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ) لأنه لا يجوز في القسم تاللَّه تفعل حتى تقول لتفعلن. أو لا تفعل. والقسم لا يجوز للناس إلا باللَّهِ عزَّ وجلَّ، لا يجوز أو يحلف الرجل بأبيه. ولا ينبغي أن يحلف بالأنبياء، ولا يحلف إلا باللَّه، ويروى عن النبي عليه السلام أنه قال لِعُمَر: لا تحلفوا بآبائكم، ومن كان حالفاً فليحلف باللَّه. فإن قال القائل: فما مجاز القسم في كتاب اللَّه عزَّ وجلَّ في قوله: (والليل إذا يغشى)، (والسماء ذات البروج) (والتين والزيتون) وما أشبه هذه الأشياء التي ذكرها اللَّه جل جلاله في كتابه؟ ففيها أوجه كلها قد ذكرها البصريون، فقالوا: جائز أن يكون اللَّه عزَّ وجلَّ أقسم بها لأن فيها كلها دليلًا عليه وآيات بينات، قال اللَّه - عزَّ وجلَّ -: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) إلخ الآية. وقال: (وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ). فكان القسم بهذا يدل على عظمة اللَّه. وقال قطرب جائز أن يكون معناها: ورب الشمس وضحاها، وربِّ التين والزيتون، كما قال: (والسماء ذات البروج). وقال: (والأرض وما طحاها).

(88)

وقال: (فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ). وقالوا أيضاً: جائز أن يكون وخَلْقِ السماوات والأرض، وخَلْقِ التين والزيتون. وقالوا: يجوز أن يكون لما كان معنى القسم معنى التحقيق، وأن هذه الأشياء التي أقسم اللَّه بها حق كلها، وكذلك ما أقسم عليه حق فالمعنى كما أن التين والزيتون حق، لقد خلقنا الِإنسان في أحسن تقويم. وأجْود هذه الأقوال ما بدأنا به في أولها. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) (وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ). قالوا (مُزْجَاة) قليلة، وقالوا كانوا جاءُوا بمتاع الأعراب كالصوف والسمن. وما أَشْبَهَ ذلك مما يبيعه الأعراب، وقيل إن البضاعة كانت مما لا يُتْفقُ مثلهُ في الطعام، لأن متاع الأعْراب كذلك كان تحته رديء المال. وتأويله في اللغة، أن التزجية الشيء القليل الذي يُدَافَعُ به، تَقُول: فلان يُزَجِّي العَيْشَ أي يَدْفَع بالقليل ويكتفي به. فالمعنى على هذا:. إنَا جئنا ببضاعة إنما يُدافع بها أي: يتقوَّت، لَيْسَ مِما يُتَسَعُ بِه. قال الشاعر: الواهب المائة الهِجَانَ وعَبْدَهَا. . . عودُوا تُزَجِّي خَلْفَها أطفالَها

(90)

أي تدفع أطفالها. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) (أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ). فيها أربعة أوجه: بجمع الهمزتين -، قالوا أئِنكَ - على تحقيقهما، ويجوز أئنك - على أن يجعل الثانية بين الياء والهمزة.، وقرئت. (أئنك) على إِنك بفصل بين الهمزتين بألف لاجتماع الهمزتين. قال الشاعر: أَيا ظبية الوَعْساء بين جَلاجِل. . . وبين النَّقَا آأَنتِ أَمْ أُمُّ سالم ويجوز قالوا إنك لأنت على لفظ الخبر. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92) أي لا إِفساد عليكم. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) (لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ). معناه لولا أن تجهِّلُونِ، ويروى تسفهًّونَ. * * * وقوله: (قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97) يقال قد خطئ يخطأ خطأ وخَطأ، وأخطأ يخطئ إخطاء. قال امرؤ القيس:

(98)

يا لَهْفَ هِنْدٍ إِذْ خَطِئْنَ كاهِلا. . . القاتِلِينَ المَلِكَ الحُلاحِلا * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98) قال ذلك يعقوب إرَادَةَ أَن يستغفر لَهم في وقت وجه السَّحَرِ، في الوقت الذي هو لِإجَابَةَ الدعاء لَا أَنه ضَنَّ بالاستغْفار وذلك أشبه بأخلاق الأنبياء. أعني المبالغة في الاستغفار، وتعمد وقت الإجابة. * * * (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) (آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ). أي ضَمَّ إليه أبويه. * * * (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100) (الْعَرْش) السرير. (وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا). كان من سنة التعظيم في ذلك الوقت أن يُسْجَدَ للمعظَّم. وَقِيلَ: (وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا) وَخَروا للَّهِ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101) فيها قولان، أعني في دخول " مِنْ ": جائز أن يكون أراد عَلَّمْتَنِي بعض التأويل، وآتَيتني بعض الملك. وجائز أن يكون دخول " مِنْ " لِتُبين هذا الجنس من سائر الأجناس، ويكون المعنى: رب فد آتيتني الملك وعلمتني تأويل الأحاديث، مثل قوله عزَّ وجلَّ: (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ) يدل على أن " مِنْ " ههنا إنما هي لتبيين الجنس، ومثله قوله: (فَاجْتَنِبُوا الرجْسَ مِنَ الأوْثَانِ) ولم يؤمَرُوا باجتناب بعض الأوثان، ولكن المعنى: واجْتَنِبوا الرجْسَ الذي هو الأوْثَانُ.

(102)

وقوله عزَّ وجلَّ: (فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) ينتصب على وجهين: أحدهما على الصفة لقوله (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ). والمعنى: يَا ربِّ قد آتيتني، وهذا نِدَاء مضاف في موضع نصبٍ. ويكون (فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ والأرْضِ) صفة لِلأول. وجائز أن ينتصب على نداء ثانٍ، فيكون المعنى: يَا فَاطِرَ السماواتِ والأرْضِ أَنْتَ وَليِّي. (وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ). أي ألْحِقْنِي بمرَاتبهم مِنْ رحمتك وغفرانك. * * * (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) هذا خِطاب للنبي عليه السلام، المعنى الذي قَصَصْنَا عليك من أمْر يوسفَ وَإخوته مِنَ الأخْبَارِ التي كانت غائبة عنك. فأُنزلت عَلَيْهِ دلاَلةً على إثبات نبوته، وإنْذَاراً وتيْسِيراً بتفصيل قِصَص الأمم السالفة. وموضع (ذَلِكَ) رفع بالابتداء ويكون خبره (مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ). ويكون (نوحيه إلَيْكَ) خَبَراً ثَانِياً، وإن شئت جعلت " نوحيه " هو الخبر، وجعلت ذلك في موضع الذي. المعنى الذي مِنْ أنباء إلغيب نوحيه إليك ذلك. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) معناه وما أكْثَر الناسِ بمؤمنين ولو حَرَصتَ على أن تَهْدِيَهمْ لأنك لا تهدي مَنْ أحْبَبْتَ ولَكِنَّ الله يَهْدي مَنْ يَشَاءُ. * * * (وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104) أي وَمَا تَسْاَلهم على القرآن وتلاَوته وهِدَايتكَ إيَّاهم من أَجْر. (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ) أي ما هو إلا تذكرة لهم، بما هو صلاحهم ونجاتهم من النَّارِ وَدُخولهم

(105)

الجنة، وإنذارُهم وتبشيرُهم، فكل الصلاح فيه. * * * (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) أي مِن علامة وَدلالة تَدُلُّهم على توحيد اللَّه، من أمر السَّمَاءِ وأنها بغَيْرِ عَمَدٍ لا تقع على الأرض، وفيها من مجرى الشمس والقمر ما فيها، وفيها أعظم البرهان والدليل على أن الَّذي خلقها واحد، وأن لها خالقأ، وكذلك فيما يشاهد في الأرض من نباتها وبحارها وَجَبالِهَا. (وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ). أى لا يفكرون فيما يدُلَّهمْ عَلَى توحيد اللَّه - عزَّ وجلَّ - والدليل على أنهم لا يفكرون فيما يستدلون به قوله عزَّ وجلَّ: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) أي إن اعترفوا بأن الله خالقهم وخالق السَّمَاوَات والأرض، أشركوا في عبادته الأصنام، وأشركوا غيْر الأصنَام. * * * (أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (107) أي أن يأتيهم ما يعجزهم من العذابَ (أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً). أي فجأةً، و (بَغْتَةً) مصدر منصوب على الحال، تقول لقِيتة بَغْتَةً وَفَجْأةً، ومعناه من حيث لم أتوقع أن ألقاه. * * * وقوله عزَّ وجلَّّ: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109) (وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا). وفي غير مَوْضِعٍ ولَلدار الآخرة، فمن قال الدار الآخرة فالآخرة نعت للدار، لأن لجميع الخلق دَارَيْن، الدارُ التي خُلِقوا فيها وهي الدُّنْيا، والذَاز الآخرة التي يُعَادُونَ فيها خلقاً جدِيداً، ومَنْ قالَ " دَارُ الآخِرة " فكأنَّهُ قال: وَدَارُ

(110)

الْحَياة الأخِرَةِ، لأنَّ للناس حَاتَيْنِ، حياة الدنْيَا وحياة الآخرة، ومثل هذا في الكلام الصلَاة الأولَى، وصَلاَة الأولى. فمن قال الصَّلاةُ الأولى جعل الأولى نعتاً للصلاة، ومن قال صلاةُ الأولى أراد صلاة الفريضة الأولى، والساعَةِ الأولى. * * * (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) قرِئَتْ كُذِبوا وكذِّبُوا، بِالتخفيف والتشديد، وقرئت " كَذَبُوا " فأمَّا من قرأ وَظَنوا أَنهم قد كذبُوا بالتشديد - فالمعنى حتى إذا استياس الرُّسُل من أنْ يُصَدِّقَهمْ قومهم جَاءَهُمْ نَصْرُنَا. ومن قرأ قد كُذِبُوا بالتخفيف، فالمعنى وظن قومهم أنهم قد كذِبُوا فيما وُعِدُوا، لأن الرسُل لا يظُنُون ذلك. وقد قال بعضهم وظنوا أنهم قد أخْلِفوا أي ظن الرسُلُ، وذلك بعيدُ في صفة الرسل. يروى عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يوعد شيئاً أخْلِفَ فيه وفي الخبر: ومَعاذَ اللَّه أن يَظنَّ الرسُلُ هَذَا بِربِّها. ومعنى: (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ [كَذَبُوا]) ظنَّ قَومُهم أيضاً أنهم قد كَذَبوا (1). * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ). قرئت فنُنجِّي، وفَننْجِيَ، وقرِئَتْ فَنَجَا مَنْ نَشَاءُ. وقرأ عاصم (فَنُجِّيَ مَنْ نشاء) بفتح الياء. فأمَّا من قرأ (فننْجِي) فعلى الاستقبال، والنون نونُ الاستقبال. أعني النون الأولى، ومن قرأ (فَنُنجِّي) - بإسكان الياء - فحذف النون الثانية لاجتماع النونَين، كما تقول: أنت تَبَيِّن هذا الأمْرَ، تريد تَتَبيَّنُ، فحذف لاجتماع تاءين، ومن قرأ (فَنَجَا مَنْ نَشَاءُ) عطف على قوله جاءهم نصرنا فنجا

_ (1) قال السَّمين: قوله: {كُذِبُواْ} قرأ الكوفيون» كُذِبوا «بالتخفيف والباقون بالتثقيل. فأمَّا قراءةُ التخفيف فاضطربت أقوالُ الناسِ فيها، ورُوي إنكارها عن عائشة رضي الله عنها قالت:» معاذَ اللَّه لم يكنِ الرسلُ لِتَظُنُّ ذلك بربها «وهذا ينبغي أن لا يَصِحَّ عنها لتواتُرِ هذه القراءة. وقد وَجَّهها الناسُ بأربعة أوجه، أجودُها: أن الضميرَ في» وظنُّوا «عائدٌ على المُرْسَل إليهم لتقدُّمهم في قوله: {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ} [يوسف: 109]، ولأن الرسلَ تَسْتدعي مُرْسَلاً إليه. والضمير في» أنهم «و» كُذِبوا «عائد على الرسل، أي: وظنَّ المُرْسَل إليهم أنَّ الرسَلَ قد كُذِبوا، أي: كذَّبهم مَنْ أُرْسِلوا إليه بالوحي وبنصرهم عليهم. الثاني: أنَّ الضمائرَ الثلاثةَ عائدة على الرسل. قال الزمخشري في تقرير هذا الوجه» حتى إذا اسْتَيْئَسوا من النصر وظنُّوا أنهم قد كُذِبوا، أي: كَذَّبَهم أنفسُهم حين حَدَّثَتْهم أنهم يُنْصَرون أو رجاؤُهم لقولهم رجاءٌ صادق ورجاءٌ كاذب، والمعنى: أن مدَّة التكذيب والعداوةِ من الكفار، وانتظارَ النصر من اللَّه وتأميلَه قد تطاولت عليهم وتمادَتْ، حتى استشعروا القُنوط، وتَوَهَّموا ألاَّ نَصْرَ لهم في الدنيا فجاءهم نَصْرُنا «انتهى/ فقد جعل الفاعلَ المقدر: إمَّا أنفسُهم، وإمَّا رجاؤُهم، وجعل الظنَّ بمعنى التوهم فأخرجه عن معناه الأصلي وهو تَرَجُّحُ أحدِ الطرفين، وعن مجازه وهو استعمالُه في المُتَيَقَّن. الثالث: أنَّ الضمائرَ كلَّها أيضاً عائدة على الرسل، والظنُّ على بابه من الترجيح، وإلى هذا نحا ابن عباس وابن مسعود وابن جبير، قالوا: والرسل بَشَرٌ فَضَعُفوا وساءَ ظَنُّهم، وهذا ينبغي ألاَّ يَصِحَّ عن هؤلاء فإنها عبارة غليظة على الأنبياء عليهم السلام، وحاشى الأنبياء من ذلك، ولذلك رَدَّتْ عائشة وجماعةُ كثيرة هذا التأويلَ، وأعظموا أن تُنْسَبَ الأنبياء إلى شيء مِن ذلك. قال الزمخشري: «إن صَحَّ هذا عن ابن عباس فقد أراد بالظنِّ ما يَخْطِر بالبال ويَهْجِس في القلب مِنْ شبه الوسوسة وحديث النفس على ما عليه البشرية، وأمَّا الظنُّ الذي هو ترجيحُ أحدِ الجائزين على الآخر فغير جائز على رجلٍ من المسلمين، فما بالُ رسلِ اللَّه الذين هم أعرفُ بربهم؟» قلت: ولا يجوز أيضاً أن يقال: خَطَر ببالهم شبهُ الوسوسة؛ فإنَّ الوسوسة من الشيطان وهم مَعْصومون منه. وقال الفارسي أيضا: «إنْ ذهب ذاهب إلى أن المعنى: ظنَّ الرسلُ الذين وعد اللَّه أمَمَهم على لسانهم قد كُذِبوا فيه فقد أتى عظيماً [لا يجوزُ أَنْ يُنْسَبُ مثلُه] إلى الأنبياء ولا إلى صالحي عبادِ اللَّه، وكذلك مَنْ زعم أنَّ ابنَ عباس ذهب إلى أن الرسل قد ضَعُفوا فظنوا أنهم قد أُخْلفوا؛ لأن اللَّه تعالى لا يُخْلف الميعاد ولا مُبَدِّل لكلماته». وقد روي عن ابن عباس أيضاً أنه قال: «معناه وظنُّوا حين ضَعُفوا وغُلبوا أنهم قد أُخْلفوا ما وعدهم اللَّه به من النصر وقال: كانوا بشراً وتلا قوله تعالى: {وَزُلْزِلُواْ حتى يَقُولَ الرسول} [البقرة: 214]. الرابع: أن الضمائر كلَّها تَرْجِعُ إلى المرسَل إليهم، أي: وظَنَّ المُرْسَلُ إليهم أنَّ الرسلَ قد كَذبوهم فيما ادَّعوه من النبوَّة وفيما يُوْعِدون به مَنْ لم يؤمنْ بهم من العقاب قبلُ، وهذا هو المشهور من تأويل ابن عباس وابن مسعود وابن جبير ومجاهد قالوا: ولا يجوز عَوْدُ الضمائر على الرسل لأنهم مَعْصومون. ويُحكى أن ابن جبير حين سُئِل عنها قال: نعم إذا استيئسَ الرسل من قومهم أن يُصَدِّقوهم، وظنَّ المُرْسَلُ إليهم أنَّ الرسلَ قد كَذَبوهم» فقال الضحاك بن مزاحم وكان حاضِراً: «لو رَحَلْتُ في هذه إلى اليمن كان قليلاً». وأمَّا قراءةُ التشديدِ فواضحة وهو أن تعودَ الضمائرُ كلها على الرسل، أي: وظنَّ الرسلُ أنهم قد كَذَّبهم أممُهم فيما جاؤوا به لطول البلاءِ عليهم، وفي صحيح البخاري عن عائشة: «أنها قالت: هم أتباعُ الأنبياءِ الذي آمنوا بهم وصَدَّقوا طال عليهم البلاءُ واستأخر عنهم النصرُ حتى إذا استيئس الرسلُ ممَّن كذَّبهم مِنْ قومهم، وظنَّتْ الرسلُ أن قومَهم قد كَذَّبوهم جاءهم نَصْرُ اللَّهِ عند ذلك». قلت: وبهذا يَتَّحد معنى القراءتين، والظنُّ هنا يجوز أن يكون على بابه، وأن يكونَ بمعنى اليقين وأن يكونَ بمعنى التوهُّم حسبما تقدَّم. وقرأ ابن عباس والضحاك ومجاهد «كَذَبوا» بالتخفيف مبنياً للفاعل، والضمير على هذه القراءة في «ظنُّوا» عائد على الأمم وفي {أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ} عائدٌ على الرسل، أي: ظنَّ المُرْسَلُ إليهم أنَّ الرسلَ قد كَذَبوهم فيما وعدوهم به من النصر أو من العقاب، ويجوز أن يعودَ الضميرُ في «ظنُّوا» على الرسل وفي {أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ} على المُرْسَل [إليهم]، أي: وظنَّ الرسلُ أن الأممَ كَذَبَتْهم فيما وعدوهم به مِنْ أنَّهم يؤمنون به، والظنُّ هنا بمعنى اليقين واضح. ونقل أبو البقاء أنه قُرِىء مشدَّداً مبنياً للفاعل، وأوَّلَه بأنَّ الرسل ظنُّوا أن الأمم قد كذَّبوهم. وقال الزمخشري: بعد ما حكى قراءة المبني للفاعل «ولو قرىء بهذا مشدَّداً لكان معناه: وظنَّ الرسلُ أنَّ قومَهم كذَّبوهم في موعدهم» فلم يحفظها قراءةً وهي غريبة، وكان قد جَوَّز في القراءة المتقدمة أنَّ الضمائر كلَّها تعود على الرسل، وأن يعودَ الأولُ على المُرْسَل إليهم وما بعده على الرسل فقال: «وقرأ مجاهد» كَذَبوا «بالتخفيف على البناء للفاعل على: وظنَّ الرسلُ أنهم قد كَذَبوا فيما حَدَّثوا به قومهم من النُّصْرة: إمَّا على تأويل ابن عباس، وإمَّا على أنَّ قومهم إذا لم يَرَوا لموعدهم أثراً قالوا لهم: قد كَذَبْتُمونا فيكونون كاذبين عند قومهم أو: وظنَّ المُرْسَلُ إليهم أن الرسلَ قد كَذَبوا». اهـ (الدر المصون).

(111)

من نشاء على لفظ الفعل الماضي، ومن قرأ (فنُنجِّيَ من نَشَاءُ). فبمعنى الماضي على ما لم يسمَّ فاعله، ويَكون موضع " مَنْ " رَفْعاً. ويُعْلَمُ بالمعنى أن اللَّه عزَّ وجلَّ - نَجَّاهُمْ (1). * * * وقوله - عزَّ وجلَّ - (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111) (وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ). أي الذي تقدمه من الكتب. ونصب " تَصْدِيقاً " على معنى كان، المعنى: ما كان حديثاً يفترى ولكن كان تصديق الذي بين يديه. ويجوز: (مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ). فمن قرأ هكذا رفع الباقي المعطوفَ على تصديق، ويكون مرتفعاً على معنى ولكن هو تصديقُ الذي بين يديه. ويكون ([وَتَفْصِيلُ] كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى [وَرَحْمَةٌ] لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) نَسَقاً عَلَيْه. وهذا لَمْ تثبت بقراءته رواية صحيحة، وَإنْ كانَ جائزاً في العربية لا اختلاف بين النحويين في أنه جيِّدٌ بالغ، فلا تَقْرأنَّ به ولا تُخَالِفْ الإجماع بمذاَهب النحْويينَ.

_ (1) قال السَّمين: قوله: {فَنُجِّيَ} قرأ ابن عامر وعاصم بنونٍ واحدة وجيم مشددة وياء مفتوحة على أنَّه فعلٌ ماضٍ مبني للمفعول، و «مَنْ» قائمة مقام الفاعل. والباقون بنونين ثانيتهما ساكنةٌ، والجيم خفيفة، والياء ساكنة على أنه مضارع أنجى و «مَنْ» مفعولةٌ، والفاعل ضمير المتكلم نفسِه. وقرأ الحسنُ والجحدري ومجاهد في آخرين كقراءة عاصم، إلا أنهم سَكَّنوا الياء. والأجودُ في تخريجها كما تقدَّم، وسُكِّنَتْ الياءُ تخفيفاً كقراءة {تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89] وقد سُكِّن الماضي الصحيح فكيف بالمعتل؟ كقوله: 2835. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . قد خُلِطْ بجُلْجُلان وتقدَّم معه أمثالُه. وقيل: الأصل: ننجي بنونين فأدغم النون في الجيم وليس بشيء، إذ النونُ لا تُدْغم في الجيم. على أنه قد قيل بذلك في قوله {نُنجِي المؤمنين} [الأنبياء: 88] كما سيأتي بيانه. وقرأ جماعة كقراءة الباقين إلا أنهم فتحوا الياء. قال ابن عطية: «رواها ابنُ هبيرة عن حفص عن عاصم، وهي غلطٌ من ابن هبيرة» قلت: توهَّمَ ابن عطية أنه مضارع باقٍ على رفعه فأنكر فتحَ لامِه وغلَّط راويَها، وليس بغلط؛ وذلك أنه إذا وقع بعد الشرط والجزاء معاً مضارعٌ مقرونٌ بالفاء جاز فيه أوجهٌ أحدها: نصبُه بإضمار «أنْ» بعد الفاء وقد تقدَّم عند قولِه {وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ} [البقرة: 284] إلى أنْ قال: «فيغفر» قرىء بنصبه، وتقدم توجيهه، ولا فرق بين أن تكون أداةُ الشرط جازمة كآية البقرة أو غيرَ جازمة كهذه الآية. وقرأ الحسن أيضاً «فَنُنَجِّي» بنونين والجيم مشددة والياء ساكنة، مضارع نجى مشدداً للتكثير. وقرأ هو أيضاً ونصر بن عاصم وأبو حيوة «فنجا» فعلاً ماضياً مخففاً و «مَنْ» فاعله. ونقل الداني أنه قرأ لابن محيصن كذلك، إلا أنه شَدَّ الجيم والفاعل ضمير النصر، و «مَنْ» مفعوله، ورجَّح بعضُهم قراءة عاصم بأن المصاحف اتفقت على كَتْبها «فنجي» بنونٍ واحدة نقله الداني. وقد نقل مكي أنَّ أكثرَ المصاحفِ عليها، فأشعر هذا بوقوع خلافٍ في الرسل، ورُجِّح أيضاً بأنَّ فيها مناسبةً لِما قبلها من الأفعال الماضية وهي جاريةٌ على طريقةِ كلامِ الملوك والعظماء من حيث بناءُ الفعلِ للمفعول. وقرأ أبو حيوة «يشاء» بالياء، وقد تقدَّم أنه يقرأ «فنجا» أي فنجا مَنْ يشاء اللَّه نجاته. وقرأ الحسن «بأسَه»، والضمير للَّه، وفيها مخالفة يسيرةٌ للسواد. اهـ (الدر المصون).

سورة الرعد

سُورَةُ الرَّعْد (مدنية) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1) (المر) قد فسرنا في سورة البقرة ما قيل في هذا وأشباهه، ورُوِيَ أنَّ معناه أنَا اللَّهُ أرَى، ورُوِي أنا اللَّه أعلم وأرى، وروي أن " المر " حروف تدل على اسم الرب جَلً جَلالُه وقولى تعالى: (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ). جاء في التفسير أنَّ الذي أنْزِلَ قَبْل القرآن آياتُ الكتاب. (وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ). أي والقرآن المنزلُ عَليكَ الْحَقُّ، ويجوز أن يكونَ موضِعُ (الذي) رفعاَ على الابتداء، ويجوز أن يكون رفعاً على العطف على (آياتُ) ويكون (الْحَقُّ) مَرْفُوعاً على إضمار هُوَ، ويجوز أن يكون موضع الذي خَفْضاً، عطفاً على الكتاب، المعنى تلك آيات الكتاب وآياتُ الًذِي أنْزِلَ إليكَ، ويكون الذي أنزل من نعت الكتاب وإن جاءت الواو، ويكون الحق مرفوعاً على الِإضمار، ويجوز أن يكون الحق صفة للذي.

(2)

المعنى: تلك آيات الكتاب والذي أنْزِلَ إليك من ربك الحق، ولا أعلم أحداً قرأ بها. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) لَمَّا ذكر أنهم لا يؤمنون عرف الدليلَ الذي يوجب التصديق بالخالق عزَّ وجلَّ - فقال: (اللَّهُ الَّذِي رَفَع السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ)، وفي ذلك من القدرة والدلالة ما لا شيءَ أوضحُ منه أن السماء محيطة بالأرض متبرية منها. بغير عَمَدٍ. والمعنى بغير عمدٍ وأنتم ترونها كذلك، ويجوز أن تكون (ترونها) من نعت العَمَدِ، المعنى بغير عَمَدٍ مرئيةٍ، وعلى هذا تعمدها قدرة الله عزَّ وجلَّ. (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى). كل مقهور مدبَّر لا يملك لنفسه ما يخلصه من القهر، فذلك معنى السُّخْرَةِ، فالشمس والقمر مسخران يجريان مجاريهما التي سخرا جاريين عليها. (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) يحكمه. (يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ). أي يبين الآيات التي تدل على قدرته على بعثكم، لعَلكُم تُوقِنُونَ. لأنهم كانوا يجحدون البعث، فاعلموا أن الذي خلق السَّمَاوَات وأنشأ الإنسان ولم يكن شيئاً، قادر على إعادته. * * * (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3)

(4)

دلَّهُم - بعد أن بين آيات السماء - بآيات الأرض، فقال - عزَّ وجلَّ -: (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ) روي في التفسير أنها كانت مُدَورَةً فمُدَّت. ومَعْناهُ بَسَطَ الأرْضَ. (وَجَعَلَ فِيها رَوَاسيَ). أي جِبَالاً ثوابِتَ، يقال: قد رَسَا الشيءُ يَرْسُو رُسُوًّا فهو راسٍ إذا ثبت (وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ). جعل فيها نوعين، والزوج الواحد الذي ليس له قرين (يُغَشِّي اللَّيْلَ النَّهَارَ). وتقرأ (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ) ثم أى أم أنَّ ما ذكر من هذ؛ الأشياء فيه برهان وعلامات بينات فقال: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ). ثم زادهم من البرهان فَقَال. . (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4) يروى في التفسير أنها تتجاوَرُ، بعضُها عامر، وبعضها غير عَامِر، وكذا في التفسير أيضاً أن معناه قطع متجاورات. (وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ). الأجود رفع جنات، المعنى وفي الأرض قطع متجاورات، وبينهما جناتٍ، ويجوز النصب في جنات، ويقرأ وجناتٍ من أعنابٍ، المعنى جعل فيها رواسي وجعل فيها جنات من أعناب، ويجوز أن يكون وَجَناتٍ خفضاً. ويكون نسقاً على كل، المعنى: ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين،

(5)

ومن جنات من أعناب (وَزَرْعٌ)، فأما (وَزَرْعٌ) فيجوز فيه الرفع والخفض. وكذلك (صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ). والصِّنْوَانُ جمع صِنْوٍ وصُنْوٍ، ومعنى الصنوان أن يكون الأصل واحِداً وفيه النخلتان والثلاث والأكثر، ويجوز في جمع صنو أصْنَاءٌ، مثل عِدْل وأعدال، وكذلك صُنْو فإذا كثرت فَهِيَ الصُّنى والصِّنيِّ. (يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ). ويجوز تسقى بالتاء، بماءٍ واحدٍ (وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ). والْأُكُل: الثمَرُ الَّذِي يؤكَلِ، ويجوز، وُيفَضل بعضَها عَلَى بعضٍ لأنه جرى ذكر اللَّه، فالمعنى يُفَضل اللَّهُ، وكذلك إذا قال: ونفضلُ بالنونِ لأن الإِخبار عن اللَّه بلفظ الجماعة كما قال: (إِنَا نحنَّ نُحْيي وَنُمِيتُ) وهذا خوطب به العَربُ لأنهم يستعملون فيمن يُبَجِّلُونَه لفظ الجمَاعة. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (5) هذا خطاب للنبي عليه السلام. (أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ). أي هذا موضع عجب، لأنهم أنكروا البعث، وقد بين لهم من عِظَمِ خلقِ السَّمَاوَاتِ والأرض ما يدل على أنَّ البَعْثَ أسْهَل في القدرة مما قد تَبَيَّنُوا. فَأمَّا موضع (أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) فموضع إذَا نَصْب فمن قرأ. . (أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا) على لفظ الاستفهام، ثم قرأ (أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) فإذا منصوبة بمعنى نبعث ويجَدَّدُ خَلْقُنَا. المعنى إذا كنا تراباً نبعث ودل على إرادتهم (أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ).

(6)

ومن قرأ إذا كنَا تراباً إنا لفي خَلق جديد أدْخَل ألف الاستفهام على جملة الكلام، وكانت إذا نصباً بـ (كُنَّا)، لكن الكلام يكون في معنى الشرط والجزاء، ولا يجوز أن تعمل " جَدِيد " في إذَا، لأن ما بعد إذا لا يعمل فيما قبلها. لا اختلاف بين النحويين أنَّ ما بَعْدَ إِنْ وإذا لا يعمل فيما قبلهما. ثم أعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أن المستفهِمَ بعد البَيَانِ والبُرْهَانِ عن هذا على جهة الإِنكار كافر، فقال: (أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ). جاء في التفسير أن الأغلال الأعْمَالُ في أعناقهم يومَ القيامة، والدليل على ذلك في القرآن قوله: (إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ). وقيل أولئك الأغلال في أعناقهم، أي الأغلال التي هي الأعمال، وهي أيضاً مؤدية إلى كون الأغلال في أعناقهم يوم القيامة، لأن قولك للرجل: هذا كُل في عنقك للعمل السيئ معناه أنه لازم لك وأنَّكَ مُجازًى علَيْه بالعذاب يَوْمَ القيامة. * * * (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6) أى يطلبون العذاب بقولهم: (فَأمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ). (وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ). والمُثُلات - بضم الميم وفتحها، فمن قَرأ المُثلات، فهي جمع مُثْلة. ومن قرأ المَثُلَات فهي جمع مَثُلَة. ويجوز في المثلات ثلاثة أوجه. يجُوز:

(7)

" خلت المُثْلات " بإسكان الثاء، ويجوز فتح الثاء المُثَلاتُ، ومن قرأ المثلات تُضَمُّ الثاءُ والميم، وهي في الواحدة ساكنة مضمومة في الجمع فهذه الضمة عوض من حذف تاء التأنيث، ومن فتح فلأن الفتحةَ أخَفُّ الحركات، روت الروَاةُ: ولما رَأوْنا بَادياً رُكُبَاتُنَا. . . عَلَى مَوْطِنٍ لا نَخْلِطُ الجدَّ بالهَزلِ ومن قرأ المُثْلات بإسكان الثاء فلأن كل ما كان مضموماً أو مكسوراً نحو رُسُل وعَضُدٍ وفَخِذٍ فإسكانه جائز لنقل الضمة والكسرة. والمعنى أنَّهم يَسْتَعْجِلُونَ بالعَذَابِ وقد تقدم من العذاب ما هو مُثْلة وما فيه نَكَال لهم لو اتعظوا (1). * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7) معناه هلَّا أنْزِلَ عليه وإنَّما طَلبُوا غير الآيات التي أتى بها النبي - صلى الله عليه وسلم - نحو انْشِقَاقَ القمر. والقرآنِ الذي دُعُوا أن يأتوا بسورة من مثله - وَما أشبه هذا النحو، فالتمسوا مثلَ آيات عيسى وموسى، فأعلمَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ - أنَّ لِكُلَ قَوْم هَادِياً، فقال جلَّ وعزَّ: (إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ). أي نبي وداع إلى اللَّه يدْعُوهم بما يُعْطَى من الآيات لَا بِمَا يُريدونَ ويتحكمون فيه. * * * وقوله: (يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8) (وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ). معنى غاض في اللغة نقص. وفي التفسير ما نقص الحمل من تسعة أشهر وما زاد عنها على التسعة. وقيل ما نقص عن أنْ يتمَّ حَتَى يموتَ، وما زاد حتى يتم الحمل.

_ (1) قال السَّمين: والعامَّةُ على فتح الميم وضمِّ المثلثة، الواحدة «مَثُلَة» كسَمُرَة وسَمُرات، وهي العقوبةُ الفاضحة. قال ابن عباس:: العقوباتُ المستأصِلات كَمَثُلَةِ قَطْعِ الأذن والأنف ونحوِهما «، سُمِّيَت بذلك لما بين العقاب والمُعَاقَب من المماثلة كقوله: {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى: 40]، أو لأَخْذِها من المِثال بمعنى القِصاص، يقال: أَمْثَلْتُ الرجلَ منْ صاحبِه وأقْصَصْته، بمعنى واحد، أو لأخْذِها مِنْ ضَرْبِ المَثَل لعِظَم شأنها. وقرأ ابن مُصَرِّف بفتح الميم وسكون الثاء. قيل: وهي لغةُ الحجاز في» مَثْلة «. / وقرأ ابن وثَّاب بضمِّ الميم وسكونِ الثاء، وهي لغة تميم. وقرأ الأعمشُ ومجاهدٌ بفتحهما، وعيسى بن عمر وأبو بكرٍ في روايةٍ بضمهما. فأمَّا الضمُّ والإِسكانُ فيجوز أن يكونَ أصلاً بنفسه لغة، وأن يكونَ مخففاً مِنْ قراءة مَنْ ضمَّهما. وأمَّا ضمُّهما فيُحْتمل أيضاً أن يكونَ أصلاً بنفسه لغةً، وأن يكونَ إتباعاً مِنْ قراءة الضمِّ والإِسكان نحو: العُسُرِ في العُسْر، وقد عُرِفَ ما فيه. اهـ (الدر المصون).

(10)

وقوله: (سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10) مَوضع " مَنْ " رَفْع بسواء، وكذلك (مَنْ) الثانية يرتفعان جميعاً بسواء، لأن سواء يطلب اثنين، تقول: سواء زيد وعمرو، في مَعْنى ذَوَا سَواء زيد وعمرو. لأن سواء مصدر فلا يجوز أن يرتفع ما بعده إلَّا على الحذف، تقول: عدل زيد وعمرو، والمعنى ذوا عدل زيد وعمرو لأن المصادر ليست بأسماء الفاعلين، وإنما ترفع الأسماءُ أوْصَافَها، فإذا رفعتها المصادر فهي على الحذف كما قالت الخنساء: تَرْتَعُ ما غَفَلَتْ حتى إِذا ادَّكَرَتْ. . . فإِنما هي إِقْبالٌ وإِدْبارُ المعنى فإنما هي ذات إقبال وذات إدبار، وكذلك زيد إقبال وإدبار. وهذا مما كثر استعماله أعني سواء، فجرى مجرى أسماء الفاعلين، ويجوز أن يرتفع على أن يكون في موضع مُسْتَوٍ، إلا أن سيبويه يستقبح ذلك، لا يجيز مُسْتَوٍ زيد وعمرو، لأن أسماء الفاعلين عنده إذا كانت نكرة لا يُبْتَدَأ بها لضَعْفها عن الفِعْل فلا يُبْتَدأ بها، وُيجْرِيها مَجْرَى الفعلِ. ومعنى الآية إعلامهُم أنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ يعلمُ ما غاب عنهم وما شُهِدَ. فقال عزَّ وجلَّ: (وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ). أي من هو مستتر بالليل، والليل أسْتَر مِنَ النهار وَمَنْ هُوَ سَارِبٌ بِالنَّهَارِ. أي من هو ظاهر بِالنَّهَارِ في سَرَبِه، يقال: خَلِّ لَهُ سَرَبَه أي طريقه،

(11)

فالمعنى الظاهرُ في الطرقاتِ، والمستخفِي في الظلماتِ، والجاهر بنطقه والمضمِرَ في نفسه علم الله فيهم جميعاً سواء وذكر قطرب وجهاً آخر، ذكر أنه يجوز أن يكون " مُسْتَخْفٍ بالليل " ظاهراً بالليل، وهذا في اللغة جائز، ويكون مع هذا " وسارب بالنهار " أي مُسْتتر، يقال: انسرب الوحْشيُّ إذا دخل في كِناسِه. والأول بَين، وهو أبلغ في وصف علم الغيب. * * * (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11) أي للِإنسان ملائكة يَعْتَقبُونَ، يأتي بعضهم بِعَقِبِ بَعْضٍ (يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ). المعنى حفظهم إياه من أمْرِ اللهِ، أي مما أمَرَهُمُ الله تعالى به، لا أنهم يقدرون أن يدفعوا أمر اللَّه، كما تقول: يحفظونه عن أمر اللَّه (1). وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ). أي لا يلي أمرهم أحد من دون الله. * * * (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12) خَوْفاً للمُسَافِرِ، لأن في المَطَرِ خَوْفاً عَلَى المُسَافِر، كما قال الله تعالى (إِنْ كَانَ بِكمْ أذًى مِنْ مَطَرٍ). وطَمَعاً للحَاضِرِ لأن تفاعه بالمطر. ويجوز أن يكون - واللَّه أعلم - (خَوْفًا وَطَمَعًا) خوفاً لمن يَخاف ضُرُّ المَطَرِ، لأنه ليس كل بَلدٍ ينتفع فيه بالمطر نحو مصر وما أشبهها، وطَمَعاً لمن يَرْجُو الانتفاع به.

_ (1) قال السَّمين: و {مِنْ أَمْرِ الله} متعلقٌ به، و» مِنْ «: إمَّا للسبب، أي: بسبب أمرِ الله، - ويدلُّ له قراءة علي بن أبي طالب وابن عباس وزيد بن علي وعكرمة» بأَمْرِ الله «. وقيل: المعنى على هذا: يحفظون عملَه بإذن الله، فحذف المضافَ- وإمَّا أن تكونَ على بابها. قال أبو البقاء:» مِنْ أَْمْرِ الله، أي: من الجنِّ والإِنس، فتكون «مِنْ» على بابها «. يعني أَنْ يُرادَ بأمر الله نفسُ ما يُحْفَظُ منه كَمَرَدة الإِنس والجنِّ، فتكون» مِنْ «لابتداء الغاية. وجَوَّز أيضاً أن تكونَ بمعنى «عن»، وليس عليه معنىً يليقُ بالآية الكريمة. ويجوز أن تتعلَّق بمحذوفٍ على انه صفةٌ لمُعَقِّبات أيضاً، فيجيء الوصفُ بثلاثةِ أشياءَ في بعض الأوجه المتقدمة: بكونها مِنْ بينِ يديه ومِنْ خلفِه، وبكونها تحفظُه، وبكونها مِنْ أَمْرِ الله، ولكن يتقدَّمُ الوصفُ بالجملةِ على الوصف بالجارِّ، وهو جائزٌ فصيح. وليس في الكلام تقديمٌ وتأخيرٌ كما زعم الفراءُ وغيره، وأن الأصلَ: له مُعَقِّبات مِنْ أَمْرِ الله يحفظونه مِنْ بينِ يديه، لأنَّ الأصلَ عدمُه مع الاستغناءِ عنه. اهـ (الدر المصون).

(13)

(وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ). أي التي قد ثقلت بالماء. * * * (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13) جاء في التفسير أنه ملك يزجر السحاب، وجائز أن يكون صوت الرعد تسبيحه لأن صوت الرعد من أعظم الأشياء. وقد قال اللَّه عزَّ وجلَّ: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ). وخص ذكر الرعد لعظم صوته - واللَّه أعلم. (وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ). جائز أن يكون الوَاوُ وَاوَ حال. فيكون المعنى فيصيبُ بها من يشاء في حَال جِدَاله في اللَّه، وذَلِكَ أنه أتى في التفسير أن رَجلاً من الجاهلية يقال له " ارْبَدُ " سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال أخبرني عن ربنا أمِنْ نحاس أم حَدِيدٍ؟ فأنزل اللَّه عليه صاعقة فقتلته، فعلى هذا يجوز أن يكون الواو وَاوَ حَالٍ. ويجوز أن يكون: لما تمم الله أوصاف ما يدل على توحيده وقُدْرَتِهِ على البَعْثِ قَالَ بَعْدَ ذلك (وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ). أي شديد القدرة والعَذَابِ. ويقال في اللغة مَاحَلْتُه مِحَالاً، إذا قَاويتُهُ. حتى يتبين له أيكما أشدُّ. والمَحْلُ في اللغة الشدة، واللَّه أعلم. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14) جاء في التفسير: دَعوة الحق شهادة أن لا إله إلَّا اللَّهُ، وجائز - واللَّهُ أعلم - أن تكون دَعْوة الحقِّ أنه مِنْ دَعَا اللَّه مُوَحِّداً استجيب له دَعَاؤه.

(15)

(وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ). ثم بين الله عزَّ وجلَّ كيف استجابةُ الأصْنَامِ لأنَّهمُ دَعَوُا الأصْنَام من دون اللَّه فقال: (إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ)، إلا كما يستجاب الذي يبسط كَفَّيْه إلى المَاء يَدعو الماء إلى فيه. والماء لا يستجيب، فأَعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أن دعاءهم الأصنام كَدُعَاءِ العَطْشَانِ الماءَ إلى بُلوغ فيه، (وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ). وقال بعضهم: إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه كإنسان على شفير بئر يدعو الماء من قرار البئر ليبلغ فاه، والتَفْسِيرَانِ وَاحِد. * * * وقوله - عزْ وجل: (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (15) جاء في التفسير أن المؤمن يسجد طوعاً، والكافر يسجد كرهاً، وجاء أن مِنَ النَّاسِ مَنْ دَخَل في الإِسلام طوعاً ومنهم من لم يدخل حتى فحص عن رأسه بالسيف، أي فسجَدَ ودَخَلَ في الإِسلام في أول أمرِه كرهاً. وجائز - واللَّه أعلم - أن يكون (طَوْعًا وَكَرْهًا) أن يكونَ السُّجودُ الخُضُوعَ لِلَّهِ، فمن الناس من يخضع ويقبل أمر اللَّه فيما سهل عليه، ومنهم من تَقَبَّلَهُ وإن كانَ عليه فيه كُرْهٌ. (وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ). أي وتسجد ظلالهم. وجاء في التفسير أن الكافر يسجد لغير اللَّه، وظله يسجد للَّهِ، وقيل وظلالهم أشخاصهم، وهذا مخالف للتفسير. * * * وقوله: (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16) (أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ). أي هل - أو أغير الله خلق شيئاً فاشتبه عليهم خلق الله من خلق غيره. * * * وقوله عزَّ وجلَّ -: (قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ).

(17)

أي قل ذلك وَبيَّنه بما أخبر اللَّه به من الدلالة على توحيده من أول هذه السورة بما يدل على أنه خالق كل شيء، ثم قال - عزَّ وجلَّ - ضارباً مثلاً للكافرين والمؤمنين: (أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17) (أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا) أي بما قدَّرَ لَهَا مِن مِلْئِها، ويجوز ب@درها أي بقدر مِلْئِها. (فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا). أي: طافياً عالياً فوق الماء. (وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ). أي ابتغاء متاعً. (زَبَدٌ مِثْلُهُ). والذي يوقد عليه في النار ابتغاء حلية: الذَّهَبُ والفِضةُ، والذي يوقد عليه ابتغاء أمْتِعة الحديدُ والصُفْر والنحاس والرصاص. و (زَبَدٌ مِثْلُهُ) أي مثل زَبَد الماءِ. (كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ). أي: مِنْ زَبَد الماء، والزَّبَدُ من خَبَثٍ الحديد، والصُّفْرِ والنحاسِ والرصَاصِ (فَيَذْهَبُ جُفَاءً). أي فيدْهب ذلك لا ينتفع به، والجفاء ما جفا، الوادي، أي رمى به. (وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ). وأما ما ينفع الناسَ مِنَ الماءِ والفضةِ والذهب والحديد وسائر ما ذكرنا فيمكث في الأرض. فمثلُ المؤمن واعتقاده ونفْعِ الإِيمان كمثل هذا الماء

(18)

المنتفَع به في نبات الأرض وحياة كل شيء، وكمثل نفع الفضة والذهب وسائر الآلات التي ذُكِرَتْ لأنها كلها تبقى منتفعاً بها، ومثل الكافر وكفره كمثل هذا الزَّبَد الذي يذهب جَفاء وكمثل خبث الحديد، وما تخرجه النار من وسخ الفضة والذهب الذي لا ينتفع به. وموضع كذلك نصْبُ، قال أبو زيد: يقال جَفَأتُ الرجُلَ إذا صَرَعْته وأجْفَاتِ القِدْرُ بِزَبَدِها إذَا ألقت زَبدها فيه. (فَيَذْهَبُ جُفَاءً). من هذا اشتقاقه. وموضع (جُفَاءً) نصب على الحال، وهو ممدود. وزعمْ البصريونَ والكوفيون جميعاً أنَّ ما كان مثلَ القمَاشِ والقُمَامِ والجُفَاء فهذه الأشياء تجيء على مثال فُعَال. * * * وقوله: عزَّ وجلَّ: (لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18) أي لهم الجنة، وجائز أن يكون لهم جزاءُ المحسنين، وهُوَ راجعٌ إلى الجنةِ أيضاً كما قال - عزَّ وجلَّ -: (هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ). (أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ). وسوء الحساب ألا تقبل منهم حسنة ولا يُتَجَاوَزُ لَهُم عَنْ سَيئَةٍ، وأن كُفْرَهُمْ أحْبَطَ أعمَالَهم كما قال:. . (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ). وقيل سوء الحساب أن يُسْتَقصى عليه حسابه ولا يتجاوز له عن شيءٍ من سيئاته، وكلاهما فيه عطب. ودليل هذا القول الثاني: من نوقش الحساب عُذِّبَ. وتكون سوء الحساب المناقشة. * * * وقوله عزَّ وجلَّ (وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) (وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ).

(23)

أي يدفعون، يقال: دَرَأتُه إِذَا دَفَعْتُه. (أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) (جَنَّاتُ) بَدَل مِنْ (عُقْبَى). وعَدن: إقامة، يقال: عَدَنَ بالمكان إذَا أقام فيه. (يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ). موضع " مَنْ " رفع، عطف على الواو في قوله: (يَدْخُلُونَهَا) وجائز أن يكون نصباً، كما تقول قد دخلوا وزيداً أي مع زيدٍ. أعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أن الأنسابَ لا تنفع بغير أعمال صالحة فقال: يَدْخُلونَها وَمَنْ صَلَح مِمنْ جَرَى ذِكْرُه. (وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24) أي يقولون سلام عليكم بما صبرتُم. هذه مكرمة من الله عزَّ وجل لأهل الجنَّةِ. والمعنى يدخلون عليهم من كل باب يقولون (سلام عليكم). فأضمر القول ههنا لأن في الكلام دليلاً عليه. * * * وقوله: (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27) (وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ). يعني من رجع إلى الحق. * * * (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) (الَّذِينَ آمَنُوا) في موضع نصب رَدًّا على (مَنْ)، المعنى يهدي إليه الذين آمنوا (وَتَطْمَئِنُ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ)، أي إذا ذكر الله بوحدانيته آمنوا به غير شَاكِينَ. (أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ).

(29)

" أَلَا " حرف تنبيه وابتداء. ومعنى (أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) أي التي هي قلوب المؤمنين لأن الكافرَ غيرمطمئن القلب. * * * (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29) القراءة بالرفع في (وَحُسْنُ مَآبٍ). عطف على (طُوبَى) كما تقول: الحمدُ للَّهِ والكرامةُ وإن شئت كان نصباً على (طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ). أي جعل اللَّه لهم طوبى وحُسْنَ مآبٍ. (طُوبَى) عند النحويين فُعْلَى من الطِيبِ. المعنى العيش الطيب لهم. وجاء في التفسير عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن (طُوبَى) شجرة في الجنة، وقيل (طُوبَى) لهم حسنى لهم، وقيل طوبى لهم خَيْرٌ لهم. وقيل (طُوبَى) لهم اسم الجنة بالهندية. وقيل (طُوبَى) لهم خيرة لهم، وهذا التفسير كله يشبهه قول النحويين أنها فُعْلَى من الطِّيب. * * * وقوله سبحانه: (وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31) ترِكَ جواب " لو " لأن في الكلام دليلاً عليه، وكان المشركون سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يفسَحَ لهم في مكة ويباعد بين جبالها حتى يتخذوا فيها قطائع وبساتين وأَنْ يُحْيي لهم قَوْماً سَمُّوهُم لَهُ، فأعلمهمْ اللَّه - عزَّ وجلَّ - أن لو فعل ذلك بقرآن لكان يفعل بهذا القرآن. والذي أَتَوَهَّمُه - واللَّه أعلم - وقد قاله بعض أهل اللغة، أن المعنى: لَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الأرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى لما آمنوا به. ودليل هذا القول قوله: (وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ).

(35)

وقوله - عزَّ وجلَّ: (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا) (1). قيل إنها لغة للنخع، يَيْأَس في معنى يَعْلَمُ. وأنْشدوا أَقُولُ لَهُمْ بالشِّعْبِ إِذ يَيْسِرُونَني. . . أَلم تَيْأَسُوا أَني ابْنُ فارِسِ زَهْدَم وقرئت: أفلم يتبين الذين آمنوا. وقال بعض أهل اللغة: أفلم يعلم الذين آمنوا علماً ييأسوا معه من أن يكون غير ما علموه. والقول عندي واللَّه أعلم أن معناه: أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا من إيمان هؤلاء الذين وصفهم اللَّه بأنهم لا يؤمنون لأنه قال: (لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا). (جَمِيعًا) منصوبٌ على الحَالِ. (وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفرُوا تصِيبُهُم بمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ). قيل سَرِيَّة، ومعنى قارعة في اللغة نازلة شديدة تزل بأمر عظيم. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35) قال سيبويه: المعنى فيما يقص عليكم مَثَلُ الْجَنَّةِ، أو مَثَلُ الْجَنَّةِ فيما يُقصُّ عليكم، فرفعه عنده على الابتداء. وقال غيره: (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) مرفوع على الابتداء. وخبره (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ) كما تقول:

_ (1) قال السَّمين: قوله: {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الذين} أصلُ اليَأْسِ: قَطْعُ الطمعِ عن الشيء والقُنوطُ فيه. واختلف الناسُ فيه ههنا: فقال بعضهم: هو هنا على بابه، والمعنى: أفلم يَيْئَسِ الذين آمنوا من إيمانِ الكفَّار من قريش، وذلك أنَّهم لَمَّا سألوا هذه الآياتِ طَمِعوا في إيمانِهم وطلبوا نزولَ هذه الآيات ليؤمِنَ الكفار، وعَلِمَ اللهُ أنهم لا يؤمنون فقال: أفلم يَيْئَسوا من إيمانهم، قاله الكسائي. وقال الفراء: «أَوْقَعَ الله للمؤمنين أنْ لو يشاء اللهُ لهدى الناسَ جميعاً فقال: أفلم يَيْئسوا عِلْماً، يقول: أَيْئَسهم العِلْم مضمراً، كما تقول في الكلام: يَئِست منك أن لا تفلح، كأنه قال: عَلِمه علماً»، قال: فيَئِسَتْ بمعنى عَلِمَت، وإنْ لم يكنْ قد سمع، فإنه يتوجَّه إلى ذلك بالتأويل «. وقال ابن عطية:» ويحتمل أن يكونَ «اليأسُ» في هذه الآية على بابه، وذلك: أنه لمَّا أبْعَدَ إيمانَهم في قوله: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً} على التأويلين في المحذوفِ المقدَّر قال في هذه: أفلم يَيْئَسِ المؤمنون من إيمانِ هؤلاءِ عِلْماً منهم أن لو يشاء اللهُ لهدَى الناسَ جميعاً «. وقال الزمخشري:» ويجوز أن يتعلَّقَ {أَن لَّوْ يَشَآءُ} بآمَنوا على: أولم يَقْنَطْ عن إيمانِ هؤلاءِ الكَفَرَةِ الذين آمنوا بأن لو يشاءُ اللهُ لهدى الناسَ جميعاً ولهداهم «وهذا قد سبقه إليه أبو العباس. وقال الشيخ:» ويُحْتَمَلُ عندي وجهٌ آخرُ غيرُ الذي/ ذكروه: وهو أنَّ الكلامَ تامٌّ عند قوله: {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الذين آمنوا} وهو تقريرٌ، أي: قد يَئِس المؤمنون من إيمان المعاندين، و {أَن لَّوْ يَشَآءُ الله} جوابُ قَسَمٍ محذوفٍ، أي: وأُقْسِمُ لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً، ويدلُّ على هذا القَسَمِ وجودُ «أنْ» مع «لو»، كقولِ الشاعر: 2857 - أَمَا واللهِ انْ لو كنتَ حُرَّاً. . . وما بالحُرِّ أنت ولا القَمينِ وقول الآخر: 2858 - فأُقسمُ أنْ لَوِ التقينا وأنتُمُ. . . لكان لكم يومٌ من الشرِّ مظلِمُ وقد ذكر سيبويه أنَّ «أنْ» تأتي بعد القَسَم، وجعلها ابنُ عصفور رابطةً للقَسَم بالجملة المُقْسَمِ عليها. وقال بعضُهم: «بل هو هنا بمعنى عَلِمَ وتَبَيَّن. قال القاسم بن معن وهو من ثقاتِ الكوفيين:» هي لغة هوازن «. وقال ابن الكلبي: «هي لغةُ حيّ من النَّخَع، ومنه قولُ رباح بن عدي: 2859 - ألم يَيْئَسِ الأقوامُ أني أنا ابنُهُ. . . وإن كنتُ عن أرضِ العشيرةِ نائيا وقول سحيم: 2860 - أقولُ لهم بالشَّعْبِ إذ يَأْسِرُونني. . . ألم تَيْئَسُوا أني ابنُ فارسِ زَهْدَمِ وقول الآخر: 2861 - حتى إذا يَئِسَ الرُّماةُ وأَرْسَلوا. . . غُضْفاً دواجنَ قافِلاً أعْصامُها وردَّ الفراء هذا وقال:» لم أَسْمَعْ يَئِسْتُ بمعنى عَلِمْتُ «. ورُدَّ عليه: بأنَّ مَنْ حَفِظ حجةٌ على مَنْ لم يَحْفَظْ، ويَدُلُّ على ذلك قراءةُ عليّ وابن عباس وعكرمة وابن أبي مُلَيْكة والجحدري وعلي بن الحسين وابنه زيد وجعفر بن محمد وابن يزيد المديني وعبد الله بن يزيد وعلي ابن بَذِيمة:» أو لم يتبيَّنْ «، مِنْ تبيَّنْتُ كذا إذا عَرَفْتَه. وقد افترى مَنْ قال:» إنما كتبه الكاتب وهو ناعِسٌ، وكان أصله «أفلم يتبيَّن» فَسَوَّى هذه الحروفَ فَتُوُهِّمَ أنها سين «. قال الزمخشري:» وهذا ونحوُه ممَّا لا يُصَدَّقُ في كتاب [كتاب الله الذي لا يأتيه] الباطلُ مِنْ [بينِ] يديه ولا مِنْ خلفِه، وكيف يَخْفَى هذا حتى يَبْقى بين دَفَتَيْ الإِمام، وكان متقلِّباً في أيدي أولئك الأعلامِ المحتاطِيْنَ في دين الله، المهيمنين عليه، لا يَغْفُلون عن جلائِله ودقائقِه، خصوصاً عن القانون الذي إليه المرجعُ، والقاعدةُ التي عليها المبنى، هذه واللهِ فِرْيَةٌ، ما فيها مِرْيَةٌ «. وقال الزمخشري أيضاً:» وقيل: إنما اسْتَعْمل اليأسَ بمعنى العِلْم، لأن الآيسَ عن الشيء عالمٌ بأنه لا يكونُ، كما اسْتَعْمل الرجاءَ في معنى الخوف والنسيان والتركِ لتضمُّن ذلك «. اهـ (الدر المصون).

(39)

صفةُ فُلانٍ أسْمَرُ كقولك: فلان أسمر. وقالوا معناها صفة الجنة التي وعد المتقون. وكلا القولين حسن جميل. والذي عندي - واللَّه أعلم - أن اللَّه عزَّ وجلَّ، عَرفنا أُمُورَ الجنة التي لم نَرَهَا. ولم نُشَاهِدْهَا بما شَاهِدناه مِن أمور الدنيا وعايَنَّاه. فالمعنى (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) جَنة (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا) (1). * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39) أي يمحو الله ما يشاء مما يكتبه الحفظة على العباد ويثبت. قال بعضهم: يمحو الله ما يشاء ويثبت، أي من أتى أجَلُه مُحِيَ، ومن لم يأت أجَلُه أثْبِتَ. وقيل يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشاءُ وُيثْبِتُ أي ينسخُ مما أَمَرَ به ما يشاء وُيثْبتُ أى ويُبْقِي مِن أمْره ما يشاء. (وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ). أي أصل الكتاب. وقيل يمحو الله ما يشاء ويثبت أي مَنْ قدَّرَ لَهُ رِزْقاً وَأَجَلاً مَحا مَا يَشَاءُ من ذلك وأثبت ما يشاء. * * * وقوله تعالى: (وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40) " إِنْ " أدْخلَت عليها (مَا) لتوكيد الشرط. دخلت النون مؤكدة للفعل. (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ). عطف على (نُرِيَنَّكَ) وجواب الجزاء: (فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ) أي علينا الحساب لِنَجْزيَ كل نفس بما عملت. والمعنى إِما أرَيْنَاكَ بعض الذي وعدناهم من إظهار دين الِإسلام على الدين كله، أو توفيناك قبل ذلك، فليس عليك إلَّا البَلاغُ - كَفَروا هم به

_ (1) قال السَّمين: قوله تعالى: {مَّثَلُ الجنة}: مبتدأ، وخبرُه محذوفٌ تقديره: فيما قَصَصْنا، أو فيما يُتْلَى عليكم مَثَلُ الجنَّة، وعلى هذا فقولُه {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} تفسيرٌ لذلك المَثَل. وقال أبو البقاء: «فعلى هذا» تَجري «» حالٌ من العائدِ المحذوف في «وُعِد»، أي: وُعِدَها مُقَدَّراً جَرَيَانُ أنهارها «. ونَقَل عن الفراء أنه جعل الخبر قوله» تجري «. قال:» وهذا خطأٌ عند البصريين «. قال:» لأنَّ المَثَلَ لا تَجْري مِنْ تَحتِه الأنهارُ، وإنما هو من صفاتِ المضافِ إليه، وشُبْهَتُه: انَّ المَثَل هنا بمعنى الصفة فهو كقولِه «صِفَةُ زيدٍ أنه طويلٌ»، ويجوز أن يكونَ «تجري» مستانَفاً «. قلت: وهذا الذي ذكره ابو البقاء نَقَل نحوَه الزمخشريُّ: ونَقَل غيرُه عن الفراء في الآية تاويلين آخرين، أحدُهما: على حذف لفظةِ» أنَّها «والأصلُ: صفةُ الجنَّة أنها تجري، وهذا منه تفسيرُ معنىً لا إعرابٍ، وكيف يَحْذِفُ» أنها «من غير دليلٍ. والثاني: أنَّ لفظةَ» مثل «زائدةٌ، والأصل: الجنة تجري مِنْ تحتِها الأنهار، وزيادةُ» مَثَل «كثيرةٌ في لسانِهم. ومنه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] {فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَآ آمَنْتُمْ} [البقرة: 137] وقد تقدَّم. وقال الزمخشري:» وقال غيرُه: -أي سيبويه - الخبر {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} كما تقول: صفةُ زيدٍ أسمرُ «. قال الشيخ:» وهذا أيضاً لا يَصِحُّ أن يكونَ «تَجْري» خبراً عن الصفةِ، ولا «أسمر» خبراً عن الصفة، وإنما يُتَأَوَّل «تجري» على إسقاطِ «أنْ» ورفعِ الفعل، والتقدير: أَنْ تَجْري، أي: جَرَيانُها. وقال الزجَّاج: «مَثَل الجنَّة جَنَّةٌ تجري، على حَذْفِ الموصوفِ تمثيلاً لِما غاب عنَّا بما نشاهده». ورَدَّ عليه أبو عليٍّ قال: «لا يَصِحُّ ما قال الزجاج، لا على معنى الصفة، ولا على معنى الشَّبَه؛ لأنَّ الجنَّةَ التي قَدَّرها جثةٌ ولا تكونُ الصفة، ولأنَّ الشَّبه عبارةٌ عن المماثلةِ التي بين المتماثلين وهو حَدَثٌ، والجنَّةُ جثَّةٌ فلا تكون المماثلةُ، والجمهورُ على أن المَثَلَ هنا بمعنى الصفة فليس هنا ضَرْبُ مَثَلٍ، فهو كقولِه تعالى: {وَلِلَّهِ المثل الأعلى} [النحل: 60] وأنكر أبو علي أَنْ تكون بمعنى الصفة. وقال: معناه الشبه. وقرأ عليٌّ وابن مسعود» أمثال الجنة «، أي: صفاتها. اهـ (الدر المصون).

(41)

أو آمنوا. ثم أعلم اللَّه أن بَيانَ ما وُعِدُوا به قد ظهر وتبيَّنَ فقال عزَّ وجلَّ: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41) أي أو لم يروا أنا قد فتحنا على المسلمين من الأرض ما قد تبين لهم. ودليل هذا القول قوله عزَّ وجلَّ في موضع آخر: (أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44). وقيل في تفسير هذه الآية ما وصفنا، وقيل غير قولٍ. قيل نَقْصُها من أطرافها موتُ أهلها، ونقص ثمارها. وقيل ننقصها من أطرافها بموت العلماء. والقول الأول بين. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) (وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ). وقُرِئت: وَسَيَعْلَمُ الكافِر، ومعنى الكفار والكافر ههنا وَاحِدٌ. الكافر اسم للجنس، كما تقول قد كثرت الدراهم في أيدي الناس. وقد كثر الدِّرْهَمُ في أيدِي الناس. . وقرأ بعضهم وسيَعلم الكافرون، وبعضهم وسيعلم الذين كفروا. وهاتان القراءتان لا تجوزان لمخالفتهما المصحفَ المجمعَ عليه. لأن القراءة سُنَّة. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43) (قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ). الباء في موضع رفع مع الاسم، المعنى كفى الله شَهِيدًا، وشَهِيدًا مَنْصُوبٌ على التمييز. (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ). و" مَن " يعود على الله عَزَّ وجَلَّ، وقيل في التفسير يعنى به عبد الله بن سلام

وقيل ابن يامين، والذي يدل على أنه راجع إلى اللَّه عزَّ وجلَّ - قراءة من قرأ (ومِنْ عِنْدِه) علمُ الكتابُ، ومن عنده علم الكتاب لأن الأشبه، واللَّهُ أعلم - أن اللَّه لا يَسْتَشْهِدُ على خلقه بغيْره. وذلك التفسير جائز لأن البراهين إذا قامَتْ مع اعتراف من قرأ الكتب التي أنزلت قبل القرآن فهو أمرٌ مُؤكدٌ (1).

_ (1) قال السَّمين: قوله تعالى: {وَمَنْ عِندَهُ}: العامَّة [على فتح ميم] «مَنْ»، وهي موصولةٌ، وفي محلِّها أوجهٌ، أحدُها: أنها مجرورةُ المحلِّ نَسَقاً على لفظ الجلالةِ، أي: بالله وبمَنْ عنده عِلْمُ الكتابِ كعبد الله بن سلام ونحوِه. والثاني: أنها في محلِّ رفعٍ عطفاً على محل [الجلالة، إذ هي] فاعلةٌ، والباءُ زائدةٌ فيها. الثالث: أن يكونَ مبتدأً، وخبرُه محذوف، أي: ومَنْ عنده عِلْم الكتاب أَعْدَلُ وأمضى قولاً. و {عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} يجوز أن يكونَ الظرفُ صلةً، و «عِلْمُ» فاعلٌ به. واختاره الزمخشري، وتقدَّم تقريرُه، وأن يكونَ مبتدأً وما قبله الخبرُ، والجملةُ صلةٌ ل «مَنْ». والمراد بمَنْ عنده عِلْمُ الكتاب: إمَّا ابنُ سَلام أو جبريلُ أو اللهُ تعالى. قال ابن عطية: «ويُعْتَرض هذا القولُ بأنَّ فيه عطفَ الصفة على الموصوف ولا يجوز، وإنما تُعْطَفُ الصفاتُُ». واعترض الشيخُ عليه بأنَّ «مَنْ» لا يُوصَفُ بها ولا بغيرِها من الموصولات إلاَّ ما اسْتُثْني، وبأنَّ عطفَ الصفاتِ بعضِها على بعض لا يجوز إلا بشرطِ الاختلاف. قلت: ابن عطية إنما عَنَى الوصفَ المعنويَّ لا الصناعيَّ، وأمَّا شرطُ الاختلافِ فمعلومٌ. وقرأ عليٌّ وأُبَيٌّ وابنُ عباس وعكرمة وابن جبير وعبد الرحمن ابن أبي بكرة والضحاك وابن أبي إسحاق ومجاهد في خَلْق كثير {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} جعلوا «مِنْ» حرفَ جرّ، و «عندِه» مجرورٌ بها، وهذا الجارُّ هو خبرٌ مقدَّمٌ، و «عِلْم» مبتدأ مؤخر. وقرأ عليٌّ أيضاً والحسن وابن السَّمَيْفع {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} يجعلون «مِنْ» جارَّةً، و «عُلِمَ» مبنياً للمفعول، و «الكتابُ» رفعٌ به. وقُرئ كذلك إلاَّ انه بتشديد «عُلِّم». والضمير في «عنده» على هذه القراءاتِ لله تعالى فقط. وقُرئَ أيضاً «وبمَن» بإعادةِ الباءِ الداخلةِ على الجلالة. اهـ (الدر المصون).

سورة إبراهيم

سُورَة إبْراهِيمَ مكية إلَّا اثنَتَين مِنهَا نزلت بالمدينة (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ) إلى قوله: (وَبِئْسَ الْقَرَارُ). بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله عزَّ وجلَّ: (الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) (كِتَابٌ) مرفوع على خبر الابتداء، المعنى هذا كتاب أنزلناه إليك. وقال بعضهم كتاب مرتفع بقوله (الر) و (الر) ليست هي الكتاب إنما هي شيء من الكتاب. ألا ترى قوله (الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ). فإنما الكتاب جملة الآيات وجملة القرآن. وقوله: (لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ). (الظلمات) ما كانوا فيه من الكفر، لأن الكفر غير بَينٍ فمُثلَ بالظلمات. والإيمان بين نَيِّر فَمُثلَ بالنور، والباء متصلة بـ يخرج، المعنى ليخرج الناس بِإِذْنِ رَبِّهِمْ، أي بما أذن اللَّه لك من تَعْلِيمهمْ، ويجوز أن يكون بِإِذْنِ رَبِّهِمْ أنه لا يهتدي مهتدٍ إلا بإذن اللَّه ومشيئته، ثم بيَّنَ ما النور فقال: (إلَى صِراطِ العزِيزِ الحَمِيدِ).

(3)

(الحميدِ) خفض من صفة (العزيزِ) ويجوز الرفع على معنى الحميدُ اللَّه ويرتفع (الحميد) بالابتداء وقولك " اللَّه " خبر الابتداء، ويجوز أن يرفع اللَّهُ ويخفض (الحميد) على ما وصفنا. ويكون اسم اللَّه يرتفع بالابتداء. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (3) (وَيبْغونَهَا عِوجاً). أيْ يَطْلِبُونَ غير سَبِيل القَصْدِ وصراطِ الله وهو القَصْد، والعوج في الدين مبني على فِعَل، وفي العَصَا عَوَجٌ بفتح العَيْن. ونصب (عِوجاً) على الحال مصدر موضوع في موضع الحال. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4) أي بلغة قومه ليَعْقِلَ عنه قومُه، (فَيُضِل اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ)، الرفع هو الوَجْهُ وهو الكلام وعليه القراءة، والمعنى إنما وقع الإرسال للبيان لا للِإضلال. ويجوز النصبُ على وجه بعيدٍ، فيكون (لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي)، ويكون سبب الإِضلال الصيرورة إليه كما قال: (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا)، أي التقطوه فآل ذلك إِلى أن صار لهم عدواً وحزناَ، ولم يلتقطوه هم ليكون لهم عدواً وحَزَناً، وكذلك يكون: (فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ)، أي فيؤول الأمر إلى أَنْ يَضِلُوا فيضلهم اللَّه. والقول الأول هو القول وعليه القراءة. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) أي البرهانِ الذي دل على صحة نبوته، نحو إخراج يده بيضاء وكون العصا حيَّة. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ).

(9)

أي بأن اخْرجْ قومَكَ. المعنى أرسلناه بأن يخرج قومه (من الظلمات إلى النور)، أي من ظلمات الكفر إلى نور الِإسلام. و" أنْ " ههنا يصلح أنْ يكون لْي معنىْ " أنْ " المخففة، وتكون مُفَسَّرةً، ويكون المعنى ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أي أخرج قومك، كأن المعنى قلنا له: أخْرِجْ قومَكَ، ومثل هذا: (وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا). أي امشوا. والتأويل: قالوا لهم: امشوا. قال سيبويه تقول كتبت إليه أن قُمْ، وأمرته أن قُمْ، إن شئت كانت " أن " وصلت بالأمر، والتأويل تأويل الخبر، المعنى كتبْت إليهَ أن يَقُومَ وأمرته أنْ يَقومَ، إلا أنها وُصِلَتْ بلفظ الأمْر للمخاطب، والمعنى معنى الخبر، كما تقول، أنت الذي فعلت، والمعنى أنت الذيِ فَعَلَ قال: ويجوز أن يكون في معنى أي، ومثله أرسلت إليه أنْ مَا أنْتَ وذَا. وقوله: (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ). (وَذَكِّرْهُمْ) عطف على (اخرِجْ)، وتذكيرهم بأيام اللَّه، أي تذكيرهم بنَعَمِ أيامِ الله عليهم، وبنقم اللَّه التي انتقم فيها من قوم نوح وعاد وثمودَ، أي ذكرهم بالأيام التي سَلَفَتْ لمن كفر وما نزل بهم فيها، وذَكِرْهًمْ. بنعَم اللَّه. والدليل على أن التذكير مشتمل على الِإنْذار والتَّحْذِير مما نزِل بِمَنْ قبلهم قوله عزَّ وجلَّ بعد هذه الآية: (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9) أي ألم يأتهم أخبارُ أُولَئِكَ والنَوَازِلِ بهِمْ، (لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ). فأعلم الله أن بعد هؤلاء أمَماً قد مضى من كان يعلم أنباءَهَا، ومن هذا

(15)

قيل: كذب النَّسَّابُونَ لأنهم لا يعلمون من كان بعد هؤلاء. وهذا يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. (جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ). يروى عن ابن مسعود أنهم عَضوا أناملهم غيظاً مما أتَتْهُم به الرسلُ. وقيل: (رَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ)، أومأوا إلى الرسل أن اسكتُوا. وقيل ردوا أيْدِيَهُمْ، الهاء والميمَ يرجعان على الرسل، المعنى ردوا أيدي الرسل أي نِعَمَ الرسُل لأن مَجيئهم بالبيَّنَّاتِ نِعَم، تقول: لفلان عندي يَدٌ أي نِعْمَة، ومعنى في أفْوَاهِهِم بأفواههم، أي ردوا تلك النعم بالنطق بالتكذيب لِمَا جاءت به الرسُلُ، والمعنى أن الردَّ جَاء في هذه الجهة، وفي معناها، كما تقول: جلست في البيت، وجلست بالبيت. وقالوا: (وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ). هذا هو الرد. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) (اسْتَفْتَحُوا) يُعْنَى به الرسُلُ، سألوا اللَّه أن يفتح عليهم أي ينصرهم. وكل نصْرٍ فهو فَتْحٌ، والجَبَّار الذي لا يَرى لأحَدٍ عَلَيه حَقًّا، والعنيد الذي يعدل عن القَصْدِ، يقال جبَّار بَين الجَبْرِيَّة، والجِبْريَّةُ - بكسر الجيم - والجِبِرية بكسر الجيم والباء، والجَبَرُوَّة والجَبَرَوَّة، والتجْبَار والجبرياء، والجَبُّورة والجبرُوتُ. * * * (مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16) أي جهنم بين يديه، و " وراء " يكون لخلف وقُدَّام، وإنما معناه ما توارى

(17)

عنك أي ما استتر عنك، وليس من الأضداد كما يقول بعض أهل اللغة، قال النابغة: حَلَفْت فلمْ أترك لنفسك ريبةً. . . وليس وراءَ الله للمرء مَذْهَبُ أي ليس بعد مذاهب الله للمرء مذهب. (وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ). أي مما يسيل من أهل النَّار من الدَّم والقيح. * * * (يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17) أي لا يقدر على ابتلاعه، يقال ساغ لي الشراب وَأسَغْتُه. (وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ). أي من بعد ذلك. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18) (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ) فهو مرفوع على معنى وفيما يتلى عليكم مثل الذين كفروا بِرَبِّهم، أو مَثَل الذين كفروا بربهم - فيما يتلى عليكم، وجائز أن يكون - واللَّهُ أعلم - مثل الذين كفروا بربهم صفة الذين كفروا بربهم أعمالهم، كأنك قلت: " الذين كفروا بربهم أعمالهم "، كما تقول صفة زيد أسمر، المعنَى زيدٌ أسمَرُ وتأويله أن كل ما يتقرب به الذين كفروا إلى اللَّه فمُحْبَطٌ. قال الله عزَّ وجلَّ: (حَبِطَتْ أَعْمَالُهُم فِي الدُّنْيَا والآخِرَة). ومثله: (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ).

(21)

وقوله: (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (21) أي جمعهم الله في حشرهم فاجتمع التابع والمتبوع. (فَقَالَ الضُعَفَاءُ)، وهمُ الأتباعُ. (للذين استكبروا) وَهم المَتْبوعونَ. (إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا). أي اتبَعناكم فيما دعوتمونا إليه، وتَبَعاً جمع تَابع، يقال تابع وتَبَعُ، مثل غائب وغَيَبٌ، وجائز أن يكون تبع مَصْدَراً سمِّيَ به، أي كنا ذوي تبع. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا). (سَوَاءٌ) رفع بالابتا اء، و (أَجَزِعْنَا) في موضع الخبر. (مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ). أي ما لنا من مهرب ولا مَعْدِل عن العذابِ، يقال حاص عن الشيء يَحِيص، وَجَاصَ عنه يَجِيصُ في معنى واحدٍ. وهذه اللغة لا تجوز في القرآن ويقال: وقع في حَيْصَ بيْصَ، وَحَاصَ باصَ وحَاصٍ بَاصٍ، إذا وقع فيما لا يقدرُ أن يتخلص منه. * * * (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22) روي أنه إذا استقر أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النَّارِ قام إبليس عليه لعنة الله خطيباً، فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ)، أي وَعَدَ من أطاعه الجنة ووعد مَن عَصاه النَّارَ، (وَوَعَدْتُكُمْ) خلاف ذلك وَمَا كَانَ لي عَلَيْكُم مِنْ سُلْطَانٍ. أي ما أظهرت لكم مِنْ حُجةٍ. (إلا أن دَعَوْتُكمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي). أي أغويتكم وأضللتُكمْ، فاتبعتموني. ذكر اللَّه - عزَّ وجلَّ - أن إبليس

وما يقوله في القيامة تحذيراً من إضلاله وإغوائه. (مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ). أي ما أنا بمُغيثكم، ولا أنتم بمُغِيثي، قُرِئَتْ بِمُصْرخِيَّ - بفتح الياء. كذا قرأه الناس، وقرأ حمزة والأعشى بمُصْرِخِىِّ بكسر الياء، وهذه القراءة عند جميع النحويين رديئة مرذولة ولا وجه لها إلا وجه ضعيف ذكره بعض النحويين (1)، وذلك أن ياء الِإضافة إذَا لم يكن قبلها ساكن حُرِّكَتْ إلى الفتح: تقول: هذا غلامِيَ قد جاءَ، وذلك أن الاسم المضمَرَ لمَّا كان على حرف واحدٍ وقد منع الإعراب حرك بأخف الحركات، كما تقول: هو قائم فتفتح الواو، وتقول: أنا قمْتُ فتفتح النون، ويجوز إسكانُ الياء لِثِقَلِ الياء التي قبلها كسرة، فإذا كان قبل الياء سَاكِن خرِّكَتْ إلى الفتح لا غير، لأن أصلها أن تحرك ولا ساكن قبلها، وإذا كان قبلها ساكن صارت حركتها لازمَةً لالتقاء السَّاكنين،. ومن أجاز بمصْرخيِّ بالكسر لَزِمَهُ أن يقول: هذه عَصَاي أتوكأ عليها، وأجاز الفراء على وجه ضعيف الكسر لأن أصل التقاء السَّاكنين الكسرُ، وأنشد: قال لها هل لك يا ثافيِّ. . . قالت له مَا أنتَ بالمَرْضِيِّ

_ (1) قال السَّمين: قوله: {بِمُصْرِخِيَّ} العامَّةُ على فتحِ الياءِ؛ لأنَّ الياءَ المدغمَ فيها تُفْتَحُ أبداً لا سيما وقبلها كسرٌ ثانٍ. وقرأ حمزةُ بكسرِها، وهي لغةُ بني يَرْبوع. وقد اضطربت أقوالُ الناس في هذه القراءةِ اضطراباً شديداً: فمِنْ مُجْتَرِئٍ عليها مُلَحِّنٍ لقارئها، ومِنْ مُجَوِّزٍ لها من غير ِ ضعفٍ، ومِنْ مجوِّزٍ لها بضعفٍ. قال حسين الجعفي: «سألتُ أبا عمروٍ عن كسرِ الياءِ فأجازه». وهذه الحكايةُ تُحكى عنه بطرقٍ كثيرة، منها ما تقدَّم، ومنها: «سألت أبا عمروٍ وقلت: إن أصحابَ النحوِ يُلْحِّنُوننا فيها فقال: هي جائزة أيضاً، إنما أراد تحريك الياء، فلستَ تبالي إذا حَرَّكْتَها إلى أسفلَ أم إلى فوقُ». وعنه: مَنْ شاء فتحَ، ومَنْ شاء كسر، ومنها أنه قال: إنها بالخفضِ حسنةٌ. وعنه قال: قَدِم علينا أبو عمرو بن العلاء فسألتُه عن القرآن فوجدْتُه به عالماً، فسألتُه عن شيء [مِنْ] قراءة الأعمش واستشعرتُه {وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} بالجرِّ فقال: هي جائزةٌ، فلما أجازها وقرأ بها الأعمشُ أَخَذْتُ بها. وقد أنكر أبو حاتم على أبي عمروٍ تحسينَه لهذه القراءةِ، ولا التفاتَ إليه لأنه عَلَمٌ من أعلامِ القرآن واللغةِ والنحوِ، واطَّلع على ما لم يطَّلع عليه [مَنْ فوقَ السجستاني]: 2877 - وابنُ اللَّبُونِ إذا ما لُزَّ في قَرَنٍ. . . لم يستطعْ صَوْلَةَ البُزْلِ القناعيسِ ثم ذكر العلماءُ في ذلك توجيهات: منها أنَّ الكسرَ على أصلِ التقاءِ الساكنين، وذلك أنَّ ياءَ الإِعرابِ ساكنةٌ، وياءَ المتكلمِ أصلُها السكونُ، فلمَّا التقيا كُسِرَتْ لالتقاء الساكنين. الثاني: أنها تُشْبِهُ هاءَ الضميرِ في أنَّ كلاًّ منهما ضميرٌ على حرف واحد، وهاءُ الضميرِ تُوْصَلُ بواوٍ إذا كانت مضمومةً، وبياءٍ إذا كانت مكسورة، وتُكْسَرُ بعد الكسرةِ والياءِ الساكنة، فَتُكْسَرُ كما تُكْسَرُ الهاءُ في «عليْهِ»، وبنو يربوعٍ يَصِلونها بياءٍ، كما يَصِل ابن كثير نحو: «عليهي» بياء، فحمزةُ كسرَ هذه الياءَ من غير صلةٍ، إذ أصلُه يقتضي عدَمها. وزعم قطرب أيضاً أنها لغةُ بني يربوع، قال: يزيدون على ياء الإِضافة ياءً، وأنشد: 2878 - ماضٍ إذا ما هَمَّ بالمُضِيِّ. . . قال لها: هل لكِ ياتا فِيَّ أنشده الفراء وقال: «فإنْ يَكُ ذلك صحيحاً فهو ممَّا يلتقي من الساكنين». وقال أبو عليّ: «قال الفراء في كتاب» التصريف «له: زعم القاسم بن معن أنه صوابٌ، وكان ثقةً بصيراً». ومِمَّن طعن عليها أبو إسحاقَ قال: «هذه القراءةُ عند جميعِ النحويين رديئةٌ مَرْذُوْلَةٌ ولا وجهَ لها إلا وجهٌ ضعيفٌ». وقال أبو جعفر: «صار هذا إدغاماً، ولا يجوز أن يُحْمل كتابُ اللهِ تعالى على الشذوذ». وقال الزمخشري: «هي ضعيفةٌ، واستشهدوا لها ببيتٍ مجهول: 2879 - قال لها: هل لكِ ياتا فِيَّ. . . قالت له: ما أنت بالمَرْضِيِّ وكأنه قدَّر ياء الإِضافة ساكنةً، وقبلها ياءٌ ساكنة، فحرَّكها بالكسر لِما عليه أصلُ التقاءِ الساكنين، ولكنه غيرُ صحيحٍ؛ لأنَّ ياءَ الإِضافةِ لا تكونُ إلا مفتوحةً حيث قَبْلها ألفٌ نحو:» عصايَ «فما بالُها وقبلَها ياءٌ؟ فإن قلتَ: جَرَتِ الياءُ الأولى مَجْرى الحرفِ الصحيح لأجل الإِدغامِ فكأنها ياءٌ وقعَتْ [ساكنةً» بعد حرفٍ صحيحٍ ساكنٍ فَحُرِّكَتْ بالكسرِ على الأصل. قلت: هذا قياسٌ حسنٌ، ولكن الاستعمالَ المستفيضَ الذي هو بمنزلةِ الخبرِ المتواترِ تتضاءلُ إليه القياساتُ «. قال الشيخ:» أمَّا قولُه «واستشهدوا لها ببيتٍ مجهولٍ، فقد ذكر غيرُهُ أنه للأغلبِ العجليّ، وهي لغةٌ باقيةٌ في أفواهِ كثيرٍ من الناس إلى اليوم يقولون:» ما فِيَّ أفعلُ «بكسر الياء». قلت: الذي ذكر صاحبَ هذا الرجزِ هو الشيخُ أبو شامةَ، قال: «ورأيتُه أنا في أول ديوانِه، وأولُ هذا الرجز: 2880 - أقبل في ثَوْبٍ مَعافِرِيِّ. . . عند اختلاط الليلِ والعَشيِّ ثم قال الشيخ:» وأمَّا التوجيهُ الذي ذكره فهو توجيه الفراء نقله عنه الزجَّاج. وأمَّا قولُه في غضونِ كلامِه «حيث قبلها ألفٌ» فلا أعلم «حيث» تضاف إلى الجملةِ المصدرةِ بالظرف نحو: «قعد زيد حيث أمام عمروٍ بكر» فيحتاج هذا التركيب إلى سماعٍ «قلت: إطلاقُ النحاةِ قولَهم: إنها تضافُ إلى الجملِ كافٍ في هذا، ولا يُحتاج [إلى] تَتَبُّع كلِّ فردٍ فردٍ، مع إطلاقِهم القوانينَ الكلية. ثم قال: وأمَّا قولُه» ياء الإِضافةِ إلا آخره «قد رُوي سكونُ الياءِ بعد الألف، وقد قرأ بذلك القراءُ نحو» محياْيْ «. قلت: مجيءُ السكون في هذه الياءِ لا يُفيده ههنا، وإنما كان يفيده لو جاء بها مكسورةً بعد الألف فإنه مَحَلُّ البحثِ. وأنشد النحاة بين الذبياني بالكسرِ والفتحِ، وهو قوله: 2881 - عليَّ لِعمروٍ نِعْمةٌ بعد نعمةٍ. . . لوالدِه ليسَتْ بذاتِ عَقارِبِ وقال الفراء في كتاب» المعاني «له:» وقد خَفَضَ الياء مِنْ «بمُصْرِخِيِّ» الأعمشُ ويحيى بنُ وثاب جميعاً، حدَّثني بذلك القاسمُ بن مَعْن عن الأعمش، ولعلها مِنْ وَهْم القرَّاء، فإنه قَلَّ مَنْ سَلِمَ منهم مِنَ الوَهْمِ، ولعله ظنَّ أن الباءَ في «بمُصْرِخِيَّ» خافضةٌ للفظِ كلِّه، والياءُ للمتكلم خارجةٌ من ذلك «. قال: «ومما نرى أنهم وَهِمُوا فيه قوله: {نُوَلِّهْ مَا تولى وَنُصْلِهْ جَهَنَّمَ} بالجزم في الهاء». ثم ذكر غيرَ ذلك. وقال أبو عبيد: «أمَّا الخفضُ فإنَّا نراه غلطاً، لأنهم ظنُّوا أن الباءَ تُكْسِرُ كلَّ ما بعدها، وقد كان في القرَّاء مَنْ يجعله لحناً، ولا أحبُّ أن أبلغَ به هذا كلِّه، ولكنَّ وجهَ القراءةِ عندنا غيرُها». قال الأخفش: «ما سَمِعْتُ بهذا مِنْ أحد من العرب ولا من أحدٍ من النحويين». قال النحاس: «فصار هذا إجماعاً». قلت: ولا إجماعَ. فقد تقدَّم ما حكاه الناسُ من أنها لغةٌ ثانيةٌ لبعضِ العربِ. وقد انتدب لنُصرةِ هذه القراءة أبو عليٍّ الفارسيّ، قال في «حُجَّته». «وجهُ ذلك أن الياءَ ليسَتْ تخلُو مِنْ أَنْ تكونَ في موضعِ نصبٍ أو جرّ، فالياءُ في النصبِ والجرِّ كالهاء فيهما، وكالكاف في» أكرمتُك «و» هذا لك «، فكما أنَّ الهاءَ قد لحقَتْها الزيادةُ في هذا: لهُوْ، وضَرَبَهُوْ، / ولحقَ الكاف أيضاً الزيادةُ في قولِ مَنْ قال» أَعْطَيْتُكاه «و» أَعْطَيْتُكِيْه «فيما حكاه سيبويه، وهما أختا الياء، ولحقت التاءَ الزيادةُ في قول الشاعر: 2882 - رَمَيْتِيْهِ فَأَصْمَيْتِ. . . وما أَخْطَأْتِ [في] الرَّمْيَهْ كذلك ألحقوا الياءَ الزيادةَ مِن المدِّ فقالوا:» فِيَّ «، ثم حُذِفَتْ الياءُ الزائدةُ على الياءِ كما حُذِفَتِ الزيادةُ مِن الهاء في قولِ مَنْ قال: 2883 - . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . لَهْ أَرِقانِ وزعم أبو الحسنِ أنها لغةٌ». قلت: مرادُ أبي عليٍّ بالتنظير بالبيت في قولِه: «لَهْ أَرِقان» حَذْفُ الصلةِ، واتفق أن في البيت أيضاً حَذْفَ الحركةِ، ولو مَثَّل بنحو «عليهِ» و «فيهِ» لكن أولى. ثم قال الفارسيُّ: «كما حُذِفَتْ الزيادةُ من الكاف فقيل: أعطيتكَهُ وأَعْطَيْتُكِهِ، كذلك حُذِفت الياءُ اللاحقةُ للياء كما حُذِفَتْ من أُخْتَيْها، وأُقِرَّتْ الكسرةُ التي كانت تلي الياء المحذوفةَ فبقيت الياءُ على ما كانت عليه من الكسرِ». قال: «فإذا كانت الكسرةُ في الياء على هذه اللغةِ - وإن كان غيرُها أَفْشى منها، وعَضَدَه مِن القياسِ ما ذكرناه لم يَجُزْ لقائلٍ أن يقول: إن القراءةَ بذلك لحنٌ لاستقامةِ ذلك في السماعِ والقياسِ، وما كان كذلك لا يكون لحناً». قلت: وهذا التوجيهُ هو توضيحٌ للتوجيه الثاني الذي قدَّمْتُ ذِكْرَه. وأما التوجيهُ الأولُ فأوضحه الفراءُ أيضاً، قال الزجاج: «أجاز الفراء على وجهٍ ضعيفٍ الكسرَ لأنَّ أصلَ التقاءِ الساكنين الكسرُ». قال الفراء: «ألا ترى أنهم يقولون: مُذُ اليومِ، ومُذِ اليوم، والرفعُ في الذال هو الوجهُ، لأنه أصلُ حركةِ» منذ «، والخفضُ جائزٌ، فكذلك الياءُ من» مُصْرِخيَّ «خُفِضَتْ ولها أصلٌ في النصب». قلت: تشبيهُ الفراءِ المسألةَ ب «مذ اليوم» فيه نظر؛ لأنَّ الحرفَ الأولَ صحيحٌ، ولم يتوالَ قبله كَسْرٌ بخلافِ ما نحن فيه، وهذا هو الذي عناه الزمخشريُّ بقوله فيما قدَّمْتُه عنه: «فكأنها وقعَتْ بعد حرفٍ صحيح». وقد اضطرب النقلُ عن الفراء في هذه المسألةِ كما رأيْتَ «مِنْ نَقْلِ بعضِهم عنه التخطئةَ مرةً، والتصويبَ أخرى، ولعل الأمرَ كذلك، فإنَّ العلماءَ يُسأَلُونَ فيُجيبون بما يَحْضُرهم حالَ السؤالِ وهي محتلفةٌ. التوجيهُ الثالث: أنَّ الكسرَ للإِتباع لِما بعدها، وهو كسرُ الهمزِ من» إنِّي «كقراءةِ» الحمدِ لله «، وقولهم» بِعِير وشِعِير وشِهيد، بكسر أوائِلها إتباعاً لما بعدها، وهو ضعيفٌ جداً. التوجيه الرابع: أنَّ المسوِّغ لهذا الكسرِ في الياء وإن كان مستثقلاً أنَّها لَمَّا أُدْغِمَتْ فيها التي قبلها قَوِيَتْ بالإِدغام، فأشبهتِ الحروفَ الصِّحاحَ فاحتملتِ الكسرَ؛ لأنه إنما يُسْتَثْقَلُ فيها إذا خَفَّتْ وانكسر ما قبلها، ألا ترى أن حركاتِ الإِعرابِ تجري على المشدِّدِ وما ذاك إلاَّ لإِلحاقِه بالحروفِ الصِّحاح. والمُصْرِخُ: المُغِيْث يُقال: اسْتَصْرَخْتُه فَأَصْرَخَني، أي: أعانني، وكأنَّ همزتَه للسَّلْب، أي: أزال صُراخي. والصَّارخ هو المستغيثُ. قال الشاعر: 2884 - ولا تَجْزَعوا إني لكمْ غيرُ مُصْرِخٍ. . . وليس لكم عندي غَناءٌ ولا نَصْرُ ويُقال: صَرَخَ يَصْرُخُ صَرْخاً وصُراخاً وصَرْخَة. قال: 2885 - كنَّا إذا ما أتانا صارخٌ فَزِعٌ. . . كان الصُّراخُ له قَرْعَ الظَّنابيبِ يريد: كان بدل الإِصراخ، فحذف المضافَ، أقام مصدرَ الثلاثي مُقام مصدرِ الرباعي نحو: {والله أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً} [نوح: 17]. والصَّريْخُ: القومُ المُسْتَصْرِخُونَ قال: 2886 - قومٌ إذا سَمِعُوا الصَّريخَ رأيتَهُمْ. . . ما بين مُلْجِمِ مُهْرِهِ أو سافِِعِ والصَّريخُ أيضاً: المُغِيثون فهو من الأضداد، وهو محتملٌ أَنْ يكون وَصْفاً على فَعِيْل كالخَليط، وأن يكونَ مصدراً في الأصل. وقال: {ف

(24)

وهذْا الشعر مما لا يلتفت إليه، وعَمَل مثلِ هذا سهلٌ، وليس يعرف قائل هذا الشِعرِ من العرب، ولا هو مما يحتج به في كتاب الله عزَّ وجلَّ. (إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ). إني كفرت بشرككم - أيهَا التُّبَاعُ - إياي باللَّهِ، كما قال - عزَّ وجلَّ -: (ويومَ القيامةِ يَكْفُرُون بِشِرْكِكُمْ). وقوله تعالى: (عَذَابٌ ألِيمٌ) معناه وجيعٌ مؤلمٌ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) ضرب اللَّه - عزَّ وجلَّ - للإيمان به مثلًا، وللكفر به مَثَلاً، فجعل مَثل المؤمِنِ في نطقه بتوحيده والإيمان بنبيه واتباع شريعته، كالشجرَة الطيبة. فجعل نفع الِإقامة على توحيده كنفع الشجرة الطيبة التي لا ينقطعَ نفعُها وثمرها، وجاء في التفسير أن الشجرة الطيبة النخلة، والدليل على أن هذا المثل يراد به توحيد اللَّه، والِإيمانُ بنَبِيِّهِ وشرِيعَتِه قوله - عزَّ وجلَّ -: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ). * * * وقوله: (تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) اختلف الناس بتفسير الحين، فقال بعضهم كل سَنَةٍ، وقال بعضهم: كل

(26)

ستةِ أشْهُر، وقال بعضهم: غُدْوة وعشية. وقال بعضهم: الحين شهران. وجميع من شاهدنا من أهل اللغة يذهب إلى أنَّ الحينَ اسم كالوقت. يصلح لجميع الأزمان كلها طالت أو قصرت. فالمعنى في قوله تعالى (تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ) أنهاينتفع بها في كل وقتٍ، لا ينقطع نفعها ألبتَّةَ، والدَّليل على أن الحين بمنزلة الوقت قول النابغة، أنشده الأصمعي في صفة الحيَّةِ والملدوغ. تناذرها الراقون منَ سوء سمها. . . تطلقه حيناً وحيناً ترَاجعُ فالمعنى أَن السم يَخِفُّ أَلَمُه في وقت ويعود وقتاً. * * * (وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26) قيل إن الشجرة الخبيثة الحنظل وَقيلَ الكوث. (اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ). معنى (اجْتُثَّتْ) استؤصلت من فوق الأرض، ومعنى اجْتُثَّتْ في اللغةِ أخِذتْ جُثَّتَهُ بكمالها: (مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ). فالمعنى أنَّ ذكرَ اللَّه بالتَّوْحِيدِ يَبْقَى أبداً ويَبْقَى نَفْعه أبداً، وأن الكفْرَ والضلاَلَ لَا ثبوتَ لَه.

(27)

وقوله تعالى: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27) روي أن هذه الآية نزلت في عذاب القبر، فإذا مات المَيِّت قيل له: مَنْ ربُّك وما دِينُكَ ومن نبيُكَ، فإذا قال: اللَّه ربي ومحمدٌ نبى والإسلام ديني. فقد ثبَّته الله بالقول الثابت في الآخرة لأن هذا بَعْدَ وفاته، وتثبيته في - الدنيا، لأنه لا يلفقه في الآخرة إلا أن يكون ذلك عقدة في الدنيا. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) والبوإر الهلاك والاستئصال. * * * (جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29) (جَهَنَّمَ) بدل من قوله (دَارَ البَوَار) ومُفَسَّرة. . . وجهنم لم تُصْرَفْ لأنها مؤنثة وهي معرفة. * * * وقوله: (وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30) النِّدُّ: المِثْل، بيَّن وجه كفرهم. (لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ)، وليَضِلوا، قرئ بهما جميعاً. * * * وقوله: (قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ (31) إن شئت حركتَ الياء، وإنْ شِئْتَ أسكَنْتَها. و (يقيموا) (1) جزم على جواب الأمر، وفيه غير وجه، أجودها أن يكون مبنياً، لأنه في موضع الأمر. وجائز أن يكون مجزوماً بمعنى اللام إلا أنها اسْقِطَتْ، لأن الأمر قد دل على الغائب بِقُلْ، تقول: قل لزيد لِيَضْربْ عمراً، وَإنْ شئت قلت: قل لزيْدِ

_ (1) قال السَّمين: قوله تعالى: {قُل لِّعِبَادِيَ الذين آمَنُواْ يُقِيمُواْ} فيه أوجهٌ، أحدُها: أنَّ «يُقيموا» مجزومٌ بلامِ أمرٍ محذوفةٍ تقديرُه: ليقيموا، فحُذِفَتْ وبقي عملُها، كما يُحْذَفُ الجارُّ ويبقى عملُه، كقولِه: 2891 - محمدُ تَفْدِ نفسَك كلُ نفسٍ. . . إذا ما خِفْتَ مِنْ شيءٍ تَبالا يريد: لِتَفْدِ. أنشده سيبويه، إلا أنَّه خَصَّه بالشعر. قال الزمخشري: «ويجوزُ أن يكونَ» يُقيموا «و» يُنْفِقوا «بمعنى: لِيُقيموا ولِيُنْفقوا، ويكون هذا هو المَقُولَ. قالوا: وإنما جاز حَذْفُ اللامِ لأنَّ الأمرَ الذي هو» قُلْ «عِوَضٌ منها، ولو قيل: يقيموا الصلاة ويُنفقوا ابتداءً بحذف اللام لم يَجُزْ». قلت: وإلى قريبٍ من هذا نحا ابن مالك فإنه جَعَلَ حَذْفَ هذه اللامِ على أضربٍ: قليلٍ وكثيرٍ ومتوسطٍ. فالكثيرُ: أن يكونَ قبلَه قولٌ بصيغة الأمر كالآيةِ الكريمةِ، والقليلُ: أن لا يتقدَّمَ قولٌ كقوله: «محمدُ تَفْدِ» البيت، والمتوسط: أن يتقدَّمَ بغيرِ صيغةِ الأمرِ كقوله: 2892 - قُلْتُ لبَوَّابٍ لديهِ دارُها. . . تِيْذَنْ فإني حَمْؤُها وجارُها الثاني: أنَّ «يُقيموا» مجزوم على جوابِ «قُلْ»، وإليه نحا الأخفش والمبرد. وقد رَدَّ الناسُ عليهما هذا بأنه لا يلزمُ مِنْ قوله لهم: أقيموا «أَنْ يَفْعلوا، وكم مَنْ تخلَّف عن هذا الأمر. وقد أجيب عن هذا: بأنَّ المرادَ بالعباد المؤمنون، ولذلك أضافهم إليه تشريفاً، والمؤمنون متى أَمَرَهم امْتَثَلُوا. الثالث: أنه مجزومٌ على جوابِ المقولِ المحذوفِ تقديره: قل لعبادي: أقيموا وأَنْفِقُوا، يُقيموا وينفقوا. قال أبو البقاء: وعزاه للمبرد-» كذا ذكره جماعة ولم يتعرَّضوا لإِفسادِه. وهو فاسد لوجهين، أحدُهما: أنَّ جوابَ الشرطِ يُخالِفُ الشرطَ: إمَّا في الفعلِ أو في الفاعل أو فيهما، فأمَّا إذا كان مثلَه في الفعلِ والفاعلِ فهو خطأٌ كقولِك: قم تقمْ، والتقديرُ على ما ذُكِرَ في هذا الوجه: إنْ يُقيموا يُقيموا. والوجه الثاني: أنَّ الأمرَ المقدَّرَ للمواجهة، و «يُقيموا» على لفظ الغَيْبَةِ وهو خطأٌ، إذا كان الفاعل واحداً «. قلت: أمَّا الإِفسادُ الأولُ فقريبٌ، وأمَّا الثاني فليس بشيء؛ لأنه يجوز أن يقول: قل لعبدي أَطِعْني يُطِعْك، وإن كان للغَيْبة بعد المواجهة باعتبارِ حكايةِ الحال. الرابع: أنَّ التقديرَ: إن تَقُلْ لهم: أقيموا، يُقيموا، وهذا مَرْوِيٌّ عن سيبويه فيما حكاه ابن عطية. قلت: وهذا هو القولُ الثاني. الخامس: قال ابن عطية:» ويحتمل أن يكونَ «يُقيموا» جوابَ الأمرِ الذي يعطينا معناه قولُه «قُلْ»؛ وذلك أن تجعلَ قولَه «قُلْ» في هذه الآيةِ بمعن بَلّغْ وأَدِّ الشريعةَ يُقيموا «. السادس: قال الفراء:» الأمرُ معه شرطٌ مقدَّرٌ تقول: «أَطِعِ اللهَ يُدْخِلْكَ الجنَّةَ». والفرقُ بين هذا وبين ما قبله: أنَّ ما قبله ضُمِّن فيه الأمرُ نفسُه معنى الشرط، وفي هذا قُدر فعلُ الشرطِ بعد فعلِ الأمرِ مِنْ غيرِ تضمينٍ. السابع: قال الفارسيُّ: «إنَّه مضارعٌ صُرِف عن الأمرِ إلى الخبرِ ومعناه: أقيموا». وهذا مردودٌ؛ لأنه كان ينبغي أن يُثْبِتَ نونَه الدالَّةَ على إعرابه. وأُجيبَ عن هذا بأنه بُني لوقوعِه موقعَ المبني، كما بُني المنادى في نحو: «يا زيدُ» لوقوعِه موقعَ الضمير، ولو قيل بأنه حُذِفَتْ نونُه تخفيفاً على حَدِّ حَذْفها في قولِه: «لا تَدْخُلوا الجنَّة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابُّوا». وفي معمول «قُلْ» ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: الأمرُ المقدَّرُ، أي: قُلْ لهم: أقيموا، يُقيموا، الثاني: أنه نفسُ «يُقيموا» على ما قاله ابنُ عطية الثالث: أنَّه الجملةُ من قولِه {الله الذي خَلَقَ} إلى آخره، قاله ابن عطية. وفيه تفكيكٌ للنَّظْم، وجَعْلُ الجملةِ «يُقيموا الصلاة» إلى آخره مُفلتاً ممَّا قبلَه وبعدَه، أو يكونُ جواباً فَصَل بين القولِ ومعمولِه، لكنه لا يترتَّبُ على قولِ ذلك إقامةُ الصلاةِ والإِنفاقُ، إلا بتأويلٍ بعيدٍ جداً. اهـ (الدر المصون).

(33)

يَضْرِبْ عَمرا، ولا يجوز قل يضرب زَيْد عمرا ههنا بالجزم حتى تقول ليضرب، لأن لام الغائب ليس ههنا منها عوض إذا حذفتها. وفيها وجه ثالث على جواب الأمر على معنى قل لعبادي الذين آمنوا أقيموا الصلاة يقيموا الصلاة، لأنهم إذا آمَنُوَا وَصَدَّقوا، فإن تصديقهم بقبولهم أمر اللَّه - عزَّ وجلَّ -. * * * وقوله: (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ). إن شئتَ رفعتَ البيعَ والخلالَ جميعاً، وإن شئت نصبتهُما جميعاً بغير تنوين وإن شئت نصبت أحدهما ورفعتْ الآخر، فالنصب على النفي بلا، وقد شرحنا ذلك فيما سلف من الكتاب، والخلال والخلة في معنى الصداقة. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) معناه: دائبين في إصلاح ما يصلحانه من الناس والنبات لا يَفْتُرَانِ. * * * (وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34) وتقرأ (مِنْ كُلٍّ مَا سَأَلْتُمُوهُ) بتنوين (كُلٍّ)، فموضع " ما " خفض بالإضافة والمعنى من كل الذي سألتموه. ومن قرأ (مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ) فموضع " ما " نَصْبٌ. والمعنى وآتاكم من كل الأشياء التي سألتموه. فإن قال قائل: فقد أعطى العباد مَا لَمْ يَسألوا؟ قيل له ذلك غير ناقض هذه الآية، إذَا قال: (وَآتَاكُمْ مِنْ كُل الذِي سَالتُموه) لم يوجب هذا أن يكون لم يعطهم غير ما سألوه، ويجوز أن يكون " ما " نفياً، ويكون المعنى وآتاكم من كل ما لم تسألوه، أي آتاكم كل الشيء الذي لم تسألوه.

(35)

وقوله عزَّ وجلَّ: (إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ). هذا اسم للجنس يقصد به الكافر خاصَّة، كما قال: (وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ). والإِنسان غير المؤمن ظلومٌ كفَارٌ. * * * (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) يعني مكة (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ). وتَقرأ (وأجْنِبْني وبَني) عَلى أجْنَبْتُة كذا وكذا إذا جعلته ناحية منه، وكذلك جنبتُه كذا وكذا. ومعنى الدعاء من إبراهيم عليه السلام أن يُجَنَبَ عبادة الأصنام، وهو غير عابد لها على معنى ثَبِّتْنِي على اجتناب عبادتها كما قال: (وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ) أي ثبِّتنا على الإِسلام. * * * (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) أي ضلِّلُوا بسببها، لأن الأصنام لا تعقل ولا تَفْعَل شيئاً، كما تقول قد فتنتني هذه الدارُ.، أي أنا أحْبَبْتها واسْتَحْسَنْتُها، وافتتنت بها. (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). أي فإنك غفور رحيم له إن تاب وإن آمن، لا أنه يقول إن من كفر فإن اللَّه غفور رحيم، فإن اللَّه لا يغفر له، ألا ترى قوله في أبيه: (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ).

(37)

(رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ). أي اجعل أفئِدَةً جماعةًْ مِن الناس تنزع إلَيْهِمْ، ويجوز تَهَوَى إليْهِمْ. فمن قرأ تهوي إليهم فَهُوَ على هَوَى يَهْوِي إذا ارتفع (1)، ومن قرأ تَهَوى إليهم فعلى هَوِيَ يَهْوَى إذا أحب، والقراءة الأولى هي المختارة. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) أي واجعل مِنْ ذُرِّيَّتِي من يقيم الصلاة. (رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ). القراءة بغير " ياء " في دعائي، إذا وقفت، فإذا وصلت فأنت بالخيار إن شئت قلت دعاءِ بغير ياء، وكانت الكسرة في الهمزة تنوب عن الياء، والأجود إثبات الياء، وإن شئت أسْكَنتَها، وإن شئت فتحتها. * * * وقوله: (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41) هذا قبل أن يتبين لِإبراهيم أن أبَاهُ عَدُوٌّ للَّهِ، فلما تبيَّنَ لَهُ ذلك تبرأ منه. وقيل إنه يَعْنِي بوالديه هنا آدمَ وحواء وقيل أيْضاً ولوَلَدَيَّ، يعني به إسماعيل وإسحاق، وهذه القراءة ليست بشيء لأنها خلاف ما عليه أهل الأمصار من أهل القراءات. (يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ). يعني يوم القيامة، و " يَوْمَ " منصوب بـ (اغْفِرْ لِي). * * * وقوله: (مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43) (مُهْطِعِينَ) منصوب على الحال، المعنى إنما يؤخرهم ليوم تَشخص فيه

_ (1) قال محقِّقُ الكتاب: كذا بالأصل وهو سهوٌ إذ هوى بمعنى سقط ووقع. اهـ قلت [مصحح النسخة الإلكترونية] قال ابن منظور: وقوله عز وجل (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ) فيمن قرأَ به إِنما عدَّاه بإِلى لأَن فيه معنى تميل والقراءَة المعروفة تَهْوي إِليهم أَي تَرْتَفِع والجمع أَهْواء وقد هَوِيَه هَوًى فهو هَوٍ وقال الفراء معنى الآية يقول اجعل أَفئدة من الناس تُريدُهم كما تقول رأَيت فلاناً يَهْوي نَحْوَك معناه يُريدك قال وقرأَ بعض الناس تَهْوى إِليهم بمعنى تَهْواهم كما قال رَدِفَ لكم ورَدِفَكم الأَخفش تَهْوى إِليهم زعموا أَنه في التفسير تَهْواهم الفراء تَهْوي إِليهم أَي تُسْرعُ والهَوى أَيضاً المَهْويُّ قال أَبو ذُؤيب زَجَرْتُ لها طَيْرَ السَّنِيحِ فإِنْ تَكُنْ. . . هَواكَ الذي تَهْوى يُصِبْكَ اجْتِنابُها. اهـ (لسان العرب. 15: 371). وقال السَّمين: قوله: «تَهْوي» هذا هو المفعولُ الثاني للجَعْل. والعامَّة «تَهْوِي» بكسرِ العين بمعنى: تُسْرِعُ وتَطيرُ شوقاً إليهم. قال: 2897 - وإذا رَمَيْتَ به الفِجاجَ رَأَيْتَه. . . يَهْوي مخارمَها هُوِيَّ الأجْدَلِ وأصلُه أنْ يتعدَّى باللام، كقوله: 2898 - حتى إذا ما هَوَتْ كفُّ الغلامِ لها. . . طارَتْ وفي كَفِّه مِنْ ريشِها بِتَكُ وإنَّما عُدِّي ب «إلى» لأنه ضُمِّنَ معنى «تميل»، كقوله: 2899 - تَهْوي إلى مكَّةَ تَبْغي الهدى. . . ما مُؤْمِنُ الجِنِّ كأَنْجاسِها وقرأ أميرُ المؤمنين علي وزيد بن علي ومحمد بن علي وجعفر ابن محمد ومجاهد بفتح الواو، وفيه قولان، أحدُهما: أنَّ «إلى» زائدةٌ، أي: تهواهم. والثاني: أنه ضُمِّنَ معنى تَنْزِعُ وتميل، ومصدرُ الأول على «هُوِيّ»، كقوله: 2900 - . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . يَهْوي مخارِمَها هُوِيَّ الأجْدَل والثاني على «هَوَى». وقال أبو البقاء: «معناهما متقاربان إلاَّ أَنَّ هَوَى - يعني بفتح الواو- متعدٍّ بنفسه، وإنما عُدِّيَ بإلى حَمْلاً على تميل». وقرأ مسلمة بن عبد الله: «تُهْوَى» بضم التاء وفتح الواو مبنياً للمفعول مِنْ «أهوى» المنقول مِنْ «هَوِيَ» اللازمِ، أي: يُسْرَع بها إلى إليهم. اهـ (الدر المصون).

(46)

أبصارُهُمْ مُهْطعِينَ أي مُسْرعين. قال الشاعر: بدجلة أهلها ولقد أرأهُمْ. . . بدجلة مهطعين إلى السماع أي مسرعين. و (مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ) رافعيها ملتصقة بأعناقِهِمْ، والمقنع الرافع. والمقْنَع المرتفع قال الشاعر:. يُبادِرْنَ العِضاهَ بمُقْنعاتٍ. . . نواجذُهُنَّ كالحِدَإِ الوَقيعِ يصف إبلأ ترعى الشجر وأن أسنانها مرتفعة كالفؤوس. وقوله: (وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ). أي منحرفة لا تَعي شيئاً من الخوف، وقيل نزعت أفئدتهم من أجوافهم قال الشاعر: كأَنّ الرَّحل مِنها فَوْق صَعْلٍ. . . من الظِّلْمانِ جُؤْجُؤه هَواه. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46) القراءة بكسر اللام الأولى، من " لِتَزُولَ " وفتح اللام الأخيرة، هي قراءة حسنة جيدة (1)، والمعنى وما كان مكرهم لتزول منه الجبال، أي ما كان

_ (1) قال السَّمين: قوله «لِتَزُولَ» قرأ العامَّةُ بكسر اللام، والكسائيُّ بفتحِها فأمَّا القراءةُ الأولى ففيها ثلاثة أوجه، أحدُها: أنها نافيةٌ واللامُ لامُ الجحودِ؛ لأنها بعد كونٍ منفيّ، وفي «كان» حينئذٍ قولان، أحدُهما: أنها تامَّةٌ، والمعنى: تحقيرُ مَكْرِهم، أنه ما كان لتزولَ منه الشرائع التي كالجبالِ في ثبوتِها وقوتِها. ويؤيد كونَها نافيةً قراءةُ عبد الله: «وما كان مَكْرُهم». القول الثاني: أنها ناقصةٌ، وفي خبرِها القولان المشهوران بين البصريين والكوفيين: هل هو محذوفٌ واللامُ متعلقةٌ به، وإليه ذهب البصريون، أو هذه اللام وما جَرَّتْه، كما هو مذهبُ الكوفيين، وقد تقرَّر هذا في آخر آل عمران. الوجه الثاني: أن تكونَ المخففةَ من الثقيلة. قال الزمخشري: «وإنْ عَظُمَ مكرُهم وتبالغَ في الشدَّةِ، فضرب زوالَ الجبالِ منه مثلاً لشدَّته، أي: وإنْ كان مَكْرُهم مُعَدَّاً لذلك». وقال ابن عطية: «ويحتمل عندي أن يكون معنى هذه القراءةِ: تَعظيمَ مَكْرِهم، أي: وإن كان شديداً، إنما يفعل لتذهب به عظامُ الأمور» فمفهومُ هذين الكلامين أنها مخففةٌ لأنه إثباتٌ. والثالث: أنها شرطيةٌ، وجوابُها محذوف، أي: وإنْ كان مكرُهم مُعَدَّاً لإِزالةِ أشباهِ الجبال الرواسي، وهي المعجزات والآيات، فالله مجازِيْهم بمكرٍ هو أعظمُ منه. وقد رُجَّح الوجهان الأخيران على الأول وهو أنها نافيةٌ؛ لأن فيه معارضةً لقراءة الكسائي، وذلك أن قراءَته تُؤْذِنُ بالإِثباتِ، وقراءةَ غيره تُؤْذن بالنفي. وقد أجاب بعضُهم عن ذلك بأنَّ الحالَ في قراءة الكسائي مُشارٌ بها إلى أمورٍ عظام غيرِ الإِسلامِ ومُعجزاتِه كمكرهم صلاحيةَ إزالتها، وفي قراءةِ الجماعةِ مُشارُ بها إلى ما جاء به النبيُّ صلى الله عليه وسلم من الدين الحق، فلا تَعارُضَ، إذ لم يتواردا على معنى واحدٍ نفياً وإثباتاً. وأمَّا قراءةُ الكسائي ففي «إنْ» وجهان: مذهبُ البصريين، أنها المخففةُ واللام فارقة، ومذهبُ الكوفيين: أنها نافيةٌ واللامُ بمعنى «إلا»، وقد تقدَّم تحقيقُ المذهبين. وقرأ عمرُ وعليٌّ وعبد الله وزيد بن علي وأبو سلمة وجماعة «وإن كاد مكرهم لَتزول» كقراءةِ الكسائي إلا أنهم جعلوا مكان نون «كان» دالاًّ فعلَ مقاربة، وتخريجها كما تقدَّم، ولكن الزوالَ غيرُ واقعٍ. وقُرِء «لَتَزُوْل» بفتح اللامين. وتخريجهما على إشكالها أنها جاءَتْ على لغةِ مَنْ يفتح لام «كي». اهـ (الدر المصون).

مكرهمِ ليزول به أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمر دين الإسلام وثبوته كثبوت الجبال الراسية، لأن اللَه عزَّ وجلَّ وَعَدَ نبيَّه عليه السلام إظْهَارَ دِينِه عْلى كل الأديان فقال: (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) ودليل هذا قوله: (فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47) أي لا يخلفهم ما وعدهم من نصرهم وإظهار نبوتهم وكلمتهم، ويقرأ (وَإنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبَالُ) على الرفع وفتح اللام الأولى. ومعناه معنىً حَسَن " صحيح. والمعنى: وعند الله مكرُهم وإن كان مكرُهم يبلغ في الكيد إلى إزالة الجبال، فإنَ الله ينصُرُ دينه، ومَكْرهم عنده لا يخفى عليه. فإِنْ قَالَ قَائِل: فهل زالت الجبال لمكرهم؛ فقد روي في بعض التفسير قصةُ التابوت والنُّسُورِ، وأن الجبال ظنت أن ذلك أمر من أمر اللَّه عظيم فزالت، وقيل هذا في قصة النمرود ابن كنعان؛ ولا أرى لنمرودَ ههنا ذكراً، ولكنه إذا صحت الأحاديث به فمعناه أن مَكْرَ هؤلاء لو بلغ مكر ذاك لم ينتفعوا به، وأمَّا مَا تُوحِيه اللغَة وخطابُ العَرَبِ فأن يكون المعنى وإن لم يكن جبل قط، زال لمكرِ المبالغة في وصَف الشيء أن يقال: لو بلغ ما لا يُظَن أنه يبلُغُ ما انتفع به. قال الأعشى:

(47)

لئن كنتَ في جُبٍّ ثمانينَ قامةً. . . ورُقِّيتَ أَسبابَ السماءِ بسُلَّمِ لَيَسْتَدْرِجَنْكَ الأَمرُ حتى تَهُرَّه. . . وتَعْلَمَ أَني لستُ عنكَ بمُحْرِمِ فإنما بالغ في الوصف وهو يعلم أنه لا يُرَقَّى أسباب السماء، ولا يَكُونُ في جُبٍّ ثمانينَ قامةً فيستَدْرِجَهُ القَوْلُ. فالمعنى على هذا: لو أزال مكرهم الجبَالَ لما زال أمْرُ الإسلام وما أتى به النبي - صلى الله عليه وسلم -. * * * (فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47) وقُرئت مخلص وَعْدَه رُسُلِهُ، وهذه القراءة التي بَنَصْب الوَعْدِ وخَفْض الرسُل شاذَّة رديئة، لا يجوز أن يفرق بين المضَافَ والمضاف إليه. وأنشدوا في مثل هذا.

(48)

فزجَّجتها بمزجَّةٍ. . . زَجَّ القَلُوصَ أبي مَزَاده المعنى فزجْجتها بمزجَّةٍ زَجَّ أبي مزادة القَلُوص. والقراءة: (مُخْلِفَ وَعْدِه رُسُلَه)، كما تقول: هذا مُعْطِي دِرْهَمٍ زيداً (1) * * * (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48) إنْ شئت نَصَبْتَ اليوم عَلَى النَعْت لقوله: يَوْمَ يَقومُ الحسَابُ يَوْمَ تبدل الأرْضُ. وإن شئت أن يكون منصوباً بقوله ذُو انْتِقَام، المعنى أن الله عزَّ وجل ذو انتقام أي بَيَنهُمْ يوم تبدل الأرض غير الأرض، والأرض مرفوعة على اسم ما لم يسمَّ فاعله، وغَير منصوبة على مفعول ها لم يسم فاعله، تقول: بُدِّلَ الخاتَمُ خاتَماً آخَر إذا كسر وَصِيغَ صيغة أخرى، وقد تقول بُدِّلَ زَيْدٌ إذا تغيرت حاله، فمعنى تبدل الأرض غير الأرض تسيير جبالها وتفجير بحارها وكونها مستوية لا يرى فيها عِوَجٌ وَلاَ أمْت، فهذا - والله أعلم - تبديلها. (والسَّمَاوَاتُ). " أي وتبدل السَّمَاوَاتُ غير السَّمَاوَات، وتبديل السَّمَاوَات انتثار كواكبها وانفطارها وانشقاقها وتكوير شمسها وخسوف قمرها. (وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ). أي خرجوا من قبًورهم بَارزينَ. * * * (وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49)

_ (1) قال السَّمين: قوله تعالى: {مُخْلِفَ وَعْدِهِ}: العامَّةُ على إضافة «مُخْلِف» إلى «وعدِه» وفيها وجهان، أظهرهما: أن «مُخْلف» يَتَعَدَّى لاثنين كفعلِه، فقدَّم المفعولَ الثاني، وأُضيف إليه اسمُ الفاعل تخفيفاً نحو: «هذا كاسِيْ جُبَّةٍ زيداً» قال الفراء وقطرب: «لمَّا تعدَّى/ إليهما جميعاً لم يُبَالَ بالتقديمِ والتأخير». وقال الزمخشري: «فإن قلت: هلا قيل: مُخْلِفَ رسلِه وعدَه، ولِمَ قَدَّم المفعولَ الثاني على الأول؟ قلت: قَدَّمَ الوعدَ ليُعْلِمَ أنه لا يُخْلِفُ الوعدَ ثم قال» رسله «ليُؤْذِنَ أنه إذا لم يُخْلِفْ وعدَه أحداً - وليس من شأنِه إخلافُ المواعيد - كيف يُخْلِفُه رُسلَهُ». وقال أبو البقاء: «هو قريب من قولهم: 2912 - يا سارقَ الليلةِ أهلَ الدارِ. . . وأنشد بعضُهم نظيرَ الآيةِ الكريمة قولَ الشاعر: 2913 - ترى الثورَ فيها مُدخِلَ الظلِ رأسَهُ. . . وسائرُه بادٍ إلى الشمسِ أجمعُ والحُسبان هنا: الأمر المنتفي، كقوله: 2914 - فلا تَحسَبَنْ أني أَضِلُّ مَنِيَّتي. . . فكلُّ امرِئٍ كأسَ الحِمام يذوقُ الثاني: أنه متعدٍّ لواحدٍ، وهو» وعدِه «، وأمَّا» رُسُلَه «فمنصوبٌ بالمصدر، فإنه يَنْحَلُّ لحرفٍ مصدريٍّ وفعلٍ تقديرُه: مُخْلِفُ ما وعدَ رُسَلَه، ف» ما «مصدريةٌ لا بمعنى الذي. وقرأت جماعةٌ {مُخْلِفَ وَعْدَ رُسَلَهُ} بنصبِ» وعدَه «وجرِّ» رسلِه «فَصْلاً بالمفعولِ بين المتضايفين، وهي كقراءةِ ابن عامرٍ {قَتْلُ أَوْلاَدَهمْ شُرَكَآئِهِمْ} قال الزمخشري جرأةً منه:» وهذه في الضَّعْفِ كمَنْ قرأ {قَتْلُ أَوْلاَدَهمْ شُرَكَآئِهِمْ}. اهـ (الدر المصون).

(50)

والأصفاد الأغلال، واحدها صَفَدٌ، يفال صَفَدتُه بالحديد، وَأصْفَدته. وصفدت في الحديد أكثر، وأصفدته إذَا أعطيته، وصفدته إذا أعطيته أيضاً إلا أن الاختيار في العطية أصفدته وفي الحديد صفدته. قال الشاعر: وإن جئْتُه يوماً فقرَّب مَجْلِسِي. . . وأصْفدني على الزَّمانَةِ قائدا معناه أعطاني قائداً. * * * سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) السربال كل ما لبس. وجعلت سرابيلهم من قطران - واللَّه أعلم - لأن القطران يبالغ في اشتعال النار في الجلود، ولو أراد الله المبالغة في إحراقهم بغير نار وغير قطران لقدر على ذلك، لكن عذب بما يعقل العباد العذاب من جهته وحذرهم ما يعرفون حقيقته، وقرئت (مِنْ قِطْرٍ آنٍ)، قرأ بها جماعة. والقِطْر النحاس، وآنٍ قد انتهى حَرُّه.

سورة الحجر

سورة الحجر بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله: (رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2) قرئت (رُبَّمَا) يود بتشديد الباء وتخفيفها، والعرب تقول: رُبَّ رجلٍ جاءني، ويخففون فيقولون رُبَ رَجُل، قال الحادرة فَسُمَيَّ ما يدريك أن رُبَ فِتْيَةٍ. . . باكرتُ لَذَّتَهُمْ بِأدْكَنَ مُتْرعِ يريد سُمَيَّة، فَرَخَّمَ.

ويسكنون في التخفيف فيقولون: رُبْ رَجُلٍ قد جاءني. وأنشدوا بيت الهذلي: أَزُهَيرُ إِنْ يَشِبِ القَذالُ فإِنَّني. . . رُبْ هَيْضَلٍ لَجِبٍ لفَفْت بِهَيْضَلِ ويقولون ربَتَّا رجل، وربَّتْ رَجل، ويقولون رَبَّ رَجْل، فيفتحون الراء ورُبَمَا رَجل جاءني - بفتح الراء، وَرَبَّتَمَا رجل فيفتحون. حكى ذلك قطرب. فأما تفسير الآية ففيه غير قول، قيل إنه إذا كان يوم القيامة وعاين الكافِرُ القيامة وَدَّ لو كان مسلماً، وقيل إنه إذا عاين الموت وَدَّ لَوْ أنه مسْلِم. وقيل إذا كان يوم القيامة أخرج المسلمون من النار فوَدَّ الذين كفروا لو كانوا مسلمين. وقيل يعَيِّر أهْل النار الكفَرَة المُسْلِمينَ قائلين: ما نفعكم إيمَانُكُمْ، فيغضب اللَّهُ عزَّ وجلَّ لذلك، فيخرجهم من النَّارِ فيود الذين كفروا لو كانوا مسلمين. والذي أراه - واللَّه أعلم - أن الكافر كلما رأى حالاً من أحوال العذاب ورأى حالًا عليها أحوال المسْلِم وَدَّ لوكان مُسْلِماً. فهذه الأحوال كلها تحتملها الآية. فإن قال قائل: فلم كانت، (رُبَّ) ههنا، ورُبَّ للتقليل؟ فالجواب في هذا أن العرب خوطبت بما تعقله في التهدُّدِ، والرجل يتهدَّدُ الرجلَ فيقول له: لَعلك سَتَنْدَمُ على فعلك، وهو لَا يَشك في أنه يَنْدَم، وتقول له: ربما نَدِم الِإنْسَانُ من مثل ما صنعتَ، وهو يعلم أن الِإنسان يندم كثيراً، ولكن مجازه أن

(3)

هذا أو كان مما يُوَدُّ في حَالٍ وَاحِدَةٍ من أحوال العذاب، أو كان الِإنسانَ يخافُ أنْ يندمَ على الشيء لوجَبَ عَليه اجْتِنَابُه. والدليل على أنه عَلَى مَعْنَى التهدُّدِ. * * * قوله عزَّ وجلَّ: (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) وجائز أن يكون - واللَّه أعلم - أن أهوال يوم القيامة تسكرهم وتَشْغَلُهم عن التَمني، فإذا أفاقوا مِنْ سَكْرةٍ من سَكَرات العَذَابِ ودوا لو كانوا مسلمين. فأمَّا من قال إن رُبَّ يُعْنِيَ بها الكثير فهذا ضِدُّ مَا يَعْرفُه أهلُ اللغةِ، لأن الحروف التي جاءت لمعنىً تكون على ما وضعت العَربُ. فربَّ موضوعة للتقليل، وكم موضوعة للتكثير، وإنما خوطبوا بما يعقلون ويستفيدون. وإنما زيدت ما مع رُبَّ ليليها الفعُلُ، تقول رُبَّ رَجُلٍ جَاءَنِي وربما جاءني رَجُل. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4) أي إلا ولها أجل لا تتقدمه ولا تتأخُرَ عَنه. * * * وقوله عزَّ وجلَّ - (لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) معناه هَلَّا تأتينا بالملائكة، روى ذلك. قالوا للنبي عليه السلام: (لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ). * * * فقال: (مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8) أي إِنما تنزل بآجال أو بوحي من اللَّه. (وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ). أي لو نزلت الملائكة لم ينظروا، وانقطعت التوبات، كما قال:

(9)

(وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الأمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ). وتقرأ (ما تَنَزلُ الملائِكَةُ إلا بِالحقِّ)، وما تُنَزِّلُ الملائِكةَ، وما تُنَزَّلُ الملائكةُ، وَمَا تَنْزِلُ الملائِكَةُ. * * * وقوله: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) أي نَحْفَظُهُ من أن يقع فيه زيادة أو نقصان، كما قال: (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)). * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) أي في فرق الأولين * * * (وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (11) فأَعلم اللَّه عزَّ وجلَّ أن سفهاء كل أُمَّةٍ يستهزئون برُسُلها. * * * (كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) وتقرأ نُسْلِكه، أي كذلك نسلك الضلال في قلوب المجرمين، أي كما فُعِلَ بالمجرمين الذين استهزأوا بمن تقدَّم مِنَ الرُّسُلِ كذلك نسلك الِإضلال في قلوب المجرمين. ثم بين ذلك فقال: (لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) أي وقد مضَت سنة الأولين بمثل ما فعله هؤلاء، فهم يقتفون آثارهم في الكفر، ثم أعلمم تعالى أنهم إذا وردت عليهم الآية المعجزة قالوا سِحْرٌ وقالوا: (سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا) كماقالوا حين انشق القمر: (هذا سِحْرٌ مُسْتَمر)، فقال عزَّ وجلَّ: (وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) ويقرأ يَعْرِجُونَ، أي يصعدون ويذهبون - ويَجِيئُونَ ويصلح أن يكون

(15)

(يَعْرُجُونَ) للملائكة والناس، وقد جاء بهما التفسير. ْ (لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15) وسُكِرَت، ويجوز سَكَرت بفتح السين، ولا تَقْرأنَّ بها إلا أن ثبتت بها رواية صحيحة. وفسروا سُكَرَتْ أُغْشيَتْ، وسَكِرتْ تَحَيَّرَتْ وسكنت عن أن تَنظُر. والعرب تقول: سَكِرتِ الريح تسكرُ إذا سَكنت وكذلك سكر الحر يسْكَرُ، قال الشاعر: جاء الشِّتاءُ واجْثَأَلَّ القُبَّرُ. . . وجَعَلَتْ عينُ الحَرُورِ تَسْكُرُ * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16) جاء في التفسير نجوماً وكواكب، وقيل منازل الشمس والقمر. وهذه البُروجُ التي يُسمِّيهَا الحُسَّابُ: الجَمَل، والثوْر، وما أشبهَهَا، هي كواكب أيضاً، صُوَرُها على صُورِ أسْماء أصحابها. فالبروج نجوم كما جَاءَ في التفسير. (وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17)

(18)

معنى رَجِيم قيل مَلعُون، وجائز أن يكون رَجم مرجوماً بالكواكب، كما قال عزَّ وجلَّ: (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ). * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18) مَوْضِع " مَنْ " نَصْبْ، بمعنى لكن من استرق السمع، وجائز أن يكون في موضع خفض، على معنى (إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ). والشُهُبُ الكواكب المنقضةُ من آيات اللَّه للنبي عليه السلام، والدلِيلُ على أنها كانت انْقَضَّتْ بعد مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن شعراء العرب الذين كانوا يمثلون في السرعة بالبرق وبالسيل وبالأشياء المسرعة لم يوجد في أشعارها بيتٌ واحدٌ فيه ذكر الكواكب المنْقَضَّة، فلما حدثت بعد مولد النبي عليه السلام استعملت الشعراء ذكرها قال ذو الرمة. كأَنّه كَوْكَبٌ في إِثْرِ عِفْرِية. . . مُسَوّمٌ في سوادِ الليل مُنْقَضِب * * * (وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) كانت الأرض طينة فمدت، وقيل مُدَّتْ من تَحْتِ البيتِ الحرام والرواسِي الجبال الثوابت. ومعنى (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) أي من كل شيء مقدور جرى على وزنٍ مِنْ قَدَرِ اللَّه عزَّ وجلَّ لا يُجَاوِزُ ما قَدره الله عليه، لا يستطيع خلقَ زيادة فيه ولا نقصاناً. وقيل (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ)، أي من كل شيءٍ يُوزَن نحو الحديد والرصاص والنحاس والزرنيخ.

(20)

(وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20) موضع " منْ " نصبٌ من جهتين إحداهما العطف على معايش، المعنى وجعلناكم من لستم له برازقين، وجائزٌ أن يكون عطفاً على تأويل لكم. المعنى (في جعلنا لكم فيها معايش) أعشناكم ومن لستم له برازقين. وفي التفسير أن من لستم له برازقين الدوابُّ والأنْعَام. وقيل في بعض التفسير الوُحُوش. والنحويون يذهبون إلى أن " مَنْ " لَا يكادُ أن يكونَ لِغَيْرِ مَا يعْقل، وقد قال عزَّ وجلَّ: (فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ)، فجاءت " من " لغير الناس إذ وُصِفَ غيْرُ الناس بصفاتهم، كما جاءت الواو لغير الناس في قوله (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ). والأجود واللَّه أعلم أن يكون " مَنْ " ههنا أعني (وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ) يراد بها العبيد والأنعام والدواب فيكون المعنى جعلناكم فيها معايش وجعلنا لكم العبيد والدواب والأنعام وكفِيتُمْ مؤونة أرزاقها. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22) (لَوَاقِحَ) تأتي بالسحاب، ولواقح تُلْقح السحاب وتُلْقِحَ الشَجر، وجاز أن يقال للريح لقحَت إذا أتت بالخير، كما قيل لها عقيم إذا لم تأت بخير، وأتت بعذاب، كما - قال عزَّ وجلَّ: (وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41). ويجوز أن يقال لها لواقح وإن لقحت غيرها لأن معناها النسب. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24)

(25)

قيل فيها غير قول، قيل المستقدمين ممن خلق والمستأخرين ممن يحدُث من الخلق إلى يوم القيامة ثم قال: (وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25) أي الذي أنشأهم وعَلَّمَهُمْ هو يحشرهم مبعوثين كما بدأهم أول خلق: (إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ). أي تدبيره يجري بحكمة وعلم، وقيل: ولقد علمنا المستقدمين منكم في طاعة الله والمستأخرين فيها، وقيل إنه كانت امرأةٌ حسناءُ تصلي خلفَ رَسولِ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فيمن يُصَلِّي من النسَاءِ، وكان بعض من يصلي، يتأخر في آخر الصفوف، فإذا سَجَدَ اطلع إليها من تحت إبطه، والذين لا يقصدون هذا المقصِدَ إِنَّمَا يَطلُبُونَ التقدم في الصفوف لما فيه من الفضل. * * * (قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) فمن قرأ (صراط عَلِيٌّ مستقيمٌ)، فالمعنى هذا صراط مستقيمٌ عَلى أي على إرَادَتِي وأمري، ومن قرأ " عَلِيٌّ " أرَادَ: طريق رفيعٌ في الدِّين والحق. وقوله: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) الصَّلَصَال الطين اليابس الذي يَصِل ليبسه، ومعنى يَصِل يُصَوِّتُ قال الشاعر: رَجَعْتُ إِلى صَدْرٍ كجَرَّةِ حَنْتَمٍ إِذا قُرِعَتْ صِفْراً من الماء صَلَّتِ

(27)

و (مَسْنُونٍ). قيل فيه مُتَغَيَر. وإنما أخذ من أنه. على سُنَّةِ الطريق لأنه إنما تغيُرَ إذا قام بغير ماء جارٍ. * * * (وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27) (الْجَانَّ) منصوب بفعل مُضَمَر، المعنى وخلقنا الجانَّ خلقناه، وخلق اللَّه الملائكة من نور العزَّةِ، وخلق آدم من تراب وخَلَق الجَانَّ مِنْ نَارِ السَّمُومِ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) قال سيبويه والخليل: (أَجْمَعُونَ) توكيد بعدَ تَوْكيدٍ، وقال محمدُ بن يزيد: (أجمعون) يَدُل على اجتماعهم في السجود، المعنى فسجدوا كلُهم في حالٍ واحدة. وقول سيبويه والخليل أجود، لأن أجمعين معرفة، فلا يكون حالًا. * * * (إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) (إِبْلِيسَ) مستثنى ولَيْسَ مِنَ الملائكة إنما هو من الجن كما قال عزَّ وجلَّ: (إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ). وهو منصوب استثناء ليس من الأول، كما قال: (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77). المعنى لكن إبليس أبى أنْ يكونَ. * * * وقوله عزَّ وجل: (قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) موضع أن نصب بإسْقَاطِ في، وإفضاء الناصِبِ إلى أن المعنى أيُّ شيءٍ يقع لك في أن لا تكون مع السَّاجِدينَ. * * * وقوله: (قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34)

(44)

معناه مَرْجُوم مَلْعُون. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44) لجهنم سَبْعَةُ منازلَ لكل مَنْزِلَةٍ صِنفْ ممًن يُعذَبُ على قدر منزلته في الذَنْبِ * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47) الغِل الحِقدُ، وُيرْوَى أنَّه يخلص المؤمنونَ من النار فيحبسون على قنطرةٍ بين الجنة والنَّارِ، فيقتص لبَعْضِهم من بَعْض، ثم يؤمر بهم إلى الجنة وقد نُقُوا وهذبُوا فخلصت نياتهم من الأحقاد. (إِخْوَانًا). منصوب على الحال. (عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ). في التفسير لا ينظر بعضهم في قَفَا بعض. * * * (لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48) أي لا ينالهم تعب * * * (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50) يروى في التفسير أن العبد لو علم قدرَ عَفو اللَّه - لما أمْسَكَ عن ذنبٍ. ولو علم مقدار عقوبة لبَخَعَ نفسه في العبادة، ولما قَدِمَ عَلَى ذَنْبٍ. * * * (إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) (فَقَالُوا سَلَامًا) قَالَ سَلَامْ. (سَلَامًا) منصوب على المصدركأنهم قَالوا سَلَّمنَا سَلَامًا. وقوله: (قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ). أي خائفون، فإنما وجِلَ لما قدَّم إليهم العجلَ فرآهم لا يَاكُلُونَ منه وَجِلَ.

(53)

(قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53) يقال وَجلَ يَوْجَل، وياجَلُ يِيْجَلُ وَيجَلُ، إذا خاف. * * * (قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) (فَبِمَ تُبَشِّرُونَ). بفتح النون وهو أجود في القراءة، وقرئت: فَبِمَ تُبَشِّرُونِ - بكسر النون - فرأ بها نافع، والأصل (فبم تبشرونَنِ فاستثْقِلَ النونانِ، فحذفت إحداهما وقيل الحذف من الإدغام، كأنَّها فبم تُبَشَرنَ، بتشديد النون، فحذفت إحدى النونين لثقل التضعيف، كما قالوا رُبَما، ورُبَّمَا. قال الشاعر في حذف النون: رأته كالنعام يُعَلُّ مِسْكاً. . . يسوءُ الغاليات إِذا فَلَينِي يريد فلينني. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56) يقال قَنَط يقنِطُ، وقَنِطَ يقنَط، وهما جميعاً جائزتان، والقنوط بمعنى اليأس. * * * (قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) أي فما أمركم. * * * وقوله: (إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) استثناء ليس من الأول، المعنى: (قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59). المعنى إنا أرْسِلْنَا بالعذاب إلى قوم لوط. * * * وقوله: (إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60) المعنى علمنا أنَّها لمن الغابرين، وقيل دبرنا إنها لمن الغابرين، وقدرنا ههنا لا يحتاج إلى تفسير، المعنى إلا امرأته قدرنا أنها لمن الباقين في

(63)

العذاب، والغابر الباقي، قال الشاعر: فما وَنَى محمدٌ مُذْ أَنْ غَفَرْ. . . له الإِلهُ ما مَضَى وما غَبَرْ المعنى وما بقي * * * وقوله: (قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) أي جئناك بالعذاب الذي كانوا يَشْكونَ في نزوله. * * * وقوله: (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وتقول: فَأسْرٍ بأهْلِكَ - بقطع الألِفِ ووصلِها. وسَيْرُ الليل يقال فيه أسْرى وسَرَى ومعنى بِقطْع مِنَ اللَّيْلِ، أي بعدما يمضي شيء صَالح من اللًيْلِ (وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ) أمِرَ - صلى الله عليه وسلم - بترك الالتفات لئلا يرى عظيم ما ينزل بهم من العذاب - واللَّهُ أعلم -. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) موضعُ (أن) نَصْبٌ. وهو بدل من قوله: (وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ) ثم فسرَ ما الأمْر، فالمعنى وقضينا إليه (أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ). (مُصْبحينِ) منصوب على الحال. * * * وقوله: (إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68) الضيف يوحَّدُ وإنْ وُصِفَتْ به الجماعة، تقول: هذا ضيف، وهَذَان ضيف وهُؤلَاءِ ضيف. كما تقول: هؤلاء عَدْل، وإنْ شِئْتَ قلت أضياف. وضِيفَان. فمَنْ وحَّد فلأنه مصدر وصف به الاسم، فلذلك وَحِّدَ، وإنما وُحِّدَ المصدَرُ في قولك: ضربتُ القوْمَ ضَرْباً، لأن الضرب صنف وَاحِد. وإذا كانَ

(70)

أصنافاً وجَمعْتَ، فقلت ضربتهم ضربَنْ، وضربتهم ضروباً، أي أجناساً من الضرب، والضيفُ مصدر ضِفْتُ الرجُلَ أضِيفُه ضَيْفاً. فأنا ضائف، والرجُلُ مَضِيف إذَا كانَ مفعُولًا، وأضَفْتُه إذا أنزلتُه. * * * (قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70) معناه: ألم ننهك عن ضيافة العالمين. * * * (قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71) فالجواب محمول على المعنى، لأنَّهم أرَادُوا الضيفَانَ للفَسَادِ، فقال لهم لوط: هؤلاء بناتي لأن نساء أمة كل نَبِيٍّ بمنزلة بَنَاتِه وأزْواجُه بمنزلة أمَّهاتِهِمْ، المعنى النساء على جهة التزويج أطْهَرَ لَكُمْ. ومعنى (إنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ). أي إن كنتم مُريدين لهذا الشأنِ فعليكم بالتزويج ببناتي. * * * (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) هذه الآية آية عظيمة في تفضيل النبي عليه السلام أعني قوله سبحانه (لَعَمْرُكَ)، جاء في التفسير أنه قسم بحياة محمد - صلى الله عليه وسلم - كذلك أكثر التفسير، وقد جاء في بعض التفسير: (لَعَمْرُكَ) كلِمَة من كلام العَرَبِ، ولسْت أحِبُّ هذا التفسير، لأن قوله: كلمة من كلام العرب لا فائدة فيه، لأن القرآن كله عربي مبين، وَكَلِمُهُ من كَلَامِ العَرَب، فلا بد من أن يقال ما مَعْنَاهَا. وقال سيبويه والخليلُ وجَميعُ أهْل اللغَةِ: العَمْرُ والعُمْرُ بمعنًى واحدٍ. فإذا استعمل في القَسِمَ فتح أوله لا غير، لا تقول العربُ إلا لعَمْرُكَ، وإنما آثروا الفتح في القَسِم لأن الفتح أخف عَليْهِمْ وهم يكثرون القَسَمَ بِلَعَمْرِي. ولعَمْرُكَ، فلما كثر استعمالهم إياهُ لزموا الأخَفَّ عليْهِمْ.

(73)

وقال النحويون ارتفع لعمرك بالابتداء والخَبَر محذوف، المعنى لعَمْركَ قَسَمِي، ولعَمْرُكَ ما أقسِمَ به. وحذف الخبَرِ لِأنَّ في الكلام دليلًا عليه. المعنى أقسم إنهم لفي سكرتهم يعمَهُونَ، ومعنى يعمهون يتحيَّرون. وباب القسم قد يحذْف معه الفعل، تقول: واللَّه لأفعَلَنَّ وتاللَّه لأفعَلَنَّ، والمعنى أحلف باللَّه، وأحلف واللَّه، فيحذف أحلف لعلم المخاطب بأنك حالف، وكذلك يحذف خبر الابتداء كما ذكرنا. * * * وقوله: (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) أي أخذت قومَ لوط الصيحة بالعذاب مشرقين، يقال أشرقنا فنحن مشرقون، إذا صادفوا شُروقَ الشمس، وهو طلوعها، كما تقول أصبحنا إذا صادفوا الصبح. يقال شَرَقَتِ الشمس إذا طلعت وأشرقت بمعنى واحدٍ، إلا أن معنى " مُشْرِقِينَ " في معنى مصادفين لطلوع الشمس. * * * وقوله: (فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) معنى (مِنْ سِجِّيلٍ) من طين عليه كتاب. واشتقاق ذلك من السجل. ودليل هذا التفسير قوله: (حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ). فأعلم أنها مِن طين وأنها مسومة أيْ مُعلَّمَةٌ لعلامات الكتاب. * * * (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) قيل المتوَسِّمونَ المتفَرسُونَ، وقيل المتفكرون. وحقيقته في اللغة المتوسمون النظَّارُ المتثَبِّتون في نظرهم حتى يعرفوا حقيقة سمة الشيء تقول توَسَّمْت في فلان كذا وكذا، أي عرفت وسم ذلك فيه.

(76)

(وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) أي لبطريق واضح بَيِّن. * * * (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77) أي لعلامة بَيِّنَة للمصدقين. * * * (وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78) أي أصحاب الشجر، والأيك الشجر وهؤلا أهل موضع كان ذا شجر. فانتقم اللَّه منهم بكفرهم، قيل إنهُ أخذهم الحر أياماً ثم اضطرم عليهم المكان ناراً فهلكوا عن آخرهم. ومعنى " إِنْ واللام " التوكيد. * * * (فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (79) أي لبطريق يؤتمُّ أي يُقْصَدُ فيبيَّنَ، وأصحاب الحجر أصحاب واد يقال له الحِجْرُ. * * * وقوله: (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) قيل: السبعِ من المثاني هي فاتحة الكتاب، وهي سبع آيات، وإنما قيل لها المثاني لأنها يُثَنَّى بِها في كل ركعة من ركعات الصلاة، ويثنى بها مع مَا يُقْرأ من القرآن. ويجوز - واللَّه - أعلم - أن يكون من المثاني أي مما أثْنِيَ به على اللَّه، لأن فيها حَمْدَ اللَّه، وتَوْحِيدَه وذكر مَلَائكته وملكه يوم الدِّينِ. وروي في التفسير أنه مَا أعْطِيَتْ أمَّة كما أعْطِيَتْ أمَّةُ محمد - صلى الله عليه وسلم - من سورة الحمد. فأما دُخُول " مِنْ " فهي ههنا تكون على ضربين، تكون للتبعيض من القرآن، أي ولقد آتيناك سبع آياتٍ من جملة الآيات التي يُثْنَى بها على اللَّه - عزَّ وجلَّ - وآتيناك القرآن العظيم، ويجوز ُ أن يكون السبع هي المثاني، وتكون " من " الصفة كما قال عزَّ وجلَّ: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ). المعنى اجتنبوا الأوْثَانَ، لا أنَّ بعضَها رِجْسٌ.

(88)

ويجوز أن يكون المعنى سبعاَ مثانيَ على هذا القياس، ويدل على القول الأول قوله عزَّ وجلَّ: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ). . وقيل سبعاً من المثاني: السبع الطوال، من البقرة إلى الأعراف سِتٌّ، واختلفوا في السابعة، فقال بعضهم: سورة يونُس، وقيل الأنفال وبراءة، وإنَّما سميت مثاني لذكر الأقاصيص فيها مثناةً. ويجوز (والقُرْآنِ العظيمِ) بالخفض، ولكن لا تقرأنَّ بِهِ إلا أَنْ تثبُتَ به رواية صَحيحةٌ. * * * (لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) (أَزْوَاجًا مِنْهُمْ) أي أمثالاً في النِّعَم. (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ). أي ألِنْ جانبك للمؤمنين، أي لمن آمنَ بِكَ وَبمَا أتَيْت بِهِ. * * * (كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) يُروَى أنَّ المشركينَ قالوا أساطير الأولين، وقالوا سحرٌ، وقالوا شاعِرٌ. وقالوا كاهِنٌ. فقسَّمُوه هذه الأقسام، وَعَضَوْهُ أعضاء. ويروى أن أهل الكتاب همُ المقتسمُونَ، آمنوا ببعضه وكفروا ببعضه. وقالوا نحواً مما روي عن المشركين. * * * (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) قيل في التفسير اجهرْ بالقرآن، ويكون - واللَّه أعلم - فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ. أي أبِنْ ما تؤمر به، وأظهره، وأُخِذَ ذلك منَ الصَّدِيع وهو الصبح. قال الشاعر: كأنَّ بياضَ غُرَّته الصديعُ

(95)

وتأويل الصَّدْع في الزُّجاج، أو في الحائط، أن يبين بعضُ الشيء عن بَعْض. * * * (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) قيل هؤلاء جماعة من المشركين، خمسَةُ نفَرٍ كانوا يستهزئون برسول اللَّه يكيَن فنزلت بهم آفاتٌ مات أكثرهم منها، وَعَمِيَ واحِدٌ مِنْهُمْ. والخمسة سُمُّوا في التفسير منهم الوليدُ بن المغيرة، والعاص بن وائل، وعدي بن قيس، والأسود بن المطلِب، والأسود بن عبد يَغُوثَ. أعلم اللَّه أنهم من المشركين بقوله: (الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ). * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99) أي: حَتَّى يأتيك الموت، كما قال عيسى ابن مريم: (وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا). فإن قال قائل كيف تكون عبادة لغيْرِ الحي، أي كيف يَعْبُدُ الإنسانُ وَهُوَ مَيِّتٌ؟ فَإنَّ مجاز هذا الكلام مجاز " أبَداً "، المعنى اعبد ربك أبَداً، واعبده إلى الممات، لأنه لو قيل: اعْبُدْ ربك - بغير التوقيت - لجاز إذَا عبدَ الإنسانُ مَرةً أن يكون مُطِيعاً، فإذا قال حتى يأتيك اليقين، أي أبَداً وما دمت حَيًّا، فقد أُمِرْتَ بالِإقامة على العبادة.

سورة النحل

سورة النَّحل (مَكِّيَّة) ما سوى ثلاث آيات من آخرها فإنهنَّ نزلنَ بين مكة والمدينة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) (أَمْرُ اللَّهِ) ما وَعَدهم الله به من المجازاة على كفرهم من أصناف العذاب، والدليل على ذلك قوله: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ) أي جاء ما وعدناهم به، وكذلك قوله: (أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا) وذلك أنهم استعجلوا العذاب واستبطأوا أَمْرَ الساعة، فأعلم اللَّهُ - عزَّ وجلَّ - أن ذلك في قُرْبهِ بمنزلة ما قد أتى، كما قال: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) وكما قال: (وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ). وقوله: (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ). معناه تنزيهه من السوء، كذلك جاء في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وكذلك

(2)

فسَّره أهل اللغة، قالوا: معناه تنزيه اللَّه م@ت السو@و، وبراءة الله من السوء. قال الشاعر: أقول لما جاء في فخره. . . سبحان من علقمة الفاجر أي براءة منه. * * * وقوله: (يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2) ويقرأ: تُنَزَّلُ الملائكةُ، ويجوز فيها أوجه لا أعلمه قرئ بها: ينَزِّل الملائكة، وُينْزِلُ الملائكةَ، وتَنَزَّلُ الملائكةُ بالروح - والروح - واللَّه أعلم - كان فيه من أمر الله حياة للنفوس والِإرشاد إلى أمر اللَّه، والدليل على ذلك قوله: (أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ). المعنى أنْذِرُوا أهلَ الكفْر والمعَاصي بأنَّه لا إله إلاَّ أنا، أي مروهم بتوحيدي، وألَّا يشركوا بي شيئاً. ثم أعلم ما يَدُل على توحيده مما خلق فقال: (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) ارتفع عن الذين أشركوهم به، لأنهم لاَ يَخْلُقُون شيئاً وهما يُخْلَقون. * * * وقوله: (خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4) اختصر ههنا، وذكر تقلبَ أحْوال الِإنْسانِ في غير مكان من القرآن. * * * وقوله: (وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) نصب الأنعام على فعل مضمر، المعنى خلق الأنعام خلقها، مفسِّر للمضمر، والدفء ما يُدْفِئُهمْ من أوبَارِهَا وأصْوَافِهَا. وأكْثَرُ ما تستعمل الأنعام في الِإبل خاصة، وتكون للِإبل والغَنَم والبقر، فأخبر اللَّه - عزَّ وجلَّ - أن في الأنعام ما يدفئنا، ولم يقل لكم فيها مَا يُكِنُّكُمْ ويدفئكم من البرد، لأن ما ستر

_ (1) قال السَّمين: قوله تعالى: {يُنَزِّلُ الملائكة}: قد تقدَّم الخلافُ في «يُنَزِّل» بالنسبة إلى التشديدِ والتخفيفِ في البقرة. وقرأ زيدُ بن علي والأعمشُ وأبو بكر عن عاصم «تَنَزَّلُ» مشدداً مبنياً للمفعول وبالتاءِ مِنْ فوقُ، «الملائكةُ» رفعاً لقيامِه مَقامَ الفاعلِ وقرأ الجحدريُّ كذلك، إلا أنه خَفَّف الزايَ. وقرأ الحسنُ والأعرجُ وأبو العالية والمفضَّل عن عاصم «تَنَزَّلُ» بتاءٍ واحدةٍ مِنْ فوقُ، وتشديدِ الزايِ مبنياً للفاعل، والأصلُ: «تَتَنَزَّل» بتاءَيْن. وقرأ ابنُ أبي عبلة «نُنَزِّلُ» بنونينِ وتشديدِ الزايِ، «الملائكةَ» نصباً، وقتادةُ كذلك إلا أنه بالتخفيف. قال ابن عطية: «وفيهما شذوذٌ» ولم يُبَيِّن وجهَ ذلك، ووجهُه: أنَّ ما قبله وما بعده مضمرٌ غائبٌ، وتخريجُه على الالتفات. اهـ (الدر المصون).

(6)

من الحرِ سَتَر مِنَ البَرْدِ، وما ستر من البردِ ستر من الحرِّ، قال اللَّه - عزَّ وجلَّ - في موضع آخر: (سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) فعلم أنها تقي البرد أيضاً، وكذلك إذا قيل: (لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ) علم أنها تستر من البرْدِ، وتسَترٌ من الحرِّ. وقوله: (وَمَنَافِعُ). أي ومنافعها ألبانها وأبوالها وغير ذلك. (وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) الإراحة أن تروح الإبل من مراعيها إلى الموضع الذي تقيم فيه (وَحِينَ تَسْرَحُونَ)، أي حين تُخَلونها للرعْي، وفيما ملكه الإنسان جمال " وزينة - كما قال عزَّ وجلَّ: (المَالُ والبَنُونَ زِينَةُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا)، والمال ليس يخص الوَرِق والعينَ دونَ الأمْلَاك، وأكثر مال العرب الِإبل، كما أن أكثر أمْوال أهل البصرة النخَلُ. إنما يقولون مال فلان بموضع كذا وكذا يعنون النخل. * * * وقوله: (وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7) (أَثْقَالَكُمْ) (إِثْقَالَكُمْ) تقرأ بالفتح والكسر، أي لو تكلفتم بلوغه على غير الِإبَل لشَقَّ عَليكم ذلك. وقوله: (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8) أي وخلق الخيل والبغال والحمير للركوب، وكثير من الناس يقولون إنَّ لحومَ الخيلِ والبِغَالِ والحَمِيرَ دَلَّتْ عليه هذه الآية أنها حرام، لأنه قال في الإبل (وَمِنْهَا تأكُلُونَ. . . . وَلتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجةً في صدُورِكم) وقال في الخيل (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً) ولم يذكر فيها الأكل. وقال قوم لو

(9)

كانت حرمت بهذه الآية لم يحرم النبي - صلى الله عليه وسلم - لحومَ الحُمرُ الأهلية، ولكفاه ما دَلَّ عليه القرآن. وهذا غلط لأن " القرآن قد دَلَّ على أن الخَمْرَ حرام، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - حَرمَتْ الخمرَ بعينها. فذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - ما حُرِّمَ في الكتاب بأنه حرام. توكيداً لَهُ وزيادةً في البيان. ونصب (وزينةً) مفعول لها، المعنى وخَلَقَها زِينَةً. * * * وقوله: (وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9) أي على الله تبيين الطريق المستقيم إليه بالحججَ والبراهين وقوله: (وَمِنْهَا جَائِرٌ). جائر أي من السبل طرق غير قَاصِدَةٍ للحق. وقوله: (وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ). أي لو شاء اللَّه لأنزل آيةً تَضْطَرُ الخلْقَ إلى الإيمان به، ولكنه عزَّ وجلَّ: يهدي من يشاء ويدْعو إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. * * * وقوله: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) المعنى أنه ينبت الشجرَ التي تَرْعَاهَا الإبِلُ، وكلُ ما أنْبِتَ على الأرْ ض فهو شجر. قال الشاعر يصف الخيل: نعْلُفُها اللحمَ إذا عزَّ الشَجر. . . والخيل في إطْعَامِها اللحمَ ضَرَر يعني أنهم يسقون الخيل اللبن إذا أجْدَبَتِ الأرض. وقوله: (فيهِ تُسِيمُونَ). أي تَرْعَوْنَ، يقال: أسَمْتُ الإبلَ إذا رعيتها، وقد سَامَت تسوم وهي سائمة إذَا رعَتْ، وإنما أخدْ ذلك من السُّومَةِ، وَهِي العَلَامَةُ وتأويلها أنها تؤثر في الأرض برَعْيِها علامات.

(14)

وقوله: (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) (وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ). معنى (مَوَاخِرَ فِيهِ) جواري تجري جرياً، وتشق الماء شَقا. * * * (وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) (رواسيَ) جِبَالاً رواسي ثوابت، (أَنْ تَمِيدَ) معناهُ كَرَاهةَ أنْ تميد ومعنى تميد لا تستقر، يقال ماد الرجل يميد ميداً، إذَا دِيرَ به والمَيْدَى: الذين يدار بهم إذا ركبوا في البحر، و (أَنْ تَمِيدَ) في موضع نصب، مفعول لها. (وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا). المعنى وجعل فيها رَوَاسيَ وأنهاراً وسُبُلاً، لأن معنى ألقى في الأرض رواسي جعل فيها رواسي، ودليل ذلك قوله: (وَالجِبَالَ أوْتَاداً). * * * وقوله: (وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) النجم والنجوم في معنى واحدٍ، كما تقول: كثر الدرهَمُ في أيدي الناسِ وكثرت الدراهم، خلق اللَّه - جل ثناؤه - النجوم لأشياءَ منها أنها جُعِلَتْ زينةً للسماء الدنْيَا، ومنها أنها جعلت رُجُوماً للشياطين ومنها أنها يُهْتَدى بِهَا، ومنها أنها يعلم بها عدد السنين والحساب. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) ويقرأ (تدعونَ من دون اللَّه) بالتاء والياء. (لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ). يُعنَى به الأوثانُ التي كانت تَعْبُدُهَا العَربُ. * * * (أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) أي وهم أموات غير أحياء. وقوله: (وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ). - أي ما يشعرون متى يبعثون، و (أَيَّانَ) في موضع نصْبٍ بقوله (يُبْعَثُونَ) ولكنه

(23)

مَبني غيرُ منونٍ، لأنه بمعنى الاستفهام فلا يعرب كما لا تعرب كم ومتى وكيف وأين، إلَّا أن النون فتحت لالتقاء السَّاكنين. فإن قال قائل: فهَلَّا كُسِرتْ؟ قيل الاختيار إذا كان قبلَ الساكن الأخير ألف أن يفتح، لأن الفتح أشبه بالألف وأخفْ معها. وزعم سيبويه والخليل أنك إذا رَخَّمْتَ رجلًا اسمه أسْحَار، قلت يا أسْحَارَّ - بتشديد الراء - أقبل، ففتحت الراء لالتقاء السَّاكنين، - وكذلك تختار مع المفتوح الفتح، تقول إذا أمَرْت من غُضَّ: غضَّ يا هذا. . * * * وقوله: (لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23) معنى (لَا جَرَمَ) حق أن اللَّه يعلم، ووجب، وقوله: " لا " رَد لفعلهم. قال الشاعر: ولقد طعنت أبا عيينة طَعْنَةً. . . جَرَمَتْ فَزَارةَ بَعدهَا أَن يغضبوا المعنى أحقت فزارة بالغضب. * * * وقوله: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) " ما " مبتدأ، و " ذا " في موضع الذي. المعنى ما الذي أنزل ربكم. وأساطير مرفوعة على الجواب، كأنهم قالوا: الَّذِي أنْزَلَ أساطير الأولين. أي أكاذيب الأولين، واحدها أسْطورة. * * * وقوله: (لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25)

(26)

هؤلاء كانوا يصدون مَنْ أرَادَ اتبَاع النبي - صلى الله عليه وسلم - وإذا سُئِلُوا عما أتَى به - قالوا الذي جاء أساطير الأولين، فأَعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أنهم يحملون بذلك آثام الذين كفروا بقولهم. . ولا يُنْقِصُ ذلك من إثم التابع. وقوله: (ألَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ). " ما " في موضع رفع، كما ترفع بنعم وبئس، المعنى ساء الشيء وِزْرُهم، هذا كما تقول: بئسِ الشيءِ. * * * وقوله: (قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26) أي من أساطين البناء التي تعْمِده. (فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ). يروى أن ذلك في قصة نَمْرُودَ بنِ كنعانَ، بنى صَرْحاً يَمْكُرُ بِهِ فخر سقفه عليه وَعَلى أصْحَابِه، وقال بعضهم: هذا مثل، جعلت أعمالهم التي عملوها بمنزلة الباني بناء يسقط عليه فمضرة عملهم عليهم كمضرَّةِ الباني إذا سقط عليه أبناؤه. * * * وقوله: (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27) و (تُشَاقُّونِ فِيهِمْ) بكسر النونِ، وقد فسرنا مثل هذا، وإنَّما. . . شركائي حكاية لقولهم، واللَّه - جل ثناؤه - لا شريك له. المعنى أين الذين في دعواكم أنهم شركائي * * * (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) (فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ). أي ألقوا الاستسلام، وذكر السَّلَمَ، والسَّلَمَ الصُّلحْ، - لذكره المُشَاقةَ. وبإزاء المشاقة والمعاداة الصلح.

(30)

(مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ). أي قالوا: ما كنا نعمل من سوء. * * * (وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30) " ما " و "ذا " كالشيء الواحد، والمعنى أي شيء أنزل ربكم. (قَالُوا خَيْرًا). على جواب " ماذا " المعنى أنزل خَيْرًا. (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ). جائز أن يكون هذا الكلام ذُكِرَ ليَدُل عَلَى أن الذي قالوه اكتسبوا به حسنة، وجائز أن يكونَ تفسيراً لقولهم خيراً، وحسنة، بالرفع القراءةُ. ويجوز " للذِينَ أحْسَنُوا فِي هَذِه الدُّنْيَا حَسَنَةً "، ولا تقرأنَّ بها، وَجَوازُهَا أن معناها أن " أنزل خيراً " - جعل للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنةً، أي جَعَلَ لَهُمْ مكافأةً في الدنْيَا قَبْلَ الآخرة. وقوله: (وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ). المعنى، ولنعم دار المتقين دارُ الآخرة، ولكن المبيّنَ لقوله (دار المتقين) هو، قوله: (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) وهى مرفوعة بإضمار " هي " كأنك لما قلت، ولنعم دار المتقين على جواب السائل أيْ دَارٌ هي هذه الممدوحة، فقلت: (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا). وإن شئت رفعت على الابتداء، ويكون المعنى: جناتُ عَدْنٍ نعمَ دارُ المتقين. * * * وقوله: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) أي: لقبض أرواحهم، أو يأتي ما وَعَدَهُمُ اللَّهُ به من عذابه. وقوله: (كَذَلِكَ فَعَل الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُم اللَّهُ).

(35)

أي كذلك فعلوا فأتاهم أمر اللَّه بالعذاب، (فَأصَابَهُمْ سَيئَاتُ مَا عَمِلُوا). * * * وقوله: (وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35) هذه الآية وأشباهها فيه تنازع وينبغي أن يقف أهل القرآن والسنة على حقيقة تفسيرها لأن قوماً زعموا أن من قال هذا فقد كفر وأن من قال من العباد أن لا يفعل إلا ما شاء الله فقد كفر، وهذا تأويل رَديء، وإنما كفر أولئك وكذبوا، لأنهم كانوا يقولون: لو شاء اللَّه ما عبدنا من دونه من شيء علىِ جهة الهزؤ، والدليل على ذلك أنَّ قوْمَ شعيب قالوا لشعيب: (أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87). فلو قالوا له هذا معتقدين لكانوا مؤمنين، وإنما قالوه مستهزئين. وقد اتفقت الأمَّةُ على أن الله لو شاء ألا يُعْبَدَ غيرُه مَشِيئَةً اضطرار إلى ذلك لم يقدر أحد على غير ذلك، ولكن اللَّهَ جل ثناؤه تَعَبَّد العبادَ وَوَفَقَ من أحبَّ تَوْفيقه، وأضل من أحب إضْلَالَه، وهؤلاء قالوا هذه مُحقِّقِينَ ما قيل لهم أنهم مكذبون إذ كان الِإجماع على أن اللَّه - عزَّ وجلَّ - يقدر على أن يجْبُرَ العبادَ على طاعته وأعلم اللَّه أنهم مكذبون كما كذبَ الذين من قبلهم فقال: (فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ). أي الإبْلاغ. الذي يبَينُونَ مَعَهَ أنهم أنبياء. * * * وقوله: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) فأَعلم اللَّه أنهُ بَعَثَ الرسلَ بالأمْر بالعِبَادةِ، وهو من وراء الإضلال والهداية، فقال:

(37)

(فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ). فهذا يدل على أنهم لو قالوا ذلك معتقدين لكانوا صادقين، ثم أكدَ ذلك فقال: (إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37) وقُرئت فإن اللَّه لا يُهدَى من يُضِل، كما قال: (من يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ له). وَفيها وجه ثالث في القراءة. . " لَا يُهْدِي مَنْ يَضل " وهو أقلُّ الثلاثة. * * * وقوله: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38) (وَعْدًا) منصوب مُؤكد، المعنى بلى يبعثهم اللَّه وعداً عليه حقاً، (لِيُبَيْنَ لَهُمَ ائذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ). فهذا على ضربين، جائز أن يكون معلقاً بالبعث، ويكون المعنى: بلى يبعثهم الله لِيُبيَّنَ - لهم وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين، وجائز أن يكون (لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ) معلقاً بقوله: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا) لِيُبَيِّنَ لهم اختلافهم، وأنهم كانوا مِن قبله على ضلالة. * * * وقوله - عزَّ وجلَّ -: (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40) القراءة الرفع، وقد قرئت بالنصب، فالرفع على فهو، ويكون على معنى ما أراد اللَّه فهو يكون، والنصب على ضربين أحدهما أن يكون قوله فَيَكونَ عَطْفاً على (أنْ نَقُولَ فيكونَ). ويجوز أن يكون نصباً على جواب (كن) فـ (قَوْلُنَا) رفع بالابتداء. وخبره (أن نقول)، المعنى إنما قولنا لكل مرادٍ قولنا كن، وهذا خوطب العباد فيه بِمَا يعْقِلُونَ وما أراد اللَّه فهو كائن على كل حال

_ (1) قال السَّمين: قوله: {لاَ يَهْدِي} قرأ الكوفيون «يَهْدِي» بفتح الياءِ وكسرِ الدالِ، وهذه القراءةُ تحتمل وجهين، أحدُهما: أن يكون الفاعلُ ضميراً عائداً على الله، أي: لا يَهْدِي اللهُ مَنْ يُضِلُّه، ف «مَنْ» مفعولُ «يَهْدِي» ويؤيده قراءةُ أُبَيّ «فإنَّ اللهَ لا هاديَ لِمَنْ يُضِلُّ، ولِمَنْ أضلَّ»، وأنه في معنى قولِه: {مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ} [الأعراف: 186]. والثاني: أن يكونَ الموصول هو الفاعلَ، أي: لا يَهْدِيْ المُضِلَّون، و «يَهْدِي» يجيءُ في معنى يهتدي. يقال: هداه فَهَدَى، أي: اهتدى. ويؤيد هذا الوجهَ قراءةُُ عبدِ الله «يَهْدِي» بتشديدِ الدالِ المكسورةِ، فَأَدْغم. ونقل بعضُهم في هذه القراءةِ كسرَ الهاءِ على الإِتباع، وتحقيقُه تقدَّمَ في يونس. والعائدُ على «مَنْ» محذوفٌ: {مَن يُضِلُّ}، أي: الذي يُضِلُّه اللهُ. والباقون: «لا يُهْدَى» بضمِّ الياءِ وفتحِ الدالِ مبنياً للمفعول، و «مَنْ» قائمٌ مَقامَ فاعِله، وعائدُه محذوفٌ أيضاً. وجَوَّز أبو البقاء في «مَنْ» أن يكونَ مبتدأً و «لا يَهْدِي» خبره، يعني: مقدَّمٌ عليه. وهذا خطأٌ؛ لأنه متى كان الخبرُ فعلاً رافعاً لضميرٍ مستترٍ وجب تأخُّرُه نحو: «زيدٌ لا يَضْرِبُ»، ولو قَدَّمْتَ لالتبس بالفاعل. وقُرِئ «لا يُهْدِيْ» بضمِّ الياءِ وكسرِ الدالِ. قال ابن عطية: «وهي ضعيفةٌ» قال الشيخ: «وإذا ثَبَتَ أنَّ» هَدَى «لازمٌ بمعنى اهتدى لم تكنْ ضعيفةً؛ لأنه أدخل همزةَ التعديةِ على اللازم، فالمعنى: لا يُجْعَلُ مهتدياً مَنْ أضلَّه اللهُ». اهـ (الدر المصون).

(41)

وعلى ما أراده من الإسراع ولو أراد خلق الدنيا - السَّمَاوَات والأرْض - في قدر لمح البصر لقدر عَلَى ذلك ولكنَّ العباد خوطبوا بما يعقلون، فأعلمهم الله سهولة خلق الأشياء عليه قبل أن تَكُونَ، فأعلم أنه متى أراد الشيء كان، وأنه إذا قال كن كان. ليس أن الشيء قبل أن يخلق كان موجوداً. إنما المعنى: إذا أردنا الشيء نقول من أجله " كن " أيها المُرادُ فيكون على قدر إرادة اللَّه، لأن القَوْمَ أعنِي المشركِين أنكروا البعث، (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ). وهو معنى قوله: (وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ) أي كانوا يحلفون أنهم لا يبعثون. ولقد جاء في التفسير أن الحنثَ الشرْكُ لأن من اعْتَقَدَ هذا فضلاً أن يحلف عليه فهو مشرك. فقال جلَّ وعلا. (بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا). أي بلى يبعثهم وعداً عليه حقاً، و (حَقًّا) منصوب مصدر مؤكد لأنه إذا قال يبعثهم دل على " وعد بالبعث وعداً ". * * * وقوله: (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) هؤلاء قوم كان المشركون يعذبونهم على اعتقادهم الإيمان منهم صهيب وبلال، وذلك أن صُهَيباً قال لأهل مكة: أنا رجل كبير، إن كنت معكم لم أنفعكم، وإن كنت عليكم لم أضركم، خذوا مالي وَدَعُوني فأعطاهم ماله وهاجر إلى رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فقال له أبو بكر الصديق: رَبِحَ البيع يا صُهيب، وقال عمر: نعم الرجل صهيب لو لم يخف الله لم يعصه، تأويله لو أنه أمن

(43)

عذابه وعقابه لما ترك الطاعة ولا جنح إلى المعصية لأمنه العذاب. ومعنى (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً). أي: لأنهم صاروا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ودخلوا في الإسلام وسمعوا ثناء اللَّه عليهم. * * * وقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) و (نوحِي إليهم)، وُيوحِي إليهم. أما القراءتان الأوليان فجيدتان والثالثة ضعيفة لذكره أرسلنا. فأنْ يكون اللفظ على نوحِي ويوحَى أحسن، لأن نوحي يوافق اللفظ والمعنى، ويوحى إنما هو محمول على المعنى، لأن المعنى: وما أرسل اللَّه إلا رجالًا يوحى إليهم. وإنما تجيل لهم لأنهم قالوا لولا أنزل عليه ملك أو جاء مع نذير، فأَعلم اللَّه - جل وعز - أن الرسل بشر إلا أنهم يوحى إليهم. ثم أعلم كيف يستدل على صحة نبُوتهِمْ فقال: (بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) أي بالآيات والحجَج، والزبُرُ الكُتُب، واحدها زَبُورٌ، يقال زَبَرْتُ الكتابَ وذَبَرْتُه بمعنى واحد، قال أبو ذؤيب: عَرَفْتُ الدِّيَارَ كَرَقْمِ الدَّوَا. . . ةِ يَذْبُرُها الكاتِبُ الحِمْيَري وقَوله: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ). فيها قولان، قيل فاسألوا أهل الكتب أهل التوراة والإِنجيل وأهل جميع

(45)

الكتب يعترفون أن الأنبياء كلهم بشر. وقيل (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) أي فاسْألُوا مَنْ آمَنَ من أهل الكتاب. ويجوز واللَّه أعلم - أن يكون قيل لهم اسألوا كل من يُذْكَرُ بعلم وافق أهل هذه الملة أو خالفهم. والدليل على أن أهل الذكر أهل الكتب قوله تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ)، وقوله: (وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ). * * * وقوله: (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45) أي أفأمنوا أنْ يَفْعَلَ بهم ما فَعَل بقوم لوط، والذين أهلكوا من الأمم السالفة بتعجيل العذاب في الدنيا. (أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ). عطف على: (أَنْ يَخْسِفَ). (أوْيا4 خُذَهُمْ في تَقَفبِهِمْ) أي فِي تَصَرفِهِم في أسفارهم، وَسَائِرِ مَا يَنْقَلِبُونَ فِيه. (أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أي أو يأخذهم بعد أن يخيفهم، بأن يهلكَ فرقة فَتخافَ التي تليها. وقيل على تخوف على تنقص، ومعنى التنقص أن ينتقصهم في أموالهم وَثمَارِهِمْ حتى يهلِكَهُمْ. ويروى عن عُمَرَ قَال: ما كنت أدري ما معنى أو يأخذهم على تخوف حتى سمعت قول الشاعر:

(47)

تَخَوَّفَ السَّيْرُ منها تامِكاً قَرِداً. . . كما تَخَوَّفَ عودَ النَّبْعةِ السَّفَنُ يصف ناقة وأن السير تنقص سنامها بعد تمكنه واكتنازه. وقوله: (أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47) أي من رحمته أن أمهل فجعل فسحةً للتوبةِ. * * * وقوله: (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48) وتقرأ تتفيأ ظلاله. (سُجَّدًا) منصوب على الحال. (وَهُمْ دَاخِرُون). ومعنى (دَاخِرُونَ) صَاغِرُونَ، وهذه الآية فيها نظر، وتأويلها - واللَّه أعلم - أن كل ما خلق اللَّه مِنْ جِسْم وعظم ولحم ونجْم وشَجَرٍ خاضع لله ساجد، والكافر إن كَفر بقلبه ولسَانه وقصْدِه فنفس جسمه وعظمه ولحمه وجميع الشجر والحيوان خاضعة لِلَّهِ ساجدة. والدليل على ذلك قوله: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ). روي عن ابن عباس أنه قال: الكافر يسجد لغير الله، وظلُّه يسجُدُ للَّهِ. وتأويل الظلِّ تأويل الجسم الذي عنه الظل. وقوله: (وَهُمْ دَاخِرُونَ). أي هذه الأشياء مجبولة على الطاعة. * * * وقوله: (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) المعنى ولله يسجد ما في السَّمَاوَات من الملائكة وما في الأرض من دابة

(50)

والملائكة، أي وتسجد ملائكة الأرض، والدليل على أن الملائكة في الأرض أيضاً قوله تعالي: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18). وقوله: لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ). وقوله: (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا). وقوله: (وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50) أي يخافون ربهم خوف مُخْلِدِين مُعظمين. (وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ). وصفهم بالطاعة وأنهم لا يجاوزون أمراً له ولا يتقدمونه. * * * وقوله: (وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) (وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا). قيل معناه دائماً، أي طاعة واجبة أبداً، ويجوز - واللَّه أعلم - أن يكون (وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا) أي له الدين والطاعة، رضي العبد بما يؤمر به أو لم يَرْضَ، وسهل عليه أو لم يسهل، فله الدين وإن كان فيه الوَصَبُ. والوَصَبُ شدَّةُ التعب. ثم قال: (أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ). أي أَفَغَيْرَ اللَّهِ الذي قد بَانَ لكم أنَّه وحده، وأنه خالق كل شيء، وأن ما بكم من نِعمةٍ فمن عنده، وأنه لو أراد إهلاككم حين كفرتم وألَّا يُنْظِرَكم إلى يوم التوبة لقدَرَ، وأعْلَم أنه مع إقامته الحجج في أنه واحِد، وأنه أمر ألا يُتخَذَ معه إله عبدوا غيره، لأنهم قالوا عنْ الأصنام: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى).

(53)

فأَعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أن لا إله إلا هو، ولا يجوز أن يَعبد غيره، وَإن قَصَد التقِربَ بالعبادة لِلَّهِ وحده، فقال - جلَّ وعلا -: (وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ). فذكر اثنين توكيداً لقوله إلهَيْن، كما ذكر الواحد في قوله: (إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ). * * * وقوله: (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) دخلت الفاء، ولا فعل ههنا لأن الباء متصلة بالفعل، المعنى ما حل بكم من نعمةٍ فمن اللَّه، أي ما أعطاكم الله من صحة جسم أوسعة في رِزْقٍ، أو متاع بمال أو ولد فكل ذلك من اللَّه. وقوله: (ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ). أي إليه ترفعون أصواتكم بالاستغاثة، يقال: جأر الرَّجُل يَجأرُ جُؤاراً. والأصوات مبنية على فُعَال وفَعِيلٍ، فأمَّا فُعال فنحو الصُّراخ، والجُؤَارُ. والبُكاء. وأما الفَعِيل فنحو العويل والزئير، والفُعَالُ أكثر. * * * وقوله: (ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) هذا خاص فيمن كفر به. وقوله: (لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55) أي ليكفروا بأنا أنعمنا عليهم، أي جعلوا ما رزقناهم وأنعمنا به عليهم

(56)

سبباً إلى الكفر كما قال تعالى: (رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ). ويجوز أن يكون (ليكفروا بما آتيناهم) أي ليَجْحَدُوا نعمة الله في ذلك، كما قال: (أفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ). وَقَوله: (فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ). لم يأمُرْهُمْ الله جلَّ وعلا أن يتمتعوا أمْرَ تَعَبُّدٍ، إنما هو لفظ أمْرٍ ليهدِّدَ كما قال: (قُلْ آمِنُوا بِهِ أوْ لَا تُؤمِنُوا) أي فَقَدْ وَعَد اللَّه وأوعَدَ وأنذر وبلَّغت الرسُلُ فمن اختار بعد ذلك الكفر والتمتع بما يباعد من اللَّه فسوف يعلم عاقبة أمره. وقد بين اللَّه عاقبة الكفر والمعصية بالحجج البالغة والآيات البينات. * * * وقوله: (وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) هو معنى قوله تعالى: (فقالوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لشُرَكَائِنا) فجعلوا نصيباً يتقربون به إلى الله تعالى، ونصيباً يتقربون به إلى الأصنام والحجارة. وقوله: (تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ). أي تاللَّه لَتُسْأَلُنَّ عنه سؤال توبيخ حتى تعترفوا به على أنْفُسِكُمْ. وتُلْزِمُوا أنفسَكُم الحجة. * * * وقوله: (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57) لأنهم زعموا أن الملائكة بنات اللَّه. (سُبْحَانَهُ) معناه تنزيه له من السُّوءِ. (وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ).

(58)

(ما) في موضع رفع لا غير، المعنى سبحانه ولهم الشيءُ الذي يشتقون كما قال: (أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ). فإن قال قائل لم لا يكون المعنى (ويجْعَلُونَ لَهُمْ ما يَشْتَهُونَ)؟ قيل العربُ تستعملُ في هذا الموضع: جعل لِنَفْسِهِ ما يشتهي، ولا يقولون جَعَل زيد له ما يَشْتَهِي، وهو يعني نفسه. ثم أعلم أنهمْ يَجْعَلُونَ للَّهِ البنات. فقال: (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) فيجعلون لمن يعترفون بأنه خالقهم البنَاتِ اللاتِي مَحَلهُن منهم هذا المحل. ومعنى (ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا)، مُتَغيَراً تَغَيُّرَ مَغْمُوم. ويقال لكل من لقِي مكروهاً: قد اسود وجهه غمًّا وحُزْناً. ومِنْ ذلك قولك سوَّدْت وجه فُلَانٍ. * * * وقوله: (يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59) قيل كان الرجل في الجاهلية إذا حزبَ امرأتَهُ المخاضُ توارى لكي يعلم ما يُوَلَدَ لَهُ، فإن كان ذَكراً سُرَّ به وابْتهج، وإن كانت أنثى اكْتَأبَ بها وحَزِنَ، فمنهم من يَئدُ ولَدَهُ يَدْفِنُها حَية، أو يمسكها على كراهة وهَوَانٍ. فقال اللَّه تعالى: (يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ). أى ألَا سَاءَ حُكْمُهُمْ في ذلك الفِعْلِ وفي جعلهم للَّهِ البناتِ وجعلهم لأنفسهمْ البنين، ونسْبِهم للَّهِ اتخاذ الوَلَد. * * * وقوله: (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61) معنى (عليها) على الأرض، ودل الِإضمار على الأرض لأن الدَوَابَّ إنما هي على الأرْض.

(62)

وقوله: (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى). جاء في التفسير أنه، قوله: لا إله إلا اللَّهُ، وتأويله أن اللَّه - جل ثناؤه - له التوحيد، ونفي كل إله سواه. * * * وقوله: (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62) أي يجعلون لِلَّهِ البنات اللاتي يكرهَونَهُن. وقوله: (وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى). (أَنَّ) بدلٌ من (الكذب) المعنى وتصف أَلسنتهم أنَّ لهم الحُسْنَى، أي يصفون أن لهم - مع فعلهم هذا القبيح - من اللَّه جل ثناؤه - الجزاء الحسن. وقوله: (لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ). " لَا " رد لقولهم. المعنى - واللَّه أعلم - ليس ذلك كما وصفوا، جرم أن لهم النَّارَ، المعنى جَرَبمَ فعلُهم هذا أن لَهُم النارَ، أي كسب فعلهم أن لهم النارَ. وقيل إنَّ " أنَّ " في موضع رفع، ذكر ذلك قطرب، وقال المعنى أن لهم النار. (وَأنهُم مُفْرَطُونَ). فيها أربعة أوْجُهٍ: (مُفْرَطُونَ) بإسكان الفاء وفتح الراء، ومُفَرَّطُونَ بفتحِ الفاء وتشديد الراء وبفتحها، ومُفْرِطُونَ - بإسكان الفاء وكسر الراء، ومُفَرِّطُونَ بفتح الفاء وتشديد الراء وكسرها. فأمَّا تفسير (مُفْرَطُونَ) و (مُفَرَّطُونَ) فجاء عن ابن عباس، متروكون وقيل عنه: مُعْجَلُونَ. ومعنى الفَرْط في اللغة: التَقدم، وقد فرط إليَّ منه قولٌ أي

(64)

تَقَدَّمَ، فمعنى مُفْرَطُونَ مُقَدمُونَ إلى النار، وكذلك مُفَرطُون، ومن فسَّرَ متروكون فهو كذلك، أي قد جُعِلُوا مُقَدَّمِين في العذاب أبداً متروكين فيه. ومن قرأ مُفَرِّطُونَ، فالمعنى أنه وَصْف لهم بأنهم فَرطُوا في الدنيا فلم يعملوا فيها للآخرة وتصديق هذه القراءة قوله: (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ). وَمَنْ قَرأ مُفْرِطُونَ، فالمعنى على أنهم أفْرَطُوا في مَعْصِيةِ اللَّه، كَما تقول: قد أفرط فلان في مكروهي. وتأويله أنه آثر العجْزَ وقدَّمه (1). * * * وقوله: (وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64) بِنَصْب (رَحمَةً) المعنى: وما أنزلنا عليك الكتابَ إلا هُدى ورحمةً، أي ما أنزلنَاهُ عليك إلا للهداية والرحمة، فهو مفعول له. ويجوز: وهدى ورحَمْةً في هذا الموضع، المعنى: وما أنزلنا عليك الكتاب إِلًا لِلْبيَانِ رهو - مع ذلك - هدى ورحْمَةٌ. * * * (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66) وتقرأ (نَسْقِيكم) (2) ويقال سَقيتُهُ وأسْقَيْتُهُ في مَعْنى وَاحد. قال سيبويه والخليل سقيته كما تقول نَاوَلْتُه فشرب. وأسقيتُهُ جعلت له سقياً، وكذلك قول الشاعر يحتمل المذهبين:

_ (1) قال السَّمين: قوله: {وَأَنَّهُمْ مُّفْرَطُونَ} قرأ نافع بكسرِ الراءِ اسمَ فاعلٍ مِنْ أَفْرَطَ إذا تجاوَزَ، فالمعنى: أنهم يتجاوزون الحَدَّ في معاصي الله تعالى. فأفْعَلَ هنا قاصرٌ. والباقون بفتحها اسمَ مفعولٍ مِنْ أَفْرَطْتُه، وفيه معنيان، أحدُهما: أنَّه مِنْ أَفْرطته خلفي، أي: تركتُه ونَسِيْتُه، حكى الفراء أنَّ العرب تقول: أَفْرِطْتُ منهم ناساً، أي: خَلَّفْتُهم، والمعنى: أنهم مَنْسِيًّون متروكون في النار. والثاني: أنه مِنْ أَفْرَطْتُه، أي: قَدَّمْتُه إلى كذا، وهو منقولٌ بالهمزة مِنْ فَرَط إلى كذا، أي: تقدَّم إليه، كذا قال الشيخ، وأنشد للقطامي: 2989 - واسْتَعْجَلُونْا وكانوا مِنْ صحابَتِنا. . . كما تَعَجَّلَ فُرَّاطٌ لِوُرَّادِ فَجَعَلَ «فَرَط» قاصراً و «أفرط» منقولاً. وقال الزمخشري: «بمعنى يتقدَّمون إلى النار، ويتعجَّلون إليها، مِنْ أَفْرَطْتُ فلاناً وفَرَطْتُه إذا قدَّمته إلى الماء»، فجعل فَعَل وأفْعَل بمعنى، لا أن أَفْعل منقولٌ مِنْ فَعَل، والقولان محتملان، ومنه «الفَرَطُ»، أي: المتقدم. قال عليه السلام: «أنا فَرَطُكم على الحوض»، أي: سابِقُكم. ومنه «واجعله فَرَطاً وذُخْراً»، أي: متقدِّماً بالشفاعةِ وتثقيلِ الموازين. وقرأ أبو جعفر - في روايةٍ - «مُفَرِّطون» بتشديدِ الراءِ مكسورةً مِنْ فَرَّط في كذا: أي: قَصَّر، وفي روايةٍ، مفتوحةً، مِنْ فَرَّطته مُعَدَّى بالتضعيفِ مِنْ فَرَط بالتخفيف، أي: تَقَدَّم وسَبَقَ. اهـ (الدر المصون). (2) قال السَّمين: قوله تعالى: {نُّسْقِيكُمْ}: يجوز أن تكونَ هذه الجملةُ مفسرةً للعِبْرة، كأنه قيل: كيف العِبْرة؟ فقيل: نُسْقيكم من بينِ فَرْثٍ ودمٍ لبناً خالصاً. ويجوز أن تكونَ خبراً لمبتدأ مضمر، والجملةُ جوابٌ لذلك السؤالِ، أي: هي، أي: العِبْرَةُ نُسْقيكم، ويكون كقولهم: تَسْمَعُ بالمُعْيدِيَّ خيرٌ من أَنْ تَراه «. وقرأ نافع وابنُ عامر وأبو بكر» نَسْقيكم «بفتح النون هنا وفي المؤمنين. والباقون بضمَّها فيهما. واختلف الناس: هل سَقَى وأَسْقى لغتان، بمعنىً واحدٍ أم بينهما فرقٌ؟ خلافٌ مشهور. فقيل: هما بمعنىً، وأنشد جمعاً بين اللغتين: 2290 - سَقَى قومي بني مَجْدٍ وأسْقَى. . . نُمَيْراً والقبائلَ من هلالِ دعا للجميع بالسَّقْيِ والخِصْب. و» نُمَيْراً «هو المفعول الثاني: أي: ماءٌ نُمَيْراً. وقال أبو عبيد:» مَنْ سَقَى الشِّفَةِ: سَقَى فقط، ومَنْ سقى الشجرَ والأرضَ. أَسْقَى، وللداعي بالسُّقْيَا وغيرها: أَسْقَى فقط «. وقال الأزهري:» العربُ تقول ما كان من بطونِ الأنعام، ومن السماء، أو نهرٍ يجري، أَسْقَيْتُ، أي: جَعَلْتُ شِرْباً له وجَعَلْتُ له منه سُقْيَا؟، فإذا كان للشَّفَة قالوا: سَقَى، ولم يقولوا: أسقى «. وقال الفارسي:» سَقَيْتُه ختى رَوِيَ، وأَسْقَيْتُه نهراً، أي: جَعَلْتُه له شِرْباً «. وقيل» سَقاه إذا ناوله الإِناءَ ليشربَ منه، ولا يُقال مِنْ هذا: أَسْقاه. وقرأ أبو رجاء «يُسْقِيْكم» بضمِّ الياء من أسفلَ وفي فاعلِه وجهان، أحدُهما: هو الله تعالى، الثاني: أنه ضميرُ النَّعَمِ المدلولُ عليه بالأنعامِ، أي: نَعَماً يُجْعَلُ لكم سُقْيا. وقُرئ «تًسْقيكم» بفتح التاء من فوق. قال ابن عطية: «وهي ضعيفةٌ». قال الشيخ: «وضَعْفُها عنده - والله أعلمُ - أنه أنَّثَ في» تِسْقِيْكم «. اهـ (الدر المصون).

(67)

سَقَى قوْمِي بني مَجْدٍ وأسْقى. . . نمَيراً والقبائل من هلال وهذا البيت وضعه النحويونَ على أنَّه سَقَى وأسْقَى بمعنى واحد، وهو يحتمل التفسير الثاني. والأنعام لفظه لفظ جمع، وهو اسم للجنس يذكر ويؤنث، يقال هو الأنعام وهي الأنعام. نسقيكم مما في بطونه. وفي موضع آخر (مما في بطونها). فأَعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أن في إخْراجه اللبَن (مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ) دَلِيلًا على قدرةٍ لا يقدِر عليها إلا الله الذي ليس كمثله شيء (1). * * * وقوله عَز وجل: (وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67) أي فيما بيَّنَّا علامة تدل على توحيد اللَّه. وقالوا في تفسير قوله: (سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا) إنه الخمرُ من قبل أن تحرمَ. والرزق الحسَنُ يؤكل من الأعناب والتُموُرِ. وقيل إن معنى السكر الطعم وأنشدوا: جعلت أعراض الكرام سَكَراً أي جعلتَ دَمَهُم طُعماً لك. وهذا بالتفسير الأولِ أشبَهُ. المعنى جعلْتَ تتخمًرُ بأعراضِ الكرام، وهو أبين - فيما يقال: الذي يتبرك. في أعراض الناس.

_ (1) قال الإمام فخر الدين الرازي: قوله: {مما في بطونه} الضمير عائد إلى الأنعام فكان الواجب أن يقال مما في بطونها، وذكر النحويون فيه وجوهاً: الأول: أن لفظ الأنعام لفظ مفرد وضع لإفادة جمع، كالرهط والقوم والبقر والنعم، فهو بحسب اللفظ لفظ مفرد فيكون ضميره ضمير الواحد، وهو التذكير، وبحسب المعنى جمع فيكون ضميره ضمير الجمع، وهو التأنيث، فلهذا السبب قال ههنا {فِي بُطُونِهِ}، وقال في سورة المؤمنين: {فِى بُطُونِهَا} [المؤمنون: 21]. الثاني: قوله: {فِي بُطُونِهِ} أي في بطون ما ذكرنا، وهذا جواب الكسائي. قال المبرد: هذا شائع في القرآن. قال تعالى: {فَلَماَّ رَأَى الشمس بازغةً قَالَ هذا رَبّى} [الأنعام: 78] يعني هذا الشيء الطالع ربي. وقال: {كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَن شَاء ذَكَرَهُ} [المدثر: 54، 55] أي ذكر هذا الشيء. واعلم أن هذا إنما يجوز فيما يكون تأنيثه غير حقيقي، أما الذي يكون تأنيثه حقيقياً، فلا يجوز، فإنه لا يجوز في مستقيم الكلام أن يقال جاريتك ذهب، ولا غلامك ذهب على تقدير أن نحمله على النسمة. الثالث: أن فيه إضماراً، والتقدير: نسقيكم مما في بطونه اللبن إذ ليس كلها ذات لبن. أهـ {مفاتيح الغيب حـ 20 صـ 52 - 53} وقال السَّمين: وذَكَّر في قوله {مِّمَّا فِي بُطُونِهِ}، ولا ضَعْفَ مِنْ هذه الجهةِ؛ لأنَّ التذكيرَ والتأنيثَ باعتبارين». قلت «وضَعْفُها عنده من حيث المعنى: وهو أنَّ المقصودَ الامتنانُ على الخَلْقِ فنسبةُ السَّقْيِ إلى اللهِ تعالى هو الملائِمُ، لا نِسْبتُه إلى الأنعام. قوله: {مِّمَّا فِي بُطُونِهِ} يجوز أن تكونَ» مِنْ «للتبعيض، وأن تكونَ لابتداءِ الغاية. وعاد الضميرُ هنا على الأنعام مفرداً مذكراً. قال الزمخشري:» ذكر سيبويه الأنعامَ في باب «ما لا ينصرف» في الأسماءِ المفردةِ الواردةِ على أَفْعال كقولهم: ثوبٌ أَكْياش، ولذلك رَجَع الضميرُ إليه مفرداً، وأمَّا «في بطونها» في سورة المؤمنين فلانَّ معناه جمع. ويجوز أن يُقال في «الأنعام» وجهان، أحدهما: أن يكون تكسير «نَعَم» كأَجْبال في جَبَل، وأن يكون اسماً مفرداً مقتضياً لمعنى الجمع [كَنَعم]، فإذا ذُكِّرَ فكما يُذكَّرُ «نَعَم» في قوله: 2991 - في كل عام نَعَمٌ تَحْوُوْنَهُ. . . يَلْقِحُه قومٌ وتَنْتِجُونَهْ وإذا أُنِّثَ ففيه وجهان: أنه تكسير «نَعَم»، وأنَّه في معنى الجمع «. قال الشيخ: أمَّا ما ذَكَره عن سيبويه ففي كتابه في:» هذا بابُ ما كان مِثال مَفاعِل ومفاعِيل ما نصُّه: «وأمَّا أَجْمال وفُلُوس فإنها تَنْصَرِفُ وما أشبهها؛ لأنها ضارَعَتْ الواحد / ألا ترى أنك تقول: أَقْوال وأقاويل، وأعراب وأعاريب وأَيْدٍ وأيادٍ، فهذه الأحرفُ تَخْرُج إلى مثال مفاعِل ومفاعيل، كما يَخْرُج إليه الواحد إذا كُسِّر للجمع. وأمَّا مَفاعِل ومَفاعيل فلا يُكسَّرُ، فلا يَخْرُجُ الجمعُ إلى بناءٍ غيرِ هذا؛ لأن هذا البناءَ هو الغايةُ، فلمَّا ضارَعَتِ الواحدَ صُرِفَتْ». ثم قال: «وكذلك الفُعُوْل لو كَسَّرْتَ مثل الفُلوس لأَنْ تُجْمَعَ جميعاً لأَخْرَجَتْه إلى فَعَائِل، كما تقول: جَدُود وجَدائد ورَكوب وركائب، ولو فَعَلْتَ ذلك بِمَفاعِل ومَفاعيل لم تجاوِزْ هذا البناءَ، ويُقَوِّي ذلك أنَّ بعضَ العربِ يقول: أُتِيَّ فَيَضُمُّ الألفَ. وأمَّا أفْعَال فقد يقع للواحد، مِنَ العرب مَنْ يقول: هو الأنعام: قال الله عز وجل {نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ}. وقال أبو الخطاب:» سَمِعْت مِنَ العرب مَنْ يقول: هذا ثوبٌ أكياش «. قال:» والذي ذكر سيبويهِ هو الفرق بين مَفاعِل ومفاعِيل وبين أفعال وفُعول، وإن كان الجميعُ أبنيةً للجمع من حيث إنَّ مفاعِل ومفاعِيل لا يُجْمعان وأَفْعالاً وفُعولاً قد يَخْرُجان إلى بناءٍ يُشبِه مَفَاعِل أو مفاعيل، فلمّا كانا قد يَخْرُجان إلى ذلك انصرفا، ولم يَنصَرِفْ مَفَاعِل ومفاعيل لشِبْه ذَيْنك بالمفردِ؛ من حيث إنه يمكن جمعُها وامتناعُ هذين من الجمع، ثم قَوِيَ شَبَهُهما بالمفرد بأنَّ بعض العرب يقول في أُتِيّ: «أُتِيّ» بضمِّ الهمزة، يعني أنه قد جاءَ نادراً فُعول من غير المصدرِ للمفرد، وبأنَّ بعضَ العربِ قد يُوْقعُ أفعالاً للمفرد من حيث أفرد الضميرَ فيقول: «هو الأنعامُ»، وإنما يعني أنَّ ذلك على سبيل المجاز؛ لأن الأنعامَ في معنى النَّعَم، والنَّعَمُ مفردٌ كما قال: 2992 - تَرَكْنا الخيلَ والنَّعَمَ المُفَدَّى. . . وقلنا للنساءِ بها أَقيمي ولذلك قال سيبويه: «وأمَّا أَفْعال فقد يقع للواحد» فقوله «قد يقع للواحد» دليلٌ على أنه ليس ذلك بالوضْعِ، فقولُ الزمخشري: «أنه ذكره في الأسماء المفردة على أَفْعال» تحريفٌ في اللفظ، وفَهِمَ عن سيبويه ما لم يُرِدْه. ويَدُلُّ على ما قلناه أنَّ سيبويه حيث ذَكَرَ أبنيةَ الأسماء المفردةِ نَصَّ على أنَّ أَفْعالاً ليس من أبنيتها. قال سيبويه في باب ما لحقته الزيادةُ من بنات الثلاثة: «وليس في الكلام أُفْعِيل ولا أَفْعَوْل ولا أُفْعال ولا أَفْعِيْل ولا أَفْعال، إلا أن تُكَسَّرَ عليه اسماً للجمع». قال: «فهذا نصُّ منه على أنَّ أَفْعالاً لا يكون في الأسماء المفردة». قلتُ: الذي ذكره الزمخشريُّ هو ظاهرُ عبارةِ سيبويه وهو كافٍ في تسويغ عَوْد الضمير مفرداً، وإن كان أَفْعال قد يقع موقعَ الواحد مجازاً فإنَّ ذلك ليس بضائرٍ فيما نحن بصددِه، ولم يُحَرِّفْ لفظَه، ولم يَفْهَمْ عنه غيرَ مرادِه، لِما ذكرْتُه من هذا المعنى الذي قَصَدَه. وقيل: إنما ذَكَّر الضميرَ لأنه يعودُ على البعض وهو الإِناث؛ لأنَّ الذكورَ لا أَلْبانَ لها، فكأنَّ العِبْرَة هي بعض الأنعام. وقال الكسائي: «أي في بطونِ ما ذَكَرَ». قال المبرد: «وهذا شائعٌ في القرآن، قال تعالى: {كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ} [عبس: 1112]، أي: ذَكَر هذا الشيءَ. وقال تعالى: {فَلَماَّ رَأَى الشمس بَازِغَةً قَالَ هذا رَبِّي} [الأنعام: 78]، أي: هذا الشيءُ الطالعُ، ولا يكون هذا إلا في التأنيث المجازيِّ، لا يجوز: جاريتُك ذهب». قلت: وعلى ذلك خُرِّج قوله: 2993 - فيها خطوطٌ مِنْ سوادٍ وبَلَقْ. . . كأنه في الجِلدِ تَوْليْعُ البَهَقْ أي: كأنَّ المذكورَ. وقيل: جمعُ التكسير فيما لا يُعْقَل يُعامَل معاملةَ الجماعةِ ومعاملةَ الجمع، ففي هذه السورةِ اعتُبِر معنى الجمع، وفي سورة المؤمنين اعتُبر معنى الجماعة، ومن الأولِ قولُ الشاعر: / 2994 - مثل الفراخِ نُتِفَتْ حواصِلُهْ. . . وقيل: أنه يَسُدُّ مَسَدَّه واحدٌ يُفْهِم الجمعَ، فإنه يَسُد مَسَدَّه «نَعَم»، و «نَعَم» يُفْهِم الجمعَ ومثلُه قولُه: 2995 - وطابَ أَلْبانُ الِّلقاحِ وبَرَدْ. . . لأنه يَسُدُّ مَسَدَّها لَبَن، ومثلُه قولهم «هو أحسنُ الفتيان وأجملُه»، أي: أحسنُ فتىً، إلا أن هذا لا ينقاس عند سييويه وأتباعِه. وذكر أبو البقاء ستةَ أوجهٍ، تقدَّم منها في غضون ما ذكرْتُه خمسةٌ. والسادس: أنه يعود على الفحل؛ لأن اللبن يكون مِنْ طَرْقِ الفحلِ الناقةَ، فأصلُ اللبنِ [ماءُ] الفحلِ قال: «وهذا ضعيفٌ؛ لأنَّ اللبن وإن نُسِب إلى الفحلِ فقد جَمَعَ البطون، وليس فحلُ الأنعام واحداً ولا للواحد بطونٌ. فإن قال: أراد الجنسَ فقد ذُكِر». يعني أنه قد تقدَّم أن التذكيرَ باعتبارِ جنسِ الأنعام فلا حاجة إلى تقدير عَوْدِه على «فَحْل» المرادِ به الجنسُ. قلت: وهذا القولُ نقله مكي عن إسماعيل القاضي ولم يُعْقِبْه بنكير. اهـ (الدر المصون).

(68)

وقوله: (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) وبِيوتاً. فمن قرأ بُيُوتاً بَالضم فهو القياس، مثل كعب وكُعُوب وقلْب وقُلُوبُ، ومن قرأ بِيُوتاً بالكسر فهذا لم يذكر مثله أحَد من البَصْريينَ لأنهم لا يجيزون مثله. ليس في الكلام مثل فِعُل ولَا فِعُول، والذين قرأوا به قلبوا الضمة إلى الكسرة من أجل الياء التي بعْدَها. ومعنى الوحي في اللغة على وجهين يرجعان إلى معنى الإِعْلامِ والإفهَام فمن الوحي وَحْيُ الله إلى أنبيائه بما سمعت الملائكة من كلامه، ومنه الإلهام كما قال اللَّه: (وَأخْرَجتِ الأرْضُ أثْقَالَهَا) إلى (بأن رَبَّكَ أوْحَى لَها) معناهُ ألْهمَهَا. فاللَّه أوحى إلى كل دابَّة وذِي رُوح في التماس منافعها واجتناب مضارهَا، فذكر من ذلك أمر النحل. وواحدُ النحْلِ نحلة، مثل نخل ونخلة - لأن فيها من لطيف الصنعة وبديع الخلق ما فيه أعظم معتبر بأنْ ألهمها اتخاذَ المنازل والمساكن، وأن تأكل من كل الثمرات على اختلاف طعومها. . ثم سهل عليها سبيل ذلك فقال جلَّ وعزَّ: (ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69) أي قد ذللها اللَّهُ لك وسهل عليك مَسَالكَها. ثم قال (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ). فهي تأكل الحامض والمرَّ وما لا يُوصَف طعمه فيُحِيلُ الله ذلك عَسَلاً يخرج من بطونها إلا أنها تلقيه من أفواهها ولكنه قال: (مِنْ بُطونهَا) لأن استحالة الأطعمة لا تكون إلا في البطون فيخرج بعضها من الفم كالريق الدائم

(70)

الذي يخرج من فم ابن آدم، فالنحل تخرج العسلَ من بطونها إلى أفوَاهِهَا. (فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ). في هذا قولان، قيل إِن. الهاء يرجع على العَسَل، المعنى في العَسَلِ شفاء للناس. وقيل إن الهاء للقرآن، المعنى في القرآن شفاءٌ للناس وهذا القول إذا فسَّرَ علم أنه حَسَنٌ، المعنى فيما قصصنا عليكم من قصة النحل في القرآن وسائر القصص التي تدل على أن اللَّه واحد شفاء للناس. والتفسير في العَسَل حسن جدًا. فإن قال قائل: قد رأينا من ينفعهُ العسلُ ومن يضره العسل، فكيف يكون فيه شفاء للناس؟ فجواب هذا أن يقال له الماء حياة كل شيء فقد رأينا من يقتله الماء إذا أخذه على ما يصادف من علة في البدَنِ، وقد رأينا شفاء العسل في أكثر هذه الأشربة، لأن الجَلَّاب والسكنجيين، إِنما أصلهما العَسَلُ، وكذلك سائر المعجونات. وهذا الاعتراض في أمر العَسَلِ إنما هو اعتراض جهلة لا يعرفون قدرة في النفع، فأمَّا من عرف مقدار النفع فهو وإن كان من غير أهل هذه الملةِ فهو غير رافع أن في العَسَلِ شفاء. * * * وقوله: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70) أي منكم من يكبر وُيسِن حتى يذهب عقله خَرَفاً فيصير بعدَ أنْ كَانَ عَالماً جاهلاً، والمعنى - واللَّه أعلم - (لكيلا يَعْلم بعد علم شيئاً) أي ليريكم من قدرته أنه كما قدر على إمَاتَتِه وإحْيَائِه أنه قادر على نقله من العلم إلى الجهْلِ. وأعلم - عزَّ وجلَّ - أن الموتَ والحياةَ بيدِه، وأن الإنسان قد

(71)

يَتَغَذًى بالأغذية التي يَتَعَمَّد فيها الغاية في الصلاح والبقاءِ، فلا يقدِرَ أن يزيدَ في مقدار مُدته شيئاً. * * * وقوله: (وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71) أي قد فضل الله الملَّاكَ عَلَى مَمَالِيكِهِمْ، فجعل المملوك لا يقدر عَلَى مِلْكٍ مع مولَاه وأعلم أن المالك ليس يَرُدُّ على مملوكه من فضل ما في يده حتى يستوي حالهما في المُلكِ. وقيل لهم: إنكم كلكم من بني آدم، وأنتم لا تسوون بينكم فيما ملكت أيمانكم، وأنتم كلكم بَشرٌ. فكيف تجعلون بعض الرزق الذي رزقكم اللَّه له، وبعضَهُ لأصنامكم، فتشركون بينَ اللَّهِ وبين الأصْنَامِ، وأنتم لا تَرْضَوْنَ لأنفسكم فيمن هو مثلكم بالشركَة. وقوله: (أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ). فيها وجهان: يجوز أن يكون "، أفَبِانْ أنْعَمَ الله عليكم اتًخَذْتُمْ النعم لتجحدوا وتشركوا به الأصنام. وجائز أن يكون (أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ) أفبما أنعم اللَّه عليكم بأن بَين لكم ما تحتاجون إليه تجحدون. * * * وقوله: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72) جاء في التفسير أن الله خلق حَواءَ مِنْ ضِلع من أضلاع آدم، فهو معنى جعَل لكُمْ من أنْفُسَكُمْ أزواجاً أي من جنسكم. وقوله: (وَجَعَلَ لكُمْ مِنْ أزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وحَفَدَة). اختلف الناس في تفسير الحَفَدَة، فقيل الأولاد، وقيل البنات وقيل الأختان، وقيل الأصْهَارُ، وقيل الأعْوَانُ. وحقيقة هذا أن اللَّه عزَّ وجلَّ جعل

(74)

من الأزواج بنين وَمَنْ يعاوِنُ على ما يحتاج إليه بِسُرْعَةٍ وطاعةٍ، يقال حَفَدَ يَحْفِدُ حَفْداً وحَفَداً وحَفَدَاناً إذا أسْرع. قال الشاعر: حَفَدَ الولائدُ حولهن وأَسلمتْ. . . بأَكُفِّهِنَّ أَزمَّةَ الأَجْمالِ معناهُ أسْرَعُوا في الخِدْمة. * * * وقوله: (فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74) أي لا تجعلوا لِلَّهِ مثلاً لأنه واحد لا مثل له، جلَّ وعزَّ، ولا إله إلَّا هُوَ - عَز وَجَل. ثم ضرب لهم المثل فقال: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75) فأَعلم اللَّه - جلَّ وعزَّ - أن الاثنين المتساويين في الخلق إذا كان أحدهما مقتدراً على الإنفاق مالكاً والآخر عاجزاً لا يقدر على أنْ ينفق لا يستويان. فكيف بين الحجارة التي لا تتحرك ولا تَعْقلُ وَبَيْنَ الله عزَّ وجلَّ الذي هو على كل شيء قديرٍ، وهو رازقٌ جميع خلقه، فبين لهم أمْرَ ضلالتهم وبُعْدِهم عن الطريق في عبادتهم الأوثان، ثم زاد في البيان فقال جلَّ وعزَّ: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76) والأبكم المطبق الذي لا يسمع ولا يُبْصِر ولا يَعْقِل، ثم قال: (وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ). أي على وَليِّه (أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ).

(77)

أي هل يستوي القَادر التام التمييز والعاجز الذي لا يحس ولا يأتي بخير، فكيف يسوون بين اللَّه وبين الأحجار. * * * وقوله: (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77) ومعناه - واللَّه أعلم -: وَلِلَّهِ عِلْمُ غيبِ السَّمَاوَاتِ والأرْضِ (وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ). والساعةُ اسم لإمَاتَةِ الخَلق وإحْيائِهِمْ. فأَعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أن البَعْثَ والإحْيَاءَ في قدرته ومشيئته (كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) ليس يريد أنَّ الساعةَ تأتي في أقربَ من لمح البصر، ولكنه يصف سرعة القدرة على الإتيان بها. * * * وقوله: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) و (إِمَّهَاتِكُمْ) - بالكسر -، والأصل في الأمَّهَاتٍ " أُمَّاتٌ، ولكن الهاء زيدت مُؤَكدةً كما زادوا هاء في قولهم أهْرَقْتُ الماءَ، وإنما أصله أرقت الماء. والأفئدة جمع فؤاد مثل غراب وأغربة. ولم يجمع فؤاد على أكثر العَدَدِ، لَمْ يُقَلْ فِئْدان، مثل غُرْابٍ، وَغِرْبَانٍ. ثم دلهم - سبحانه - على قُدْرَتِه عَلَى أمْرِ السَّاعَةِ بما شاهدوا من تدبيره فقال -: (أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79) (جَوِّ السَّمَاءِ) الهَوَاءُ البعيدُ من الأرض، وأبعد منه من الأرض السُكاكُ. ومثل السُّكَاكِ اللوح، وواحد السُّكَاكِ سُكاكة. * * * وقوله: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80)

(81)

أي مَوْضِعاً تسكُنُونَ فِيه. (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا). والأنعام اسم للإبل والبقر والغنم وقوله: (تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ). معنى تستخفونها، أي يخف عليكم حَمْلُها فيْ أسفاركم وإقَامَتِكُمْ. ويقرأ (يومَ ظعنِكُمْ)، وظَعَنِكُمْ. (وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ). الأوبار للِإبل، والأصواف للضأنِ، والأشعار للمعزِ. والأثَاثُ متاعُ البيتِ، ويقال لمتاع البيت أيضاً، الأهَرَة، ويقال: قد أثَّ يئيث أثًّا إذا صار ذا أثَاثٍ. * * * وقوله: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) أي جعل لكم من الشجر ما تَسْتَظِلونَ بِه (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا). واحد الأكنان كِن، على وَزْنِ حِمْل وأحْمَال، ولا يجوز أن يكونَ واحدها كناناً، لأن جمع الكنان أكنة. أي جعل لكم مَا يُكنِكمْ. (وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ). كل ما لَبسْتَه فَهو سربالٌ. من قميص أو دِرْع أو جَوْشَنن أو غيرِه، قال الله عزَّ وجلَّ: (سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ)، وقال (تَقِيكُمُ الْحَرَّ) ولم يقل تقيكم البردَ لأن ما وَقَى من الحر وَقى من البردِ.

(82)

وقوله: (وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ). أي جعل لكم دُرُوعاً تَتقُون بها في الحروب مِنَ بأسِ الحَدِيد وَغيره. وقوله: (كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ). أكثر القراء تُسْلِمُونَ، ويقرأ لعلكم تَسْلَمُونَ، أيْ لعلكُم إذَا لبستم الدروع في الحرب سَلِمْتُمْ من الجِرَاحِ، ثم قالَ بَعْدَ أنْ - بيَّنَ لهم الآيات: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82) أي عليك أن تبلغ الرِسالة وتأتي بالآيات الدالة على النبوة. * * * وقوله: (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83) أي يعرفون أن أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - حق ثم ينكرون ذلك. * * * وقوله: (وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86) أي لما رأى الذين أشركوا ما كانوا يشركون باللَّه غيْر نَافِعهِمْ وجحَدَتْهُمْ آلِهَتُهُمْ كما قال الله جلَّ وعزَّ: (كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82). * * * وقوله: (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88) روِي في التفسير أن الَّذِي زيدوا عقاربُ لها أنيابٌ كالنَحْلِ الطِوَالِ. وقيل أيضاً: إنهم يخرجون من حَرِّ النار إلى الزَمْهَرِير، فَيُبَادِرونَ من شدة برده إلى النَّارِ. * * * وقوله: (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89) كل نبي شاهدٌ عَلَى أمَّتِه، وهوأعدل شاهِدٍ عليها. وقوله: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ).

(91)

تبيان: اسم في معنى البيان، ومثل التِّبْيَان التِّلْقَاء، وَلَوْ قُرِئَتْ تَبْياناً على وزنِ تَفْعَال لكانَ وجهاً، لأن التَبيانَ في معنى التَبْيِينَ، ولا تجوز القراءة به لأنه لم يَقْرا به أحَد من القُراء. * * * وقوله: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) (وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا). يقال: وكَدتُ الأمْر، وأكَّدْتُ الأمْرَ. لغتان جَيِّدَتَانِ، والأصل الوَاوُ. والهمزة بدل منها. * * * وقوله: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) (أنْكَاثاً) منصوب لأنه في معنى المصْدَرِ لأن معنى نكثت نقَضْتُ، ومعنى نقضت نكثت، وواحد الأنقاض نِكث وهو ما نُقِضَ بعْدَ أن غزل. قال الشاعر:. ترعيَّةً تعرفُ الأرباعَ ضجعَتُه. . . له نِكَاث مِنَ الأنجادِ والفضلِ وقوله: (تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ). أي غِشا بينكم وَغِلًّا. و (دَخَلًا) منصوب لأنه مفعول له. المعنى: تتخذون أيمانكم للغش والدَّخَل، وكل ما دَخلهُ عيبٌ قيل هو مَدْخول، وفيه دَخَل. وقوله: (أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ). لتغتز إحْداهمَا بالأخرى، وأربى مأخوذَ من رَبَا الشيء يَرْبُو إذا كثر. * * * وقوله: (مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96) يقال نفِد الشيء ينْفَدُ نفاداً ونَفَداً إذا فَنِيَ.

(97)

وقوله: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97) (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً). قيل لَنَرْزُقنه حلَالاً، وقيل (حَيَاةً طيبةً) الجنةُ. وَمَوضع: (أرْبى) رَفْع. المعنى: أن تكون أمة هِيَ أكثرُ مِنْ أمةٍ. وزعم الفراء أن موضع (أرْبَى) نصب و " هِيَ " عمادٌ، وهذا خطأ، " هي " لا تدخل عماداً ولا فَصْلاً مع النِكرات. وشبههُ بقوله: (تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا). و" تجدوه " الهاء فيه معرفة، و (أمَّة) نكرة. * * * وقوله: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) معناه إذَا أردت أن تقرأ القرآن فاستعذ باللَّهِ من الشَيطَان الرجيم، ليس معناه استعذ باللَّهِ بعد أن تقرأ، لأن الاستعاذة أمِرَ بها قبلَ الابتداء، وهو مستعمل في الكلام، مثله إذا أكلت فقل بسم اللَّه، ومثله في القرآن: (إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) فالهيئة قبل الصلاة، والمعنى إذا أرَدْتُم ذلك فافعلوا. * * * وقوله: (وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) أي: إذا نسخت آية بآيَةٍ أخرى عليها فيها مَشَقة. (قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ). أي قالوا قد كذبتنا. * * * وقوله: (إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105)

(106)

أي: إنما يفتري الكذب الذِين إذا رَأوُا الآيَاتِ التي لا يقدِرُ عليها إلا اللَّهُ كذبُوا بها، فَهؤلاء أكذَبُ الكَذَبَةِ. * * * قوله: (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) (مَنْ) في موضع رفع على البدل مِنَ الكاذِبينَ ومُفَسِّر عن الكاذبين. ولا يجوز أن يكون (مَنْ) رَفعاً بالابتداء، لأنه لا خبر ههنا للابتداء، لأنَّ قوله: (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ). ليس بكلام تام، وبعده: (وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ). فقوله: (فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ) خبَرُ (مَنْ) التي بعد (لكن). * * * وقوله: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) أعلم اللَّه عزَّ وجلَّ نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - ما يقولونه بينهِم. وقوله: (لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ). ويُقْرأ " يَلْحِدُونَ "، أي لِسَانُ الذي يميلُون القَوْلَ إليه أعجمي. وقيل هذا غُلَام كان لحُويطب اسمُهُ عَايِش، أسلم وحسن إسْلاَمُه.

(109)

(وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ). يقال: عَرَبَ الِإنسان: يَعْرُبُ عُروبيَّةً وَعَرابةً وعُروبةً. وقوله: (مُبِينٌ). وصفه بالبيان كما وصفه بأنًه عَرَبِيٌّ، ومعنى عربيّ أن صاحبه يتكلم بالعَربية وَمَعْنَاهُ مُعْربٌ: (مُبِينٌ). * * * وقوله: (لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109) " أنَّ " يصلح أن تكون في موضع رَفِع على أنَّ " لَا " رَدٌّ للكلام، والمعنى وجب أنَّهُمْ، ويجوز أن تكون " أن " في موضع نَصْبٍ على أن المعنى جَرَمَ فِعْلُهُمْ هذا أنهم في الآخرةِ همُ الخَاسِرُونَ. ومعنى جَرَمَ كَسَب، والمجرم الكاسِبُ، وأكثر ما يستعمل للذنوب. * * * وقوله: (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) أي من بعد الفَعْلِةِ التي فعلوها. وهذه الآية في قصة عمَّا ربن ياسِر وأصحابه حين عذبَهُمْ أَهْلُ مَكًةَ فأَكْرَهُوهم على أن تركوا الإيمان، وكفروا بألسنتهم وفي قُلُوبهم ونيَّاتهم الإيمانُ، ثم هربوا منهم وهاجروا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فلحقهم جمع من أَهل مكة فقاتلوهم حتى نجَّاهم الله منهم، وصبروا على جهادهم. * * * وقوله: (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111)

(112)

(يوم) منصوب على أحدِ شيئين، على معنى (إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ، يَوْمَ تأتي) ويجوز أن يكون بمعنى اذْكر لأن معنى القرآن العِظَة والِإنْذَارُ والتذكِير. أي اذكر يوم تأتي كل نفس أي كل إنسانٍ يُجَادِلُ عن نفسه. ويروى أنه إذا كان يومُ القيامة زَفَرَتْ جهنَّمُ زَفْرةً فلا يبقى ملك مقَرَّبٌ ولا نبى مُرْسَلٌ إلا جَثَا عَلَى رُكبَتَيه، وقال يا رب نَفْسِي نَفْسِي، وتصديق هذا قوله تعالى: (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35). . الآية. * * * وقوله: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112) المعنى - واللَّه أعلم - وضرب الله مَثَلاً مثلَ قريةٍ كانت آمنَةً مطْمئنةً. (يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ). أي وَاسِعاً من كل مكان. الذي جاء في التفسير أنه. يعني بها مكة، وذلك أنهم كانوا قد أمنوا الجُوعَ والخوفَ لأن اللَّه جل ثناؤه جَعَلَ أفْئِدَةً من الناس تهوي إليهم. فأرْزَاقُهُمْ تَأتيهم في بلدهم وكان حَرَماً آمِناً ويُتَخَطف الناس من حولهم. (فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ). وقد جاعوا حتى بلغوا إلى أن أكلوا الوبر بالدَّم، وبلغ منهم الجوع الحال التي لا غَايَةَ بعْدَها. وأنْعُم جمع نعمة، وقالوا شِدَّة، وأشُدّ. وقال قطرب: جائز أن يكون جمع نُعْم وأنْعُم، مثل بُؤْس وأَبْؤُس. * * * وقوله: (وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113) عَذبهمُ اللَّهُ بالسيف والقَتْلِ.

_ (1) قال السَّمين: وقوله: {بِأَنْعُمِ الله} أتى بجمعِ القلَّةِ، ولم يَقُلْ «بِنِعَمِ الله» جمعَ كثرةٍ تنبيهاً بالأدْنى على الأَعْلى؛ لأنَّ العذابَ إذا كان على كُفْرانِ الشيءِ القليلِ فكونُه على النِّعَم الكثيرةِ أَوْلَى. و «أنْعُم» فيها قولان، أحدُهما: أنها جمعُ «نِعْمةٍ» نحو: شِدَّة: أَشُدّ. قال الزمخشري: «جمعُ» نِعمة «على تَرْكِ الاعتداد بالتاء كَدِرْع وأَدْرُع». وقال قطرب: «هي جمع نُعْم، والنُّعْمُ: النَّعيم، يقال:» هذه أيامُ طُعْم ونُعْم «. وفي الحديث:» نادى مُنادي رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بالمَوْسِم بمنى: «إنها أيام طُعْمٍ ونُعْمٍ فلا تَصُوموا». اهـ (الدر المصون).

(116)

وقوله: (وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) في الكذب ثلاثة أوجه (1)، قُرئت الكَذِبَ، وقرئت الكُذُبُ، وقرِئَتِ الكذبِ، فمن قرأ - وهُوَ أكثرُ القِرَاءَةِ - الكذِبَ فالمعنى: ولا تقولوا لوصفَ ألسنتكم الكذِبَ: (هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ). ومن قرأ الكذبِ كان رَدًّا على مَا المعنى: ولا تقولوا لِوصْفِ ألسنَتِكُمُ الكذب. ومن قرأ الكُذُبُ فهو نعتُ للألسنة، يقال لِسَان كذُوبٌ وألْسِنَة كُذُوبٌ. وهذا إنما قيل لهم لِمَا كانوا حَرمُوه وأحَلوه، فقالوا: (مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا). وقد شرحنا ذلك في موضعه. * * * وقوله: (مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117) المعنى مَتاعهم هذا الذي فعلوه متاعِ قليل. ولو كان في غير القرآن لجاز فيه النَّصْبُ: متاعاً قليلاً، على أن المعنى يَتمتعُونَ كذلك مَتَاعاً قليلاً. * * * وقوله: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) جاء في التفسير أنه كان آمَنَ وَحْدَهُ، وفي أكثر التفسير أنه كان مُعلِّماً للخير وإمَاماً حَنِيفاً قيل أخِذَ بالخِتَانَةِ. وحقيقته في اللغة أن الحنيف المائل إلى الشيء لا يزول عنه أبداً، فكان عليه السلام مائلاً إلى الِإسلام غير زائل عنه. وقالوا في القانِتِ هو المطيع، والقانِتُ القائم بجميع أمر الله - جلَّ وعزَّ -. وقوله: (وَلَمْ يَكُ مِنَ المُشْرِكِينَ). (لَمْ يَكُ) أصلها لم يكن، وإنما حُذفَتِ النونُ عند سيبويه لكثرة استعمال هذا الحرف، وذكر الجلة من البصريين أنه اجتمع فيها كثرة الاستعمال، وأنها عبارة عن كل ما يَمْضي من الأفعال وما يُستَانَفُ، وأنها مع ذلك قد أشبهت

_ (1) قال جار الله الزمخشري: وانتصاب {الكذب} بلا تقولوا، على: ولا تقولوا الكذب لما تصفه ألسنتكم من البهائم بالحل والحرمة في قولكم {مَا فِى بُطُونِ هذه الأنعام خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ على أزواجنا} [الأنعام: 139] من غير استناد ذلك الوصف إلى وحي من الله أو إلى قياس مستند إليه، واللام مثلهافي قولك: ولا تقولوا لما أحل الله هو حرام. وقوله: {هذا حلال وهذا حَرَامٌ} بدل من الكذب. ويجوز أن يتعلق بتصف على إرادة القول، أي: ولا تقولوا الكذب لما تصفه ألسنتكم، فتقول هذا حلال وهذا حرام. ولك أن تنصب الكذب بتصف، وتجعل «ما» مصدرية، وتعلق {هذا حلال وهذا حَرَامٌ} بلا تقولوا: على ولا تقولوا هذا حلال وهذا حرام لوصف ألسنتكم الكذب، أي: لا تحرموا ولا تحللوا لأجل قول تنطق به ألسنتكم ويجول في أفواهكم، لا لأجل حجة وبينة، ولكن قول ساذج ودعوى فارغة. فإن قلت: ما معنى وصف ألسنتهم الكذب؟ قلت: هو من فصيح الكلام وبليغه، جعل قولهم كأنه عين الكذب ومحضه، فإذا نطقت به ألسنتهم فقد حلت الكذب بحليته وصوّرته بصورته، كقولهم: وجهها يصف الجمال. وعينها تصف السحر. وقرىء: «الكذب» بالجرّ صفة لما المصدرية، كأنه قيل: لوصفها الكذب، بمعنى الكاذب، كقوله تعالى {بِدَمٍ كَذِبٍ} [يوسف: 18] والمراد بالوصف: وصفها البهائم بالحل والحرمة. وقرىء: «الكذب» جمع كذوب بالرفع، صفة للألسنة، وبالنصب على الشتم. أو بمعنى: الكلم الكواذب، أو هو جمع الكذاب من قولك: كذب كذاباً، ذكره ابن جني. اهـ (الكشاف. 2/ 640 - 641) وقال السَّمين: قوله تعالى: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكذب}: العامَّةُ على فتحِ الكافِ وكسرِ الذالِ ونصب الباءِ. وفيه أربعةُ أوجهٍ، أظهرُها: أنه منصوبٌ على المفعولِ به وناصبُه «تَصِفُ» و «ما» مصدريةٌ، ويكونُ معمولُ القولِ الجملةَ مِنْ قوله {هذا حَلاَلٌ وهذا حَرَامٌ} و {لِمَا تَصِفُ} علةٌ للنهي عن القول ذلك، أي: ولا تقولوا: هذا حَلالٌ وهذا حَرامٌ لأجل وَصْفِ ألسنتِكم الكذبَ، وإلى هذا نحا الزجَّاجُ والكسائيُّ، والمعنى: لا تُحَلِّلوا ولا تُحَرِّمُوا لأجلِ قولٍ تَنْطِقُ به ألسنتُكم من غير حُجَّةٍ. الثاني: أن ينتصِب مفعولاً به للقولِ، ويكون قوله: {هذا حَلاَلٌ} بدلاً مِنَ «الكذب» لأنه عينُه، أو يكون مفعولاً بمضمرٍ، أي: فيقولوا: هذا حَلالٌ وهذا حَرامٌ، و {لِمَا تَصِفُ} علةٌ أيضاً، والتقديرُ: ولا تقولوا الكذب لوصفِ ألسنتِكم. وهل يجوزُ أن تكونَ المسألةُ من التنازعِ على هذا الوجهِ، وذلك: أن القولَ يَطْلُبُ «الكذب» و «تَصِفُ» أيضاً يطلبه، أي: ولا تَقُولْوا الكذب لما تصفه ألسنتُكم؟ فيه نظرٌ. الثالث: أن ينتصِبَ على البدلِ من العائدِ المحذوف على «ما» إذا قلنا: إنها بمعنى الذي؛ التقدير: لِما تصفُه، ذكر ذلك الحوفيُّ وأبو البقاء. الرابع: أن ينتصبَ بإضمار أعني، ذكره أبو البقاء، ولا حاجةَ إليه، ولا معنى عليه. وقرأ الحسن وابن يعمر وطلحةُ «الكذبِ» بالخفضِ وفيه وجهان، أحدُهما: أنه بدلٌ من الموصولِ، أي: ولا تقولوا لوصفِ ألسنتِكم الكذبِ، أو للذي تصفه ألسنتكم الكذبِ، جعله نفسَ الكذبِ لأنه هو. والثاني: ذكره الزمخشري أن يكون نعتاً ل «ما» المصدرية. ورَدَّه الشيخُ: بأنَّ النحاةَ نصُّوا على أن المصدرَ المنسبكَ مِنْ أنْ والفعلِ لا يُنْعَتُ، لا يُقال «يعجبني أن تخرجَ السريعُ» ولا فرقَ بين هذا وبين باقي الحروفِ المصدرية. وقرأ ابن أبي عبلة ومعاذ بن جبل بضمِّ الكاف والذال، ورفعِ الباءِ صفةً للألسنة كصَبُور وصُبُر، أو جمع كاذِب كشارِف وشُرُف، أو جمع «كِذاب» نحو: كِتاب وكُتُب. وقرأ مَسْلَمَةُ بنُ محارِبٍ فيما نقله ابن عطية كذلك، إلا أنَّه نصب الباءَ، وفيه ثلاثةُ أوجهٍ، ذكرها الزمخشري. أحدُها: أن تكونَ منصوبةً على الشتم، يعني وهي في الأصل نعتٌ للألسنة كما في القراءة قبلها. الثاني: أن تكون بمعنى الكَلِمِ الكواذب، يعني أنها مفعولٌ بها، والعامل فيها: إمَّا «تَصِفُ»، وإمَّا القولُ على ما مرَّ، أي: لا تقولوا الكَلِمَ الكواذبَ، أو لِمَا تَصِفُ ألسنتُكم الكلمَ الكواذبَ. الثالث: أن يكونَ جمع الكِذاب مِنْ قولِك «كَذِب كِذاباً» يعني فيكون منصوباً على المصدر؛ لأنه مِنْ معنى وَصْفِ الألسنةِ فيكون نحو: كُتُب في جمع كِتاب، وقد قرأ الكسائيُّ: {وَلاَ كِذَاباً} بالتخفيف كما سيأتي في النبأ. اهـ (الدر المصون).

(124)

حُرُوفَ اللين لأنها تكون عَلَامةً كما تكون حروف اللين عَلامةً، وأنها غُنة تخرج من الأنف. فلذلك احتملت الحذف. * * * وقوله: (إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124) الكلام يَدُل على أنهم ألزموا آيَة نبوة موسى عليه السلام. وجاء في التفسير أنه حرمَهُ بعضُهم وأحلَّه بَعضُهم. وهَذَا أدَلُّ ما جاء من الاختلاف في السبت، وقد جاء كثير في التفسير أنهم أُمِرُوا بأن يَتَّخِذُوا عِيداً فخالفوا وقالوا نريد يوم السبت لأنه آخر يوم فرغَ فيه من خَلْق السَّمَاوَات والأرض، وأن عِيسَى أمر النصارى أن يَتَخِذوا الجمعة عيداً فقالوا لا يكون عيدُنا إلا بَعْدَ عِيد إليهودِ فجعلوه الأحَدَ، واللَّه أعلم بحقيقة ذلك. * * * وقوله: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) جاء في التفسير: (الْحِكْمَة) النبوة، و (الموعظة) القرآنُ. (وَجَادِلهُمْ بالتي هِي أحْسَنُ). أي جادلهم غير فَظ ولَا غَليظِ القَلْب في ذلك. ألِنْ لَهُم جَانِبَكَ. * * * (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) سُمِّيَ الأولُ عقوبةً، وإنما العقوبة الثاني - لازدواج الكلام لأن الجنسين في الفعل معنى واحد. ومثله: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا) فالثاني ليس بِسيئَةٍ ولكنه سُمِّيَ به ليتفق اللفظ، لأن معنى القتل وَاحِد وقد بَيَّنَّا نظير هذا في سورة آل عمران في قوله: (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ). وجاء في التفسير أن المسلمين هَمُّوا بأن يمثِّلوا بالمشركين، لأنهم كانوا

(127)

قد مَثَّلوا بهمْ، فَهَمَّ المسلمون بأن يزيدوا في المُثْلَةِ، فأمروا بأن لا يزيدوا وجائز - واللَّه أعلم - أن يكون معنى: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا) أي من فُعِلَ به ما يَجِبُ فِيه القِصَاصُ فلا يُجَاوِز القِصَاصَ إلا بِمثلٍ. * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ). هو مثل قوله: (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ). * * * وقوله: (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) ضَيْق، في معنى ضَيِّق مخَفَف، مثل مَيْتَ وميِّتٍ. وجائز أن يكون بمعنى الضِّيقِ، فيكون مصدراً لقولك ضاق الشيء يضيق ضَيْقاً. * * * وقوله: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128) أي إن اللَّهَ نَاصِرُهُمْ، كما قال: (لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا). فقد وَعَدَ في هذه الآيَةِ بالنَّصرِ.

سورة الإسراء

سورة الإسْرَاءِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله - عزَّ وجلَّ - (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَا الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1) (سبحان) منصوب على المصدر، المعنى: أسبح الله تسبيحاً. ومعنى سبحان اللَّه في اللغة تنزيه اللَّه عن السوء، وكذلك ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقوله: (أسْرَى بعَبْده لَيْلاً). معناه سَير عبدَه، يقال أسْرَيْتُ وسَرَيْتُ إذَا سِرْتُ ليْلاً، وقد جاءت اللغتان في القرآن، قال اللَّه جلَّ وعزَّ: (واللَّيْلِ إذَا يَسْرِ) هذا من سَرَيْتُ ومعنى يَسْرِي يمضي. أسرى اللَّهُ سبحانه بالنبي - صلى الله عليه وسلم - من المسجد الحرام وهو مكة، والحرم كله مسجد، فأسرى الله به في ليلة واحدة من المسجد الحرام من مكة إلى بيت المقدس وهو قوله - جلَّ وعزَّ: (إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَا الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ). أجرى اللَّه حول بيت المقدس الأنهار وأنبت الثمار، فذلك مَعْنَى باركنا حوله.

(2)

(لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا). أي لِنُرِيَ محمداً. فأراه الله في تلك الليلة من الأنبياء، وآياتهم ما أخْبَرَ بِه في غَدِ تلكَ الليلة أهلَ مكةَ فقالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - إن لنا في طريق الشام إبلاً فأخبرنا خبرها، فَخَبَّرهُم بخبرها، فقالوا فمتى تقدم الإِبل علينا، فأخبرهم أنها تَقدُمُ في يوم سَمَّاهُ لهُمْ مع شروق الشمس، وأنه تقدمها جمل أورق، فخرجوا في ذلك اليوم، فقال قائل: هذه الشمس قد أشرقت، وقال آخر فهذه الِإبل قد أقبلت يقدمها جمل أورق كما قال محمد - صلى الله عليه وسلم - فلم يؤمنوا بعد ذلك. * * * وقوله: (وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2) أي دللناهم به على الهدى. (أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا). أي لا تتوكلوا على غيري ولا تتخذوا مِنْ دُونِي رَبًّا. * * * وقوله: (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3) القراءة بنصب (ذُرِّيَّةَ). وقرأ بعضهم (ذِرِّيَّةَ) - بكسر الذال - والضم أكثر. وذُرِّية فُعْليَّة من الذر، وهي منصوبة على النداء، كذا أكثرُ الأقوالِ المعنى: يا ذُرِّيَّةَ من حملنا مع نوح. وإنما ذكروا بنعم اللَّه عندهم أنه أنجى أبناءهم من الغرق بأنهم حملوا مع نوح. ويجوز النصب على معنى ألا تتخِذُوا (ذُرِّيَّةً) من حملنا مع نوحٍ من دوني وكيلاً، فيكون الفعل، تعدى إلى الذريَّة وإلى الوكيل، تقول: اتخذت زيداً وكيلاً، ويجوز (أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا) على معنى: (وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ). ويجوز الرفعُ في (ذُرِّيَّة) على البدل من الواو، والمعنى (أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا) أي لا تتخذوا من دوني وَكيلًا (ذُرِّيَّةُ)، ولا تقرأنَّ بها إلا أن تثبت بها

(4)

رواية صحيحة، فإن القراءة سنة لا يجوز أن ثخالف بما يجوز في العربية. * * * وقوله: (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) معناه أعلمناهم في الكتاب، وأوحينا إليهم، ومثل ذلك قوله: (وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ). ومعناه وأوحينا إليه. وقوله: (فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ) معناه خلقهن وفرغ منهن، ومثل هذا في الشعر قوله: وعليهما مسرودتان قضاهما. . . داودُ أو صَنَع السَّوابغَ تبَّع معناه عملهما. وجملة هذا الباب أن كل ما عُمِلَ عَمَلاً محكماً فقد قضِيَ، وإنما قيل للحاكم قاض لأنه إذا أمر أمراً لم يُرَدَّ أمْره، فالقضاء قَطْع الأشياء عن إحْكامٍ. والمعنى إنا أوحينا إليهم لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا،. معناه لَتَعْظٌمُنَ ولَتَبْغنَّ، لأنه يقال لكل متجبِّرٍ قَدْ عَلَا وتعظَّمَ. * * * وقوله: (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5) المعنى فإذا جاء وعد أُولى المرتين. (بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ). يروى أنه بعث عليهم بختنصر. (فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ). أي فطافوا في خلالِ الديارِ ينظرون هل بقي أحد لَمْ يَقْتلوه، والجَوْس طلب الشيء باستقصاء.

(6)

وقوله: (ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) أي رددنا لكم الدولة. (وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا). أي جعلناكم أكثر منهم نُصَّاراً، ويجوز أن يكون نفيراً جمع نَفْرٍ كما يقال: العبيد والكليب والضّئين والمعيز. و (نَفِيرًا) منصوب على التَمييز. * * * وقوله: (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7) (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ). وتقرأ (لِيَسُوءَ وجُوهَكُمْ) (1) المعنى فإن جاء وعد الآخرة ليسوء الوعدُ وجُوهَكم. ومن قرأ (لِيَسُوءُوا) فالمعنى ليسوء هؤلاء القومُ وجوهكم. وقد قرئت (لَنَسُوءً وُجُوهَكُمْ) - بالنون الخفيفة - ومعناه لَيَسُوء الوعدُ وجوهَكم، والوقف عليها لَيُسُوءًا. والأجود ليسوءَ بغير نونٍ، وليسُوءُوا. ويجوز: لِيَسُوءْ وجوهكم، ويكون الفعل للوَعْدِ على الأمر، ولا تقرأ به، ويجوز لِنَسوءَ بالنون في موضع الياء. وقوله: (وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا). معناه ليُدَمِّرُوا، ويقال لكل شيء منكسر من الزُّجَاجِ والحديد والذَّهَبِ تِبْرٌ، ومعنى (مَا عَلَوْا) أي ليُدَمِّرُوا في حَالِ عُلُوِّهِمْ عليكم. * * * وقوله: (عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8) (وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا) معناه حَبْساً، أخِذَ من قوله: حصرتُ الرَّجُلَ إذَا حَبَستُه فهو محصور وهذا حَصِيرُهُ أي مَحْبِسُهُ، والحصير المنسوج إنما سميَ حصيراً لأنه حصرت

_ (1) قال السَّمين: وقوله: {لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ} متعلقٌ بهذا الجوابِ المقدرِ. وقرأ ابن عامر وحمزة وأبو بكر «لِيَسُوْءَ» بالياءِ المفتوحةِ وهمزةٍ مفتوحةٍ آخرَ الفعل. والفاعلُ: إمَّا اللهُ تعالى، وإمَّا الوعدُ، وإمَّا البعثُ، وإمَّا النفيرُ. والكسائيُّ «لِنَسُوءَ» بنونِ العظمة، أي: لِنَسُوءَ نحن، وهو موافِقٌ لِما قبلَه مِنْ قولِه «بَعَثْنا عباداً لنا» و «رَدَدْنا» و «أَمْدَدْنا»، وما بعده من قوله: «عُدْنا» و «جَعَلْنا». وقرأ الباقون: «لِيَسُوْءُوا» مسنداً إلى ضميرِ الجمع العائد على العِباد، أو على النفير؛ لأنه اسمُ جمعٍ، وهو موافِقٌ لِما بعدَه من قوله {وَلِيَدْخُلُواْ المسجد كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ}. وفي عَوْدِ الضمير على النفير نظرٌ؛ لأنَّ النفيرَ المذكورَ من المخاطبين، فكيف يُوصف ذلك النفيرُ بأنه يَسُوْء وجوهَهم؟ اللهم إلا أنْ يريدَ هذا القائلَ أنه عائدٌ على لفظِه دون معناه، من بابِ «عندي درهمٌ ونصفُه». وقرأ أُبَيٌّ «لِنَسُوْءَنْ» بلامِ الأمرِ ونونِ التوكيدِ الخفيفة ونونِ العظمة، وهذا جوابٌ ل «إذا»، ولكن على حَذْفِ الفاء، أي «فَلِنَسُوْءَنْ، ودخلت لامُ الأمرِ على فعلِ المتكلمِ كقولِه تعالى: {وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} [العنكبوت: 12]. وقرأ عليُّ بنُ أبي طالب» لَيَسُوْءَنَّ «و» وَلَنَسوْءَنَّ «بالياء أو النون التي للعظمةِ، ونونِ التوكيدِ الشديدة، واللامِ التي للقسَمِ. وفي مصحف اُبَيّ» لِيَسُوْءُ «بضمِّ الهمزة من غيرِ واوٍ، وهذه القراءةُ تشبه أَنْ تكونَ على لغةِ مَنْ يَجْتَزِئُ عن الواوِ بالضمة، كقوله: 3031 - فلوْ أنَّ الأطبَّا كانُ حولي. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . يريد:» كانوا «. وقولِ الآخر: 3032 - إذا ما الناسُ جاعُ وأَجْدَبُوا. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . يريد» جاعُوا «، فكذا هذه القراءةُ، أي: لِيَسُوْءُوا، كما في القراءةِ الشهيرة، فَحَذَفَ الوَاو. وقرئ» لِيَسْيء «بضمِّ الياءِ وكسرِ السينِ وياءٍ بعدها، أي: ليُقَبِّحَ اللهُ وجوهكم، أو ليقبِّح الوعدُ، أو البعثُ. وفي مصحفِ أنس» وَجْهَكم «بالإِفرادِ كقوله: 3033 - كُلوا في بعضِ بطنِكُمُ تَعِفُّوا. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . [وكقوله:] 3034 - . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . في حَلْقِكم عَظْمٌ وقد شَجِيْنا [وكقوله:] 3035 - . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وأمَّا جِلْدُها فَصَلِيْبُ. اهـ (الدر المصون).

(9)

طاقاته بعضها مع بعفى. والجَنْبُ يقال له الحصير لأن بعض الأضلاع محصورٌ مع بعض. * * * وقوله: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) أي للحال التي هي أقوم الحالات، وهي توحيد اللَّه - عزَّ وجلَّ - أي شهادة أن لَا إلهَ إلا اللَّه والإيمان بِرُسلِهِ، والعملُ بطاعتِه، وهذه صفة الحال التي هي أقوم الحالات. * * * وقوله: (وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11) المعنى أن الإنسان رُبَّما دَعَا على نفسه وولده وأهله بالشرِ غَضَباً كما يدعو لنفسه بالخير، وهذا لم يُعَرَّ منه بشرٌ. ويروى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رفع إلى سَوْدةَ بنت زَمْعَةَ أسيراً، فأقْبَلَ يئن باللَّيْلِ، فقالت له: ما بالُك تَئِن فشكا ألَمَ القَيدِ والأسْرِ. فأرْخَتْ مِن كِتَافه، فلما نامت أخرج يده وهرب، فلما أصبح النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا به فأعلم شأنه، فقال اللهم اقطع يديها، فرفعت سودة يديها تتوقع الاستجابة، وأن يقطع الله يديها، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - وإني سألت الله أن يجعل دعائي ولعْنتي على من لا يستحق من أهلي رحمةً، فقولوا لها لأني بَشرٌ أغضب كما يغضب البشر لْتَردُدْ سودة يديها. فأَعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أن الإنسان خلق عجولاً، فهذا ضلق عليه جملةُ البشَرِ من آدم إلى آخر ولده. والإنسان ههنا في معنى الناس.

_ (1) الرواية لعائشة وليست لسودة بنت زمعة - رضي الله عنهما - وهذا نصها عند الإمام أحمد 23125 - حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنِ ابْنِ أَبِى ذِئْبٍ قَالَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ عَنْ ذَكْوَانَ مَوْلَى عَائِشَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَسِيرٍ فَلَهَوْتُ عَنْهُ فَذَهَبَ فَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مَا فَعَلَ الْأَسِيرُ قَالَتْ لَهَوْتُ عَنْهُ مَعَ النِّسْوَةِ فَخَرَجَ فَقَالَ مَا لَكِ قَطَعَ اللَّهُ يَدَكِ أَوْ يَدَيْكِ فَخَرَجَ فَآذَنَ بِهِ النَّاسَ فَطَلَبُوهُ فَجَاءُوا بِهِ فَدَخَلَ عَلَيَّ وَأَنَا أُقَلِّبُ يَدَيَّ فَقَالَ مَا لَكِ أَجُنِنْتِ قُلْتُ دَعَوْتَ عَلَيَّ فَأَنَا أُقَلِّبُ يَدَيَّ أَنْظُرُ أَيُّهُمَا يُقْطَعَانِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَرَفَعَ يَدَيْهِ مَدًّا وَقَالَ اللَّهُمَّ إِنِّي بَشَرٌ أَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُ الْبَشَرُ فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ أَوْ مُؤْمِنَةٍ دَعَوْتُ عَلَيْهِ فَاجْعَلْهُ لَهُ زَكَاةً وَطُهُورًا".

(12)

وقوله: (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12) أي علامتين يدلان على أن خالقهما واحد ليس كمثله شيء وتدلان على عدد السنين والحساب. (فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ). أي جعلنا آية الليل دليلة عليه بظلمتِه. (وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ). أي جعلناها تضيء لكم لتبْصِروا كيف تَصَرَّفًونَ في أعمالكم (وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ). وُيرْوَى أن القمر كان في ضياء الشمس فمحا اللَّه ضياءه بالسواد الذي جَعَلَ فيه. (وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا). أي بَيَّنَاهً تَبييناً لا يلتبس مَعَه بغيره، والاختيار النَّصْبُ في. " كلَّ ". المعنى في النصب: لِتَبْتَغُوا فضلاً من ربكم ولتعلموا عدد السنين، وفصلنا كل شيء تفصيلاً. و (كلَّ) منصوب بفعل مضمر الذي ظهر يفَسِّرهُ، وهو (فصلْنَاهُ) ويجوز (وَكلُّ شَيْءٍ فصلناه تفصيلاً). وكذلك النصْب والرفع في قوله: (وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) إلا إني لا أعلم أحداً قرأ بالرفع. وجاء في التفسير: طائره، أي خَيْرُه وشَرُّه، وهو - واللَّه أعلم - ما يُتَطيَّر من مثله من شيء عمله كما قَالَ (لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ)، وكما يُقال للِإنسان إثْمِي في عُنُقِك، وإنما يقال للشيء اللازم له: هذا في عُنق الِإنْسَان، أي لُزُومه له كلزوم القلادة له من بين ما يُلبس في العنق. (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13)

(14)

وفي هذه أربعة أوجه: وتُخْرَجُ له، ويُخْرِجُ له، أي ويُخْرِجُ اللَّهُ لَه. ويُخْرُجُ له. أي ويُخْرُجُ عملهُ لَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ كتاباً، وكذلك يخْرَج له عمله يوم القيامة. (كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا) منصوب على الحال. وقوله: (اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14) (بنفسك) في موضع رفع، وإن كان مجروراً بالباء، ولو كان في غير القرآن جاز. . كفى بنفسكَ اليوم حسيبة، والمعنى كفت نفسك حسيبة، أي إذا كنت تشهد على نفسك فكفاك بهذا. و (حَسِيبًا) منصوب على التمييز. * * * وقوله: (مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15) (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) يقال: وَزَرَ يَزِرُ فهو وَازر وَزْراً، وَوِزْراً، وزِرَة، ومعناه أثِمَ يَأثَمُ إثماً. وفي تأويل هذه الآية وجهان: أحدهما أن الآثِمَ والمُذْنِبَ، لا يؤخذ بذنبه غيرُهُ، والوجه الثاني أنه لا ينبغي للإنسان أن يعمل بالإثم لأن غيره عمله كما قالت الكفار: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ). وقوله: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا). أي حتى نبين ما به نُعَذبُ، وما من أجْله نُدْخِلُ الجنةَ. * * * وقوله: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16) تقرأ أمَرْنَا مخففَةً على تقدير فعلنا (1)، وتقرأ آمرنا مترفيها على تقدير أفعلنا. ويقرأ أمَّرْنا - بتشديد الميم -، فأما من قرأ بالتخفيف فهو من الأمر، المعنى أمرناهم بالطاعة ففسقوا. فإن قال قائل: ألست تقول: أمرت زيداً فضرب عمراً، فالمعنى أنك أمرته أن يضرب عمرا فضربه، فهذا اللفظ لا يدل على

_ (1) قال السَّمين: قوله تعالى: {أَمَرْنَا}: قرأ العامَّةُ بالقصرِ والتخفيفِ وفيه وجهان، أحدُهما: أنه من الأمرِ الذي هو ضِدُّ النهيِ. ثم اختلف القائلون بذلك في متعلَّق هذا الأمرِ: فعن ابن عباس في آخرين: أنه أَمَرْناهم بالطاعةِ فَفَسَقُوا، وقد ردَّ هذا الزمخشريُّ رداً شديداً وأنكره إنكاراً بليغاً في كلامٍ طويلٍ، حاصلُه: أنه حَذْفُ ما لا دليلَ عليه، وقدَّر هو متعلِّق الأمرِ: الفسق، أي: أَمَرْناهم بالفسق قال: «أي: أَمَرْناهم بالفِسْق، فعملوا، والأمرُ مجازٌ؛ لأنَّ حقيقةَ أمرِهم بالفسقِ أَنْ يقول لهم: افْسُقوا، وهذا لا يكونُ، فبقي أن يكونَ مجازاً. ووجهُ المجازِ: أنه صَبَّ عليهم النعمة صَبَّاً، فجعلوها ذريعةً إلى المعاصي واتِّباع الشهوات، فكأنهم مَأمورون بذلك لِتَسَبُّبِ إيلاءِ النِّعْمَةِ فيه، وإنما خَوَّلهم فيها ليشكروا». ثم قال: «فإنْ قلت: فهلاَّ زَعَمْتَ أنَّ معناه: أَمَرْناهم بالطاعةِ ففسَقُوا. قلت: لأنَّ حَذْفَ ما لا دليلَ عليه غيرُ جائزٍ، فكيف حَذْفُ ما الدليلُ قائمٌ على نَقِيضِه؟ وذلك أنَّ المأمورَ به إنما حُذِفَ لأنَّ» فَفَسَقُوا «يدلُّ عليه، وهو كلامٌ مستفيضٌ يقال:» أَمَرْتُه فَقام «، و» أَمَرْتُه فَقَرأ «، لا يُفهم منه إلا أنَّ المأمورَ به قيامُ أو قراءةُ، ولو ذَهَبْتَ تُقَدِّر غيرَه رُمْتَ مِنْ مخاطَبِك عِلْمَ الغيبِ، ولا يَلْزَمُ [على] هذا قولُهم: و» أَمَرْتُه فعصاني «أو» فلم يمتثلْ «لأنَّ ذلك منافٍ للأمرِ مناقِضٌ له، ولا يكونُ ما يناقض الأمرَ مأموراً به، فكان محالاً أن يُقْصَدَ أصلاً حتى يُجْعَلَ دالاًّ على المأمورِ به، فكان المأمورُ به في هذا الكلامِ غيرَ مَنْوِيٍّ ولا مُرادٍ؛ لأن مَنْ يتكلمُ بهذا الكلامِ لا يَنْوي لآمرهِ مأموراً به، فكأنه يقول: كان مني أَمْرٌ فكان منه طاعةٌ، كما أنَّ مَنْ يقول: [» فلان] يبأمرُ ويَنْهى ويعطي ويمنع «لا يَقْصِدُ مفعولاً. فإن قلت: هلاَّ كان ثبوتُ العلمِ بأنَّ اللهَ لا يأمرُ بالفحشاء دليلاً على أنَّ المراد: أَمَرْناهم بالخيرِ، قلت: لأنَّ قوله» فَفَسَقوا «يدافعه، فكأنَّك أظهَرْتَ شيئاً وأنت تُضْمِرُ خلافَه، ونظيرُ» أمر «:» شاء «في أنَّ مفعولَه استفاضَ حَذْفُ مفعولِه لدلالةِ ما بعدَه عليه. تقول: لو شاءَ لأحسنَ إليك، ولو شاءَ لأساءَ إليك، تريد: لو شاء الإِحسانَ، ولو شاء الإِساءةَ، ولو ذَهَبْتَ تُضْمِرُ خلافَ ما أظهرْتَ، وقلت: قد دَلَّتْ حالُ مَنْ أُسْنِدَتْ إليه المشيئةُ أنه من أهلِ الإِحسان أو من أهلِ الإِساءةِ فاتركِ الظاهرَ المنطوقَ وأَضْمِرْ ما دَلَّتْ عليه حالُ المسندِ إليه المشيئةُ، لم تكنْ على سَدادٍ». وتَتَبَّعه الشيخُ في هذا فقال: «أمَّا ما ارتكبه من المجاز فبعيدٌ جداً، وأمَّا قولُه:» لأنَّ حَذْفَ ما لا دليلَ عليه غيرُ جائزٍ «فتعليلٌ لا يَصِحُّ فيما نحن بسبيلِه، بل ثَمَّ ما يَدُلُّ على حَذْفِه. وقوله: «فكيف يُحْذَفُ ما الدليلُ على نقيضِه قائمٌ» إلى «عِلْم/ الغيب» فنقول: حَذْفُ الشيءِ تارةً يكونُ لدلالةِ موافِقِه عليه، ومنه ما مَثَّل به في قولِه «أَمَرْتُه فقامَ»، وتارة يكونُ لدلالةِ خِلافِه أو ضدِّه أو نقيضِه كقولِه تعالى: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اليل والنهار} [الأنعام: 13]، أي: ما سَكَنَ وتحرَّك، وقوله: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر} [النحل: 81]، أي: والبردَ، وقول الشاعر: 3041 - وما أَدْرِيْ إذا يَمَّمْتُ أرْضاً. . . أريدُ الخيرَ ايُّهما يَلِينْي أالخيرُ الذي أنا أَبْتَغِيْهِ. . . أم الشرُّ الذي هو يَبْتَغيني أي: وأَجْتَنِبُ الشرَّ، وتقول: «أَمَرْتُه فلم يُحْسِنْ» فليس المعنى: أمرتُه بعدم الإِحسانِ، بل المعنى: أَمَرْتُه بالإِحسانِ فلم يُحْسِنْ، والآيةُ من هذا القبيل، يُستدلُّ على حذف النقيض بنقيضه كما يُسْتَدَلُ على حَذْفِ النظير بنظيره، وكذلك «أَمَرْتُه فأساء إليَّ» ليس المعنى: أَمَرْتُه بالإِساءة بل أَمَرْتُه بالإِحسان. وقوله: «ولا يَلْزم هذا قولَهم:» أَمَرْتُه فعصاني «. نقول: بل يَلْزَمُ. وقوله:» لأنَّ ذلك منافٍ «، أي: لأنَّ العِصْيانَ منافٍ. وهو كلامٌ صحيح. وقوله:» فكان المأمورُ به غيرَ مدلولٍ عليه ولا مَنْويٌّ «لا يُسَلَّم بل مَدْلُولٌ عليه ومنوِيٌّ لا دلالةُ الموافقِ بل دلالةُ المناقِض، كما بَيَّنَّا. وقوله:» لا يَنْوِي مأموراً به «لا يُسَلَّم. وقوله:» لأنَّ فَفَسَقُوا يدافعُه، إلى آخره «قلنا: نعم نَوَى شيئاً ويُظهِرُ خلافَه،» لأنَّ نقيضَه يَدُلُّ عليه. وقولُه: «ونظيرُ» أمر «» شاء «ليس نظيرَه؛ لأنَّ مفعولَ» أمر «كَثُر التصريحُ به. قال الله [تعالى]: {إِنَّ الله لاَ يَأْمُرُ بالفحشآء} [الأعراف: 28] {أَمَرَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ} [يوسف: 40] {يَأْمُرُ بالعدل} [النحل: 67] {أَمَرَ رَبِّي بالقسط} [الأعراف: 29] {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلاَمُهُمْ بهاذآ} [الطور: 32] وقال الشاعر: 3042 - أَمَرْتُك الخيرَ فافْعَلْ ما أُمِرْتَ به. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . قلت: والشيخُ رَدَّ عليه رَدَّ مُسْتَريحٍ من النظرِ، ولولا خَوفُ السآمةِ على الناظرِ لكان للنظرِ في كلامهما مجالٌ. والوجه الثاني: أنَّ» أَمَرْنا «بمعنى كَثَّرْنا، ولم يَرْتَضِ الزمخشريُّ في ظاهرِ عبارتِه فإنَّه قال:» وفسَّرَ بعضُهم «أَمَرْنا» ب «كَثَّرْنا»، وجَعَلَه من بابِ: فَعَّلْتُه فَفَعَلَ، كَثَبَّرْتُه فَثَبَر. وفي الحديثِ: «خَيْرُ المالِ سِكَّةٌ مأْبُوْرة ومُهْرَةٌ مَأْمورة»، أي: كثيرةُ النِّتاج «. قلت: وقد حكى أبو حاتم هذه اللغةَ، يقال: أَمِر القومُ، وأَمَرهم اللهُ، ونقله الواحديُّ أيضاً عن أهل اللغة، وقال أبو علي:» الجيِّد في «أَمَرْنا» أن يكونَ بمعنى كَثَّرْنا «. واستدل أبو عبيدة بما جاء في الحديثِ فذكره. يقال: أَمَرَ اللهُ المُهْرَة، أي: كَثَّر ولدَها. قال» ومَن أنكر «أمرَ اللهُ القومَ» أي: كَثَّرهم لم يُلتفَتْ إليه لثبوتِ ذلك لغةً «. ويكون ممَّا لَزِمَ وتعدَّى بالحركةِ المختلفةِ؛ إذ يُقال: أَمِر القومُ كَثُروا، وأَمَرَهم الله كثَّرهم، وهو من بابِ المطاوعة: أَمَرهم الله فَأْتَمَروا كقولِك: شَتَرَ اللهُ عَيْنَه فَشَتِرَتْ، وجَدَعَ اَنْفَه فَجَدِع، وثَلَمَ سِنَّه فَثَلِمَتْ. وقرأ الحسن ويحيى بن يعمر وعكرمةُ: «أَمِرْنا» بكسر الميم بمعنى «أَمَرْنا» بالفتح. حكى أبو حاتم عن أبي زيد أنه يُقال: «أَمَرَ اللهُ مالَه، وأَمِرَه» بفتح الميم وكسرِها، وقد رَدَّ الفراء هذه القراءةَ، ولا يُلْتَفَتُ لِرَدِّه لثبوتِها لغةً بنَقْلِ العُدولِ، وقد نَقَلها قراءةً عن ابن عباس أبو جعفر وأبو الفضل الرازي في «لوامِحه» فكيف تُرَدُّ؟ وقرأ عليُّ بن أبي طالب وابنُ أبي إسحاق وأبو رجاء في آخرين «آمَرْنا» بالمَدِّ، ورُوِيَتْ هذه قراءةً عن ابنِ كثير وأبي عمرو وعاصم ونافعٍ، واختارها يعقوبُ، والهمزةُ فيه للتعديةِ؟ وقرأ عليٌّ أيضاً وابنُ عباس وأبو عثمان النهدي: «أمَّرْنا» بالتشديد. وفيه وجهان، أحدهما: أنَّ التضعيفَ للتعديةِ، عدَّاه تارةً بالهمزة وأخرى بتضعيفِ العين، كأَخْرَجْته وخَرَّجته. والثاني: أنه بمعنى جعلناهم أُمَراءَ، واللازمُ من ذلك «أُمِّر». قال الفارسيُّ، «لا وجهَ لكون» أَمَّرْنا «/ من الإِمارة؛ لأنَّ رئاستَهم لا تكونُ إلاَّ لواحدٍ بَعْدَ واحدٍ، والإِهلاكُ إنما يكون في مُدَّة واحدة». وقد رُدَّ على الفارسي: بأنَّا لا نُسَلِّم أن الأميرَ هوالمَلِك حتى يَلْزَمَ ما قلتُ، لأنَّ الأميرُ عند العرب مَنْ يَأْمُرُ ويُؤْتَمَرُ به. ولَئِنْ سُلِّم ذلك لا يلزم ما قال؛ لأنَّ المُتْرَفَ إذا مَلَكَ فَفَسَق ثم آخرَ بعده فَفَسَق، ثم كذلك كَثُر الفسادُ، ونزل بهم على الآخِر مِنْ ملوكهم. اهـ (الدر المصون).

غير الضرب، ومثل قوله: أمَرْنا مُتْرفيها ففسقوا فيها. من الكلام: أمرتك فعَصَيتني. فقد علم أن المعصية مخالفة الأمر، وكذلك الفَسْقُ مُخَالَفَة أمْرِ اللَّه جل ثناؤه. وقد قيل: إنَّما معنى أمرنا مترفيها كَثَّرْنَا مترفيها، والدليل علي هذا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - " خير المال سِكَّةُ مأبورة ومُهْرة مَأمُورَة ". أي مُكَثرَة، والعرب تقول قَدْ أمِرَ بنو فلان إذَا كَثرُوا. قال الشاعر: إن يُغْبَطُو يَهْبطوا وَإن أمِروا. . . يوماً يصيروا للهلك والنَّفَد ويروى بالنقد - بالقاف - ومن قرأ آمرنا فتأويله أكْثَرنا، والكثرة ههنا يصلح أن يكون شيئين، أحدهما أن يكثر عدد المترفين، والآخر أن تكثر جِدَتُهم ويسَارُهُمْ. ومن قرأ أمَّرنا بالتشدِيد، فمعناه سَلَّطنَا مترفيها أي جعلنا لَهُمْ إمْرةً وسلطانا.

(17)

وقوله: (وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17) أي أهلكنا عدداً كبيراً من القُرون، بأنواع العذاب، نحو قوم لوط وعاد وثمود ومَن ذُكِرَ اسْمُه وقروناً بين ذلك كثيراً. وموضع (كَمْ) النصب بقوله (أهْلَكْنَا). * * * وقوله: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) أي من كان يريد العاجلة بعمله، أي الدنيا، عجل اللَّه لمن أراد أن يعجل له مايشاء اللَّه، أي ليس مايشاء هو، وما يشاء بمعنى ما نشاء. ويجوز أن يكون المُضْمَرُ في نشاء " مِنْ "، المعنى عجلنا للعبد ما يشتهيه، إذا أراد اللَّه ذلك. وقوله: (ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ). لأنه لم يرد اللَّهَ بعمله (يَصْلَاهَا مَذْمُوماً). ومذءوماَ في معنى واحد. (مَدْحُوراً). أي مباعَداً من رحمة اللَّه. يقال: دَحَرْتُه أدْحَرُه دَحْراً ودُحُوراً إذا باعدته عنك. ثم أعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أن يعطي المسلم والكافِرَ وأنَّ يرْزُقُهما جميعاً فقال: (كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) أي نُمِدُّ المؤمنين والكافرين مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ. * * * وقوله سبحانه: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) معناه أمَر رَبُّك

(24)

وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا). أي أمر أن يحسنوا بالوالدين (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا). ترفع (أحدهما) بِـ (يَبْلُغَنَّ)، و (كلاهما) عطف عليه. ويقرأ: (يَبْلُغَانِّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ)، ويكون أحَدَهُمَا أو كلاهما بَدَل من الألف. وقوله: (فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ). في قوله (أُفٍّ) سبع لغات: الكسر بغير تنوين، والكسر بتنوين، والضم بغير تنوين، وبتنوين، وكذلك الفتح بتنوين، وبغير تنوين، وفيها لغة أخرى سابعة لا يجوز أن يقرأ بها، وهي " أُفِيّ " بالياء، فأمَّا الكسر فلالتقاء السَّاكنين، وأف غير متمكن بمنزلة الأصوات، فإذا لم تُنَوَّن فَهي مَعْرِفة، وإذا نُونَ فهو نكرة بمنزلة غاقٍ وغاقِ في الأصوات، والفتح لالتقاء السَّاكنين أيضاً، والفتح مع التضعيف حسن لخفة الفتحة وثقل التضعيفِ والضم، لأن قبله مضمُوماً - حسن أيضاً، والتنوين فيه كله على جهة النكرة. والمعنى: لا تقل لهما كلاماً تتبرم فيه بهما، ومعنى أفِّ النتن، وقيل إن أفَ وسخ الأظْفَارِ، والتُّف الشيء الحقير نحو وسخ الأذان أو الشظية تؤخذ من الأرض. ومعنى الآية: لا تقل لهما ما فيه أذىً بتبرم، أي إذا كبِرَا، أو أسَنَّا فينبغي أن تَتَولى من خِدمتهما مثل الذي توليا من القيام بشأنك وبخدْمَتِكَ، ولا تنهرهما بمعنى: لا تنتهرهما، أي لا تكلمهما ضجراً صائحاً في أوجُهِهِما. يقال نهرته أنهره نهراً، وانتهرته أنتهره انتهاراً، بمعنى واحِدٍ (1). وقوله: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)

_ (1) قال السَّمين: قوله: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ} قرأ الأخَوان «يَبْلُغانِّ» بألفِ التثنيةِ قبل نونِ التوكيدِ المشدَّدةِ المكسورةِ، والباقون دونَ ألفٍ وبفتحِ النون. فأمَّا القراءةُ الأولى ففيها أوجهٌ، أحدها: أن الألفَ ضميرُ الوالدين لتقدُّم ذكرهما، و «أَحَدُهما» بدلٌ منه، و «أو كِلاهما» عطفٌ عليه. وإليه نحا الزمخشريُّ وغيرُه. واستشكله بعضُهم بأنَّ قولَه «أحدُهما» بدلُ بعضٍ مِنْ كل، لا كلٍّ من كل، لأنه غيرُ وافٍ بمعنى الأول، وقوله بعد ذلك «أو كِلاهما» عطفٌ على البدلِ، فيكونُ بدلاً، وهو مِنْ بدل الكلِّ من الكل؛ لأنه مرادفٌ لألف التثنية. لكنه لا يجوز أن يكونَ بدلاً لعُرُوِّه عن الفائدة؛ إذ المستفادُ من ألفِ التثنيةِ هو المستفادُ مِنْ «كِلاهما» فلم يُفِدِ البدلُ زيادةً على المبدلِ منه. قلت: هذا معنى قولِ الشيخِ. وفيه نظرٌ؛ إذ لقائلٍ أن يقول: مُسَلَّمٌ أنه لم يُفِدِ البدلُ زيادةً على المبدلِ منه، لكنه لا يَضُرُّ لأنه شانُ التأكيد، ولو أفاد زيادةً أخرى غيرَ مفهومةٍ من الأولِ كان تأسيساً لا تأكيداً. وعلى تقدير تسليمِ ذلك فقد يُجابُ عنه بما قال ابنُ عطية فإنه قال بعد ذِكْره هذا الوجهَ «وهو بدلٌ مُقَسَّمٌ كقولِ الشاعرِ: 3045 - وكنت كذي رِجْلَيْنِ رجلٍ صحيحةٍ. . . ورِجْلٍ رَمَى فيها الزمانُ فَشَلَّتِ إلا أنَّ الشيخ تعقَّب كلامَه فقال:» أمَّا قولُه بدلٌ مُقَسِّمٌ كقوله: «وكنتُ. . . .» فليس كذلك؛ لأنَّ شرطََه العطفُ بالواو، وأيضاً فشرطُه: ان لا يَصْدُقَ المُبْدَلُ منه على أحدِ قِسْميه، لكنْ هنا يَصْدُقُ على أحدِ قسمَيْه، ألا ترى أنَّ الألفَ وهي المبدلُ منه يَصْدُقُ على أحدِ قِسْمَيْها وهو «كلاهما» فليس من البدلِ المقسِّم «. ومتى سُلِّم له الشرطان لزم ما قاله. الثاني: أن الألفَ ليست ضميراً بل علامةُ تثنيةٍ و» أحدُهما «فاعلٌ بالفعلِ قبلَه، و» أو كلاهما «عطفٌ عليه. وقد رُدَّ هذا الوجهُ: بأن شرطَ الفعلِ المُلْحَقِ به علامة تثنيةٍ أن يكون مسنداً لمثنَّى نحو: قاما أخواك، أو إلى مُفَرَّق بالعطف بالواو خاصةً على خلاف فيه نحو:» قاما زيد وعمرو «، لكنَّ الصحيحَ جوازُه لورودِه سماعاً كقوله: 3046 - . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وقد أَسْلماه مُبْعَدٌ وحميم والفعلُ هنا مسندٌ إلى» أحدُهما «وليس مثنى ولا مفرَّقاً بالعطف بالواوِ. الثالث: نُقِل عن الفارسيِّ أنَّ/» كلاهما «توكيدٌ، وهذا لا بدَّ من إصلاحِه بزيادةٍ، وهو أن يُجْعَلَ» أحدُهما «بدلَ بعضٍ من كل، ويُضْمَرَ بعدَه فعلٌ رافعٌ لضمير تثنية، ويقع» كلاهما «توكيداً لذلك الضميرِ تقديرُه: أو يَبْلُغا كلاهما، إلا أنَّ فيه حَذْفَ المؤكَّد وإبقاءَ التوكيد، وفيها خلافٌ، أجازها الخليل وسيبويه نحو:» مررت بزيدٍ ورأيت أخاك أنفسهما «بالرفع والنصب، فالرفعُ على تقديرِ: هما أنفسُهما، والنصبُ على تقدير أَعْنِيهما أنفسَهما، ولكنْ في هذا نظرٌ: من حيث إن المنقولَ عن الفارسيِّ مَنَعَ حَذْفَ المؤكَّد وإبقاءَ توكيدِه، فكيف يُخَرَّجُ قولُه على أصلٍ لا يُجيزُه؟ وقد نصَّ الزمخشريُّ على مَنْعِ التوكيدِ فقال: فإنْ قلت: لو قيل:» إمَّا يَبْلُغانِّ كلاهما «كان» كلاهما «توكيداً لا بدلاً، فما لكَ زَعَمْتَ أنه بدلٌ؟ قلت: لأنَّه معطوفٌ على ما لا يَصِحُّ أن يكون توكيداً للاثنين، فانتظم في حكمِه، فوجَبَ أن يكونَ مثلَه». قلت: يعني أنَّ «أحدُهما: لا يَصْلُحُ أن يقعَ توكيداً للمثنى ولا لغيرِهما، فكذا ما عُطِفَ عليه لأنه شريكُه. ثم قال:» فإنْ قلتَ: ما ضَرَّك لو جَعَلْتُه توكيداً مع كونِ المعطوفِ عليه بدلاً، وعَطَفْتَ التوكيدَ على البدل؟ قلت: لو أريد توكيدُ التثنيةِ لقيل: «كلاهما» فحسبُ، فلمَّا قيل: «أحدهما أو كلاهما» عُلِمَ أنَّ التوكيدَ غيرُ مرادٍ فكان بدلاً مثلَ الأول «. الرابع: أَنْ يرتفعَ» كلاهما «بفعلٍ مقدَّر تقديرُه: أو يبلغُ كلاهما، ويكون» إحداهما «بدلاً من ألفِ الضمير بدلَ بعضٍ من كل. والمعنى: إمَّا يَبْلُغَنَّ عندك أحدُ الوالدَيْن أو يبلُغُ كلاهما. وأمَّا القراءةُ الثانية فواضحةٌ، و» إن ما «: هي» إنْ «الشرطية زِيْدَتْ عليها» ما «توكيداً، فَأُدْغِم أحدُ المتقاربين في الآخر بعد ان قُلب إليه، وهو إدغامٌ واجب. قال الزمخشري:» هي إنْ الشرطيةُ زِيْدَتْ عليها «ما» توكيداً لها ولذلك دَخَلَتْ النون، ولو أُفْرِدَتْ «إنْ» لم يَصِحُّ دخولُها، لا تقول: إن تُكْرِمَنَّ زيداً يُكْرِمْكَ، ولكن: إمَّا تُكْرِمنَّه. وهذا الذي قاله أبو القاسم نصَّ سيبويهِ على خلافِه، قال سيبويه: «وإن شِئْتَ لم تُقْحِمِ النونَ، كما أنك إن شِئْتَ لم تَجِيءْ ب» ما «. قال الشيخ:» يعني مع النون وعَدَمِها «. وفي هذا نظرٌ؛ لأنَّ سيبويه إنما نصَّ على أن نونَ التوكيد لا يجبُ الإِتيانُ بها بعد» أمَّا «، وإن كان أبو إسحاقَ قال بوجوبِ ذلك. وقوله بعد ذلك» كما أنَّك إنْ شِئْتَ لم تجيءْ ب «ما»، ليس فيه دليلٌ على جوازِ توكيدِ الشرط مع إنْ وحدها. و «عندك» ظرفٌ ل «يَبْلُغَنَّ» و «كِلا» مثنَّاةٌ معنىً من غيرِ خلافٍ، وإنما اختلفوا في تثنيتِها لفظاً: فمذهبُ البصريين أنها مفردةٌ لفظاً، ووزنُها على فِعَل ك «مِعَى» وألفُها منقلبةٌ عن واوٍ بدليل قلبِها تاءً في «كِلْتا» مؤنثَ «كِلا» هذا هو المشهور. وقيل: ألفُها عن ياء وليس بشيءٍ. وقال الكوفيون - وتبعهم السهيليُّ مستدلِّين على ذلك بقوله: 3047 - في كلتِ رِجْلَيْها سُلامى واحدَه. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . فَنَطَق بمفرِدها-: هي مثنَّاة لفظاً، ولذلك تُعْرَبُ بالألفِ رفعاً والياء نصباً وجراً، فألفُها زائدةٌ على ماهية الكلمة كألف «الزيدان»، ولامُها محذوفةٌ عند السهيليِّ، ولم يأتِ عن الكوفيين نَصٌّ في ذلك، فاحتمل أن يكونَ الأمرُ كما قال السهيليُّ، وأن تكونَ موضوعةً على حرفَيْن فقط، لأنَّ مِنْ مذهبِهم جوازَ ذلك في الأسماءِ المعربة. وحكمها أنها متى أُضيفت إلى مضمرٍ أعْرِبت إعرابَ المثنى، أو إلى ظاهرٍ اُعْرِبَتْ إعرابَ المقصورِ عند جمهورِ العربِ، وبنو كنانةَ يُعْربونها إعرابَ المثنى مطلقاً فيقولون: رأيت كِلَيْ اَخَوَيْك، وكونُها جَرَتْ مَجْرى المثنى مع المضمرِ دونَ الظاهر يضيق الوقتُ عن ذكره فإنِّي حَقَّقْتُه في «شرح التسهيل». ومن أحكامِها: أنها لا تُضاف إلا إلى مثنى لفظاً ومعنى نحو: «كِلا الرجلين»، أو معنىً لا لفظاً نحو:، «كِلانا»، ولا تُضاف إلى مُفَرِّقَيْنِ بالعطفِ نحو: «كِلا زيد وعمرو» إلا في ضرورةٍ كقوله: 3048 - كِلا السيفِ والسَّاقِ الذي ذهبَتْ به. . . على مَهَلٍ باثنين ألقاه صاحبُهْ وكذا لا تُضافُ إلى مفردٍ مرادٍ به التثنيةُ إلا في ضرورةٍ كقوله: 3049 - إنَّ للخير والشرِّ مَدَى. . . وكِلا ذلك وَجْهٌ وقَبَلْ والأكثرُ مطابَقَتُها فَيُفْرَدُ خبرُها وضميرُها نحو: كلاهما قائمٌ، وكلاهما ضربتُه، ويجوزُ في قليل: قائمان، وضربتُهما، اعتباراً بمعناها، وقد جَمَعَ الشاعرُ بينهما في قوله: 3050 - كلاهما حينَ جَدَّ الجَرْيُ بينهما. . . قد أقلعا وكِلا أَنْفَيْهما رابي وقد يَتَعَيَّنُ اعتبارُ اللفظِ نحو: كِلانا كفيلُ صاحبِهِ، وقد يتعيَّنُ اعتبارُ المعنى، ويُستعمل تابعاً توكيداً، وقد لا يَتْبَعُ فيقع مبتدأً ومفعولاً به ومجروراً. و «كلتا» في جميعِ ما ذُكِرَ ك «كِلا»، وتاؤُها بدلُ عن واو، وألفُها للتأنيث، ووزنُها فِعْلى كذكرى. وقال يونس: ألفُها أصلٌ تأؤُها مزيدةٌ، ووزنُها فِعْتَل. وقد رَدَّ عليه الناس، وله موضعٌ غيرُ هذا. والنسب إليها عند سيبويه: كِلْوِيّ كمذكَّرِها، وعند يونس: كِلْتَوِيّ لئلا تَلْتَبِسَ، وهذا القَدْرُ كافٍ في هاتين اللفظتين. قوله: «أُفٍّ» «أُفّ» اسمُ فعلٍ مضارعٍ بمعنى أتضجَّر، وهو قليلٌ؛ فإنَّ أكثرَ بابِ أسماء الأفعال أوامرُ، وأقلُّ منه اسمُ الماضي، وأقلُّ منه اسمُ المضارع ك «أُفّ» وأَوَّه، أي: أتوجَّع، ووَيْ، أي: أَعْجَبُ. وكان مِنْ حقِّها أَنْ تُعْرَبَ لوقوعِها موقعَ مُعْرَبٍ، وفيها لغاتٌ كثيرة وصلها الرُّمَّاني إلى تسع وثلاثين، وذكر ابنُ عطية لفظةً، بها تمت الأربعون، وهي اثنان وعشرون مع الهمزةِ المضمومةِ: أُفُّ، أُفَّ، أُفِّ، بالتشديدِ مع التنوين وَعَدَمِه، أُفُ، أُفَ، أُفِ، بالتخفيف مع التنوين وعدمه، أُفْ بالسكون والتخفيف؛ أُفّْ بالسكون والتشديد، أُفُّه أَفَّه أُفِّه، أفَّا من غير إمالة، وبالإِمالة المحضة، وبالإِمالة بين بين، أُفُّو أُفِّي: بالواو والياء وإحدى عشرة مع كسرِ الهمزةِ إفَّ إفِّ: بالتشديد مع التنوينِ وعدِمه، إفُ إفَ إفِ بالتخفيفِ مع التنوينِ وعدمِه، إفَّا بالإِمالة. وستٌ مع فتح الهمزة: أَفَّ أَفِّ، بالتشديد مع التنوينِ وعدِمه، أَفْ بالسكون، أفا بالألف. فهذه تسعٌ وثلاثون لغةً، وتمامُ الأربعين «أَفاهْ» بهاء السكت. وفي استخراجها بغيرِ هذا الضابطِ الذي ذكرتُه عُسْرٌ ونَصَبٌ يَحتاج في استخراجِه من كتب اللغة، ومن كلامِ أهلِها، إلى تتبُّع كثيرٍ، والشيخ لم يَزِدْ على أنْ قالَ: «ونحن نَسْردُها مضبوطةً كما رأيناها» فذكرها، والنسَّاخُ خالفوه في ضبطِه، فمِنْ ثَمَّ جاء فيه الخَلَلُ، فَعَدَلْتُ إلى هذا الضابطِ المذكورِ ولله الحم

(25)

وتُقْرأ الذِّل - بكسر الذَّالِ - ومعنى (اخفضن لهما جناح الذل). أي ألِنْ لهما جانبك مُتَذَلِّلاً لهما، من مبالغتك في الرحمة لهما. ويقال: رجل ذليل بين الذُلِّ، وقد ذل يذِلُّ ذُلاً، ودَابَّةٌ ذَلُول. بين الذل، ويجوز أن جميعاً في الِإنسانِ. * * * وقوله: (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25) الأواب بمعنى التواب، والراجع إلى الله في كل ما أمَر به، المقْلِعُ عِن جميع ما نهى عنه، يقال قد آب يؤوب أوْباً إذَا رجع. * * * وقوله: (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) (وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا). معناه لا تسرف، وقيل: التبذير النفقة في غير طاعة اللَّه، وقيل كانت الجاهلية تنحر الِإبل وتُبَذِّرُ الأموالَ، تطلب بذلك الفخر والسمعة وتذكر ذلك في أشعارها، فأمر اللَّه - عزَّ وجلَّ - بالنفقة في وُجُوهِهمَا فيما يُقَرِّبُ منه ويزلف عنده. * * * وقوله: (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27) أي يفعلون ما يسول لهم الشيطان. * * * وقوله: (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28) (عَنْهُم) هذه الهاء والميم يرجعان على ذي القُربى والمِسكين وابن السبيل، (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ)، أي وإن أعْرضت عَنهُمُ، ابْتغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا، أي لطلب رزقٍ من ربك ترجوه (فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا). (ابْتِغَاءَ) منصوب لأنه مفعول له، المعنى: وإن اعْرَضْتَ عنهم لابتغاء رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ. وروي أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا سئل وليس عنده ما يعطى أمسك انتظار الرزق يأتي من اللَّه - جلَّ وعز - كأنَّه يكره الردَّ، فلما نزلت هذه الآية: (فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا). كان عليه السلام إذا سئل فلم يكن عنده ما يعطي قال: يَرْزُقنَا

(29)

اللَّهُ وإياكُمْ مِنْ فَضْلِهِ. فتأويل قوله: (مَيْسُوراً) واللَّه أعلم أنه يكسر عليهم فقرهم بدعائه لهم. * * * وقوله: (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29) معناه لا تبخل ولا تسرف. (فتقعد) منصوب على جواب النهي، و (محسوراً) أي قد بالغت في الحمل على نفسك وحالك حتى تصير بمنزلة من قد حَسِر. والحسير والمحسور الذي قد بلغ الغاية في التعب والِإعياء. * * * قوله: (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31) (خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ) منصوب لأنه مفعول له، والإملاق الفقر، يقال أملق يملق إملاقاً. وكانوا يدفنون البنات إذَا وُلَدْنَ لهم خوفاً من الفقر، فضمن اللَّه - عزَّ وجل - لهم رزقهم، فقال: (نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ). وهي الموءودة، كانوا يَدْفِنونَ الابنة إذا وُلدَتْ حيَّةً. وقوله: (إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا)، وتقرأ خَطَاً كبيراً. فمن قال خِطئاً: بالكسر فمعناه إثماً كثيراً، يقال قد خطئ الرجل يخطأ خِطئًا: أثِمَ يَأثَمُ إثماً (وخَطأً كبيراً) له تأويلانِ أحدهما معناه إن قتلهم كان غير صواب يقال: قد أخطأ يخطئ إخطاء، وخطأ، والخطأ الاسم من هذا لا المصدَرُ، ويكون الخطأ من خطئ يخطأ خطأً إذا لم يصب مثل لِجَجَ يَلْجَجُ قال الشاعر: والناسُ يَلْحَوْنَ الأَمِيرَ إِذا هُمُ. . . خَطِئُوا الصوابَ ولا يُلامُ المُرْشِدُ

(32)

وقوله: (وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32) أي وساء الزنا سبيلاً. و (سَبِيلًا) منصوب على التمييز. * * * وقوله: (وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33) حرَّم اللَّه قتل المؤمن إلَّا أن يرْتَدَّ بَعْدَ إيمَانِه، أو يقتل مؤمِناً متعَمِّداً، أو يزنيَ بعد إحْصَانٍ. كذلك قال قتادة في تفسير هذه الآية. (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا). أي من غير أن يأتيَ بواحدة من هذه الثلاث. (فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا). الأجود إدغام الدال في الجِيمِ، والِإظهار جَيِّدْ بالغ، لأنَّ الجِيمَ من وسط اللسانِ، والدال من طرف اللسان، والِإدغام جائز لأنَّ حروفَ وَسَط اللسَانِ قد تقرب من حروف طرف اللسانِ. وَوَليه الذي بَيْنَهُ وبيْنَه قرابة توجِبُ المطالبةَ بِدَمِهِ. . فإنْ لم يكن له ولي فالسلطان وَليُه. و" سُلْطَاناً " أي حجة. وقوله: (فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ). القراءة الجزم على النهي، ويقرأ بالياء والتاء جميعاً، وتقرأ فلا يُسْرِفُ بالرفع. والِإسراف في القتل قد اخْتُلِفَ فيه. فقال أكثر الناس: الِإسْرافُ أنْ يقتُلَ الوليُّ غيرَ قاتِلِ صاحِبِه. وقيل: الِإسراف أن يقتل هو القاتل دُونَ السُّلْطَانِ، وكانت العرب إذا قُتِلَ منها السًيدُ وكانَ قاتله خسِيساً لم يرضوا بأن يُقْتَلَ قَاتِلُه وربما لم يرضَوْا أن يُقْتَل واحد بواحدٍ حتَى تُقْتَلَ جماعة بواحدٍ. وقوله: (إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا).

(34)

أي أن القتيل إذا قتل بغير حق فهو منصور في الدنيا والآخرة، فأما نصرتُه في الدنيا فَقَتْلُ قاتِلِهِ، وأْما في الآخرة فإجزال الثواب له، ويخلَّدُ قاتِلُه في النَّار، ومن قرأ فلا يسرِفُ - في القَتْلِ - بالرفع - فالمعنى أن وليَّه ليسَ بمُسْرِف في القَتْلِ إذا قتل قاتِلَه ولم يقبل الديَة. * * * وقوله: (وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34) أي لا تذخروا مِن مَالِه، ولا تأكلوا - إذَا أقِمْتُمْ عليه إلا ما يُسكنُ الجَوْعَةَ، ولا تكتسوا إلَّا ما ستر العورة، ولا تَقْرَبُوه إلا بالإصلاح للمال حَتى يبلغ أشُده. وأشُده أن يبلغَ النكاح، وقيل: أشُده أن يأتي له ثماني عشرة سنة. وبُلوغُ أشده هو الاحتلام، وأن يكون مع ذلك غير ذي عاهة في عقل وَأنْ يكون حازماً في ماله. وقوله: (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا). قال بَعْضُهُمْ: لا أدري مَا العَهْدُ، والعَهْدُ كل ما عُوهِدَ اللَّهُ عَلَيْه، وكل ما بينَ العِبَادِ من المواثيق فهِيَ عُهُود. وكذلك قوله:، (وَأوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إذَا عَاهَدْتُمْ). * * * وقوله: (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35) (وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ المُسْتَقيم). والقُسْطَاسُ جميعاً - بالضمِ - والكَسْرِ - قيل: القسطاسُ هو القرسطون وقيل القفان، والقسطاس ميزان العدل، أي ميزان كان من موازين الدراهِم أوْ غَيْرِها.

(36)

وقوله: (ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا). معنى (وأحسن تأويلًا) أن الوفاء أحسن من النقصانِ، ويجوز أن يكون المعنى أحسن ما يؤول إليه أمر صاحب الوفاء. * * * وقوله: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36) أي لا تقولن في شيء بما لا تعلم. فإذا نُهِيَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - مع جكْمتِه وعِلْمِهِ وتوفيق اللَّهِ إيَّاهُ - أن يقول بما لا يعلم، فكيف سائر أمَّتِه والمسرفين على أنْفُسِهم. يقال قفوت الشيءَ أقْفُوه قَفْواً إذا اتبَعْتَ أثرَه، فالتأويل لا تُتْبِعَنْ لِسانَك من القول ما ليس لك به علم، وكذلك من جميع العَقل. (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ) شواهد عليك. قال الله عزَّ وجلَّ (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ). فالجوارح شواهدُ على ابن آدم بعمله. ويقرأ. . (ولا تقُفْ ما ليس لك به عِلْم) بإسكان الفاء وضم القاف، من قاف يقوفُ - وكأنه مقلوب من قفا يقفو، لأن المعنى واحد. وقوله: (كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا). فقال (مَسْئُولًا)، وقال: (كَانَ)، لأن " كل " في لفظ الواحد؛ فقال (أولئك) لغير الناس، لأن كل جمع أشَرْتَ إليْه من الناس وغيرهم ومن الموات فلفظه (أولئك) قال جرير:

(37)

ذم المنازل بعد منزلة اللوى. . . والعَيْش بعد أولئك الأيَّامِ وقوله: (وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37) ويقرأ مَرِحًا - بكسر الراء -، وزعم الأخفَش أن مَرَحاً أجْودُ من مَرِحاً. لأن مَرِحاً اسمُ الفَاعِل. وهذا - أعني المصدر - جيَدٌ بالغ، وكلاهما في الجودة سواء، غير أنَّ المصدرَ أوْكد في الاستعمال تقول: جاء زيد رَكْضاً، وجاء زيدٌ راكضاً، فركْضاً أوْكَدُ في الاسْتِعْمَال لأن ركضاً يدلُّ على توكيد الفِعْل. وَمَرَحا - بفتح الراء أكثر في القِراءَةِ. وتأويل الآيةِ: ولا تَمْشِ في الأرض مختالاً وَلَا فَخُوراً. (إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا). قالوا: معنى (تَخرِق الأرْضَ) تقطع الأرْضَ، وقيل تثقب الأرْضَ. والتأويل أن قدرتك لا تبلغ هذا المبلغ، فيكون ذلك وصلة إلى الاختيال. * * * (كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38) سيئه في معنى خطيئةً، وكان أبو عمرو لا يقرأ (سَيِّئُهُ)، ويقرأ (سَيئَةً)، وهذا غلط، لأن في الأقاصيص سيئاً وغير سَيئ وذلك أن فيها (وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) وفيها: (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ). و (وأَوْفوا بِالعَهْدِ)، (وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)، أي اقرَبُوه بالتِي هي أحْسَنُ. ففيما جرى من الآيات سيئ وحسن، فسيئُهُ بلا تنوين أحْسَنُ من سيئةٍ

(39)

ههنا. ومن قرأ سَيئَةً جعل " كلا " إحاطة بالمنهى عنه فقط، المعنى كل ما نهى الله عنه كان سيئة. * * * وقوله: (ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39) (فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا). أي مباعداً من رحمة اللَّه. * * * وقوله: (أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40) كانت الكفرة من العَرَب تزعم أنَّ الملائكةَ بنات اللَّه، فوُبخوا، وقيل لهم: (أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ)، أي أختار لكم ربُّكم صَفْوَة الشيءِ وأخَذَ من الملائكة غير الصفْوةِ. * * * وقوله: (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (41) أي بينا. (وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا). أي ما يزيدهُمُ التبْيِينُ إلا نُفُوراً، كما قال اللَّه - عزَّ وجلَّ -: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82). * * * (قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42) فمن قرأ (كما تقولون) فعلى مخاطبة القائلين (إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا). أي لتقربوا إلى ذي العرش، كما قال: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ). وقال بعضهم: (إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا) أي لكانوا مضادِّينَ له يطلبون الانفِرادَ بالربُوبِيةِ.

(44)

والقول الأول عليه المفسرون. * * * وقوله: (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44) قيل إن كُلَ مَا خَلقَ اللَّه يُسبح بحمده وإن صَرِيرَ السقْفِ وصَرِيرَ البَابِ من التسبيح للَّهِ عزَّ وجلَّ. ويكون - على هذا - الخِطَابُ للمشركين وحدهم من قوله: (وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ). وجائز أن يكون تسبيح هذه الأشياءِ مِمَّا عَلِمَ اللَّه به، لايُفقَه مِنْه إلا ما عَلَّمنَا. وقال قوم: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) أي ما من شيء إلا وفيه دَلِيلٌ أن الله خالِقُه، وأن خَالِقُه حَكيمٌ مُبَرأ مِنَ الأسْوَاءِ (وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ). أي ولكنكم أيها الكفار لَا تَفْقَهونَ أثر الصنْعةِ في هذه المخلوقات. وهذا ليس بشيء لأن الذين خوطبوا بهذا كانوا مُقِرِّينَ بأن الله خَالِقُهُمْ وخالق السَّمَاوَات والأرض ومن فِيهِن، فكيف يجهلون الخلقة وهم عارفون بها. * * * وقوله: (وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45) قال أهل اللغة معنى (مستوراً) ههنا في موضع ساتر،، تأويل الحجاب - واللَّه أعلم - الطبع الذي على قلوبهم. ويدل على ذلك قوله: (وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ). والأكنة جمع كِنَان وهو ما سَتَرَ.

(46)

ومعنى (أَنْ يَفْقَهُوهُ) كراهة (أَنْ يَفْقَهُوهُ) وقيل معناه ألا يفقهوه والمعنيان واحد، غير أن كراهة أجود في العربيَّةِ. وقيل: (جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا) الحجاب منع اللَّه إياهم من النبي - عليه السلام - ويجوز أن يكون (مستوراً) على غير معنى ساتر، فيكون الحجاب ما لا يرونه ولا يعلمونه من الطبع على قلوبِهمْ. * * * (وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46) (وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا). الوقر ثقل السمْع، والوقر أن يَحمِل الإنْسانُ وَقْرَهُ وقوله: (وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا). (نُفُوراً) يحتمل مذهَبَيْن: أحدهما المصدر. المعنى: وَلَّوْا نَافِرين نُفُوراً ويجوز أن يكون (نُفُوراً) جمع نافِرٍ، فيكون نافِرٍ ونُفُورٌ، مثل شاهِدٍ وشهود. * * * وقوله: (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47) (نجوى) في معنى المصدر، أي وَإِذْ هُمْ ذَوُو نَجْوَى، والنجوى اسم للمصدر، وكانوا يستمعون من النبي - صلى الله عليه وسلم - ويقولون بَيْنَهم: هو ساحِر وهو مَسْحور وما أشبه ذلك من القول. وقال أهل اللغة في قوله: (إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا) قولَيْنِ: أحدهما أن مَسْحوراً ذو سَحْرٍ، والسحْرُ الرنَّةُ، وقالوا: إنْ تتبعون إلا من له سَحْرٌ بشَر مِثلكم يأكل الطعام. قال لبيدٌ: فإن تسألينا فيم نحنُ فإننا. . . عصافير من هذا الأنامِ المسحَّرِ

(49)

وقالوا: مَسْحوراً أي قد سحُر وأزيل عن حَدِّ الاسْتِوَاء * * * (وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49) الرُّفَاتُ الترابُ، والرفات أيضاً كل شيء حُطِمَ وكُسِرَ، وكل ما كان من هذا النحو فهو مبني على فُعَال، نحو الفُتَاتُ والحطَامُ والرفَاتُ والترابُ. وقوله: (خَلْقًا جَدِيدًا)، فِي مَعْنَى مُجدَّدِ. * * * وقوله: (قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51) أكثر ما جاء في التفسِير في قوله: (أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ) إن هذا الخلقَ هو الموْتُ، وقيل خلقاً مما يكبر في صدوركم نحو السَّمَاوَات والأرض والجبال. ومعنى هذه الآية فيه لطفٌ وَغُمُوضٌ، لأن القائل يقول: كيف يقال لهم كونوا حجارة أو حديداً وهم لا يستطيعونَ ذلك؟ فالجواب في ذلك أنهم كانوا يقِرون أن اللَّه جل ثناؤُه خالِقُهم، وينكرونَ أن الله يعيدهم خلقاً آخر، فقيل لهم استشعروا أنكم لو خُلقْتُمْ من حجارة أو حديدٍ لأماتكم اللَّه ثم أحْيَاكم، لأن القدرة التي بها أنشأكم - وأنتم مقرونَ أنه أنشأكم بتلك القدرة - بها يعيدكم، ولو كنتم حجارة أوْ حديداً، أو كنتم الموت الذي هو أكبر الأشياء في صدوركم. وقوله: (فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ). أي فسيحركون رؤوسهم تحريك من يبطل الشيء ويستبطئه. (وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ).

(52)

يقال أنْغَضْتُ رأسي إذا حركتُه أنْغِضُه إنغاضاً، ونَغَضَتِ السِّن تنغَضُ نغْضاً، ونغض برأسه ينغَضُ نَغْضاً إذَا حركه. قال العجاج. أَسَكَّ نَغْضاً لا يَني مُسْتَهْدَجا * * * وقوله: (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52) أي يعيدكم يوم القيامةِ. ومعنى تستجيبون بحمده. تستجيبون مقرين بأنه خالِقكُمْ. * * * وقوله: (وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (55) معنى ذكر داود ههنا أن اللَّهَ - جل ثناؤه - أعلم أنه قد فضل بعض النبيين على بعض، أي فَلَا يُنكِرُوا تفضَيلَ محمد - صلى الله عليه وسلم - وإعطاءَه القرآنَ، فقد أعطى الله داود الزبور. * * * وقوله: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أي ادعوا الذين زعمتم أنهم آلهتكم. وجاء في التفسير أشياء في هذه الآية، منها أنه قيل: قل ادعوا العُزَيْر وعيسى لأن النصارى واليهودَ زعموا أن هؤلاء آلِهَتهُم، فأعلمهم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أنهم لا يملكون كشف ضر عنهم ولا تحويلاً من وَاحِدٍ إلى آخرَ، وقيل إنه يُعْنَى به الملائكةُ لأن منهمُ من كان يعبد الملائِكة. وقيل إن قوماً من

(57)

العرب كانوا يعبدون نفراً من الجنِّ، فأسلم أولئك النفر من الجن ولم يعلم بهم من كان يعبدهم، فقيل فادعوا هؤلاء فإنهم لا يملكون ضراً ولا نفعاً. * * * وقوله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57) بالياء والتاء. (أولئك) رفع بالابتداء، و (الذين) رفع صفة لهم، و (يَبْتغون) خبرُ الابتداء، المعنى الجماعة الذين يدعون يبتغون إلى ربهِم الوسيلةَ، والوسيلة والسُّؤَال، والسُّؤْلُ والطلَبةُ، في معنى واحد. (أَيُّهُمْ أَقْرَبُ). إن شئت " أَيُّهُمْ " كان رفعاً بالابتداء، والخبر (أَقْرَبُ)، ويكون المعنى يطلبون إلى ربهم الوسيلة - ينظرون أيهم أقرب إليه فيتوسلون به. فإن قال قائل: فالذي أنْكَرَ عَليهِمْ هو التوسلُ بغير عبادَةِ اللَّهِ إلى اللَّه، لأنهم قالوا: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)، فالفرق بين المتوسلين إلى اللَّه بمحبَّةِ أنبيائه وملائكته وصالحي عبادِه أنهم يتوسلون بهم مُوحِّدين اللَّهَ عزَّ وجلَّ، لا يجعلون له شريكاً في العبادة، والكفار يتوَسلُونَ بعبادة غير اللَّه، فجعلوا الكفر وسيلَتَهُمْ. ويجوز أن يكون (أَيُّهُمْ أَقْرَبُ) بدلاً من الواو في (يبتغون) فالمعنى يبتغي أيهم هو أقرَبُ الوسيلة إلى اللَّهِ، أي يتقرب إليه بِالعَمَلِ الصالح. (وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ). أي الذين يزعمون أنهم آلِهة يرجون ويخافون.

(58)

قوله: (وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58) أي ما من أهل قرية ألا سيهلكون، إما بموت وَإما بِعَذابٍ يَسْتَأصِلَهُمْ. (كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا). أي مكتوباً. * * * (وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59) (أن) الأولى نصب، و (أن) الثانية رفع. المعنى ما منعنا الإرْسَالَ ألا تكذيبُ الأولينَ. والتأويل أنهُمْ سألوا الآيَاتِ التي استوجب بها الأولونَ العذابَ، لمَّا كذبوا بها، فنزل عليهم العذابُ، والدليل على أنهم سألوا تلك الآيات قولهم: (لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى)، فأَعلم اللَّهُ - جل ثناؤه - أن مَوْعِدَ كُفَار هذه الأمةِ الساعة، فقال: (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ). فأخَّرَهم إلى يوم القيامة رحمة منه وتفضلاً. (وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً). ويقرأ (مُبْصَرَةً) فمن قرأ (مُبْصِرَةً)، فالمعنى تبصرهم، أي تبين لهم، ومن قرأ (مُبْصَرَةً) فالمعنى مبينةً، (فَظَلَمُوا بها)، أي فظلموا بتكذيبها (1). * * * وقوله: (وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60) جاء في التفسير: أحاط بهم أيْ كلهُمْ فِي قبضته، وعن الحسَن أحاط بالناس أي حال بينهم وبين أنْ يقتلوك أو يَغْلِبُوكَ كما قال - عزَّ وجلَّ - (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ).

_ (1) قال الإمام زين الدين محمد بن أبى بكر الرَّازى فإن قيل: قوله تعالى: (وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ. . .الآية) فيها أسئلة أولها: أن الله تعالى لا يمنعه عما يريده مانع، فإن أراد إرسال الآيات كيف يمنعه تكذيب الأمم الماضية؟ وإن لم يرد إرسالها كان وجود تكذيبهم وعدمه سواء، وكان عدم الإرسال لعدم الإرادة، الثانى: أن الإرسال يتعدى بنفسه قال الله تعالى: (إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ) فأى حاجه إلى الباء؟ الثالث: أن المراد بالآيات هنا ما اقترحه أهل مكة على رسول الله صلى الله عليه وسلم من جعل الصفا ذهباً، وإزالة جبال مكة ليتمكنوا من الزراعة، وإنزال كتاب مكتوب من السماء ونحو ذلك. وهذه الآيات ما أرسلت إلى الأولين ولا شاهدوها فكيف كذبوها؟ الرابع: تكذيب الأولين لا يمنع إرسالها إلى الآخرين لجواز أن لا يكذب الآخرون، الخامس: أي مناسبة وارتباط بين صدر الآية وقوله تعالى: (وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً)؟ السادس: ما معنى وصف الناقة بالابصار؟ السابع: إن الظلم يتعدى بنفسه قال الله تعالى: (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ) فأى حاجة إلى الباء، وهلا قال فظلموها يعنى بالعقر والقتل؟ الثامن: أن قوله تعالى: (وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا) يدل على الارسال بها وقوله تعالى: (وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ) يدل على عدم الإرسال بها؟ قلنا: الجواب على الأول: أن المنع مجازعبر به عن ترك الإرسال بالآيات، كأنه تعالى قال: وما كان سبب ترك الإرسال بالآيات إلا أن كذب بها الأولون، (وعن) الثانى: أنى الباء لتعدية الإرسال إلى المرسل به، لا إلى المرسل لأن المرسل محذوف وهو الرسول. تقديره: وما منعنا أن نرسل الرسول بالآيات، والإرسال يتعدى إلى المرسل نفسه وإلى المرسل به بالباء، وإلى المرسل إليه بالى قال الله تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (96) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ) وعن الثالث: أن الضمير في قوله تعالى: (بها) عائد إلى جنس الآيات المقترحة لا إلى هذه الآيات المقترحة كأنه تعالى قال: وما منعنا أن نرسل بالآيات التى اقترحها أهل مكة إلا تكذيب من قبلهم بالآيات المقترحة يريد المائدة والناقة ونحوهما مما اقترحه الأولون على أنبيائهم، (وعن) الرابع: أن سنة الله تعالى في عباده أن من اقترح آية على الأنبياء وأتوه بها فلم يؤمن عجل الله هلاكه، والله تعالى لم يرد هلاك مشركى مكة لأنه تعالى علم أنه يولد منهم من يؤمن، أو لأنه قضى وقدر في سابق علمه بقاء من بعث إليهم محمد عليه الصلاة والسلام إلى يوم القيامة، فلو أرسل بالآيات التى اقترحوها فلم يؤمنوا لأهلكهم، وحكمته اقضت عدم إهلاكهم، فلذلك لم يرسل بها فيصير معنى الآية وما منعنا أن نومل بالآيات المقترحة عليك إلا أن كذب بالآيات المقترحة الأولون فأهلكوا فربما كذب بها قومك فأهلكوا. (وعن) الخامس: أنه تعالى لما أخبر أن الأولين كذبوا بالآيات المقترحة عين منها واحدة وهى ناقة صالح عليه الصلاة والسلام، لأن آثار ديارهم المهلكة في بلاد العرب قريبة من حدودهم يبصرها صادرهم وواردهم. (وعن) السادس: أن معنى مبصرة دالة كما يقال الدليل مرشد وهاد، وقيل: مبصراً بها كما يقال: ليل نائم ونهار صائم أي ينام فيه ويصام فيه، وقيل: معناه مبصرة يعنى أنها تبصر الناس صحة نبوة صالح عليه الصلاة والسلام، ويعضد هذا قراءة من قرأ مبصرة بفتح الميم والضاد أي تبصرة، وقيل: مبصرة صفة لآية محذوفة تقديره: آية مبصرة أي مضيئة بينة، (وعن) السابع: أن الباء ليست لتعدية الظلم - هنا - إلى الناقة بل معناه فظلموا أنفسهم بقتلها أو بسببها، وقيل: الظلم - هنا - الكفر، فمعناه فكفروا بها، فلما ضمن الظلم معنى الكفر عداه تعديته. (وعن) الثامن: أن المراد بالآيات ثانياً العبر والدلالات لا الآيات التى اقترحها أهل مكة. أهـ {أنموذج جليل في أسئلةٍ وأجوبةٍ عن غرائبِ آي التنزيل صـ 283 - 286}

(61)

وقوله: (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ). جاء في التفسير أنها رُؤيَا بيت المقدس حين أسْرِيَ به، وذلك أنه ارتدَّ بعضهم حين أعلمهم قصة الإسراء به، وازداد المؤمنونَ المخلصون إيماناً. وجاء في التفسير أنه يرِو رأى في منامِه قَوماً يرقون المنابِرِ فساءه ذلك، فأعلم - صلى الله عليه وسلم - أنه عطاء في الدنيا. (وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ). قيل في التفسير الملعون أكلُها، وهِيَ شجرةُ الزقُّومِ التي ذكرها اللَّه في القرآن فقال: (إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44). وقال: (فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66). وقال: (إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64). فافتتن بها المشركونَ، فقال أبو جهل: ما نعرف الزقوم إلا أكل التمر بالزبد فتزقموا. وقال بعضُ المشركين: النار تأكل الشجر فكيف ينبتُ فيها الشجر، فلذلك قال جل ثناؤه: (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ). فإن قال قائل: ليس في القرآن ذكر لَعْنِها؟ فالجواب في ذلك لُعِنَ الكُفَارُ وهم آكلوها. وجواب آخر أيضاً أن العرب تقول لكل طعام مكروه وَضَارٍّ: مَلْعُونٌ. * * * وقوله: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61)

(62)

المعنى لِمَنْ خلقته طِيناً، وطيناً منصوب على جهتين: إحداهما التمييز، المعنى لمن خلقته مِنْ طِينٍ. ويجوز أن يكون " طيناً " منصوب على الحال. المعنى أنك أنشاته في حال كونه من طين. * * * وقوله: (قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62) جاءت " قال " ههنا بغير حرف عطف لأنه على معنى قال اسجُدْ لمن خَلقْتُ طيناً. وقوله: (أَرَأَيْتَكَ) في معنى أخبرني؛ فالكاف لا موضع لها، لأنها ذكرت في الخطاب توكيداً، وموضع (هذا) نصبٌ بـ (أَرَأَيْتَكَ). والجواب محذوف المعنى أخبرني عن هذا الذي كرمت عليَّ لم كرمْتَه عَلَيَّ وقد خَلَقْتَنِي من نارٍ وخَلَقْتَهُ من طينٍ، فحذف هذا لأن في الكلام دليلاً عليه. ومعنى: (لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا). لأستأصلنهم بالإغواء لهم، وقيل لأسْتَوْليَنَ عليهم. والذي تقول العرب: قد احتنكت السَّنَةُ أموالَنَا إذا استأصلتها. قال الشاعِر: نَشْكُو إليك سنة قد أجحفت. . . جَهْداً على جَهْدٍ بنا وأضْعَفَتْ واحتنكت أموالَنَا وجلَّفَتْ وقوله: (قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63) (جَزَاءً مَوْفُورًا). أي مُوَفر، يقال منه وَفَرْته أفِرُهُ فَهُو مَوْفورٌ. قال زهَيرٌ: ومن يجعل المعروف من دون عرضه. . . يفره ومن لا يتقي الشتم يشتم

(64)

وقوله: (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64) معناه استدعهم استدعاء تستخفهم به إلى إجابتك. و (بِصَوْتِكَ) تفسيره بدعائِكِ، وقيل (بِصَوْتِكَ) بأصوات الغناء والمزامير. وقوله: (وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ). أي أجمع عليهم كل ما تقدر عليه من مكايدِك، وقيل في التفسير: خَيْله ورَجْلُه كل خيل يسعى في معصية اللَّه فهي من خيل إبليس، وكل مَاش في معصية فهو من - رجال إبليس، ورَجِل جمع رَاجل، ويجوز ورِجَالِك فيكون جَمْع رَاجِل ورِجَال مثل صاحب وصحاب. وجائز أن يكون لإبليس خيل وَرِجَال. وقوله: (وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ). أي مرهم أن يجعلوا من أموالهم شيئاً لغير اللَّه كما قال اللَّه سبحانه: (فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا). وما قالوه في السائبة والبحيرة. والشركة في الأولاد قولهم: عبد العزى، وعبد الحرث. وقيل شركته في الأولاد يعنى به أولاد الزنا، وهو كثير في التفسير، وكل معصية في ولد أو مال فإبليس اللعين شريكهم فيها. قوله: (وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا). فإن قال قائل فكيف يجوز أن يؤمَرَ إبليس أن يقال له شاركهم في الأموال والأولاد وأجْلِبْ علَيْهم بخيلك ورجلك وعِدْهُمْ بأنهم لا يُبْعَثُون؛ فإذا فعل ذلك فهو مطيع؟ فالجواب في ذلك أن الأمر على ضربين: أَحدهما متبع

(65)

لا غير، والثاني إذا تقدمه نهي عما يؤمر به فالمعنى في الأمر الوعيد، والتهديد لأنك قد تقول: لا تدخلن هذه الدار، فإذا حاول أن يدخلها قلْت: أدخلها وأنْتَ رَجُلْ، فَلَسْتَ تَأمُرُه بدخولها ولكنك توعده وتُهددُهُ وهذا في اللغة والاستعمال كثير موجود، ومثله في القرآن: (اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ). وقد نُهوا أنْ يَتَبعُوا أهْوَاءَهُم وأن يعملوا بالمعاصي. * * * وقوله: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65) أي من أخلص فلا حجة لك عليه ولاسلطان. (وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا). أي كفى باللَّهِ وكيلا لأوليائه، يعصمهم من القبول من إبليس. * * * وقوله: (رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66) تفسير (يُزْجِي) يسَيِّر، وقد زجَّيْتُ قدمت الشيء، وهذا الكلام ذكر معطوفاً على قوله: (كُونُوا حِجَارَةً أوْ حَدِيدًا) وقوله: (قُل الَّذِي فَطرَكُم أولَ مَرةٍ) فالمعنى أنه يبعثكم الذي بدأ خلقكم، والابتداء والإنشاء أشد من الإعادة. ثم أعلمهم أَن الذي قدر على تسخير الفلك في البحر - والفلك كالجبال - قادر على إعَادَتِهِمْ، قال اللَّه تعالى: (وَلَهُ الجوَارِ المُنْشَآتُ في البَحْرِ كالأعْلَام) أي كالجبال. (وَكَانَ اَلإنْسَانُ كَفُوراً). الإنسان ههنا يعنى به الكفار خاصة. * * * وقوله: (أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68) الحاصب التراب الذي فيه الحصباء، والحصباء حَصًى صِغَار.

(69)

وقوله: (أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69) (ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا) أي لا تجدوا مَنْ يَتبِعُنَا بإنْكَارِ مَا نَزَلَ بكم، ولا من يتبِعُنَا بأن يصرفه عنكم. * * * وقوله: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70) تأويله أن اللَّه - جل ثناؤه - فضلهم بالتمييز، وبأن سخر لهم ما في السَّمَاوَات والأرض وبِحَمْلِهِم في البر والبحْرِ. (وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا). قال: (عَلَى كَثير) ولم يقلْ عَلَى كُلِّ مَنْ خلقنا، لأن اللَّه - جل وعلا - فضل الملائكة، فقال: (وَلاَ المَلَائِكَةُ المُقَربُونَ). ولكن ابن آدم مفضل على سائر الحيوان الذي لا يعقل ولا يميز. وجاء في التفسير أن فضيلة ابن آدَم أنه يمشي قائماً وأن الدوابَّ والإبلَ والحميرَ وما أشبهها تمشي مُنْكَبَّةً، وأن ابن آدم يتناول الطعام بيديه ويرفعه إلى فيه، وأن سائر الحيوان يتناول ذلك بفيه. وهذا الذي في التفسير هو بعض ما فُضلَ به ابن آدم. وفضله فيما أعطي من التمييز ورزق من الطيبات وبُصِّرَ من الهدَى مع ما لا يحصى من النعم عليه كثير جدًّا. * * * وقوله: (يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71) وتقرأ يوم يَدْعُو - بالياء - (كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ)، يعنى به يوم القيامة، وهو منصوب على اذكر يوم يدعو كل أناس بِإمَامِهِمْ، ويجوز أن يكون منصوباً بمعنى يعيدكم الذي فطركم يوم يدعو كل انَاس بإمامهم، ومعنى بإمامهم

(72)

بدينهم الذيْ ائتموا به، وقيل بكتابهم، والمعنى واحدٌ. ويدل عليه (فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ). أي من كان على حق أعطي كتابه بيمينه. (وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا). المعنى ولا يظلمون مقدار فتيل، والفتيل القشرة التي في شق النواة. * * * (وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72) أي في هذه الدنيا. (فَهُوَ في الآخِرَةِ أَعْمَى). وهذا من عمى القلب، أي هو في الآخرة أشَد عَمًى. وتأولله أنه إذا عَمِيَ في الدنيا، وقد عَرَّفَهُ - جل وعلا - وجَعَلَ له إلى التوبة وُصْلَةً، وفَسَحَ لَه في ذلك إلَى وقت مماته، فعمي عن رشده ولم يَتُبْ ففي الآخرة لا يجد متاباً ولا مُتَخلَّصاً مما هو فيه، فهو في الآخرة أشد عمى (وَأضَل سَبِيلاً). أي وأضل طريقاً، لأنه لا يجد طريقاً إلى الهداية فقد حصل على عمله. وقوله: (وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) معنى الكلام كادوا يفتنونك، ودخلت " إن " واللام للتوكيد، وتأويله أن المشركين قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم -: لا نتركُكَ تستلم الحجر حَتى تلِمَّ بآلهتنا، فقال - صلى الله عليه وسلم - في نفسه، وما عَلَى أنْ أفعل ذلك واللَّه يعلم ما في نفسي، وأتمكن من استلام الحجر. هذا مما جاء في التفسير.

(74)

وجاء في التفسير أيضاً أن المشركين قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم -: اطرد عنك سقاط الناس ومَوَالِيَهُمْ وهؤلاء الذين رائحتُهُم رَائِحَة الضأنِ، وذلك أنهم كانوا يلبسون الصوف، فَقالوا: اطرد هؤلاء إن كنت أرْسِلْتَ إلينا حتى تجلس إلينا ونسمع منك فَهَمَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يفعل في ذلك ما يستدعي به إسْلَامهم، فتوَعدُهُ اللَّه - عز وجل - فيه أشد الوعيد (1) وَعَصَمَهُ الله من أن يُمْضِيَ ما عَزَمَ عليه، فقال: (وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا). أي إن فعلت ما أرادُوا لاتخذوك خليلاً. * * * (وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) وحُكِيت (تركُن) بضم الكاف. يقال رَكَن يركَن، وركَن يركُنُ، فتوعده اللَّه في ذلك أشد التوعد، فقال: (إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75) والمعنى لو رَكنْتَ إليهم في ذلك الشّيءَ القليلَ إذن لأذقناكَ ضِعْفَ الحياة وضِعْفَ المماتِ، أي ضِعْفَ عذاب الحياة وضعفَ عَذابِ المماتِ لأنك أنت نبي وُيضَاعَفُ لك العذاب على عذاب غيركِ لو جنى هذِه الجناية كما قال: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ) لأن درجة النبِيِ وَدَرَجَةَ آله الذين وَصَفَهُم اللهُ فَوقَ دَرَجَةِ غيرهم. * * * وقوله: (وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76) كانوا قد كادوا أن يخرجوا النبي - صلى الله عليه وسلم - من مكة فأعلمهم الله أنهم لو فعلوا ذلك لم يَلْبَثُوا بَعدَه إلا قلِيلًا. وقيل (لَيَسْتَفِزُّونَكَ)، أي لَيقْتُلونَكَ.

_ (1) قال القاضي عياض ما نصه: قَالَ الْفَقِيهُ الْقَاضِي - وَفَّقَهُ اللَّهُ - يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ الْمُجَاهِدِ نَفْسَهُ، الرَّائِضِ بِزِمَامِ الشَّرِيعَةِ خُلُقَهُ أَنْ يَتَأَدَّبَ بِأَدَبِ الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ، وَمُعَاطَاتِهِ، وَمُحَاوَرَاتِهِ، فَهُوَ عُنْصُرُ الْمَعَارِفِ الْحَقِيقِيَّةِ، وَرَوْضَةُ الْآدَابِ الدِّينِيَّةِ، وَالدُّنْيَوِيَّةِ، وَلِيَتَأَمَّلَ هَذِهِ الْمُلَاطَفَةَ الْعَجِيبَةَ فِي السُّؤَالِ مِنْ رَبِّ الْأَرْبَابِ، الْمُنْعِمِ عَلَى الْكُلِّ، الْمُسْتَغْنِي عَنِ الْجَمِيعِ، وَيَسْتَشِيرَ مَا فِيهَا مِنَ الْفَوَائِدِ، وَكَيْفَ ابْتَدَأَ بِالْإِكْرَامِ قَبْلَ الْعَتْبِ، وَآنَسَ بِالْعَفْوِ قَبْلَ ذِكْرِ الذَّنْبِ إِنْ كَانَ ثَمَّ ذَنْبٌ. وَقَالَ - تَعَالَى -: وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا [الْإِسْرَاءِ: 74] الْآيَةَ. قَالَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ: عَاتَبَ اللَّهُ - تَعَالَى - الْأَنْبِيَاءَ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - بَعْدَ الزَّلَّاتِ، وَعَاتَبَ نَبِيَّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ وُقُوعِهِ، لِيَكُونَ بِذَلِكَ أَشَدَّ انْتِهَاءً، وَمُحَافَظَةً لِشَرَائِطِ الْمَحَبَّةِ، وَهَذِهِ غَايَةُ الْعِنَايَةِ. ثُمَّ انْظُرْ كَيْفَ بَدَأَ بِثَبَاتِهِ، وَسَلَامَتِهِ قَبْلَ ذِكْرِ مَا عَتَبَهُ عَلَيْهِ، وَخِيفَ أَنْ يَرْكَنَ إِلَيْهِ، فَفِي أَثْنَاءِ عَتْبِهِ بَرَاءَتُهُ، وَفِي طَيِّ تَخْوِيفِهِ تَأْمِينُهُ وَكَرَامَتُهُ. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ [الْأَنْعَامِ: 33] الْآيَةَ. اهـ (الشفا بتعريف حقوق المصطفى. ص: 130 - 131). وقال الثعالبي: * ت *: وجزى اللَّه ابنَ الأنباريِّ خيراً، وإن تنزيه سائر الأنبياء لواجبٌ، فكيف بسيِّد ولد آدم صلى الله عليه وعليهم أجمعين. قال أبو الفَضْل عياضٌ في «الشِّفَا»: قوله تعالى: {وَلَوْلاَ أَن ثبتناك لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً}: قال بعض المتكلِّمين: عاتب اللَّه تعالى نبيَّنا عليه السلام قبل وقوع ما يوجبُ العتاب؛ ليكون بذلك أشدَّ انتهاءً ومحافظةً لشرائط المحبَّة، وهذه غاية العناية، ثم انظُرْ كيف بدأ بثباته وسلامته قبل ذِكْر ما عاتبه عليه، وخيف أنْ يركن إِليه، وفي أثناء عتبه بَرَاءَتُه، وفي طَيِّ تخويفه تأمينُه. قال عياضٌ رحمه الله: ويجبُ على المؤمن المجاهِدِ نفسَهُ الرائِضِ بزمامِ الشريعةِ خُلُقَهُ؛ أن يتأدَّب بآداب القرآن في قوله وفعله ومعاطاته ومحاوراته فهو عنصر المعارف الحقيقة، وروضَةُ الآداب الدينية والدنيوية انتهى. قال * ع *: وهذا الهمُّ من النبيِّ صلى الله عليه وسلم إِنما كان خَطْرة مما لا يمكِنُ دفعه، ولذلك قيل: {كِدتَّ} وهي تعطي أنه لم يقعْ ركونٌ، ثم قيل: {شَيْئًا قَلِيلاً}؛ إِذ كانت المقاربة التي تضمنتها {كِدتَّ} قليلةً خطرةً لم تتأكَّد في النفْس. وقوله: {إِذًا لأذقناك. . .} الآية: يبطل أيضاً ما ذهب إليه ابنُ الأنباريِّ. * ت *: وما ذكره * ع * رحمه الله تعالى من البطلان لا يصحُّ، وما قدَّمناه عن عياضٍ حسنٌ؛ فتأمَّله. اهـ (الجواهر الحسان. 2/ 353 - 354)

(77)

وقوله: (سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77) (سُنَّةَ) منصوب بمعنى أنا سَنَنَّا هذه السنةَ فيمن أرسلنا قبلك من رُسُلِنَا. أنهم إذا أخْرَجُوا نبيهم من بين أظهرهم أو قتَلُوهُ لم يلبثهم العذاب أن ينزل بهم، وكان خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - من مكة مهاجراً بأمر اللَّه. وقوله: (أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78) دلوك الشمس زَوالها ومَيْلها في وقت الظَهِيرة، وكذلك ميلها إلى الغروب هو دُلُوكهَا أيضاً، يقال: قد دلكت بَراحِ وبِرَاحِ. أي قد مالت للزوال حتى صار الناظر يحتاج إذا تبصرها أن يكسر الشعَاعَ عن بصره براحته. قال الشاعر: هذا مقام قدمي رَبَاح. . . للشمس حتى دلكت براح وقوله: (إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ). أي ظُلْمَةِ الليلِ. (وَقُرْآنَ الفَجْرِ). أي فأقم قرآن الفجر، وفي هذا الموضع فائدة عظيمة تدل على أن الصلاة لا تكون إلا بقراءةٍ، لأن قوله أقِمِ الصلاة وأقِمْ قرآن الفجر قد أمر أن

(79)

نقيمَ الصلاة بالقراءة حتى سميت الصلاة قرآناً، فلا تكون صلاة إلا بقراءة. وقوله: (إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا). جاء في التفسير أن ملائكة الليل يحضرون قراءة الفجر، وملائكة النهار يحضرونها أيضاً. وقوله: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79) يقال تهجد الرجل إذا سَهِرَ، وهجَدَ إذَا نام، وقد هجَّدْتُه إذا نوَّمتُه قال لبيد: قلتُ هَجِّدْنا فقد طالَ السُّرَى. . . وقَدَرْنا إِن خَنا الدَّهْر غَفَلْ وهذه نافلة لك زيادة للنبي - صلى الله عليه وسلم - خاصَّةً ليست لأحدٍ غيرِه لأن اللَّه - عز وجل - أمره بأن يزْدَاد في عبادته على مَا أمِرَ به الخلقُ أجْمعونَ، لأنه فضله عليهم، ثم وعده أن يبعثه مقاماً محموداً. والذي صحت به الرواية والأخبار في المقام المحمود أنه الشفاعة. * * * وقوله: (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80) (أدْخِلْني مُدْخَلَ صِدْقٍ). ومَدْخَلَ صِدْقٍ، (وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ). وجاء في التفسير (أدْخِلْني مُدْخَلَ صِدْقٍ) الجنَّة، (وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ). أي وأخرجني من مكة إلى المدينة. وجاء أيضاً مُدْخَلَ ومخرج صدق دخوله

(84)

المدينة وخروجه من مكةَ. وجاء مُدْخَل صدق ومخرج صدق الِإدخال في الدين والخروج من الدنيا وهو على الحقِّ، وجاء أيضاً - وهو حسن - دخوله في الرسالة وخروجه مما يجب عليه فيها - صلى الله عليه وسلم - وكل ذلك حسن. فمن قال مُدْخَلَ - بضم الميم - فهو مصدر أدخلته مُدْخَلاً. ومن قال مَدخَل صدق فهو على أدْخَلْتهُ فدَخَل مَدْخَل صدق. وكذلك شرح مخرج مثله. وقوله: (واجْعَلْ لي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً). أي اجعل نصرتي من عندك بتسليطي بالقدرة والحجة، وقد أجاب اللَّه - عزَّ وجلَّ - دعاءه وأعلمه أنه يعصمه من الناس، فقال: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) وقال: (فَإن حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الغَالِبُونَ). وقال: (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ). * * * وقوله: (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا (84) معناه على طريقته وعلى مذهبه، ويدل عليه: (فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا). أي أهدى طريقاً. ويقال هذا طريق ذو شَوَاكل، أي يَتَشَعَّبُ منه طرق جماعة. * * * وقوله: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85) سألت إليهود النبي - صلى الله عليه وسلم -عن الروح وهم مقدرون أن يجيبهم بغير ما عَلِمَ مِن تفسيرها، فأعلمهم أن الروح من أمر اللَّهِ. ثم قال:

(86)

(وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) فقالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - قد أوتينا التوراة، وفيها الحكمة، وقَدْ تَلَوْتَ: (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا). فأعلمهم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أنَّ عِلْمَ التوراة قليل في علم اللَّه. فقال: (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ) أي ما نفدت الحكمةُ التي يأتي بها اللَّه عزَّ وجلَّ، فالتوراة قليلة بالإضَافَةِ إلَى كلمات اللَّه. وقليل وكثير لَا يصح إلا بالإضَافَة، فإنما يقل الشيء عندما يعلمُ أكثر منه، وكذلك يكثر عند مَعلوم هُوَ أقَل منه. وقد اختلف الناس في تفسير الروح فقيل إن الروح جبريل ومن تأول ذلك فدليله قوله: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ). وقيل إن الروح خلق لخلق بني آدم في السماء. وقال بعض المفسرين: إن الروح إنما يعنَى به القُرآنُ. قال: ودليل ذلك قوله: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ) وكذلك قيل: الروح من أمر ربي، وتأويله تسمية القرآن بالروح أن القرآن حياة القلوب وحياة النفس فيما تَصِير إليه من الخير عند اللَّه عزَّ وجلَّ. * * * وقوله: (وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86) أي لو شئنا لمحوناه من القلوب ومن الكتب حتى لا يُوجَدَ له أثر. (ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا).

(87)

أي لاتجد من يتوكل في رد شيء منه. وقوله: (إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87) استثناء ليس من الأول، والمعنى ولكن اللَّه رحمك فأثبت ذلك في قلبك وقلوب المؤمنين. ثم احتج اللَّه عليهم بعد احتجاجه بقوله (قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا) بالقرآن فأعلمهم - وهم العرب العاربةُ أهل البيان، ولهم تاليف الكلام - فقال لهم: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88) والظهير المعينُ. * * * وقوله: (وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) هذا قولهم بعد أن انقطعت حجتهم ولم يأتوا بسورة من القرآن ولا دفعوا أن يكون معجزةً، فاقترحوا من الآيات ما ليس لهم، لأن الذي أتاهم به من القرآن وانشقاق القمرِ وما دلهم به على توحيد اللَّه أبلغ وأعجز في القدرة مما اقترحوا، فقالوا: (حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا). واليَنْبُوعُ تقديره تقدير يَفْعُول، من نبع الشيء. * * * وقوله: (أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) (كِسَفًا) وَ (كِسْفًا)، فمن قرأ (كِسَفًا) جعلها جمع كِسْفَة، وهي القِطْعَةُ. ومن قرأ (كِسْفًا) فكأنَّه قال أو تَسقِطُهَا طبَقاً عَلَيْنَا، واشتقاقه من كسفتُ الشيء إذا غطيته. وقوله: (أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا). في " قَبِيل " قولان، جائز أن يكون. تأمر بهم حتى نراهم مقابلة. وأن يكون قبيلاً كفيلًا، يقال قَبُلْتُ بِهِ أقْبُل قَبالَة، كقولك: كفلت به أكفُل كَفَالَة،

(93)

وكذلك قول الناس: قد تقبل فلان بهذا أي تكفل به. * * * وقوله: (أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93) جاء في التفسير أن معناه بيت من ذهب، وأصل الزخرف في اللغة والزخرفة الزينَةُ، والدليل على ذلك قوله عزَّ وجلَّ: (حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا) أي أخذت كمال زينتها. وزخرفت الشيءَ إذا أكْملْتُ زينتَه، ولا شيء في تزيين بيتٍ وتحسينه، وزخرفته كالذهب. فليس يخرج ما فسروه عنِ الحق في هذا. وقوله: (أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ). يقال في الصعود: رقيت أرقى رقياً، ويقال فيما تداويه بالعوذة: رقيتُ أرقى رُقيَةً ورَقياً. وقوله: (حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ). أي ححَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا يشهد بِنُبُوتكَ. فأَعلم اللَّه - جل ثناؤه - أن ذلك لو نزل عليهم لم يؤمنوا فقال: (وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7). فإذا كانوا يدعون فيما يعجز عنه أنه سحر فكيف يوصل إلى تَبْصِيرَهِمْ والتبيين لهم بأكثر مما أتى به النبي - صلى الله عليه وسلم - من الآية الباقية، وهي القرآن، ومن الأنباء ما يدبرونه بينهم وبما يخبرهم به من أخبار الأمم السالفة، وهو لم يقرأ كتاباً ولا خطه بيمينه، وقد أنْبأ - صلى الله عليه وسلم - ودل على نبوته كل ما يخطر بالبال. وقوله: (وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94)

(96)

موضع (أن) نصب. وقوله: (إِلَّا أَنْ قَالُوا). موضع (أنْ قَالُوا) رفع، المعنى ما منعهم من الإيمان إلا قولهم: (أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا). فأَعلم اللَّه أن الأعدل عليهم، والأبلغ في الأداء إليهم بشر مثلهم وأعلمهم أن (لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ) أي يمشون مستوطنين الأرض (لنزلنا عليهم مِنَ السماءِ مَلَكَاً رسولاً)، لأنه لا يُرْسَلُ إلى خلق إلا ما كان مِن جِنْسِهِ. * * * وقوله: (قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (96) قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - من يشهد لك بأنك رسول اللَّه، فقال: اللَّه يشهد لي. و (كفى باللَّهِ شهيداً) في موضع رفع، المعنى كفى اللَّه شهيداً. و (شهيداً) منصوب على نوعين، إن شئت على التمييز، كفى اللَّه من الشهداء، وإن شئت على الحال، المعنى كفى اللَّه في حال الشهادة. * * * وقوله: (وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97) (كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا). أي كلما خَمَدَتْ، ونضجت جلودهم ولحومهم بدلهم اللَّه غيرها ليذوقوا العذاب. * * * وقوله: (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا (100) هذا جواب لقولهم: (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90). فأعلمهم اللَّه - جل وعلا - أنهم لو ملكوا خزائن الأرزاق لأمسكوا شُحًّا وبُخْلًا، فقال: (إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا). يعنَى بالإنسان ههنا الكافِر خاصة كما قال - عزَّ وجلَّ: (إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6)

(101)

أي لكفور، (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) أي من أجل حب الخير وهو المال لبخيل. فأمَّا (أنتم) فمرفوع بفعل مضمر، المعنى قل لو تملكون أنتم - لأن لو يقع بها الشيء لوقوع غيره، فلا يليها إلا الفعل، وإذا وليها الاسم عمل فيها الفعل المضمر، ومثل ذلك من الشعر قول المتلمس:. فلو غَيرُ أَخوالي أَرادوا نَقِيصَتي. . . جَعَلْتُ لهم فَوْقَ العَرانِينِ مِيسَما المعنى لو أراد غير أخوالي. والقتُور: البخيل. * * * وقوله: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101) قيل في التفسير إنها أخذ آل فرعون بالسنين وهي الجدب حتى ذهبت ثمارهم، وذهبَتْ من أهل البوادي مواشيهم. ومنها إخراج موسى يده بيضاء للناظرين، ومنها القاؤه عصاه فإذا هي ثعبان مبين، وأنها تلقفت إفك السَّحرِة. ومنها إرسال اللَّهِ عليهم الطوفان - نعوذ بالله منه، والجرادَ والقُمَّلَ والضفادع والدَّمَ، فذلك تسع آيات. وقد قيل إن البحر منها. ومن آياته انفجار الحجر ولكنه لم يُرْوَ في التفسَير.

(102)

وقوله: (إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا) لم يَجِدْ فَرعَونُ ما يدفع به الآيات إلا إقراره على نفسه بأنه ظانٌّ أن موسى مسحور، فأعلمه اللَّه أن فرعون قد بين أنها آيات فقال: (قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102) يعنى الآيات. (إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ). وقرأ بعضهم لقد علمتُ - بضم التاء - والأجود في القراءة لقد علمتَ - بفتح التاء - لأن علم فرعونَ بأنها آيات من عند اللَّه أوكد في الحجة عليه. ودليل ذلك قوله عزَّ وجلَّ في فرعونَ وقومه: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا). وقوله: (وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا). أي لأظنك مُهْلَكاً، يقال: ثُبِرَ الرجل فهو مثبور إذَا هَلَكَ. * * * وقوله: (فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103) أي فأراد فرعون أن يستفز موسى وقومَهُ مِنَ الأرْضِ فجائز أن يكون استفزارهم إخرَاجهم منها بالقتل أو بالتنحية. (فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا) * * * وقوله: (وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104) (جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا). أي آتينا بكم من كل قبيلة، واللفيف الجماعات مِن قبائل شَتى. * * * وقوله: (وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106) وتقرأ (فرَّقناهُ) - بالتشديد، وقرآناً مَنصوبٌ بفعل مُضمَر،

(107)

المعنى: وما أرْسلْنَاكَ إلا مُبَشِراً ونَذِيراً، تبشر المؤمنين بالجنة وتنذر من عصى اللَّه بالنار، وقرآناً فرقناهُ. أنزل اللَّه " عزَّ وجلَّ القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا، ثم أنْزلَ على النبي - صلى الله عليه وسلم - في عشرين سنة، فرقه اللَّه في التنزيل ليفهمْهُ الناسُ، فقال: (لِتَقْرَأهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكثٍ). ومَكثٍ جميعاً، والقراءة بضم الميم. * * * وقوله: (قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) (يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا) لأن الذي يخر وهو قائم يخر لوجهه، والذَّقَنُ مجتمع اللَّحْيَيْنِ وهو عضو من أعضاء الوجه، وكما يبتدئ المبتدئ يخر فأقرب الأشياء من وجهه إلى الأرض الذَّقنُ. و (سُجَّدًا) منصُوبٌ على الحال. * * * وقوله: (وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) معناه ما كان وعد ربنا إلا مفعولًا. وإن واللام دخلتا للتوكيد. * * * وقوله: (قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110) لما سمعت العرب ذكر الرحمن قالت: أتدعونا إلى اثنين إلى اللَّه وإلى الرحمن. واسم الرحمن في الكتب الأوَلِ المنزلة على الأنبياء. فأعلمهم اللَّه أن دعاءهم الرحمن ودعاءهم اللَّه يرجعان إلى شيءٍ واحدٍ فقال: (أَيًّا مَا تَدْعُوا) المعنى أي أسماء اللَّه تدعوا (فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى). * * * (وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا). المخافتة الِإخفاء، والجهر رفع الصوت، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا جهر

(111)

بالقرآن سب المشركون القرآن، فأمره اللَّه - جلَّ وعزَّ - ألا يعرض القرآن لسبهم، وألا يخافت بها مخافتةً لا يسمعها من يصلي خلفه من أصحابه. (وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا). أي اسلك طريقاً بين الجهر والمخافتة. * * * وقوله: (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111) يعاونه على ما أراد. (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ). أي لم يحتج إلى أن ينتصر بغيره. (وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا). أي عظِّمه عظَمَة تامَّةً.

سورة الكهف

سورة الكهف بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله عزَّ وجلَّ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قال أهل التفسير وأهل اللغة إن معناه الحمد للَّهِ الذي أنزل على عبده الكتاب قيماً ولم يجعل له عِوَجاً. ومعنى قيِّم مستقيم، والعِوَجُ - بكسر العين - فيما لا يرى له شخص، وما كان له شخص قيل فيه عَوَج بفتح العين. تقول: فِي دينه عِوَج، وفي العَصَا عَوَج - بفتح العين -. وتأويله الشكر للَّهِ الذي أنزل على محمد الكتابَ مستقيماً ولم يجعل له عِوَجاً، أي لم يجعل فيه اختلافاً كما قال جل ثناؤه: (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا). * * * وقوله: (قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2) أي لينذرهم بالعذاب البائس. (مِنْ لَدُنْه) مِنْ قِبَلِهِ. (وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا)

(3)

المعنى بأن لهم أجراً حسناً. * * * وقوله: (مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3) (مَاكثين) منصوب على الحال في معنى خالدين. * * * وقوله: (مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5) (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أفْوَاهِهِمْ). وتقرأ كلمة بالرفع والنصب، فمن نصب فالمعنى كبرت مقالتهم " اتخَذَ اللَّهَ وَلَداً " كلمةً، فكلمةً منصوب على التمييز. ومن قرأ كلمة بالرفع فالمعنى عظمت كلمة هي قولهم: " اتخذ اللْه ولداً " ويجوز في كبرت كبرْتْ كلمة - بتسكين الباء، ولا أعلم أحداً قرأ بها. * * * وقوله: (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6) تأويله فلعلك مهلك نفسك، وقال بعضهم قاتل نفسك. والمعنى واحد. قال الشاعر: أَلا أَيُّهذا الباخِعُ الوَجْدُ نفْسَه. . . لِشيءٍ نَحَتْهُ عن يَدَيْهِ المَقادِرُ المعنى ألا أيهذا الذي أهلك الوجد نفسه. ومعنى (عَلَى آثَارِهِمْ)، أيْ مِن بَعدِهم. (إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا). يعنى بالحديث القرآن، و (أسفاً) منصوب لأنه مصدر في موضع الحال،

(7)

والأسَف المبالغة في الحزن أو الغَضَبِ. يقَال قد أسِفَ الرجل فهو أسيفٌ وآسِفٌ. قال الشاعر: أَرَى رَجُلاً منهم أَسِيفاً كأَنَّمَا. . . يَضُمُّ إلى كَشْحَيْه كَفًّا مُخَضَّبا * * * وقوله: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) أي لنختبرهم، و (أَيُّهُمْ) مرفوعٌ بالابتداء، إلا أن لفظه لفظ الاستفهام المعنى لِيخْبرَ أهذا أحسن عملا أم هذا، فالمعنى: (إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها)، أي اختباراً ومحنة، فالحَسَن العَمَلِ من زهِدَ فيما زيِّنَ له من الدنيا، ثم أعلمهم أنه مبيدٌ ومُفنٍ ذلكَ كلَّه مقال: (وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8) والصَعيد الطريق الذي لا نبَاتَ فيه، والجرُز الأرض التي لا تنبت شيئاً كأنها تأكل النَبْتَ أكلًا، يقال أرْضِ جُرزٌ، وَأرضُون أجرَازٌ. * * * وقوله: (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9) والرقِيم قيل إنه اسم الجبل الذي كان فيه الكهف، والكهف كالفَجِّ وكالغَارِ في الجبل، وقيل إن الرقيم اسم القرية التي كانوا فيها. وقيل إن الرقيم لَوْحٌ كان فيه كتابٌ في المكان الذي كانوا فيه - واللَّه أعلم. وقيل كان المشركون سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الروح وعن أصحاب الكهف وعن ذي القرنين، وذلك أنهم أعياهم أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة فصارتْ جماعة منهم إلى يثرب فَاعلَمَتْ جماعةً من رؤساء إليهود بقصة رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فقالت إليهود إنَّ اسمه عندنا مكتوب وأن يبعث على فترة مِنَ الرسلِ فاسألوه عن هذه الأشياء فإن أجاب عنها فهو نبي، فصارت الجماعة من المشركين إلى مكة وجمعوا

(10)

جمعاًً كتيراً وسألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن هذه الأشياء. فأعلمهم أنه لا يعلمها، وأنه إن نزل عليه وحي بها أعلمهم. فروى بعضهم أنه قال: سأخبركم بها ولم يقل إن شاء الله فأبطأ عنه الوحي أياماً ونزلت: (وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ). فأخبرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بما أوحى الله إليه وأنزله الله في كتابه مما دل على حقيقة نبوته. ثم أعلم الله عزَّ وجلَّ أنَّ قصًةَ أصحاب الكهف ليست بعجيبة من آيات اللَّه، لأنَّا نشاهد من خلق السَّمَاوَات والأرض وما بينهما مما يدل على توحيد اللَّه ما هو أعجب من قصة أصحاب الكهف فقال جلَّ وعزَّ: (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9) أي: حتى نُبَيِّنَ قِصتَهُمْ. * * * وقوله: (إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10) ومعنى أَوَوْا إليه صاروا إليه وجعلوه مأواهم، والفتية جمع فتى مثل غلام وغِلْمَة، وصَبِيَ وَصِبْيَة، وَفِعْلَة من أسماءِ الجمع، وليس ببناء يقاس عليه، لا يجوز غُراب وغِرْبة، ولا غَنى وغنية. وقوله: (فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً). أي أعْطِنَا من عندِكَ رَحْمَةً، أي مَغْفِرةً ورزقاً. (وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا). يجوز في (رَشَداً) (رُشْداً) إلا أنه لا يُقْرأ بها ههنا لأن فواصل الآيات على فَعَلٍ نحو أمَدٍ وعدَدٍ، فَرَشدٌ أحْسَنُ في هذا المكان أي أرشدنا إلى ما يقرب منك ويزلف عندك.

(11)

وقوله (فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) معنى (ضربنا على آذانهم) منعْناهم - أن يسمعوا، لأن النائم - إذا سمع انتبه. فالمعنى أنمناهم، ومنعناهم السمعِ. و (عدداً) منصوب على ضربين: أحدهما على المصدر، المعنى نَعُدُّ عدَداً، ويجوز أن يكون نعتاً للسنين. المعنى سنين ذات عَدَدٍ، والفائدةُ في قولك عدد في الأشياء المعدودات أنك تريد توكيد كثرة الشيءِ لأنه إذا قل فُهِمَ مِقْدَارُهُ ومقدار عدده، فلم يحتجِ إلى أن يُعَدّ، فإذا كثُرَ احتاج إلى أن يعد، فالعدد في قَوْلكَ أقمت أياماً عدَداً أنك تُرِيدُ بها الكثرة. وجائز أن تؤكد بعدَدٍ معنى الجماعة في أنها قد خرجت من معنى الواحد. * * * فمعنى قوله: (ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12) أي بعثناهم من نومهم، ويقال لكل من خرج من الموت إلى الحياة أو من النوم إلى الانتباه مبعوث. وتأويل مبعوث أنه قد زال عنه ما كان يحبسه عن التصرف والانْبعاث. وقوله: (لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا). الأمد الغَايَةُ، و (أمداً) منصوب على نوعين، وهو على التمييز مَنْصُوب وإن شئت كان منصوباً على أحصى أمَداً فيكون العامل فيه أحصى، كأنه قيل لنعلَمَ أهؤلاء أحصى للأمد أم هؤلاء، ويكونُ منصُوباً بـ لبثوا، ويكون أحصى متعلقاً بـ (لِمَا) فيكون المعنى أي الحزبين أحصى للُبثهم في الأمد. * * * وقوله: (وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14) (لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا). أي قد قلنا إذَنْ جوراً. و (شطَطاً). منصوب على المصدر، المعنى لقد قلنا

(15)

إذَن قول شطط. يقال شط الرجُل وأشَطً إذا جار. قال الشاعر: ألَا يَا لَقَوْمي قد أشطت عواذِلي. . . وَيزْعمن أني أقْصَر اليوم باطلي * * * وقوله: (هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15) أنكر الفتية عبادة قومِهم، وأن يعبدوا مع الله غيره، فقالوا هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون. ولولا في معنى هلَّا، المعنى هلَّا يأتون عليهم بحجة بَينَةٍ، ومعنى عليهم أي على عبادة الآلهة. * * * وقوله: (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا (16) موضع (ما) نصب، المعنى إذا اعتزلتموهم واعتزلتم ما يعبدون إلا اللَّه فإنكم لن تتركوا عبادته. (فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ). أي اجعلوا الكهف مَأْوَاكًمْ (يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِهِ). أي يَنْشرْ لكم مِنْ رِزْق (وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا). يقال هو مِرْفَق اليد بكسر الميم وفتح الفاء، وكذلك مِرْفَقُ الأمْر مثل مِرْفق اليَدِ سواء. قال الأصْمَعي: لا أعرف غير هدا. وقَرَأتِ القراء مَرْفِقاً -

(17)

بفتح الميم وكسر الفاء. وذكر قطرب وغيرُه من أهل اللغة اللغَتَيْن جَميعاً في مَرْفقِ الأمر ومِرْفَق اليَدِ. وقالوا جميعاً المِرْفَق لليد بكسر الميم. هو أكثَرُ في اللغة وأجود. * * * وقوله: (وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17) في (تَزَاوَرُ) ثلاثة أوجه: تَزَاوَرُ، وتَزْوَرُّ - بغير ألف، على مثال تَحْمَرُّ. وتَزْوَارُّ على مثال تحمارُّ، ووجه رابع تزَاور. والأصل فيه تتزَاورُ فأدغمت التاء في الزاي. * * * (وَإذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشَمَال). (تَقْرِضُهم) بكسر الراء، وتَقْرُضهم - بضم الراء -. والكسر القراءة عليه، وتأويله تعدل عنهم وتتركهم. قال ذوالرئةَ: إِلى ظُعُنٍ يَقْرِضْنَ أَقْوازَ مُشْرِفٍ. . . شِمالاً وعن أَيمانهنَّ الفَوارِسُ يَقرِضنَ يتركن، وأصل القرض القطع والتفرقة بين الأشياء، ومن هذا قولك: اقْرِضْبي دِرْهَماً، تأويله اقطع لي مِنْ مَالِك دِرْهماً. وقوله: (وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ). أي في متسع منه (ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ). قيل إنَّ بابَ الكهفِ كان بِإزَاءِ بَنَاتِ نَعْشٍ، فلذلك لم تكن الشمس

(18)

تطلع عليهم وهذا التفسير ليس بِبَيِّنٍ، إنما جعل اللَّه فيهم هذه الآية لأن الشمس لا تقربهم في مطلعها ولا عند غروبها. وقوله: (ذَلِكِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ المُهْتَدِ). أكثر اللغة فهو المهتدي بإثبات الياء، وفي المصحف في هذا. الموضع بغير ياء وهذا في هذا الموضع كالذي في الأعراف، فهذا هو الوجه، وهو في الأعراف بالياء وفي الكهف بغير ياء. - وحذف الياء جائز في الأسماء خاصة ولا يجوز في الأفعال، لأن حذف الياء في الفعل دليل الجزم. وحذف الياء في الأسماء واقع إذا لم يكن أمع الاسم، الألف واللام، نحو مهتدٍ ومُقْتَدٍ، فأدخلت الألف واللام وترك الحذف على ما كان عليه. ودلت الكسرة على الياء المحذوفة. * * * وقوله: (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18) الأيقاظ: المنتبهونَ، والرقود النيامُ، وواحد الأيقاظ يقط ويقظان والجمع أيقاظ. قال الراجز: ووجدوا إخْوتهم أيْقَاظاً وقيل في التّفسير إنهم كانوا مُفَتحِي الأعْين، الَّذي يراهُم يتوهمهم منتبهين وقيل لكثرة تقلبهم يظن أنهم غير نيام، ويدل عليه (ونُقلِّبهُمْ ذاتَ اليَمِينِ وذَاتَ الشمِاَلِ) ويجوز وَتَحْسِبُهُم، وتحسَبهم. (وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ). والوصيد فناء البيت، وفناء الدار.

(19)

وقوله: (لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ). بكسر الواو، وتقرأ لوُ اطلعت عليهم بضم الواو، والكسر أجود، لأن الواو ساكنة والطاء ساكنة، فكسرت الواو لالتقاء السَّاكنين، وهذا هو الأصل. وجاز الضم لأن الضم من جنس الواو، ولكنه إذا كان بعد الساكن مضْمُوم فالضَم هُنَاكَ أحْسَنُ منه ههنا. نحو (أوُ انْقُصْ) - واو انقص بالضم والكسر - وقوله: (لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا). (فَراراً) منصوب على المصدر، لأن معنى وَلَّيْتَ فرَرْت منهم. (وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا). ورَعْباً ورُعُباً، ورُعْباً منصوب على التمييز، تقول: امتلأت ماء وامتلأت فَرَقاً، أي امتلأت مِنَ الفَرَقِ ومن الماء. وقيل في التفسير إنهم طالت شعورهم جدا وأظفارهم، فلذلك كان الرائي لو رآهُمْ لَهَرَبَ منهم مَرْعُوباً. * * * وقوله: (وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19) (فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ). فيها أرْبَعَةُ أوجه - بفتح الواو وكسر الراء، وبورْقكم بتسكين الراء وبوِرْقِكُمْ - بكسر الواو وتسكين الراء، يقال وَرِق، ووَرْق، ووِرْق، كما قيل: كَبِدٌ، وكَبْدٌ، وكِبْدٌ. وكسر الوَاو أردؤها. ويجوَزَ " بِوَرِقْكُمْ " تدغم القاف في الكاف وتصِيرُ كافاً خَالِصَةً. * * * وقوله: (فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا). (أيها) مرفوع بالابتداء، ومعنى (أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا) أي أي أهلها أزكى طعاماً، وأزكى خبر الابتداء، وطعاماً منصوب على التمييز. وقيل: إن تأويلَ

(20)

(أَزْكَى طَعَامًا) أحَل طعاماً، وذكروا أن القَوْمَ كان أكثرُهُمْ مَجُوساً، وكانوا لا يستنظفون ذبائحهم، وقيل: (أَزْكَى طَعَامًا) أي طعاماً لم يؤخذْ من غصْبٍ، ولا هو من جهة لا تَحِل. وقوله: (فَلْيَأتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ). وفَلِيَأتِكًمْ - بإسكان اللام وكسرها - والقراءة بإسكان اللام. والكسرُ جائز. قوله: (وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا). قيل لا يُعْلِمَنَ بكم، أي إنْ ظُهِرَ عَلَيْه فلا يُوقِعَنَّ إخْوَانَهُ فيما يقع فيه. * * * وقوله: (إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20) أي يقتلوكم بالرجم، والرجْمُ مِنْ أخبَثِ القَتْل. (أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا). " إذاً " تدل على الشرط، أي ولن تُفْلِحُوا إن رَجَعْتُم إلى مِلَّتِهِمْ. * * * وقوله: (وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21) أي أطلعنا عَلَيْهم (لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ)، أي ليعلم الذين يُكَذبُونَ بِالبَعْثِ أنَّ وعدَ الله حق، ويزداد من يؤمن به إيمَاناً. (وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ). أي يَتَنَاظَرون في أمرهم، فيجوز أن يكون " إذْ " مَنْصوباً بقوله (أعثرنا عليهم) فيكون المعنى وكذلك أعثرنا عليهم أي أطلعنا عليهم إذ وقعت المنازعة في أمرهم، ويجوز أن يكون منصوباً بقوله: ْ لِيَعْلَمُوا، أي لِيَعْلَموا في وقت منازعتهم.

(22)

وقوله: (قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا). هذا يدل - واللَّه أعلم - أنه لما ظهر أمْرُهُمْ غلب المؤمنون بالبعث والنشُورِ لأن المَساجِدَ للمؤمنين. * * * وقوله: (سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22) (ثَلَاثَةٌ) مرفوع بخبر الابتداء، المعنى سيقول الذين يتنازعون في أمرهم؛ هم ثَلاثَةٌ رَابعُهُم كلبهم. (رَجْمًا بِالْغَيْبِ). أي يقولون ذلك رجماً، أي ظنَّا وتخرصاً. قال زهير وما الحربُ إلا ما علمتم وذقتمو. . . وما هُوَ عنها بالحَديث المُرَجَّمِ (وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ). (وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ). دخول الواو ههنا وإخراجها من الأول واحِدٌ، وقد يجوز أن يكون الواو يدخل ليدل على انقطاع القصة وأن الشيء قد تمَّ. وقوله: (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ). روي عن ابن عباس أنه قال، كان أصحاب الكهف سبعة، وأنا من القليل الذين يعلمونهم، وقول ابن عباس إذا صح عنه فهو من أوثَق التفسير. وقوله: (فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا). أي لا تأتِ في أمْرِهم بغير ما أوحي إليك، أي أفْتِ في قِصتِهِمْ بالظاهِر الذي أنزل إليك.

(23)

(وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ). أي في أصحاب الكهف. (مِنْهُمْ أَحَدًا). أي من أهل الكتاب. * * * وقوله: (وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ). موضع (أن) نصبٌ، المعنى: لا تقولن إني أفعل أبداً إلا بمشيئة اللَّه، فإذا قال القائل: إني أفعل ذلك إن شاء اللَّه فكأنَّه قال: لا أفعل إلا بمشيئة اللَّه. وقوله: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24) أي أي وقت ذكرت أنك لم تستثنِ، فاستَثْنِ، وقل: إن شاء اللَّه. (وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا). أي قل عسى أن يعطيني من الآيات والدلالات على النبوة ما يكون أقرب في الرشد وأدَل من قصة أصحاب الكهف. * * * وقوله: (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25) جائز أن يكون (سنين) نصباً، وجائز أن تكون جرًّا. فأما النصبُ فعلى معنى فلبثوا في كهفهم سنِين ثلاَثَمائةٍ، ويكون على تقدير آخر " سِنين " معطوفاً على ثَلاَثٍ عطف البيان والتوكيد، وجائز أن تكون (سنين) من نعت المائة، وهو راجع في المعنى إلى ثلاث كما قال الشاعر

(26)

فيها اثنتان وأربَعُونَ حَلُوبَةً. . . سُودًا كخافِية الغُرابِ الأسْحَمِ فجعل سُودًا نعتاً لحلوبةٍ، وهو في المعنى نعت لجملة العَدَدِ، فجَائز أن يكون: ولَبِثُوا في كَهْفِهِمْ، مَحْمولاً على قوله: سَيَقُولُونَ ثَلاثةٌ رابعُهم كلبُهم ْوًيقُولُونَ لَبِثوا فِي كَهْفِهِمْ وهذا القول دليله قوله: (قلِ اللَّهُ أعلَمُ بِمَا لَبِثًوا). ويجوز - وهو الأجود عندي - أنه إخْبَارٌ عن الله أخبرهم بطول لُبْثِهِم. وأعلَمَ أنَّهُ أعلَمُ بذلك. وكان هذا أبلغ في الآية فيهم أن يكون الصحيح أنهم قد لبثوا هذا العدَدَ كلَّهُ. فأمَّا قوله: (وازْدَادوُا تِسْعاً). فلا يكون على معنى وازْدَادُوا تسع لَيَال، ولا تسع ساعاتٍ، لأن العدَدَ يعرف تفسيره، وإذا تقدم تفسيره استغنى بما تقدم عن إعادة ذكر التفسير. تقول: عندي مائة درهم وخمسة فيكون الخمسة قد دل عليها ذكر الدرهم وكذلك قوله: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا). قال أبو العباس محمد بن يزيد: (وَعَشْرًا) معناه وعشر مُدَدٍ، وتلك المدد كل مدة منها يوم ولَيلَة، والعرب تقول: ما رأيته منذ عشر. وأتيته لِعَشْرٍ خَلَونَ، فيغلِّبُون الليالي على ذكر الأيام، والأيام داخلة في الليَالِي والليالي مع اليوم مُدة معلومَةْ مِنَ الدهْرِ، فتأنيث عشر يدل على أنه لا يراد به أشْهُر فهذا أحسن ما فُسِّر في هذه الآية. وقوله: (قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26) (أبْصِرْ بِهِ وأسْمِعْ).

(27)

أجمعت العلماء أن معناه ما أسمَعَه وأبْصَرَه. أي هُوَ عالم بقصة أصحاب الكهف وغيرهم: وقوله: (وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا). قرئت: (وَلَا يُشْرِكْ) عَلَى النهْي. والآية - واللَّه أعلم - تَدُلُ عَلَى أحَدِ مَعْنَيْينِ: أحدهما أنه أجْرَى ذكر علمه وقدرته، فأعلم عزَّ وجلَّ أنه لا يُشْرِكُ في حُكمِه مما يخبر به من الغَيْبِ أحَداً، كما قال: (عَالِمِ الغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أحَدَاً) وكذلك إذا قرئت: وَلَا تُشْركْ - بالتاء - في حكمه أحَداً، أي لا تَنْسُبَنَّ أحَداً إلى عِلْمِ الغَيْب، ويكون - واللَّه أعلم، وهو جيَدٌ بالغ - على معنى أنه لا يجوز أن يحكم حاكم إلا بما حكم اللَّه، أو بما يدل عليه حكم اللَّه، وليس لأحَدٍ أن يحكم من ذات نفسه، فيكون شريكاً للَّهِ في حكمه، يأمر بحكم كما أمر اللَّه عزَّ وجلَّ. * * * وقوله: (وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27) أي لَنْ تَجِدَ مَعْدِلًا عَنْ أمره ونَهْيِه، ولا ملجأ إلا إليه. وكذلك: (لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ). أي ما أخبر الله به، وما أمر به فَلَا مُبَدِّلَ له. * * * وقوله: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28) وقرئت بالغُدوَةِ والعَشي، وبالغَدَاةِ والعشَي أجوَدُ في قول جَمِيع العُلَماءِ لأن " غَدْوَة " معرفة لا تدخلها الألف واللام، والذين أدخلوا الألف واللام

(29)

جعلوها نكرة، ومعنى يدعون ربهم بالغداة والعشي، أي يدعونه بالتوحيد والإخلاص له، ويَعْبُدونه يريدون وجهه، أي لا يقصدون بعبادتهم إلا إياه. وقوله: (وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ). أي لا تصرف بصرك إلى غيرهم من ذوي الهيئات والزينة. روي أن جماعة من عظماء المشركين قالوا للنبي عليه السلام،: باعد عنك هؤلاء الذين رائحتهم كرائحة الضَّأنِ، وهم مَوَال وليسوا بأشراف لِنُجالِسَك ولنَفْهَمَ عنك، يعنون خَبَّاباً، وصُهَيْباً وعَمَّاراً - وبِلَالًا ومن أشبهَهُم، فأمره اللَّه بأن لا يفعل ذلك وأن يجعل إقباله على المؤمنين وألا يلتفت إلى غيرهم فقال: (وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا). أي كان أمْرُهُ التفريطُ، والتفريط تقديم العجزِ. * * * وقوله: (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29) المعنى وقل الدي أتيتكم به الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ. (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ). هذا الكلام ليس بأمْرٍ لَهُمْ، ما فعلوه منه فهم فيه مطيعون، ولكن كلام وعيد وإنذار قد بين بعده ما لكل فريق مِنْ مؤمِن وكافر. قال عزَّ وجلَّ: (إِنَا أعْتَدْنَا للظَّالِمينَ نَاراً). معنى أعتدنا جعلناها عِتَاداً لهم كما تقول: جعلت هذا عُدةً لهذا. والعِتادُ: الشيء الثابت اللازم. وقوله: (أحَاطَ بِهِمْ سُرادِقُهَا).

أي صار عليهم سُرَادِق من العذاب، والسرادق كل ما أحاط بشيء نحو الشقة في المضرب والحائط المشتمل على الشيء. وقوله: (كَالمُهْلَ). يعنى أنهم يغاثون بماء كالرّصَاصِ المُذَابِ أىِ الصُّفرِ والفِضَّةِ، وكل ما أذَبْتَه من هذه الأشياء فهو مُهْل. وقيل المهل: دُرْدِيُّ الزَّيت أيضاً. وقيل المهل صَدِيدُ الجرح. (يَشْوِي الْوُجُوهَ). أي إذا قُدِّمَ ليشْرَبَ أشْوَىَ الوَجْهُ مِنْ حرارته. (بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا). (مُرْتَفَقًا) منصوب على التمييز، و (مُرْتَفَقًا) منزلاً. وقال أهل اللغة (مُرْتَفَقًا): متكأً. وأنشدوا. إنْي أَرِقتُ فبتُّ الليلَ مُرتفقاً. . . كأَنَّ عَيْنِي فيها الصَّابُ مَذْبُوحُ

(30)

وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) خبر (إِنَّ) هنا على ثلاثة أوجه: فأحدها أن يكون على إضمار " إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً منهم "، ولم يحتج إلى ذكر منهم لأن الله تعالى قد أعلمنا أنه يحبط عمل غير المؤمنين، قال عزَّ وجلَّ: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا). ويجوز أن يكون خبر (إِنَّ): (أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ) ويكون قوله: (إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا) قَدْ فُصِلَ به بين الاسم وخَبَرِه، لأن فيه ذكر ما في الأول، لأن من أحسن عملاً بمنزلة الذين آمنوا. وَوَجْهُ ثالث، أنْ يكون الخبر (إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا) في معنى إنا لا نضيع أجرهم، لأن ذكر " مَنْ " كذكر الذي، وذكر حُسْنِ العَمَل كذِكْرِ الإيمان. فيكون كقولك: إن الذين يعملون الصالحات إن الله لا يضيع أجر من آمن، فهو كقولك إن اللَّه لا يضيع أجرهم. (أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31) ومعنى (جناتُ عَدْنٍ) جنات إقَامة. وقيل في التفسير جنات عَدْن، جنات من الأربع الجِنَانِ التي أعدها الله لأوليائه. (يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ). أساور جمع أسْوِرة، وأسْوِرَة جمع سوار. يقال هُو سِوَارٌ في اليد بالكَسْرِ، وَقَدْ حُكِيَ سَوار وحكي قطرب إسْوَار، وذكر أن أساور جمع إسْوَار، على حذف الياء، لأن جمع أسوار أساوير.

(32)

(وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ). والسندس والإستبرق نوعان من الحرير. (مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا). الأرائك واحدتها: أريكة، والأرائك الفرش في الحجال. و (مُرْتفقاً) منصوب على التمييز وقد فسرنا المرتفق. * * * وقوله: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كان المشركون سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - بمشورة إليهود عليهم أن يسألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قصة أصحاب الكهف وعن الروح وعن هذين الرجلين، فأعلمه اللَّه الجواب وأنه مثل له عليه السلام وللكفار، ومثل لجميع من آمن باللَّهِ وجميع من عَنَدَ عنه وكفر به، فقال تعالى: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ). (رَجُلَين) منصوب على معنى المفعول على معنى واضرب لهم مثلاً مثل رجُلين. (وَحَفَفَناها بنخل) أي جعلنا النخل مُطِيفاً بهما، يقال: قد حفَّ القوم بِزَيْدٍ إذَا كانُوا مُطيفين به. (وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً). فأَعلم اللَّه أن عمارتهما كامِلةٌ متصلة لا يفصل بينهما إلا عمارةٌ، وأعْلَمنا أنهُمَا كاملتان في تأدية حملهما من نخلهما وأعنابهما والزرع الذي بينهما. فقال: (كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33) أي لم تنقص منه شيئاً، وقال آتت ولم يقل آتتا، رده على (كِلْتَا) لأن لفظ

(34)

(كِلْتَا) لفظ واحد، والمعنى كل واحد؛ منهما آتت أكلها، ولو كان (آتتا) لكان جائزاً أن يكون المعنى الجَنتَانِ كلتاهما آتتا أكلَهُمَا. (وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا). ولو قرئت نَهْراً لكان جائزاً. يقال نَهَر ونَهْر، فأعلمنا أن شُرْبَهُمَا. كان من ماء نهر وهو من أغزر الشرْب. * * * (وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34) وقرئت ثُمُر، وقيل الثمَرُ مَا أخرجته الشجر، والثمُرُ المال، يقال قد ثمَّر فلان مَالًا. والثمُرُ هَهُنا أحْسَنُ، لأن قوله: (كِلْتَا الجَنتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها). قَد دَلَّ على الثمَرِ، وتجوز أن يكون ثَمَرٌ جمع ثَمَرة. وثمارٌ وثُمرٌ. وقوله: (فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا). مالًا، ونفراً، منصوبان على التمييز، وأخبره أنه أعز منه ناصراً، أي يخبر أنَّ نُصَّارَهُ كثير. * * * وقوله: (وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وكل من كفر باللَّهِ فَنَفْسَهُ ظَلَم، لأنه يولجها النار ذاتَ العَذَاب الدائِمِ. فأي ظُلْم للنفس فوق هذا. * * * وقوله: (مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36) فأخبر بكفره بالساعة وبكَفره بفناء الدنيا. (وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا). فدل على أن صَاحِبَهُ المؤمن قد أعلمه أن السَّاعَةَ تَقُومُ وأنه يبعث،

(37)

فأجَابَهُ بأن قال له: (وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي) كما أعلمتني أن أبْعَثَ ليُعطِيني في الآخرة خيراً مما أعطاني في الدنيا، لأنه لم يُعطِني هَذا في الدنْيَا إلا وهو يزيدني إن كان الأمر عَلَى هَذَا في الآخرة، فقال له صاحبه منكراً له بهذا القول: (أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) أي ثم أكملك، فأنكرت أمر البعث حتى شككت فيه، وقد أعْلَمَنَا أن الشاكَّ في أمْر اللَّهِ كافِرٌ، وأن بعض الظنِّ إثم أي باطِل، وقد قال اللَّه تعالى: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27). ثم أعلَمَهُ صاحبهُ أنه مُوَحِّدٌ للَّهِ، وأن كل ما قدر عليه الِإنسان من ملك ونعْمةٍ فلا قوة له ولا قدرة عليه إلا باللَّهِ، فقال: (لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38) فدل خِطَابهُ على أنَّ صَاحِبَ الجنتين مشرك عابدٌ مع الله غيرَه، وفي قوله: (لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي) خَمسةُ أوْجُه (1): لَكِنَّ هو الله ربي - بتشديد النون وفتحها، ويوقف عليها بالألف، ويوصل بغير ألف، ويُقْرَأ: لكنا هو الله رَبي بالألف موصولة، ويقرأ لكِنْ هو اللَّه رَبي بسكون النون. ويجوز - ولا أعلم أحداً قرأ به - لكنَنَ هُوَ اللَّه رَبي بنونين مَفْتُوحَتَين، ويجوز لكنَنَا هو الله ربي بنونين وألف. فمن قرأ بتشديد النون فالمعنى لكن أنا هو الله ربي فطرحت الهمزة على النون فتحركت بالفتح واجتمع حرفان من جنس واحد، فأُدغِمَت النون الأولى في الثانية، وحذفت الألف في الوصل لأنها تثبت في الوقف وتحذف في الوصل ومن قرأ: لكنَّا فأثبت الألف في الوصل كما كان تثبيتها لي

_ (1) قال السَّمين: قوله: {لَكِنَّا هُوَ الله رَبِّي}: قرأ ابنُ عامر بإثباتِ الألفِ وَصْلاً ووَقْفاً، والباقون بحذفِها وصلاً وبإثباتها وقفاً. فالوَقْفُ وِفاقٌ. والأصلُ في هذه الكلمةِ «» لكنْ أنا «فَنَقَلَ حركةَ همزةِ» أنا «إلى نون» لكن «وحَذَفَ الهمزةَ، فالتقى مِثْلان فأدغم. وهذا أحسنُ الوجهين في تخريجِ هذا. وقيل: حَذَفَ همزةَ» أنا «اعتباطاً فالتقى المِثْلان فَأَدْغَمَ، وليس بشيءٍ لجَرْيِ الأولِ على القواعدِ، فالجماعةُ جَرَوْا على مُقْتَضَى قواعدِهم في حَذْفِ اَلِفِ» أنا «وَصْلاً وإثباتِها وَقْفاً، وكان تقدَّم لك: أنَّ نافعاً يُثْبت ألفَه وَصْلاً قبلَ همزةٍ مضمومةٍ أو مكسورة أو مفتوحة بتفصيلٍ مذكورٍ في البقرة، وهنا لم يُصادِفْ همزةً، فهو علىأصلِه أيضاً، ولو أثبتَ الألفَ هنا لكان أقربَ مِنْ إثباتِ غيرِه لأنه أثبتها في الوصلِ في الجملةِ. وأمَّا ابنُ عامرٍ، فإنه خَرَجَ عن أصلِه في الجملة؛ إذ ليس من مذهبهِ إثباتُ/ هذه الألفِ وَصْلاً في موضعٍ ما، وإنما اتُّبَعَ الرسمَ. وقد تقدَّم أنها لغةُ تميمٍِ أيضاً. وإعرابُ ذلك: أن يكونَ» أنا «مبتدأ و» هو «مبتدأ ثانٍ، و» هو «ضمير الشأن، و» اللهُ «مبتدأ ثالث. و» ربي «خبر الثالث، والثالث وخبره خبرُ الثاني، والثاني وخبرُه خبر الأول. والرابطُ بين الأولِ وبين خبرِه الياءُ في» ربي «. ويجوز أَنْ تكونَ الجلالةُ بدلاً مِنْ» هو «أو نعتاً أو بياناً إذا جُعِلَ» هو «عائداً على ما تقدَّمَ مِنْ قولِه {بالذي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ} لا على أنَّه ضميرُ الشأنِ، وإن كان أبو البقاء أطلق ذلك، وليس بالبيِّن. ويجوز أَنْ يكونَ» هو «مبتدأً، ومابعده خبرُه، وهو خبرُه خبرُ» لكنَّ «. ويجوز أَنْ يكونَ تأكيداً للاسم، وأَنْ يكونَ فصلاً. ولا يجوزُ أَنْ يكونَ ضميرَ شأنٍ، لأنه حينئذٍ لا عائدَ على اسمِ» لكنَّ «من هذه الجملةِ الواقعةِ خبراً. وقرأ أبو عمروٍ» لكنَّهْ «بهاءِ السكت وقفاً؛ لأن القَصْدَ بيانُ حركةِ نون» أنا «، قتارةً تُبَيِّنُ بالألفِ وتارةً بهاءِ السكتِ. وعن حاتم الطائي:» هكذا فَرْدِي أَنَهْ «. وقال ابنُ عطية عن أبي عمرو:» رَوَى عنه هارون «لكنَّه هو الله» بضمير لَحِقَ «لكن». قلت: فظاهر هذا أنه ليس بهاءِ السكتِ، بل تكون الهاءُ ضميراً اسماً ل «لكن» وما بعدها الخبرُ. وخَرَّجه الفارسيُّ على وجهٍ غريبٍ: وهو أَنْ تكونَ «لكنَّا» لكنَّ واسمَها وهو «ن»، والأصل: «لكنَّنا» فحذف إحدى النونات نحو: {إِنَّا نَحْنُ} وكان حقُّ التركيبِ أن يكون «ربنا»، «ولا نُشرك بربِّنا» قال: «ولكنه اعتبر المعنى فأفرد». وهو غريب جداً. وأمَّا في قراءةِ العامَّة: فلا يجوزُ أَنْ تكونَ «لكنَّ» مشددةً عاملةً لوقوعِ الضمير بعدها بصيغةِ المرفوع. وقرأ عبدُ الله «لكنْ أنا هو» على الأصلِ من غير نَقْلٍ ولا إدغامٍ. ورَوَى عنه ابن خالويه «لكنْ هو الله» بغير «أنا». وقرئ أيضاً «لكنَنَا». وقال الزمخشري: وحَسَّن ذلك -يعني إثباتَ الأفِ في الوصلِ- وقوعُ الألفِ عوضاً مِنْ حَذْفِ الهمزةِ «. [وقال:]» ونحوُه -يعني إدغامَ نون «لكن» في نون «ن» بعد حَذْفِ الهمزةِ - قولُ القائل: 3164 - وتَرْمِيْنَنِيْ بالطَّرْفِ أَيْ أنت مُذْنِبٌ. . . وتَقْلِيْنني لكنَّ إياكِ لا أَقْلِيْ الأصل: لكنَّ أنا، فَنَقَلَ وحَذَفَ وأَدْغم. قال الشيخ: «ولا يتعيَّنُ ما قاله في البيت لجوازِ أَنْ يكونَ حَذَفَ اسمَ» لكنَّ «، وحَذْفُه لدليلٍ كثيرٌ، وعليه: 3165 - فلو كنتَ ضَبِّيّاً عَرَفْتَ قَرابتي. . . ولكنَّ زَنْجِيُّ عظيمُ المَشافِرِ أي: ولكنَّك، وكذا هنا: ولكنَني إياك». قلت: لم يَدَّعِ الزمخشريُّ تعيُّنَ ذلك في البيت حتى يَرُدَّ عليه بما ذكره. ويَقْرُبُ مِنْ هذا ما خَرَّجه البصريون في بيتٍ استدل به الكوفيون عليهم في جوازِ دخولِ لامِ الابتداء في خبر «لكنَّ» وهو: 3166 - . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ولكنَّني مِنْ حُبِّها لَعَمِيْدُ فأدخل اللامَ في خبر «لكنَّ». وَخَرَّجه البصريون على أن الأصل: ولكنْ إني مِنْ حُبِّها، ثم نَقَلَ حركةَ همزةِ «إنِّي» إلى نون «لكن» بعد حذف الهمزة، وأَدْغَمَ على ما تقدَّم، فلم تدخلِ اللامُ إلا في خبر «إنَّ»، هذا على تقديرِ تسليمِ صحةِ الروايةِ، وإلا فقالوا: إنَّ البيتَ مصنوعٌ، ولا يُعرف له قائلٌ. والاستدراكُ مِنْ قوله «أكفرْتَ»، كأنَّه قال لأخيه: أنت كافرٌ؛ لأنه استفهامُ تقريرٍ، لكنني أنا مؤمنٌ نحو قولِك: «زيدٌ غائبٌ لكنَّ عمراً حاضرٌ» لأنه قد يُتَوَهَّمُ غَيْبَةُ عمروٍ أيضاً. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

الوقف فهذا على لغة من قال أنَا قمتُ فأثبت الألفَ قال الشاعر: أَنا سَيْفُ العَشيرةِ فاعْرفوني جميعاً قد تَذَرَّيْتُ السَّنامَا قال أبو إسحاق وألف أنا في كل هذا إثباتها شاذ في الوصل؛ ولكِن مَنْ أثْبتَ فعلى الوقف كما أثبت الهاء في قوله: (وما أدراك ما هيه). و (كتَابيَة). ومن قرأ (لَكِنَّ هُوَ اللَّهُ رَبِّي)، وهي لكن وحدها ليس معها اسم، ومن قرأ لكنَنَ لم يدغم لأن النونين من كلمتين، وكذلك من قال: لَكِنَنا بنونين وألف، على قياس لكن أنا، لم يدغم لأن النونين من كلمتين، وفي أنا في الوصل ثَلاث لغاتٍ أجودها أَنا قُمْتُ، مثل قوله (أنَا رَبكُمْ) بغير ألف في اللفظ، ويجوز أنَا قُمْتُ بإثبات الألف، هو ضعيف جداً، وحكوا أنْ قُمت بإسكان النون، وهو ضعيف أيضاً فأما (لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي) - فهو الجَيِّد بإثْبَاتِ الألِف، لأن الهمزة قد حُذِفَتْ من أنَا، فصار إثباتُ الألف عوضعاً من الهمزة. فهذا جميع ما يحتمله هذا الحرف. والجَيِّد البالغ ما في مصحف أُبَي بنِ كَعْبٍ ولم نذكره في هذه القراءات لمخالفته المصحف وهو " لكن أنا هو الله ربي "، فهذا هو الأصل، وجميع ما قرئ به جيد بالغ، ولا أنكر القراءة بهذا، لأن الحذْف قد يقع فى الكتات كثيراً في الياءات والهمزات، فيقرأ بالحذف وبالتمام نحو قوله:

(39)

(يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6). من قرأ الداعي فمصيب، ومن قرأ الداع فمصيبً. وكذلك من قرأ لكِنَّا، ولكن أنا فهو مصيب، والأجود اتباع القُراء ولزوم الرواية، فإن القراءة سنة، وكلما كثرت الرواية في الحرف وكثرت به القراءة فهو المتبع، وما جاز في العربية ولمِ يقرأ به قارئ فلا تَقْرأنَّ به فإن القراءة به بدعة، وكل ما قَلَّتْ فيه الرواية وضعُفَ عند أهل العربية فهو داخل في الشذوذ، ولا ينبغي أن تقرأ به. * * * وقوله (وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39) والجنة البستان. ومعنى: (ولولا) هلَّا، وتأويل الكلام التوبيخ. (قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ). (ما) في موضع رفع، المعنى قلت: الأمر ما شاء اللَّه. ويجوز أن تكون (ما) في موضع نصب على معنى الشرط والجزاء، ويكون الجواب مضمراً، ويكون التأويل أيُّ شيء شاء اللَّه كان، ويضمر الجواب كما أضْمِرَ جواب لَو في قوله: (وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ) المعنى لكان هذا القرآن. وقوله: (لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ). الاختيار النصب بغير تَنْوينٍ على النفي كما قال لا ريب فيه، ويجوز لا قوةُ إلا باللَّه على الرفع بالابتداء، والخبر " باللَّه " المعنى أنه لا يقوى أحد في ديدنه ولا في مِلْك يمينه إلا باللَّه، ولا يكون له إلا ما شاء اللَّه. وقوله: (إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ). (أَقَلَّ) مَنْصُوبٌ، وهو مفعول ثانٍ بـ ترني، وأنا يصلح لشيئين، إن شئت كانت توكيداً للنُونِ والياء، وإن شئت كانت فصلاً، كما تقول: كنتَ أنْت

(42)

القائمُ يا هذا، ويجوز رفع (أقَلُّ)، وقد قرأ بها عيسى بن عمر: إِنْ تَرَني أنَا أقَلُّ مِنْكَ مَالاً، على أن أنا ابتداء، وَأقَل خَبر الابتداء، والجملة في موضع المفعول الثاني لِتَرنِي. وقوله: (فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ). جائز أن يكون أراد في الدنيا، أو في الآخرة. (وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ). وهذا موضع لطيف يحتاج أن يُشرَحَ وهو أن الحُسْبانَ في اللغةِ - هو الحِسَابُ قال تعالى: (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ) المعنى بحساب، فالمعنى في هذه الآية أن يرسل عليها عَذَاب حُسْبانٍ، وذلك الحُسْبَانُ هو حِسَابُ ما كسبَتْ يداك. وقوله (فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا) الصعيد الطريق الذي لا نبات فيه، وكذلك الزَلَق. (أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41) معناه غائراً، يقال ماءٌ غَوْرٌ، ومياه غورٌ، وغور مصدر مثل عَدْل ورضِىً. وقوله: (فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا). أي يغور فلا تَقْدِرُ على أثَرٍ تطلبُه من أجْلِهِ. * * * (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42) أي أحاط اللَّهُ العَذَابَ بثمره. (فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا).

(43)

تقلب الكفين، يفعله الناس كثيراً. * * * (وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا) أيْ حيطانُهَا قائمة لا سُقُوفَ عليها، وقد تهدَّمَتْ سقُوفُها فصارت في قرارها والعُرُوش: السقوفُ، فصارت الحيطان كأنَّها على السقوف. * * * وقوله: (وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43) (ينصرونه) محمول على معنى فئة، المعنى ولم يكن له أقوام ينصرونه. ولوكان ينصره لجاز، كما قال: (فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ). (وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا). وما كان هو أيضاً قادراً على نصر نفسه. * * * وقوله: (هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44) وتقرأ (الوِلايةُ) - بكسر الواو وفتحها - (لِلَّهِ الْحَقِّ)، وتقرأ (الحقُّ)، المعنى: في مثل تلك الحال بيانُ الولاية للَّهِ. أي عند ذلك يتيين نَصْرُهُ، ولي اللَّه - يتولى الله إياه. فمن قرأ (الحقُّ) بالرفع، فهو نعتٌ للولاية، ومن قرأ (الحقِّ) فهو بالجر فهو نعت للَّهِ - جلَّ وعزَّ. ويجوز (الحقَّ)، ولا أعلم أحداً قرأ بها. ونصبه على المصدرِ في التوكيد، كما تقول: هنالك الحقَّ، أي أحُقُّ الحقَّ. وقوله: (هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا). وعُقْباً، ويجوز و (خَيْرٌ عُقْبَى) على وزن بُشْرَى، وثواباً وعُقْباً منصوبان على التمييز. * * * وقوله: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45)

تأويله أنه نجع في النبات حتى خالطه، فَأخَذَ النبَاتُ زخرفة. (فَأَصْبَحَ هَشِيمًا). والهَشِيمُ النبات الجافَ الذي تسفيه الريح. (تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ). ويقرأ الريح، وفي تذروه لغتان لَا يُقْرأ بِهمَا: تُذْرِيه - بضم التاء وكسر الراء، وتَذْرِيه بفتح التاء. أعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أن الحَيَاةَ الدنيا زَائِلةٌ، ودَليل ذَلِك أنَّ مَا مَضَى منها بمنزلة ما لم يكن، وأعلم أن مثلها هذا المثل. وقوله: (وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا). أي على الإنشاء، والِإفناء، مقتدراً. فإن قال قائل: " فالكلام كان اللَّه "، فتأويله أنَّ مَا شَاهَدْتَم من قدرته ليس بحادث عنده، وأنه كذلك كان لم يزل. هذا مذهب سيبويه، وقال الحسَنُ: (وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا) أي كان مُقْتَدِرًا عليه قبل كونه. وقال بَعْضُهُمْ: " كان " مِنَ اللَّه بمنزلة كائن ويكون. وقولُ الحسنِ فِي هذَا حسنٌ جميل ومذهب سيبويه والخليل مذهب النحويين الحُذاقِ كما وَصَفْنَا، لأنهم يقولون: إنما خوطبت العربُ بلغتِها ونزل القرآن بما يَعْقِلُونه ويتخاطبون به، والعربُ لا تعرف كان في معنى يكون، إلا أن يدخل على الحرف آلةٌ تنقلها إلى معنى الاستقبال، وكذلك لا يعرف الماضي في معنى الحال. فهذا شرح ما في القرآن من هذا الباب نحو قوله: (وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا)، (وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا)، وقد فسرناه قبل هذا الموضع.

(46)

ْوقوله: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46) (الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ) هي الصلوات الخمس، - وقيل هي: سبحان اللَّه والحمد للَّهِ ولا إله إلا اللَّه واللَّه أكبر. والْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ - واللَّه أعلم - كل عمل صالح يبقى ثوابه، فالصلوات الخمس وتوحيد اللَّه وتعظيمه داخل في الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ، وكذلك الصدقات والصيام والجهاد وَأعْمَالُ الخير والبر كُلِّهَا. * * * وقوله: (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47) (يَوْمَ) منصوب على معنى التلاوة والذكر، المعنى واذكر يوم نسير الجبال. ويجوز أن يكون نصبه على " والبَاقِيَاتُ الصالِحاتُ خير يوم يسير الجبال " أي: خير في القيامة من الأعمال التي تبقى آثامها. وقوله (وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً)، معناه ظاهرة، وقد سُيِّرَت جبالها، واجتثت أشجارها، وذهبت أبْنِيَتُهَا فبقيتْ ظَاهِرَةً، وقد ألقت ما فيها وتخلت. وقوله: (وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا). أي لَمْ نُخَلِّفْ أحَداً مِنْهُم. * * * (وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48) معناه أنهم كلهم ظاهرون للَّهِ، تُرَى جماعَتُهم كما يُرَى كل واحدٍ منهم. لا يَحْجُبُ واحدٌ واحداً. وقوله: (لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ). أي بعثناكم كما خَلَقْنَاكم. وجاء - في التفسير أنهم يُحْشَرُونَ عُرَاةً غُرْلا حُفاةً. معنَى غُرْلًا، جمع أغْرَل وهو الاقْلَفُ.

(49)

وقوله: (بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا). أي بل زَعمتم أن لن تبْعَثوا، لأن الله جل ثناؤه، وعدَهُم بالبَعْثِ. * * * وقوله: (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49) معناه - والله أعلم - وُضِعَ كتابُ كُل امْرئ بِيَمينهِ أو شماله. (فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا). كل من وقع في هلكةٍ دعا بالويل. (مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا) أي لا تاركاً صغيرةً. (وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا). أي إنما يعاقبهم فيضع العقوبة موضعها في مُجازاة الذنُوبِ. وأجمع أهل اللغة أن الظلم وضع الشيء في غير موضعه. * * * وقوله تعالى: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50) قوله: (فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) دليل على أنه أمر بالسجود مع الملائكة، وأكثر ما في التفسير أن إبليس من غير الملائكة وقد ذكره اللَّه عزَّ وجلَّ أنه كان منَ الجِنِ بمنزلة آدم من الإنس، وقد قيل إن الجِن ضَربٌ من الملائكة، كانوا خُزانَ الأرض، وقيل خزان الجنانِ. فإن قال قائل: فكيف استثنى مع ذكر الملائكة، فقال فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ، فكيف وقع الاستثناء وليس هو من الأول، فالجواب في هذا أنه أُمر مَعَهُمْ بالسجود فاستثنى من أنه لَمْ يَسْجُد، والدليل جملى ذلك أنك تقول: أمرت عَبْدِي وأخوتي فأطاعوني إلا عبدي، وكذلك قوله عزَّ وجلَّ: (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ)، ورب العالمين ليس كمثله شيء، وقد جرى ذكره في

(51)

الاستثناء - وهو استثناء ليس من الأول. ولا يقدر أحد أن يعرف معنى الكلام غيرَ هذا. (فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ). فيه ثلاثة أوجه، يجوز أن يكون معناه: خرج عن أمْر رَبِّهِ، يقال: فسقت الرطبة إذا خرجت عن قِشْرهَا، وقال قطرب: يجوز أن يكون معناه فسق عن رَدِّ أمْرِ رَبِّه، ومذهب سيبويه والخليل وهو الحق عندنا أن معنى (فَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) أتاه الفسق لما أمِرَ فعصى، فكان سبَبَ فسقِه أمْرُ رَبِّه، كما تقول أطعمه عن جوع وكساه عن عُرْي. المعنى كان سَبَبَ فسقه الأمْر بالسُّجودِ لَما كان سببَ الِإطعام الجوعُ، وسبب الكُسْوة العُرْى. وقوله: (بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا). معناه أنه بئس ما استبدل به الظالمون من رب العزة جلَّ وعزَّ، إبليس. * * * وقولُه: (مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51) أي لم يكونوا مَوْجُودين إذ خلقت السَّمَاوَات والأرض. (وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا). ويقرأ (وَمَا كُنْتَ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ) - بفتح التاء - المعنى في فتحها: ما كنتَ يا محمدُ لتتخذ الْمُضِلِّينَ أنصاراً، وضم التاء هي القراءة، وعليها المعنى. يخبر اللَّه عزَّ وجلَّ بقدرته، وأنه لا يعتضِدُ فيها ولا في نُصْرتِه بالْمُضِلِّينَ والاعتضادُ التقوى. وطلب المعونة، يقال: اعتضدت بفلانٍ، معناه استعنتُ به. و (عَضُدًا) فيه. خمسة أوجه (1)، وجهان منها كثيران جَيِّدان، وهما

_ (1) قال السَّمين: وقرأ عيسى «عَضْداً» بفتح العين وسكون الضاد، وهو تخفيفٌ شائعٌ كقولِ تميم: سَبْع ورَجْل في: سَبْع ورَجْل. وقرأ الحسن «عُضْداً» بالضم والسكون: وذلك أنه نَقَل حركةَ الضادِ إلى العينِ بعد سَلْبِ العينِ حركتَها. وعنه أيضاً «عَضَداً» بفتحتين و «عُضُداً» بضمتين. والضحاك «عِضَداً» بكسر العين وفتحِ الضاد. وهذه لغاتٌ في هذا الحرفِ. والعَضُدُ من الإِنسانِ وغيرِه معروفٌ. ويُعَبَّر به عن العونِ والنصير فيقال: فلان عَضُدي. ومنه {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ} [القصص: 35] أي: سنُقَوِّي نُصْرَتَك ومعونَتك. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(52)

عَضَد بفتح العين وضم الضاد، وعُضُد - بضم العين والضاد - ويجوز عَضْداً، وعُضْداً، بتسكين الضاد وضم العين وفتحها. وقد رويت عَضِد بِكَسْر الضَّادِ ويجوز في عَضِد بكسر الضاد (عَضْداً). * * * وقوله: (وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52) أضافهم إليه على قولهم. وقوله: (وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقً). جعلنا بينهم من العذاب مَا يُوبِقُهم، أي يُهْلِكُهمْ، والمَوْبِقُ المَهْلِكُ. يقال وَبِقَ الرجل يَوْبَقُ، وَبَقاً ويقال يَيْبَقُ، وبائق، وفيه لغة أخرى وبَقَ يبقُ وَبُوقاً، وهو وَابِقٌ، والأولُ هُوَ وَبِقٌ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53) القراءة (وَرَأَى)، ويجوز " ورَاءَ " المجرمون مثل ورَاعَ، كما قال كُثَير: وكل خليلِ رَاءني فهو قائل. . . من أجلك هذا هامة اليوم أوْ غَدِ قوله: (فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا). معناه أيْقَنُوا. وقد بيَّنَّا ذلك. (وَلَمْ يَجدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا). أي معدلًا، قال أبُو كَبير:

(54)

أَزُهَيْرُ هَلْ عن شَيْبةٍ من مَحْرِفِ. . . أَمْ لا خُلُودَ لِباذِلٍ مُتَكَلِّفِ * * * وقوله: (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54) أي من كل مثل يحتاجون إليه، أي بَيَّناهُ لَهُمْ. وقوله: (وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا). معناه كان الكافِرُ، ويدل عليه قوله: (وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ). فإن قال قائل: وهل يجادل غيرُ الإنسان؟ فالجواب في ذلك أن إبليس قد جادل، وأن كل ما يعقل من الملائكةِ والجِنِّ يجادل، وَلَكِن الإنسانَ أكثر هذه الأشياء جَدَلاً. * * * وقوله: (وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55) موضع (أن) نصب. المعنى وما منع الناس من الإيمان (إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ). المعنى إلا طلَبَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ -. وسُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أنهم غاينوا إلعذاب، فطلَبَ المشركون أن قالوا: (اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ). (أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا). ويقرأ قِبَلاً - بكسر القاف وفتح الباء -، ويجوز قُبْلاً - بتسكين الباء - ولم يَقْرا بها أحدٌ. وموضع (أن) في قوله (إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ) رفع، وتأويل قِبَلًا مُعَايَبةً،

(57)

وتأويل قُبُلًا جمع قَبِيل، المعنى أو يأتيهم العذاب أنواعاً. ويجوز أن يكون تأويل قُبُلًا بمعنى من قُبُل أي مما يقابلهم. وقوله: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57) (وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا). هؤلاء قد أخبر اللَّه عنهم أنهم من أهل الطبع فقال: (إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ). (أَكِنَّةً) جمع كنانة، وهو الغطاء، وهو مثل عِنَان وأَعِنة. فأَعلم اللَّه عزَّ وجل أن هؤلاء بأعيانهم لن يهتدوا أَبداً. * * * وقوله: (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58) الموئل المنجا، يقال وَأَل يَئلُ إذَا نجا. * * * وقوله: (وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59) المعنى وأهل تلك القرى أهلكناهم، يعنى به من أهْلَكَ من الأمَمُ الخالية، نحو عاد وثمود وقوم لوط ومن ذُكِرَ بالهَلاَكِ. وقوله: (وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً). أي أجَلًا، وفيها ثلاثة أوجه (1): لِمُهْلَكِهِمْ، وتأويل الْمُهْلَكِ على ضربين. على المصدر، وعلى الوقت، معنى المصدر لإهْلَاكهم، ومعنى الوَقتِ لِوَقْتِ هلاكهم وكل فعل ماض على أفعل فالمصدر منه مُفْعَل، أو إفْعَال، واسمُ الزمَانِ منه مُفْعَل، وكذلك اسم المكان، تقول أدخَلْتُه مُدْخَلاً، وهذا مُدْخَله أي المكانُ الذي يدخل زيد منه، وهذا مُدْخَلُه أي وقت - إدخاله، ويجوز أن يقرأ (لمَهْلِكِهم) على أن يكون مَهْلك اسماً للزمَانِ على معنى هَلَك يهلِكُ. وهذا زمن مَهْلِكِه مثل جلس يجلس، إذا أردت المكان أو الزمَانَ، فإذا أردت المَصْدَرَ قلت مَهْلَك بفتح اللام مثل مجلَس، يقال: أتَتْ الناقةُ عَلَى مَضْرِبها

_ (1) قال السَّمين: قوله: «لِمَهْلِكِهِمْ» قرأ عاصم «مَهْلَك» بفتح الميم، والباقون بضمها، وحفصٌ بكسر اللام. والباقون بفتحها. فتحصَّل مِنْ ذلك ثلاثُ قراءاتٍ، لعاصم قراءتان: فتحُ الميم/ مع فتحِ اللامِ، وهي روايةُ أبي بكرٍ عنه. والثانية فتح الميم مع كسر اللام وهي روايةُ حفصٍ عنه. والثالثةُ: ضمُّ الميمِ وفتحُ اللام، وهي قراءةُ الباقين. فأمَّا قراءةُ أبي بكر ف «مَهْلَك» فيها مصدرٌ مضافٌ لفاعلِه. وجوَّز أبو عليّ أن يكونَ مضافاً لمفعوله. وقال: «إنَّ» هَلَك «يتعدَّى دون همز وأنشد: 3174 - ومَهْمَهٍ هالكٍ مَنْ تعرَّجا. . . ف» مَنْ «معمولٌ ل» هالكٍ «وقد مَنَع الناسُ ذلك وقالوا: لا دليلَ في البيتِ لجواز أن يكونَ مِنْ بابِ الصفةِ المشبهةِ. والأصل: هالك مَنْ تعرَِّجا. ف» مَنْ تعرَّج «فاعلٌ بهالك، ثم أَضْمر في» هالِك «ضميرَ» مَهْمه «ونَصَبَ» مَنْ تعرَّج «نَصْبَ» الوجهَ «في قولِك:» مَرَرْتُ برجلٍ حَسَنِ الوجهَ «ثم أضاف الصفة وهي» هالك «إلى معمولها، فالإِضافةُ مِنْ نصبٍ، والنصبُ مِنْ رفعٍ. فهو كقولك:» زيدٌ منطلقُ اللسان ومنبسط الكفِّ «، ولولا تقديرُ النصبِ لامتنعَتِ الإِضافةُ؛ إذ اسمُ الفَاعلِ لا يُضاف إلى مرفوعِه. وقد يُقال: لا حاجةَ إلى تقديرِ النصب، إذ هذا جارٍ مَجْرَى الصفةِ المشبهة، والصفةُ المشبهةُ تُضافُ إلى مرفوعها، إلا أنَّ هذا مبنيٌّ على خلافٍ آخر وهو: هل يقعُ الموصولُ في بابِ الصفة أم لا؟ والصحيح جوازه. قال الشاعر: 3175 - فَعُجْتُها قِبََلَ الأخيار منزلةً. . . والطيِّبي كلِّ ما التاثَتْ به الأُزُرُ وقال الهذلي: 3176 - أَسِيْلاتُ أبدانٍ دِقاقٌ خُصورُها. . . وَثِيراتُ ما التفَّتْ عليها الملاحِفُ وقال الشيخ في قراءة أبي بكر هذه:» إنه زمانٌ «ولم يذكرْ غيرَه. وجوَّز غيرُه فيه الزمانَ والمصدرَ. وهو عجيبٌ؛ فإنَّ الفعلَ متى كُسِرَتْ عينُ مضارعِهِ فُتِحَتْ في المَفْعَل مراداً به المصدرُ، وكسِرَتْ فيه مراداً به الزمانُ والمكانُ، وكأنه اشتبهَتْ عليه بقراءةِ حفصٍ فإنَّه بكسرِ اللام كما تقدَّم، فالمَفْعِلُ منه للزمانِ والمكان. وجوَّز أبو البقاء في قراءته أَنْ يكونَ المَفْعِل فيها مصدراً. قال:» وشَذَّ فيه الكسرُ كالمَرْجِعِ «. وإذا قلنا إنه مصدرٌ فهل هو مضافٌ لفاعِله أو مفعولِه؟ يجيءُ ما تقدَّم في قراءةِ رفيقِه. وتخريجُ أبي عليّ واستشهادُه بالبيت والردُّ عليه، كلُّ ذلك عائدٌ هنا. وأمَّا قراءةُ الباقين فواضحةٌ. و» مُهْلَك «فيها يجوز أن يكونَ مصدراً مضافاً لمفعولِه، وأَنْ يكون زماناً، ويَبْعُدُ أن يُرادَ به المفعولُ، أي: وجَعَلْنا للشخصِ أو الفريقِ المُهْلِكِ منهم. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(60)

أي على زمانِ ضِرَابِها، وتقول جَلس مجْلَساَ - بفتح اللام - ومثله هلك مَهْلَكاً أي هُلْكاً. وموضع (تلكَ القرَى) رفع بالابتداء، والقرى صفة لها مُبَيّنَة، وأهلكناهم خبر الابتداء. وَجَائِزُ أن يكون موضع (تلك القرى) نَصْباً ويكون (أهكناهم) مُفسِّراً للناصِب، ويكون المعنى وأهلكنا تلك القرى أهلكناهم. * * * وقوله: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60) وإن شئْتَ قلت بالِإمَالةِ والكسْرِ، وهي لغة تميم، وأهل الحجاز. يفتحونَ وُيفَخِّمُونَ. ويروى في التفسير أنَّ فتاه " يُوشَع بنُ نون ". (لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ). معنى (لَا أَبْرَحُ) لا أزال، ولو كان لا أزول كان محَالًا، لأنه إذا لم يزل من مكانه لم يقطع أَرْضاً، ومعنى لا أبرح في معنى لا أزال - موجود في كلام العرب. قال الشاعر:. وأَبرَحُ ما أَدامَ الله قَوْمي. . . على الأَعداء مُنْتَطِقاً مُجِيدا أي لا أزال.

(61)

وإنما سمى فتاه لأنه كان يخدِمُه، والدليل على ذلك قول موسى: (آتِنا غَدَاءَنَا). وقوله: (حُقباً). الحقبُ ثمانون سنةً، وكان مجمع البحرين الموضع الذي وعد فيه موسى بلقاء الخضِر عليه السلام. وأحب الله عزَّ وجلَّ أن يُعْلمَ موسى - وإن كان قد أوتي التوراة أنه قد أُوتيَ غيره من العلم أيضاً ما ليس عنده، فَوعِدَ بلقاء الخضِر. * * * (فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61) يعنى به موسى ويوشَع. (نِسِيَا حُوتَهُمَا) وكانت فيما روي سمكة مملوحة، وكانت آية لموسى في الموضع الذي يلقى فيه الخَضِر. (فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا). أحيا اللَّه السمكة حتى سربَت في البحر، و (سَرَبًا) منصوب على جهتين. على المفعول كقولك: اتخذت طريقي في الشرب، واتخذت طريقي مكان كذا وكذا، فيكون مفعولًا ثانياً كقولك اتخذت زيداً وَكِيلاً. ويجوز أن يكون " سَرَباً " مَصْدَراً يدل عليه (فاتخذَ سبِيلَه في البحر) فيكون المعنى نَسيَا حوتَهُمَا فجعل الحوتُ طريقَه في البحر ثم بين كيف ذلك، فكأنه قال: سَرَبَ الحُوتُ سَرباً، ومعنى نسيا حوتهما، كان النسيان مِنْ يُوشَع أن تقدمه، وكان النسيانُ من موسى أن يأمره فيه بشيء. * * * وقوله: (قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63) والصخرة موضع المَوْعِد.

قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63) (فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ). وهذا قَوْلُ يُوشَع لِمُوسَى، حين قال موسى (آتنا غَدَاءَنَا). وكانت السمكة من عُدَّةِ غدائهما، فقال: (وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ). كَسْرُ الهاء وضمها جَائِزَان في (أَنْسَانِيهُ)، (أَنْ أذكره) بدلٌ من الهاء لاشتمال الذكر على الهاء في المعنى، والمعنى وما أنساني أن أذكره إلا الشيطانُ. (وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا). (عَجَبًا) منصوب على وجهين، على قول يوشع: واتخذ الحوت سبيله في البحر عجباً، ويجوز أن يكون قال يوشع: اتخذ الحوت سبيله في البحر. فأجابه موسى فقال: (عَجَبًا)، كأنَّه قال: أعْجَبُ عَجَباً. ثم قال: (ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِي). الأكثر في الوقف (نَبْغِ) على اتباع المصحف. وبعد " نبغ " آيةً ويجوز وهو أحسن في العربية (ذلك ما كنا نبغي) في الوقف. أما الوصل فالأحسن فيه نبغي بإثبات الياء، وهذا مذهب أبي عمرو، وهو أقوى في العربية. ومعنى قول موسى (عليه السلام): (ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ)، أي ما كنا نريد. لأنه وعد بالخَضِر في ذلك المكان الذي تتسرب فيه السمكة. (فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا). أي رجعا في الطريق الذي سلكاه يقصان الأثَر قَصَصاً، والقصص اتباع الأثر.

(65)

(فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65) يعنى به الخضِرُ، وقيل إنما سمي الخَضِر لأنه كان إذا صلى في مكان اخضَّر ما حوله. وفيما فعله موسى - وهو من جلَّةِ الأنبياء، وقد أوتيَ التوراةَ، من طلبه العلم والرحلة في ذلك ما يدل على أنه لا ينبغي لأحَدٍ أن يترك طلب العلم. وإن كان قد بلغ نهايته وأحاط بأكثر ما يدركه أهل زمانه، وأنْ يتواضع لمن هو أعلم منه. * * * (قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) ورَشَدًا، والفُعْلُ والفَعَل نحو الرُشْدُ والرشَدُ كثير في العربية نحو البُخْلُ والبَخَلُ، والعُجْمُ والعَجَمُ، والعُرْبُ والعَرَبُ. * * * (قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) هدْا قول الخِضْرِ لمُوسَى، ثم أعلمه العلة في ترك الصبر فقال: (وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) أي وكيف تصبر على ما ظاهِرُه منكر، والأنبياء والصالحون لا يَصبِرُون على ما يرونه منكراً. * * * (قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69) هذا قول موسى للخَضِر. وقوله: (قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70) أي إنْ أنْكَرتَهُ فلا تعجل بالمسألة إلى أن أبيِّن لك الوجه فيه، ونصب

(71)

(خُبْرًا) على المصدر لأن معنى لم تحط به لم تَخْبرْه خُبْرًا، ومثله قول امرئ القيس. وَصِرنَا إلى الحسنى ورق حدِيثُنَا. . . ورُضْتُ فَذَلَّتْ صَعْبةً أَيَّ إِذلالِ لأن معنى رُضْتُ أذلَلْتُ، وكذلك أحطت به في معنى خبرته. * * * وقوله: (فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71) أي خرقها الخَضِرُ. (قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا)، وليَغْرَقَ أهلُها، وكان خرقها مما يلي الماء، لأن التفسير جاء بأنه خرقها بأن قلع لوحين مما يلي الماء، فقال: (لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا). ومعنى (إِمْرًا) شيئاً عَظِيماً مِنَ المنْكَر. (قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) فلما رأى موسى أن الخَرْقَ لم يَدْخل مِنْة الماء، وأنَّه لمْ يُضِر مَن فِي السفينة: (قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73) ومعنى ترهقني تُغَشِّيني، أي عاملني باليسر لا بالعسر. وقوله: (فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74) معناه فقتله الخَضِر، (قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا).

(76)

قالوا في زكيةٍ بريئة، أي لم يُرَ ما يُوجِبُ قتلَها، و (نُكْراً) أقل من قوله (إمْراً)، لأن تغريق من في السفينة كان عنده أنكر مِنْ قَتْلِ نفسٍ وَاحِدَةٍ وقد قيل إنَّ (نُكْراً) ههنا معناه لقد جئتَ شيئاً أَنْكَرَ من الأمر الأول. و (نُكْراً) منصوب على ضربين: أحدهما معناه أتيْتَ شيئاً نكراً، ويجوز أن - يكون معناه: جئْتُ بشَيءٍ نكرٍ، فلما حذف الباء أفضى الفعل فنصب. * * * (قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76) أي بعد هذه المسألة: (فَلَا تُصَاحِبْني). وُيقْرا فلا تصْحَبْني، وَقِرَاءة شَاذةٌ فَلاَ تُصْحِبْني. . فمن قرأ فلا تَصْحَبْني فإن معناه فَلَا تَكُونَنَّ صَاحِبِي، ومن قرأ فلا تصاحبني فمعناه إنْ طلبتُ صِحبتك فلا تتابعني على ذلك. ومن قرأ تُصْحِبْني، ففيها بأربعة أوجه، فأجْوَدها فلا تُتابعْنِي على ذلك، يقال قد أصحب المُهْرُ إذا انقاد، فيكون معناه فلا تتابعَني في شيء ألتمسه منك. ويجوز أن يكونَ معناه: فَلَا تُصْحِبْني أحَداً ولا أعرف لهذا معنى لأن موسى لم يكن سأل الخَضِرَ أن يصْحِبَهُ أحَداً. وقوله: (قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا) (1). ويقرأ من لَدُنِي بتخفيف النُّونِ، لأن أصل لّدُنْ الِإسكان، فإذا أضَفْتَها إلى نَفْسِك زدت نوناً ليَعْلَمَ سُكُونُ النونِ الأولى، تقول من لَدُنْ زَيْدٍ، فتسكِنَ النُونَ ثم تضيف إلى نفسك، فتقول من لَدُنِى كما تقول عن زَيْدٍ وَعَني. ومن قال مِنْ لَدْنِي لم يجز أن يقولَ عَنِي ومِنِي بحدف النونِ، لأن لدن اسم غير متمكن، ومن وعن حرفانِ جاءا لمعنًى. ولدُن مع ذلك أَثْقَلُ مِنْ " مِنْ " و " فَيْ ". والدليل على أن الأسماء يجوز فيها حذف النون قولهم: قَدْنِي في

_ (1) قال السَّمين: قوله: {فَلاَ تُصَاحِبْنِي}: العامَّةُ على «تصاحِبْني» من المفاعلة. وعيسى ويعقوب: «فلا تَصْحَبَنِّي» مِنْ صَحِبَه يَصْحَبُه. وأبو عمروٍ في روايةٍ وأُبَيٌّ بضمِّ التاءِ مِنْ فوقُ وكسرِ الحاء، مِنْ أصحب يُصْحِب، ومفعولُه محذوفٌ تقديره: فلا تُصْحِبْني نفسك. وقرأ أُبَيٌّ «فلا تُصْحِبْني عِلْمَك» فأظهر المفعول. قوله: {مِن لَّدُنِّي} العامَّةُ على ضَمِّ الدالِ وتشديد النون. وذلك أنَّهم اَدْخلوا نونَ الوقايةِ على «لَدُن» لِتَقِيَها من الكسرِ محافَظَةً على سكونِها، كما حُوْفِظَ على سكونِ نون «مِنْ» و «عَنْ» فأُلْحِقَتْ بهما نونُ الوقايةِ فيقولون: مِنِّي وعَنِّي بالتشديد. ونافعٌ بتخفيف النون. والوجهُ فيه: أنه لم يُلْحِقْ نونَ الوقاية ل «لَدُن». إلا أنَّ سيبويه منع مِنْ ذلك وقال: «لا يجوزُ أَنْ تأتيَ ب» لَدُنْ «مع ياء المتكلم دون نونِ وقاية». وهذه القراءةُ حجةٌ عليه. فإنْ قيل: لِمَ لا يُقال: إن هذه النونَ نونُ الوقايةِ، وإنما اتصلَتْ ب «لَدُ» لغةً في «لَدُن» حتى يتوافَقَ قولُ سيبويه مع هذه القراءة؟ قيل: لا يَصِحُّ ذلك من وجهين، أحدهما: أَنَّ نونَ الوقايةِ إنما جِيءَ بها لتقيَ الكلمةَ الكسرَ محافظةً على سكونها. ودون النون لا يُسَكِّنون؛ لأنَّ الدالَ مضمومةٌُ، فلا حاجةَ إلى النون. والثاني: أنَّ سيبويهِ يمنع أَنْ يُقال: «لَدُني» بالتخفيف. وقد حُذِفَتِ النونُ مِنْ «عَنْ» و «مِنْ» في قوله: 3183 - أيُّها السَّائِلُ عنهم وعِنِيْ. . . لستُ من قيسٍ ولا قيسٌ مِنِيْ ولكن تَحْتمل هذه القراءةُ أن تكون النونُ فيها أصليةً، وأن تكونَ للوقاية على أنها دخلَتْ على «لَدْ» الساكنة الدال، لغةً في «لدن» فالتقى ساكنان فكُسِرَتْ نونُ الوقاية على أصلها. وإذا قلنا بأنَّ النونَ أصليةٌ فالسكونُ تخفيفٌ كتسكين ضاد «عَضْد» وبابِه. وقرأ أبو بكرٍ بسكونِ الدال وتخفيفِ النون أيضاً، ولكنه أَشَمَّ الدالَ الضَّمَّ مَنْبَهة على الأصل. واختلف القرَّاء في هذا الإِشمامِ، فقائلٌ: هو إشارةٌ بالعضوِ مِنْ غيرِ صوتٍ كالإِشمام الذي في الوقف، وهذا هو المعروف. وقائلٌ: هو إشارةٌ للحركةِ المُدْرَكةِ بالحسِّ فهو كالرَّوْم في المعنى، يعني: أنه إتيانٌ ببعض الحركةِ. وقد تقدَّم هذا محرَّراً في يوسف عند قولِه {لاَ تَأْمَنَّا} [الآية: 11]، وفي قوله في هذه السورةِ «مِنْ لدنه» في قراءة شعبة أيضاً، وتقدَّم لك بحثٌ يعودُ مثلُه هنا. وقرأ عيسى وأبو عمروٍ في روايةٍ «عُذُراً» بضمتين. وعن أبي عمرو أيضاً «عُذْرِي» مضافاً لياءِ المتكلم. و {مِن لَّدُنِّي} متعلقٌ ب «بَلَغْتَ»، أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ «عُذْرا». اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(78)

معنى حَسبِي، ويقولون قد زَيدٍ فيدخلون النون لما ذكرناه إذا أضيفت. ويجوز قَدِي بحذف النون لأن قَدْ اسم غير متمكنِ. قال الشاعر (فجاء باللغتين). قَدْنِيَ مِنْ نَصْر الخُبَيْبَيْن قَدِي فأمَّا إسكانهم دال لَدْن فأسكنوها كما يقولون في عَضُد: عَضْدٍ. فيحذفون الصفةَ. وقوله: (قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78) زعم سيبويه أن معنى مثل هذا التوكيد، والمعنى هذا فراق بيننا أي هذا فراق اتصالنا، قال: ومثل هذا أمر الكلام: أخزى اللَّه الكاذب مِنِي وَمِنْكَ، فذكر بيني وبينك ثانيةً توْكيد، وهذا لا يكونُ إلا بالواو ولا يجوز: " هذا فراق بيْي فَبيْنِكَ " لأن معنى الواو الاجتماع، ومعنى الفاء أن يأتي الثاني في إثْر الأول. * * * وقوله: (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79) مَسَاكِينُ: لَا يَنْصَرِفُ لأنه جمع لا يكون على مثال الواحد، وكذلك كل جمع نحو مساجد ومفاتيح وطوامير، لَا يَنصرف كما ذكرنا. وقد بيَّنَّا ذلك فيما تقدم في باب ما لا ينصرف.

(80)

وقوله: (وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا). كان يأخذ كل سفينة لا عَيْبَ فيها غَصْباً، فإن كانت عائبة لم يعرض لها. ووَرَاءَهُم: خلفهم، هذا الأجود الوجهين. ويجوز أن يكون: كان رجوعهم في طريقهم عليه ولم يكونوا يعلمون بخبره فأعلمَ اللَّهُ الخَضِر خَبَرهُ. وقيل: (كانَ وَرَاءَهُمْ) معناه كان قدَّامَهُمْ. وهذا جاء في العربية، لأنه ما بين يَدَيْكَ وَمَا قدَّامَك إذا توارَى عنك فقد صار وراءك. قال الشاعر: أَليسَ وَرائي إِنْ تَراخَتْ مَنِيَّتي. . . لزُومُ العَصا تُثْنى عليها الأَصابِعُ * * * وقوله: (وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) (يُرْهِقَهُمَا) يحملهما على الرهق وهو الجهل. وقوله (فخشينا) من كلام الخَضِرِ، وقال قوم لا يجوز أن يكون فخشينا عن اللَّه، وقالوا دليلنا على أن فخشينا من كلام الخضِر قوله (فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا) وهذا جائز أن يكونَ عن اللَّه عزَّ وجلَّ: (فخشينا) لأن الخشية من اللَّه عزَّ وجلَّ معناه الكَرَاهَةُ، ومعناها من الآدميين الخَوْفُ. وقوله: (فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81) (فَأرَدْنَا). بمعنى أراد اللَّه - جلَّ وعزَّ - لأن لفظ الإخْبَارِ عن اللَّه كذا أكْثَرُ من أن يحصى. ومعنى:. (وَأقْرَبَ رُحْماً). أي أقرب عَطْفاً وأمَسُّ بِالقَرابَةِ، والرُّحْمُ والرَّحْمُ في اللغةِ العطف والرحمةُ قال الشاعر:

وكيف بِظُلْمِ جَارِيةٍ. . . ومنها اللين والرُّحمُ * * * وقوله: (فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا) وتقرأ أن يُضِيفُوهُمَا. يقَالُ: ضِفْتُ الرجلَ نزلت عليه، وأضَفْتُه وضَيَّفْتُه، إذا أنزلتُه وقَرَبْتُه وقوله (فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ). أي فأقامه الخَضِرُ، ومعنى جِدَاراً يُريدُ - والِإرادة إنما تكون في الحيوانِ المبين، والجدار لا يُريد إرادة حقيقيةَ، إلَّا أن هيئته في التهيؤ للسقوط قد ظهرت كما تظهر أفعال المريدين القاصدين، فوصف بالِإرادة إذ الصورتان واحدة، وهذا كثير في الشعر واللغة. قال الراعي يصف الِإبِل: في مَهْمَةٍ قَلِقَتْ به هاماتُها قَلَقَ الفُؤُوسِ إِذا أَردنَ نُضولا وقال الآخر: يُريدُ الرمحُ صدرَ أَبي بَراء. . . ويَعدِلُ عن دِماءِ بَني عَقيل ويقرأ: أَنْ يَنْقَضَّ، وأَنْ يَنْقَاضَّ (1)، فينقض يسقط بسرعة. وينقاضَّ ينشق طولًا. يقال انقاضَّ سِنُّه إذا انشقَت طُولاً وقوله؛ (قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا). وُيرْوَى: لَتَخِذْت، وذلك أنهما لما نزلا القرية لم يُضَيفْهُمَا أهْلُهَا، ولا

_ (1) قال السَّمين: قوله: {أَن يَنقَضَّ} مفعولُ الإِرادة. و «انقَضَّ» يُحتمل أن يكونَ وزنُه انْفَعَلَ، من انقِضاضِ الطائرِ أو مِنْ القِضَّة وهي الحَصَى الصِّغار. والمعنى: يريدُ اَنْ يتفتَّتَ كالحصى، ومنه طعامٌ قَضَضٌ إذا كان فيه حَصَى صِغارٌ. وأن يكونَ وزنُه افْعَلَّ كاحْمَرَّ مِن النَّقْضِ يقال: نَقَضَ البناءَ يَنْقُضُه إذا هَدَمه. ويؤيِّد هذا ما في حرفِ عبدِ الله وقراءةِ الأعمش «يريد ليُنْقَضَ» مبنياً للمفعول واللامِ، كهي في قولِه {يُرِيدُ الله لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} [النساء: 26]. وما قرأ به اُبَيٌّ كذلك إلا أنَّه {يُرِيدُ أَن يُنقَضَ} بغير لام كي. وقرأ الزُّهْري «أنْ يَنْقَاضَ» بألفٍ بعد القاف. قال الفارسيُّ: «هو مِنْ قولهم قِضْتُه فانقاضَ» أي: هَدَمْتُه فانهدم «. قلت: فعلى هذا يكونُ وزنُه يَنْفَعِل. والأصل انْقَيَض فَأُبْدِلَت الياءُ ألفاً. ولمَّا نَقَل أبو البقاء هذه القراءةَ قال:» مثل: يَحْمارّ «ومقتضى هذا التشبيه أن يكونَ وزنُه يَفْعالَّ. ونقل أبو البقاء أنه قُرِئ كذلك بتخفيفِ الضاد قال:» وهو مِنْ قولِك: انقاضَ البناءُ إذا تهدَّم «. وقرأ عليٌّ أميرُ المؤمنين رضي الله عنه وعكرمة في آخرين» يَنْقاص «بالصاد مهملةً، وهو مِنْ قاصَه يَقِيْصُه، أي: كسره. قال ابنُ خالويه:» وتقول العرب «انقاصَتِ السِّنُّ: إذا انشقَّتْ طولاً». وأُنْشِدُ لذي الرُّمَّة: 3185 - . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . مُنْقاصٌ ومُنْكِثبُ وقيل: إذا تَصَدَّعَتْ كيف كان. وأُنْشِد لأبي ذؤيب: 3186 فِراقٌ كقَيْصِ السِّنِّ، فالصَّبْرَ إنَّه. . . لكلِّ أُناسٍ عَثْرَةٌ وجُبورُ ونسبةُ الإِرادةِ إلى الجدارِ مجازٌ وهو شائعٌ جداً. ومِنْ أنكر المجازَ مطلقاً أو في القرآنِ خاصةً تَأَوَّلَ ذلك على أنه خُلِقَ للجِدار حياةٌ وإرادة كالحيوانات. أو أنَّ الإِرادةَ صدرت من الخَضِرِ ليَحْصُلَ له ولموسى من العَجَبِ. وهو تَعَسُّفٌ كبيرٌ. وقد أنحى الزمخشريُّ على هذا القائِل إنحاءً بليغاً. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(82)

أنزَلُوهُمَا فَقَالَ مُوسَى لو شِئتَ لأخَذْتَ أجرة إقامَتِكَ هذا الحائط، ويقرأ لتخذت عليه أجراً، يقال تَخِذَ يتْخَذُ في اتَّخَذَ يَتخذُ، وأصل تَخِذْ من أخَذْت وأصل اتَخَذت ائْتَخذْت (1). * * * وقوله: (وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82) (وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا). قيل كان الكنز عِلْماً، وقيل كان الكنزِ مالًا، والمعروف في اللغة أن الكَنْزَ إذَا أفْرِدَ فمعناه المالُ المدْفُونَ والمدَّخَرُ فإذا لم يكن المال قيل: عنده عِلْمٍ وله كَنْزُ فَهْمٍ، والكنز ههنا بالمال أشبَهُ، لأن العلم لا يكاد يتعدم إلا بمعلِّمٍ، والمال لا يحتاج أن ينتفع فيه بغيره، وجائز أن يكون الكنْزُ كان مالاً مكتوباً فيه عِلم، لأنه قد رويَ أنه كان لوحاً مِن ذَهَب عليه مكتوب: " لا إله إلا الله محمد رسول الله "، فهذا مال وَعِلْم عظيم، هو توحيد اللَّه عزَّ وجلَّ وإعلام أن محمداً مبعوث. وقوله (رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ). (رَحْمَةً) منصوب على وجْهَيْن: أحدهما قوله (فَأَرَاد ربُك) وأردْنَا مَا ذَكَرْنَا رحمةً أي للرحمة، أي فعلنا ذلك رَحْمةً كما تقول: أنقَذْتكَ من الهلكة رحمة بك. ويجوز أن يكون (رَحْمَةً) منصوباً على المصدر. لأن معنى (فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا) رحمهما الله بذلك. وجميع ما ذكر من قوله: (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا). ومن قوله (فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا)، معناه رحمهما اللَّهُ رحمة. وقوله: (وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي). يدل على أنه فعله بوحي الله عزَّ وجلَّ. وقوله: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83)

_ (1) قال السَّمين: قوله: «لاتَّحّذْتَ» قرأ ابن كثير وأبو عمرو «لتَخِذْتَ» بفتح التاءِ وكسرِ الخاءِ مِنْ تَخِذَ يَتْخَذُ كتَعِبَ ويتعَبُ. والباقون:: لاتَّخَذْتَ «بهمزةِ الوصلِ وتشديدِ التاءِ وفتحِ الخاءِ مِنَ الاتِّخاذ. واختُلِفَ: هل هما مِن الأَخْذ، والتاءُ بدلٌ من الهمزة، ثم تُحْذَفُ التاءُ الأولى فيُقال: تَخِذَ، كتَقِيَ مِنْ اتَّقَى نحو: 3187 - . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . تَقِ اللهَ فينا والكتابَ الذي تَتْلُوْ أم هما مِنْ تَخِذَ والتاءُ أصيلةٌ، ووزنُهما فَعِل وافْتَعَل؟ قولان تقدَّم تحقيقُهما في هذا الموضوع. والفِعْلُ هنا على القراءتين متعدٍّ لواحدٍ لأنَّه بمعنى الكسب. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(85)

كانت إليهود سألت عن قصة ذي القرنين على جنس الامتحان. (قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا) يقال إنه سمي ذا القرنين لأنه كانت، له ضَفِيرتان، وُيروَى عن علي عليه السلام أنه قال سمي ذا القرنين لأنه ضَرَبَ على جانب رَأسه الأيمن، وجانب رأسه الأيسر، أي ضرب على قرني رأسه. ويجوز أن يكون على مذهب أهل اللغة أن يكون سُمِّيَ ذا القرنين لأنه بلغ قطري الدنيا - مشرقِ الشمسِ ومَغْرِبها * * * وقوله: (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) [فَاتَّبَعَ] سَبَبًا (85) ويقرأ (فَأَتْبَعَ) أي آتيناه من كل شيء ما يَبْلُغُ بِهِ فِي التمَكُّنِ أقْطَارَ الأرْضِ. (سَبَبًا) أي عِلْمأ يوصلهُ إلى حَيْثُ يريد، كما سخر الله عزَّ وجل لسليمان الريحَ. ومعنى (فَأتبْعَ سَبَباً). - واللَّه أعلم - أي فاتبع سبَبَاً من الأسباب التي أوتيَ. * * * (حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) (حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَامِيةٍ) ويُقْرأ (حَمِئَةٍ) بالهمز فَمَن قرأ حَمِئةٍ أراد في عين ذَاتِ حمأةٍ، ويقال حَمأتُ البئر إذَا أخرجتُ حَمْأتَها، وأحْمأتها - إذا ألقيت فيها الحَمْأةَ، وحمِئَتْ هي تحمأ فهي حمئة إدَا صارت فيها الحمأة. ومن قرأ حَامِيَةً بغير همز أراد حارَّةً، وقد تكون حارَّةً ذات حَمْأةٍ. (وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا). أي عند العين. وقوله: (قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا).

(87)

أباحه اللَّهُ - عزَّ وجلَّ - هَذَيْن الحكمبن كما أباح محمداً - صلى الله عليه وسلم - الحكم بين أهْلِ الكتاب أو الإِعراضَ عنهم. * * * (قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) أي فسوفْ نعذِّبُه بالقتل وعَذَاب اللَّهِ إيَّاهُ بالنار أنْكَرُ من عذاب القتل. وقوله: (وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88) (وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ [جَزَاءُ] الْحُسْنَى) وتُقرأ (جَزَاءً الْحُسْنَى)، المعنى فله الحسنى جزاءً، وجزاء مصدر موضوع في موضع الحال. المعنى فله الحسنى مَجْزِيًّا بها جزاءً. ومن قرأ (جَزَاءُ الْحُسْنَى)، أضَافَ جزاء إلى الحسنى. وقد قرئ بهما جميعاً (1). (وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا). أي نقول له قولًا جميلاً (ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) أي سببًا آخر مما يوصله إلى قُطْر من أقطار الأرض. * * * (حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90) أي: لم نجعل لهم شيئاً يُظلهُمْ من سقف ولا لباس. وقوله: (كَذَلِكَ) يجوز أن يكون وجدها تطلع على قوم كذلك القبيل الذين كانوا عند مغرب الشمس، وأن حكمهم حكم أولئك. وقولها (ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) أي سبباً ثالِثاً مما يبلُغُهُ قُطراً من أقطَارِ الأرْض.

_ (1) قال السَّمين: قوله: {جَزَآءً الحسنى}: قرأ الأخوان وحفصٌ بنصب «جزاءً» وتنوينِه. والباقون برفعِه مضافاً. فالنصبُ على المصدر المؤكِّد لمضمونِ الجملة، فتُنْصَبُ بمضمرٍ أو مؤكِّدٍ لعاملٍ مِنْ لفظِه مقدرٍٍ، أي: يَجْزِي جزاء. وتكونُ الجملةُ معترضةً بين المبتدأ وخبرِه المقدَّمِ عليه. وقد يُعْترض على الأولِ: بأنَّ المصدرَ المؤكِّدَ لمضمونِ جملةٍ لا يتقدَّمُ عليها، فكذا لا يَتَوسَّط. وفيه نظرٌ يحتمل الجوازَ والمنعَ، وهو إلى الجوازِ أقربُ. الثالث: أنه في موضع الحالِ. والقراءةُ الثانية رفعُه فيها على الابتداء، والخبرُ الجارُّ قبلَه. و «الحُسْنى» مضاف إليها. والمرادُ بالحُسْنى الجنَّةُ. وقيل: الفَعْلَة الحسنى. الرابع: نصبُه على التفسيرِ. قاله الفراء. يعني التمييزَ. وهو بعيدٌ. وقرأ ابن عباس ومسروقٌ بالنصبِ والإِضافةِ. وفيها تخريجان، أحدُهما: أنَّ المبتدأَ محذوفٌ، وهو العاملُ في «جزاءَ الحسنى» التقديرُ: فله الجزاءُ جزاءَ الحسنى. والثاني: أنه حَذَفَ التنوينَ لالتقاءِ الساكنين كقوله: 3196 - . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ولا ذاكرَ اللهَ إلاَّ قليلا ذكره المهدويُّ. وقرأ عبد الله وابن أبي إسحاق «جزاءً» مرفوعاً منوناً على الابتداء. و «الحُسْنى» بدلٌ أو بيان، أو منصوبةٌ بإضمار «أَعْني»، أو خبرُ مبتدأ مضمرٍ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(93)

(حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93) (حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السُّدَّيْنِ) ويقرأ (بَيْنَ السَّدَّيْنِ). وقيل ما كان مسدوداً خلقة فهو سُدٌّ، وما كان من عمل الناس فهو سَدٌّ. وقوله: (وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا). ويقرأ يُفقَهون، فمعناه لا يكادون يُفْهِمُونَ. * * * (قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) وتقرأ بالهمز في يأجوج ومأجوج، ويقرأ بغير همر، وهما اسْمان أعجَميًانِ لا ينصرفان لأنهما معرفة. وقال بَعضُ أهل اللغة: من هَمَزَ كأنَّه يجعله من أجَّةِ الحرِّ، ومن قوله مِلْحٌ أجَاجٌ. وأجَّةُ الحَر شدتُهُ وتَوَقُدُه. ومن هذا قولهم أجَّجْتُ النَّارَ ويكون التقدير في يأجُوج يفعُول، وفي مَأجُوج مفعول، وجائز أن يكون ترك الهمز على هذا المعنى، ويجوز أن يكون " مَاجوج " فاعول، وكذلك ياجوج، وهذا لو كان الاسمانِ عَرَبيينِ لكان هذا اشتقاقهما، فأما الأعجمية فلا تشتق من العربية. وقوله: (فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا). وَتُقْرأ (خَرَاجاً). فمن قرأ خَرْجاً، فالخَرْجُ الفَيْءُ -، والخَرَاجُ الضرِيبَة وقيل الجزْيَةُ، والخراج عند النحويين الاسم لما يُخْرَج من الفرائض في الأموال، والخَرْجُ المصْدَرُ (1). وقوله عزَّ وجلَّ: (عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا). أي تجعل بيننا وبين يأجُوج ومَاجُوجَ. (قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) ويجوز. . ما مكَنَنِي بنونين، أي الذي مكنني فيه رَبِّي خَيرٌ لي مما

_ (1) قال السَّمين: قوله: {يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ}: قرأ عاصمٌ بالهمزة الساكنة، والباقون بألفٍ صريحة. واخْتُلِف في ذلك فقيل: هما أعجميان. لا اشتقاقَ لهما ومُنعا من الصرف للعلَميَّة والعُجْمة. ويحتمل أَنْ تكونَ الهمزةُ أصلاً والألفُ بدلٌ عنها، أو بالعكسِ؛ لأنَّ العربَ تتلاعب بالأسماءِ الأعجمية. وقيل: بل هما عربيَّان واختلفوا في اشتقاقِهما: فقيل: اشتقاقُهما مِنْ أَجيج النار وهو التهابُها وشِدَّةُ تَوَقُّدِها. وقيل: مِنَ الأَجَّة. وهو الاختلاطُ أو شدةُ الحَرِّ. وقيل: من الأجِّ، وهو سُرْعةُ العَدْوِ. ومنه قوله: 3197 - . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . تؤجُّ كما أجَّ الظَّليمُ المُنَفَّرُ وقيل: من الأُجاجِ، وهو الماءُ المِلْحُ الزُّعاق. ووزنهما يَفْعُوْل ومَفْعُول. وهذا ظاهرٌ على قراءةِ عاصمٍ. وأمَّا قراءةُ الباقين فيُحتمل أن تكونَ الألفُ بدلاً من الهمزة الساكنة، إلا أنَّ فيه أنَّ مِنْ هؤلاءِ مَنْ ليس أصلُه قَلْبَ الهمزةِ الساكنةِ وهم الأكثرُ. ولا ضَيْرَ في ذلك. ويُحتمل أَنْ تكونَ ألفُهما زائدتين، ووزنُهما فاعول مِنْ يَجَّ ومَجَّ. ويُحتمل أَنْ يكونَ ماجوج مِنْ ماج يموج، أي: اضطرب ومنه المَوْجُ فوزنُه مَفْعول والأصل: مَوْجُوج. قاله أبو حاتم. وفيه نظرٌ من حيث ادِّعاءُ قَلْبِ حَرْفِ العلة وهو ساكنٌ. وشذوذُه كشذوذِ «طائيّ» في النسب إلى طيِّئ. وعلى القولِ بكونِهما عربيين مشتقين فَمَنْعُ صرفِهما للعَلَميَّةِ والتأنيثِ بمعنى القبيلة، كما تقدَّم لك تحقيقهُ في سورة هود. ومثلُ هذا الخلافِ والتعليلِ جارٍ في سورة الأنبياء عليهم السلام. والهمزةُ في يَأْجوج ومَأْجوج لغةُ بني أسد. وقرأ رؤبة وأبوه العجاج «آجوج». قوله: «خَراجاً» قرأ ابن عامر «خَرْجاً» هنا وفي المؤمنين بسكون الراء، والأخَوان «خراجاً» «فَخَراج» في السورتين بالألف، والباقون كقراءةِ ابن عامر في هذه السورة، والأول في المؤمنين وفي الثاني وهو «فَخَراج» كقراءة الأخوين. فقيل: هما بمعنى واحد كالنَّوْل والنَوال. وقيل: الخراجُ بالألف ما صُرِفَ على الأرضِ من الإِتاوة كلَّ عام، وبغير ألف بمعنى الجُعْل، أي: نُعْطيك مِنْ أموالِنا مرةً واحدة ما تَسْتعين به على ذلك. قال مكي رحمه الله: «والاختيارُ تَرْكُ الألف؛ لأنهم إنما عَرَضوا عليه أن يُعطوه عَطِيَّة واحدة على بناءه، لا أَنْ يُضْرَبَ ذلك عليهم كلَّ عام. وقيل: الخَرْج ما كان على الرؤوس، والخراج ما كان على الأرض، يقال: أَدَّ خَرْجَ رأسِكَ، وخراجَ أرضِك. قاله ابن الأعرابي. وقيل: الخَرْجُ أخصُّ، والخَراجُ أعَمُّ. قاله ثعلب. وقيل: الخَرْجُ مصدرٌ، والخَراج اسمٌ لِما يُعطى، ثم قد يُطلق على المفعول المصدرُ كالخَلْق بمعنى المخلوق. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(96)

يَجعَلونَ لي من الخراج. فمن قرأ (مَكَني) أدغم النون في النون لاجتماع النونين. ومن قرأ (مَكنَنِي) بنونَيْنِ أظهر النونين لأنهما مِنْ كلِمَتَيْنِ. الأولى من فعل والثانية تدخل مع الاسم المضمر. وقوله: (فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ). أي بعمل تعملونه معي لا بمال (أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا) والردم في اللغة أكثر مِنَ السد، لأنَّ الردم ما جُعِلَ بعضه على بعْضٍ يقال: ثوبٌ مُرَدَّمٌ، إذا كان قد رُقِعَ رُقعة فوق رُقعَة. * * * وقوله: (آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96) أي قطع الحديد، وواحد الزبَرِ زُبَرَة، وهى القطعة العظيمة. وقوله: (حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ). وتقرأ الصُّدُفَيْنِ والصُّدْفَينِ، وهُما نَاحِيتَا الجَبَلِ. وقوله: (قَالَ انْفُخُوا). وهو أن أخذ قِطعَ الحديد العِظَامِ وجعل بينها الحطب والفَحْمَ ووضع عليها المنافيخ حتى إذا صارت كالنار، وهو قوله: (حَتَّى إذَا جَعَلَهُ نَاراً). والحديد إذَا أُحْمِيَ بالفحم والمِنْفَاخِ صارَ كالنَّارِ. وقوله: (آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا). المعنى: أعطوني قِطْراً وهو النحاس. فصب النحاس المُذَابَ على

(97)

الحديد الذي قد صار كالزيت فاختلط ولَصقَ بعْضُه ببعض حتى صار جبلاً صَلْداً من حديد ونحاسٍ. ويقال إنه بناحية أرْمِينية. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97) أي ما قَدَرُوا أن يعلو عليه لارتفاعه وامْلِسَاسِه وما استطاعوا أنْ يَنْقُبُوه. وقوله: (فما اسْطَاعُوا) (1) بغير تاء أصلها استطاعوا بالتاء، ولكن التاء والطاء من مخرج واحد، فحذفت التاء لاجْتِمَاعِهِمَا ويخف اللفظُ، ومِنَ العَرب من يقول: فما استاعوا بغير طَاء، ولا تجوز القراءة بها. ومنهم من يقول: فما أسْطَاعوا بقطع الألف، المعنى فما أطاعوا، فزادوا السين. قال الخليل وسيبويه: زَادُوهُمَا عِوَضاً من ذهاب حركة الواو، لأن الأصل في أطاع أطْوَعَ. فأمَّا من قرأ فما اسْطَاعوا - بإدغام السين في الطاء - فلاحِنٌ مخطئٌ. زعم ذلك النحويون، الخليل ويونُس وسيبويه، وجميع من قال بقولهم. وَحُجتُهُمْ فِي ذلك أن السين ساكنة فإذا أدغمت التاء صارت طاء ساكنة، ولا يجمع بين ساكنين. ومن قال: اطرح حركة التاء على السين فأقول: فما اسَطاعُوا فخطأ أيضاً، لأن سين استفعل لم تحركْ قط. * * * وقوله: (قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98) أي هذا التمكين الذي أدركتُ به السُّدَّ رحمةُ منْ ربي. (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ [دَكًّا] وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا). وتقرأ (دَكاءَ)، على فعلاء - يا هذا - والذكاء والذكاء، كل ما انسبط من الأرْض من مُرتَفع. يعنى أنه إذا كان يومُ القيامَةِ، أو في وقت خروجٍ يَأجْوج ومَأجُوجَ صار هذا الجبل دَكًّا. والدليل على أن هذا الجبل يصير دَكًّا قوله: (وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14).

_ (1) قال السَّمين: قوله: {فَمَا اسطاعوا}: قرأ حمزة بتشديد الطاء، والباقون بتخفيفها. والوجهُ في الإِدغام كما قال أبو علي: «لمَّا لم يمكن إلقاءُ حركةِ التاءِ على السين لئلا يُحَرَّكَ ما لا يتحرك» - يعني أنَّ سين استفعل لا تتحرك - أُدْغم مع الساكن، وإن لم يكن حرف لين. وقد قرأت القراءُ غيرَ حرفٍ من هذا النحو. وقد أنشد سيبويه «ومَسْحِيِ» يعني في قول الشاعر: 3198 - كأنَّه بعد كَلالِ الزَّاجِرِ. . . ومَسْحِي مَرُّ عُقُابٍ كاسِرِ يريد «ومَسْحِه» فأدغم الحاء في الهاء بعد أَنْ قَلَبَ الهاءَ حاءً، وهو عكسُ قاعدةِ الإِدغام في المتقاربين. وهذه القراءةُ قد لحنَّها بعضُ النحاة. قال الزجاج: «مَنْ قرأ بذلك فهو لاحِنٌ مخطئٌ» وقال أبو علي: «هي غيرُ جائزة». وقرأ الأعشى، عن أبي بكر «اصْطاعوا» بإبدال السين صاداً. والأعمش «استطاعوا» كالثانية. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(99)

وقوله: (وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99) ومعنى يموجون في الشيء يخوضون فيه ويكثرون القول. فجائز أن يكون يعنى ب " يومئذٍ " يوم القيامة، ويكون الدليل على ذلك (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا). ويجوز أن يكون (وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ) أي يوم انقضاء أمر السَّدِّ. وقوله (يَمُوجُ)، ماجوا متعجبين مِنَ السَّدِّ. ومعنى (نفِخَ فِي الصْورِ). قال أهل اللغة: الصور جمع صورة. والذي جاء في التفسير أن الصور قرن يَنْفُخ فيه إسرافيل - واللَّه أعلم - إلا إن حملته أنه عند ذلك النفِخْ يكون بعث العباد ونشرهم * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100) تأويل عرضنا أظهرنا لهم جهنم حتى شاهدوها ورأوها. * * * وقوله: (الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101) جعل اللَّه عزَّ وجلَّ على أبصارهم غشاوة بكفرهم. (وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا). كانوا لعداوتَهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - لا يقدرون أن يسمعوا ما يتلى عليهم، كما تقول للكاره لقولك ما تقدر أن تسمع كلامي. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (102)

(103)

تأويله: أفحسبوا أن ينفعهم اتخاذهم عِبَادِي أولياء. وقرئت - وهي جَيِّدَةٌ - (أَفَحَسَبَ الَّذِينَ كَفَرُوا). تأويله أفيكْفيهم أن يتخذوا العبادَ - أولياء مِن دون اللَّه. ثم بين عزَّ وجلَّ جزاءهم فقال: (إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا). يقال لكَل ما اتُّخِذَ ليمكث فِيه، أعتَدْت لفلان كذا وكذا، أي اتخَذْتُهُ عَتَاداً له، ونُزُلاً، بمعْنَى مَنْزِلًا. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) (بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا) منصوب على التمييز لأنه إذْ قال: (بِالْأَخْسَرِينَ)، دلَّ على أنه كان منهم ما خسِروه، فبين ذلك الخَسْرَانَ فِي أيِّ نوعٍ وَقَع فأعلم - جلَّ وعزَّ - أنه لا ينفع عملٌ عُمل مع الكفر به شيئاً فقال: (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) كما قال تعالى: (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ) و (الذين) يصلح أنْ يكونَ جرًّا ورَفْعأ، فالجرُّ نعت للأخسرين. والرفع على الاستئناف، والمعنى هم الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا. (وَهُمْ يَحْسَبُوَن). وتقرأ (يحْسِبُون) (أنَّهمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً). أي يظنون أنهم بصدهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم يُحْسِنُونَ صُنْعاً. وقوله - عزَ وجلَّ: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) اختلف الناس في تفسير الفردوس، فقال قوم: الفردوسُ الأوْدِيةُ التي

(108)

تنبت ضروباً من النبت، وقالوا: الفردوس البستان وقالوا: هو بالرومية منقول إلى لفظ العربية، والفِرْدَوْسُ أيضاً - بالسريانية، كذا لفظة فردوس. ولم نجد في أشعار العرب إلا في بيت لحسان بن ثابت. وإنَ ثواب الله كُل موحدٍ. . . جنانٌ من الفرْدَوْسِ فيها يخلَّدُ وحقيقته أنه البُستان الذي يجمع كل ما يكون في البساتين لأنه عند أهل كل لغة كذلك، ولهذا قال حسان بن ثابت: " جِنان من الفردوس ". وقولهم: إنه البستان يحقق هذا. والجنة أيضاً في اللغة البُسْتَان، إلا أن الجنة التِي يَدْخُلُهَا المؤمنون فيها ما يكون في البساتين، ويدل عليه قوله (وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ). وقوله: (خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108) منصوب على الحال. (لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا). أي لا يُريدُونَ عنها تَحَوُلاً، يقال: قد حال في مكانه حِوَلاً، كما قالوا في المصادر صَغُرَ صِغَراً، وعظُم عِظَماً، وعادني حبها عِوَداً. وقد قيل أيضاً: إنّ الحِوَالَ الحيلَةُ، فيكون على هذا المعنى، لا يحتالون منزلاً غيرها * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109) (وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا).

(110)

(مَدَدًا) منصوب على التمييز، تقول: لي ملءُ هذا عسلاً، ومِثْلُ هذا ذهباً، أي مثله من الذهب. وقد فسرنا نصب التمييز فيما سلف من الكتاب. وقوله: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110) (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ). فيها قولان: قال بعضهم معناه فمن كان يخاف لقاء رَبِّه. ومثله: (مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13). قالوا: معناه مَا لكم لا تخافون للَّهِ عظمةً. وقد قيل أيضاً فمن كان يرجو صلاح المنقلب عند ربِّه، فإذَا رَجَاهُ خَافَ أيضاً عذاب رَبِّه. (فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا). وتجوز " فَلِيَعْمَلْ " بكسر اللام، وهو الأصل، ولكنه يَثْقلُ في اللفظ، ولا يكاد يقرأ به، ولو ابتُدِئ بغير الفاء لكانت اللام مكسورة. تقول: لِيَعْمَلْ زيد بخيرٍ، فلما خالطتها الفاء، وكان بعد اللام الياء ثقلت الكسرة مع الياء. وهي وحدها ثقيلة، ألا تراهم يقولون في فَخِذٍ فَخْذٍ.

سورة مريم

سورة مريم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله عزَّ وجلَّ: (كهيعص (1) فيها في القراءة ثلاثة أوجه: فتح الهاء والياء، وكسرهما. وقرأ الحسن بضم الهاء كهُيعص، وهي أقل اللغات. فأمَّا الفتح فهو الأصل. تقول: هَا. با. تا. . . في حروف الهجاء، ومن العرب من يقول ها يا. بالكسر. ومنهم من ينحو نحو الضم فيقول هُا. يُا، يُشِم الضمَّ. وحكى الخليل وسيبويه أن من العَرب من يقول في الصلاة الصَّلُوة، فينحو نحو الضم، فأمَّا من روى ضمَّ الهاء مع الياء فشَاذ، لأن إجماع الرواة عن الحسن ضم الهاء وحدها. وفي الرواية ضم الياء قليل عنه. واختلف في تفسير (كهيعص) فقال أكثر أهل اللغة إنها حروف التَّهَجِّي تدل على الابتداء بالسورة نحو (الم، والر). وقيل إن تأويلها أنها حروف يَدُلُّ كُل وَاحِد منها على صفة من صفات اللَّه - عزَّ وجلَّ - فكاف يدل على كريم، و " ها " يدل على هادٍ، و " يا " من حكيم، و " عين " يدل على عالم، و " صَادْ " يَدُلُّ على صادق. وهذا أحسن ما جاء في هذه الحروف، وقد استقصينا ذلك في أول سورة البقرة.

(2)

والعين قالوا يدل على عليم. وروي أن (كهيعص) اسم من أسماء اللَّه تعالى. وروى أن عَلِيًّا - (عليه السلام) أقسم بكهيعص، أو قال: " يا كهيعص). والدعاء لا يدل على أنه اسم واحد، لأن الداعي إذا عَلِمَ أن الدعاء بهذه الحروف يدل على صفات اللَّه - جلَّ وعزَّ - فدعا بها. فكأنه قال: يا كافي يا هادي يا عَالِم يَا صَادِق، فكأنه دعا بكهيعص لذكرها في القرآن وهو يدل على هذه الصفات، فإذا أقسم فقال: وكهيعص، فكأنه قال والكافي والهادي والعالم والحكيم والصادق. وأسكنت هذه الحروف لأنها حروف تهجٍّ النَيَّةُ فيها الوقْفُ. * * * (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) (ذِكْرُ) مرتفع بالمضَمر، المعنى هذا الذي نتلوه عليك ذكر رحمة ربك عبده بالرحمة، لأن ذكر الرحمن إياه لا يكون إلا باللَّه - عزَّ وجلَّ -. والمعنى ذكر ربك عبده بالرحمة. و (زكريا) يقرأ على وجهين، بالقصر والمد، فأَعلم اللَّه - جلَّ وعزَّ - على لسان نبيه عليه السلام وصيةَ زكريا ويحيى ليَعْلَمَ أهْلُ الكِتابِ أن محمداً - عليه السلام - قد أوحي إليه، وأنزل عليه ذكر من مضى من الأنبياء وأنهم يجدون ذلك في كتُبِهِمْ على ما ذكر - صلى الله عليه وسلم - وهو لم يتل كتاباً ولا خطَّه بيمينه، وأنه لم يَعْلَم ذلك إلا من قبل الله تعالى وكان إخْبَارُهُ بهذا وما أشبهه على هذه الصفة دليلاً على نبوته - صلى الله عليه وسلم -. وقال بعض أهل اللغة إنَّ قوله: (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا) يرتفع بـ " كهيعص " وهذا محال لأنَّ " كهيعص " ليس هو فيما أنبأنا اللَّه - عزَّ وجل - به عن زكريا، وقد بَيَّن في السورة ما فَعَله به وبشَّرَهُ به. ولم يجئ في شيء من التفسير أن " كهيعص " هو قصة زكريا ولا يحيى ولا شيء منه، وقد أجمع

(3)

القائل لهذا القول وغيره أن رَفْعهُ بالِإضمار هو الوجه. (إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) دعا اللَّهُ - عزَّ وجلَّ - سِرا، وبين ما الذي سأل الله عزَّ وجلَّ، فقال: (قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) ومعنى (وَهَنَ) ضعف. (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا). قيل إن كان قد أتت له في ذَلك الوقتِ خَمسٌ وستون سَنَةً، وقيل ستونَ سنةً وقيل خمس وسبعون سنة. و" شَيْباً " منصوب على التمييز المعنى اشتعل الرأس من الشيب، يقال للشيب إذا كثر جِدا: قد اشتعل رأس فلان. (وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا). أي كنْتُ مستجاب الدعوة. ويجوز أن يكون أراد (لَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا) أي من دعاك مخلصاً فقد وَحَّدك وعبدك، فلم أكن بعبادتك شَقِيًّا. * * * وقوله: عزَّ وجلَّ: (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) - بإسكان الياء من ورائي - معناه من بعدي، والموالي واحدهم مولى. وهم بنو العم وعصبة الرجل، ومعناه الذين يَلُونَه في النَسَبِ كما أن معنى القرابة الذين يقربون منه في النسب. وقوله: (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا). أي قد بلغت هذه السِّنَ وامْراتِي عاقر، والعاقر من النساء التي بها علة تمنع الْوَلَدَ، فكذلك العاقِر من الرجال، فليس يكون لي ولد إلا " وَلِيًّا " فهبه لي، فإنك على كل شيء قدير.

(6)

وقوله: (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) ويقرأ بالجَزم (يَرِثْني ويرِثْ من آل يعقوب) على جواب الأمْرِ ومن قرأ (يَرِثُنِي وَيَرِثُ) فعلى صفة الولي، وقيل يرثني مالي ويرث من آل يعقوب النبوة. وقال قوم لا يجوز أن يقول زكريا: إنه يخاف أن يورث المال لأن أمر الأنبياء والصالحين أنهم لا يخافون أن يرثهم أقرباؤهم ما جعله الله لهم، وجاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " إنا معاشر الأنبياء لاَ نُورَث ما تركناه فهو صَدَقَة " فقالوا معناه يرثني ويرث من آل يعقوب النبوة. وقوله: (وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا). وقوله أيضاً " وليًّا " يدل على أنه سأل ولداً دَيناً، لأن غَيْرَ الدَّيِّنِ لا يكون ولياً للنبي عليه السلام. * * * وقوله: (يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) (إِنَّا نُبَشِّرُكَ). ونَبْشرُك (بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا). أي لم يسم أحد قبله بيحيى، كذا قال ابن عباس، وقيل سمي بيحيى لأنه حَيى بالعلم وبالحكمة التي أوتيها، وقيل لم نَجْعَلْ له من قبل سمياً، أي نظيراً ومِثْلاً. كل ذلك قد جاء في التفسير. * * * وقوله: (قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ [عُتِيًّا] (8) وتقرأ (عِتِيًّا)، وقد رُوِيتْ عُسِيًّا - بالسين - ولكن لا يجوز في القراءة لأنه بخلاف المصحف، وكل شيء انتهى فقد عتا يعتو عِتِيًّا وعُتُوًّا وعُسُوًّا، وعُسِيًّا.

_ (1) قال السَّمين: قوله: {عِتِيّاً}: فيه أربعةُ أوجهٍ، أظهرُها: أنه مفعولٌ به، أي: بَلَغْتُ عِتِيَّاً من الكِبَرِ، فعلى هذا {مِنَ الكبر} يجوز أَنْ يتعلَّقَ ب «بَلَغْتُ»، ويجوز أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ «عِتِيَّا» لأنه في الأصلِ صفةٌ له كما قَدَّرْتُه لك. الثاني: أن يكونَ مصدراً مؤكِّداً مِنْ الفعل، لأنَّ / بلوغَ الكِبرَ في معناه. الثالث: أنَّه مصدرٌ واقعٌ موقعَ الحالِ من فاعل «بَلَغْتُ»، أي: عاتياً أو ذاعِتِيّ. الرابع: أنه تمييزٌ. وعلى هذه الأوجهِ الثلاثةِ ف «مِنْ» مزيدةٌ، ذكره أبو البقاء، والأولُ هو الوجهُ. والعُتُوُّ: بزنة فُعُوْل، وهو مصدرُ عَتا يَعْتُو، أي: يَبِس وصَلُب. قال الزمخشري: «وهو اليُبْس والجَسَاوَةُ في المفاصِلِ والعظام كالعُوْدِ القاحِل يُقال: عَتا العُوْدُ وجَسا، أو بَلَغْتُ مِنْ مدارجِ الكِبَر ومراتبِه ما يُسَمَّى عِتِيَّا» يريد بقوله: «أو بَلَغْتُ» أنه يجوزُ أَنْ يكونَ مِنْ عتا يَعْتُو، أي: فَسَدَ. والأصل: عُتُوْوٌ بواوين فاسْتُثْقِل واوان بعد ضمتين، فَكُسِرَتِ التاءُ تخفيفاً فانقلبت الواوُ الأولى ياءً لسكونها وانكسارِ ما قبلها، فاجتمع ياءٌ وواوٌ، وسَبَقَتْ إحداهما بالسكون، فَقُلبت الواوُ ياءً وأُدْغِمت فيها الياءُ الأُولى. وهذا الإِعلالُ جارٍ في المفرد كهذا، والجمعِ نحو: «عِصِيّ» إلا أنَّ الكثيرَ في المفردِ التصحيحُ كقولِه: «وعَتَوْا عُتُوَّاً كبيراً» وقد يُعَلُّ كهذه الآية، والكثيرُ في الجمع والإِعلالُ، وقد يُصَحَّحُ نحو: «إنكم لتنظرون في نُحُوّ كثيرة» وقالوا: فُتِيَ وفُتُوّ. وقرا الأخَوان «عِتِيَّا» و «صِلِيَّا» و «بِكِيَّا» و «جِثِيَّا» بكسر الفاء للإِتباع، والباقون بالضمِّ على الأصل. وقرأ عبدُ الله بن مسعود بفتح الأول مِنْ «عَتِيَّا» و «صَلِيَّا» جَعَلَهما مصدَرَيْن على زنة فَعيل كالعَجيج والرَّحيل. وقرأ عبد الله ومجاهد «عُسِيَّا» بضم العين وكسر السينِ المهملة. وتقدَّم اشتقاقُ هذه اللفظة في الأعراف وتصريفُها. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(9)

فأحب أن يعلم من أيِّ جهة يكون له ولد، ومثلُ امرأته لَا تَلِدُ ومِثْلُهُ لا يُولَدُ له. (قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9) معناه - واللَّه أعلم. الأمر كما قيل لك. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا). معناه ولم تك شيئاً موجوداً، أي أوجدتك بعد أن لَمْ تَكُنْ. أي فخلق الولد لك كخلق آدم عليه السلام، وخلقك من نُطْفة وعَلَقةٍ ومُضْغَةٍ ولَحْمٍ وعَظْمٍ. * * * (قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10) أي عَلَامَةً أعلم بها وقوع ما بشرتُ به. (قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا). أي تمنع الكلام وأنت سَوِي، فتعلَمَ بذلك أن اللَّه - جل وعلا - قد وهب لك الولَدَ. و" سَوِيًّا " منصوب على الحال. * * * (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11) قيل معنى أوْحى إليهم أوْمَأ إليهم ورَمَزَ، وقيل كتب لهم في الأرض بيده. و (بُكْرَةً وَعَشِيًّا) - منصوبان على الوقت. * * * وقوله: (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) المعنى: فَوَهَبْنَا لَه يحيى وقلنا له (يا يحيى خُذِ الكِتَابَ بقوَّةٍ)، أي بجِدٍ وعونٍ من اللَّه - جلَّ وعزَّ -. (وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13)

(14)

أي وآتيناه حنَاناً، والحنان العطف والرحمة. قال الشاعر: فقالت حَنَان ما أتى بك ههنا. . . أذو نسب أم أنت بِالحَيِّ عَارِفُ أي أمرنا حنان، أو عطف ورحمة: وقال أيضاً: أَبا مُنْذِرٍ أَفْنَيْتَ فاسْتَبْقِ بَعْضَنا. . . حَنانَيْكَ بعضُ الشَّرِّ أَهْوَنُ مِنْ بعضِ المعنى وآتيناه حناناً من لدنا وزكاةً، والزكاة التطهير. * * * (وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14) أي وجعلناه براً بوالديه. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) (انْتَبَذَتْ) تَنَحَّتْ. ويقال نَبَذْتُ الشيء إذَا رَمَيْت به. (مَكَانَاً شَرْقياً) أي نحو المشرق. * * * (فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قيل إنها - قصدَتْ نَحو مطلَع الشمس، لأنها أرَادَتِ الغسْلَ مِن الحيضِ. (فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا). يعنى به جِبرْيل - صلى الله عليه وسلم -. وقيل الروُحُ عيسى، لأنه روح من اللَّه - عزَّ وجلَّ - قال اللَّه - عزَّ وجلَّ -: (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ).

(19)

وقيل إن الروح دخل من في مَرْيَمَ. ويدل على أنَّ جبريل عليه السلام هو الروح قوله: (فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا). * * * (قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) أكثر القراءة (لأهَبَ)، ورُوَيتَ (لِيَهبَ لكَ) وكذلك قرأ أبو عمرو: لِنَهَبَ لكِ كُلاماً زَكيا. * * * (قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) تأويله إنى أَعُوذُ باللَّهِ مِنكَ، فإن كنت تقياً فَستتعظُ بتعوذي باللَّهِ منك. أما من قرأ (ليهبَ) بالياء فالمعنى أرْسَلَني ليهب. ومن قرأ (لَأهَبَ) فهو على الحكاية وحمل الحكاية على المَعنى، على تأويل قال أُرسلت إليك لأهب لك. * * * وقوله: (قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) أي لم يَمسَسْني بشر على جهة تَزَويج - وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا، أي ولا قرِبْت على غير حد التزويج. * * * (قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21) (قَالَ كَذَلِكَ). أي الأمر على ما وصفت لكِ. (قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا). أي وكانَ أمراً سَابقاً في علم اللَّهِ - عز وجل - أنْ يقعَ. * * * وقوله: (فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) (انتَبَذَتْ به) تباعدت به. وقَصِيًّا وقَاصِياً في مَعْنًى وَاحِدٍ، معناه البُعْدُ.

(23)

وقوله: (فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) معناه ألجأها، وهو من جئت وأجاءني غيري: وفي معناه أَشَاءَنِي غيري، وفي أمثال العرب: شَرٌ أجاءَك إلى مُخّةِ عُرْقُوبٍ وبعضهم يقول:. أشَاءَك. قال زُهَيْر: وجارٍ سارَ مُعْتَمِداً إليْكُم. . . أَجاءَتْهُ المخافةُ والرَّجاء واختلف في حمل عيسى عليه السلام، فقيل إنها حَمَلَت بِه وولدته في وقتها، وقيل إنه ولد في ثمانية أشهر، وتلك آية له لأنه لا يُعْرفُ أنه يعيش مولود وُلدَ لثمانية أشْهُر غيرُه. وقوله عزَّ وجلَّ: (فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ) - يدل على مكْثِ الحْملِ واللَّه أعلم. * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا). معناه إني لَوْ خُيرْتُ قبلَ هَذِه الحالِ بين الموتِ أو الدفع إلى هذه الحال لاخترت الموت، وقد علمتْ - رضوان الله عليها - أنها لم يكن ينفعها أنْ تتمنى الموت قبل تلك الحال. وقوله: (وَكُنْتُ [نِسْيًا] مَنْسِيًّا). ويقرأ (نَسْيًا) - بفتح النون - وقيل معنى " نَسْيًا " حَيْضَةً ملْقَاةٍ وقيل نِسْيًا - بالكسر في معنى مَنْسِيةً لَا أعْرَف، والنِسْى في كلام العَرَبِ الشيء المطروح لا يؤبه له. قال الشنفري:

(24)

كأَنَّ لها في الأَرْضِ نِسْياً تَقُصُّه على أَمِّها وإِنْ تُحَدِّثُكَ تَبْلِتِ * * * وقوله: (فَنَادَاهَا [مَنْ تَحْتَهَا] أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وتقرأ (مِنْ تَحْتِهَا)، وهى أكثر بالكسر في القراءة، وَمَنْ قَرَأ (مَن تَحْتهَا) عَنَى عيسى عليه السلام. ويكون المعنى في مناداة عيسى لها أن يبين الله لها الآية في عيسى، وأنَّه أعلمها أن اللَّه - عزَّ وجلَّ - سيجعل لها في النخلة آية. ومن قرأ (مِنْ تَحْتِهَا) عَنَى بهِ المَلَكَ. (قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا). رُوِيَ عن الحَسنِ أنه قال يعنى عيسى، وقال: كان واللَّه سَرِيًّا من الرجال، فعرف الحسنُ أن من العرب من يسمي النهر سرياً فرجع إلى هذا القول. ولا اختلاف بين أهل اللغة أنَّ السَّريَّ النهر بمنزلة الجدول. قال لبيد: فَتَوَسَّطا عُرْضَ السَّرِيِّ وصَدَّعا. . . مَسْجُورَةً مُتَجاوِراً قُلاَّمُها وقال ابن عباس: السري النهر وأنْشَدَ. سَلْمٌ تَرَى الدَّالِيَّ منه أَزْوَرا. . . إِذا يَعُبُّ في السَّرِيِّ هَرْهَرَا * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) يروى أنه كان جِذْعاً من نخلةٍ لا رَأْسَ عَليه، فجعل اللَّه - جلَّ وعزَّ - له رأساً وأنبت فيه رُطَباً، وكان ذلك في الشتاء. فأمَّا نصب رُطَباً فقال محمد بن يزيد هو مفعول به، المعنى وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ رُطَبًا تَسَّاقط عليكِ.

(26)

ويجوز تَسَاقط عليك، ويجوز يُسَاقِطْ عَلَيْكِ، ويجوز نُسَاقط عَلَيْكِ. بالنون ويجوز يَسَّاقَطْ باليَاءِ، ويجوز يتساقط عليك. ويجوز تُساقطُ عَلَيْك ونساقطُ. وَيسَّاقَطُ بالرفع. وُيروَى عن البَراءِ بن عَازِب. فمنْ قرأ يساقَطُ عَلْيكِ فالمعنى يَتَسَاقطُ فأدغمت التاء في السِينِ ومن قرأ تسَّاقَطْ، فالمعنى تَتَساقَطُ أيضاً. فأدْغِمت الياء في السّين وأنِّثَ لأن لَفظَ النَخْلَةِ مُؤَنَثٌ. ومن قرأ تَسَاقَط بالتاء والتخفيف فإنه حذف التاء من - تتساقط لاجتماع التاءَيْن، ومن قرأ يُسَاقِطْ:.، إلى معنى يُسَاقِطُ الجذْعُ عَلَيْك. ومن قرأ نُسَاقِط بالنون فالمعنى إنا نحن نُسَاقِطُ عليك فنجعل لك بِذلك آيةً. والنحويون يقولون إن رُطباً مَنْصوُبٌ على التمييز، إذا قْلتَ يسًاقَطُ أو يتساقط فالمعنى يتساقط الجذعُ رُطبأ، ومن قرأ تَسَاقطُ فالمعنى تَتساقطُ النخلة رُطباً (1). * * * وقوله: (فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) أي فكلي من الرطب، واشربي من السَّرِيِّ، (وَقَرِّي عَيْنًا) بعيسى. يقال: قرِرْت به عيناً أقَرُّ بفتح القاف في المستقبل. وقَرَرْتُ في المكان أقِر - بكسر القاف - في المستقبل. و (عَيْنًا) منصوب على التمييز (2). (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا). بغير ألف في تَريِنَ، ويجوز " تَرأيِنَّ " بألف ولم يقرأ بالألف أَحَدٌ وهي جَيِّدَة بالغة لكنها لا يجوز في القراءة. وكذلك قوله عزَّ وجلَّ: (إنني مَعَكُمَا أسَمَعَ وأرَى)، ويجوز وأرْأي بالألف، ولا تقرأ بها، لفظُها أرْأى، لأن

_ (1) قال السَّمين: قوله: {وهزى إِلَيْكِ بِجِذْعِ}: يجوز أَنْ تكونَ الباءُ في «بِجَذْعِ» زائدةً كهي في قولِه تعالى: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ} [البقرة: 195] [وقولِه:] 3222 - . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . لا يَقْرَأْن بالسُّوَر وأنشد الطبري: 3223 - بوادٍ يَمانٍ يُنْبِتُ السِّدْرَ صَدْرَه. . . وأَسْفَلُه بالمَرْخِ واشَّبَهانِ أي: هُزِّي جِذْعَ النخلةِ. ويجوز أَنْ يكونَ المفعولُ محذوفاً، والجارُّ حالٌ من ذلك المحذوفِ تقديرُه: وهُزِّي إليك رُطَباً كائناً بجذع النخلة. ويجوز أن يكونَ هذا محمولاً على المعنى؛ إذِ التقدير: هُزِّي الثمرةَ بسبب هَزِّ الجِذْع، أي: انفُضِي الجِذْع. وإليه نحا الزمخشري فإنه قال: «أو افْعَلي الهَزَّ كقولِه: 3224 - . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . يَجْرَحْ في عراقيبِها نَصْلي قال الشيخ:» وفي هذه الآيةِ وفي قولِه تعالى: {واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ} [القصص: 32] ما يَرُدُّ على القاعدةِ المقررةِ في علم النحو: من أنَّه لا يتعدَّى فعلُ المضمرِ المتصل إلى ضميره المتصلِ إلا في باب ظنٍّ، وفي لفظَتَيْ فَقَد وعَدِمَ، لا يُقالُ: ضَرَبْتَكَ ولاَ ضَرَبْتُني، أي: ضربْتَ أنت نفسَك وضربْتُ أنا نفسي، وإنما يُؤْتى في هذا بالنفس، وحكمُ المجرورِ بالحرفِ حكمُ المنصوبِ فلا يقال: هَزَزْتَ إليك، ولا زيدٌ هَزَّ إليه، ولذلك جَعَلَ النحويون «عن» و «على» اسْمَيْن في قولِ امرِئ القيس: 3225 - دَعْ عنك نَهْباً صِيْحَ في حُجُراتِه. . . ولكنْ حَديثاً ما حديثُ الرواحلِ وقول الآخر: 3226 - هَوَّنْ عليكَ فإنَّ الأمورَ. . . بِكَفِّ الإِلهِ مقادِيْرُها وقد ثبت بذلك كونُهما اسمين لدخولِ حرفِ الجر عليهما في قوله: 3227 - غَدَتْ مِنْ عليهِ بعدما تَمَّ ظِمْؤُها. . . تَصِلُّ وعن قَيْضٍ ببَيْداءَ مَجْهَلِ وقولِ الآخر: 3228 - فقُلْتُ للرَّكْبِ لَمَّا أَنْ عَلا بِهِمْ. . . مِنْ عَنْ يمينِ الحُبيَّا نظرةٌ قَبْلُ وإمَّا «إلى» فحرفٌ بلا خلافٍ، فلا يمكنُ فيها أَنْ تكونَ اسماً ك «عَنْ» و «على». ثم أجاب: بأنَّ «إليك» في الآيتين لا تتعلَّقُ بالفعلِ قبله، إنما تتعلَّقُ بمحذوفٍ على جهةِ البيان تقديرُه: أَعْني إليك «. قال:» كما تَأَوَّلوا ذلك في قولِه: {لَكُمَا لَمِنَ الناصحين} [الأعراف: 21] في أحد الأوجه «. قلت: وفي ذلك جوابان آخران، أحدهما: أن الفعلَ الممنوعَ إلى الضمير المتصل إنما هو حيث يكون الفعلُ واقعاً بذلك الضمير، والضميرُ مَحَلٌّ له نحو:» دَعْ عنك «» وهَوِّنْ عليك «وأمَّا الهَزُّ والضَّمُّ فليسا واقعين بالكاف فلا محذورَ. والثاني: أنَّ الكلامَ على حذفِ مضافٍ تقديره: هُزِّي إلى جهتِكِ ونحوك، واضمُمْ إلى جهتِك ونحوك. قوله:» تُساقِطْ «قرأ حمزة» تَسَاقَطْ «بفتح التاء وتخفيفِ السين وفتح القاف. والباقون - غيرَ حفصٍ - كذلك إلا أنَّهم شَدَّدوا السين، وحفص بضم التاء وتخفيفِ السين وكسر القاف. فأصلُ قراءةِ غيرِ حفص» تَتَساقط «بتاءين، مضارعَ» تساقَطَ «فحذف حمزةُ إحدى التاءين تخفيفاً نحو:» تَنَزَّلٌ «و» تَذَكَّرون «، والباقون أدغموا التاءَ في السِّيْن. وقراءةُ حفص مضارع «ساقَطَ». وقرأ الأعمش والبراء بن عازب «يَسَّاقَطْ» كالجماعة إلا أنه بالياء مِنْ تحتُ، أدغم التاء في السين، إذ الأصلُ: يتساقط فهو مضارع «اسَّاقط» وأصلُه يَتَساقط، فأُدْغم واجِتُلِبَتْ همزةُ الوصل ك «ادَّارَأ» في تَدَارَأَ. ونُقل عن أبي حيوة ثلاثُ قراءاتٍ: / وافقه مسروقٌ في الأولى، وهي «تُسْقِط» بضم التاء وسكون السين وكسر القاف مِنْ أَسْقَط. والثانية كذلك إلا أنه بالياء مِنْ تحت. الثالثة كذلك إلا أنه رفع «رُطَباً جَنِيَّاً» بالفاعلية. وقُرِئَ «تَتَساقط» بتاءين مِنْ فوقُ، وهو أصلُ قراءةِ الجماعة. وتَسْقُط ويَسْقُط بفتح التاء والياء وسكون السين وضَمَّ القاف. فَرَفْعُ الرُّطَبِ بالفاعلية، وتعطي من الأفعال ما يوافقه في القراءات المتقدمة. ومَنْ قرأ بالتاءِ مِنْ فوقُ الفعلُ مسندٌ: إمَّا للنخلة، وإمَّا للثمرةِ المفعومة من السِّياق، وإمَّا للجِذْع. وجاز تأنيثُ فِعْلِه لإِضافتِه إلى مؤنث، فهو كقوله: 3229 - . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . كما شَرِقَتْ صدرُ القناةِ من الدَّم وكقراءة «تَلْتَقِطْه بعض السيارة». ومَنْ قرأ بالياء مِنْ تحتُ فالضميرُ للجِذْع وقيل: للثمر المدلولِ عليه بالسياق. وأمَّا نَصْبُ «رُطَباً» فلا يَخْرُجُ عن كونِه تمييزاً أو حالاً موطِّئة إنْ كان الفعل قبلَه لازماً، أو مفعولاً به إن كان الفعل متعدَّياً، والذكيُّ يَرُدُّ كلَّ شيء إلى ما يليق به من القراءات. وجَوَّز المبردُ في نصبه وجهاً غريباً: وهو أَنْ يكونَ مفعولاً به ب «هُزِّيْ» وعلى هذا فتكون المسألة من باب التنازع في بعض القراءات: وهي أَنْ يكونَ الفعلُ فيها متعدِّياً، وتكونَ المسألةُ من إعمالِ الثاني للحذف من الأول. وقرأ طلحة بن سليمان «جَنِيَّاً» بكسرِ الجيم إتباعاً لكسرةِ النون. والرُّطَبُ: اسمُ جنسٍ لرُطَبَة بخلافِ «تُخَم» فإنَّع لتُخَمة، والفرق: أنهم لَزِموا تذكيرَه فقالوا: هو الرُّطَبُ، وتأنيثَ ذاك فقالوا: هي التُّخَم، فذكَّروا «الرطب» باعتبار الجنس، وأنَّثوا «التُّخَم» باعتبار الجمعية، وهو فرقٌ لطيفٌ. ويُجْمَعُ على «أَرْطاب» شذوذاً كرُبَع وأَرْباع. والرُّطَب: ما قُطِع قبل يُبْسِه وجَفافِه، وخُصَّ الرُّطَبُ بالرُّطَبِ من التَّمْرِ. وأَرْطَبَ النخلُ نحو: أَتْمَرَ وأَجْنَى. والجَنِيُّ: ما كابَ وصَلُحَ للاجْتِناء. وهو فَعيل بمعنى مفعول وقيل: بمعنى فاعِل: أي: طَرِيَّاً، والجَنَى والجَنِيُّ أيضاً: المُجَتَنَى من العَسَلِ، وأَجْنَى الشجرُ: أَدْرَك ثَمَرُه، وأَجْنَتِ الأرضُ كَثُرَ جَناها. واسْتُعير من ذلك «جَنَى فلانٌ جنايةً» كما استعير «اجْتَرَم جريمةً». اهـ (الدُّرُّ المصُون). (2) قال السَّمين: قوله: {وَقَرِّي عَيْناً}: «عَيْناً» نصبٌ على التمييز منقولٌ من الفاعل، إذ الأصلُ: لِتَقَرَّ عينُك. والعامَّة على فتحِ القاف مِنْ «قَرِّيْ» أمراً مِنْ قَرَّتْ عَيْنُه تَقَرُّ، بكسر العين في الماضي، وفتحِها في المضارع. وقُرِئ بكسرِ القاف، وهي لغةُ نجدٍ يقولون: قَرَّتْ عينُه تَقِرُّ بفتح العين في الماضي وكسرِها في المضارع، والمشهورُ أن مكسورَ العين في الماضي للعين، والمفتوحَها في المكان. يقال: قَرَرْتُ بالمكانِ أَقِرُّ به، وقد يُقال: قَرِرْتُ بالمكانِ بالكسر. وسيأتي ذلك في قولِه تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب: 33]. وفي وَصْفِ العين بذلك تأويلان، أحدُهما: أنَّه مأخوذٌ مِنَ «القُرّ» وهو البَرْدُ: وذلك أنَّ العينَ إذا فَرِح صاحبُها كان دَمْعُها قارَّاً أي بارداً، وإذا حَزِن كان حَرَّاً ولذلك قالوا في الدعاء عليه: «أَسْخَنَ اللهُ عينَه»، وفي الدعاء له: «أقرَّ اللهُ عينَه. وما أَحْلى قولَ أبي تمام: 3230 - فأمَّا عيونُ العاشِقينَ فَأُسْخِنَتْ. . . وأمَّا عيونُ الشامتينَ فَقَرَّتِ والثاني: أنه مأخوذٌ من الاستقرار، والمعنى: أعطاه الله ما يُسَكِّنُ عينَه فلا تطمحُ إلى غيره. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(27)

القراءة سنة لا تخالف. والأجْودُ أرَى، وكذلك تَرَيِن الأجود بغير همز، والتاء علامة التأنيث، والأصل تَرْآيِّن، والياء حركت لالتقاء السَّاكنين. النون الأولى من النون الشديدة والياء. وكذلك تقول للمرأة اخْشَيِنَّ زيداً (1). * * * (فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا). معنى (صوماً) صمتاً. يقال نَذَرتُ النًذْرَ أنذِرُهُ وَأنْذُرُه، ونَذِرتُ بالقَوْم أنْذَرُ إذا علمت بهم فاستعدَدْتَ لهم. * * * وقَوله: (فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) أي شيئاً عظيماً، يقال فلانٌ يَفْرِي الفَرِيَّ إذا كان يعمل عملًا يبالغ فيه. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) اختلف في تفسير: " أُخْت هَارُونَ " في هذا الموضع. رَوْينَا في التفسير أنَّ أهْلَ الكتاب قالوا: كيف تقولون أنتم: مَرَيَمُ أخت هارون وبينهما ستَّمائةِ سنة، فقيل ذلك لرسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنهم كانوا يُسَمون بأسْماء الأنبياء والصالحين، أي فكان أخو مَرْيَمَ يسمَى هارون. وقيل إنهم عَنوْا بأخت هارون في الصلاح والدين، ويروى أن هارون هذا الدَّيِّنَ كان رجلاً من قومها صالحاً، وأنه حضر جنازَتَه أربعون ألفاً يسمى كل واحد منهم هارون. والذي في هذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بَيِّنٌ.

_ (1) قال السَّمين: قوله: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ} دخلت» إنْ «الشرطية على» ما «الزائدة للتوكيد، فَأُدْغِمت فيها، وكُتِبَتْ متصلةً. و» تَرَيْنَ «تقدَّم تصريفُه. والعامَّةُ على صريح الياء المكسورة وقرأ أبو عمروٍ في رواية» تَرَئِنَّ «بهمزة مكسورةٍ بدلَ الياء، وكذلك رُوي عنه» لَتَرَؤُنَّ «بإبدالِ الواوِ همزةُ. قال الزمخشري:» هذا مِنْ لغةِ مَنْ يقول: لَبَأْتُ بالحَجِّ وحَلأْتُ السَّوِيْقَ «- يعني بالهمز - وذلك لتآخٍ بين الهمز وحروف اللين». وتجرَّأ ابن خالَوَيْة على أبي عمرو فقال: «هو لحنٌ عند أكثر النحويين». وقرأ أبو جعفر قارئُ المدينةِ وشيبة وطلحة «تَرَيْنَ» بياءٍ ساكنة ونونٍ خفيفة. قال ابن جني: «وهي شاذَّةٌ». قلت: لأنه كان ينبغي أَنْ يُؤَثِّر الجازمُ، وتُحذفَ نونُ الرفع. كقول الأَفْوه: 3231 - إمَّا تَرَيْ رَأْسِيَ أَزْرَى به. . . ماسُ زمانٍ ذيٍ انتكاثٍ مَؤُؤْسِ ولم يؤثِّرْ هنا شُذوذاً. وهذا نظيرُ قولِ الآخر: 3232 - لولا فَوارسُ مِنْ نُعْمٍ وأُسْرَتِهِمْ. . . يومَ الصُّلَيْفاءِ لم يُوفُوْنَ بالجارِ فلم يُعْمِلْ «لم»، وأبقى نونَ الرفعِ. و «من البشر» حالٌ من «أحداً» لأنه لو تأخَّر لكان وصفاً. وقال أبو البقاء: «أو مفعول» يعني أنه متلِّعق بنفسِ الفعل قبله. قوله: فَقُولِيْ «بين هذا الجوابِ وشرطِه جملةٌ محذوفةٌ، تقديرُه: فإمَّا تَرَيْنَّ من البشر أحداً فسألكِ الكلامَ فَقُولي. وبهذا المقدَّر نَخْلُصُ من إشكالٍ: وهو أنَّ قولَها {فَلَنْ أُكَلِّمَ اليوم إِنسِيّاً} / كلامٌ، فيكون ذلك تناقضاً؛ لأنها قد كَلَّمَتْ إنْسِيَّاً بهذا الكلامِ. وجوابُه ما تَقَدَّم: وقيل: المرادُ بقوله» فقُولي «إلى آخره، أنه بالإِشارة. وليس بشيء. بل المعنى: فلن أكلِّمَ اليومَ إنْسِيَّاً بعد هذا الكلامِ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(29)

وقوله عزَّ وجلَّ: (فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) أي لما خاطبوها أشارت إليه، بأنْ جَعَلُوا الكلامَ مَعَهُ، ودَل على أنها أشارت إليه في الكلام قولهم (كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا). وفي هذا ثلاثة أوجهٍ: قال: أبو عبيدة إن معنى " كان " اللغو، المعنى كيف نكلم من في المهد صبياً، لأن كل رجل قد كان في المهْدِ صَبِيًّا، ولكن المعنى كيف نكلم من في المهد صَبيًّا لا يَفهمُ مِثْلهُ، ولا ينطق لسانه بالكلم. وقال قوم إنَّ " كان " في معنى وقع وحَدَثَ. المعنى على قول هؤلاء: كيف نكلم صَبِيًّا قد خلق في المهْدِ. وأجود الأقوال أن يكون " مَن " في معنى الشرط والجزاء فيكون المعنى: من يكن في المهد صَبِيًّا - ويكون (صَبِيًّا) حالاً - فكيف نكلمه. كما تقول من كان لا يسمع ولا يعقل فكيف أخاطبه. وروى أنَّ عيسى عليه السلام لما أومأت إليه اتكأ على يساره وأشار بسبَّابَتِه فقال: (إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ) أي معلمأ للخير. (وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) ومعنى الزكاةِ هَهُنا الطهَارَةُ، (مَا دُمْتُ حَيًّا) - دُمْتُ، ودِمْتُ جميعاً. (وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32)

(33)

(وَبَرًّا) عطف على (مباركاً)، المعنى وجعلني مباركاً وَبَرًّا بِوَالِدَتي. * * * (وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) (وَالسَّلَامُ عَلَيَّ) فيه أوجه، فالسلام مصدر سلَّمْتُ سلاماً، ومَعناهُ عموم العافية والسلامة، والسلام جمع سلامة، والسلام اسم من أسماء الله جل وعزَّ، وسلام مما ابتُدئ به في النكرة، لأنه اسم يكثر استعماله. تقول سلام عليك والسلام عليك. وأسماء الأجناس يبتدأ بها، لأن فائدة نكرتِها قريب من فائدة معرفتها. تقول: - لَبيْكَ وخَير بين يَدَيْكَ، وإن شئت قلت: والخير بين يديك، وتقول: السلام عليك أيها النبي، وسلام عليك أيها النبي، إلا أنه لمَّا جَرَى ذكر " سلام " قبل هذا الموضع بغير ألف ولام كان الأحسن أن يُرَدَّ ثانية بالألف واللام، تقول: سلام عليك أيها النبي، السلام علينا وعلى عباد اللَّه الصالحين، هذا قسمٌ حسن، وإن شئت قلت سلام علينا وعلى عباد اللَّه الصالحين. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) أي ذلك الذي (قال إني عبد اللَّه آتاني الكتاب وجعلنى نبياً) عيسى ابن مريم لا ما يقول النصارى من أنه ابن اللَّه وأنه إله - جل الله وعز. وقوله - عزَّ وجلَّ: (قَوْلُ الْحَقِّ) (1). بالرفع، ويجوز (قَوْلَ الْحَقِّ) بالنصب، فمن رفع فالمعنى هو قول الحق ومن نصب فالمعنى أقول قولَ الحق الذي فيه يمترون أي يشكون. * * * (مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) (مِنْ وَلَدٍ) في موضع نصب، والمعنى أن يتخذ وَلداً، و (مِنْ) مؤكدة. تدل على الواحد والجماعة لأن للقَائِلِ أنْ يَقُولَ: ما اتخَذْتُ فَرساً يريد

_ (1) قال السَّمين: قوله تعالى: {ذلك عِيسَى ابن مَرْيَمَ قَوْلَ الحق}: يجوز أَنْ يكونَ «عيسى» خبراً ل «ذلك»، ويجوز أَنْ يكونَ بدلاً أو عطفَ بيانٍ. و «قولُ الحق» خبره. ويجوز أَنْ يكونَ «قولُ الحق» خبرَ مبتدأ مضمر، أي: هو قولُ: و «ابن مريم» يجوز أَنْ يكونَ نعتاً أو بدلاً أو بياناً أو خبراً ثانياً. وقرأ عاصم وحمزة وابن عامر «قولَ الحق» بالنصبِ والباقون بالرفع. فالرفعُ على ما تقدَّم. قال الزمخشري: «وارتفاعُه على أنَّه خبرٌ بعد خبرٍ، أو بدلٌ» قال الشيخ: «وهذا الذي ذكرَه لا يكونُ إلا على المجازِ في قولٍ: وهو أن يُراد به كلمةُ اللهِ؛ لأنَّ اللفظَ لا يكون الذاتَ». والنصب: يجوز فيه أَنْ يكونَ مصدراً مؤكِّداً لمضمون الجملة كقولِك: «هو عبدُ الله الحقَّ لا الباطِلَ، أي: أقولُ قولَ الحق، فالحقُّ الصدقُ وهو مِنْ إضافةِ الموصوف إلى صفتِه، أي: القول الحق، كقولِه: {وَعْدَ الصدق} [الاحقاف: 16]، أي: الوعدَ الصدقَ. ويجوز أن يكونَ منصوباً على المدح، أي: أُريد بالحقِّ البارِيْ تعالى، و» الذي «نعتٌ للقول إنْ أُرِيْدَ به عيسى، وسُمِّي قولاً كما سُمِّي كلمةً لأنه عنها نشأ. وقيل: هو منصوبٌ بإضمار أعني. وقيل: هو منصوبٌ على الحالِ من» عيسى «. ويؤيِّد هذا ما نُقِل عن الكسائي في توجيهِ الرفعِ: أنه صفةٌ لعيسى. وقرأ الأعمشُ» قالُ «برفع اللام، وهي قراءةُ ابن مسعودٍ أيضاً. وقرأ الحسن» قُوْلُ «بضم القاف ورفع اللام، وهي مصادر لقال. يقال: قال يَقُولُ قَوْلاً وقالاً وقُوْلاً، كالرَّهْبِ والرَّهَبِ والرُّهْب. وقال أبو البقاء:» والقال: اسمٌ [للمصدرِ] مثل: القيل، وحُكي «قُولُ الحق» بضمِّ القاف مثل «الرُّوْح» وهي لغةٌ فيه «. قلت: الظاهرُ أنَّ هذه مصادرٌ كلُّها، ليس بعضُها اسماً للمصدرِ، كما تقدَّم تقريرُه في الرَّهْب والرَّهَب والرُّهْب. وقرأ طلحةُ والأعمش» قالَ الحقُّ «جعل» قال «فعلاً ماضياً، و» الحقُّ «فاعلٌ به، والمرادُ به الباري تعالى. أي: قال اللهُ الحقُّ: إنَّ عيسى هو كلمةُ الله، ويكونُ قولُه {الذي فِيهِ يَمْتُرُونَ} خبراً لمبتدأ محذوف. وقرأ علي بن أبي طالب والسُّلَمي وداود بن أبي هند ونافع والكسائي في رواية عنهما» تَمْتَرون «بتاء الخطاب. والباقون بياءِ الغَيْبة. وتَمْتَرُون تَفْتَعِلُون: إمَّا مِنْ المِرْية وهي الشكُّ، وإمَّا من المِراء وهو الجِدالُ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(37)

اتخذت أكثر من ذلك، وله أن يقول ما اتخَذْتُ فرسين ولا أكثر يريد اتخذت فرساً واحداً، فإذا قال ما اتخذت من فرس فقد دل على نَفْي الواحد والجَمِيعَ. (سُبْحَانَهُ). معناه تنزيهاً له من السوء. * * * وقوله: (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) يعنى به يوم القِيَامة. * * * (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38) المعنى مَا أسْمَعَهمْ وأبصَرَهمْ يوم القيامة لأنهم شَاهَدوا من البعث وأمْر اللَّه عزَّ وجلَّ ما يسمع ويبصر بغير إعْمال فِكْرٍ وَتَرْوِيَةٍ. وما يُدعَوْنَ إليه من طاعة اللَّه - جل جلاله - في الدنيا يحتاجون فيه إلى فكر ونظر فضلُّوا عن ذلك في الدنيا وآثروا اللهو والهوى، فقال الله تعالى: (لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ). * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39) (يَوْمَ الْحَسْرَةِ) يوم القيامة، روي في التفسير أنه إذا كان يوم القيامة واستقر أهلُ الجنة في الجنة، وأهْلُ النَّارِ في النار أُتيَ بالموتِ في صُورَة كَبْشٍ أملح فيعرض على أهل النار فيشرئبون إليه. فيقال: أتعرفون هذا، فيقولون: نعم، فيقال:

(41)

هذا الموت فيذبح وينادى: يا أهلَ النَّارِ، خُلودٌ لا موت بعده، وكذلك ينادى يا أهلَ الجنَّةِ خُلودٌ لا موت بعده. (وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ). أي هم في الدنيا في غفلة. * * * (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) أي اذكر في الكتاب الذي أنزل عليك وهو القرآن قِصةَ إبْراهِيمَ وخَبَرهُ. الصِّديقُ اسم للمبالغة في الصِّدْقِ. ويقال لكل مَنْ صَدَّقَ بتوحيد اللَّه وأنبيائه وعمل بما يصدقُ به صِدِّيق، ومن ذلك سمي أبو بكر الصِّديقَ. * * * وقوله: (إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) الوقف عليه يا أبَه بالهاء، والعرب تقول في النداء يا أبَةِ، ويَا أمَّةِ ولا تقول قال أبتي كذَا ولا قالت أمَّتِي كذا، وزعم الخليل وسيبويه أنه بمنزلة قولهم يا عمة ويا خالَة، وأن أبَة للمذكر والمؤنث، كأنك تقود للمذكر أبة وللمؤنث. والدليل على أنَّ للأُمِّ حَظًّا في الأبُوةِ أنه يقال أبَوانِ، قال اللَّه عزَّ وجلَّ: (وَوَرِثَهُ أبَوَاهُ). وزعم أنه بمنزلة قولهم رجل رَبْعة، وغلام يَفَعَةِ. وأن الهاء في أبَةِ، عوض من ياء الِإضافة من يا أبي ومن يَا أُمِّي ولم يقل يا أبتي ولا يا أُمَّتي، ولذلك لم تقع الهاء في غير النداء، لأن حذف الياء يقع في النداء كثيراً، تقول: يَا أبِ لا تفعل، ولا تقل قال أبِ كذا وكذا تريد قال أبي. والمؤنث قد يوصف بالمذكر كقولهم امرأة طالق وطاهر، ويقال ثَلَاثةُ

(44)

أنْفسٍ، والنفس أنثى سُمِّيَ بها المذَكر وهذا تفسير مستقصى وقريب. * * * (يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) فمن فتح حذف الألف التي أبْدِلَتْ مِنْ يَاءِ الِإضافة أرَادَ يَا أبَتَا فالألف بدَل من ياء الِإضافة إلاَّ أن الواجب حذفها، إذ كانت بدلاً من ياء تحذف. وقوله: (لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا). يعني الصَنم. وقوله: (إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ). يدل أنه كان قَدْ أتَاهُ الوَحْيُ. ومعنى: (صِرَاطًا سَوِيًّا). أي طريقاً مستقيماً. * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) معنى عبادة الشيطان - واللَّه أعلم - طاعته فيما يسول من الكفْرِ والمَعَاصِي. * * * وقوله: (قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) (لَأَرْجُمَنَّكَ). معناه لأشتمنَكَ، يقال: فلان يَرْمي فلاناً ويرْجُمُ فلاَناً معناه يشتمه. وكذلكْ قوله عزَّ وجلَّ: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ) معناه يَشْتِمُونَهُنَّ، وجائز أن يكون (لَأَرْجُمَنَّكَ) لأقتلنك رَجْماً، والذي عليه التفسير أن الرجم ههنا الشتم. * * * وقوله: (قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47)

(50)

(إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا) معناه لطيفاً، يقال: قد تَحَفَّى فلانٌ بفُلَانٍ، وحَفِي فُلَان بفُلانٍ حَفْوَهُ إذا بَرهُ وألْطَفَهُ * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50) أي أبقينا لهم ثناء حسناً، وكذلك قوله: (وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84). * * * وقوله: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51) (مُخْلِصًا) و (مُخْلَصًا) يقرآان جميعاً. والمخلَص - بفتح اللام الذي أخلصه اللَّه جلَّ وعزَّ، أي جعله مختاراً خالصاً من الدنَس. والمخْلِصُ - بكسر اللام - الذي وَحَّدَ اللَّه - عزَّ وجلَّ - وجَعَلَ نفسه خالصة في طاعة اللَّه غير دنِسَةٍ. * * * وقوله: (وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52) (وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا). معناه مناجياً. وجاء في التفسير أن الله عزَّ وجلَّ قربه حتى سمع صريف القلم الذي كتبتْ به التوْرَاةُ، ويجوز - واللَّه أعلم - أن يكونَ، مثل: (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تكليماً) أي قربه في المنزلة حتى سمع مناجاة اللَّه - عزَّ وجلَّ - وهي كلامُ اللَّه. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53) هارون لا ينصرف في المعرفة لأنه اسم أعجمي وهو معرفة. * * * وقوله سبحانه: (وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55) أهله جميعُ أمته، مَنْ كانت بينه وبينه قرابة أو من لم تكن، وكذلك أهل كُل نبي أُمَّتُهُ.

(57)

(وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا). أصله مَرْضُوًّا، وهو جائز في اللغة غير جائز في القرآن لأنه مخالف للمصحف، والخليل وسيبويه وجميع البصريين يقولون: فلان مَرْضُوُّ ومَرضِيٌّ وأرض مَسْنُوة ومسنية إذا سقيت بالسواني أو بالمطر، والأصل الواو إلا أنها قلبت عند الخليل لأنها طرف قبلها واو ساكنة ليس بحاجز حصين، وكأنها مَفْعُل بضم العين، ومفعُل من أدوات الواو يقلب إلى مَفْعِل، لأن الواو لا تكون طرفاً وقبلها متحرك في الأسماء، وأما غير سيبويه والبصريين فلهم فيه قولان: قال بعضهم: لما كان الفعل منه رضيتُ فانتقل من الواو إلى الياء. صار مَرْضِيا. وقيل إن بعض العرب يقول في تثنية رضىً رِضيَان ورِضَوَانِ. فمن قال رضيانِ لم يكن من قوله إلا مرضيٌّ، ومن قال رضوان في التثنية جاز أن يقول فلان مَرْضوٌّ ومرضِيٌّ. * * * وقوله سبحانه: (وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57) جاء في التفسير أيضاً أنه رفع إلى السماء الرابعة، وجاء في التفسير أيضاً أنه سأل ملك الموت حتى سأل الله - جلَّ وعزَّ - أنْ رَفَعَهُ فأُدْخِلَ النارَ ثم أُخرج فأُدخل الجنة فقيل له في الخروج فقال: قد قال اللَّه عزْ وجلَّ: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا) وقال في أهل الجنة: (وَمَا هُمْ مِنْها بِمُخْرَجين) فأقَرَّه اللَّه عزَّ وجلَّ في الجنة. وهذا الحِجَاج إنما هو في القرآن - واللَّه أعلم.

(58)

وجائز أن يكون قد أعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - إدريس ورُوُدَ الخلق النَّارَ وأنهم مُخَلَّدون في الجِنَان قبل إنْزَاله القرآن، وجاء القرآن موافقاً ما عُلِّمَ إدْرِيسُ. وجاء في التفسير أنه رُفِعَ كما رُفِعَ عيسى. وجائز أن يكون - واللَّه أعلم - قوله: (وَرَفَعْنَاهُ مَكَانَاً عَلِيًّا) أي في النبوة والعلم. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58) قد بَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَه أن الأنْبِيَاءَ كانوا إذَا سَمِعُوا بآيات اللَّه - عزَّ وجلَّ - سَجَدُوا وبَكَوْا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ. و (بُكِيًّا) جمع باكٍ، مثل شاهد وشُهود وقَاعِد وقُعُود. و (سُجَّدًا) حال مُقَدَّرَة المعنى: خَرُّوا مُقَدِّرينَ السجُودَ لأن الِإنسان في حال خرْورِهِ لا يكون سَاجِداً و (سُجَّدًا) منصوب على الحال. ومن قال: (بُكِيًّا) ههنا مصدر فقد أخطأ لأن (سُجَّدًا) جمع سَاجد و (بُكِيًّا) عطف عليه، ويقال بَكَى بُكَاءً وبُكِيًّا. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) يقال في الرداءة خَلْف - بإسكان اللام - تقول خَلْفُ سوءٍ وفي الصلاحِ خلَفُ صِدْقٍ - بفتح اللام - وقد يقال في الرداءة أيضاً خَلَف - بفتح اللام - وفي الصلاح بإسكان اللام، والأجود القول الأول. (أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ). جاء في التفسير أنَّهمْ صَلُّوْهَا في غير وقتها، وقيل أضَاعُوهَا وتَرَكُوَهَا ألبتَّة وهذا هو الأشبه، لأنه يدل على أنه يعْنَى بِهِ الكفَارُ. ودليل ذلك قوله: (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ). وقوله: (فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا)

(60)

أي فَسَوْفَ يلقون مُجازَاةَ الغَى كما قال عزَّ وجلَّ: (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا) أي مجازاة الأثَام. وجاء في التفسير أن، (غيًّا) وادٍ في جهنم، وقيل نهر في جهنم. وهذا جائز أن يكون نهراً أعد للغاوين فسمي (غيًّا). * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60) " مَنْ " في موضع نصب أي فسوفَ يلْقَوْنَ العذابَ إلا التائبين. وجائز أن يكون نصباً استثناء من غير الأول، ويكون المعنى لكن من تاب وآمن. (فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ). ويقرأ - يُدْخَلُونَ الجنةَ. * * * وقوله تعالى: (جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) يجوز الرفع والنصب، الرفع على معنى هي جنات عدن، والنصب على معنى يدخلون في جنات عَدْنٍ. وعدن في معنى إقامة، يقال: عَدَنَ بِالمَكانِ إذا أقام به. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا). ماتي: مفعول من الِإتيان، لأن كل ما وصل إليك فقد وصلت إليه وكل ما أتاك فقد أتيتَه، يقال: وصلت إلى خير فلان ووصل إليَّ خير فلانٍ وأتيت خير فلان وأتاني خير فلانٍ فهذا على معنى أتَيت خيرَ فلانٍ.

(62)

وقوله عزَّ وجلَّ: (لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) اللغو ما يلغى من الكلام ويؤثم فيه، و (سلاماً) اسم جامع للخير مُتَضَمِّنٌ للسلامة، فالمعنى أن أهل الجنة لا يسمعون إلا ما يُسَلِّمُهُمْ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا). قيل: ليس ثَمَّ بكرةٌ ولا عَشِيٌّ، ولكنهم خوطِبوا بما يَعقِلونَ في الدنيا. فالمعنى لهم رزقهم في مقدار ما بين الغداة والعشيِّ. وقد جاء في التفسير أيضاً أن معناه: ولهم رزقهم فيها كل سَاعة. وإذا قيل في مقدار الغداة والعَشِيِّ فالذي يقسم في ذلك الوقت يكون مقدار ما يريدون في كل ساعة إلى أن يأتي الوقت الذي يتلوه. * * * وقوله تعالى: (وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) يروى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أبطَأ عَنْهُ جبريلُ عليه السلام في الوحي، فقال عليه السلام وقد أتاه جبريل: ما زُرْتَنَا حتى اشتقْت إليكَ، فقال: (وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ). * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ). ما بين أيدينا امرُ الآخرة والثواث والعقاب، وما خَلْفَنَا جَميعُ مَا مَضَى مِنْ أمْرِ الدُّنْيا، وما بَيْن - ذَلِكَ ما يكون منا من هذا الوقت إلى يوم القيامة وجاء في التفسير وما بين ذلك قيل ما بين النفختين. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًا). أي قد علم اللَّه جلَّ وعلا ما كان وما يكون وما هو كائن، حَافِظ لذلك عز وجلَّ. لا ينسى منه شيئاً. وجائز أن يكون واللَّه أعلم: مَا نَسِيَكَ رَبُّكَ وَإن تأخر عنك الوحي.

(65)

وقوله عزَّ وجلَّ: (رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65) أي هو مالك لهما وعالم بهما وبما فيهما. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا). جاء في التفسير: هل تعلم له مِثْلاً، وجاء أيضاً لم يسم بالرحمن إلا اللَّه عزَّ وجلَّ. وتأويله - واللَّه أعلم - (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) يستحق أن يقال له خالقٌ وقادر وعالم بما كان وبما يكون، فذلك ليس إلا من صفة الله تعالى. * * * وقوله: (وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) يعنى بهذا الكافر الذي لا يؤمن بالغيب خاصة، ومُتُّ ومِتُّ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67) وُيقْرأ أو لا يذكر بالتخفيف والتثْقِيل. (أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا). أعلم اللَّه عزَّ وجلَّ أن إعادة الخلق مثل ابتداء خَلقِهمْ، وهذا كما قال: (وَضَرَب لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ) الآية. فكان الجواب (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ). * * * وقوله تعالى: (فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) أي فوربك لنبعثنهم ولنحشرنهم مع الشياطين الذين أغوَوْهم. (ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا). و (جُثِيًّا). - بالضم والكسر جميعاً، ومعنى جثيا على ركبهم، لا يستطيعون القيام مما هم فيه وجُثي جمع جَاثٍ وجُثى، مثل قاعد وقعود وبارك وبروك.

(69)

والأصل ضم الجيم وجائز كسرها، اتباعاً لكسرة اليَّاء. و (جِثِيًّا). منصوب على الحال. * * * وقوله تعالى: (ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69) وَ (عُتيا) - بألكسر والضَم، ومعناه لننزعن مِنْ كل أمَّةٍ ومِنْ كُلً فرقةٍ الأعتى فَالْأعْتَى منهم، كأنَّهم يُبْدَأ بتعذيب أشدهم عُتِيا ثم الذي يليه. فأما رفع (أَيُّهُمْ) فهو القراءة، ويجوز (أَيَّهُمْ) بالنصب حكاها سيبويه، وذكر سيبويه أنَّ هارون الأعوَرَ القارئ قرأ بها. وفي رفعها ثلاثة أقوال: قال سيبويه عن يونس إن قوله جلَّ وعزَّ (لَنَنْزِعَنَّ) معقلة لم تعمل شيئاً. فكأنَّ قولَ يونس: (ثم لننزعن من كل شيعة) ثم استأنف فقال (أيهم أشد على الرحمن عتياً). وأما الخليل فَحكى عنه سيبويه أنه على معنى الذين يقال (أيهم أشد على الرحمن عتياً)، ومثله عنده قول الشاعر: ولقد أَبِيتُ من الفَتاة بمَنْزِلِ. . . فأَبِيتُ لا حَرِجٌ ولا مَحْرُوم المعنى فأبيتُ بمنزلة الذي يقال له لا هو حرجٌ ولا هو محرومٌ.

(70)

وقال سيبويه إن " أَيُّهُمْ " مَبْنية على الضم لأنها خالفت أخواتها، واستعمل معها حرف الابتداء، تقول اضرب لأيُّهُم أفْضَل يريد أيهم هو أفضل، فيحسُنُ الاستعمال، كذلك يحذف هو، ولا يَحْسُنُ. " اضْرِبْ من أفضلً " حتى تقول من هو أفضل، ولا يحسن " كُلْ مَا أطْيَبُا حتى تقول: كل ما هو أطيب. فلما خالفت من وما والذي - لأنك لا تقول أيضاً: " خُذِ الذي أفضَلُ " حتى تقول هو أفضل، قال فلما خالفت هذا الخلاف بنيت على الضم في الإِضافة، والنَّصْبُ حَسَن، وإن كنت قد حذفت " هُوَ " لأن " هو " قد يجوز حذفها، وقد قرئت (تَمَامًا عَلَى الَّذِي [أَحْسَنُ] وَتَفْصِيلًا) على معنى الذي هو أحسن. قال أبو إسحاق: والذي أعتقده أن القولَ في هذا قولُ الخليل، وهو موافق للتفسير، لأن الخليل كان مذهبهُ أوْ تَأويله في قوله تعالى: (ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ) الذي مِنْ أجل عُتُوهِ يقال: أي هؤلاءِ أشَدُّ عِتِيًّا. فيستعمل ذلك في الأشدِّ فالأشد، واللَّه أعلم (1). * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70) وصُلِيَّا - بالضم والكسر - على ما فسرنا، وصليا منصوب على الحال. أي: أي ثم لنحن أعلم بالذين هم أشد على الرحمن عِتِيا فهم أولى بها صِليًّا. * * * (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) هذه آية كثير اختلاف التفسير فيها في التفسير فقال كثير من الناس إنَّ الخلق جميعاً يَرِدُون النَّارَ فَينْجو المتَقِي وُيتْرَكُ الظالِمُ - وكلهم يَدْخُلُهَا، " فقال بعضهم: قد علمنا الوُرودَ ولم نَعْلَمْ الصُّدُورَ.

_ (1) قال السَّمين: قوله: {أَيُّهُمْ أَشَدُّ}: في هذه الآيةِ أقوالٌ كثيرةٌ، أظهرُها عند الجمهور من المعربين، وهو مذهب سيبويه: أن «أيُّهم» موصولةٌ بمعنى الذي، وأنَّ حركتَها بناءٍ بُنِيَتْ عند سيبويه، لخروجِها عن النظائر، و «أَشَدُّ» خبرُ مبتدأ مضمرٍ، والجملةُ صلةٌ ل «أيُّهم»، و «أيُّهم» وصلتُها في محل نصب مفعولاً بها بقوله «لَنَنْزِعَنَّ». ول «ايّ» أحوالٌ أربعةٌ، أحدُها: تُبْنى فيها وهي - كما في الآيةِ - أَنْ تضافَ ويُحْذَفَ صدرُ صلتِها، ومثلُه قولُ الشاعر: 3248 - إذا ما أَتَيْتَ بني مالكٍ. . . فَسَلِّمْ على أيُّهم أَفْضَلُ بضم «أيُّهم» وتفاصيلُها مقررةٌ في موضوعات النحو. وزعم الخليل رحمه الله أنَّ «أيُّهم» هنا مبتدأٌ، و «أشدُّ» خبرُه، وهي استفهاميةٌ والجملةُ محكيةٌ بقولٍ مقدر والتقدير: لننزِعَنَّ من كل شيعةٍ المقولِ فيهم: أيُّهم أشدُّ. وقوَّى الخليلُ تخريجَه بقول الشاعر: 3249 - ولقد أَبَيْتُ من الفتاةِ بمنزلٍ. . . فَأَبَيْتُ لا حَرِجٌ ولا مَحْرُوْمُ وقال تقديره: فَأَبِيْتُ يُقال فيَّ: لا حَرِجٌ ولا محرومُ. وذهب يونسُ إلى أنَّها استفهاميةٌ مبتدأةٌ، ما بعدها خبرُها كقولِ الخليلِ، إلا أنه زعم أنها مُعَلَّقَةٌ ل «نَنْزِعَنَّ» فهي في محلِّ نصب، لأنَّه يُجَوِّز التعليقَ في سائر الأفعال، ولا يحضُّه بأفعالِ القلوب، كما يَخُصُّه بها الجمهور. وقال الزمخشري: «ويجوز أَنْ يكونَ النَّزْعُ واقعاً على {مِن كُلِّ شِيعَةٍ} كقوله: {وَوَهَبْنَا لَهْمْ مِّن رَّحْمَتِنَا} [مريم: 50]، أي: لَنَنْزِعَنَّ بعضَ كلِّ شيعةٍ فكأنَّ قائلاً قال: مَنْ هم؟ فقيل: أيُّهم أشدُّ عِتِيَّا». فجعل «أيُّهم» موصولةً أيضاً، ولكن هي في قوله خبرُ مبتدأ محذوفٍ، أي: هم الذين هم أشدُّ «. قال الشيخ: وهذا تكلُّفُ ما لا حاجةَ إليه، وادَّعاءُ إضمارٍ غيرِ مُحْتاجٍ إليه، وجَعْلُ ما ظاهرُه أنه جملةٌ واحدةٌ جملتين». وحكى أبو البقاء عن الأخفش والكسائي أنَّ مفعولَ لَنَنْزِعَنَّ {كُلِّ شِيعَةٍ} و «مِنْ» مزيدةٌ، قال: وهما يجيزان زيادةَ «مِنْ»، و «أيُّ» استفهامٍ «، أي: للنزِعَنَّ كلَّ شيعة. وهذا يُخالِفُ في المعنى تخريجَ الجمهورِ؛ فإنَّ تخريجَهم يُؤَدِّي إلى التبعيضِ، وهذا يؤدي إلى العمومِ، إلا أَنْ تجعلَ» مِنْ «لابتداءِ الغايةِ لا للتغيض فيتفق التخريجان. وذهب الكسائي إلى أنَّ معنى» لننزِعَنَّ «لننادِيَنَّ، فعوملَ معامَلَته، فلم يعمل في» أيّ «. قال المهدوي:» ونادى يُعَلَّق إذا كان بعده جملةُ نصبٍ، فيعملُ في المعنى، ولا يعملُ في اللفظِ «. وقال المبرد:» أيُّهم «متعلِّقٌ ب» شيعةٍ «فلذلك ارتفع، والمعنى: من الذين تشايَعُوا أيُّهم أشدُّ، كأنهم يتبارَوْن إلى هذا». ويَلْزَمُه على هذا أَنْ يُقَدِّر مفعولاً ل «نَنْزِعَنَّ» محذوفاً. وقَدَّر بعضُهم في قولِ المبرد: من الذين تعاونوا فنظروا أيُّهم. قال النحاس: «وهذا قولٌ حسنٌ، وقد حكى الكسائي تَشايَعُوا بمعنى تعاونوا». قلت: وفي هذه العبارة المنسوبةِِ للمبرد قلقٌ، ولا بَيَّنَ الناقلُ عنه وجهَ الرفع على ماذا يكون، وبيَّنه أبو البقاء، لكنْ جَعَلَ «أيُّهم» فاعلاً لِما تَضَمَّنَتَهْ «شيعة» من معنى الفعلِ، قال: «التقدير: لننزِعَنَّ من كلِّ فريقٍ يُشَيَّع أيُّهُم، وهي على هذا بمعنى الذي». ونُقِل عن الكوفيين أنَّ «أيُّهم» في الآية بمعنى الشرط. والتقدير: إنْ اشتدَّ عُتُوُّهم، أو لم يَشْتَدَّ، كما تقول: ضربْتُ القومَ أيُّهم غَضِبَ، المعنى: إنْ غضبوا أو لم يَغْضبوا. وقرأ طلحة بن مصرِّف ومعاذ بن مسلم العراء أستاذُ الفراءِ وزائدةُ عن الأعمش «أيُّهم» نصباً. قلت: فعلى هذه القراءة والتي قبلَها: ينبغي أَنْ يكونَ مذهبُ سيبويهِ جوازَ إعرابِها وبنائِها، وهو المشهورُ عند النَّقَلَةِ عنه، وقد نُقِل عنه أنَّه يحتَّم بناءَها. قال النحاس: «ما علمتُ أحداً من النحويين إلا وقد خطَّأ سيبويه» قال: «وسمعت أبا إسحاق الزجاج يقول:» ما تبيَّن لي أن سيبويه غَلِط في كتابه إلا في موضعين، هذا أحدُهما «قال» وقد أعرب سيبويه «أيَّاً» وهي مفردةٌ لأنها مُضافةٌ، فكيف يبنيها مضافةً «؟ وقال الجرميُّ:» خرجت من البصرة فلم أسمع منذ فارَقْتُ الخندقَ إلى مكة أحداً يقول: «لأَضْرِبَنَّ أيُّهم قائمٌ» بالضمِّ بل يَنْصِبُ «. و {عَلَى الرحمن} متعلقٌ ب» أشدُّ «، و» عِتِيَّاً «منصوبٌ على / التمييز، وهو مُحَوَّلٌ عن المبتدأ، إذ التقديرُ: أيُّهم هو عتوُّه أشدُّ، ولا بدَّ مِنْ محذوفٍ يَتِمُّ به الكلامُ، التقدير: فَنُلْقِيهِ في العذابِ، أو فنبدأ بعذابه. قال الزمخشري:» فإن قلتَ: بِمَ تتعلَّقُ على والباء؟ فإنَّ تعلُّقَهما بالمَصْدَرَيْن لا سبيلَ إليه «. قلت: هما للبيان لا للصلةِ، أو يتعلَّقان ب» أَفْعَل «، أي: عُتُوُّهم أشدُّ على الرحمنِ، وصَلْيُهم أَوْلَى بالنار كقولهم:» هو أَشَدُّ على خَصْمه، وهو أَوْلَى بكذا «. قلت: يعني ب» على «قولَه» على الرحمن «، وبالباء قولَه» بالذين هم «. وقوله» بالمصدر «يعني بهما» عِتيَّا «و» صِلِيَّاً «وأمَّا كونُه لا سبيلَ إليه فلأنَّ المصدرَ في نيةِ الموصولِ، ولا يتقدَّم معمولُ الموصولِ عليه. وجَوَّزَ بعضهم أَنْ يكونَ» عِتِيَّاً «و» صِلِيَّاً «في هذه الآيةِ مصدرين كما تَقَدَّمَ، وجَوَّزَ أَنْ يكونا جمعَ عاتٍ وصالٍ فانتصابُهما على هذا الحال. وعلى هذا يجوزُ أَنْ تتعلقَ على والباء بهما لزوالِ المحذورِ المذكورِ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

وحجة من قال بهذا القول أنه جرى ذكر الكافرين، فقال: (ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ) ثم قال بعد: (وإنْ مِنْكُمْ إلا وَارِدُها) فكأنَّه على نظم ذلك الكلام عام. ودليل من قال بهذا القول أيضاً قوله (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ) ولم يقل وندخل الظالمين، وكان (نَذَرُ) و (نترك) للشيء الذي قد حصل في مكانه. وقال قوم إن هَذَا إنما يُعْنَى به المشرِكُونَ خاصةً، واحتجوا في هذا بأن بعضهم قرأ: " وإن منهم إلا وَارِدُهَا "، ويكون على مذهب هؤلاء (ثم ننجي الذين اتقَوْا) أي نخرج المتقين من جملة من ندخله النار. وقال قوم: إن الخلق يَردونها فتكون على المْؤمِنِ بَرْداً وَسَلاماً، ثم يُخْرَجُ مِنها فيدْخُلُ الجنة فيعلمَ فضلَ النعمةِ لما يُشاهِدُ فيه أهلَ العذاب وما رأى فيه أهل النار. وقال ابن مسعود والحسَنُ وقَتَادَةُ: إن ورودها ليس دخولها، وحجتهم في ذلك جيدة جدا من جهات: إحداهن أن العرب تقول: وردت ماء كذا ولَمْ تدخله، وقال اللَّه عزَّ وجلَّ: (وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ) وتقول إذا بلغت البلد ولم تدخله: قد وردت بلد كذا وكذا. قال أبو إسحاق: والحجة القاطعة في هذا القول ما قال اللَّه عزَّ وجلَّ: (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا). . فهذا - واللَّه أعلم - دليل أن أهل الحسنى لا يدخلون النار (1)

_ (1) قال الإمام فخر الدين الرَّازي ما نصُّه: واعلم أنه تعالى لما قال من قبل: {فَوَرَبّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ والشياطين} [مريم: 68] ثم قال: {ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ} [مريم: 68] أردفه بقوله: {وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} يعني جهنم واختلفوا فقال بعضهم المراد من تقدم ذكره من الكفار فكنى عنهم أولاً كناية الغيبة ثم خاطب خطاب المشافهة، قالوا: إنه لا يجوز للمؤمنين أن يردوا النار ويدل عليه أمور: أحدها: قوله تعالى: {إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الحسنى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء: 101] والمبعد عنها لا يوصف بأنه واردها. والثاني: قوله: {لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا} [الأنبياء: 102] ولو وردوا جهنم لسمعوا حسيسها. وثالثها: قوله: {وَهُمْ مّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ ءامِنُونَ} [النحل: 89] وقال الأكثرون: إنه عام في كل مؤمن وكافر لقوله تعالى: {وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} فلم يخص. وهذا الخطاب مبتدأ مخالف للخطاب الأول، ويدل عليه قوله: {ثُمَّ نُنَجّى الذين اتقوا} أي من الواردين من اتقى ولا يجوز أن يقال: {ثُمَّ نُنَجّى الذين اتقوا وَّنَذَرُ الظالمين فِيهَا جِثِيّاً} إلا والكل واردون والأخبار المروية دالة على هذا القول، ثم هؤلاء اختلفوا في تفسير الورود فقال بعضهم: الورود الدنو من جهنم وأن يصيروا حولها وهو موضع المحاسبة، واحتجوا على أن الورود قد يراد به القرب بقوله تعالى: {فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ} [يوسف: 19] ومعلوم أن ذلك الوارد ما دخل الماء وقال تعالى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مّنَ الناس يَسْقُونَ} [القصص: 23] وأراد به القرب. ويقال: وردت القافلة البلدة وإن لم تدخلها فعلى هذا معنى الآية أن الجن والإنس يحضرون حول جهنم: {كَانَ على رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً} [مريم: 71] أي واجباً مفروغاً منه بحكم الوعيد ثم ننجي أي نبعد الذين اتقوا عن جهنم وهو المراد من قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء: 101] ومما يؤكد هذا القول ما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: " لا يدخل النار أحد شهد بدراً والحديبية فقالت حفصة: أليس الله يقول: {وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} فقال عليه السلام فمه ثم ننجي الذين اتقوا " ولو كان الورود عبارة عن الدخول لكان سؤال حفصة لازماً. القول الثاني: أن الورود هو الدخول ويدل عليه الآية والخبر، أما الآية فقوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء: 98] وقال: {فَأَوْرَدَهُمُ النار وَبِئْسَ الورد المورود} [هود: 98] ويدل عليه قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} والمبعد هو الذي لولا التبعيد لكان قريباً فهذا إنما يحصل لو كانوا في النار، ثم إنه تعالى يبعدهم عنها ويدل عليه قوله تعالى: {وَّنَذَرُ الظالمين فِيهَا جِثِيّاً} وهذا يدل على أنهم يبقون في ذلك الموضع الذي وردوه وهم إنما يبقون في النار فلا بد وأن يكونوا قد دخلوا النار، وأما الخبر فهو أن عبد الله بن رواحة قال: «أخبر الله عن الورود ولم يخبر بالصدور، فقال عليه السلام: " يا ابن رواحة اقرأ ما بعدها ثم ننجي الذين اتقوا " وذلك يدل على أن ابن رواحة فهم من الورود الدخول والنبي صلى الله عليه وسلم ما أنكر عليه في ذلك وعن جابر: " أنه سئل عن هذه الآية فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الورود الدخول لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها فتكون على المؤمنين برداً وسلاماً حتى أن للناس ضجيجاً من بردها ". والقائلون بهذا القول يقولون: المؤمنون يدخلون النار من غير خوف وضرر ألبتة بل مع الغبطة والسرور وذلك لأن الله تعالى أخبر عنهم أنهم: {لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر} [الأنبياء: 103] ولأن الآخرة دار الجزاء لا دار التكليف، وإيصال الغم والحزن إنما يجوز في دار التكليف، ولأنه صحت الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الملائكة تبشر في القبر من كان من أهل الثواب بالجنة حتى يرى مكانه في الجنة ويعلمه " وكذلك القول في حال المعاينة فكيف يجوز أن يردوا القيامة وهم شاكون في أمرهم، وإنما تؤثر هذه الأحوال في أهل النار لأنهم لا يعلمون كونهم من أهل النار والعقاب، ثم اختلفوا في أنه كيف يندفع عنهم ضرر النار، فقال بعضهم: البقعة المسماة بجهنم لا يمتنع أن يكون في خلالها ما لا نار فيه، ويكون من المواضع التي يسلك فيها إلى دركات جهنم، وإذا كان كذلك لم يمتنع أن يدخل الكل في جهنم فالمؤمنون يكونون في تلك المواضع الخالية عن النار، والكفار يكونون في وسط النار. وثانيها: أن الله تعالى يخمد النار فيعبرها المؤمنون وتنهار بغيرهم، قال ابن عباس رضي الله عنهما: «يردونها كأنها إهالة» وعن جابر بن عبد الله: " أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إذا دخل أهل الجنة الجنة قال بعضهم لبعض أليس وعدنا ربنا بأن نرد النار فيقال لهم: قد وردتموها وهي خامدة " وثالثها: أن حرارة النار ليست بطبعها فالأجزاء الملاصقة لأبدان الكفار يجعلها الله عليهم محرقة مؤذية والأجزاء الملاصقة لأبدان المؤمنين يجعلها الله برداً وسلاماً عليهم، كما في حق إبراهيم عليه السلام. وكما أن الكوز الواحد من الماء كان يشربه القبطي فكان يصير دماً ويشربه الإسرائيلي فكان يصير ماء عذباً. واعلم أنه لا بد من أحد هذه الوجوه في الملائكة الموكلين بالعذاب حتى يكونوا في النار مع المعاقبين، فإن قيل: إذا لم يكن على المؤمنين عذاب في دخولهم النار فما الفائدة في ذلك الدخول؟ قلنا فيه وجوه: أحدها: أن ذلك مما يزيدهم سروراً إذا علموا الخلاص منه. وثانيها: أن فيه مزيد غم على أهل النار حيث يرون المؤمنين الذين هم أعداؤهم يتخلصون منها وهم يبقون فيها. وثالثها: أن فيه مزيد غم على أهل النار من حيث تظهر فضيحتهم عند المؤمنين بل وعند الأولياء وعند من كان يخوفهم من النار فما كانوا يلتفتون إليه. ورابعها: أن المؤمنين إذا كانوا معهم في النار يبكتونهم فزاد ذلك غماً للكفار وسروراً للمؤمنين. وخامسها: أن المؤمنين كانوا يخوفونهم بالحشر والنشر ويقيمون عليهم صحة الدلائل فما كانوا يقبلون تلك الدلائل، فإذا دخلوا جهنم معهم أظهروا لهم أنهم كانوا صادقين فيما قالوا، وأن المكذبين بالحشر والنشر كانوا كاذبين. وسادسها: أنهم إذا شاهدوا ذلك العذاب صار ذلك سبباً لمزيد التذاذهم بنعيم الجنة كما قال الشاعر: وبضدها تتبين الأشياء. . فأما الذين تمسكوا بقوله تعالى: {أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء: 101] فقد بينا أنه أحد ما يدل على الدخول في جهنم وأيضاً فالمراد عن عذابها وكذا قوله: {لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا} [الأنبياء: 102] فإن قيل: هل ثبت بالأخبار كيفية دخول النار ثم خروج المتقين منها إلى الجنة؟ قلنا: ثبت بالأخبار أن المحاسبة تكون في الأرض أو حيث كانت الأرض ويدل عليه أيضاً قوله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض} [إبراهيم: 48] وجهنم قريبة من الأرض والجنة في السماء ففي موضع المحاسبة يكون الاجتماع فيدخلون من ذلك الموضع إلى جهنم ثم يرفع الله أهل الجنة وينجيهم ويدفع أهل النار فيها. أما قوله: {كَانَ على رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً} فالحتم مصدر حتم الأمر إذا أوجبه فسمى المحتوم بالحتم كقولهم: خلق الله وضرب الأسير، واحتج من أوجب العقاب عقلاً فقال: إن قوله: {كَانَ على رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً} يدل على وجوب ما جاء من جهة الوعيد والأخبار لأن كلمة على للوجوب والذي ثبت بمجرد الأخبار لا يسمى واجباً. والجواب أن وعد الله تعالى لما استحال تطرق الخلف إليه جرى مجرى الواجب. أهـ {مفاتيح الغيب حـ 21 صـ 207 - 209} وقال السَّمين: قوله: {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ}: في هذه الواوِ وجهان، أحدهما: أنها عاطفةٌ هذه الجملةَ على ما قبلَها. وقال ابن عطية «{وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} قَسَمٌ والواو تَقْتَضيه، ويُفَسِّره قولُ النبي صلى الله عليه وسلم:» مَنْ ماتَ له ثلاثٌ من الولد لم تَمَسَّه النار إلا تَحِلَّة القسمِ «قال الشيخ:» وذَهِلَ عن قولِ النحويين إنه لا يُستغنى عن القسمِ بالجواب لدلالةِ المعنى، إلا إذا كان الجوابُ باللامِ أو ب «إنْ» والجوابُ هنا على زَعْمه ب «إنْ» النافيةِ فلا يجوز حَذْفُ القسم على ما نَصُّوا. وقوله: «والواو تَقْتَضِيه» يدلُّ على أنها عنده واوُ القسم، ولا يذهبُ نحويٌ إلى أنَّ مِثْلَ هذه الواوِ واوُ قسمٍ لأنه يلزمُ مِنْ ذلك حَذْفُ المجرورِ وإبقاءُ الجارِّ، ولا يجوز ذلك إلا إنْ وَقَعَ في شعرٍ أو نادرِ كلامٍ بشرط أن تقومَ صفةُ المحذوف مَقامَه، كما أوَّلوا في قولهم: «نِعْمَ السيرُ على بئسَ العَيْرُ»، أي: على عَيْرٍ بئسَ العَيْرُ، وقولِ الشاعر: 3250 - واللهِ ما ليلى بنامِ صاحِبُهْ. . . أي: برجلٍ نام صاحبُهْ، وهذه الآيةُ ليست من هذا الضَّرْبِ؛ إذ لم يُحْذَفِ المُقْسَمُ به وقامَتْ صفتُه مَقامَه «. و» إنْ «حرفُ نفيٍ، و» منكم «صفةٌ لمحذوفٍ تقديرُه: وإنْ أحدٌ منكم. ويجوز أن يكونَ التقديرُ: وإن منكم إلا مَنْ هو وارِدُها. وقد تقدَّم لذلك نظائرُ. والخطابُ في قولِه» منكمْ «يَحْتمل الالتفاتَ وعدمَه. قال الزمخشري:» التفاتٌ إلى الإِنسان، ويَعْضُدُه قراءةُ ابن عباس وعكرمةَ «وإنْ منهم» أو خطابٌ للناس مِنْ غير التفاتٍ إلى المذكور «. والحَتْمُ: القضاءُ والوجوبُ. حَتَمَ، أي: أوجب [وحَتَمَه] حتماً، ثم يُطلق الحتم على الأمر المحتوم مقوله تعالى:» هذا خَلْقُ الله «و» هذا دِرْهَمٌ ضَرْبُ الأميرِ «. و» على ربِّك «متعلِّقٌ ب» حَتْم «لأنه في معنى اسمِ المفعول، ولذلك وصَفَه ب» مَقْضِيَّاً «. ا

(73)

وفي اللغة وردت بلد كذا وكذا إذا أشرفت عليه، دخلته أو لم تدخله، قال زهير: فلمّا وَرَدْنَ الماءَ زُرْقاً جِمامُه وضَعْنَ عِصِيَّ الحاضرِ المُتَخَيِّم المعنى بلغن إلى الماء، أي أقمن عليه، فالورود ههنا بالإجماع ليس بدخول، فهذه الروايات في هذه الآية، واللَّه أعلم. * * * وقوله: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) (وَأَحْسَنُ نَدِيًّا). معناه مجلساً * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (74) (أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا) (1). فيها أربعة أوجُهٍ رِئْياً بهمزة قبل الياء، والراء غير معجمة، وَرِيًّا بتشديد بياء مشددَةٍ، وزِيًّا - بالزاي مُعجَمة، وقد قرئ بهذه الثلاثة الأوجه. ويجوز وجه رابع لم يقرأ به - بياء وبعدها همزة - وريئا:. فأمَّا رِئْياً - بهمزة قبل الياء - فالمعنى فيه هم أحسن أثاثاً أي متاعاً، ورئياً منظراً، من رأيت، ومن قرأ بغَيْرِ هَمْز فله تَفْسِيرَانِ: عَلَى مَعْنى الأول بِطَرْحِ الهمزة وعلى معنى أن منظَرَهم مُرْتوٍ من النعمةِ، كأن النعيمَ بَيِّنٌ فيهم، ومن قرأ زِيًّا فمعناه أن زيَّهم حسن يعني هيئتهم. قال الشاعر: أَشاقَتْكَ الظَّعائِنُ يومَ بانُوا بذي الرِّئْيِ الجمِيلِ منَ الأَثاثِ ونصب (أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا) على نية التفسير. المعنى وكم أهلكنا قبلهم من

_ (1) قال السَّمين: قوله: «ورِئْياً» الجمهورُ على «رِئْياً» الجمهورُ على «رِئْيا» بهمزةٍ ساكنةٍ بعدَها ياءٌ صريحةٌ وَصْلاً ووفقاً، وحمزةُ إذا وَقَفَ يُبْدِلُ هذه الهمزةَ ياءً على أصلِه في تخفيفِ الهمز، ثم له بعد ذلك وجهان: الإِظهارُ اعتباراً بالأصل، والإِدغامُ اعتباراً باللفظ، وفي الإِظهار صعوبةٌ لا تَخْفَى، وفي الإِدغامِ إبهامُ أنها مادةٌ أخرى: وهو الرَّيُّ الذي بمعنى الامتلاء والنَّضارة، ولذلك تَرَكَ أبو عمروٍ أصلَه في تخفيفِ همزِه. وقرأ قالون عن نافع، وابن ذكوان عن ابن عامر «ورِيَّا» بياءٍ مشددةٍ بعد الراءِ، فقيل: هي مهموزةُ الأصلِ، ثم أُبْدِلَتِ الهمزةُ ياءً وأُدْغِمَتْ. والرَّأْيُ بالهمز، قيل: مِنْ رُؤْية العَيْن، وفِعْل فيه بمعنى مَفْعول، أي: مَرْئِيٌّ. وقيل من الرُّواء وحُسْنِ المنظر. وقيل: بل هو مِنَ الرَّيّ ضد العطش وليس مهموزَ الأصلِ، والمعنى: أحسنُ منظراً لأنَّ الرِّيَّ والامتلاءَ أحسنُ مِنْ ضِدَّيْهما. وقرأ حميد وأبو بكر بن عاصم في روايةِ الأعشى «وَرِيْئاً» بياءٍ ساكنةٍ بعدَها همزةٌ وهو مقلوبٌ مِنْ «رِئْياً» في قراءةِ العامَّةِ، ووزنه فِلْعٌ، وهو مِنْ راءه يَرْآه كقولِ الشاعر: 3252 - وكلُّ خليلٍ راءَني فهو قائلٌ. . . مِنَ أجلِكَ: هذا هامةُ اليومِ أوغدِ وفي القلب من القلبِ ما فيه. ورَوَى اليزيديُّ قراءةَ «ورِياء» بياءٍ بعدها ألف، بعدها همزة، وهي من المُراءاة، أي: يُرِيْ بعضُهم حُسْنَ بعضٍ، ثم خَفَّف الهمزةَ الأولى بقلبِها ياءً، وهو تخفيفٌ قياسيٌّ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(75)

قَرْنٍ هم أحسن أثاثاً منهم وأحسن زِياً منهم. ومن قرأ رِيُئاً فهو بمعنى رئياً مقلوب لأن من العرب من يقول قد رَاءَني زَيْد وتقول قَدْ رَآني. في هذا المعنى قال الشاعر كثير: وكل خليلِ رَاءني فهو قائل. . . من أجلك هذا هامة اليوم أوْ غَدِ * * * وقوله عزَّ. وجل: (قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (75) هذا لفظ أمر في معنى الخبر، وتأويله أن اللَّه عزَّ وجلَّ جعل جزاء ضلالته أن يتركه فيها، ويمده فيها، كما قال - جلَّ وعزَّ -: (مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186). إلا أن لفظ الأمر يؤكد معنى الخبر كان لفظ الأمر يريد به المتكلم نفسه إلزاماً، كأنَّه يقول أفعل ذلك وآمر نفسي به، فإذا قال القائل: من رآني فلأكرمه، فهو ألزم من قوله أكرمُه، كأنَّه قال: من زارني فأنا آمر نفسي بإكرامه وألزمها ذلك. وقوله: (إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ). العذاب والساعة منصوبان على البدل من (ما يُوعدُون) المعنى حتى إذا رأوا العداب أو رأوا الساعة، فالعذاب ههنا ما وعدوا به من نصر المؤمنين عليهم فإنهم يعذبونهم قتلاً وأسْراً. والساعة يعنى بها يوم القيامة وبما وعدوا به فيها من الخلود في النار. (فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا). أي فسيعلمون بالنصر، والقتل أنهم أضعف جنداً من جند النبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين ويعلمون بمكانهم من جهنم، ومكان المؤمنين من الجنة مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا.

(76)

وقوله عزَّ وجلَّ: (وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76) قيل بالناسِخ والمنسوخ نحو ما كان من صوم رمضان من أنه كان يجوز لمن يقدر على الصوم أن يطعم مسكيناً ويفطر، فنسخ ذلك بإلزام الصوم. وجائز أن يكون -: (وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى) يجعل جزاءهم أن يزيدهم في يقينهم هُدى كما أضل اللَّهُ الفاسقَ بفسقه. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا). معناه الأعمال الصالحة، وأولها توحيد اللَّه، وهو شهادة أن لَا إلَه إلا اللَّهُ. * * * وقوله: (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77) ويقرأ: وُوُلْداً، فمن قرأ وُلْداً بالضَّمِ فهو على وجهين على جمع وَلدٍ. يُقَالُ وَلَد وَوُلد مثل أسَدٍ وأُسْدٍ، وجائز أن يكون الوُلْدُ في معنى الوَلَدِ، والوَلَدُ يصلح للواحد والجمع، والوُلْدُ والوَلَدُ بمعنىً واحد، مثل العُرْب والعَرَب، والعَجَمُ والعُجْمُ. وقد جاء في التفسير أنه يعنى به العاص بن وائل. ويروى أن خَبَّاباً قال: كنت قَيْناً في الجاهلية. والقَيْن، هو الذي يصلح الأسِنَّة، والحَدَّادُ يقال له قَيْن، قال وكان لي على العاصِ بِنِ وائل دين، فدفعني بقضائه وقال لا أدفعه إليك حتى تكفر بمحمد - صلى الله عليه وسلم - فقال خبَّاب: لا أكفر بمحمد حتى تموت وتُبْعثَ. فقال: إذَا مِتُّ ثم بعثتُ أعْطِيتُ مالاً وولداً وقضيتك مما أعطى، يقول ذلك مستهزئاً فقال اللَّه سبحانه:

(78)

(أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78) أي علم ذلك غيباً أم أعطي عهداً، وهو مثل الذي قال: (وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36). * * * (كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79) (كَلَّا). رَدْعٌ وتنبيه، أي هَذَا مما يَرْتَدَعُ منه، ويُنَبه على وَجْه الضلالة فيه. (سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ). أي سنحفظ عليه. * * * (وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (80) أي نجعل المال والولد لِغَيْرهِ ونسلبه ذلك ويأتينا فرداً. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) أي أعوانا * * * وقوله: (كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) أي يصيرون عليهم أعوانا. * * * وقوله: (أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) في قوله (أرْسَلْنَا) وجهان: أحدهما أنا خلينا الشياطين وإياهم، فلم نعصمهم من القبول منهم - قال أبو إسحاق: والوجِه الثاني - وهو المختار - أنهم أرْسِلوا عليهم وقُيِّضُوا لهم بكفرهم كما قال عزَّ وجلَّ: (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36). ومعنى (تَؤُزُّهُمْ أَزًّا) تُزْعِجُهُمْ حتى يركبوا المعاصي إزعاجاً فهو يَدُل على صحة الإرْسَالِ والتًقْييض، ومعنى الإرسال ههنا التسليط، يقال قد

(85)

أرسلت فلانا على فلانٍ إذا سلطته عليه، كما قال: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ). فأَعلم اللَّه عزَّ وجلَّ: (أن من اتبعه هو مسلط عليه. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) معنى الوفد الركبان المكرمون. (وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86) مشاة عطاشاً. * * * وقوله: (لَلَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (87) " مَنْ " جائز أن تكون في موضع رفع، وفي موضع نصب. فأمَّا الرفع فعلى البدل من الواو والنون، والمعنى لا يملكون الشفاعة إلا من اتخد عند الرحمن عهداً. والعهد ههنا توحيه اللَّهِ جلً ثناؤه والإيمان به. والنصب على الاستثناء ليس من الأول على: لَا يَمْلكُ الشفاعةَ المجرمون، ثم قال: (إلا من اتخذ عند الرحمن عهداً)، على معنى لكن من اتخذ عند الرحمن عهداً فإنه يملك الشفاعة. * * * وقوله: (لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) وتقرأ (أَدًّا) - بالفتح - ومعناه شيئاً عظيماً من الكفر، وفيها لغة أخرى لا أعلم أنه قرئ بها، وهي: " شَيْء آدًّا على وزن رَادٍ ومادٍ، ومعناه كله: جئتم شيئاً عظيماً. * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96) أي محبة في قلوب المؤمنين.

(97)

وقوله جلَّ وعزَّ: (فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97) (قَوْمًا لُدًّا). جمع ألَدّ مثل أصمْ وَصُمّ، والألَدُّ الشدِيدُ الخُصُومَةِ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98) (هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ). يقال: هل أحْسَسْتَ صَاحِبَك أي هل رأيته، وتقول: قد حَسَّسهمْ - بغير ألف - إذا قتلهم. وقوله: (أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا). الركزُ الصوت الخفي.

سورة طه

سورة طه (مَكِّيَّة) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله: طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) يقرأ طَهَ - بفتح الطاء والهاء، وتقرأ طِهِ - بكسرهما - ويقرأ طهْ - بفتح الطاء وإسكان الهاء، وطَهِ بفتح الطاء وكسر الهاء. واختلف في تفسيرها فقال أهلُ اللغَةِ هي من فواتح السُّورِ نحو حم والم، ويروى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا صلى رفع رِجْلًا ووضع أخرى فأنزل اللَّه عزَّ وجلَّ: (طاها) أيْ طَأ الأرضَ بِقَدمَيْكَ جَميعاً. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) أي لتُصَلِّيَ على إحْدَى رِجْلَيْك فتشتد عليك، وقيل طه لغة بالعجمية معناها يا رجل، فأمَّا من فتح الطاء والهاء فلأن ما قبل الألف مفتوح، ومن كسر الطاء والهاء، أمال إلى الكسر لأن الحرفَ مقصورٌ، والمقصور تغلب عليه الإمالة إلى الكسر ومن قرأ طَِهْ بإسكان الهاء ففيها وجهان أحدهما أن يكون أصله " طَا " بالهمزة فأبدلت منها الهاء كما قالوا في إياك هياك وكما قالوا في أرَقَت الماء هَرَقْتُ وجائز أن يكون من " وَطِي " عَلَى تَرْكِ الهمزةِ. فيكونُ " طَ "

(4)

يا رَجُل - ثم أثبت فيها الهاء للوقف فقِيل طهْ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4) المعنى أنزلناه تنزيلًا، والعُلَى جمع العليا، يقال: سماء عُلْيَا وسمواتٌ عُلًى، مثل الكبرى والكُبَر. * * * وقوله: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) الاختيار الرفعُ، ويجوز الخفض على البدل من " منْ " المعنى تنزيلاً من خالق الأرض والسَّمَاوَات الرحمن، ثم أخبر بعد ذلك فقال: على العرش استوى، وقالوا معنى (استوى) استولى - واللَّه أعلم. والذي يدل عليه استوى في اللغة على ما فعله من معنى الاستواء. قوله: (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6) الثرى في اللغة الندى، وما تحت الأرض ندى، وجاء في التفسير وما تحت الثرى ما تحت الأرض. * * * وقوله: (وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7) فَالسِّر ما أكننْتَهُ في نفسك، و " أخفى " ما يكون من الغيب الذي لا يعلمه إلا اللَّه. * * * وقوله: (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (8) يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " للَّهِ تسعة وتسعونَ اسْماً من أحْصَاهَا دخل الجنة ". وتأويل من أحصاها دخل الجنة، من وحَّدَ اللَّهَ وذكر هذه الأسماء الحسنى يريد بها توحيدَ اللَّه وإعْظَامَهُ دَخَل الجنةَ. وقَدْ جاءَ أنه من قال

(10)

لا إله إلا اللَّه دخل الجنة، فهذا لِمَنْ ذَكَرَ اسْمَ الله مُوَحِّداً لَهُ بِهِ فكيف بمن ذَكر أسْماءَهُ كلَّها يُريدُ بها توحيدَهُ والثناءَْ عليْهِ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10) القَبَسُ ما أخَذْتَه في رأس. عُودٍ من النَّارِ أو رَأسِ فِتيلةٍ. (أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى) جاء في التفسير أنه - صلى الله عليه وسلم - ضل الطريق وجاء أنه ضل عن الماءِ فرجا أن يجد عند النار من يهديه الطريق أو يَدُلَّه عَلَى الماء. * * * (فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) ويقرأ أَنَّي أنَا - بالفَتح والكسر، فمن قرأ " أَنِي " فالمعنى نودي بأني أنا ربُّك، وموضع " أَنَّي " نصبٌ. وَمَنْ قَرأ (إِنِّي أَنَا رَبُّكَ) بالكسر فالمعنى نودي يا موسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ. (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى). روي أنه أمِرَ بخَلْعِهمَا لأنهما كانتا من جِلْد حمارٍ مَيِّت، وروي أنه أمر بخلعهما ليطأ بقدميه الوادي المقدس، وروي أنه قُدسَ مَرتَين. وقوله: (طُوًى). اسم الوادي، ويجوز فيه أربعة أوجه: طُوَى - بضم أوله، بغير تنوين وتنوينٍ وبكسر أوله - بتنوين وبغير تنوين. فمن نوَّنَه فهو اسم الوادي، وهو مذكر سُمِّيَ بمذكرعلى فُعَل نحو حُطَم وصُرَد. ومن لم ينونه ترك صرفه من جهتين: إحداهما أن يكون معدولًا عن " طَاءٍ " فيصير مثل عُمَر المعدول عن عامر. والجهة الأخرى أن يكون اسماً للبقعة كما قال الله عزَّ وجلَّ:

(13)

(في البُقْعَةِ المُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ). وإذا كُسِرَ وَنوِّنَ طِوًى فهو - مثل مِعًى وَضِلعٍ - مَصْرُوفَ. ومَنْ لم ينوِّن جعله اسماً للبقعةِ. * * * وقوله - عزَّ وجلَّ - (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) ويقرأ (وَأَنَّا اخْتَرْنَاكَ)، فمن قرأ: (وَأَنَّا اخْتَرْنَاكَ) فالمعنى يؤدي بـ (وَأَنَّا اخْتَرْنَاكَ) ويجوز (وَإِنَّا اخْتَرْنَاكَ) على وجهين: على الاستئناف وعلى معنى الحكاية لأنَّه معنى يُؤدىَ قيل له إِنَّا اخْتَرْنَاكَ. * * * وقوله: (إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14) (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي). هذا على معنيين أحدهما أقم الصلاة لأن تَذْكُرَني لأن الصلَاةَ لا تكونُ إلا بذكر اللَّه، والمعنى الثاني هو الذي عليه الناس ومعناه أقم الصلاة متى ذَكَرْتَ أنَّ عليك صلاةً كنتَ في وقتها أو لم تكن، لأن اللَّه عزَّ وجلَّ لا يؤاخذُنا إن تسينا ما لم نَتعمَّدْ الأشياء التي تَشْغَلُ وتُلْهِي عن الصلاة، ولو ذَكَرَ ذَاكِر أنَّ عليه صلاةً في وقت طُلُوع الشمس أوعندَ مَغيبَها وَجَب أن يصفيَها. وقرئت لِلذِكْرَى - معناه في وقت ذكرك. * * * وقوله: (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) بضم الألِفِ، وجاء في التفسير: أكاد أخفيها من نفسي، فالله أعلم بحقيقة هذا التفسير، وقرئت: أكاد أَخْفِيهَا - بفتح الألف - معناه أكاد أُظْهِرها (1) قال امرؤ القيس:

_ (1) قال السَّمين: قوله: {أَكَادُ أُخْفِيهَا} العامةُ على ضمِّ الهمزةِ مِنْ» أُخْفيها «. وفيها تأويلاتٌ، أحدُها: أن الهمزةَ في» أُخْفيها «للسَّلْبِ والإِزالةِ أي: أُزيل خفاءَها نحو: أعجمتُ الكتابَ أي: أزلْتُ عُجْمَتَه. ثم في ذلك معنيان، أحدهما: أنَّ الخفاءَ بمعنى السَّتْر، ومتى أزال سَتْرَها فقد أظهرَها. والمعنى: أنها لتحقُّق وقوعِها وقُرْبِها أكادُ أُظْهِرُها لولا ما تَقْتضيه الحكمةُ من التأخير. والثاني: أنَّ الخفاءَ هو الظهورُ كما سيأتي. والمعنى: أزيلُ ظهورَها، وإذا أزالَ ظهورَها فقد استترَتْ. والمعنى: أني لِشدَّةِ أبهامها أكاد أُخْفيها فلا أُظْهِرُها/ ألبتَّةََ، وإن كان لا بد من إظهارِها؛ ولذلك يوجدُ في بعض المصاحف كمصحف أُبَيّ: أكاد أُخْفيها مِنْ نفسي فكيف أُظْهِرُكُمْ عليها؟ وهو على عادةِ العرب في المبالغة في الإِخفاء قال: 3277 أيامَ تَصْحَبُني هندٌ وأُخْبِرُها. . . ما كِدْت أكتُمُه عني من الخبرِ وكيف يُتَصَوَّرُ كِتْمانُه مِنْ نفسه؟ والتأويلُ الثاني: أنَّ» كاد «زائدةٌ. قاله ابنُ جُبَيْر. وأنشدَ غيرُه شاهداً عليه قولَ زيدِ الخيل: 3278 سريعٌ إلى الهَيْجاء شاكٍ سلاحُه. . . فما إنْ يكادُ قِرْنُه يتنفَّسُ وقال آخر: 3279 وألاَّ ألومَ النفسَ فيما أصابني. . . وألا أكادَ بالذي نِلْتُ أَبْجَحُ ولا حُجَّةَ في شيءٍ منه. والتأويل الثالث: أنَّ الكَيْدُوْدَةَ بمعنى الإِرادة ونُسِبت للأخفش وجماعةٍ، ولا ينفعُ فيما قصدوه. والتأويل الرابع: أنَّ خبرَها محذوفٌ تقديره: أكاد آتي به لقُرْبها. وأنشدوا قول ضابىء البرجمي: 3280 هَمَمْتُ ولم أفْعَلْ وكِدْتُ وليتني. . . تَرَكْتُ على عثمانَ تَبْكي حلائِلُهْ أي: وكِدْتُ أفعلُ، فالوقفُ على» أكادُ «، والابتداء ب» أُخْفيها «، واستحسنه أبو جعفر. وقرأ أبو الدرداء وابنُ جبير والحسنُ ومجاهدٌ وحميدٌ» أَخْفيها «بفتح الهمزة. والمعنى: أُظْهرها، بالتأويل المتقدم يقال: خَفَيْتُ الشيءَ: أظهَرْتُه، وأَخْفَيْتُه: سترته، هذا هو المشهور. وقد نُقِل عن أبي الخطاب أنَّ خَفَيْتُ وأَخْفَيْتُ بمعنىً. وحُكي عن أبي عبيد أنَّ» أَخْفى «من الأضدادِ يكون بمعنى أظهر وبمعنى سَتَر، وعلى هذا تَتَّحد القراءتان. ومِنْ مجيءِ خَفَيْتُ بمعنى أظهَرْت قولُ امرىء القيس: 3281 خَفَاهُنَّ مِنْ أَنْفاقِهِنَّ كأنما. . . خفاهُنَّ وَدْقٌ مِنْ عَشِيٍّ مُجَلِّبِ وقول الآخر: 3282 فإنْ تَدْفِنوا الداءَ لا نَخْفِهِ. . . وإنْ تُوْقِدُوْا الحربَ لا نَقْعُدِ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(16)

فإنْ تَدْفِنوا الداءَ لا نَخْفِهِ. . . وإنْ تُوْقِدُوْا الحربَ لا نَقْعُدِ أي أن ندفنوا الداء لا نظهره. وهذه القراءة الثانية أبين في المعنى، لأن معنى أكاد أظهرها، أي قَدْ أخفيتها وَكِدتُ أظْهِرُهَا. . وقوله: (لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى). معنى (بِما تسعى) بما تعمل، و (لِتُجْزَى) متعلق بقوله: (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ) لتجزَى كل نَفْس بما تسعى. ويجوز أن يكون على أقِمِ الصلاة لذكري لتجزى كل نفس بما تسعى. * * * وقوله: (فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16) معناه واللَّه أعلم فلا يصدنك عن التصديق بها من لا يؤمن بها، أي من لا يؤمن بأنها تكون، وخطابُ النبي - صلى الله عليه وسلم - هو خطابُ سائر أمتِه. ومعنى لا يَصُدَّنَّكَ عنها: لا يَصُدَّنَّكُمْ، قال اللَّه عزَّ وجلَّ: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ). فَنبَّه النبي - صلى الله عليه وسلم - بالخطاب وخوطب هو وأمته بقوله (إِذَا طَلَّقْتُمُ). وقوله: (فَتَرْدَى). معناه فتهلك، يقال رَدِيَ يَرْدَى ردًى، إذا هلك، وكذلك تَرَدَّى إذَا هلَكَ في قوله عزَّ وجلَّ: (وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11). * * * قوله: (وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) تلك اسم مبهم يَجري مجرى التي، ويوصل كما توصل التي، المعنى

(18)

ما التي بيمينك يا موسى. وهذا الكلام لفظه لفظ الاستفهام ومجراه في الكلام مجرى ما يسأل عنه، ويجيب المخاطب بالِإقرار به لتثبت عليه الحجة بعدما قد اعترف مستغنًى بإقراره عن أن يجحد بعد وقوع الحجة، ومثله من الكلام أنْ تُرِيَ المخاطب ماءً فتقول له ما هذا فيقول ماء، ثم تحيله بشيء من الضِبْغ فإن قال إنه لم يزل هكذا قلت له: ألست قد اعترفت بأنه ماء؟ * * * وقوله: (قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18) وقرئ هي عَصَى بغير ألف، وأجْوَدُهُمَا عَصَايَ. وَعَصَى لغَةُ هُذَيل. والأصل في يا الإضافة أن يكسر ما قبلها، تقول هذا حَجَرِي فتكسر الراء وهي في موضع ضم وكذلك رأيت حجرِي، فإذا جَاءتْ بَعْدَ الألف المقصورة لم تكسرها؛ لأن الألف لا تُحرَّكُ، وكذلك إذا جاءت بعد ألف التثنية في الرفع في قولك هما غلاماي، وبعد ياء النصب في قولك: رأيت غلامَيَّ، وبعد كل ياء قبلها - كسرة نحو هذا قاضِى ورأيت مُسْلِمِيَّ، فجعلت هُذَيْلٌ بدلًا من كسرةِ الألف تغييرها إلى الياء، وليس أحَدٌ من النحويين إلا وقد حكى هذه اللغة. قال أبو ذؤيب. سَبَقوا هَوَيَّ وأَعْنَقُوا لِهَواهُم. . . فتُخُرِّمُوا ولكُلِّ جَنْبٍ مَصْرَعُ * * * قوله: (وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي). - جاء في التفسير أخْبِطُ بها الشجرَ، واشتقاقه من أني أحيلُ الشيءَ إلى الهشاشة والإمكان. - وقوله: (وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى). جاء في التفسير حاجات أخَر، وكذلك هُوَ في اللغة، وواحد المآرب

(21)

مَأرُبَة ومارَبة. وجاء (أُخْرَى) على لفظ صفة الواحدة، لأن مآرب في معنى جماعة فكأنَّها جماعات من الحاجات الأخرى، فلو جاءت أخَرُ كان صواباً. * * * قوله: (قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21) معنى (سِيرَتَهَا) طريقتها يعنى - هيئتها، تقول إذا كان القوم مشتبهين: هم على سيرة واحدة وطريقة - وَاحِدةٍ، تريد أن هيئتهم واحدة وشبههم واحِد، وإن كان أصل السيرة والطريقة أكثر ما يقع بالفعل، تقول: فلان على طريقة فلانٍ وعلى سيرته أي أفعاله تشبه أفعال فلانٍ، والمعنى: سنعيدها عَصاً كما كانت. و (سِيرَتَهَا) منصوب على إسقاط الخافض، وأفْضى الفعل إليها، المعنى - والله أعلم - سنعيدها إلى سيرتها الأولى، فلما حُذِفَتْ " إلى " أفْضى الفعل - وهو سنعيدها - فَنَصَب. * * * وقوله: (وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22) جناح الإنسان عَضُدُه إلى أصل " إبطه. وقوله: (تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى). (آيةً) مَنْصوبة لأنها في موضع الحال، وهي اسم في موضع الحال. المعنى - واللَّه أعلم - تخرج بيضاء مُبيِّنة آيَةً أُخْرَى. ويجوز أن يكون (آيَةً أُخْرَى) منصوبةً على معنى آتيناك آية - أخرى أو سنؤتينك آيَةً أُخْرَى، لأنه لما قال: (تَخْرُج بَيْضَاءَ) كان في ذلك دَليل أنَّه يعطى آيةً أخرى، فلم يحتج إلى ذكر آتَينَاكَ لأن في الكلام دليلًا عليه. ويجوز آية أخرى بالرفع على إضمار هذه آية أخْرَى. * * * وقوله: (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) جاء في التفسير أنه كان في لسانه رُتَّة، لأن امْرأةَْ فِرْعَوْنَ جَعَلَتْ عَلَى لِسَانه حجرةً لأنه كان أخذ وهو صبي بِلِحْيةِ فرعَوْنَ فهَمَّ به، وقال هذا عدو

(29)

فأعلمته أنه صبي لا يعقل وأن دليلها على ذلك أنه التقم جمرة فدرأت عنه ما هَمَّ به فِرْعَوْنَ فيه. * * * وقوله: (وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) يجوز أن يكون نصب هارون من جهتين: إحداهما أن يكون (اجْعَلْ) لا يَتَعدى إلى مفعولين فيكون المعنى اجعل هارون أخي وزيري فتنصب " وَزِيرًا " على أنه مفعول ثانٍ. ويجوز أن يكون هارون بدلاً من قوله " وَزِيرًا " ويكون المعنى اجعل لي وَزِيرًا من أهلي ثم أبدل هارون من وَزِير. والقول الأول أجودُ و (أخي) نعت لهارون. * * * وقوله: (اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) يقرأ على ضربين: على مَعْنى اجعل أخي وزيراً، فإنك إن فعلت ذلك أشْدُدْ به أزْري. " أشْدُدْ " على الإِخْبَارِ عن النفس وأظهرت التضعيف لأنه جواب الأمر وأشْرِكُه في أمْرِي، فيقرأ على هذا: هارون أخي أشْددْ به أزري وأشرِكُهُ في أمري بقَطْع ألِفِ أشْدُدْ وضم الألف من وأُشْرِكْهُ. ومن قرأ هارون أخي اشدد به أزري وأشْرِكه فعلى الدعاء. المعنى: اللهم أشدد به أزري وأشْرِكْهُ في أمري. * * * (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37) قد بين المرة على ما هي وهي قوله: (إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) لأنه نَجَّاهُ بهذَا من القتل، لأنَّ فرعونَ كَان يَذْبَحُ الأبناءَ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي). قالوا معناه ولتُغْذَى. ومعنى أزرِي، يقال آزَرْتُ فُلاناً على فلان إذَا أعنْتَه عَليْه وقوَّيتَه، ومِثلُه:

_ (1) قال ابن الجوزي: قوله تعالى: {ولِتُصْنَع على عيني} وقرأ أبو جعفر: «ولْتُصنعْ» بسكون اللام والعين والإِدغام. قال قتادة: لتُغذى على محبتي وإِرادتي. قال أبو عبيدة: على ما أُريد وأُحِبّ. قال ابن الأنباري: هو من قول العرب: غُذي فلان على عيني، أي: على المَحَبَّة مِنّي. وقال غيره: لتُرَبَّى وتغذى بمرأىً مني، يقال: صنع الرَّجل جاريته: إِذا ربَّاها؛ وصنع فرسه: إِذا داوم على علفه ومراعاته، والمعنى: ولِتُصْنَعَ على عيني، قدَّرنا مشي أختك. اهـ (زاد المسير. 5/ 284). وقال السَّمين: قوله: {وَلِتُصْنَعَ} قرأ العامَّةُ بكسر اللام وضم التاء وفتحِ النون على البناءِ للمفعول، ونصبِ الفعلِ بإضمار أَنْ بعد لام. وفيه وجهان، أحدهما: أن هذه العلةَ معطوفةٌ على علةٍ مقدرة قبلها. والتقديرُ: ليتلطَّفَ بك ولتُصْنَعَ، أو ليعطفَ عليك وتُرامَ ولتصنعَ. وتلك العلةٌ المقدرةُ متعلقةٌ بقوله: «وألقيتُ» أي: ألقيتُ عليكم المحبة ليَعْطفَ عليك ولتُصْنَعَ. ففي الحقيقة هو متعلقٌ بما قبله من إلقاءِ المحبة. والثاني: أن هذه اللامَ تتعلقُ بمضمرٍ/ بعدها تقديرُه: ولتُصْنَعَ على عيني فعلتُ ذلك، أو كان كيت وكيت. ومعنى لتُصْنَعَ أي: لتربى ويُحْسَنَ إليك، وأنا مراعِيْكَ ومراقُبكَ كما يراعي الإِنسانُ الشيءَ بعينِه إذا اعتنى به. قاله الزمخشري. وقرأ الحسن وأبو نهيك «ولِتَصْنَعَ» بفتح التاء. قال ثعلب: «معناه لتكون حركتُك وتصرُّفُك على عينٍ مني. وقال قريباً منه الزمخشري. وقال أبو البقاء:» أي لتفعلَ ما آمُرك بمرأى مني «. وقرأ أبو جعفر وشَيْبَةُ» ولْتُصْنَعْ «بسكون اللام والعين وضم التاء وهو أمرٌ معناه: ليُرَبَّ وليُحْسَن إليك. وروي عن أبي جعفر في هذه القراءةِ كسرُ لامِ الأمر. قلت: ويحتمل مع كسرِ اللام أو سكونِها حالةً تسكينِ العين أن تكونَ لامَ كي، وإنم سُكِّنَتْ تشبيهاً بكَتْف وكَبْد، والفعل منصوب. والتسكينُ في العين لأجل الإِدغام لا يُقْرأ في الوصل إلاَّ بالإِدغام فقط. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(40)

(فآزَرَهُ فاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ). فتأويله أقوى بهِ واستُعين به على أمري. فأما الوزير في اللغة فاشتقاقه من الوَزَرِ، والوَزَرُ الجَبلُ الذي يُعْتَصَم به ليُنْجِيَ مِنَ الهكلَةِ، وكذلك وزير الخليفة معناه الذي يَعْتمد عليه في أمُورِه وَيلْتَجِئ إلى رأيه وقوله: (كَلَّا لاَ وَزَرَ) معناه لا شيءَ يُعْتَصَمُ بِه من أمر الله - عزَّ وجلَّ -. * * * وقوله: (إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40) (وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا). معناه اختبرناك اختباراً. وقوله: (ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى). قيل في التفسير: على مَوْعِدٍ، وقيل على قَدَرٍ من تَكلِيمي إياك. (اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) معناه ولا تضعُفَا، يقال: وَنَى يني وَنْياً ووُنيًّا إذاضَعُفَ، وقولك قد توانى فلان في هذا الأمر أي قد فتر فِيه وضَعُفَ. وقوله: (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) لعل في اللغة ترجٍّ وطمع، تقول: لَعلي أصير إلَى خيرٍ، فمعناه أرجو وأطمع أن أصير إلى خير، واللَّه - عزَّ وجلَّ - خاطب العبادَ بما يعقلون والمعنى عند سيبويه فيه: اذْهَبَا عَلَى رَجَائكما وَطَمَعَكُمَا. والعلم من الله عزَّ وجلَّ قد أتى من وراء ما يكون. وقد علم الله عزَّ وجلَّ أنه لا يتذكر ولا يخشى، إلا أن الحجة إنما تجب عليه بالإبانة، وإقامتها عليه، والبرهان.

(45)

ْوإنما تبعَثُ الرسُل وهي لا تعلم الغيب ولا تدري أيقبل منها أم لا، وهم يرجون ويطمعون أن يقبل مِنهم، ومعنى " لعل " متصور في أنفسهم، وعلى تصور ذلك تقوم الحجة، وليس علم الله بما سيكون تجب به الحجة علم. الآدميين، ولو كان كذلك لم يكن في الرسل فائدة. فمعنى: (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى). هو الذي عليه بُعثَ حميعُ - الرُّسُلِ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) معنى يَفْرطَ علينا يُبَادر بعقوبتنا، يقال: قد فرط منه أمر أي قَدْ بَدَرَ منه أمر، وقد أفرط في الشيء إذا سَقَط فيه، وقد فرط في الشيء أي قَصَّرَ ومعناه كله التقدم في الشيْءِ، لأن الفرط في اللغة المتقدم. ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - " أنا فَرَطُكُمْ على الحوض ". * * * وقوله: (فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47) (وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى). ليس يعنى به التحية، وإنما معناه أن من اتبع الهدى سلم من عذاب اللَّه وسخطه والدليل على أنه ليس بسلام أنه ليس ابتداء لقاء وخطاب. ومعنى (فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ). ولم يقل فَأتَيَاهُ فقَالاَ لَه إنا رَسُولا ربِّكَ، لأن الكلام قدْ دل على ذلك فاستغنى عنه أن يقال فيه فأتَياهُ فَقَالاَ، لأن قوله: (قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49). فيه دليل على أنهما أتَياهُ فَقَالَا لَهُ: * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50) معناه خلق كل شيء على الهيئة التي بها ينْتَفِعُ، والتي هي أصلح الخلق له، ثم هَدَاهُ لمعِيشتِه، وقد قيل ثم هداه لموضع مَا يكون منه الولد.

(51)

والأول أبين في التفسير، وهذا جائز، لأنا نرى الذَّكرَ مِنَ الحيوان يأتي الأنثى ولم ير ذكراً قد أتى أنثى قبله فألْهَمه اللَّه - عزَّ وجلَّ - ذلك وهداه إلى المَأتي. والقول الأول ينتظم هذا المعنى، لأنَّه إذا هَداه لمصْلَحَتِه فهذا دَاخِلٌ في المصْلحةِ، واللَّه أعلم. * * * وقوله تَعَالَى: (قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51) قال له موسى عليه السلام: (قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52) معناه لا يُضِلها ولا ينساها، ولا يضله ربي ولا ينساه، يعنى به الكتاب. ومعنى ضَلَلْتُ الشيءَ وضَلِلْتُ بكسر اللام وفتحِهَا أضِلُّه وَأضَلُّه، إذا جعلته في مكان لم تدر أين هو، وُيضِل من أضلَلْتُه، ومعنى أضْلَلْتُه أضَعْتُه. قال أبو إسحاق من قرأ بالفتح فمعناه لا يَضَل أيْ لا يَضَل عن رَبِّي. . وإذا ضممت الياء فمعناه لا يوجد ربي ضَالًّا عنها. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (54) (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى) معناه لذوي العقول، واحد لنهى نُهْيَة. يقال: فلان ذو نُهيةٍ ومعناه ذو عقل ينتهي به عن المقابح ويدخل به في المحاسِنِ. وقال بعض أهل اللغة: ذو النهْيِةِ الذي يُنْتهَى إلى رأيه وعقله. وهَذَا حسن أيضاً * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55) يعنى به الأرض، لأن اللَّه - عزَّ وجلَّ - خلق آدم من تراب، وَجَرَى الإضْمَارُ على قوله: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لكُمْ فِيهَا سُبُلًا). وقوله: (تَارَةً أُخْرَى).

(58)

مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55) متعلق بقوله (مِنْهَا نُخْرِجُكُمْ)، لأن المعنى كمعنى الأول. لأن معنى (وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ) بمنزلة منها خلقناكم، فكأنَّه قال - واللَّه أعلم -: ومنها نخلقكم تارة أخْرَى، لأن إخراجَهُم وهم تراب بمنزلة خلق آدم من تراب. * * * وقوله: (فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (58) (مَكَانًا سِوًى) وتقرأ سُوًى بِالضمِ ومَعْنَاهُ مَنْصَفاً، أي مكاناً يكون النصفَ فيما بيننا وبينك، وقد جاء في اللغةَ " سَواء " في هذا المعنى، تقول: هذا مكانٌ سَوَاء أي مُتَوسط بين المكانين، ولكن لم يقرأ إلا بالْقَصْرِ سِوًى وسُوًى. * * * وقوله تعالى: (قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) وتقرأ (يومَ الزينة)، فالرفع على خبر الابتداء، والمعنى وقت موعدكم يوم الزينة ومن قرأ (يومَ) فمنصوبٌ على الظرف، المعنى يقع يوم الزينة. وقوله: (وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى). موضع (أن) رفع، المعنى مَوعِدُكم حَشرُ الناسِ ضُحًى، وتأويله إذا رأيتم الناس قد حُشِروا ضُحًى. وقيل يوم الزينة يومُ عيدٍ كان لهم، وقيل إنه كان يوم عاشوراء. ويجوز أن يكون في موضع خَفْض عطفاً على الزينة. المعنى موعدكم يوم الزينة ويوم حشْرِ الناس. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61) (وَيْلَكُمْ) منصوبٌ على أن ألزمهم اللَّه ويلًا، ويجوز أن يكون منصوباًْ عَلَى النداءِ كما قال تعالى: (يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ) و (يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا).

(62)

وقوله: (فَيَسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ). ويقرأ (فَيُسْحِتَكُمْ) - بضم الياء وكسر الحاء، يقال سَحَتَهُ، وأسْحَتَهُ إذا استَأصَلَهُ وأهْلكُه، قال الفرزدق: وعَضّ زمانٍ يا ابنَ مَرْوانَ لم يَدَعْ. . . من المالِ إِلاَّ مُسْحَتاً أَو مُجَلَّفُ معنى لم يدع لم يستقر - من الدعة من المال، وأكثر الرواية إِلاَّ مُسْحَتاً. فهذا على أسْحَت فهو مُسْحَت. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62) يعنى به السحرة، قالوا بينهم: إِنْ غَلَبَنَا موسى آمنا به، وكان الأمْر لَهُ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63) (إن هَذَانِ لَسَاحِرَانِ) (1). يَعْنُونَ موسى وهارون. وهذا الحرف من كتاب اللَّه عزَّ وجلَّ مُشْكِل على أهل اللغة، وقد كثر اختلافهم في تفسيره، ونحن نذكر جميع ما قاله النحويون ونخبر بما نظن أنه الصواب واللَّه أعلم، وقبل شرح إعرابه نخبر بقراءة القُراءِ أما قراءة أهل المدينة والأكْمَهِ في القراءة فبتشديد (إنَّ) والرفع في (هذان) وكذلك قرأ أهْلُ العِراق حمزةُ وعاصم - في رواية أبي بكر بن عياش والمدنيونَ. ورُويِ عَنْ عاصم: إِنْ هذان بتخفيف (إنْ)، ويُصَدِّق ما قرأه عاصم في هذه القراءة ما يُرْوى عَنْ أُبَيٍّ فَإنهُ قرأ: ما هذان إِلَّا سَاحِرَانِ، ورُوِيَ أيضاً عنه أنه قرأ: إنْ هَذَان إِلا سَاحِرانِ، ورويت عن الخليل أيضاً: إنْ هذانْ لَسَاحِرَان - بالتخفيف -. والإجماع أنه لم يكن أحد بالنحو أعلم من الخليل. وقرأ أبو عمرو وعيسى بن عمَر: إنَّ هَذَيْن لَسَاحرانِ، بتشديد " إِنَّ " ونصب هذين.

_ (1) قال السَّمين: قوله: {إِنْ هذان}: اختلف القُرَّاءُ في هذه الآيةِ الكريمة: فقرأ ابن كثيرٍ وحدَه «إنْ هذانِّ» بتخفيف إنْ، والألفِ، وتشديدِ النون. وحفصٌ كذلك إلاَّ أنه خَفَّف نونَ «هذانٍ». وقرأ أبو عمرو «إنَّ» بالتشديد «هذين» بالياء وتخفيفِ النون. والباقون كذلك إلاَّ أنهم قَرَؤوا/ «هذان» بالألف. فأَمَّا القراءةُ الأولى وهي قراءةُ ابنِ كثير وحفص فأوضحُ القراءاتِ معنىً ولفظاً وخَطَّاً؛ وذلك أنهما جعلا «إنْ» المخففةَ من الثقيلة فَأُهْمِلَتْ، ولَمَّا أُهْمِلَتْ كما هو الأفصحُ مِنْ وجهيها خِيْفَ التباسُها بالنافية فجيء باللامِ فارقةً في الخبر. ف «هذان» مبتدأٌ، و «لَساحران» خبرُه، ووافَقَتْ خَطَّ المصحفِ؛ فإن الرسم «هذن» بدونِ ألفٍ ولا ياءٍ وسيأتي بيانُ ذلك. وأمَّا تشديدُ نونِ «هذان» فعلى ما تقدَّم في سورةِ النساءِ، وقد أَتْقَنتُ ذلك هناك. وأمَّا الكوفيون فيزعمون أنَّ «إنْ» نافيةٌ بمعنى ما، واللامُ بمعنى إلاَّ، وهو خلافٌ مشهورٌ وقد وافقَ تخريجُهم هنا قراءةَ بعضِهم «ما هذانِ إلاَّ ساحران». وأمَّا قراءةُ أبي عمروٍ فواضحةٌ من حيث الإِعرابُ والمعنى. أمَّا الإِعرابُ ف «هذَيْن» اسمُ «إنَّ» وعلامةُ نصبِه الياءُ. و «لَساحِران» خبرُها، ودخَلَتِ اللام توكيداً. وأمَّا مِنْ حيث المعنى: فإنَّهم أَثْبتوا لهما السحرَ بطريق تأكيديٍّ من طرفيه، ولكنهم استشكلُوها من حيث خَطُّ المصحفِ؛ وذلك أنَّ رَسْمَه «هذن» بدونِ ألفٍ ولا ياءٍ، فإثباتُه بالياءِ زيادةٌ على خطِّ المصحفِ. قال أبو إسحاق: «لا أُجيز قراءةَ أبي عمرو لأنَّها خلافُ المصحفِ». وقال أبو عبيد: «رأيتُهما في الإِمام مصحفِ عثمان» هذن «ليس فيها ألفٌ، وهكذا رأيتُ رفعَ الاثنين في ذلك المصحفِ بإسقاط الألفِ، وإذا كتبوا النصبَ والخفضَ كتبُوه بالياء، ولا يُسْقِطونها». قلت: وهذا لا ينبغي أَنْ يُرَدَّ به على أبي عمرو، وكم جاء في الرسم أشياءُ خارجةٌ عن القياسِ، وقد نَصُّوا هم أنه لا يجوزُ القراءةُ بها فليكنْ هذا منها، أعني ممَّا خَرَجَ عن القياس. فإن قلتَ: ما نَقَلْتَه عن أبي عبيد مشتركُ الإِلزامِ بين أبي عمروٍ وغيرِه، فإنهم كما اعترضوا عليه بزيادةِ الياء يُعْترض عليهم بزيادةِ الألفِ: فإنَّ الألفَ ثابتةٌ في قراءتِهم، ساقطةٌ من خَطِّ المصحفِ. فالجواب ما تقدَّم مِنْ قولِ أبي عبيدٍ أنهم رآهم يُسْقِطون الألفَ مِنْ رفع الاثنين، فإذا كتُبوا النصبَ والخفضَ كتبُوه بالياء. وذهب جماعةٌ منهم عائشةُ رضي الله عنها وأبو عمروٍ إلى أن هذا ممّا لَحَنَ فيه الكاتبُ وأُقيم بالصواب. يَعْنُون أنه كان مِنْ حقه أن يكتبَه بالياءِ فلم يفعلْ، فلم يقرَأْه الناسُ إلاَّ بالياءِ على الصوابِ. وأمَّا قراءةُ الباقين ففيها أوجه، أحدُها: أن «إنَّ» بمعنى نَعَمْ، و «هذان» مبتدأٌ، و «لَساحران» خبرُه، وكَثُرَ ورودُ «إنَّ» بمعنى نعم وأنشدوا: 3297 بَكَرَ العَواذِلُ في المَشِيْ. . . بِ يَلُمْنَني وأَلوْمُهُنَّهْ ويَقلْن شَيْبٌ قد عَلا. . . كَ وقد كَبِرْتَ فقلتُ إنَّهْ أي: فقلت: نَعَمْ. والهاءُ للسَّكْتِ. وقال رجلٌ لابن الزبير: لَعَن اللهُ ناقةً حَمَلَتْني إليكَ. فقال: «إنَّ وصاحبَها» أي: نعم. ولَعَنَ صاحبَها. وهذا رأيُ المبردِ وعلي بن سليمان في آخرين. وهو مردودٌ من وجهين، أحدهما: عدمُ ثبوتِ «إنَّ» بمعنى نعم، وما أوردُه مُؤَوَّلٌ: أمَّا البيتُ فإنّ الهاءَ اسمُها، والخبرَ محذوفٌ لفهمِ المعنى تقديرُه: إنه كذلك. وأمَّا قولُ ابنِ الزبير فذلك مِنْ حَذْفِ المعطوفِ عليه وإبقاءِ المعطوف وحَذْفِ خبر «إنَّ» للدلالةِ عليه، تقديره: إنَّها وصاحَبها ملعونان، وفيه تكلُّفٌ لا يَخْفَى والثاني: دخولُ اللامِ على خبرِ المبتدأ غيرِ المؤكَّد ب «إنَّ» المكسورةِ، لأَنَّ مثلَه لا يقعُ إلاَّ ضرورةً كقولِه: 3298 أمُّ الحُلَيْسِ لَعَجُوْزٌ شَهْرَبَهْ. . . تَرْضَى من اللحمِ بعظمِ الرَّقَبَهْ وقد يُجاب عنه: بأنَّ «لَساحِران» يجوزُ أَنْ يكونَ خبرَ مبتدأ محذوفٍ دَخَلَتْ عليه هذه اللامُ تقديرُه: لهما ساحران. وقد فعل ذلك الزجاج كما ستأتي حكايتُه عنه. الثاني: أنَّ اسمَها ضميرُ القصةِ وهو «ها» التي قبل «ذان» وليست ب «ها» التي للتنبيهِ الداخلةِ على أسماءِ الإِشارةِ، والتقدير: إنَّ القصةَ ذانِ لساحران. وقد رَدُّوا هذا من وجهين، أحدهما: من جهةِ الخَطِّ، وهو أنه لو كان كذلك لكان ينبغي أن تُكتبَ «إنها» فيصِلوا الضميرَ بالحرفِ قبلَه كقوله تعالى: {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار} [الحج: 46] فكَتْبُهم إياها مفصولةً من «إنَّ» متصلةً باسمِ الإِشارة يمنع كونَها ضميراً، وهو واضح. الثاني: أنَّه يؤدِّي إلى دخولِ لامِ الابتداءِ في الخبرِ غيرِ المنسوخِ. وقد يُجاب عنه بما تقدَّم. الثالث: أنَّ اسمَها ضميرُ الشأنِ محذوفٌ، والجملةُ من المبتدأ والخبرِ بعدَه في محلِّ رفعٍ خبراً ل «إنَّ»، التقديرُ: إنَّه، أي: الأمرُ والشأنُ. وقد ضُعِّفَ هذا بوجهين، أحدهما: حَذْفُ اسمِ «إن»، وهو غيرُ جائزٍ إلاَّ في شعرٍ، بشرطِ أَنْ لا تباشرَ «إنَّ» فعلاً كقولِه: 3299 إنَّ مَنْ يَدْخُلِ الكنيسةَ يوماً. . . يَلْقَ فيها جَآذراً وظِباءَ والثاني: دخولُ اللام في الخبرِ. وقد أجابَ الزجَّاج بأنها داخلةٌ على مبتدأ محذوفٍ تقديرُه: لهما ساحران. وهذا قد استحسنه شيخُه المبردُ، أعني جوابَه بذلك. الرابع: أنَّ «هذان» اسمُها، و «لَساحران» خبرُها. وقد رُدَّ هذا بأنه كان ينبغي أَنْ يكونَ «هذين» بالياءِ كقراءةِ أبي عمرو. وقد أُجيب عن ذلك: بأنه على لغةِ بني الحارثِ وبين الهُجَيْم وبني العَنْبر وزُبَيْد وعُذْرَة ومُراد وخَثْعَم. وحكى هذه اللغةَ الأئمةُ الكبارُ كأبي الخَطَّاب وأبي زيد الأنصاري والكسائي. قال أبو زيد: «سمعتُ من العربِ مَنْ يَقْلِبُ كلَّ ياءٍ ينفتح ما قبلها ألفاً»، يجعلون المثنى كالمقصورِ فيُثْبِتون ألفاً في جميع أحواله، ويُقَدِّرون إعرابَه بالحركاتِ، وأنشدوا قولَه: 3300 فأَطْرَق إطْراقَ الشُّجاعِ ولو يرى. . . مَسَاغاً لِناباه الشُّجاعُ لصَمَّما أي: لنابَيْه. وقولَه: 3301 إنَّ أباها وأبا أباها. . . قد بَلَغا في المجدِ غايتاها أي: غايتيهما، إلى غير ذلك من الشواهد. وقرأ ابن مسعود: «أنْ هذان ساحِران» بفتح «أَنْ» وإسقاط اللامِ: على أنها وما في حَيِّزها بدلٌ من «النجوى» كذا قاله الزمخشري، وتبعه الشيخ ولم ينكره. وفيه نظرٌ: لأنَّ الاعتراضَ بالجملة القولية بين البدلِ والمبدلِ منه لا يَصِحُّ. وأيضاً فإنَّ الجملةَ القوليةَ مفسرةٌ للنجوى في قراءةِ العامَّة، وكذا قاله الزمخشريُّ أولاً فكيف يَصحُّ أَنْ يُجْعَلَ «أنْ هذان ساحران» بدلاً من «النجوى»؟. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

فهذه الرواية فيه. فأمااحتجاج النحويين فاحتجاج أبي عمرو في مخالفته المصحف في هذا أنهُ رُوِيَ أنه من غَلطِ الكاتب، وأن في الكتاب غَلَطاً سَتُقِيمُه العربُ بألْسِنَتِها، يروى ذلك عَنْ عُثْمَانَ بنِ عفَانِ وَعَنْ عائشة - رحمهما اللَّه -. وأما الاحتجاج في أنَّ هذان بتشديد أن ورفع هذانِ فحكى أبُو عُبَيْدَة عن أبي الخطاب وهو رأس من رؤساء الرواة، أنها لغة لِكنَانَة، يجعلون ألف الاثنين في الرفع والنَصْبِ والخفض على لفظ واحدٍ، يقولون أتاني الزيدان. ورأيت الزيْدَانِ، ومررت بالزَيْدَانِ، وهؤلاء ينشدون: فأَطْرَقَ إطْراقَ الشُّجاعِ ولو رَأَى. . . مَساغاً لِنابَاه الشُّجاعُ لَصَمَّما وهؤلاء أيضاً يقولون: ضَرَبتُه بين أذُناه، ومن يشتري مني الخُفَّانِ وكذلك روى أهل الكوفة أنها لغة لبني الحرث بن كعْبٍ. قال النحويون القُدَمَاء: ههنا هاء مضمرة، المعنى إنهُ هذانِ لَسَاحِرَانِ،

وقالوا أيضاً أن معنى (إن) معنى (نَعَمْ)، المعنى نعم هَذان لساحِرَانِ. وينشدون: ويَقُلْنَ شَيْبٌ قدْ علَّا. . . كَ وقد كَبِرْتَ فقلتُ إنَّهْ ويَحتحون بأن هذه اللامَ - أصْلُهَا - أن تقع في الابتداء، وأن وُقُوعَها في الخبر جائز، وينشدون في ذلك: خالي لأَنتَ ومَن جَريرٌ خالُه. . . يَنَلِ العَلاءَ ويُكْرِمِ الأَخْوالا وأنشدوا أيضاً: أُمُّ الحُلَيْسِ لَعَجُوزٌ شَهْرَبَهْ. . . تَرْضى من الشاةِ بِعَظْمِ الرَّقَبَهْ قالوا: المعنى لأنت خالي، والمعنى لأم الحليس عجوز. وقال الفراء فى هذا: إنهم زادوا فيها النون في التثنية وتركوا الألف على حالها في الرفع والنصب والجر كما فعلوا في الذي، فقالوا الَّذِينَ في الرفع والنصب والجر. فهذا جميع ما احتج به النحويون. والذي عندي - واللَّه أعلم - وكنت عرضته على عالِمَيْنَا - محمد بن يزيد وعلى إسماعيل بن إسحاق بن حماد بن زيد القاضي فقبلاه وذكرا أنَّه أجود ما سمعاه في هذا، وهو " أنَّ) قد وقعت موقع " نعم "، وأن اللام وقعت مَوْقِعَهَا، وأن المعنى هذان لَهما ساحِرَانِ.

والذي يلي هذه في الجودة مذهب بني كنانة في ترك ألف التثنية على هيئة واحدة، لأن حق الألف أنْ تَدُل على الاثنين، وكان حقها ألا تتغيَّر كما لم تتغير ألف رحى وعضى، ولكن كان نقلها إلى الياء في النصْبِ والخفض أبين وأفْضَلُ للتمييز بين المرفوع والمنصوب والمجرور. فأمَّا قراءةَ عيسى بن عمر وأبي ععرو بن العلاء فلا أجيزها لأنها خلاف المصحف، وكل ما وجدته إلى موافقة المصحف أقرب لم أجِزْ مخَالفَتَه، لأن اتباعه سنة. وما عليه أكثر القراء، ولكني أسْتَحسِنُ (إنْ هذان لساحران) بتخفيف (إنْ) وفيه إمامان: عاصمٌ والخليلُ، وموافقة أُبيٍّ في المعْنَى وأن خالفه اللفظ، ويستحسن أيضاً (إنَّ هذان) بالتشديد، لأنه مذهب أكثر القراء، وبه يقرأ وهو قوي في العربية. * * * قوله تعالى: (وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى). معناه في قول النحويين بجماعتكم الأشراف. والمثلى تأنيث الأمثل. ومعنى الأمثل والمثلى معنى " ذوُ الفضل " الذي يستحق أن يقال فيه هذا أمثل قَوْمِه. وفي التفسير: (بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى) بأشْرَافكم، والعرب تقول للرجل الفاضل هذا طَرِيقةُ قوْمِه، وَنَظِيرَة قومِه، ونَظُورَة قومه. كل هذا للرجل الفاضِل. وإنما تأويله هذا الذي ينبغي أن يجعلَهُ قومُه قدوةً ويسْلكوا طريقته. والذي قال أيضاً: هذا نظورة قومه ونظيرة قومه، معناه هذا الذي ينبغي أن يَنْظُر إليه قومُه وأن يتبعوه. والذي عندي - واللَّه أعلم - أن في الكلام محذوفاً يدل عليه ما بقي. إنما المعنى يذهبا بأهل طَرِيقتكم المثلى، كما قال اللَّه عزَّ وجلَّ:

(64)

(وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا)، معناه وَاسأل أهل القرية، وكذلك قول العرب: هذا طريقة قومه معناه هذا صاحب طريقة قومه. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسي). . تأويله اخترتك لإقَامَةِ حُجتِي، وجَعَلْتكَ بَيْني وبين خَلْقِي حتى صرت في الخطاب عني والتبليغ عني بالمنزلة التي أكون بها لو خاطبتهم واحتججت عليهم. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (64) وقرئتْ (فاجمعوا كيدكم)، فمن قرأ فأجمِعُوا بقطع الألف، فمعناه ليكن عزمكم - كلكم على الكيد مُجْمَعاً عليه أي لا تَختلِفُوا فتخْتَلوا. ومن قرأ (فاجمعوا) فمعناه جيئوا بكل كيد تقدرون عليه، ولا تبقوا مِنْهُ شيئاً. وقوله: (ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا). معناه ائتوا الموضع الذي تجتمعون فيه لِعيدِكم وصَلَاتِكِم، يقال: أتَيتَ صَفًّا بمعنى أتيت المُصَلَّى، ويجوز أن يكون (ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا) ثم ائتوا مصطفين مجتمعين ليكون أنظمَ لأموركم، وأشد لهيئتكم. (وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى). ومعنى (مَنْ اسْتَعْلَى) من علا بالغلبة. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) ولم يَقُل ههنا " فَأَلْقَوْا " فإذا حبالهم، لأنه قد جاء في موضع آخر، (فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ). ويجوز في عِصِيٍّ عُصِيٍّ، والكسر أكثر، والأصْلُ

الضم إلا أن الكسر يثقل بعد الضم فلذلك اختير كسر العين. ويروى في التفسير أنَّ السَّحرةَ كانوا يومئذٍ سبعين ألف ساحِرٍ معهم سبعون ألف حَبْل وَسَبْعون ألف عصا (1)، فأوحى الله إلى موسى حين خُيِّلَ إليه من سِحرهم أنها تسعى أن يُلْقِيَ عَصَاة فإذا هي ثعبان مُبين فَاغِر فَاه فابتلع جَمِيعَ تلك الحبال، وقرئت (فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى). وموضع أن على هذه القراءة رفع، المعنى يخيل إليه سَعْيُها، ويقرأ " تُخَيَّلُ " بالتاء، وموضع أن عَلَى هذه القراءة يجوز أن يكون نصباً، ويجوز أن يكون رفعا، فأمَّا النصب فعلى معنى يخيل إليه أنها ذات سَعْي ويجوز أن يكون مرفوعاً على البدل على معنى يخيل إليه سِعَايتُها، وأبدل أنها تسعى من المضمر في يخيل لاشتماله على المعنى، ويكون إليه الخبر على هذا التقدير. ومثل ذلك ما حكاه سيبويه يقال: مالي بِهِمْ عِلْم أمْرُهُم، أي مالي علم بِأمرِهم، ومثل ذلك من الشعر: تَذَكَّرَتْ تَقْتَدَ بَرْدَ مائها المعنى تَذَكَّرَتْ بَرْدَ مَاء تَقْتد (1).

_ (1) قال السَّمين: قوله: {فَإِذَا حِبَالُهُمْ}: هذه الفاءُ عاطفةٌ على جملةٍ محذوفةٍ دَلَّ عليها السياقُ. والتقدير: فَأَلْقَوْا فإذا. و «إذا» هذه التي للمفاجَأة. وفيها ثلاثة أقوال تقدَّمت. أحدُها: أنها باقيةٌ على ظرفيةِ الزمان. الثاني: أنها ظرفُ مكانٍ. الثالث: أنها حرفٌ. قال الزمخشري: «والتحقيق فيها أنها الكائنةُ بمعنى الوقتِ الطالبةُ ناصباً لها، وجملةً تُضاف إليها خُصَّتْ في بعضِ المواضع بأن يكونَ الناصبُ لها فعلاً مخصوصاً، وهو فِعْلُ المفاجأةِ، والجملةٌ ابتدائيةٌ لا غير. فتقديرُ قولِه تعالى {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ}: ففاجأ موسى وقتَ تخييلِ سَعْيِ حبالِهم وعِصيِّهم، [وهذا تمثيل. والمعنى: على مفاجأته حبالُهم وعصيُهم مُخَيِّلَةً إليه السَّعْيَ» انتهى]. قال الشيخ: «قوله» إنَّها زمانية «مرجوحٌ، وهو مذهب الرِّياشي. وقوله» الطالبةُ ناصباً «صحيحٌ. وقوله:» وجملةٌ تضاف إليها «ليس صحيحاً عند بعض أصحابنا لأنها: إمَّا أَنْ تكونَ هي خبراً لمبتدأ، وإمَّا أَنْ تكونَ معمولةً لخبر المبتدأ. وإذا كان كذلك استحال أَنْ تُضافَ إلى الجملةِ؛ لأنها: إمَّا أَنْ تكونَ بعضَ الجملةِ، أو معمولةً لبعضِها فلا يمكن الإِضافةُ. وقوله:» خُصَّتْ في بعض المواضع إلى آخره «قد بَيَّنَّا الناصبَ لها. وقولُه:» والجملةُ بعدها ابتدائيةٌ لا غير «هذا الحَصْرُ ليس بصحيحٍ بل قد جَوَّز الأخفشُ، ونصَّ على أن الجملةَ الفعليةَ المقترنةَ ب» قد «تقع بعدَها نحو» خرجْتُ فإذا زيدٌ قد ضربه عمروٌ «برفعِ» زيد «ونصبِه على الاشتغال. وقوله:» والمعنى: على مفاجأته حبالُهم وعِصِيُّهم مخيِّلةً إليه السَّعْيَ «فهذا عكسُ ما قُدِّر بل المعنى: على مفاجأةِ حبالِهم وعصيِّهم إياه. فإذا قتل:» خَرَجْتُ فِإذا السَّبُعُ «فالمعنى: أنه فاجأني السَّبُعُ وهجم ظهورُه» انتهى ما رَدَّ به. قوله وما رَدَّ به عليه غيرُ لازمٍ له، لأنه يَرُدُّ عليه بقولِ بعض النحاةِ، وهو لا يلتزم ذلك القولَ حتى يَرُدَّ عليه لا سيما إذا كان المشهورُ غيرَه، ومقصودُه تفسيرُ المعنى. وقال أبو البقاء: الفاءُ جوابُ ما حُذِف، تقديرُه «فَأَلْقَوْا فإذا»، ف «إذا» في هذا ظرفُ مكانٍ، العاملُ فيه «أَلْقَوْ». وفي هذا نظر؛ لأنَّ «أَلْقَوْا» هذا المقدَّرَ لا يَطْلُبُ جواباً حتى يقول: الفاءُ جوابُه، بل كان ينبغي أَنْ يقولَ: الفاءُ عاطفةٌ هذه الجملةَ الفجائية على جملةٍ أخرى مقدرةٍ. وقولُه «ظرف مكانٍ»، هذا مذهبُ المبردِ، وظاهرُ قولِ سيبويه أيضاً، وإن كان المشهورَ بقاؤها على الزمان. وقوله: «إن العامل فيها» فأَلْقَوا «لا يجوز لأنَّ الفاءَ تمنع من ذلك. هذا كلامُ الشيخ ثم قال بعده:» ولأنَّ «إذا» هذه إنما هي معمولةٌ لخبرِ المبتدأ الذي هو «حبالُهم وعِصٍيُّهم» إن لم يجَعلْها هي في موضع الخبر؛ لأنه يجوزُ أن/ يكونَ الخبرُ «يُخَيَّل»، ويجوز أَنْ تكونَ «إذا» و «يُخَيَّل» في موضعِ الحال. وهذا نظير: «خرجْتُ فإذا الأسدُ رابضٌ ورابضاً» فإذا رَفَعْتَ «رابضاً» كانت «إذا» معمولةً له، والتقدير: فالبحضرة الأسدُ رابضٌ، أو في المكان. وإذا نَصَبْتَ كانت «إذا» خبراً. ولذلك يُكْتفى بها وبالمرفوع بعدها كلاماً، نحو: «خَرَجْتُ فإذا الأسدُ». قوله: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ} قرأ العامَّة «يُخَيَّل» بضمِّ الياء الأولى وفتحِ الثانية مبنياً للمفعول. و «أنَّها تَسْعى» مرفوعٌ بالفعلِ قبلَه لقيامِه مقامَ الفاعلِ تقديرُه: يُخَيَّل إليه سَعْيُها. وجوَّز أبو البقاء فيه وجهين آخرين: أحدهما: أَنْ يكونَ القائمُ مَقامَ الفاعلِ ضميرَ الحبالِ والعِصِيِّ، وإنما ذُكِّرَ ولم يَقُلْ ِ «تُخَيَّل» بالتاء مِنْ فوقُ؛ لأنَّ تأنيثَ الحبالِ غيرُ حقيقي. الثاني: أنَّ القائمَ مقامَ الفاعلِ ضميرٌ يعودُ على المُلْقى، ولذلك ذُكِّرَ. وعلى الوجهين ففي قولِه «أنها تسعى» وجهان، أحدُهما: أنَّه بدلُ اشتمالٍ من ذلك الضمير المستترِ في «يُخَيَّل». والثاني: أنه مصدرٌ في موضع نصبٍ على الحالِ من الضميرِ المستتر أيضاً. والمعنى: يُخَيَّل إليه هي أنها ذاتُ سَعْيٍ. ولا حاجةَ إلى هذا، وأيضاً فقد نَصُّوا على أنَّ المصدرَ المؤول لا يقع موقعَ الحالِ. لو قلت: «جاء زيدٌ أَنْ يركضَ» تريد ركضاً، بمعنى ذا ركض، لم يَجُزْ. وقرأ ابن ذكوان «تُخَيَّلُ» بالتاء من فوق. وفيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنَّ الفعلَ مُسْنَدٌ لضميرِ الحبالِ والعِصِيِّ أي: تُخَيَّلُ الحبالُ والعِصِيُّ، و «أنَّها تَسْعَى» بدلُ اشتمال من ذلك الضميرِ. الثاني: كذلك إلاَّ أنَّ «أنَّها تَسْعى» حالٌ أي: ذات سعي كما تقدَّم تقريرُه قبل ذلك. الثالث: أن الفعلَ مسندٌ لقولِه «أنَّها تَسْعى» كقراءةِ العامَّةِ في أحدِ الأوجهِ، وإنما أَنَّثَ الفعلَ لاكتسابِ المرفوعِ التأنيثَ بالإِضافة؛ إذا التقديرُ: تُخَيَّلُ إليه سعيُها فهو كقوله: 3302. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . شَرِقَتْ صدرُ القناةِ من الدمِ [وقوله تعالى:] {فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160]. وقرأ أبو السَّمَّال «تَخَيَّلُ» بفتح التاءِ والياء مبنياً للفاعلِ، والأصلُ: تَتَخَيَّلُ فَحَذَفَ إحدى التاءَيْن نحو: {تَنَزَّلُ الملائكة} [القدر: 4]، و «أنَّها تسعى» بدلُ اشتمالٍ أيضاً من ذلك الضمير. وجَوَّز ابنُ عطيةَ أيضاً أنه مفعولٌ مِنْ أجله. ونقل ابنُ جُبارة الهُذَليُّ قراءة أبي السمَّال «تُخَيِّل» بضمِّ التاء مِنْ فوقُ وكسر الياء، فالفعلُ مسندٌ لضميرِ الحِبال، و «أنها تسعى» مفعولٌ أي: تُخَيِّلُ الحبالُ سَعْيَها. ونَسَبَ ابنُ عطيةَ هذه القراءةَ للحسنِ وعيسى الثقفيِّ. وقرأ أبو حيوةَ «نُخَيِّل» بنونِ العظمة، و «أنها تسعى» مفعولٌ به أيضاً على هذه القراءةِ. وقرأ الحسنُ والثقفيُّ «عُصِيُّهم» بضم العين حيث وقع، وهو الأصلُ. وإنما كُسِرَت العينُ إتباعاً للصادِ وكُسِرت الصادُ إتباعاً للياء. والأصلُ عُصُوْوٌ بواوين فَأُعِلَّ كما ترى بقَلْب الواوين ياءَيْن استثقالاً لهما، فكُسِرَت الصادُ لتصِحَّ، وكُسِرَتِ العينُ إتباعاً. ونقل صاحبُ «اللوامح» أنَّ قراءةَ الحسنِ «عُصْيهُم» بضم العين وسكون الصاد وتخفيف الياء مع الرفع، وهو أيضاً جمع كالعامَّة، إلاَّ أنه على فُعْلٍ كحُمْرٍ، والأولُ على فُعُوْل كفُلُوس. والجملةُ من «يُخَيَّل» يُحتمل أَنْ تكونَ في محلِّ رفع خبراً ل «هي» على أن «إذا الفجائية» فَضْلَةٌ، وأن تكونَ في محلِّ نصبٍ على الحالِ، على أنَّ «إذا» الفجائية هي الخبر. والضميرُ في «إليه» الظاهرُ عَوْدُه على موسى. وقيل: يعود على فرعون، ويَدُلُّ للأولِ قولُه تعالى: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً موسى}. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(69)

وقوله عزَّ وجلَّ: (وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69) (إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ) ويقرأ (كَيْدُ سِحْرٍ)، ويجوز إنما صنعوا كيدُ سَاحِرٍ، ويجوز ُكَيْدَ ساحِرٍ بنصب الدال. فمن قرأ " أنما: نصب " أنَّمَا " على معنى تلقَفْ مَا صَنَعُوا لِأنَّ ما صنعوا كيد ساحِر، ولا أعلم أحداً قرأها هنا " أنَّمَا "، والقراءة بالكسر، وَهُوَ أبْلَغُ في المَعْنَى. فأمَّا رفع كيد فعلى معنى أن الذي صَنَعُوه كَيدُ سَاحِرٍ على خبر إنَّ وَ " مَا " اسم، ومن قرأ كيدَ ساحِرٍ جعل " ما " تمنع " إِنَّ " العَمَل، وتسَوِّغُ للفِعْلِ أن يكون بعدها، وينتصبُ " كيْد ساحر " بـ صَنعوا، كما تقول: إنما ضَرَبْتُ زيداً. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى). قالوا معناه حيث كان، وقيل معناه حيث كان الساحر يجبُ أن يُقَتَلَ. وكذلك مذهب أهل الفقه في السحرة. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) وأصلها خِوْفَة، ولكن الواو قلبت ياء لانكسار ما قبلها. (وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا). و" تَلْقَفُ " القراءة بالجزم جواب الأمر، ويجوز الرفع على معنى الحال. كأنه قال ألقها مُتَلَقِّفَةً، على حال مَتَوقِّعَةٍ، ولم يقرأ بها، ولا ينبغي أن يقرأ بما لم تتقدم به قراءة (1). وقوله تعالى: (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70) (سُجَّدًا) منصوب على الحال، وهي أيضاً حال مقدرة، لأنهم خروا وليسوا ساجدين، إنما خروا مقدرين السجود.

_ (1) قال السَّمين: قوله: {تَلْقَفْ}: قرأ العَامَّةُ بفتح اللام وتشديد القافِ وجزمِ الفاءِ على جواب الأمر. وقد تقدم أنَّ حَفْصاً يقرأ «تَلْقَفْ» بسكون اللامِ وتخفيفِ القاف. وقرأ ابن ذكوان هنا «تَلْقَفُ» بالرفع: إمَّا على الحالِ، وإمَّا على الاستئناف. وأَنَّثَ الفعلَ في «تَلْقَف» حَمْلاً على معنى «ما» لأنَّ معناها العصا، ولو ذُكِّر ذهاباً إلى لفظِها لجاز، ولم يُقرأ به. [وقال أبو البقاء: «يجوز أَنْ يكونَ فاعلُ» تَلْقَف «ضميرَ موسى» فعلى هذا يجوز أَنْ يكونَ «تلقفُ» في قراءة الرفع حالاً من «موسى». وفيه بُعْدٌ]. قوله: {كَيْدُ سَاحِرٍ} العامَّةُ على رَفْع «كَيْدُ» على أنه خبرُ «إنَّ» و «ما» موصولةٌ. و «صَنَعُوا» صلَتُها، والعائدُ محذوفٌ، والموصولُ هو الاسمُ، والتقدير: إنَّ الذي صنعوه كيدُ ساحرٍ. ويجوز أَنْ تكونَ «ما» مصدريةً فلا حاجةَ إلى العائد، والإِعرابُ بحالِه. والتقدير: إنَّ صُنْعَهم كيدُ ساحرٍ. وقرأ مجاهد وحميد وزيد بن على «كَيْدَ» بالنصب على أنه مفعولٌ به، و «ما» مزيدة مُهَيِّئَةٌ. وقرأ الأخَوان «كيدُ سِحْر» على أنَّ المعنى: كيدُ ذوي سِحْرٍ، أو جُعِلوا نفسَ السحر مبالغةً، أو تبيينٌ للكيد؛ لأنه يكون سِحْراً وغيرَ سحرٍ، كما تُمَيَّزُ سائرُ الأعدادِ بما يُفَسِّرها نحو «مئة درهمٍ، وألف دينار». ومثلُه: علمُ فقه، وعلمُ نحو. وقال أبو البقاء: «كيدُ ساحر» إضافةُ المصدر إلى الفاعلِ و «كيدُ سِحْر» إضافةُ الجنسِ إلى النوع «. والباقون» ساحر «. وأفرد/ ساحراً، وإنْ كان المرادُ به جماعةً. قال الزمخشري:» لأن القَصْدَ في هذا الكلامِ إلى معنى الجنسية، لا إلى معنى العددِ، فلو جمِع لخُيِّل أنَّ المقصودَ هو العددُ «. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(71)

وقوله: (قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71) (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ) معناه على جذوع النَخِل، ولكنه جاز أن تقع " في " هَهُنَا لأنه في الجذع على جهة الطول، والجذع مُشْتَمِل عليه فقد صار فيه. قال الشاعر: وهم صَلَبُوا العَبْدِيَّ في جِذْعِ نَخْلَةٍ. . . فلا عَطَسَتْ شَيْبانُ إِلا بأَجْدَعا قوله: (وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى). " أيُّ " رفعت لأنها وضعت موضع الاستفهام، ولا يعمل ما قبل " أيُّ " فيهَا لأن ما قبلها خبر وهي استفهام، فلو عمل فيها لجاز أن يعمل فيما بعد الألف في قولك: قد عَلِمْتُ أزَيد في الدار أم عمرو. * * * وقوله: (قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) موضع الذي خفض، المعنى لن نؤثرك على اللَّه، ويجوز أن يكون " الّذي " خَفْضاً على القسم، ويكون المعنى لن نؤثرك على ما جاءنا من البَيِّناتِ وَاللَّهِ، أي نحلف باللَّه. قوله: (فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ). أي: اصنع ما أنت صانع، قال أبو ذؤيب:

(73)

وعليهما مسرودتان قضاهما. . . داودُ أو صَنَع السَّوابغَ تبَّع * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (إِنَّمَا تَقْضِي هَذه الحَياةَ الدُّنْيَا). القراءةُ بالنصب - الحيَاةَ الدُّنيا - ويجوز إنما تقضي هذه الحياة الدنيا بالرفع، تأويله أن الذي تقضيه متاع الحياة الدنيا، ولا أعلم أحداً قرأها بالرفع. وقوله: (إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73) (وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ) موضع " ما " نصب، المعنى لتغفر لنا خطايانا وإكراهك إيانا على السحر. ويروى أن فرعون أكرههم على تعلم السحر. ومعنى: (وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأبْقَى). أي الله خير لنا منك وأبقى عذاباً لأنهم قالوا هذا لَهُ جَوابَ قوله: (وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى). * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77) (فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا). ويجوز يابِساً وَيَبْساً، بتسكين الباء، فمن قال يابساً جعله نعتاً للطريق. ومن قال يبَساً فإنه نعته بالمصدر المعنى طريقاً ذا يَبَسٍ، يقال يبس الشيء وَييْبِسُ يَبَساً، ويُبْساً وَيبْساً، ثلاث لغات في المصدر. وقوله: (لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى). ويجوز: لا تَخَفْ دَرَكاً وَلَا تَخْشى، فمن قرأ (لا تخاف) فالمعنى لست

(78)

تخاف دَرَكاً، ومن قال لا تخفْ دَرَكاً فهو نهي عن أن يخاف، ومعناه لا تخف أن يدركك فرعونُ ولا تخشىْ الغرقَ. * * * (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) ويقرأ فاتبَعَهُمْ فرعَونُ بجنوده، فمن قرأ (فَأَتْبَعَهُمْ) ففيه دليل أنه أتبَعَهُم ومعه الجنود، ومن قرأ (فاتَّبَعَهُمْ) فرعون بجنوده فمعناه ألْحَقَ جُنُودَهُ بِهِم. وجائز أن يكون معهم على ذا اللفظ وجائز ألا يكون إلَّا أنه قد كان معهم. (فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ). اليم: البحر، والمعنى فغشيهم من اليم ما غَرقَهُمْ. * * * وقوله: (كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81) ويقرأ (فيحُلَّ عليكم غضبي، وَمَن يَحْلُلْ عليه غضبي. فمن قرأ (فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ) فمعناه فيجب عليكم، ومن قرأ (فيحُلَّ عليكم) فمعناه فينزل عليكم. والقراءة: ومن يَحْلِلْ بكسر اللام أكثر. (فَقَد هَوَى) أي هَلكَ وصار إلى الهاوِيةِ، وهي قَعْرُ نار جَهنَّمَ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82) أي تاب من ذنبه، وآمن بربِّه وعمل بطاعتِه، ثم اهْتَدى، أي ثم أقام على إيمانه. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84) (أُولَاءِ) مبني على الكسر، (عَلَى أَثَرِي) من صلة (أُولَاءِ)، ويجوز أن يكون

(85)

خَبراً بَعْدَ خَبرٍ، كأنَّه قال: هم على أثري هؤلاء، والأجود أن يكون صلة. ورويت أولَايَ على أثري ولا وجه لها، لأن الياء لا تكون بعد الألف آخرةَ إلا للإضافة نحو هداي، ولا أعلم أحداً من القراء المشهورين قرأ بها وذكرها الفراء، ولا وجه لها. * * * قوله: (قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) أي ألقينَاهُمْ في فتنة ومِحْنَةٍ، واختَبرْنَاهُمْ. (وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ). قال بعض أهل التفسير: السَّامِرِيُّ عِلْجٌ مِن أهْلِ كِرْمَانَ، والأكثر في التفسير أنَّه كان عظيماً من عظماء بني إسرائيل من قبيلة تعرف بالسَّامِرَةِ. وهم إلى هذه الغاية في الشام يعرفون بالسامريين. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) (غَضْبَانَ أَسِفًا). أسِف: شَدِيد الحُزْنِ مع غَضَبِه. وقوله: (أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ). القراءة فيها بالكسر في حاء يَحِل، على معنَى أنه يجب عليكم، فالضم يجوز فيها على معنى أن ينزل عليكم غضب من ربكم. * * * (قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) يجوز الضم والكسر والفتح في الميم. بمُلْكِنَا، وبِمَلْكِنَا، وبِمِلْكِنَا. فأصل الملك السلطان والقدرة، والمِلْك ما حَوَتْهُ اليَدُ، والمَلْك المصدَرُ. تقول: ملكت الشيء أملِكه مَلْكاً. وقيل في بعض التفسير: ما أخلَفْنَا مَوْعِدَك بأنْ مَلَكْنَا الصوابَ. وجائز أن يكون ما أخلفنا موعدك بسلطانٍ كان لنا ولا قدرة، ثم أخبَروا سبب تأخرهم عنه فقالوا: (وَلَكِنَّا [حَمَلْنَا] أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ).

(88)

ويقرأ (حُمِّلْنَا أَوْزَارًا)، بتشديد الميم وكسرها، يعنون بالأوزار حُلِيًا كانوا أخذوها من آل فرعون حينَ قذفهم البحرُ فألْقَاهُمْ عَلَى سَاحِلهِ، فأخذوا الذهب والفضة، وسميت أوزاراً لأن معناهأ الأثام، وجائز أن يكون سُمِّيَتْ أوزَاراً يعنون بها أثْقَالًا، لأن الوِزْرَ في اللغة الحِمْلُ، وسُمِّيَ الإثمُ وِزْراً لأن صاحبه قد حُمِّلَ بها ثقلاً، قال اللَّه تعالى: (وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3). فقالوا: حملنا حُلِيًّا فقذفناها في النار، وكذلك فعل السامِريُّ، أي ألقى حلْيًّا كان معه (1). (فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88) واختلف في تفسير خوارِه، فقيل إنه كان يَخُورُ كما يَخورُ الثورُ من الحيوان، فإذا خار سجدوا له، وإذا عاد الخوارُ رَفَعُوا من السجود، وقال بعضهم: إنما خَارَ خَوْرَةً واحدةً، وَدَلِيله: (أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا). وقال مجاهد: خُوارُه حَفِيفُ الريح إذَا دَخَلَتْ جَوْفَهُ. وُيرْوى أن هارون عليه السلام مَر بالسَّامِرِيِّ وهو يصنع العجل فقال له: ما تصنع؟ قال أصنع ما لا ينفع ولا يَضُر، وقال: أدْعُ، فقال هارون اللَّهُمَّ أعْطِه ما يَسألُ كما يُحِبُّ. فسأل اللَّه عزَّ وجلَّ أن يجعل للعِجْل خُواراً، والذي قاله مجاهِد من أن خُوارَهُ حفيفُ الريح فيه، أسرع إلى القبول لأنه شيء ممكن. والتفسير الآخر وهو أنه خوار ممكن في محنة اللَّه عزَّ وجلَّ - أن امْتَحَنَ القَوْمَ بذلك، وليس في خُوارِ صُفْرٍ ما يوجب عبادته لأنهم قد رأوه معمولاً مصنوعاً، فعبادتهم إياه لو خارَ وتكلَّم كما يتكلَّم الآدمي لم تجب به عبادته. فقالوا: (هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ). قيل إن السَّامِرِيَّ نسيَ ما كان عليه من الإيمان، لأنه نافق لما عبر

_ (1) قال السَّمين: قوله: {بِمَلْكِنَا}: قرأ الأخَوان بضم الميم. ونافع وعاصم بفتحها، والباقون بكسرها: فقيل: لغاتٌ بمعنى واحدٍ كالنَّقْض والنِّقْضِ. ومعناها: القُدْرَةُ والتسلُّطُ. وفرَّق الفارسيُّ وغيرُه بينها فقال: «المضمومُ معناه: لم يكنْ [لنا] مُلْكٌ فَنُخْلِفَ موعدَك بسُلْطَانِه، وإنما فَعَلْناه بنظرٍ واجتهادٍ، فالمعنى على: أَنْ ليس لهم مُلْكٌ. كقول ذي الرمة: 3313 لا تُشْتكى سَقْطَةٌ منها وقد رَقَصَتْ. . . بها المفاوِزُ حتى ظهرُها حَدِبُ أي: لا يقع منها سَقْطَةٌ فتشتكى». وفتحُ الميمِ مصدرٌ مِنْ مَلَكَ أمرَه. والمعنى: ما فعلناه بأنَّا مَلَكْنا الصوابَ، بل غَلَبَتْنا أنفسُنا. وكسرُ الميمِ كَثُر فيما تَحُوْزه اليدُ وتحويه، ولكنه يُسْتعمل في الأمورِ التي يُبْرِمُها الإِنسانُ ومعناها كمعنى التي قبلها. والمصدرُ في هذين الوجهين مضافٌ لفاعلِه، والمفعولُ محذوفٌ أي: بملكِنا الصوابَ. قوله: {حُمِّلْنَآ} قرأ نافعٌ وابنُ كثير وابنُ عامر وحفصٌ بضم الحاء وكسر الميم مشددة. وأبو جعفرٍ كذلك إلاَّ أنه خَفَّف الميم، والباقون بفتحِهما خفيفةَ الميمِ. فالقراءةُ الأولى والثانية نَسَبوا فيهما الفعلَ إلى غيرِهم، وفي الثالثةِ نَسَبُوه إلى أنفسهم. و {أَوْزَاراً} مفعولٌ ثانٍ على غيرِ القراءة الثالثة. و {مِّن زِينَةِ} يجوز أَنْ يكونَ متعلقاً ب «حُمِّلْنا»، وأن يكونَ متعلِّقاً بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل «أَوْزار». اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(89)

البحر، المعنى فترك ما كان عليه من الإيمان، وقيل إن السَّامِريَّ قال لهم إن موسى عليه السلام أراد هذا العجل فنسِيَ وترك الطريق الذي يصل إليه. * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (89) كما قال: (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا). ويجوز أنْ لا يَرْجعَ بنصب بأن، والاختيارُ مع رأيت وعلمتَ وَظَنَنْتُ أن لا يفعلُ، في معنَى قد علمت أنه لايفعَلُ. * * * وقوله - جلَّ وعزَّ -: (قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) (يا ابنَ أمَّ) بفتح الميم، وإن شئت (يا ابن أمِّ) - بكسر الميم - وفتحت أم والموضع موضع جر لأن (ابن) و (أم) جُعلا اسماً واحداً فبنى ابن وأم على الفتح، ومن قال (يا ابن أمِّ) أضافه إلى نفسه. وفيها وجه ثالث " يا ابْنَ أُمِّي لَا تَأخُذْ " ولكنه لا يقرأ بها. ليست ثابتة الياء في المصحف. ومثل هذا من الشعر: يا ابنَ أُمّي ويا شُقَيِّقَ نَفْسِي. . . أَنتَ خَلَّيْتَني لأمْرٍ شَدِيد ولم يجئ هذا إلا في ابن أم، وابن عم، وذلك أنه يقال لمن ليس بأخ لأمٍّ. ولا بأخ ألبتَّةَ: يا ابن أم، وكذلك يقال للأجنبي: يا ابن عم، فلما أزيل عن بابه بني على الفتح، وإن كان قد يقول القائل لأخيه من أمه أيضاً يا ابن أمَّ، فإنما أدخل أخاه في جملة من يقول له يا ابن أمَّ. وقد قيل في هارون إنَّه لم يَكُنْ أخَا موسى لأمِّه - واللَّه أعلم -.

(95)

قوله: (قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95) معنى ما خطبك ما أمرك الذي تخاطب به. * * * (قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) يقال: قَدْ بَصُر الرجلَ يَبْصُرُ إذا كان عليما بالشيء، وأبْصَرَ يُبْصِرُ إذا نظر. والتأويل علمتُ بما لم يعلموا به، وكان رأى فرس جبريل عليه السلام فقبض فبضة من تراب حافر الفرَسِ، يقال: قبضت قبضةً، وقَبَصْتُ قَبْصَةً - بالصاد غير معجمةٍ - فالقبضة بجملة الكف، والقبصة بأطراف الأصَابع. ويقرأ بالصاد والضاد، وفيه وجه آخر لم يقرأ به فيما علمت، يجوز فقبصتُ قَبْصَةً وقُبْصَةً، ولكن لا يجوز القراءة بها - إن كان لم يقرأ بها - فالقبضة قبض الشيء مرةً واحدةً، والقُبْصَةُ مقْدَارُ مَا يقبصُ، ونظير هذا قوله عزَّ وجلَّ: (إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ)، و (غَرْفَةً بِيَدِه) (1). (فَنَبَذْتُهَا). ألْقَيْتُها في العِجْل لتَخُورَ. (وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي). أي زيَّنَتْ لي نَفْسِي، ومثله: (الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ). * * * (قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97) وأنَّ لك، ويجوز لا مَسَاس، ِ وأنَّ لك - بفتح الميم وكَسْرِ السين الآخرةِ على وزن دَرَاكِ وتَراكِ، والتأويل أن موسى عليه السلام حرَّم مُخَالَطةِ السامِرِيِّ، فالمعنى إنك في الدنيا لا تخالط جزاءً لفعلك.

_ (1) قال السَّمين: قوله: {بَصُرْتُ}: يقال: بَصُرَ بالشيءِ أي عَلِمه، وأبصرَه. أي: نظر إليه. كذا قاله الزجاج. وقال غيره: «بَصْرَ به وأبصره بمعنى علم». والعامَّةُ على ضم الصاد في الماضي ومضارعِه. وقرأ الأعمش وأبو السَّمَّال «بَصِرْتُ» بالكسر، يَبْصَروا بالفتح وهي لغة. وعمرُو بن عبيد بالبناء للمفعول في الفعلين أي: أُعْلِمْتُ بما لم يُعْلَموا به. وقرأ الأخَوان «تَبْصُروا» خطاباً لموسى وقومه أو تعظيماً له كقوله: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء} [الطلاق: 1] و [قوله]: 3314. . . . . . . حَرَّمْتُ النساءَ سواكُمُ. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . والباقون بالغَيْبة عن قومه. والعامَّةُ على فتحِ القافِ من «قَبْضَة» وهي المرَّةُ من قَبَضَ. قال الزمخشري: «وأمَّا القَبْضَةُ فالمَرَّةُ من القَبْض، وإطلاقُها على المقبوضِ مِنْ تسمية المفعولِ بالمصدر» قلت: والنحاة يقولون: إن المصدرَ الواقعَ كذلك لا يُؤَنَّثُ بالتاء تقول: هذه حُلَّةٌ نَسْجُ اليمن «ولا تقول: نَسْجَةُ اليمن. ويعترضون بهذه الآية، ثم يُجيبون بأنَّ الممنوعَ إما هو التاءُ الدالةُ على التحديدِ لا على مجرد التأنيث. وهذه التاءُ دالَّةٌ على مجردِ التأنيث، وكذلك قوله: {والأرض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ} [الزمر: 67]. وقرأ الحسن» قُبْضَة «بضم القاف وهي كالغُرْفَة والمُضْغة في معنى المَغْروف والمقبوض. ورُوي عنه» قُبْصَة «بالصاد المهملة. والقَبْضُ بالمعجمة بجميع الكفِّ، وبالمهملة بأطرافِ الأصابع. وله نظائر كالخَضْمِ وهو الأكلُ بجميع الفمِ، والقَضْمِ بمقدَّمِه. والقَصْمُ: قطعٌ بانفصالٍ، والفَصْمُ بالفاء باتصالٍ. وقد تقدم شيءٌ من ذلك في البقرة. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

فمن قرأ لا مَساسَ - بفتح السين الأخيرة فهو منصوب على البدء به، ومن قال: لا مَسَاسِ فهو مبني على الكَسْرِ، وهو نفي وقولك مَسَاسِ، أي مساس القوم تأمر بذلك، فإذا قلت لا مَسَاسِ فهو نفي ذلك، وبنيت مسَاسِ على الكسر وأصلها الفتح لمكان الألف، ولكن مساس ودَرَاكِ مؤنث، فاختير الكسر لالتقاء السَّاكنين لأنك تقول في المؤنث فعَلْتِ يا امرأةُ، وأعطيتك يا امرأة. (وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ). و (لن تُخْلِفُهُ)، فمن قرأ (لن تُخْلِفُهُ) فالمعنى يكافئك الله على ما فعلت في القيامة واللَّه لا يخلف الميعادَ، ومن قرأ (لَنْ تُخْلَفَهُ) فالمعنى إنك تبعث وتوافي يوم القيامَةِ، لا تقدر على غير ذلك، ولن تُخْلِفَه. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا). وظِلْتَ بفتح الظاء وكسرها، فمن فتح فالأصل فيها ظَلِلْت، ولكن اللامَ ْحُذِفَتْ لثقل التضعيف والكسر، وبقيت الظاء على فتحها. ومن قرأ ظِلْتَ - بالكسْرِ - حَوَّلَ كَسْرةَ اللام على الظاء، وقد يجوز في غير المكسور نحو أحَسْتُ تُرِيدُ أحْسَسْتُ، وقد حُكِيَتْ هَمْتُ بذلِكَ، تريد هَمَمْتُ ومعنى عاكف مُقيم، وعاكف منصوب خبر ظلت، ليس بِمنْصُوبٍ عَلى الحال. وقوله: (لَنُحَرِّقَنَّهُ). ويقرأ (لَنُحْرِقَنَّهُ). أي لَنَحْرِقَنه بالنارِ، فإذا شَدَّدَ فالمعنى نُحَرقُه مرة بعد مرةٍ. وقرئت لَنحرُقَنَّهُ، وتأويله لَنَبْرُدَنَّه بالمِبْرَدِ، يقال حَرَقْتُ أحْرُق وأحْرِقُ إذا بردت الشيء. ولم يقرأ لنحرِقَنَّهُ، ولو قرئتْ كانَتْ جائزة (1).

_ (1) قال السَّمين: قوله: {لاَ مِسَاسَ}: قرأ العامَّةُ بكسرِ الميمِ وفتحِ السين. وهو مصدرٌ ل فاعَل كالقِتال مِنْ قاتَل، فهو يقتضي المشاركةَ. وفي التفسير: لا تَمَسُّني ولا أَمَسُّك، وإنَّ مَنْ مَسَّه أصابَتْه الحمى. وقرأ الحسن وأبو حيوة وابن أبي عبلة وقعنب بفتح الميم وكسر السين. قلت: هكذا عَبَّر الشيخُ وتَبعَ فيه أبا البقاء. ومتى أَخَذْنا بظاهِر هذه العبارة لَزِم أن يُقرأ «مَسِيس» بقلب الألفِ ياءً لانكسارِ ما قبلها ولكن لم يُرْوَ ذلك، فينبغي أَنْ يكونوا أرادوا بالكسرِ الإِمالةَ. ويَدُلُّ على ما قُلْتُه ما قاله الزمخشريُّ: «وقُرِىء لا مَساسِ بوزن فَجار. ونحوُه قولهم في الظباء:» إن وَرَدَتِ الماءَ فلا عَباب وإن فَقَدَتْه فلا أَباب «وهي أعلامٌ للمَسَّة والعَبَّة والأَبَّة وهي المرَّة من الأَبِّ وهو الطلَبُ». فهذا تصريحٌ منه ببقاء الألفِ على حالِها. ويدلُّ أيضاً قولُ صاحبِ «اللوامح»: «هو على صورة نَزَالِ ونَظارِ من أسماء الأفعال بمعنى انْزِلْ وانْظُرْ» فهذا أيضاً تصريحٌ بإقرار الألِف على حالها. ثم قال صاحب «اللوامح»: «فهذه الأسماء التي بهذه الصيغةِ معارفُ، ولا تدخُلُ عليها» لا «النافيةُ التي تَنْصِبُ النكراتِ، نحو» لا مالَ لك «لكنه فيه نَفْيُ الفعلِ فتقديرُه: لا يكون منك مساسٌ، ومعناه النهيُ أي: لا تَمَسَّني». وقال ابنُ عطية: «لا مَساسِ هو معدولٌ عن المصدرِ كفَجارِ ونحوِه. وشبَّهه أبو عبيدة وغيرُه بَنزالِ ودَراكِ ونحوه، والشَّبَهُ صحيحٌ من حيث هُنَّ معدولاتٌ. وفارقه في أنَّ هذه عُدِلَتْ عن الأمر، ومَساس وفَجار عُدلت عن المصدر. ومِن هذا قولُ الشاعر: 3315 تميمٌ كرَهْطِ السَّامِرِيِّ وقَوْلِه. . . ألا لا يريدُ السَّامِرِيُّ مَساسِ فكلامُ الزمخشريِّ وابنِ عطيةَ يعطي أنَّ» مَساس «على هذه القراءةِ معدولٌ عن المصدرِ كفجَار عن الفَجَرة، وكلامُ صاحبِ اللوامحِ يقتضي أنها معدولةٌ عن فعل أمرٍ، إلا أَنْ يكونَ مرادُه أنها مَعْدُوْلَةٌ، كما أنَّ اسمَ الفعلِ معدولٌ، كما تَقَدَّم توجيهُ ابنِ عطية لكلام أبي عبيدة. قوله: {لَّن تُخْلَفَهُ} قرأ ابنُ كثيرٍ وأبو عمرٍو بكسرِ اللامِ على البناء للفاعل. والباقون بفتحِها على البناءِ للمفعولِ. وقرأ أبو نهيك فيما حكاه عنه ابن خالويه بفتح التاء من فوقُ، وضمِّ اللام، وحكى عنه صاحب» اللوامح «كذلك، إلاَّ أن بالياء مِنْ تحتُ. وابنُ مسعودٍ والحسن بضمِّ نونِ العظمة وكسرِ اللام. فأمَّا القراءةُ الأولى فمعناها: لن تجدَه مُخلَّفاً كقولك: أَحْمَدْتُه وأَجْبَنْتُه/ أي: وَجَدْتُه مَحْمُوداً وجَباناً. وقيل: المعنى: سيصلُ إليك، ولن تستطيعَ الرَّوَغانَ ولا الحَيْدَة عنه. قال الزمخشري:» وهذا مِنْ أَخْلَفْتُ الوعدَ إذا وجدتَه مُخْلَفاً. قال الأعشى: 3316 أثوى وقَصَّر لَيْلَةً لِيُزَوَّدا. . . فمضى وأَخْلَفَ مِنْ قُتَيْلَةَ مَوْعِدا ومعنى الثانيةِ: لن يُخْلِفَ اللهُ موعدَه الذي وَعَدك. وأمَّا قراءتا أبي نهيك فهما مِنْ خَلَفَه يَخْلُفُه إذا جاء بعدَه أي: الموعدَ الذي لك لا يَدْفع قولَك الذي تقولُه. وهي قراءةٌ مُشْكِلَةٌ. قال أبو حاتم: «لا نعرف لقراءةِ أبي نهيك مذهباً» وأمَّا قراءةُ ابنِ مسعود فأسند الفعلَ فيها إلى الله تعالى. والمفعولُ الأولُ محذوفٌ أي: لن يُخْلِفَكه. قوله: {ظَلْتَ} العامَّةُ على فتح الظاء، وبعدها لامٌ ساكنة. وابنُ مسعودٍ وقتادةُ والأعمشُ بخلافٍ عنه وأبو حيوة وابن أبي عبلة ويحيى بن يعمر [على] كسرِ الظاء. ورُوي عن ابن يعمر ضمُّها أيضاً. وأُبَيٌّ والأعمش في الرواية الأخرى «ظَلِلْتَ» بلامَيْنِ أولاهما مكسورةٌ «. فأمَّا قراءةُ العامَّة ففيها: حَذْفُ أحدِ المِثْلين، وإبقاءُ الظاءِ على حالِها مِنْ حركتها، وإنما حُذف تخفيفاً. وعدَّه سيبويه في الشاذ. يعني شذوذَ قياسٍ لا شذوذَ استعمالٍ، وعَدَّ معه ألفاظاً أُخَرَ نحو: مَسْتُ وأَحَسْتُ كقولِه: 3317. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . أَحَسْنَ به فهنَّ إليه شُوْسُ وعَدَّ ابنُ الأنباري» هَمْتُ «في» هَمَمْتُ «ولا يكونُ هذا الحذفُ إلاَّ إذا سُكِّنَتْ لامُ الفعلِ. وذكر بعضُ المتأخرين أن هذا الحذفَ منقاسٌ في كلِّ مضاعفِ العينِ واللامِ سَكَنَتْ لامُه، وذلك في لغة سُلَيْم. والذي أقولُه: إنه متى التقى التضعيفُ المذكورُ والكسرُ نحو: ظَلِلْتُ ومَسِسْتُ انقاس الحذفِ. وهل يَجْري الضمُّ مجرى الكسرِ في ذلك؟ فالظاهرُ أنه يجري. بل بطريق الأَوْلى؛ لأن الضمَّ أثقلُ من الكسر نحو: غُضْنَ يا نسوةُ أي: أغْضُضْنَ أبصارَكُنَّ، ذكره جمال الدين ابن مالك. وأمَّا الفتحُ فالحذفُ فيه ضعيفٌ نحو:» قَرْن يا نسوةُ في المنزل «ومنه في أحدِ توجيهَيْ قراءةِ {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب: 33] كا سيأتي إنْ شاء الله تعالى. وأمَّا الكسرُ فوجهُه أنه نَقَل كسرةَ اللامِ إلى الفاءِ بعد سَلْبِها حركتَها لتدُلَّ عليها. وأمَّا الضمُّ فيحتمل أن يكونَ جاء فيه لغةٌ على فَعَل يفعُل بفتحِ العينِ في الماضي وضمِّها في المضارع، ثم نُقِلَتْ، كما تقدّم ذلك في الكسر. وأمَّا ظَلِلْت بلامين فهذه هي الأصلُ، وهي مَنْبَهَةٌ على غيرِها. و» عاكفاً «خبرُ» ظلَّ «. قوله: {لَّنُحَرِّقَنَّهُ} جوابُ قسمٍ محذوفٍ أي: واللهِ لَنُحَرِّقَنَّهُ. والعامَّة على ضمِّ النونِ وكسرِ الراءِ مشددةً مِنْ حَرَّقه يُحرِّقُه بالشديد. وفيها تأويلان. أظهرُهما: أنها مِنْ حَرَّقه بالنار. والثاني: أنه مِنْ حَرَق نابُ البعير، إذا وقع عَضُّ ببعضِ أنيابِه على بعضٍ. والصوتُ المسموعُ منه يُقال له الصَّريفُ. والمعنى: لنَبْرُدَنَّه بالمِبْرد بَرْداً نمحقُه به كما يفعل البعيرُ بأنيابِه بعضها على بعض. وقرأ الحسن وقتادة وأبو جعفر» لَنُحْرِقَنَّه «بضم النون وسكونِ الحاءِ وكسرِ الراء، مِنْ أحرق رباعياً. وقرأ ابن عباس وحميد وعيسى وأبو جعفر» لَنَحْرُقَنَّه «كذلك إلاَّ أنه ضمَّ الراء. فيجوز أن يكونَ أَحْرق وحرَّق بمعنى كأَنْزَل ونَزَّل. وأمَّا القراءةُ الأخيرة فبمعنى لنَبْرُدَنَّه بالمبرد. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(101)

وقوله عزَّ وجلَّ َ: (ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا). اليم: البَحْر، والنسف التذرِيَةُ. * * * وقوله: (خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا (101) المعنى ساء الوِزْرُ لهم يوم القيامَةِ، و (حِمْلًا) منصوب على التمييز. * * * (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) قد جرى تفسيره فيما مَضى. وأكثر ما يذهب إليه أهل اللغة أن الصور جمع صورة. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا). قيل عطاشا وقيل عُمْياً، يخرجون من قبورهم بُصرَاءَ كما خلقوا أول مَرةٍ ويعمَوْنَ في المَحْشرِ، وإنما قيل زُرْقاً لأن السَواد يزرق إذا ذهبت نواظرُهُمْ. ومن قال عطاشا فجيِّدٌ أيْضاً، لأنهم من شدةِ العَطشِ يتغير سواد أعْيُنهم حتى يزرق. * * * وقوله - عزَّ وجلَّ -: (يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103) أصل الخفوت في اللغة السكون، والتخَافت ههنا السِّرارُ، فالمعنى أنهم يَتَسَارُّونَ بَيْنَهُمْ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104) (أمْثَلُهُمْ طَرِيقةً). أي أعلمهمْ عند نفسه بما يقول (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا)، معناه ما لبثتم إلا يوماً * * * وقوله: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) النسف التذْرِيةُ تصير الجبال كالهباء المنثور، تذرَّى تَذْرِيَةً.

(106)

(فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) القاع من الأرض المكان الذي يعلوه الماء، ويُقَالُ المكانُ الطيِب والصَّفْصَفُ، المستوي من الأرض. * * * (لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107) العِوَج في العَصَا والجَبَلِ ألا يكون مستوياً، والأمْتُ أن يغلظ مكان ويدقَّ مَكانٌ. * * * قوله: (يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108) المعنى لا عِوَجَ لَهم عن دعَائِه، لا يقدرون أنْ لاَ يتَبِعُوا وقوله - عزَّ وجلَّ -:. (فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا). الهَمْسُ في اللغة الشيءُ الخَفِيُّ، والهَمْسُ - ههنا - في التفسير صوت وطء الأقدام. * * * وقوله: (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111) مَعنى عَنَتْ في اللغة خَضَعَتْ، يقال عنا يعنو إذا خضع، ومنه قيلَ أُخِذَتِ البِلاَدُ عنْوة، إذَا أخِذَتْ غَلَبة، وأُخِذَتْ بخضوع من أهلها. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110). ما بين أيديهم من أمر القيامة، وجميع ما يكون، وما خلفهم ما قد وقع من أعمالِهِمْ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112) الهضْمُ: النَّقْصُ، يقال فلان يهضمني حَقي أي ينْقُصُنِي، كذلك هذا شيء يهْضِمُ الطعام، أي ينقص ثِقْلَتَه.

(115)

وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115) (فنَسِيَ) ههنا معناه فترك، لأن النَّاسِيَ لا يُؤاخَذ بِنِسْيَانِهِ، وجاء في الحديث " لو وزِنَ حلم بني آدم مذْ كان آدم إلى أنْ تقُومَ السَّاعة ما وَفَى حِلْم جميع من وَلَدَهُ وَحَزْمهمْ بحلم آدَمَ وَحَزْمِه - صلى الله عليه وسلم -. * * * وقال عزَّ وجلَّ: (وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا). * * * وقوله - سبحانه -: (وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119) يجوز (وَإِنَّكَ) بالكسر، (وَأَنَّكَ) بالفتح، فإذَا كسرت فعلى الاستئْنَافِ وعطف جملة كلام على جملة، وإذا فتحت فعلى معنى إن لك " أنْ لا " تظمأ فيها، فَتَنْسقُ بأنَكَ عَلَى (أَلَّا تَجُوعَ). ويكون أنك عَلَى هَذا القَوْل في موضع نصب. ويجوز أن يكون في موضع رفع، والعطف على اسْمِ إِن وأنَّ، لأن معنى إن زيداً قائم زيد قائم فالمعنى ذلك إنك لا تظمأ فيها. ومعنى (لَا تَظْمَأُ) لَا تَعْطَشُ، يقال ظمئ الرجل يظمأ ظمأً فهو ظمآن بمعنى عطشان. ومعنى (لا تَضْحَى) ولا تصيبكَ الشمسُ، ولا تبرُز يقال ضحى الرجل يَضْحَى إذا بَرزَ إلى الشمس. قال الشَاعِر: رَأَتْ رَجُلاً أَمَّا إِذا الشمس عارضَتْ. . . فيَضْحى وأَمَّا بالعَشيِّ فَيَخْصَرُ ومعنى - يخصر يُصِيبُه الخَصَرُ وهو شدة البرْد، وبلوغه الأطراف. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) الضَّنْكُ: أصْله في اللغةِ الضيق والشدةَ، ومعناه - واللَّه أعلم - أن هذه المعيشة الضنك فِي نَارِجَهَنَّم. وأكثر ما جاء في التفسير أنَّه عذابُ القبر.

(126)

وقوله: (وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى). مثل ونحشر المجرمين يومئذ زرقاً، وقيل أعْمَى عن حجتِه، وتأويله أنه لا حجة له يهتدي إليها، لا أن له حجةً، وأنه يعمى عنها. ما للناس على اللَّه حجة بعد الرسلِ، وللًه الحجة البَالِغةُ وقد بَشَّرَ وأنْذَرَ، وَوَعَدَ وأوْعَدَ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا). أي لعل الوعيد يُحْدِث لهم تَذَكُرَ العَذَابِ، فيزجرهم عن المعاصي وقيل: (أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا) أي: شَرَفاً. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ). أي من قبل أن يبَيَّنَ لَكَ بَيَانُه، ويقرأ من قبل أنْ نَقْضِي إليك وحْيَهُ بالنون، ويجوز مِنْ قَبْل أنْ يَقْضِيَ إليك وَحْيَهُ، أي من قبل أن يقضيَ اللَّه إليكَ وَحْيَهُ، ولم تُقْرأ " تَقْضِي " وقرئت يُقْضَى ونَقْضِي - بالياء والنون. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) أي كذلك تترك في النار كما تركت آيَاتِنَا. * * * وقوله: (أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (128) قُرِئَتْ بالنُونِْ والياء، فمن قرأ بالنُّونِ فمعناه أفلم نبين لهم بياناً يهتدون به، ومن قرأ أفلم يَهْدِ - بالياء - فالمعنى أفلم يُبَيَّنْ لَهُم الأمْرُ بإهلاك من قبلهم من القرون. و" كم " في موضع نصب بـ (أهلكنا). وكانت قريش تَتَجِر وترى مساكن عادٍ وثمودَ وبها علامات الِإهلاك، فذلك قوله: (يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ) ويجوز (في مَسْكَنِهِمْ) أي في مَوضِع سُكْنَاهُمْ ولم يقرأ بها. ويقرأ: (يُمَشَّوْنَ في مَسَاكِنهم) بالتشديد.

(129)

وقوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى). أي لذوي العقول والمَعْرِفةِ، يقال: فلان ذو نُهْيةٍ إذا كان له عَقْل ينتهي به عن المقابح. * * * وقوله: (وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) أي لكان القتلُ الذي نالهم لَازِماً أبداً، ولكان العذاب لازماً لهم. (وَأَجَلٌ مُسَمًّى). معطوف على (كَلِمَةٌ) المعنى لولا كلمة سَبَقَتْ وأجل مسمى لكان لزاماً، يُعنَى بالأجل المسمى أن الله وعَدَهُمُ العذابَ يومَ القيامَةِ. وذلك قوله: (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46). * * * وقوله: (فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130) (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا). وذلك وقتُ الغداة والعَشِى. (وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ). الآناء الساعات، وواحد الآناء إنْيٌ - وقد بيَّنَّاه فيما مَضَى. (فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ). وأطراف النهار الظهرُ والعَصْرِ. (لَعَلَّكَ تَرْضَى)، ويقرأ تُرْضَى. * * * وقوله تعالى: (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131) أي رِجالاً مِنْهُم. (زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا). وَ (زَهَرَة) جميعاً - بفتح الهاء وتسكينها - و (زَهْرَةَ) منصوب بمعنى مَتعْنَا لأن معناه جعلنا لهم الحياة الدنيا زهرة.

(133)

(لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ). أي لنجعل ذلك فتنة لهم * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (133) معناه هلَّا يأتينا بآية أمن رَبِّه، وقد أتتهم البينات والآيات ولكنَهُم طلبوا أن يقترحوا هم ما يؤيدون من الآيات. * * * وقوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (134) (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى). يجوز فيها يُذَل وُيخْزَى. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (135) (فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ) " مَن " في موضع رفع، ولا يجوز أن يعمل فيها (فَسَتَعْلَمُونَ)، لأن معناه معنى التسوية، المعنى فستعلمون أصحاب الصراط السوي نَحْنُ أم هُمْ، فلم يعْمَلْ (فَسَتَعْلَمُونَ) لأن لفظ الكلام لفظه لفظ الاستفهام. ومعنى (أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ) أصْحَابُ الطريق المستقيم، ويَجُوزُ من أصحاب الصراط السُّوَي ومن اهتدى. (وَمَنِ اهْتَدَى). أي فسيعلمون من أصحاب الطَريقة السوءَى ومن المهتدي.

سورة الأنبياء

سورة الأنبياء بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله عزَّ وجلَّ: (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) معناه اقتربت القيامة، ومثله: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ). والمعنى - واللَّه أعلم - اقترب للناس وقت حسابهم. * * * وقوله: (مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) الخفضً القراءة، ويجوز في غَير القراءة (مُحْدَثاً ومُحْدَثٌ). النصب على الحال، والرفع بإضمار هو. * * * (لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3) (لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ) معطوفٌ على معنى (إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ). معناه استمعوه لاعبين (لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ) ويجوز أن يكون (لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ) منصوباً بقوله (يلعبون). (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا). في (أَسَرُّوا) قولان أجْوَدهمَا أن يكون (الَّذِينَ ظَلَمُوا) في موضع رفع بدلًا من الواو من (أَسَرُّوا) ومُبَيِّناً عن معنى الواو. والمعنى إلا استمعوه وهم يلعمون. (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى)، ثم بين من هم هؤلاء فكان بدلاً من الواو. ويجوز أن يكون

(4)

رفعاَ على الذم على معنى هم الذين ظلموا. ويجوز أن يكون في موضع نصبٍ على معنى أعني الذين ظلموا. وقوله: (هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ). بينَ ما أسروه، والمعنى قالوا سِرًّا هل هذا إلَا بشرٌ مثلكم، يعنون النبي - صلى الله عليه وسلم - أعلمهم الله عزَّ وجلَّ أنه يعلم القول في السماء والأرض، وأطلَعَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى قِيلِهِمْ، وسَرِّهِمْ. * * * (قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4) وقرئت (قَلْ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ)، و (قَالَ رَبِّي) * * * وقوله: (بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5) أي قالوا: الذي يأتي به النبي - صلى الله عليه وسلم - أضْغَاث أحْلام. وجاء في التفسير أهاوِيل أحْلام، والأضغاثُ في اللغة الأشياء المختلطة. (بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ). أي أخذوا ينقضون أقوالهم بعضها ببعض، فيقولون مرة: هذه أحلام. ومرة هذا شعر ومرة مفترى. (فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ). فاقترحوا الآيات التي لا يقع معها إمْهَالٌ إذَا كُذِّبَ بهَا، فقال اللَّه عزَّ وجلَّ: (مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6) أي ما آمن أهل قرية أتتهم هذه الآيات حتى أوجب الله استئصالهم وإهلاكهم بالعذاب، واللَّه جعل مَوْعِدَ هذه الأمةِ القيامةَ. فقال:

(7)

(بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46). واللَّهُ قد أعطاهم الآيات التي تبينُوا بها نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - من القرآن الذي دُعُوا أنْ يأتوا بسورةٍ مثله، ومن انشقاق القمر، ومن قوله: (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) فظهر أهل الِإسلام حتى صاروا أكثر من كل فرقةٍ فليس أهلُ مِلَّةٍ واحدة لهم كثرة أهْلِ الِإسْلَامِ، وأظهره اللَّه أيضاً بالحجة القاطعة. * * * وقوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7) أي سَلُوا كل من يقر برسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - من أهل التوراة والإِنجيل. (إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ). أي إن كنتم لَمْ تَعْلَمُوا أنَّ الرسُلَ بَشَر. وهذا السؤال واللَّه أعلم لمن كان مؤمناً من أهل هذه الكتب، لأن القبول يكون من أهل الصدق والثقة. * * * وقوله: (وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8) (جَسَداً) هو واحد ينبئ عن جماعة، أي وما جَعَلْنَاهم ذوي أجَسَادٍ إلا ليأكُلُوا الطعَامَ، وذلك أنهم قَالُوا: (مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ) فأُعْلِمُوا أن الرسُلَ أجمعين يأكلون الطعام، وأنهُم يَمُوتُونَ وهوَ قوله تعالى: (وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ). * * * وقوله: (لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10) أي فيه تذْكِرة لكم بما تلقونه من رحمة أو عذاب، كما قال عزَّ وجلَّ: (كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ) وقد قيل (فِيه ذِكُرُكمْ) فيه شَرَفُكُمْ. * * * وقوله: (وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11)

(12)

" كم " في موضع نصب بـ (قصَمْنَا) ومعنى قصمنا أهلكنا وأذهبنا، يقال قصم اللَّه عُمْرَ الكافِرِ أي أذْهبَهُ * * * وقوله: (فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12) أي يهربون من العذاب. * * * (لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13) جاء في التفسير أنه قيل لهم ذلك على جهة الاستهزاء بهم. وقيل لعلكم تسألون شيئاً مما أُتْرفتُم فيه. ويجوز لعلكم تسألون فتجيبون عما تشاهدون إذا رأيتم ما نزل بمساكنكم وَمَا أترفتم فيه. * * * وقوله: (قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) " ويل " كلمة تقال لكل من وقع في هَلَكَةٍ، وكذلك يقولها كل من وقع في هلكة. * * * وقوله: (فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (15) أي ما زالت الكلمةُ التي هي قولُهم: (يَا ويلَنَا إنا كُنا ظَالِمِينَ) دعواهم. يجوز أن تكون (تلك) في موضع رفع اسم زَالتْ و (دعواهم) في موضع نصب خبر زالت وجائز أن يكون (دعواهم) الاسم في موضع رفع، و (تلك) في موضع نصب على الخبر لا اختلاف بين النحويين في الوجْهَيْن. * * * وقوله: (لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17) اللَّهْو في لُغَةِ حَضْرمَوْتَ الولد، وقيل اللهو المرأةُ، وتأويلُه أن الوَلَدَ لَهْوُ الدنْيَا، فلو أردنا أن نتخِذَ ذَا لَهْوٍ يُلْهَى بِهِ. ومعنى (لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا) أي لاصطفيناه مما نخلق. (إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ).

(18)

معناه ما كنا فاعلين. وكذلك جاء في التفسير. ويجوز أن يكون للشرط أي: إنْ كُنا مِمنْ يَفْعَلُ ذلك ولسنا ممن يفعله. والقول الأول قول المفسرين، والقول الثاني قول النحويين، وهم أجمعون يقولون القولَ الأول ويستجيدُونه. لأن (إنْ) تكون في معنى النفي، إلا أن أكثر ما تأتي مع اللام تقول: إن كنت لصالحاً، معناه مَا كنْتَ إلا صَالِحاً. * * * وقوله: (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) يعنى بالحق القرآن على باطلهم " فَيَدْمَغُهُ " فيذهبُه ذهاب الصغار والإذلال. (فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ). أي ذاهب. (وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ). أي مِمَّا تَكْذِبُونَ في وصفكم في قولكم إنَّ للَّهِ وَلَداً. * * * وقوله: (وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) أي هؤلاء الذين ذكرتم أنهم أوْلَادُ اللَّه - عزَّ وجلَّ - عبادُ اللَّهِ، وهم الملائكة. وقوله: (لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ). أي لا يَعْيَوْنَ، يُقَال حَسِرَ واسْتَحْسَرَ إذَا تَعِب وأعْيَا، فالملائكة لا يَعْيَوْنَ. * * * (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20) أي لا يشْغَلُهم عن التسبيح رِسَالة، ومجرى التسبيح منهم كمجرى

(21)

النفس منا، لا يشغلنا عن النفسِ شيء، فكذلك تسبيحُهمْ دائم. * * * وقوله: (أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) و (يَنْشِرُونَ)، فمن قرأ (يُنْشِرُونَ) فمعناه أم اتخذوا آلهة يُحْيُونَ الموتَى. يقال: أنْشَر اللَّهُ الموْتَى ونَشَرُوا هُمْ، ومن قرأ يَنْشُرون بفتح الياء، فمعناه: أم اتخذوا آلهة لا يَمُوتُونَ يَحيَوْنَ أبَداً. * * * وقوله: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) (فِيهِمَا) في السماء والأرْضِ. وَ " إِلَّا " في معنى " غير "، المعنى لو كان فيهما آلهة غير الله لفسدتَا. ف " إِلَّا " صفة في معنى غير، فلذلك ارتفع ما بعدها على لفظ الذي قبلها قال الشاعر: وكلُّ أخٍ مُفارِقُه أَخُوه. . . لَعَمْرُ أَبِيكَ إلاَّ الفَرْقدانِ المعنى وكل أخ غير الفرقدين مفارقه أخوه. * * * وقوله: (فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ). (سبحان اللَّهِ) معناه تنزيه الله من السوء وقد فسرنا ذلك. وهذا تفسير عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. * * * وقوله: (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23) أي لَا يُسْأَلُ في القيامة عن حكمه في عباده، وَيَسأل عباده عن أعمالهم سؤالُ مُوَبِّخٍ لمن يستحق التوبيخ، ومجَازِياً بالمغفرة لمن استحق ذلك، لأن اللَّه عزَّ وجلَّ قد علم أعمَال العِبَادِ، ولكن يسألهم إيجاباً للحجة عليهم، وهو

(24)

قوله: (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24). أي سؤال الحجة التي ذكرنا، فأما قوله: (فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39). فهذا معناه لا يسأل عن ذنبه ليستعلم منه، لأن الله قد علم أعمالهم قبل وقوعها وحين وقوعها وبعد وقوعها. (عَالِم الغَيبِ والشهادة). * * * وقوله: (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24) قد أبَانَ اللَّه الحجةَ عَلَيهم في تثبيت توحيده وأن آلهتهم لا تُغْني عنهم شيئاً، ثم قيل لهم: هاتوا برهانكم بأنَّ رَسُولاً من الرسل أنبأ أمَّتَة بأنَّ لهم إلهاً غير اللَّه، فهلْ في ذكرِ مَنْ معيَ وذِكْر مَنْ قبلي إلا توحيدُ الله عزَّ وجلَّ، وقد قُرِئَتْ: هذا ذكرٌ مِنْ مَعِي وذكرٌ مِنْ قَبْلِي، ووجهها جَيدٌ. ومَعْنَاه: هذا ذكرٌ مما أنزل عَلَى مِمَّا هو مَعِي، وذكرٌ مِنْ قبلي. قال أبو إسحاق: يريد بقوله " مَن مَعِي " أي من الذي عندي، أو من الذي قبلي. ثم بين فقال: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) و (نُوحِي إِلَيْهِ) ويجوز يُوحِي إليه أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ). * * * وقوله: (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) يعنى الملائكة وعيسى ابنَ مَرْيَمَ عليه السلام. والذي في التفسير أنهم الملائكةُ، ولو قرئت بل عباداً مكْرَمِينَ لم يجز لمخالفة المصحف، وهي في العربية جائزة ويكون المعنى: بل اتَخَذَ عِباداً مُكْرَمِين، والرفع أجْود وأحْسَنُ قوله: (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30)

(31)

قال (كانتا) لأن السَّمَاوَات يعبر عنها بلفظ الواحدِ، وأن السَّمَاوَات كانتا سماء واحدة، وكذلك الأرضون كانت أرضاً واحدة، فالمعنى أن السَّمَاوَات كانتا سماء واحدة مُرْتَتَقَةً ليس فيها ماء، ففتق اللَّه السماء فجعلها سَبْعاً وجعل الأرْضَ سَبْعَ أرضين. وجاء في التفسير أن السًماء فتقت بالمطر، والأرضَ بالنبَاتِ، وَيَدلُّ على أنه يراد بفتقها كون المطر فيهَا قوله - عزَّ وجلَّ -: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ). وقيل (رَتْقاً) ولم يَقُلْ رتقَيْن، لأن الرتق مَصْدَر. المعنى كانتا ذَوَاتِيْ رَتْقٍ فَجُعِلَتَا ذواتَيْ فتْقٍ. ودَلَّهم بهذا عَلَى توحِيده - جلَّ وعزَّ - ثم بَكَّتَهُمْ فقال: (أفَلَا يؤمِنُونَ). * * * وقول: (وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) المعنى كراهة أن تميد بهم، وقال قوم: معناه ألا تميدَ بهم. والمعنى كذلك، إلا أن " لا " لا تُضْمَرُ والاسم المضاف يحذف، وكراهة أن تميدَ بِهِمْ يؤدي عن معنى ألَّا تميد بهم. ومعنى تميد في اللغة تدور، ويقال للذي يُدَارُ بِهِ إذا رَكِبَ البحرَ مَائِد. ومَيْدَى والرواسي تعني الجبال الثوابت. (وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً). فِجَاج: جَمع فَجٍّ، وهوكل منخرق بين جبلين، وسُبُلاً: طُرَقاً. * * * (وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32) حَفِظَهُ اللَّه من الوُقُوع على الأرْض (إلا بإذْنِهِ) وقيل محفوظاً، أيْ

(33)

محفوظاً بالكواكب كما قال عزَّ وجلَّ: (إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7). (وَهُمْ عَنْ آيَاتنَا مُعْرِضُونَ). معناه وهم عنْ شَمْسِها وقَمرها ونُجُومها، وقد قُرئت عن آيتها، وتأويله أن الآية فيها في نفسها أعظم آيةً لأنها مُمْسَكة بقدرته عزَّ وجلَّ، وقد يقال للذي ينتظم علامات كثيرةً آية، يراد به أنه بجملته دليل على توحيد اللَّه عزَّ وجلَّ. * * * وقوله: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33) (كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ). قيل يسبحون كما يقال لما يعقل، لأن هذه الأشياء وصفت بالفعل كما يوصف مَنْ يعقل، كما قالت العرب - في رواية جميع النحويين - أكلوني البراغيث لما وصفت بالأكل قيل أكلوني. قال الشاعر: شربت بها والدِّيكُ يَدْعُو صَباحَهُ. . . إِذا ما بَنُو نَعْشٍ دَنَوْا فتَصَوَّبُوا * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) (أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ). يُقْرأ مُتَّ بضم الميم، ومِتَّ بكسرها، وأكثر القُراء بِالضم. وقد فسرنا ما في هذا الباب.

(36)

والفاء دخلت عَلَى " إنْ " جوابَ الجزاء، كما تدخل في قولك: إنْ زُرْتني فأنا أخوك، ودخلت الفَاءُ على " هم " لأنها جواب (إنْ). * * * وقوله: (وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36) (أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ) (هذا) على إضمار الحكاية، المعنى وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا يقولون أهذا الذي يَذْكُرُ آلهتكم. والمعنى أهذا الذي يعيب آلهتكم يقال فلان يَذْكُرُ الناس أي يغْتَابُهُمْ ويَذْكُرُهُمْ بالعُيوبِ، ويقال فلان يذكر اللَّه، أي يصفه بالعظمة، وُيثْنِي عليه وُيوَحِّدُه. وإنما يحذف مع الذكر ما عُقِلَ معناه. قال الشاعر: لا تذكري فرسي وما أطعمته. . . فيكون لَوْنُكِ مثل لون الأجْرَبِ المعنى لا تذكري فرسي وإحساني إليه فتعيبيني بإيثاري إيَّاهُ عليك. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37) قال أهل اللغة: المعنى خُلِقَتِ العَجَلَةُ مِنَ الإنْسانِ، وحقيقته يدل عليها، (وَكَانَ الإنْسَانُ عَجُولًا)، وإنما خوطبت العرب بما تعقل، والعرب تقول للذي يكثر الشيء خُلِقْتَ منه، كما تقول: أنْتَ مِنْ لَعِبٍ، وخلقت من لعبٍ، نريد المبالغة بوصفه باللعب. * * * وقوله: (لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) أي حينَ لا يَدْفَعُونَ عن وُجُوهِهمُ النارَ، وجَوَابُ (لو) محذوف، المعنى

(40)

لعلموا صِدْقَ الوعْدِ، لأنهم قالوا (مَتَى هَذَا الوَعْدُ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ). وجعل الله عزَّ وجلَّ الساعة مَوْعِدَهم ثم قال: (بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (40) بغتة فُجَاءَةً وهم غافلون عنها، فتبهتم فتحيرهم. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) معناه - واللَّه أعلم - من يحفظكم من بأس الرحمن، كما قال: (فَمَنْ يَنْصُرُني مِنَ اللَّه) أي من عذاب الله. وقوله: (بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44) (أفَهُمُ الغَالِبُونَ). أي قد تبين لكم أنا ننقص الأرض من أطرافها، ولأن الغلبة لنا، وقد فسرنا نأتي الأرض نَنقصُهَا من أطرافها في سورة الرعد، أي فاللَّه الغالب وهم المغلوبون، أعني حزب الشيطان. * * * وقوله: (قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (45) (وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ). ويجوز ولا تُسمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ، والضم هَهُنا المعوضون عَما يُتْلَى عَلَيْهِمْ من ذكر اللَّه فهم بمنزلة من لا يسمع كما قال الشاعر: أصم عما ساءه سميعُ. * * * وقوله تعالى: (وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46) أي إن مَسَّتْهُمْ أدنى شيء من العذاب. (لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ).

(47)

والويل ينادَى به، وينادي به كلُ مَنْ وقع في هلكة. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47) (القسط) العدل، المعنى ونضع الموازين ذوات القسط، وقِسْط مثل عدل مصدر يوصف به، تقول ميزان قِسْط وميزانان قِسْط، وموازين - قِسْطِ. والميزان في القيامة - جاء في التفسير - أن له لساناً وكفتين، وتُمثَّلُ الأعمال بما يوزَنُ، وجاء في التفسير أنه يوزن خاتمة العَمَل، فمن كانت خاتمة عَمَله خيراً جوزي بخير، ومن كانت خاتمة عمله شرا فجزاؤه الشر. وقوله: (وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ). نصب (مِثْقَالَ) على معنى وإنْ كان العَمَلُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ من خردل، ويقرأ وإن كان مثقالُ حبَّةٍ بالرفع على معنى وإن حصل للعبد مثقال حبة من خردَل أتَيْنَا بها. (أَتَيْنَا بِهَا) معناه جئنا بها، وقد قُرئت آتينا بها على معنى جازينا بها وأعطينا بها، وأتَيْنَا بها أحسنُ في القراءة وأقْرَبُ في أمل العَفْو. (وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ). منصوب على وَجْهَيْن، على التمييز، وعلى الحال، ودخلت الباء في وكفى بنا، لأنه خبر في معنى الأمر، المعنى اكتفوا باللَّهِ حسيباً. * * * وقوله: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48) جاء عن ابن عباس أنه يرى حذف الواو، وقال بعض النحويين معناه ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان ضِياء وعند البَصْريينَ أن الواو لا تُزَادُ وَلَا تَأتي إلُّا بمعنى العطف. وتفسير الفرقان: التوراةُ التي فيها الفرق بين الحلال

(50)

والحرام، و (ضِيَاءً) ههنا مثل قوله: (فِيهِ هُدًى وَنُورٌ) ويجوز وذكرى لِلمُتقينَ. * * * وقوله: (وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50) المعنى هذا القرآن ذكر مبارك. * * * وقوله: (وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) أي آتيناه هداه حَدَثاً، وهو مثل قوله: (وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا). * * * وقوله: (إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) " إذْ " في موضع نصبٍ، المعنى آتيناه رشده في ذلك الوقت، ومعنى التماثيل ههنا الأصنام، ومعنى العُكوفُ المُقَامُ على الشيء. * * * وقوله: (وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) معناه - واللَّه أعلم - وَوَاللَّهِ لأكيدَن، ولا تصلح التاء في القسم إلا في الله، تقول: وحق اللَّهِ لأفْعَلَنَّ، ولا يجوز تَحق اللَّه لأفعلن، وتقول وحق زيد لأفعلن، والتاء بدل من الواو، ويجوز وَبِاللَّهِ لأكيدَنَّ أصنامكم. وقراءةُ أهل الأمصار تاللَّهِ، ولا نعلم أحداً من أهل الأمصار قرأ بالباء، ومعناها صحيح جيِّدٌ. * * * وقوله: (فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) وَجِذَاذاً تقرأ بالضمِّ والكسر فمن قرأ (جُذَاذاً) فَإن بِنْيةَ كُل ما كُسِّر

(60)

وقُطِّعَ على فعالٍ نحو الجُذَاذ والحُطام والرفَاتُ، ومن قال جِذَاذ فهو جمع جذِيذ وجِذَاذٍ نحو ثَقيل وثقال وخَفيف وخِفَاف. ويجوز جَذاذاً على معنى القَطَاع والحَصَادِ، ويجوز نُجذُذ على معنى جَذِيدَ وجُذُذ مثل جَدِيد وجُدُد. وقوله: (إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ) أي كسَّر هذه الأصْنَام إلَّا أكبَرَهَا، وجائزٌ أن يكون أكبرها عندهم في تعظيمهم إياه، لا في الخلقة، ويجوز أن يكون أعظمَها خلقة. ومعنى (لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ). أي لعلْهم باحتجاج إبراهيم عليهم به يَرْجِعُون فيعلمون وجوبَ الحجةِ - عليهم. * * * قوله: (قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) أيْ يَذْكُرُهُمْ بالعَيْب، وقالوا للأصنام يَذْكرهم لأنهم جعلوها في عبادتِهم إياها بمنزله ما يعقل، وإبراهيم يرتفع على وجهين: أحَدُهُما على معنى يقال له هو إبراهيم، والمعروف به إبراهيم، وعلى النداء على معنى يقال له يا إبراهيم. * * * (قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) أي لعلهم يعرفونه بهذا القول فَيَشْهَدُونَ عَلَيْه، فيكون ما ينزله بهِ بحُجةٍ عليه، وجائز أن يكون لَعَلَّهم يَشْهدون عقوبتنا إياه. * * * (قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) يعني الصَّنَم العظيم. (فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ).

(65)

قال بعضهم: إنما المعنى، بل فعله كبيرهم هذا إن كانوا ينطقون، وجاء في التفسير أن إبراهيم نطق بثلاث كلمات على غير ما يوجبه لفطها لما في ذلك من الصلاح، وهي قوله: (فَقَالَ إني سَقِيم) وقوله (فَعَلَه كَبيرهمْ هَذَا). وقوله إنَّ سَارَّة أخْتي، والثلاث لهن وجه في الصدْقِ بَيِّنٌ. فسَارَّة أخته في الدِّين، وقوله (إني سَقِيمٌ) فيه غير وجه أحدها إني مغْتَمٌّ بِضَلاَلتِكمْ حتى أنا كالسقيم، ووجه آخر إني سقيم عندكم، وجائز أن يكون ناله في هذا الوقت مَرَضٌ. ووجه الآية ما قلناه في قوله: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ). واحتج قوم بأن قول إبراهيم مثل قول يوسف لِإخوته: (أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ) ولَم يَسْرِقوا الصَّاعَ، وهذا تأويله - واللَّه أعلم - إنكم لسارقونَ يوسف. * * * وقوله: (ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65) جاء في التفسير أنه أدْركتِ القومَ حَيْرَة. ومعنى: (لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ). أي ثم نكسوا على رؤوسهم فقالوا لِإبراهيم عليه ابسلام: (لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤلاء يَنْطِقَون)، فقد اعترفوا بعجز ما يعبدونه عن النطق.

(67)

وقوله: (أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67) يقرأ (أُفِّ لَكُمْ) بغير تنوين، وَ (أُفٍّ) بتنوين، ويجوز أفٌّ لكم وأفُّ لكم - بالضم والتنوين وبترك التنوين - ويجوز أُفَّ لكم بالفتح. فأمَّا الكسر بغير تنوين فلالتقاء السَّاكنين وهما الفاءان في قوله أف، لأن ما أصل الكلمة السكون لأنها بمنزلة الأصوات، وحذف التنوين لأنها معرفة لا يَجِبُ إعرابها، وتفسيرها (النَّتْنُ) لكم ولما تعبدون فمن نَوَّنَ جعله نكرة بمنزلة نَتْناً لكم ولما تعبدون من دون اللَّه، وكسر لأن أصل التقاء السَّاكنين الكسر، ولأن أكثر الأصوات مَبْني على الكسر نحو قوله غَاقْ وجَيْرِ وأمْسِ وويه، ويجوز الفتح لالتقاء السَّاكنين لثقل التضعيف والكسر، ويجوز الضم لضمةِ الألفِ كما قالوا: رُدَّ يا هذا ورُدُ، ورُدِ - بالكسر، ومن نوَّنَ مع الضم فبمنزلة التنوين مع الكسر. * * * وقوله: (وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71) جاء في التفسير أنها من أرض الشام إلى العراق. * * * قوله: (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72) النافلة ههنا وَلَدُ الوَلدِ، يعني به يعقوبُ خاصة * * * وقوله: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73) (إقَامَ الصَّلَاةِ). إِقام مفرد قليل في اللغة، تقول أقمت إقامَةً، قاما إقام الصلاة فجائز لأن الِإضافة عوض من الهاء. * * * وقوله: (وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74) (لوطاً) منصوب بفعل مضْمَرٍ لأن قبله فعلاً، فالمعنى وأوحينا إليهم وآتينا لُوطاً آتيناه حكماً وعِلْماً، والنصب ههنا أحسن من الرفع لأن قبل آتينا فِعْلاً وقد

(76)

ذكر بعض النحويين أنه منصوب على " واذْكر لوطاً "، وهذا جائز لأن ذكر إبراهيم قد جرى فحمل لوط على معنى واذكر. * * * وقوله عزَّ وجلَّ (وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) منصوب على واذكر، وكذلك قوله: (وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) على مَعْنى واذكر داوود وسليمان (إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ) النفْش بالليل، والهَمَلُ بالنهار. وجاء في التفسير أن غنماً على عهد داوود وسُلَيْمَانَ مَرتْ بحَرْثٍ لِقَوم فَأفْسدَتْه، ورُوِيَ أن الحَرْث كان حنطة، ورُوِيَ أنه كان كرماً، فأفسدت ذلك الحرث فحكم داود بدفع الغنم إلى أصحاب الكرم وحكم سليمان بأن يدفع الغنم إلى أصحاب الكرم فيأخذوا منافعها من ألْبانها وأصوافها وعَوَارِضها إلى أن يعودَ الكرمُ كهيئتِه وقت أفْسِدَ فإذا عاد الكرم إلى هيئته رُدَّتِ الغنم إلى أرْبابها ويدفع الكرم إلى صاحب الكرم. قال أبو إسحاق: يجوز أن تكون عوارضُها من أحد وجهين، إما أن يكون جمع عريض وعُرْضَان، وهو اسم للحَمَلِ، وأكثر ذلك في الجدْي، ويجوز أن يكون بما يعرض من منافِعِها حتى يَعُودَ الكَرْمُ كما كان، وهذا - واللَّه أعلم - يدل على أن سُليمان عَلِمَ أن قيمةَ ما أفْسَدَتِ الغنمُ من الكرم بمقدار نفع الغنم. قال اللَّه عزَّ وجلَّ: (فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79) أي فهمناه القَضيةَ، والحكومةَ. (وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا).

(80)

وقوله عزَّ وجلَّ: (وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ). ويجوز والطُّيْرُ، على العطف على ما في يسبحن، ولا أعلم أحداً قَرأ بها. (وَكُنَّا فَاعِلِينَ). أي وكنا نقدر على ما نريده، ونصب " الطيرَ " من جهتين " إحداهما على معنى وسَخرنَا الطيرَ. والأخرى على معنى يسبحن مع الطير. * * * وقوله: (وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80) وقرئت (لنحصنكم من بأسكم) بالنون، ويجوز (ليُحصِنكُمْ) بالياء. فمن قرأ بالياء أراد ليحصنكم هذا اللبوسُ، ويجوز على معنى ليحصنَكُمْ بالياء، فمن قرأ بالياء أراد ليحصنكم هذا اللبوسُ، ويجوز على معنى ليحصنَكُمْ اللَّهُ من باسكم وهي مثل لِنُحَصنَكُمْ - بالنون ومن قرأ بالتاء أراد لتُحْصِنَكُمْ الصنعةُ. فهذه الثلاثة الأوجه قد قرئ بهِنَّ، ويجوز فيها ثلاث لم يُقْرأ بهِنَ، ولا ينبغي أن يُقْرأ بهِنَ لأن القراءة سنة. يجوز لنحصِّنَكمْ بالنون والتشديد، ولتحصِّنَكُمْ بالتاء والتشديد. وليحصِّنَكمْ بالياء مشددَةَ الصاد في هذه الثلاث. وعلَّم الله داوودَ صنعةَ الدروع من الزَرَدِ، ولم تَكن قبلَ دَاوود عليه السلام فجمَعَتِ الخفَةَ والتحْصِينَ، كذا رُوِيَ. * * * (وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81) وقرئت الرياح عاصفة، وقرئت الريحُ عاصفةً - برفع الريح. فمن قرأ الريحُ عَاصِفَةً بالنصب فهي عطف على الجبال. والمعنى وسخرنا مع داود الجبال، وسخرنا لسليمان الريح، وعاصفةً منصوب على الحال ومن قرأ الريحُ

(82)

رفع كما تقول: لزيد المال، وهذا داخل في معنى التسخير، لأنه إذا قال (تجري بأمره إلى الأرض) ففي الكلام دليل على أن اللَّه جل ثناؤه - سخَّرهَا. * * * وقوله: (وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82) يجوز أن يكون موضع " مَنْ " نصباً عطفاً على الريح، ويجوز أن يكون " مَنْ " - في موضع رفع من جهتين: إحداهما العطف على الريح، المعنى ولسليمان الريح وله من يَغُوصونَ من الشياطين، ويجوز أن يكون رفعاً بالابتداء، ويكون " له " الخبر. وقوله: (وَيعملون عَمَلاً دُونَ ذَلِكَ). معناه سوى ذلك، أي سوى الغوص. (وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ). كان اللَّه يحفظهم مِن أنْ يُفْسِدُوا مَا عَمِلُوا. * * * وقوله: (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) (أَيُّوبَ) منصوب على معنى واذكر أَيُّوبَ. * * * وقوله: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84) أكثر التفاسير أن اللَّه - جل ثناؤه - أحيا من مات من بنيه وَبَنَاتِه ورَزَقَه مِثلهمْ من الْوَلَدِ، وقيل (آتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ) آتيناه في الآخرة. * * * (وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) هذا كله منصوب على (واذكر). يقال إن ذا الكفل سمي بهذا الاسم لأنه تكفل بأمر نَبّيٍّ في أمَّتِهِ فقام بما يجب فيهم وفيه، ويقال إنه تكفل بعمل رجل صالحٍ فقام به، والكِفْلُ في اللغة الكسَاءُ الذي يُجْعَلُ وراء الرَّحْل على

(87)

عجز البعير، وقيل الكفلُ أيْضاً النصيبُ، قال اللَّه عزَّ وجلَّ: (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ). * * * وقوله: (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) (ذَا النُّونِ) يونس، والنون السمكة، والمعنى واذكر ذا النون، ويررى أنه ذهب مغاضباً قومه، وقيل إنه ذهَب مغاضبا مَلِكاً من الملوك. (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ). أي ظن أن لن نُقَدِّرَ عَليه ما قَدَّرْنَاهُ من كونه في بطن الحوت، ويقْدِر بمعنى يُقَدِّر. وقد جاء هذا في التفسير، وقد روي عن الحسن أنه قال عَبْدٌ أبَق مِنْ رَبِّه، وتأويل قول الحسن أنه هرب من عذاب رَبِّه، لا أن يُونُسَ ظن أن الهرب ينجيه من اللَّه - عزَّ وجلَّ - وَلَا مِنْ قَدَرِه. وقوله: (فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ). (في الظلمات) وجهانِ، أحدهما يعنى به ظلمةُ الليل وظلمةُ البحر. وظلمةُ بطن الحوت، ويجوز أن يكون " نادى في الظلمات " أن يكون أكثر دعائه وندائه كان في ظُلُماتِ الليْلِ. والأجود التفسير الأول لأنه في بطن الحوت لا أحسبه كان يفصل بين ظلمة الليل وظلمة غيره ولكنه أولُ ما صادف ظلمةُ الليل ثم ظلمة البحر ثم ظلمة بطن الحوت. وجائز أنْ يَكُونَ الظلُماتُ اتفَقت في وقتٍ واحِدٍ، فتكون ظلمة بطن الحوت في الليل والبحرِ نهايَةً في الشِّدَّةِ.

(88)

وقوله: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88) (وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) الذي في المصحف بنون واحدة، كَتِبَتْ، لأن النون الثانية تَخْفَى مَعَ الجيم، فأمََّا ما روي عَنْ عَاصم بنون واحدة فَلَحْن لا وجه له، لأن ما لا يُسمَّى فاعِلُه لا يكون بِغَير فاعل. وقد قال بعضهم: نُجِّي النَجَاءُ المؤمنين. وهذا خطأ بإجماع النحويين كلهم، لا يجوز ضُرِبَ زيداً -، تريد ضرب الضرب زيداً لأنك إذا قلتَ ضرب زيد فقد علم أنه الذي ضُربَه ضَرْبٌ، فلا فائدة في إضماره وإقامته مع الفاعل. ورواية أبي بكر بن عياش في قوله نُجِّي المؤمنين يخالف قراءة أبي عمروٍ نُنْجي بنونين (1). * * * وقوله: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90) (وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ) يروى أنها كانت عقيماً فجعلها اللَّه - عزَّ وجلَّ - ولوداً، ويروى أنه كان في خُلُقِها سُوءٌ فأصلح اللَّه ذلك وحسنَ خُلُقَها. وقوله: (وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا). وقرئتْ رغْباً ورَهْباً، فالرَّغبُ والرهْبُ مَصْدرَانِ، ويجوز رُغْباً ورُهْباً، ولا أعلم أحداً قرأ بهما، أعني الرغْب والرهْبُ - في هذا المَوْضِع. والرُّغْبُ والرَّغَب مثل البُخْل والبَخَل، والرُّشْد والرَّشَد. * * * وقوله: (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (91) " التي " في موضع نَصْبٍ، المعنى واذكر التي أحصنت فرجها. ويروى في بعض التفسير أنه يعني جيبها.

_ (1) قال السَّمين: قوله: {وكذلك نُنجِي}: الكاف نعتٌ لمصدرٍ أو حالٌ من ضميرِ المصدرِ. وقرأ العامَّة «نُنْجي» بضم النونِ الأولى وسكونِ الثانية مِنْ أَنْجى يُنْجي. وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم «نُجِّيْ» بتشديد الجيمِ وسكونِ الياءِ. وفيها أوجهٌ، أحسنها: أن يكونَ الأصل «نُنَجِّي» بضمِّ الأولى وفتح الثانيةِ وتشديد الجيمِ، فاستثقل توالي مِثْلين، فحُذِفت الثانيةٌ، كما حُذِفَت في قوله {وَنُزِّلَ الملائكة} [الفرقان: 25] في قراءةِ مَنْ قرأه كما تقدَّم، وكما حُذِفَتْ التاءُ الثانيةُ في قولِه {تَذَكَّرُونَ} [الأنعام: 152] و {تَظَاهَرُونَ} [البقرة: 85] وبابِه. ولكنَّ أبا البقاء استضعَفَ هذا التوجيهَ بوجهين فقال: «أحدهُما: أنَّ النونَ الثانية أصلٌ، وهي فاءُ الكلمةِ فَحَذْفُها يَبْعُدُ جداً. والثاني: أنَّ حركَتها غيرُ حركةِ النونِ الأولى، فلا يُسْتَثْقَلُ الجمعُ بينهما بخلافِ» تَظاهَرون «ألا ترى أنَّك لو قلتَ:» تُتَحامى المظالِمُ «لم يَسُغْ حَذْفُ الثانية». أمَّا كونُ الثانيةِ أصلاً فلا أثرَ له في مَنْعِ الحَذْفِ، ألا ترى أن النَّحْويين اختلفوا في إقامة واستقامة: أيُّ الألفينِ المحذوفة؟ مع أنَّ الأولى هي أصلٌ لأنَّها عينُ الكلمةِ. وأمَّا اختلافُ الحركةِ فلا أثرَ له أيضاً؛ لأنَّ الاستثقالَ باتحادِ لفظِ الحرفين على أيِّ حركةٍ كانا. الوجه الثاني: أن «نُجِّي» فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ للمفعول، وإنما سُكِّنَتْ لامُه تخفيفاً، كما سُكِّنت في قوله: {مَا بَقِيْ مِنَ الربا} [البقرة: 278] في قراءةٍ شاذةٍ تقدَّمَتْ لك. قالوا: وإذا كان الماضي الصحيحُ قد سُكِّن تخفيفاً فالمعتلُّ أولى، فمنه: 3357 إنّما شِعْرِيَ قَيْدٌ. . . قد خُلِطْ بجُلْجُلانِ وقد ذَكَرْتُ منه جملةً صالحةً. وأُسْنِدَ هذا الفعلُ إلى ضميرِ المصدرِ مع وجودِ المفعول الصريحِ كقراءةِ أبي جعفرٍ {ليجزى قَوْماً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} [الجاثية: 14] وهذا رأيُ الكوفيين والأخفش. وقد ذكرْتُ له شواهدَ فيما مضى من هذا التصنيفِ، والتقدير: نُجِّيَ النَّجاءُ. قال أبو البقاء: «وهو ضعيفٌ من وجهين، أحدُهما: تسكينُ آخرِ الفعلِ الماضي، والآخرُ إقامةُ المصدرِ مع وجودِ المفعولِ الصَّريح». قلت: عَرَفْتَ جوابَهما ممَّا تقدم. الوجه الثالث: أنَّ الأصلَ: ننجِّي كقراءةِ العامة، إلاَّ أنَّ النونَ الثانيةَ قُلِبَتْ جيماً، وأُدغِمت في الجيم بعدها. وهذا ضعيفٌ جداً؛ لأن النونَ لا تُقارِبُ الجيمَ فتُدغَمُ فيها. الوجه الرابع: أنه ماضٍ مسندٌ لضمير المصدرِ أي: نُجِّي النَّجاءُ كما تقدم في الوجه الثاني، إلاَّ أن «المؤمنين» ليس منصوباً بنجِّي بل بفعلٍ مقدرٍ، وكأنَّ صاحبَ هذا الوجهِ فَرَّ من إقامةِ غيرِ المفعول به مع وجودِه، فجعله مِنْ جملةٍ أخرى. وهذا القراءةُ متواترةٌ، ولا التفاتَ على مَنْ طَعَن على قارئِها، وإنْ كان أبو عليٍ قال: «هي لحنٌ». وهذه جرأةٌ منه قد سبقه إليها أبو إسحاق الزجَّاج. وأمَّا الزمخشري فلم يَطْعن عليها، إنما طعن على بعضِ الأوجهِ التي قدَّمْتُها فقال: «ومَنْ تَمَحَّل لصحتِه فجعله فُعِل وقال: نُجِّي النَّجاءُ المؤمنين، فأرسل الياء وأسنده إلى مصدرِه ونَصَبَ المؤمنين، فتعسُّفٌ باردُ التعسُّفِ». قلت: فلم يَرْتَضِ هذا التخريجَ بل للقراءةِ عنده تخريجٌ آخرُ. وقد يمكنُ أن يكونَ هو الذي بدأت به لسلامتِه ممَّا تقدَّم من الضعف. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(92)

(وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ) لو قيل آيتين لصلح، ولكن لما كان شأنهما واحدا، وكانت الآية فيهما جميعا معناها آية واحدة، وهي ولادة من غير فحل، جاز أن يقول آية. وقوله: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) (أُمَّتُكُمْ) رفع خبر هذه، المعنى أن هذه أمتكم في حال اجتماعها على الحق، فإذا افترقت فليس من خالف الحق داخلا فيها، ويقرأ (أمةٌ واحدةٌ)، على أنه خبر بعد خبر، ومعناه إن هذه أمة واحدة ليست أمماً، ويجوز نصب (أُمَّتَكُمْ) على معنى التوكيد، قيل إن أمتكم كلها أمة واحدة (1). وقوله: (وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ) المعنى أن الله أعلمهم أن أمر الحجة واحد، وأنهم تفرقوا، لأن تقطيعهم أمرهم بينهم تفرقة. وقوله: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94) كفران: مصدر مثل الغفران والشكران، والعرب تقول: غفرانك لا كفرانك. وقوله عز وجل: (وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (95) قُرئت: حِرمٌ وحَرَامٌ، هاتان أكثر القراءة، وقد قرئت حَرُمَ على قريةٍ، وحَرِم على قريةٍ. وجاء في التفسير حِرمٌ في معنى حتْمٌ. وجاء أيضا عن ابن عباس أنه قال: حَتْم عليهم ألا يرجعوا إلى دنياهم، وجاء عنه وعن قَتادة أنهم لا يرجعون إلى توبة، وعند أهل اللغة حِرْمٌ وحرام في معنى واحد، مثل: حِلٌ وحلالٌ. وظاهر "حرام عليهم أنهم لا يرجعون"، يحتاج إلى أن يُبَيَّن، ولا أعلم أحداً من أهل اللغة، ولا من أهل التفسير بَيَّنه.

_ (1) قال السَّمين: قوله: {أُمَّةً وَاحِدَةً}: العامَّةُ على رفع «أمتكُم» خبراً ل «إنَّ» ونصب «أمةً واحدةً» على الحالِ. وقيل على البدل من «هذه»، فيكونُ قد فُصِلَ بالخبرِ بين البدلِ والمبدلِ منه نحو «إن زيداً قائمٌ أخاك». وقرأ الحسنُ «أُمَّتَكم» بالنصبِ على البدل من «هذه» أو عطف البيان. وقرأ أيضاً هو وابن أبي إسحاق والأشهبُ العقيلي وأبو حيوة وابن أبي عبلة وهارون عن أبي عمرو «أُمَّتُكم أمَّةٌ واحدةٌ» برفع الثلاثة على أنْ تكونَ «أمتُكم» خبرَ «إنَّ» كما تقدَّم و «أمةٌ واحدةٌ» بدلٌ منها بدلُ نكرةٍ من معرفةٍ، أو تكونَ «أمةٌ واحدةٌ» خبرَ مبتدأ محذوفٍ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(96)

وهو - واللَّه أعلم - أنه لما قال: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94) أعلمنا أن اللَّه عزَّ وجلَّ قَِد حرَّمَ قُبُولَ أعمال الكافرين وبين ذلك بقوله: (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ) فالمعنى حَرام عَلَى قَرْيةٍ أهلكناها أن نَتقبل منهم عملًا لأنهم لا يرجعون، أي لا يتوبون، وحَرِمَ وحَرُمَ في معنى حرام. إلا أنَّ حَرَاماً اسم، وحَرِمَ وَحَرُمُ فعل (1). * * * وقوله: (حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) بهمزٍ وغير هَمْزٍ، وهما قبيلَتَانِ من خلق اللَّه. ويروى أن الناس عشرة أجزاء تسعة منهم يأجوج ومأجوج، وهما اسمان أعجميان، واشتقَاقُ مثلهما من كلام العَرَبِ يخرج من أججت النار، ومن النار الأجَاجِ وهو أشَد وهو الشديد الملوحة، المحرق من مُلُوحَتِهِ. وقوله: (وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ) ورويت أيضاً من كل جَدَثٍ ينسلون، - بالجيم والثاء - والأجود في هذا الحرف، (حَدَبٍ يَنْسِلُونَ) بالحاء، والحدب كل أكَمةٍ، و (يَنْسِلُونَ) يُسْرِعُونَ. * * * وقوله: (وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97) قال بعضهم: [لا يجوز طرح الواو] (2). والجوابُ عِندَ البَصْريِّينَ قوله: (يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا) وههنا قول محذوف، المعنى حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوجُ واقترب الوعْدُ الحق قالوا: (يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ). وجاء في التفسير أن خروجَ يأجوجَ ومأجوجَ من أعْلَامِ الساعة.

_ (1) قال السَّمين: قوله: {وَحَرَامٌ}: قرأ الأخَوان وأبو بكر ورُوِيَتْ عن أبي عمرو «وحِرْمٌ» بكسرِ الحاء وسكونِ الراءِ. وهما لغتان كالحِلِّ والحَلال. وقرأ بن عباس وعِكْرمة و «حَرِمَ» بفتح الحاء وكسر الراء وفتح الميم، على أنه فعلٌ ماضٍ، ورُوي عنهما أيضاً وعن أبي العالية بفتح الحاء والميم وضمِّ الراءِ بزنة كُرمَ، وهو فعلٌ ماض أيضاً. ورُوي عن ابن عباس فتحُ الجميع. وهو فعلٌ ماضٍ أيضاً. واليمانيُّ بضم الحاء وكسر الراءِ مشددةً وفتح الميم ماضياً مبنياً للمفعول. ورُوي عن عكرمةَ بفتح الحاء وكسرِ الراء وتنوين الميم. فَمَنْ جعله اسماً: ففي رفعه وجهان، أحدهما: أنه مبتدأ، وفي الخبر حينئذٍ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدهُا: قوله {أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} وفي ذلك حينئذٍ أربعةُ تأويلاتٍ، التأويلُ الأولُ: أنَّ «لا» زائدةٌ والمعنى: وممتنعٌ على قريةٍ قدَّرْنا إهلاكَها لكفرِهم رجوعُهم إلى الإِيمانِ، إلى أَنْ تقومَ الساعةُ. وممَّن ذهب إلى زيادتِها أبو عمروٍ مستشهداً عليه بقولِه تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ} [الأعراف: 12] يعني في أحدِ القولين. التأويل الثاني: أنها غيرُ زائدةٍ، وأنَّ المعنى: أنَّهم غيرُ راجعين عن معصيتهم وكفرِهم. التأويلُ الثالث: أنَّ الحرامَ يُرادُ به الواجب. ويَدُلُّ عليه قولُه تعالى: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ} [الأنعام: 151] وتَرْكُ الشِّرْكِ واجبٌ، ويَدُلُّ عليه أيضاً قولُ الخنساء: 3359 حرامٌ عليَّ لا أرى الدهرَ باكياً. . . على شَجْوِه إلا بَكَيْتُ على صَخْرِ وأيضاً فمن الاستعمالِ إطلاقُ أحدٍ الضدين على الآخرِ. ومِنْ ثَمَّ قال الحسن والسدي: لا يَرْجِعون عن الشرك. وقال قتادة: إلى الدنيا. التأويل الرابع: قال أبو مسلم ابن بَحْر: «حرامٌ: ممتنع. وأنهم لا يرجعون: انتفاء الرجوعِ إلى الآخرةِ، فإذا امتنع الانتفاءُ وَجَبَ الرجوعُ. فالمعنى: أنه يجبُ رجوعُهم إلى الحياة في الدار الآخرة. ويكون الغرضُ إبطالَ قولِ مَنْ يُنْكر البعثَ. وتحقيقُ ما تقدَّم من أنه لا كُفْرانَ لسَعْي أحدٍ، وأنه يُجْزَى على ذلك يومَ القيامةِ». وقولُ ابن عطية قريبٌ من هذا قال: «وممتنعٌ على الكفرةَ المُهْلَكين أنهم لا يَرْجعون إلى عذاب الله وأليم عِقابِه، فتكون» لا «على بابِها، والحرامُ على بابه». الوجه الثاني: أنَّ الخبرَ منحذوفٌ تقديرُه: حرامٌ توبتُهم أو رجاءُ بعثهم، ويكونُ «أنَّهم لا يَرْجعون» علةً لما تقدَّم من معنى الجملة، ولكن لك حينئذ في «لا» احتمالان، الاحتمال الأول: أَنْ تكونَ زائدةً. ولذلك قال أبو البقاء في هذا الوجهِ بعدَ تقديرِه الخبرَ المتقدم: «إذا جَعَلْتَ لا زائدةً» قلت: والمعنى عنده: لأنهم يَرْجعون إلى الآخرة وجزائها. الاحتمال الثاني: أن تكونَ غيرَ زائدةٍ بمعنى: ممتنعٌ توبتُهم أو رجاءُ بعثِهم؛ لأنهم لا يَرْجعون إلى الدنيا فَيَسْتدركوا فيها ما فاتهم من ذلك. الوجهُ الثالث: أَنْ يكونَ هذا المبتدأ لا خبرَ له لفظاً ولا تقديراً، وإنما رَفَع شيئاً يقوم مقامَ خبرِه من باب «أقائم أخواك». قال أبو البقاء: «والجيدُ أن يكونَ» أنهم «فاعلاً سَدَّ مَسَدَّ الخبر»، قلت: وفي هذا نظرٌ؛ لأن ذلك يًُشْترطُ فيه أن يَعتمد الوصفُ على نفيٍ أو استفهامٍ، وهنا فلم يعتمِدْ المبتدأُ على شيءٍ من ذلك، اللهم إلاَّ أَنْ ينحوَ نَحْوَ الأخفشِ، فإنه لا يَشترطُ ذلك. وقد قررتُ هذه المسألةَ في غيرِ هذا الموضوع، والذي يظهر قولُ الأخفش، وحينئذ يكون في «لا» الوجهان المتقدمان من الزيادة وعدمِها، باختلاف معنيين: أي امتنع رجوعُهم إلى الدنيا أو عن شركِهم إذا قَدَّرْتَها زائدةٌ، أو امتنع عدمُ رجوعِهم إلى عقابِ اللهِ في الآخرة إذا قَدَّرْتها غيرَ زائدة. الوجه الثاني: من وجهَيْ رفعِ «حرام» أنه خبرُ مبتدأ محذوف، فقدَّره بعضهم: الإِقالةُ والتوبةُ حرامٌ. وقَدَّره أبو البقاء: «أي ذلك الذي ذُكِرَ من العملِ الصالحِ حرامٌ». وقال الزمخشري: «وحرامٌ على قريةٍ أهلكناها ذَاك، وهو المذكورُ في الآية المتقدمةِ من العملِ الصالح والسَّعيِ المشكورِ غير المكفورِ. ثم عَلَّل فقيل: إنهم لا يرجعون عن الكفر فكيف لا يمتنع ذلك؟ وقرأ العامَّةُ» أَهْلكناها «بنونِ العظمة. وقرأ أبو عبد الرحمن وقتادةُ» أهلكتُها «بتاءِ المتكلم. ومَن قرأ» حَرِمٌ «بفتح الحاءِ وكسرِ الراء وتنوينِ الميم، فهو في قراءتِه صفةٌ على فَعلِ نحو: حَذِر. وقال: 3360 وإن أتاه خليلٌ يومَ مسألةٍ. . . يقولُ لا غائبٌ مالي ولا حَرِمُ ومَنْ قرأه فعلاً ماضياً فهو في قراءتِه مسندٌ ل» أنَّ «وما في حَيِّزها. ولا يَخْفى الكلامُ في» لا «بالنسبة إلى الزيادةِ وعدمِها، فإنَّ المعنى واضحٌ مما تقدَّم وقُرِىء» إنَّهم «بالكسرِ على الاستئناف، وحينئذٍ فلا بد من تقديرِ مبتدأ يَتِمُّ به الكلام، تقديرُه: ذلك العملُ الصالحُ حرامٌ. وتقدَّم تحريرُ ذلك. اهـ (الدُّرُّ المصُون). (2) التصويب من تفسير البغوي.

(98)

قوله: (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) قرئت على ثلاثهَ أوجه، حَصَبُ " جهَنمَ، وحطب جهَنَّمَ، وحَضَبُ جَهَنمَ - بالضاد معجمة -. فمن قرأ حصَبُ فمعناها كل ما يرمى به في جهنم ومن قال حطب فمعناه ما توقد به جهنم - كما قال عزَّ وجلَّ: (وَقُودُهَا النَّاسُ والحِجَارَةُ)، ومن قال. حَضب - بالضادِ معجمة - فمعناه ما تهيجُ به النارُ وتُذْكى به، والحَضْبُ الحيَّةُ (1). * * * وقوله: (يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104) وللكتاب، ويقرأ السِّجْل بتخفيف اللام، فمن خَففَ أسْكَنَ الجيم. وجاء في التفسير أن السِّجِل الصحِيفةُ التي فيها الكتابُ. وقيل إن السِّجِلً مَلَك وقيل إن السِّجل بِلُغَةُ الجيْشِ الرجُل. وعن أبي الجوزاء أن السِّجِل كاتب كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - وتَمَامُ الكلام (للكُتُب). وقوله: (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ). مستأنف، المعنى نبعث الخلق كما بدأناهم، أي قدرتنا على الإعادة كَقدرتنا على الابتداء، ويجوز " يوم تُطوى السَّمَاءُ كطي السجِل " ويجوز يوم يَطْوِي السمَاءَ كطيِّ السُّجِل، ولم يقرأ (يَطْوِي). وقرئت نَطْوِي وتُطْوَى بالنون والتاء (2). وقوله: (وَعْدًا عَلَيْنَا). (وَعْدًا) منصوب على المصَدْرِ، لأن قوله (نُعِيدُهُ) بمعنى وَعَدْنَا هَذَا وَعْدًا

_ (1) قال السَّمين: وقرأ العامَّةُ «حَصَبُ» بالمهملتين والصادُ مفتوحةٌ، وهو ما يُحْصَبُ أي: يرمى في النارِ، ولا يقالُ له حَصَب إلاَّ وهو في النارِ. فأمَّا [ما] قبل ذلك فَحَطَبٌ وشجرٌ وغير ذلك وقيل: هي لغةٌ حبشية. وقيل: يُقال له حَصَبٌ قبل الإِلقاء في النار. وقرأ ابن السَّميفع وابن أبي عبلة ورُويت عن ابنِ كثير بسكونِ الصادِ وهو مصدرٌ، فيجوز أن يكونَ واقعاً موقع المفعول، أو على المبالغةِ أو على حَذْفِ مضافٍ. وقرأ ابن عباس بالضاد معجمةً مفتوحة أو ساكنةً، وهو أيضاً ما يُرمَى به في النار، ومنه المِحْضَبُ: عُوْدٌ تُحَرَّك به النارُ لِتُوقَدَ. وأًنْشِدَ: 3364 فلا تَكُ في حَرْبِنا مِحْضَباً. . . فتجعلَ قومَك شَتَّى شُعوبا وقرأ أميرُ المؤمنين وأُبَيٌّ وعائشة وابن الزبير «حَطَبُ» بالطاء، ولا أظنُّها إلاَّ تفسيراً لا تلاوةً. اهـ (الدُّرُّ المصُون). (2) قال السَّمين: قوله: {يَوْمَ نَطْوِي}: فيه أوجهٌ، أحدها: أنه منصوبٌ ب «لا يَحْزُنُهم». والثاني: أنه منصوبٌ ب «تتلقَّاهم». الثالث أنه منصوبٌ بإضمار اذكر أو أعني. الرابع: أنه بدلٌ من العائدِ المقدرِ تقديرُه: تُوْعَدُونه/ يومَ نَطْوي ف «يومَ» بدل من الهاء. ذكره أبو البقاء. وفيه نظرٌ؛ إذ يَلْزَمُ مِنْ ذلك خُلُوُّ الجملةِ الموصولِ بها من عائدٍ على الموصول، ولذلك مَنَعُوا «جاء الذي مررتُ به أبي عبد الله» على أن يكونَ «أبي عبد الله» بدلاً من الهاء لِما ذكرْتُ، وإن كان في المسألة خلاف. الخامس: أنه منصوبٌ بالفزع، قاله الزمخشري، وفيه نظر؛ من حيث إنه أَعْمَلَ المصدرَ الموصوفَ قبل أَخْذِه معمولَه. وقد تقدَّم أنَّ نافعاً يقرأ «يُحْزِنُ» بضم الياء إلاَّ هنا، وأن شيخَه ابن َ القَعْقاع يَقْرأ «يَحْزُن» بالفتح إلاَّ هنا. وقرأ العامَّة «نَطْوي» بنون العظمة وشيبة بن نصاح في آخرين «يطوي» بياء الغَيْبة، والفاعلُ هو الله تعالى، وقرأ أبو جعفر في آخرين «تطوى» بضمِّ التاءِ مِنْ فوقُ وفتحِ الواوِ مبنياً للمفعول. وقرأ العامَّةُ «السِّجِلِّ» بكسر السينِ والجيمِ وتشديدِ اللامِ كالطِّمِرِّ. وقرأ أبو هريرة وصاحبُه أبو زرعةَ بن عمرو بن جرير بضمِّهما، واللامُ مشددةٌ أيضاً بزنةِ «عُتُلّ». ونقل أبو البقاء تخفيفَها في هذه القراءةِ أيضاً، فتكونَ بزنةِ عُنُق، وأبو السَّمَّال وطلحة والأعمش بفتح السين. والحسن وعيسى بن عمر [بكسرِها]. والجيمُ في هاتين القراءتين ساكنةٌ واللامُ مخففةٌ، قال أبو عمرو: «قراءةُ أهلِ مكةً مثل قراءةِ الحسن». والسِّجِلُّ: الصحيفةُ مطلقاً. وقيل: بل هو مخصوصٌ بصحيفةِ العهد، وهي من المساجلةِ، والسَجْل: الدَلْوُ الملأى. وقال بعضهم: هو فارسيٌّ معرَّب فلا اشتقاقَ له. و «طَيّ» مصدرٌ مضافٌ للمفعولِ. والفاعلُ محذوفٌ تقديرُه: كما يطوي الرجلُ الصحيفةَ ليكتبَ فيها، أَو لما يكتُبه فيها من المعاني، والفاعلُ يُحْذف مع المصدرِ باطِّراد. والكلامُ في الكاف معروفٌ أعني كونَها نعتاً لمصدرٍ مقدرٍ أو حالاً مِنْ ضميرِه. وأصلُ طيّ: طَوْيٌ فأُعِلَّ كنظائره. وقيل: السِّجِلُّ سامُ مَلَكٍ يَطْوي كتبَ أعمالِ بني آدم. وقيل: اسمُ رجلٍ كان يكتب لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم. وعلى هذين القولين يكون المصدرُ مضافاً لفاعله. و «الكتاب» اسمٌ للصحيفةِ المكتوبِ فيها. وقال أبو إسحاق: «السِّجِلُّ: الرجلُ بلسان الحبشة». وقال الزمخشري: كما يطوى الطُّومارُ للكتابة، أي: ليُكتبَ فيه، أو لما يُكتب فيه؛ لأن الكتابَ أصلُه المصدرُ كالبناء ثم يوقع على المكتوب «. فقدَّره الزمخشريُّ من الفعلِ المبنيِّ للمفعول. وقد عَرَفْتَ ما فيه من الخلاف. واللام في «للكتاب»: إمَّا مزيدةٌ في المفعولِ إنْ قلنا إنَّ المصدرَ مضافٌ لفاعلِه، وإمَّا متعلقةٌ بطَيّ، وإمَّا بمعنى «على». وهذا ينبغي أَنْ لا يجوزَ لبُعْدِ معناه على كل قولٍ. والقراءاتُ المذكورةُ في «السِّجِلْ» كلُّها لغات. وقرأ الأخَوان وحفص «للكتب» جمعاً، والباقون «للكتاب» مفرداً، والرسُم يحتملهما: فالإِفرادُ يُراد به الجنسُ، والجمعُ للدلالةِ على الاختلافِ. قوله: {كَمَا بَدَأْنَآ} في متعلِّقِ هذه الكافِ وجهان، أحدُهما: أنَّها متعلقةٌ ب «نُعِيده»، و «ما» مصدريةٌ و «بدأنا» صلتُها، فهي وما في حَيِّزِها في محلِّ جر بالكاف. و «أولَ خَلْقٍِ» مفعولُ «بَدَأْنا»، والمعنى: نُعيد أولَ خَلْقٍ إعادةً مثلَ بَداءَتِنا له أي: كما أبْرَزْناه من العَدَمِ إلى الوجودِ نُعيده من العَدَمِ إلى الوجود. وإلى هذا نحا أبو البقاء فإنه قال: «الكافُ نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ أي: نُعيده عَوْداً مثلَ بَدْئه» وفي قولِه: «عَوْد» نظرٌ إذ الأحسنُ أَنْ يقولَ: إعادة. والثاني: أنها تتعلَّقُ بفعلٍ مضمرٍ. قال الزمخشري: «ووجهٌ آخرُ: وهو أَنْ تَنْتَصِبَ الكافُ بفعلٍ مضمرٍ يفسِّره» نُعيده «و» ما «موصولةٌ أي: نُعيد مثلَ الذي بَدَأْنا نُعيده، و» أولَ خَلْقٍ «ظرف ل» بَدَأْناه «أي: أولَ ما خلق، أو حالٌ من ضميرِ الموصولِ السَّاقط من اللفظِ الثابتِ في المعنى». قال الشيخ: «وفي تقديرِه تهيئةُ» بَدَأْنا «لأَنْ يَنْصِبَ» أولَ خَلْقٍ «على المفعوليةِ وقَطْعُه عنه، من غيرِ ضرورةٍ تدعو إلى ذلك، وارتكابُ إضمارٍ بعيدٍ مُفَسَّراً ب» نُعِيْدُه «، وهذه عُجْمَةٌ في كتاب الله. وأمَّا قولُه» ووجهٌ آخرُ: وهو أن تنتصبَ الكافُ بفعلٍ مضمرٍ يفسِّرُه «نُعِيْدُه» فهو ضعيفٌ جداً؛ لأنه مبنيٌّ على أن الكافَ اسمٌ لا حرفٌ، وليس مذهبَ الجمهور، وإنما ذهب إلى ذلك الأخفشُ. وكونُها اسماً عند البصريين مخصوصٌ بالشعرِ «. قلت: كلُّ ما قَدَّره فهو جارٍ على القواعدِ المنضبطةِ، وقادَه إلى ذلك المعنى الصحيحُ، فلا مُؤَاخَذَةَ عليه. يظهرُ ذلك بالتأمُّلِ لغيرِ الفَطِنِ. وأمَّا قوله:» ما «ففيها ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنها مصدريةٌ. والثاني: أنَّها بمعنى الذي. وقد تقدَّم تقريرُ هذين والثالث: أنها كافةٌ للكافِ عن العملِ كما هي في قولِه: 3366. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . كما الناسُ مَجْرُوْمٌ عليه وجارِمُ فيمَنْ رفع» الناس «. قال الزمخشري:» أولَ خَلْقٍ «مفعولُ» نُعيد «الذي يُفَسِّره» نُعِيده «، والكافُ مكفوفةٌ ب» ما «. والمعنى: نُعيد أولَ الخَلْقِ كما بَدَأْناه تَشْبيهاً للإِعادةِ بالابتداء في تناوُلِ/ القُدْرَةِ لهما على السَّواء. فإنْ قلتَ: فما أولُ الخَلْقِ حتى يُعيدَه كما بدأه؟ قلت: أوَّلُه إيجادُه عن العَدَمِ، فكما أوجدَه أولاً عن عدمٍ يُعيده ثانياً عن عدمٍ «. وأمَّا» أولَ خلق «فتَحصَّل فيه أربعةُ أوجهٍ، أحدها: أنه مفعولُ» بَدَأْنا «. والثاني: أنه ظرفٌ ل» بَدَأْنا «. والثالث: أنه منصوبٌ على الحال مِنْ ضميرِ الموصولِ كما تقدَّم تقريرُ كل ذلك. والرابع: أنه حالٌ مِنْ مفعول» نُعيده «قاله أبو البقاء، والمعنى: مثلَ أولِ خَلْقِه. وأمَّا تنكيرُ» خَلْقِ «فللدلالةِ على التفصيلِ. قاله الزمخشري:» فإن قلتَ «ما بالُ» خَلْقٍ «منكَّراً؟ قلت: هو كقولِك:» هو أولُ رجلٍ جاءني «تريد: أول الرجال. ولكنك وَحَّدْتَه ونَكَّرتَه إرادةَ تفصيلِهم رجلاً رجلاً، وكذلك معنى» أولَ خَلْقٍ «بمعنى: أول الخلائق؛ لأنَّ الخَلْقَ مصدرٌ لا يُجْمَعُ». قوله: {وَعْداً} منصوبٌ على المصدرِ المؤكِّد لمضمونِ الجملة المتقدِّمة، فناصبُه مضمرٌ أي: وَعَدْنا ذلك وَعْداً. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(105)

وقوله: (إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ). أي قادرين على فِعْل ما تشاءُ. * * * وقوله: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) الزَّبُور: جميع الكتب، التوراة، والإنجيل، والفرقان، زبور، لأن الزَّبُورَ والكتاب بمعنىً واحدٍ. ويقال زَبَرْتُ وكتبتُ بمعنىً واحدٍ، والمعنى: ولقد كتبنا في الكتُبِ من بَعْدِ ذِكْرِنَا في السماء (الأرْضَ يرثها عبادِيَ الصالِحُونَ). قيل في التفسير إنها أرْضُ الجنة، ودَليلُ هذا القول قوله: (أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ). وقيل إن الأرض ههنا يعنى بها أرض الدنيا، وهَذَا القَوْلُ أشْبَهُ - كما قال اللَّه عزَّ وجلَّ: (يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) والأرْضُ إذَا ذُكِرَتْ فهي دليلة على الأرض التي نعرفها، ودليل هذا القول أيضاً: قوله: (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا). وهذه الآية من أجل شواهد الفقهاء أن الأرض ليس مجراها مجرى سائرِ مَا يُعْمَرُ. * * * وقوله: (قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) الأجود (أَنَّمَا إِلَهُكُمْ) بفتح أنَّ، وهي القراءة، ولو قرئت إنما لجاز، لأن معنى

(109)

(يُوحَى إِلَيَّ) يُقالُ لي " ولكن القراءة الفتح لا غير. * * * وقوله: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109) (آذَنْتُكُمْ) أعْلَمْتكُم بما يوحى إليَّ لِتَسْتَوُوا في الإِيمان به. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111) أي وما أدري ما آذنتكم به فتنة لكم أي اختبارٌ لَكُمْ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112) (قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ). ويقرأ: (قَلْ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ). ويجوز وقد قرئ به: قال رَبِّي أَحْكَمُ بالحقِّ، وكان من مضى من الرُّسل يقولون: (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ). ومعناه احكم، فأمر اللَّه - عزَّ وجلَّ - نَبِيه أن يقول: (رَبِّ احكُمْ بالحَقِّ) (1). وقوله: (وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ). أَيْ عَلى مَا تَكْذِبُون.

_ (1) قال السَّمين: قوله: {قَالَ}: قرأ حفص «قال» خبراً عن الرسولِ عليه السلام. الباقون «قل» على الأمر. وقرأ العامَّةُ «رَبِّ» بكسرِ الباءِ اجتزاءً بالكسرةِ عن ياءِ الإِضافةِ، وهي الفصحى. وقرأ أبو جعفر بضمِّ الباءِ، فقال صاحبُ «اللوامح»: «إنه منادى مفردٌ ثم قال:» وحَذْفُ حَرْفِ النداء فيما جاز أن يكونَ وصفاً ل «أَيّ» بعيدٌ، بابُه الشعرُ «. قلت: ليس هذا من المنادى المفردِ، بل نَصَّ بعضُهم على أنَّ هذه بعضُ اللغاتِ الجائزةِ في المضافِ إلى ياء المتكلم حالَ ندائه. وقرأ العامَّةُ» احْكُمْ «على صورةِ الأمر. وقرأ ابن عباس وعكرمة وابن يعمر» رَبِّيْ «بسكونِ الياء» أَحْكَمُ «أفعلُ تفضيلٍ فهما مبتدأ وخبر. وقُرِىء» أَحْكَمَ «بفتح الميم كألزَمَ، على أنَّه فعلٌ ماضٍ في محلِّ خبرٍ أيضاً ل» ربِّي «وقرأ العامَّةُ» تَصِفُوْن «بالخطاب. وقرأ رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم على أُبَي رضي الله عنه» يَصِفُون «بالياء مِنْ تحت، وهي مَرْوِيَّةٌ أيضاً عن عاصم وابن عامر. والغيبة والخطاب واضحان. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

سورة الحج

سورة الحج بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) (يَا أَيُّهَا) نداء مبهم مفرد، وها للتنبيه، وهو مبْنى على الضم، والناس رفع تبع لـ (يا أيها)، والنحويون لا يجيزون إلا رفع الناس ههنا. والمازني أجاز النَصْبَ في يا أيها الرجُلَ أقْبلْ، كما تقول يا زيدُ الظريفَ والظريفُ، وهذا غلط من المازني، لأن زيداً يجوز الوقف والاقتصار عليه دون الظريف ويا أيها ليس بكلام، وإنما القصد الناسُ، فكأنَّه بمنزلة - يا ناس اتقوا ربكم. وجاء في التفسير أن كل شيء جاء في كتاب اللَّه من (يا أيها الناس) فمكي، وما كان فيه من (يا أيها الذين آمنوا) فمدني. * * * وقوله: (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ). قيل إِن هذه الزلزلة في الدنيا وأن يكون بعدها طلوع الشمس من مغربها وقيل إنها الزلزلة التي تكون مع الساعة. * * * (يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2) ويجوز (تُذْهِل كُلَّ مُرْضِعَةٍ)، ومعنى تُذْهِلُ تحَيّرُ، وتترك كل مرضعة قد ذَهَلَتْ عَمّا أرْضَعَتْ. و (مُرْضِعَةٍ) جار على المُفْعِل على ما أرضعت، ويقال:

(3)

امرأة مُرْضِع أي ذات رضاع أرضعت وَلَدَهَا أوْ أرْضعت غيرَهُ والقصْد قصد مُلْبِن أي ذات لَبُون وَلَبَنٍ. وقوله: (وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى). وقرئت: (وَتَرَى النَّاسَ سَكْرَى) واسم الفاعل مضمر في ترى. المعنى ترى أنت أيها الِإنسان الناسَ، ومن قرأ: (وَتَرَى النَّاسَ سَكْرَى) كان بمنزلة وترى أنت الناس سَكرى. وفيه وجه آخرُ مَا قُرِئ بِهِ وهو (وُيرَى الناسُ سَكْرَى) فيكون الناس اسم يُرَى، ووجه آخر لم يقرأ به: (ويرَى النَّاسَ سَكرى). المعنى ويرَى الِإنسانُ الناس سَكرى. ويقرأ وتَرَى الناسَ سَكْرَى وما هم بسَكرى، وترى الناسَ سُكارى وما هم بسكارى. ويجوز وترى الناس سَكارَى ومال هم بسَكارَى. والقراءة الكثيرة: (وترى الناسَ سَكْرَى وما هُمْ بسُكْرى). (وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى) أيضاً. والتفسير أنك تراهم سكارى من العذاب والخوف، وما هم بسكارى من الشَرابِ ويدل عليه: (وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) (1). * * * وقوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3) أي يتبع ما يُسَوِل له الشيطان، ومرِيد وَمَارِد معناه أنه قد مَرَدَ في الشرِّ.

_ (1) قال السَّمين: قوله: {يَوْمَ}: فيه أوجهٌ، أحدُها: أَنْ يَنْتَصِبَ ب «تَذْهَلُ» ولم يذكُرِ الزمخشريُّ غيره. الثاني: أنه منصوبٌ ب «عظيم». الثالث: أنه منصوبٌ بإضمار اذكر. الرابع: أنه بدلٌ من الساعة. وإنما فُتح لأنه مبنيٌّ لإِضافتِه إلى الفعلِ. وهذا إنما يتمشى على قولِ الأخفش، وقد تَقَدَّم تحقيقُه آخرَ المائدة. الخامس: أنه بدلٌ من «زلزلة» بدلُ اشتمالٍ؛ لأنَّ كلاً من الحدثِ والزمانِ يَصْدُقُ أنه مشتملٌ على الآخر، ولا يجوزُ أَنْ ينتصِبَ ب «زلزلة» لِمَا يَلْزَمُ من الفصلِ بين المصدرِ ومعمولِه بالخبر. قوله: {تَرَوْنَهَا} في هذا الضميرِ قولان، أظهرهما: أنه ضميرُ الزلزلةِ لأَنها المحدَّثُ عنها، ويؤيِّدُه أيضاً قولُه {تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ}. والثاني: أنه ضميرُ الساعةِ. فعلى الأولِ يكونُ الذُّهولُ والوَضْعُ حقيقةً لأنه في الدنيا، وعلى الثاني يكونُ على سبيلِ التعظيم والتهويل، وأنها بهذه الحيثيةِ، إذ المرادُ بالساعةِ القيامةُ، وهو كقولِه: {يَوْماً يَجْعَلُ الولدان شِيباً} [المزمل: 17]. قوله: {تَذْهَلُ} في محلِّ نصب على الحال من «ها» في «تَرَوْنَها» فإنَّ الرؤيَةَ هنا بَصَريةٌ، وهذا إنما يَجِيْءُ على غيرِ الوجهِ الأولِ. وأمَّا الوجهُ الأولُ وهو أنَّ «تَذْهَلُ» ناصِبٌ ل «يومَ تَرَوْنَها» فلا محلَّ للجملةِ من الإِعرابِ لأنها مستأنفةٌ، أو يكونُ محلُّها النصبَ على الحال من الزلزلة، أو من الضمير في «عظيم»، وإنْ كان مذكراً، لأنَّه هو الزَّلْزَلَةُ في المعنى، أو من الساعة، وإن كانت مضافاً إليها، لأنها: إمَّا فاعلٌ أو مفعولٌ كما تقدَّم. وإذا جَعَلْناها حالاً فلا بُدَّ من ضميرٍ محذوفٍ تقديرُه: تَذْهَلُ فيها. وقرأ العامة «تَذْهَلُ» بفتح التاءِ والهاءِ، مِنْ ذَهِل عن كذا يَذْهَلُ. وقرأ ابن أبي عبلة واليماني بضم التاء وكسرِ الهاءِ ونصبِ «كل» على المفعولية، مِنْ أَذْهَلَه عن كذا يُذْهِله عَدَّاه بالهمزةِ، والذُّهولُ: الاشتغالُ عن الشيءِ. وقيل: إذا كان مع دَهْشَة. وقيل: إذا كان ذلك لطَرَآنِ شاغِلٍ مِنْ هَمٍّ ومَرَضٍ ونحوِهما. وذُهْل بنُ شَيْبان أصلُه من هذا. والمُرْضِعَةُ: مَنْ تَلَبَّسَتْ بالفعل، والمُرْضِعُ: مَنْ شَأْنُها أَنْ تُرْضِعَ كحائض، فإذا أريد التلبُّسُ قيل: حائِضة. قال الزمخشري: «فإن قلتَ: لِمَ قيل مُرْضِعَة دون مُرْضع؟ قلت: المُرْضِعَةُ التي هي في حال الإِرضاعِ ملقمةٌ ثديَها الصبيَّ، والمرضعُ التي مِنْ شأنِها أَنْ تُرْضِعَ وإن لم تباشِرْ الإِرضاعَ في حالِ وَصْفِها به» والمعنى: إنَّ مِنْ شِدَّة الهَوْلِ تَذْهَلُ هذه عن ولدِها فكيف بغيرِها؟ وقال بعضُ الكوفيين: المُرْضِعَةُ تقال للأمِّ، والمُرْضِعُ تقال للمستأجَرَةِ غيرِ الأمِّ، وهذا مردودٌ بقولِ الشاعر: 3369 كمُرْضِعَةٍ أولادَ أخرى وضَيَّعَتْ. . . بني بطنِها هذا الضلالُ عن القصدِ فأَطْلَقَ المُرْضِعَةَ بالتاء على غير الأمِّ. وقولُ العرب مُرْضِعَة يَرُدُّ أيضاً قولَ الكوفيين: إنَّ الصفاتِ المختصةَ بالمؤنثِ لا يلحقها تاءُ التأنيثِ نحو: حائِض وطالق. فالذي يُقال: إنْ قُصِد النَّسَبُ فالأمرُ على ما ذَكَروا، وإنْ قُصِد الدلالةُ على التلبُّسِ بالفعلِ وَجَبَتِ التاءُ فيقال: حائضة وطالقة وطامِثة. قوله: {عَمَّآ أَرْضَعَتْ} يجوزُ في «ما» أَنْ تكونَ مصدريةً أي: عن إرْضاعِها. ولا حاجةَ إلى تقديرِ حَذْفٍ على هذا. ويجوزُ أَنْ تكونَ بمعنى الذي فلا بُدَّ من حَذْفِ عائدٍ أي: أَرْضَعَتْه. ويُقَوِّيه تعدِّي «تَضَعُ» إلى مفعولٍ دونَ مصدرٍ. والحَمْلُ بالفتحِ: ما كان في بَطْنٍ أو على رأسِ شجرة، وبالكسرِ ما كان على ظَهْرٍ. قوله: {وَتَرَى الناس سكارى} العامَّةُ على فتحِ التاءِ من «ترى» على خطابِ الواحد. وقرأ زيدُ بن علي بضمِّ التاءِ وكسرِ الراءِ، على أنَّ الفاعلَ ضميرُ الزلزلةِ أو الساعةِ. وعلى هذه القراءةِ فلا بُدَّ من مفعولٍ أولَ محذوفٍ ليَتِمَّ المعنى به أي: وتُرِي الزلزلةُ أو الساعةُ الخَلْقَ الناسَ سكارى. ويؤيِّد هذا قراءةُ أبي هريرة وأبي زرعة وأبي نهيك «ترى الناس سكارى». بضمِّ التاء وفتح الراء على ما لم يُسَمَّ فاعله، ونصب «الناسَ»، بَنَوْه من المتعدِّي لثلاثةٍ: فالأولُ قام مَقامَ الفاعلِ، وهو ضميرُ الخطابِ، و «الناسَ سُكارى» هما الأولُ والثاني. ويجوز أن يكونَ متعدِّياً لاثنين فقط على معنى: وتُرِي الزلزلةُ أو الساعةُ/ [الناسَ] قوماً سكارى. فالناسَ هو الأول و «سكارى» هو الثاني. وقرأ الزعفرانيُّ وعباسٌ في اختياره «وترى» كقراءة أبي هريرة إلاَّ أنهما رفعاً «الناسُ» على أنه مفعول لم يُسَمَّ فاعلُه. والتأنيثُ في الفعلِ على تأويلِهم بالجماعة. وقرأ الأخَوان «سكرى» «وما هم بسكرى» على وزنِ وَصْفِ المؤنثةِ بذلك. واخْتُلف في ذلك: هل هو صيغةٌ جمعٍ على فَعْلَى كمَرْضى وقَتْلى، أو صفةٌ مفردةٌ اسْتُغني بها في وصفِ الجماعة؟ خلافٌ مشهورٌ تقدَّمَ الكلامُ عليه في قوله: «أسرى». وظاهرُ كلامِ سيبويه أنه جمعُ تكسيرٍ فإنه قال: «وقومٌ يقولون: سكرى، جَعَلوه مثلَ مرضى لأنهما شيئان يَدْخلان على الإِنسان، ثم جَعَلوا» روبى «مثلَ سكرى وهم المُسْتَثْقلون نَوْماً من شربِ الرائب. وقال الفارسي:» ويَصِحُّ أن يكونَ جمعَ «سَكِر» كزَمِن وزمنى. وقد حُكي «رجلٌ سَكِر» بمعنى سَكْران فيجيءُ سكرى حينئذٍ لتأنيث الجمع «. قلت: ومِنْ ورودِ» سَكِر «بمعنى سَكْران قولُه: 3370 وقد جَعَلْتُ إذا ما قُمْتُ يُثْقِلُني. . . ثَوْبي فأنهضُ نَهْضَ الشاربِ السَّّكِرِ وكنتُ أَمْشي على رِجْلين مُعْتَدِلاً. . . فصِرْتُ أَمْشِي على أخرى من الشَّجر ويُروى البيتُ الأول» الشارِبِ الثَّمِلِ «، والأولُ أَصَحُّ لدلالةِ البيت الثاني عليه. وقرأ الباقون» سكارى «بضمِّ السين. وقد تَقَدَّم لنا في البقرة خلافٌ: هل هذه الصيغةُ جمعُ تكسيرٍ أو اسمُ جمع؟ وقرأ أبو هريرةَ وأبو نهيك وعيسى بفتح السين فيهما، وهو جمع تكسير، واحدُه سَكْران. قال أبو حاتم: «وهي لغةُ تميم». وقرأ الحسنُ والأعرج وأبو زرعة والأعمش «سكرى» «بسكرى» بضمِّ السين فيهما. فقال ابن جني: «هي اسمٌ مفردٌ كالبُشْرَى. بهذا أفتاني أبو علي». وقال أبو الفضل: «فُعْلَى بضمِّ الفاءِ مِنْ صفةِ الواحدةِ من الإِناثِ، لكنها لَمَّا جُعِلَتْ من صفاتِ الناس وهم جماعة، أُجْرِيَتْ الجماعة بمنزلة المؤنثِ الموحَّدِ». وقال الزمخشري: «هو غريبٌ». قلت: ولا غرابةَ؛ فإنَّ فعلى بضم الفاء كَثُر مجيئُها في أوصافِ المؤنثة نحو الربى والحبلى وجَوَّز أبو البقاء فيه أن يكونَ محذوفاً مِنْ سكارى. وكان مِنْ حَقِّ هذا القارىء أَنْ يُحَرِّكَ الكافَ بالفتح إبقاءً لها على ما كانَتْ عليه. وقد رواها بعضُهم كذلك عن الحسن. وقُرِىء «ويرى الناسُ» بالياء من تحت ورفع «الناسُ». وقرأ أبو زرعة في روايةٍ «سَكْرى» بالفتح، «بسُكْرى» بالضم. وعن ابن جبير كذلك، إلاَّ أنه حَذَف الألفَ من الأول دون الثاني. وإثباتُ السُّكْرِ وعَدَمُه بمعنى الحقيقة والمجاز أي: وترى الناس سكرى على التشبيه، وما هم بسَكْرى على التحقيق. قال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: لِمَ قيل أولاً: تَرَوْن، ثم قيل:» ترى «على الإِفراد؟ قلت: لأنَّ الرؤيةَ أولاً عُلِّقَتْ بالزلزلة، فَجُعِل الناسُ جميعاً رائِيْنَ لها، وهي معلَّقَةٌ أخيراً بكونِ الناسِ على حالِ السُّكر، فلا بُدَّ أن يُجْعَلَ كلُّ واحدٍ منهم رائياً لسائرِهم». اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4)

وتأويل المروَدِ أن يبلغ الغاية التي يخرج بها من جملة ما عليه ذلك الصنفُ. وجائز أن يُسْتَعْمل ذلك في غير الشيطان، فتقول قد تمرد هذا السيِّئ أي قد جاوز حَدَّ مثله، وأصله في اللغة امْلِسَاسُ الشيء، من ذلك قولك للِإنسان أمْرَدَ إذا لم يكن في وَجْهِهِ شَعْر، ويَقَال للصخرة مرداء إذا كانت ملساء. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4) (أَنَّهُ) في موضع رفع. (فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ)، عطف عليه، وموضعه رفع أيضاً، والفاء الأجود فيها أن تكون في معنى الجزاء، وجائز كسر إنَّ مع الفاء، ويكون جزاء لا غير. والتأويل: كُتِب عليه أي على الشيطان إضْلَال متَولِّيه وهدايتُهم إلى عذاب السعير، وحقيقة " أن " الثانية أنها مكررة مع الأولى على جهة التوكيد، لأن المعنى كُتبَ عليه أنه من تولاه أضله. * * * وقوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ) ويقرأ من البَعَثِ بفتح العين، والريب الشك، فأمَّا البَعَثَ بفتحْ العين - فذكر جميع الكوفيين أن كل ما كان ثانيه حرفاً من حروف الحلق، وكان مُسكَناً مفتوح الأول جاز فيه فتح المسَكن نحو نَعْل ونَعَل، وشَعْر وشَعَر، ونَهْر ونَهَر، ونَخْل ونَخَل. فأمَّا البصريون فيزعمونَ أن ما جاء من هذا فيه اللغتان تُكُلِّمَ به على ما جاءَ. وما كان لم يسمع لم يَجزْ فيه التحريك نحو وَعْد، لأنك لا تقول: لك عَلَيَّ وَعَدٌ، أي عَلَيَّ وِعْدَة، ولا في هذا الأمْر وَهَن - في

معنى وَهْن -. وهذا في بابه مثل رَكٍّ، ورَكَكٍ وقدْرٍ وقدَرٍ، وَقَصِّ الشَاةِ وقَصَصِهَا فلا فرق في هذا بين حروف الحلق وغيرها. وقيل للذين جحدوا البعث وهم المشركون: إن كنتم في شَكِّ من أنَّ اللَّه يبعث الموتى فتدبروا أمر خلقكم وابتدائكم فإنكم لا تجدون في القدرة فرقاً بين ابتداء الخلق وإعادته، وإحياء الموتى. ثم بين لهم ابتداء خَلْقِهم فَأعْلَمهُم أنهم خُلقوا من تراب، وهو خلق آدم عليه السلام، ثم خُلِقَ ولدُه من نطفة، ثم من عَلَقَةٍ ثم من مُضْغَةٍ. وأعلمهم أحوال خلقهم. ويُروى أن الِإنسانَ يكُونُ في البطن نطفةً أربعين يوماً ثم مُضْغَةً أرْبَعينَ يوماً، ثم يبعث اللَّهُ مَلَكاً فينفخ - فيه الروح. ومعنى (مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) وصف الخَلق أو منهم من يُتَمَّمُ مضغته فتخلَقُ له الأعضاءُ التي تكمل آلات الِإنْسَانِ ومنهم من لا يتمم اللَّه خلقه. وقوله: (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ). أي ذكرنا أحوال خلق الِإنسان. ووجه آخر هو خلقناكم هذا الخلق (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ). (وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ). لا يجوز فيها إلا الرفع، - ولا يجوز أن يكون معناه فعلْنَا ذلك لنُقِر في الأرحام، وَأنَّ اللَّه - عزَّ وجلَّ - لم يخلق الأنام لما يُقَر في الأرحام، وإنما خلقَهُم ليدُلَّهُمْ عَلَى رُشدهم وَصَلَاحِهِمْ. وقوله - عزَّ وجلَّ -: (ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا). في معنى أطفال، ودل عليه ذكر الجماعة. وكأنَّ طفلاً يَدُل على معنى ويُخْرَجُ كل واحدٍ منكم طفلاً.

(6)

(ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ). قد فسرنا الأشدَّ، وتأويله الكَمالُ في القُوَّةِ والتمييز، وهو ما بين الثلاثين إلى الأربعين. وقوله: (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ). أرذل العمر هو الذي يخرف فيه الإِنسان من الكِبَر حتَى لا يَعْقِلَ، وَبيَنَ ذلك بقوله: (لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ). ثم دَلَّهُمْ عَلى إحْيائه الموتى بإحيائه الأرض فقال: (وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً). يعنى جافةً ذاتَ تُرابِ. (فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ). وتقرأ ورَبأتْ. فاهتزازها تحركُها عند وقُوع المَاءِ بها وإنباتها. ومَنْ قرأ: (وَرَبَتْ) فهو من ربا يربو إذا زاد على أي الجهات، وَمَنْ قَرأ وَرَبَأتْ بالهمز فمعناه ارْتَفَعَتْ. (وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ). أي من كل صنف حَسَنٍ من النبات. * * * (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) المعنى الأمر ذلك، أي الأمر ما وُصف لكم وبُيِّنَ لكُمْ (بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). فالأجْوَدُ أن يكون موضع (ذلك) رفعاً. ويجوز أن يكون نصباً على معنى فعل اللَّه ذلك بأنه هو الحق وأنه يحي الموتى.

(9)

وقوله: (ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9) وليَضِل عن سبيل اللَّه، و (ثَانِيَ) منصوب على الحال، ومعناه التنوين. ومعناه ثانياً عِطفَه، وجاء في التفسير أن معناه لَاوِياً عُنُقَه، وهذا يوصف به. فالمعنى ومن الناس من يجادل في الله بغير علم مُتَكَبِّراً. * * * وقوله: (ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (10) يقال: هذا العذاب بما قدمت يداك، وموضع (ذلك) رفع بالابتداء. وخبره (بما قَدَّمَتْ يَدَاكَ)، وموضع " أن " خفض المعنى ذلك بما قدمت يداك وبأن الله ليس بظلام للعبيد. ولو قرئت (إن) بالكسر لجاز. ويجوز أن يكون موضع (ذلك) رفعاً على خبر الابتداء. المعنى الأمر (ذلك بما قدمت يداك). ويكون موضع أن الرفع على معنى (أنَّ اللَّهَ ليس بظلام للعبيد). * * * (قوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11) جاء في التفسير على شَكٍّ، وحقيقتُه أنَّه يعبدُ اللَّه على حَرْفِ الطرِيقَةِ في الدِّينِ، لا يدخل فيه دخول متمكن. (فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ). أي إن أصابه خِصْث وكَثرَ مَالُه وماشِيَتُه اطْمأنَّ بما أصابه ورضي بدينه. (وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ). اختبار بجدْب وقِلَّةِ مَالٍ. (انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ). رجع عن دينه إلى الكفر وعبادة الأوثان. * * * وقوله: (يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12) يعنى يدعو الوثن الذي لا يَسْمَع ولا يُبْصِر ولا ينفعُ ولا يضرُّ.

(13)

وقوله: (يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13) فقال: ولا يضره، وقال ضَره أقربُ من نفعه، معناه الضَرَرُ بعبادَتِه أقرب من النفع. فإن قال قائل: كيف يقال: أقرث من نفعه ولا نفع من قِبَلِهِ ألبتَّةَ؟ فالعرب تقول لِمَا لَا يكون: هذا بعيد، والدليل على ذلك قوله تعالى: (أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3). وقد اختلف الناس في تفسير هذه اللام، وفي (يدعو) بأي شْيء هي معلَّقَة ونحن نفسر جميع ما قالوه وما أغفلوه مما هو بيِّنٌ من جميع ما قالوا إن شاء اللَّه. قال البصريون والكوفيون: اللام معناها التأخير، المعنى يدعو من لضَرِّه أقربُ من نَفْعِهِ ولم يُشْبِعُوا الشرحَ، ولا قالوا من أين جاز أن تَكُونَ اللام فِي غير مَوْضِعِها. وشرح ذلك أن اللام لليمين والتوكيد فحقها أن تكون في أول الكلام فقدمت لِتُجْعَلَ في حقها، وإن كان أصلُها أنْ تكون في " لَضَرُّهُ " كما أن لام " إن " حَقها أن تكون في الابتداء، فلما لم يجز أنْ تَلِيَ " إنَّ " جُعِلَت في الخَبر في مثل قولك: إنَّ زيداً لقائمٌ، ولا يَجُوزُ " إنَّ لَزَيْداً قائِمٌ "، فإذا أمكن أن يكون ذلك في الاسم كان ذلك أجود الكلام، تقول إن في ذلك لآية، فهذا قول. وقالوا أيضاً. أن يَدعُو مَعَها هاء مُضمَرةٌ، وأن (ذلِك) في موضع رفع و (يدعو) في موضع الحال. المعنى، ذلك هو الضلال البعيد يدْعُوه، المعنى في

حال دُعَائِه إيَّاهُ، ويكون (لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ) مستأنفاً مرفوعاً بالابتداء وخبره (لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ). وفيه وجه آخَرُ ثَالث، يكون يدعو في معنى يقول، يكون من في موضع رفع وخَبرُه محذوف، ويكون المعنى: يقول لمن ضره أقرب من نفعه هو مولاي، ومثله يدعو في معنى يقول في قول عنترة. يدعون عنتر والرماح كأنَّها. . . أشطان بئر في لبان الأدهم ويجوز أن يكون " يَدْعو " في معنى " يُسَمِّي " كما قال ابن أحْمَر: أَهْوَى لها مِشْقَصاً جَشْراً فشَبْرَقَها. . . وكنتُ أَدْعُو قَذَاها الإثْمِدَ القَرِدا ووجه هذا القول الذي قبله. وفيها وجه رابع وهو الذي أغفله الناس، أن " ذلك " في موضع نصب بوقوع يدعو عليه، ويكون " ذلك " في تأويل الذي، ويكون المعنى الذي هو الضلال البعيد يدعو، ويكون (لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ) مستأنفاً (1)، وهذا مثل قوله: (وَمَا تِلْكَ بِيَمينِك) على معنى وما التِي بيَمِينِك يَا مُوسَى. ومثله قول الشاعر:

_ (1) قال السَّمين: قوله: {يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ}: فيه عشرةُ أوجه، وذلك أنَّه: إمَّا بجَعْلِ «يَدْعُو» متسلِّطاً على الجملة مِنْ قولِه: {لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ} أو لا. فإنْ جَعَلْنَاه مُتَسَلِّطاً عليها كان في سبعةُ أوجه، أحدها: أنَّ «يَدْعُو» بمعنى يَقُوْل، واللامُ للابتداء، و «مَنْ» موصولةٌ في محلِّ رفعٍ بالابتدء. و «ضَرُّه» مبتدأ ثانٍ و «أقربُ» خبرُه. وهذه الجملةُ صلةٌ للموصول، وخبرُ الموصولِ محذوفٌ تقديرُه: يقول لَلَّذي ضَرُّه أقربُ من نَفْعِه إلهٌ أو إلهي أو نحوُ ذلك. والجملةُ كلُّها في محلٍّ نصبٍ ب «يَدْعُو» لأنَّه بمعنى يَقُول، فهي محكيَّةٌ به. وهذا قولُ أبي الحسنِ. وعلى هذا فيكون قولُه: {لَبِئْسَ المولى} مستأنفاً ليس داخلاً في المَحْكيِّ قبلَه؛ لأنَّ الكفار لا يقولون في أصنامِهم ذلك. وقد رَدَّ بعضُهم هذا القولَ بأنه فاسدُ المعنى، والكافرُ لا يَعتقد في الأصنامِ أنَّ ضَرَّها أقربُ مِنْ نفعِها ألبتَّةََ. الثاني: أنَّ «يَدْعُو» مُشَبَّهٌ بأفعالِ القلوب؛ لأنَّ الدعاءَ لا يَصْدُرُ إلاَّ عن اعتقادٍ، وأفعال القلوب تُعَلَّق، ف «يَدْعُو» مُعَلَّقٌ أيضاً باللام. و «مَنْ» مبتدأٌ موصولٌ. والجملةُ بعده صلةٌ، وخبرُه محذوفٌ على ما مَرَّ في الوجهِ قبلَه. والجملة في محلِّ نصبٍ، كما تكون كذلك بعد أفعالِ القلوب. الثالث: أَنْ يُضَمَّن يَدْعُو معنى يزعم، فيُعَلَّق كما يُعَلَّقُ، والكلامُ فيه كالكلامِ في الوجهِ الذي قبله. الرابع: أن الأفعالَ كلَّها يجوزُ أَنْ تُعَلَّق قلبيةً كانت أو غيرَها فاللامُ معلِّقَةٌ ل «يَدْعوا»، وهو مذهبُ يونسَ. فالجملةُ بعده الكلامُ فيها كما تقدَّم. الخامس: أنَّ «يَدْعُوا» بمعنى يُسَمِّي، فتكونَ اللامُ مزيدةً في المفعولِ الأولِ وهو الموصولُ وصلتُه، ويكون المفعولُ الثاني محذوفاً تقديرُه: يُسَمِّي الذي ضَرُّه أقربُ مِنْ نفعِه إلهاً ومعبوداً ونحو ذلك. السادس: أنَّ اللامَ مُزالَةٌ/ مِنْ موضِعها. والأصلُ: يَدْعُو مَنْ لَضَرُّه أقربُ. فقُدِّمَتْ مِنْ تأخيرٍ. وهذا قولُ الفراء. وقد رَدُّوا هذا بأنَّ ما في صلةِ الموصولِ لا يتقدَّمُ على الموصولِ. السابع: أنَّ اللامَ زائدةٌ في المفعول به وهو «مَنْ». والتقديرُ: يَدْعُو مَنْ ضَرُّه أقرب. ف «مَنْ» موصولٌ، والجملةُ بعدَها صلتُها، والموصولُ هو المفعولُ ب «يَدْعُو» زِيْدتْ فيه اللامُ كزيادتِها في قولِه {رَدِفَ لَكُم} [النمل: 72] في أحدِ القولين. وقد رُدَّ هذا بأنَّ زيادةَ اللام إنما تكونُ إذا كان العاملُ فَرْعاً، أو بتقديم المعمول. وقرأ عبد الله «يَدْعُو مَنْ ضَرُّه» بعيرِ لامِ ابتداءٍ، وهي مؤيدةٌ لهذا الوجهِ. وإنْ لم تجعَلْه متسلِّطاً على الجملةِ بعدَه كان فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أظهرُها: أنَّ «يَدْعُو» الثاني توكيدٌ ل «يَدْعو» الأولِ فلا معمولَ له، كأنه قيل: يَدْعو يَدْعو مِنْ دونِ الله الذي لا يَضُرُّه ولا ينفعه. وعلى هذا فتكونُ الجملةُ مِنْ قولِه {ذلك هُوَ الضلال} معترضةً بين المؤكَّدِ والتوكيدِ؛ لأنَّ فيها تَسْديداً وتأكيداً للكلام، ويكون قولُه {لَمَنْ ضَرُّهُ} كلاماً مستأنفاً. فتكونُ اللامُ للابتداء و «مَنْ» موصولةٌ، و «ضَرُّه» مبتدأ و «أقربُ» خبرُه. والجملةُ صلةٌ، و «لَبِئْسَ» جوابٌ قسمٍ مقدر. وهذا القسمُ المقدرُ وجوابُه خبرُ المبتدأ الذي هو الموصول. الثاني: أن يُجْعَلَ «ذلك» موصولاً بمعنى الذي. و «هو» مبتدأ، و «الضلالُ» خبره والجملةُ صلةٌ. وهذا الموصولُ مع صلتِه في محلِّ نصبٍ مفعولاً ب «يَدْعو» أي: يدعو الذي هو الضلالُ. وهذا منقولٌ عن أبي علي الفارسي، وليس هذا بماشٍ على رأي البصريين؛ إذ لا يكونُ عندهم من أسماءِ الإِشارةِ موصولٌ إلاَّ «ذا» بشروطٍ ذكرْتُها فيما تقدَّم. وأمَّا الكوفيون فيُجيزون في أسماءِ الإِشارة مطلقاً أن تكونَ موصولةً، وعلى هذا فيكونُ «لَمَنْ ضَرُّه أَقْرَبُ» مستأنفاً، على ما تقدَّم تقريرُه. والثالث: أن يُجْعَلَ «ذلك» مبتدأ. و «هو»: جوَّزوا فيه أن يكونَ بدلاً أو فَصْلاً أو مبتدأً، و «الضلالُ» خبرُ «ذلك» أو خبرُ «هو» على حَسَبِ الخلافِ في «هو» و «يَدْعُو» حالٌ، والعائدُ منه محذوفٌ تقديرُه: يَدْعوه، وقدَّروا هذا الفعلَ الواقعَ موقعَ الحال ب «مَدْعُوَّاً» قال أبو البقاء: «وهو ضعيفٌ»، ولم يُبَيِّنْ وجه ضَعْفِه. وكأنَّ وجهَه أنَّ «يَدْعُو» مبنيٌّ للفاعلِ فلا يناسِبُ أن تُقَدَّرَ الحالُ الواقعةُ موقعَه اسمَ مفعولٍ، بل المناسِبُ أن تُقَدَّرَ اسمَ فاعل، فكان ينبغي أَنْ يُقَدِّروه: داعياً ولو كان التركيبُ «يدعى» مبنياً للمفعول لَحَسُن تقديرُهم مَدْعُوَّاً. ألا ترى أنَّك إذا قلتَ: «جاء زيدٌ يضربُ» كيف تُقَدِّره ب «ضارب» لا ب مَضْروب. والمخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ، وتقديرُه: لبِئْسَ المولى ولبئس العشيرُ ذلك المَدْعُوُّ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(15)

عَدَسْ ما لعَبَّادٍ عليك إِمارةٌ. . . نَجَوْتِ وهذا تَحْمِلِينَ طَلِيقُ * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15) هذه الهاء لمحمد - صلى الله عليه وسلم - أي من كان يظن أن لن ينصر اللَّه مُحمداً - صلى الله عليه وسلم - حتى يظهره على الدين كله فليمت غيظاً، وهو تفسير قوله: (فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ). السبب الحبل، والسماء السقف، أي فليشدُدْ حَبْلاً في سَقْفِهِ. (ثُمَّ لْيَقْطَعْ). أي ليمد الحبل حتى ينقطع فيموت مختنقاً. (هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ). أي هل يذهبن كيده غيظه. وقُرِئت ثم لِيَقْطع، وثم لْيَقْطعْ، بكسر اللام وجزمها. * * * وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17) يَفْصِل اللَّه بين هذه الفرق الخَمْس وبين المؤمنين. * * * (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) (فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ). والمؤمنون يدخلون الجنة وهو قوله: (إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ). وخبر (إِنَّ) الأولى جملة الكلام مع إنَّ الثانيةِ. وقَدْ زعم قوم أن قولك: إنَّ زَيداً إنه قائم رديء وأنَّ هذه الآية إنما صلحت في الذي. ولا فرق بين الذي وغيره في باب (إِنَّ). إن قلت إن زيداً إنه قائم كان جيداً ومثله قول الشاعر:

(18)

إن الخليفَةَ إِنَّ اللَّه سَربَلَهُ وليس بين البصريين خلاف في أن " (إِنَّ) تدخل على كل ابتداء وخبر. تقول إِنَّ زيداً هو قائم وإِنَّ زيداً إِنَّه قائم. * * * وقوله: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18) والسجود ههنا الخضوع للَّهِ عزَّ وجلَّ، وهىِ طاعة ممن خلق الله من الحيوان والموات. والدليل على أنه سجودُ طَاعَةٍ قوله: (وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ). هذا أجود الوجوه أنْ يكونَ تَسْجُدُ مُطِيعةً، للَّهِ عزَّ وجلَّ. كما قال اللَّه تعالى: (فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ)، وكما قال: (وَإِنَّ مِنْهَا) يعني الحجارة (لما جهبط من خَشْيَةِ اللَّهِ)، فالخشية لا تكون إلَّا لما أعْطاه اللَّه مما يَخْتَبِرُ به خشيته. وقال قوم: السجود من هذه الأشياء التي هي موات ومن الحيوان الذي لا يعقل إنما هو أثَرَ الصنعَةِ فيها والخضوع الذي يدل على أنها مخلوقة، واحتجوا في ذلك بقول الشاعر:: بجَيْشٍ يَضِل البلق في حَجَراتِه. . . ترى الأُكْمَ فيها سُجَّداً للحوافِرِ أي قد خشعت من وطء الحوافِرِ عَلَيْهَا، وذلك القول الذي قالوه لأن السجود الذي هو طاعة عندهم إنما يكونُ ممن يَعْقِلُ، والذي يكسر هذا ما وصف اللَّهُ عزَّ وجلَّ مِنْ أن مِن الحجارةِ لما يهبط من خشية اللَّه، والخشية والخوفُ ما عقلناه إلا للآدميين، وقد أعلمنا اللَّه - عزَّ وجلَّ - أن من الحجارة

(19)

ما يخشاه، وأعلمنا أنه سَخر معَ داودَ الجبالَ والطيرَ تسبح معه، فلو كان تسبيح الجبال والطير أثرَ الصنعة: ما قيل سخرنا ولا قيل مع داود الجبال لأن أثر الصنعة يتبين معَ دَاوُدَ وَغيرِه، فَهُوَ سُجودُ طاعةٍ لا محالة، وكذلك التسبيح في الجبال والطير، ولكنا لا نعلم تسبيحها إلا أن يجيئنا في الحديث كيف تسبيح ذلك. وقال اللَّه عزَّ وجلَّ - (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ). * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) الخصمان المُؤمِنُونَ والكَافِرون - جاء في التفسير أن إليهود قالوا للمسلمين ديننا أقْدَمُ من دينكم وكتابنا أقدَمُ من كتابكم، فأجابهم المسلمونَ بأنَّا آمنا بما أنزل إلينا وأنزل إليكم وآمنا باللَّهِ وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله، وأنتم كفرتم ببعض الرسل فظهرت حجة المسلمين على الكافرين. وقيل اختصموا وقد قال خَصْمَانِ لأنهما جَمْعانِ. (فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ). وجاء في التفسير أن الثيَابَ التي من نارٍ هي نُحَاسٌ قَدْ أُذِيبَ. قوله عزَّ وجلَّ.: (يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) يغلى به ما في بطونهم حتى يَخْرُجَ من أدْبَارِهم، فهذا لأحد الخصمين. وقال في الخصم الذين هم مؤمنون: (إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23) و (لُولُؤ) يقرأان جميعاً، فمن قرأ (ولؤلؤاً) فعلى معنى يحلون فيها أساور من

(25)

ذهب ويُحلوْنَ لؤلُؤاً، ومن قرأ وَلؤلُؤ أراد وَمِنْ لؤلؤ. وجائز أن يكون أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤٍ، فيكون ذلك فيها خلطاً مِنَ الصنْفيْن ويقرأ (يَحْلَوْنَ فيها) على معنى قَوْلك حَلِيَ يَحْلَى إذا صار ذا حَلْيٍ (1). * * * وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25) لفظ (يَصُدُّونَ) لفظ مستقبل عطف به على لفظ الماضي، لأن معنى الذين كفروا الذين هم كافرون، فكأنَّه قال إنَّ الكَافرين والصَّادِّينَ. وخبر (إِنَّ) فيه قولان أحدهما أن يكون محذوفاً فيكون المعنى إِنَّ الذين هذه صِفَتُهم هلكوا وجائز أن يكون - وهو الوجه - الخبر (نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ ألِيمٍ). فيكون المعنى إِنَّ الكافرين والملحدين في المسجد الحرام نذِقْهمْ مِنْ عَذَابٍ ألِيمً. وقوله تعالى،: (سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ). القراءة الرفعُ في (سَوَاء)، ورفعه من جهتين: إحداهما أن يكون وقف التمام هو (الذي جَعَلْنَاهُ للنَاسِ)، كما قَال: (إِن أولَ بَيْتٍ وُضِعَ للنَّاسِ). ويكون سواء العاكف فيه والباد - على الابتداء والخبر، ويجوز أن يكون على جعلناه سواء العاكف فيه، فيرتفع (سَوَاءٌ) على الابتداء، ويكون الخبر ههنا (العاكف فيه)، أعني خبر (سواء العاكف) ويكون خبر (جَعَلْنَاهُ) الجملة.

_ (1) قال السَّمين: قوله: {يُحَلَّوْنَ}: العامَّةُ على الياءِ وفتحِ اللامِ مشددةً، مِنْ حَلاَّه يُحَلِّيه إذا ألبسَه الحُلِيَّ. وقُرِىءَ بسكون الحاءِ وفتحِ اللامِ مخففةً، وهو بمعنى الأول، كأنَّهم عَدَّوْه تارةً بالتضعيف وتارةً بالهمزةِ. قال أبو البقاء: «مِنْ قولك: أحلى أي ألبسَ الحُلِيَّ، وهو بمعنى المشدَّد». وقرأ أبنُ عباسٍ بفتحِ الياءِ وسكونِ الحاءِ وفتحِ اللامِ مخففةً. وفيها ثلاثةُ أوجهٍ. أحدُها: أنَّه من حَلِيَتْ المرأةُ تَحْلَى فهي حالٍ. وكذلك حَلِيَ الرجلُ فهو حالٍ، إذا لَبِسا الحُلِيَّ أو صارا دونَ حُلِيّ. الثاني: أنَّه من حَلِيَ بعيني كذا يَحْلَى إذا اسْتَحْسَنْته. و «مِنْ» مزيدةٌ في قولِه {مِنْ أَسَاوِرَ} قال: «فيكونُ المعنى: يَسْتَحْسِنون فيها الأساور الملبوسة». ولما نقل الشيخ هذا الوجهَ عن أبي الفضل الرازي قال: «وهذا ليس بجيد لأنه جَعَلَ حَلِيَ فعلاً متعدياً، ولذلك حَكَم بزيادةِ» مِنْ «في الواجبِ. وليس مذهبَ البصريين. وينبغي على هذا التقديرِ أَنْ لا يجوزَ؛ لأنه لا يُحْفَظُ بهذا المعنى إلاَّ لازِماً، فإنْ كان بهذا المعنى كانَتْ» مِنْ «للسببِ أي: بلباسِ أساورِ الذهبِ يَحْلَوْن بعينِ مَنْ رآهم، أي: يحلى بعضُهم بعينِ بعضٍ». قلت: وهذا الذي نقله عن أبي الفضلِ قاله أبو البقاء، وجَوَّز في مفعولِ الفعلِ وجهاً آخرَ فقال: «ويجوزُ أن يكونَ مِنْ حَلِيَ بعيني كذا إذا حَسُن، وتكونُ» مِنْ «زائدةً أو يكونُ المفعولُ محذوفاً، و» مِنْ أساورَ «نعتٌ له». فقد حكمَ عليه بالتعدِّي ليس إلاَّ، وجَوَّز في المفعول الوجهَيْن المذكورَيْن. الثالث: أنَّه مِنْ حَلِيَ بكذا إذا ظَفِرَ به، فيكونُ التقديرُ: يَحْلَوْن بأساورَ. ف «مِنْ» بمعنى الباء. ومِنْ مجيءِ حَلِيَ بمعنى ظَفِرَ قولُهم: لم يَحْلَ فلانٌ بطائلٍ أي: لم يظفرْ به. واعلم أنَّ حَلِي بمعنى لبس الحلية، أو بمعنى ظَفِر من مادةِ الياءِ لأنهما مِن الحِلْيَةِ. وأمَّا حَلِيَ بعيني كذا فإنه من مادة الواو لأنه من الحلاوة، وإنما قلبت الواو ياءً لانكسار ما قبلها. قوله: {مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ} في «مِنْ» الأولى ثلاثةُ أوجه، أحدُها: أنها زائدةٌ، كما تقدَّم تقريره عن الرازي وأبي البقاء. وإن لم يكنْ مِنْ أصولِ البصريين. والثاني: أنَّها للتعبيضِ أي: بعض أساور. والثالث: أنها لبيانِ الجنسِ، قاله ابن عطية، وبه بدأ. وفيه نظرٌ إذ لم يتقدَّمْ شيءٌ مبهمٌ. وفي «مِنْ ذهب» لابتداءِ الغايةِ، هي نعتٌ لأساورَ كما تقدَّم. وقرأ ابن عباس «مِنْ أَسَوِرَ» دونَ ألفٍ ولا هاءٍ، وهو محذوفٌ مِنْ «أساوِر» كما [في] جَنَدِلٍ والأصل جَنادِل، قال الشيخ: «وكان قياسه صَرْفَه؛ لأنه نَقَصَ بناؤُه فصار كجَنَدِلٍ، لكنه قَدَّر المحذوفَ موجوداً فمعنه الصرف». قلت: فقد جعل أنَّ التنوينَ في جَنَدِلٍ المقصور مِنْ «جنادل» تنوينُ صَرْفٍ. وقد نصَّ بعض النحاة على أنه تنوينُ عوضٍ كهو في جَوارٍ وغَواشٍ وبابِهما. قوله: {وَلُؤْلُؤاً} قرأ نافعٌ وعاصمٌ بالنصبِ. والباقون بالخفضِ. فأمَّا النصبُ ففيه أربعةُ أوجهٍ، أحدها: أنَّه منصوبٌ بإضمار فعلٍ تقديرُه: ويُؤْتَوْن لُؤْلؤاً. ولم يذكر الزمخشريُّ غيرَه/، وكذا أبو الفتح حَمَله على إضمار فعلٍ. الثاني: أنَّه منصوبٌ نَسَقاً على موضع «مِنْ أساور»، وهذا كتخريجِهم «وأرجُلَكُمْ» بالنصب عطفاً على محلِّ {برؤوسكم} [المائدة: 6]، ولأن {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ} في قوة: «يَلْبَسون أساور» فَحُمِل هذا عليه. والثالث: أنه عطفٌ على «أساور»؛ لأنَّ «مِنْ» مزيدةٌ فيها كما تقدَّم تقريرُه. الرابع: أنه معطوفٌ على ذلك المفعولِ المحذوفِ. التقديرُ: يُحَلَّوْن فيها الملبوسَ مِنْ أساور ولؤلؤاً. ف «لؤلؤاً» عطفٌ على الملبوس. وأمَّا الجرُّ فعلى وجهَيْن، أحدُهما: عطفُه على «أساور». والثاني: عَطْفُه على «مِنْ ذهبٍ» لأنَّ السِّوارَ يُتَّخَذُ من اللؤلؤ أيضاً، يُنْظَمُ بعضُه إلى بعضٍ. وقد منع أبو البقاء العطفَ على «ذهب» قال: «لأنَّ السِّوار لا يكونَ مِنْ لؤلؤ في العادة ويَصِحُّ أن يكونَ حُلِيّاً». واختلف الناسُ في رَسْمِ هذه اللفظةِ في الإِمام: فنقل الأصمعيُّ أنها في الإِمام «لؤلؤ» بغير ألفٍ بعد الواو، ونقل الجحدريُّ أنها ثابتةٌ في الإِمامِ بعد الواو. وهذا الخلافُ بعينه قراءةً وتوجيهاً جارٍ في حَرْف فاطر أيضاً. وقرأ أبو بكر في رواية المُعَلّى بن منصور عنه «لؤلوا» بهمزةٍ أولاً وواوٍ آخِراً. وفي روايةِ يحيى عنه عكسُ ذلك. وقرأ الفياض «ولُوْلِيا» بواوٍ أولاً وياءٍ أخيراً، والأصل: لُؤْلُؤاً أبدل الهمزتينِ واوَيْن، فبقي في آخرِ الاسم واوٌ بعد ضمةٍ. فَفُعِل فيها ما فُعِل ب أَدْلٍ جمعَ دَلْو: بأنْ قُلِبَتْ الواوُ ياءً والضمةُ كسرةً. وقرأ ابنُ عباس: «وَلِيْلِيا» يياءَيْنِ، فَعَل ما فَعَل الفياض، ثم أتبعَ الواوَ الأولى للثانيةِ في القلبِ. وقرأ طلحة «وَلُوْلٍ» بالجر عطفاً على المجرورِ قبلَه. وقد تقدم، والأصل «ولُوْلُوٍ» بواوين، ثم أُعِلَّ إعلالَ أَدْلٍ. واللُّؤْلُؤُ: قيل: كِبارُ الجوهر وقيل صغِارُه. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

وتفسير قوله: (سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ) أنه يستوي في سُكنى مكةَ المقيم بها والنارح إليها من أيْ بَلَدٍ كانَ، وقيل سواء في تفضيله وإقامة المَنَاسِكِ العاكف. المقيم بالحرم والنارحُ إلَيْهِ. وقوله: (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإلْحَادٍ بظُلْمٍ). قيل الإِلحاد فيه الشرك باللَّهِ، وقيل كُل ظَالِمٍ فيه مُلْحِدٌ. وجاء عن عُمَر أن احتكار الطعام بمكة إلحادٌ. وقال أهل اللغة إن معنى الباء الطرح. المعنى ومن يرد فيه إلحاداً بظلم. وأنشدوا قول الشاعر: هُنَّ الحَرائِرُ لا ربَّاتُ أَحْمِرةٍ. . . سُودُ المَحاجِرِ لا يَقْرَأْنَ بالسُّوَرِ المعنى عِنْدهم لا يقرأن السُّور، وأنشدوا: بوادٍ يمانٍ يُنْبِتُ الشَّثَّ فَرْعُه. . . وأَسْفَلُه بالمَرْخِ والشَّبَهانِ أي وينبت أسفلُه المرخَ والشبهان. والذي يذهب إليه أصحابنا أن الباءَ ليست بملغاةٍ، المعنى عندهم ومن إرادته فيه بأن يلحد بظلم وهو مثل قوله: أُريدُ لأَنسى ذِكرَها فكأَنما. . . تَمثَّلُ لي لَيْلى بكلِّ سبيلِ المعنى أريد، وإرادتي لهذا. ومعنى الإلحاد في اللغة العدول عن القَصْد (1).

_ (1) قال السَّمين: قوله: {وَيَصُدُّونَ}: فيه ثلاثةُ أوجه، أحدها: أنه معطوفٌ على ما قبلَه. وحينئذٍ ففي عطفِه على الماضي ثلاثةُ تأويلاتٍ. أحدُها: أنَّ المضارعَ قولاً يُقْصَدُ به الدلالةُ على زمنٍ معينٍ من حالٍ، أو استقبالٍ، وإنما يُراد به مجردُ الاستمرارِ. ومثلُه {الذين آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ الله} [الرعد: 28]. الثاني: أنه مؤولٌ بالماضي لعطفِه على الماضي. الثالث: أنه على بابِه، وأنَّ الماضي قبلَه مُؤَوَّل بالمستقبل. الوجه الثاني: أنَّه حالٌ من فاعل «كفروا» وبه بدأ أبو البقاء. وهو فاسدٌ ظاهراً؛ لأنه مضارعٌ مثبتٌ، وما كان كذلك لا تَدْخُل عليه الواو، وما ورد منه على قِلَّتِه مؤولٌ فلا يُحْمل عليه القرآنُ، وعلى هذين القولَيْنِ فالخبرُ محذوفٌ. واختلفوا في موضعِ تقديرِه: فقدَّره ابن عطية بعد قولِه «والبادِ» أي: إن الذين كفروا خَسِروا أو هلكوا ونحو ذلك. وقدَّره الزمخشري بعد قوله {والمسجد الحرام} أي: إنَّ الذين كفروا نُذِيْقُهم من عذاب أليم. وإنما قَدَّره كذلك لأن قوله: {نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} يَدُلُّ عليه. إلاَّ أنَّ الشيخَ قال في تقدير الزمخشري بعد المسجد الحرام: «لا يصحُّ»، قال: «لأنَّ» الذي «صفة للمسجد الحرام، فموضعُ التقديرِ هو بعد» البادِ «يعني: أنه يلزمُ من تقديرِه الفصلُ بينَ الصفةِ والموصوفِ بأجنبيّ، وهو خبرُ» إنّ «، فيصيرُ التركيبُ هكذا: إنَّ الذين كفروا ويَصُدُّون عن سبيلِ اللهِ والمسجدِ الحرام نُذيقُهم مِنْ عذابٍ أليمٍ الذي جَعَلْناه للناس. وللزمخشريِّ أّنْ ينفصِلَ عن هذا الاعتراضِ بأن» الذي جَعَلْناه «لا نُسَلِّمُ أنَّه نعتٌ للمسجد حتى يَلْزَمَ ما ذَكَر، بل نَجْعَلُه مقطوعاً عنه نَصْباً أو رفعاً. ثم قال الشيخ:» لكنَّ مُقَدَّرَ الزمخشريِّ أحسنُ من مقدَّرِ ابنِ عطية؛ لأنه يَدُلُّ عليه الجملةُ الشرطية بعدُ مِنْ جهة اللفظ، وابنُ عطية لَحَظَ من جهةِ المعنى؛ لأنَّ مَنْ أّذيق العذابَ خَسِر وهَلَكَ «. الوجه الثالث: أنَّ الواوَ في» ويَصُدُّون «مزيدةٌ في خبر» إنَّ «تقديرُه: إنَّ الذين كفروا يَصُدُّون. وزيادةُ الواوِ مذهبٌ كوفي تقدَّم بُطلانُه، وقال ابنُ عطية:» وهذا مْفْسِدٌ للمعنى المقصودِ «. قلت: ولا أَدْري فسادَ المعنى من أيِّ جهة؟ ألا ترى أنه لو صُرِّح بقولِنا: إنَّ الذين كفروا يَصُدُّون لم يكنْ فيه فسادُ معنى. فالمانع إنما هو أمرٌ صناعيٌّ عند أهل البصرة لا معنويٌّ. اللهم إلاَّ أَنْ يريدَ معنىً خاصاً/ يَفْسُدُ لهذا التقديرِ فيُحتاج إلى بيانه. قوله: {الذي جَعَلْنَاهُ} يجوزُ جَرُّه على النعتِ أو البدلِ أو البيانِ، والنصبُ بإضمار فعلٍ، والرفعُ بإضمارِ مبتدأ. و» جَعَلَ «يجوز أن يتعدى لاثنين بمعنى صَيَّر، وأَنْ يتعدَّى لواحدٍ. والعامَّةُ على رفعِ ِ «سواءٌ» وقرأه حفصٌ عن عاصم بالنصبِ هنا وفي الجاثية: {سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ} [الآية: 21]. ووافق على الذي في الجاثيةِ الأخَوان، وسيأتي توجيهُه. فأمَّا على قراءةِ الرفع فإن قلنا: إنَّ جَعَلَ بمعنى صَيَّر كان في المفعولِ الثاني أوجهٌ، أحدها: وهو الأظهرُ أنَّ الجملةَ مِنْ قولِه {سَوَآءٌ العاكف فِيهِ} هي المفعولُ الثاني، ثم الأحسنُ في رفع «سواءٌ» أن يكون خبراً مقدماً، والعاكفُ والبادي مبتدأ مؤخر. وإنما وُحِّد الخبرُ وإن كان المبتدأُ اثنين؛ لأنَّ سواء في الأصل مصدرٌ وُصِفَ به. وقد تقدَّم هذا أولَ البقرة. وأجاز بعضُهم أن يكون «سواءٌ» مبتدأ، واما بعدَه الخبر. وفيه ضَعْفٌ أو مَنْعٌ من حيث الابتداءُ بالنكرة من غير مُسَوِّغٍ، ولأنه متى اجتمع معرفةٌ ونكرةٌ جُعِلت المعرفةُ المبتدأ. وعلى هذا الوجهِ أعني كونَ الجملة مفعولاً ثانياً فقولُه «للناس» يجوز فيه وجهان، أحدُهما: أن يتعلق بالجَعْل أي: جَعَلْناه لأجلِ الناسِ كذا. والثاني: أنه متعلقٌ بمحذوفٍ، على أنَّه حالٌ مِنْ مفعول «جَعَلْناه» ولم يذكر أبو البقاء فيه على هذا الوجهِ غيرَ ذلك وليس معناه متضحاً. الوجه الثاني: أنَّ «للناس» هو المفعولُ الثاني. والجملةُ مِنْ قوله {سَوَآءٌ العاكف} في محلِّ نصب على الحال: إمَّا من الموصول، وإمَّا مِنْ عائِدِه. وبهذا الوجه بدأ أبو البقاء. وفيه نظرٌ؛ لأنه جعل هذه الجملةَ التي هي محطُّ الفائدةِ فَضْلةً. الوجه الثالث: أنَّ المفعولَ الثاني محذوفٌ، قال ابن عطية: «والمعنى: الذي جَعَلْناه للناس قِبْلةً ومتعبَّداً. فتقدير ابنِ عطية هذا مُرْشِدٌ لهذا الوجهِ. إلاَّ أن الشيخ». قال «ولا يُحتاج إلى هذا التقديرِ، إلاَّ إنْ كان أراد تفسيرَ المعنى لا الإِعراب. فيَسُوغ لأنَّ الجملةَ في موضعِ المفعولِ الثاني، فلا يُحتاج إلى هذا التقديرِ. وإنْ جَعَلْناها متعديةً لواحدٍ كان قولُه» للناس «متعلقاً بالجَعْلِ على العِلَّيَّة. وجَوَّزَ فيه أبو البقاء وجهين آخرين، أحدهما: أنه حالٌ من مفعولِ» جَعَلْناه «. والثاني: أنه مفعولٌ تعدَّى إليه بحرف الجر. وهذا الثاني لا يُتَعَقَّل، كيف يكون» للناس «مفعولاً عُدِّي إليه الفعلُ بالحرف؟ هذا ما لا يعقلُ. فإن أراد أنه مفعولٌ مِنْ أجله فهي عبارةٌ بعيدةٌ من عبارة النحاة. وأمَّا على قراءةِ حفصٍ: فإنْ قلنا:» جَعَلَ «يتعدى لاثنين كان» سواءً «مفعولاً ثانياً. وإنْ قُلْنا يتعدَّى لواحدٍ كان حالاً من هاءِ» جَعَلْناه «وعلى التقديرين: فالعاكفُ مرفوعٌ به على الفاعليةِ؛ لأنه مصدرٌ وُصِفَ به فهو في قوةِ اسم الفاعل المشتقِّ تقديرُه: جَعَلْناه مُسْتوياً فيه العاكفُ. ويَدُلُّ عليه قولُهم:» مررتُ برجلٍ سواءٍ هو والعَدَمُ «. ف» هو «تأكيدٌ للضميرِ المستترِ فيه، و» العَدَمُ «نسقٌ على الضميرِ المستترِ ولذلك ارتفعَ. ويروى: «سواءٍ والعدمُ» بدونِ تأكيدٍ وهو شاذٌّ. وقرأ الأعمش وجماعةٌ «سَواءً» نصباً، «العاكف» جراً. وفيه وجهان، أحدهما: أنه بدلٌ من «الناس» بدلُ تفصيل. والثاني: أنه عطفٌ بيانٍ. وهذا أراد ابنُ عطية بقولِه «عَطْفاً على الناس» ويمتنع في هذه القراءةِ رفعُ «سواء» لفسادِه صناعةً ومعنىً؛ ولذلك قال أبو البقاء: «وسواءً على هذا نصبٌ لا غير». وأثبتَ ابنُ كثير ياءَ «والبادي» وصلاً ووقفاً، وأثبتها أبو عمرو وورش وصلاً وحذفاها وقفاً. وحَذَفَها الباقون وَصْلاً ووَقْفاً وهي محذوفةٌ في الإِمام. قوله: {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ} فيه أربعةُ أوجهٍ، أحدُها: أنَّ مفعولَ «يُرِدْ» محذوفٌ، وقولُه: «بإلحادٍ بظلم» حالان مترادفتان. والتقديرُ: ومَنْ يُرِدْ فيه مراداً ما، عادِلاً عن القصدِ ظالماً، نُذِقْه من عذابٍ أليم. وإنما حُذِفَ ليتناولَ كلَّ متناوَلٍ. قال معناه الزمخشريُّ. والثاني: أن المفعولَ أيضاً محذوفٌ تقديرُه: ومَنْ يُرِدْ فيه تَعَدِّياً، و «بإلحادٍ» حال أي: مُلْتَبِساً بإلحادٍ. و «بظُلْمٍ» بدلٌ بإعادةِ الجارِّ. الثالث: أَنْ يكونَ «بظلمٍ» متعلقاً ب «يُرِدْ»، والباءُ للسببيةِ أي بسببِ الظلم و «بإلحاد» مفعولٌ به. والباءُ مزيدةٌ فيه كقولِه: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ} [البقرة: 195] [وقولِه:] 3380. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . لا يَقْرَأْنَ بالسُّوَر وإليه ذهب أبو عبيدة، وأنشد للأعشى: 3381 ضَمِنَتْ برزقِ عيالِنا أرماحُنا. . . . . . . . . أي: ضَمِنَتْ رزقَ. ويؤيِّده قراءة الحسن «ومَنْ يُرِدْ إلحادهُ بظُلْمٍ». قال الزمخشري: أراد إلحاده فيه فأضافه على الاتِّساعِ في الظرف ك {مَكْرُ اليل} [سبأ: 33] ومعناه: ومَنْ يُرِدْ أن يُلْحِدَ فيه ظالماً. الرابع: أن يُضَمَّنَ «يُرِدْ» معنى يتلبَّس، فلذلك تعدى بالباء أي: ومَنْ يتلَبَّسْ بإلحادٍ مُرِيْداً له. والعامَّةُ على «يُرِدْ» بضم الياء من الإِرادة. وحكى الكسائي والفراء أنه قُرِىء «يَرِدْ» بفتح الياء. وقال الزمخشري: «من الوُرُوْد ومعناه: مَنْ أتى فيه بإلحادٍ ظالماً». اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(26)

وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) جعلنا مكان البيت مبوأً لإبراهيم، والمبوأ المنزل، فالمعنى أن اللَّه أعلم إبراهيم مكان البيت فبنى البيتْ على أسه القديم، وكان البيت في أيام الطوفان رفع إلى السماء حينَ غَرَّقَ اللَّهُ الأرضَ ومَا عليها فَشَرَّفَ بيْتَه بأن أخرجه عن جُملة مَا غَرَق. ويروى أن البيت كان من ياقوتة حمراء. وقوله: (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ) قيل: المعنى طهِره من الشرك. والقائمونَ هَهُنا المصَلُّونَ. * * * وقوله: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) رُوي أن أذان إبراهيم بالحَج أن وقف في المقام فقال: أيها الناسُ أجيبوا يا عباد اللَّه أطيعوا الله يا عباد الله اتقوا اللَّه، فَوَقَرَتْ في قلب كل مؤمن ومؤمنة وأسمع ما بين السماء والأرض وأجابه مَن في الأصلاب ممن كتب له الحج، فكل من حج فهو ممن أجاب إبراهيم، ويروى أنَّ أذَانَه بالحج كانَ يا أيها الناس كتب عليكم الحج. وقوله تعالى: (يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ). (رِجَالًا) جمع راجل مثل صَاحِب وصِحَابٍ، وقائِم وقِيَام. (وَعَلَى كُل ضَامِرٍ يَأتِيَن)، أي يأتوك رِجَالاً ورُكبَانلً. وقال يأتين على معنى الِإبل المعنى وعلى كل بعيد ضامر يأتي من كل فج عميق. وعميق بعيد. قال رؤبة: وَقَاتِم الأعْماق خاوي المخترق الأعماق الأقْعَار، ومن هذا قيل: هذه بِئر " عَمِيقة "، أي بَعِيدَة القَرار.

(28)

وقوله تعالى: (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) أي ليشهدوا مَا نَدَبَهُم اللَّهُ إليه مما فيه النفع لهم في آخرتهم. (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ). يعنى به يومَ النحْر والأيَّامُ التي بعده يُنْحَرُ فِيهَا لأن الذكر ههنا يدل - على التسمية على ما يُنْحَر لقوله (عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ). * * * وقوله: (فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ). (البائس: الذي قد ناله بؤس، والبؤس شدة الفقر، يقال: قد بؤس، وبأس إذا صار ذا بؤس. وقوله (فَكُلوا مِنْهَا) ليس بأمر لازم، من شاء أكل من أضحيته ومن شاء لم يأكل، وإنما هو إباحة كما قال: (وإذا حَلَلْتُم فَاصْطَادُوا). فإنما قال فاصطادوا، لأنه كان قد حظر عليهم الصيد وهم مُحْرِمون. فأباحَهمُ الصيْدَ. وكذلك هذا الأمر ههنا إباحة بعد حظرهم على أنفسهم أكل الأضاحي، لأن أهل الجاهلية كانوا إذا نحروا لم يستحلوا أن يأكلوا من نساكِهِم شيئاً، فأَعلم اللَّه عزَّ وجلَّ أن ذلك جائز. * * * وقوله: (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) قرئتْ (ثُمَّ لِيَقْضُوا) بكسر اللام، وكذلك قرأ أبو عَمْرٍو، والقراءة بالتسكين مع - ثم كثيرة. . والتفث في التفسير جاء، وأهل اللغة لا يعرفون إلا من التفسير، قالوا

(30)

التفث الأخذ من الشارب وتقليم الأظافر ونتف الإبِطِ وحَلقُ العَانة والأخْذُ مِنَ الشعَرِ، كأنَّه الخروج منى الإحرام إلى الإحلال. قوله: (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ). قيل في العتيق أقوال، قال الحسنِ هو البيت القديم، ودليل الحسن على ذلك قوله: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا). وقيل إن البيت العتيق الذي عَتَق من الغرق أيام الطوفانِ، ودليل هذا القول: (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ)، فهذا دليل أن البيت رفع وبقي مكانه. وأكثر ما جاء في التفسير أنه اعْتِقَ من الجبابرة، فلم يَغْلِبُ عليه جَبارٌ. وقيل إنه سُمِّيَ العتيقَ لأنه لم يَدعْهُ أحَد من الناس. وقيل إنما سمي العتيق لأنه لم يقصده جبار إلا أهلكه اللَّه، يقال أعتقت المملوك فهو مُعْتَقْ وَعَتِيق. وكل ما مرَّ في تفسير العتيق فجائز حَسن - واللَّه أعلم بحقيقة ذلك - وهذه الآية تدل على أن الطواف يوم النحر فرضٌ. * * * وقوله: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) وحرماتُ اللَّه الحجُّ والعمرةُ وسائر المناسك، وكل ما فرض الله فهو من حرمات اللَّه، والحرمةُ ما وجب القيامُ به وحَرمَ تركهُ والتفريطَ فيه. وموضع (ذلك) رفع، المعنى الأمر ذلك. وقوله: (وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ). " ما " في موضع نصب أي إلا ما يتلى عليكم من الميتة والدم والمنخنقة والموقودَةِ وسائر ما تلي تحريمه. وقوله: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ).

(31)

" مِنْ " ههنا لتخليص جنس من أجناس. المعنى فاجتنبوا الرجس الذي هو وَثَنٌ (1). وقوله: (وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ). الزور الكذب، وقيل إنه ههنا الشرْكُ باللَّهِ، وقيل أيضاً شهادَةُ الزور. وهذا كله جائز. والآية تدل - واللَّه أعلم - على أنهم نُهُوا أن يُحرمُوا ما حَرم أصحابُ الأوْثانِ نحو قولهم: ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورِنا ومحرم على أزواجنا، ونحو نحرهم البَحيرَةَ والسائِبَةَ، فأعلمهم اللَّه أنَّ الأنْعَامَ مُحَلًلَة إلَّا ما حرَّمَ اللَّهُ منها، ونهاهم الله عن قول الزور أن يقولوا هذا حلال وهذا حرام لِيَفْتَروا على اللَّهِ كَذِباً. * * * وقوله: (حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31) (حُنَفَاءَ لِلَّهِ) منصوب على الحال، وتأويله مُسْلِمِين لا يَمِيلُونَ إلى دِينٍ غير الإسلام. وقوله: (غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ). ويقرأ فَتَخْطَفهُ الطيرُ وفَتَخِطَّفُهُ. وقرأ الحسن فَتِخِطِّفُهُ بكسر التاء والخاء والطاء. فمن قرأ فتَخْطَفُه بالتخفيف فهو من خَطِفَ يخطَفُ، والخَطْفُ الأخْذُ بسرعة، ومن قرأ فتَخطِّفُه - بكسر الطاء والتشديد - فالأصل فَتَخْتَطِفه فأدغم التاء في الطاء وألقى حركة التاء على الخاء ففتحها، ومن قَالَ بكسر الخاء والطاء، كسر الخاء لسكونها وسُكُون الطاء، ومن كسر التاء والخاء والطاء - وهي قراءة الحسن - فهو على أن الأصل تَخْتَطِفُه. وهذا مثل ضَرْبةِ الله للكافر في بُعْده عِنَ الحق - فأعلمَ اللَّهُ أن بُعْدَ من أشْركَ به مِنَ الحق كبُعْدِ مَنْ خرَّ من السماء فذهبت به الطير أو هَوَتْ به الريحُ في مكانٍ سحيق - أي، بَعِيدٍ (2).

_ (1) قال السَّمين: قوله: {مِنَ الأوثان} في «مِنْ» ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنها لبيانِ الجنسِ، وهو مشهورُ قول المُعْرِبين، ويَتَقَدَّرُ بقولك: الرِّجْسُ الذي هو الأوثان. وقد تقدَّم أنَّ شرطَ كونِها بيانيةً ذلك. وتجيءُ مواضعُ كثيرةٌ لا يتأتى فيها ذلك ولا بعضُه. والثاني: أنَّها لابتداءِ الغايةِ. وقد خَلَط أبو البقاء القولين فجَعَلَهما قولاً واحداً فقال: «ومِنْ لبيانِ الجنسٍ أي: اجْتَنِبوا الرجسَ من هذا القبيل، وهو بمعنى ابتداء الغاية ههنا» يعني أنه في المعنى يَؤُول إلى ذلِك، ولا يَؤُول إليه ألبتَّةََ. الثالث: أنها للتبعيض. وقد غَلَّط ابنُ عطية القائلَ بكونِها للتبعيضِ، فقال: «ومَنْ قال: إن» مِنْ «للتبعيض قَلَبَ معنى الآيةِ فأفسده» وقد يُمْكِنُ التبعيضُ فيها: بأَنْ يَعْني بالرِّجْسِ عبادة الأوثانِ. وبه قال ابنُ عباس وابنُ جريج، فكأنه قال: فاجْتَنِبوا من الأوثانِ الرِّجسَ وهو العبادةُ؛ لأنَّ المُحَرَّمَ من الأوثان إنما هو العبادةُ ألا ترى أنه قد يُتَصَوَّرُ استعمالُ الوثَنِ في بناءٍ وغيرِه ممَّا لم يُحَرِِّمِ الشرعُ استعمالَه، وللوَثَنِ جهاتٌ منها عبادتُها، وهي بعض جهاتِها. قاله الشيخ. وهو تأويلٌ بعيدٌ. اهـ (الدُّرُّ المصُون). (2) قال السَّمين: قوله: {فَتَخْطَفُهُ} قرأ نافعٌ بفتحِ الخاءِ والطاء مشددةً. وأصلُها تَخْتَطِفُه فأدغم. وباقي السبعةِ «فَتَخْطَفُه» بسكون الخاء وتخفيفِ الطاء. وقرأ الحسنُ والأعمشُ وأبو رجاء بكسر التاء والخاء والطاء مع التشديد. ورُوِي عن الحسن أيضاً فتحُ الطاءِ مشددةً مع كسرِ التاءِ والخاءِ. ورُوِي عن الأعمش كقراءةِ العامَّةِ إلاَّ أنه بغير فاء: «تَخْطَفُه». وتوجيهُ هذه القراءاتِ قد تقدَّم مستوفى في أوائل البقرة عند ذِكْري القراءاتِ في قولِه تعالى: {يَكَادُ البرق يَخْطَفُ} [البقرة: 20] فلا أُعيدها. وقرأ أبو جعفر «الرياحُ» جمعاً. وقولِه «خَرَّ» في معنى يَخِرُّ؛ ولذلك عُطِفَ عليه المستقبلُ وهو «فَتَخْطَفُهُ»، ويجوز أن يكون على بابه، ولا يكونُ «فَتَخْطَفُه» عطفاً عليه، بل هو خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: فهو يَخْطَفُه. قال الزمخشري: «ويجوزُ في هذا التشبيهِ أن يكونَ من المركب والمفرَّق. فإن كان تشبيهاً مركباً فكأنه قال: مَنْ أشرك بالله فقد أهلكَ نفسَه إهلاكاً ليس بعده [هلاكٌ]: بأَنْ صَوَّر حالَه بصورةِ حالِ مَنْ خَرَّ من السماءِ فاخْتَطَفَتْه الطيرُ، فتفرَّق مِزَعاً في حَواصلِها، أو عَصَفَتْ به الريحُ حتى هَوَتْ به في بعض المطاوحِ البعيدةِ. وإن كان مُفَرَّقاً فقد شَبَّه الإِيمانَ في عُلُوِّه بالسماءَ، والذي تركَ الإِيمانَ وأشرك بالله، بالساقط من السماء، والأهواءَ التي تتوزَّعُ أفكارَه بالطير المتخطفةِ، والشيطانَ الذي يُطَوِّحُ به في وادي الضَّلالةِ بالريح التي تهوي بما عَصَفَتْ به في بعض المهاوي المُتْلِفَةِ». قلت: وهذه العبارةُ من أبي القاسم مما يُنَشِّطُك إلى تَعَلُّم عِلْمِ البيان فإنها في غاية/ البلاغة. والأَوْثان: جمع وَثَن. والوَثَنُ يُطْلَقُ على ما صُوِّر من نحاسٍ وحديدٍ وخَشَبٍ. ويُطْلَقُ أيضاً على الصَّليب. «عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم أنه قال لعدي بن حاتم وقد رأى في عنقه صليباً: أَلْقِ هذا الوثنَ عنك» وقال الأعشى: 3387 يطوفُ العبادُ بأبوابِه. . . كطَوْفِ النصارى ببَيْتِ الوَثَنْ واشتقاقُه مِن وَثَن الشيءُ أي: أقام بمكانه وثَبَتَ فهو واثِنٌ. وأُنشد لرؤبة: 3388 على أَخِلاَّء الصَّفاءِ الوُثَّنِ. . . أي: المقيمين على العهد. وقد تقدَّم الفرقُ بين الوَثَنِ والصنم. والسَّحيقُ: البعيدُ. ومنه سَحَقَه اللهُ أي: أبعده. وقوله عليه السلام: «فأقولُ سُحْقاً سُحْقاً» أي: بُعْداً بُعْداً. والنَّخْلة السَّحُوقُ: الممتدةُ في السماء، من ذلك. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(32)

قوله: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) شعائر اللَّه المعالم التي نَدَبَ إليها وأمَر بِالقِيامِ بِها، واحَدتها شعيرة. فالصفا والمروةُ من شعائر اللَّه، " الذى يُعْنَى به هنا البُدْنُ. * * * وقوله: (لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33) يعنى أن لكم في البدن - قبل أن تُعْلِمُوهَا، وتُسَموهَا هَدياً إلى بيتي - مَنَافِع. فإذا أشْعَرْتُموهَا - والإشعار أن يشق في السنام حتى يَدْمَى ويعلق عليها نَعْلاً ليعلم أنها بدنة، فأكثرُ النَّاسِ لا يرى الانتفاع بها إذا جُعِلَتْ بدنةً، لا بِلَبَنِهَا ولا بِوَبَرِهَا وَلَا بِظَهْرِهَا، يقول لا يُعْطَى لبنها ووبرها وظهرها أحَداً لأنها بدنة فلا ينتفع بها غير أهْل اللَّهِ إلاَّ عند الضرورة المخُوفِ معها الموت. وبعضهم يقول: إنَّ له أنْ ينتفع بها فيركبها المُعْيِي وينتفع بمنافعها إلى وقت محلها - مَكانِ نَحْرِها -. والحجة في ذلك أن النَبي - صلى الله عليه وسلم - مرَّ برَجُلِ يسُوقُ بدَنَةً فأمره - صلى الله عليه وسلم - بركوبها، فقال: إنها بدنة فأمَره الثانية وأمَره الثالثة، وقال له في الثالثة: اركبها وْيحَكَ، فهذا - يجوز أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - رآه مُضْطراً في ركوبها من شدة الإعياء، وجائز على ظاهر الحديث أن يكون ركوبُها جائزاً. ومن أجاز ركوبَها والانتفاع بها يقول: ليس له أنْ يُهْزِلَها وينضِيَها لأنها بدنة. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) وتقرأ مَنْسِكاً، والمنسك في هذا الموضع يدل على معنى النحر فكأنه قال جعلنا لكل أُمَّةٍ أن تتقربَ بأن تَذْبح الذبَائح لِلَّه، ويدل على ذلك قوله تعالى (ليَذكُروا اسمَ اللَّهِ على ما رَزَقَهُم من بَهيمَةِ الأنْعَامِ). المعنى ليذكروا اسم الله على نَحْرِ ما رَزقهم من بهيمة الأنعام. وقال بعضهم: المنْسَكُ الموضِع الذي يجب تعهده، وذلك جائز.

(35)

ومن قال مَنْسِك فمعناه مكانُ نُسُكٍ مثل مَخلِس مكان خلوس. ومن قال مَنْسَك فهو بمعنى المصدر نحو النُّسُك والنُّسُوكِ. وقوله: (فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ). أي لا ينبغي أن تذكروا على ذَبَائُحكم إلا اللَّهَ وحده. وقوله: (وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ). قيل المخبتون المتواضعون، وقيل المخبتون المطمئنون بالإِيمان بالله عزَّ وجلَّ، وقيل المخبتون الذين لا يظلمون وإذا ظُلِموا لم ينتصروا. وكل ذلك جائز. واشتقاقه من الخَبْتِ مِنَ الأرْضِ وهي المكان المنخْفِض منها، فكل مُخْبِت متواضع. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35) (وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ). القراءة الخفضُ وإسقاط التَنْوِين، والخفض على الإِضَافة، ويجوز: والمقيمين الصَّلَاةَ، إلا أنه بخلاف المصحف. ويجوز أيضاً على بُعْدٍ والمقِيمي الصَّلَاةَ، على حذف النون ونصب الصلاة لطول الاسم، وأنشد سيبويه: الحافظو عورةَ العشيرةِ لا. . . يأتيهم من ورَائِهم نطف وزعم أنه شَاذٌّ. * * * وقوله تعالى: (وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) النصب أحسن لأن قبله فِعْلًا، المعنى وَجَعَلْنَا البدْنَ، فنصب بفعل

مُضْمَرٍ الذي ظهر يفسره. وإن شئت رفعت على الاستئناف. والبدْن بتسكين الدالِ وَضَمها. بَدَنَة وبُدْنٌ، وبُدْن مثل قوله ثَمَرَةٌ وثُمْر وثُمُر. وإنما سميت بَدَنَةً لأنها تَبْدُن، أي تَسْمَن. وقوله: (فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ). (صَوَافَّ) منصوبة على الحال، ولكنها لا تنون لأنها لا تنصرف، أي قَدْ صَفَّتْ قَوَائِمَها، أي فاذكروا اسم الله عليها في حال نحرها. والبَعِير ينحر قائماً، وهذه الآية تدل على ذلك، وتقرأ صَوَافِنَ، والصافن الذي يقوم على ثَلَاث، فَالبَعِير إذا أرادوا نحَره تعقل إحدى يديه فَهُو صَافِن، والجمع صَوافِنُ يا هذا، وقرئت صَوافِيَ بالياء وبالفتح بِغَيْر تَنْوِينِ وتفسيره خَوَالص - أي خالصة لله عزَّ وجلَّ، لا تُشْرِكوا في التَسْمِيةِ على نحرها أحَداً. وقوله: (فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُها). أي إذا سقطت إلى الأرض. (فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ). بتشديد الراء، ويجوز والمعْتَرَي بالمِاء، ويقال: وجب الحائط يَجِبُ وَجْبَةً إذَا سَقَط، ووجب القلب يجب وَجْباً وَوَجيبا إِذَا تَحَركَ من فَزَع، ووجب البيْعُ يجب وجُوباً وجِبَةً، والمستقبل في ذلك كله يجب. وقيل في القَانع الذي يَقْنَعُ بما تُعْطِيهِ، وقيل الذي يَقنع باليسير. وقيل وهو مذهب أهْل اللغَةِ السائل، يقال قَنعَ الرجل قُنُوعاً إذَا سألَ، فهو قانع، وأنْشَدُوا للشماخِ. لَمَالُ المَرْءِ يُصْلِحه فيُغْني. . . مَفاقِرَه أَعفّ من القُنُوعِ أي أعَفُّ من السؤال، وقنِعَ قناعةً إذا رَضِيَ فهو قَنِعٌ، والمُعْتَرُ: الذي

(37)

يعتريك فيطلب مَا عِنْدَكَ، سألك إذ سئلِتَ عن السؤال وكذلك المعتري (1). * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37) وقرئت: (لَن تَنَالَ اللَّهَ لحُومُها) بالتاء، فمن قرأ بالياء فَلِجَمْعِ اللحوم. ومن قرأ بالتاء فلجماعة اللحوم - وكانوا إذا ذَبَحُوا لَطخوا البيت بالدمِ، فأعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أنَّ الَّذِي يَصِلُ إليهِ تَقْواهُ وطَاعَتُه فيما يَأمُر بِهِ. (وَلَكِنْ يَنَالُه التَقْوَى مِنْكُمْ). وتناله - التقوى منكم - بالياء والتاء - فمن أنثَ فللفظ التقوى، ومَنْ ذَكَرَ فلأن معنى التقوى والتقى واحِدٌ. * * * وقوله: (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) ويدْفَعُ عن الذين آمنوا. هذا يدل على النَصْرِ مِنْ عِنْده، أي فَإذَا دَفَعْتُم، أي فإذا فَعَلْتُم هذا، وخَالَفْتُم الجَاهِليةَ فيما تفعلونَهُ فِي نَحْرِهِمْ. وإشراكهم بالله، فإنَّ اللَّه يدْفَعُ عن حِزْبِه. وقوله: (كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ). (خَوَّانٍ) فعَّال من الخِيَانَةِ، أي من ذكر اسم غير الله وتَقَرَّبَ إلى الأصنام بِذَبِيحَتِه فهو خَوَّانٌ كَفُورٌ. والبُدْنُ قيل إنها الإبِلُ خاصَّةً، وقيل إنها الإبل والبَقَرُ، وَلَا أعْلَمُ أحَداً قال: إن الشاء داخلة فيها، فأمَّا من قال إنَها الِإبِلُ والبَقَرُ فَهُمْ أكبر فقهاء الأمْصَارِ، ولكن الاستعمال في السِّيَاقةِ إلَى البَيْتِ الإبِل فلذلك قال من قال إنها - الإبِلُ.

_ (1) قال السَّمين: قوله: {والبدن}: العامَّةُ على نصب «البُدْنَ» على الاشتغال. ورُجِّح النصبُ وإن كان مُحْوِجاً لإِضمارٍ، على الرفع الذي لم يُحْوِجْ إليه، لتقدُّمِ جملةٍ فعليةٍ على جملةِ الاشتغالِ. وقُرِىء برفعِها على الابتداءِ، والجملةُ بعدها الخبرُ. والعامَّةُ أيضاً على تسكينِ الدالِ. وقرأ الحسن وتُرْوى نافعٍ وشيخةِ أبي جعفر بضمِّها، وهما جمعان ل «بَدَنَة» نحو: ثَمَرةٍ وثُمُرٍ وثُمْرٍ. فالتسكينُ يحتمل أن يكونَ تخفيفاً من المضمومِ، وأَنْ يكونَ أصلاً. وقيل: البُدْنُ والبُدُنُ جمعُ بَدَن، والبَدَنُ جمعٌ لبَدَنَة نحو: خَشَبة وخَشَب، ثم يُجْمع خَشَباً على خُشُب وخُشْب. / وقيل: البُدْنُ اسمٌ مفردٌ لا جمعٌ يَعْنُون اسمَ جنسٍ. وقرأ ابنُ أبي إسحاق «البُدُنَّ» بضم الباء والدال وتشديد النون. وهي تحتمل وجهين، أحدُهما: أنَّه قرأ كالحسن، فوقَفَ على الكلمةِ وضَعَّفَ لامَها كقولِهم: «هذا فَرُخّْ» ثم أجرى الوصلَ مجرى الوقفِ في ذلك. ويُحتمل أَنْ يكونَ اسماً على فُعُل ك عُتُلّ. وسُمِّيَت البَدَنة بَدَنةً لأنها تُبْدَنُ أي: تُسَمَّنُ. وهنل تختصُّ بالإِبل؟ الجمهورُ على ذلك. قال الزمخشري: «والبُدْنُ: جمعُ بَدَنَة سُمِّيَتْ لعِظَمِ بَدَنِها، وهي الإِبِلُ خاصةً؛ لأنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم ألحق البقرَ بالإِبل حين قال:» البَدَنَةُ عن سبعةٍ، والبقرة عن سبعة «فجَعَلَ البقرَ في حُكْمِ الإِبلِ، صارَت البَدَنةُ متناوَلَةً في الشريعة للجنسين عند أبي حنيفة وأصحابِه، وإلاَّ فالبُدْنُ هي الإِبلُ وعليه تَدُلُّ الآيةُ». وقيل لا تختصُّ، فقال الليث: البَدَنَةُ بالهاء تقعُ على الناقةِ والبقرة والبعير وما يجوز في الهَدْي والأضاحي، ولا تقعُ على الشاة. وقال عطاءٌ وغيرُه: ما أشعر مِنْ ناقة أو بقرةٍ. وقال آخرون: البُدْنُ يُراد به العظيمُ السِّنِّ من الإِبل والبقر. ويقال للسَّمين من الرجال. وهو اسمُ جنسٍ مفردٍ. قوله: {مِّن شَعَائِرِ الله} هو المفعولُ الثاني للجَعْل بمعنى التصيير. قوله: {لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} الجملةُ حالٌ: إمَّا من «ها» «جَعَلْناها»، وإمَّا مِنْ شعائر الله. وهذان مبنيَّان على أن الضميرَ في «فيها» هل هو عائدٌ على «البُدْن» أو على شعائر؟ والأولُ قولُ الجمهورِ. قوله: {صَوَآفَّ} نصبٌ على الحال أي: مُصْطَفَّةً جنبَ بعضِها إلى بعض. وقرأ أبو موسى الأشعري والحسن ومجاهد وزيد بن أسلم «صَوافي» جمعَ صافِيَة أي: خالصةً لوجهِ الله تعالى. وقرأ عمرو بن عبيد كذلك، إلاَّ أنه نَوَّنَ الياءَ فقرأ «صَوافياً». واسْتُشْكِلَتْ من حيث إنه جمعٌ متَناهٍ. وخُرِّجَتْ على وجهين، أحدُهما: ذكره الزمخشري وهو أَنْ يكونَ التنوينُ عِوَضاً من حرفِ الإِطلاقِ عند الوقف. يعني أنه وَقَفَ على «صَوافي» بإشباع فتحةَ الياءِ فَتَوَلَّد منها أَلِفٌ يُسَمَّى حرفَ الإِطلاق، ثم عَوَّضَ عنه هذا التنوينَ، وهو الذي يُسَمِّيه أهلُ النحوِ تنوينَ الترنُّم. والثاني: أنه جاء على لغةِ مَنْ يَصْرِفُ ما لا يَنْصَرِفُ. وقرأ الحسنُ «صَوافٍ» بالكسرِ والتنوين. وتوجيهُها: أنه نصبها بفتحة مقدرةٍ، فصار حكمُ هذه الكلمةِ كحكمِها حالةً الرفعِ والجرِّ في حَذْفِ الياءِ وتعويض التنوينِ نحو: «هؤلاء جوارٍ»، ومررت بجوارٍ. وتقديرُ الفتحةِ في الياءِ كثيرٌ كقولهم: «أعْطِ القوسَ بارِيْها» وقولِه: 3389 كأنَّ أيْدِيهنَّ بالقاعِ القَرِقْ. . . أيديْ جوارٍ يتعاطَيْنَ الوَرِق وقوله: 3390 وكَسَوْتُ عارٍ لَحْمُه. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ويدلُّ على ذلك قراءةُ بعضِهم «صَوافيْ» بياءٍ ساكنةٍ من غيرِ تنوينٍ، نحو: «رأيتُ القاضيْ يا فتى» بسكون الياء. ويجوز أن يكونَ سكَّن الياءَ في هذه القراءةِ للوقفِ ثم أَجْرَى الوصلَ مُجْراه. وقرأ العبادلة ومجاهدٌ والأعمش «صَوافِنْ» بالنون جمعَ «صَافِنَة» وهي التي تقومُ على ثلاثٍ وطرفِ الرابعة، إلاَّ أنَّ ذلك إنما يُسْتَعْمَلُ في الخيلِ كقوله: {الصافنات الجياد} [ص: 31]، وسيأتي، فيكون استعمالُه في الإِبلِ استعارةً. والوجوبُ: السُّقوطُ. وجَبَتِ الشَمسُ ِأي: سَقَطَتْ. ووجَبَ الجِدَارُ أي: سَقَطَ، ومنه الواجبُ الشرعي كأنه وقع علينا ولَزِمَنا. وقال أوس بن حجر: 3391 ألم تُكْسَفِ الشمسُ شمسُ النَّها. . . رِ والبدرُ للجبل الواجبِ قوله: «القانِعَ والمعتَّر» فيهما أقوالٌ. فالقانِعُ: السائل والمُعْتَرُّ: المعترضُ من غيرِ سؤالٍ. وقال قومٌ بالعكس. وقال ابن عباس: القانِعُ: المستغني بما أعطيتَه، والمعترُّ: المعترضُ من غيرِ سؤالٍ. وعنه أيضاً: القانعُ: المتعفِّفُ، والمعترُّ: السائلُ. وقال بعضُهم: القانِعُ: الراضي بالشيءِ اليسيرِ. مِنْ قَنِعَ يَقْنَعُ قَناعةً فهو قانِعٌ. والقَنِعُ: بغير ألفٍ هو السَّائلُ. ذكره أبو البقاء. وقال الزمخشري: «القانِعُ: السَّائلُ. مِنْ قَنِعْتُ وكَنَعْتُ إذا خَضَعْتَ له. وسألتُه قُنُوْعاً. والمُعْتَرُّ: المعترِّضُ بغيرِ سؤالٍ، أو القانِعُ الراضي. بما عندَه، وبما يعطى، من غيرِ سؤالٍ. مِنْ قَنِعْتُ قَنَعاً وقَناعة. والمعترُّ: المتعرض بالسؤال». انتهى. وفرَّق بعضهم بين المعنيين بالمصدر فقال: قَنِعَ يَقْنَع قُنوعاً أي سأل، وقَناعة أي: تعفَّف ببُلْغَته واستغنى بها. وأنشد للشماخ: 3392 لَمالُ المَرْءِ يُصْلِحُه فيُغْني. . . مَفاقِرَه أَعَفُّ من القُنوعِ وقال ابن قتيبة: «المُعْتَرُّ: المتعرِّضُ من غير سؤال. يُقال: عَرَّه/ واعتَرَّه وعَراه واعْتراه أي: أتاه طالباً معروفَه قال: 3393 لَعَمْرُك ما المُعتَرُّ يَغْشى بلادَنا. . . لِنَمْنَعَه بالضائعِ المُتَهَضِّمِ وقوله الآخر: 3394 سَلي الطارِقَ المعترَّ يا أمَّ مالِكٍ. . . إذا ما اعْتَراني بينَ قِدْري ومَجْزَري وقرأ أبو رجاء» القَنِع «دون ألف. وفيها وجهان، أحدهما: أنَّ أصلَها» القانِع «فَحَذَفَ الألف كما قالوا: مِقْوَل ومِخْيَط وجَنَدِل وعُلَبِط في: مِقْوال ومِخْياط وجَنَادل وعُلابط. والثاني: أن القانِعَ هو الراضي باليسير، والقَنِع: السائلُ، كما تقدَّم تقريره، قال الزمخشري:» والقَنِعُ: الراضي لا غير «. وقرأ الحسن:» والمُعْتري «اسمُ فاعلٍ مِنْ اعْتَرى يَعْتري. وقرأ إسماعيل وتروى عن أبي رجاء والحسن أيضاً» والمُعْتَرِ «بكسر الراء اجتزاءً بالكسرة عن لامِ الكلمة. وقُرِىء» المُعْتَرِيَ «بفتح الياء. قال أبو البقاء:» وهو في معناه «أي: في معنى» المعترّ «في قراءة العامَّة. و [قوله:] {كذلك سَخَّرْنَاهَا} الكافُ نعتُ مصدرٍ أوحالٌ من ذلك المصدرِ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(39)

وقوله: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) ويقرأ (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ)، وُيقرأ (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتِلُونَ) وُيقَاتَلونَ. والمعنى أذن للذين يقاتلون أن يقاتِلُوا. ويرْوَى أنَّها أول آيَةٍ نزلت في القِتَالِ. (بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا). أي أُذِنَ لهم أن يقاتلوا بسبب ما ظلموا وقوله: (وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ). وعدهم الله النَصْرَ، ولا يجوز أن يقرأ و " أَنَّ " اللَّه - بفتح أنَّ، ولا بَيْن أهل اللغة خِلاَفٌ في أن هذا لا يجوز لأن " أنَّ " إذا كانت معها اللام لم تفتح أبَداً. * * * وقوله: (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) (الذين) في موضع جَر، المعنى " أُذِنَ للذين أُخْرجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بغير حق إلا أنْ يَقُولُوا رَبنَا اللَّهُ " " أنْ " في مَوْضِع جَر، المعنى أخرِجُوا بلا حَقٍّ، إلَّا بِقَوْلهم رَبُّنَا اللَّهُ أي لم يخرجوا إلا بأن وَحدُوا اللَّه، فأخرَجَتْهُمْ عَبَدَةُ الأوثان لتوحيدهم. وقوله.: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ). المعنى: ولولا أن دفع اللَّه بعض الناس ببعضٍ لَهُدّمَتْ صوامع. وتقرأ (لَهُدِمَتْ) وهي صوامع الرهْبَانِ. (وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَسَاجِدُ). والبيَعُ بيَعُ النصارى، والصَّلَوَاتُ كنَائِسُ اليَهود، وهي بالعبرانية صَلُوتَا،

(41)

وقرئت صَلَاةٌ وَمَسَاجِدُ، وقيل إنها مَوْضعُ صَلَواتِ الصَّابِئِين. وتأويل هذا: لولا أن اللَه - عزَّ وجل - دَفَع بعض الناس بَبَعْض لهُدِّمَ في شريعة كُلِّ نَبيٍّ المَكَانَ الَّذِي كان يُصَلِّي فيه، فَكَانَ لولَا الدفعُ لَهُدِمَ في زمن موسى عليه السلام الكنائس التي كان يصلي فيها في شريعته، وفي زَمَنِ عيسى الصوامع والبِيَعُ، وفي زمن محمد - صلى الله عليه وسلم - المساجِدُ. وقوله.: (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ). أي من أقام شريعة مِن شرائعه، نصر على إقامة ذلك، إلا أنَّهُ لَا يُقام في شريعة نَبِيٍّ إلَّا ما أتِيَ به ذلك النبي وُينْتَهَى عما نَهَى عَنْهُ (1). * * * وقوله: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41) (الذين) في موضع نصب على تفسير مَنْ، المعنى وليَنْصُرَنَ اللَّهُ مَنْ ينصُرُه ثم بين صِفَةَ ناصِريه فقال: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ). فَصِفةُ حِزْبِ اللَّه الذينَ يُوحدونَه، إقَامة الصلاة، وإِيتاءُ الزّكاة والأمْر بالمَعْرُوف والنهى عن المنكر، وهما واجبان كوجوب الصلاة والزكاة أعنِي الأمرَ بالمعروف والَّنْهِيَ عَنِ المُنْكَر. * * * (فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) ويقرأ أهْلكتُها، المعنى فكيف كانَ نِكير أيْ تم أخَذْتَهم فأبْلَغْتُ أبلغ الِإنكار. فأهْلكت قُرى كثيرةً، لأن معنى (فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ) معنى فكم مِنْ قَرْيةٍ، ومعنى كم من قريةٍ عدد كثير من القُرَى.

_ (1) قال السَّمين: قوله: {الذين أُخْرِجُواْ}: يجوز أن يكونَ في محلِّ جرٍّ، نعتاً للموصول الأولِ أو بياناً له، أو بدلاً منه، وأن يكونَ في محلِّ نصبٍ على المدح، وأن يكونَ في محلِّ رفعٍ على إضمارِ مبتدأ. قوله: {إِلاَّ أَن يَقُولُواْ} فيه وجهان، أحدهما: أنه منصوبٌ على الاستثناءِ المنقطع، وهذا ممَّا يُجْمِعُ العربُ على نصبه؛ لأنه منقطعٌ لا يمكنُ تَوَجُّهُ العاملِ إليه، وما كان كذا أجمعوا على نصبهِ، نحو: «ما زاد إلاَّ ما نقصَ»، «وما نفعَ إلاَّ ما ضَرَّ». فلو توجَّهَ العاملُ جاز فيه لغتان: النصبُ وهو لغةُ الحجاز، وأَنْ يكونَ كالمتصلِ في النصبِ والبدل نحو: «ما فيها أحدٌ إلاَّ حمارٌ»، وإنما كانت الآيةُ الكريمةُ من الذي لا يتوجَّه عليه العاملُ؛ لأنك لو قلت: «الذين أُخْرِجوا مِنْ ديارهم إلا أَنْ يقولوا ربُّنا الله» لم يَصحَّ. الثاني: أنه في محلِّ جر بدلاً من «حَقّ» قال الزمخشري: «أي بغير موجِبٍ سوى التوحيد الذي ينبغي أن يكون موجب الإِقرارِ والتمكينِ لا موجبَ الإِخراجِ والتسييرِ. ومثلُه: {هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بالله} [المائدة: 59]. وممَّنْ جَعَلَه في موضع جرٍّ بدلاً ممَّا قبله الزجاجُ. إلاَّ أن الشيخ قد رَدَّ ذلك فقال:» ما أجازاه من البدل لا يجوز؛ لأنَّ البدلَ لا يجوزُ إلاَّ حيث سبقه نفيٌ أو نهيٌ أو استفهامٌ في معنى النفي. وأمَّا إذا كان الكلام موجَباً أو أمراً فلا يجوزُ البدلُ؛ لأنَّ البدلَ لا يكون إلا حيثُ يكونُ العاملُ يَتَسَلَّطُ عليه. ولو قلت: «قام إلاَّ زيدٌ»، و «لْيَضْرِبْ إلاَّ عمروٌ» لم يجز. ولو قلت في غير القرآن: «أُخْرِجَ الناسُ مِنْ ديارِهم إلاَّ بأَنْ يقولوا: لا إلهَ إلاَّ اللهُ» لم يكن كلاماً. هذا إذا تُخُيِّل أَنْ يكونَ {إِلاَّ أَن يَقُولُواْ} في موضعِ جرٍّ بدلاً من «غير» المضاف إلى «حَقٍّ». وأمَّا إذا كان بدلاً من «حق» كما نَصَّ عليه الزمخشريُّ فهو في غايةِ الفسادِ؛ لأنه يَلْزَمُ منه أن يكونَ البدلُ يلي «غيراً» فيصير التركيبُ: بغير إلاَّ أَنْ يقولوا، وهذا لا يَصِحُّ، ولو قَدَّرْنا [إلاَّ] ب «غير» كما/ يُقَدَّرُ في النفي في: «ما مررت بأحدٍ إلاَّ زيدٍ» فتجعلُه بدلاً لم يَصِحَّ؛ لأنه يصيرُ التركيبُ: بغير غيرِ قولِهم ربُّنا اللهُ، فتكون قد أضَفْتَ غيراً إلى «غير» وهي هي فيصير: بغير غير، ويَصِحُّّ في «ما مررتُ بأحدٍ إلاَّ زيدٍ» أن تقول: ما مررت بغير زيد، ثم إن الزمخشري حيث مَثَّل البدلَ قَدَّره: بغير موجبٍ سوى التوحيدِ، وهذا تمثيلٌ للصفة جَعَلَ [إلاَّ] بمعنى سِوَى، ويَصِحُّ على الصفةِ فالتبسَ عليه بابُ الصفة بباب البدل. ويجوز أن تقولَ: «مررتُ بالقومِ إلاَّ زيدٍ» على الصفة لا على البدل «. قوله: {وَلَوْلاَ دَفْعُ الله} قد تقدَّم الخلافُ فيه في البقرة وتوجيهُ القراءتين. وقرأ» لَهُدِمَتْ «بالتخفيفِ نافعٌ وابن كثير. والباقون بالتثقيل الدالِّ على التكثيرِ؛ لأنَّ المواضعَ كثيرةٌ متعددةٌ، والقراءةُ الأولى صالحةٌ لهذا المعنى أيضاً. والعامَّةُ على» صَلَواتٌ «بفتح الصاد واللام جمعَ صلاةٍ. وقرأ جعفر ابن محمد» وصُلُوات «بضمِّهما. ورُوي عنه أيضاً بكسرِ الصاد وسكونِ اللام. وقرأ الجحدري بضم الصاد وفتح اللام. وأبو العالية بفتح الصادِ وسكونِ اللام. والجحدريُّ أيضاً» وصُلُوْت «بضمِّهما وسكونِ الواو، بعدها تاءٌ مثناةٌ من فوقُ مثلَ: صُلْب وصُلُوب. والكلبيُّ والضحاكُ كذلك، إلاَّ أنهما أَعْجَما التاءَ بثلاثٍ مِنْ فوقها. والجحدريُّ أيضاً وأبو العاليةِ وأبو رجاءٍ ومجاهدٌ كذلك، إلاَّ أنَّهم جعلوا بعد الثاءِ المثلثة ألفاً فقرؤوا» صُلُوْثا «ورُوي عن مجاهدٍ في هذه التاءِ المثنَّاةِ مِنْ فوقُ أيضاً. ورُوي عن الجحدريِّ أيضاً» صُلْواث «بضم الصادِ وسكونِ اللامِ وألفٍ بعد الواوِ والثاءِ مثلثةً. وقرأ عكرمة» صلويثى «بكسر الصاد وسكون اللام، وبعدها واوٌ مكسورةٌ بعدَها ياءٌ مثنَّاةٌ مِنْ تحتُ بعدها ثاءٌ مثلثةٌ، وحكى ابنُ مجاهد أنه قُرِىءَ» صِلْواث «بكسر الصاد وسكون اللام. بعدها واوٌ، بعدها ألف، بعدها ثاءٌ مثلثةٌ. وقرأ الجحدري» وصُلُوب «مثل كُعُوْب بالباء الموحدةِ وهو جمع» صليب «، وفُعُوْل جمعُ فعيل شاذٌّ نحو: ظريف وظروف وأَسِينة وأُسُون، ورُوي عن أبي عمرو» صلواتُ «كالعامَّةِ، إلاَّ أنَّه لم يُنَوِّن، مَنَعه الصرفَ للعلميَّة والعجمة؛ لأنه جعله اسمَ موضعٍ، فهذه أربعَ عشرةَ قراءةً، المشهورُ منها واحدةٌ، وهي هذه الصلاةُ المعهودة. ولا بُدَّ مِنْ حَذْفِ مضافٍ ليَصِحَّ تَسَلُّطُ الهَدْمِ عليها أي: مواضع صلواتٍ، أو يُضَمَّن» هُدِّمَتْ «معنى» عُطِّلَتْ «فيكون قَدْراً مشتركاً بين المواضع والأفعال؛ فإنَّ تعطيلَ كلِّ شيءٍ بِحَسبِه. وأخَّر المساجدَ لحُدوثِها في الوجود، أو الانتقالِ إلى الأشرفِ. والصلواتُ في الأمم. . . . . . صلاةُ كلِّ مِلَّةٍ بحَسَبِها. وظاهرُ كلام الزمخشري أنها بنفسِها اسمُ مكان فإنه قال:» وسُمِّيَتْ الكنسيةُ صلاةً لأنه يُصَلَّى فيها. وقيل: هي كلمةٌ مُعَرَّبَةٌ أصلُها بالعبرانيةِ صَلُوثا «. انتهى. وأمَّا غيرُها من القراءات فقيل: هي سريانيةٌ أو عبرانيةٌ دَخَلَتْ في لسانِ العربِ. ولذلك كَثُر فيها اللغاتُ. والصَّوامِعُ: جمعُ صَوْمَعَة وهي البناءُ المرتفعُ الحديدُ الأعلى، مِنْ قولِهم رجلٌ أصمعُ، وهو الحديدُ القولِ. ووزنها فَوْعَلة كدَوْخَلة. وهي متعبَّد الرهبانِ لأنهم ينفردون. وقيل: متعبَّدُ الصَّابِئين. والبِيَعُ: جمع بِيْعَة، وهي متعبَّدُ النصارى. وقيل: كنائس إليهود. والأشهر أنَّ الصوامِعَ للرهبانِ والبِيَعَ للنصارى، والصَّلَواتِ لليهود، والمساجدَ للمسلمين. و {يُذْكَرُ فِيهَا اسم الله} يجوز أَنْ يكونَ صفةً للمواضعِ المتقدمةِ كلِّها، إنْ أَعَدْنا الضميرَ مِنْ» فيها «عليها، أو صفةً للمساجد فقط، إنْ خَصَصْنا الضميرَ في» فيها «بها، والأولُ أظهر. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(46)

ويجوز كائن بتشديد الياء، ويجوز كائِن مِنْ قَرْيَةٍ، وهو عند البَصْريين في معنى العدد الكبير، نقول: وكائن مِنْ رَجُل جَاءَنِي معناه العدد الكثيرُ مِنَ الرجَالَ. (فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا). والعُروش السقوفُ، فالمعنى أنها قَدْ خَرِبَتْ وخَلَتْ فصارت على سُقُوفها كما قال في مَوْضع آخر: (فَجَعَلْنَا عَالِيَها سَافِلَهَا)، يقال خوتِ الدارُ والمدينةُ خَواءً، ممدود، فهي خاوِية، وخَوِيتِ المرأةُ وخوِيَ الِإنْسَانُ إذا خَلَا مِنَ الطعَامِ خَوًى، مَقْصور فهو خَوٍ. وقوله: (وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ). أكثر ما جاء في مَشِيدٍ من التَفْسِير مُجَصَّص، والشَيدُ الجصُّ والكَلْسُ أيضاً شِيد، وَقِيلَ مَشِيد مُحَصَّن مُرْتَفِع، والمُشَيد إذَا قيل مُجَصَّص فهو مُرْتفع في قَدْرِهِ وَإن لَمْ يرتفع في سُمكِهِ، وأصل الشَيدِ الجصُّ والنورَةُ، وكل ما بُنيَ بِهِمَا أو بِأحَدِهمَا فهو مُشَيدٌ. * * * وقوله: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) (وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ). القلبُ لا يكون إلا في الصدْرِ - ولكن جَرَى عَلَى التَوكِيدِ كما قال عز وَجَل (يَقُولُونَ بأفْوَاهِهِمْ)، وكما قال: (وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ). وكما قرأ بعضهم: (لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً). فالتوكيد جار في الكلام مبالغ في الإفْهَامَ (1).

_ (1) قال السَّمين: قوله: {التي فِي الصدور} صفةٌ أو بدلٌ أو بيانٌ. وهل هو توكيدٌ؛ لأنَّ القلوبَ لا تكونُ في غير الصدور، أو لها معنى زائدٌ؟ كما قال الزمخشري: «الذي قد تُعُوْرِف واعتُقِدَ أنَّ العمى في الحقيقة مكانُه البصرُ، وهو أن تصابَ الحَدَقَةُ بما يَطْمِسُ نورَها، واستعمالُه في القلبِ استعارةٌ ومَثَلٌ. فلمَّا أُريدَ إثباتُ ما هو خلافُ المعتقدِ مِنْ نسبةِ العمى إلى القلوبِ حقيقةً، ونفيُه عن الأبصارِ، احتاج هذا التصويرُ إلى زيادةِ تعيينٍ وفَضْلِ تعريفٍ؛ ليتقرَّرَ أنَّ مكانَ العمى هو القلوبُ لا الأبصارُ، كما تقولُ: ليس المَضَاءُ للسَّيْفَ، ولكنه لِلِسانِك الذي بينَ فَكَّيْكَ. فقولُك:» الذي بين فَكَّيْكَ «تقريرٌ لِما ادَّعَيْتَه لِلِسانِه وتثبيتٌ؛ لأنَّ مَحَلَّ المَضاءِ هو هو لا غير، وكأنَّك قلتَ: ما نَفَيْتُ المَضاءَ عن السيفِ وأثبتَّه لِلِسانِك فلتةً مني ولا سَهواً، ولكن تَعَمَّدْتُ به إيَّاه بعينه تَعَمُّداً. وقد رَدَّ الشيخ على أبي القاسم قولَه:» تَعَمَّدْتُ به إياه «وجعل هذه العبارةَ عُجْمَةً من حيث إنه فَصَلَ الضميرَ، وليس من مواضعِ فَصْلِه، وكان صوابُه أن يقول: تعمَّدْتُه به كما تقول:» السيفُ ضربتُك به «لا» ضربْتُ به إياك «. قلت: وقد تقدَّم لك نظيرُ هذا الردِّ والجوابُ عنه بما أُجيب عن قولِه تعالى: {يُخْرِجُونَ الرسول وَإِيَّاكُمْ} [الممتحنة: 1]، {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ} [النساء: 131]: وهو أنه مع قَصْدِ تقديمِ غيرِ الضميرِ عليه لغرضٍ يمتنعُ اتصالُه، وأيُّ خطأ في مثل هذا حتى يَدَّعي العُجْمَةَ على فصيحٍ شَهِدَ له بذلك أعداؤُه، وإن كان مُخْطِئاً في بعضِ الاعتقاداتِ ممَّا لا تَعَلُّقَ له فيما نحن بصدِده؟ وقال الإِمامُ فخر الدين: «وفيه عندي وجهٌ آخرُ: وهو أنَّ القلبَ قد يُجْعَلُ كنايةً عن الخاطرِ والتدبُّرِ، كقولِه تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لذكرى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق: 37]. وعند قومٍ أنَّ محلَّ الذِّكْرِ هو الدماغُ، فاللهُ تعالى بيَّن أنَّ مَحَلَّ ذلك هو الصدرُ». وفي محلِّ العقلِ خلافٌ مشهورٌ، وإلى الأولِ مَيْلُ ابنِ عطية قال: «هو مبالغةٌ كما تقول: نظرتُ إليه بعيني، وكقوله: يقولون بأَفْواههم». قلت: وقد أَبْدَيْتُ فائدةً في قوله «بأفواههم» زيادةً على التأكيد. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(47)

وقوله: (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) قيل إن يوْماً من أيامِ عَذَابِهم كألف سَنَةٍ، ويدل على ذلك الحديث الذي يُرْوَى أن الفقراء يُدْخُلونَ الجنةَ قَبْلَ الأغْنِياءِ بِنِصفِ يومٍ. وجاء في حديث آخر تفسير هذا القول بخمسمائةِ عَامٍ. فهذا يدل على أنَّ اليومَ مِن أيامِ القِيامة ألف سَنَةٍ، والذي تدل عليه الآية - واللَّهُ أعلَم - أنهم اسْتَعجَلوا فأعلمَ اللَّهُ عز وَجَلَّ أنه لا يَفُوته شيء وأن يوماً عنده وألف سنةٍ في قُدْرَتِه وَاحدٌ، وأن الاستعجال في ميعادهم لا فرق فيه بين وقوع ما يستعجلون به من العذاب وتأخره في القدرة إلَّا أنَّ اللَّهَ - جل ثناؤه - تفضل بالإِمهال، وغَفَر بِالتوبَةِ، فالتأخير الفرق بينه وبين التقديم تفَضل الله عزَّ وَجَل بالنَظِرَةِ. ثم أعلم - عزَّ وَجَلً - أنَّه قد أخذ قَوْماً بعد الإِملاءِ والتأخير عُقوبةً منه ليزدادوا إثماً فقال بعد قوله: (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ)، وبعد تمام الآية (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48). المعنى ثم أخَذْتها بالعَذَابِ، واستُغنِيَ عن ذكر العذاب لِتقَدُمِ ذكره في قوله: (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ). * * * وقوله: (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51) أي ظانِّينَ أنهم يعجزونَنَا لأنهم ظَنوا أنهم لا يُبْعَثُونَ، وأنَّهُ لاَ جنَّةَ ولا نار. وقيل في التفسير معاجزين معاندين، وليس بخارج من القول الأول. وقُرِئت معَجِّزِين، وتأويلها أنهم كانوا يُعَجِّزُونَ من اتبع النبي - صلى الله عليه وسلم - وُيثَبِّطونَهمْ عنه. * * * وقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) معنى (إِذَا تَمَنَّى) إذَا تَلَا، ألقى الشيطان في تِلَاوَتِهِ، فذلك

محنة من اللَّه، - عزَّ وجلَّ - وله أنْ يمْتحن بما شاء، فألقى الشيطان على لسان النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئاً من صفة الأصنام فافتتن بذلك أهلُ الشقاق والنفاقِ ومن في قلبه مرض (1) فقال اللَّهُ عر وَجَل: (لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ ثم أعلم أنهم ظالِمونَ، وأنهم في شِقاقٍ دَائِم، والشقاق غاية العداوةِ فقال -: (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ). ثم أعلم أن هؤلاَءِ لا يَتوبونَ فقال: (وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ) أي في شك مِنه. (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً) أي مفاجأة. (أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ). أصل العُقم، العقم في الولادة، يقال: هَذِهِ امرأة عقيمٌ، كما قال اللَّه - عَزً وَجَلً -: (قَالَتْ عجوزٌ عقيم). وكذلك رجل عقيم إذا كان لا يُولدُ قال الشاعر: عُقِمَ النِّساءُ فلن يَلِدْنَ شَبيهَه. . . إن النِّساءَ بمثْلِه عُقْمُ والريح العقيم التي لا تأتي بسحاب يُمْطِر، وإنما تأتي بالعذاب، واليوم العقيم هُوَ الَّذي لا يَأتي فيه خيرٌ، فيوم القيامةِ عقيمٌ على الكفار كما قال اللَّه - عزَّ وجلَّ -

_ (1) قال الإمام فخر الدين الرَّازي ما نصُّه: أما قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان فِى أُمْنِيَّتِهِ} ففيه مسائل: المسألة الأولى: من الناس من قال: الرسول هو الذي حدث وأرسل، والنبي هو الذي لم يرسل ولكنه ألهم أو رأى في النوم، ومن الناس من قال: إن كل رسول نبي، وليس كل نبي يكون رسولاً، وهو قول الكلبي والفراء. وقالت المعتزلة كل رسول نبي، وكل نبي رسول، ولا فرق بينهما، واحتجوا على فساد القول الأول بوجوه: أحدها: هذه الآية فإنها دالة على أن النبي قد يكون مرسلاً، وكذا قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مّن نَّبِيٍّ} [الأعراف: 94]، وثانيها: أن الله تعالى خاطب محمداً مرة بالنبي ومرة بالرسول، فدل على أنه لا منافاة بين الأمرين، وعلى القول الأول المنافاة حاصلة وثالثها: أنه تعالى نص على أنه خاتم النبيين ورابعها: أن اشتقاق لفظ النبي إما من النبأ وهو الخبر، أو من قولهم نبأ إذا ارتفع، والمعنيان لا يحصلان إلا بقبول الرسالة. أما القول الثاني: فاعلم أن شيئاً من تلك الوجوه لا يبطله، بل هذه الآية دالة عليه لأنه عطف النبي على الرسول، وذلك يوجب المغايرة وهو من باب عطف العام على الخاص. وقال في موضع آخر {وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيّ فِى الأولين} [الزخرف: 6] وذلك يدل على أنه كان نبياً، فجعله الله مرسلاً وهو يدل على قولنا: «وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم كم المرسلون؟ فقال ثلثمائة وثلاثة عشرة، فقيل وكم الأنبياء؟ فقال مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً الجم الغفير» إذا ثبت هذا فنقول: ذكروا في الفرق بين الرسول والنبي أموراً: أحدها: أن الرسول من الأنبياء من جمع إلى المعجزة الكتاب المنزل عليه، والنبي غير الرسول من لم ينزل عليه كتاب، وإنما أمر أن يدعو إلى كتاب من قبله والثاني: أن من كان صاحب المعجزة وصاحب الكتاب ونسخ شرع من قبله فهو الرسول، ومن لم يكن مستجمعاً لهذه الخصال فهو النبي غير الرسول، وهؤلاء يلزمهم أن لا يجعلوا إسحق ويعقوب وأيوب ويونس وهرون وداود وسليمان رسلاً لأنهم ما جاءوا بكتاب ناسخ والثالث: أن من جاءه الملك ظاهراً وأمره بدعوة الخلق فهو الرسول، ومن لم يكن كذلك بل رأى في النوم كونه رسولاً، أو أخبره أحد من الرسال بأنه رسول الله، فهو النبي الذي لا يكون رسولاً وهذا هو الأولى. المسألة الثانية: ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآية أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما رأى إعراض قومه عنه وشق عليه ما رأى من مباعدتهم عما جاءهم به تمنى في نفسه أن يأتيهم من الله ما يقارب بينه وبين قومه وذلك لحرصه على إيمانهم فجلس ذات يوم في ناد من أندية قريش كثير أهله وأحب يومئذ أن لا يأتيه من الله شيء ينفروا عنه وتمنى ذلك فأنزل الله تعالى سورة {والنجم إِذَا هوى} [النجم: 1] فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ قوله {أَفَرَءيْتُمُ اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى} [النجم: 19، 20] ألقى الشيطان على لسانه «تلك الغرانيق العلى منها الشفاعة ترتجى» فلما سمعت قريش ذلك فرحوا ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في قراءته فقرأ السورة كلها فسجد وسجد المسلمون لسجوده وسجد جميع من في المسجد من المشركين فلم يبق في المسجد مؤمن ولا كافر إلا سجد سوى الوليد بن المغيرة وأبي أحيحة سعيد بن العاصي فإنهما أخذا حفنة من التراب من البطحاء ورفعاها إلى جبهتيهما وسجدا عليها لأنهما كانا شيخين كبيرين فلم يستطيعا السجود وتفرقت قريش وقد سرهم ما سمعوا وقالوا قد ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذكر فلما أمسى رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل عليه السلام فقال ماذا صنعت تلوت على الناس ما لم آتك به عن الله وقلت ما لم أقل لك؟! فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم حزناً شديداً وخاف من الله خوفاً عظيماً حتى نزل قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان فِى أُمْنِيَّتِهِ} الآية. هذا رواية عامة المفسرين الظاهريين، أما أهل التحقيق فقد قالوا هذه الرواية باطلة موضوعة واحتجوا عليه بالقرآن والسنة والمعقول. أما القرآن فوجوه: أحدها: قوله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل * لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوتين} [الحاقة: 44 46]، وثانيها: قوله: {قُلْ مَا يَكُونُ لِى أَنْ أُبَدّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ} [يونس: 15] وثالثها: قوله: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يوحى} {النجم: 3] فلو أنه قرأ عقيب هذه الآية تلك الغرانيق العلي لكان قد ظهر كذب الله تعالى في الحال وذلك لا يقوله مسلم ورابعها: قوله تعالى: {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الذى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِىَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً} [الإسراء: 73] وكلمة كاد عند بعضهم معناه قرب أن يكون الأمر كذلك مع أنه لم يحصل وخامسها: قوله: {وَلَوْلاَ أَن ثبتناك لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً} [الإسراء: 74] وكلمة لولا تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره فدل على أن ذلك الركون القليل لم يحصل وسادسها: قوله: {كذلك نُثَبّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [الفرقان: 32]. وسابعها: قوله: {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى} [الأعلى: 6]. وأما السنة فهي ما روي عن محمد بن إسحق بن خزيمة أنه سئل عن هذه القصة فقال هذا وضع من الزنادقة وصنف فيه كتاباً. وقال الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل ثم أخذ يتكلم في أن رواة هذه القصة مطعون فيهم، وأيضاً فقد روى البخاري في صحيحه أن النبي عليه السلام قرأ سورة النجم وسجد فيها المسلمون والمشركون والإنس والجن وليس فيه حديث الغرانيق. وروي هذا الحديث من طرق كثيرة وليس فيها ألبتة حديث الغرانيق. وأما المعقول فمن وجوه: أحدها: أن من جوز على الرسول صلى الله عليه وسلم تعظيم الأوثان فقد كفر لأن من المعلوم بالضرورة أن أعظم سعيه كان في نفي الأوثان وثانيها: أنه عليه السلام ما كان يمكنه في أول الأمر أن يصلى ويقرأ القرآن عند الكعبة آمناً أذى المشركين له حتى كانوا ربما مدوا أيديهم إليه وإنما كان يصلي إذا لم يحضروها ليلاً أو في أوقات خلوة وذلك يبطل قولهم وثالثها: أن معاداتهم للرسول كانت أعظم من أن يقروا بهذا القدر من القراءة دون أن يقفوا على حقيقة الأمر فكيف أجمعوا على أنه عظم آلهتهم حتى خروا سجداً مع أنه لم يظهر عندهم موافقته لهم ورابعها: قوله: {فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِى الشيطان ثُمَّ يُحْكِمُ الله ءاياته} وذلك لأن إحكام الآيات بإزالة ما يلقيه الشيطان عن الرسول أقوى من نسخه بهذه الآيات التي تبقى الشبهة معها، فإذا أراد الله إحكام الآيات لئلا يلتبس ما ليس بقرآن قرآناً، فبأن يمنع الشيطان من ذلك أصلاً أولى وخامسها: وهو أقوى الوجوه أنا لو جوزنا ذلك ارتفع الأمان عن شرعه وجوزنا في كل واحد من الأحكام والشرائع أن يكون كذلك ويبطل قوله تعالى: {يا أيها الرسول بَلّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس} [المائدة: 67] فإنه لا فرق في العقل بين النقصان عن الوحي وبين الزيادة فيه فبهذه الوجوه عرفنا على سبيل الإجمال أن هذه القصة موضوعة أكثر ما في الباب أن جمعاً من المفسرين ذكروها لكنهم ما بلغوا حد التواتر، وخبر الواحد لا يعارض الدلائل النقلية والعقلية المتواترة، ولنشرع الآن في التفصيل فنقول التمني جاء في اللغة لأمرين: أحدهما: تمنى القلب والثاني: القراءة قال الله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الكتاب إِلاَّ أَمَانِيَّ} [البقرة: 78] أي إلا قراءة لأن الأمي لا يعلم القرآن من المصحف وإنما يعلمه قراءة، وقال حسان: تمنى كتاب الله أول ليلة. . وآخرها لاقى حمام المقادر قيل إنما سميت القراءة أمنية لأن القارىء إذا انتهى إلى آية رحمة تمنى حصولها وإذا انتهى إلى آية عذاب تمنى أن لا يبتلى بها، وقال: أبو مسلم التمني هو التقدير وتمنى هو تفعل من منيت والمنية وفاة الإنسان في الوقت الذي قدره الله تعالى، ومنى الله لك أي قدر لك. وقال رواة اللغة الأمنية القراءة واحتجوا ببيت حسان، وذلك راجع إلى الأصل الذي ذكرناه فإن التالي مقدر للحروف ويذكرها شيئاً فشيئاً، فالحاصل من هذا البحث أن الأمنية، إما القراءة، وإما الخاطر، أما إذا فسرناها بالقراءة ففيه قولان: الأول: أنه تعالى أراد بذلك ما يجوز أن يسهو الرسول صلى الله عليه وسلم فيه ويشتبه على القارىء دون ما رووه من قوله تلك الغرانيق العلى الثاني: المراد منه وقوع هذه الكلمة في قراءته ثم اختلف القائلون بهذا على وجوه: الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتكلم بقوله تلك الغرانيق العلى ولا الشيطان تكلم به ولا أحد تكلم به لكنه عليه السلام لما قرأ سورة النجم اشتبه الأمر على الكفار فحسبوا بعض ألفاظه ما رووه من قولهم تلك الغرانيق العلى وذلك على حسب ما جرت العادة به من توهم بعض الكلمات على غير ما يقال وهذا الوجه ذهب إليه جماعة وهو ضعيف لوجوه: أحدها: أن التوهم في مثل ذلك إنما يصح فيما قد جرت العادة بسماعه فأما غير المسموع فلا يقع ذلك فيه وثانيها: أنه لو كان كذلك لوقع هذا التوهم لبعض السامعين دون البعض فإن العادة مانعة من اتفاق الجم العظيم في الساعة الواحدة على خيال واحد فاسد في المحسوسات وثالثها: لو كان كذلك لم يكن مضافاً إلى الشيطان الوجه الثاني: قالوا إن ذلك الكلام كلام شيطان الجن وذلك بأن تلفظ بكلام من تلقاء نفسه أوقعه في درج تلك التلاوة في بعض وقفاته ليظن أنه من جنس الكلام المسموع من الرسول صلى الله عليه وسلم قالوا والذي يؤكده أنه لا خلاف في أن الجن والشياطين متكلمون فلا يمتنع أن يأتي الشيطان بصوت مثل صوت الرسول عل

(60)

(عَلَى الكَافِرينَ غَيرُ يَسِيرٍ). وليس هو على المؤمنين الذين أَدْخِلوا في رحمة اللَّه كذلك. وأنشد بعض أهل اللغة في قوله تمنى في معنى تلا قول الشاعر: تَمَنَّى كتابَ اللهِ أَوَّلَ لَيْلِه. . . وآخِرَه لاقَى حِمامَ المَقادِرِ أي تلا كتاب اللَّه مترسلًا فيهِ كما تلا داود الزبور مترسِّلاً فيه. * * * وقوله: (ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60) (ذلك) في موضع رفع، المعنى الأمر ذلك، أي الأمره، قصصنا لحيكم. قوله: (وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِ). الأول لم يكن عقوبةً، وإنما العقوبة الجزاء، ولكنه سُمِّي عقوبةً لأن الفِعلَ الذي هو عقوبة كان جزاء فسمِّي الأول الذي جوزيَ عليه عقوبة لاستواء الفعلين في جنس المكروه. كما قال عزَّ وَجَلَّ: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا). فالأول سيئة والمجازاة عليها حسنةٌ من حسنات المجَازِي عليها إلا أنها سُمِّيَتْ سيئَةً بأنها وقَعَتْ إساءة بالمفعول به، لأنه فعِلَ بِهِ ما يَسُوءه. وكذلك قوله (مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ)، جعل مجازاتهم باستهزائهم مسمَّى بلفظ فِعْلِهِمْ لأنه جَزَاءُ فعلهم. * * * وقوله: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) وقرئت مَخْضَرَة.

(65)

ذكر الله جل ثناؤه - ما يدل على توحيده من إيلاج الليل في النَّهَارِ والنهار في الليل، وذكر إنزاله الماء يُنْبِتُ وذكر تسخير الفلك في البحر وإمساك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، فدل أنه الواحد الَّذي خلق الخلق وأتى بما لا يمكن الْبَشَرَ أن يأتوا بمثله، ثم ذكر جهل المشركين في عِبَادَتِهِمْ الأصنام فقال عزَّ وَجَل: (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71) أي ما لم يُنْزِلْ بِهِ حُجةً وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ. ثم ضرب لهم مَثَلَ مَا يَعْبُدون، وأنه لا ينفع ولا يضر. وأما القراءة: (فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) لَا غَيرُ قال سيبويه: سألت الخليل عن قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) فقال هذا واجبٌ ومعناه التنبيه كأنَّه قال: أتَسْمَعُ؟ أنْزَلَ الله من السماء ماء، فكان كذا وكذا، وقال غيره مثل قوله. قال مجاز هذا الكلام مجاز الخبر كأنه قال: الله ينزل من السماء ماء، فتصبح الأرضِ مخضرةً. وأنشدوا. أَلم تَسْأَلِ الرَّبْعَ القَواءَ فَيَنْطِقُ. . . وهَلْ تُخْبِرَنْكَ اليَوْمَ بَيْداءُ سَمْلَقُ؟ قال الخليل: المعنى فهو مما ينطق، وأما من قرأ مَخْضَرَة فهو على معنى ذات مَخْضَرة مثل مَبْقَلة ذات بقل، ومَشْبَعة ذات شِبَع، ولا يجوز مَخَضَرَّة - بفتح الميم وتشديد الراء - لأن مَفْعَلَّة ليس في الكلام ولا معنى له. * * * وقوله عزَّ وَجَلَّ: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65)

(67)

(الفلْكَ) بالنصْب نَسق - على " ما " المعنى وسخر لكم الفلك. ويكون (تجري) حالاً، أي وسخر لكم الفلك في حَاِل جريها. ويقرأ: (والفلكُ تجري في البحر بأمْره)، فيكون الفلكُ مرفوعاً بالابتداء، وتجْري هو الخبر، والمعنى معنى التسخير لأن جريها بأمره هو التسخير. وقوله: (وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ). على معنى كراهة أن تقع على الأرْض، وموضع " أن " نَصبٌ بيُمْسِكً. وهي مفعول. المعنى لكراهة أن تقع. * * * وقوله: (لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67) ومَنْسِكاً، وقد تقدم الشرح في هذا. وقوله: (فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ) أي لا يجادِلُنَّكَ فيه، ومعناه لا تنازعهم، والدليل عنى أن المعنى لا يُجَادِلنَّك وَلَا تُجَادِلَنَّهُمْ قوله: (وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ). هذا قبل القتال. فإن قال قائل: فهم قد جَادَلُوه فَلِمَ قيل (فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ) وهم قد نازعوه؟ فالمعنى أنه نَهْيٌ له - صلى الله عليه وسلم - عن منازعَتِهِمْ كما يقول: لا يخَاصِمَنَّكَ فُلَانٌ في هذا أبداً، وهذا جائز في الفعل الذي لا يَكونُ إلا من اثنين لأن المجادلة والمخاصمة لا تتم إلا باثنين، فإذا قلت لا يُجَادِلَنَكَ فُلان فهو بمنزلة لا تجادِلِنَّهُ، ولا يجوز هذا في قوله: لا يَضْرِبَنَّكَ فُلَانٌ، وأنت تريد لا تضرِبْهُ. ولكن لو قلت لا يُضَارِبنَّكَ فلان لكان كقولك لا تُضَارِبَنَّ فلاناً. ويقرأ: " فَلَا يَنْزِعُنَّك في الأمر ": معناه لا يغلِبُنَّكَ في المنازعة فيه، يقال: نَازَعَنِي فُلَانٌ فنزعتُه وَعَازَّني فَعَزَزْتُه، أنزعه وأغلِبُه، المعنى فلا يَغْلِبُنَّكَ في الأمْرِ. * * * وقوله: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72)

(73)

أي يكادون يبطشونَ بسطوةٍ على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، والذين يتلون عليهم القرآن. وقوله،: (قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ). القراءة بالرفع وهي أثبت في النحو مِنَ الجر والنَصْبِ والخفض. والنَّصْبُ جائز، فأمَّا من رفع فعلى معنى هو النَّارُ، وهي النَّارُ، كأنَّهم قالوا: مَا هَذَا الذي هُوَ شَرٌّ؟ فقِيلَ النَّارُ. ومن قال النَّارِ بالجر، فعلى البَدَلِ مِنْ شَرٍّ، ومَنْ قَالَ النَّارَ بِالنَصْبِ، فهو على معنى أعْني النَّارَ، وعلى معنى أنَبُئكُمْ بشَرٍّ من ذلكم كأنَّه قال أعَرفُكُم شَرًّا من ذلكم النَّارَ. * * * وقوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) لأنهم عبدوا من دون اللَّه ما لا يَسْمَع ولا يُبْصِرُ وما لم يُنَزِّلْ به حجةً. فَأَعْلَمَهُم اللَّهِ عزَّ وَجَل الجواب فيما جعلوه للَّه مثلاً، وجعلوه له نيًرا، فقال: (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ). يعنى الأصنام، وكل من دُعِيَ مِن دُونِ اللَّهِ إِلهاً لَا إلهَ إلا اللَّهُ وحْدَه. وقوله: (وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ). أعلم اللَّه - جلّ ثناؤه - أنه الخالق، ودل على وحدانيته بجميع ما خلق ثم أعلم أن الذِين عُبِدُوا مِنْ دُونهِ لا يَقْدِرون على خَلقِ وَاحِدٍ قَلِيل ضعيفٍ مِنْ خَلْقِه، ولا على اسْتِنْقَاذِ تَافِهٍ حقيرٍ منه. * * * ثم قال: (مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74) أي ما عظموه حقَّ عَظَمتِه، ثم أعلَمَ بَعْدَ ذِكره ضعْفَ قوة المَعْبُودِينَ قوَّته فقال: (إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ).

(75)

وقوله (ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) يجوز ضَعُفَ، وضُعِفَ الطالب والمطلوب، أي فهم يضعفون عن أن يخلقوا ذبَاباً، وعن أن يستنقذوا من الذُّبَابشيئاً ضعف الذباب. وقوله - عزَّ وجلَّ -: (اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) اصطفى اللَّه من الملائكة جبريل وميكائيل وإسرافيل ومَلَكَ الموتِ واصطفى من الناسِ النبيينَ والمرسلين صلى الله عليهم وسلم أحمعين. * * * وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) أي اقصدوا بركوعكم وسجودكم الله وحده. (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ). والخير كل مَا أمرَ اللَّه بِهِ. وقوله: (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) هذا ليس بشك، ولكن معناه لترجوا أن تكونوا على فلاح، كما قال لموسى وهارون: (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44). أي اذهبا على رجائِكمَا كما كما يرجو النبي ممنْ يُبْعَث إليه، واللَّه عز وَجَلَّ من وراء العلم بما يؤول إليه أمر فرعون إلا أن الحجةَ لا تَقوم إلا بَعدَ الإِبَانَةِ. وقوله عزَّ وَجَل: (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78) قيل إنه بمنزلة قوله: (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) وأن نسخها قوله: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ). وقوله: (هو اجْتَبَاكمْ) معناه: اختاركم. * * ** * ** * ** * ** * ** * ** * **

وقوله: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ). أي مِنْ ضيقٍ، جعل الله على من لم يستطع الشيء الذي يثقل في وَقتٍ، ما هُو أخف منه، فجعل للصائم الإفطار في السفر، وبِقَصْر الصلاة للمُصَلِّي إذا لم يُطِقِ القِيام أن يُصَلِّيَ قَاعدِاً، وإِن لم يطق القُعُودَ أن يُومِئَ إيماءً، وجعل للرجل أن يتزوج أَرْبعاً، وجعل له جميع ما ملكتْهُ يمينُهُ. فوسَّعَ اللَّه - عزَّ وَجَلَّ - عَلَى خلقِه. وقوله: (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ). معناه اتبعوا مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ. وجائز أن يكون مَنْصُوباً بقوله: اعبدوا ربكم وافعلوا الخير فعْلَ أبيكم إبراهيم. وقوله: (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا). " هُوَ " رَاجِعَةٌ إلى اللَّه - عَر وَجَلً - المعنى: اللَّهُ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلِ أن يُنَزِّلَ القرآن، وفي هذا القرآن سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ. وجائز أنْ يكون إبراهيمُ عليه السلام سَمَّاكُمُ المُسلِمِينَ من قبل، وفي هذا، أي حكم إبراهيم أن كل من آمن بمحمد مُوَحِّداً لِلَّهِ فقد سمَّاه إبراهيم مُسْلِماً. وقوله: (وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ). يروى أن الله سبحانه أعطى هذه الأمة ثلاثة أشياء لم يعْطَها إلا الأنبياء. جُعِلَتْ شَهِيدَة على سائر الأمَمِ، والشهادة لكل نبيٍّ على أُمَّتِه. وأن يقال للنبي عليه السلام: اذهب ولا حرج عليك، وقال اللَّه لهذه الأُمَّة: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)، وأنه قال لكل نَبِيٍّ سَلْ تُعْطَه، وقال لهذه الأمَّةِ: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ).

سورة المؤمنون

سُورَةُ المؤْمِنون (مَكِيَّة) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ومن السورة التي يذكر فيها المؤمنون. قوله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) أي قد نَالُوا البَقاء الدائم في الخير، ومن قرأ قد أُفْلِحَ المؤمنونَ. كان معناه: قد أُصِيرُوا إلى الفلاح. ويروى عن كعب الحَبْر: أن الله عزَّ وجلَّ لم يخلق بيده إلا ثلاثة أشياء، خلق آدمَ - صلى الله عليه وسلم - بِيَدِه وخلق جنَّةَ عَدْنٍ بيده، وكتب التوراة بيده، فقال لجنَّة عدنٍ تكلمي فقالت ((قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) لما رأت فيها من الكرامة لأهلها،

(2)

و (الْمُؤْمِنُونَ) المصدِّقونَ بما أتى من عند اللَّه، وبأنه واحد لا شريك له. وأن محمداً - صلى الله عليه وسلم - نبيُّه * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) أصل الخشوع في اللغة الخضوع والتَوَاضع، ودليل ذلك قوله: (وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا). وقال الحسن وقتَادَةُ: خاشعون خائفون. وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان إذا وقف في صلاته رفع بصره نحو السماء، فلما نزلت (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ) جَعَلَ نظره موضع سُجُودِه. . * * * (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) اللغو كل لَعِبٍ وهَزْلٍ، وكُلُّ مَعْصِيَةٍ فمُطَّرحةٌ مُلْغَاة، وهم الذين قد شغلهم الجد فيما أمرهم اللَّه به عن اللغْوِ. * * * وقوله: (وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) معنى (فَاعِلُونَ) مُؤتُونَ. * * * (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) أي يحفظون فروجهم عن المعاصي. * * * (إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) مَوْضِعُ " ما " خفَضٌ ودخلت " على " ههنا لأن المعنى أنهم يلامون في إطْلاقِ ما حُظِرَ عَلَيْهم، (إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ فِإنَهُم لَا يُلَامون على ما أُحِلَّ لَهُمْ مِنْ تَزوج أرْبع، ومِنْ ملك اليَمِين، والمعنى أنهم يلامون على ما سِوى أَزْوَاجِهِمْ وملك أيمانِهِمْ.

(7)

(فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) أي فمن طلب مَا بَعْدَ ذَلِكَ. (فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ). ومعنى (الْعَادُونَ) الجائرون الظالمونَ الذين قَدْ تَعدَّوا فِي الظلْمِ. * * * (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) ويقرأ لأمانتهم واحداً وَجَمْعاً. (وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ). أي يقومُون على حفظ أَمَانَتِهِمْ وَعَهْدِهم، يَرْعَوْنَ ذلك، وأصل الرَّعْيِ في اللغَةِ القيامُ على إصلاح ما يتولَّاه الراعي من كل شيءٍ تقول: الِإمام يَرْعَى رَعِيتَهُ، والقيِّمُ بالغنم يَرْعَى غَنَمه، وفلان يَرْعَى مَا بَيْنَه وبَيْنَ فُلانٍ، أي يقوم على إصْلاح ما بينه وبينه. * * * (وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) (وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ). وَصَلَواتِهِم يقرأ أن جميعاً. (يُحَافِظُونَ). معناه يُصَلونَها لوقتها، والمحافظة على الصلَواتِ أَن تُصَلَّى في أَوْقَاتِها. فأمَّا الترك فَداخل في بَابِ الخُرُوجِ عَنِ الدِّينِ. والذين وُصِفُوا بالمحافظة هم الذين يرْعَوْنَ أَوْقَاتَها. * * * (أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) أيَ من وصف بما جرى من الِإيمَانِ والعَمَلِ بما يلزم المؤمِنَ أُولئِكَ هُم الْوَارِثُونَ. * * * (الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)

(12)

روي أن اللَّه - جل ثناؤه - جعل لكل امْرِئ بَيْتاً في الجَنَّةِ وَبَيْتاً في النَّارِ فمن عَمِلَ عَمَلَ أهلَ النَّارِ وَرِث بيتَه مِنَ الجَنَّةِ مَنْ عَمِلَ عَمَلَ أهلِ الجَنَّةِ، ومن عَمِلَ عَمَلَ أهْلِ الجنَّة ورث بيته من النار من عَمِلَ عَمَل أهل النَّارِ، والفِرْدَوْس: أصله رُومي أعرب وهو البسْتَان، كذلك جاء في التفسير. وقد قيل إنَّ الفِرْدَوْس يعرفه العَرَب، وسُمِّى الموضِع الذي فيه كرم فردوساً. قال أبو إسحاق: روينا عَنْ أَحْمَدَ بنِ حَنْبل رحمه الله في كتابه " كتاب التفسير "، وهو ما أجازه لي عبد الله ابنه عنه أن اللَّه عزَّ وجلَّ، بنى جَنَّةَ الفِرْدَوْسِ لَبِنةً من ذهب ولَبِنةً من فِضةٍ، وجَعَلَ جِبَالها المِسْكَ الأذْفَر. ورَوينَا عن غيره أن اللَّه - جَلَّ ثناؤه - كنس جَنّة الفردَوْسِ بِيدِه، وبناها لبنةً من ذهب مُصَفًّى ولبنةً مِنْ مِسْكٍ مذَرًّى، وغرس فيها مِنْ جَيِّدِ الفَاكِهَةِ وَجَيِّد الريْحَانِ. * * * قوله تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) سُلَالَة: فعالة. فخلق اللَّه آدم - عليه السلام - مِنْ طِينٍ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) على هذا القول يَعْنِي وَلَدَ آدم. وِقيل مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طينٍ، من مَنِيِّ آدم - صلى الله عليه وسلم - وسُلَالَة: القليل فيما يَنْسَلُ. وكل مَبْنَى عَلَى فُعالة، يراد به القليل. فمن ذلك الفُضَالَة والنُّخَالة والقُلاَمَة. فَعَلَى هذَا قياسُه. * * * وقوله: (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) (فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا) وتقرأ على أرْبَعةِ أوْجهٍ: أحدها ما ذكرنا. وتقرأ: (فَخَلَقنا المضغة عَظْماً فكسونا العَظْمَ لحماً) ويقرأ: (فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العَظْمَ لحماً) ويقرأ: (فخلقنا المضغة عَظْماً فكسونا العظام لحماً). والتوحيد والجمع ههنا جائزان، لأنه يُعْلم أن الإنسانَ ذُو عظام، فإِذَا ذُكِرَ على التوحيد فِلأنه يَدلُّ على

(15)

الجمع، ولأنَّهُ مَعه اللحْمَ، ولفظه لفظ الواحِدِ، فقد عُلِمَ أن العَظْمَ يُرَادُ به العِظَامُ. وقد يجوز من التوحيد إذا كان في الكلام دليل على الجمع مَا هُوَ أشَدُّ مِنْ هذا قال الشاعر: في حلقكم عظم وقد شجينا يريد في حلوقكم عِظامٌ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ). فيه ثلاثة أقوال: قِيل جُعِلَ ذكراً أَوْ أنثى، وقيل نفخ فيه الروح. وقيلَ أنْبِتَ عليه الشًعْرُ. ويروى أَن عمَر كان عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين نزلت هذه الآية، فقال عَمر: فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخَالِقِينَ، فقال - صلى الله عليه وسلم - لعمر إن الله قد ختم بها الآية. * * * وقوله: (ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ويجوز لمائِتون، ويجوز لَميْتون. وأجْوَدها (لَمَيِّتُونَ)، وعليها القراءة. وجاءت مائتون لأنها لما يستقبل. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17) يعنَى به سبع سموات، فكل واحدة طريقة. (وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ)، أي لم نكن لنغفلَ عن حفظهنَّ، كما قال: (وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفوظاً). وجائز أن يكون (وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ) أي إنا لِحِفْظِنَا إيَّاهُمْ خلقنا هذا الخلق.

(18)

(وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18) ويروى أن أربعة أنهار من الجنة، دجلةُ والفراتُ وَسِيحانُ وجِيحانُ. ومعنى (فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ) جعلناه ثابتاً فيها لا يزول. * * * وقوله: (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20) (شَجَرَةً) منصوب، عطف على قوله: (فَأنْشَأنَا لَكُمْ به جَنَّاتٍ) أي، وأنشأنا لكم به شجرةً. ويقرأ (من طور سَيْنَاءَ) بفتحَ السين، وبكسر السين (1)، والطور الجبل، وقيل إن سيناء حجارةٌ، وهو - واللَّه أعلم - اسمٌ لِمكَانٍ. فمن قال سَيْناء، فهو على وصف صحراء، لا ينصرف، ومن قال سِينَاء - بكسر السين - فليس في الكلام على وزن فِعْلاَء على أن الألف للتأنيث، لأنه ليس في الكلام ما فيه ألف التأنيث على وزن فِعْلَاءَ، وفي الكلام نحو عِلْباءٍ مُنْصَرِفٌ. إلا أن سِيناء ههنا اسم للبقعة فلا ينصرف. قوله: (تَنْبًتُ بِالذُهْنِ). يقال نبت الشجر وأَنْبَتَ في مَعْنًى واحدٍ، قال زُهير: رأيت ذوي الحاجات حول بيوتهم قطيناً لهم حتى إذا أنبت البَقْلُ ومعنى (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) أي تنبت وفيها دُهْنٌ وَمَعَها دُهْن كما تقول: جاءني زيد. بالسيف، تريد جاءني ومعه السيف. وقوله تعالى: (وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ).

_ (1) قال السَّمين: قوله: {وَشَجَرَةً}: عطفٌ على «جناتٍ». وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو «سِيناء» بكسر السين. والباقون بفتحها. والأعمش كذلك إلاَّ أنه قَصَرها. فأمَّا القراءةُ الأولى فالهمزةُ فيها ليسَتْ للتأنيثِ؛ إذ ليس في الكلام فِعْلاء بكسر الأول، وهمزتُه للتأنيث، بل للإِلحاقِ ك «سِرْداح» و «قِرْطاس» فهي كِعلْباء فتكونُ الهمزةُ منقلبةً عن ياءٍ أو واوٍ؛ لأن الإِلحاقَ يكون بهما، فلمَّا وقع حرفُ العلةِ متطرفاً بعد ألفٍ زائدة قُلِبَتْ همزةً كرِداء وكِساء، قال الفارسي: «وهي الياءُ التي ظهرَتْ في» دِرْحايَة «. والدِّرْحاية: الرجلُ القصيرُ السمينُ. وجعل أبو البقاءِ هذه الهمزةَ أصليةً فقال:» والهمزةُ على هذا أصلٌ مثل «حِمْلاق» وليسَتْ للتأنيثِ إذ ليس في الكلام مثلُ [حِمْراء والياءُ أصلٌ إذ ليس في الكلام «سنأ»] يعني: مادة سين ونون وهمزة. وهذا مخالِفٌ لِما تَقَدَّمَ مِنْ كونِها بدلاً من زائدٍ ملحقٍ بالأصل. على أن كلامَه محتملٌ للتأويلِ إلى ما تقدَّم، وعلى هذا فَمَنْعُ الصرفِ للتعريف والتأنيث؛ لأنها اسمُ بُقعةٍ بعينها، وقيل: للتعريف والعُجْمة، قال بعضهم: والصحيحُ أن «سِيْناء» اسمٌ أعجمي نَطَقَتْ به العربُ فاختلفَتْ فيه لغاتُها فقالوا: سَيْناء كحَمْراء وصَفْراء، وسِيناء كعِلباء وحِرْباء وسِيْنين كخِنْذِيْذ وزِحليل، والخِنْذِيْذ: الفحلُ والخَصِيُّ أيضاً، فهو مِن الأضداد، وهو أيضاً رأسُ الجبلِ المرتفعُ، والزِّحْلِيلُ: المُتَنَحِّي مِنْ زَحَل إذا تنحى. وقال الزمخشري: «طُوْرُ سيناء وطور سينين: لا يخلوا: إمَّا أن يُضافَ فيه الطورُ إلى بقعةٍ اسمُها سيناء، وسينون، وإمَّا أَنْ يكونَ اسماً للجبلِ مركباً مِنْ مضافٍ ومضافٍ إليه كامرىء القيس وبعلبك، فيمَنْ أضاف. فَمَنْ كَسَرَ سينَ» سيناء «فقد مَنَعَ الصرفَ للتعريفِ والعجمةِ، أو التأنيثِ، لأنها بقعة وفِعْلاء لا تكون ألفه للتأنيث كعِلْباء وحِرْباء. قلت: وكونُ ألفِ فِعْلاء بالكسر ليست للتأنيث هو قولُ أهل البصرة، وأمَّا الكوفيون فعندهم أن ألفها تكون للتأنيثِ، فهي عندهم ممنوعةٌ للتأنيثِ اللازم كحمراء وبابها. وكسرُ السين من» سِيْناء «لغةُ كِنانة. وأمَّا القراءة الثانية فألِفُها للتأنيث، فَمَنْع الصرف واضحٌ. قال أبو البقاء:» وهمزتُه للتأنيث إذ ليس في الكلامِ فَعْلال بالفتح. وما حكى الفراء مِنْ قولهم: ناقةٌ فيها خَزْعال «لا يَثْبُتُ، وإنْ ثبت فهو شاذٌّ لا يُحمل عليه». وقد وَهِم بعضُهم فجعل «سيناء» مشتقةً من السَّنا وهو الضوءُ، ولا يَصِحُّ ذلك لوجهين أحدُهما: أنه ليس عربيَّ الوَضْعِ. نَصُّوا على ذلك كما/ تقدم، الثاني: أنَّا وإنْ سلَّمنا أنه عربيُّ الوَضْعِ، لكنْ المادتان مختلفتان، فإنَّ عَيْنَ «السنا» نونٌ وعينَ «سيناء» ياء. كذا قال بعضُهم. وفيه نظرٌ؛ إذ لقائلٍ أَنْ يقولَ: لا نُسَلِّم أن عينَ «سيناء» ياءٌ، بل هي عينُها نونٌ وياؤُها مزيدةٌ، وهمزتُها منقلبةٌ عن واوٍ كما قُلِبت السَّناء، ووزنها حينئذٍ فِيْعال، وفِيْعال موجودٌ في كلامِهم كمِيْلاع وقِيْتال مصدرُ قاتلَ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(25)

يعنى بها الزَيْتُون. * * * قوله: (إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) (جِنَّةٌ) في معنى جُنُون، والجنَّةُ اسم للجِن. * * * وقوله: (وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) تقرأ مُنْزَلاً وَمَنْزِلاً جميعاً، فالمَنْزِل اسم لكل ما نزلتَ فيه، والمُنْزَلَ المصدر بمعنى الإنزال، يَقُول: أَنْزَلْتُه إنْزَالاً وَمُنْزَلاً ويجوز مَنْزَلاً، ولم يقرأ بها - فلا تقرأن بها -. على معنى نزلت نزولاً وَمَنْزَلاً. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36) وهذا جوابُ الملأ مِنْ قَوْمِ ثمودَ (1). فأمََّا " أَنَّكُمْ " الأولى، فموضعها نصب على معنى أيَعدُكم بأَنكُمْ إذا متم، وموضع " أَنَّ " الثانية عند قوم كموضع الأولى، وإنما ذُكِرَتْ تَوْكِيداً. فالمعنى على هذا القول: أَيَعِدُكم أَنكُمْ تُخرَجُونَ إِذَا مِتمْ، فلما بَعُدَ مَا بَيْنَ أن الأولى والثانية بقوله: (إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظَاما) أُعِيدَ ذِكر " أنَّ " كما قال عزَّ وجلَّ: (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ) المعنى فله نار جهنم. هذا عَلَى مذهب سيبويه، وفيها قولان آخران أجودهما أن تكون أن الثانية وما عملت فيه في موضع رفع ويكون المعنى أَيَعدُكُمْ أنكم إخراجُكم إذا مُتم. فيكون أنكم مخرجون في معنى إخراجكم، كأنَّه قيل: أيعدكم أنكم إخراجكم وقت موتكم وبعد مَوْتكم، ويكون العامِلُ في " إذَا " إخراجكم، على أن " إذا " ظرف، والمعنى أنكم يكونُ إخراجكم إذا مِتم. الثالث أن يكون إذا العامِلُ فيها " مَتَمْ "، فيكون المعنى إنكمْ

_ (1) قال السَّمين: قوله: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ}: الآيةُ في إعرابها ستةُ أوجهٍ، أحدُها: أنَّ اسم «أنَّ» الأولى مضافٌ لضميرِ الخطاب حُذِفَ وأقيم المضافُ إليه مُقامَه، والخبرُ قولُه: {إِذَا مِتٌّمْ} و {أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ} تكريرٌ ل «أنَّ» الأولى للتأكيدِ والدلالةِ على المحذوفِ والمعنى: أنَّ إخراجَكم إذا مِتُّمْ وكُنْتُم. الثاني: أنَّ خبرَ «أنَّ» الأولى هو «مُخْرَجُون»، وهو العامل في «إذا»، وكُرِّرَتْ الثانيةُ توكيداً لَمَّا طال الفصلُ. وإليه ذهبَ الجرميُّ والمبردُّ والفراءُ. الثالث: أنَّ {أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ} مُؤَولٌ بمصدرٍ مرفوع بفعلٍ محذوفٍ، ذلك الفعلُ المحذوفُ هو جوابُ «إذا» الشرطيةِ، وإذا الشرطيةُ وجوابُها المقدَّرُ خبرٌ ل «أنَّكم» الأولى، تقديرُه: يَحْدُث أنكم مُخْرَجون. الرابع: كالثالثِ في كونِه مرفوعاً بفعلٍ مقدرٍ، إلاَّ أنَّ هذا الفعلَ المقدَّرَ خبرٌ ل «أنَّ» الأولى، وهو العاملُ في «إذا». الخامس: أنَّ خبر الأولى محذوفٌ لدلالةِ خبرِ الثانيةِ عليه، تقديرُه: أنكم تُبْعَثُون، وهو العاملُ في الظرف، وأنَّ الثانية وما في حَيِّزِها بدلٌ من الأولى، وهذا مذهبُ سيبويه. السادس: أنَّ {أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ} مبتدأٌ، وخبرُه الظرفُ مقدَّماً عليه، والجملةُ خبرٌ عن «أنكم» الأولى، والتقديرُ: أيَعِدُكم أنَّكم إخراجُكم كائنٌ أو مستقرٌ وقتَ موتِكم. ولا يجوزُ أَنْ يكونَ العاملُ في «إذا» «مُخْرَجُون» على كلِّ قولٍ؛ لأنَّ ما في حيِّز «أنَّ» لا يعمل فيما قبلها، ولا يعمل فيها «مِتُّم» لأنه مضافٌ إليه، و «أنَّكم» وما في حَيِّزه في محلِّ نصبٍ أو جرّ بعد حَذْفِ الحرفِ، إذ الأصلُ: أيَعِدُكم بأنَّكم. ويجوزُ أَنْ لا يُقَدَّرَ حرفُ جرّ، فيكونُ في محلِّ نصبٍ فقط نحو: وَعَدْتُ زيداً خيراً. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(36)

متى مُتمْ يقع إخْراجُكم، فيكون خبر إنّ مُضْمَراً، والقولَان الأولانَ جَيدانِ. ويجوز ُ: أيَعِدُكم أنكُمْ إِذا مِتُّم أنكم مُخْرجُونَ، ولم يُقْرأ بِهَا فلا تقرأنَّ بها. ويكونَ المعنى في يعدكم يقول لكم ولكنها لا تجوز في القراءة لِأنَّ القِرَاءَةَ سُنَةٌ. * * * وقوله: (هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36) يقرأ بفتح التاء وبكسر التاء (1)، ويجوز هيهاتٍ هيهاتٍ - بالتنوين - ويجوز هيهاتاً هيهاتاً، فأما الفتح والكسر بغير تنوينٍ فكثيرتان في القراءة، وذكرهما القراء والنحويون، وقد قرئت بالكسر والتنوين، فأما التنوين والفتح فلا أعلَمُ أحَدَاً قَرأ بِهِمَا، فلا تقرأنَّ بِهَا. فأمَّا الفتح فالوقف فيه بالهاء. تقول هَيْهاهْ هَيْهاهْ - إذا فتحت ووقفت بَعْد الفتح، فإذا فتحتَ وَقَفْت على التاء سواء عليك كنت تنوِّن في الأصل أو كنت مِمنْ لا ينَوِّن. فمن فتحها - وموضعها الرفْع وتأويلها البعد لما توعدونَ - فلأنها بمنزلة الأصواتِ، وليْست مشتقَةً من فِعْلِ فَبنَيَتْ هيهاه كما بُنِيَتْ ذَيَّه وَذِيَّه. فإذَا كَسَرْتَ جَعْلَتها جَمْعاً وبَنيتها على الكسر. قال سيبويه: هي بمنزلة عَلقاه. يعني في تأنيثها. ومن جَعَلَها جَمْعاً فهي بمنزلة قول العرب: استأصل اللَّه عَرْقَاتِهمْ

_ (1) قال السَّمين: قوله: {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ}: اسمُ فعلٍ معناه: بَعُدَ، وكُرِّر للتوكيدِ، فليسَتِ المسألةُ من التنازعِ. قال جرير: 3413 فهيهاتَ هيهاتَ العَقيقُ وأهلُه. . . وهيهاتَ خِلٌّ بالعقيقِ نُواصِلُهْ وفَسَّره الزجَّاجُ في ظاهر عبارتِه بالمصدرِ فقال: «البُعْدُ لِما تُوعدون، أو بَعُدَ لِما توعدون». فظاهرُها أنَّه مصدرٌ بدليلِ عَطْفِ الفعل عليه. ويمكنُ أَنْ يكونَ فَسَّر المعنى فقط. و «هيهاتَ» اسمُ فعلٍ قاصرٍ يرفعُ الفاعلَ، وهنا قد جاء ما ظاهرُه الفاعلُ مجروراً باللامِ: فمنهم مَنْ جعله على ظاهِره وقال: «ما توعدون» فاعلٌ به، وزِيْدت فيه اللامُ. التقديرُ: بَعُدَ بَعُدَ ما تُوْعَدُون. وهو ضعيفٌ إذ لم يُعْهَدْ زيادتُها في الفاعلِ. ومنهم مَنْ جَعَل الفاعلَ مضمراً لدلالةِ الكلامِ عليه، فقَدَّره أبو البقاء: «هيهاتَ التصديقُ أو الصحةُ لِما تُوْعَدون». وقدَّره غيرُه: بَعُدَ إخراجُكم، و «لِما تُوْعدون» للبيانِ. قال/ الزمخشريُّ: «لبيانِ المُسْتَبْعَدِ ما هو بَعْدَ التصويبِ بكلمةِ الاستبعادِ؟ كما جاءَتِ اللامُ في {هَيْتَ لَكَ} [يوسف: 23] لبيانِ المُهَيَّتِ به». وقال الزجاج: «البُعْدُ لِما تُوعدون» فجعله مبتدأً، والجارُّ بعدَه الخبرُ. قال الزمخشري: «فإنْ قلت: ما تُوعدون هو المستبعَدُ، ومِنْ حَقِّه أَنْ يرتفع ب» هيهاتَ «كما ارتفع بقولِه: فهيهاتَ هيهاتَ العَقيقُ وأهلُه. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . فما هذه اللام؟ قلت: قال الزجاجُ في تفسيرِه:» البُعْدُ لِما تُوْعَدون، أو بُعْدٌ لِما تُوْعَدون فيمَنْ نَوَّن فَنَزَّلَه مَنْزِلَةَ المصدر «. قال الشيخ:» وقولُ الزمخشري: فَمَنْ نَوَّنَه نَزَّله منزلةَ المصدرِ، ليس بواضحٍ، لأنهم قد نَوَّنوا أسماءَ الأفعال ولا نقول: إنها إذا نُوِّنَتْ تَنَزَّلَتْ منزلةَ المصادر «. قلت: الزمخشريُّ لم يَقُل كذا، إنما قال فيمن نَوَّن نَزَّله منزلةَ المصدرِ لأجلِ قولِه:» أو بُعْدٌ «فالتنوينُ علةٌ لتقديره إياه نكرةً لا لكونِه مُنَزَّلاً منزلةَ المصدرِ؛ فإنَّ أسماءَ الأفعال ما نُوِّن منها نكرةٌ، وما لم يُنَوَّنْ معرفةٌ نحو: صَهْ وصَهٍ، تقديرُ الأول بالسكوت، والثاني بسكوتٍ ما. وقال ابن عطية:» طَوْراً تلي الفاعلَ دون لامٍ، تقول: هيهات مجيءُ زيدٍ أي: بَعُدَ، وأحياناً يكون الفاعلُ محذوفاً عند اللام كهذه الآيةِ. التقديرُ: بَعُدَ الوجودُ لِما تُوْعدون «. ولم يَسْتَجْوِزْه الشيخُ ومن حيث قولُه حُذِفَ الفاعلُ، والفاعلُ لا يُحْذَفُ. ومن حيث إن فيه حَذْفَ المصدرِ وهو الوجودُ وإبقاءَ معمولِه وهو» لِما تُوعدون «. وهيهاتَ الثاني تأكيدٌ للأولِ تأكيداً لفظياً. وقد جاء غيرَ مؤكَّدٍ كقوله: 3414 هيهات مَنْزِلُنا بنَعْفِ سُوَيْقَةٍ. . . كانت مباركةً على الأيام وقال آخر: 3415 هيهاتَ ناسٌ مِنْ أُناسٍ ديارُهُمْ. . . دُقاقٌ ودارُ الآخرين الأوانسُ وقال رؤبة: 3416 هيهاتَ مِنْ مُنْخَرِقٍ هَيْهاؤه. . . قال القيسي شارحُ» أبيات الإِيضاح «:» وهذا مِثْلُ قولِك: بَعُدَ بُعْدُه؛ وذلك أنه بنى من هذه اللفظةِ فَعْلالاً، فجاء به مجيءَ القَلْقَال والزَّلْزال. والألفُ في «هيهات» غيرُ الألفِ في «هيهاؤه»، وهي في «هيهات» لامُ الفعلِ الثانيةُ كقاف الحَقْحَقَة الثانية، وهي في «هيهاؤه» ألف الفَعْلال الزائدة «. وفي هذه اللفظةِ لغاتٌ كثيرةٌ تزيد على الأربعين، وأذكر هنا مشهورَها وما قُرِىء به: فالمشهورُ هَيْهات بفتح التاءِ من غيرِ تنوينٍ، بُني لوقوعِه موقعَ المبنيِّ أو لشِبْهِه بالحرفِ وقد تقدَّم تحقيق ذلك. وبها قرأ العامَّةُ وهي لغة الحجازيين. و» هَيْهاتاً «بالفتح والتنوين، وبها قرأ أبو عمروٍ في روايةِ هارون عنه. ونسبها ابن عطية لخالد بن إلياس. و» هَيْهاتٌ «بالضمِّ والتنوين وبها قرأ الأحمر وأبو حيوة. وبالضم من غير تنوين، وتروى عن أبي حيوةَ أيضاً، فعنه فيها وجهان، وافقه أبو السَّمَّال في الأول دونَ الثانية. و» هَيْهاتٍ «بالكسر والتنوين، وبها قرأ عيسى وخالد بن إلياس، وبالكسرِ من غير تنوين، وهي قرءاةُ أبي جعفرٍِ وشَيْبة، وتروى عن عيسى أيضاً، وهي لغة تميم وأسد. وهَيْهاتْ بإسكانِ التاء، وبها قرأ عيسى أيضاً وخارجة عن أبي عمرو والأعرج. وهَيْهاهْ» بالهاء آخراً وصلاً ووَقْفاً. و «أَيْهاتَ» بإبدال الهاء همزة مع فتح التاء، وبهاتين قرأ بعضُ القرَّاء فيما نقل أبو البقاء. فهذه تسعُ لغاتٍ قد قُرِىء بهن، ولم يتواتَرْ منها غيرُ الأولى. ويجوز إبدالُ الهمزةِ من الهاء الأولى في جميعِ ما تقدَّم فيَكْمُل بذلك ستَ عشرةَ لغةً. و «إيهان» بالنون آخراً، و «أيهى» بالألفِ آخراً. فَمَنْ فَتَح التاءَ قالوا فهي عنده اسم مفرد. ومَنْ كسرها فهي عنده جمعٌ تأنيثٍ كزَيْنبات وهنِْدات ويُعْزى هذا لسيبويه لأنه قال: «هي مثل بَيْضات» فنُسِب إليه أنه جَمْعٌ مِنْ ذلك، حتى قال بعض النحويين: مفردُها هَيْهَة مثل بَيْضَة. وليس بشيءٍ بل مفردُها هَيْهات قالوا: وكان ينبغي على أصلِه أن يُقال فيها: هَيْهَيَات بقلب ألف هَيْهات ياءً لزيادتِها على الأربعة نحو: مَلْهَيات ومَغْوَيَات ومَرْمَيات؛ لأنها من بناتِ الأربعة المضعَّفة من الياء من باب حاحَيْت وصِيصِيَة. وأصلُها بوزنِ القَلْقَلة والحَقْحَقَةُ/ فانقلبت الياءُ ألفاً لتحرُّكِها وانفتاحِ ما قبلَها فصارَتْ هَيْهاة كالسَّلْقاة والجَعْباة، وإنْ كانت الياءُ التي انقلبَتْ عنها ألفُ «سَلْقاة» و «جَعْباة» زائدةً، وياء هَيْهَيَة أصلاً، فلمَّا جُمِعت كان قِياسُها على قولِهم أَرْطَيات وعَلْقيات أن يقلولوا فيها هَيْهَيَات، إلاَّ أنهم حَذَفوا الألف لالتقاء الساكنين لما كانت في آخر اسمٍ مبنيٍّ، كما حَذَفوها في ذان واللتان وتان ليَفْصِلوا بين الألفاتِ في أواخر المبنية والألفات في أواخر المتمكنة، وعلى هذا حذفوها في أُوْلات وذوات لتخالِفَ ياء «حَصَيَات» و «نَوَيات». وقالوا: مَنْ فتح تاء «هيهات» فحقُّه أَنْ يكتبَها هاء لأنها في مفرد كتمرة ونواة. ومَنْ كسرها فَحَقُّه أَنْ يكتبَها تاءً لأنها في جمعٍ كهندات. وكذلك حكمُ الوقفِ سواءٌ. ولا التفاتَ إلى لغة «كيف الإِخوةُ والأخَواهْ» ولا «هذه ثَمَرَتْ» لقلَّتِها. وقد رُسِمَتْ في المصحفِ بالهاء. واختلف القراءُ في الوقفِ عليها: فمنهم مَنْ اتَّبع الرسمَ فَوَقَفَ بالهاءِ وهما الكسائيُّ والبزيُّ عن ابن كثير. ومنهم مَنْ وَقَفَ بالتاءِ، وهم الباقونَ. وكان ينبغي أَنْ يكونَ الأكثرُ على الوقفِ بالهاءِ لوجهين، أحدُهما: موافقةُ الرسمِ. والثاني: أنهم قالوا: المفتوح اسمٌ مفردٌ أصله هَيْهَيَة كزَلْزَلة وقَلْقَلَة من مضاعفِ الرُّباعي. وقد تقدَّم: أنَّ المفردَ يُوقف على تاء تأنيثِه بالهاء. وأمَّا التنوينُ فهو على قاعدةِ تنوينِ أسماء الأفعال: دخولُه دالٌّ على التنكيرِ، وخروجُه دالٌّ على التعريف. قال القَيْسِيُّ: «مَنْ نَوَّن اعتقد تنكيرَها وتَصَوَّر معنى المصدرِ النكرةِ كِأنه قال: بُعْداً بُعْداً. ومَنْ لم ينوِّنْ اعتقد تعريفَها وتَصَوَّر معنى المصدرِ المعرفةِ كأنه قال: البُعْدَ البُعْدَ فجعل التنوينَ دليلَ التنكيرِ وعدمَه دليلَ التعريفِ». انتهى. ولا يُوجد تنوينُ التنكير إلاَّ في نوعين: أسماءِ الأفعال وأسماءِ الأصوات نحو: سيبويهِ وسيبويهٍ، وليس بقياسٍ: بمعنى أنه ليس لك أَنْ تُنَوِّن منها ما شِئْتَ بل ما سُمِع تنوينُه اعَتُقِد تنكيرُه. والذي يُقال في القراءاتِ المتقدمةِ: إنَّ مَنْ نَوَّن جعله للتنكيرِ كما تقدَّمَ، ومَنْ لم يُنَوِّنْ جَعَلَ عدَم التنوينَ للتعريفِ. ومَنْ فَتَحَ فللخِفَّةِ وللإِتْباع، ومَنْ كَسَرَ فعلى أصلِ التقاءِ الساكنين، ومن ضم فتشبيهاً بقبلُ وبعدُ، ومَنْ سَكَّن فلأنَّ أصلَ البناءِ السكونُ، ومَنْ وقف بالهاءِ فإتْباعاً للرسم، ومن وقف بالتاءِ فعلى الأصلِ سواءً كُسِرت التاءُ أو فُتحت؛ لأنَّ الظاهرَ أنهما سواءٌ، وإنما ذلك مِنْ تغييرِ اللغاتِ، وإن كان المنقولُ مِنْ مذهب سيبويه ما تقدَّم. هكذا ينبغي أن تُعَلَّل القراءاتُ المتقدمةُ. وقال ابنُ عطية فيمَنْ ضَمَّ ونَوَّن: «إنه اسمٌ معربٌ مستقلٌ مرفوعٌ بالابتداءِ، وخبرُه» لِما تُوْعَدون «أي: البعدُ لوعدكم كما تقول: النُّجح لسَعْيك». وقال الرازي في «اللوامح»: «فأمَّا مَنْ رَفع ونَوَّنَ احتمل أَنْ يكونا اسمين متمكنين مرفوعين [بالابتداء]، خبرُهما من حروف الجر بمعنى: البُعْدُ لِما تُوعدون. والتكرارُ للتأكيد. ويجوز أَنْ يكونا اسماً للفعل. والضمُّ للبناء مثل: حَوْبُ في زَجْرِ الإِبل، لكنه نَوَّنه نكرةً». قلت: وكان ينبغي لابنِ عطيةَ ولأبي الفضل أن يَجْعلاه اسماً أيضاً في حالةِ النصبِ مع التنوين، على أنه مصدرٌ واقعٌ موقعَ الفعلِ. قرأ ابنُ أبي عبلةَ «هَيْهات هَيْهات ما تُوْعدون» من غير لامِ جرٍّ. وهي واضحةٌ مؤيِّدَةٌ لمدَّعي زيادتِها في قراءةِ العامَّة. و «ما» في «لِما تُوْعدون» تحتمل المصدريةَ أي: لِوَعْدِكم، وأَنْ تكونَ بمعنى الذي، والعائدُ محذوفٌ أي: تُوْعَدُوْنَه. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(40)

وَعَرقاتَهُمْ. فالذي يقول: عرقاتِهم - بالكسر، جعلها جمعاً، وواحدها كأنَّه عَرْقَة وَعَرْقٌ، وواحد هيهات على هذا اللفظ وأن لم يكن حاله واحِداً: هَيْهة. فإن هذا تقديره - وإن لم ننطق به. وأما عَرْقَاتٌ فقد تكلم بِوَاحِدِهَا. يقال عرق وعرقاة وَعَرْقَةٌ وَعَرْقَان. وإنما كُسِرَ في الجَمْعِ لأنَّ تاء الفتح في الجمع كسر تقول: مررت بالهنداتِ، وكذلك رأيتُ الهنداتِ. ويقال أَيْهَات في معنى هيهات. ويقال هيهات ما قلتَ وهيهات لما قُلْتَ، فمن قال هيهات ما قلت فمعناه البعد ما قلت، ومن قال: هيهات لما قلت فمعناهُ البعد لقولك، وأنشدوا: فأيهات أيهات العقيق ومن به. . . وأيهات خل بالعقيق نواصله فأمَّا مَنْ نَوَّنَ هيهات فجعلها نكرة، ويكون المعنى: بُعدٌ لِمَا تُوعَدون. * * * وقوله تعالى: (قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40) معناهُ عَنْ قليل، و " مَا " زائدة بمعنى التوكيد، كأنَّ مَعْنَاه: عَنْ قَلِيل لَيُصْبِحُن نَادِمِينَ حَقًّا. * * * وقوله: (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41) ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ (42) الغثاء الهالكُ والْبَالِي من وَرَق الشجرِ الذي إذا جرى السيلُ رأيته مُخَالِطاً زَبَدَهُ. * * * وقوله: (ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (44) ويقرأ تَتْرًى، ويجوز تَتْرِي غير مُنَوَّية بالكسر، ولم يُقْرَأْ بِهِ فلا تَقْرأَنَّ بهِ.

(50)

من قرأ بالتنوين فمعناه وَتْراً فاَبْدَل التاءَ من الواو كما قالوا تَوْلج وهو من وَلجَ، وأصله وَوْلج، وكما قالَ الشًاعِرُ. فإِن يكن أَمْسى البِلَى تَيْقورِي أَي: وَقاري، وهو فيعول من الوقار. وكما قالوا: تُجَاه وإنما هو وُجَاه من المُواجِهة، ومن قال تترى بغير تَنْوينِ فإنما جعلها على فَعْلَى بألف التأنيثِ فلم ينَون، ومعنى تَتْرَى من المواتَرةِ، وقال الأصمعي معنى واتَرْتُ الخبرَ اتبعت بعضَه بَعْضاً وبين الخبرين هُنيَّة. وقال غيره: الموَاتَرَةُ المتابعة، وأصل كل هذا من الوِتْر، وهو الفَرْدُ، وهو أَنْ جَعَلْتَ كل وَاحِدٍ بعد صاحبه فَرْداً فَرْداً (1). * * * وقوله: (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50) ولم يقل آيتين، لأن المعنى فيهما آيَة واحدة، ولو قيل آيَتَيْن لجاز لأنهما قد كان في كل واحد منهما ما لم يكن في ذَكَرٍ وَلَا أَنثى، مِنْ أَن مَرْيَمَ وَلَدَتْ من غير فَحْل، ولأن عيسى روح من اللَّه ألقاه إلى مَرْيَمَ ولم يكن هذا في ولدٍ قط. وقوله: (وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ). في ربوة ثلاث لغات رَبْوَة، ورِبْوَة، ورُبوة، وفيها وجهان آخران، رَبَاوَة. وَرِباوة. وهو عند أهل اللغة المكانُ المرتَفِع وجاء في التفسير أنه يعني بربوة هَنَا بيتُ المَقْدِس، وأَنه كَبِدُ الأرْضِ وأنه أقرب الأرض إلى السماء. وقيل يعني به دِمَشْق، وقيل فلسطينُ والرحْلَةُ. وكل ذلك قد جاء في التفسير. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ).

_ (1) قال السَّمين: قوله: {تَتْرَى}: فيه وجهان، أحدُهما: وهو الظاهرُ أنَّه منصوبٌ على الحالِ مِنْ «رُسُلَنا» بمعنى متواتِرين أي: واحداً بعد واحدٍ، أو مُتتابعين على حَسَبِ الخلافِ في معناه كما سيأتي. وحقيقتُه أنه مصدرٌ واقعٌ موقعَ الحالِ. والثاني: أنه نعتٌ مصدرٍ محذوف تقديرُه: إرسالاً تَتْرى أي: متتابعين أو إرسالاً إثرَ إرْسال. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وهي قراءةُ الشافعيِّ «تَتْرَىً» بالتنوين. وباقي السبعةِ «تترى» بألفٍ صريحةٍ دونَ تنوينٍ. وهذه هي اللغةُ المشهورةُ، فَمَنْ نَوَّن فله وجهان، أحدُهما: أنَّ وَزْنَ الكلمةِ فَعْل كفَلْس، فقوله: «تَتْرَىً» كقولك: نَصَرْتُه نَصْراً. وَوَزْنُه في قراءتِهم فَعْلاً. وقد رُدَّ هذا الوجهُ بأنَّه لم يُحْفَظْ جَرَيانُ حركاتِ الإِعرابِ على رائِه، فيُقال: هذا تَتْرٌ ومررت بتَتْرٍ نحو: هذا نَصْرٌ، ورأيت نصراً، ومررتُ بنصرٍ. فإذا لم يُحْفَظْ ذلك بَطَلَ أَنْ يكونَ وزنُه فَعْلاً. الثاني: أن ألفَه للإِلحاقِ ب جَعْفر كهي في أَرْطى وعَلْقى فلمَّا نُوِّن ذَهَبَتْ لالتقاءِ الساكنين. وهذا أقربُ مِمَّا قبلَه، ولكنه يلزمُ منه وجودُ ألفِ الإِلحاقِ في المصادرِ وهو نادرٌ، الثالث: أنها للتأنيثِ كدعوى. وهي واضحةً فتحصَّلَ في ألفِه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنها بدلٌ من التنوينِ في الوقفِ. الثاني: أنها للإِلحاق. الثالث للتأنيث. واخْتُلف فيها: هل هي مصدرٌ كدعوى وذكرى، أو اسمُ جمعٍ كأسرى وشتى، كذا قالهما الشيخ. وفيه نظرٌ، إذ المشهورُ أنَّ أسرى وشَتَّى جمعا تكسيرٍ لا اسما جمعٍ. وفاؤُها في الأصلِ واوٌ؛ لأنَّها من المُواترة والوِتْر، فقُلِبَتْ تاءً كما قُلِبَتْ تاءً في تَوْارة وتَوْلج وتَيْقُور وتُخَمَة وتُراث وتُجاه، فإنها من الوَرْي والوُلوج والوَقار والوَخامة والوِراثة والوَجْه. واختلفوا في مَدْلُولِها: فعن الأصمعيِّ: واحداً بعد واحد، وبينهما مُهْلَة. وقال غيره: هي من المُواترة وهي التتابُعُ بغير مُهْلة. وقال الراغب: «والتواتُرُ: تتابُعُ الشيءِ وِتْراً وفرادى. قال تعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى} والوَتِيْرَة: السَّجِيَّةُ والطريقة. يقال: هم على وَتيرةٍ واحدةٍ. والتِرَةُ: الذَّحْلُ. والوَتيرة: الحاجزُ بين المَنْخِرَيْن. قوله: {أَحَادِيثَ} قيل: هو جمعُ» حديث «ولكنه شاذٌّ. وقيل: بل هو جمعُ أُحْدُوْثَة كأُضْحُوكة. وقال الأخفش:» لا يُقال ذلك إلاَّ في الشَّرِّ. ولا يُقال في الخير. وقد شَذَّتِ العربُ في أُلَيْفاظ فجمعوها على صيغة مَفاعيل كأَباطيل وأَقاطيع «. وقال الزمخشري:» الأحاديث تكونَ اسمَ جمعٍ للحديث، ومنه أحاديث رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم «. قال الشيخ:» وأَفاعيل ليس من أبنيةِ اسمِ الجمع، وإنما ذكرَه أصحابُنا فيما شَذَّ من الجموعِ كقَطيع وأقاطيع، وإذا كان عَباديد قد حكموا عليه بأنه جمعُ تكسيرٍ مع أنهم لم يَلْفِظوا له بواحدٍ فأحرى «أحاديث» وقد لُفِظ له بواحدٍ وهو «حديث» فاتضح أنه جمُع تكسيرٍ لا اسمُ جمعٍ لما ذكَرْنا «. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(51)

أي ذات مُسْتَقَر، و " مَعين " ماء جَارٍ من العُيُونِ. وَقَالَْ بَعْضهمْ يجوز أن يكون " فَعِيلا " من المَعْنِ، مشتقا من المَاعُونِ. وهذا بَعِيد لأن المَعْن في اللغة الشيء القليل، والماعونُ هُوَ الزكاةُ، وهو فاعول من المَعْنِ، " وإنما سُمِّيتِ الزَكَاةُ بالشيء القليل، لأنه يؤخَذُ مِنَ المالِ رُبْعَ عُشْرِهِ، فهو قليل من كثير. قال الراعي: قوْمٌ على التَّنْزيِلِ لَمَّا يَمْنَعُوا. . . ماعونَهم ويُبَدِّلُوا التَّنْزِيلا * * * وقوله: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) أي كلوا من الحلال، وكل مأكول حَلَالٍ مُسْتَطَابِ فهو داخل في هذا. وإنَّمَا خُوطب بهذا رسولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فقيل يَأَ أَيُّها الرسُلُ، َ وتَضَمَنَ هَذَا الخطابُ أن الرسُلُ جَمِيعاً كذا أُمِرُوا. وَرُوِيَ أن عيسى عليه السلام كان يأكل مِنْ غَزْل أُمِّه، وأَطْيبُ الطيباتِ الغَنائمُ. * * * وقوله: (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) أي فاتْقون لِهذَا. وقد فسرنا في سورةِ الأنْبياء كل ما يجوز في نظير هذه الآية. وجملة تأويلها أن دينَكمْ دِينٌ واحد، وهو الإسلام. وأعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أَنَ قَوماً جعلوا دينهم أَدْيَاناً فقال: (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53)

(54)

ويقرأ زُبَراً، فمن قرأ زُبُراً فتأويله جعلوا دينهم كتُباً مُخْتَلِفة جمع زَبُورٍ وَزُبُرٍ، ومن قرأ زُبَراً أراد قِطَعاً. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) ويجوز في غَمَراتِهِمْ، ومعناه في عَمايَتهِمْ وَحَيْرتِهِم. ومعنى: (حَتَّى حِينٍ). أي إلى حين يأتيهم ما وُعِدُوا به من العَذَابِ. * * * وقوله تعالى: (أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56) (نُسَارِعُ) - بالنون - يُسَارَعُ - بالياء - ويُسَارَعُ على ما لم يُسَم فاعله. وتأويله أيحسبون أن إمْدَادَ اللَّهِ لَهُمْ بالمال والبنين مجازاة لَهُمْ؛ وإنَّما هو استدراج من اللَّه لهم، و " ما " في معنى الذي، المعنى أيحسبون أن الَّذِي نمدهم به من مال وبنين. والخبر معه محذوف المعنى نسارع لهم به في الخيرات، أي أيحسبون إمْدَادَ ما نُسارعُ لهم به. فأمَّا من قرأ يُسَارَعُ فعلى وَجْهَين، أَحَدُهُمَا لا يحتاج إلى إضمار، المعنى: أيحسبون أن إمدادنا لهم يسارع لهم في الخيرات، ويجوز أن يكون على معنى يسارع اللَّه لهم به في الخيرات، فيكون مثل نُسَارِعُ، ومن قرأ يسارَع لهم في الخيرات يكون على معنى يُسارَع الإمْدَادُ لهم في الخيرات وعلى معنى نسارَع لهم في الخيرات، فيكون تقوم مقام مَا لَمْ يُسَمَّ لهم، ويكون مضمراً معه به. كما قلنا (1). * * * وقوله: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) ويقرأ يَأتُونَ مَا أَتَوْا - بالقَصْرِ - وكلاهما جيِّدٌ بَالغ، فمن قرأ

_ (1) قال السَّمين: قوله: {أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ}: في «ما» هذه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنَّها بمعنى الذي وهي اسمُ «أنْ» و «نُمِدُّهم» صلتُها وعائدُها. «ومن مال» حالٌ من الموصولِ، أو بيانٌ له، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ. و «نُسارعُ» خبرُ «أنَّ» والعائدُ من هذه الجملةِ إلى اسم «أنَّ» محذوفٌ تقديرُه: نُسارِعُ لهم به، أو فيه، إلاَّ أنَّ حَذْفَ مثلِه قليلٌ. وقيل: الرابطُ بين هذه الجملةِ باسم «أنَّ» هو الظاهرُ الذي قامَ مقامَ الضميرِ مِنْ قولِه «في الخيرات»، إذ الأصل: نُسارِعُ لهم فيه، فأوقع «الخيرات» موقعَه تعظيماً وتنبيهاً على كونِه من الخيرات. وهذا يتمشى على مذهبِ الأخفشِ؛ إذ يَرَى الرَّبْطَ بالأسماءِ الظاهرةِ، وإن. لم يكنْ بلفظِ الأولِ، فيُجيز «زيد الذي قام أبو عبد الله» إذا كان «أبو عبد الله» كنيةَ «زيد». وتقدَّمَتْ منه أمثلةُ. قال أبو البقاء: «ولا يجوزُ أَنْ يكونَ الخبرُ» مِنْ مالٍ «لأنه كان» مِنْ مال «، فلا يُعاب عليهم [ذلك، وإنما يعابُ عليهم] اعتقادُهم أنَّ تلك الأموالَ خيرٌ لهم». الثاني: أن تكونَ «ما» مصدريةً فينسَبِكُ منه ومِمَّا بعدَها مصدرٌ هو اسم «أنَّ» و «نُسارع» هو الخبرُ. وعلى هذا فلا بُدَّ مِنْ حَذْفِ «أنْ» المصدريةِ قبل «نُسارع» ليصِحَّ الإِخبارُ، تقديرُه: أَنْ نسارعَ. فلمَّا حُذِفَتْ «أنْ» ارتفعَ المضارعُ بعدَها. والتقديرُ: أَيَحْسَبون أنَّ إِمْدادَنا لهم من كذا مسارعةٌ منَّا لهم في الخيرات. والثالث: أنها مُهَيِّئَة كافَّةٌ. وبه قال الكسائي في هذه/ الآية وحينئذٍ يُوقف على «وَبَنِين» لأنه قد حَصَل بعد فِعْلِ الحُسْبانِ نسبةٌ مِنْ مسندٍ ومسندٍ إليه نحو: حَسِبْتُ أنَّما ينطلق عمروٌ، وأنما تقومُ أنت. وقرأ يحيى بنُ وَثَّاب «إنما» بكسرِ الهمزة على الاستئنافِ، ويكونُ حَذْفُ مفعولَي الحُسْبان اقتصاراً أو اختصاراً. وابنُ كثيرٍ في روايةٍ «يُمِدُّهم» بالياءِ، وهو اللهُ تعالى. وقياسُه أَنْ يقرأ «يُسارع» بالياء أيضاً. وقرأ السلمي وابن أبي بكرةَ «يُسارع» بالياءِ وكسرِ الراء. وفي فاعِله وجهان، أحدُهما: الباري تعالى الثاني: ضميرُ «ما» الموصولة إنْ جَعَلْناها بمعنى الذي، أو على المصدرِ إنْ جَعَلْناها مصدريةً. وحينئذٍ يكون «يسارِعُ لهم» الخبرَ. فعلى الأولِ يُحتاجُ إلى تقديرِ عائدٍ أي: يُسارع اللهُ لهم به أو فيه. وعلى الثاني لا يُحْتاج إذ الفاعلُ ضميرُ «ما» الموصولةِ. وعن أبي بكرة المتقدمِ أيضاً «يُسارَع» بالياء مبنياً للمفعول و «في الخيرات» هو القائمُ مَقامَ الفاعل. والجملةُ خبرُ «أنَّ» والعائدُ محذوفٌ على ما تقدَّم وقرأ الحسن «نُسْرع» بالنون مِنْ «أَسْرَعَ» وهي ك «نُسارع فيما تقدَّم. و {بَل لاَّ يَشْعُرُونَ} إضرابٌ عن الحُسْبانِ المُسْتفهمِ عنه استفهامَ تقْريعٍ، وهو إضرابُ انتقالٍ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(61)

(يؤتُونَ مَا آتَوْا) فإن معناه يعطون ما أَعْطَوْا وهم يخافون ألا يَتقبل منهم. قلوبُهم خائفة لأنهم إلى رَبِّهم رَاجِعُونَ، أي لأنهم يوقنون بأنهم راجعون إلى اللَّه - عز وجل -. ومن قرأ (يأتون ما أَتَوْا) أي يعملون من الخيرات مَا يَعْمَلُونَ وقلوبُهم خَائِفة. يخافون أن يكونوا مع اجتهادهم مقصرين. * * * (أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61) وجائز يُسْرِعُونَ في الخيرات، ومعناه معنى يسارعون. يقال أسْرَعت، وسَارَعْتُ في معنى واحدٍ، إلا أن سارعت أبلغ من أَسْرَعْتُ. وقوله: (وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ). فيهِ وجهانِ أحدهما معناه إليها سابقون، كما قال: (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا) أي أَوحَى إليها. ويجوز: (وَهُمْ لها سابِقُونَ) أي من أجل اكتسابها، كما تقول: أَنَا أُكْرِمُ فُلَانَاً لك، أي مِنْ أَجْلِكَ. * * * وقوله: (وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62) ويجوز: ولا يُكلِّفُ نفساً إلا وُسْعَها، ولم يقرأ بها ولو قرئ بها لكانت النون أجود - لقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ). * * * وقوله: (بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63) يجوز أن يكون " هَذَا " إشارةً إلى ما وصف من أعمالِ البِرِّ في قوله: (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) - إلى قوله (يُسَارِعُونَ في الخيرات). أي قُلُوبُ هؤلاء في عَمَايةٍ من هذا، ويجوز أن يكون " هذا " إشارةً إلى

(64)

الكتاب، المعنى بل قلوبهم في غمرة من الكتاب الذي ينطِقْ بالحق. وأعمالهم مُحْصَاةٌ فيه. قوله: (وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ). أخبر اللَّه - عزَّ وجلَّ - بما سيكون فيهمُ، فأعلم أنهم سيعملون أَعْمالًا تباعد من الله غير الأعمال التي ذكروا بها. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) أي: يضجُّون، والعذاب الذي أُخِذُوا بِهِ السيْف، يقال جَأَر يجأر جُؤاراً، إذَا ضَجَّ. * * * وقوله: (قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) (تَنْكِصُونَ) أي: تَرْجِعُونَ. * * * وقوله: (مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67) منصوب على الحال، وقوله " به " أي بالبيْتِ الحرام، يقولون: البَيْتُ لَنَا (1). وقوله: (سَامِرًا). بمعنى " سُمَّرا " ويجوز سُمَّارا، والسامِرُ الجَمَاعَةِ الذين يَتَحَدَّثونَ لَيْلاً. وإنما شمُّوا سُمَّارا مِنَ السَّمَرِ، وهو ظل القمر، وكذلِكَ السُّمْرَة مثشقة من هذا. وقوله: (تَهْجُرُونَ). أي تَهجْرونَ القرآن، ويجوز تَهْجِرُونَ: تَهذونَ. وَقرِئَتْ: تهْجِرُونَ أي تقولون الهُجْرَ، وقيل كانوا يسبُون النبي - صلى الله عليه وسلم -. ويجوز أن تكون الهاء للكتاب. ويكون المعْنَى فكنتمْ على أَعْقَابَكمْ تَنكِصُون مستكبرين بالكتاب. أي يحدث

_ (1) قال السَّمين: قوله: {مُسْتَكْبِرِينَ}: حالٌ مِنْ فاعل «تَنْكِصُون». قوله: «به» فيه قولان، أحدُهما: أنَّه يتعلقُ ب «مُسْتكْبرين». والثاني أنه متعلقٌ ب «سامِراً». وعلى الأولِ فالضميرُ للقرآن أو للبيتِ شَرَّفه اللهُ تعالى، أو للرسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم أو للنُكوصِ المدلولِ عليه ب «تَنْكِصون»، كقوله: {اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ} [المائدة: 8]. والباءُ في هذا كلِّه للسببية؛ لأنه استكبروا بسببِ القرآنِ لَمَّا تُلِيَ عليهم، وبسببِ البيتِ لأنَّهم يقولون: نحن وُلاتُه وبالرسولِ لأنهم يقولون: هو مِنَّا دونَ غيرِه، أو بالنُّكوصِ لأنه سببُ الاستكبارِ. وقيل: ضَمَّنَ الاستكبارَ معنى التكذيبِ؛ فلذلك عُدِّيَ بالباءِ، وهذا يَتَأَتَّى على أن يكونَ الضميرُ للقرآنِ أو للرسولِ. وأمَّا على الثاني وهو تَعَلُّقُه ب «سامِراً» فيجوزُ أن يكونَ الضميرُ عائداً على ما عادَ عليه فيما تقدَّم، إلاَّ النكوصَ لأنهم كانوا يَسْمُرُون بالقرآن وبالرسول أي: يجعلونَهما حديثاً لهم يَخُوضون في ذلك كما يُسْمَرُ بالأحاديث، وكانوا يَسْمُرُون في البيتِ، فالباء ظرفيةٌ على هذا، و «سامِراً» نصبٌ على الحالِ: إمَّا مِنْ فاعل «تَنْكِصُون»، وإمَّا مِنَ الضمير في «مُسْتَكْبرين». وقرأ ابنُ مسعود وابنُ عباس وأبو حيوة وتروى عن أبي عمرٍو «سُمَّراً» بضمِّ الفاءِ وفتحِ العين مشددةً. وزيد بن علي وأبو رجاء وابن عباس أيضاً «سُمَّاراً» كذلك، إلاَّ أنَّه بزيادةِ ألفٍ بين الميمِ والراء، وكلاهما جمعٌ ل «سامِِر». وهما جمعان مَقيسان ل «فاعِل» الصفةِ نحو: ضُرَّب وضُرَّاب في ضارِب. والأفصحُ الإِفرادُ؛ لأنه يقعُ على ما فوق الواحِد بلفظ الإِفرادِ تقول: قومٌ سامِرٌ. والسَّامِرُ مأخوذٌ من السَّمَرِ وهو سَهَرُ الليلِ، مأخوذٌ من السَّمَرِ وهو ما يقعُ على الشجر من ضوءِ القمر، فيجلِسُون إليه يتحدثون مُسْتَأْنِسين به. قال الشاعر: 3422 كأَن لم يكُنْ بين الحَجونِ إلى الصَّفا. . . أنيسٌ ولم يَسْمُرْ بمكةَ سامِرُ وقال الراغب: «السَّامِرُ: الليلُ المظلم، ولا آتِيْكَ ما سَمَر ابنا سَمِيرٍ، يَعْنُون الليل والنهار. والسُّمْرة: أحدُ الألوان، والسَّمْراء: كُني بها عن الحِنْطة». قوله: {تَهْجُرُونَ} قرأ العامَّةُ بفتح التاءِ وضمِّ الجيمِ، وهي تحتمل وجهين، أحدهما: أنَّها مِن الهَجْرِ بسكونِ الجيمِ، وهو القطع والصَّدُ، أي: تهجُرُون آياتِ الله ورسولَه وتَزْهَدون فيهما، فلا تَصِلُونهما. الثاني: أنها من الهَجَرِ بفتحها وهو الهَذَيانُ. يقال: هَجَر المريضُ هَجَراً أي هذى فلا مفعولَ له. ونافع وابن محيصن بضم التاءِ وكسرِ الجيم مِنْ أهجر إهْجاراً أي: أَفْحَشَ في مَنْطِقِه. قال ابن عباس: «يعني سَبَّ الصحابةِ». زيد بن علي وابن محيصن وأبو نهيك بضمِّ التاءِ وفتحِ الهاء وكسرِ الجيمِ مشددةً مضارعَ هَجَّر بالتشديد. وهو محتمِلٌ لأَنْ يكونَ تضعيفاً للهَجْر أو الهَجَر أو الهُجْر. وقرأ ابن أبي عاصم كالعامَّةِ، إلاَّ أنَّه بالياءِ من تحتُ وهو التفاتٌ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(71)

لكم بتلاوته عَلَيكُمْ اسْتِكْبَار، ويجوز تنكصُون، وَلا أعْلَمُ أَحَداً قرأ بها. * * * وقوله: (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71) جَاءَ في التفسير أن الحق هو اللَّه - عزَّ وجلَّ - ويجوز أن يكون الحق الأول في قوله: (بَلْ جَاءَهُمْ بِالحَق) التنزيل، أي بالتنزيل الذي هُوَ الحَق. ويكون تأويل: (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ) أي لو كان التنزيل بمَا يُحِبُّونَ لَفَسدتِ السَّمَاوَاتُ والأرْضُ. وقوله: (بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ). أي بما فيه فخرهم وشَرَفَهُمْ، ويجوز أن يكون بذكرهم، أي بالذكر الذي فيه حظ لهم لو اتَبَعُوهُ. * * * وقوله: (أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) أي (أَمْ تَسْأَلُهُمْ) على ما أتيتهم به أجراً. ويقرأ: (خِرَاجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ). ويجوز (خَرَاجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ). * * * وقوله: (وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74) معناه لَعَادِلًونَ عن القَصْدِ. * * * وقوله: (وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76) أي ما تواضعوا. والذي أخذوا به الجُوعُ. * * * (حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77) قيل السيف والقتل. (إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ).

(84)

المبلس الساكن المتحيِّر. * * * (قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) هذه (للَّهِ) لا اختلاف بَيْنَ القُرَّاء فيها، ولو قرئت اللَّهُ لَكَانَ جَيْداً. فأما اللَّتَانِ بعدها فالقراءة فيهما سيقولون (اللَّهُ) و (للَّهِ). فمن قرأ (سيقولون اللَّهُ) فهو على جواب السؤال، إذا قال: (من رب السَّمَاوَات السْبع)، فالجواب اللَّهُ، وهي قراءة أهل البَصْرَة، ومن قرأ (للَّهِ) فَجيْدٌ أيْضاً، لو قيل مَنْ صَاحِبُ هذه الدار فأجيب زيد لكان هذا جواباً على لفظ السؤال. وَلَوْ قلت في جواب من صاحب هذه الدار: لِزَيْدٍ، جاز. لأن معنى " من صاحب هذه الدار " - لمن هذه الدار. * * * وقوله: (قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) أي هُوَ يُجير من عَذَابِه ولا يجير عليه أَحَدٌ من عَذَابه. وكذلك هو يجير من خلقه ولا يجير عليه أَحَدٌ. * * * وقوله: (سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) معنى تُسْحَرُونَ، وتؤفَكُونَ: تصرفون عن القَصْدِ والحَق. * * * وقوله تعالى: (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) (إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ) أي طلب بعضُهم مغالبَة بعْضٍ. (سُبْحَانَ اللَّهِ). معناه تنزيه اللَّه وتبرئته من السُوءِ، ومن أن يكون إله غَيرٌه تعالَى عَنْ ذَلِك عُلُوا كَبيراً. * * * وقوله: (قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94)

(97)

الفاء جَوَابُ الشرْطِ شرط الجزاء، وهو اعتراض بين الشرط والجزاء، المعنىِ إمَّا تُرِيَني مَا يُوعَدُونَ فلا تَجعلني يا ربِّ في القوم الظالمين، أي إنْ نزَلَتْ بِهِمُ النقمةَ يا ربِّ فاجعلني خارجاً عنهم. ويجوز " فَلَا تَجْعَلَنِّي " ولم يقرأ بها. * * * وقوله: (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) واحد الهمزات هَمْزَة، وهو مَسُّ الشَيْطانِ، ويجوز أن يكون نَزَغَاتِ الشيطان، ونَزْغُ الشيطان وَسْوَسَتُه حتى يَشْغَل عَنْ أَمْرِ اللَّهِ تعالَى. * * * وقوله: (وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98) ويجوز " وَأَعُوذُ بِكَ رَبُّ أَنْ يَحْضُرُونِ " ولم يقرأ بها فلا تقرأنَّ بها. ويجوز وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّي أَنْ يَحْضُرُونِ، ويجوز رَبِّيْ. فهذه أربعة أَوْجُهٍ. ولا ينبغي أن يقرأ إلا بواحد، وهو الذي عليه الناس. . رَبِّ بِكسر الباء وحَذْفِ الياء، والياء حُذِفَتْ للبدَاء والمعنى وأعوذ بك يا رَبِّ. من قال ربُّ بالضمِ فعلى معنى يا أيها الربُّ ومن قال رَبِّي فعلى الأصل. كما قال يا عبادِي فاتَّقُونِ. * * * وقوله: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) يعني به الذين ذُكِرُوا قَبْلَ هذا المَوْضِع. ودَفَعُوا البَعْثَ فأعلم أنه إذا حضر أحَدَهُم الموتُ (قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ) (1). وقوله: (ارْجِعُونِ) وهو يريد اللَّه - عزَّ وجلَّ - وَحْدَه، فجاء الخطابُ في المسألة على لفظ الإخْبار لأن الله عزَّ وجلَّ قال: (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ).

_ (1) قال السَّمين: قوله: {حتى إِذَا}: في «حتى» هذه أوجهٌ، أحدُها: أنها غايةٌ لقولِه: «بما يَصِفون». والثاني: أنها غايةٌ ل «كاذبون». وبَيَّنَ هذين الوجهين قولُ الزمخشري: «حتى تتعلق ب» يَصِفون «أي: لا يزالون على سوءِ الذكر إلى هذا الوقت، والآيةُ فاصلةٌ بينهما على وجهِ الاعتراضِ والتأكيدٍ». ثم قال: «أو على قولِه» وإنهم لكاذِبون «. قلت: قوله: أو على قولِه كذا» كلام محمولٌ على المعنى إذ التقدير «حتى» مُعَلَّقَةٌ على «يَصِفُون» أو على قوله: «لَكاذِبون». وفي الجملة فعبارةٌ مُشْكلة. الثالث: قال ابنُ عطية: «حتى» في هذه المواضع حرفُ ابتداءٍ. ويُحتمل أَنْ تكونَ غايةً مجردةً بتقديرِ كلامٍ محذوفٍ. والأولُ أَبْيَنُ؛ لأنَّ ما بعدها هو المَعْنِيُّ به المقصودُ ذِكْرُه «. قال الشيخ:» فَتَوَهَّمَ ابنُ عطية أن «حتى» إذا كانت حرفَ ابتداءٍ لا تكونَ غايةً، وهي وإنْ كانَتْ: حرفَ ابتداءٍ، فالغايةُ معنًى لا يُفاريقها، ولم يُبَيِّنْ الكلامَ المحذوفَ المقدَّرَ «. وقال أبو البقاء:» حتى «غايةٌ في معنى العطفِ». وقال الشيخ: «والذي يَظْهر لي أن قبلها جملةً محذوفةً تكون» حتى «غايةً لها يَدُلُّ عليها ما قبلها. التقديرُ: فلا أكونُ كالكفارِ الذين تَهْمِزُهم الشياطينُ ويَحْضُرونهم، حتى إذا جاء. ونظيرُ حَذْفِها قولُ الشاعر: 3424 فيا عَجَبا حتى كُلَيْبٌ تَسُبُّني. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . أي: يَسُبُّني الناسُ كلُّهم حتى كُلَيْبٌ. إلاَّ أن في البيت دَلَّ ما بعدها عليها بخلافِ الآيةِ الكريمة. قوله: {رَبِّ ارجعون} في قوله» ارْجِعُون «بخطابِ الجمع ثلاثةُ أوجهٍ، أجودُها: أنه على سبيلِ التعظيمِ كقولِ الشاعر: 3425 فإنْ شِئْتِ حَرَّمْتُ النساءَ سِواكمُ. . . وإن شِئْتِ لم أَطْعَمْ نُقاخاً ولا بَرْدا وقال آخر: 2326 ألا فارْحَمُوني يا إلَهَ محمدٍ. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . قد يُؤْخَذُ من هذا البيتِ ما يَرُدُّ على الشيخ جمال الدين بن مالك حيث قال:» إنه لم يَعْلَمْ أحداً أجاز للداعي يقول: يا رحيمون «. قال:» لئلاَّ يؤْهِمُ خلافَ التوحيِد «. وقد أخْبر تعالى عن نفسه بهذه الصيغةِ وشِبْهِها للتعظيمِ في غيرِ موضعٍ من كتابِه الكريم. الثاني: أنه نادى ربَّه، ثم خاطب ملائكةَ ربِّه بقوله:» ارْجِعُون «ويجوز على هذا الوجهِ أَنْ يكونَ على حَذْفِ مضافٍ أي: يا ملائكةً ربي، فحذف المضافَ ثم التفت إليه عَوْدِ الضميرِ كقوله: {وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} ثم قال: {أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ} [الأعراف: 4] التفاتاً ل» أهل «المحذوف. الثالث: أنَّ ذلك يَدُلُّ على تكريرِ الفعل، كأنه قال: ارْجِعُون ارْجِعون ارْجِعون. نقله أبو البقاء. وهو يُشْبِهُ ما قالوه في قوله: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ} [ق: 24] أنه بمعنى: أَلْقِ أَلْقِ ثُنِّي الفعلُ للدلالةِ على ذلك، وأنشدوا قولَه: 3427 قِفا نَبْكِ مِنْ ذِكْرى حبيبٍ ومَنْزِلِ. . . . . . . . . . . . . أي: قِفْ قِفْ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(101)

وهو وحْدَهُ يُحْييِ وُيمِيتُ. وهذا لفظ تعرفه العَرَبُ للجليل الشأن يخبر عن نفسه بما يخبر به الجماعةُ، فَكذلك جاء الخطاب في (ارْجِعُونِ). وقوله: (كَلَّا) ردع وتنبيه. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) " يوم " مضاف إلى " يُبْعَثُونَ " لأن اسماء الزمان تضاف إلى الأفعال والبرزخ في اللغة الحاجز، وهو هَهُنا ما بَيْنَ موت الميت وبَعْثِه. * * * وقوله تعالى: (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101) قيل: هذا في النفخة الأولى ويجوز أن يكون بعد النفخة الثانية والصور، جاء في التفسير أنه قَرْن ينفخ فيه فيبعث الناس في النفخة الثانية، قال عز وجلَّ (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإذَا هُمْ قِيَامْ يَنْظُرُونَ). وقال أهل اللغة كثير منهم: الصور جَمْعُ صورة، والذي جاء في اللغَةِ جمع صورة صُوَر، وكذلك جاء في القرآن: (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ)، ولم يقرأ أحد فأحسن صُورَكم، ولو كان أيضاً جمع صُورة لقال أيضاً: ثم نُفِخَ فِيهَا أُخْرَى، لأنك تقول: هذه صُور، ولا تقول هَذَا صُوَر إلا على ضَعْفٍ فهو عَلَى مَاجَاء في التفسير. فاَما قوله: (وَلَا يَتَسَاءَلُونَ). وقال في موضع - آخر: (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24) وقال في موضع آخر (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ) فيقول القائل: كيف جاء " ولا يتساءلون " وجاء (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ). فإن يوم القيامةِ مقداره خمسون

(104)

ألف سنة، ففيه أزمنة وأحوال. وإنما قيل يومَئِذٍ كما تقول: نحن اليوم بفعل كذا وكذا، وليس تريد به في يومك إنما تريد نحن في هذا الزمان، " فيومَ " تقع للقطعة من الزمان. وأمَّا (فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ). فَلَا يسأل عن ذنْبِه ليستفهم، قد علم اللَّه عزَّ وجلَّ ما سَلَفَ مِنْهُمْ. وَأَما قوله: (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ) فيسألون سؤال توبيخ لا سؤال اسْتِفْهَام كما قال: (وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9). وإنما تسأل لتوبيخ مَنْ قَتَلَهَا. وكذلك قوله: (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ). فما يُسأل عنه يومَ القيامة تَقْرِير وتوبيخ، واللَّه - عزَّ وجلَّ - قَدْ عَلِمَ ما كان، وأَحْصَى كبير ذلَك وصَغِيرَهُ. * * * وقوله: (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104) يلفح وينفح في مَعْنًى واحِدٍ، إلا أن اللفح أَعْظمُ تأثيراً. (وَهُمْ فِيها كَالِحُونَ). والكَالِحُ الذي قَد تَشَمَّرتْ شَفَتُه عَنْ أَسنانِه، نحو ما ترى من رُؤوسِ الغَنَم إذا مسَّتْهَا النار فبرزت الأسنان وتشمرت الشِفَاهُ * * * (قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) وَتُقْرَأُ شَقَاوَتُنَا، والمعنى وَاحِد (1). (وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ). أَقَرُّوا بذلك.

_ (1) قال السَّمين: قوله: {شِقْوَتُنَا}: قرأ الأخَوان: «شَقاوتُنا» بفتح الشين وألفٍ بعد القاف. والباقون بكسرِ الشينِ وسكونِ القافِ وهما مصدران بمعنى واحدٍ، فالشَّقاوة كالقَساوة وهي لغةٌ فاشِيَةٌ، والشِّقْوةُ كالفِطْنَة والنِّعْمة. وأنشد الفراء: 3430 كُلِّفَ مِنْ عَنائِهِ وشِقْوَتِهْ. . . بنتَ ثمانِيَْ عَشْرةٍ مِنْ حِجَّتِهْ وهي لغةُ الحجاز. قرأ قتادة والحسن في روايةٍ كالأَخَوَيْن إلاَّ أنهما كَسَرا الشينَ. وشبلٌ في اختياره كالباقين، إلاَّ أنَّه فَتَح الشينَ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(108)

وقوله: (قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108) معنى (اخْسَئُوا) تباعَدوا تَبَاعدَ سُخْطٍ. يقال خَسَأتُ الكلْبُ أَخْسُؤهُ إذا زجَرْته ليتباعَدَ. * * * وقوله: (فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) الأجود إدْغام الدال في التاء لِقُرْب المَخْرَجَيْن، وإن شئت أظهرت. لأن الدال من كلمة والتاءَ مِنْ كلمة، والدال بينها وبين التاء في المخرجِ شيء مِنَ التَبَاعِد، وليست الذال من التاء بمنزلة الدال من التاء. والتاءُ والطَاءُ مِنْ مَكَانٍ وَاحِدٍ، وهي من أصُولِ الثنايَا العُلَا وطرف اللسَانِ. والذال من أطراف الثنايا العُلَا وَدُوينَ طَرَفِ اللسَانِ. وقوله: (سِخْرِيًّا). يقرأ بِالضم والكَسْر، وكلاهما جَيِّد، إلا أنهمْ قالوا إن بعض أهل اللغة قال: ما كان من الاستهزاء فهو بالكسر، وَمَا كان من جهة التسخير فهو بالضم، وكلاهما عند سيبويه والخليل وَاحِد، والكسر لإتباع الكسر أحسن (1). وقوله: (إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111) الكسر أجود لأن الكسر على معنى إني جَزَيْتهمْ بِمَا صَبروا، ثم أَخْبَر فقال: إنهم همُ الفَائِزُونَ: والفتح جيِّدٌ بالغ، على معنى: (إني جَزَيتُهم لأنهم هم الفائزون، وفيه وجه آخر: يكون المعنى جزيتهم الفوز، لأن معنى (أنَّهُم هم الفَائِزُونَ). فوزُهُمْ، فيكون المعنى جزيتهم فَوزَهُمْ. * * * وقوله: (قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112)

_ (1) قال السَّمين: قوله: {سِخْرِيَّاً}: مفعولٌ ثانٍ للاتخاذ. وقرأ الأخَوان ونافعٌ هنا وفي (ص) بكسرِ السين. والباقون بضمِّها في المؤمنين. واختلف الناس في معناهما. فقيل: هما بمعنىً واحدٍ، وهو قولُ الخليلِ وسيبويه والكسائي وأبي زيد. وقال يونس: «إن أُرِيْدَ الخِدْمَةُ والسُّخْرة فالضمُّ لا غيرُ. وإنْ أريدَ الهُزْءُ فالضمُّ والكسر. ورجَّح أبو عليٍ وتبعه مكي قراءةَ الكسرِ قالا: لأنَّ ما بعدها أليقُ لها لقولِه: {وَكُنْتُمْ مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ}. قلت: ولا حجةَ فيه لأنَّهم جمعوا بين الأمرَيْن: سَخَّروهم في العمل، وسَخِروا منهم استهزاءً. والسُّخْرَة بالتاء: الاستخدام، و» سُخْرِيَّاً «بالضمِّ منها، والسُّخْرُ بدونها: الهزء، والمكسورُ منه. قال الأعشى: 3431 إنِّي أتاني حديثٌ لا أُسَرُّ به. . . مِنْ عَلْوَ لا كَذِبٌ فيه ولا سُخْرُ ولم يَختلف السبعةُ في ضَمِّ ما في الزخرف؛ لأنَّ المرادَ الاستخدامُ وهو يُقَوِّي قولَ مَنْ فَرَّق بينهما. إلاَّ أنَّ ابنَ محيصن وابن مسلم وأصحابَ عبدِ الله كسروه أيضاً، وهي مُقَوِّيَةٌ لقولِ مَنْ جعلهما بمعنى. والياءُ في» سِخريَّاً «و» سُخْريَّاً «للنسبِ زِيْدَتْ للدلالةِ على قوةِ الفعل، فالسُّخْرِيُّ أقوى من السُّخْر، كما قيل في الخصوص: خصوصيَّة، دلالةً على قوةِ ذلك، قال معناه الزمخشري. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(113)

" كم " في موضع نَصْبٍ بقوله: (لَبِثْتُم)، و (عَدَدَ سِنينَ) منصوب بـ " كم " ويجوز كم لَبِثم في الأرض مُشَددَ التاءِ. وكذلك يجوز في الجَوابِ. * * * (قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) (لَبِثْنَا) و (لُبِثْنَا) وقوله: (فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ) (1). أي فاسأل الملائكة الذين يحفظون عَدَدَ مَا لَبِثْنا). * * * (قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) معناه ما لَبِثْتُمْ إلا قَليلاً. * * * وقوله: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) (تُرْجَعُونَ) وَ (تَرْجِعُونَ). * * * وقوله: (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117) (فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ). التأويل حسابه عند رَبِّه فإنه لا يفلح الكافرون والمعنى الذي له عند رَبِّهِ أنه لا يفلح - وجائز أَنه لا يفلح الكافرونَ بفتح أَنَّ، ويجوز أن يكون (فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ) فيجازيه عليه كما قال: (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ) (2).

_ (1) قال السَّمين: قوله: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ}: قرأ الأخَوان «قل: كم لَبِثْتُمْ». «قُلْ إنْ لبثتم» بالأمر في الموضعين، وابن كثير كالأخوين في الأول فقط، والباقون «قال» في الموضعين، على الإِخبار عن الله أو المَلَك. والفعلان مرسومان بغيرِ ألفٍ في مصاحفِ الكوفة، وبألفٍ في مصاحفِ مكةَ والمدينةِ والشامِ والبصرةِ، فحمزةُ والكسائيُّ وافقا مصاحفَ الكوفة وخالفها عاصمٌ، أو وافقها على تقديرِ حَذْفِ الألفِ من الرسم وإرادتها. وابن كثير وافق في الثاني مصاحفَ مكة، وفي الأولِ غيرَها، أو أتاها على تقديرِ حَذْفِ الألف وإرادتِها. وأمَّا الباقون فوافقوا مصاحفَهم في الأول والثاني. و «كم» في موضعِ نصبٍ على ظرفِ الزمانِ أي: كم سنة. و «عددَ» بدلٌ مِنْ «كم» قاله أبو البقاء: وقال غيره: إن «عد سنين» تمييز ل «كم» وهذا هو الصحيحُ. وقرأ الأعمش والمفضل عن عاصم «عَدَداً» منوناً. وفيه أوجهٌ، أحدُها: أَنْ يكونَ «عدداً» مصدراً أُقيم مُقام الاسمِ، فهو نعتٌ تقدَّم على المنعوت. قاله صاحب «اللوامح». يعني أن الأصل: «سنين عدداً» أي: معدودة، لكنه يُلتزم تقديمُ النعتِ على المنعوتِ، فصوابُه أن يقول: فانتصبَ حالاً. هذا مذهبُ البصريين. والثاني: أنَّ «لَبِثْتُم» بمعنى عَدَدْتُم. فيكون نصبُ «عدداً» على المصدر و «سنين» بدلٌ منه. وقال صاحب «اللوامح» أيضاً: «وفيه بُعْدٌ؛ لعدم دلالة اللُّبث على العدد». والثالث: أنَّ «عدداً» تمييزٌ ل «كم» و «سنين» بدلٌ منه. قوله: {العآدين}: جمعُ «عادٍّ» من العَدَد. وقرأ الحسن والكسائي في روايةٍ بتخفيفِ الدالِ جمعَ «عادٍ» اسم فاعل مِنْ عدا أي/: الظَّلَمَة. وقال أبو البقاء: «وقُرىء بالتخفيفِ على معنى العادِيْن المتقدِّمين كقولك:» وهذه بِئْرٌ عادية «، أي: سَلْ من تقدَّمَنا. وحَذَفَ إحدى ياءَي النسَب كما قالوا الأشعرون وحَذَفَ الأخرى لالتقاء الساكنين». قلت: المَحْذوفُ أولاً مِن الياء الثانية لأنها المتحركةُ، وبحذفِها يلتقي ساكنان. ويؤيِّد ما ذكره أبو البقاء ما ذكره الزمخشري فقال: «وقُرىء» العادِيِّين «أي: القدماء المُعَمَّرين فإنهم يستقصرونها فكيف بمن دونهم؟». وقال ابن خالويه: «ولغةٌ أخرى» العاديِّين «يعني بياءٍ مشددة جمع عادِيَّة بمعنى القدماء». اهـ (الدُّرُّ المصُون). (2) قال السَّمين: قوله: {وَمَن يَدْعُ}: شرطٌ. وفي جوابِه وجهان أصحُّهما: أنه قوله «فإنما حِسابُه» وعلى هذا ففي الجملة المتقدمة وهي قولُه: {لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} وجهان، أحدُهما: أنها صفةٌ ل «إلهاً» وهو صفةٌ لازمةٌ. أي: لا يكون الإِلَهُ المَدْعُوُّ من دون اللهِ إلاَّ كذا، فليس لها مفهومٌ لفسادِ المعنى. ومثلُه {وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38] لا يُفْهم أنَّ ثَمَّ إلَهاً آخرَ مَدْعُوَّاً من دونِ اللهِ له برهان، وأن ثَمَّ طائراً يطير بغير جناحيه. الثاني: أنها جملةٌ اعتراضٍ بين الشرطِ وجوابِه. وإلى الوجهين أشار الزمخشري بقولِه: «وهي صفةٌ لازمةٌ كقوله:» يَطير بجناحيه «، جيء بها للتوكيد لا أَنْ يكونَ في الآلهة ما يجوز أَنْ يقومَ عليه بُرْهانٌ. ويجوز أَنْ يكونَ اعتراضاً بين الشرطِ والجزاءِ كقولك:» مَنْ أحسن إلى زيدٍ لا أحقَّ بالإِحسان منه فاللهُ مُثيبُه «. الثاني: من الوجهين الأولين: أنَّ جوابَ الشرطِ» قولُه لا بُرْهانَ له به «كأنه فَرَّ مِنْ مفهومِ الصفةِ لِما يلزمُ مِنْ فسادِه فَوَقَعَ في شيءٍ لا يجوزُ إلاَّ في ضرورةِ شعرٍ، وهو حَذْفُ فاءِ الجزاءِ من الجملةِ الاسميةِ، كقوله: 3432 مَنْ يَفْعَلِ الحسناتِ اللهُ يَشْكُرُها. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت. وقد تقدَّم تخريجُ كونِ» لا برهانَ له «على الصفةِ. ولا إشكال؛ لأنها صفةٌ لازمةٌ، أو على أنها جملةٌ اعتراضٍ. قوله: {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ} الجمهور على كسرِ الهمزةِ على الاستئنافِ المُفيد للعلمِ. وقرأ الحسنُ وقتادةُ» أنه «بالفتح. وخَرَّجَه الزمخشري على أَنْ يكنَ خبر» حِسابُه «قال: ومعناه: حسابُه عدمُ الفلاحِ. والأصلُ: حسابُه أنه لا يُفلح هو، فوضع» الكافرون «في موضع الضمير، لأن مَنْ يَدْعُ في معنى الجمع وكذلك» حِسابُه أنه لا يُفلح «في معنى: حسابهم أنهم لا يُفْلحون» انتهى. ويجوزُ أَنْ يكونَ ذلك على حَذْفِ حرفِ العلةِ أي [ل] أنَّه لا يُفْلح. وقرأ الحسن «لا يَفْلح» بفتح الياءِ واللام، مضارعَ فَلَح بمعنى أفلح، فَعَل وأَفْعَل فيه بمعنىً. والله أعلم، وهو يقول الحقَّ ويَهْدي السبيلَ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

سورة النور

سُورَةُ النُّور (مدنية) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله عزَّ وجلَّ: (سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) القراءة الرفعُ، وقرأ عيسى بنُ عُمَر (سُورَةً) بالنصْب (1). فأمَّا الرفع فَعلى إضمار هذه سُورَة أَنْزَلْنَاهَا، ورفعها بالابتداء قبيخ لأنها نَكِرَة و (أَنْزَلْناهَا) صفة لها. والنصْب على وَجْهَيْن، على معنى أنزلنا سُورَةً، كما تقول زيداً ضربته، وعلى معنى اتْلُ سُورَةً أنزلناها. (وَفَرَضْنَاهَا). بتخفيف الراء، ويقرأ بالتشديد في الراء، فمن قرأ بالتخفيف فَمَعْنَاهُ ألزمناكم العَمَل بما فُرِضَ فيها، ومن قرأ بالتشْدِيد فَعَلَى وجهين: أحدهما على معنى التكثير، على معنى أنا فَرَضْنَا فيها فُرُوضاً كثيرةً وعلى معنى بيَّنَّا وفضلنَا ما فيها من الحلال والحرام. * * * وقوله: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) القراءة الرفع، وقرأ عيسى بنُ عُمرَ بالنصب، (الزانيةَ والزانِي) بفتح التاء. وزعم الخليل وسيبويه أن النصب المختارُ وزعم سيبويه أن القراءة الرفع. وزعم غيرهم من البصريين والكوفيين أن الاختيار الرفعُ، وكذا هُو عِندي، لأن الرفع كالإجماع في القراءة، وهُوَ أَقْوَى فِي العربيَّةِ، لأن معناها معنى - من زَنَى

_ (1) قال السَّمين: قوله: {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا}: يجوزُ في رَفْعِها وجهان. أحدهما: أن يكونَ مبتدأً. والجملةُ بعدَها صفةٌ لها، وذلك هو المُسَوِّغ للابتداءِ بالنكرةِ. وفي الخبرِ وجهان، أحدُهما: أنَّه الجملةُ مِنْ قولِه: {الزانية والزاني} وإلى هذا نحا ابنُ عطية، فإنه قال: «ويجوز أن يكونَ مبتدأً. والخبرُ {الزانية والزاني} وما بَعد ذلك. والمعنى: السورةٌ المُنَزَّلَةُ المَفْرُوْضَةُ كذا وكذا؛ إذ السورةُ عبارةٌ عن آياتٍ مسرودةٍ لها بَدْءٌ وخَتْم». والثاني: أنَّ الخبرَ محذوفٌ أي: فيما يُتْلَى عليكم سورةٌ، أو فيما أَنْزَلْنا سورةٌ. والوجهُ الثانِي مِنَ الوجَهين الأَوَلَيْن: أَنْ يكونَ خبرُ المبتدأ مضمراً أي: هذه سورةٌ. وقال أبو البقاء: «سورةٌ بالرفع على تقديرِ: هذه سورةٌ، أو مِمَّا يُتْلى عليك سورةٌ فلا تكونُ» سورةٌ «مبتدأَةً لأنها نكرةٌ». وهذه عبارةٌ مُشكلة على ظاهِرها. كيف يقول: لا تكونُ مبتدأً مع تقديرِه: فيما يُتْلى عليك سورةٌ؟ وكيف يُعَلِّلُ المنعَ بأنها نكرةٌ مع تقديرِه لخبرِها جارَّاً مُقَدَّماً عليها، وهو مُسَوِّغٌ للابتداء بالنكرة. وقرأه العامَّةُ بالرفعِ على ما تقدَّم. وقرأ الحسن بن عبد العزيز وعيسى الثقفي وعيسى الكوفي ومجاهدٌ وأبو حيوة في آخرين «سورةً» بالنصبِ. وفيها أوجهٌ، أحدها: أنها منصوبةٌ بفعلٍ مقدرٍ غير مفسَّرٍ بما بعدَه. تقديره: اتْلُ سورةً أو اقرأ سورةً. والثاني: أنها منصوبةٌ بفعلٍ مضمرٍ يُفَسِّره ما بعده. والمسألةُ من الاشتغال. تقديرُه: أَنْزَلْنا سورةً أنزلناها. والفرقُ بين الوجهين: أنَّ الجملةَ بعد «سورةً» في محلِّ نصبٍ على الأول، ولا محلَّ لها على الثاني. الثالث: أنها منصوبةٌ على الإِغراء، أي: دونَكَ سورةً. قال الزمخشري، ورَدَّه الشيخُ: بأنه لا يجوزُ حَذْفُ أداة الإِغْراءِ، واستشكل الشيخُ أيضاً على وجهِ الاشتغالِ جوازَ الابتداءِ بالنكرةِ من غيرِ مُسَوِّغٍ. ومعنى ذلك: أنه ما مِنْ مَوْضع يجوز [فيه] النصبُ على الاشتغالُ إلاَّ ويجوز أن يُرْفَعَ على الابتداءِ، وهنا لو رُفِعَتْ «سورة» بالابتداءِ لم يَجُزْ؛ إذ لا مُسَوِّغٍ. فلا يُقال: رجلاً ضربتُه لامتناعهِ: رجلٌ ضربتُه. ثم أجاب: بأنه إنْ اعتُقد حَذْفُ وصفٍ جاز، أي: سورة مُعَظَّمة أو مُوَضَّحة أَنْزَلْناها، فيجوزُ ذلك. الرابع: أنَّها منصوبةٌ على الحال مِنْ «ها» في «أَنْزِلْناها». والحالُ من المكنى يجوز أن تتقدَم عليه. قاله الفراء. وعلى هذا فالضميرُ في «أَنْزَلْناها» ليس عائداً على سورة بل على الأحكام. كأنه قيل: أَنْزلنا الأحكامَ سورةً مِنْ سُوَرِ القرِآن، فهذه الأحكامُ ثابتةٌ بالقرآنِ، بخلافِ غيرِها فإنَّه قد ثَبَتَتْ بالسُّنة. قوله: {وَفَرَضْنَاهَا} قرأ ابن كثير وأبو عمرو بالتشديدِ. والباقون بالتخفيف. فالتشديد: إمَّا للمبالغةِ في الإِيجاب وتوكيداً، وإمَّا لتكثير المفروض عليهم، وإمَّا لتكثيرِ الشيءِ المفروض. والتخفيفُ بمعنى: أَوْجَبْناها وجعلناها مقطوعاً بها. اهـ (الدُّرُّ المصُون)

فاجلدُوه، فتأويله الابتداء، وقال سيبويه والخليلُ إن الرفع على معنى: " وَفِيما فَرَضْنَا عَلَيكُمُ الزانيةُ والزاني " - بالرفع - أو الزانيةُ والزاني فيما فُرِضَ عَلَيْكم. والدليل على أن الاختيار الرفع قوله عزَّ وجلَّ: (واللذَانِ يَأتِيانِها مِنْكُمْ فآذُوهُما). وإنَّما اختارَالخليل وسيبويه النَصْبَ لأنه أَمْر، وَأَنَّ الأمْرَ بالفعل أولى. والنصب جائز على مَعْنى اجلدوا الزانيةَ والزانيَ. والإجماع أن الجَلْدَ على غير المحصنين، يجلد غير المحصن وغير المُحْصَنَةِ مائة جلدة، وينفى مَعَ الجَلْدِ في قول كثير من الفقهاء، يجلد مَائةً ويُغرب عَاماً. فأمَّا أهل العراق فيجلدونه مِائةً. وقوله: (وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ). وتقرأ رَآفَةٌ في دين الله على وزن رَعَافَة، وتقرأ " يأخذكم بالياء ". ورآفة مثلُ السآمَةِ مثل قولك سئمت سآمَةً، ومثله كآبة ففعاله من أسْمَاءِ المَصَادِر، وسآمة على قياس كلَالَة. وَفَعَالَةٌ في الخِصَالِ مثل القَبَاحَةِ - والمَلَاحَة والفخامة. وهذا يكثر جداً. ومعنى (وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ)، لَا تَرْحَمُوهُمَا فَتُسْقِطُوا عنهما مَا أمَر اللَّهُ بِهِ من الحَدِّ، وقيلَ يبالغ في جلدِهِمَا. وقوله تعالى: (وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَة مِنَ المؤمِنِينَ). القراءةُ إسْكانُ اللام، ويجوز كسرها. واختلف الناس في الطائفة، فقال بعضم الواحد فما فوقه طائفة، وقال آخرون لا تكون الطائفة أقل من اثنين، وقال بعضهم ثلاثة، وقال بعضهم أَرْبَعِةٌ، وقال بعضهم عَشَرة، فأمَّا من قال واحِدٌ فهو على غير ما عندَ أَهْلِ

(3)

اللغة، لأن الطائفة في معنى الجماعَةِ وأقل الجماعة اثنان، وأقل ما يجب في الطائفة عِنْدِي اثنان. والذي ينبغي أن يُتَحَرى في شَهَادَة عَذَاب الزانِي أَن يكونُوا جَمَاعةً لأن الأغلب على الطائفة الجَمَاعَةُ. * * * وقوله: (الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3) ويجوز الزاني لا يُنْكَحُ إلَّا زانية، والزانِيَةُ لا يُنْكَحُهَا إلا زَانٍ ولم يقرأ بها. وتأويل (الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً) على معنى لا يتزوَّجُ. وكذلك الزانية لا يتَزَوجها إلا زانٍ. وقَالَ قومٌ: إنَّ مَعْنَى النكاح ههنا الوَطْء، فالمعنى عندهم الزاني لَا يَطَأ إلَّا زانيةً والزانية لا يطؤها إلا زَانٍ. وهذا القول يَبْعُد، لأنه لا يعرف شيء من ذكر النكاح في كتاب اللَّه إلا على معنى التزويج، قال اللَّهُ سُبْحَانَه: (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ)، فهذا تزويج لَا شكَّ فيهِ. وقال اللَّه، عزَّ وجلَّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ). فاعلم عزَّ وجلَّ أن عقد التزويج يُسمَّى النكاح. وَأَكْثَرُ التفسير أَن هذه الآيةَ نزلت في قومٍ مِنَ الْمسلمين فقراء كانوا بِالمَدينة، فهمُّوا بأن يتزوجوا بِبَغايَا من بالمدينة - يزنين، ويأخُذْن الأجْرَةَ. فَأرَادُوا التزْوِيج بهِن لِيَعُلْنَهُمْ، فأنزل الله عزَّ وجلَّ تَحرِيمَ ذَلِكَ، وقيل إنهم أرادوا أن يُسَامحوهُنَّ، فأُعلموا أن ذَلك حَرَام.

(4)

ويروى أن الحَسَنَ قال: إن الزاني إذا أُقِيمَ عَلَيْهِ الحَدُّ لا يزوج إلا بامرأة أُقيمَ عليها الحَدُّ مِثْلُه، وكذلك المرأة إذا أقيم عليها الحدُّ عِنْدَهُ لا تزوج إلا برجل مثلها. وقال بَعْضُهم: الآية منسوخة نسخها قوله: (وأنْكِحُوا الأيَامَى مِنْكُم). وأكثر القول أن المعنى هَهُنَا على التزويج. ويجوز " وَحَرَّمَ ذَلِكَ عَلَى المُؤْمِنِينَ " بمعنى وحرَّمَ اللَّه ذلك على المُؤْمِنين، ولم يقرأ بها. وهذا لفظُه لفظ خَبَرٍ، ومعناه معنى الأمْرِ، ولو كان على ماقال مَنْ قَالَ إنه الوَطْءُ لما كان في الكلام فَائِدَةٌ، لأن القائل إذا قال الزانية لا تَزْني إلا بِزَانٍ. والزاني لا يزني إلا بزانيةٍ، فليس فيه فائدة إلا عَلَى جهة التغليظ في الأمر، كما تقول للرجل الذي قَدْ عَرفْتَهُ بالكذبِ: هذا كذاب، تريدُ تغليظ أَمْرِهِ. فعلى ما فيه الفائدة ومَا توجِبُه اللغَةُ أن المعنى مَعنى التزْوِيج. * * * وقوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) معنى (يَرْمُونَ المحصنَاتِ) أي، بالزِنا، لكنه لم يَقُلْ بالزنَا، لأن فيما تَقَدَّمَ مِنْ ذِكْر الزانِيةِ والزاني دليلًا على أن المعنى ذَلِك. ومَوْضِعُ (الذين) رفع بالابتداء. وعلى قراءة عيسى بن عُمَر، يجب أن يكون مَوضَعُ (الذين يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ) نَصْباً على معْنى اجلدوا الذين يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ ثم لم يأتوا بأربعة شهداء. وعلى ذلك اختيار سيبويه والخليل. والمحصنات ههنا: اللواتي أحْصَنَّ فُرُوجَهُنَّ بالعِفَّةِ (1). وقوله: (وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)

_ (1) قال السَّمين: قوله: {والذين يَرْمُونَ المحصنات}: كقولِه: {الزانية والزاني فاجلدوا} [النور: 2]، فيعودُ فيه ما تقدَّم بحاله. وقوله: {المحصنات} فيه وجهان أحدُهما: أنَّ المرادَ به النساءُ فقط، وإنَّما خَصَّهُنَّ بالذِّكْر؛ لأنَّ قَذْفَهُنَّ أشنعُ. والثاني: أنَّ المرادَ بهنَّ النساءُ والرجال، وعلى هذا فيقالُ: كيف غَلَّبَ المؤنَّثَ على المذكر؟ والجوابُ: أنه صفةٌ لشيء محذوفٍ يَعُمُّ الرجالَ والنساءَ، أي: الأنفسَ المحصناتِ وهو بعيدٌ. أو تقولُ: ثَمَّ معطوفٌ محذوفٌ لفهمِ المعنى، والإِجماعُ على أنَّ حكمَهم حكمُهن أي: والمُحْصَنين. قوله: {بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ} العامَّة على إضافة اسمِ العددِ للمعدود. وقرأ أبو زرعة وعبد الله بن مسلم بالتنوينِ في العدد، واستفصحَ الناسُ هذه القراءةَ حتى جاوزَ بعضُهم الحدَّ، كابنِ جني، ففضَّلها على قراءة العامَّةِ قال: «لأنَّ المعدودَ متى كان صفةً فالأجودُ الإِتباعُ دونَ الإِضافةِ. تقول: عندي ثلاثةُ ضاربون، ويَضْعُفُ ثلاثةُ ضاربين» وهذا غلطٌ، لأن الصفةَ التي جَرَتْ مجرى الأسماءِ تُعْطى حكمَها فيُضاف إليها العددُ، و «شهداء» مِنْ ذلك؛ فإنه كَثُرَ حَذْفُ موصوفِه. قال تعالى: {مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ} {واستشهدوا شَهِيدَيْنِ} [البقرة: 282] وتقول: عندي ثلاثةُ أَعْبُدٍ، وكلُّ ذلك صفةٌ في الأصل. ونَقَل ابنُ عطية عن سيبويهِ أنه لا يُجيزَ تنوينَ العددِ إلاَّ في شعرٍ، وليس كما نقله عنه، إنما قال سيبويه ذلك في الأسماءِ نحو: ثلاثةُ رجالٍ، وأمَّا الصفاتُ ففيها التفصيلُ المتقدمُ. وفي {شُهَدَآءَ} على هذه القراءةِ ثلاثةُ أوجهٍ. أحدُها: أنه تمييزٌ. وهذا فاسد؛ لأنَّ مِنْ ثلاثة إلى عشرة يُضافُ لمميِّزه ليس إلاَّ، وغيرُ ذلك ضرورةٌ. الثاني: أنه حالٌ وهو ضعيفٌ أيضاً لمجيئها من النكرةِ من غيرِ مخصِّص. الثالث: أنها مجرورةٌ نعتاً لأربعة، ولم ينصَرِفْ لألف التأنيث. اهـ (الدُّرُّ المصُون)

اختلف الناس في قبول شهادة القاذف، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إذَا تَابَ مِنْ قَذْفِهِ قُبِلَتْ شهادَتُه. ويروى أَنَ عُمَر بنَ الخَطَابِ قَبلَ شهادة قاذفيْن، وقال لأبي بكرة إنْ تُبْتَ قَبِلتُ شَهَادَتَك. وتوبتُه أَن يرْجَع عن القذف. وهذا مذهب أكثر الفقهاء، وأما أَهْلُ العِرَاقِ فيقولون شهادَتُه غير مقبولة لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا)، قالوا، وقوله: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). قالوا: هذا الاستثناء من قوله: (وأولئك هم الفاسقون)، فاسْتُثْنِيَ التائبُونَ مِنَ الفَاسِقين. وقال من زعم أن شهادته مَقْبُولَةٌ أن الاستثناء من قوله: (وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أبداً. إِلا الَّذِينَ تَابُوا قالوا وقوله: (وَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ) صِفَةٌ لَهُمْ. وَأَجْمَعُوا أن من قذف وهوكافر ثم أسلم وتَابَ، وكان بَعْدَ إسْلاَمِه عَدْلاً قبلت شَهادَتُه وإن كان قاذفاً، والقياس قبول شهادة القاذف إن تاب واللَّه - عزَّ وجلَّ - يقول في الشهادات: (مِمنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشهَدَاءِ) فليس القاذف بِأَشد جُرْماً مِنَ الكافِر، فحقه أنه إذا تاب وأصلح قُبِلَتْ شهادَتُه، كما أن الكافِرَ إذا أسلم وأصلح قبلت شَهادَتُه. فإن قال قائل: فما الفائدة في قوله (أَبَدًا)؟ قيل الفَائِدَةُ أن الأبدَ لكل إنسان مقدار مُدتِهِ في حياته، ومقدار مدَّتِه فيما يتصل بقصَّتِهِ. فتقول: الكافر لا يُقْبَلُ منه شَيْء أَبَداً فمعناه، ما دام كافراً فلا يقْبَلُ منه شيء. وكذلك إذَا قُلْتَ: القَاذِفُ لا تُقْبَل منه شَهادَة أبداً، فمعناه ما دَامَ قَاذِفاً، فإذا زال عنه الكفر فقد زال أَبَدُه، وكذلك القاذفُ إذا زال عنه القذفُ فقد زال عنه أَبَدُه، ولا فرقَ بين هَذا وذَلكَ. - وتقرأ (ثم لم يأتوا بِأربَعَةٍ شهدَاءَ) - بالتنوين - (فَاجْلِدُوهًمْ)، فأرْبَعة

(6)

مخفُوضَة مُنَؤَنةٌ، وَ (شَهداء) صفة للأربعة، في موضع جَرٍّ. ويَجَوْزُ أنْ يَكونَ فِي موضع نَصْبٍ مِنْ جهتين: إحداهما على معنى ثم لم يُحْضِرُوا أرْبَعةً شهداءَ، وعلى نصب الحال مع النكِرةِ ثم لم يأتوا حال الشهادة. فأمَّا (إلا الَّذِينَ تَابُوا) فيجوز أَنْ يَكُونَ في مَوْضِع جَر على البَدَلِ من الهاء والميم، على معنى ولا تقبلوا لهم شهادةً أبداً إلا الذين تابوا. ويجوز أن يكون في موضع نَصْبٍ على الاستثناء على قوله: (وأولئك هم الفَاسِقُونَ - إلا الَّذِينَ تَابُوا)، وإذا استُئنُوا من الفَاسِقينَ أيضاً. فقد وجب قبول شَهَادَتِهم لأنهم قد زال عنهم اسم الفِسْقِ (1). * * * وقوله: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) معناه والذين يرمون أزواجهم بالزِنَا. وقوله: (فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ باللَّهِ). ويقرأ أربعَ شهاداتٍ باللَّهِ بِالنَصْبِ، فمن قرأ أرْبَعُ بالرفْع فَعَلَى خبر الابتداء، المعنى فشهادة أحدهم التي تدرأ حَدَّ القَاذف أَربعٌ، والدليل على ذلك قوله عزَّ وجلَّ: (وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ). ومن نصب أَرْبعاً فالمعنى فَعَلَيْهم أن يَشْهَدَ أَحَدُهُم أرْبَعَ شهاداتٍ.

_ (1) قال السَّمين: قوله: {إِلاَّ الذين تَابُواْ}: في هذا الاستثناءِ خلافٌ: هل يعودُ لِما تقدَّمه من الجملِ أم إلى الجملة الأخيرة فقط؟ وتكلم عليها من النحاةِ ابنُ مالك والمهاباذي. فاختار ابنُ مالك عَوْدَه إلى الجملةِ المتقدمةِ، والمهاباذي إلى الأخيرة. وقال الزمخشري: «ردُّ شهادةِ القاذفِ مُعَلَّقٌ عند أبي حنيفة رحمه الله باستيفاءِ الحدِّ. فإذا شهد [به] قبل الحَدَّ أو قبلَ تمام استيفائِه قُبِلَتْ شهادتُه. فإذا اسْتُوفي لم تُقْبَلْ شهادتُه أبداً، وإن تاب وكان من الأبرار الأتقياء. وعند الشافعيِّ رحمه الله يتعلَّقُ رَدُّ شهادِته بنفسِ القَذْفِ. فإذا تاب عن القَذْفِ بأَنْ يرجعَ عنه عاد مقبولَ الشهادة. وكلاهما متمسِّكٌ بالآية: فأبو حنيفةَ رحمه الله جَعَلَ جزاءَ الشرطِ الذي هو الرميُ الجَلْدَ ورَدَّ الشهادةِ عقيبَ الجَلْدِ على التأبيد، وكانوا مردودي الشهادة عندَه في أَبَدِهم وهومدةُ حياتِهم، وجعل قولَه {وأولئك هُمُ الفاسقون} كلاماً مستأنفاً غيرَ داخلٍ في حَيِّزِ جزاءِ الشرط، كأنه حكايةُ حالِ الرامين عند الله بعد انقضاءِ الجملةِ الشرطيةِ، و {إِلاَّ الذين تَابُواْ} استثناءٌ من» الفاسقين «. ويَدُلُّ عليه قولُه: {فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ}. والشافعيُّ رحمه الله جَعَل جزاءَ الشرطِ الجملتين أيضاً، غيرَ أنه صَرَفَ الأبدَ إلى مدةِ كونهِ قاذفاً وهي تنتهي بالتوبة [والرجوع] عن القذف، وجعل الاستثناء بالجملةِ الثانية متعلقاً». انتهى، وإنما ذكرتُ الحكمَ؛ لأنَّ الإِعرابَ متوقفٌ عليه. ومَحَلُّ المستثنى فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه منصوبٌ على أصلِ الاستثناء. الثاني: أنه مجرورٌ بدلاً من الضمير في «لهم» وقد أوضح الزمخشري ذلك بقولِه «وحَقُّ المستثنى عنده أي الشافعي أن يكونَ مجروراً بدلاً مِنْ» هم «في» لهم «، وحقُّه عند أبي حنيفة أن يكونَ منصوباً؛ لأنه عن مُوْجَبٍ. والذي يقتضيه ظاهرُ الآيةِ ونظمُها أن تكونَ الجملُ الثلاثُ بمجموعِهِنَّ جزاءَ الشرط كأنه قيل: ومَنْ قَذَفَ المُحْصناتِ فاجْلِدوهم، ورُدُّوا شهادتَهم وفَسِّقوهم أي: فاجْمَعُوا لهم الجَلْدَ والردَّ والتفسيقَ، إلاَّ الذين تابوا عن القَذْفِ وأصلحوا فإنَّ اللهَ يغفرُ لهم فينقلبون غيرَ مجلودِين ولا مَرْدودين ولا مُفَسَّقين». قال الشيخ: «وليس ظاهرُ الآية يقتضي عَوْدَ الاستثناءِ إلى الجملِ الثلاثِ، بل الظاهرُ/ هو ما يَعْضُده كلامُ العرب وهو الرجوعُ إلى الجملةِ التي تَليها». والوجه الثالث: أنَّه مرفوعٌ بالابتداءِ، وخبرُه الجملةُ من قولِه {فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ}. واعتُرِض بخُلُوِّها مِنْ رابطٍ. وأُجيب بأنه محذوفٌ أي: غفورٌ لهم، واختلفوا أيضاً في هذا الاستثناءِ: هل هو متصلٌ أو منقطع؟ والثاني ضعيفٌ جداً. اهـ (الدُّرُّ المصُون)

(10)

وعلى معنى فالذي يَِدرَأُ عنها العَذَابَ أَنْ يَشْهَدَ أَحَدُهم أَرْبَعَ شهاداتٍ * * * (والخَامِسَةُ أَن لَعْنَةَ الله عَلَيْهِ). ويجوز والخامِسَةَ أَن لَعْنَةَ اللَّه عليه، وكذلك والخَامِسَةُ أَنَ غضبَ اللَّهِ عليها، والخامِسَةَ جميعاً، فمن قال: والخامِسَةَ فعلى مَعْنَى وَيَشْهَدُ الخامِسَةَ. فإذا قَذَف القاذِفُ امرأَتَه، فشهادَتُه أَن يَقُولَ: أَشْهَدُ باللَّه إني لَمِنَ الصادِقِينَ فِيمَا قَذَفْتُها بِهِ، أو يقول: أحلف باللَّهِ إني لمن الصادِقينَ فِيما قَذَفْتُها به، أَرْبَعَ مَراتٍ، ويقول في الخامِسَةِ لعنة اللَّه عليه إن كان من الكَاذبين. وكذلك تقولُ المرأَةُ: أَشْهَدُ بِالله إئهُ لِمنَ الكاذبين فيما قذفني به، أربع مرات، وتقول في الخامِسَةِ: وعَلَيَّ غَضَبُ الله إن كان من الصادقين. وهذا هو اللِّعَانُ، فإذا تلاعنا فُرقَ بينهما، واعتدَّت عِدَّةَ المطلَّقَةِ من وقتها ذلك. فإذا فعلا ذلك لم يَتَزوجْهَا أبداً في قول أكثر الفقهاء من أهل الحجاز وبعضُ الكوفيين يُتابِعُهُمْ، وهو أبو يوسُفَ، والقياسُ ما عليه أهل الحجاز، لأن القاذفَ قَذَفَها بالزِّنَا، فهو لا ينبغي له أن يتزوَّج بزانيةٍ، وليس يظهر لهذا تَوْبَةٌ، واللِّعَانُ لا يكون إلا بحاكم من حكام المسلمين (1). * * * وقوله تعالى: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10) ههنا جواب لولا متروك، والمعنى - واللَّهُ أعلم - ولولا فضلُ الله عليكم لنال الكاذب لما ذكرنا عَذابٌ عظيم، ويدل عليه: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14). * * * وقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11) معنى الِإفك ههنا الكذبُ. وقد سُمِّيَ بعضُهُمْ في الآثار، وَلَمْ يُسمَّوْا في

_ (1) قال السَّمين: قوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَآءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ}: في رفع «أنفسهم» وجهان، أحدُهما: أنه بدلٌ مِنْ «شهداء»، ولم يذكر الزمخشري في غضونِ كلامِه غيرَه. والثاني: أنه نعتٌ له، على أنَّ «إلاَّ» بمعنى «غير». قال أبو البقاء: «ولو قُرىء بالنصبِ لجاز على أن يكونَ خبرَ كان، أو منصوباً على الاستثناء. وإنما كان الرفعُ هنا أقوى؛ لأنَّ» إلاَّ «هنا صفةٌ للنكرةِ كما ذَكْرنا في سورة الأنبياء». قلت: وعلى قراءةِ الرفعِ يُحتمل أَنْ تكونَ «كان» ناقصةً، وخبرُها الجارُّ، وأَنْ تكونَ تامةً أي: ولم يُوجَدْ لهم شهداءُ. وقرأ العامَّةُ «يكن» بالياءِ من تحتُ، وهو الفصيحُ؛ لأنه إذا أُسْنِد الفعلُ لِما بعدَ «إلاَّ» على سبيلِ التفريغ وَجَبَ عند بعضِهم التذكيرُ في الفعل نحو: «ما قام إلاَّ هندٌ» ولا يجوز: ما قامَتْ، إلاَّ في ضرورة كقوله: 3433. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وما بَقِيَتْ إلاَّ الضلوعُ الجَراشعُ أو في شذوذٍ كقراءةِ الحسنِ: «لا ترى إلاَّ مَساكنُهم» وقرىء «ولم تَكُنْ» بالتاءِ من فوقُ وقد عَرَفْتَ ما فيه. قوله: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ} في رفعِها ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أن يكونَ مبتدأ، وخبرُه مقدرُ التقديمِ أي: فعليهم شهادة، أو مُؤَخَّرهُ أي: فشهادة أحدِهم كافيةٌ أو واجبةٌ. الثاني: أن يكون خبرَ مبتدأ مضمرٍ أي: فالجوابُ شهادةُ أحدِهم. الثالث: أن يكونَ فاعلاً بفعلٍ مقدرٍ أي: فيكفي. والمصدرُ هنا مضافٌ للفاعلِ. وقرأ العامَّةُ «أربعَ شهاداتٍ» بالنصبِ على المصدر. والعاملُ فيه «شهادة» فالناصبُ للمصدرِ مصدرٌ مثلُه، كما تقدَّم في قولِه {فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُوراً} [الإسراء: 63]. وقرأ الأخَوان وحفصٌ برفع «أربع» على أنها خبرُ المبتدأ، وهو قوله: «فشهادة». ويتخرَّجُ على القراءاتين تعلُّقُ الجارِّ في قوله: «بالله»، فعلى قراءةِ النصبِ يجوزُ فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أَنْ يتعلَّقَ بشهادات؛ لأنه أقربُ إليه. والثاني: أنه متعلِّقٌ بقوله: «فشهادةُ» أي: فشهادةُ أحدِهم بالله. ولا يَضُرُّ الفصلُ ب «أربع» لأنها معلومةٌ للمصدرِ فليسَتْ أجنبيةً. والثالث: أن المسألةَ من باب التنازعِ؛ فإنَّ كلاً مِنْ شهادة وشهادات تَطْلُبه من حيث المَعنى، وتكون المسألةُ من إعْمال الثاني للحَذْفِ من الأول، وهو مختار البصريين. وعلى قراءةِ الرفعِ يتعيَّن تَعَلُّقُه بشهادات؛ إذ لو عَلَّقْتَه بشهادة لَزِمَ الفصلُ بين المصدرِ ومعمولِه بالجرِّ، ولا يجوزُ لأنه أجنبيٌّ. ولم يُختلفْ في «أربع» الثانية وهي قولُه «أَنْ تَشْهد أربعَ شهاداتٍ أنها منصوبةٌ للتصريح بالعاملِ فيها. وهو الفعلُ. قوله: {والخامسة}: اتفق السبعةُ على رفع الخامسة الأولى، واختلفوا في الثانية: فنصبها حفصٌ، ونَصَبهما معاً الحسنُ والسلمي وطلحة والأعمش. فالرفعُ على الابتداءِ، وما بعده مِنْ «أنَّ» وما في حَيِّزها الخبرُ. وأمَّا نصبُ الأولى فعلى قراءةِ مَنْ نصبٍ «أربعَ شهادات» يكون النصبُ للعطفِ على المنصوبِ قبلها. وعلى قراءةِ مَنْ رَفَعَ يكونُ النصبُ بفعلٍ مقدرٍ أي: ويَشْهَدُ الخامسةَ. وأمَّا نصبُ الثانيةِ فعطفٌ على ما قبلَها من المنصوبِ وهو «أربع شهادات». والنصبُ هنا أقوى منه في الأولى لقوةِ النصبِ فيما قبلَها كما تقدَّم تقريرُه: ولذلك لم يُخْتَلَفْ فيه. وأمَّا «أنَّ» وما في حَيِّزها: فعلى قراءةِ الرفعِ تكونُ في محلِّ رفعٍ خبراً للمبتدأ كما تقدَّم، وعلى قراءةِ النصبِ تكونُ على إسقاطِ الخافضِ، ويتعلَّقُ الخافضُ بذلك الناصبِ للخامسةِ أي: ويشهد الخامسةَ بأنَّ لعنةَ الله وبأنَّ غضبَ اللهِ. وجَوَّز أبو البقاء أن يكونَ بدلاً من الخامسة. قوله: {أَنَّ لَعْنَةَ الله عَلَيْهِ} قرأ العامَّةُ بتشديد «أنَّ» في الموضعين. وقرأ نافعٌ بتخفيفها في الموضعين، إلاَّ أنه يقرأ «غَضِبَ اللهُ» بجَعْلِ «غَضِبَ» فعلاً ماضياً، والجلالة فاعلَه. كذا نقل الشيخ عنه التخفيفَ في الأولى أيضاً، ولم ينقُلْه غيره. فعلى قراءتِه يكون اسمُ «أنْ» ضميرَ الشأنِ في الموضعين، و «لعنةُ الله» مبتدأ و «عليه» خبرُها. والجملةُ خبرُ «أنْ». وفي الثانية يكون «غضِبَ الله» جملةً فعليةً في محل خبر «أنْ» أيضاً، ولكنه يقال: يلزمُكم أحدُ أَمْرَيْن، وهو إمَّا عَدَمُ الفصلِ بين المخففةِ والفعلِ الواقعِ خبراً، وإمَّا وقوعُ الطلبِ خبراً في هذا البابِ وهو ممتنعٌ. تقريرُ ذلك: أنَّ خبرَ المخففةِ متى كان فعلاً متصرفاً/ غير مقرونٍ ب «قد» وَجَبَ الفصلُ بينهما. بما تقدَّم في سورة المائدة. فإنْ أُجيب بأنه دعاءٌ اعتُرِض بأنَّ الدعاءَ طلبٌ، وقد نَصُّوا على أنَّ الجملَ الطلبيةَ لا تقع خبراً ل «إنَّ». حتى تأوَّلوا قولَه: 3434. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . إنَّ الرِّياضةَ لا تُنْصِبْك للشَّيْبِ وقوله: 3435 إنَّ الذينَ قَتَلْتُمْ أمسِ سَيِّدَهُمْ. . . لا تَحْسَبوا ليلَهم عن ليلِكم ناما على إضمارِ القول. ومثلُه {أَن بُورِكَ مَن فِي النار} [النمل: 8]. وقرأ الحسن وأبو رجاء وقتادة والسلميُّ وعيسى بتخفيف «أنْ و» غَضَبُ الله «بالرفع على الابتداء، والجارُّ بعدَه خبرُه. والجملةُ خبرُ» أنْ «. وقال ابنُ عطية:» وأنْ الخفيفةُ على قراءة الرفعِ في قوله: «أَنْ غَضِبَ» وقد وليها الفعلُ. قال أبو علي: «وأهلُ العربيةِ يَسْتَقْبِحون أَنْ يليَها الفعلُ إلاَّ بأَنْ يُفْصل بينها وبينه بشيء نحو قولِه {عَلِمَ أَن سَيَكُونُ} [المزمل: 20] {أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ} [طه: 89] فأمَّا قولُه: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ} [النجم: 39] فذلك لقلةِ تمكُّنِ» ليس «في الأفعال. وأمَّا قولُه: {أَن بُورِكَ مَن فِي النار} ف» بُوْرِكَ «في معنى الدعاء فلم يَجىءْ دخولُ الفاصلِ لئلا يَفْسُدَ المعنى». قلت: فظاهرُ هذا أنَّ «غَضِبَ» ليس دعاءً، بل هو خبرٌ عن «غَضَِبَ الله عليها» والظاهرُ أنه دعاءٌ، كما أنَّ «بُورك» كذلك. وليس المعنى على الإِخبارِ فيهما فاعتراضُ أبي علي ومتابعةُ أبي محمد له ليسا بمَرْضِيَّيْنِ. اهـ (الدُّرُّ المصُون)

ْالقرآن فمِمنْ سُمِّيَ حسانُ بنُ ثَابتٍ، ومِسْطَح بنُ أُثاثَةَ، وعبدُ اللَّه بنُ أُبَيٍّ. ومن النساء حِمْنة بِنت جَحش. (لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ). وقيل لكم والتي قُصِدَتْ عائشة رحمها اللَّه، فقيل لكم يعنى به هِيَ ومن بسببها من النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر رحمه اللَّه. وقوله: (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ). ويُقْرأ (كُبْرَهُ مِنْهُم لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ).

فمن قرأ (كِبْرَه) فمعناه من تَولَّى الإثْمَ في ذلك، ومن قرأ كُبْرَه أراد مُعْظَمَهُ. ويروى أن حسان بن ثابت دَخَل علَى عائشة، فقيل لها أَتُدْخِلين هذا الذي قال اللَّه عزَّ وجلَّ - فيه: (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ) فقالت أَوَ لَيْسَ قَدْ ذهب بَصَرُه. ويروى أنَّه أنشدها قوله في بيته: حَصَانٌ رَازانٌ ما تُزَنُّ بِريبةٍ. . . وتُصْبِحُ غَرْثَى من لُحومِ الغَوافِل فقالت له: لكنك لست كذلك. وقوله تعالى: (والْخَامِسَةُ أَن غَضَبُ اللَّهِ عَلَيْهَا). بتخفيف أَن ورَفع غَضَبُ على معنَى أَنَه غَضَبُ الله عليها، ويجوز أَنْ غَضِبَ اللَّهِ عليها، وههنا " هاء " مُضْمرة، وأن مخففَة من الثقِيَلَةِ. المعنى أَنهُ غَضِبَ اللَّه عليها، وأنه غَضَبُ اللَّهِ عليها. قال الشاعر: في فتية كسيوف الهند قد علموا. . . أن هالك كل من يَحْفَى وَيَنْتَعلُ وجاء في التفسير في قوله: (لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) أنه يعنى به عَائِشةُ وصَفوانُ بنُ المعَطِّل، ويجوز " لكم " في معنى

(12)

(لكما)، والذي فسَّرْنَاهُ أولاً يَتَضَمّنُ أمر عائشة وَصَفْوانُ والنبي - صلى الله عليه وسلم - وكل من بينه وبين عائشةَ سَبَبٌ، ويجوز أَن يكون لكُلِ مَنْ رُمِيَ بِسَبَبٍ. * * * وقوله تعالى: (لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) معناه هَلَّا إذْ سِمعتُموه، لِأن المعنى ظَن المؤمنُونَ بِأنْفُسِهِمْ، في موضع الكنايَةِ عَنْهُمْ وعن بَعْضِهِمْ، وكذلك يقال للقوم - الذين يَقْتُل بَعْضُهُمْ بعضاً أَنَّهُمْ يَقْتُلونَ أَنْفُسَهُمْ. (وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ)، أي كذِبٌ بَيِّنٌ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22) وَقُرِئَتْ: وَلاَ يَتَأَلَّ أُولُو الفَضْلِ مِنْكُمْ والسَّعَةِ (1). وَمَعْنَى تَأتَلِي تَحْلِفُ وكذلك يَتَأَلَّى يحلف. ومعنى (أَنْ يُؤْتُوا) أنْ لاَ يُؤتُوا (أُولِي الْقُرْبَى)، المعنى ولا يحلف أولو الفضل منكم والسَّعَةِ أنْ لَا يُعْطوا (أُولِي الْقُرْبَى والمَسَاكِينَ). ونزلت هذه الآية في أبي بكر الصِّدِّيقِ، وكان حلف أَنْ لاَ يُفْضِل على مِسْطًح بن أُثَاثَة، وكان ابنَ خَالَتِهِ بِسَبَبِ سَبِّهِ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - فَلَما نَزَلَتْ: (أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ). قال أبُو بكر: بَلَى، وَأَعَاد الإِفْضَالَ عَلَى مِسْطَح وعلى مَنْ حَلَفَ أن لاَ يُفْضِلَ عَليْه وَكَفَّرَ عن يمينه.

_ (1) قال السَّمين: قوله: {وَلاَ يَأْتَلِ}: يجوزُ أَنْ يكونَ يَفْتَعِلُ مِن الأَلِيَّة وهي الحَلْف كقوله: 3437. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وآلَتْ حَلْفَةً لم تَحَلَّلِ ونَصَرَ الزمخشري هذا بقراءة الحسن «ولا يَتَأَلَّ» من الأَلِيَّة كقوله: «مَنْ تألَّ على اللهِ يُكَذِّبْه». ويجوزَ أَنْ يكونَ يَفْتَعِلُ مِنْ أَلَوْتُ أي قَصَّرْتُ كقوله تعالى: {لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} [آل عمران: 118] قال: 3438 وما المرءُ ما دامَتْ حُشاشةُ نَفْسِه. . . بمُدْرِكِ أَطْراف الخُطوب ولا آلِ وقال أبو البقاء: وقُرِىء «ولا يَتَأَلَّ» على يَتَفَعَّل وهو من الأَلِيَّة أيضاً «. قلت: ومنه: 3439 تَأَلَّى ابنُ أَوْسٍ حَلْفَةً لِيَرُدَّني. . . إلى نِسْوةٍ كأنَّهنَّ مَفائِدُ قوله: {أَن يؤتوا} هو على إسقاطِ الجارِّ، وتقديرُه على القول الأولِ، ولا يَأْتَلِ أُولوو الفَضْلِ على أَنْ لا يُحِسنوا. وعلى الثاني: ولا يُقَصِّر أُولو الفَضْل في أَنْ يُحِسنوا. وقرأ أبو حيوة وأبو البرهسم وابن قطيب» تُؤْتُوا «بتاء الخطاب. وهو التفاتُ موافِقٌ لقولِه:» ألا تُحِبون «. وقرأ الحسن وسفيان بن الحسين: وَلْتَعْفُوا وَلْتَصْفَحُوا، بالخطاب، وهو موافِقٌ لِما بعده. اهـ (الدُّرُّ المصُون)

(23)

وقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) قيل إنه يعنى به أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقيل إن الأصْلَ فيه أَمْر عائشة، ثم صار لكل مَنْ رَمَى المؤمِنَاتِ. ولم يَقل هَهنَا والمؤمنين استغناء بأنه إذا رَمَى المؤمِنَةَ فلا بد أَنْ يَرْمِيَ فعها مؤمِناً، فاستغنى عن ذكر المؤمنين لأنه قد جرى ذِكْرُ الْمؤمِنِينَ والمؤمِنَاتِ، وَدَل ذكرُه المؤْمِنَاتِ عَلَى المُؤْمِنِين، كما قال: (سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحَرَّ) ولم يَقُلْ وَتَقِيكُمُ البرْدَ، لأن ما كان وقى الحرَّ وقى البَرْدَ، فاستَغْنَى عَنْ ذِكْرِ أَحدهما بالآخر. * * * وقوله: (يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) ويقرأ الحقُّ، فمن قرأ الحقُّ فالحقُّ من صِفَةِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ، فالمعنى يوْمَئِذ يوفيهم اللَّهُ الحق دِينَهُمْ، ومن قرأ دينهم الحق، فالحق من صِفَةِ الذِينِ والدِّين ههنا الجزاء، المعنى يَوْمَئِذٍ يَوَفِّيهمُ اللَّه جزاءهم الحق، أي جزاءهم الواجب. * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26) فيها وَجْهَان، المعنى الكلمات الخَبيثَاتُ للخبيثين من الرجال، والرجال الخَبِيثونَ للكلمات الخبيثَاتِ، أي لا يَتَكلَّم بالخبيثات إلا الخبيثُ من الرجال والنساء، ولا يتكلَّمْ بالطيبَاتِ إلا الطيبُ من الرجال والنساء، ويجوز أن يكون معنى هذِهِ الكَلِمَاتِ الخبيثات إنما تلصق بالخَبِيثين من الرجال والخبيثات مِن النِّسَاءِ، فأما الطَاهِرَاتُ الطيبات فلا يلصق بِهِنَ شيء. وقيل الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجَالِ وكذلك الطيبات من النساء، للطيبين من الرجال.

(27)

وقوله: (أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ). أَي عائِشة وَصَفْوانُ بنُ المُعَطِّل، وكذلك كل من قُذِفَ من المُؤْمِنينَ والمُؤْمِنَاتِ مُبَرأُونَ ممَّا يَقُول أهل الخُبْث القَاذِفُونَ. (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ). أي للذين قُذِفوا ورُمُوا مَغْفِرَة وَرزْق كريم، وللقاذفين اللعْنَةُ في الدُنيَا والآخرة وَعَذَابٌ عَظِيئم. * * * وقوله: (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ) (1). معناه إذ يلقيه بعضكم إلى بَعْض، وقرأت عائشة رحمها اللَّه: إذْ تُلْيقُونَهُ بألسنَتِكُمْ، ومعناه إذْ تسْرِعُونَ بالكَذِبِ، يقال وَلَق يلِقُ إذَا أَسْرَع فِي الكَذِبِ وغيره. قال الشاعر: جاءتْ به عَنْسٌ من الشامِ تَلِق أي تسرع. * * * وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) يُقْرَأُ بِالضمِّ والكَسْرِ، ولكن الضم أَكثَرُ، فمن ضمَّ فَعَلَى أصل الجمع. يجمع بَيْتُ وبيوتُ مثل قَلْب وقُلوب وفَلْس وفلوس، وَمَنْ قرأ بِالكَسْرِ فإنما كَسَر للياء التي بعد الباء، وذلك عند البَصْرِيينَ رَدِيء جدًّا، لأنه ليس في كلام العرب فِعُول - بكسر الفاء -. وقوله: (حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا).

_ (1) قال السَّمين: قوله: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ}: «إذْ» منصوبٌ ب «مَسَّكُمْ» أو ب «أَفَضْتُمْ». وقرأ العامَّةُ «تَلَقَّوْنه». والأصلُ: تَتَلَقَّوْنه فحُذِفَتْ إحدى التاءَيْن ك {تَنَزَّلُ} [القدر: 4] ونحوه. ومعناه: يتلقَّاه بعضُكم من بعض. والبزيُّ على أصله: في أنه يُشَدِّد التاءَ وصلاً. وقد تقدَّم تحقيقُه في البقرة نحو {وَلاَ تَيَمَّمُواْ} [البقرة: 267] وهو هناك سَهَّلَ لأنَّ ما قبله حرفُ لِيْنٍ بخلافِه هنا. وأبو عمرو والكسائي وحمزةُ على أصولِهم في إدغامِ الذالِ في التاء. وقرأ أُبَيّ «تَتَلَقَّوْنَه» بتاءين، وتقدَّم أنها الأصلُ. وقرأ ابن السميفع في روايةٍ عنه «تُلْقُوْنَه» بضمِّ التاءِ وسكونِ اللام وضمِّ القافِ مضارِعَ «ألقى» إلقاءً. وقرأ هو في روايةٍ أخرى «تَلْقَوْنه» بفتح التاءٍ وسكونِ/ اللامِ وفتحِ القاف مضارع لَقِيَ. وقرأ ابنُ عباس وعائشةُ وعيسى وابنُ يعمر وزيد بن علي بفتحِ التاءِ وكسرِ اللامِ وضَمِّ القافِ مِنْ وَلَقَ الرجلُ إذا كَذِبَ. قال ابن سيده: «جاؤوا بالمتعدي شاهداً على غير المتعدي. وعندي أنه أراد تَلِقُوْن فيه فحذف الحرف ووصل الفعلُ للضمير». يعني أنهم جاؤوا ب «تَلِقُوْنه» وهو متعدٍ مُفَسَّراً ب «تُكذِّبون» وهو غيرُ متعد ثم حَمَّله ما ذكر. وقال الطبري وغيره: «إن هذه اللفظةَ مأخوذةٌ من الوَلْقِ وهو الإِسراعُ بالشيءِ بعد الشيءِ كعَدْوٍ في إثْرِ عَدْوٍ وكلامٍ في إثرِ كلامٍ يُقال: وَلَقَ في سَيْرِه أي: أسرع وأنشد: 3436 جاءَتْ به عَنْسٌ من الشَّأْمِ تَلِقْ. . . وقال أبو البقاء: أي: تُسْرعون فيه. وأصله من الوَلْقِ وهو الجنون». وقرأ زيد بن أسلم وأبو جعفر «تَأْلِقُوْنه» بفتح التاء وهمزةٍ ساكنةٍ ولامٍ مكسورةٍ وقافٍ مضمومةٍ من الأَلْقِ وهو الكذبُ. وقرأ يعقوب «تِيْلَقُوْنه» بكسر التاءِ من فوقُ، بعدها ياءٌ ساكنةٌ ولامٌ مفتوحةٌ وقافٌ مضمومةٌ، وهو مضارع وَلِق بكسر اللامِ كما قالوا يِْيجَلُ مضارعَ وجِل. اهـ (الدُّرُّ المصُون)

(29)

معنى تستأنسوا في اللغة تَسْتَأذِنُوا، وكذلك هو في التفسير، والاستئذان الاستعلام، تقول آذَنتُه بكذا أي أعلَمْتُه، وكذلك آنست مِنْهُ كذا وكذا - عَلِمْتُ منه، وكذلك، (فَإِنْ آنَسْتُم منهم رُشْداً) أي علمتم. فمعنى حتى تَسْتَأنِسُوا حتى تستعلِمُوا أيريد أهلها أن يُدخلوا أَمْ لاَ، والدليل على أَنه الِإذْنُ قَوله: (فَإنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً فلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤذَنَ لَكُمْ). * * * وقوله تعالى: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29) أي ليس عليكم جناح أنْ تَدْخُلوا هَذِهِ بِغَيْرِ إذْنٍ. وجاء في التفسير أنه يعنى بها الخانات، ويقال للخَانِ فُنْدق وفُنْتُق. - بالدال والتاء - وإنما قيل: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أن تدخُلُوا هَذِهِ البُيُوتَ لأنه حَظَرَ أن تُدْخَل البُيُوتُ الَّتي ليست لهم إلا بِإذْنٍ، فأُعْلِمُوا أَن دُخول هذه المواضعَ المُبَاحَةَ - نحو الخانات وحوانيت التجارة التي تباع فيها الأشْيَاءُ وُيبِيحُ أهلُها دُخُولَها - جائزٌ. وقيل إنه يُعْنَى بِهَا الخَرِبَاتُ التي يَدْخُلُها الرجُلُ لِبَوْلٍ أَوْ غَائِطٍ. ويكون معنى: (فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ) بمعنى إمْتاعِ، أي مُتفرَّجُون فيها مِما بكم. * * * وقوله تعالى: (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31) (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا). أي لا يبدين زينَتَهُنَّ الباطِنَةَ، نحو المِخْنَقَةِ والْخلْخَال والدُّمْلُجُ والسِّوار. والتي تُظْهَرُ هي الثيابُ والوَجْهُ.

(32)

وقوله تعالى: (وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ). كانت المرأة ربما اجتازت وفي رجلها الْخلخال، وربما كان فيها الخَلاَخِلُ فإذا ضَرَبتْ بِرِجْلِها عُلِمَ أنها ذاتُ خَلْخَال وزينةٍ، وهذا يحرك من الشهْوَةِ فنُهِيَ عنه، كما أُمِرْنَ ألا يُبْدِينَ، لأن استماعَ صَوْته بمنزلة إبْدَائِه. * * * وقوله: (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32) قُرِئَتْ من عَبِيدِكُمْ، وكلاهما جائز، وهذا لازِم في الأيَامَى، والمَعْنَى وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين مِنْ عِبَادِكُمْ وإمَائِكُم إنْ أَرَدْن تَحَصُّناً. * * * (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) ومعنى (وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا). أي لا تكرهوهن على البغاء ألْبتَّةَ، وليس المعنى: لا تكرهوهن إنْ أَرَدْن تَحَصُناً. وإن لم يرِدْن فَلَيْس لنا أَنْ نُكْرِهَهُنَّ. * * * وقوله: (إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ). فحث اللَّه - عزَّ وجلَّ - على النكاح وأعلم أنه سَبَبٌ لِنَفْيِ الفَقْر. ويروى عن عمر رحمه اللَّه أنه قال: عَجَتُ لاِمْرِئ كيف لا يَرْغَبُ في البَاءَةِ واللَّه يَقُولُ (إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ). وقوله: (وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا). معنى (إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا) قيل إن علمتم أدَاءَ ما يفارق عليه، أي عَلِمْتُمْ أَنهم يَكتِبُونَ ما يُؤَدُّونَهُ. ومعنى المكاتبة أن يكاتب الرجل عبده أو أَمَتَهُ

عَلَى أن يُفَارِقَة، أنه إذا أَدَّى إليه كذا وكذا من المال في كذا وكذا من النجوم فالعبدُ حُر إذا أَدَّى جميع ما عليه، وَوَلاؤه لمولَاه الذي كاتبه، لأن مولاه جاد عليه بالكسْب الذي هو في الأصل لمولاه. وقوله: (وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ). هذا - عند أكثر الفقهاء - على الندْبِ، للمولى أن يُعْطِيَهُ شَيْئاً مما يُفَارِقُه عليه، أو من ماله ما يستعين به على قضاء نجومِهِ، وله ألَّا يفْعَلَ، وكذلك له أَنْ يكاتِبَهُ إذا طلب المكاتبة وَلَه أَلَّا يكاتِبَهُ. ومخرج هذا الأمر مخرجُ الِإبَاحَةِ، كما قال: (وإِذَا حَلَلْتُم فاصطادوا) لأنه حرَّم عليهم الصيدَ ما دَامَوا حُرُماً. وكذلك قوله: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) هذا بَعْدَ أن حَظَر عليهم البيعَ في وقت النداء إلَى الصلَاة، فهذا أباحَهُ فيهِ لأن العَبْدَ المملوك لا مال له، ولا يقدر على شيءٍ، فأباح اللَّه لَهُم أن يُقْدِرُوه. ويروى عن عُمَرَ أنه كَاتَبَ عَبْداً له يُكْنَى أَبَا أُمَيَّةَ، وهو أول عَبْدٍ كوتب في الإسلام، فأتاه باول نجم فدفَعَهُ إلَيْهِ عُمر، وقال له: اسْتَعِنْ به عَلَى مُكَاتَبَتِكَ، فقال: لَوْ أَخْرته إلى آخرِ نَجْم، فقال أَخَافُ أَلَّا أدرك ذلك. وقوله: (أوْ نِسائِهِنَّ). . وذلك أنه لا يَحِلُ أن ترى المشركاتُ ما يحِل أن تراه المؤمِنَاتُ من

المُومِنَاتِ، يُعْنَى بِنِسائِهِن نساء المؤمنات، (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ). * * * وقوله تَعالى: (أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ). " غير " صفة للتابعين دَليل على قوله: (أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ)، معْنَاهُ أيْضاً غير أولي الإربَةِ من الرجَال. والمعنى لا يبدين زينتهن لمماليكهنَّ ولا لِتُباعِهِنَّ إلا أن يكونُوا غير أُولي إربَة. والِإرْبَةُ الحاجَةُ، ومعناه هَهُنَا غير ذَوي الحاجات إلى النِسَاءِ فَأمَّا خَفْضُ " غير " فصفة للتابعين، وإن كانت " غير " توصف بها النَكِرَةُ، فَإنَّ التَابِعِينَ هَهُنَا ليس بمَقْصودٍ إلى قوم بأعْيانِهِمْ، إنما معناهُ لكل تَابِع غير أولي إرْبةٍ. ويجوز " غير " بنصب " غيرَ " على ضربين: أَحَدهما الاستثناء، المعنى لا يبدين زينتهن إلا للتابعين إلا أُولي الإربة فلا يبدين زينَتَهن لَهُمْ، ويجوز أن يكون منصوباً على الحال، فيكون المعنى، والتابعين لا مُرِيدينَ النسَاء أي في هذه الحال. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ). ويقرأ " عَوَرات " - بالفتح الواو - لأن فَعْلَة يجمع على فَعلات - بفتح العين - نحو قَولكَ جَفنة وَجَفَنَات، وصَحْفَة وصَحَفَات، فإذا كان نحو قولكَ لَوْزَة وجَوْزَة وعَوْرَة، فالأكثر أَنْ تسكَن، وكذلك قوله بَيْضَات، لثقل الحركة مع الواو والياء، ومن العرب من يَلْزَمُ الأصلَ والقياسَ في هذا فيقول جَوَازات وبَيَضَات. وعلى هذا قرئ عَوَراتٍ. ومعنى لَمْ يَظهرُوا على عورات النساء، لم يبلغوا أن يُطيقُوا النساء، كما تقول: قد ظهر فلانٌ على فلانٍ إذا قوي عليه. ويجوز أَنْ يَكُونَ (لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِسَاءِ) لم يَدْرُوا ما قباحَةُ عورات النساء من غيرها.

(34)

وقوله: (وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34) يقرأ بالفتح والكسر - فمن قرأ مبيَّنَاب بالفتح فالمعنى أنه لَيْسَ فيها لَبْسٌ، وَمَنْ قرأ بالكَسْرِ فالمعنى أنها تبيِّن لكم الحلال من الحرام. ثم أَعلم عزَّ وجلَّ أَنه قَدْ بيَّنَ جميع أَمر السماء، وأمر الأرض بَيَاناً نيِّراً لا غاية بَعْدَ نورِهِ فقال: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35) (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) (1) أي مدَبِّر أَمْرِهِمَا بِحِكْمَةٍ بَالِغةٍ وحجًةٍ نيِّرَة. ثم مثلَ مَثَلَ نورِه ذلك في القلوبِ بأبينِ النورِ الذي لم يُدرك بالأبْصَارِ فقال: (مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ). فَنورُهُ يجوز أن يكون ما ذكرنا من تدبيره، وجائز أنْ يكونَ كتابُه الذي بَيَّن بِهِ فقال: (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ) وجائز أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - هو النور الذي قال مثل نورِهِ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو المرشِدُ والمبيِّنُ والناقل عن الله ما هو نيِّرٌ، بَيِّنٌ. وقال: (كَمِشْكَاةٍ)، وهي الكوَّة، وقيل إنها بلغة الحَبَشِ، والمشكاة من كلام العرب، ومثلها - وإن كانت لغيرِ الكُوَّةِ - الشَكْوَةُ وَهِي مَعْروفَة، وهي الدقيق الصغير أو مَا يُعْمَل مِثْله. (فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ). والمصباح السَراج. وقال: (الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ) - لأن النور في الزُّجاج.

_ (1) قال السَّمين: قوله: {الله نُورُ السماوات}: مبتدأٌ وخبرٌ: إمَّا على حَذْفِ مضافٍ أي: ذو نورٍ السماوات. والمرادُ بالنور عَدْلُه. ويؤْيِّد هذا قولُه {مَثَلُ نُورِهِ}. وأضاف النورَ لهذين الظرفين: إمَّا دَلالةً على سَعَةِ إشراقِه وفُشُوِّ إضاءته، حتى تضيءَ له السماواتُ والأرضُ، وإمَّا لإِرادةِ أهلِ السماوات والأرضِ، وأنَّهم يَسْتضيئون به. ويجوز أَنْ يبالَغَ في العبارةِ على سبيلِ المَدْحِ كقولهم: فلانٌ شمسُ البلاد وقمرُها، قال النابغة: 3446 فإنَّك شمسٌ والملوكُ كواكبٌ. . . إذا ظهرَتْ لم يَبْدُ منهنَّ كوكبُ وقال: 3447 قَمَر القبائلِ خالدُ بن يزيد. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ويجوزُ أَنْ يكونَ المصدرُ واقِعاً موقعَ اسمِ الفاعلِ أي: مُنَّوِّرُ السماواتِ. ويؤيِّد هذا الوجهَ قراءةُ أميرِ المؤمنين وزيدِ بن علي وأبي جعفر وعبد العزيز المكي «نَوَّرَ» فعلاً ماضياً. وفاعلُه ضميرُ الباري تعالى، و «السماواتِ» مفعولُه فكَسْرُه نصبٌ. و «الأرضَ» بالنصبِ نَسَقٌ عليه. وفَسَّره الحسنُ فقال: الله مُنَوِّرُ السماوات. قوله: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ} مبتدأٌ وخبرٌ أيضاً. وهذه الجملةُ إيضاحٌ لِما قبلَها وتفسيرٌ فلا محلَّ لها. وثَمَّ مضافٌ محذوفٌ أي: كَمَثَلِ نورِ مشْكاة. قال الزمخشري: «أي: صفةُ نورِه العجيبِ الشأنِ في الإِضاءةِ كَمِشْكاةٍ أي: كصفةِ مِشْكاة». واختلفوا في الضمير في «نُوره» فقيل: هو للهِ تعالى، وهو الأولى، والمرادُ بالنورِ على هذا: الآياتُ المبيناتُ المتقدمةُ، أو الإِيمان، وقيل: إنه عائدٌ على المؤمنين أو المُؤْمنِ أو مَنْ آمن به. وقد قرأ أُبَيّ بهذه الألفاظِ كلِّها. وأعاد الضميرَ على ما قرأ به. وقيل: يعودُ على محمدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم ولم يتقدَّمْ لهذه الأشياءِ ذِكْرٌ. وأمَّا عَوْدُه على المؤمنين في قراءةِ أُبَيّ، ففيه إشكالٌ من حيث الإِفراد. / قال مكي: «يُوْقَفَ على» الأرض «في هذه الأقوالِ الثلاثةِ». واختلفوا أيضاً في هذا التشبيهِ: أهو تشبيهٌ مركَّبٌ أي: قُصِدَ فيه تشبيهُ جملةٍ بجملةٍ، من غير نَظَرٍ إلى مقابلة جزءٍ بجزءٍ، بل قَصَدَ تشبيهَ هُداه وإتقانَ صنعتِه في كلِّ مخلوقٍ على الجُملة بهذه الجملةِ من النور الذي يَتَّخذونه. وهو أبلغُ صفاتِ النورِ عندكم؟ أو تشبيهٌ غيرُ مركبٍ أي: قُصِدَ مقابلةُ جزءٍ بجزءٍ؟ ويترتَّبُ الكلامُ فيه بحسَبِ الأقوال في الضمير في «نوره». والمِشْكاةُ: الكُوَّةُ غيرُ النافِذَةِ. وهل هي عربية أم حبشية مُعَرَّبة؟ خلافٌ. وقيل: هي الحديدةُ أو الرَّصاصة التي يوضع فيه الذُّبال وهو الفتيل، وتكون في جَوْفُ الزجاجة، وقيل: هي العمودُ الذي يوْضَعُ على رأسِه المصباحُ، وقيل: ما يُعَلَّقُ فيه القنديلُ من الحديدِ، وأمال «المِشْكاة» الدُّوري عن الكسائي لتقدُّمِ الكسرِ، وإنْ وُجِدَ فاصلٌ. ورُسِمَتْ بالواو كالزكاة والصلاة. والمِصْباح: السِّراجُ الضخمُ. والزجاجةُ: واحدةٌ الزجاج، وهو جوهرٌ معروفٌ. وفيه ثلاثُ لغاتٍ: فالضم لغةُ الحجاز، وهو قراءةُ العامَّة، والكسرُ والفتحُ لغةُ قيس. وبالفتح قرأ ابن أبي عبلة ونصر بن عاصم في رواية ابنِ مجاهد. وبالكسر قرأ نصر بن عاصم في روايةٍ عنه، وأبو رجاء. وكذلك الخلافُ في قوله «الزجاجةُ». والجملةُ مِنْ قوله: {فِيهَا مِصْبَاحٌ} صفةُ ل «مِشْكاة». ويجوزُ أن يكونَ الجارُّ وحدَه هو الوصفَ، و «مصباحٌ» مرتفعٌ به فاعلاً. اهـ (الدُّرُّ المصُون)

وضوء النارِ أَبْيَنُ منه في كل شيءٍ، وضوؤه يزيدُ في الزُّجَاجِ. ثم وصف الزجاجة فقال: (كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ). و (دُرِّيٌّ)، منسوب إلى أنه كالدُّرِ، في صَفَائِه وحُسْنِهِ، وَقُرِئَتْ دِرِّيٌّ وَدَرِّيٌّ - بالكسر والفتح - وقَد رُوِيتْ بالهَمْزِ. والنحويون أجمعون لا يعرفون الوجه فيه، لأنه ليس في كلام العَرَبِ شيء عَلَى فِعِّيل، ولكن الكسر جَيِّدٌ بِالهَمْز - يكون على وَزْنِ فِعِّيل، ويكون من النجوم الدَّرَارِي التي تَدَرُ. أي يَنْحط وَيسِيرُ مُتَدافِعاً، ويجوز أن يكونَ دِرِّيٌّ بغير همزٍ مُخَفَفاً مِنْ هذا. قال أبو إسحاق: ولا يجوز أن يضم الدال وَيُهْمَزُ، لأنه ليس في الكلام فُعِّيلٌ، ومثال " دُرِّيٌّ " فُعْلِيٌّ مَنْسُوبٌ إلى الدُّرِّ، وَمَنْ كَسَرَ الدالَ قَالَ دِرِّيٌّ - فكان له، أَنْ يهْمِزَ ولا يَهْمِزَ، فمن هَمَزَ أَخَذه من درأ يدرأ الكَوْكَبُ إذَا تَدافع مُنْقَضًّا، فتضاعف ضَوْءُه، يقال: تدارأ الرجُلَانِ إذَا تَدَافَعَا، ويكون وزنه على فِعِّيل. ومن كسرها فإنما أَصْلُه الهَمْزُ فَخُفِفَ، وبقيتْ كسرة الدال عَلَى أَصْلِهَا. ووزنه أيضاً فعِّيل كما كان وهو مهموز (1). * * * وقوله: (يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ). ويقرأ (تُوقَدُ) بالتاء، فمن قرأ بالياء عنى به المصباح، وهو مذكر. ومن قرأ بالتاء عَنَى بِهِ الزُجَاجَةَ. ويجوز " في زَجَاحَةٍ " بفتح الزاي وفيها وجهان آخران قُرِئ بِهِمَا - تَوَقَّدَ - بفتح الدالِ وضمها وتشديد القافِ فيهما جميعاً. فمن قرأ تَوَقَّدُ، فالمعنى تَتَوَقدُ الزجاجةُ، ومن قرأ تَوَقَّدَ فتحه لأنه فِعْلٌ مَاضٍ. ويكون المعنى: المصباحِ في زُجَاجَةِ تَوَقَّدَ المِصْبَاحُ (2). وقوله: (مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ).

_ (1) قال السَّمين: قوله: {دُرِّيٌّ}، قرأ أبو عمرو والكسائي بكسر الدال وياءٍ بعدها همزةٌ. وقرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم بضم الدال وياءٍ بعدها همزةٌ. والباقون بضمِّ الدال وتشديد الياءِ من غيرِ همزةٍ، وهذه الثلاثةُ في السبع، وقرأ زيد بن علي والضحاكُ وقتادةُ بفتح الدال وتشديد الياء. وقرأ الزهريُّ بكسرِها وتشديد الياء. وقرأ أبان بن عثمان وابن المسيَّب وأبو رجاء وقتادة أيضاً «دَرِّيْء» بفتح الدال وتشديدِ الراء وياءٍ بعدها همزةٌ. فأما الأولى فقراءةٌ واضحةٌ لأنه بناءٌ كثيرٌ يوجد في الأسماء نحو «سِكِّين» وفي الصفاتِ نحوِ «سِكِّير». وأمَّا القراءةُ الثانية فهي مِنْ الدِّرْءِ بمعنى الدَّفْع أي: يدفع بعضُها بعضاً أو يَدْفعُ ضوءُها خَفاءَها، قيل: ولم يوجد شيءٌ وزنُه فُعِّيل إلاَّ مُرِّيْقاً للعُصْفُر وسُرِّيَّة على قولنا: إنها من السرور، وإنه أُبْدل مِن إحدى المضعَّفاتِ ياءٌ، وأُدْغِمَتْ فيها ياءُ فُعِّيل، ومُرِّيخاً للذي في داخلِ القَرْنِ اليابس، ويقال بكسرِ الميمِ أيضاً، وعُلِّيَّة ودُرِّيْء في هذه القراءة، وذُرِّيَّة أيضاً في قولٍ. وقال بعضهم: «وزن دُرِّيْء في هذه القراءةِ فُعُّول كسُبُّوح قُدُّوْس، فاستُثْقِل توالي الضمِّ فنُقِل إلى الكسرِ، وهذا منقولٌ أيضاً في سُرِّية وذُرِّيَّة. وأمَّا القراءة الثالثة فتحتمل وجهين، أحدُهما: أَنْ يكونَ أصلُها الهمزَ كقراءةِ حمزةَ، إلاَّ أنه أَبْدَلَ مِنَ الهمزةِ ياءً، وأَدْغم، فَيَتَّحدُ معنى القراءتين، ويُحتمل أَنْ يكونَ نسبةً إلى الدُّر لصفائها وظهورِ إشراقِها. وأمَّا قراءةُ تشديدِ الياءِ مع فتحِ الدالِ وكسرِها، فالذي يظهرُ أنه منسوبٌ إلى الدُّر. والفتحُ والكسرُ في الدالِ من بابِ تغييراتِ النَّسَبِ. وأمَّا فتحُ الدالِ مع المدِّ والهمز ففيها إشكالٌ. قال أبو الفتح:» وهو بناءٌ عزيزٌ لم يُحْفَظْ منه إلاَّ السَّكِّينة بفتح الفاء وتشديد العين «. قلت: وقد حكى الأخفشُ:» فَعَلَيْه السَّكِّينة والوَقار «و» كوكَبٌ دَرِّيْءٌ «مِنْ» دَرَاْتُه «. اهـ (الدُّرُّ المصُون) (2) قال السَّمين: قولِه: {يُوقَدُ} قرأ ابنُ كثير وأبو عمرٍو» تَوَقَّدَ «بزنة تَفَعَّلَ فعلاً ماضياً فيه ضميرُ فاعِله يعودُ على المصباح، ولا يعودُ على» كوكب «لفسادِ المعنى. والأخوان وأبو بكر» تُوْقَدُ «بضم التاءِ مِنْ فوقُ وفتح القافِ، مضارعَ أَوْقَدَ. وهو مبنيٌّ للمفعولِ. والقائمُ مَقامَ الفاعلِ ضميرٌ يعودُ على» زجاجة «فاسْتَتَرَ في الفعل. وباقي السبعةِ كذلك إلاَّ أنَّه بالياءِ من تحتُ. والضميرُ المستترُ يعودُ على المصباح. وقرأ الحسن والسلمي وابن محيصن، ورُوِيَتْ عن عاصم من طريقِ المفضِّلِ كذلك، إلاَّ أنَّه ضَمَّ الدال، جعله مضارع «تَوَقَّدَ»، والأصلُ: تَتَوَقَّد بتاءَيْن، فحُذِفَ إحداهما ك «تَذَكَّرُ». والضميرُ أيضاً للزُّجاجة. وقرأ عبد الله «وَقَّدَ» فعلاً ماضياً بزنةِ قَتَّلَ مشدداً، أي: المصباح. وقرأ الحسنُ وسَلاَّم أيضاً «يَوَقَّدُ» بالياء مِنْ تحتُ، وضَمِّ الدال، مضارعَ تَوَقَّدَ. والأصلُ يَتَوَقَّدُ بياءٍ من تحتُ، وتاءٍ مِنْ فوقُ، فَحُذِفَتْ التاءُ مِنْ فوقُ. هذا شاذٌ إذ لم يتوالَ مِثْلان، ولم يَبْقَ في اللفظِ ما يَدُلُّ على المحذوف، بخلافِ «تَنَزَّلُ» و «تَذَكَّرُ» وبابِه؛ فإنَّ فيه تاءَيْن، والباقي يَدُلُّ على ما فُقِد. / وقد يُتَمَحَّلُ لصحتِه وجهٌ من القياس وهو: أنهم قد حَمَلوا أَعِدُ وتَعِدُ ونَعِدُ على يَعِدُ في حَذْفٍ الواوِ لوقوعِها بين ياءٍ وكسرةٍ فكذلك حَمَلوا يَتَوَقَّد بالياء والتاء على تَتَوَقَّد بتاءين، وإنْ لم يكنْ الاستثقالُ موجوداً في الياء والتاء. اهـ (الدُّرُّ المصُون)

(36)

وليس شيء في الشجَرِ يورِقُ غُصْنُه من أوله إلى آخره مثلُ الزيْتُونِ والرمَّانِ قَال الشاعِرُ: بورِكَ الميتُ الغريبُ كما. . . بُورِكَ نَظْم الرُمان والزيْتونِ قوله عزَّ وجلَّ: (لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ). أكثر التفسير أنها ليست مما تطلع عليه الشمسُ في وقت شروقها فقط أو عِنْدَ الغُروبِ، أي ليس يسترها في وقت من النهَارِ شيءٌ، أي فهي شرقية غربيَّة، أي تصيبها الشمس بالغداة، والعَشِىِ، فهو أنضر لها وأجود لزيتها وزَيْتونها. وقال الحسن: إن تأويلَ قوله: (لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ) أنها ليست من شجر الدُّنْيَا أي هي من شجر الجنَّةِ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) جاء في التفسير أَن تبْنَى، وقال الحسنُ: تأويل " أَنْ ترْفَعَ " أن تعظَّمَ. و" في " من صِلَةِ قوله (كَمِشْكَاةٍ). المعنى كَمِشْكاةٍ في بيوتٍ، أي فِي مَسَاجِدَ. وقال الحسن يُعْنَى بِهِ بيتُ المقدِسِ. ويجوز أن تكون " في " متصلة بـ (يُسَبِّحُ) ويكون فيها تكريراً على التوكيد، فيكون المعنى يسبح لِلَّهِ رِجَالٌ في بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ لأنْ تُرْفَع (1). وتقرأ (يُسَبَّحُ) له فيها، فيكون رفع رجال هَهُنَا على تفسير

_ (1) قال السَّمين: قوله: {فِي بُيُوتٍ}: فيها ستةُ أوجهٍ. أحدُها: أنها صفةٌ ل «مِشْكاةٍ» أي: كمِشْكاةٍ في بيوتٍ أي: في بيتٍ من بيوتِ الله. الثاني: أنه صفةٌ لمصباح. الثالث: أنه صفةٌ ل «زجاجة». الرابع: أنه متعلقٌّ ب «تُوْقَدُ». وعلى هذه الأقوالِ لا يُوقف على «عليم». الخامس: أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ كقولِه {فِي تِسْعِ آيَاتٍ} [النمل: 12] أي: يُسَبِّحونه في بيوت. السادس: أَنْ يتعلَّقَ ب «يُسَبِّحُ» أي: يُسَبِّحُ رجالٌ في بيوت. وفيها تكريرٌ للتوكيدِ كقولِه: {فَفِي الجنة خَالِدِينَ فِيهَا} [هود: 108]. وعلى هذه القولَيْن فيُوْقَفُ على «عليم». وقال الشيخ: «وعلى هذه الأقوالِ الثلاثةِ» ولم يُذْكر سوى قولين. قوله: {أَذِنَ الله} في محلِّ جرٍّ صفةً ل «بيوتٍ»، و «أن تُرفع» على حَذْفِ الجارِّ أي: في أَنْ تُرْفَعَ. ولا يجوزُ تَعَلُّقُ «في بيوت» بقوله: «ويُذْكَرُ» لأنه عطفٌ على ما في حَيِّز «أَنْ»، وما بعد «أَنْ» لا يتقدَّم عليها. اهـ (الدُّرُّ المصُون)

(37)

ما لم يسم فَاعِلُه، فيكون المعنى على أنه لما قال: (يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا) كأنَّه قيل: مَن يُسَبِّحُ الله فقيل يُسَبِّحُ رِجَال كما قال الشاعر: لِيُبْكَ يزيدٌ ضارِعٌ لخُصُومةٍ. . . ومُخْتبِطٌ مما تُطِيحُ الطَّوائِحُ (والآصال): واحدها أُصُل، وهي العَشَايَا (1). * * * (رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) ومعنى: (لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ). أي لا يشغلهم أَمر عن ذَلِكَ. ويروى أن ابن مَسْعُودٍ رأى قوماً من أَهْل السوقِ، وقد نُودِيَ بالصَّلَاةِ فتركوا بِيَاعاتِهِمْ ونَهضُوا إلَى الصَّلاةِ، فقال: هؤلاء من الذين قال اللَّه - عز وجل - فيهم، (رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ). وقوله: (وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ) الكلام أقمت الصلاة إقَامَةً، وأصلها أقَمْتُ إقْوامَاً، ولكن قُلِبَت الوَاوَ أَيضاً فاجتمعت ألفان، فحذفت إحداهما لالْتِقَاءِ السَّاكنين، فبقي أَقَمْتُ الصلاة إقامَةً وأدخِلَتِ الهاء عِوَضاً من المَحْذُوفِ، وقامت الإضافة ههنا في التعويض مقام الهاء المحذوفة. وهذا إجماع من النحويين. وقوله: (يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ). ويجوز تَقلَّبُ فيه القلوب والأبْصَارُ، في غير القرآنِ، ولا يجوز في القران " تَقَلَّبُ، لأن القراءة سنة لا تخالَفُ وإن جاز في العربية ذَلِكَ.

_ (1) قال السَّمين: قوله: {يُسَبِّحُ} قرأ ابنُ عامرٍ وأبو بكر بفتح الباء مبنياً للمفعولِ. والقائمُ مَقامَ الفاعلِ أحدُ المجروراتِ الثلاثة. والأولى منها بذلك الأولُ لاحتياجِ العاملِ إلى مرفوعِه، والذي يليه أولى. و «رجالٌ» على هذه القراءةِ مرفوعٌ على أحدِ وجهين: إمَّا بفعلٍ مقدرٍ لِتَعَذُّرِ إسنادُ الفعلِ إليه، وكأنه جوابُ سؤالٍ مقدَّرٍ، كأنه قيل: مَنْ يُسَبِّحه؟ فقيل: يُسَبِّحُه رجالٌ. وعليه في أحدِ الوجهين قولُ الشاعر: لِيُبْكَ يََزِيْدُ ضارعٌ لخُصُومَةٍ. . . ومُخْتَبِطٌ مِمَّا تُطيحُ الطَّوائحُ كأنه قيل: مَنْ يبكيه؟ فقيل: يَبْكيه ضارعٌ. إلاَّ أنَّ في اقتياس هذا خلافاً، منهم مَنْ جَوَّزَه، ومنهم مَنْ مَنعه. والوجهُ الثاني في البيت: أنَّ «يَزيدُ» منادى حُذِف منه حرفُ النداءِ أي: يا يزيد، وهو ضعيف جداً. والثاني: أنَّ رجالاً خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي: المُسَبِّحه رجالٌ. وعلى هذه القراءةِ يُوْقفُ على الآصال. وباقي السبعةِ بكسرِ الباءِ مبنياً للفاعل. والفاعلُ «رجال» فلا يُوْقَفُ على الآصال. وقرأ ابن وثاب وأبو حيوة «تُسَبِّح» بالتاءِ مِنْ فوقُ وكسرِ الباء؛ لأنََّ جَمْعَ التكسيرِ يُعامَلُ مُعامَلَةَ المؤنثِ في بعض الأحكامِ وهذا منها. وقرأ أبو جعفر كذلك إلاَّ أنَّه فَتَح الباءَ. وخَرَّجها الزمخشري على إسنادِ الفعل إلى الغُدُوّ والآصال على زيادة الباء، كقولهم: «صِيْد عليه يومان» أي: وَحْشُها. وخَرَّجها غيرُه على أنَّ القائمَ مَقامَ الفاعلِ ضميرُ التسبيحة أي: تُسَبَّح التسبيحةُ، على المجازِ المُسَوَّغ لإِسنادِه إلى الوقتين، كما خَرَّجوا قراءةَ أَبي جعفرٍ أيضاً {ليجزى قَوْماً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} [الجاثية: 14] أي: ليجزى الجزاءُ قوماً، بل هذا أَوْلى مِنْ آيةِ الجاثية؛ إذ ليس هنا مفعولٌ صريح. اهـ (الدُّرُّ المصُون)

(39)

ومعنى تَتَقلًبُ أي تَرْجُفُ وَتَجفُ من الجَزَعِ والخَوْفِ، ومعناه أَن مَنْ كَانَ قلبُه مُوقِناً بالبعث والقيامَةِ ازداد بَصِيرَةً، ورأى ما يحبُّه مما وُعِدَ بِهِ، ومن كان قلبه على غير ذلك رأى ما يُوقِنُ مَعَهُ بِأمْرِ القِيامة والبعْثِ، فَعَلِمَ ذلك بقلبه وشاهده بِبَصَرِه، فذلك تَقَلبُ القلوب والأبْصَار. * * * وقوله: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) والقيعة جمع قاعٍ، مثل جَارٍ وَجِيرَةٍ، والقيعة والقاع ما انبسط من الأرْض ولم يكن فيه نبات، فالذي يسير فيه يَرَى كأن فيه ماءً يَجْرِي. وذَلِكَ هُوَ السَّرابُ، والآل مثلُ السرابِ إلا أنه يرتفع وقت الضحَى كالماء بين السماء والأرْضَ. (يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً). يجوز يَحْسِبُه وَيَحْسَبُه، ويجوز الظَّمآن والظَّمانُ، على تخفيف الهَمْزَةِ. وهُوَ الشديدُ العَطَشِ يقال ظمئ الرجل يظمأ ظمأً فَهُو ظمآنُ، مثل عَطِشَ يَعْطَشُ عطشاً فَهُوَ عطشانُ. وقوله: (حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا). أي حتى إذا جاء إلى السراب وإلى موضعه رأى أرضاً لا ماء فيها. فأَعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أن الكافر يظن عَمَلَه قد نفعه عند اللَّه، ظَنه كَظَنِّ الذي يظن أن السرابَ ماء، وأن عمله قَدْ حَبِط وذَهبَ. وضرب الله هذا المثلَ لِلكَافِر فقال: إن أعمال الكفار كهذا السرابِ. (أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)

(41)

لأنه عزَّ وَجل وصف نوره الذي هو للمؤمنين، وأعلم أن قلوب المؤمنين وأعمالهم بمنزلة النورِ الَّذي وصَفَهُ، وأنهم يجدونه عند اللَّه يجازيهم عليه بالجنة، وأن أعمال الكافرين وإن مثلت بما يوجَدُ فمثله كمثل السرابِ، وإنْ مثلت بِمَا يُرَى فهي كهذه الظلمات التي وَصَفَ في قوله: (أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ) الآية. وقوله: (إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا). معناه لم يرها ولم يكد، وَقَالَ بَعضُهُم يراها من بَعْدِ أن كانَ لا يَراهَا من شِدةِ الظلمة، والقولُ الأولُ أَشْبَهُ بهذَا المعنى، لأِن في دُونِ هذه الظُّلُمَاتِ لا يُرَى الكف. وقوله: (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ). أي من لم يهده اللَّه إلى الإسلام لم يَهْتَدِ (1). * * * وقوله: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41) ويجوز " والطيرَ " على معنى: " يسبح له الخلق مَعَ الطيْرِ " ولم يُقْرأْ بها. وقوله: (كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ). معاه كل قد علم اللَّهُ صَلاتَه وتسبيحَه، والصلاة للناس، والتسبيح لغير الناس، ويجوز أن يكون (كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) كل شيء قد علم

_ (1) قال السَّمين في سورة البقرة: قوله تعالى: {يَكَادُ البرق يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ}: «يكادُ» مضارع كَادَ، وهي لمقاربةِ الفعل، تعملُ عمل «كانَ»، إلاَّ أنَّ خَبَرها لا يكونُ إلا مضارعاً، وشَذَّ مجيئُه اسماً صريحاً، قال: 241 فَأُبْتُ إلى فَهْمٍ وما كِدْتُ آيباً. . . وكم مثلِها فارَقْتُها وهي تَصْفِرُ والأكثرُ في خبرِها تجرُّدُهُ من «أنْ» عَكَسَ «عسى»، وقد شَذَّ اقترانُهُ بها، وقال رؤبة: 242 قد كادَ مِنْ طولِ البلى أن يَمْحَصا. . . لأنها لمقاربةِ الفعلِ، و «أَنْ» تُخَلِّصُ للاستقبال، فَتَنَافَا. واعلم أنَّ خَبَرَها إذا كانَتْ هي مثبتةً- منفيٌّ في المعنى لأنها للمقاربة، فإذا قلت: «كاد زيدٌ يفعلُ» كان معناه قارَبَ الفعلَ، إلا أنه لم يَفْعَل، فإذا نُفِيَتْ انتفَى خبرُها بطريقِ الأَوْلى، لأنه إذا انْتَفَتْ مقاربةُ الفعل/ انتفى هو من باب أَوْلَى ولهذا كانَ قَولُه تعالى: {لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور: 40] أبلغَ مِنْ أَنْ لو قيل: لم يَرَها، لأنه لم يقارِبِ الرؤيةَ فكيف له بها؟ وزعم جماعةٌ منهم ابن جني وأبو البقاء وابنُ عطية أنَّ نفيَها إثباتُ وإثباتَها نفيٌ، حتى أَلْغَزَ بعضُهم فيها فقال: 243 أَنَحْوِيَّ هذا العصرِ ما هي لفظةٌ. . . جَرَتْ في لِسانَيْ جُرْهُمٍ وَثَمُودِ إذا نُفِيَتْ - والله أعلمُ - أُثْبِتَتْ. . . وإِنْ أُثْبِتَتْ قامَتْ مَقَامَ جُحُودِ وَحَكَوْا عن ذي الرمة أنه لمَّا أَنْشَدَ قولَه: 244 إذا غَيَّر النأيُ المحِبِّينَ لم يَكَدْ. . . رسيسُ الهوى من حُبِّ مَيَّةَ يَبْرَحُ عِيْبَ عليه لأنه قال: لَمْ يَكَدْ يَبْرَحُ فيكون قد بَرِحَ، فغيَّره إلى قوله: «لم يَزَلْ» أو ما هو بمعناه، والذي غَرَّ هؤلاء قولُهُ تعالى: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ} [البقرة: 71] قالوا: فهي هنا منفيَّةٌ وخبرُها مُثْبَتٌ في المعنى، لأن الذبْحَ وقع لقوله: «فَذَبَحُوها». والجوابُ عن هذهِ الآية من وَجْهَين، أحدُهما: أنه يُحْمَلُ على اختلافِ وَقْتَيْنِ، أي: ذَبَحوها في وقتٍ، وما كادوا يفعلونَ في وقتٍ آخرَ، والثاني: أنه عَبَّر بنفيِ مقاربةِ الفعل عن شدَّةِ تعنُّتِهِمْ وعُسْرِهِم في الفعلِ. وأمَّا ما حَكَوْهُ عن ذي الرُّمَّة فقد غلَّط الجمهورُ ذا الرُّمة في رجوعِهِ عن قولِهِ، وقالوا: هو أَبْلَغُ وأحسنُ مِمَّا غَيَّره إليه. واعلم أَنَّ خَبَرَ «كاد» وأخواتِها غيرَ عسى لا يكون فاعلُه إلا ضميراً عائداً على اسمها، لأنها للمقارَبَةِ أو للشروع بخلافِ عسى، فإنها للترجِّي، تقول: «عسى زيدٌ أن يقومَ أبوه»، ولا يجوز ذلك في غيرها، فأمَّا قولُه: 245 وَقَفْتُ على رَبْعٍ لِميَّةَ ناقتي. . . فما زِلْتُ أبكي عندَهُ وأُخَاطِبُهْ وَأَسْقِيهِ حتى كَادَ مِمَّا أَبُثُّه. . . تُكَلِّمُنِي أَحْجَارُه ومَلاعِبُهْ فأتى بالفاعلِ ظاهراً فقد حَمَلَه بعضُهم على الشذوذِ، وينبغي أن يُقال: إنما جاز ذلك لأن الأحجارَ والملاعب هي عبارةٌ عن الرَّبْع، فهي هو، فكأنه قيل: حتى كاد يكلِّمني، ولكنه عَبَّر عنه بمجموع أجزائه، وقولُ الأخر: 246 وقد جَعَلْتُ إذا ما قُمْتُ يُثْقِلُني. . . ثَوْبي فَأَنْهَضُ نَهْضَ الشاربِ السَّكِرِ وكنتُ أمشي على رِجْلَيْنِ مُعْتَدِلاً. . . فَصِرْتُ أمشي على أخرى من الشجر فأتى بفاعل [خبر] جَعل ظاهراً، فقد أُجيب عنه بوجهين: أحدُهما: أنه على حَذْفِ مضافٍ تقديره: وقد جَعَل ثوبي إذا ما قمت يُثْقلني. والثاني: أنه من باب إقامةِ السببِ مُقامَ المُسَبَّبِ، فإنَّ نهوضَه كذا متسبِّبٌ عن إثقالِ ثوبِه إياه، والمعنى: وقد جَعَلْتُ أَنْهَضُ نَهْضَ الشارب الثملِ لإِثقالِ ثوبي إياي. ووزن كاد كَودِ بكسر العين، وهي من ذواتِ الواو، كخاف يَخاف، وفيها لغةٌ أخرى: فتحُ عينها، فعلى هذه اللغةِ تُضَمُّ فاؤُها إذا أُسْنِدَتْ إلى تاء المتكلم وأخواتِها، فتقولُ: كُدْت وكُدْنا مثل: قُلْت وقُلْنا، وقد تُنْقَلُ كسرةُ عينها إلى فائِها مع الإِسناد إلى ظاهر، كقوله: 247 وكِيدَ ضِباعُ القُفِّ يأكُلْنَ جُثَّتي. . . وكِيدِ خِراشٌ عند ذلك يَيْتَمُ ولا يجوز زيادتُها خلافاً للأخفشِ، وسيأتي هذا كلُه في «كاد» الناقصة، أمَّا «كاد» التامة بمعنى مَكَر فإنها فَعَل بفتح العين من ذواتِ الياء، بدليل قوله: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْداً} [الطارق: 15 - 16]. اهـ وقال في سورة النور ما نصه: وقد تقدَّم الكلامُ في «كاد»، وأن بعضَهم زَعَم أنَّ نَفْيَها إثباتٌ وإثباتَها نفيٌ. وتَقَدَّمَتْ أدلةُ ذلك في البقرة فَأَغْنى عن إعادتِه. وقال الزمخشري هنا: «لم يَكْدَ يَراها مبالغةٌ في لم يرها أي: لم يَقْرُبُ أَنْ يَراها فضلاً أنْ يَراها. ومنه قولُ ذي الرمة: إذا غَيَّر النَّأْيُ المُحِبِّيْنَ لم يَكَدْ. . . رَسِيْسُ الهوى مِنْ حُبِّ مَيَّةَ يَبْرَحُ أي: لم يَقْرُبْ مِنْ البَراح فما بالُه يَبْرَحُ». وقال أبوة البقاء: «أختلف الناسُ في تأويلِ هذا الكلامِ. ومَنْشَأُ الاختلافِ فيه: أنَّ موضوعَ» كاد «إذا نُفِيَتْ: وقوعُ الفعلِ. وأكثرُ المفسِّرين على أن المعنى: أنَّه لا يرى يدَه، فعلى هذا: في التقديرِ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنَّ التقديرَ: لم يَرَها ولم يَكَدْ، ذَكرَه جماعةٌ من النحويين. وهذا خطأٌ؛ لأنَّ قولَه» لم يَرَها «جزمٌ بنفيِ الرؤيةِ وقوله:» لم يَكَدْ «إذا أخرجها على مقتضى البابِ كان التقديرُ: ولم يكَدْ يَراها كما هو مُصَرَّحٌ به في الآية. فإنْ أراد هذا القائلُ أنَّه لم يَكَدْ يراها، وأنه رآها بعد جُهْدٍ، تناقَضَ؛ لأنه نفى الرؤية ثم أَثْبَتها، وإنْ كان معنى» لم يكَدْ يَراها «: لم يَرَها ألبتَّةََ على خلافِ الأكثرِ في هذا الباب، فينبغي أَنْ يُحْمَلَ عليه مِنْ غير أَنْ يُقَدِّرَ لم يَرَها. والوجه الثاني: أنَّ» كاد «زائدةٌ وهو بعيدٌ. والثالث: أنَّ» كاد «أُخْرِجَتْ ههنا على معنى» قارب «والمعنى: لم يقارِبْ رؤيتَها، وإذا لم يقارِبْها باعَدَها. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(43)

صلاة نفسه وتسبيحَهَا، ويجوز أن يكون كل إنسان قَدْ عَلِمَ صلاة الله، وكل شيء قد علم تسبيح اللَّه. والأجود أن يكون كل قد علم اللَّه صلاته وتسبيحه. ودليل ذلك قوله - (واللَّهُ عَليم بِمَا يَفْعَلُونَ). * * * وقوله: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43) معنى: (يُزْجِي) يَسُوقُ، (ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ) أي يجعل القطع المُتَفَرِّقَةَ مِنَ السحَابِ قطعةً وَاحِدةً (ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا)، أي يجعل بَعْضَ السحاب يركب بعضاً. (فَتَرَى الوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِه). الودْقُ المطرُ، ويقرأ من خَلَلِه، وخِلَالِه أَعم وأجوَدُ في القراءة، وخِلَال جمع خَلَلٍ وخِلَال، مثل جَبَل وجِبَالٍ، ويجوز أن يكون السحاب جمع سحابة ويكون " بينَه " أي بينَ جميعه، ويجوز أن يكون السحاب وَاحِداً إلا أنه قال بينه لكثرته، ولا يجوز أن تقول جلست بين زَيْدٍ حتى تقول وعَمْرٍو. وتقول ما زلت أدور بين الكوفة، لأن الكوفة اسم يتضمَّن أَمْكِنَةً كثيرة، فكأنك تقول ما زلت أدور بين طرق الكوفة. وقوله تعالى: (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ). ويجوز وُينْزِل بالتخفيف، ومعنى (مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ) مِن جِبَالِ بَرَدٍ فيها كما تقول هذا خاتم في يدي مِنْ حَدِيد. المعنى هذا خاتَم حَديدٍ في يَدِي. ويجوز - واللَّه أعلم - أن يكون معنى " مِن جِبَال " مِنْ مِقْدار جِبَال مِنْ بَرَدٍ كما تقول عِنْدَ فُلَانٍ جِبَالُ مَال تريد مقدار جبال مِنْ كَثْرَتِه. قوله: (يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ).

(45)

وقرأ أبو جعفر المدني: يُذْهِبُ بالأبْصَارَ، ولم يقرأ بها غيرُه، ووجهها في العربيَّةِ ضعيف، لأن كلام العَرَبِ: ذَهَبْتُ بِهِ وَأَذْهَبْتُه. وتلك جائزة أيضاً - أعني الضم في الياءِ في يُذْهِبُ. ومعنى (سَنَا بَرْقِهِ) ضَوء بَرْقِه، وقرئت (سَنَا بُرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ) على جَمْعِ بُرْقَةٍ وبُرْقٍ، والفرق بين بُرْقِهِ - بالضمِ - وبَرْقِهِ بالفتح أن البرق المقدارُ من البرق، والبرقَةُ أن يبرق الشيء مَرةً واحِدةً، كما تقول: غَرفْتُ غَرفَةً وَاحِدةً تريد مَرة وَاحِدةً. والغَرْفَةُ مقدار ما يُغْرَفُ، وكذَلِكَ اللَّقمة واللُّقْمَة. * * * وقوله تعالى: (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45) (وَاللَّهُ خَالِقُ كُلِّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ) ويقرأ، (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ)، فَدَابَّة اسم لكل حيوان مُمَيَنر وغيره: فلما كان لما يعقل ولما لَا يعقِلُ قال (فمنهم)، ولوكان لما لَا يَعْقِل لقيلَ فمنها أو مِنْهُنَّ. ثم قال: (مَنْ يَمْشي عَلَى بَطْنِه). فقال (مَنْ) - وأصل مَنْ لِمَا يَعْقِل -، لأنه لَمَّا خلَط الجماعةَ فقيل فمنهم جعلت العِبَارَةُ بِمَنْ، وقيل يمشي على بطنه، لأن كل سائر كان له رِجْلان أو أربع أوْ لَمْ تكن له قَوائِم، يقال له ماش وقَدْ مَشَى، ويقال لكل مُسْتَمِر مَاشٍ، وإن لم يكن من الحيوان حَتى يقال قد مشى. هذا الأمْرِ. (مِنْ مَاءٍ)، وإِنَما قيل من ماء كما قال اللَّه سبحانه: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ). وقوله جلَّ وعلا: (وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) جاء في التفسير " مُسْرِعين "، والِإذْعَان في اللغةِ الإسْراعُ مَعَ الطاعَة. تقول: قَدْ أذْعَنَ لي بِحَقِي، معناه قَدْ طَاوَعَنِي لِمَا كُنْتُ أَلْتَمِسُه مِنه، وصارَ يُسْرِعُ إليْه.

(53)

وقوله: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53) (قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ). تأويلُهُ طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ أمثلُ مِنْ قَسَمِكُمْ لِمَا لَا تَصْدُقُونَ فِيهِ. والخبر مُضْمَر،. وهَوُ " أَمْثَلُ " - وَحُذِفَ لأن في الكلام دَلِيلاً عليه، لأنه قال: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ). واللَّه عزَّ وجلَّ وراء مَا فِي قلوبِهِم فقال: (قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ). ويجوز: طاعةً معروفةً على مَعْنى أطِيعوا طَاعةً مَعروفَةً، لأنهم أقسَموا إن أمِروا أنْ يُطيعُوا فقيل أطيعوا طاعةً معروفةً، وَلَا أعْلَمُ أحَداً قَرأ بها، فإنْ لَم ترْوَ فلا تقْرا بها، وهذا يُعْنَى به المنافقونَ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55) (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ) وإنما جاءت اللام لأن " وَعَدْته بِكَذَا أَو كَذَا " و " وَعَدْتُه لأكْرِمَنَّه بمنزلة قُلْت لأن الوَعْدَ لا ينعقِدُ إلا بقول. ومعنى (لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ) أي ليجعلنَّهم يخلفون مَنْ بَعْدَهم من المؤمنين فَاستخلَفَ الذّين من قبلِهِمْ. وقرئِت (كما اسْتُخْلِفَ الذين مِنْ قَبلِهِم). (وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ). يعني به الإسلام. (وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا) وقرئت (وَلْيُبْدِلَنَّهُمْ). وقوله: (يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا) يجوز أن يكن مستأنفاً، ويجوز أن يكون في موضع الحال، على معنى وعد اللَّهُ المؤمنين في حالِ عبادتهم وإخلاصهم لِلَّهِ - عزَّ جل - ليفعَلَنَّ بهم. وَيجُوز أَنْ يكونَ اسْتِئنَافاً على طريق الثناء عليهم وَتَثْبيتاً كأنَّه قال: يَعْبدُنِي المؤْمِنونَ لَا يُشركون بي شيئاً.

(57)

وقوله: (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57) القراءة بالتاء على معنى: لا تَحْسَبَنَّ يا مُحَمًد الكَافِرِينَ مُعْجِزينَ، أي قدرةُ اللَّهِ محيطة بِهِمْ وقرئت: لَا يُحْسَبَن عَلَى حَذْفِ المفعول الأول مِنْ يحسَبَن على معنى لا يَحْسَبَن الذين كفروا إياهم معجزين في الأرض، كما تَقُولُ زَيْد حَسِبهُ، فإنما تريد حَسِبَ نَفْسَه قَائِماً، وكأنه لا يَحْسَبَنَّ الذين كفروا أَنْفُسَهم مُعْجِزين، وهذا في بَابِ ظَنَنْتُ، تطرح فيه النفس يُقَالُ ظننتُنِي أَفْعَلُ، ولا يقال ظننت نفسي أفعلُ، وَلَا يَجُوُز ضَرَبْتُنِي، استُغْني عنها بِضَرَبتُ نَفْسِي. * * * وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) فأمر اللَّه عزَّ وجلَّ بالاستئذان في الأوقات التي يُتَخَفى فيها ويتكشفون، وَبيَّنَها فقال: (مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ). يعنى به العَتَمة عشاء الآخرة، فأعلم أنها عورات فقال (ثَلَاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ)، على معنى هي ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ، وقرئت " ثَلَاثَ عَوَرَاتٍ لَكُمْ " والإِسكان أكثر لثقل الحركة والواو. تقول طلحة وطَلَحات، وجمْرة وجمَرات. ويجوز في لوزة لَوَزَات بحركة الواو، والأجْوَدُ لَوْزَات، ويجوز ثَلاثَ عَوَراتٍ بالنصْبِ، على معنى ليستأذتوكم ثلاثَ عَوْرَاتٍ، أي في أَوْقَاتِ ثلاث عَوْراتٍ. وقوله: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ). أي ليس عليكم جناح ولا عليهم في أنْ لاَ يَسْتَأذِنُوا بعد أن يمضي كل وَقْتٍ من هذه.

(59)

وقوله تعالى: (طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ). على مَعنى هُم طَوافُونَ عَلَيْكُم. وقوله: (بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ) على معنى يَطُوف بَعْضُكُم على بعْض. * * * وقوله: (وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) فالبالغ يستأذن في كل الأوقات، والطفل والمملوكُ يستأذن في الثلاث العورات. * * * وقوله: (وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60) القواعد جمعِ قاعدة، وهي التي قعدت عن الزواج. (اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا) أي لاَ يُرِدْنهُ، ولا يَرْجُونَه، وقيل أيضاً اللاتي قَدْ قَعدْنَ عَنِ الحيض. (فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ). قال ابن مسعود: أن يضعن المِلْحَفَةَ والرِّدَاء. (وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ). أي أنْ لَا يضَعْن الرداء والملحفة خير لهن من أن يَضَعْنَه. * * * وقوله: (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61) الحرج في اللغة الضيق، ومَعْناهُ فِي الدِّين الإثمُ، وجاء في التفسير أن أهل المدينة قبل أن يُبعثَ النبي - صلى الله عليه وسلم - كانُوا لا يُؤَاكلونَ هؤلاءِ، فقيل إنهم كانوا يفعلون ذلك خوفاً من تمكن الأصحاء في الطعام، وقِلَّةِ تمكنِ هؤلاء، فقيل

لهم ليس في مُؤَاكَلِتِهْمْ حَرَج، وقيل إنهم كانوا يفعلون ذلك تقززاً، وقيل أيضاً إِنَّهُمْ كانوا إذا خرجوا مع رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - خَلَّفوا هؤلاء فكانوا يتحوبون أن يأكلوا مما يحفظونه فَأعْلِمو أَنه ليس عَلَيهم خنَاحٌ، وقيل أيضاً إنه كان قوم يَدْعونَهم إلى طعامِهِم فربما صاروا إلى منازلهم فلم يجدوا فيها طعاماً، فيمضون بهم إلي آبائهم. وجميع ما ذكروا جيِّدٌ بالغ إلا ما ذكروا من ترك المؤاكلة تَقَززاً، فإني لا أدري كيف هو. وقوله: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا). معنى (أَشْتَاتًا) متفرقين متَوَحِّدِين. ونصب " جميعاً " على الحال، ويروى أَن حَياً من العرب كان الرجل منهم لَا يَأْكل وحدَه، وهم حَيٌّ من كنانة، يمكث الرجل يَوْمَهُ فإن لم يجد مَنْ يؤاكله لم يأكل شيئاً، وربما كانت مَعَهُ الإبل الحُفَّل، وهي التي مِلْء أخلافها اللبَنُ فلا يَشْرَب من ألبانها حتى يَجِدَ من يُشَارِبُه، فأَعلم اللَّه عزَّ وجلَّ أَنَ الرجلَ منهم إن أكل وحده فلا إثم عليه. وقوله تعالى: (فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ). معناه فلْيُسَلِّمْ بَعْضكمْ عَلَى بَعض، فالسلام قد أمر الله به، وقيل أيضاً: إذَا دَخَلْتم بيوتاً وكانت خَالِية فَلْيَقلِ الداخِل: السلامُ علينا وعلى عباد اللَّهِ الصَّالِحِينَ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ).

(62)

مَعْنَاهُ النصْبُ على المصدَرِ، لأن قوله فَسَلَمُوا، معناه تَحَيوْا، ويحيي بعْضُكمْ بعْضاً، تَحِيَّةً من عند اللَّه. فأعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أن السلام مُبَارَك طَيِّب. * * * وقوله: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62) قال بعضهم كان ذلك في الجمعة، فهو - واللَّه أعلم - أن اللَّه عزَّ وَجَل أمر المؤمنين إذَا كانوا مع نبيِّه - صلى الله عليه وسلم - فيما يُحتاج فيه إلى الجماعة، نحو الحرب لِلْعَدو، أَوْ مَا يَحضرونه مما يُحْتَاجُ إلى الجمع فِيه، لم يذهبوا حَتى يستاأذِنُوه. وكذلك ينبغي أن يكونوا مَعَ أَئَمَّتِهِمْ لا يخالفونهم ولا يرجعون عنهم في جمع من جموعهم إلا بِإذْنِهِمْ، وللإمام أن يأذن، وله أن لا يأذَنَ، على قدر ما يرى من الحَظِّ فِي ذَلِكَ لقوله تعالى: (فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ). فجعل المشيئة إليْه فِي الإذْنِ. (وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ). أي اسْتَغْفِرْ لَهُمْ بِخُروجِهِمْ عن الجماعة إذا رأيت أنَّ لهم عُذْراً. * * * وقوله: (لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) أي لا تقولوا: يا محمد كما يَقُولُ أَحَدُكم لِصَاحِبِه، ولكن قولوا يا رسول الله ويا نبي اللَّهِ بتبجيل وَتَوْقِيرٍ وَخَفْض صَوْتٍ. أعلمهم اللَّه عزَّ وجلَّ فضل النبِي عليه السلام على سائر البريَّةْ في المخاطبة.

وقوله: (قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا). أُظْهِرَتِ الوَاوُ في (لِوَاذًا) على معنى لاَوَذْتُ لِوَاذاً، ومعنى لِوَاذاً ههنا الخلاف - أي، يُخَالِفُونَ خلافاً، ودليل ذلك قوله: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ). فأمَّا مَصْدَرُ لُذْتُ فقولك: لُذْتُ بِهِ لِيَاذاً.

سورة الفرقان

سورة الفرقان بِسْمِ اللَّهِ الرَّحمن الرَّحيم (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) (تَبَارَكَ) معناه تفاعل من البَرَكَةِ، كذلك يقول أهلُ اللغة، وكذلك رُوِيَ عن ابن عباس، ومعنى البركة الكثرة في كل ذي خيرٍ. والفرقانُ القرآن، يُسمى فرقاناً لأنه فُرِّقَ به بين الحق والبَاطِل. وقوله: (لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا). " النذير " المخوف من عذاب الله، وكل من خوَّفَ فقد أَنْذَرَ. قال الله - عز وَجَل - (فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14). * * * (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2) (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا). خلق الله الحيوان وقدر له ما يُصْلحه ويقيمُه، وقَدَّرَ جميع ذلك لخلقه بحكمة وتقديرٍ * * * وقوله تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4) " الِإفك " الكَذِبُ. (وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ). يعنونَ اليَهُودَ.

(5)

(فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا). والزُّورُ: الكَذبُ، ونصبُ (فَظُلْمًا وَزُورًا) على: فقد جاءوا بظلم وَزُورٍ، فَلَما سقطت الباء أفْضَى الفِعْلُ فَنَصَبَ. * * * (وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) خبر ابتداء محذوف، المعنى وقالوا: الذي كتابه أساطير الأولين. معناه مِما سَطَرَهُ الأولُونَ، وواحدُ الأساطير أُسْطُورَة، كما تقول أحْدُوثة وأَحَادِيث. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا). الأصيل العَشِيُّ. * * * وقوله: (وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) (ما) منفصِلة من اللام، المعنى أي شيء لهذَا الرسُول في حال أكله الطعَامَ وَمَشْيِهِ في الأسواق. التمسوا أن يكون الرسول على غير بِنْيَةِ الآدَمِيينَ. والواجب أن يكون الرسولُ إلى الآدَمِيينَ آدَمِيًّا ليكون أقرب إلى الفهم عنه. وقوله: (لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا). طلبوا أن يكون في النبوةِ شَرِكة، وأن يكون الشريك مَلَكاً، واللَّه عز وجل يقول: (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعْلَنَاهُ رَجُلًا) أي لم يكن لِيُفْهِمهم حَتى يكون رَجُلاً، وَمَعْنَى لَوْلَا: هَلَّا وتأويل هلَّا الاستفهامُ، وانتصبَ فيكونَ على الجواب بالفاء للاستفهام.

(8)

(أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8) (أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ) وإن شئت أو " يَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ "، ولا يجوز النَّصْبُ في (يكونَ له)، لأن يكون عطف على الاستفهام، المعنى: لولا أنزل إليه مَلك أو يُلْقَى إليه كَنْزٌ، أو تكون له جَنَّة، والجنة البستان فأعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أنه لو شاء ذلك وخيراً منه لَفَعَلَه، فقال: (تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا (10) أي لو شاء لفعل أكثر مِمَّا قَالُوا، وقد عرض اللَّه - عزَّ وجلَّ - على النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر الدنيا فَزَهِدَ وآثَرَ أَمْر الآخِرَةِ. فَأما " يَجْعَلْ " فبالجزم، المعنى إن يشأ يَجْعَلْ لَكَ جَنَّاتٍ، ويجْعَلْ لك قُصُوراً ومن رفع فعلى الاستئناف، المعنى وسَيَجْعَلُ لَكَ قُصُوراً، أي سيعطيك اللَّه في الآخرةِ أكْثَرَ مِمَّا قالوا. وقوله: (أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلْ مِنْهَا) و (يَأْكُلُ مِنْهَا). * * * وقوله: (إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12) أي سمعوا لها غليان تَغيظٍ. * * * وقوله: (وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13) (دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا). في معنى " هلاكاً " ونصبه على المصدر كأنهم قالوا ثُبِرْنا ثبوراً. * * * (لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14) أي هلاككم أكثر من أن تدعوا مَرةً واحِدَةً. وقيل، ثُبُورًا كَثِيرًا، لأن ثبوراً مصدرٌ فهو للقليل والكثير على لفظ الوَاحِدِ، كما تَقُولُ: ضربته ضَرْباً

(15)

كثيراً، وَضَرَبتُه واحِداً، تريد ضربته ضرباً وَاحِداً. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15) إنْ قَالَ قَائِل: كيف يقال: الجنَّة خير من النَّارِ، وليسَ في النَّارِ خير ألبتَّةَ، وإنما يقع التفضيل فيما دخل في صنف وَاحدٍ؟ فالجنة والنار قَدْ دُخَلَا في بَابِ المنازِلَِ في صنف واحِدٍ، فلذلك قيل (أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ)، كما قال اللَّه عزَّ وجلَّ: (خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا). * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا (16) مَسْؤولُ ذَلك قول الملائكة (رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ). * * * وقوله: (قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18) لما سُئِلَتْ المَلائكةُ فَقِيلَ: (أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ). وجائز أن يكونَ الخِطَابُ لِعِيسَى والعُزَيْرِ. وقرأ أبو جَعْفَر المدني وَحْدَهُ: ((قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ [نُتَّخَذَ] مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ)، بِضَم النُّونِ على ما لم يسَمَّ فاعلُه وهذه القراءة عند أكثر النحويين خَطأ (1)، وإنما كانت خطأ لأن " مِنْ " إنَّما يدخل في هذا الباب في الأسماء إذا كانت مَفْعُولَة أولاً، ولا تَدْخُل على مفعول الحال، تقول ما اتخذت مِن أَحَدٍ وَليًّا، ولا يجوز ما اتخذت أَحَداً مِنْ وَليٍّ، لأن " مِن " إِنَّمَا دخلت لأنها تنفي واحداً في معنى

_ (1) قال السَّمين: قوله: {أَن نَّتَّخِذَ} فاعلُ «ينبغي» أو مفعولٌ قائمٌ مقامَ الفاعلِ في قراءةِ الأسود. وقرأ العامَّةُ «نَتَّخِذَ» مبنياً للفاعل. و «من أولياء» مفعولُه، وزِيْدَتْ فيه «مِنْ». ويجوز أن يكونَ مفعولاً أولَ على أنَّ «اتَّخَذَ» متعديةٌ لاثنين، ويجوز أَنْ لا تكون المتعديةَ لاثنين بل لواحدٍ، فعلى هذا «مِنْ دونِك» متعلِّقٌ بالاتِّخاذ، أو بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ مِنْ «أولياء». وقرأ أبو الدَّرْداء وزيد بن ثابت وأبو رجاء والحسن وأبو جعفر في آخرين «نُتَّخَذَ» مبنيَّاً للمفعول. وفيه أوجهٌ، أحدُها: أنَّها المتعديةُ لاثنينِ، والأولُ همز ضمير المتكلمين. والثاني: قولُه: «مِنْ أولياء» و «مِنْ» للتبعيضِ أي: ما كان ينبغي أَنْ نَتَّخِذَ بعضَ أولياء، قاله الزمخشري. الثاني: أنَّ «مِنْ أولياء» هو المفعولُ الثاني ايضاً، إلاَّ أنَّ «مِنْ» مزيدةٌ في المفعولِ الثاني. وهذا مردودٌ: بأنَّ «مِنْ» لا تُزاد في المفعول الثاني، إنما تُزاد في الأولِ. قال ابن عطية: «ويُضْعِفُ هذه القراءةَ دخولُ» مِنْ «في قوله:» مِنْ أولياء «. اعتَرَض بذلك سعيدُ بن جبير وغيرُه». الثالث: أَنْ يكونَ «مِنْ أولياء» في موضعِ الحالِ. قاله ابن جني إلاَّ أنه قال: «ودَخَلَتْ» مِنْ «زيادةً لمكانِ النفيِ المتقدم، كقولك: ما اتَّخذت زيداً مِنْ وكيل». قلت: فظاهرُ هذا أنه جَعَلَ الجارَّ والمجرورَ في موضعِ الحالِ، وحينئذٍ يَسْتحيلُ أَنْ تكونَ «مِنْ» مزيدةً، ولكنه يريدُ أنَّ هذا المجرورَ هو الحالُ نفسُه و «مِنْ» مزيدةٌ فيه، إلاَّ أنه لا تُحفظ زيادةُ «مِنْ» في الحالِ وإنْ كانَتْ منفيةً، وإنما حُفِظ زيادةُ الباءِ فيها على خلافٍ في ذلك. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(19)

جميع، تقول: - ما مِنْ أحَدٍ قَائماَ، وما من رَجُل مُحِبًّا لما يَضَره. ولا يجوز " ما رجل من مُحِبٍّ مَا يَضُره ". ولا وجه لهذه القِرَاءَةِ، إلا أَنَ الفرَّاء أجازها على ضَعْفٍ، وزعم أنه يجعل مِنْ أَوْلياءَ هو الاسم، ويجعل الخبر ما في تتخَذَ كَأنه يُجْعَلُ على القلب، ولا وجه عندنا لهذا ألبتَّةَ، لو جَاز هذا لجَازَ في (فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ) ما أحَد عَنْه مِنْ حَاجِزينَ. وهذا خطأ لا وَجْهَ له فاعْرِفه، فإن مَعْرِفَةَ الخطأ فيه أَمْثل من القراءة، والقُراءُ كلهم يُخَالفون هذا منه. ومن الغلط في قراءة الحسن: (وَما تَنَزَلَتْ بِهِ الشَيَاطُونَ). * * * وقوله تعالى: (وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا). قيل في التفسير " هَلْكَى " والبائِر في اللغة الفَاسِدُ، والذي لا خير فيه. وكذلك أرض بائرة متروكة من أن يزرع فيها. * * * وقوله تعالى: (فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19) (بِمَا تَقُولُونَ) وتقرأ (بِمَا يَقُولُونَ - بالياء والتاء - فمن قرأ بما تَقُولُونَ - بالتَاءِ - فالمعنى فقد كَذَبُوكُم بقولهم إنهم آلهة، ومن قرأ بالياء فالمعنى فقد كذَّبُوكُمْ بقولهم: (سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونكَ مِنْ أَوْليَاءَ). * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا). أي ما تستطيعون أَنْ تَصْرِفُوا عن أَنْفُسِهم ما يحل بهم من العذاب. ولا أن ينصروا أَنْفُسَهُمْ.

(20)

وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20) هذا احتجاج عليهم في قولهم: (مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ). فقيل لهم: كذلك كان مَنْ خَلَا من الرسل يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، فكيف يكون محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - بدعاً من الرسُل. فأمَّا دخول " إِنَّهُمْ " بعد " إلا " فهو على تَأوِيلِ ما أَرْسَلْنَا رُسلاً إلا همْ يأكلون الطعام، وإلا أنهم لَيَأكلون الطعام، وحذِفَتْ زسًلاً لأن " من " في قوله تعالى (مِنَ الْمُرْسَلِينَ) دليل على ما حذف منه، فأمَّا مثل اللامِ بعد " إلَّا " فَقَولُ الشَاعِر: ما أَنطياني ولاَ سَاَلْتُهمَا. . . إلا وإني لَحاجز كرمي يريد أعطياني، وزعم بعض النحويين أن " مَنْ " بعد إلا مَحْذُوفَة، كان المعنى عِنْدَه إلا " مَنْ " ليأكلون الطعام. وهذا خطأ بيَّنَ، لأنَّ " مَن " صِلَتها " أَنَّهم ليأكون "، فلا يجوز حذف الموصول وتبقيةُ الصلَةِ (1). * * * وقوله: (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً). فيه قولان: قيل كان الرجل الشريف ربمَا أراد الإسلام فعلم أن مَنْ دُونَه فِي الشَرَفِ قد أسْلم قبلَه فيمتنع من الإسلام لئلا يقال أسلم قبله من هو دونَهُ، وقيل كان الفقير يقول: لِمَ لَمْ أُجْعَلْ بِمَنْزِلَةِ الغَنِيِّ، ويقول ذو البلاء: لِمَ لَمْ أُجعل بمنزلة المُعَافى، نحو الأعمى والزَّمِن ومن أشبه هُؤلاءِ. وقوله تعالى: (أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا).

_ (1) قال السَّمين: قوله: {إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ}: في هذه الجملةِ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنَّها في محلِّ نصبٍ صفةً لمفعولٍ محذوفٍ، فقدِّره الزمخشريُّ تابعاً للزجَّاج: «وما أَرْسَلْنا قبلَك أحداً من المرسلين إلاَّ آكلين وماشِين» وإنما حُذِف لمكانِ الجارِّ بعدَه. وقَدَّره ابنُ عطية: «رجالاً أو رُسُلاً». والضميرُ في «إنهم» وما بعدَه عائدٌ على هذا الموصوفِ المحذوفِ. والثاني: أنه لا محلَّ لها من الإِعرابِ، وإنما هي صلةٌ لموصولٍ محذوفٍ هو المفعولُ لأَرْسَلْنا، تقديرُه: إلاَّ مَنْ إنهم، فالضميرُ في «إنهم» وما بعدَه عائدٌ على معنى «مَنْ» المقدرةِ، وإليه ذهب الفراء. وهو مردودٌ: بأنَّ حَذْفَ الموصولِ لا يجوزُ إلاَّ في مواضعَ تَقَدَّم التنبيهُ عليها في البقرةِ. الثالث: أنَّ الجملةَ محلُّها النصبُ على الحالِ. وإليه ذهب أبو بكر بن الأنباري. قال: التقديرُ: إلاَّ وإنهم، يعني أنَّها حاليةٌ، فقدَّر معها الواوَ بياناً للحالية. ورُدَّ: بكونِ ما بعدَ «إلاَّ» صفةً لِما قبلَها. وقدَّره أبو البقاء أيضاً. والعامَّةُ على كسرِ «إنَّ» لوجودِ اللامِ في خبرِها، ولكونِ الجملةِ حالاً على الراجحِ. قال أبو البقاء: «وقيل: لو لم تكنِ اللامُ لكُسِرَتْ أيضاً؛ لأنَّ الجملةَ حاليةٌ، إذ المعنى: إلاَّ وهم [يأْكلون»]. وقُرِىء «أنهم» بالفتح على زيادةِ اللامِ، و «أَنْ» مصدريةٌ. التقدير: إلاَّ لأنَّهم. أي: ما جَعَلْناهم رسلاً إلى الناسِ إلاَّ لكونِهم مِثْلَهم. وقرأ العامَّةُ «يَمْشُوْن» خفيفةً. وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب وعبد الله «يُمَشَّوْن» مشدَّداً مبنياً للمفعولِ. أي: تُمَشِّيهم حوائجُهم أو الناسُ. وقرأ [أبو] عبد الرحمن «يُمَشُّون» بالتشديدِ مبنياً للفاعل، وهي بمعنى «يَمْشُون». قال الشاعر: 3479 ومشى بأعطانِ المَبَأءَةِ وابتغى. . . قلائِصَ مِنْها صَعْبَةٌ ورَكُوْبُ قال الزمخشري: «ولو قُرِىء» يُمَشُّون «لكان أوجهَ، لولا الروايةُ» يعني بالتشديد. قلت: قد قرأ بها السُّلَمِيُّ ولله الحمد. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(21)

أي أتصبرون على البلاء فقد عُرفْتُمْ مَا وُعِدَ الصابرون. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21) معنى " لولا " هَلَّا. (أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا). فأَعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أنَّ الذين لا يوقنون بالبعث، ولا يرجون الثواب على الأعمال عند لقاء الله طلبوا من الآيات ما لم يأت أمةً من الأمَمِ. فأعلم الله عزَّ وجلَّ أنهم قد استكبروا في أنفُسِهم وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا، ويجوز عتواً كثيراً بالثاء، والعتو في اللغة المجاوزة في القدر في الظلْمِ. وأعلم الله - عزَّ وجلَّ - أن الوقت الذي يَرَوْنَ فيه الملائكة هو يوم القيامَةِ، وأن الله قد حرمهم البُشْرى في ذلك الوقت فقال: (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22) (يَوْمَ يَرَوْنَ) مَنْصُوبٌ على وَجْهَيْن: أحدهما على معنى لا بُشْرى تكون للمجرمين يوم يَرَوْنِ الملائكة. وَ " يَومَئِذٍ " هو مؤكد " لِيَوْمَ يَرَوْنَ المَلَائِكَةِ "، ولا يجوز أن يكون مَنْصُوباً بقوله " لاَ بُشْرى " لأن ما اتصل بلا لا يَعْمَلُ فيما قَبْلَهَا. ولكن لَمَّا قيل لاَ بُشْرى للمُجْرِمين بُيِّنَ في أي يوم ذَلِكَ، فكأنه قيلَ يجمعون البشرى يوم يرون الملائكةَ، وهو يوم القيامة. (وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا). وقرئت " حُجراً " بضم الحاء " والمعنى وتقول الملائكة حِجْرًا مَحْجُورًا. أي حراماً مُحَرماً عَلَيْهم البُشْرى، وأصل الحجر في اللغة ما حَجَرْتَ عليه أي ما مَنَعْتَ من أن يوصل إليه، وكل ما منعت منه فقد حَجَرت عليه، وكذلك حَجَر القُضَاةُ على الأيْتَام إنما هو مَنعُ إياهُمْ عن التصرف في أَمْوَالِهِمْ. وكذلك الحجرة التي ينزلها الناس هو ما حَوَّطوا عليه. ويجوز أنْ يَكُونَ " يومَ "

(23)

مَنْصُوباً على معنى اذْكرْ يَومَ يرونَ الملائكة. ثم أخبر فقال: (لَا بُشْرى يَوْمَئِذٍ للمُجْرِمينَ). والمجرمون الذين اجْتَرَمُوا الذُّنوبَ، وهم في هذا الموضع الذين اجترموا الكفر باللَّه عزَّ وجلَّ. * * * وقوله: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23) معنى قدمنا عمدنا وقصدنا كما تقول: قام فلان يشتم فلاناً، تريد قصد إلى شتم فُلانٍ، ولا تريد قام من القيام على الرجْلين. (فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا). " الهباء " ما يخرج من الكَوَّةِ مع ضوء الشمْسِ شبيهاً بالغبار. وتأويله أن اللَّه عزَّ وجلَّ أحبط أعمالهم حتى صارت بمنزلة الهباء المنثور. ثم أعلم اللَّه عزَّ وجلَّ فضل أهل الجنة على أهل النار فقال: (أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24) والمقيل المقامُ وَقْتَ القائِلة، وقيل هُوَ النَومُ نصفَ النهارِ، وجاء في التفسير أن أهل الجنَّةِ يصيرون إلى أهليهم في الجنةِ وقت نصف النَّهارِ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25) ويقرأ (تَشَّقَّقُ) بتشديد الشينِ والمعنى تَتَشقَّقُ. (وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا). جاء في التفسير أنه تتشقق سَماء سَماءً وتنزل الملائكة إلى الأرض وهو قوله (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا).

(26)

وقوله عزَّ وجلَّ: (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26) (الْحَقُّ) صفة للمُلْكِ، ومعناه أن الملك الذي هو الملك حقًّا هو ملك الرحمن يوم القيامة كما قال عزَّ وجلَّ: (لِمَنِ المُلْكُ اليَوَمْ) لأن الملكَ الزائل كأنَّه ليس بملك. ويجوز " الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ [الْحَقَّ] لِلرَّحْمَنِ " ولم يقرأ بها فلا تقرأنَّ بها، ويكون النصب عَلَى وجْهَيْن: أحدهما على معنى الملك يومئذ للرحمن أَحُق ذَلِكَ الْحَقِّ، وعلى أَعْني الحق. * * * وقوله تعالى: (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يروى أن عقبة بن أبي مُعَيْط هو الظالم ههنا، وأنه يأكل يَدَهُ ندما ثم يَعُودُ وأنه كان عزم على الإسلام فبلغ ذلك أُمَيَّةَ بن خَلَفٍ فقال له أُمَية: وَجْهي من وجهك حرام إنْ أَسْلَمْتَ، إنْ كَلَّمتُك أبداً، فامتنع أمية من الإسلام لقول أُمَيَّةَ فإذا كان يوم القيامَةِ أكل يَدَهُ نَدَماً وتمنى أن آمن واتخذ مع النبي عليه السلام طريقاً إلى الجَنةِ. وهو قوله: (يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي). وقد قيل أيضاً في (لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا)، أي لم أتخذ الشيطان خَلِيلًا، وتصديق هَذَا القول (وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا). ولا يمتنع أن يكون قبوله مِنْ أُميَّةَ من عمل الشيطانِ وأعوانه. ويجوز (اتَّخَذْتُ) بتبيين الذال، وبإدغامها في التاء، والإدْغَام أكثر وأَجْوَدُ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30)

(31)

جَعَلوه بِمَنزِلة الهُجْرِ. والهُجْرُ ما لا ينتفعُ به من القولِ، وكانوا يقولون إن النبي - صلى الله عليه وسلم - يَهْجُر، ويجوز أن يكون مَهْجُوراً متروكاً، أي جعلوه مَهْجُوراً لاَ يَسْتَمِعُونَه ولايتفهَّمُونَهُ. * * * (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31) (عَدُوًّا) لفظه لفظ وَاحِدٍ، ويجوز أن يكون في معنى الجماعة والوَاحِد كما قال (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ) فيجوز ُ أن يكون في معنى أعْدَاء، وقد جاء في التفسير أن عدو النبي - صلى الله عليه وسلم - أبُوجَهْل بن هشام. وقوله: (وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا). و (هَادِيًا وَنَصِيرًا) منصوبان على وجهين: أحدهما الحال، المعنى وكفى ربُّك في حال الهداية والنَصْرِ. والوجْهُ الثاني أن يكون منصوباً على التمييز على معنى كفى ربُّك من الهُدَاةِ والنُّصَّارِ. * * * وقوله تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32) معناه: هَلَّا نُزِلَ علَيْه القُرآنُ في وَقْتٍ واحِدٍ، وكان بَيْنَ أَولِ نُزُولِ القرآن وآخره عِشْرُونَ سَنَةً، فقالوا: لِمَ لَمْ ينزل جَمْلَةً وَاحِدَةً كما أُنْزِلَتِ التوراةُ: فأَعلم اللَّه عزَّ وجلَّ أَنَ إنْزَاله مُتَفَرقاً ليثْبتَ في قَلْبِ النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: (كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ) أي أَنْزَلنَاهُ كَذَلِكَ مُتَفَرقاً، لأن معنى قولهم: (لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً) يدل على معنى لِمَ نُزِلَ عَلَيْهِ القرآنُ مُتَفَرقاً فأعلموا لم ذلك، أي للتثْبيت. (وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا). أي نَزَلْناه على التَّرْتِيل، وهو ضِدُّ العَجَلَةِ، وهو التَمَكُّث. * * * وقوله: (وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33)

_ (1) الراجح أنه ثلاثٌ وعشرون سَنَة. والله أعلم.

(34)

معناه وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بالذي هو الحق وأحسن تفسيراً من مَثَلِهِمْ، إلا أَن " مِنْ " حُذِفَتْ لأن في الكلام دَلِيلاً عليها. لو قلْتَ: رَأَيت زَيداً وعَمْراً فكان عمرو أَحْسَنَ وَجْهاً، كان الكلام فيه دليل على أنك تريد: مِنْ زَيدٍ. * * * وقوله عَزَ وجَل: (الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا (34) (الذين) رَفْع بالابْتِدَاءِ، و (أولَئِكَ) رَفْعُ ابتداء ثَانٍ. و (شَرٌّ) خبر (أولَئِكَ)، و (أولَئِكَ) مع (شَرٌّ) خبر (الَّذِينَ). وجاء في التفسير أن الناسَ يُحْشَرُون يَوْمَ القِيَامَةِ على ثلاثَة أصنافٍ، صنفِ على الدوَاب وَصنْفٍ على أرْجُلِهم وصنفٍ عَلَى وُجُوهِهِمْ. قيل يا رسول اللَّه: كيف يمشون عَلَى وُجُوهِهِمْ. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي مشاهم على أقدامهم قادرٌ أَن يُمشِيَهُم عَلَى وُجُوهِهِمْ. * * * وقوله: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (35) الوزير في اللُّغَةِ الذي يُرْجَعُ إليه وُيتَحَصَّنُ برأْيِهِ، والوَزَرُ ما يلتجأ إليه ويُعْتَصَمُ بِهِ، ومنه قوله: (كَلا لا وَزَرَ) أي لاَ مَلْجَأ يومَ القيامَةِ ولا مَنْجا إلا لمن رحم اللَّه عزَّ وجلَّ. * * * وقوله: (فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (36) يعني به فِرعونُ وقومُه، والذين مُسِخوا قردةً وخنازير. * * * وقوله: (وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37) يدل هذا اللفظ أن قوم نوح قد كذبُوا غير نوح أَيْضاً لقوله (الرسُل). ويجوز أن يكون (الرُّسُل) يعنى به نوح وحدَهُ، لأن من كَذب بِنَبى فقد كذبَ

(38)

بجميع الأنْبياء، لأنة مخالف للأنبياء، لأن الأنبياء يؤمنون باللَّه وبجميع رُسُلِه. ويجوز أن يكون يُعْنَى بِهِ الواحدُ. ويُذَكرُ لَفظُ الجِنْسِ كما يقول الرجل للرجُلِ ينفق الدرْهَمَ الواحد أنت مِمن يُنْفِقُ الدرَاهِمَ، أي ممن نَفَقَتُه مِنْ هَذَا الجِنْس. وفلان يركبُ الدواب وإن لم يركب إلا واحِدةً. * * * وقوله: (وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38) قومَ نوح " مَنْصُوبون " على معنى - وأغرقنا قومَ نُوح، (وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ) نصب عطف على الهاء والميم، التي في قوله جعلناهمِ للناسِ آيَةً. ويجوز أن يكون معطوفاً على معنى (وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا) ويكونُ التأويل: وَعَدْنَا الظالمين بالعَذَابِ، ووعدنا عاداً وثمودا وَأَصحابَ الرسِّ. قال أبو إسحاق: والدليل على ذلك قوله: (وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا). والرسُ: بِثْر، َ يروى أَنَهُمْ قَوم كذبوا بِنبيهِمْ وَرَموهُ في بِئرٍ، أي دَسُّوه فيها. ويروى أن الرسَّ قرية باليمامة يقال لها مَلْح، ويروى أن الرسَّ ديار لطائفة من ثمود. وقوله: (وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا). يروى أن القرن مُدَّتُه سبعون سَنَةً. * * * وقوله: (وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (39) (كُلًّا) منصوب بفعل مضمر الذي ظهر تفسيره، المعنى وأنذرنا كُلًّا ضربنا له الأمثالَ. (وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا). التتبير التدمير والهلاك، وَكُل شيء كسَّرْتَهُ وَفَتَّتَّهُ فقد تَبَّرْتَهُ، ومن هذا

(40)

قيل لمكسَّر الزجاج التِبْرُ، وكذلك تبر الذهَبِ. * * * وقوله: (وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا (40) (أتَوْا) أي مشركو مَكَّة، يعنى بِهِ قرية قوم لوط التي أمر اللَّه عليها الحجارة، فأَعلم اللَّه عزَّ وجلَّ أن الذي جرأهم على التكذيب، وأنهم لم يبالوا بما شاهدوا من التعذيب في الدنْيا أنهم كانوا لا يصدقون بالبعث فقال: (أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا). قيل لَا يَخافون مَا وُعِدُوا بِهِ منَ العَذَاب بَعْدَ البَعْثِ. والذي عند أهل اللغة أن الرجَاء ليس على معنى الخوف، هذا مذهب من يرفع الأضداد، وهو عندي الحق، المعنى بل كانوا لا يرجون ثوابَ مَنْ عَمِل خيراً بعد البَعْثِ فركبوا المَعَاصِي. * * * وقوله: (وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41) المعنى يقولون: أهذا الذي بعث اللَّه إلينا رَسُولًا. * * * وقوله: (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43) يروى أن الواحِدَ مِنْ أَهْل الجَاهِلية كان يعبد الحجر، فإذا مرَّ بحَجرٍ أَحْسَن مِنْهُ ترك الأول وَعَبَدَ الثاني، وقيل أيضاً مَنِ اتَخَذ إِلهَه هَواهُ، أي أطاع هَواهُ وركبه فلم يُبَالِ عَاقِبةَ ذلك. وقوله: (أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا) أي حفيظاً. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44) معناه ما هم إلا كالأنعام في قلة التمييز فيما جُعِلَ دَلِيلًا لهم من الآيَاتِ والبرهان.

(45)

قال: (بَلْ هُمْ أَضَل سَبِيلاً). لأن: الأنعام تسبح بحمد الله وتسجُدُ له وهم كما قال اللَّه عزَّ وجلَّ: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً). * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45) الظل: من وقت طلوع الفجر إلى وقت طلوع الشمس. (وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنً)، أَي ثابتاً دائِماً لاَ يَزُول. (ثم جَعَلْنَا الشمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً). فالشمس دَليلُ عَلَى الظِّلِ، وهي تنسخ الظلَّ. * * * (ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46) قيل خَفِيًّا، وقيل سَهْلًا، ومعنى أَلَمْ تر، ألم تَعْلَم، وهذا من رؤية القلب. ويجوز أن يكون ههنا من رؤية العَيْن، ويكون المعنى: ألم تر كيف مَدَّ الظِلَّ رَبُّكَ! والأجْودُ أَنْ يَكُونَ بمعنى ألم تَعْلَمْ. * * * وقوله: (وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) فيها ستة أَوْجُهٍ، نَشْراً بفتح النون، ونُشْراً بِضَمهَا، وُنُشُراً بضَم النونِ والشِينِ، ويجوز بُشْرَى مؤنث بالباء على وزن فُعْلَى، وبُشْراً بالتنوين والباء. وبُشُراً بين يدي رَحْمِتِه، فهذه سِتًةُ أَوْجُهٍ منها أربعة يقرأ بها. فأمَّا نَشْراً فمعناه إحْيَاءٌ ينشر السحاب الذي به المطر، الذي فيه حياة كل شيءٍ. ومن قرأ نشُراً فهو جمعِ نُشُور ونُشُر مثل رسول وَرُسُل، ومن قرأ بالإسكان أسْكَنَ الشِينَ اسْتِخفَافاً، فهذه ثلاثة أوجه فِي النُّونِ. فأمَّا الباء فمن نَوَّنَ بالبَاءِ وَضَمِّها وَتَسْكِين الشِين، فإنما هو بِتَسْكين العَيْنِ من قولك بُشْراً، وإذا لم يُنَوِّنْها فألِفها

(49)

للتأنِيثِ. ومن قرأ بُشْراً بالتنوين فهو جمع: يقال: ريح بَشُورٌ، كما قال: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ) أي تبشر بالغَيْثِ. ومن قرأ بُشُراً - بِالضم " فهو على أصْلِ الجمع. ومن قرأ بُشْرَى بغير تنوين فهو بمعنى بشارة. * * * وقوله: (وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا). كل ماء نزل من السماء أو خرج من بحر أو أُذِيبَ مِنْ ثَلْج أو بَردٍ فهو طهور، قال عليه السلام في البحر: " هُو الطهُورُ مَاؤُه الحِلُّ مَيتَتُه ". * * * وقوله: (لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49) ولو كان ميتة لجاز وقيل: " مَيْتاً " ولفظ البلدة مؤنث، لأن معنى البلد والبلدة وَاحِد. وقوله: (وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا). أَنَاسِى جمع إنْسِى مِثْلُ كُرْسِي وكَرَاسِي ويجوز أن يَكُونَ جَمعَ إنْسَان وتكون الياء بَدَلاً من النون، الأصل أَنَاسِين بِالنُّون مثل سَرَاحِين. * * * وقوله: (وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (50) أَيْ صَرفنَا المطَر بَيْنَهمْ لَيَذكَروا، أَيْ لِيَتَفكَروا في نِعَمِ اللَّه عَلَيْهِمْ فيه. ويحْمَدُوهُ عَلَى دلِكَ. . (فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا). وهم الذين يقولون: مطِرْنَا بِنوءِ كَذَا، أي بسقوط كوكب كذا،، كما يَقُول المُنَجِّمونَ فجعلَهُم اللَّه بِذَلِكَ كَافِرينَ. * * * وقوله: (فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52)

(53)

ويجوز كَثِيراً، والقراءة بالباء، ومعنى (به) أي بِالحَق، أي بالقرآن الذي أنزل اليك وهُوَ الحق. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53) معنى مَرَجَ خَلَّى بَيْنَهُمَا، تقول: مَرَجْتُ الدابةَ وَأَمْرَجْتُها إذا خليتها تَرْعَى والمَرْجُ من هذا سُمِّيَ، ويقال مَرِجَتْ عُهُودُهُمْ وَأَمَانَاتُهُمْ إذَا اَخْتَلَطَتْ. يروى ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقوله: (هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ). فراتٌ: صفةٌ لِعَذْبٍ، والفرات أَشَدُّ المياه عُذْوبةً، والمعنى هَذَا عَذْبٌ أَشَدُّ الماء عُذُوبَة. (وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ). والأجَاجُ صفة لِلْمِلْح، المعنى وهذا ملح أَشَدُّ المُلُوحَةِ. (وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً). البرْزَخُ الحاجز فهما في مَرْأَى العين مُخْتلِطَان، وفي قدرة اللَّه - عز وجل - مُنْفَصِلاَنَ لا يختلط أَحَدُهُمَا بالآخرِ. * * * وقوله عزَّ وَجَل: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54) فالأصهار من النسب من يجوز لهم التزْوِيجُ، والنسَبُ الذي ليس يُصْهِر، من قوله: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ) إلى (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ). وقوله: (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55)

(59)

معنى الظَهِير: المُعينُ، لأنه يتابع الشيْطَانَ ويعاونه على مَعْصِية اللَّه، لأن عِبَادَتَهم للأصْنَامِ معاونة لِلشَيْطَانِ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59) (الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا). ويجوز " الرَّحْمَنِ فَاسْأَلْ "، فمن قال: (الرَّحْمَنُ) فهو رَفْع من جِهَتَيْن: إحْدَاهما عَلَى البَدَلِ مِما في قوله: (ثم استوى)، ثم بَينَ بقوله الرحْمَنُ. ويجوز أن يكون ابتداء و (فَاسْأَلْ به) الخبر. والمعنى فاسأل عنه خبيراً. ومن قالَ " الرحْمَنِ " فهو على معنى: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ (الرحْمَنِ). صفة للْحَيِّ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60) (تَأْمُرُنَا) وتقرأ (يأمرنا) (1)، والرحمن اسم من أسماء الله مذكور في الكُتُبِ الأوَلِ ولم يكونوا يعرفُونَهُ من أسماء اللَّه فقيل لهم إنَه من أسماء الله، (قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى). ومعناه عند أهل اللغة ذو الرحْمَة التي لا غاية بعدها في الرحْمَةِ، لأن فَعْلَانَ بِنَاءٌ مِنْ أَبْنِيَةِ المُبَالَغَةِ، تقول: رَجُلْ عَطشان وَرَيَّان إذا كان في النهايَةِ في الريِّ والعَطَشِ، وكذلك فَرْحَان وَجَذْلَان وخزيان، إذا كان في غَاية الفرح أو في نهاية الخِري. * * * وقوله: (تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61) البروج: قيل هي الكواكب العظام، والبَرَج تباعد بين الحَاجِبَيْن، وكل ظاهر مرتفع فقد بَرَجَ، وإنما قيل لها بُرُوج لظهورها وتباينها وارتفاعها.

_ (1) قال السَّمين: قوله: {لِمَا تَأْمُرُنَا}: قرأ الأخَوان «يأْمُرُنا» بياءِ الغَيْبة يعني محمد صلَّى الله عليه وسلَّم. والباقون بالخطاب يعني: لِما تأمرنا أنت يا محمد. و «ما» يجوزُ أَنْ تكونَ بمعنى الذي. والعائدُ محذوفٌ؛ لأنه متصلٌ؛ لأنَّ «أَمَرَ» يَتَعَدَّى إلى الثاني بإسقاطِ الحرفِ. ولا حاجةَ إلى التدريجِ الذي ذكره أبو البقاء: وهو أنَّ الأصلَ: لِما تَأْمُرنا بالسُّجودِ له، ثم بسجودِه، ثم تَأْمُرُناه، ثم تأْمُرُنا. كذا قَدَّره، ثم قال: هذا على مذهبِ أبي الحسن، وأَمَّا على مذهبِ سيبويهِ فَحَذْفُ ذلك مِنْ غيرِ تَدْريج «. قلت: وهذا ليس مذهبَ سيبويه. ويجوزُ أَنْ تكونَ موصوفةً، والكلامُ في عائِدها موصوفةً كهي موصولةً. ويجوز أَنْ تكونَ مصدريةً، وتكونَ اللامُ للعلةِ أي: أَنَسجُدُ مِنْ أجلِ أَمْرِكَ، وعلى هذا يكونُ المسجودُ له محذوفاً. أي: أَنَسْجُدُ للرحمن لِما تَأْمُرُنا. وعلى هذا لا تكونُ» ما «واقعةً على العالِم. وفي الوجهين الأوَّلَيْن يُحْتمل ذلك، وهو المتبادَرُ للفَهْمِ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(62)

(وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا). ويقرأ (سُرُجاً) ويجوز سُرْجاً بتسكين الراء مثل رُسُل ورُسْل، فمن قَرَأَ سِراجاً عَنَى الشمْسَ كما قال تعالى: (وَجَعَلَ الشَمْسَ سِراجاً). ومن قرأ (سُرُجاً) أراد الشمس والكَوَاكِبَ العِظَامَ مَعَها (1). * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62) ويقرأ (لمن أَرَادَ أَنْ يَذْكُرَ). قال الحسن: من فاته عَمَلُه من التَذكرِ والشكْرِ كان له في الليل مُسْتَعْتبٌ، ومن فَاتَهُ بالليل كان له في النهار مُسْتَعْتَبٌ. وقال أهلُ اللغة خِلفة يجيء هذا في أثر هذا، وأنشدوا قول زُهَيْرٍ: بها العين والأرام يمشين خِلفة. . . وأطلاؤها يَنْهَضْنَ من كل مَجْثَمِ وجاء أيضاً في التفسيرِ خلفة مختلفانِ كما قال اللَّه عزَّ وجلَّ: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا) الآية. * * * وقوله: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) أي يمشون بِسَكِينَةٍ وَوَقارٍ وَحِلْمٍ. (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا). أي نتسلم منكم سلاماً لا نُجَاهِلُكم، كأنَّهم قالوا تَسَلُّماً مِنْكُمْ (2). و" عبادُ "

_ (1) قال السَّمين: قوله: {سِرَاجاً}: قرأ الجمهورُ بالإِفراد، والمرادُ به الشمسُ، ويؤيِّده ذِكْرُ القمرِ بعدَه. والأخَوان «سُرُجاً» بضمتين جمعاً، نحو حُمُر في حِمار. وجُمِعَ باعتبارِ الكواكبِ النيِّرات. وإنما ذُكِرَ القمرُ تَشْريفاً له كقولِه: {وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98] بعد انتظامِهما في الملائكةِ. وقرأ الأعمش والنخعي وابن وثاب كذلك، إلاَّ أنه بسكونِ الراءِ تخفيفاً. والحسن والأعمش والنخعي وعاصم في روايةِ عصمة و «قُمْراً» بضمةٍ وسكونٍ، وهو جمع قَمْراء كحُمْر في حَمْراء. والمعنى: وذا ليالٍ قُمْرٍ منيرا، فحذف المضافُ، وأُقيم المضافُ إليه مُقامه، ثم التفتَ إلى المضاف بعد حَذْفِه فوصفَه ب «منيرا». ولو لم يَعْتَبِرْه لقال: منيرةً، ونظيرُ مراعاتِه بعد حذفِه قولُ حسان: 3491 يَسْقُون مَنْ وَرَدَ البَريْصَ عليهمِ. . . بردى يُصَفَّقُ بالرَّحيقِ السَّلْسَلِ الأصل: ماء بَرَدَى، فحَذَفَه ثمَّ راعاه في قولهِ: «يُصَفِّقُ» بالياءِ مِنْ تحتُ، ولو لم يكنْ ذلك لقالَ «تُصَفِّقُ» بالتاء مِنْ فوقُ. على أنَّ بيتَ حَسَّان يَحْتمل أن يكون كقولِه: 3492. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ولا أرضَ أَبْقَلَ إبْقالها مع أنَّ ابنَ كيسان يُجيزه سَعَةً. اهـ (الدُّرُّ المصُون). (2) قال السَّمين: قوله: {سَلاَماً}: يجوز أن ينتصبَ على المصدرِ بفعلٍ مقدرٍ أي: نُسَلِّم سَلاماً، أو نُسَلِّمُ تَسْليماً منكم لا نُجاهِلكم، فأُقيم السِّلام مُقامَ التسليمِ. ويجوزُ أَنْ ينتصِبَ على المفعول به أي: قالُوا هذا اللفظَ. قال الزمخشري: أي قالوا سَداداً مِنَ القولِ يَسْلَمُوْن فيه من الأذى. والمرادُ سَلامُهم من السَّفَهِ كقوله: 3495 ألا لا يَجْهَلَنْ أحدٌ علينا. . . فنجهلَ فوقَ جَهْلِ الجاهِلينا ورَجَّح سيبويه أنَّ المرادَ بالسَّلام السَّلامةُ لا التسليمُ؛ لأنَّ المؤمنين لم يُؤْمَروا قَطُّ بالتسليم على الكفرة، وإنما أُمِروا بالمُسالَمَةِ، ثم نُسِخَ ذلك، ولم يَذْكُرْ سيبويهِ في كتابِه نَسْخاً إلاَّ في هذه الآيةِ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(65)

مَرْفُوعٌ بالابتداء، والأحسن أن يكون خبر الابتداء ههنا ما في آخر السورة من قوله: (أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا)، كأنَّه قال: وعباد الرحمن الذين هذه صِفَتُهُمْ كلها - إلى قوله - (وَاجْعَلْنَا للمتَقِينَ إمَاماً). ويجوز أن يكون قوله (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ) رفعاً بالابتداء، وخبره (الذين يمشون على الأرض هوناً). * * * وقوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) الغَرَامُ في اللغَةِ أَشَد العَذَابِ. قال الشاعر: ويومَ النِّسَارِ ويوم الجفار. . . كانا عذاباً وكانا غَرَاماً * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66) (مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا) منصوبان على التمييز، المعنى أنها ساءت في المستقر والمقام. * * * وَقَوله: (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) كل من أدْركه الليل فقد باتَ يَبِيتُ، نَامَ أَوْ لَمْ يَنَمْ، بَاتَ فلانٌ البَارِحَةَ قَلِقاً، إنما المبيتُ إدْراكُ اللَّيْل. * * * وقوله تبالى: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67) (يُقْتِرُوا) بضم الياء وكسر التاء، وبفتح الياء وضم التاء (1)، (ولم يُقَتِّرُوا) ولا أعلم أحداً قرأ بها، أعني بتشديد التاء. والذي جاء في التفسير أن الاسرافَ النًفَقَةُ في مَعْصِية الله، وأنه لاَ إسْرَافَ في الإنْفَاقِ فيما قَربَ إلى الله عزَّ وجلَّ. وكل ما أنفق في مَعْصِيَةِ اللَّه فإسْرافٌ، لأن الِإسراف مجاوزة الحدِّ

_ (1) قال السَّمين: قوله: {وَلَمْ يَقْتُرُواْ}: قرأ الكوفيون بفتح الياء وضم التاء وابن كثير وأبو عمرٍو بالفتحِ والكسرِ. ونافع وابن عامر بالضم والكسر مِنْ أَقْتَرَ. وعليه {وَعَلَى المقتر قَدَرُهُ} [البقرة: 236]. وأنكر أبو حاتم/ «أقتر» وقال: «لا يُناسِب هنا فإنَّ أَقْتَرَ بمعنى افتقر، ومنه {وَعَلَى المقتر قَدَرُهُ}. ورُدَّ عليه: بأن الأصمعيَّ وغيرَه حَكَوْا أَقْتَرَ بمعنى ضَيَّق. وقرأ العلاء بن سيابة واليزيدي بضم الياء وفتح القاف وكسرِ التاء المشددةِ في قَتَّر بمعنى ضَيَّق. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(68)

والقَصْدِ. وجاء في التفسيبر أَيْضاً أن الإسراف ما يقول الناسُ فيه فلان مُسْرِفٌ. والحق في هذا ما أدَّب اللَّه عزَّ وجلَّ به نبيَّهُ - صلى الله عليه وسلم - فقال: (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29). * * * وقوله: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا). " يَلْقَ " جزم على الجزاء، وتأويل الأثام تأويلُ المُجَازَاةِ على الشَيْءِ. قال أبو عمرو الشيباني: يقال قد لَقِيَ أثامَ ذلك أي جزاء ذلك. وسيبويه والخليل يذهبان إلى أن معناه يلقى جزاء الأثام، قال سيبويه جُزِمَتْ. (يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ)، لأن مضاعفة العذاب لُقِيَ الأثام كما قال الشاعر: مَتَى تَأتِنَا تُلْمِمْ بنا في دِيارِنا. . . تَجِدْ حَطَباً جزْلاً وناراً تَأجَّجَا لأن الِإتيان هو الِإلمام، فجزم تلْمم لأنه بمعنى تأتي. وقرأ الحَسَنُ وَحْدَهُ " يُضَعَّفْ " له العذاب، وهو جيّدٌ بالغٌ، تقول ضاعفت الشيء وَضَعَّفَتُه. وقرأ عَاصِمٌ: (يُضَاعَفُ لَهُ الْعَذَابُ) بالرفع (1). على تأويل تفسير يلق أَثَاماً، كأنَّ قائلًا قال مَا لُقيُّ الأثام، فقيل يضاعف للآثم العَذَابُ (2). * * * وقوله: (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) ليس أن السيئَةَ بعينها تصير حَسَنةً، ولكن التأويل أن السيئَة تمحى بالتوْبَةِ وتكتب الحسنة مع التوبة، والكافِرُ يُحْبِطُ اللَّه عَمَلَه ويثبت اللَّه عليه السَّيِئَات. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72)

_ (1) هذه رواية شعبة عن عاصم، وأما رواية حفص فبالجزم هكذا (يُضَاعَفْ). (2) قال السَّمين: قوله: {يُضَاعَفْ}: قرأ ابن عامر وأبو بكر برفع «يُضاعَفُ» و «يَخْلُدُ» على أحدِ وجهين: إمَّا الحالِ، وإمَّا على الاستئنافِ. والباقون بالجزمِ فيها، بدلاً من الجزاء بدلَ اشتمال. ومثلُه قولُه: 3500 متى تأتِنا تُلْمِمْ بنا في ديارِنا. . . تَجِدْ حَطَباً جَزْلاً وناراً تَأَجَّجا فأبدلَ من الشرطِ كما أبدل هنا مِنَ الجزاءِ. وابنُ كثير وابنُ عامرٍ على ما تقدَّم لهما في البقرةِ من القَصْر والتضعيفِ في العين، ولم يذكرِ الشيخُ ابنَ عامرٍ مع ابنِ كثير، وذكرَه مع الجماعة في قراءتهم. وقرأ أبو جعفر وشيبة «نُضَعِّفْ» بالنون مضمومة وتشديدِ العين، «العذابَ» نصباً على المفعول به. وطلحة «يُضاعِف» مبنياً للفاعل أي اللَّهُ، «العذابَ» نصباً. وطلحة بن سليمان و «تَخْلُدْ» بتاءِ الخطابِ على الالتفاتِ. وأبو حيوةَ «وُيخَلِّد» مشدداً مبنياً للمفعولِ. ورُوِي عن أبي عمروٍ كذلك، إلاَّ أنه بالتخفيف. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(73)

قيل الزُور الشِركُ باللَّهِ، وجاء أَيْضاً أَنَّهُمْ لاَ يَشْهَدُونَ أَعْيَادَ النَصَارَى. والذي جاء في الزور أَنه الشِركُ باللَّهِ، فأمَّا النهي عن شهادة الزور في كِتَاب الله فقوله: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36). * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا) تأويله أعرضوا عنه، كَما قال الله عزَّ وجلَّ: (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ) وتأويل (مَرُّوا بِاللَّغْوِ) مَروا بجميع ما ينبغي أَن يُلْغَى. ومعنى " يُلْغَى " يطرح. وجاء في التفسير أَنَّهمْ إذا أرادوا ذكر النِكَاح كَنَوْا عَنْهُ. وقال بعضهُم: هو ذكر الرفث، والمعنى واحد. وجاء أيضاً أنهم لا يجالسون أَهْلَ اللغْوِ وهم أهْلُ المعاصي، ولا يمالئونَهمْ عَلَيْها، أَيْ يُعَاوِنُونَهُمْ عليها. وجاء أَيضاً في (لَا يَشْهَدُونَ الزُورَ) مَجَالِسَ الغِنَاءِ. * * * وقوله عزَّ وَجَل: (وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73) تأويله: إذَا تلِيَتْ عَلَيْهِم خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا، سَامِعينَ مُبْصِرِينَ لما أُمِرُوا بِهِ وَنُهُوا عَنْهُ. ودليل ذَلك قوله: (وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا). ومثل هذا من الشعر قوله: بأَيْدِي رِجالٍ لم يَشِيمُوا سُيوفَهُمْ. . . ولم تَكْثُر القَتْلَى بها حِينَ سُلَّتِ

(74)

تأويله: بأيدي رِجَال شَامُوا سُيُوفَهُمْ وقد كثرت القَتْلَى، ومعنى يشيموا سُيُوفَهُمْ يَغْمِدوا سُيُوفَهُمْ. فالتأويل: والَّذِينَ إذَا ذُكِرُوا بآيات رَبِّهِمْ خرُّوا سَاجدِينَ مُطِيعِينَ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74) (وَذُرِّيَّتِنَا) ويقرأ (وَذُرِّيَّاتِنَا) - سألوا أن يُلْحقَ اللَّهُ بهم ذُريَتَهُمْ في الجنةِ، وأن يَجعَلَ أَهلَهُمْ تِقر بِهِمْ أَعْيُنَهُم. (واجْعَلْنَا لِلْمتقِينَ إمَاماً). أي واجْعلنا ممن يَهتَدِي به المتقُون، وَيهْتدِي بِالمتَقِينَ. * * * وقوله: (قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77) أي لولا توحيدكم إياهُ. وجاء في التفسير (مَا يَعْبَأُ بِكُمْ) مَا يَفْعَل بِكُمْ وتأويل (مَا يَعْبَأُ بِكُمْ) أي: أيُّ وَزْنٍ يكون لكم عنده، كما تقول: ما عبأتُ بفلانٍ أي ما كان له عندي وزْن ولا قَدْرٌ. وأصل العِبْء في اللغَةِ الثقْلُ، ومن ذلك عَبأتُ المتاعَ جَعَلتُ بعضَه على بعض. وقوله: (فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا). جاء في التفسير عن الجماعة أَنه يُعْنَى به يومُ بَدْرٍ، وجاء أنه لُوزِمَ بين القَتْلَى لزاماً. وقُرِئَتْ (لَزَاماً)، وتأويله - واللَّه أعلم - فسوف يكون تَكْذِيبكمْ لزاماً، يلزمكم فلا تعطون التوْبَةُ وتلزمكم العُقُوبَةُ، فيدخل في هذا يوم بدْرٍ. وغيرُه مما يَلْزَمُهم من العذاب. وقال أبو عبيدة: لزاماً فَيْصَلاً، وهو قريب مِما قُلْنَا، إِلا أن القول أشرَحُ. وأنشد أبو عبيدة لصَخْرٍ أخي الهُذَلِي.

فإِمَّا يَنْجُوَا من حَتْفِ أَرْضٍ. . . فقد لَقِيا حُتوفَهما لِزاماً وتأويل هذا أن الحتفَ إذا كان مَقَدراً فهو لازم، وإن نجا من حَتْفِ مكان لحِقَهُ في مَكَانٍ آخر لَازِماً له لزاماً. ومَنْ قرأ (لَزاماً) بفتح اللام، فهو على مَصْدَر لَزِمَ لَزاماً (1).

_ (1) قال السَّمين: قوله: {لِزَاماً} خبرُ «يكون» واسمُها مضمرٌ أي: يكون العذابُ ذا لِزام. واللِّزام: بالكسرِ مصدرٌ كقوله: 3503 فإمَّا يَنْجُوَا مِنْ حَتْفِ أرضٍ. . . فقد لَقِيا حُتوفَهما لِزاما وقرأ المنهال وأبان بن تغلب وأبو السمَّال «لَزاماً» بفتح اللامِ. وهو مصدرٌ أيضاً نحو: البَيات. وقرأ أبو السمَّالَ أيضاً «لَزامِ» بكسر الميم كأنه جَعَله مصدراً معدولاً نحو: «بَدادِ» فبَناه على لغةِ الحجاز فهو معدولٌ عن اللزَمةِ كفَجارِ عن الفَجْرة قال: إنَّا اقْتَسَمْنا خُطَّتَيْنا بينَنا. . . فَحَمَلْتُ بَرَّةَ واحْتَمَلْتَ فَجارِ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

سورة الشعراء

سُورَةُ الشُّعَرَاءِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (طسم (1) قُرِئَتْ بإدغام - النون في الميم ووصل بعض الحروف ببعض، وقُرِئَتْ طَسِينْ مِيمِ بتبيين النونِ، والوقف على النونِ. ويجوز - ولا أعلم أَحَداً، قرأه - طَسِميماً - على أن يُجْعَلَ طسم اسما للسورَةِ بمنزلة قوله: خَمْسَةَ عَشَرَ، ولا تجوز القراءة به. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) فيه وجهان أَحَدُهُمَا على معنى أَنهم وُعِدُوا بالقرآن على لِسَانِ مُوسَى فكان المعنى هذه آيات الكتاب الذي وُعِدْتُم به على لسان مُوسَى، وعلى معنى هذه آيات الكتاب المبين. وقد فَسَّرنا ذلك فِي أَول سُورةِ البَقَرةِ في قوله: (الم ذلك الكتاب). * * * وقوله: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) قال أبُو عبيدةَ: معناه مُهْلِك نفسك، وقيل قاتل نَفْسَك، وهذا كقوله: (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6).

(4)

وموضع أن النصبُ مفعول له، المعنى فلعلك قاتل نفسَكَ لتَركِهِم الإيمان، فأعلمه اللَّه سبحانه أنه لو أراد أن ينزل ما يضطرهم إلى الطاعة لقدر على ذلك ألا أنه - عزَّ وجلَّ - تعبَّدهم بما يستوجبون به الثوابَ مع الإيمان. وأنزل لهم مِنَ الآياتِ ما يتبينُ به لمن قَصْدُه إلى الحق فأمَّا لو أنْزَل على كل من عَنَدَ عَنِ الحق عذاب في وَقْتِ عُنُودِهِ لَخَضَعَ مضْطَرًّا، وآمن إيمان من لا يَجِدُ مَذهبا عن الِإيمان. * * * وقوله تعالى: (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4) معناه فتظَل أَعْنَاقُهُمْ، لأن الجزاء يقع فيه لفظ الماضي في معنى المستَقْبَلِ تقول: إنْ تَأتِني أَكْرَمتُكَ، معناه أكْرِمْك، وإن أتيتني وأحْسَنْتَ معناه وتُحسنُ وَتُجْمِلُ. وَقال (خَاضِعِينَ) وذكر الأعناق لأن معنى خُضوع الأعْنَاقِ هُوَ خضوعُ أصحاب الأعناق. لَما لم يكن الخُضُوعُ إلا لِخُضُوعِ الأعْنَاقِ جاز أن يُعَبَّر عن المضافِ إليه كما قال الشاعر: رأَتْ مَرَّ السِّنين أَخَذْنَ منِّي كما أَخَذ السِّرارُ من الهِلالِ لَمَّا كانت السنُونَ لا تكون إلا بِمَرٍّ أخبر عن السنينَ وإن كان أضاف إليها المُرُور، وَمِثلُ ذلك أَيْضاً قول الشاعر:

(6)

مَشَيْنَ كما اهتزَّتِ رماحٌ تسفَّهَتْ. . . أَعَالِيَها مَرُّ الرِّياحِ النَّواسِم كأنَّه قال تسفهتها الرياح، لما كانت - الرياح لا تكون إلا بالمرور. وجاء في التفسير " أعْنَاقُهم " يُعنى به كبراؤهم ورؤساؤهم، وجاء في اللُّغَةِ أَعْنَاقُهُمْ جَمَاعَاتهم، يقال: جاء لي عُنقٌ من الناس أَيْ جَمَاعَة وذكر بَعْضُهُمْ وجهاً آخَر، قالوا: فظلًتْ أَعْنَاقُهُم لَهَا خَاضِعِينَ هُمْ، وأضَمَرُهم. وَأَنْشَدَ ترى أَرْباقَهم مُتَقَلِّديها كما. . . صَدِئ الحَدِيدُ عن الكُماةِ وهذا لا يجوز في القرآن، وهو على بَدلِ الغَلَطِ يجوز في الشِعْرِ، كأنه قال: يرى أرباقهم يرى متقلِّديها، كأنَّه قال: يرى قوماً متقلدين أَربَاقَهُم فلو كان على حذف هم لكان مما يجوز في الشعر أَيضاً (1). * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (6) أنباء: أخبار. المعنى فَسَيعلمون نبأ ذلك في القِيامَةِ. وجائز أن يعجل لهم بعض ذلك في الدنيا نحو ما نالهم يَوم بَدْرٍ. * * * وقوله: (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) معنى زوج نوع، ومعنى كريم محمود فيما يحتاج إليه، كمعنى من كل زوج نافع لا يقدر على إنبانه وإنشائه إلا ربُّ العَالَمِين. ثم قال: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8)

_ (1) قال السَّمين: قوله: {خَاضِعِينَ} فيه وجهان، أحدُهما: أنه خبرٌ عن «أعناقُهم». واستُشْكِلَ جمعُه جمعَ سلامةٍ لأنه مختصٌّ بالعقلاءِ. وأُجيب عنه بأوجهٍ، أحدُها: أنَّ المرادَ بالأعناق الرؤساءُ، كما قِيل: لهم وجوهٌ وصدورٌ قال: 3505. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . في مَجْمَعٍ مِنْ نواصِي الخيلِ مَشْهودِ الثاني: أنه على حذفِ مضافٍ أي: فظلَّ أصحابُ الأعناقِ، ثم حُذِفَ وبقي الخبرُ على ما كان عليه قبل حَذْفِ المُخْبَرِ عنه مراعاةً للمحذوفِ. وقد تقدَّم ذلك قريباً عند قراءةِ {وَقُمْراً مُّنِيراً} [الفرقان: 61]. الثالث: أنه لَمَّا أُضيفَتْ إلى العقلاءِ اكتسَبَ منهم هذا الحكمَ، كما يُكتسب التأنيثُ بالإِضافةِ لمؤنث في قولِه: 3506. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . كما شَرِقَتْ صَدْرُ القناةِ من الدمِ الرابع: أنَّ الأعناقَ جمعُ عُنُق من الناس، وهم الجماعةُ، فليس المرادُ الجارحةَ ألبتَّةَ. ومن قولُه: 3507 أنَّ العراقَ وأهلَه. . . عُنُقٌ إليك فَهَيْتَ هَيْتا قلت: وهذا قريبٌ مِنْ معنى الأولِ. إلاَّ أنَّ هذا القائلَ يُطْلِقُ الأعناقَ على جماعةِ الناسِ مطلقاً، رؤساءَ كانوا أو غيرَهم. الخامس: قال الزمخشري: «أصلُ الكلامِ: فظلًُّوا لها خاضعين، فَأُقْحِمَتِ الأعناقُ لبيانِ موضع الخضوع، وتُرِكَ الكلامُ على أصله، كقولهم: ذهبَتْ أهلُ اليمامة، فكأن الأهلَ غيرُ مذكور». قلت: وفي التنظير بقولِه: ذهبَتْ أهلُ اليمامةِ «نظرٌ؛ لأنَّ» أهل «ليس مقحماً ألبتَّةَ؛ لأنه المقصودُ بالحكم وأمَّا التأنيثُ فلاكتسابِه التأنيثَ. السادس: أنها عُوْمِلَتْ معاملةَ العقلاءِ لَمَّا أُسْند إليهم ما يكونُ فِعْلَ العقلاءِ كقوله {ساجِدِين} و {طائِعِين} في يوسف والسجدة. والثاني: أنه منصوبٌ على الحالِ من الضميرِ في» أعناقُهم «قاله الكسائي، وضَعَّفه أبو البقاء قال:» لأنِّ «خاضعين» يكون جارياً على غيرِ فاعلِ «ظَلَّتْ» فيَفْتَقِرُ إلى إبرازِ ضميرِ الفاعل، فكان يجبُ أَنْ يكونَ «خاضعين هم». قلت: ولم يَجْرِ «خاضعين» في اللفظِ والمعنى إلاَّ على مَنْ هو له، وهو الضمير في «أعناقُهم»، والمسألة التي قالها: هي أَْن يجريَ الوصفُ على غير مَنْ هو له في اللفظِ دونَ المعنى، فكيف يلزمُ ما ألْزَمه به؟ على أنه لو كان كذلك لم يَلْزَمْ ما قاله؛ لأنَّ الكسائيَّ والكوفيين لا يُوْجِبون إبرازَ الضميرِ في هذه المسألةِ إذا أُمِنَ اللَّبْسُ، فهو يَلْتَزِمُ ما ألزمه به، ولو ضَعَّفه بمجيءِ الحالِ من المضاف إليه لكان أقربَ. على أنه لا يَضْعُفُ لأنَّ المضافَ جزءٌ من المضافِ إليه كقولِه: {مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً} [الحجر: 47]. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(10)

دليلًا على أن اللَّه - عزَّ وجلَّ - واحد وأن المخلوقات آياتٌ تدُلُ عَلَى أن الخالق واحدٌ ليس كمثله شيء. وقوله: (وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مؤمِنِينَ). معناه وما كان أكثرهم يؤمن، أي علم اللَّه أَن أَكثَرهم لا يؤمنُونَ أَبداً كما قال: (ولَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أعْبُدُ) أي لستم تعبدون ما أعبُدُ الآن (ولا أنتم عابدونْ ما أعْبُدُ) فِيمَا يُسْتَقْبل، وكقوله في قصة نُوح عليه السلام: (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ)، فأعلمه أن أكثر هم لَا يُؤمِنُونَ. * * * وقوله: (وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) موضع (إِذْ) نصبٌ، على معنى. . وَاتْلُ هذه القصةَ فيما تَتْلُو. ودليل ذلك قوله عطفاً على هذه القصة: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نبأ إبْرَاهِيمَ). * * * وقوله: (وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13) بالنصْبِ والرفْعِ، فمن رفع فعطف على أَخَاف، على معنى إني أخاف. ويضيقُ صدري. وَمَن نَصَبَ فعطفً على أن يكذِبُونِ، وأن يضيق صدري وأن لا ينطلق لساني. والرفع أكثر في القراءة. وقوله تعالى: (فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ). أي ليعينني وُيؤازِرَني على أمري، وَحُذِفَ لأن في الكلام دليلاً عليه. * * * قوله تعالى: (وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14)

(15)

يعني بالذنب الرجُل الذي وَكَزهُ فقضى عليه، إني أَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِي بقتلي إياهُ. * * * (قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) كَلَّا: ردع وزجر عن الإقامة على هَذَا الظنِّ، كأنَّه قال: ارْتَدع عن هذا الظنِّ وَثقْ باللَّهِ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) معناه إنا رِسَالَةُ رَبِّ العالمين، أي ذوو رسالة رب العالمين. قال الشاعِرُ: لقد كَذَب الواشُون ما بُحتُ عندهم. . . بسِرٍّ ولا أَرْسَلْتهم برَسُول * * * وقوله سُبْحَانَه: (أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17) موضع (أن) نَصْبٌ، المعنى أُرْسِلْنا لترسل - أي - لأنْ تُرْسلَ معنا بني إسرائيل. * * * (قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) أي مولوداً حين وُلدْتَ. (وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ). ويجوز من عُمْرِكَ بإسكان الميم، ويجوز من عَمرِك بفتح العَيْنَ، يقال:

(19)

هو العُمْر والعُمُرُ والعَمْر في عُمْر الإنْسانِ، فأمَّا في القَسَمِ فلا يجوز إلا " لَعَمْرُ اللَّهِ " لا غير - بفتح العين. ذكر سيبويه والخليل وجميع البصريين أن القسَمَ مفتوح لا غَيْر. فاعْتَدَّ فرعون على موسى بأنه ربَّاه وَليداً منذ وُلدَ إلى أَنْ كَبِرَ. * * * وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19) وقرأ الشعبي (فِعْلَتَكَ) - بكسر الفاء - والفتح أجود وأكثره لأنه يريد قتلت النفس قَتْلَتَكَ على مذهب المرةِ الواحدة، وقرأ الشعبي على معنى وقتلت القِتْلَةَ التي عرفتها، لأنه قتله بوكزةٍ، يقال: جَلَسْتُ جَلْسَة تُرِيدُ مَرةً واحدة، وجَلَسْتُ جِلْسَةً - بالكسر تريد هيئة الجلوس. (وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ). فيه وجهان: أحدهما من الكافرين لنعمتِي، والآخر وأنت من الكافرين بقتلك الذي قتلت فنفى موسى - صلى الله عليه وسلم - الكفر واعترف بأن فعله ذلك جهلٌ فقال: (قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) أي من الجاهِلِينَ، وقد قرئت: وأنا من الجاهلين. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) (فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا) يعنى التوراة التي فيها حكم اللَّه. * * * وقوله تعالى: (وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22) أخرجه المفسرون على جهة الإنكار أنْ تكون تلك نِعْمة، كأنَّه قال فأيَّةُ نعمةٍ لك عليَّ في أَنْ عَبَّدْتَ بني إسرائيل. واللفظ لفظ خبر، والمعنى يخرج

(23)

على ما قالوا على أن لفظه لفظ الخبر وفيه تبكيتٌ للمخاطب كأنَّه قال له: هذه نعمة أَن اتخذت بني إسرائيل عبيداً على جهة التبكيت لِفِرْعَوْنَ، واللفظ يوجب أن موسى - صلى الله عليه وسلم - قال: هذه نِعْمَة لأنك اتخذت بني إسرائيل عبيداً ولم تتخذني عَبْداً. ويقال: عَبَّدْتُ الرجُلَ، وَأَعْبَدْتُه، اتخذته عَبْداً. وموضع (أن) رفع على البَدَلِ من نعمةٍ، كأنَّه قال: وتلك نِعمة تَعَبُّدُكَ بني إسرائيل وتركك إياي غير عَبْدٍ. ويَجُوزُ أن يكون " أَنْ " في موضع نَصْبٍ، المعنى إنما صارت نِعْمَة على لأن عَبَّدْتَ بَنِي إسْرَائيل. أي لو لم تفعل ما فعَلْتَ لكفلني أهلي ولم يَلْقُوني في اليمِّ، فإنما صارت نِعْمَةً بما فَعَلْتَ من البلاء. وقال الشاعر في أَعْبَدْتُ اتخذتُ عَبْداً: عَلامَ يُعْبِدُني قَوْمي وقد كَثُرَت. . . فيهمْ أَباعِرُ ما شاؤوا وعِبْدانُ؟ (1) * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) فأجابه موسى - صلى الله عليه وسلم - بما هو دليل على اللَّه - جلَّ وعزَّ - بما خلق مما يعجز المخلوقون عن أن يأتوا بمثله فقال: (رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) فتحيَّر فرعونُ ولم يَرْدُدْ جَوَاباً يَنْقُضُ به هذا القول، فقال لمن حوله: (ألَا تَسْتَمِعُونَ). فزاده موسى في البيان فقال: (رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26)

_ (1) قال السَّمين: قوله: {أَنْ عَبَّدتَّ} فيه أوجهٌ، أحدُها: أنها في محلِّ رفعٍ عطفَ بيان ل «تلك»، كقوله: {وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمر أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآءِ مَقْطُوعٌ} [الحجر: 66]. الثاني: أنها في محلِّ نصبٍ مفعولاً مِنْ أجلِه. والثالثَ: أنها بدلٌ من «نعمةٌ». الرابع: أنها بدلٌ من «ها» في «تَمُنُّها». الخامس: أنها مجرورةٌ بباءٍ مقدرةٍ أي: بأَن عَبَّدْت. السادس: أنها خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: هي. السابعُ: أنها منصوبةٌ بإضمار أعني. والجملة مِنْ «تَمُنُّها» صفةٌ لنعمة. و «تُمُنُّ» يتعدَّى بالباء فقيل: هي محذوفةٌ أي: تمُنُّ بها، وقيل: ضَمَّنَ «تَمُنُّ» معنى تَذْكُرُ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(32)

فلم يجبه أيضاً، فقال: (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) فقال موسى زيادة في ال*بانة: (قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) فلم يجبه في هذه الأشْياء بنقض لحجته. * * * (قَالَ لَئِنِ ائخَذْتَ إِلهَا غَيْري لأجْعَلَنك مِنَ المَسْجُويخينَ). فزاده في البيان واحتجَّ بما شاهده هو والملأ من حوله: (قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32) والثعبان الكبير من الحيَّات. فإنْ قال قائل: فكيف جاء، فإذا هِي ثعبان مبين. وفي موضع آخَرَ (تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ)، والجانُّ الصغيرُ من الحيَّاتِ؟ فالجواب في هذا مما يَدُل على عِظم الآية، وذلك أن خَلقَها خلقُ الثعبان واهتزازُها وحركتها وخفتُها كاهتزاز الجَانِّ وخِفتِه. * * * (وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) نَزَعَ يده من جيبه فأخرجها بيضَاءَ بَيَاضاً نُوريًّا، مِنْ غَيْرِ سوءٍ من غير بَرَص، فلم يكن عنده دفع لما شَاهَدَهُ إلا أَن قال: إن هذا سحر فَقَالَ (لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34). فجعل الآية المعجِزَة سحراً، ثم استكانَ وخضع للذين هم من أتباعه فقال:

(36)

(يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) (أَرْجِهْ) بكسر الهاء وضمها، وبالياء والواو أرْجِهي وأَرْجِهُو وأَخَاه. (وابْعَثْ فِي المَدائِن حَاشِرِينَ). فمعنى: أرْجِهُ " أخِّرْهُ، وجاء في التفسير احْبسْهُ وأخاه، والمعنى - واحِدٌ، وتأويله أخره عن وقتك هذا وأخرْ اسْتِتْمامَ مُنَاظَرتِه إلى أن يجتمع لك السَّحَرةُ. * * * وقوله: (فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) فغنيٌّ عن أن يقول فبعث فجمع السَّحرة. * * * وقوله: (قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) أي لكم مع أجْرَتِكم وجزائكم على غلبتِكُمْ موسى إن غلبتموه مع الفائدة، القربى والزلْفَى عندي. ويقرأ (أئن لنا لأجراً) على جهة الاستفهام. ويجوز إن لنا لأجراً - على غير الاستفهام. وعلى جهة الثقَةِ مِنْهُمْ به، قَالُوا إن لَنَا لأجْرًا). أي إنك مِمن يَحْبُونا وَيُجَازِينَا. * * * (فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44) فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45) أي مما جَمَعُوا من كيدهم وعِصِيِّهمْ. ورُوِي عَنْهُمْ أنهم كانوا

(47)

اثني عشر ألف ساحر (1)، فنُصِرَ موسى عليه السلام أكثرَ ما كانَ السحرُ وأَغْلَبُه على أَهْل ذلك الدهر، وكانت آيتُهُ آيةً باهرةً من جهتين: إحداهما أنه أتى بما يعجِزُ عنه المخلوقون. والثانية أن السحرة، وعَدَدُهم هذا العَدَدُ أُلْقُوا سَاجِدينَ. * * * (قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) فَسَلَّمُوا الأمْر للهِ وتبينَ لهم ما لا يُدْفَعُ. وكذلك بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - أشعرَ ما كانت العرب وأخطب ما كنت وأبلغ ما كانت، فدعاهم إلى الإيمان باللَّهِ مع الآيات التي أتى بها النبي - صلى الله عليه وسلم - وبالقران الذي دعاهم إلى أن يأتوا بسورَة مِثله فعجزوا عن الإتيان بسورة مثله. ويروى أيضاً أن السَّحَرَةَ كانوا تسعَة عَشَرَ ألْفاً. وقوله: (قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) (فَلَسَوْفَ تَعْلَمونَ). اللام دخلت على سوف بمعنى التوكيد، ولم يُجِزِ الكوفيون: إن زيد لَسَوفَ يَقوم، وقد جاء دخول اللام على سوف، وذلك أن اللام مُؤَكِدَةً. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ). ْوروي في التفسير أن أول من قطع وصَلَّب فرعونُ. * * * (قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50) أي لا ضرر علينا فيما ينالنا في الدنيا مع أملنا للمغفرة. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51)

_ (1) كلام يفتقر إلى سندٍ صحيحٍ.

(52)

بفتح " أن " أي لأنْ كنا أول المؤمنين، وزعم الفراء أنهم كانوا أوّل مُؤمِني أهل دَهْرهِمْ، وَلاَ أحسبه عرف الرواية فِي التفسير لأَنه جاء في التفسير أن الذين كَانُوا مَعَ موسَى عليه السلام ستمائة ألف. وقيل ستمائة ألف وسبعون ألفاً. وإنما معنى (أنْ كُنَّا أوَّلَ المؤمِنين). أي أول من آمن في هذه الحال عند ظهور آية موسى حين ألقوا حبالهم وعصيهم واجتهدوا في سِحْرِهم. ويقال: لا ضير ولا ضَوْرَ، في معنى لا ضرَّ ولا ضَرَرَ. * * * وقوله: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) يقال: أسرى يُسْري إذا سار لَيْلاً، وَسَرَى يَسْرىْ، قيل هو في معنى أسْرَى يُسْري أيضاً. * * * وقوله: (فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) أي أرسل من جمع له الجيش، معناه فجمع جمعَه، فقال: إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) والشرذمة في كلام العرب القليل. يُروى أن هؤلاء الذين سَمَّاهُمْ شرذمةً كانوا ستمائةِ أَلْفٍ وسَبْعينَ ألفا، وكانت مقدمَةُ فرعون سبعمائة ألف كل رَجُل منهم على حِصَانٍ، وعلى رأسه بيضة، فاستقل من مع موسى عليه السلام عند كثرة جمعه. وقال " قليلون " فَجمعَ " قَلِيلاً " كما يقال: هؤلاء واحدون فيجمع الواحد، كما قال الكميت: فقد رَجَعُوا كحيٍّ واحِدِينا * * * وقوله: (وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55)

(56)

يقال قد غاظني فلان، ومن قال أغاظني فقد لَحَن. * * * وقوله: (وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56) ويقرأ: حَاذِرُون، وجاء في التفسير أن معنى حَاذِرُون، مُؤْدُونَ. أي ذَوُو أداة، أي ذَوُو سِلَاح والسلاح أداة الحرب، فالحاذر المستعذ، والحذِرُ المتيقِظُ. * * * وقوله تعالى: (فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) أي في وقت شروق الشَمس، يقال أشرقنا أي دَخَلْنَا في وقْتِ طلوع الشمس، ويقال شرقت الشمْسُ إذا طلعت، وأشرقَتْ إذا أضاءت وصَفَتْ، وأشرقنا نحن دخلنا في الشروق. * * * وقوله: (فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) أي لمَّا واقف. جمعُ موسى جمعَ فرعونَ وكان أصحاب موسى قد خَرجُوا ليلاً، فقال أصحابُ مُوسى: (إنا لَمُدْرَكُونَ) أي سيُدْرِكُنَا جَمعُ فرعَوْنَ هذا الكثيرُ، وَلَا طاقة لَنَا بِهِمْ. * * * (قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) أي قال موسى كلا أي ارتدعوا وازدجروا نجليس يدركوننا. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) أي كُل جزءٍ تَفَرقَ مِنْهُ. (كالطوْدِ العَظِيم). أي كالجبل العظَيم. * * * وقوله: (وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64)

(69)

أي قَربْنَا ثَمَّ الآخرين مِنَ الغَرقِ، وهم أصحاب فرعون - وقال أبو عبيدة: أَزْلَفْنَا جمعنا ثَمَّ الآخرين. قال ومن ذلك سميت مُزْدَلفة جمعاً. وكلا القولين حسن جميل، لأن جمعهم تقريب بَعْضِهِم من بَعْض وأصل الزلْفَى في كلام العرب القرْبَى. * * * قوله تعالى (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) ْمعناهُ خَبَرَ إبْراهيم. * * * وقوله: (قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) معناه مقيمين على عِبَادَتِها. * * * وقوله: (قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) إن شئت بَيَّنْتَ الذال، وإنْ شِئْتَ أَدْغَمْتَها في التاء فجعلتها تَاء فقلت (إتدْعُونَ)، وهو أجود في العربية لقرب الذال من التاء. ويجوز إذدُعونَ، ولم يُقْرأ بها كما قال مُذكِر، وأصله مُذْتَكِرْ. * * * وقوله: (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) قال النحويون: إنهُ اسْتِثناء ليس من الأول، أي لكن رب العالمين، ويجوز أن يكونوا عبدوا مع اللَّه الأصنام وغيرها، فقال لهم: أن جميع من عَبَدُتُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ؛ لأنهم سوَّوْا آلهتهم باللَّهِ فأعْلَمَهُمْ أنه قد تبرأ مما يَعْبُدونَ إلا اللَّهَ فإنه لم يَتَبرأ من عبادته. * * * وقوله: (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) جاء في التفسير أن خطيئته قوله: إن سَارَّة أُخْتي، وقوله بل فعله كبيرهم هذا فَاسْألُوهُمْ.

(84)

وقوله: (فَقَالَ إني سَقِيمٌ). وقد بينَّا معنى قوله: (بل فعله كبيرهم هذا). ومعنى خطيئتي أن الأنبياء بَشَر، وقد يجوز أن يقع عليهم الخطيئة إلا أنهم صلوات الله عليهم لا تكون منهم الكبيرة لأنهم مَعْصُومون مُخْتَارُون على العالمين كل نبي هو أفضل من عالم أهل دَهْرِه كُلِّهِمْ. * * * قوله: (وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) معناه اجعل لي ثناء حسناً باقياً إلى آخر الدهر. * * * وقوله: (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) معناه قُربَتْ، وتَأويله أنه قرب دخولهم إياها، ونظرهم إليها. * * * قوله: (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91) أي أظْهرت لِلضَّالينَ، والغَاوي الضال. * * * وقوله: (فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) أي في الجحيم، ومعنى كُبْكِبُوا طُرِحَ بعضُهم على بعْض. وقال أهل اللُّغَةِ معناه دُهْوِرُوا (1)، وحقيقة ذلك في اللغة تكرير الانكباب كأنَّه إذا أُلقِيَ يَنْكَبُّ مرةً بعد مرةٍ حتى يسْتَقِر فيها يَسْتَجِيرُ باللَّهِ منها. * * * وقوله: (تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) معناه واللَّه ما كنَا إلَّا في ضلالٍ مبين حيث سويناكم باللَّهِ - عز وجل - فأعظمناكم وعبدناكم كما يُعْبَدُ اللَّهُ.

_ (1) قال في اللسان: وقال الزجاج في قوله (فكُبْكِبُوا فيها هم والغَاوونَ) أَي في الجحيم قال ومعنى كبكبوا طُرِحَ بعضهم على بعض وقال غيره من أَهل اللغة معناه دُهْوِرُوا ودَهْوَرَ سَلَحَ ودَهْوَرَ كلامَه قَحَّمَ بعضَه في إِثر بعض ودَهْوَرَ الحائط دفعه فسقط وتَدَهْوَرَ الليلُ أَدبر والدَّهْوَرِيُّ من الرجال الصُّلْبُ الضَّرْب الليث رجل دَهْوَرِيُّ الصوت وهو الصُّلْبُ الصَّوْتِ قال الأَزهري أَظن هذا خطأَ والصواب جَهْوَرِيُّ الصوت أَي رفيع الصوت ودَاهِرٌ مَلِكُ الدَّيْبُلِ قتله محمد بن القاسم الثقفي ابن عمر الحجاج فذكره جرير وقال وأَرْضَ هِرَقْل قد ذَكَرْتُ وداهِراً ويَسْعَى لكم من آلِ كِسْرَى النَّواصِفُ وقال الفرزدق فإِني أَنا الموتُ الذي هو نازلٌ بنفسك فانْظُرْ كيف أَنْتَ تُحاوِلُهْ فأَجابه جرير أَنا الدهرُ يُفْني الموتَ والدَّهْرُ خالدٌ فَجِئْني بمثلِ الدهرِ شيئاً تُطَاوِلُهْ قال الأَزهري جعل الدهر الدنيا والآخرة لأَن الموت يفنى بعد انقضاء الدنيا قال هكذا جاء في الحديث وفي نوادر الأَعراب ما عندي في هذا الأَمر دَهْوَرِيَّة ولا رَخْوَدِيَّةٌ أَي ليس عندي فيه رفق ولا مُهاوَدَةٌ ولا رُوَيْدِيَةٌ ولا هُوَيْدِيَةٌ ولا هَوْدَاء ولا هَيْدَاءُ بمعنى واحد. اهـ (لسان العرب. 4/ 292). وقال السَّمين: قوله: {فَكُبْكِبُواْ}: أي: أُلْقُوا، وقُلِبَ بعضُهم/ على بعض. قال الزمخشري: «الكَبْكَبَةُ تكريرُ الكَبِّ. جَعَلَ التكريرَ في اللفظِ دليلاً على التكريرِ في المعنى». وقال ابن عطية نحواً منه، قال: «وهو الصحيحُ لأنَّ تكريرَ الفعلِ بَيِّنٌ نحو: صَرَّ وصَرصَرَ» وهذا هو مذهب الزجاج. وفي مثل هذا البناءِ ثلاثةُ مذاهبَ، أحدها: هذا. والثاني: وهو مذهبُ البصريين أنَّ الحروفَ كلَّها أصولٌ. والثالث وهو قول الكوفيين أنَّ الثالثَ مُبْدَلٌِ من مثلِ الثاني، فأصل كَبْكَبَ: كَبَّبَ بثلاثِ باءات. ومثلُه: لَمْلَمَ وكَفْكَفَ. هذا إذا صَحَّ المعنى بسقوطِ الثالث. فأمَّا إذا لم يَصِحَّ المعنى بسقوطِه كانَتْ كلُّها أصولاً من غيرِ خلافٍ نحو: سِمسِم وخِمْخِم. وواو «كُبْكِبوا» قيل: للأصنام؛ إجراءً لها مُجْرى العقلاءِ. وقيل: لعابديها اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(105)

وقوله عزَّ وجلَّ: (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) ْدَخَلَتْ التاء وقوم نوح مُذَكَرونَ، لأن المعنى كذبت جماعَةُ قَوْمُ نوح، وقال المرسلين، ويجوز أَنْ يكُونُوا كذَبُوا نوحاً وحْدَه، ومن كذب رَسُولاً واحِداً من رسل اللَّه فقد كذَّب الجماعة وخالفها، لأن كل رسول يأمر بتصديق جميع الرسل، وجائز أن يكونَ كذبَتْ جميع الرسُلِ. * * * وقوله: (إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106) وقيل (أَخُوهُمْ) لأنه منهم، وكل رسول يأتي بلسان قَوْمِه ليوضع لهم الحجةَ ويكون أَبْينَ لهم. * * * وقوله: (قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) ويقرأ (وأتْباعُكَ الأرْذلون*، وهي في العربية جَيِّدةٌ قَويَّة لأن واو الحال تصحبُ الأسماءَ أكثَر في العربية، لأنك تقول: جئتُكَ وَأَصْحَابُكَ الزيدُونَ، ويجوز: وَصَحِبَك الزيْدُونَ، والأكثر جئتك وَقَدْ صَحِبَكَ الزيدون، وقيل في قوله: الأرْذَلُون: نسبوهم إلى الحياكةِ والحجامَةِ، والصناعات لا تَضُرُّ في باب الدِّيَانَاتِ. * * * وقوله: (قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) أي بالحجارة. * * * وقوله: (فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) واحدها فَلَك وجمعها فُلْك، وزعم سيبويه أنه بمنزلة - أَسَدٍ وَأُسْدٍ، وقياس فُعْل قياس فَعَل، أَلا ترى أنك تقول قُفْل وإقفال وجمل وأجمال، وكذلك أَسَدٌ وأُسْدٍ وآسَادٍ، وفَلَك وفُلْك وأَفْلَاك في الجمع - والمشحون المملوء، يقال شحنته أي ملأتُه.

(128)

وقوله عزَّ وجلَّ: (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) يقرأ رِيع ورَيْع - بكسر الراء وفتحها - وهو في اللغة الموضعُ المرتفع من الأرض ومن ذلك كَمْ رَيْعُ أَرْضِكَ، أي كم ارتفاع أرْضِكَ. جاء في التفسير: (بِكُلِّ رِيعٍ) كل فجٍّ والفَجُّ الطريق المُنْفَرِجُ في الجبل، وجاء أيضاً بِكل طريق. وقوله (آية) عَلَامَةً. * * * وقوله: (وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) واحد المصانع مَصْنَعة وَمَصْنَع، وهي التي تتخذ للماء، وَقِيلَ مَبَانٍ ومعنى (لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ) أي لِأنْ تَخْلدوا، أَيْ وتتخذون مباني للخلودِ لا تتفكرون في الموتِ. * * * وقوله: (وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) جاء في التفسير أَن بطْشَهم كانَ بالسَّوطِ والسَّيْفِ، وإنما أنكر ذلك عليهم لأنه ظلم، فأمَّا في الحق فالبطش بالسوط والسيف جائز. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) الهضيم: الداخل بعضه في بعض، وهو فيما قيل أن رُطبَهُ بغير نوًى، وقيل الهضيم الذي يَتَهشمُ تَهَشماً. والهضيم في اللغة الضامِرُ الداخل بعضه في بعض ولا شيء في الطلع أبلغ من هذا. * * * وقوله: (وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149) (فَرِهِين). جاء في التَفسير أَشِرِين وجاء في التفسير فَرِحِين، وقرئت (فَارِهين) ومعنى فَارِهين حاذقين. و" فرهين " منصوب على الحال. * * * وقوله: (قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153)

(176)

أي مِمن له سَحْر، والسحْرُ الرِّئةُ، أي إنما أَنْتَ بَشَر مِثْلُنَا. وجائز أن يكون (مِنَ الْمُسَحَّرِينَ) من المفَعَّلِينَ من السحْر أي ممن قد سُحِرَ مرة بعد مَرة. * * * وقوله: (إِنْ هَذَا إِلَّا [خَلْقُ] الْأَوَّلِينَ (137) ويقرأ (خُلُقُ الأولينَ)، فمن قرأ خُلُق الأولِين بِضَمِ الخَاءِ فمعناه عادَةُ الأولين، ومن قرأ خَلْقُ بفتح الخاء، فمعناه اخْتِلاقُهُمْ وَكَذِبُهُمْ. وفي (خَلْقُ الأولين) وجه آخر، أي خُلقْنَا كما خُلِقَ من كان قَبلَنَا، نحيا كما حَيُوا، ونموتُ كما ماتوا وَلَا نُبْعَثُ، لأنَّهُمْ أنكروا البعث. * * * وقوله: (فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118). معناه احكم بيني وبينهم حكماً، والقاضي يسمى الفَتَّاحُ مِن هذا. * * * قوله عزَّ وجلَّ: (كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) الأيكةُ الشجر الملتَف، ويقال أيكة وَأَيْك، مثل أجَمَة، وأَجَم والفصل بين واحده وجمعه الهاء. ويقال في التفسير إن أصحاب الأيكة هؤلاء كانوا أصحاب شجر مُلْتَف، ويقال إن شجرهم هو الدَّومُ. والدَّوْمُ هو شجر المُقْلِ. وأكثر القراء - على إثبات الألف واللام في الأيكة، وكذلك يَقرأ أبو عمرو وأكثر القرَّاءِ، وقرأ أهل المدينة أصحابُ لَيْكة مفتوحة اللام، فإذا وَقَفَ - على أَصْحَاب، قَالَ ليكَة المرْسَلِين. وكذلك هي في هذه السورَةِ بغير ألف في المصحف، وكذلك أيضاً في سورة (ص) بغير ألف وفي سَائِر القرآن بألف. ويجوز وهو حسن جدًّا: " كذَبَ أصحاب آلأيكة المُرْسَلِينَ " بِغَيْر ألف في الخطَ - على الكسر - على

(189)

أن الأصل الأيكة فَألْقِيتِ القمْزَ فقيل لَيْكَةِ، والعرب تقول الأحمر جاءني، وتقول إذا أَلْقَتْ الهمزة لَحْمَرُ جاءَ في بفتح اللام وإثبات ألف الوصل، ويقولون أيضاً: لاحْمر جاءني يُرِيدُون الأحمر؛ وإثبات الألف واللام فيهما في سائر القرآن يدل على أنَّْ حَذْفَ الهمزة منها التي هي ألف الوصل بمنزلة قولهم لاَحمر. قال أَبُو إسْحَاق: - أعني إن القَراءَةَ بِجر لَيْكَةِ، وأنت تريد الأيكَةِ واللام، أجود من أَنْ تَجْعَلَها لَيْكة، وأنت لا تقدِّرُ الألفَ واللامَ وَتَفتَحُها لأنها لا تَنْصِرُفُ، لأن لَيْكة لا تعرفُ وَإنما هي أيكةُ للواحِد وأيك للجمع، فأجود القراءة فيها الكسر، وإسقاط الفمزة لموافقة المصحف، وأهل المدينة يفتحون على ما جاء في التفسير أن اسم المدينة التي كانت للذين أرسل إليهم شُعَيبٌ عليه السلام (لَيْكَةُ). وكان أبو عُبَيدْ القاسم بن سلام يختار قِراءةَ أَهْلِ المدينة والفَتْحَ، لأن لَيْكَة لا تنصرف، وذَكر أنه اختار ذلك لِمُوَافَقَتِها الكتاب مع مَا جَاءَ في التفسير، كأنَّها تسمى المدينة الأيكة، وتسمَّى الغيضَةُ التي تَضَمُّ هذا الشجَرَ الأيكة. والكسر جَيِّدٌ على ما وصفنا، ولا أعلَمُه إلَّا قد قرئ * * * وقوله: (فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) الظُّلَّة: سحابة أَظَلَّتْهُم، فاجتمعوا تحتَها مستجيرين بها مما نالهم من حَرِّ ذلك اليوم ثُمَّ أَطْبقَتْ عَلَيْهِمْ فَكان من أعظم يوم في الدنيا عَذَاباً. (إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ).

ولو كان في غير القرآن لجاز عَظيماً، والجر أَجْوَدُ كَمَا جَاءَ به القرآنُ. * * * وقوله: (وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ). وقرأ ابن مَسْعُودٍ " مَا أَصْلَحَ لَكُمْ رَبكُمْ من أزواجكم " يعنى به الْفُرُوجُ، وعلى ذلك التفسير. وذلك أَنَّ قومَ لُوطٍ كانوا يَعْدِلونَ في النساء عن الفروج إلى الأدْبَارِ، فأَعلم اللَّهُ عزَّ وجلًَّ أَنَّهُمْ بفعلِهم هذا عَادُونَ. وعادون ظالمونَ غاية الظلْمِ. ويروى أن ابنَ عُمَرَ سئل عن التحمِيضِ، فقال: أَوَ يفْعَل ذلكَ المُسْلِمُون والتحميض فعل قوم لوط بالنّساء والرجال. ومن أجاز هذا في النساء فمخطئ خطأ عَظِيماً. * * * قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (171) وقوله: (قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168) والقالي: التارك للشيء الكاره له غاية الكراهة. وقوله: (إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (171) جاء في التفسير في الباقين في العذاب، والغابر في اللغة الباقي وأنشدوا للعجاج. فَمَا وَنى محمدٌ مُذْ أَنْ غَفَرْ. . . له الإِلهُ ما مَضَى وما غَبَرْ

(194)

وأنشدوا للعجاجِ: لا تَكْسَعِ الشَّوْلَ بأَغْبارِها. . . إَنَّكَ لا تَدْرِي مَنِ الناتِجُ أغبارها ما بقي من اللبن في أخلاف الناقَةِ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) ويقرأ (نَزَّلَ بِهِ الرُّوحَ الْأَمِينَ)، المعنى نزل اللَّه به الروحَ الأمينَ. والروح الأمين. جبريل عليه السلام. وقوله: (عَلَى قَلْبِكَ). مَعْنَاه نَزَل عَلَيِك فوعاه قَلْبُكَ وَثَبَتَ فلا تنساهُ أَبداً ولا شيئاً منه. كما قال عزَّ وجلَّ: (سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى). * * * وقوله: (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) تأويله واللَّه أعلم أن ذِكرَ مُحمدٍ عليه السلام وذكر القرآن في زبُر الأولين، والزُّبُر الكُتب، زَبور وَزبُر مثل قولك رَسول وَرُسل كما قال الله عزَّ وجلَّ: (يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ). * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184)

(197)

(وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ). عطف على الكاف والميم المعنَى اتَقُوا الَّذِي خَلَقَكُم وخلق الْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ. ويقرأ والجُبُلَّةَ بضم الجيم والباء، ويجوز: والجِبْلَة الأولين والجُبلة الأولين. فأمَّا الأوْلَيَانِ فالقراءة بهِمَا، وهاتان جائزتان. * * * قوله: (فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ) - وكِسْفاً - يُقْرأ بهما جميعاً. فمن قرأ كِسْفاً - بإسْكانِ السينِ - فمعناه جانباً، وَمَنْ قَرأ كِسَفاً فتأويله قِطَعاً من السماء جمع كِسْفَة وكِسَف، مثل كِسْرة وكِسَر. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197) إذا قلت (يَكُنْ) فالاختيار نصب (آيَةً). ويكونُ (أَنْ يَعْلَمَهُ) اسم كان ويكون (آيَةً) خبر كان، المعنى أو لم يكن عِلْم علماء بني إسرائيل أن النبي عليه السلام حق وأنَّ نبوتَه حق آيةً؛ أي علامة موضِّحةً، لأن العُلمَاءَ الذين آمنوا من بني إسرائيل وجدوا ذكر النبي عليه السلام مكتوباً عِنْدَهُمْ في التوراة والإِنجيل، كما قال اللَّه عزَّ وجلَّ. ومن قرأ (أَوَلَمْ تَكُنْ لَهُمْ آيَةٌ) - بالتاء - جعل " آية " هي الاسم. و" أن يَعْلَمَه " خبر (يكن). ويجوز أيضاً " أولم تَكُنْ لهم آيَةً " بالتاء ونصب آية كما قال عزَّ وجلَّ: (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا). ومثله قول لبيد: فَمَضَى وقَدَّمَها وكانت عادةً. . . مِنه إِذا هِيَ عَرَّدَتْ إِقْدامُها

(198)

فنصب (عادةً) وقد أنث (كَانَت) وهي للإقدام، لأن الاسم والخبر في كان لشيء وَاحِد وقد جَاوَرَ الفعلَ لفظ التأنيث. * * * وقوله تعالى: (وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) (الأعجمين) جمع أعجم، والأنثى عجماء، والأعجم الذي لا يفصح، وكذلك الأعجمي، فأمَّا العَجَميُّ فالذي من جنس العَجَم. أَفْصَحَ أو لم يفصح. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) أي سلكنا تَكذيبَهُم به في قُلُوبهم، جعل اللَّه - عزَّ وَجَل - مُجازَاتَهُمْ أَنْ طَبَعَ على قلوبهم وَسَلك فِيها الشركَ. (لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201) أخبرِ عزَّ وجلَّ أنه لما سلك في قلوبهم الشرك منعهم من الإيمان * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (202) معنى (بَغْتَةً) فجاءة. * * * وقوله: (وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209) (ذِكْرَى) يكون نَصْباً ويكون رَفْعاً إلا أن الإعراب لا يظهر فيها لأن آخرها ألف مَقْصُورَة، فمن نَصَبَ فعلى المصدَرِ ودَلّ عَلَيْه الِإنذارُ لأن قوله: (إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ) معناه ألا لها مُذَكِرونَ ذكرى. ويجوز أن تكون

(210)

في موضع رفع على معنى إنْذَارُنَا ذِكْرَى، على خَبَرِ الابْتِداء، ويجوز ذِكراً وما كنا ظالمين، مُنَوَّن ولا أعلم أَحَداً قرأ بها، فلا تقرأنَّ بها إلا أنْ تثْبتَ بها رِواية صَحِيحَة، يقال: ذَكرْتُه ذِكرَى بألف التأنيث وذكرته ذِكْراً وَتَذْكيراً وَتَذْكِرَةً وذَكْراً، وهو مِنِّي عَلَى ذُكْرٍ لاَ غَيْرُ. * * * وقوله: (وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وقرأ الحسن الشَيَاطُونَ، وهو غَلَط عِنْدَ النحويين، ومخَالَفَة عند القراء للمصحف. فليس يجوز في قراءة ولا عند النحويين، ولو كان يجوز في النحْو، والمصحفُ على خلافهْ لم تَجُزْ عندي القراءةُ به. * * * وقوله: (إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212) لمَّا رُمُوا بالنجوم مُنِعُوا من السَّمْعِ. * * * وقوله عزَّ جل: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) يُرْوَى في التفسير أنَّه لما نزلت هذه الآية نادى النبي - صلى الله عليه وسلم -: يا بني عبد المطلب، يا بني هاشم، يا بني عبد مناف يا عباسُ عَمَّ النبي يا صَفيَّةُ عَمَّةَ رسول اللَّه، إني لا أملك لكم من اللَّه شيئاً، سَلُونِي من مَالِي ما شِئْتُم. ويروى أَيْضاً أنه لما نزلت هذه الآية صَعَدَ الصفَا، وَنَادَى الأقربَ قالأقْرِبَ فخذاً فَخذاً. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) تأويله: ألِنْ جَنَاحَكَ، أُمِرَ النبي - صلى الله عليه وسلم - بإلانَةِ الجانب مَعَ مَا وَصَفَهُ اللَّه به من لين الخلق وتعظيم خُلُقِه فِي اللِّينِ وجميل الأخلاقِ. فقال: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4).

(219)

وقوله: (الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) أي المصلين. * * * وقوله: (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) ثم أنبأ فقال: (تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) لأنه عزَّ وجلَّ قال: (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192). ثم قال (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ). . و (ما تنزلت به الشيَاطِينُ) كالمتصِلِ بهذا، ثم أعلم أن الشياطين تَنَزَّلُ على كل أَفَاكٍ أثيم، أي على كل كَذَاب، لأنها كانت تأتي مُسَيْلِمَةَ الكذابَ وَغَيرَهُ من الكهَنَةِ فيلقونَ إليْهِم وَيَزيدُونَ أولئكَ كَذِباً. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) ويجوز يَتْبَعُهُم - بالتشديد والتخفيف -. والغاوونَ الشَيَاطِين في التفسير، وقيل أيضاً الغاوون من الناس، فإذا هجا الشاعِرُ بما لا يجوز، هَوِيَ ذلك قَوْم وأحبُّوه، وَهُمْ الغاوونَ، وكذلك إن مَدَح مَمْدوحاً بما ليس فيه أَحَبَّ ذَلِك قَوم وتابَعُوه فهم الغاوون. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) ليس يعنَى بِهِ أَوْدِية الأرْض، إنما هو مثل لقولهم وشعرهم، كما تقول في الكلام: أنا لك في وادٍ وَأَنْتَ لي في وادٍ، وليس يُريدُ أنك في وادٍ من الأرْضِ، إنما يريد أنا لَكَ في وادٍ مِنَ النفع كبيرٍ وأنت لي في صِنْفٍ. والمعنى أنهم يَغْلُونَ في الذم والمَدْح، وَيُكَذِبُونَ. ويمدَحُ الشَاعِرُ الرجلَ بِمَا لَيْسَ فيه، وكذلك الذمُّ فيَسبُّونَ، فذلك قوله:

(227)

(فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) وهذا دليل على تكذيبهم في قَوْلِهِمْ. ثم استثنى - عزَّ وجلَّ - الشعراء الذين مَدَحُوا رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وَرَدُّوا هجاءَ مَنْ هجاه وهجا المسلمين فقال: (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227) أي لَمْ يَشْغلْهم الشِّعْرُ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ عَز وَجَلً ولم يجعلوه هِمَّتَهُمْ. إنَّمَا ناضَلُوا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بِأيْديهم وَأَلْسِنَتِهِمْ، فَهَجَوْا من يستحق الهجاءَ وأحق الخلقِ بالهجاء من كذَّب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهجاه، فقال: (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا). وجاء في التفسير أن الذين عُنُوا بـ (الذين آمنوا وعملوا الصالحات) عبدُ اللَّه بنُ رواحة الأنْصَارِي وكعبُ بن مَالِك وحسَّانُ بن ثابت الأنْصَارِي. * * * وقوله: (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ). يعني أنهم ينقلبون إلى نار جهنم يُخلَّدون فيها. و" أَيَّ " منصوبة بقوله (يَنْقَلِبُونَ) لا بقوله (وَسَيَعْلَمُ) لأن " أيًّا " وَسَائِرَ الاستفهام لا يعمل فيها مَا قَبلها.

سورة النمل

سُورَةُ النَّمْل مكية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1) قال ابن عباس (طس) اسم من أسماء الله تعالى أقسم به. وقال قتادة إنه اسم من أَسْمَاءِ القرآن. وقوله: (تِلْكَ آيَات الَقرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ). معنى (تلك) أنهم كانوا وعدوا بالقرآن في كتبِهِمْ، فقيل لهم هَذِه " تلك الآيات، التي وعِدْتمْ بِها، وقد فسرنا ما في هذا في أولِ سورة البقرة و" كتاب " مخفوض على معنى تلك آيات القرآن آيَات كِتَابِ مُبِينٍ. ويجوز وكتَابٌ مبِينٌ، ولا أعلم أَحَداً قرأ بها، ويكون المعنىَ: تلك آيات القرآن وذلك كِتابٌ مبينٌ. * * * وقوله: (هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) يجوز أن يكون (هُدًى) في موضع نَصْبٍ على الحال، المعنى: تلكَ آيات الكِتابِ هَادِيةً وَمبشِرَةً. ويجوز أن يكون في موضع رفع من جهتين: إحداهما على إضمار هو هدى وبشرى، وإن شئت على البدل من آيات على معنى تِلْكَ هدى وبشرى، وإن شئت على البدل من آيات على معنى تِلْكَ هدى وَبشْرى. وفي الرفع وجه ثَالِث حَسَنٌ، على أن

(4)

يكون خَبراً بَعْدَ خَبَر، وهما جميعاً خَبر لـ تِلْكَ على معنى قولهم: هو حُلْو حامض أي قد جمع الطعمين. فيكون خير تلك آيات وخبرها هدى وبشرى، فتجمع أنها آيات وأَنَها هَادِية مُبَشِّرَة. * * * وقوله عزَّ جل: (إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أي جعلناجزاءهم على كفرهم أَنْ زَيَّنَا لهم مَا همْ فيه. (فهم يَعْمَهُونَ). أي يتحيرون، قال العجاج: أَعْمَى الهُدَى بالجاهِلينَ العُمَّهِ * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6) أي يلقى إليك القرآنُ وَحْياً مِنْ عِنْد الله أَنْزَلَه بعلمه وَحِكْمَتِهِ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) مَوْضِعُ (إذْ) نَصْبٌ. المعنى اذْكر إذْ قَالَ موسَى لأهْلِه، أي اذكر قِصةَ مُوسَى. وَمَعْنى آنَسْت ناراً رأيت ناراً. وقوله - عزَّ وجلَّ - (أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ). يقرأ بالتَّنْوين وبالإضافَةِ، فمن نَوَّنَ - جعل " قَبَس " من صِفَةِ شِهَابٍ، وكل أبْيضَ ذي نورٍ فَهُو شِهَاب. (وقوله عزَّ وجلَّ: (لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ). جاء في التفسير أنهم كانوا في شِتاءٍ، فلذلك احتاجوا إلى الاصطلاء. وقوله عزَّ وجلَّ: (فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8)

(10)

فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8) أي فلمَّا جاء موسَى النارَ (نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا). فموضع " أنْ " إن شئت كان نصباً وإن شئت كان رَفْعاً، فمن حكم - عليها بالنصب فالمعنى نوديَ مُوسَى بأنَّه بورك مَن في النَّار. واسم ما لم يُسَمَّ فاعله مضْمَر في (نودِيَ) ومن حكم عَلَيْها بالرفْعِ، كَانَت اسم ما لم يُسَمَّ فاعله، أي نُودِيَ أَنْ بُورِكَ. وجاء في التفسير أَن (مَنْ في النار) ههنا نور اللَّه - عزَّ وجلَّ - (ومَن حولها) قيل الملائِكَة وقيل نور اللَّه. وقوله: - (وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ). معناه تنزيه اللَّه تبارك وتعالى عن السوء، كذلك جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وكذا فسَّره أَهْلُ اللغَة. * * * وقوله: (وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) (فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا) أي تتحرك كما يتحرك الجَانُّ حركةً خفيفةْ، وكانت في صورة الثعبَانِ، وهو؛ العظيم من الحيات. (وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ). جاء في التفسير " لم يُعَقِبْ " لم يلتفت، وجَاءَ أيضاً لم يَرْجِعْ. وأَهل اللغة يقولون لم يرجع، يقال: قَدْ عقَّبَ فُلان إذا رجع يُقَاتِل بَعْدَ أَنْ وَلى. قال لبيد: حتَّى تَهَجَّرَ في الرَّواحِ وهاجَهُ. . . طَلَبُ المُعَقِّبِ حَقَّه المَظْلومُ

(11)

وقوله عزَّ وجلَّ: (إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ). معناه لا يخاف عندي المُرْسَلُونَ. * * * وقوله: (إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11) (إِلَّا) استثناء ليس من الأوَّلِ، والمعنى، واللَّه أعلم، لكن مَنْ ظَلَمَ ثم تابَ من المرسلين وغيرهم، وذَلك قوله: (ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ). * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (12) المعنىْ أدخل يدك في جيبك وأخرجها تخرج بَيْضَاءَ مِنْ غير سُوء. جاء في التفسير (مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) من غير برص، وجاء أيضاً، أنه كانت عليه مِدْرَعةُ صُوف بغير كُمَّين. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ). " في " من صلة قوله: وَأَلْقِ عَصَاكَ، وأدخل يَدَك. فالتأويل: وأظهر هَاتَيْن الآيتين في تِسْع آياتٍ وَتَأويله مِنْ بَيْن آيَاتٍ. وجاء في التفسير أَنَّ التِّسْعَ كونُ يدِه بيضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ، وكونُ العَصَا حَيَّة وما أَصَابَ آل فِرْعَوْنَ من الجدْبِ فِي بَوَادِيهِمْ، وَنَقْصُ الثِّمَارِ مِنْ مَزَارِعِهمْ. وإِرْسالُ الجَرادِ عَلَيْهم، والقُمَّل، والضَفَادِع، والدَّم والطُوفَان. فهذه تِسْعُ آياتٍ. ومثل قوله: (فِي تِسْعِ آيَاتٍ)، وَمَعْنَاه، مِنْ تِسْعٍ قَوْلهم: خُذْ لي عَشْراً منَ الِإبل فيها فَحْلَانِ، المعنى منها فَحْلانِ. * * * وقوله: (فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13)

(14)

أي واضحة، ويجوز مُبْصَرةً، ومعناها مُبَيَّنَة تُبْصَرُ وَتُرى. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14) المعنى: وجحدوا بها ظَلْماً وعُلُوا، أي: تَرَفعاً عَنِ أَنْ يؤمِنُوا بما جاء به مُوسَى عليه السلام. فجَحَدَوا بها وَهم يَعلَمُونَ أَنها مِنْ عِنْد اللَّهِ. * * * وقوله عزَّ جل: (وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) جاء في التفسير أنه وَرِثَه نُبُوتَهُ وَمُلْكَهُ، وَرُوِيَ أنه كان لداود تسعةَ عشَرَ وَلَداً فورثه سُلَيْمَانُ من بينهم النبُوةَ والمُلْك. وقوله: (وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ). وجاء في التفسير أنه البُلْهُ مِنها. وأحسبه - والله أعلم - مَا أَلْهَمَ اللَّهُ الطيرَ مما يُسَبِّحُهُ به، كما قال: (وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ). وقوله: (وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ). المعنى أوتينا من كل شيء يجوز أَنْ يُؤتَاهُ الأنْبِياءُ والنَّاسُ وكذلك قوله: (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) أي من كل شيء يؤتاه مِثْلُهَا وعلى هَذا جرى كلام النَّاسِ، يقول القائل: قد قَصَدَ فلَاناً كل أَحَدٍ في حَاجَتِهِ. المعنى قصده كثير من الناس.

(17)

وقوله تعالى: (وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) في اللغة يُوزَعُونَ يُكَفُّونَ، وجاء في التفْسِير يُكَف أَولُهُمْ ويحبَسُ أَولُهُم عَلَى آخِرِهم. * * * (حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) يروى أن وادي النمل هذا كان بِالشامِ، وأن نَمْلَ سُلَيْمَانَ عَلَيْه السلاَمُ كان مثال الذُّبَاب. (قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ). جاء لفظ ادْخُلوا كلفظ ما يَعْقِل، يقال للناس: ادخلوا وكذلك للملائِكَةِ والجنِّ، وكذلك دَخَلُوا، فإذا ذكرت النمل قلت: قَدْ دَخَلْنَ وَدَخَلَتْ، وكذلك سائر ما لا يعقل، إلا أَنَّ النمل ههنا أُجْرِيَ مَجْرَى الآدَمِيينَ حين نطق كما ينطق الآدَمِيونَ. (لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ). (لَا تَحْطِمَنَّكُمْ) ويقرأ (لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ)، ولا تُحَطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ، ولا يُحَطِّمَنَّكُمْ. جائزةٌ (1). وقوله: (فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19) لأن أكثرَ ضحِكَ الأنبياءِ عليهم السلام التبسم. وَ (ضَاحِكًا) منصوب، حال مُؤكَدَةٌ، لأن تبسَّمَ بمعنى ضحِكَ. وقال: (رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ). معنى (أَوْزِعْنِي) ألْهِمْني، وتأويله في اللغة كُفَّنِي عن الأشياء

_ (1) قال ابن الجوزي: قوله تعالى: {لا يَحْطِمَنَّكُمْ} الحَطْم: الكَسْر. وقرأ أُبيُّ بن كعب، وأبو رجاء {لَيَحْطِمَنَّكُمْ} بغير ألف بعد اللام. وقرأ ابن مسعود: {لا يَحْطِمْكُمْ} بفتح الياء وسكون الحاء وتخفيف الطاء وسكون الميم وحذف النون. وقرأ عمرو بن العاص، وأبان {يَحْطِمَنْكُمْ} بفتح الياء وسكون الحاء والنون ساكنة أيضاً والطاء خفيفة. وقرا أبو المتوكل، وأبو مجلز: {لا يَحِطِّمَنَّكُمْ} بفتح الياء وكسر الحاء وتشديد الطاء والنون جميعاً. وقرأ ابن السميفع، وابن يعمر، وعاصم الجحدري: {يُحْطِمَنَّكُمْ} برفع الياء وسكون الحاء وتخفيف الطاء وتشديد النون. والحَطْمُ: الكَسْر، والحُطَام: ما تحطَّم. قال مقاتل: سمع سليمان كلامها من ثلاثة أميال. اهـ (زاد المسير. 6/ 161 - 162) وقال السَّمين: قوله: {قَالَتْ نَمْلَةٌ} هذه النملةُ هنا مؤنثةٌ حقيقيةٌ بدليلِ لَحاقِ علامةِ التأنيثِ فِعْلَها؛ لأنَّ نملةَ يُطْلَقُ على الذَّكَرِ وعلى الأنْثى، فإذا أُريد تمييزُ ذلك قيل: نَمْلَةٌ ذَكَرٌ ونملةٌ أُنْثى نحو: حَمامةٌ ويَمامةٌ. وحكى الزمخشري عن أبي حنيفةَ رضي الله عنه. أنه وقف على قتادةَ وهو يقول: سَلُوني. فأمَرَ مَنْ سأله عن نملةِ سليمان: هل كانت ذكراً أو أنثى؟ فلم يُجب. فقيل لأبي حنيفة في ذلك؟ فقال: كانَتْ أنثى. واستدل بلَحاقِ العلامةِ. قال الزمخشري: «وذلك أنَّ النَّمْلَةَ مثلُ الحمامةِ والشاةِ في وقوعِهما على المذكَّرِ والمؤنثِ فيُمَيَّزُ بينهما بعلامةٍ نحو قولهم: حمامةٌ ذَكَرٌ وحمامَةٌ أُنْثى، وهو وهي» انتهى. إلاَّ أنَّ الشيخَ قد رَدَّ هذا فقال: «ولَحاقُ التاءِ في» قالَتْ «لا يَدُلُّ على أنَّ النملةَ مؤنثٌ، بل يَصِحُّ أن يُقال في المذكر:» قالت نملة «؛ لأنَّ» نملة «وإنْ كانَتْ بالتاء هو ممَّا لا يتميَّزُ فيه المذكرُ من المؤمث، وما كان كذلك كالنَّمْلَةِ والقَمْلة مِمَّا بَيْنَه في الجمعِ وبين واحدِه تاءُ التأنيثِ من الحيوان، فإنَّه يُخْبَرُ عنه إخبارُ المؤنثِ، ولا يَدُلُّ كونُه يُخْبَرُ عنه إخبارُ المؤنثِ على أنه ذَكَرٌ أو أنثى؛ لأن التاءَ دخلت فيه للفَرْقِ لا للدلالةِ على التأنيثِ الحقيقيِّ، بل دالةٌ على الواحدِ من هذا الجنس»، قال: «وكان قتادةُ بصيراً بالعربيةِ. وكونُه أُفْحِمَ يَدُلُّ على معرفتهِ باللسانِ؛ إذْ عَلِم أنَّ النملةَ يُخبر عنها إخبارُ المؤنث، وإنْ كانَتْ تنطلقُ على الأنثى والذكرِ إذْ لا يَتَمَيَّزُ فيه أحدُ هذين. ولحاقُ العلامةِ لا يَدُلُّ، فلا يُعْلَمُ التذكيرُ والتأنيثُ إلاَّ بوحيٍ من اللهِ تعالى «قال:» وأمَّا استنباطُ تأنيثِه من كتابِ اللهِ ب «قالَتْ» ولو كان ذَكَراً لقيل: قال، فكلامُ النحاةِ على خِلافه، وأنَّه لا يُخْبر عنه ألاَّ إخبارُ المؤنثِ سواءً كان ذكراً أم أنثى «، قال:» وأمَّا تشبيهُ الزمخشري/ النملةَ بالحمامةِ والشاةِ ففيهما قَدْرٌ مشتركٌ يتميَّزُ فيهما المذكرُ من المؤنثِ فيمكن أَنْ يقول: حمامةٌ ذَكَرٌ وحمامةٌ أنثى فتمييزُه بالصفة، وأمَّا تمييزُه ب هو وهي فإنه لا يجوزُ. لا تقول: هو الحمامةُ ولا هو الشاةُ، وأمَّا النملةُ والقملةُ فلا يَتَمَيَّزُ فيه المذكرُ من المؤنثِ فلا يجوز في الإِخبار إلاَّ التأنيثُ، وحكمُه حكمُ المؤنثِ بالتاءِ من الحيوان نحو: المرأة، أو غيرِ العاقل كالدابَّة، إلاَّ إنْ وَقَعَ فَصْلٌ بين الفعلِ وبين ما أُسْنِدَ إليه من ذلك، فيجوزُ أَنْ تَلحق العلامةُ وأن لا تَلْحَقَها على ما تقرَّر في علم العربية «انتهى. أمَّا ما ذكره ففيه نظرٌ: من حيث إنَّ التأنيثَ: أمَّا لفظيٌّ أو معنويٌّ، واللفظيُّ لا يُعتبر في لحاقِ العلامةِ ألبتَّةَ، بدليلِ أنه لا يجوز:» قامَتْ ربعةُ «وأنت تعني رجلاً؛ ولذلك لا يجوز: قامت طلحةُ ولا حمزةُ عَلَمَيْ مذكرٍ، فَتَعَيَّنَ أن يكونَ اللَّحاقُ إنما هو للتأنيثِ المعنويِّ، وإنما تعيَّن لفظُ التأنيثِ والتذكيرِ في بابِ العددِ على معنى خاصٍّ أيضاً: وهو أنَّا ننظر إلى ما عامَلَتِ العربُ ذلك اللفظَ به من تذكيرٍ أو تأنيثٍ، من غيرِ نَظَرٍ إلى مدلولهِ فهناك له هذا الاعتبارُ، وتحقيقُه هنا يُخْرِجُنا عن المقصودِ، وإنما نَبَّهْتُك على القَدْرِ المحتاج إليه. وأمَّا قولُه:» وأمَّا النملةُ والقَمْلةُ فلا يَتَمَيَّزُ «يعني: لا يُتَوَصَّلُ لمعرفةِ الذَّكرِ منهما ولا الأنثى بخلافِ الحمامةِ والشاةِ؛ فإنَّ الاطلاعِ على ذلك ممكنٌ فهو أيضاً ممنوعٌ. قد يمكن الاطلاعُ على ذلك، وإنَّ الاطلاع على ذكوريَّةِ الحمامةِ والشاةِ أسهلُ من الاطلاعِ على ذُكورِيَّةِ النملةِ والقملةِ. ومَنْعُه أيضاً أن يقال: هو الشاةُ، وهو الحمامة، ممنوعٌ. وقرأ الحسن وطلحة ومعتمر بن سليمان النَّمُل ونَمُلة بضم الميم وفتح النون بزنةِ رَجُل وسَمُرَة. وسليمان التميمي بضمتين فيهما. وقد تقدَّم أن ذلك لغاتٌ في الواحدِ والجمعِ. قوله: {لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ} فيه وجهان، أحدهما: أنه نهيٌ. والثاني: أنه جوابٌ للأمرِ، وإذا كان نَهْياً ففيه وجهان، أحدُهما: أنه نهيٌ مستأنِفٌ لا تَعَلُّقَ له بما قبله من حيث الإِعرابُ، وإنما هو نهيٌ للجنودِ في اللفظِ، وفي المعنى للنَّمْلِ أي: لا تكونوا بحيث يَحْطِموْنَكُمْ كقولهِم: «لا أُرَيَنَّك ههنا». والثاني: أنه بدلٌ من جملةِ الأمرِ قبلَه، وهي ادْخلوا. وقد تَعَرَّضَ الزمخشريُّ لذلك فقال: «فإنْ قلتَ: لا يَحْطِمَنَّكم ما هو؟ قتل: يُحتمل أَنْ يكونَ جواباً للأمرِ، وأَنْ يكونَ نهياً بدلاً من الأمرِ. والذي جَوَّزَ أَنْ يكونَ بدلاً أنه في معنى: لا تكونوا حيث أنتم، فيَحْطِمَنَّكم، على طريقةِ» لا أُرَيَنَّك ههنا «أرادَتْ: لا يَحْطِمنكم جنودُ سليمان، فجاءت بما هو أبلغُ. ونحوُه» عَجِبْتُ من نفسي ومن إشْفاقِها «. قال الشيخ: أمَّا تخريجُه على أنه جوابٌ للأمرِ فلا يكون ذلك إلاَّ على قراءةِ الأعمشِ فإنه مجزومٌ، مع أنه يُحْتمل أن يكونَ اشتئنافَ نهي» قلت: يعني أنَّ الأعمشَ قرأ «لا يَحْطِمْكم» بجزم الميمِ، دونَ نونِ توكيدٍ. قال: وأمَّا مع وجودِ نونِ التوكيد فلا يجوزُ ذلك، إلاَّ إنْ كان في شعرٍ، وإذا لم يَجُزْ ذلك في جوابِ الشرطِ إلاَّ في الشعر فأحرى أَنْ لا يجوزَ في جوابِ الأمرِ إلاَّ في الشعرِ. وكونُه جوابُ الأمرِ متنازعٌ فيه على ما قُرِّرَ في علمِ النحوِ. ومثالُ مجِيءِ النونِ في جوابِ الشرطِ قولُ الشاعر: 3546 نَبَتُّمْ نباتَ الخَيْزُرانةِ في الثَّرَى. . . حديثاً متى يأتِك الخيرُ يَنْفَعا وقول الآخر: 3547 فمهما تَشَأْ منه فَزارةُ تُعطِكُمْ. . . ومهما تَشَأْ منه فَزارةُ تَمْنعا قال سيبويه: «وهو قليلٌ في الشعرِ شَبَّهوه بالنهيِ حيث كان مجزوماً غيرَ واجب» قال: «وأما تخريجُه على البدلِ فلا يجوزُ لأنَّ مدلولَ» لا يَحْطِمَنَّكم «مخالِفٌ لمدلولِ» ادْخُلوا «. وأمَّا قولُه لأنَّه بمعنى: لا تكونوا حيث أنتم فَيَحْطِمَنَّكم فتفسيرُ معنى لا إعراب/ والبدلُ من صفةِ الألفاظِ. نعم لو كان اللفظُ القرآنيُّ: لا تكونوا بحيث لا يَحْطِمَنَّكم لتُخُيِّلَ فيه البدلُ؛ لأنَّ الأمرَ بدخولِ المساكنِ نهيٌ عن كونِهم بظاهرِ الأرضِ. وأمَّا قوله:» إنه أراد لا يحْطِمَنَّكم جنودُ سليمان إلى آخرِه «فسوِّغُ زيادةَ الأسماءِ وهي لا تجوزُ، بل الظاهرُ إسنادُ الحكمِ إلى سليمانَ وإلى جنودِه. وهو على حَذْفِ مضافٍ أي: خيلُ سليمانَ وجنودُه، أو نحو ذلك، مما يَصِحُّ تقديره». انتهى. أمَّا مَنْعُه كونَه جوابَ الأمرِ مِنْ أجلِ النون فقد سبقه إليه أبو البقاء فقال: «وهو ضعيفٌ؛ لأنَّ جوابَ الشرطِ لا يؤكَّدُ بالنونِ في الاختيار». وأمَّا مَنْعُهُ البدلَ بما ذَكَر فلا نُسَلِّم تغايُرَ المدلولِ بالنسبةِ لِما يَؤُول إليه المعنى. وأمَّا قوله: «فيُسَوِّغُ زيادةَ الأسماءِ» لم يُسَوِّغ ذلك، وإنما فَسَّر المعنى. وعلى تقدير ذلك فقد قيل به. وجاء الخطابُ في قولها: «ادْخُلوا» كخطابِ العقلاء لَمَّا عُوْمِلوا معاملتَهم. وقرأ أُبَيٌّ «ادْخُلْنَ»، «مَساكِنَكُنَّ»، «لا يَحْطِمَنْكُنَّ» بالنونِ الخفيفةِ جاءَ به على الأصل. وقرأ شهر بن حوشب «مَسْكَنَكُمْ» بالإِفراد. وقرأ حسن وأبو رجاء وقتادة وعيسى الهمداني بضمِّ الياءِ، وفتحِ الحاءِ، وتشديدِ الطاءِ والنونِ، مضارعَ حَطَّمه بالتشديد. وعن الحسن أيضاً قراءاتان: فتحُ الياءُ وتشديدُ الطاءِ مع سكونِ الحاءِ وكسرِها. والأصل: لا يَحْتَطِمَنَّكم فأَدْغَم. وإسكانُ الحاءِ مُشْكِلٌ تقدَّم نظيرُه في «لا يَهِدِّي» ونحوِه. وقرأ ابن أبي إسحاقَ ويعقوبُ وأبو عمروٍ في روايةٍ بسكونِ نونِ التوكيدِ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(20)

إلَّا عَنْ شُكْرِ نِعْمَتِكَ، أَي كُفني عما يباعِدُ مِنْكَ. (وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ). * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) بفتح الياء وإِسْكانِها فِي مَالِيَ، والفتحُ أَجْوَد، وقد فسرنا ذلك. وقوله (أَمْ كانَ مِنَ الغائبين) معناه بَلْ كان مِنَ الغائبين. وجاء في التفسير أن سليمان - صلى الله عليه وسلم - تفقد الهُدْهُدَ لأنه كان مهندسَ الماء، وكان سُلَيْمَانُ عليه السلام، إذا نَزَلَ بفلاةٍ مِنَ الأرْضِ عرف مقدار مسافةِ الماء من الهُدْهُدِ. وقيل إنّ الهُدْهدَ يرى الماء في الأرْضِ كما يُرى الماءُ في الزُّجَاجَةِ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21) رُوِيَ أن عذاب سلَيمَانَ - كان للطير - أن ينتفَ ريش جناح الطائر ويُلْقَى في الشَمْسِ. (أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ). أي ليأتِينيَ بحجةٍ في غَيْبَتِه. * * * وقوله: (فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) ويقرأ فَمَكُثَ بضم الكاف وفَتْحِها، أي غَيْرَ وَقتٍ بَعِيد. وقوله: (فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ).

المعنى فجاء الهُدْهُدُ فسأله سُلَيمَانُ عن غَيبته، فقال أَحَطتُ بما لم تُحِطْ بِه، وحذف هذا لأن في الكلام دليلاً عليه، ومعنى أَحَطْتُ علمتُ شيئاً من جميع جهاته، تقول: أحطتُ بهذا علماً، أي علمتُه كُلَّه لم يَبْقَ عليَّ منه شيء. وقوله: (وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ). يقرأ بالصرف والتنوين، ويقرأ من سَبَأَ - بفتح سَبأَ وحَذْفِ التنوين، فأمَّا من لم يَصْرِف فيجعله اسم مَدِية، وأما من صَرَف، فذكر قوم من النحويين أنه اسمُ رَجُل وَاحِدٍ، وذكر آخرُونَ أن الاسم إذَا لم يُدْرَ ما هُوَ لم يُصْرَف، وأحد هذين القولين خطأ لأن " الأسماء حقهِا الصرْفُ، فإذا لم يعلم الاسم للمذكر هو أو للمؤنثِ فحقه الصرْفُ حَتَّى يُعْلَمَ أنه لا ينصرف، لأن أصل الأسماء الصرف، وكل ما لا ينصرف فهو يُصْرَفُ في الشعر. وأما الذين قالوا إن سبأ اسم رجل فغلط أيضاً لأن سبأ هي مدينة تعرف بمأرب مِنَ اليَمَنِ بينها وبين صَنْعَاءَ ثلاثَةُ أَيام. قال الشاعر: مَنْ سَبَأَ الحاضِرِينَ مَأْرِبَ إِذْ. . . يَبْنُونَ مِنْ دُونِ سَيْلِها العَرِما فمن لم يصرف لأنه اسم مدينة، ومن صرفه - والصرف فيه أَكثرَ في القراءة - فلأنه يكون اسماً لِلْبَلَدِ فيكون مُذَكراً سُمِّيَ بِهِ مُذَكَّر فإن صحت فيه رواية، فإنما هو أن المدينة سميت باسم رَجُل.

(23)

وقوله: (إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) معناه وأوتيت من كل شيء تعطاه المُلُوكُ وَيؤتاهُ الناسُ، والعَرْشُ سَرِير عَظِيم. * * * وقوله: (أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) ويقرأ أَلَا يسجدوا، فمن قرأ بالتشديد، فالمعنى وزَيَّن لهم الشيطان أَعْمَالَهُمْ فصدهم أَلَّا يسجدوا، أي فَصَدهُمْ لِئَلا يَسْجُدُوا لله. ومَوْضِع (أَنْ) نَصْبٌ بقوله فَصَدهُمْ، ويجوز أن يكون مَوْضِعهَا جرًّا وَإنْ حُذِفَتِ اللامُ. ومن قرأ بالتخفيف فَـ ألَا لِابْتِدَاءِ الكلام والتنبيه، والوقوف عليه أَلَا يَا - ثم يستأنف فيقول: اسْجُدوا للَّهِ، وَمَنْ قرأ بالتخفيف فهو موضع سَجْدَةٍ من القرآن ومن قرأ آلَّا يَسجُدُوا - بالتشديد - فليس بموضع سَجْدة، ومثل قوله أَلاَ ياسْجُدوا بالتخفيف قول ذي الرُّمَّةِ. أَلا يا أسْلَمِي يا دارَ مَيَّ عَلى البِلى. . . ولا زالَ مُنْهلاًّ بِجَرْعائكِ القَطْرُ وقال الأخْطَلُ: أَلا يَا اسْلَمِي يَا هِنْدُ هِنْدَ بَني بَدْرِ. . . تَحِيَّةَ مَنْ صَلَّى فُؤَادَكِ بالجَمْرِ وقال العجاج

(28)

يا دارَ سَلْمَى يا اسْلَمِي ثم اسْلَمِي بسَمْسَمٍ أَو عن يمين سَمْسَمِ وإنما أكثرنا الشاهد في هذا الحرف كما فعل من قبلَنَا، وإنما فعلوا ذلك لقلة اعتياد العَامَّةِ لدخول " يا " إلَّا في النِداء، لا تَكادُ العامةُ تقُول: يَا قَدْ قَدِم زَيْد، ولا يا اذْهَبْ بِسَلام (1). * * * وقوله: (لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ). كل ما خبأته فهو خبء، وجاء في التفسير أن الخبء ههنا القَطْرُ من السمَاءِ، والنبات من الأرْضِ. ويجوز وهو الوجه أَنْ يكون الخبء كل ما غاب، فيكون المعنى يعلم الغيب في السَّمَاوَات والأرْضِ. ودليل هذا قوله تعالى: (وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ). * * * وفي قوله تعالى: (اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28) (أَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ) - خمسةُ أوْجه: فاَلْقِهِي إليْهِم بإثبات الياء - وهو أكثر القراءة، ويجوز فألْقِهِ - إلَيْهِمْ بحذف الياء وإثبات الكسرة، لأن أصله فألقيه إلَيْهِم. فحذفت الياء للجزم، أعني ياء ألقيه، ويجوز فَاَلْقِهُو إليهم بإثبات الواو. ويجوز فألقِهُ إليهم بالضمِّ، وحُذِفَتِ الواو، وقد قُرئ فألقِهْ إليهم بإسكان الهاء، فأمَّا إثبات الياء فهو أَجْوَدُها فألقهي، فإن الياء التي تسقط للجزم قَدْ سقطت قبل الهاء، لأن الأصل فألقيه إليهم، ومن حذف الياء وترك الكسرة بعد الهاء فلأنَّهُ كان إذا أثبت الياء في قولك أنا ألقيه إليهم كان الاختيار حذف الياء التي بعد الهاء. وقد شرحنا ذلك في قوله (يُؤدِّه إِليك) شرحاً كافياً. ومن قرأ (فألقِهو إليهم) ردَّه إلى أصله، والأصل إثبات الواو مع هاء الإِضمار. تقول ألقيتهو إليك. ومعنى قولنا إِثبات الواو والياء أعني في اللفظ ووصل الكلام، فإذا وقفت وقفت بهاء، وإذا كتبت كَتَبْتَ

_ (1) قال السَّمين: قوله: {أَلاَّ يَسْجُدُواْ}: قرأ الكسائيُّ بتخفيف «ألا»، والباقون بتشديدها. فأمَّا قراءةُ الكسائيِّ ف «ألا» فيها تنبيهٌ واستفتحاحٌ، و «يا» بعدها حرفُ نداءٍ أو تنبيهٍ أيضاً على ما سيأتي و «اسْجُدوا» فعلُ أمرٍ. وكان حَقٌّ الخَطِّ على هذه القراءةِ أن يكونَ «يا اسْجُدوا»، لكنَّ الصحابةَ أسقطُوا ألفَ «يا» وهمزةَ الوصلِ من «اسْجُدوا» خَطَّاً لَمَّا سَقَطا لفظاً، ووَصَلُوا الياءَ بسين «اسْجُدوا»، فصارَتْ صورتُه «يَسْجُدوا» كما ترى، فاتَّحدت القراءتان لفظاً وخَطَّاً واختلفتا تقديراً. واختلف النحويون في «يا» هذه: هل هي حرفُ تنبيهٍ أو للنداءِ، والمنادى محذوفٌ تقديرُه: يا هؤلاءِ اسْجُدوا؟ وقد تقدَّم ذلك عند قولِه: {ياليتني} [الآية: 73] في سورة النساء. والمرجَّحُ أَنْ تكونَ للتنبيهِ؛ لئلا يُؤَدِّيَ إلى حَذْفٍ كثيرٍ مِنْ غيرِ بقاءِ ما يَدُلُّ على المحذوفِ. ألا ترى أنَّ جملةَ النداءِ حُذِفَتْ، فلو ادَّعَيْتَ حَذْفَ المنادى كَثُرَ الحذفُ ولم يَبْقَ معمولٌ يَدُلُّ على عامِلِهِ، بخلافِ ما إذا جَعَْلتَها للتنبيهِ. ولكنْ عارَضَنَا هنا أنَّ قبلَها حرفَ تنبيهٍ آخرَ وهو «ألا». وقد اعْتُذِرَ عن ذلك: بأنه جُمِع بينهما تأكيداً. وإذا كانوا قد جَمَعُوا بين حرفين عامِلَيْنِ للتأكيدِ كقوله: 3559 فَأَصْبَحْنَ لا يَسْألْنَنِي عَنْ بما به. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . فغيرُ العامِلَيْن أولى. وأيضاً فقد جَمَعُوا بين حَرْفَيْنِ عامِلَيْنِ مُتَّحِدَّيْ اللفظِ والمعنى، كقوله: 3560 فلا واللهِ لا يلفى لِما بي. . . ولا لِلِما بهم أبداً دَواءُ فهذا أَوْلَى. وقد كَثُرَ مباشرةُ «يا» لفعلِ الأمرِ وقبلَها «ألا» التي للاستفتاح كقوله: 3561 ألا يا اسْلَمِي ثُمَّ اسْلمي ثُمَّتَ اسْلَمي. . . ثلاثَ تحيَّاتٍ وإنْ لَمْ تَكَلَّمي وقوله: 3562 ألا يا اسْلَمِي يا دارَ مَيَّ على البِلى. . . ولا زالَ مُنْهَلاًّ بجَرْعائِكِ القَطْرُ وقوله: 3563 ألا يا اسلمي ذاتَ الدَّماليجِ والعِقْدِ. . . وذَاتَ اللِّثاثِ الجُمِّ والفاحِمِ الجَعْدِ وقوله: 364 ألا يا اسْلمي يا هندُ هندَ بني بدرٍ. . . وإن كان حَيَّانا عِداً آخرَ الدهرِ وقوله: 3565 ألا يا اسْقِياني قبلَ حَبْلِ أبي بكرِ. . . لعل منايانا قَرُبْنَ ولا نَدْري وقوله: 3566 ألا يا اسْقِياني قبلَ غارةِ سِنْجالِ. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وقوله: 3567 فقالَتْ ألا يا اسْمَعْ أَعِظْكَ لخُطْبةٍ. . . فقلتُ: سَمِعْنا فانْطِقي وأَصِيْبي وقد جاءَ ذلك، وإنْ لم يكنْ قبلَها «ألا» كقوله: 3568 يا دارَ هندٍ يا اسْلَمي ثُمَّ اسْلَمي. . . بِسَمْسَِمٍ أو عَنْ يمين سَمْسَِمِ فقد عَرَفْتَ أنَّ قراءةَ الكسائيِّ قويةٌ لكثرةِ دَوْرِها في لغتهم. وقد سُمع ذلك في النثر، سُمِع بعضُهم يقول: ألا يا ارحموني، ألا يا تَصَدَّقوا علينا. وأمَّا قولُ الأخرِ: 3569 يا لعنةَ اللهِ والأقوامِ كلِّهمُ. . . والصالحينَ على سَمْعانَ مِنْ جارِ فيُحتمل أَنْ تكونَ يا للنداء، والمنادى محذوف، وأَنْ تكونَ للتنبيهِ وهو الأرجحُ لِما مَرَّ. واعلمْ أن الكسائيَّ الوقفُ عنده على «يَهْتَدون» تامٌّ. وله أن يَقِفَ على «ألا يا» معاً ويَبْتَدىءَ «اسْجُدوا» بهمزة مضمومةٍ، وله أَنْ يقفَ على «ألا» وحدَها، وعلى «يا» وحدَها؛ لأنهما حرفان منفصِلان. وهذان الوقفان وقفا اختبارٍ لا اختيارٍ؛ لأنهما حرفان لا يَتِمُّ معناهما، إلاَّ بما يتصلان به، وإنما فعله القراءُ امتحاناً وبياناً. فهذا توجيهُ قراءةِ الكسائيِّ، والخطبُ فيها سَهْلٌ. وأما قراءةُ الباقين فتحتاج إلى إمعانِ نَظَرٍ. وفيه أوجهٌ كثيرةٌ، أحدها: أنَّ «ألاَّ» أصلُها: أَنْ لا، ف «أنْ» ناصبةٌ للفعلِ بعدَها؛ ولذلك سَقَطَتْ نونُ الرفعِ، و «لا» بعدها حَرفُ نفيٍ. و «أنْ» وما بعدها في موضع مفعولِ «يَهْتَدون» على إسقاطِ الخافضِ، أي: إلى أن/ لا يَسْجُدوا. و «لا» مزيدةٌ كزيادتِها في {لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب} [الحديد: 29]. الثاني: أنه بدلٌ مِنْ «أعمالَهم» وما بينهما اعتراضٌ تقديرُه: وزَيَّن لهم الشيطانُ عدمَ السجودِ لله. الثالث: أنه بدلٌ من «السبيل» على زيادةِ «لا» أيضاً. والتقديرُ: فصَدَّهم عن السجودِ لله تعالى. الرابع: أنَّ {أَلاَّ يَسْجُدُواْ} مفعول له. وفي متعلَّقه وجهان، أحدهما: أنه زَيَّن أي: زَيَّن لهم لأجلِ أَنْ لا يَسْجدُوا. والثاني: أنَّه متعلِّقٌ ب «صَدَّهم» أي: صَدَّهم لأجلِ أَنْ لا يَسْجُدوا. وفي «لا» حينئذٍ وجهان، أحدهما: أنه ليسَتْ مزيدةً، بل نافيةٌ على معناها من النفي. والثاني: أنها مزيدةٌ والمعنى: وزَيَّن لهم لأجلِ توقُّعِه سُجودَهم، أو لأجْلِ خَوْفِه مِنْ سُجودِهم. وعدمُ الزيادةِ أظهرُ. الخامس: أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ. وهذا المبتدأُ: إمَّا أَنْ يُقَدَّرَ ضميراً عائداً على «أعمالَهم» التقديرُ: هي أن لا يَسْجدوا، فتكون «لا» على بابِها من النفي، وإمَّا أن يُقَدَّرَ ضميراً عائداً على «السبيل». التقديرُ: هو أَنْ لا يَسْجُدوا فتكون «لا» مزيدةً على ما تقدَّم ليَصِحَّ المعنى. وعلى الأوجهِ الأربعةِ المتقدمةِ لا يجوزُ الوقفُ على «يَهْتدون» لأنَّ ما بعدَه: إمَّا معمولٌ له أو لِما قبلَه مِنْ «زَيَّن» و «صَدَّ»، أو بدلٌ مِمَّا قبله أيضاً مِنْ «أعمالَهم» أو من «السبيل» على ما قُرِّر وحُرِّرَ، بخلافِ الوجهِ الخامسِ فإنه مبنيٌّ على مبتدأ مضمرٍ، وإن كان ذلك الضمير مُفَسَّراً بما سَبَقَ قبلَه. وقد كُتِبَتْ «ألاَّ» موصولةً غيرَ مفصولةٍ، فلم تُكْتَبْ «أنْ» منفصِلةً مِنْ «لا» فمِنْ ثَمَّ امتنعَ أَنْ يُوْقَفَ لهؤلاء في الابتلاء والامتحان على «أنْ» وحدَها لاتِّصالِها ب «لا» في الكتابةِ، بل يُوْقَفُ لهم على «ألاَّ» بجملتِها، كذا قال القُراء. والنحويون متى سُئِلوا عن مثلِ ذلك وَقَفُوا لأجلِ البيانِ على كلِّ كلمةٍ على حِدَتِها لضرورة البيانِ، وكونُها كُتِبَتْ متصلةً ب «لا» غيرُ مانعٍ من ذلك. ثم قولُ القُرَّاءِ كُتِبَتْ متصلةً فيه تجوُّزٌ وتَسامُحٌ؛ لأنَّ حقيقةَ هذا أَنْ يُثْبِتُوا صورةَ نونٍ ويَصِلُونها ب «لا»، فيكتبونها: أَنْلا، ولكن لَمَّا أُدْغِمَتْ فيما بعدَها لفظاً وذَهَبَ لفظُها إلى لفظِ ما بعدَها، قالوا ذلك تسامحاً. وقد رتَّب أبو إسحاق على القراءتين حُكماً: وهو وجوبُ سجودِ التلاوةِ وعَدَمُه؛ فأوجبه مع قراءةِ الكسائيِّ وكأنه لأجلِ الأمرِ به، ولم يُوْجِبْه في قراءة الباقين لعدمِ وجودِ الأمرِ فيها. إلاَّ أنَّ الزمخشريَّ لم يَرْتَضِه منه فإنه قال: «فإنْ قلتَ: أسَجْدَةُ التلاوةِ واجبةٌ في القراءتين جميعاً أو في واحدةٍ فيهما؟ قلت: هي واجبةٌ فيهما، وإحدى القراءتين أمرٌ بالسجودِ، والأخرى ذَمٌّ للتارك». فما ذكره الزجاج مِنْ وجوبِ السجدةِ مع التخفيفِ دونَ التشديدِ فغيرُ مرجوعٍ إليه. قلت: وكأنَّ الزجاجَ أخذ بظاهرِ الأمرِ، وظاهرُه الوجوبُ، وهذا لو خُلِّيْنا والآيةَ لكان السجودُ واجباً، ولكنْ دَلَّتِ السُّنَّةُ على استحبابِه دونَ وجوبِه، على أنَّا نقول: هذا مبنيٌّ على نظرٍ آخر: وهو أنَّ هذا الأمرَ من كلامِ اللهِ تعالى، أو من كلامِ الهُدْهُدِ محكيًّا عنه. فإنْ كان مِنْ كلامِ اللهِ تعالى فيُقال: يَقْتضي الوجوبَ، إلاَّ أَنْ يجيْءَ دليلٌ يَصْرِفُه عن ظاهرِه، وإنْ كان من كلامِ الهُدْهد وهو الظاهرُ ففي انتهاضِه دليلاً نظرٌ لا يخفى. وقرأ الأعمشُ «هَلاَّ»، و «هَلا» بقلب الهمزة هاءً مع تشديدِ «لا» وتخفيفها وكذا هي في مصحفِ عبد الله. وقرأ عبدُ الله «تَسْجُدون» بتاء الخطابِ ونونِ الرفع. وقُرِىءَ كذلك بالياءِ مِنْ تحتُ. فمَنْ أَثْبَتَ نونَ الرفعِ فألا بالتشديدِ أو التخفيفِ للتحضيضِ، وقد تكونُ المخففةُ للعَرْضِ أيضاً نحو: «ألا تَنْزِل عندنا نتحدَّث» وفي حرف عبدِ الله أيضاً: «ألا هَلْ تَسْجدُون» بالخطاب. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(29)

بهاء. ومن قرأ بحذف الواو وإثبَاتِ الضمةِ فذلك مثل حذف الياء وإثبات الكسرة، ومَنْ أَسْكَنَ الهاءَ فغالط، لأن لهاء ليست بمجزومة ولها وَجْه من القِياس، وهو أنه يُجْري الهاء في الوصل على حالها في الوقف، وأكثر ما يقع هذا في الشعر أن تحذف هذه الهاء وتبقي كسرة (1). قال الشاعر: فإنْ يَك غثاً أوسميناً فَإنَني. . . سأجعل عينيه لِنَفْسِهْ مَقْنَعاً وقوله تعالى: (ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ) فيه قولان: قال بعضهم: كل هناه التقديم والتأخير، معناه اذهب بِكِتَابي هذا فألقه إليهم فانظر مَاذَا يَرْجِعونَ ثم تول عنهم، وقال هذا لأنَّ رجوعَه من عندهم والتولي عنهم بعد أن ينظر ما الجواب. وهذا حسن، والتقديم والتأخير كثير في الكلام، وقالوا معنى (ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ) تول عنهم مسْتَتِراً من حَيْث لا يَرَوْنَكَ، فانظر ماذا يردونَ مِنَ الجواب. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) فمضى الهدهد فألقى الكتاب إليهم فسمِعَها تَقول: (يَا أيها الملأ) فحذف. هذا لأن في الكلام دليلًا عليه. ومعنى (كِتَابٌ كَرِيمٌ) حَسَن ما فيه، ثم بَيَّنَتْ ما فيه فَقَالَتْ: (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31)

_ (1) قال السَّمين: قوله: {فَأَلْقِهْ} قرأ أبو عمرو وحمزةُ وأبو بكر بإسكان الهاء، وقالون بكسرها فقط من غيرِ صلةٍ بلا خلافٍ عنه. وهشام عنه وجهان بالقصرِ والصلةِ. والباقون بالصلة بلا خلاف. وقد تقدَّم توجيهُ ذلك كلَّه في آل عمران والنساء وغيرِهما عند {يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران: 75] و {نُوَلِّهِ مَا تولى} [النساء: 115]. وقرأ مسلم بن جندب بضمِّ الهاءِ موصولةً بواوِ: «فَأَلْقِهُوْ إليهم» وقد تقدَّم أنَّ الضمَّ الأصلُ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

32)

فهذا ما كان في الكتاب، وكُتُبُ الأنبياءِ صَلَواتُ اللَّهِ عليهم جارية عَلَى الِإيجاز والاختصار، وقد رُوِيَ أن الكتاب كان من عبد اللَّه سُلَيمانَ إلى بلْقيس بنت سراحيل، وإنما كتب الناس من عبد اللَّه احتذاء بسُلَيْمَانَ. ومعنى (أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ) ألا تَترفَعُوا عليَّ وإنْ كُنْتُم مُلُوكاً. * * * وقوله: (قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) أَي بَيِّنُوا لي ما أَعمَل، والملأ وجُوهُ القَوْمِ، الذين هم مُلَاء بِمَا يحتاج إلَيْهِ. * * * (قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33) ويروى أنه كان مَعَها ألف قِيل والقَيْلُ الملِك، ومع كل قيل أَلْفُ رَجُل، وقيل مائة ألف رجل، وأكثر الرواية مائة ألف رجل. وقوله: (حَتى تَشْهَدُونِ). بكسر النُونِ، ولا يجوز فتح النون لأن أصله حتى (تشهدونَنِي) فَحُذِفَتْ النون الأولى للنَّصْبِ وبقيت النونُ والياء للاسم، وحُذِفَت الياءُ لأنَّ الكسرةَ تدل عليها، ولأنه آخر آية، وَمَنْ فتح النون فَلَاحِنٌ، لأنَّ النونَ إذا فتحت فهي نون الرفع، وليس هذا من التي ترفع فيه حَتى. ويجوز أنه مِنْ سُلَيْمان وأنه بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، بفتح الألف فيكون موضع أن الرفع على معنى: أُلْقِي إليَّ أنه من سُلَيمَانَ. ويجوز أن تكون (أن) في مَوْضع نَصْبِ على معنى كتاب كريم لأنه من سُلَيْمان ولأنهُ بسم اللَّه الرحمن الرحيم. فأمَّا (أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ) فيجوز أن يكون أنْ فِي مَوْضِع رَفْعٍ وفي موضع نَصْب، فالنصب على معنى كِتَاب

(34)

بِأنْ لَا تَعْلُوا عليً أي كتب بترك العُلُو، ويجوز على مَعْنى: ألقِيَ إليَّ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ، وفيها وجه آخر حَسَنٌ على معنى قال لا تَعْلُوا عَلَيَّ. وفسر سيبويه والخليل " أنَّ " أَنْ، في هذا الموضع في تأويل أي، على معنى أي لاَ تعلوا عَلَيَّ، ومثله من كتاب الله عزَّ وجلَّ: (وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا) وتأويل أي ههنا تأويل القول والتفسير، كما تقول فعل فلان كذا وكذا، أي إِنَي جوادٌ كاَنَكَ قُلْتَ: يقول إني جوادٌ (1). * * * وقوله: (قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) مَعْنَاه إذا دخلوها عَنْوة عن قتال وغلبة. (وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ). هو من قول اللَّه عزَّ وجلَّ - واللَّه أعلم - لأنها هي قد ذكرت أنَّهم يُفْسِدُونَ فليس في تكرير هذا مِنْهَا فائدة. * * * وقوله: (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) جاء في التفسير أنها أهْدَت سليمان لَبِنَةً ذَهَبٍ في حَرِيرٍ، وقيل لَبِنُ ذَهِبٍ في حرير. فأمر سليمانُ بِلِبنَةِ ذهب فطرحت تحت الدَّوابِّ، حيث تبول عليها الدَّوابُّ وتَرُوثُ، فَصَغرَ في أَعْينهم ما جاءوا به إلى سليمان، وقد ذُكِر أن الهَدِيَّة قَدْ كَانَتْ غيرَ هَذَا، إلا أَن قولَ سُلَيْمَانَ: (أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ) مما يدل على أن الهديَّة كانت مالاً. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ).

_ (1) قال السَّمين: قوله: {أَلاَّ تَعْلُواْ}: فيه أوجهٌ، أحدُها: أنَّ «أنْ» مفسِّرةٌ، كما تقدَّمَ في أحد الأوجهِ في «أنْ» قبلَها في قراءةِ عكرمة، ولم يذكُرْ الزمخشريُّ غيرَه. وهو وجهٌ حسنٌ لِما في ذلك من المشاكلةِ: وهو عطفُ الأمرِ عليه وهو قولُه «وَأْتُوْني». والثاني: أنها مصدرية في محلِّ رفعٍ بدلاً مِنْ «كتاب» كأنه قيل: أُلْقِيَ إليَّ: أَنْ لا تَعْلُوا عليَّ. والثالث: أنها في موضعِ رفعٍ على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ أي: هو أَنْ لا تَعْلُوا. والرابع: أنَّها على إسقاطِ الخافضِ أي: بأَنْ لا تَعْلُوا، فيجيْءُ في موضِعها القولان المشهوران. والظاهر أنَّ «لا» في/ هذه الأوجهِ الثلاثة للنهيِ. وقد تقدَّم أنَّ «أَنْ» المصدريةَ تُوْصَلُ بالمتصرفِ مطلقاً. وقال الشيخ: «وأَنْ في قولِه:» أن لا تَعْلُوا عليَّ «في موضع رفعٍ على البدلِ من» كتاب «. وقيل: في موضعِ نصبٍ على [معنى]: بأن لا تَعْلُوا. وعلى هذين التقديرين تكون» أنْ «ناصبةً للفعل». قلت: وظاهرُ هذا أنها نافيةٌ؛ إذ لا يُتَصَوَّرُ أَنْ تكونَ ناهيةً بعد «أَنْ» الناصبةِ للمضارع. ويؤيِّد هذا ما حكاه عن الزمخشريِّ فإنه قال: «وقال الزمخشريُّ: وأنْ في» أَنْ لا تَعْلُوا «مفسرةٌ» قال: «فعلى هذه تكون» لا «في» لا تَعْلُوا «للنهي، وهو حسنٌ لمشاكلة عطفِ الأمرِ عليه». فقوله: «فعلى هذا» إلى آخره صريحٌ أنها على غيرِ هذا يعني الوجهين المتقدمين ليست للنهي فيهما. ثم القولُ بأنَّها للنفيِ لا يَظْهَرُ؛ إذ يصيرُ المعنى على الإِخبارِ منه عليه السلامُ بأنهم لا يَعْلُون عليه، وليس هذا مقصوداً، وإنما المقصودُ أَنْ يَنْهاهُمْ عن ذلك. وقرأ ابن عباس والعقيلي «تَغْلُوا» بالغين مُعْجمةً من الغُلُوِّ وهو مجاوَزَةُ الحَدِّ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(36)

حروف الجر مع " مَا " في الاستفهام تحذف مَعَها الألفِ من " مَا " لأنهُمَا كالشَيءِ الواحِدِ، وليُفْصَلَ بينَ الخبر والاستفهام؛ تقولُ: قَدْ رَغِبْتُ فيما عندك، فَتَثْبُتُ الألف، وتقول: فيم نظرت يا هذا فتحذف الألف. * * * (فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) معناه فلما جاء رَسُولُها سُلَيْمَانَ، ويجوز أن يكون فلَما جَاءَ بِرُّهَا سُلَيْمَانَ إلا أَنَّ قوله: (ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37) مخاطبة للرسُول. وقوله تعالى: (لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا). معناه لا يَقْدُرُونَ على مُقَاوَمَةِ جُنُودِهَا. * * * وقوله: (قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) أي بسريرها. (قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ). أحب سليمانُ - صلى الله عليه وسلم - أن يأخُذَ السَّرِيرَ مِنْ حيثُ يَجُوز أخْذُهُ، لأنهم لَوْ أَتوا مُسْلِمِين لَمْ يَجُزْ أَخْذُ مَا في أيديهم، وجائز أن يكون أرادَ سُلَيْمَانُ إِظهار آيةٍ مُعْجِزَةٍ في تصيير العَرْشِ إليْهِ في تلك الساعَةِ لأنها مِنَ الآيَاتِ المعجزات. * * * (قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) والعفريت النافِذُ في الأمْرِ المبالغُ فيه مع خُبثٍ وَدَهَاءٍ. يقال: رَجُل عِفْرٌ وَعِفْرِيت، وعِفْرِيَة نِفْرية، وَنُفارِيَّة، في معنى وَاحدٌ. (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ).

(40)

أي مقدار جُلُوسِكَ الَّذِي تَجْلِسُه مع أصحابك، وقيل قَبْلَ أَنْ تقومَ من مَجْلِسِك لحكْمِ. * * * وقوله: (قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40) ويقال إنَّه آصف بن بَرَحْيَا. (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ). أي بمقدار ما يبلغ البالغ إلى نهاية نظرك ثم يَعودَ إلَيْكَ. وقيلَ في مِقْدارِ ما تفتح عَيْنَكَ ثُمَّ تطرِف، وهذا أشبه بارتِدَادِ الطرف، ومثله من الكلام: فعل ذلك في لحظة عَيْنٍ، أي فِي مِقْدَارِ ما نظر نظرة واحِدةً. ويقال في التفسير إنهُ دَعَا باسْمِ الله الأعْظم، الذي إذا دُعِيَ به أَجَابَ، وقيل إنه: يا ذا الجلال والِإكرام، وقيل إِنَه يَا إِلهَنَا وإله الخلق جَميعاً إلهاً وَاحِداً لا إله إلَّا أَنْتَ، فذكر هذَا الاسْمَ ثم قال ائت بِعَرْشِها، فَلَمَّا استَتَمَّ ذَلِكَ ظهر السرير بين يَدَيْ سُليْمَانَ. * * * وقوله: (قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41) الجزم في (نَنْظُرْ) الوجه وعليْهِ القِرَاءَةُ، ويجوز (نَنْظُرُ) بالرفْعِ فمن جزم فلجواب الأمْرِ، ومن رفع فعلى معنى فسَننظُر. وقوله (أَتَهْتَدِي) معناه أَتَهْتدي لِمَعْرِفته أَمْ لَا. * * * وقوله: (فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) (قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ). ولم تقلْ إنه عَرْشُها، ولَا قَالَتْ: ليس هو بِعرْشِها، شَبَّهَتْه بِهِ لأنهُ مُنَكَّرٌ، يُرْوَى أنَه جُعِلَ أَسْفَلهُ أَعْلَاه.

(43)

وقوله: (وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (43) أي صدَّها عن الإيمانِ العادَةُ التِي كَانَت عَلَيْها، لأنها نَشَأتْ ولم تعرف إلا قوماً يعبدون الشَمْسَ، فَصَدَّتها العَادَةُ، وَبَيَّنَ عادَتَها بقوله: (إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ). ويجوز أنها كَانَتْ من قوم كافرين فيكون المعنى صَدَّها كَونها من قوم كافِرِينَ ويكون مبيناً عن قوله عَز وَجَل: (مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ). * * * وقوله: (قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44) والصَّرْحُ: في اللغَةِ القَصْرُ، والصَّحْنُ، يقال هذه سَاحَةُ الدار وصحنة الدار وباحة الدار وقاعَةُ الدار وَقَارِعَة الدارِ. هذا كله في معنى الصَّحْنِ. وقوله: (فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً). أي حَسِبَتْهُ ماءً، وكان قد عُمِلَ لِسُلَيْمَانَ صَحْن من قَوارِير وَتَحْتَه الماء والسَّمَكُ، فظنتْ أنَّه ماء فكشفت عن سَاقَيْهَا. وذاك أن الجنَّ عابوا عِنْدَه ساقيها ورِجْلَيها وذكروا أن رجْليْها كحافِر الحِمَارِ فتبين أمرَ رِجْلَيها (1). * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45)

_ (1) من الإسرائيليات المنكرة التي يتنزه عنها آحاد المتقين فكيف بنبي كريم أثنى الله عليه بفقوله (وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ). .!!؟؟؟

(46)

أي فإذَا قَوْمُ صَالِح فريقان مؤمن وكافِرٌ يختصمون فيقولَ كل فريقٍ مِنْهُم الحَق مَعِي، وطلبت الفرقَةُ الكَافِرَة على تصديق صالح العذابَ، فقال: (قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) أي لم قُلْتُم إن كان ما أتَيتَ به حَقا فأتنا بِالعَذَابِ. (لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ). أي هَلَّا تَستغفرون اللَّه. * * * قوله: (قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47) الأصل تطيرْنا فأدغمت التاء في الطاء، واجتلبت الألف لسكون الطاء، فإذا ابتدأت قُلْتَ اطيرْنا بِكَ، وإذا وصلت لَمْ تُذْكِرْ الألِفُ. وتسقط لأنها ألف وَصْل. (قَال طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ). أي ما أصابكم من خَيْرٍ أوشَرٍّ فمن اللَّه. (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ). أي: تختبرون، ويجوز تُفْتَنُون من الفِتْنَةِ، أي تطيركم فِتْنَةٌ. * * * (وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48) هؤلاء عتاة قَوْمِ صَالح. * * * (قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49) وتجوز لَتُبَيِّتُنَّهُ، ويجوز لَيُبَيِّتُنَّهُ وَأَهْلَهُ بالياء، فيها ثَلَاثَة أَوْجُهٍ (1). فمن قرأ بالنون قرأ " ثم لَنَقُولَنَّ " لِوَلِيِّهِ، ممن قرأ (لَتُبَيِّتُنَّهُ) بالتاء قرأ " ثُمَّ لَتَقولُنَ " ومن قرأ " لَيُبَيِّتُنَّهُ " بالياء قرأ " ثم لَيَقُولُنَّ " لِوَليِّه.

_ (1) قال السَّمين: قوله: {لَنُبَيِّتَنَّهُ} قرأ الأخَوان بتاءِ الخطابِ المضمومةِ وضمِّ التاءِ، والباقون بنونِ المتكلِّمِ وفتحِ التاءِ.» ثم لَنَقولَنَّ «قرأه الأخَوان بتاءِ الخطابِ المفتوحةِ وضمِّ اللامِ. والباقون بنونِ المتكلمِ وفتحِ اللامِ. ومجاهد وابن وثاب والأعمش كقراءة الأخَوَيْن، إلاَّ أنه بياءٍ الغَيْبة في الفعلين. وحميد ابن قيس كهذه القراءةِ في الأولِ وكقراءةِ غير الأخوين من السبعةِ في الثاني. فأمَّا قراءةُ الأخَوَيْن: فإنْ جَعَلْنا «تقاسَمُوا» فعلَ أمرٍ فالخطابُ واضحٌ رجوعاً بآخرِ الكلامِ إلى أولِه. وإنْ جَعَلْناه ماضياً فالخطابُ على حكايةِ خطابِ بعضِهم لبعضٍ بذلك. وأمَّا قراءةُ بقيةِ السبعةِ: فإنْ جَعَلْناه ماضياً أو أمراً، فالأمرُ فيها واضحٌ وهو حكايةُ/ أخبارِهم عن أنفسِهم. وأمَّا قراءةُ الغَيْبَةِ فيهما فظاهرةٌ على أن يكونَ «تَقاسَمُوا» ماضياً رُجُوعاً بآخرِ الكلامِ على أولِه في الغَيْبَةِ. وإنْ جَعَلْناه أمراً كان «لَنُبيِّتَنَّه» جواباً لسؤالٍ مقدرٍ كأنه قيل: كيف تقاسَمُوا؟ فقيل: لنبيِّتَنه. وأمَّا غيبةُ الأولِ والتكلمُ في الثاني فتعليلُه مأخوذٌ مِمَّا تقدَم في تعليلِ القراءتين. قال الزمخشري: «وقُرِىءَ» لَنُبيِّتَنَّه «بالياء والتاء والنون. فتقاسَموا مع التاءِ والنونِ يَصِحُّ فيه الوجهان» يعني يَصِحُّ في «تقاسَمُوا» أن يكونَ أمراً، وأَنْ يكونَ خبراً قال: «ومع الياء لا يَصِحُّ إلاَّ أَنْ يكونَ خبراً». قلت: وليس كذلك لِما تقدَّم: مِنْ أنَّه يكونُ أمراً، وتكون الغيْبَةُ فيما بعده جواباً لسؤالٍ مقدرٍ. وقد تابع الزمخشريَّ أبو البقاء على ذلك فقال: «تقاسَمُوا» فيه وجهان، أحدهما: هو أمرٌ أي: أمَرَ بعضُهم بذلك بعضاً. فعلى هذا يجوزُ في «لَنُبَيِّتَنَّه» النونُ تقديرُه: قولوا: لَنُبَيِّتَنَّهُ، والتاءُ على خطابِ الآمرِ المأمورَ. ولا يجوزُ الياء. والثاني: هو فعل ماضٍ. وعلى هذا يجوز الأوجهُ الثلاثةُ يعني بالأوجه: النونَ والتاءَ والياءَ. قال: «وهو على هذا تفسيرٌ» أي: تقاسَمُوا على كونِه ماضياً: مُفَسِّرٌ لنفسِ «قالوا». وقد سبقَهما إلى ذلك مكيٌّ. وقد تقدَّم توجيهُ ما منعوه ولله الحمدُ والمِنَّة. وتنزيلُ هذه الأوجه بعضِها على بعضٍ مما يَصْعُبُ استخراجُه مِنْ كلام القوم، وإنما رَتَّبْتُه من أقوالٍ شَتَّى. وتقدَّم الكلامُ في {مَهْلِكَ أَهْلِهِ} في النمل. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(50)

فمن قرأ بالنون فكأنهم قالوا: احْلِفُوا لَنُبَيتنه وأهلَه، ومن قرأ بالتاء فكأنَّهم قالوا احلفوا لتبيتنه، فكأنه أخرج نفسه في اللفظ. والنون أَجْوَدُ في القراءة، ويجوز أن يكون قد أدْخل نفسه في التاء لأنه إذَا قَالَ تَقَاسَمُوا، فقد قال تحالفوا ولا يخرج نفسه من التحالف، ومن قرأ قالوا تقاسموا باللَّه ليبيتُنَّه، فالمعنى قالوا ليُبَيتُنه متقاسمين، فكان هؤلاء النفر تحالَفُوا أَن يُبَيتُوا صالحا وَيَقْتُلوه وأهله في بَيَاتِهِمْ، ثم ينكرون عند أولياء صالح أنهم شَهِدُوا مَهْلِكَهُ وَمَهلِكَ أهلِه، ويحلفون أنهم لصادقون. فهذا مَكر عزموا عَلَيه. * * * قال اللَّه - عزَّ وجلَّ: (وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فمضوا لِبُغْيِتهِمْ فأرسل اللَّهُ عليهم صَخْرةً فدَمَغَتْهُمْ، وأرسل على باقي قومهم مَا قَتَلَهُمْ بِهِ. * * * وقوله: (فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) يقرأ (إنَّا دَمَّرْنَاهُمْ) - بكسر إن وبفتحها - (1) فمن قرأ بِالكسر رفع العَاقِبة لا غير، المعنى فانظر أي شيء كان عاقبة مَكْرِهم، ثم فَسَّرَها فقال: إنَّا دَمَّرْنَاهُمْ، فدل على أن العاقبة الدمَارُ. ومن قرأ (أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ) - بالفتح - رفع العاقبة وإِنْ شاء نَصَبَها، والرفعُ أَجْوَدُ على معنى فانظر كيف كان عاقبةُ أَمْرِهِمْ، وأضمر العَاقِبَةَ. أَنا دَمَرْنَاهُمْ. فيكون (أنَّا) في موضع رَفْعٍ عَلَى هذا التفسير، ويجوز أن تكون أنا في موضع نَصْبٍ، على معنى فانظر كيف كان عاقبة مكرهم لأنَّا دَمَّرناهم، ويجوز أن

_ (1) قال السَّمين: قوله: {أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ}: قرأ الكوفيون بالفتح. والباقون بالكسر. فالفتح من أوجهٍ، أحدُها: أَنْ يكونَ على حَذْفِ حرفِ الجرِّ؛ أي: لأَنَّا دَمَّرْناهم. و «كان» تامةٌ و «عاقبةٌ» فاعلٌ بها، و «كيفِ» حالٌ. الثاني: أَنْ يكونَ بدلاً من «عاقبة» أي: كيف كان تدميرُنا إيَّاهم بمعنى: كيف حَدَثَ. الثالث: أَنْ يكونَ خبرَ مبتدأ محذوفٍ أي: هي أنَّا دَمَّرْناهم أي: العاقبةُ تدميرُنا إياهم. ويجوزُ مع هذه الأوجهِ الثلاثةِ أَنْ تكونَ «كان» ناقصةً، وتُجْعَلَ «كيف» خبرَها، فتصيرَ الأوجهُ ستةً: ثلاثةً مع تمام «كان» وثلاثةً مع نُقْصانها. ويُزاد مع الناقصة وجهٌ أخر: وهو أَنْ تُجْعَلَ «عاقبة» اسمَها و «أنَّا دَمْرناهم» خبرَها و «كيف» حالٌ. فهذه سبعةُ أوجهٍ. والثامن: أَنْ تكونَ «كان» «زائدةً، و» عاقبة «مبتدأٌ، وخبرُه» كيف «و» أنَّا دَمَّرْناهم «بدلٌ مِنْ» عاقبة «أو خبرُ مبتدأ مضمرٍ. وفيه تَعَسُّفٌ. التاسع: أنها على حَذْفِ الجارِّ أيضاً، إلاَّ أنه الباءُ أي: بأنَّا دمَّرْناهم، ذكره أبو البقاء. وليس بالقويِّ. العاشر: أنها بدل مِنْ» كيف «وهذا وَهْمٌ من قائِله لأنَّ المبدل من اسمِ الاستفهام يَلْزَمُ معه إعادةُ حرفِ الاستفهامِ نحو:» كم مالكُ أعشرون أم ثلاثون «؟ وقال مكي:» ويجوز في الكلام نصبُ «عاقبة»، ويُجْعَلُ «أنَّا دمَّرْناهم» اسمَ كان «انتهى. بل كان هذا هو الأرجحَ، كما كان النصبُ في قولِه» فما كان جوابَ قومه إلاَّ أَنْ قالوا «ونحوِه أرجحَ لِما تقدَّم مِنْ شَبَهِهِ بالمضمرِ لتأويلِه بالمصدرِ، وقد تقدَّم تحقيقُ هذا. وقرأ أُبَيٌّ» أَنْ دَمَّرْناهم «وهي أَنْ المصدريةُ التي يجوزُ أَنْ تَنْصِبَ المضارعَ، والكلامُ فيها كالكلامِ على» أنَّا دَمَّرْناهم «. وأمَّا قراءةُ الباقين فعلى الاستئنافِ، وهو تفسيرٌ للعاقبةِ. و» كان «يجوز فيها التمامُ والنقصانُ والزيادةُ. وكيف وما في حَيِّزها في محلِّ نصب على إسقاطِ الخافض، لأنه مُعَلِّق للنظرِ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(52)

تكون (أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ) خَبَر كانَ المعنى فانظر كيف كان عاقبة مَكْرِهُمُ الدَّمَارَ، ويجوز أن يكون اسم كان (أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ) وَ (عَاقبة أَمْرِهم) منصوبة. المعنى فانظر كيف كان الدمَارُ عاقبةَ مَكْرِهِمْ، وكيف في موضع نصب في جميع هذه الأقوال - ونصبها - إذا جُعِلَت العاقِبَة اسم كان وكيف الخبرُ لأنها في موضع خبر كان، فإذا جُعِلَتْ اسم كان وخبرُها مَا بَعْدها فهي منصوبة على الظرفِ، وعمل فيها جملة الكلام كما تقول: كيف كان زيد، وكيف كان زيد قائماً. * * * وقوله: (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) أكثر القراء نَصَبَ (خَاوِيَةً) على الحال، المعنى فانظر إلى بُيُوتِهِمْ خَاوِيةً بِمَا ظَلمُوا. ورفعها من أربعة أوجُهٍ قد بيَّنَاهَا فيمن قرأ (وهذا بَعْلِي شيخ). * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) نَصْبَ لوط من جهتين: على معنى وأَرْسَلْنَا لوطاً وعلى معنى واذكر لُوطاً إذ قال لِقَوْمِهِ، لأنه قد جرت أقاصيص رُسُل، فدخل معنى إضمار اذكر هَهَنَا. (أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ). أي وأنتم تعلمون أنها فاحشة، فهو أعظم لذنوبِكم. * * * (أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55)

(56)

يجوز على أوجه، أاإئِنكمْ بهمزتين بينهما ألف، ويجوز أَئِنَكُمْ بهمزتين مُحَققتَيْن، والأجودُ أينكمْ بجعل الهمزة الثانية بينَ بيْنَ تكون بين الياء والهمزة. * * * (فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) (جَوابَ) خَبرُ كانَ وَ " أَنْ قالوا " الاسم، ويجوز (فما كان جَوَابُ قومِهِ إلا أَنْ قالوا. وقوله: (إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ). قال قوم لوط هذا لِلُوطٍ ولمن آمن مَعَهُ، على جهة الهزُؤ بِهِمْ لأنهم تطهَّروا عن أدْبَار الرجَال وأَدْبَارِ النِسَاءِ. ويروى عن ابن عمر أنه سُئِلَ: هل يجوز هذا في النساء؟ قيل له ما تَقُول في التحميض فقال: أو يفعل ذلك المِسْلِمُونَ؟ فهذا عظيم جدًّا. وهو الذي سَماهُ اللَّهُ فاحِشَةً. * * * وقوله عزَّ - وجل:. (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) وتشركون بالياء والتاء، ويقرأ آللَّهُ، واللَّهُ، بالمد وترك المَذد. ويجوز - واللَّه أعلم - اللَّه خير أمَّا يشركون. قال أبو إسحاق: إذَا ضُمَّت التاءُ واليَاءُ فمعناه أَنَّهُمْ جَعَلُوا لله شُرَكَاء وإذا فُتِحَتْ التَاء والراءُ، فمعناه أنكم تجعلون أنفسكم لِله شُرَكَاءَ، يقال: شَرِكْتُ الرجُلَ أشْرَكَه، إذا صِرْتُ شَرِيكَهُ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61)

(65)

حجز بينهما بقدرته فلا يختلط العذب بالمِلحِ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بالرفع القراءة، ويجوز النصب، ولا أعلم أحَداً قَرَأَ به، فلا تقرأن به. فمن رَفَعَ في قوله: (إِلَّا اللَّهُ) فَعَلَى البَدلِ، المعنى لا يعلم أَحَدٌ الغَيْبَ إلا اللَّه، أي لا يعكم الغيب إلا اللَّه، ومن نصب فعلى معنى لا يعلم أحد الغيب إلا اللَّه، على معنى اسْتَثْنِي اللَّه عزَّ وجلَّ. فإنه يعلم الغيبَ. وقوله: (وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ). و (أَيَّانَ تبْعَثونَ) جميعا، أيْ لاَ يَعْلَمُون متى البَعْثُ (1). * * * وقوله تعالى: (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (66) فيها أوجه: قرأ أبوعَمْرٍو: بل أُدْرِك عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ. وقرأ أكثر الناس (بَلِ ادَّارَكَ) بتشديد الذالِ. وروي عن ابن عباس بَلَى أَدْرَكَ عِلْمُهم في الآخرة. ويجوز بلى ادَّارَكَ علمهم في الآخرة فمن قرأ بل ادَّارَكَ علمهم في الآخرة وهو الجَيدُ، فعلى معنى بَلْ تَدَارَكَ علمُهُمْ في الآخرة، على معنى بل يتكامل عِلْمُهُم يَوْمَ القِيَامَةِ، لأنَّهُمْ مبْعُوثونَ، وكل ما وعدوا به حَق، ومن قرأ بل أَدْرَكَ عِلْمُهُم فعلى معنى التقرير والاستخبار، كأنَّه قيل: لم يُدْرِك عِلْمُهم في الآخرةِ أي ليس يَقفون في الدنيا على حقيقتها، ثم بين ذلك في قوله: (بل هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا)

_ (1) قال السَّمين: قوله: {إِلاَّ الله}: فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه فاعلُ «يَعْلَمُ» و «مَنْ» مفعولُه. و «الغيبَ» بدلٌ مِنْ «مَنْ السماواتِ» أي: لا يعلمُ غيبَ مَنْ في السماواتِ والأرضِ إلاَّ اللهُ أي: الأشياءَ الغائبةَ التي تَحْدُثُ في العالَمِ. وهو وجهٌ غريبٌ ذكره الشيخ. الثاني: أنه مستثنى متصلٌ مِنْ «مَنْ»، ولكن لا بُدَّ من الجمعِ بين الحقيقةِ والمجازِ في كلمةٍ واحدةٍ على هذا الوجهِ بمعنى: أنَّ عِلْمَه في السماوات والأرضِ، فيَنْدَرِجُ في {مَن فِي السماوات والأرض} بهذا الاعتبارِ وهو مجازٌ وغيرُه مِنْ مخلوقاتِه في السماواتِ والأرضِ حقيقةٌ، فبذلِك الاندراجِ المُؤَوَّل اسْتُثْنِي مِنْ «مَنْ» وكان الرفعُ على البدلِ أَوْلَى لأنَّ الكلامَ غيرُ موجَبٍ. وقد رَدَّ الزمخشريُّ هذا: بأنه جَمْعٌ بين الحقيقةِ والمجازِ، وأوجبَ أن يكونَ منقطعاً فقال: «فإنْ قلتَ: لِمَ رُفِعَ اسمُ اللهِ، واللهُ يتعالى أن يكونَ مِمَّنْ في السماواتِ والأرض؟ قلت: جاء على لغةِ بني تميمٍ حيث يقولون:» ما في الدار أحدٌ إلاَّ حمارٌ «يريدون: ما فيها إلاَّ حمارٌ، كأنَّ» أحداً «لم يُذْكَرْ. ومنه قولُه: 3577 عَشِيَّةَ ما تُغْني الرِّماحُ مكانَها. . . ولا النَّبْلُ إلاَّ المَشْرَفِيُّ المُصَمِّمُ وقولُهم:» ما أتاني زيدٌ إلاَّ عمروٌ، وما أعانني إخوانكم إلاَّ إخوانُه «. فإنت قلت: ما الداعي إلى اختيارِ المذهبِ التميمي على الحجازي؟ قلت: دَعَتْ إليه نُكْتَةٌ سِرِّيَّةُ حيث أُخْرِج المستثنى مُخْرَجَ قولِه: 3578 إلاَّ اليَعافِيرُ. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . بعد قوله: 3579. . . . . . . . . . . . . . . . . . لَيْسَ بها أنيسُ. . . ليَؤُوْلَ المعنى إلى قولك: إنْ كان الله مِمَّنْ في السماوات والأرضَ فهم يعلمون الغيبَ. يعني: أنَّ عِلْمَهم الغيبَ في استحالتِه كاستحالةِ أن يكونَ اللهُ منهم. كما أنَّ معنى ما في البيت: إنْ كانت اليعافيرُ أَنيساً ففيها أنيسٌ، بَتَّاً للقولِ بخُلُوِّها من الأنيسِ. فإن قلت: هَلاَّ زَعَمْتَ أن اللهَ مِمَّنْ في السماواتِ والأرضِ، كما يقول المتكلمون:» إنَّ الله في كلِّ مكان «على معنى: أنَّ عِلْمَه في الأماكن كلها، فكأنَّ ذاتَه فيها حتى لا يُحْمَل على مذهبِ بني تميمٍ» قلتُ: يأبى ذلك أنَّ كونَه في السمواتِ والأرضِ مجازٌ، وكونَهم فيهنَّ حقيقةٌ، وإرادةُ المتكلمِ بعبارةٍ واحدةٍ حقيقةً ومجازاً غيرُ صحيحٍ. على أنَّ قولَك «مَنْ في السماوات والأرض: وجَمْعَك بينه وبينهم في إطلاقِ اسمٍ واحدٍ، فيه إيهامُ تَسْويةٍ، والإِيهاماتُ مُزَالةٌ عنه وعن صفاتِه. ألا ترى كيف» قال عليه السلام لِمَنْ قال: «ومَنْ يَعْصِهما فقد غوى» «بِئْسَ خطيبُ القومِ أنت» «قلت: فقد رَجَّحَ الانقطاعَ واعتذر عن ارتكابِ مذهبِ التميمين بما ذَكَر. وأكثرُ العلماءِ أنه لا يُجْمَعُ بين الحقيقةِ والمجازِ في كلمةٍ واحدة. وقد قال به الشافعيُّ». قوله: {أَيَّانَ} هي هنا، بمعنى «متى» / وهي منصوبةٌ ب «يُبْعَثون» فتعلُّقُه ب «يَشْعُرون» فهي مع ما بعدها في محلِّ نصبٍ بإسقاطِ الباءِ أي: ما يَشْعرون بكذا. وقرأ السُّلميٌّ «إيَّان» بكسرِ الهمزةِ، وهي لغةُ قومِه بني سُلَيْم. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(70)

وقالوا في تفسير (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ): أَم أَدْرَكَ عِلْمُهُم، والقراءة الجَيِّدَةُ (ادَّارَكَ) على معنى تدارك بإدغام التاء في الدال، فتصير دالاً سَاكِنَة فلا يُبتدأ بِها، فيَأتي بألف الوصل لتصل إلى التكلُّمُ بها. وإذَا وقفت على (بل) وابتدأت قلت (ادَّارَكَ)، فإذا وَصَلْتَ كسرت اللام في بل، لسكونها وسكون الدال. * * * وقوله: (حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ). الحدائق واحدتها حديقة، والحديقة البُسْتَانُ، وكذلك الحائط وقيل القطعةُ من النخل، وقوله (ذَاتَ بَهْجَةٍ) معناه ذات حُسْنٍ ويجوز في غير القراءة ذوات بهجة، لأنها جماعة، كما تقول: نِسْوَتُك ذوات حُسْنٍ، وإنما جاز ذات بهجة لأن المؤنث يخبر عنه فِي الجَمْع بلفظ الواحِدَةِ، إذا أردتَ جمَاعَةً، كأنك قلت جماعة ذاتَ بَهْجَةٍ. * * * وقوله: (بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60). معناه يكفُرُون، أي يَعْدِلُونَ عَنِ القَصْدِ وطريق الحق. * * * وقوله: (وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70) يُقْرأ في ضَيْقٍ وَضِيق. * * * وقوله: (قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) قيل في التفْسِير عجل لَكُمْ ومعناه في اللغةِ (رَدِفَكُمْ) مِثْلُ رَكِبَكُمْ وجاء بَعْدَكمْ. * * * وقوله: (وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81)

(82)

وتقرأ: (وما أَنْتَ تهدي العُمْيَ عن ضَلاَلَتِهِم)، ويجوز بهادٍ العُمْيَ عن ضَلَالَتِهِمْ. فأمَّا الوَجْهَانِ الأولان فجيِّدانِ في القراءة، وقد قرئ بهما جميعاً. والوجه الثالث يجوز في العَرَبية، فَإنْ ثبتت به روايةٌ وإلَّا لم يُقْرأْ به، ولا أعلم أَحداً قرأ به (1). * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا). معناه ما تُسْمِع إلا من يؤمن، وتأويل ما تُسْمِعُ، أي مَا يَسْمَعُ مِنْكَ فَيَعِي ويَعْمَلُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا، فأمَّا من سمع ولم يقبل فبمنزلة الأصَمِّ. كما قال اللَّه عزَّ وجلَّ: (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ). قال الشاعِرُ: أَصَمَّ عَمَّا سَاءَهُ سَمِيعُ * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (82) أي إذَا وَجَبَ. (أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ). وَتَكْلِمُهُمْ، ويروى أن أول أشراط الساعة خروجُ الدابةِ وطلوعُ الشمسِ مِنْ مَغْرِبها، وأَكْثَر ما جاء في التفسير أنها تخرج بِتُهَامَةَ. تَخْرجُ مِنْ بَيْنِ الصفَا والمروَةِ. وقد جاء في التفسير أنها تخرج ثلات مرات في ثلاثة أَمْكِنَةٍ. وجاء في التفسير تنكت في وَجْهِ الكَافِر نكتة سوداء وفي وجه المؤمن نكتة بيضاء، فتفشو نكتة الكافر حتى يسودَّ منها وجهه أجمع وتفشو نكتة المؤمن حتى يَبْيَضَّ منها وَجْهَهُ فتجتمع الجماعة على المائِدَةِ، فَيُعْرَفُ المؤمِنُ مِن الكافِرِ. فمن قرأ (تُكَلِّمُهُمْ) فهو من الكلام، ومن قرأ (تَكْلُمُهُمْ) فهو من الكلْمَ، وهو الأثر والجرح (2).

_ (1) قال السَّمين: قوله: {بِهَادِي العمي}: العامَّةُ على «هادِيْ» مضافاً للعُمْي. وحمزة «يَهْدِي» فعلاً مضارعاً، و «العمُيَ» نصبٌ على المفعول به، وكذلك التي في الروم ويحيى بن الحارث وأبو حيوة «بهاد» منوَّناً «العُمْيَ» منصوب به، وهو الأصلُ. واتفق القُرَّاء على أَنْ يقفوا على «هاد» في هذه السورةِ بالياءِ؛ لأنَّها رُسِمَتْ في المصحفِ ثابتةً. واختلفوا في الروم. فوقف الأخوان عليها بالياءِ أيضاً كهذه. أمَّا حمزةُ فلأنه يقرَؤُها «يَهْدي» فعلاً مضارعاً مرفوعاً فياؤه ثابتة. قال الكسائيُّ: «مَنْ قرأ» يَهْدِي «لَزِمَه أَنْ يقفَ بالياء، وإنما لزمه ذلك؛ لأن الفعلَ لا يَدْخُلُه تنوينٌ في الوصلِ تُحذف له الياء فيكونُ في الوقفِ كذلك، كما يَدْخُلُ تنوينٌ على» هادٍ «ونحوهِ فتَذْهبُ الياءُ في الوصل، فيجري الوقفُ على ذلك كَمَنْ وقف بغير ياءٍ». انتهى. ويَلْزَمُ على ذلك أَنْ يُوْقَفَ على {يَقْضِي بالحق} [غافر: 20] {وَيَدْعُ الإنسان} [الإسراء: 11] بإثباتِ الياءِ والواوِ. ولكنْ يَلْزَمُ حمزةَ مخالفَةُ الرسمِ دونَ القياسِ. وأمَّا الكسائيُّ فإنه يَقْرَأُ «بهادي» اسمَ فاعلٍ كالجماعةِ، فإثباتُه للياءِ بالحَمْلِ على «هادِي» في هذه السورةِ، وفيه مخالفَةٌ الرسمِ السلفيِّ. قوله: {عَن ضَلالَتِهِمْ} فيه وجهان، أحدهما: أنه متعلق ب «يَهْدي». وعُدِّي ب «عن» لتضمُّنِه معنى يَصْرِفهم. والثاني: أنه متعلقٌ بالعُمْي لأنَّك تقول: عَمِيَ عن كذا، ذكره أبو البقاء. اهـ (الدُّرُّ المصُون). (2) قال السَّمين: قوله: {تُكَلِّمُهُمْ} العامَّةُ على التشديد. وفيه وجهان، الأظهر: أنه من الكلامِ والحديث، ويؤيِّده قراءةُ أُبَيٍّ «تُنَبِّئُهم» وقراءةُ يحيى بن سَلام «تُحَدِّثُهم» وهما تفسيران لها. والثاني: «تَجْرَحُهم» ويَدُلُّ عليه قراءةُ ابن عباس وابن جبير ومجاهد وأبي زُرْعَةَ والجحدري «تَكْلُمُهم» بفتحِ التاءِ وسكونِ الكافِ وضمِّ اللامِ من الكَلْمِ وهو الجُرْحُ. وقد قُرِىء «تَجْرَحُهم» وفي التفسير أنها تَسِمُ الكافَر. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(88)

وقوله: (وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88) (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) القراءةُ النصْبُ، ويجوز الرفع: صُنْعُ، فمن نصب فعلى معنى المَصْدر، لأن قوله: (وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ). دَلِيل على الصنْعَةِ، كأنَّه قِيلَ صنَعَ اللَّه ذلك صنعاً. ومن قال (صُنْعُ الله) بالرفع، فالمعنى ذَلِك صُنْعُ اللَّهِ (1). وقوله عزَّ وجلَّ: (وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ). وَأَتَاهُ داخرين، مَنْ وَحَّدَ فللفظ كُل، ومن جمع - فلمعناها (2). * * * وقوله: (إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) (الذي) في موضع نصب من صفة (رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ) وقد قُرِئَتْ: التي حَرَّمَهَا؛ وقد قرئ بها لكنها قليلة، فالتي في مَوْضِع خَفْض مِنْ نعت البلدة. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93) أي سيُريكم اللَّه آياته في جميع ما خَلَق، وفي أنفُسُكم.

_ (1) قال السَّمين: قوله: {صُنْعَ الله} مصدرٌ مؤكِّدٌ لمضمونِ الجملةِ السابقةِ. عاملُه مضمرٌ. أي: صَنَعَ اللهُ ذلك صُنْعاً، ثم أُضِيف بعد حَذْفِ عامِله. وجعلَه الزمخشريُّ مؤكِّداً للعاملِ في {يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور} [النمل: 87] وقَدَّره «ويومَ يُنْفَخُ» وكان كيتَ وكيتَ أثابَ اللهُ المحسنين، وعاقَبَ المسيئين، في كلامٍ طويلٍ حَوْماً على مذهبه. وقيل: منصوبٌ على الإِغراء أي: انظروا صُنْعَ اللهِ وعليكم به. والإِتْقانُ: الإِتيانُ بالشيءِ على أكملِ حالاتِه. وهو مِنْ قولِهم «تَقَّن أَرْضَه» إذا ساقَ إليها الماءَ الخاثِرَ بالطينِ لتَصْلُحَ لِلزراعة. وأرضٌ تَقْنَةٌ. والتَّقْنُ: فِعْلُ ذلك بها، والتَّقْنُ أيضاً: ما رُمِيَ به في الغدير من ذلك أو الأرض. قوله: {بِمَا تَفْعَلُونَ} قرأ ابنُ كثير وأبو عمرٍو وهشام بالغَيْبة جرْياً على قولِه: «وكلٌّ أَتَوْهُ». والباقون بالخطاب جَرْياً على قولِه: «وتَرى» لأنَّ المرادَ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم وأمَّتُه. اهـ (الدُّرُّ المصُون). (2) قال السَّمين: قوله: {أَتَوْهُ} قرأ حمزة وحفص «أَتَوْه» فعلاً ماضياً. ومفعولُه الهاءُ. والباقون «آتُوْه» اسمَ فاعلٍ مضافاً للهاءِ. وهذا حَمْلٌ على معنى «كُل» وهي مضافةٌ تقديراً أي: وكلَّهم. وقرأ قتادةُ «أتاه» مُسْنداً لضميرِ «كُل» على اللفظِ، ثم حُمِلَ على معناها فقرأ «داخِرين». والحسن والأعرج «دَخِرين» بغير ألفٍ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

سورة القصص

سُورة القَصَص (مكية) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (طسم (1) قد تقدم ما ذكر في هذا. (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) يقال: بأن الشيء وأَبانَ في مَعْنى واحِدٍ ويقال بَانَ الشيء. وأَبَنْتُه أنا، فمعنى مبين مبَينُ خَبْرِه وَبَرَكَتِهِ، وَمُبينُ الحَق من الباطل والحلال من الحرام. ومبين أَن نُبوةَ النبي - صلى الله عليه وسلم - حق لأنه لاَ يَقْدرُ أَحَد بِمِثْلِه، ومبين قصص الأنبياء. * * * وقوله: (نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) أي من خبر موسى وخبر فرعونَ. قوله: (لِقَوْم يؤمِنُونَ) معناه يُصَدقُونَ. * * * وقوله: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ) مَعناه طَغَى (وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا) معنى شيع فرق، أي جعل كل فرقة يُشيع بعضها بعضاً في فِعْلِها. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ).

(5)

معنى نسائهم ههنا أنه كان يستحيي بَنَاتِهِمْ، وإنما كان يعمل ذَلِكَ لأنه قال له بعضُ الكهنة إن مَوْلُوداً يُولَدَ في ذلك الحين يكونُ سَبَبَ ذَهَاب ملْكِكَ، فالعَجَبُ من حُمْقِ فَرْعَوْنَ، إن كان الكاهن عنده صادقاً فما ينفع القَتْلُ، وإن كان كاذباً فما معنى القَتْل. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) يعني بني إسرائيل الذين استضْعَفهم فرعونُ. (وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً). أي نجعلهم ولاة يُؤتَمُّ بِهِمْ. (وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ). أي يرثون فرعون وملكه. * * * وقوله: (وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6) القراءة النَصبُ، نُمَكَنَ ونُرِيَ. وَيَجوزُ الرفع. . وَنُمكَنُ لَهُم في الأرْض وَنُرِي - بإسكان الياء، فمن نَصَبَ عطف على نَمُنَّ، فكان المعنى وأن نمكِنَ وَأَنْ نُرِيَ. ومن رفع فعلى معنى ونَحْنُ نمكن. وقُرِئَتْ: ويُرَى فِرْعَوْنُ وهامانُ وَجُنُودُهمَا، فَيُرى يكونُ في مَوْضِع نَصْبٍ على العطف على نُمَكِن، ويجوز أَنْ يكون في موضع رفع على وسَيُرَى فِرْعَونُ وهامان وجنودُهما. * * * وقوله: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) قيل إن الوحيَ ههنا أَلقَاءُ اللَّهِ في قلبها، وما بعد هَذا يَدُلَ - واللَّهُ أعلم -

(8)

أنه وَحْى من اللَّه عز وجل على جهة الإعلام للضمَانِ لها. (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ). ويدل عليه (وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ). وقد قيل إن الوحي ههنا الإلهام، وجائز أن يُلْقي الله في قلبها أَنة مردود إليها وأنه يكون مرْسَلاً، ولكن الِإعلام أَبْيَن في هذا أَعْني أن يكون الوحي ههنا إعْلَاماً. وأصل الوحى في اللغة كلها إعْلاَم في خِفْي، فلذلك صار الِإلْهَامُ يُسمَّى وَحْياً. وقوله: (فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ) اليمُ البَحْر. * * * وقوله تعالى: (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8) (وَحَزَنًا) ويجوز (وَحُزْنًا)، ومعنى (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا) أي ليصير الأمر إلَى ذَلِكَ لا أنهم طلبوه وأَخذُوه لهذا كما تقول للذي كسب مالًا فَأدَّى ذلك إلى الهَلَاكِ: إنما كسب فلان لِحَتْفِهِ، وهو لم يَطْلُب المَالَ للحَتْف. ومثله: فَلِلْمَوتِ ما تَلِدُ الوَالِدَةُ، أي فهي لَمْ تَلِدْهُ طَلَباً أَنْ يَموتَ وَلَدُهَا ولكن المصير إلى ذلك. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9) رفع قُرةُ عَيْن على إضمار هو قرةُ عين لي ولك، وهذا وقف التمَامِ، وَيَقْبُح رفْعُه علَى الابتداء وأن يكون الخبر (لا تَقْتُلوهُ) فيكون كأنه قَدْ عَرَفَ أنه قرة عين له. ويجوز رفعه على الابتداء عَلَى بُعْدٍ على معنى إذا كان قرة عين لي ولك فلا تَقْتُلْه، ويجوز ُ النصْبُ

(10)

ولكن لا تقرأْ به لأنه لم ياتِ فيه روايةُ قراءة، والنصبُ على معنى لا تَقْتُلُوا قُرةَ لي ولك لا تقتلوه، كما تقول زيداً لَا تَضْرِبْهُ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) المعنى أصبح فارغاً من كل شيء إلا مِن ذِكْرِ مُوسَى، وقيل إلا مِنَ الهمِّ بموسى والمعنى واحد. (إن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ). المعنى إن كادت لتظهَر أنه ابنُهَا. وقد قُرِئَتْ فَرِغاً، والأكثر فَارِغاً. (لَوْلاَ أَنْ رَبَطْنَا غَلَى قَلْبِهَا). معناهْ لولا رَبْطُنَا على قَلْبها، والربط على القلب إلْهَامُ الصبْرِ وتشديدُه وتَقْوِيتُهُ. * * * وقوله: (وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11) بمعنى اتْبعي أَثَرَهُ. * * * (فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ). معناه فاتْبَعَتْهُ، فَبصُرَت به عن جُنُبٍ أي عن بعد تُبْصِرُ ولا تُوهِمُ أنها تراه، يقال: بَصُرْتُ بِهِ جُنُبٍ وَعَنْ جَنَابَةٍ إذَا نَظَرتْ إلَيْهِ عن بُعْدٍ. قال الشاعِرُ: فلا تَحْرِمَنِّي نائِلاً عن جَنابةٍ. . . فإِني امْرُؤٌ وَسْطَ القِبابِ أي لاتحرمني نائلاً عَنْ - بُعْدٍ، وإن كنت بعيداً مِنكَ.

(12)

وقوله عزَّ وجلَّ: (وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12) معناه من قبل أن نَرُدهُ على أُمه، وكان موسى لم يأخُذْ من ثَدْي. أي لم يرضع من ثَدْي إلى أَنْ رُدَّ إلى أُمه فرضع منها، وهذا معنى (وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ). (فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ). أي فقالت أخت موسى عليه السلام لما تَعذرَ عَلَيْهِمْ رَضَاعُه: (فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ). فلما سمعوا قولها: (وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ). قالوا: قد عَرَفْتِ أَهْلَ هَذا الغُلام - بقولك وهُمْ لَه ناصحون، فقال عَنَيتُ " هم له " هم للمَلِك نَاصِحُونَ، فَدَلَّتْهم على أُمِّ مُوسَى، فَدُفع إليها تربِّيه لهم فِي حِسَابِهِمْ. * * * وقوله: (فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13) يعني ما وعدت به مما أُوحِيَ إليها من قوله: (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ). واستقر عندها أَنه سيكون نبياً. * * * قوله عزَّ وجلَّ: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) قيل الأشَد بِضع وثلاثون سنة. وهو ما بين ثلاث وثلاثين إلى تسع وثلاثين. وتأويل (بَلَغَ أَشُدَّهُ) استكمل نهاية قوةِ الرجُل وقيل إن معنى واسْتَوَى - بلغ الأرْبَعين. وجائز أن يكون " اسْتوى " وَصَل حقيقة بلوغ الأشُدِّ.

(15)

وقوله: (آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا). فَعَلِمَ مُوسَى عليه السلام وحكم قبل أَنْ يُبْعَثَ. (وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ). فجعل الله إتيان العلم والحكمة مجازاة على الإحْسَان لأنهمَا يَؤدِّيانِ إلى الجنةِ التي هي جزاء المحسنِين، والعالم الحكيمُ مَن استعمل عِلْمَه، لأن اللَّه - عزَّ وجلَّ - قال: (وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ). فجعلهم إذ لم يَعْملوا بالعلم جُهَّالاً. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) جاء في التفسير أنه دخلها وقت القائلة، وهو انتصاف النَّهَار وقوله: (هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ). هذا موضع فيه لطف، وذلك أَنه قيلَ في الغائِب " هذا " والمعنى وَجَد فيها رَجُلَيْن أَحَدهمَا مِنْ شِيعَتِهِ وأَحدهما مِنْ عَدُوِّهِ. وقيل فيهما هذا وهذا على جهة الحكاية للحضرة، أي فوجد فيها رَجليْنِ إذا نظر إليهما الناظِرُ قال هذا من شيعته وهذا مِنْ عَدُوِّهِ. (فَاسْتَغَاثَه الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ). أي استنصره، والذي مِنْ شِيعَتِهِ من بني إسرائيل، والذي من عَدُوه من أصحاب فرعون. وجاء في التفسير أن فرعون كان رجلاً من أهل اصطخر، ويقال إن الرجل الذي هو من عدوه رجل من القِبْطِ، وقيل أيضاً من أهل اصْطَخْرٍ.

(18)

(فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضى عَلَيْهِ). أي فقَتلهُ، والوَكْزُ أَنْ تَضْرِبَ بِجُمع كَفِّكَ، وقد قيل وكزه بالعصا. وقوله: (قَالَ هذَا مِنْ عَمَلِ الشّيْطَانِ). يدل أن قتله إياه كان خطأ وأنه لم يكن أُمِرَ " موسى " بقَتْل. ولا قِتالٍ. (قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) * * * وقوله: (فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) أي يستغيث به، والاستصْراخُ الِإغَاثةُ والاسْتِنْصَارُ. (قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ). * * * وقوله: (فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19) وتقرأ يَبْطُشُ. المعنى - واللَّه أعلم - فلما أَرَادَ المُسْتَصْرِخ أَنْ يَبْطِشَ مُوسَى بالذي هو عَدُوٌّ لَ@هما، ولم يفعل موسى، قَالَ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ. (قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ). فأفشى على مُوسَى عليه السلام. ويقال إنَّ من قتل اثنين فهو جَبَّارٌ، والجبار في اللغة المتعظم الذي لا يتواضع لأمْرِ اللَّهِ، فالقاتِل مؤمِناً جَبَّارٌ، وكل قاتل فَهُوَ جَبَّارٌ. قتل واحداً أو جماعة ظُلْماً. * * * وقوله: (وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20)

(21)

يقال إنه مؤمن آل فِرْعَونَ، وإنَهُ كان نَجَّاراً، ومعنى يَسْعَى يَعْدُو. (قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ). الملأ أشراف القوم، والمنظورُ إليهم، ومعنى يأتمرون بك يأمر بعضهم بعضاً بقتلك. (فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ). أي فاخرج من المدينة، وقوله " لك " ليست من صلة الئاصِحِينَ لأن الصلة لا تقدم على الموصول، والمعنى في قوله " إني لك " أنها مُبينَة كأنَّه قال إني من الناصحين ينصحون لك، والكلام نصحت لك. وهو أكْثَرُ من نَصْحُتُكَ. * * * وقوله: (فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) أي يرقمبُ أن يلحقه فَيْ يَقْتُله، وينظر الآثار. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ). يعني من قوم فرعون. * * * وقوله: (وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22) " مَدْيَن " مَاء كان لقوم شعيب يقال إن بيْنَهُ وبيْنَ مِصْرَ مَسِيرَةُ ثَمانية أيام، كما بين البصرة والكوفة، وكان موسى عليه السلام خرج مِنْ مِصْرَ ومعنى تلقاء مَدْيَن، أي سَلك في الطريق التي تلقاء مَدْيَنَ فيها. (قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ). السبيل الطريق، ْ وسواء السبيل قصد الطريق في الاستواء.

(23)

قوله: (وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) مَدْيَن في موضع خفض، ولكنه لا ينصرف لأنه اسم للبقعة. (وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ). أمة جماعة. (وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ). أي تذودان غَنَمَهُمَا عن أَنْ يَقْرُبَ موضع الماء، لأنها يَطْردُهَا عن الماء من هو على السَّقي أقوى مِنْهُمَا. . (قَالَ ما خَطْبُكُمَا). أَي مَا أَمْرُكما، معناه مَا تَخْطُبان، أي ما تُريدَانِ بِذَوْدِكُمَا غَنَمكُمَا عن الماء. (قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى [يَصْدُرَ] الرِّعَاءُ). وقرئت (حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ) - بضم الياء وكسر الدال - أي لا نَقْدِرُ أن نسقي حتى تَرُدَّ الرعاةُ غَنَمَهُمْ وَقَد شَرِبَتْ فيخلو الموضع فَنَسْقي. فَمن قرأ (يَصْدُر) بضم الدال فمعناه حتى يرجعَ الرعاءُ، والرعاء جمعُ راع، كما يقال صاحب وصحاب. وقوله: (وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ). الفائدة في قوله: (وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ). أي لا يمكنه أَن يَرِدَ، وَيَسْقي. فلذلك احتجنا ونحن نِسَاءٌ أَنْ نسقيَ. (فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)

(25)

أي فسقى لهما من قَبْلِ الوَقْتِ الذي كانتا تسقيان فيه، ويُقَال إنَّهُ رَفع حجَراً عن البِئْرِ كان لا يرفعه إلا عَشَرةُ أَنْفُس. وقيل إن مُوسى كان في ذلك الوقت من الفقر لا يقدر على شَقِّ تمرةٍ. * * * وقوله: (فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) المعنى فلما شَرِبَتْ غنمهما رَجَعَتَا إلى أَبِيهمَا فأخبرتاه خبر مًوسَى وَسَقْيه غَنَمَهمَا، وجاءتاه قبل وقتهما شاربةً غَنمُهُمَا، فوجَّهَ بإحْداهُما تَدْعُو مًوسَى فجاءته (تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ). جَاءَ في التفسير أنها ليست بخرَّاجَةٍ مِنَ النِّسَاءِ ولا ولَّاجَةٍ، أي تمشي مَشْيَ مَنْ لم تَعْتَدِ الدخول والخروج مُتَخَفِّرَةً مستحيية. (قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا). المعنى فأجابها فمضى معها إلى أبيها. (فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ). أي قصَّ عليهِ قِصتهُ في قتلهِ الرجُلَ، وأنهم يطلبونه ليقتلوه. (قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ). وذلك أنَّ القوم لم يكونوا في مملكة فِرْعَونَ، فأعلم شعيبٌ موسى أنَّه قد تَخَلَّصَ من الخوف، وأنه لا يقدر عليه - أعني بالقوم قوم مَدْينَ الذين كان فيهم أبو المرأتين. وقال في التفسير إنه كان ابن أخي شعيب النبيِّ عليه السلام. * * * (قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) أي اتخذه أجيراً.

(27)

(إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ). أي إن خير من اسْتَعْمَلْتَ مَنْ قَوِيَ على عملك وأَدى الأمانَةَ فيه. وإنما قالت (الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) فَوَصَفَتْه بالقوة لِسَقْيِهِ غنمها بِقوة وشدة. وقيل لقوته على رفع الحجر الذي كان لا يُقِلُّه أقل من عَشَرةِ أَنفس. وقد قيل إنه كان لا يقله أقل من أرْبعين نَفْساً. فأَما وصفها له بالأمَانَةِ فقيل إن مُوسَى لما صار معها إلى أبيها تقدم أَمَامَهَا وأَمَرهَا أن تكون خلفه، وَتَدُلَّه على الطريق، وخاف إذا كانت بين يديه أَنْ تُصِيبَ مَلْحَفَتَها الريحُ فيتبيَّن وصفها، فذلك ما عرفته من أمانته. * * * وقوله: (قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) معنى أُنْكِحُكَ أُزَوِّجُكَ. (عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ). أي تكون أجيراً لي ثماني سنين. (فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ). أي فذلك بفضل - منك ليس بِوَاجِبٍ عَلَيْكَ. * * * (قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28) أي ذلك الذي وَصَفْتَ لِي بيني وبينك، ومعناه، ما شَرَطْتَ عَلَى فلك وما شرطت لي فلي، كذَلك الأمَرُ بَيْنَنَا، ثم قال: (أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ). والعُدْوَانُ المجاوزة في الظلم، وعُدْوَانٌ منصوبٌ بـ (لَا)

(29)

ولو قُرئَتْ فَلَا عُدْوَانٌ في لجاز من جهتين إحْداهما أَنْ تَكونَ (لا) رافعة كَلَيْسَ كما قال الشاعرِ: مَن صَدَّ عن نِيرانِها. . . فأنا ابن قيس لاَ بَراحُ ويجوز أن يكون " عُدْوَانُ " رَفْعاً بالابتداء و" عَلَيَّ " الخبرُ. و" لا " نافية غير عَامِلةٍ، كما تقول لَا زَيْد أَخُوكَ وَلاَعَمْرو. و"أي " هي في موضع الجزاء مَنْصُوبةْ بِـ (قَضيْتُ). وجواب الجزاء (فَلا عُدْوَانَ)، و " ما " زائدة مؤكدة. والمعنى أي الأجلين قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ (1). وقوله: (وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ). أي واللَّهُ عَز وَجَل شَاهِدُنا على ما عَقَدَ بَعْضُنَا عَلَى بَعْض. * * * وقوله: (فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) يُروَى أنه قغسى أتئم الأجَلَيْنِ، وهو عَشْرُ سِنِين. وقوله: (آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطورِ نَاراً). آنس علم وأبصر، يقال: قد آنست ذلك الشخص أي أَبْصَرْته. (قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ). أي لعلي أْعلم لِمَ أُوقِدَتْ. (أَوْ جِذْوَةٍ مِنَ النَّارِ). الجذوة القطعهة الغليظة من الحطب. ويقرأ: أَوْ جُذوة بالضَم، ويقال جَذْوة بالفتح. فيها ثلاث لغات (2). * * * وقوله: (فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30)

_ (1) قال السَّمين: قوله: {ذَلِكَ}: مبتدأٌ. والإِشارةُ به إلى ما تعاقَدَا عليه، والظرفُ خبرُه. وأُضِيْفَتْ «بين» لمفردٍ لتكررِها عطفاً بالواوِ. ولو قلتَ: «المالُ بين زيدٍ فعمرٍو» لم يَجُزْ. فأمَّا قولُه: . . . . . . . . . . . . . . . . . بين الدَّخولِ فَحَوْمَلِ فكان الأصمعيُّ يَأْباها ويَرْوي «وحَوْمَلِ» بالواو. والصحيحُ بالفاءِ، وأوَّلَ البيتَ على: «الدَّخولِ وَحَوْمَلِ» مكانان كلٌّ منهما مشتملٌ على أماكنَ، نحو قولِك: «داري بين مصرَ» لأنه به المكانُ الجامع. والأصل: ذلك بَيْنَنا، ففرَّق بالعطف. قوله: {أَيَّمَا الأجلين} «أيّ» شرطيةٌ. وجوابُها «فلا عُدْوانَ» عليَّ. وفي «ما» هذه قولان، أشهرُهما: أنها زائدةٌ كزيادتِها في أخواتِها مِنْ أدواتِ الشرط. والثاني: أنها نكرةٌ. والأَجَلَيْن بدلٌ منها. وقرأ الحسن وأبو عمرٍو في رواية «أَيْما» بتخفيفِ الياءِ، كقوله: تَنَظَّرْتُ نَصْراً والسِّماكَيْنِ أَيْهُما. . . عليَّ من الغَيْثِ اسْتَهَلَّتْ مواطِرُهْ وقرأ عبد الله «أَيَّ الأَجَلَيْنِ ما قَضَيْتُ» بإقحام «ما» بين «الأجلين» و «قَضَيْتُ». قال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: ما الفرقُ بين موقعَيْ زيادةِ» ما «في القراءتين؟ قلت: وقعَتْ في المستفيضة مؤكِّدةً لإِبهامِ» أيّ «زائدةً في شِياعِها، وفي الشاذَّة تأكيداً للقضاءِ كأنه قال: أيَّ الأجلين صَمَّمْتُ على قضائه، وجَرَّدْت عَزيمتي له». وقرأ أبو حيوةَ وابنُ قطيب «عِدْوان». قال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: تَصَوُّرُ العُدْوان إنما هو في أحد الأجلَيْن الذي هو أقصرُهما، وهو المطالبةُ بتتمَّة العَشْر، فما معنى تعلُّقِ العُدْوانِ بهما جميعاً؟ قلت: معناه كما أنِّي إنْ طُوْلِبْتُ بالزيادةِ على العشر [كان عدواناً] لا شك فيه، فكذلك إنْ طولِبْتُ بالزيادةِ على الثمان. أراد بذلك تقريرَ ِأمرِ الخِيارِ، وأنه ثابتٌ مستقرٌّ، وأن الأجلَيْنِ على السَّواء: إمَّا هذا وإمَّا هذا». ثم قال: «وقيل: معناه: فلا أكونُ متعدياً. وهو في نَفْي العدوان عن نفسه كقولِك: لا إثمَ علي ولا تَبِعَةَ». قال الشيخ: «وجوابُه الأولُ فيه تكثيرٌ». قلتُ: كأنه أعجبه الثاني، والثاني لم يَرْتَضِه الزمخشريُّ؛ لأنه ليس جواباً في الحقيقة؛ فإن السؤالَ باقٍ أيضاً. وكذلك نَقَلَه عن غيره. وقال المبرد: «وقد عَلِم أنه لا عُدْوانَ عليه في أتَمِّهما، ولكنْ جَمَعَهما ليجعلَ الأولَ كالأَتَمِّ في الوفاء». اهـ (الدُّرُّ المصُون). (2) قال السَّمين: قوله: {أَوْ جَذْوَةٍ}: قرأ حمزة بضم الجيم. وعاصم بالفتح. والباقون بالكسرِ. وهي لغاتٌ في العُود الذي في رأسِه نارٌ، هذا هو المشهورُ. قال السُّلمي: حمى حُبِّ هذي النارِ حُبُّ خليلتي. . . وحُبُّ الغواني فهو دونَ الحُباحُبِ وبُدِّلْتُ بعد المِسْكِ والبانِ شِقْوةً. . . دخانَ الجُذا في رأسِ أشمطَ شاحبِ وقيَّده بعضُهم فقال: في رأسِه نارٌ مِنْ غيرِ لَهَبٍ. قال ابن مقبل: باتَتْ حواطِبُ ليلى يَلْتَمِسْنَ لها. . . جَزْلَ الجُذا غَيرَ خَوَّارٍ ولا دَعِرِ الخَوَّارُ: الذي يتقصَّفُ. والدَّعِرُ: الذي فيه لَهَبٌ، وقد وَرَدَ ما يقتضي وجودَ اللهبِ فيه. قال الشاعر: 3603 وأَلْقَى على قَبْسٍ من النارِ جَذْوةً. . . شديداً عليها حَمْيُها والتهابُها وقيل: الجَذْوَة: العُوْدُ الغليظُ سواءً كان في رأسه نارٌ أم لم يكنْ، وليس المرادُ هنا إلاَّ ما في رأسِه نارٌ. قوله: {مِّنَ النار} صفةٌ ل جَذْوَةٍ، ولا يجوزُ تَعَلُّقها ب «آتِيْكُمْ» كما تَعَلَّق به «منها»؛ لأنَّ هذه النارَ ليسَتْ النارَ المذكورةَ، والعربُ إذا تقدَّمَتْ نكرةٌ وأرادَتْ إعادَتَها أعادَتْها مضمرةً، أو معرَّفَةً ب أل العهديةِ، وقد جُمِع الأمران هنا. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(31)

سُمَيتْ مباركة لأن اللَّه كلم موسى فيها، وبعثه نبيًّا، ويقال بُقعَة وبَقْعة بالضم والفَتْح. وقد قرئ بهما جميعاً، فمن جمع بِقاعاً فهي جمع بَقْعَةٍ بالفتح، مثل قَصْعَة وقِصَاع، ومن قال بُقْعة - بالضم - فأجود الجمع بُقَع مثل غُرفة وغُرَف، وقد يجوز في بُقْعة بقاع مثل حُفْرَة وحِفَار. وقوله: (أَنْ يَا مُوسَى). (أن) في موضع نصب المعنى نُودي بأنه يَا مُوسَى وكذلك (وَأنْ ألْقِ عَصَاكَ) عطفٌ عليها. * * * (وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31) (فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ) معناه لم يَلْتَفِتْ. وقوله: (أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ). أي قد آمنت من أن ينالَك منها مكروه وهي حيَّة. * * * (اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَإِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (32) أي من غَيْر بَرَص. (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ). والرُّهْبِ جميعاً ومعناهُمَا واحد، مثل الرُّشد والرَّشَدِ. والمعنى في جناحك ههنا هو العَضُد، ويقال اليد كلها جناح. وقوله: (فَذانِكَ بُرْهَانَانِ). تقرأ بتخفيف النون وتشديدها - فَذَانِّكَ - فكأن فَذَانِّكَ تَثْنِيةُ ذَلِكَ وذانِك تثنية ذَاكَ جعل بدل اللام في ذلك تشديد النُونِ في ذَانِكَ وبرهانان آيَتَانِ بَيِّنَتَان.

(34)

(إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ). أي أرسلناك إلى فرعون وَمَلَئِهِ بهاتين الآيتَين. * * * وقوله: (وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) (فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي). ويُصَدِّقْنِي - بالرفع والجزم - قرئ بهما جميعاً، فمن قَرأَ يُصَدِّقُنِي بضم القاف فهو صفة قوله (رِدْءًا) - والردء العَوْنُ، تقول رَدَأْتهُ أَردؤه رَدْءا، إذا أعنته، والردْءُ المُعينُ. ومن جزم (يُصَدِّقْنِي) فعلى جواب المسألة، أرسله يُصَدَقْنِي، ومن رفع يصدقني فالمعنى رِدْءاً مصَدِّقاً لِيَ. * * * وقوله: (قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35) أي سنعينك بأخيكَ، ولفظ العضُدِ على جهة المثل، لأن اليد قوامُها عَضُدُهَا، فكل مُعِينٍ عَضُدٌ. وتقول قد عاضَدَنِي فلان على الأمر أي عاونني. وقوله: (وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا). أي حجة نَيرَةً بَينَةً، وإنما قيل للزيت السليط لأنه يستضاء به. فالسلطان أبْيَنُ الحجَجِ. وقوله: (فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا). أي بسلطاننا وحجتنا. فـ (بآياتنا) مِنْ صِلَة (يَصِلُونَ) كأنه قال: لَا يَصلُونَ إليكما، تَمتَنعَانِ منهم بِآيَاتِنَا. وجائز أن يكون " بآياتنا " متصا، بنجعل لكما سْلطانا بآياتنا، أى حجة تدلُّ عَلى النّبوةِ بآياتنا، أي بالعَصَا واليَدِ، وسائر الآيات التي أعطي مُوسَى - صلى الله عليه وسلم -. ويجوز أن يكوتَ بِآيَاتِنَا مبَيناً عن قوله: (أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ).

(36)

أي تغلبون بآياتنا. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) لم يأتوا بحجة يدفعون بها مَا ظَهَرَ مِنَ الآيَاتِ إلا أن قالوا إنها سحْرٌ فلما جُمِعَ السَّحَرةُ بينوا أَنَ آيات موسى عليه السلام ليست بسحر، فغلَبَ موسى بآيات اللَّه وبحجته كما قال عزَّ وجلَّ به. * * * وقوله: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38) (فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ) أي اعمل آجرًّا، ويقال إنَّ فرعونَ أولُ من عَمِلَ الآجرَّ. (فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا). والصرح كل بناء متسع مرتفع وقوله: (لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى). وظنَّ فرعونُ أنه يتهيأ له أَنْ يبلغ بصرحه نحو السماء فَيَرَى السماءَ وَمَا فِيها. (وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ). الظًنُ في اللغَةِ ضَربٌ يكون شَكا ويَقِيناً. - وقول فِرْعَوْنَ: وإني لأظُنُه اعتراف بأنه شاو، وأنَّه لم يتيقَن أَنَ موسى كاذِب، ففي هذا بيان أنه قد كفر بموسى على غير يقين أَنَه ليس بِنَبِيٍّ، وقد وَقَعَ في نفسه أنه نبيٌّ لأن الآيات التي هي النبوة لا يجْهَلها ذو فطرة، وقوله في غير هذا الموضع: (لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ). دليل على أنه قد ألزَمَ فرعونَ الحجةَ القَاطِعَةَ.

(40)

وقوله: (فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) اليَمُّ: البحرُ وهو الذي يقال له " إيسَاف " وهو الذي غرق فيه فِرعَوْنُ وجنوده بناحية مصر. * * * وقوله: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41) أي من اتبعهم فهو في النار. (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ) أي لا نَاصِرَ لَهُمْ ولا عَاصِمَ من عذاب اللَّه. * * * وقوله: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43) فكان خاتَمَة إهْلَاكِ القُرون بالعَذَاب في الدُّنْيَا أن جعل المُكَذِبِينَ بِمُوسَى الذين عَدَوْا في السبِت قِرَدةً خاسِئينَ عند تكذيبهم بِمُوسَى عليه السلاَمُ. وقوله: (بَصَائِرَ لِلنَّاسِ). أي مُبَيناً للناس، المعنى ولقد آتينا موسى الكتاب بصائر للناسِ أي هذه حال إيتائِنَا إياهُ الكتاب مُبَيناً نُبَينهُ للناس. (وهدى ورحمةً) عطف على (بصائِر)، ولو قرئت بالرفع على معنى فهو هُدى ورحمة جَازَ والنصب أجود ولا أعلم أَحَدأ قرأ بالرفع - فلا تقرَأنَّ بها. * * * وقوله: (وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) أي وما كنت بجانبِ الجبل الغربي. (وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45)

(46)

أَي مَاكنتَ مُقِيماً في أهلِ مَدْيَنَ. * * * (وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) يَعْنِي نادينا مُوسَى. (وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ). المعنى إنك لم تشاهد قَصَصَ الأنبياء، ولا تُلِيَتْ عَلَيْكَ، ولكن أَوْحَيناها إليك، وقصَصْنَاها عليك رحمةً مِنْ رَبِّكِ لتنذِر قوماً، أي لتعرفهمُ قَصَصَ مَن أُهْلِكَ بِالعَذَابِ ومن فاز بالثواب. ولو قرئت " ولكنْ رحمةٌ " لكان جائزاً على معنى ولكنْ فِعلُ ذلك رَحْمة من رَِّك، والنصْبُ على معنى فعلنا ذلك للرحمة، كما تقول: فعلت ذلك ابتغاء الخَيْر، أي فعلته لابتغاء الخَيْر، فهو مفعول له. * * * وقوله: (وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47) أي لولا ذلك لم يحتج إلى إرْسَالِ الرسُل، ومواترة الاحْتجاج. * * * وقوله: (فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48) أي فلما جاءتهم الحجة القَاطِعةُ التي كان يجوز أَنْ يَعْتَلُّوا بتأخرِهَا عنهم. (قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى). المعنى: هلَّا أوتي مُحمدٌ مثلَ ماَ أوتي موسى، صلى اللَّه عَلَيْهِمَا من أمر العصا والحية وانفلاق البحر، وسائر الآيات التي أَتَى بِهَا مُوسَى، فقد كفروا بآيات موسى كما كفروا بآيات محمدٍ عليهما السلام. (قَالُوا [سَاحْرَانِ] تَظَاهَرَا).

(50)

أي تعاونا. جاء في التفسير أنهم عَنَوْا موسى وهارون. وقالوا عَنَوْا موسى وعيسى، وقيل عَنَوْا موسى ومحمًداً عليهما السلام. وقرئ (سِحْرَانِ تَظَاهَرَا) يَعْنونَ كتَابَيْنِ، فقالوا: الإنجيل والقرآن، ودليل مَن قرأ (سِحْران) قوله: (قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا). وهذا لا يمنع سَاحِران، لأن المعنى يصيرُ: قل فأتوا بكتاب من عِنْد الله هُوَ أَهْدَى مِنْ كِتَابَيهِمَا. * * * وقوله: (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50) فاعلم أن مَا ركبُوه من الكفر لا حجَّةَ لَهُم فِيه، وإنما آثروا فِيه الهَوَى وقد علموا أنه هو الحق. * * * (وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51) أي فصَّلْنَاه بأن فصَّلْنا ذكر الأنبياء وَأَقَاصِيصَهُمْ، وأقاصيص مَنْ مَضَى، بعضها بِبَعْض. (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكرُونَ) أي لَعَلًهُمْ يَعْتَبِرْونَ. * * * وقوله: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) جاء في التفسير أن هؤلاء طائفة من أهل الكتاب كانُوا يَأخُذون به وينتهون إلَيْهِ ويقفون عندَهُ. كانوا يحكمون بحكم اللَّه، بالكتاب الذي أُنْزِلَ قَبل القرآن. فلما بُعِثَ مُحمًدٌ - صلى الله عليه وسلم - وتلا عليهم القرآنَ قَالُوا آمَنَا بِهِ إنه الحَق مِنْ رَبِّنَا. وذلك أَنّ ذكَرَ محمد - صلى الله عليه وسلم - كان مكْتُوباً عندهم في التوراة والإنجيل، فلم يعانده هؤلاء وآمَنُوا وَصَدقُوا، فأثنى اللَّه عليهم خيراً وقال:

(54)

(أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54) أي يؤتون أجرهم بإيمانهم بالكتاب الذي مِنْ قبلِ محمد - صلى الله عليه وسلم -. و (يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ) بالِإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم - والقرآن. (وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ). معنى (وَيَدْرَءُونَ) يدفعون - بما يعلمون من الحسنات - ما تَقَدم لهم من السَيِّئاتِ. (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) أيْ يَتَصَدقون. * * * (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55) أي إذا سمعوا ما لا يجوز وينبغي أن يلغَى لم يلتفتوا إليه. (وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ). ليس يريدون بقولهم ههنا سلام عليكم التحيَّة. المعنى فيه أعرضوا عنه وقالوا سلام عليكم، أي بيننا وبينكم المتَاركةُ والتسَلمُ. وهذا قبل أن يؤمَرَ المُسْلِمُون بالقِتَالِ. * * * وقوله: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) أجمع المفسرون أنها نزلت في أَبِي طَالِبِ، وجائز أن يكون ابتداء نزولها في أبي طَالِبِ وهي عامَّةٌ، لأنه لاَ يهدي إلا اللَّه، وَلَا يُرْشِدُ ولا يوفق إلا هو، وكذلكَ هو يُضِلُّ من يشاء. * * * (وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57) كانوا قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - إنا نعلم أن ما أتيت به حَق، ولكنا نكره إنْ آمَنَّا بِكَ

(59)

أن نُقْصَدَ ونُتَخَطَّفَ منْ أرْضِنَا فأعلمهم الله أنه قَدْ تَفَضَّلَ عَلَيْهِمْ بأن آمنهم بمكَةَ، فَأعْلَمَهم أن قد آمَنَهمْ بحرمَةِ البَيْتِ، ومنع منهم العَذو أي فلو آمنوا لكان أولى بالتمكن والأمن والسَّلَامَةِ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59) يعني بأمِّها مَكًةَ، ولم يكن ليهْلكَهَا إلا بظلِمْ أهْلِهَا. * * * (أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61) يعني المؤمِن والكافِر، فالمؤمِن من آمن باللَّه ورسوله وأطاعه ووقف عند أَمْرِه فَلُقِيَه جزاءَ ذَلِكَ، وهو الجنَّة، والذي مُتِّعَ متاعَ الحياة الدنيا كافرُ. لم يُؤْمِنْ باللَّه ثم أُحْضِرَ يوم القيامَةِْ العَذَابَ وذلك قوله عز وجل: (ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ). وجاء في التفسير أن هذه الآية نَزَلَتْ في محمد - صلى الله عليه وسلم - وأبي جَهْل ابْنِ هِشَام فالنبي - صلى الله عليه وسلم - وُعِدَ وَعْداً حسناً فَهو لاَقِيه في الدنيا بأنه نُصِرَ على عَدوِّهِ في الدنيا، وهو في الآخرة في أعلى المراتب من الجنة، وأبو جهل من المُحْضَرِينَ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا). (مَعِيشَتَهَا) مَنْصوبَةٌ بإسقاط في وَعَمَل الفِعْل. وتأويله بطرت في مَعِيشَتِها والبطرُ الطغيانُ بالنِعْمَةِ.

(62)

وقوله: (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) أي يوم ينادي الإنس. وسماهم " شركائي " على حِكَايَةِ قَوْلِهِمْ. المَعْنَى أين شركائي في قولكم، واللَّه واحد لا شريك له. * * * (قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63) الجِنُّ، والشيَاطِين. (هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا). يعْنُونَ الِإنْسَ، أي سولنا لهم الغَيَّ والضلَالَ. (أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا). أي أضللناهم كما ضَلَلْنَا. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ). برئ بعضهم من بَعْض، وصاروا أَعْداءً، كما قال الله عزَّ وجلَّ: (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67). * * * وقوله: (وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (64) (فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ). أي لم يُجيبوهم بحجةٍ. (وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ). جوأب " لو " محذوف - واللَّه أعلم - المعنى لو كانوا يَهْتَدُونَ لما اتبعُوهم ولا رأوا العذابَ. * * * وقوله: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) أجود الوقوف على (وَيَخْتَارُ)؛ وتكونْ " مَا " نفياً. المعنى ربك يخلق ما يشاء، وربك يختار ليْسَ لهم الخيرة. وما كانت لهم الخيرةُ، أي

(71)

ليس لهم أن يَخْتاروا على اللَّه، هذا وجه. ويجوز أن يكون (ما) في معنى الذي فيكون المعنى ويختار الذي كان لهم فيه الخيرة. ويكون معنى الاختيار ههنا ما يتعبدهم به، أي ويختار لهم فيما يدعوهم إليه مِنْ عِبَادَتِه ما لهم فيه الخيرة، والقول الأول أجود - أي أن تكون (ما) نَفْياً. وقوله: (سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ). معنى سبحان الله تنزيه له من السوءِ. كذا هو في اللغة - وكذا جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم. * * * قوله: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) السَّرمَدُ في اللغَةِ الدائِمُ. وقوله: (مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ). أي بِنَهارٍ تُبْصرون فيه وتتصرفون في مَعَايشكم، وتصْلِحُ فيه ثماركم وَمَنَابتكُمْ لأن اللَّه - عزَّ وجلَّ - جعل الصلاح للخلق بالليل مع النهار، فلو كان واحِدٌ منهما دون الآخر لهلك الخَلْقُ، وكذلك قوله في النهار: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72) أعلمهم أن الليل والنهار رحمةٌ فقال: (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73)

(75)

المعنى جَعَل لكم الزمانَ لَيْلاَ ونَهاراً، لتسكنوا بالليل وتبتغوا من فضل الله بالنهار. وجائز أن تَسْكنوا فيهما، وأن تبتغوا من فضل اللَّه فيهما. فيكون المعنى جعل لكم الزمان ليلًا ونهاراً لتسكنوا فيه ولتبتغوا مِنْ فَضْلِه. * * * وقوله: (وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (75) أي نزعنا من كل أمّة نَبِيًّا أي اخْتَرْنَا منها نبيًّا وكلَّ نَبيٍّ شاهد على أمته. وقوله: (فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ). أي هاتوا فيما اعْتَقَدْتم بُرْهَاناً أيْ بَيَاناً أنكم كنتم على حَقٍّ. (فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ). أي فعلموا أَنَّ الحق تَوحِيدُ اللَّه وَمَا جَاءَ بِهِ أنبياؤُه. وقوله: (وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ). أي لم ينتفعوا بكل ما عَبَدُوه مِنْ دونِ اللَّهِ، بل ضرَّهم أعظم الضَّرَرِ. * * * وقوله تعالى: (إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) قَارُون اسم أَعْجمي لا ينصرف، ولو كان فَاعولًا مِنَ العربيَّةِ، مِنْ قَرنْتُ الشَّيءَ - لا يُصْرف. فلذلك لم يُنَوَّنْ. وجاء في التفسير أَن قارون كان ابنَ عَمِّ مُوسَى، وكان مِنَ

العُلَماء بالتوْرَاةِ. فبغَى على موسى وَقَصَدَ إلى الإفساد عليه وتكذيبه. وكان من طلبه للإفْسَادِ عَلَيْه أَن بَغِيًّا كانت مَشْهُورَةً في بني إسرائيل. فَوَجَّهَ إليها قارونُ - وَكَانَ أَيْسَرَ أَهلِ زَمَانِهِ - يأمرها أن تَصِيرَ إليه، وهو في مَلأٍ مِنْ أَصْحابه لِتَتَكَذَّبَ على مُوسَى وتقول: إنه طلبني للفساد والرِّيبَةِ، وضمن لها قَارُونُ إنْ فعلتْ ذلك أن يَخْلِطها بِنِسَائِهِ، وَأَنْ يُعطِيها على ذلك عَطَاءَ كبيراً، فجاءت المرأةُ - وقارون جالس مع أصحابه - وَرَزَقها اللَّهُ التوبة فقالت في نفسِها مالي مَقَامُ توبةٍ مثلُ هذا، فأقبلت على أهل المجلس وقارُونَ حَاضِرٌ، فقالت لهم إن قارونَ هَذَا وَجَّه إليَّ يأمُرُنِي وَيَسْأَلُني أن أتكذَّب على موسى، وأن أقول إنه أرادَني للفساد وإنَّ قارونَ كاذبٌ في ذلك فلما سمع قارون كلامها تحيَّر وَأُبْلِسَ واتصَلَ الخَبَرُ بمُوسَى - عليه السلام - فجعل اللَّهُ أَمْرَ قارون إلى مُوسَى وأمر الأرض أَنْ تطيعَه فيه، فَوَرَدَ مُوسَى على قارونَ فَاَحَسَّ قارون بِالبَلاءِ، فقال يا موسى ارْحَمْني، فقال: يا أرض خُذِيهِ فخُسِفَ به وَبِدَارِه إلى رُكْبَتَيهْ، فقال: يا موسى ارحمني، فقال: يا أرض خُذِيه فَخُسِف به إلى سُرتِهِ، ثم قال: يا أرض خذيه فخسف به إلى عُنُقِهِ واسترحَمَ موسى فقال يا أرض خذيه فخسف به حتى ساخت الأرضُ بِهِ وبداره، قال الله عزَّ وجلَّ: (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81). * * * وقوله تعالى: (وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ). روي في التفسير أن مَفَاتِحَه كانت من جُلُودٍ على مقادر الإصبع وكانت تحمل على سبعين بَغْلًا أو ستين بَغْلاً، وجاء أَيْضاً أَن مفاتحه

(77)

خزائنُه، وقيل إن العُصْبَةَ ههنا سَبْعُونَ رَجُلاً، وقيل أربعون، وقيل ما بين الخَمسة عَشَرَ إلى الأرْبَعِين، وقيل ما بين الثلاث إلى العشرة. والعُصْبَةُ في اللغة الجماعة الذين أَمْرُهُمْ وَاحِد يتابع بعضهم بعضاً في الفِعْلِ ويتعصَّبُ بعضهم لِبَعْضٍ. والأشبَهُ فيما جاء في التفسير أن مفاتحه خزائنهُ، وأنها خزائن المال الذي يُحْمَلُ على سَبْعِينَ، أو على أربعين بَغْلاً - واللَّه أعلم - لأن مفاتَح جلود على مِقْدَارِ الإصْبَع، تُحمَلُ على سبعين بغلاً للخزائن أمر عظيم - واللَّه أعلم -. ومعنى (لَتَنُوءُ بِالعُصْبَةِ) لَتُثْقِلُ العُصْبَةَ. قَالَ أَبُو زَيْدٍ: يقال نؤت بالحِمْلِ أنوءُ به نُوءاً إذا نَهَضْت به. وناء بي الحمل إذا أَثْقَلَنِي. وقوله: (إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ). جاء في التفسير لا تَأشَرْ إن اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الأشِرينَ. ولا تفرح ههنا - واللَّه أعلم - أي لا تفرح لكثرة المال في الدنيا لأن الذي يفرح بالمال ويصرفه في غير أَمْر الآخِرةِ مَذْمُوم فيه. قال اللَّه عَز وجل: (لِكَيْلَا تَأسَوُا عَلَى مَا فَاتَكُمْ). والدليل على أنهم أرادوا لا تفرح بالمال في الدنيا قولهم: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) ولا تنس نصيبك من الدنيا، أي لا تنس أن تعمل به لآخرتك. لأن حقيقة نصيب الإنسان من الدنيا الذي يعمل به لآخرَتِهِ.

(78)

(قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) ادَّعى أن المال أُءْطِ يَة لعلمه بالتوراة، والذي رُويَ أنه كانَ يَعْمَل الكِيميَاء، وهذا لايصح لأن الكيمياء باطلٌ لَا حقيقة له. * * * وقوله: (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) جاء في التفسير أنه خرج هُوَ وأصحابه عَلَى خَيْلِهِمْ، وَعَلَيْهِمْ وَعَلَى الخَيْلِ الأرْجُوَانُ. والأرجوان في اللغة صبغ أَحْمَر. وقيل: كان عليهم وعلى خيلهم الديبَاج الأحْمَر. * * * وقوله: (وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80) (وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ) أي لا يُلَقًى هَذه الفَعْلةَ، وهذه - الكلمة يعني قولهم: (وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا). * * * وقوله: (وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82) يعني الذين قالوا: (يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ). (يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ). هذه اللفظة لفظة " وَيْكَ " قد أَشْكَلَتْ على جَمَاعَةٍ من أَهْلِ اللغةِ وجَاءَ في التفسير أن معناها ألم تر أنه لَا يُفلح الكَافِرونَ. وقال بعضهم معناها أما تَرَى أنه لا يفلح الكافرونَ. وقال بعض النحويين - وهذا غلط عظيم - إنَّ مَعناها وَيْلَكَ اعْلَمْ أنه لا يفلح الكافرون فحذف اللام فبقيتْ وَيْكَ وَحَذَفَ أعلم أنه لا يفلح الكافرون، وهذا خطأ من ْغير جهة، لو كان كما قال لكانت أن مكسورة كما تقول: ويلك إنه قَدْ كَانَ كذا وكذا، ومن جهة أخرى أنْ يُقَالَ لمن خاطب القوم بهذا

(85)

فقالوا: ويلك " إنه لا يفلح الكافرون "، ومن جهة أخرى أنه حذف اللام من ويل. والقول الصحيح في هذا ما ذكره سيبويه عن الخليل ويونس. قال سألت عنها الخليل فزعم أنها " وَيْ " مفصولة من كأنَّ. وأن القوم تنبهوا فقالوا: وَيْ، مَتندِّمِينَ على ما سلف منهم، وكل من تندم أو ندم فإظهار تندمه وندامته أن يقول " وي " كما تعاتب الرجل على ما سلف منه فقول: وي، كأنك قصدت مكروهي، فحقيقة الوقف عليها وَيْ، وهو أجود في الكلام، ومعناه التنبيه والتندم. قال الشاعر: سَألتَاني إلى طلاق إذ رأتاني. . . قلَّ مالي قد جِئْتما فِي بنكر وَيْ كأنْ مَنْ يكنْ له نَشَبٌ يُحْ. . . بَبْ ومَنْ يَفْتَقِرْ يَعِشْ عيشَ ضُرِّ فهذا تفسير الخليل، وهو مشاكل لما جاء في التفسير، لأن قول المفسرين هو تنبيه (1). * * * وقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (85) معنى فرض عليك القرآن أنزله عليك وألزمك، وفرض عليك العمل بما يوجبه القرآن.

_ (1) قال السَّمين: قوله: {وَيْكَأَنَّ الله}: و «ويْكَأنَّه» فيه مذاهبُ منها: أنَّ «وَيْ» كلمةٌ برأسِها وهي اسمُ فعلٍ معناها أَعْجَبُ أي أنا. والكافُ للتعليل، وأنَّ وما في حَيِّزها مجرورةٌ بها أي: أَعْجب لأنه لا يفلحُ الكافرون، وسُمِع «كما أنه لا يَعْلَمُ غفر اللهُ له». وقياسُ هذا القولِ أَنْ يُوْقَفَ على «وَيْ» وحدها، وقد فعل ذلك الكسائيُّ. إلاَّ أنه يُنْقل عنه أنه يُعتقدُ في الكلمةِ أنَّ أصلَها: وَيْلَكَ كما سيأتي، وهذا يُنافي وَقْفَه. وأنشد سيبويه: 3628 وَيْ كأنْ مَنْ يكنْ له نَشَبٌ يُحْ. . . بَبْ ومَنْ يَفْتَقِرْ يَعِشْ عيشَ ضُرِّ الثاني: قال بعضهم: قوله: «كأنَّ» هنا للتشبيه، إلاَّ أنه ذهب منها معناه، وصارت للخبرِ واليقين. وأنشد: 3629 كأنني حين أُمْسِي لا تُكَلِّمُني. . . مُتَيَّمٌ يَشْتهي ما ليس موجودا وهذا أيضاً يناسِبُه الوقفُ على «وَيْ». الثالث: أنَّ «وَيْكَ» كلمةٌ برأسِها، والكافَ حرفُ خطابٍ، و «أنَّ» معمولٌه محذوفٌ أي: أعلمُ أنه لا يُفْلِحُ. قاله الأخفش. وعليه قولُه: 3630 ألا وَيْكَ المَسَرَّةُ لا تَدُوْمُ. . . ولا يَبْقى على البؤسِ النعيمُ وقال عنترةُ: 3631 ولقد شَفَى نفسي وأَبْرَأَ سُقْمَها/. . . قيلُ الفوارسِ وَيْكَ عنترَ أَقْدمِ وحقُّه أَنْ يقفَ على «وَيْكَ» وقد فعله أبو عمرو بن العلاء. الرابع: أنَّ أصلَها وَيْلك فحذف. وإليه ذهب الكسائيُّ ويونس وأبو حاتم. وحقُّهم أَنْ يقفوا على الكافِ كما فعل أبو عمرٍو. ومَنْ قال بهذا استشهد بالبيتين المتقدمين؛ فإنه يُحتمل أَنْ يكونَ الأصلُ فيهما: وَيْلَكَ، فحذف. ولم يُرسَمْ في القرآن إلاَّ: وَيْكأنَّ، ويْكَأنَّه متصلةً في الموضعين، فعامَّةُ القراءِ اتَّبعوة الرسمَ، والكسائيُّ وقف على «وَيْ»، وأبو عمرٍو على وَيْكَ. وهذا كلُّه في وَقْفِ الاختبارِ دونَ الاختيارِ كنظائرَ تقدَّمَتْ. الخامس: أنَّ «وَيْكأنَّ» كلَّها كلمةٌ متصلةٌ بسيطةٌ، ومعناها: ألم تَرَ، ورُبَّما نُقِل ذلك عن ابن عباس. ونَقَلَ الكسائيُّ والفراء أنها بمعنى: أما ترى إلى صُنْعِ الله. وحكى ابن قتيبة أنها بمعنى: رَحْمَةً لك، في لغة حِمْير. قوله: {لولا أَن مَّنَّ} قرأ الأعمشُ «لولا مَنَّ» بحذفِ «أنْ» وهي مُرادةٌ؛ لأنَّ «لولا» هذه لا يَليها إلاَّ المبتدأُ. وعنه «مَنُّ» برفع النونِ وجَرِّ الجلالةِ وهي واضحةٌ. قوله: {لَخَسَفَ} حفص: «لَخَسَفَ» مبنياً للفاعل أي: الله تعالى. والباقون ببنائِه للمفعولِ. و «بنا» هو القائمُ مَقامَ الفاعلِ. وعبد الله وطلحةُ «لا نْخُسِفَ بنا» أي: المكان. وقيل: «بنا» هو القائمُ مَقامَ الفاعلِ، كقولك «انقُطِع بنا» وهي عبارةٌ. . . وقيل: الفاعلُ ضميرُ المَصدرِ أي: لا نخسَفَ الانخسافَ، وهي عِيٌّ أيضاً. وعن عبدِ الله «لَتُخُسِّفَ» بتاءٍ من فوقُ وتشديدِ السين مبنياً للمفعولِ، و «بنا» قائمةٌ مقامَه. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(86)

(لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ) جاء في التفسير: لَرَادُّكَ إِلَى مكانك بمكة. وقيل إلى معادٍ إلى مكانك في الجنة، وأكثر التفسير لباعثك، وعلى هذا كلام الناس: اذْكُر المَعَادَ. أي اذكر مبعثك في الآخرة. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (86) (فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ). أيْ مُعيناً للكَافِرِين، ويجوز فلا تَكُونَنْ ظهيراً، ولكني أكرهها لأنها تخالف المصحف، ويجب أن تكتب بالتخفيف بالألف. * * * وقوله: (وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88) (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ). (وَجْهَهُ) منصوب بالاستثناء، ومعنى (إِلَّا وَجْهَهُ) إلا إياه، ويجوز (إِلَّا وَجْهُهُ) بالرفْع، ولكن لا ينبغي أن يقرأ بها، ويكون المعنى كل شيء غير وجهه هالك. وهو مثل قول الشاعر:. وكل أخ مفارقه أخوه. . . لَعَمْرَ أبيك إلا الفَرقَدَان المعنى وكل أخ غير الفرقدين مفارقه أَخُوه.

سورة العنكبوت

سُورَةُ العَنْكَبُوت (مَكِّيَّة) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله: (الم (1) (الم) تفسيرها أنَا اللَّه أعلم. وقد فسرنا كل شيء قيل في هذا في أول سورة البقرة. وقوله: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) اللفظ لفظ استخبار والمعنى معنى تقرير وتوبيخ، ومعناه أَحَسِبُوا أَنْ نَقْنَع منهم أن يقولوا " إنَّا مؤمنون " فقط ولا يمتحنون بما يَتَبَينُ به حقيقة إيمانهم. وجاء في التفسير في قوله - جلَّ وعزَّ -: (وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ)، لا يختبرون بِمَا يُعْلَمُ بِهِ صدقُ إيمانهم من كذبه. وقيل: (لَا يُفْتَنُونَ) لَا يُبتَلَوْنَ فِي أَنْفُسِهم وأموالهم، فيعلَمُ بالصبر عَلى البَلاءِ الصادِق - الإيمان مِنْ غَيْرِه. وموضع " أن " الأولى نصب اسمُ حَسِبَ وخبره. وموضع " أن " الثانية نصب من جهتين: أجْوَدُهُمَا أنْ تَكُونَ مَنْصُوبَةً بِـ (يُتْرَكُوا) فيكون المعنى أحسب الناس أن يتركوا لأنْ يقولوا، وبأن يقولوا. فلما حذف حرف الخَفْضِ وصل بِـ (يُتْرَكُوا) إلى أن فَنَصبَ، ويَجُوزُ أن تكون الثانية

(3)

العامل فيها " أَحسِبَ "، كان المعنى على هذا - والله أعلم - أَحَسِبَ النَاسُ أَنْ يَقولُوا آمَنَا وهم لا يُفْتَنونَ. والأولى أَجْوَد. * * * وقوله: (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) أي اخْتَبَرْنَا وابْتلينا. وقوله: (فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ). المعنى ولَيَعْلَمَنَّ صِدْقَ الصادِق بوقوع صِدْقِه منه، وكَذِبَ الكَاذِبِ بوقوع كَذِبِه مِنْه، وهو الذي يُجَازِي عليه، واللَّه قد عَلِمَ الصًادِق من الكاذِبِ قبل أَنْ يَخْلُقَهما ولكنَّ القَصْدَ قَصْد وقوع العلم بما يُجَازَى عَلَيْه. * * * وقوله: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4) أي يَحْسَبُونَ أَنًهم يَفُوتُونَنا، أي ليس يُعْجِزُونَنَا. (ساء ما يحكمون) على معنى ساء حكماً يحكمونَ، كما تقول نعم رَجُلًا زَيْدٌ - ويجوز أن تكون رفعاً، على معنى ساء الحكم حكمهم. * * * وقوله: (مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) معناه واللَّه أعلم من كان يَرْجُو ثوابَ لِقَاءَ اللَّهِ،، فأمَّا من قال: إن معناه الخوف، فالخوف ضِدُّ الرجَاءِ، وليس في الكلام ضِد. وقد بيَّنَّا ذلك في كِتَابِ الأضْدَادِ. وقوله: (فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ).

(8)

(مَن) في معنى الشرط، يرتفع بالابتداء، وخبرها كان، وجواب الجزاء (فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ). * * * وقوله: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) القراءة (حُسْناً)، وقد رويَتْ (إحْسَاناً). و (حُسْناً) أَجْوَدُ لموافقة المصحف، فمن قال حُسْناً فهو مِثْلُ وَصَّيْنَا، إلا أن يفعل بوالديه ما يحْسُنُ. ومن قرأ (إحْسَاناً) فمعنَاهُ ووصينا الإنسان أن يحسن إلى والديه إحساناً، وكأنَّ (حُسْناً) أعَمُّ في البر. وقوله: (وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا). معناه: وَإِنْ جَاهَدَاكَ أيها الإنسان والداك لتشرك بي، وكذلك على أَنْ تُشْرِكَ بي. ويروى أن رَجُلًا خرج مِنْ مَكةَ مُهَاجِراً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، فَحَلَفتْ أمه أَنْ لا يظلها بيت حتى يرجع، فأَعلم اللَّه أَن برَّ الوَالِدَيْنِ وَاجِبٌ، ونهى أَنْ يَتابَعَا على مَعْصِيَةٍ اللَّه والشرك به، وإن كان ذلك عند الوالدين برًّا. * * * وقوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10) أي فإذا ناله أَذًى أَوْ عَذَابٌ بسبب إيمانه جَزِعَ من ذلك ما يجزع من عذاب اللَّه. وينبغي للمؤمن أَنْ يَصبرَ على الأذيَّةِ في اللَّه عزَّ وجلَّ. * * * وقوله: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) يقرأ (وَلْنَحْملْ) بسكون اللام وبكسرها. في قوله (ولنَحْمِلْ). وهو أمر في تأويل الشرط والجزاء. والمعنى إن تَتَبِعُوا سَبِيلَنَا حَمْلنا خطاياكم.

(13)

والمعنى إنْ كَانَ فيه إثم فنحنُ نَحْتَمِلُه. ومعنى " سبيلِنَا " الطريقَ في ديننا الذي نسلكه، فأَعلم اللَّه عزَّ وجلَّ أنهم لا يحملون شيئاً من خطاياهم فقال: (وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ). معناه من شيء يُخففُ عن المحمولِ عنه العذابَ، ثم أعلم أنهم يَحملُونَ أَثْقَأنَّهمْ وأثقالاً مع أَثْقَالِهم كما قال عزَّ وجلَّ: (لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ). فقال في هذه السورة: (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13) وجاء في الحديث تفسير هذا أنه من سَنَّ سُنةً ظُلْم، أو من سَنَّ سُنَّةً سَيئَةً فعليه إثمها وإثم من عملٍ بها، ولا ينتقصُ مِنْ أَوْزَارِ الَّذِين عَمِلُوا بِهَا شَيء. وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَة كان له أَجْرُهَا وأَجْرُ من عمل بها إلى يوم القيامةِ وَلاَ يُنْتَقَصُ من أُجُورِهِمْ شيء. وعلى قوله: (عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ)، أي علمت ما قَدَّمَتْ من عَمَل، وما سَنَّتْ مِنْ سُنَةٍ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، فإن ذلك مِما أَخَّرَتْ. ويَجُوزُ أن يكون (مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) مَا قَدَّمَتْ مِنْ عَمَل وما أَخَّرَتْ مما كان يجب أن تُقَدِّمَهُ. ثم أعلم اللَّه - عَز وَجَل - أَنَه يُوَبِّخُهُمْ فقال: (وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ). فذلك سُؤالُ تَوْبِيخ كما قال: (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24). فَأَمًا سُؤَالُ اسْتِعْلاَم فقد أعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أَنَّهُ لا يَسْأَلً سُؤَالَ اسْتِعْلَام في

(14)

قوله: (فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39). * * * وقوله: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14) (فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا) فالاستثناء مُسْتَعْمَل في كلام العَربِ، وتأويلُه عند النحْويينَ توكيدُ العَدَدِ وتحصيلُه وكمالُه، لأنك قد تذكر الجملةَ ويكون الحاصلُ أَكْثَرَهَا، فإذا أردت التوْكِيدَ في تمامها قُلْتَ كلها، وإذا أردت التوكيدَ في نقصانِها أدْخَلت فيها الاسْتثناء، تقول: جاءني إخوتك يعني أَن جَمِيعَهُم جاءك. وجائز أَنْ تَعْنِيَ أَن أكثرهم جاءَك، فَإذَا قُلْتَ: جاءني إخْوَتُكَ كُلُّهُمْ أَكَّدْتَ معنى الجَمَاعةِ، وأَعْلَمْتَ أنه لم يتَخَلَّفْ مِنْهُمْ أَحَد. وتقول أَيْضاً: جاءني إخْوَتُكَ إلا زيداً فتؤكد أن الجَمَاعَةَ تنقُصُ زيداً. وكذلك رُءُوس الأعْدَادِ مُشَبَّهَة بالجماعات، تقول: عندي عَشَرة، فتكون ناقِصَةً، وجائز أن تكون تامَّةً، فإذا قُلْتَ: عَشَرَة إلا نِصْفاً أو عشرة كَامِلة حَقَّقْتَ، وكذلك إذَا قُلْتَ: أَلْف إلَّا خَمْسِينَ فهو كقولك عشرة إلا نِصْفاً لأنك إنَّما اسْتَعْمَلْتَ الاستثناء فيما كان أَمْلَكَ بالعَشَرَةِ من التِسْعَةِ، لأن النِصْفَ قَدْ دَخَل في بابِ العَشرةِ، ولو قُلْتَ عشرة إلا واحداً أو إلا اثنَيْن كان جائزاً وفيه قُبْح، لأن تِسْعةً وَثَمانيةً يؤدي عَنْ ذَلِكَ العَدَدِ، ولكنه جائز من جهة التوْكِيدِ أَن هَذِه التَسْعَةَ لا تَزيد ولا تنقُصُ، لأنَّ قَوْلَكَ عَشَرة إلاً واحداً قد أخبرت أفيه، بحقيقة العَدد واسْتثنيت ما يكون نقصاناً من رأس العَددِ. والاختيار في الاستثناء في الأعداد التي هي عُقُودُ الكسُور والصحَاحِ جَائِز أن يستثنى. فأما استثناء نصف الشيء فقبيح

(15)

جدَّا، لا يتكلم به الجَرَبُ، فإذَا قلتَ عشرةً إلا خمْسةً فليس تَطُور العَشَرةُ بِالخَمْسَةِ لأنها لَيْسَتْ تَقْرُبُ منها، وإنما تتكلم بالاستِثْنَاء كما تتكلم بِالنقْصَانِ، فتقول: عندي درهم ينقص قِيرَاطاً،. . ولو قلت عندي درهم ينقص خمسة دوانيق أو تنقُصُ نِصْفَه كان الأولى بذلك: عِنْدِي نصف دِرْهَمٌ. ولم يأت الاستثناء في كلام العَرَبِ إلا قليلٌ من كثير. فهذه جملة كافيةٌ. وقوله: (فَاَخَذهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ). الطوفَانُ مِن كُل شيءٍ ما كان كثيراً مُطِيفاً بالجماعة كلها كالْغَرَقِ الذِي يَشْتمِلُ عَلَى المدُنِ الكَبِيرَةِ. يقال فيه طوفان. وكذلك القتل الذرِيعُ والموت الجارف طوفان. * * * وقوله: (فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (15) قد بَين في غير هذه الآية مَنْ أَصْحَابُ السفينةِ - في قوله: (قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ). * * * وقوله: (وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) المعنى وَأُرْسَلْنَا إبراهِيمَ عَطْفاً على نوح. * * * وقوله: (إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17)

(19)

وقرئت (وَتُخَلِّقُونَ إفْكاً). أَوْثاناً أَصْناماً. وتخلقون إفْكاً فيه قَولانِ: تخلقون كذِباً، وقيل تعملون الأصْنَامَ، ويكون التأويلُ على هذا القول: إنما تعْبُدُونَ من دون الله أَوْثَاناً وأَنْتُم تصنعونَها. * * * وقوله: (أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) وتقرأ تَرَوا بالتاءِ. * * * (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) (ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ). أي ثم إن الله يبعثهم ثانيةً بِنَشئِهِمْ نشأةً أخرى، كما قال: (وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (47). وأكثر القراءة (النَّشْأَةَ) بتسكين الشِين وتَرْكٌ لِمَدِّهِ. وقرأ أَبُو عَمْرٍ والنشَاءَةَ الأخْرَى بِالمَدِّ. * * * وقوله تعالى: (وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (22) أي ليس يعجز اللَّهَ خلْقٌ في السماء ولَا في الأرْضِ. وفي هذا قولان: أَحَدُهُما معناهُ ما أنتم بمعجزين في الأرض ولا أهل السماء مُعْجِزين في السَّمَاءِ، أي مَن في السَّمَاوَات ومَن في الأرض غير مُعْجِزِينَ ويجوز - والله أعلم - وما أنتُمْ بمعجزين في الأرْضِ، ولا لو كنتم في السماء، أي لا ملجأ من الله إلا إليهِ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23) روي عن قَتَادَة أنه قال: إن اللهَ ذَمَّ قَوْماً هَانُوا عَلَيْه فقال: (أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي)، وقال: (إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ). وينبغي للمؤمن ألا ييئَسَ من روح الله، ولا من رَحْمَتِه، وَلاَ يأمَنُ مِنْ عَذَابِه وعِقَابِه، وصِفَةُ المُؤمِنِ أَن يكون راجياً للَّهِ، خائفاً.

(24)

(فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وقرأ الحسنُ فما كان جَوَابُ قَوْمِهِ - بالرفع - فمن نصب جَعَل " أَنْ قَالُوا " اسم كَانَ، ومن رفع الجَوَابَ جَعَلَه اسمَ كان وجَعَلَ الخَبَرَ " أَنْ قَالُوا " وَمَا عَمِلَتْ فيه، ويكون المَعْنَى ما كان الجوابُ إلا مَقالَتَهُم: اقْتُلوه، لما أَنْ دَعَاهُم إبراهيم إلى توحيد اللَّه عزَّ وجلًَّ، واحتَجَّ عليْهم بأنهم يعبدون ما لا يضرهم ولا ينفعُهُمْ، جعلوا الجواب اقتلوه أو حَِّقُوهُ. وقوله: (فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ). المعنى فحرقوه فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ. ويُرْوَى أن إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - لم تعمل النارُ في شيء منه إلا في وَثَاقِهِ الذي شُدَّ بِهِ. ويروى أن جميع الدواب والهَوَام كانت تطفئ عن إبراهيم إلا الوزغ، فإنها كانت تنفخ النار، فأمِرَ بِقَتْلِهَا ويرد أنه لم ينتفع في ذلك اليوم بِالنارِ، أعني يَوْمَ أخذوا إبراهيم عليه السلام. وجميع ما ذكرناه في هذه القِصةِ مِما رواه عبد اللَّه بن أحمد بن حَنْبَل عَنْ أَبيه، وكذلك أكثر ما رَوَيْتُ في هذا الكتاب من التفسير. فهو من كتاب التفسير عن أحمد بن حنبل. * * * وقال عزَّ وجلَّ: (وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25) أي قال إبراهيم لقوْمِهِ إنما اتخذتم هذه الأوثان لِتَتَوادُّوا بها في الحياة الدنْيَا. (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا).

(26)

وهذا كما قال الله - عزَّ وجلَّ: (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67). وفيها في القراءَةِ أَرْبعَةُ أَوْجُهُ. مِنْهَا: (مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ)، بفتح (مَوَدَّةَ) وبالإضافة إلى بَيْنٍ، وبنصْب مَوَدَّةً والتنوين، ونصب بَيْنَ. (مَوَدَّةً بَيْنَكُمْ) ويجوز (مَوَدَّةُ بَيْنِكُمْ) - بالرفع والِإضَافَةِ إلى بين. ويجوز (مَوَدَّةٌ بَيْنَكُمْ) - بالرفع والتنوين ونصبُ بَيْن. فالنصْبُ في (مَوَدَّةَ) من أجل أنها مفعول لها، أي اتخذتم هذا للمودةِ بينكم. ومن رفع فمن جهتين: إحْدَاهُمَا أن يكون " ما " في معنى " الذي " ويكون المعنى: إن ما اتخذتموه من دون الله أوثاناً مَوَدةُ بينكم، فيكون (مَوَدَّة) خبرَ إن، ويكون برفع (مَوَدَّة) على إضْمارِ هيَ، كَأنهُ قال: تِلْكَ مودةٌ بَيْنَكُمْ في الحياة الدنيا، أي أُلْفَتُكُمْ واجتماعكم على الأصنَامِ مَوَدَّةٌ بينكم في الحياة الدنيا (1). * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) صَدَّق لُوطٌ إبراهيمَ عليه السلام، وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي. إبْرَاهِيمُ هاجَرَ من كُوثَى (2) إلى الشام. * * * وقوله: (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27) (وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا). قيل الذكر الحسن، وكذلك (وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ). وقيل (وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا) أنه ليس مِنْ أمةٍ من المُسْلمين واليهودِ والمجوسِ والنصارى إلا وهم يعظمون إبراهيم. وقيل (وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا)

_ (1) قال السَّمين: قوله: {إِنَّمَا اتخذتم}: في «ما» هذه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنها موصولةٌ بمعنى الذي، والعائدُ محذوفٌ، وهو المفعولُ الأول. و «أَوْثاناً» مفعولٌ ثانٍ. والخبرُ «مَوَدَّةُ» في قراءةِ مَنْ رفع كما سيأتي. والتقدير: إنَّ الذي اتَّخذتموه أوثاناً مودةُ، أي: ذو مودةٍ، أو جُعلِ نفسَ المودةِ، ومحذوفٌ على قراءةِ مَنْ نَصَبَ «مَوَدَّةَ» أي: إنَّ الذي اتخذتموه أوثاناً لأجلِ المودةِ لا يَنْفَعُكم، أو «يكونُ عليكم»، لدلالةِ قولِه: {ثُمَّ يَوْمَ القيامة يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ}. الثاني: أن تُجْعَلَ «ما» كافةً، و «أوثاناً» مفعولٌ به. والاتِّخاذ هنا متعدٍ لواحدٍ، أو لاثنين، والثاني، هو {مِّن دُونِ الله} فَمَنْ رفع «مودةُ» كانَتْ خبرَ مبتدأ مضمرٍ. أي: هي مودة، أي: ذاتُ مودة، أو جُعِلت نفسَ المودةِ مبالغةً. والجملةُ حينئذٍ صفةٌ ل «أَوْثاناً» أو مستأنفةٌ. ومَنْ نصبَ كانَتْ مفعولاً له، أو بإضمار أَعْني. الثالث: أَنْ تُجْعَلَ «ما» مصدريةً، وحينئذٍ يجوز أن يُقَدَّر مضافاً من الأول أي: إنَّ سببَ اتَّخاذِكم أوثاناً مودةُ، فيمَنْ رفَعَ «مودةُ». ويجوز أَنْ لا يُقَدَّرَ، بل يُجْعَلُ نفسُ الاتخاذِ هو المودةَ مبالغةً. وفي قراءةِ مَنْ نَصَبَ يكونُ الخبرُ محذوفاً، على ما مَرَّ في الوجه الأول. وقرأ ابن كثيرٍ وأبو عمروٍ والكسائيُّ برفع «مودةُ» غيرَ منونة وجَرِّ «بَيْنِكم». ونافع وابن عامر وأبو بكر بنصب «مودةً» منونةً ونصبِ «بينَكم». وحمزةُ وحفص بنصب «مودةَ» غيرَ منونةٍ وجرِّ «بَيْنِكم». فالرفعُ قد تقدَّم. والنصبُ أيضاً تقدَّم فيه وجهان، ويجوز وجهٌ ثالثٌ، وهو أن تُجْعَلَ مفعولاً ثانياً على المبالغةِ، والإِضافةُ للاتِّساعِ في الظرف كقولِهم: يا سارِقَ الليلةِ أهلَ الدارِ. . . ومَنْ نصبَه فعلى أصلِه. ونُقِل عن عاصمٍ أنه رَفَع «مودةُ» غيرَ منونةٍ ونَصَبَ «بينَكم». وخُرِّجَتْ على إضافة «مودةُ» للظرف، وإنما بُني لإِضافتِه إلى غيرِ متمكنٍ كقراءةِ {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} [الأنعام: 94] بالفتح إذا جعلنا «بينَكم» فاعلاً. وأمَّا «في الحياة» ففيه [أوجهٌ] أحدها: أنه هو و «بينَكم» متعلقان ب «مودَّة» إذا نُوِّنَتْ. وجازَ تعلُّقُهما بعاملٍ واحدٍ لاختلافِهما. الثاني: أَنْ يتعلَّقا بمحذوفٍ على أنهما صفتان ل «مودَّة». الثالث: أن يتعلَّق «بَيْنَكم» بموَدَّة. و «في الحياة» صفةٌ ل «مودة». ولا يجوز العكسُ لئلا يلْزَم إعمالُ المصدرِ الموصوفِ. والفرقُ بينَه وبين الأول أنَّ الأولَ عَمِلَ فيه المصدرُ قبل أَنْ يُوْصَفَ، وهذا عَمِلَ فيه بعد أَنْ وُصِفَ. على أنَّ ابنَ عطية جَوَّز ذلك هو وغيرُه وكأنهم اتَّسَعوا في الظرف. فهذا وجهٌ رابعٌ. الخامس: أَنْ يتعلَّقَ «في الحياة» بنفس «بينَكم» لأنه بمعنى الفعل، إذ التقديرُ: اجتماعُكم ووَصْلُكم. السادس: أَنْ يكونَ حالاً مِنْ نفسِ «بينَكم». السابع: أن يكونَ «بينَكم» صفةً ل «مودة». و «في الحياة» حالٌ من الضميرِ المستكنِّ فيه. الثامن: أَنْ يتعلَّقَ «في الحياة» ب «اتَّخذتُمْ» على أَنْ تكون «ما» كافةً و «مودة» منصوبةً. قال أبو البقاء: «لئلا يؤدِّي إلى الفصلِ/ بين الموصولِ وما في الصلة بالخبر». اهـ (الدُّرُّ المصُون). (2) كُوثى العِراق وهي سُرَّةُ السَّوادِ التي ولد بها إِبراهيم عليه السلام. (انظر اللسان. 2/ 181).

(28)

أن الأنبياء مِنْ وَلَدِه، وقيل الولد الصالح. * * * ْوقوله تعالى: (وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (28) المعنى أنه لم يَنْزُ ذَكرٌ على ذَكَرٍ قبل قَوْمِ لُوطٍ. * * * وقوله: (أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) اللفظ لفظ استفهام، والمعنى معنى التقرير والتوبيخ. (وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ). جاء في التفسير ويقْطَعونَ سبيلَ الوَلَدِ، وقيل: يعترضون الناسَ. في الطرُقِ لِطلَب الفَاحِشة. (وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ). أي تأتون في مجالسكم المنَكَرَ، قيل إنهم كانوا يَخْذِفونَ الناسَ في مجالِسهِمْ ويسخرون مِنْهم، فأَعلم اللَّه جلَّ وعزَّ. أن هذا من المنكر، وأنه لا ينبغِي أن تتعاشر الناس عليه، ولا يجتمعوا إلا فيما قَرَّب إلى اللَّه وباعَدَ مِنْ سَخَطِهِ، وألَّا يجتمعوا على الهزء والتلَهِّي. وقيل (وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ) أنهُمْ كانوا يَفْسُقَونَْ في مَجَالِسِهِم. * * * وقوله: (وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) المعنى وأهلكنا عاداً وثموداً، لأن قبل هذا قَارُونَ وأصْحَابَهُ، فأخذتهم الرجفة. * * * وقوله: (فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)

(41)

(فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا) وهم قومُ. لوطٍ. (وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ) وهم قوم ثمودَ وَمَدْين. (وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرْضَ) وهم قارون وأَصْحابُه. . (وَمنهم من أغْرَقْنَا) وهم قوم نوح وفرْعَوْنَ. فأَعلم اللَّه أن الذي فُعِلَ بهم عَدْلٌ، وأنه لم يَظْلمْهُمْ، وأنهم ظلموا أَنْفُسَهمْ. لأنه قَدْ بَيَّنَ لَهُمْ، وذلك قوله: (وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ). أتوا ما أَتَوْه وَقَدْ بَيَّن لهم أن عاقبته عَذَابُهُمْ * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) (لَوْ) مُتصِلة بقوله (اتَّخَذُوا) أي لو علموا أن اتخاذهم الأولياء كاتِخَاذِ العنكبوتِ، ليس أنهم لا يَعْلَمُونَ أن بيت العنكبوت ضعيف. وذلك أن بيت العنكبوت لا بَيْتَ أضعفُ منه، فيما يَتَّخِذُه الهَوَام في البيوت، ولا أقل وقايةً منه من حَرٍّ أَو بَرْدٍ. والمعنى أن أولياءَهُمْ لَا يَنْقُصُونَهُمْ، ولا يرزقونهم ولا يدفعون عنهم ضرَراً، كما أن بيت العَنكَبُوتِ غير مُوقٍ للعنكبوت. * * * وقوله تعالى: (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45) قال الحسن وَقَتَادَةُ: من لم تنهه صَلاَتُه عن الفحشاء والمنكر فليست صَلَاتُه بِصَلاة، وهي وَبَال عَلَيه.

(46)

وقوله: (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ). فيها أوجه: فمنها أن أكبر في معنى كبير، وجَاَءَ في التفسير: ولذكر اللَّه إِياكم إذَا ذَكَرْتموهُ أكبر من ذكركم. ووجه آخر معناه (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ) النهى عن الفحشاء والمنكر، أكبر من الانتهاء عن الفحشاء والمنكر، لأن اللَّه قد نهى عنها. * * * وقوله: (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) أي: أهلَ الحربِ، فالمعنى: لا تجادلوا أهل الجزيَةِ إلاَّ بالتي هي أحَسَن، وقاتلوا الذين ظلموا. وقيل إن الآية منسوخة بقوله: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29). فكان الصَّغَارُ خارجاً مِنَ التي هي أَحْسَن، فالأشْبَه أَن تكون مَنْسوخَة. وجائز أن يكون الصغار أخذَ الجزية مِنهم وَإن كرهوا، فالذين تؤْخَذ منهم الجزية بنص الكتاب إليهود والنصَارَى، لأنهم أصحاب التوراة والإنجيل، فأمَّا المجوس فأخذت منهم الجِزْيَةُ لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " سنُّوا بِهِم سئة أهل الكتاب ". واختلف الناسُ فيمن سِوى هؤلاء من الكفار مثل عبدَة الأوثان ومن أشْبَهُهمْ فهم عند مالك بَن أنس يجرون هذَا المجرى. تؤخذ منهم الجزية كانوا عَجَماً أو عَرَباً، وأما أهل العِراقِ فقالوا نَقْبَلُ الجزية من العَجَم غير العَرَبِ إِذا كانوا كفاراً، وإن خرجوا من هذه الأصْنافِ أعني إليهود

(48)

والنصارى والمجوس، نحو الهندِ والترك والديلم، فأمَّا العَرَب عندهم فإذا خرجوا من هذه الثلاثة الأصناف لم تُقْبَلْ منهم جِزْيَة، وكان القتل في أمرهم إن أقاموا على مِلَّةٍ غير اليَهُوديةِ والنصرانية والمجوسيةِ. وبعض الفقهاء لا يرى إلا القَتْلَ في عبدة الأووثان والأصنام ومن أشَبَهَهُمْ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) أي ما كنت قرأت الكتُبَ وَلَا كُنْتَ كاتباً، وكذلك صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - عندهم في التوراة والإنجيل. وقوله: (إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ) قيل إنهم كُفار قرَيْشِ. * * * وقوله: (بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49) قيل فيه ثلاثة أوجُهٍ: منها بل القرآن آيات بينات، ومنها بل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأموره آيات بينات، ومِنْها (بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ) أي بل إنه لا يقرأ ولا يكتب، آيات بَينَات، لأنه إذا لم يكن قرأ كتاباً، ولا هو كاتب ثم أخبر بأقاصيص الأولين والأنبياء فذلك آيات بينَّات في صدور الذين أوتوا العلم. * * * وقوله: (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53) هذه نزلت في قوم جهلة قالوا: (اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ)، فأعلمَ اللَّهُ - عزَّ وجلَّ - أنَّ

(56)

لِعَذَابِهِمْ أَجَلًا فقال: (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46). وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً). مَعناه فُجَاءَةً، و (بَغْتَةً) اسم مَنْصُوبٌ في موضع الحال، ومعناه وَلَيأتينَّهُمْ مفاجأةً). * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ). كان قوم من المسلمين كتبوا شيئاً عن اليهود فأتوا به النبي - صلى الله عليه وسلم -. فقال عليه السلام: كَفَى بها حَماقةَ قَوْم، أو ضَلَالَة قَوْم أَنْ رَغبوا عما أَتَى بِهِ نَبيُّهُمْ إلى ما أتى به غير نبيِّهِمْ إلى غير قومهم. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) تفسيرها: قيل إنهُمْ أُمِرُوا بالهجرة من الموضع الذي لا تمكنهم فيه عبادة اللَّه - عزَّ وجلَّ - وأداء فرائضِه، وأصل هذا فيمن كان يمكنه مِمنْ آمن وكان لا يمكنه إظهار إيمانه، وكذلك يجب على كل من كان في بلد يُعمل فيه بالمَعَاصِي ولا يمكنه بغير ذلك أن يُهَاجِرَ وينتقِلَ إلى حيث يَتَهيُأ له أن يعبُدَ الله حق عِبَادَتِهِ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ). " إِيَّايَ" منصوب بفعل مضمر، الذي ظهر يفسِّرُهُ. المعنى فاعبدوا إياي - فاعبدوني، فاستغنى بأحد الفعلين، أعني الثاني - عن إظهار الأول، فإذا قلت: فإياي فاعبدوا، فإياي منصوب بما بعد الفاء،

(60)

ولا تنصِبْه بِفِعْل مُضْمَرٍ كما أنك إذا قلْتَ: بِزَيْد فَامْرُر، فالباء متعلقة بامْرُرْ، والمعنى: إنَّ أرضي واسِعَة فَاعْبُدونِ، فالفاء إذا قُلْتَ زيداً فاضرب لا يصلح إلا أَنْ تكون جواباً للشرطِ، كان قائلًا قال: أنا لا أَضربُ عَمْراً، ولكني أضرب زيداً، فقُلتَ أنت مُجيباً له: فاضرب زيداً، ثم قلت زيداً فاضرب، فجعلت تقديم الاسم بدلاً من الشرط. كأنك قلت إن كان الأمر على ما تصف فاضرب زيداً، وهذا مذهب جميع النحويين البصريين. * * * وقوله: (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60) كل حيوان على الأرض مما يعقل، وما لا يَعْقِل فهو دابة، وإنما هو من دَبَّتْ علَى الأرض فهي دَابَّة، والمعنى نفسٍ دابَّة. ومعنى (وَكَأَيِّنْ): وكم من دَابَّةٍ. وقوله: (لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا). أي لا تدَّخر رزقها، إنما تصبح فَيَرْزُقُها اللَّه. وعلى هذا أكثر الحيوان والدَّبِيبِ وليس في الحيوان الذي هو دبيب ما يدخِرُ فيما تبيَّن غيرُ النَّمْلِ، فإن ادِّخَارَه بيِّنٌ. * * * وقوله: (وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64) (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ). معناه هي دار الحياة الدائمة. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا). وقرئت (لَنُثَوِيَنَّهُمْ) - بالثاء - يقال ثوى الرجل إذا أقام بالمكان وَأَثْوَيْتُه أنزلته منزلاً يقيم فيه (1). * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66)

_ (1) قال السَّمين: قوله: {والذين آمَنُواْ}: يجوز فيه الوجهان المشهوران: الابتداءُ والاشتغال. والأخَوان قرآ بثاءٍ مثلثةٍ ساكنةٍ بعد النونِ، وياءٍ مفتوحةٍ بعد الواوِ من الثَّواء وهو الإِقامةُ. والباقونَ بباءٍ مُوَحَّدة مفتوحةٍ بعد النونِ وهمزةٍ مفتوحةٍ بعد الواوِ من المَباءة وهي الإِنزالُ. و «غُرفاً» على القراءةِ الأولى: إمَّا مفعولٌ به على تضمين «أَثْوَى» أنزل، فيتعدَّى لاثنين، لأنَّ ثوى قاصرٌ، وأكسبته الهمزةُ التعدِّيَ لواحدٍ، وإمَّا على تشبيهِ الظرف المختصِّ بالمبهمِ كقولِه: {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ} [الأعراف: 16] وإمَّا على إسقاطِ الخافضِ اتِّساعاً أي: في غُرَف. وأمَّا في القراءةِ الثانيةِ فمفعولٌ ثانٍ، لأنَّ «بَوَّأ» يتعدَّى لاثنين، قال تعالى: {تُبَوِّىءُ المؤمنين مَقَاعِدَ} [آل عمران: 121] ويتعدَّى باللامِ قال تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ} [الحج: 26]. وقد قُرِئ «لَنُثَوِّيَنَّهم» بالتشديد مع الثاء المثلثة، عُدِّي بالتضعيف كما عُدِّي بالهمزة. و «تَجْرِي» صفةٌ ل «غُرَفاً». اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(69)

(وَلِيَتَمَتَّعُوا) قرئ بكَسْر اللام وتسكينها، والكسر أَجْوَدُ على معنى لكي يكفروا وكي يتمتعُوا (1). * * * وقوله: (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) أي لم يدعوا أن تُنْجِيَهُمْ أَصنامُهُم وما يعبدونه مع اللَّه. (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ). أي يعبدون مع اللَّه غيره. * * * وقوله: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69) أعلم اللَّه أنه يَزِيدُ المجاهدين هدايةً كما أَنهُ يُضِل الفاسقين. ويَزِيد الكافرين بِكفْرِهِمْ ضَلَالَةً، كذلك يَزِيدُ المُجَاهِدِين هِدايةً - كذا قال عزَّ وجلَّ: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17). فالمعنى أَنهُ آتاهم ثواب تقواهم وَزَادَهم هُدى عَلَى هِدَايتِهِم. وقوله: (وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ). تأويله إن الله نَاصِرُهم، لأن قوله: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا). اللَّه معهم. يدل على نصرهم، والنصرة تكون في عُلُوِّهِمْ على عَدُوِّهِمْ بالْغَلَبَةِ بالحِجةِ والغَلَبة بالقَهْرِ والقدرة.

_ (1) قال السَّمين: قوله: {لِيَكْفُرُواْ}: يجوزُ أَنْ تكونَ لامَ كي، وهو الظاهرُ، وأن تكون لامَ أمرٍ. قوله: «ولِيَتَمَتَّعوا» قرأ أبو عمرو وابن عامر وعاصم وورش بكسرها وهي محتملةٌ للأمرين المتقدمين. والباقون بسكونها. وهي ظاهرةٌ في الأمر. فإنْ كان يُعتقد أن اللامَ الأولى للأمر فقد عطفَ أمراً على مثله، وإن كان يُعتقد أنها للعلةِ، فيكون قد عطف كلاماً على كلام. وقرأ عبد الله {فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعلَمُونَ} وأبو العالية «فيُمَتَّعوا» بالياء مِنْ تحتُ مبنياً للمفعول. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

سورة الروم

سُورَةُ الرُّوم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله عزَّ وجلَّ: (الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) قد شَرَحْنَا ما جاء في (الم)، وقُرِئَتْ غُلِبَتْ بضم الغَيْنِ. وقرأ أبو عَمْرٍو (غَلَبَتْ) - بفتح الغَيْن - والمعنى على غُلِبَتْ. وهي إجماع القراء. وذلك أن فارِسَ كانت قد غَلَبَتِ الروم في ذلك الوَقتِ، والروم مغلوبة. فالقراءة غُلِبَتْ. * * * وقوله: (فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) قيل في أطراف الشام، وتأويله أدنى الأرض مِنْ أَرْض العَرَبِ. وقوله: (وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ). هذه من الآيات التي تدل على أن القرآن من عند اللَّه، لأنه أَنْبَأ بما سيكون، وهذا لا يعلمه إلا اللَّه - عزَّ وجلَّ - وكان المشركون سُرُّوا بأن غَلَبَتْ فَارِس الرُّومَ، وَذَلِكَ لأنَّهم قالوا: إنكُمْ أيها المسلمون تَزْعَمُونَ بأنكُمْ تُنْصَرون بأنكم أهلُ كتاب، فقد غَلَبَتْ فَارِس الرومَ. وفارس ليست أهل كتاب، والروم أهل كتابٍ، فكذلك سنغلبكم نحن. فأَعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أَن الرومَ سَيَغْلِبُونَ في بِضْعِ سِنِين، وسَيُسَرُّ المسلمُونَ بِذَلِكَ فراهَنَ المُسْلِمُونَ المُشْرُكين وبايعوهم على صحة هذا الخبر. والبِضْعُ ما بين الثلاث إلى التِسْع، فلما مضى بعض البضْع

(4)

طالبَ المشركون المُسْلِمِين وقالوا قدْ غَلَبْنَاكُمْ، لأنه قد مَضت بضع سنين ولم تغلب الرومُ فَارِسَ، واحتج عليهم المسلمون بأن البِضْعَ لَمْ يَكْمُل، وزادوهم وأخروهم إلى تمام البِضْعِ، فغلبت الروم فارسَ وقمَرَ المسلمون وذلك قبل أن يُحَرَّمَ القِمَارُ وَفرِحَ المسلمون وخَزِيَ الكافرون. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) القراءة الضم، وعليه أهل العربية، والقراء كُلُّهم مجمعون عليه، فأمَّا النحويون فيجيزون مِنْ قَبْلٍ ومن بَعْدٍ بالتنوين. وبعضهم يجيز من قَبْلِ وَمِن بَعْدِ - بغير تنوين، وهذا خَطَأ لأن قَبْل وبَعْد ههنا أصلهما الخفض ولكن بُنيَتَا علَى الضم لأنهما غايَتَانِ. ومعنى (غاية) أن الكلمة حذفت منها الإضافَةُ، وَجُعِلَت غاية الكلمة ما بقيَ بعد الحَذْفِ. وإنما بُنِيَتَا على الضم لأن إعرابَهُمَا في الإضَافَةِ النصبُ والخَفْضُ. تقول: رأيته قبلَكَ وَمِنْ قَبْلِكَ، ولا يرفعان لأنهما لا يُحدَّث عَنْهُمَا لأنهما اسْتُعْمِلتَا ظرفَيْنِ، فلما عُدِلَا عن بابهما حُركا بغير الحركتين اللتَيْنِ كانتا تَدْخُلَانِ عليهما بحق الإعراب. فأمَّا وجوب ذهاب إعْرَابِهما، وَبِنَاؤُهما فلأنهُما عُرفَا من غير جهة التعريف، لأنه حذف منهما ما أضيفتا إلَيْه. والمعنى للَّهِ الأمر من قبل أَنْ يُغْلَبَ الروم ومن بعد ما غُلِبَتْ، وأَما الخَفْض والتنْوِينُ فعلى من جعلهما نكرتين. المعنى: لِلَّهِ الأمر مِنْ تَقَدُّمٍ وَتَأخُّرٍ. والضمُ أَجْوَدُ، فأما الكسر بلا تنوينٍ فذكر الفرَاء أَنَه تَرْكُهْ عَلَى ما كَانَ يَكُونُ عَلَيْه في الإضافَةِ ولم يُنَوَّن، واحتج بقول الأول:

(6)

بين ذراعَيْ وَجبْهةِ الأَسَدِ وبقَوْلِه: ألا غلَالَةَ أَوْ بَدَاهَةَ قارِح نَهْدِ الجُرَارَة وليس هذا كذلك لأن معنى بين ذراعي وجبهة الأسَدِ. بين ذراعيه وَجَبْهَتِهِ فقد ذكِرَ أَحَدَ المضافَيْن إلَيْهِمَا، وذلك لوكان للَّهِ الأمْرُ من قَبْلِ وَمِنْ بَعْدِ كَذا لجاز وكان المعنَى من قبل كذا ومن بعد كذا. وليس هذا القول - مما يُعرَّج عَلَيْهِ ولا قاله أحد من النحويين المتقدمين (1). * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ). . الغَلَبُ والطلَبُ مَصْدَران، تقول: غَلَبْتُ غَلَباً، وَطَلَبْتُ طَلَباً. ْوزعم بعض النحويين أَنه في الأصل مِنْ بَعْد غَلَبَتِهِم، وذكر أن الإضافة لما وقعت حذفت هاء الغلبةِ، وهذا خطأ. الغلبةُ والغَلَبُ مصدر غَلَبْتُ مثل الجَلَبُ والجَلبةُ. * * * وقوله: (وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) القراءة النصْبُ فيْ وَعْد، ويَجُوز الرفْعُ، ويجوز النصب، ولا أعلم أَحداً قرأ بالرفع. فالنصب على أَنهُ مَصْدَرٌ مؤكِدٌ، لِأن قوله (وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سيغلبون). هو وعدْ من اللَّه للمؤمنين، وقوله (وَعْدَ اللَّه) بمنزلة وعَدَ اللَّهُ

_ (1) قال السَّمين: قوله: {مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ} العامَّةُ على بنائِهما ضمَّاً لقَطْعِهما عن الإِضافة. وأراد بها أي: مِنْ قبل الغَلَبِ ومِنْ بعدِه. أو من قَبْلِ كل أمرٍ ومِنْ بعده. وحكى الفراء كَسْرهما مِنْ غير تنوين. وغَلَّطه النحاسُ، وقال:» إنما يجوز مِنْ قبلٍ ومِنْ بعدٍ/ يعني مكسوراً منوناً «. قلت: وقد قُرِئ بذلك. ووجهُه أنه لم يَنْوِ إضافتَهما فَأَعْرَبهما كقوله: فساغَ لي الشَّرابُ وكنتُ قَبْلاً. . . أَكاد أَغَصُّ بالماءِ القَراحِ [وقوله:] ونحنُ قَتَلْنا الأُسْدَ أُسْدَ خَفِيَّةٍ. . . فما شَرِبُوا بَعْداً على لَذَّةٍ خَمْرا وحُكي» مِنْ قبلٍ «بالتنوينِ والجرِّ،» ومِنْ بعدُ «بالبناءِ على الضم. وقد خَرَّج بعضُهم ما حكاه الفراء على أنه قَدَّر أنَّ المضافَ إليه موجودٌ فتُرِكَ الأولُ بحالِه. وأنشد: . . . . . . . . . . . . . . . . . بين ذراعَيْ وَجبْهةِ الأَسَدِ والفرقُ لائحٌ؛ فإنَّ في اللفظ مِثْلَ المحذوفِ، على خلافٍ في تقديرِ البيت أيضاً. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(7)

وَعْداً ومن قال: وَعْدُ الله كان على معنى ذلك وَعْدُ اللَّه كما قال: (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ). وقوله عز وجل: (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7) هذا في مشركي أهل مكة المعنى يعلمون من معايش الحياة الدنيا، لأنهم كانوا يعالجون التجارات، فأَعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - لما نفى أنهم لا يعلمون مَا الَّذِي يَجْهَلُونَ، ومقدار ما يَعْلَمُونَ فقال: (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ). " هم " الأولى مرفوعة بالابتداء، و " هم " الثانية ابتداء ثانٍ. و (غافلون) خبر " هم " الثانية، والجملة الثانية خبر " هم " الأولى. والفائدة في الكلام أو ذكر " هم " ثانية، وإن كانت ابتداء تَجْري مجرى التوكيد كما تقول زيد هو عَالِم، فهو أوكد من قولك زيد عالم. ويصلح أن تكون " هم " بدلاً من " هم " الأولى مُؤكدَةً أَيْضاً، كما تقول: رأيته إيَّاهُ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8) معناه: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فيعلموا، لأن في الكلام دليلاً عَلَيْه، وَمَعنى بالحق ههنا " إلا للحَق " أي لإقامة الحق. ) وَأَجَلٍ مُسَمًّى). أي لِإقامة الحق وَأَجَلٍ مُسَمًّى؛ وهو الوقت الذي توَفَّى فيه كل نَفْس ما كَسَبَتْ. وقوله: (وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ).

(9)

أي لكافرون بلقاءِ رَبَهم، تَقَدَّمت الباءَ لأنها متَصِلةٌ بكافِرُونَ، وما اتَصَلَ بخبرِ إنَّ جازَ أن يُقَدَّم قبْلَ اللام، ولا يجوز أن تَدْخلَ اللامُ بَعْدَ مضيِّ الخَبَرِ. لا يجوز أن تقول إن زيداً كافر لباللَّّه. لأن َ اللام حَقُهَا أن تدخل عَلى الابتداء والخبر. أو بين الابتداء والخَبر، لأنها تؤكد الجملة، فلا تأتي تَوْكيداً وقد مضَت الجملة. ولا اختلاف بين النحويين في أن اللام لا تدخل بغير الخبر. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) يعني أن الذين أهلكوا من الأمم الخالِيةِ، كانُوا أكثر حَرْثاً وعِمارَةً من أهل مكة، لأن أهل مكة لم يكونوا أصحاب حرث. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِءُونَ (10) القراءة بنصب (عَاقِبَةَ) ورفعها، فمن نصب جعل السوءى اسم كان ومن رفع " عَاقِبَةُ " جعل (السُّوأَى) خبراً لِكان، والتفسير، في قوله (أَسَاءُوا) ههنا أنهم أشركوا، و (السُّوأَى) النَّارُ، وإنما كان (أَسَاءُوا) ههنا يَدُل على الشرك لقوله: (وإِنَ كَثيراً مِنَ النَّاسِ بِلقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ). فإساءتُهم ههنا كفرهم، وجزاء الكُفْرِ النَّارُ. وَدَل أيضاً على أن (أَسَاءُوا) ههنا الكُفْر (أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِءُونَ). فالمعنى: ثم كانَ عَاقِبةُ الكافِرين النَّارَ لتكذِيبِهمْ بآيات اللَّه واستهزائهم. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) أعلم الله عزَّ وجلَّ أنهم في القيامة ينقطعون فِي الحجة انقطاع يئسين منْ رَحْمةِ اللَّه، والمبلس الساكت المنقطع في حجته، اليائس من أن يَهتدِي إليها، تقول: ناظرت فلاناً فأبلس أي انقطع وأمسك ويئس من أن يحتج.

(14)

وقوله: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) جاء في التفسير أنه افتراق لا اجتماعَ بعده، وفيما بعده دليل على أن التفرق هو للمسلمين والكافرين، فقال: (يومئِذ يتفرقون)، ثم بين على أي حال يتفرقون فقال: (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وجاء في التفسير أنْ " يُحْبَرُونَ " سماع الغناء في الجنة، والحبرة في اللغة كل نعمة حسنة، فهي حَبْرة، والتحبير التحسين والحَبْرُ العِالم أيضاً هو من هذا، المعنى أنه متخلق بأحسن أخلاق المؤمنين، والحِبْرُ المِدِادِ إنما سُمِّيَ لأنَّه يُحَسِّنُ به. * * * وقوله: (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16) أي حال المؤمنين السماع في الجنة، والشغل بغاية النعمة. وحال الكافرين العذاب الأليم هم حاضروه أبداً غير مُخَففٍ عنهم، ثم أعلم عزَّ وجلَّ بعد هذا ما تُدْرَكُ به الجَنَّةُ، ويتباعد به عَن النارِ بقوله: (فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) " جاء في التفسير عن ابن عباس أن الدليل على أن الصلوات خمس هذه الآية (فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ) فحين تمسون صلاة المغرب وَعِشَاءُ الآخرة وحين تصبحون صلاة الغداة. وعشياً صلاة العصر، وحين تظهرون صلاة الظهر. وقد قيل إن قوله:

(19)

(وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ) إنها الصلاة الخامسة، فيكون على هذا التفسير قوله: (حين تمسون) لصلاة واحدة. ومعنى سبحان اللَّه تنزيه اللَّه من السوء. هذا لا اختلاف فيه. * * * وقوله - عزَّ وجلَّ - (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19) جاء في التفسير أنه يخرج النطفَة - وهي الميت - من الحيِّ مِنَ الإنسان، ويُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ، يخرج الإنسان من النطفة. (وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا). أي يجعلها تنبت، وإحياء الأرض إخراج النَّبات منها. وقوله: (وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ). أيْ وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ مِنْ قُبُورِكُمْ مَبْعُوثِينَ. وموضِعُ الكاف نَصْبٌ بِـ (تُخْرَجُونَ) والمعنى أن بعثكم عليه كخلقكم، أي هما في قُدْرَتِهِ مُتَسَاويانِ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) أَيْ من العَلَامَاتِ التي تدل على أن اللَّهَ وَاحِد لا مثيل له ظهورُ القُدرة التي يعجز عنها المخلوقون، ومعنى خلقكم مِنْ تُرَابٍ، أي خلق آدَمَ مِنْ تُرَابٍ. (ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ). أي: آدَمُ وَذرِيتُهُ.

(21)

(وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) خلق حَواءَ مِنْ ضلع من أضلاع آدم، وجعل بين المرأة والزوج المودة والرحمة مِنْ قِبَلِ اللَّهِ، وأن الفرْك وهو البُغْضُ مِنْ قِبَلِ الشيطانِ، يقَال فَرِكَت المرأة زوجها تَفْرِكَه فِرْكاً، إذا أبغضته. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) (خَوْفًا وَطَمَعًا) منصوبان على المفعول له، المعنى يريكم البرق للخوف والطمع، وهو خَوْفٌ لِلمُسَافِر، وطمع للحَاضِرِ. المعنى ومن آياتهِ آيَة يريكم بها البرق خَوْفًا وَطَمَعًا. هذا أَجوَدُ في العطْفِ. لأنه قال: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ) فنسق باسم على اسم، ومثله من الشعر. وما الدَّهرُ إِلا تارَتانِ فمنهما. . . أَموتُ وأُخْرى أَبْتَغي العَيْشَ أَكْدَحُ المعنى فمنهما تارة أموتها أي أموت فيها، ويجوز أن يكون المعنى ويريكم البرق خَوْفًا وَطَمَعًا من آياته، فيكون عطفاً بِجُمْلَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25) أي تقوم السماء بِغَيْرِ عَمَدٍ، وكذلك الأرض قائمة بأمْرِه. والسماء محيطة بها. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (ثُمَّ إذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأرْضِ). أي للبعث بعد الموت. * * * وقوله: (وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26)

(27)

معناه مطيعونَ، والمعنى: وهذا من آياته، ولم يذكر " ومن آياته " لأنه قد تقدم ذكر ذَلِكَ مَراتٍ. ومعنى " قانتون " مطيعون طاعة لا يجوز أن تقع معها معصية، لأن القنوت القيام بالطاعة. ومعنى الطاعة ههنا، أنَ من في السَّمَاوَات الأرض في خلقهم دليل على أنهم مخلوقون بإرادة الله - عزَّ وجلَّ - لا يقدر أحَد على تغيير الخلقة، ولا يقدر عليه فلك مُقربٌ، فآثار الصنعة والخلقة تدل على الطاعة، ليس يعني طاعة العباد، إنما هِيَ طاعَةُ الإرادة والمشيئة. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) فيه غير قول، فمنها أن الهاء تعود على الخلق، فالمعنى الإعادة والبعث أهون على الإنسان من إنشائه، لأنه يُقَاسِي في النشء ما لا يقاسيه في الإعادة والبعث. وقال أبو عبيدة وكثيرُ من أهل اللغة: إن مَعْنَاهُ: وَهُوَ هيِّنٌ عليه. وإن " أهْون " ههنا ليس معناه أن الإعادة أهون عليه من الابتداء، لأن الإعادة والابتداء كلٌ سَهْلٌ عَلَيْه ومن ذلك من الشعر: لعَمْرُكَ ما أَدرِي وإِنِّي لأَوْجَلُ. . . على أَيِّنا تَغْدُو المَنِيَّةُ أَوَّلُ فمعنى لأوجل لَوجِلٌ، وقالوا الله أكبر أي اللَّه كبيرٌ، وهو غير منكر، وَأَحْسَنُ مِنْ هذين الوجهين أنه خاطب العباد بما يعقلون فأعلمهم أنه يجب عندهم أن يكونَ البعث أسْهَلُ وأهون من الابتداء

(28)

والإنشاء، وجعله مثلاً لهم فقال: (وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ). أي قوله: (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) قد ضربَهُ لكم مَثَلًا فبما يصعب ويسهل. * * * وقوله تعالى: (ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) هذا مثل ضربهُ اللَّه - عزَّ وجلَّ - لمن جَعَلَ له شَريكاً مِنْ خلقه. فأعلم - عزَّ وجلَّ - أَنَّ مَمْلُوك الإنسان ليس بشريكهه في ماله وزوجته، وأنه لا يخافُ من مملوكه أن يَرِثَه فقال: ضرب لكم مثلا من أنفسكم أن جعلتم ما هو مِلْكٌ للًه من خلقه مثلَ اللَّه، وأنتم كلكم بَشَر، ليس مماليككم بمنزلتكم في أموالكم، فاللَّه - عزَّ وجلَّ - أجْدَرُ ألَّا يَكونَ يُعْدَلُ به خلقه. (كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ). موضع الكاف نَصَب. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) الحنيف الذي يميل إلى الشيء فلا يرجع عنه كالحَنَفَ في الرجلِ وهو مَيْلها إلى خارجها خلْقَةً. لا يَملكُ الأحنَفُ إنْ يَرُدَّ حَنَفَهُ. وقوله - عزَّ وجلَّ -: (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا). (فِطْرَتَ اللَّهِ) منصوب بمعنى اتَبِعْ فطرة اللَّهِ، لأن معنى (فَأَقِمْ وَجْهَكَ) اتبع الدينَ القَيِّمَ. اتبع فِطرةَ اللَّه، ومعنى فطرة الله خِلْقَةَ اللَّه التي خلق عليها البشرَ، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " كل مَوْلُودٍ يُولَدُ على الفِطرة

(31)

حتى يكون أبواه يُهوِّدَانِه وَيُنَصِّرَانه ويُمَجِّسَانه ". مَعْنَاهُ أن اللَّه - عزَّ وجلَّ - فطر الخلق على الإيمان على ما جاء في الحديث، أن اللَّه - جل ثناؤه - أخرج مِنْ صُلب آدم ذُريتَهُ كالذَّرِّ، وَأَشْهَدَهُمْ على أَنْفُسِهِمْ بأنه خَالِقُهُمْ، قال اللَّه عزَّ وجلَّ: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى). فكل مولود فهو من تلك الذرية التي شَهِدَتْ بِأنَّ اللَّهَ خَالِقُهَا. فمعنى (فِطْرَتَ اللَّهِ) دين الله الذي فَطَرَ الناس عليه. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ). أكثر ما جاء في التفْسِير أن معناه لا تبديل لِدين اللَّهِ، وما بعده يدل عليه، وهو قوله: (ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) أي لا يعلمون بحقيقة ذلك. * * * وقوله: (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) (مُنِيبِينَ) مَنْصُوبُ عَلَى الحال بقوله: (فَأقِمْ وَجْهَكَ) زعم جميع النحويين أن معنى هذا فأقيموا وُجُوهَكم منيبين إليه، لأن مخاطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - يدخُلُ معه فيها الأمةُ، والدليل على ذلك قوله: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ). وقوله (مُنِيبِينَ) معناه راجعين إليه إلى كلِ ما أَمَر به ولا يخرجون عن شيء مِنْ أَمْرِه، فأعلمهم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أن الطريقة المستقيمة في دين الإسلام هو اتباع الفطرةِ والتقْوَى مع الإسلام وأداء الفرائض. وأَنه لا ينفع ذلك إلا بالإخْلَاصِ في التوحيد فقال: (وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)

(33)

وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32) (فَارقُوا دِينَهُمْ) وقرئت (فَرَّقُوا دِينَهُمْ). (وَكَانُوا شِيَعًا). فِرَقاً، فأمرهم اللَّه - عزَّ وجلَّ - بالاجتماع والألْفَةِ ولُزوم الجماعة، والسنَةُ في الهدايةُ، والضَلَالة هي الفُرْقَةُ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (كُل حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ). أي كل حزب من هذه الجماعة الذين فارقوا دينهم فَرِحٌ يَظُنُ أَنهُ هو المُهْتَدِي. ثم أعلم اللَّه عزَّ وجلَّ أنهم إذا مَسهُم ضُر دَعَوْا ربهم منيبين إليه، أي لا يلجأون في شدائدَهم إلى مَنْ عَبَدوه مع اللَّه - عز وجل - إنما يَرجِعُون في دُعائِهِمْ إلَيْه وَحْدَه. (ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) أي إذا أذاقهم رحمةً بأن يخلصهم من تلك الشدة التي دعَوْا فيها الله وحده مَروا بعد ذلك على شركِهِم. وقولهم عزَّ وجلَّ: (لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) معنى " فَتَمَتَعُوا " خطاب بعد الإخبار لأنه لَمَّا قال: " لِيَكْفُرُوا " كان خبراً عَنْ غائب. فكان المعنى فتمتعوا أيها الفَاعلون لِهَذَا فسوف تعلمون. وليس هذا بأمرٍ لازم. أَمرَهُمْ اللَّه بِهِ. وهو أَمر عَلَى جهة الوَعِيدِ والتَهدُّد، وذلك مستعمل في كلام الناس تقول: إن أسمعتني مَكْروهاً فَعَلْتُ بك وَصَنَعْتُ ثم تقول: افعَلْ بي كذا وكذا فإنك سترى ما ينزل بك، فليس إذا لم يُسْمِعْكَ كان عاصياً لك. فهذا دليل أنه ليس بأمرٍ لازم، وكذلك (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ)

(38)

وكذلك: (اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ). لم دخَيَّروا بين الإيمان والكفر ولكنه جرى على خطاب العِبَاد وحِوَارِ العربِ الذي تستعمله في المبالغة في الوعيد، ألا ترى أن قوله بعد (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا) فهذا مما يؤكد أمر الوَعِيدِ. * * * وقوله: (فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) جعل اللَّه عزَّ وجلَّ لذي القُرْبَى حَقًّا وكذلك للمساكين وابنُ السّبيل الضَّيفُ فجعل الضيافة لازمةً. فأمَّا القَراباتُ فالمواريث قدْ بَيَّنَتْ مَا يَجِبُ لكل صنف منهم، وفرائض المواريث كأنها قَدْ نسختْ هذا أعني أمر حق القرابة، وجائز أن يكون للقرابة حق لازم في البر. * * * وقوله: (وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) يعني به دفع الإنسان الشيء ليعوض ما هو أكثر منه، فذلك في أكثر التفسير لَيْسَ بحرام، ولكنه لَا ثَوابَ لمن زادَ عَلَى ما أَخَذَ. والرِّبَا ربوان، والحرام كل قرض يؤخذ به أكثر منه أو يجرُّ مَنفعة، فهذا حرام، والذي ليس بحرام هو الذي يَهَبُه الإنسان يستدعي به ما هو أكثر مِنْهُ، أو يهدي الهدِيَّة يستدعي بها ما هو أكثر منها. وقوله: (وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ).

(41)

أي وما أَعْطَيتُمْ من صَدَقَةٍ لا تطلبون بها المكافأة وإنما يقصدون بها ما عند اللَّه. (فَأُولَئِكَ هُم [المُضْعَفُونَ]). أي فأهلها هم المضعَفُونَ، أَيْ هم الذي يضاعف لهم الثواب. يعطون بالحسنة عشْرةَ أمثالها ويضاعف الله لمن يشاء، وقيل (المُضْعِفُونَ) كما يقال رجل مَقْوٍ، أي صاحب قوةٍ، وموسِر أي صاحب يَسَارٍ، وكذلك مُضْعِفٌ، أي ذو أضعاف من الحسنات (1). * * * وقوله تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) ويقرأ بالياء أيضاً (لِيُذيقَهُمْ) أي ليذيقهم ثواب بَعْضِ أَعْمَالِهم. ومعناه ظهر الجَدْبُ في البَر والقَحْطُ في البَحْرِ، أي في مُدُنِ البحر. أي فى المدُن التي عَلَى الأنْهَارِ، وكل ذي ماء فهو بَحْر. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) معنى (فَأَقِمْ وَجْهَكَ) أَقم قصدك واجْعَلْ جِهَتَك اتباع الدين القيِّم من قبل أن تأتِيَ الساعَةِ وتقوم القيامَةُ فلا ينفع نفساً إيمَانُهَا لم تكن آمَنت من قبل أَوْ كَسَبَتْ فِي إيمَانِها خَيْراً. وَمَعْنَى: (يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ). يتفرقون فيصيرون فَرِيقاً في الجنةِ وَفَرِيقاً في السَّعيرِ. * * * وقوله: (مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) (فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ). أي لأنفسهم يوطئونَ.

_ (1) قال السَّمين: قوله: «المُضْعِفُون» أي: أصحابُ الأضعاف. قال الفراء: «نحو مُسْمِن، ومُعْطِش أي: ذي إبِل سمانٍ وإبل عِطاش». وقرأ أُبَيُّ بفتح العين، جعله اسمَ مفعولٍ. وقوله: «فأولئك هم» قال الزمخشري: «التفاتٌ حسن، كأنه [قال] لملائكتِه: فأولئك الذين يريدون وجهَ اللَّهِ بصدقاتِهم هم المُضْعِفون. والمعنى: هم المُضْعِفُون به؛ لأنه لا بُدَّ مِنْ ضميرٍ يَرْجِعُ إلى ما» انتهى. يعني أنَّ اسم الشرط متى كان غيرَ ظرفٍ وَجَبَ عَوْدُ ضميرٍ من الجواب عليه. وتقدَّم ذلك في البقرة عند قوله: {قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ} [البقرة: 97] الآية. ثم قال: ووجهٌ آخرُ: وهو أَنْ يكونَ تقديرُه: فَمُؤْتُوْه فأولئك هم المُضْعَفُون. والحَذْفُ لِما في الكلامِ مِن الدليلِ عليه. وهذا أسهلُ مَأْخَذاً، والأولُ أمْلأُ بالفائدة «. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(48)

وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا). أي فَرَأَوُا النبْتَ قد اصْفَر وَجَفَّ. (لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ). ومعناه ليظلُّنَّ، لأن معنى الكلام الشرط والجزاء. فهم يستبشرون بالغيث ويكْفِرُون إذا انقطع عنهم الغَيْثُ وجفَّ النباتُ. * * * وقوله: (اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) (وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا) أَي قطعاً من السحاب. وقوله: (فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ). أي فترى المطر يخرج من خلل السحاب، فاعلم عزَّ وجلَّ أَئه يُنْشِئ السحابَ ويحي الأرض ويرسل الريَاحَ، وذلك كله دليل على القدرة التي يعجز عنها المخلوقون، وأنه قادر على إحياء الموتى. * * * وقوله تعالى: (وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) المعنى أن ينْزِلَ عليهم المطر، ويقرأ (أَنْ يُنْزَلَ) وَمَعْنَى مُبْلِسينَ مُنْقَطِعين انقطاع آيسين. فأمَّا تَكْرِيرُ قوله (من قبل) ففيه وَجْهَانِ (1): قال قطرب إن قَبْلَ الأولى للتنزيل، وقَبْل الثانية لِلْمَطَرِ. وقال الأخفش وَغيرُه من البَصْرِيين: تكرير قبل على جهة التوكيد. والمعنى وإن كانوا من قبل تنزيل المطر لَمُبْلِسينَ. والقول كما قالوا لأن تنزيل المطر بمعنى المطر، لأن المطر لا يكون إلا بِتَنْزِيل كما أن الرياحَ لا تُعْرَفُ إلا بِمُرورِهَا قال الشاعر:

_ (1) قال السَّمين: قوله: {مِّن قَبْلِهِ}: فيه وجهان، أحدهما: أنه تكريرٌ ل «مِنْ قَبلِ» الأولى على سبيلِ التوكيد. والثاني: أَنْ يكونَ غيرَ مكررٍ. وذلك أن يُجعلَ الضميرُ في «قَبْله» للسحاب. وجاز ذلك لأنه اسمُ جنسٍ يجوز تذكيرُه وتأنيثُه، أو للريح، فتتعلَّقُ «مِنْ» الثانيةُ ب «يُنَزَّل». وقيل: يجوزُ عَوْدُ الضمير على «كِسَفا» كذا أطلق أبو البقاء. والشيخ قَيَّده بقراءةِ مَنْ سَكَّن السين. وقد تقدَّمَتْ قراءاتُ «كِسَفاً» في «سبحان». وللناس في هذا الموضعِ كلامٌ كثيرٌ رأيتُ ذِكْرَه لتوضيحِ معناه. وقد أبْدى كلٌّ من الشيخَيْن: الزمخشريِّ وابنِ عطية فائدةَ التأكيدِ المذكور. فقال ابن عطية: «أفادَ الإِعلامَ بسرعةِ تَقَلُّب قلوبِ البشر من الإِبلاسِ إلى الاستبشار؛ وذلك أن قولَه {مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ} يحتملُ الفُسْحَةَ في الزمانِ، أي: من قبلِ أَنْ يُنَزِّل بكثيرٍ كالأيَّامِ ونحوِه فجاء» مِنْ قبله «، بمعنى أنَّ ذلك متصلٌ بالمطر فهو تأكيدٌ مفيدٌ». وقال الزمخشري: «ومعنى التوكيد فيه الدلالةُ على أن عَهْدَهم بالمطرِ قد بَعُدَ فاسْتحكم يَأْسُهم وتمادَى إبْلاسُهم، فكان استبشارُهم على قَدْرِ اغتمامهم بذلك». وهو كلامٌ حسنٌ. إلاَّ أنَّ الشيخَ لم يَرْتَضِه منهما فقال: «ما ذكراه من فائدةِ التأكيدِ غيرُ ظاهرٍ، وإنما هو لمجرَّدِ التوكيد ويُفيد رَفْعَ المجازِ فقط». انتهى. ولا أدري عدمُ الظهورِ لماذا؟ وقال قطرب: «وإن كانوا مِنْ قبلِ التنزيل مِنْ قبل المطَر. وقيل: التقديرُ مِنْ قبلِ إنزالِ المطرِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَزْرعوا. ودَلَّ المطرُ على الزرع؛ لأنه يَخْرج بسببِ المطر. ودلَّ على ذلك قولُه» فَرَأَوْه مُصْفَرَّاً «يعني الزرعَ؛ قال الشيخ:» وهذا لا يَسْتقيم؛ لأنَّ {مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ} متعلِّقٌ ب «مُبْلِسِيْن» ولا يمكن مِنْ قَبْل الزَّرْع أَنْ يتعلَّقَ بمُبْلِسين؛ لأنَّ حرفَيْ جرّ لا يتعلَّقان بعاملٍ واحدٍ إلاَّ بوساطةِ حرفِ العطف أو البدلِ، وليس هنا عطفٌ والبدلُ لا يَجوز؛ إذ إنزالُ الغيثِ ليس هو الزرعَ ولا الزرعُ بعضَه. وقد يُتَخَيَّلُ فيه بدلُ الاشتمالِ بتكلُّفٍ: إمَّا لاشتمالِ الإِنزالِ على الزَّرْع، بمعنى: أنَّ الزرعَ يكون ناشِئاً عن الإِنزال، فكأن الإِنزالَ مُشْتملٌ عليه. وهذا على مذهبِ مَنْ يقول: الأولُ مشتملٌ على الثاني «. وقال المبردُ:» الثاني السحابُ؛ لأنهم لَمَّا رَأَوْا السحابَ كانوا راجين المطرَ «انتهى. يريد مِنْ قبل رؤيةِ السحاب. ويحتاج أيضاً إلى حَرْفِ عطفٍ ليصِحَّ تعلُّقُ الحرفين ب» مُبْلِسين «. وقال الرمَّاني:» من قبلِ الإِرسال «. والكرماني:» من قَبْلِ الاستبشارِ؛ لأنه قَرَنه بالإِبلاس، ولأنه مَنَّ عليهم بالاستبشار «. ويحتاج قولُهما إلى حرفِ العطفِ لِما تقدَّم، وادِّعاءُ حرفِ العطفِ ليس بالسهلِ؛ فإنَّ فيه خلافاً: بعضُهم يَقيسُه، وبعضُهم لا يقيسه. هذا كلُّهُ في المفردات. أمَّا إذا كان في الجمل فلا خلافَ في اقتياسِه. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(50)

مَشَيْنَ كما اهتزَّتِ رماحٌ. . . تسفَّهَتْ أَعَالِيَها مَرُّ الرِّياحِ النَّواسِم فمعنى مَر الرياح كقولك تَسَفهتْ أعاليها مر الرياح النواسم. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50) (أَثَرِ رَحْمَتِ اللَّهِ) ويقرأ (آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ)، يعني آثار المطر الذي هو رحمة من اللَّه (كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا)، وإحْيَاؤها أن جَعَلها تُنْبِتُ فكذلك إحياءُ الموتى، فقال: (إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى). ذلك إشارة إلى اللَّه عزَّ وجلَّ. وقوله: (فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) هذا مثل ضربه الله للكفار كما قال: (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ)، فجعلهم في تركهم العَمَل بما يسمعون وَوَعْيِ ما يُبْصِرُونَ بمنزلة الموتَى، لأن ما بيَّنَ من قدرَتِه وصنعته التي لا يقدر على مثلها المخلوقون دليل على وحدانيته. * * * (وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53) وقوله: (إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا). أي ما يَسْمَعُ إلا من يؤمن بآياتنا، وجَعَلَ الإسماع ههنا إسماعاً إذاِ قُبِلَ وعُمِلَ بما سُمِعَ، وإذا لم يُقْبَل بمنزلة ما لم يُسْمع ولم يبصر. وقوله: (وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ).

(54)

القراءة بالجر في " العُمْيِ " والنصْب جائز، بهَادٍ العُمْيَ عن ضلالَتِهِمْ. فالقراءة بالجر، فأمَّا النصْبُ فإنْ كانت فيها رِوَاية، وإلا فَلَيْسَت القراءة بها - جائزة، لأن كل ما يُقْرأُ به ولم يتقدم فيه رِوَاية لِقراء الأمصار المتقدِّمِينَ فالقراءة به بِدْعَة وإن جاز في العربية، والعمل في القراءة كلها على اتباع السُّنَّةِ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54) تأويله أنه خلقكم من النطَفِ في حالِ ضَعْفٍ ثم قَوَّاكُمْ في حال الشبيبة ثم جَعَل بَعْدَ الشَبِيبةِ ضعفاً وَشَيْبةً. وروي في الحديث أن ابن عمر قال: قرأت على النبي - صلى الله عليه وسلم -: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ). قال فأقرأني من ضعْفٍ، وقرأ عطية علي ابن عمر من ضَعْفٍ فأقرأه من ضُعْفٍ، وقال له: قرأتها على النبي - صلى الله عليه وسلم - من ضَعْفٍ فاقرأني من ضُعْفٍ. فالذي روى عطية عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (مِنْ ضُعْفٍ)، بالضَّم، وقد قِرِئَتْ بفتح الضادِ، والاختيارُ الضم، للرواية. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55) يعني يوم القيامَةِ، والسَّاعَةُ في القُرآنِ على معنى الساعة التي تقوم فيها القيامة فلذلك ترك ذِكْرَ أَنْ يُعَرِّف أَي سَاعَةٍ هي. (يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ) يَحْلِفُ المجرمون. (مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ). أي ما لبثوا في قُبُورهم إلا ساعةً واحدة. (كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ).

(56)

أي مثل هذا الكَذِب كذبهُم لأنهم أقسموا على غَيْر تحقيق. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56) أي في علم اللَّهِ المُثْبَتِ في اللوْحِ المَحْفُوظِ. * * * وقوله: (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60) أي إن ما وَعَدَك اللَّه من النصْرِ عَلَى عَدُوك حقٌّ، وإظهار دين الإسلام حقٌّ. (وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ). أي لا يستفزنَّكَ عن دِينَكِ الذين لا يوقنون، أي هم ضُلَّالٌ شَاكُّونَ.

سورة لقمان

سُورَة لقْمَان (مَكِّيَّة) ما خَلَا ثلاث آيات منها مَدَنِية، قوله: (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ) إلى تمام الثلاث آيات. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الم (1) قال ابن عباس معنى (الم) أنا الله أعلم، وقد فسرنا في سورة البقرة جميعَ ما قيل في (الم) وما أشبهها. * * * وقوله: (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) معناه هذه الآيات، تلك الآيات التي وعِدْتُمْ بها في التَوْرَاةِ ويجوز أن يكون بمعنى هذه آيات الكتاب، وقد تقدم تفسير مثلِ هذا من سورة البقرة أيضاً. * * * وقوله: (هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) القراءة بالنصب على الحال، المعنى تلك آيات الكتاب في حال الهداية والرحمة.

(6)

وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6) (لِيَضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) ويقرأ: (لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ). فأكثر ما جاء في التفسير أن (لَهوَ الحديث) ههنا الغِنَاءُ لأنه يُلْهِي عَنْ ذكر اللَّه، وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه حرم بيع المغنية. وقد قيل في تفسير هذه الآية إن لهو الحديث ههنا الشركُ. فمن قرأ (ليُضِل) - بضم الياء - فمعناه ليضل غيرَهُ، فإذا أضل غيرَهُ فقد ضَل هُوَ أيضاً. ومن قرأ (لِيَضِل) فمعناه ليصير أمرُه إلى الضلَالِ، فكَاَنه وَإنْ لم يَكُنْ يُقَدَّرُ أَنه يَضِل فسيصير أمره إلى أنْ يَضِل. وقوله: (وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا). أي يَتخِذَ آياتِ اللَّه هُزُوًا، وقد جرى ذكر الآيات في قوله: (تلك آيات الكتاب الحكيم). وقد جاء في التفسير أيضاً أن قوله: (وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا) يَتخِذَ سَبيلَ اللَّه هُزَوًا. * * * وقوله: (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) وصف اللَّه عزَّ وجلَّ خَلْقَه الذي يَعْجِزُ المَخْلُوقُونَ عن أن يأتوا بمثله، أَوْ يَقْدِرُوا على نَوْع منه ثَم قال: (هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ). وقوله: (بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا)، قيل في التفسير إنها بِعَمَدٍ لَا تَرَوْنَهَا. أي لا ترون تلك العَمَدِ، وقيل خلقها بغير عَمَدٍ وكذلك ترونها.

(12)

والمعنى في التفسير يؤول إلى شيء وَاحِد، ويكون تأويل (بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا) الذي فُسِّرَ بعَمدٍ لا ترونها. يكون معنى العمد قدرته عزَّ وجل التي يمسك بها السماوات والأرض. (وَألْقَى في الأرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ). (رَوَاسيَ) جِبالٌ ثَوابِتٌ، كما قال - عزَّ وجلَّ: (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7). فمعنى (أنْ تَمِيدَ بِكُمْ) كَراهةَ أنْ تَمِيدَ بِكُمْ. ومعنى " تميد " تتحرك حركة شَدِيدَةً. * * * وقوله: (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) معناه لأن تشكر للَّهِ، ويجوز أن تكون " أَنْ " مُفَسَّرة، فيكون المعنى أي اشْكُرْ لِلَّهِ تبارك وتعالى: وتأويل " أن اشكر للَّهِ " قُلنَا له: اشكر للَّهِ على ما آتاك. وقد اختلف في التفسير في لقمانَ فقيل: كان نبيًّا، وقيل: كان حكيماً، وقيل كان رَجُلاً صَالِحاً، وقيل: كان حبشياً غليظ المَشَافِرِ مُشَقَّقَ الرجْلَيْنِ ولكن اللَّهَ آتاهُ الحكمةَ، فلسنا نشك أنه كانَ حكيماً لقول الله عزَّ وجلَّ: (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الحِكْمَةَ). وقيل كان نَجَّاراً وقيل كان خياطاً، وقيل كان رَاعِياً. وَرُويَ في التفسير أن إنساناً وقف عليه وهو في مجلسه فَقَالَ لَهُ: ألَسْتَ الَّذِي كُنْتَ تَرْعَى مَعي في موضع كذا وكذا؟ قال: بلى، قال فما بلغ بكَ ما أَرَى؟ فقال: صِدْقُ الحَدِيثِ والصَّمْتُ عَمَّا لا يعنيني. وقوله: (وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)

(14)

موضع " إذْ " نَصْبٌ بقوله: (ولقد آتينا لقمان الحكمة) أي ولقد آتينا لقمان الحكمة إذ قال، لأن هذه المْوْعِظَةَ حكمة. وقوله: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ). يعني أنَّ اللَّهَ هُوَ المحيي المميتُ الرازِق المُنْعِمُ وحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فإذا أَشْرَكَ به أَحَدٌ غيره فذلك أعظَمُ الظلم؛ لأنه جَعَل النِعْمَةَ لِغَير رَبِّهَا. وَأَصْلُ الظلْمِ في اللغة وضع الشيء في غير مَوْضِعِه. وقد بيَّنَّا ذَلِكَ فِيمَا سَلَفَ من الكِتَابِ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) جاء في التفسير (وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ) ضَعْفاً على ضَعْفٍ، أي لَزِمَهَا لحملها إياه أن ضَعُفَتْ مَرةً بَعْدَ مَرة. وموضع " أَنْ " نَصْبٌ بـ (وَصَّيْنَا). المعنى وصَينا الإنسان أن اشُكَره لي ولوالديك، أيْ وَصَّيْنَاه بشكرنا وَبِشُكْرِ والديه. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15) يُرْوَى أَن سَعْدَ بنَ أَبِي وَقاص ذكر أن هذه الآية نَزَلَتْ بسببه. وذلك أنه كان أسْلَمَ فحَلَفَتْ أُمُّه أَلأ تاكُلَ طعاماً، ولا تشرب شراباً حتى يَرْتَدَّ إلَى الكُفْرِ، فمكثت ثلاثاً لا تطْعَمُ ولا تَشْرَبُ حتى شَجَرُوا فاها - أي فتحوه - بعِودٍ. حتى أكلت وشربت، وُيرْوى أنه قال: لو كانت لها سَبْعُونَ نَفْساً فخرجت لما ارتْددْت عَنِ الإسلام. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً).

(16)

يقال: صَاحَبْته مُصَاحَباً وَمُصاحَبَةً. ومعنى المعروف ما يستحسن من الأفعال. (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ). أي اتِبعْ سَبِيل مَنْ رَجَع إِلَيَّ. * * * وقوله: (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) (إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ) وتقرأ (مِثْقَالُ حَبَّةٍ). الآية إلى قوله (لطيف خبير) أي لطيف في استخراجها خبير بمكانها. ويقال في صخرة، أي في الصخرة التي تحت الأرض. ويروى أن ابن لقمان سأل لقمانَ فقال: أَرَأَيْتَ الحَبَّةَ تَكُونَ في مَقْلِ البَحرِ، أي في مغاص البحر أَيَعْلَمُهَا اللَّه. يقال مَقَلَ يَمْقُل إذَا غَاصَ، فَأعْلَمَهُ أن اللَّه - عزَّ وجلَّ - يعلم الحَبَّةَ حيث كانت، وفي أخفى المواضع، لأن الحبَّة في الصخرة أخفى من الماء، ثم أعلمه أَنهَا حيث كانت يَعلَمُها بلُطْفِه - عزَّ وجلَّ - وخِبْرَتِه. وهذا مثل لأعمال العِبَادِ أَنَ الله يأتي بأعمالهم يومَ القيامة (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8). فأمَّا رِفع " مثقال " مع تأنيث " تك " فلأن مِثْقَالَ حبة من خردل راجع إلى معنى خرْدَلَةٍ، فهو بمنزلة إن تك حَبة من خردل. ومن قرأ: (إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ) - بالنصب - فعلى معنى أن التي سَألْتني عنها إن تك

(18)

ْمثقال حبة، وعلى معنى أن فَعْلَةَ الإنسان وإن صَغُرَتْ يأت الله بها. ويجوز أنها إن تك بالتاء مثقال حبة من خردل، على معنى أن القصة كما تقول: أنَّها هند قائمة، ولو قُلْتَ أنَّها زيد قائم لجاز، إلا أن النحويين يختارون ذلك مَعَ المُذَكرِ، ويجيزون مع المؤنث التأنيث والتذكير، يقولون: إنهُ هِنْدٌ قَائِمَة، وإنها أمة اللَّه قائمة. فيجيزون الوَجْهَيْن. فأمَّا أنَّها إن تَكُ مثقَالَ حَبةٍ من خردل عند من لا يجيز إنها زَيْد قَائِم "، فيجوز عنده هذا لأن مَعْنَاه التأنيث بِرَدِّ (ما) إلى الحبَّةِ من الخردل (1). * * * وقوله تعالى: (وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) ويقرأ تُصَاعِرُ، ويجوز في العربية: ولا تُصْعِرْ، ولا أعلم أحَداً قرأ بها، فإذا لم ترو فلا تقرأ بها، ومعناه لا تُعْرِضْ عن الناس تَكَبُّراً، يقال أصاب البعيرَ صَعَرٌ وصَيَد إذا أَصَابه دَاء فلوى منه عنُقَهُ، فيقال للمتكبر فيه صَعَر، وفيه صَيَدٌ، فأما (تُصَعِّرْ) فعلى وجه المُبَالَغَة، ويصاعر جاء على معنى يُفَاعِل، كأنك تُعَارِضُهُمْ بِوَجْهِك. ومعنى (تُصْعِرْ) تلزم خَدَّك الصَّعَرَ، لأنه لا داء بالإنسان أَدْوَأَ من الكِبْرِ. والمعنى في الثلاثة هذا. المعنى: إلا أن (تُصَعِّرْ) وَتُصَاعِرْ أبْلَغُ من (تُصْعِرْ) (2). * * * وقوله: (وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا). أي لا تَمْشِ مُتَبَخْتِراً مُخْتَالاً. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19) (وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ).

_ (1) قال السَّمين: قوله: {إِنَّهَآ إِن تَكُ}: ضميرُ القصةِ. والجملةُ الشرطيةُ مفسِّرةٌ للضميرِ. وتقدَّم أنَّ نافعاً يقرأُ «مثْقالُ» بالرفع على أنَّ «كان» تامةٌ وهو فاعلُها. وعلى هذا فيُقال: لِمَ لَحِقَتْ فعلَه تاءُ التأنيث؟ قيل: لإِضافته إلى مؤنث، ولأنه بمعنى: زِنَةُ حَبَّة. وجَوَّز الزمخشري في ضمير «إنها» أَنْ تكونَ للهِنَةِ من السَّيِّئاتِ أو الإِحسان في قراءةِ مَنْ نصب «مِثْقال». وقيل: الضميرُ يعودُ على ما يُفْهَمُ مِنْ سياقِ الكلامِ أي: إنَّ التي سألْتَ عنها إنْ تَكُ. وفي التفسير: أنه سأل أباه: أرأيتَ الحبة تقع في مَغاصِ البحر: أيعلُمها اللَّه؟ وقرأ عبد الكريم الجَزَرِيُّ «فَتَكِنَّ» بكسرِ الكاف وتشديد النونِ مفتوحةً أي: فتستقرَّ. وقرأ محمد بن أبي فجة البعلبكي «فَتُكَنَّ» كذلك إلاَّ أنه مبنيٌّ للمفعول. وقتادة «فَتَكِنُ» بكسرِ الكاف وتخفيف النونِ مضارعَ «وَكَنَ» أي: استقرَّ في وَكْنِه ووَكْرِه. اهـ (الدُّرُّ المصُون). (2) قال السَّمين: قوله: {وَلاَ تُصَعِّرْ}: قرأ نافعٌ وأبو عمروٍ والأخَوان «تَصاعِرَ» بألفٍ وتخفيفِ العينِ. والباقون دون ألفٍ وتشديد العين، والرسمُ يَحْتمِلُهما؛ فإنَّ الرسمَ بغيرِ ألفٍ. وهما لغتان: لغةُ الحجازِ التخفيفُ، وتميمٌ التثقيلُ. فمِن التثقيلِ قوله: 3657 وكُنَّا إذا الجبارُ صَعَّر خَدَّه. . . أقَمْنا له مِنْ مَيْلِه فَيُقَوَّمُ ويقال أيضاً: تَصَعَّر. قال: 3658. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . أَقَمْنا له مِنْ خَدِّه المُتَصَعِّرِ وهو من المَيْل؛ وذلك أنَّ المتكبِّر يَميل بخَدِّه تكبُّراً كقولِه {ثَانِيَ عِطْفِهِ} [الحج: 9]. قال أبو عبيدة: «أصلُه من الصَّعَر، داءٌ يأخُذُ الإِبِلَ في أعناقِها فتميلُ وتَلْتوي». وتفسيرُ اليزيديِّ له بأنَه التَّشَدُّقُ في الكلامِ لا يوافِقُ الآية هنا. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(20)

معنى اغْضُض انقص، ومن ذلك غضضت بَصرِي، وَفُلَان يَغُضُّ بَصَرَهُ من فُلَانٍ أي يتنقَصهُ. ومعثى: (أنْكَرُ الأصْوَاتِ) أقبح الأصوات، يقال: أَتانَا فُلان بوجه مُنكَر الخِلْقَةِ، أي قبيح. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20) تسخير ما في السَّمَاوَات الشمس والقمرُ والنجُومُ، ومعنى تسخيرها للآدميين الانتفاع بها في بلوغ مَنَابِتهم، والاهتداء بالنجوم فِي مَسَالِكِهِمْ، وتسخير ما في الأرض تسخير بحارها وأنهارها ودوابها وجميع منافعها. (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً). (نِعَمَةً) ويقرأ (نِعَمَهُ) على الجمع. فمن قرأ (نِعَمَةً) فعلى معنى ما أعطاهم من توحيده عزَّ وجلَّ. ومن قرأ (نِعَمَهُ) فعلى جَميعِ مَا أَنْعَمَ به عَلَيهِمْ (1). * * * قوله عزَّ وجلَّ: (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) أي من أسلم فقد استمسك بقول: لا إلَهَ إلا اللَّهُ، وَهِيَ العُرْوَةُ الوُثْقَى. * * * وقوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) (وَالْبَحْرَ) ويقرأ " والبحرُ " بالرفْعِ.

_ (1) قال السَّمين: قوله: {نِعَمَهُ}: قرأ نافعٌ وأبو عمروٍ وحفص «نِعَمَه» جمعَ نِعْمة مضافاً لهاءِ الضمير، ف «ظاهرةً» حالٌ منها. والباقون «نِعْمةً» بسكون العين، وتنوينِ تاء التأنيث، اسمَ جنسٍ يُراد به الجمعُ ف «ظاهرة» نعتٌ لها. وقرأ ابنُ عباس ويحيى بن عمارة «وأَصْبَغَ» بإبدال السينِ صاداً. وهي لغةُ كلبٍ يفعلون ذلك مع الغينِ والخاء والقاف. وتقدَّم نظيرُ هذه الجملِ كلِّها في البقرة، والكلامُ على «أَوَلَوْ» ونحوِه. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(28)

فأما النصبُ فعطف على (ما) والمعنى ولو أن ما في الأرْضِ ولو أن البحرَ، والرفع حسن على وجهين: على معنى. والبحرُ هَذِه حَاله. ويجوز أن يكون معطوفاً على موضع إن مع ما بعدها لأن معنى لو أَن ما في الأرض لَوْ وقع ما فِي الأرْضِ، لأن (لو) تطلب الأفعال فإذا جاءت معها (إنَّ) لم تذكر معها الأفعال، لأنه تذكر معها الأسماء والأفعال. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ). معناه ما انقطعت، ويروى أَن المشركين قالوا في القرآن: إن هَذا كلام سَينْفَدُ، وسيقطع، فأَعلم اللَّه عزَّ وجلَّ أَن كَلِمَاتِه وحكمتَهُ لا تَنفدُ (1). * * * وقوله: (مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) تأويله إلا كخلق نفس وَاحِدَةٍ، وكبعث نَفْس وَاحِدَةٍ، أي قُدْرَةُ اللَّهِ عَلَى بعثْ الخلق أجمعين وعلى خلق الخلق أجمعين كَقُدْرَتِه على خلق نفس واحدةٍ وبعث نفس وَاحِدَةٍ. * * * وقوله: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ) معناه يدخل الليل في النهار، لَيْلَ الصيف في نَهاره. (وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ). يدخل نهار الشتاء في ليله. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) ويقرأ بِنِعِمات اللَّه، ويجوز بِنَعْمَات اللَّه، ويجوز بِنِعَمَات اللَّه

_ (1) قال الإمام زين الدين محمد بن أبى بكر الرَّازى فإن قيل: قوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ) يطابقه وما في الأبحر من ماء مداد فكيف عدل عنه؟ قلنا: استغنى عن ذكر المداد بقوله تعالى: (يمده) لأنه من قولك مد الدواة وأمدها، فجعل البحر المحيط بمنزلة الدواة، والأبحر السبعة المملوءة مداداً أبداً صباً لا ينقطع، فصار نظير ما ذكرتم ونظيره قول تعالى: (قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي. . .الآية). فإن قيل: كيف قال تعالى (قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي) ولم يقل من شجر؟ قلنا: لأنه أراد تفصيل الشجر وتقصيها شجرة شجرة حتى لا يبقى من جنس الشجر شجرة واحدة إلا وقد بريت أقلاماً. فإن قيل: الكلمات جمع قلة والمقصود التعظيم والتفخيم، فكان جمع الكثرة وهو الكلم أشد مناسبة؟ قلنا: جمع القلة أبلغ فيما ذكرتم من المقصود، لأن جمع القلة إذا لم يغن بتلك الأقلام وذلك والمداد فكيف يغنى جمع الكثرة. أهـ {أنموذج جليل في أسئلةٍ وأجوبةٍ عن غرائبِ آي التنزيل صـ 406}

(32)

بفتح العين ففيها ثلاثة أوجه إذَا جُمِعَتْ، وأكثر القراءة بنعمة اللَّهَ على الواحدة، وأما الكسر فعلى مذهب من جَمَع كِسْرةً علىْ كِسِرَاتٍ. ومَنْ أَسْكن وهو أجود أَوْجُهِهِ فعلى من جمع كِسْرات، لأن كِسْراتٍ بقل مثله في كلام العَرَبِ، إنما جاء في أصول الأبنية ما توالت فيه كسرتان نحو إبل وإطِل فقط، ومن قرأ بِنِعَمَات الله فلأن الفتح أخف الحركات. قال الشاعر: ولما رَأوْنا بَادياً رُكُبَاتُنَا. . . عَلَى مَوْطِنٍ لا نَخْلِطُ الجدَّ بالهَزلِ والأكثر رُكَبات، وَرُكْبَات أَجْوَدُ لِثِقَلِ الضَّمَّةِ، ولكنه أكثر من الكلام من نِعِمَات، وكِسِراتٍ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ). روى قتادَةُ أَن أحبَّ العِبَادِ إلَى الله مَنْ إذَا أعْطي شَكَرَ وإذا ابْتُلِيَ صَبَرَ. فأعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أَن المُعْتَبِرَ المُتَفَكِرَ في خلق السَّمَاوَات والأرض هو الصبَّار الشَّكور. * * * وقوله عَز وجل: (وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32) قال في. الموج: " كَالظُّلَلِ" لأن موج البحر يعظمَ حتى يصيرَ كأنَّهُ ظُلَلٌ. وقوله: (خَتَّارٍ كَفُورٍ). الخَتْر: أَقبح الغَدْرِ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33)

(34)

(وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا). (جازٍ) في المصحف بغير ياء، والأصْلُ جَازِيٌّ. وَذَكر سيبويه والخليل أن الاختيار في الوقف هُوَ جَاز، بغير ياء والأصل جازيٌّ بضمة وتنوينٍ، فَثَقُلَتِ الضمةُ في الياء، فحذفت وسكنت الياء والتنوين فحذفت الياء لالتقاء السَّاكنين، وكان ينبغي أن يكونَ في الوقف بياءٍ لأن التنوين قد سقط ولكن الفُصحَاءَ مِنَ العَرَبِ وقفوا بغير ياء لِيُعْلمُوا أن هذه اليَاءَ تَسْقُط في الوصل. وزعم يُونُس أَن بعض العرب الموثوقِ بهم يقف بياء، ولكن الاخْتِيار اتباعُ المصحف والوقف بغَيْر يَاءٍ * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ). الْغَرُورُ: الشيطان. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34) جاء في التفسير أن هذه الخمسَ مفاتحُ الغَيْب التي قال اللَّه عز وجل فيها،: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ) فمن ادَّعى أنه يعلم شيئاً من هذه فَقد كَفَرَ بالقُرآنِ، لأنهُ قَدْ خَالَفَهُ.

سورة السجدة

سُورَةُ السَّجدة (مَكِّيَّة) إلا ثلاث آيات منها مدنية، (أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا) إلى تَمامِ الثلاثِ آيات. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله عزَّ وجلَّ: (الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) روى أحمد بن حنبل. بإسناد له أن النبى - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في كل لَيْلةٍ سورةَ السجْدَةِ " الم تنزيل "، وسورة " تبارك الملك ". وروى كَعْبُ الأحبار أنه قال: من قرأ سورة السجدة كَتبت له سَبْعُونَ حسنةً وحُطتْ عَنْهُ سبعونَ سَيئةً وَرَفعَتْ له سَبْعُونَ دَرَجَة. * * * وقوله: (الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ) قد شرحنا ما قيل في " الم "، ورفع (تَنْزِيلُ) على خبر الابتداء على إضمار الذي نتلو. تنزيل الكتاب. ويجوز أن يكون في المعنى خبراً عن (الم)، أي (الم) مِنْ تنزيل الكتاب. ويجوز أن يكون رفعه - على الابتداء، ويكون خبر الابتداء (لَا رَيْبَ فيه). * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3) معناه بل أيقولون افتراه.

(5)

وقوله: (لَتُنْذِرَ قَوْماً مَا أتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) وَمِثْلُهُ (لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ). و" ما " في جمع الموضعين نَفْيٌ، أي لم يشاهدُوا هُمْ ولا آباؤهم نبيًّا. فأما الإنذار بما قدم من رسل اللَّه صلى اللَّه عليهم فعلى آبائهم به الحجة، لأن اللَّه عزَّ وجلَّ لا يُعَذَبُ إلا من كفر بالرسُل. والدليل على ذلك قوله: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (1). * * * قوله: (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) أعلم الله عزَّ وجلَّ أنه يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ، ثم يعرج الأمر إليه في يوم، وذلك اليوم مقداره ألفُ سَنَةٍ مما تعدُونَ. ومعنى يَعْرُج ينزل ويَصْعَدُ يقال عَرَجْتُ في السِّلْمِ أَعْرُجُ، ويُقَالُ عَرِج يَعْرَجُ إذَا صَار أَعْرَجَ. * * * وقوله تعالى: (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) وقد قرئ (خَلَقَهُ) بتحريك اللام وتسكينها جميعاً - ويجوز خَلْقهُ بالرفع ولا أعلم أحداً قرأ بها. فأمَّا (خَلَقَهُ) فعلى الفِعْلِ المَاضِي. وتأويل الِإحْسَانِ في هذا أنه خَلَقَهُ على إرَادَتِه فخلق الإِنْسَانَ في أحسن تَقْوِيمٍ، وخلق القِرْدَ على ما أحب - عزَّ وجلَّ - وخَلقُه إياهُ على ذلك مِنْ أَبْلَغِ الحكمةِ ومن قرأ (خَلْقَهُ) بتسكين اللام فعلى وَجْهَيْنِ: أحدهما المَصدَرَ الذي دل عليه أَحْسَنَ، والمعنى الذي خلق كل شيء خلقه. ويجوز أن يكون على البَدَلِ فيكون المعنى الذي أَحْسَنَ خلْقَ كُل شيء. خَلَقَهُ، والرفعُ على إضمار: " ذَلِكَ خَلْقُه " (2). * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَبَدَأَ خَلْقَ الإنْسَانِ مِنْ طَينٍ).

_ (1) قال السَّمين: قوله: {قَوْماً مَّآ أَتَاهُم} الظاهرُ أنَّ المفعولَ الثاني للإِنذار محذوفٌ. و «قوماً» هو الأولُ؛ إذ التقديرُ: لتنذِرَ قوماً العقابَ، و «ما أتاهم» جملةٌ منفيَّةٌ في محلِّ نصبٍ صفةً ل «قوماً» يريد: الذين في الفترةِ بين عيسى ومحمدٍ عليهما السلام. وجعله الزمخشري كقوله: {لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أُنذِرَ آبَآؤُهُمْ} [يس: 6] فعلى هذا يكونُ «مِنْ نذير» هو فاعلَ «أتاهم» و «مِنْ» مزيدةٌ فيه. و «مِنْ قبلِك» صفةٌ لنذير. ويجوزُ أَنْ تتعلَّقَ «مِنْ قبلك» ب «أَتاهم». وجَوَّزَ الشيخُ أَنْ تكونَ «ما» موصولةً في الموضعين، والتقدير: لتنذِرَ قوماً العقابَ الذي أتاهم مِنْ نذيرٍ مِنْ قبلك. و «مِنْ نذير» متعلقٌ ب «أَتاهم» أي: أتاهم على لسانِ نذيرٍ مِنْ قبلِك، وكذلك {لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أُنذِرَ آبَآؤُهُمْ} [يس: 6] أي: العقابَ الذي أُنْذِرَه آباؤهم. ف «ما» مفعولةٌ في الموضعين، و «لِتُنْذرَ» يتعدَّى إلى اثنين. قال تعالى: {فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً} [فصلت: 13]. وهذا القولُ جارٍ على ظواهر القرآن. قال تعالى: {وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24] {أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ} [المائدة: 19]. قلت: وهذا الذي قاله ظاهرٌ. ويظهر أنَّ في الآية الأخرى وجهاً آخرَ: وهو أَنْ تكونَ «ما» مصدريةً تقديرُه: لتنذِرَ قوماً إنذاراً مثلَ إنذارِ آبائِهم؛ لأنَّ الرسلَ كلَّهم متفقون على كلمة الحق. اهـ (الدُّرُّ المصُون). (2) قال السَّمين: قوله: «خَلَقَه» قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بسكونِ اللام. والباقون بفتحها. فأمَّا الأُولى ففيها أوجهٌ، أحدُها: أن يكونَ «خَلْقَه» بدلاً مِنْ «كلَّ شيء» بدلَ اشتمالٍ مِنْ «كلَّ شيءٍ»، والضميرُ عائدٌ على كل شيء. وهذا هو المشهورُ المتداوَلُ. الثاني: أنه بدلُ كلٍ مِنْ كل، والضميرُ على هذا عائدٌ على الباري تعالى. ومعنى «أحسن»: /حَسَّن؛ لأنه ما مِنْ شيءٍ خَلَقَه إلاَّ وهو مُرَتَّبٌ على ما تَقْتَضيه الحكمةُ، فالمخلوقاتُ كلُّها حسنةٌ. الثالث: أن يكونَ «كلَّ شيءٍ» مفعولاً أول، و «خَلْقَه» مفعولاً ثانياً على أَنْ يُضَمَّن «أحسَنَ» معنى أَعْطى وأَلْهَمَ. قال مجاهد: «أعطى كلَّ جنسٍ شكله». والمعنى: خَلَقَ كلَّ شيءٍ على شكلِه الذي خصَّه به. الرابع: أن يكون «كلَّ شيء» مفعولاً ثانياً قُدِّم، و «خَلْقَه» مفعولاً أول أُخِّر، على أَنْ يُضَمَّنَ «أَحْسَنَ» معنى أَلْهَمَ وعَرَّف. قال الفراء: «ألهم كلَّ شيءٍ خَلْقَه فيما يحتاجون إليه فيكونُ أَعْلَمهم ذلك». قلت: وأبو البقاء ضَمَّن أحسنَ معنى عَرَّف. وأَعْرَبَ على نحوِ ما تقدَّم، إلاَّ أنه لا بُدَّ أن يُجْعَلَ الضميرُ لله تعالى، ويُجعلَ الخَلْقُ بمعنى المَخْلوق أي: عَرَّف مخلوقاتِه كلَّ شيءٍ يحتاجون إليه، فيَؤول المعنى إلى معنى قولِه: {أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى} [طه: 50]. الخامس: أن تعودَ الهاء [على الله تعالى] وأَنْ يكون «خَلْقَه» منصوباً على المصدرِ المؤكِّدِ لمضمون الجملةِ كقولِه: {صُنْعَ الله} [النمل: 88]، وهو مذهبُ سيبويه أي: خَلَقَه خَلْقاً. ورُجِّحَ على بدلِ الاشتمال: بأنَّ فيه إضافةَ المصدرِ إلى فاعِله، وهو أكثرُ مِنْ إضافتِه إلى المفعول، وبأنه أبلغُ في الامتنانِ لأنه إذا قال: {أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ} كان أبلغَ مِنْ «أَحْسَنَ خَلْقَ كلِّ شيء»؛ لأنه قد يَحْسُنُ الخلقُ - وهو المحاولةُ - ولا يكون الشيء في نفسِه حَسَناً. وإذا قال: أحسنَ كلَّ شيْءٍ اقتضى أنَّ كلَّ شيءٍ خَلَقَه حَسَنٌ، بمعنى أنه وَضَعَ كلَّ شيءٍ في موضعِه. وأمَّا القراءةُ الثانية ف «خَلَقَ» فيها فعلٌ ماضٍ، والجملةُ صفةٌ للمضافِ أو المضافِ إليه، فتكونُ منصوبةَ المحلِّ أو مجرورتَه. قوله: «وَبَدَأ» العامَّةُ على الهمزِ. وقرأ الزهريُّ «بدا» بألفٍ خالصةٍ، وهو خارجٌ عن قياسِ تخفيفِها، إذ قياسُه بينَ بينَ. على أن الأخفش حكى «قَرَيْتُ» وجوَّز الشيخ أن يكونَ مِنْ لغةِ الأنصار. يقولون في بدأ: «بَدِي» يكسِرون الدالَ وبعدها ياءٌ، كقولِ عبدِ الله بن رواحة الأنصاري: 3669 بسمِ الإِلهِ وبه بَدِيْنا. . . ولو عَبَدْنا غيرَه شَقِيْنا قال: «وطيِّئٌ تقول في بَقِي: بَقَا». قال: «فاحتمل أَنْ تكونَ قراءةُ الزهري من هذه اللغةِ، أصلُه بَدِي، ثم صار بدا». قلت: فتكون القراءةُ مركبةً مِنْ لغتَيْن. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(8)

يعني آدم وَذُريتهُ، فآدم خلق من طين. * * * (ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ومعنى مَهِين ضَعيف، ومعنى السلالة في اللغة ما ينسَل من الشيء القليل، وكذلك الفعالةُ نحو الفُضَالَةُ والنُّخامَةُ والقُوارةُ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10) ويقرأَ (أَنَّا لَفِي خلق جَدِيدٍ)، ويقرأ (إنَّا لَفِي خَلْق جَديدٍ) وموضع (إذَا) نصب، فمن قرأ (أَإِنَّا) فعلى معنى أنُبْعَث إذا ضَللنَا في الأرْضِ. وَيَكُونُ يَدُلًّ عَلَيه " إنَا لَفِي خَلْق جَدِيدٍ "، ومن قرأ إنا لفي خلق - جديد فإذا منصوبة بـ ضللنا، ويكون بمعنى الشرط والجزاء، ولا يضر ألا يذكر الفاء، لأن " إذَا " قد وليها الفعل الماضي، ولا يجوز أن ينتصبَ " إذا " بما بعْدَ " أن "، لا خلاف بين النحويين في ذلك، ومعنى " إذَا ضَلَلنَا " إذا مُتْنَا فَصِرْنَا تُراباً وعظاماً فَضَلِلْنَا في الأرض فلم يتبينْ شيء من خَلْقِنَا، ويقرأ صَلَلْنَا بالصادِ، ومعناه على ضربين: أحدهما أَنْتَنَّا وَتَغَيَّرْنَا، وتَغَيَّرَتْ صُوَرُنا، يقال صَلَّ اللحم وَأَصَلَّ إذا أنْتَنَ وَتَغيَّرَ. والضرب الثاني صَلَلْنَا صرنا من جِنْسِ الصَّلَّةِ، وهي الأرض اليابسة (1). * * * وقوله: (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) من تَوْفِيَةِ العَدَدِ، تأويرله أنه يقْبِضُ أَرْواحكُمٍ أَجْمعين فلا ينقص واحدٌ منكم، كما تقول: قد استَوْفَيْتُ مِنْ فُلَانٍ وتوفيْتُ من فلان مالي عنده، فتأويله أَنهُ لَمْ يَبْقَ لي عَلَيه شيء.

_ (1) قال السَّمين: قوله: {أَإِذَا ضَلَلْنَا}: تقدَّم اختلافُ القراء في الاستفهامين في سورة الرعد. والعاملُ في «إذا» محذوفٌ تقديرُه: نُبْعَثُ أو نُخْرَجُ، لدلالةِ «خَلْقٍ جديد» عليه. ولا يَعْمَلُ فيه «خَلْق جديد» لأنَّ ما بعد «إنَّ» والاستفهامَ لا يعملُ فيما قبلهما. وجوابُ «إذا» محذوفٌ إذا جعلتَها شرطيةً. وقرأ العامَّةُ «ضَلَلْنا» بضادٍ معجمةٍ ولامٍ مفتوحةٍ بمعنى: ذَهَبْنا وضِعْنا، مِنْ قولِهم: ضَلَّ اللبنُ في الماء. وقيل: غُيِّبْنا. قال النابغة: 3670 فآبَ مُضِلُّوه بعينٍ جَلِيَّة. . . وغُوْدِر بالجَوْلانِ حَزْمٌ ونائِلُ والمضارعُ مِنْ هذا: يَضِلُّ بكسر العين وهو كثيرٌ. وقرأ يحيى ابن يعمر وابن محيصن وأبو رجاء بكسرِ اللامِ، وهي لغةُ العالية. والمضارعُ من هذا يَضَلُّ بالفتح. وقرأ عليٌّ وأبو حيوة «ضُلِّلْنا» بضم الضاد وكسر اللام المشددة مِنْ ضَلَّلَه بالتشديد. وقرأ عليٌّ أيضاً وابن عباس والحسن والأعمش وأبان بن سعيد «صَلَلْنا» بصادٍ مهملةٍ ولامٍ مفتوحة. وعن الحسن أيضاً «صَلِلْنا» بكسرِ الصادِ. وهما لغتان. يقال: صَلَّ اللحمُ يَصِلُّ، ويَصَلُّ بفتح الصادِ وكَسرِها لمجيءِ الماضي مفتوحَ العين ومكسورَها. ومعنى صَلَّ اللحمُ: أنتنَ وتَغيَّرتْ رائحتُه. ويُقال أيضاً: أَصَلَّ بالألف قال: 3671 تُلَجْلِجُ مُضْغَةً فيها أَنِيْضٌ. . . أَصَلَّتْ، فَهْيَ تحت الكَشْحِ داءُ وقال النحاس: «لا نعرفُ في اللغة» صَلِلْنا «ولكن يُقال: صَلَّ اللحمُ، وأصلَّ، وخَمَّ وأَخَمَّ» وقد عَرَفها غيرُ أبي جعفر. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(12)

وقوله: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12) هذا متروك الجواب، وخِطابُ النبي - صلى الله عليه وسلم - خطابُ الخلق الدليل عليه ذلك: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ) فهو بمنزلة وَلَوْ تَرَوْنَ فالجواب لرأيتم ما يعتبر به غاية الاعتبار. وقوله: (رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا). فيه إضمار " يَقُولُون رَبَّنَا أَبْصَرْنَا. * * * وقوله: (وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) تأويله مثل قوله: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لِجَمَعَهُم عَلَى الهُدَى). ومثله (فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ). وقوله: (وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ). قال قتادة بذنوبهم، وهذا حسن، لأن اللَّه عَز وَجَل قال: (إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). * * * وقوله: (فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14) تِاويل النسيان ههنا الترك، المعنى فذوقوا بما تركتم عمل لقاء يومكم هذا فتركناكم من الرحمة. * * * وقوله عزَّ وجل: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16)

(17)

معنى (تَتَجَافَى) ترتفع وَتُفَارِقُ المضاجعَ، ومعنى (خَوْفًا وَطَمَعًا) خوفاً من عذاب اللَّه وطمعاً في رحمة اللَّه. وانتصاب (خَوْفًا وَطَمَعًا) لأنه مفعول له، كما تقول: فَعَلْتُ ذلك حِذَارَ الشَرِّ أَي لِحذارِ الشَرِّ وحقيقته أنه في موضع المصدَرِ، لأن (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) في هذا الموضعِ يدل على أنهم يَخَافُونَ عذابَه وَيرْجُونَ رَحْمَتَهُ، فهو في تأويل يَخَافون خوفاً ويطمعون طمعاً. وقوله: (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ). أي ينفقون في طاعة اللَّهِ، وقد اختلف في تفسيرها، وأكثر ما جاء في التفسير أنهم كانوا يصلون في الليل وقت صلاة العتمة المكتوبة لا ينامون عنها، وقيل التطوع بين الصلاتين، صلاة المغرب والعشاء الآخرة. * * * وقوله: (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17) دليل على أنها الصلَاةُ في جَوْفِ الليْلِ، لأنه عمل يستسِرُّ الإنْسَانُ به فجعل لفظ ما يجازى به (أُخْفِيَ). ويقرأ بإسكان الياء، ويكون المعنى ما أخفي أنا لهم. إخبار عن اللَّه. وإذا قرئت: (أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) - بفتح الياء - فعلى تأويل الفعل الماضي، ويكون اسم ما لم يسم فاعله ما في أُخْفِيَ من ذكر " ما " وقرأ الناس كلهم (مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) إلا أبا هُرَيْرَةَ فإنه قرأ (من قرَّاتِ أعْيُنٍ). ورواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. (جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).

(18)

" جزاء " أيضاً منصوب مفعول له. وقُرئت: فلا تعلم نفس ما أَخْفَى لَهمْ، أي ما أخفى اللَّه لهم (1). * * * وقوله: (أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18) جاء في التفسير أنها نزلت في علي بن أبي طالب عليه السلام. وعقْبَةَ بنِ أَبي معَيْطِ. فالمؤمن عَلِيٌّ رضي اللَّه عنه، والفاسق عقبة ابن أبي معيط، فشهد الله لِعليٍّ بالإيمان وإنه في الجنة بقوله: (أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى). وقال: (لَا يَسْتَوُونَ)، ولو كان قال: لا يتسويان لكان جَائزاً. ولكن " مَنْ " لفظها لفظ الواحد، وهي تدل على الواحِد وعلى الجماعة فجاء (لَا يَسْتَوُونَ) على معنى لا يستوي المؤمِنُونَ والكَافِرونَ. ويجوز أن يكونَ " لا يَسْتوُونَ " للاثنين، لأن معنى الاثنين جماعة. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) الأدنى ما يصيبهم في الدنيا، وقد اختلف في تفسيرها. فقيل: ما يصيبهم من الجدب والخوف، ويكون دليل هذا القول قوله: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ). وقيل " الْعَذَابِ الْأَدْنَى " ههنا السِّبَاءُ والقتل، وجملته أن كل ما يعذَّبُ به في الدنيا فهو الْعَذَابِ الْأَدْنَى، والعذاب الأكبر عذاب الآخرة. * * * وقوله: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23)

_ (1) قال السَّمين: قوله: «أُخْفِيَ» قرأه حمزةُ «أُخْفِيْ» فعلاً مضارعاً مُسْنداً لضمير المتكلم، فلذلك سَكَنَتْ ياؤُه لأنه مرفوعٌ. وتؤيدها قراءةُ ابنِ مسعود «ما نُخْفي» بنون العظمة. والباقون «أُخْفِيَ» ماضياً مبنياً للمفعول، فمِنْ ثَمَّ فُتحت ياؤُه. وقرأ محمد بن كعب «أَخْفى» ماضياً مبنياً للفاعل وهو اللَّهُ تعالى، ويؤيِّده قراءةُ الأعمش «ما أَخْفَيْتُ» مسنداً للمتكلم. وقرأ عبد الله وأبو الدرداء وأبو هريرةَ «مِّن قُرَّاتِ أَعْيُنٍ» جمعاً بالألف والتاء. و «ما» يجوزُ أَنْ تكونَ موصولةً أي: لا نَعْلَمُ الذي أخفاه اللَّهُ. وفي الحديث: «ما لا عينٌ رَأَتْ، ولا أُذُن سَمِعَت، ولا خَطَر على قَلْب بشر» وأَنْ تكونَ استفهاميةً معلِّقَةً ل «تَعْلَمُ». فإن كانَتْ متعديةً لاثنين سَدَّت مَسَدَّهما، أو لواحدٍ سَدَّتْ مَسَدَّه. و «جزاءً» مفعول له، أو مصدرٌ مؤكِّدٌ لمعنى الجملةِ قبلَه. وإذا كانَتْ استفهاميةً فعلى قراءةِ مَنْ قرأ ما بعدها فعلاً ماضياً تكون في محلِّ رفعٍ بالابتداء، والفعلُ بعدها الخبرُ. وعلى قراءةِ مَنْ قرأه مضارعاً تكونُ مفعولاً مقدَّماً، و «مِنْ قُرَّة» حالٌ مِنْ «ما». اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(24)

جاء في التفسير لا تكن في شك من لقاء موسى عليه السلام. ودليل هذا القول في التفسير قوله: (وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا)، فالمعنى لا تكن يا محمد في مِرْيةٍ من لقائه. والخطابُ للنبي - صلى الله عليه وسلم - بمنزلة الخطاب له ولأِمَّتِهِ في هذا الموضع، أي فلا تكونوا في شك من لقاء النبي عليه السلام بموسى. وَقِيلَ (فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ) أي من لقاء موسى الكتاب، ويكون الهاء للكتاب، ويكون في لقائه ذكرُ مُوسى، ويجوز أن يكون الهاء لموسي، والكتاب محذوف، لأنْ ذكر الكتاب قد جرى كما جرى ذكر موسى. وهذا واللَّه أعلم أشبه بالتفسير. * * * وقوله: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24) أكثر البصرئينَ لا يجيزون (أَئِمَّةً) بهمزتين، وابن أبي اسحاق وحدَه يجيز اجتماعَ هَمْزَتين، وسيبويه والخليل وجميع البصريين - إلا ابنَ إسحاق - يقولون أيمة - بهمزة وياء - وإذا كانَ الهمزتان في كلمة وَاحِدَةٍ لم يجيزوا إلا إبدال الثانية في نحو أَيِمة وآدم، ومن قرأ أَئِمةً لَزِمه أَنْ يَقُول في " آدم " أَأْدَم " لأنه أفعل من الأدْمَةِ، وأئمة أَفْعِلَة، ولا ينبغي أن تقرأ ألا أيمَّةَ، لأن من حقَق الهمزة فيما يجوز فيه تخفيف الهمز أجاز التخفيف فكذلك هو يجيز التخفيف في أيمة، فتصير قراءة أَيِمَّة إجماعاً. وقوله: (لَمَّا صَبَرُوا). وَلِمَا صَبروا، والقراءة بالتشديد والتخفيف في " لَمَّا "، فالتخفيف معناه جعلناهم أئمة لِصَبْرِهِمْ، ومن قرأ " لَمَّا، صَبَروا فالمعنى مَعنى

(26)

حكاية المجازاة. لَمَّا صَبَرُوا جعلناهم أئمة، وأصل الجزاء في هذا كأنهُ قيل إن صَبرتُمْ جعلناكم أئمةً، فلما صبروا جُعِلوا أَئِمةً. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26) وقرئت بالنُونِ ((أَوَلَمْ نَهْدِ لَهُمْ). وزعم بعض النحويين أن (كَمْ) في موضع رفع بـ (يَهْدِ) والمعنى عنده أولم نُبَيِّنْ لهم القرون التي أهلكنا مِنْ قَبْلِهِمْ. وهذا عندنا - أعني عند البصريين - لا يجوز، لأنه لايعمل ما قبل (كَمْ) في (كَمْ)، لا يجوز في قولك كم رَجُل جاءني. وأنت مخبر أن تقول جاءني كم رجل، لأن (كَمْ) لا تُزَالُ عن الابتداء. ولذلك جاز أن يفصل بينها وبين ما عملت فيه إِذَا نصبت بما في الخبر والاستفهام تقول في الخبر: كَمْ بجودٍ مُقْرِفاً نالَ الغِنَى

(27)

ففصلت بين (كَمْ) وبين قولك مقرفاً بِقَوْلِكَ (بجودٍ)، فيكون الفَصْلُ فيها بين (كَمْ) وما عملت فيه عِوَضاً من تصرفها، ألا ترى أنه لا يجوز عشرون عندي درهماً، ويجوز في الخبر كم عندي دِرهماً جَيِّداً. وحقيقة هذا أَن (كَمْ) في موضع نصبٍ بـ (أَهْلَكْنَا). وفاعل " يَهْدِ " ما دل عليه المعنى مما سلف من الكلام. ويكون (كَمْ) أَيْضاً دليلا على الفاعل في يهدي، ويدل على هذا قراءة من قرأ أو لم نَهْدِ - بالنونِ - أي ألم نبين لهم. ويجوز أيضا على " يهد " بالياء - أن يكون الفعلُ لله - عزَّ وجلَّ - يدل عليه قراءة من قرأ (أولَم نَهْدِ). * * * وقوله - عزَّ وجلَّ - (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27) يُقرأ (الجُرُزَ)، ويجوز، الجَرَزَ والجُرْز والجَرْز. كل ذلك قد حكي في (الْجُرُزِ). جاء في التفسير أنها أرض اليَمَنِ، والجرز عند أَهْل اللغَةِ الأرض التي لا تُنْبِتُ. وكان أصلها أنها تأكل نباتها، يقال امرأة جَزُوز إذا كانت أكولاً، ويقال: سيف جراز إذَا كان مستأصلا. فمن قال جُرْزٌ فهو تخفيف جرُز، ومن قال: جَرَز وَجَرْز فهما لغتان. ويجوز أن يكون جَرْز مَصْدَراً وُصِفَ به كأنَّه أرض ذات جَرْزٍ - أعني بإسكان الراء، أي ذَات أكل للنبَاتِ. وقوله: (يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ). ويجوز في (يَمْشون في مساكنهم): تَمْشون. * * * وقوله تعالى: (وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28)

(30)

جاء في التفسير أن أصحاب النبي عليه السلام قالوا: يُوشِكُ أن يكون لنا يوم نستريح فيه، فقال المشركون: مَتَى هَذَا الفَتحُ إن كُنتُم صَادَقِينَ، فأعلم الله عَز وَجَل أَن الراحة في الجنة في الآخرةِ. وجاء أيضاً في الفتح مَتَى هذا الحَكمُ إنْ كنتم صادقين، ومتى هذا الفَصلُ. فأَعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أَن يَوْمَ الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمَانُهُمْ. وَلَا هم يُنْظَرُونَ. أَيْ أَنَّهم ما داموا في الدنيا فالتوبة مَعْرُوضَة لَهُمْ ولا توبة في الآخرةِ. * * * (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30) وقرئت: (وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ)، و (مُنْتَظَرُونَ).

سورة الأحزاب

سُورَةُ الأحزاب (مدنية) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله عزَّ وجلَّ: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1) معناه اثبتْ على تقوى الله ودُم عَلَيها. وقوله: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا). أي كان عليمأ بما يكون قبل كونه، حكيماً فيما يخلقه قبل خلقه إياه. * * * (وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2) يَعْني به القرآنَ. * * * وقوله: (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3) معناه وكفى اللَّه وكيلاً، دخلت الباء بمعنى الأمر، وإن كان لفظُه لفظَ الخبرَ. المعنى اكتف باللَّه وَكِيلًا. * * * وقوله عزَّ وَجَل: (مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) قال ابن عباس: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى فسها كما يسهو الرجال في صلاته، وخطرت على باله كلمة فقال المنافقون إنَّ لَه قَلْبَيْن، قلباً معكم وقلباً مع أصحابه. وأكثر ما جاء في التفسير أن عبد اللَّه بن خَطَل

كانت قُريْش تسميه ذا القلبين، وروي أنه قال: إن لي قَلْبَيْنِ أَفْهَمُ بِكل وَاحِدٍ منهما أكثر مما يَفْهَمُ محمدٌ، فأكذبه اللَّه - عزَّ وجلَّ - فقال: (مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ). ثم قَرَنَ بهذا الكلام ما يقوله المشركونَ غيرهم مما لا حقيقة له فقال عزَّ وجلَّ: (وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ). وتقْرَأُ (تَظَّاهَرُونَ) مِنْهُنَّ، فمن قَرأ (تُظَاهِرُونَ) بالتخفيف فعلى قولك: ظاهر الرجُل من امْرَأَتِه، ومن قرأ (تَظَّاهَرُونَ) - بالتشديد - فعلى تظاهر الرجلُ من امْرأته، ومعناه أنه قال لها: أَنْتِ عليَّ كظَهرِ أُمِّي، فأعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أن الزوجة لَا تَكونُ أُمًّا، وكانتِ الجَاهِلية تُطَلِّقُ بهذا الكلام، فأنزل اللَّه كفارة الظهار في سور المجادلة. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمَا جَعَل أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ). أي ما جعل من تدعونه ابناً وليس بِوَلَدٍ في الحقيقة - ابناً. وكانوا يتوارثون على الهجرة ولا يرث الأعرابي من المُهَاجِر، وَإنْ كان النسَبُ يوجب له الإرث. فأَعلم اللَّهُ أَنَ أُولى الأرحام بعضُهُمْ أولى بِبَعْض، وأبطل الِإرث بالهجرة. وقوله: (ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ). أي ادِّعاؤُكم نَسبَ من لا حقيقة لنسبه قولْ بِالْفَمِ لا حقيقة معنًى تَحْتَهُ. (وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ). أي اللَّه لا يجعل الابن غير الابن، وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ، أي يَهْدِي

(5)

السبيلَ المستقيمة مثل قوله: (فَقدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيل). * * * وقوله: (ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5) (ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ) أي هو أعْدَلُ. (فَإنْ لَمْ تَعَلَمُوا آبَاءَهُمْ). أي فإنْ لم تعلموا أنَّ المدعوَّ ابنُ فُلانٍ فهو أخوكَ في الدِّينِ إذا كان مؤمِناً، أي فقل يا أخي. (وَمَوَالِيكُمْ) أي بَنُو عَمِّكم، ويجوز أن يكون: وَمَوالِيكُمْ - أي. أَوْلِياؤكُمْ في الدِّين. (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ). في هذا وَجْهَانِ: أَحَدُهُما وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ مِما قد فعلتمُوهُ قبْلَ أن تُنْهَوْا عن هذا، وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ، أَي ولكن الإثم فيما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ. و (ما) في موضع جَرٍّ. عطف على (مَا) الأولَى المعنى: وليس عليكمْ جناح في الذي أخطاتم به. ولكن في الذي تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ. ويجوز أن يكون: ولا جناح عليكم في أن تقولوا له با بُنَيَّ على غير أن تَتَعَمَّدَ أن تجريه مجرى الوَلَدِ في الإرْثِ. * * * وقوله عزَّ وَجَل (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (6) وفي بعض القراءة: النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهُوَ أَبٌ لَهُمْ،

(7)

ولا يجوز أن تقرأ بها لأنها لَيْسَت في المصحف المجمع عليه. والنبي عليه السلام أبو الأمة في الحقيقة. ومعنى (وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ)، أي لا تحل زوجة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأحَدٍ بَعْدَه إذ هي بمنزلة الأمِ. وقوله: (وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ). أي ذو الرحِم بِذِي رَحِمِه أولى من المُهَاجِر إذَا لم يَكُنْ مِنْ ذَوِي رحِمِهِ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا). (إِلَّا أَنْ) استثناء ليست من الأول المعنى لكن فِعْلُكم إلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعروفاً جائِزٌ، وهو أن يوصَي الرجلُ لِمَنْ يَتَولَّاهُ بما أحب من ثُلُثِهِ، إذَا لم يكن وارثاً، لأنه لَا وَصِيةَ لِوَارِثٍ. (كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا). أي كان ذلك في الكِتابِ الذي فُرِضَ فيه الفرضُ (مَسْطُورًا) أَي مكتوباً. * * * وقوله: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (7) موضع " إذْ " نصب المعنى اذكر إذْ أَخَذْنَا، فذكرَهُ اللَّهُ - صلى الله عليه وسلم - في أَخذِ الميثاقِ قبل نوح. وجاء في التفسير: إنِي خُلِقْتُ قَبْلَ الأنبياء، وَبُعِثْت بَعْدَهُمْ. فَعَلى هذا القولِ لا تَقْدِيمَ في هذا الكلام ولا تأخِيرَ. هو على نَسَقِه، وَأخِذَ الميثاق حيث أخرجوا مِنْ صُلْبِ آدَمَ - صلى اللَّه عليه - كالذَّرِّ. وَمَذْهَبُ أهل اللغة أن الواو معناها الاجتماع، وليس فيها دَلِيل

(8)

أن المذكور أولاً لا يستقيم أَنْ يكونَ مَعْناه التأخِيرُ. فالمعنى على مذهب أَهْلِ اللُّغة، وَمِنْ نُوح وإبرَاهيم ومُوسَى وعِيسَى ابن مَريمَ وَمِنْك. ومثله قوله: (وَاسجدِي وَارْكَعِي مع الراكِعِينَ). * * * وقوله: (لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (8) معناه ليسأل المبلِّغين من الرسلِ عَنْ صِدْقِهِمْ في تبليغهم. وتأويل مَسْألَةِ الرسُلِ - واللَّه يعلم - أنهم صادقون - التبكيت للذين كفروا بِهِمْ، كما قال اللَّه - عزَّ وجلَّ - (وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ)، فأجاب فقال: (سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ)، ثم قال (مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ)، فتأويله التَبْكيتُ للمُكَذِبِينَ، فعلى هذا (لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (8) أي للكافرين بالرسُلِ (1). * * * وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) هؤلاء الجنودُ هم الأحْزاب، والجنود الذين كانوا: هم قرَيْش مَعَ أبي سفْيَانَ وغطفَان وبنو قريظة، تحزَّبوا وتظاهروا على حرب رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فأرسل اللَّه عليهم ريحاً كفَأَت قذورَهم، أي قَلَبَتْهَا، وقَلَعَتْ فساطيطهم وأظعنتهمْ من مَكانهم، والجنودُ التي لم يروها المَلَائِكَة.

_ (1) قال السَّمين: قوله: {لِّيَسْأَلَ}: فيها وجهان، أحدُهما: أنها لامُ كي أي: أَخَذْنا ميثاقَهم ليَسْأل المؤمنين عن صدقهم، والكافرين عن تكذيبهم، فاستغنى عن الثانِي بذِكْر مُسَبِّبه وهو قولُه: «وأَعدَّ». والثاني: أنها للعاقبة أي: أَخَذَ الميثاقَ على الأنبياء ليصيرَ الأمرُ إلى كذا. ومفعولُ «صدقِهم» محذوفٌ أي: صِدْقِهم عهدَهم. ويجوز أن يكون «صِدْقِهم» في معنى «تَصْديقهم»، ومفعولُه محذوفٌ أيضاً أي: عن تصديقِهم الأنبياءَ. قوله: «وأَعَدَّ» يجوزُ فيه وجهان، أحدهما: أَنْ يكونَ معطوفاً على ما دَلَّ عليه «ليَسْألَ الصادقين»؛ إذ التقديرُ: فأثاب الصادقين وأعَدَّ للكافرين. والثاني: أنه معطوفٌ على «أَخَذْنا» لأنَّ المعنى: أنَّ اللَّهَ تعالى أكَّدَ على الأنبياءِ الدعوةَ إلى دينه لإِثابة المؤمنين وأعَدَّ للكافرين. وقيل: إنه قد حَذَفَ من الثاني ما أثبت مقابلَه في الأول، ومن الأولِ ما أثبتَ مقابلَه في الثاني. والتقدير: ليسألَ الصادقينِ عن صِدْقِهم فأثابهم، ويَسْألَ الكافرين عَمَّا أجابوا به رُسُلَهم، وأعَدَّ لهم عذاباً أليماً. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(10)

وقوله: (إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) جاءت قريظة من فَوْقِهِمْ، وجاءت قريش وغَطَفَانُ من ناحية مَكةَ. مِنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ. وقوله: (وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا). اختلف القراءُ فيها. فقرأ بَعْضُهُمْ بِإثْبَاتِ الألِفِ فِي الوَقْفِ والوَصْلِ وقرأ بعضهم " الظنُون " بغير ألِفٍ في الوصل، وبألف في الوقف. وقرأ أبو عَمْرٍو " الظُّنُونَ " بغير ألف، في الوصل والوقف. والذي عليه حُذَّاق النحويين والمتبعُونَ السُّنَّةَ من حُذاقِهِمْ أَن يقرأَوا (الظُّنُونَا). ويقفون على الألف ولا يَصِلُونَ، وإنَّمَا فَعَلُوا ذَلِكَ لأن أواخر الآيات عِنْدَهُمْ فَوَاصلُ، ويثَبتُون في آخرها في الوقف ما قد يحذف مثله في الوَصْلِ. وَهُؤلاءِ يتبعُون المُصْحَفَ ويكرهون أَنْ يَصِلُوا ويثبتوا الألِفَ، لأن الآخر لم يقفوا عَلَيْهِ فيجروه مجرى الفَوَاصِلِ. ومثل هذا من كلام العَرَبِ في القَوَافِي: أَقِلِّي اللوم عَاذِل والعِتَابَا. فأثبت الألف لِأنَّهَا في موضع فاصِلةٍ وهي القافية (1). * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11) ويجوز زَلْزَالاً. بفتح الزاي، والمصدر من المَضَاعَفِ يجيء على ضربين فَعْلال وَفِعْلال نحوِ قَلْقَلَهُ قَلْقَالًا وَقِلْقَالاً وَزَلَزلْزَلَتْهُ زَلْزَالاً وَزِلْزَالاً، والكسر أكثر وَأَجْوَدُ لأنْ غيرَ المَضَاعَفِ من هذا الباب مكسورُ

_ (1) قال السَّمين: وقوله: «الظنونا» قرأ نافع وابنُ عامر وأبو بكر بإثبات ألفٍ بعد نون «الظُّنونا» ولامِ «الرسول» في قوله: {وَأَطَعْنَا الرسولا} [الأحزاب: 66] ولام «السَّبيل» في قوله: {فَأَضَلُّونَا السبيلا} [الأحزاب: 67] وَصْلاً ووَقْفاً موافقةً للرسمِ؛ لأنهنَّ رُسِمْنَ في المصحف كذلك. وأيضاً فإنَّ هذه الألفَ تُشْبه هاءَ السكتِ لبيانِ الحركة، وهاءُ السكتِ تَثْبُتُ وقفاً، للحاجة إليها. وقد ثَبَتَتْ وصلاً إجراءً للوصل مُجْرى الوقف كما تقدَّم في البقرة والأنعام. فكذلك هذه الألفُ. وقرأ أبو عمروٍ وحمزةُ بحَذْفِها في الحالَيْن؛ لأنها لا أصلَ لها. وقولُهم: «أُجْرِيَتْ الفواصلُ مُجْرى القوافي» غيرُ مُعْتَدٍّ به؛ لأنَّ القوافي يَلزَمُ الوقفُ عليها غالباً، والفواصلُ لا يَلْزَمُ ذلك فيها فلا تُشَبَّهُ بها. والباقون بإثباتِها وَقْفاً وحَذْفِها وَصْلاً إجراءً للفواصلُ مُجْرى القوافي في ثبوتِ ألفِ الإِطلاق كقولِه: 3676 اسْتأثَرَ اللَّهُ بالوفاءِ وبال. . . عَدْلِ ووَلَّى المَلامَةَ الرَّجُلا وقوله: 3677 أقِلِّي اللومَ عاذلَ والعِتابا. . . وقُولي إن أَصَبْتُ لقد أصابا ولأنها كهاءِ السكت، وهي تَثْبُتُ وقفاً وتُخَفَّفُ وصلاً. قلت: كذا يقولون تشبيهاً للفواصلِ بالقوافي، وأنا لا أحب هذه العبارةَ فإنها مُنْكَرَة لفظاً ولا خلافَ في قوله: {وَهُوَ يَهْدِي السبيل} [الأحزاب: 4] أنه بغيرِ ألفٍ في الحالين. قوله: «هنالك» منصوبٌ ب «ابْتُلِيَ» وقيل: ب «تَظُنُّون». واسْتَضْعَفَه ابنُ عطية. وفيه وجهان، أظهرهما: أنه ظرفُ مكانٍ/ بعيدٍ أي: في ذلك المكان الدَّحْضِ وهو الخندقُ. الثاني: أنه ظرفُ زمانٍ، وأنشد بعضُهُم على ذلك: 3678 وإذا الأمورُ تَعاظَمَتْ وتشاكَلَتْ. . . فهناك يَعْتَرفون أين المَفْزَعُ قوله: «وزُلْزِلُوا» قرأ العامَّةُ بضمِّ الزاي الأولى وكسرِ الثانية على أصل ما لم يُسَمَّ فاعلُه. ورَوَى غيرُ واحدٍ عن أبي عمروٍ كَسْرَ الأولى. وروى الزمخشريُّ عنه إشمامَها كسراً. ووجهُ هذه القراءةِ أَنْ يكونَ أتبعَ الزايَ الأولى للثانيةِ في الكسرِ، ولم يَعْتَدَّ بالساكنِ لكونِه غيرَ حصينٍ، كقولهم: «مِنْتِن» بكسرِ الميم، والأصل ضمُّها. قوله: «زِلْزالاً» مصدر مُبَيِّنٌ للنوعِ بالوصف. والعامَّةُ على كسر الزاي. وعيسى والجحدري فتحاها. وهما لغتان في مصدرِ الفعل المضعَّفِ إذا جاء على فِعْلال نحو: زِلْزال وقِلْقال وصِلْصال. وقد يُراد بالمفتوح اسمُ الفاعل نحو: صَلْصال بمعنى مُصَلْصِل، وزَلزال بمعنى مُزَلْزِل. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(12)

الأول، نحو دَحْرَجْتُه دِحْراجاً لا يجوز فيه غير الكسر. ومعنى (هُنَالِكَ ابْتُلِيَ المومِنُونَ) أَيْ فِي تلكَ الحال اخْتُبِرَ المؤمِنُونَ. ومعنى (زُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا)، أزْعِجوا إزعاجاً شديداً وحُرِّكوا. * * * وقوله: (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) موضع " إذْ " نَصْب المعنى اذكر إذ يَقول المنافقون. ومعنى الآية أن المنافقين قالوا: وَعَدَنا محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - أن فارسَ والرومَ تُفْتَحَانِ عَلَيْنَا، وَنَحْن بمكاننا هذا ما يقدر أحدنا أن يبرز لحاجَتِه، فهذا وعْد غرور. * * * وقوله عزَّ وَجَل (وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13) ويقرأ " لاَ مَقَام لَكمْ " بفتح الميمِ، فمن ضم الميم فالمعنى لا إقامة لكم، تقول: أقمت في البَلَدِ إقامةً ومُقاماً. ومن قرأ لا مَقَام لكم " - بفتح الميم، فالمعنى لا مكان لكم تقيمون فيه، وهؤلاء كانوا يُثَبِّطونَ المؤمنين عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. (وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ). أي مُعَوَّرة وذلك أنهم قالوا إِنَّ بُيُوتَنَا مِمَّا يَلِي العَدو، ونحن نُسْرَقَ مِنْهَا، فكذبَهُم اللَّه تعالى وأعلم أن قَصْدَهم الهَرَبُ والفرار. فقال: (وَمَا هِيَ بِعَورَةٍ). ويقرأ: وَمَا هِيَ بِعَوِرَةٍ. يقَال عَوِرَ المَكَان يَعْوَرُ عَوَراً، وهو عَوِر

(14)

وبيوت عَوِرة، وبيوت عَوْرَة على ضَربَيْن، على تسْكِين عَوْرَة، وعلَى معْنَى ذات عَوْرَة. (إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا). أي ما يريدون تحرزاً مِنْ سَرَقٍ، ولكن المنافقين يريدون الفرار عن نُصْرَةِ النبي عليه السلام. * * * (وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14) أي وَلَوْ دُخِلَتْ البيوت من نواحيها. (ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا)، ويقرأ بالقصر (لَأَتَوْهَا)، فمن قرأ (لَآتَوْهَا) بالمدِّ فالمعنى لأعطوها، أي لَوْ قِيلَ لَهمْ كُونوا على المسلمين مُظْهِرِينَ الفتنةَ لَفَعَلوا ذَلِكَ، (وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا). ومن قرأ (لَأَتَوْهَا) بالقصر، فالمعنى لَقَصدُوها. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18) أي الذين يُعَوقون عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نُصَّارَهُ، وذلك أنهم قالوا لِنُصَّار النبي - صلى الله عليه وسلم -: ما محمد وأصحابه إلا أكلة رَأْس. ولو كانوا لحماً لالْتَهَمَهُمْ أَبُو سفيانَ وأَصْحابُه فخلوهم وَتَعَالَوْا إلَيْنَا. وقوله: (وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا). أي لا يأتون الحرب مع أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا تَعْذِيراً يوهِمُونَهِمْ أَنَّهم مَعَهُمْ. * * * (أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19) " أشِحَّةً " منصوبٌ عَلَى الحَال، المعنى يَأتُونَ الحربَ بُخَلاءَ عَلَيكمْ

(20)

بالظفر والغنيمة فَإذَا جَاءَ الخَوْفُ فهم أَجْبَنُ قَوْمٍ، فإذا جاءت الغنيمة فأشحُّ قَوْمٍ وَأَخْصَمُهُم. (فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ). لأنهم يحضرون على غَيْر نية خَيْرٍ، إلا نية شَر. (فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ). معنى " سَلَقُوكم " خاطبوكم أَشَدَّ مخَاطَبةِ وَأَبْلَغَهَا في الغنيمة، يقال: خَطِيبٌ مِسْلَاق وسَلَّاق إذَا كانَ بَلِيغاً في خُطْبَتِهِ. (أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ). أي خاطبوكم وهم أَشِحَّة عَلَى المالَ والغنيمة. وقوله (أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ). أي هم وإن أظهروا الإِيمانَ ونافقوا فليسوا بمؤمنين. * * * وقوله: (يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (20) أي يحسبون الأحزاب بعدَ انْهِزامهم وذَهَابِهم لم يذهبوا لجُبْنِهِمْ وَخَوفِهِم منهم. (وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ). أي إذا جاءت الجنودُ والأحزابُ ودُّوا أنهم في البادية. * * * وقوله تعالى: (وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22)

(23)

فوصف اللَّهُ حَالَ المنافِقين في حَرْبِ الكافرين وحال المؤمنين في حَرْبِ الكَافِرينَ. فوصف المنافقين بالفشل والجبْنِ والروَغَانِ والمسارعة إلى الفتنةِ والزيادة في الكُفْرِ، ووصف المؤمنين بالثبُوتِ عند الخوف في الإيمان، فقال، (وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22). والوعد أن اللَّه قال لهم: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214). فكذلك لَمَّا ابْتُلِي أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وزُلْزلُوا زلزالاً شَدِيدًا عَلِمُوا أن الجنَّةَ والنصْرَ قَدْ وَجَبَا لَهُمْ. * * * وقوله تعالى: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) المعنى أَنهُم عَاهَدُوا في الإسلام فَأقَامُوا عَلَى عَهْدِهِمْ. وموضع (مَا) نَصْبٌ بِـ (صَدَقُوا). (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ). أي أجله وَلَمْ يُبَدِّلْ. وهو قوله: (وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا). فالمعنى أنَّهُ مات على دينه غيرَ مُبَدِّل. * * * (لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24)

(25)

أي ليجزي الذين صدقوا فِي عَهْدِهم، والمنافقون كذبوا في عهدهم لأنهم أظهروا الإسلام وأَبْطَنُوا الكُفْرَ. وقوله تعالى: (وَيُعَذِبَ المُنَافِقِينَ إنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيهِمْ). أي أَو يَنْقُلَهُمْ من النفاقِ إلى الإيمانِ. * * * وقوله: (وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25) يعنى به هَهُنَا أبا سُفْيَانَ وَأَصْحَابه الأحْزَاب. (لم يَنَالُوا خَيْراً). أي لم يظفروا بالمسلمين وكان ذلك عندهم خيراً فخوطبوا عَلَى استعْمَالِهم. وقوله: (وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) يُعْنَى بِهِ بنو قريظة، ومعنى (ظَاهَرُوهُمْ) عَاوَنُوهم على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقذف اللَّه في قلوبهم الرعب وأَنْزَلَهُمْ على حُكْم سَعْدٍ. وكان سعد حكم فِيهِمْ بأنْ يُقْتَلَ مُقَاتِلهم، وتُسْبَىْ ذَرَارِيهِمْ. * * * (وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27) جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - أرْضَهم وديارَهُمْ وَأَمْوَالَهُم للمهاجرِينَ لأنهم لم يكونوا ذوي عَقَارِ. ومعنى الصيَاصِى كل ما يُمْتَنَعُ بِهِ، والصياصي ههنا الحُصُونُ. وقيل القُصُورُ، والقُصُورُ قد يُتَحَصَّنُ فيهَا. والصَّياصِي قرونِ البقر والظِباء وكل قَرْنٍ صَيْصَية، لأن ذوات القرُون يَتَحَصَّنُ بِقُرونها وتَمْتَنِعُ بِها، وصيصة الديك شوكتهُ لأنه يَتَحَصَّنُ بها أيضاً.

(28)

وقوله: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَكُنَ أَرَدْن شَيئاً من أَمْرِ الدُّنْيَا، فأمر اللَّه رسوله - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَخيّرَ نساءَهُ بين الإقامة مَعَة على طلب ما عند اللَّه، أو التسْريح إنْ أَرَدْنَ الحياةَ الدنيَا وزينتها، فاخترن الآخرة على الدنيا والجنَّة على الزينة. * * * وقوله: (وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29) أي من آثر منكن الآخرة فَأجْره أَجر عَظِيمٌ. * * * وقوله: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32) ولم يقل كواحدة من النساء، لأن أَحَداً نفي عام للمذكر والمؤنث والواحِدِ والجماعة. وقوله: (إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ). أي لا تَقلْن قولاً يجد به مُنَافِقٌ سَبيلاً إلى أن يطمع في مًوَافقتكنَّ له. (وَقُلْنَ قَولاً مَعْرُوفاً). أي قُلْنَ ما يوجبه الدِّين والإسلام بغير خضوعٍ فيه، بل بتصريح وبَيَانٍ. (فَيطْمعَ) بالنصب وهي القِراءَة، وَجَوَابُ (فلا تَخْضَ) (فَيطْمعَ) ويقرأ (فَيطْمِعْ) الذي في قلبه مرض، بتسكين العَيْن، نسق على فلا تَخْضَعْنَ فيطمعْ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)

ويقرأ " وقِرْنَ " - بكسر القاف - فمن قرأ بالفتح فهو من قَرِرْتُ بِالمكَانِ أقَرُّ. فالمعْنَى، واقرَرْن فإذا خُفِفَتْ صارت وَقَرْنَ حذفت الألف لثقل - التضعيف في الراء، وألقيت حركتها على القاف. والأجْوَدُ وَقِرْنَ فِي بُيُوتِكُنَ - بكسر القاف - وهو من الوَقَارِ، تقول: وَقَرَ يَقِرُ في المكان. ويصلح أن يكون من قَرَرْتُ في المكانِ أَقِره فيحذف على أنه من " واقْرِرْنَ " بكسر الراءِ الأولى، والكسر من جهتين، من أنه من الوقار، ومن أنه من القرار جميعاً. * * * وقوله تعالى: (وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى). التبرُّجُ إظْهَارَ الزِينَةِ، وما تُسْتَدْعَى به شهوةُ الرجُلِ. وقيل إنهُن كن يتكسَّرْن في مِشْيَتِهِنَّ، وَيَتَبختَرنَ، وقيل إن الجاهلية الأولى من كان من لدن آدم إلى زمن نوح، وقيل من زمن نوح إلى زمن إدريس. وقيل منذ زمن عيسى إلى زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -. والأشبه أن تكون منذ زمن عيسى إلى زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنهم هم الجاهليةُ المعروفُونَ لأنه روى أنهم كانوا يتخذون البغَايَا - وهن الفواجر يُغْلِلْنَ لَهُمْ. فإن قيل: لم قيل الأولى؟ قيل يقال لكل متقدِّم ومتقدِّمَةٍ أولى وأول، فتأويله أنهم تقدَّمُوا أمَّةَ محمد - صلى الله عليه وسلم -. فهم أولى وهم أول من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (مَنْ يَأْتِ مِنْكنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ).

وتقرأ (مُبَيَّنَةٍ). (يُضَاعَفْ لَهَا العذابُ ضِعْفَين). القراءة يُضَاعَفْ بألِفٍ، وقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَحْدَهُ يُضَعِّفْ، وكلاهما جَيِّدٌ. وقال أَبُو عُبَيْدَة: يعذب ثلاثة أَعْذِبَةٍ، قال: كان عليها أن يعَذَب مَرةً وَاحدَةً، فإذا ضُوعِفَتْ المرة ضِعْفَينِ، صار العذاب ثلاثة أَعْذِبَةٍ. وهذا القول ليس بشيء لأنَّ معنى يضاعف لها العذاب ضعفين يجعل عذاب جرمها - كعذابَيْ جُرْمَيْنِ. والدليل عليه (نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ) فلا يكون أن تعطى على الطاعة أَجْرَين وعلى المَعْصِيَةِ ثلاثة أَعْذِبَةٍ ومعنى ضعف الشيء مِثلُه، لأن ضِعف الشيء الذي يُضْعِفُه بمنزلة مثقال الشيء. ومعنى (يَقْنُتْ) يقيم على الطاعة. (وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا) جاء في التفسير أَنَهُ الجنَّةُ. * * * وقوله: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ). (أَهْلَ الْبَيْتِ) منصوب على المدح، ولو قرئت أهلِ البيتِ - بالخفض - أو قرئت. أهلُ البيت بالرفع لجاز ذلك ولكنَّ القراءَةَ النصبُ. وهو على وجْهَيْنِ: على مَعْنَى أعني أهلَ البَيْتِ. وعلى النداء، على معنى يا أهل البَيْتِ. والرجْسُ في اللغةِ كل مستنكر مسْتَقْذرٍ من مأكول أو عمَلٍ أَوْ فَاحِشَةٍ. وقيل إن أهل البيت ههنا يعنى به نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - وقيل نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - والرجال الذين هم آله. واللغة تدل على أنه للنساء والرجال

(35)

جميعاً لقوله (عَنكم) بالميم، وَيُطَهِّرَكُمْ. ولو كان للنساء لم يجز إلا عَنكُن وَيُطَهِّرَكُنَّ. والدليلُ على هذا قوله: (وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ) حيث أفرد النساء بالخطاب. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35) لما نزل في نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - ما نزل، قال النساء من المُسْلِمَاتِ: فما نزل فينا نحن شيء، فأَعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أن النساء والرجَالَ يجازَوْنَ بِاَعْمَالِهِم المغفرةَ والأجرَ العظيمَ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ). المعنى والحافظين فروجهم والحافظاتها والذاكرين اللَّه كَثِيراً. والذاكِراتِهِ. استغنى عن ذكر الهاء بِمَا تَقدَّمَ ودل على المحذوف، وَمِثْله ونخلعُ ونتركُ من يَفْجُركَ، المعنى ونخلع من يفجُرُكَ ونترُكُهُ. ومثله من الشعر. وكُمْتاً مُدَمَّاةً كأَنَّ مُتُونَها. . . جَرى فَوْقَها واسْتَشْعَرَتْ لون مُذْهَب على رفع لوْنِ. المعنى جرى فوقها لون مذهب واستشعرته. * * * وقوله تعالى: (وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ للَّهِ وَرَسُولِه). بالياء، (وَتَعْمَلْ) بالتاء.

(36)

الأول محمول على اللفظ، وتعمل على المعنى. ومن قرأهما جميعاً بالتاء حمل على المعنى. أراد والتي تقنت منكن للَّهِ ورسوله وتعمل. ومن قرأ الأول بالتاء قبُحَ أن يَقْرأ وَيَعْمَلْ، لأنه قد حمل على المعنى، وأوضح الموصول بأنه مؤنث، فيقبح الحمل على اللفظ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36) الخِيَرَةُ: التخْيِيرُ. ونزلت هذه الآية بسبب زينبَ بنتِ جحْش. وكانت بنت عمَّةِ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - وزيْدِ بن حَارِثَةَ، وكان زيد مولى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وكانت منزلته منه في محبَّتهِ إياه كمنزلة الولد، فخطب رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - زَيْنَبَ ليزوجها من زَيْدٍ، فظنت أنه خطبها لنفسه عليه السلام، فلما علمت أنه يريدها لزيدٍ كرهت ذلك. وأعلم اللَّه - جل وَعَلَا - أنه لا اختيار على ما قضاه اللَّه ورسوله، وزوَّجَها مِنْ زَيْدٍ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37)

(40)

معنى أنعم اللَّه عليه هداه للإسلام، وأنعمت عليه أعتقته من الرق، وكان زيد شَكا إلى النبي عليه السلام أَمْرَ زَيْنَبَ، فأمره بالتمسك بها، وكان عليه السلام يحب التزوج بها إلا أنه عليه السلام آثر ما يحب من الأمر بالمعروف فقال: (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ). (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ). أي تكره مقالة النَّاسِ. (فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا). أي فلما طلَّقها زيد. والوَطَر في اللغة والأرَبُ بمعنًى واحد. قال الخليل: معنى الوطر كل حاجَةٍ يكون لك فيها هِمَّة، فإذا بلغها البالغ قيل قد قضى وطره وَأَرَبَه، أي بَلَغ مُرادَه مِنها. وقوله - عزَّ وجلَّ: (لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا). أي زوجناك زينب وهي امرأةُ زيد الذي قد تبنَّيت به، لئلا يُظَن أَنه من تبنَّى بِرَجُل لم تحِل امرأتُه للمُتَبَنِّي. * * * وقوله تعالى: (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40) أي لم يكن زيد ابنَ محمد - صلى الله عليه وسلم - لم يلده، وقد وُلِدَ لِرَسُولِ اللَّه - صلى الله عليه وسلم -

ذكورٌ إبراهيم والطيب والقاسم والمطهَّر (1)، وإنما تأويله: ما كان يحرم عليه مِمنْ تبنى به ما يحرم على الوالد. والنبي - صلى الله عليه وسلم - أبو المؤمنين في التبجيل والتعظيم. وقرئت: وخاتِمَ النبيينَ وخاتَم النبيين. فمَنْ كَسَرَ التاء فمعناه ختم النبيين، ومن قرأ وخاتَم النبيينَ - بفتحِ التاء - فمعناه آخر النبيين، لَا نَبِى بعده - صلى الله عليه وسلم -. ويجوز: ولكن رسول اللَهِ وخاتمُ النبيين. فمن نصب فالمعنى ولكن كان رَسُولَ اللَّهِ وكان خاتَمَ النبيينَ. ومن رفع فالمعنى ولكن هُوَ خَاتَمُ النبيين. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38)). (سُنَّةَ) منصوب على المصدر، لأن معناه " ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله سَنَّ الله سُنَّةً حسنة وَاسِعَةً لَا حَرج فيها. أي لا ضِيقَ فيها والسُّنَّة الطريقة، والسَنَنُ مِنْ ذَا كلِّه. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ). معناه في النبيينَ الذين قبل محمد - صلى الله عليهم وسلم -. أي سُنَّةَ الله في التَّوْسعة على محمد - صلى الله عليه وسلم - فيما فرض اللَّه له كسُنَّتِهِ في الأنبياء المَاضِين. * * * وقوله تعالى: (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39) " الذين " في موضع خَفْض نعت لقوله (فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ) ويجوز أن يكون رَفْعاً على المدح عَلَى هَمْ (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ). ويجوز أن يكون نصباً على معنى أعني الذين يُبَلِّغُونَ.

_ (1) لم يكن له - صلى الله عليه وسلم - غير ثلاث بنين، وكان عبد الله يلقب بالطيب والطاهر.

(43)

وقوله: عزَّ وجلَّ: (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) صلاة اللَّه على خلقه رَحْمَتُه وهدايته إياهم. * * * وقوله: (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (44) تحية أهل الجنَّةِ سلام، قال الله عزَّ وجلَّ: (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ). * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) أي: شاهداً على أُمَّتِكَ بالِإبْلاَغِ، إبلاع الرسالة، ومبشراً بالجنَّة ومُنذِراً من النَّارِ، وهذا كله منصوب على الحال، أي أَرْسَلْنَاكَ في حال الشهادة والبِشَارَةِ والإنذار. * * * (وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46) أي داعياً إلى توحيد الله وما يُقَرِّبُ منه، وبإذْنِهِ أي بِأمْرِه. (وَسِرَاجًا مُنِيرًا). أي وكتاباً بَيناً، المعنى أرسلناك شاهداً وذَا سراج مُنِير وذا كتاب بَيِّنٍ، وَإنْ شئت كان (وَسِرَاجًا) منصوباً على معنى دَاعِياً إلى اللَّهِ وتالِياً كتاباً بيِّناً. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (48) (وَدَعْ أَذَاهُمْ). معناه دع أذى المنافقين، وتأويل (وَدَعْ أَذَاهُمْ) دَعْهُم لا تجازهِمْ عَلَيْه إلى أن تؤمَرَ فيهم بِأَمْرٍ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49)

(50)

معنى (تَمَسُّوهُنَّ) تقربوهنَّ. (فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا) قال بعضهم: (فَمَتِّعُوهُنَّ) نسخها قوله تعالى (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ). والنصف ينوب عن التمتيع، إلا أن يكون لم يسمِّ لها مهراً، فلها نصف مهر مثلها، وأسقط الله العدة عن التي لم يُدخل بها؛ لأنَّّ العدة في الأصل استبراءٌ. * * * وقوله - عزَّ وجلَّ -: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (50) (أُجُورَهُنَّ) مهورهنَّ. (وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ) وأصل الإملاك في الإماء والعبيد ما يجوز سبيه وفيئه فأما سبي الخبيثة فلا يجوز وطئه ولا ملكه. يقال: هذا سبيُ طيبة وسبيُ خبيثة فسبيُ الطيبة سبيُ من يجوز حربه من أهل الكفر. فأما من كان له عهد فلا يجوز سبيه ولا ملك عبدٍ منه ولا أمَةٍ وقوله - عزَّ وجلَّ -: (وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) وتقرأ (أَنْ وَهَبَتْ) بالفتح. أي: أن وهبت نفسها للنبي - صلى الله عليه وسلم - حلَّت له ومن

(51)

قرأ " أنْ وَهَبَتْ " بالفتح فالمعنى أحَلَلْنَاها لأنْ وَهَبَتْ نفسها. (وخالِصَةً) منصوب على الحال. المعنى إنا أَحْلَلنَا لك هؤلاء. وأحللنا لك من وَهَبَتْ نفسها لك. وإنما قيل للنبي ههنا لأنه لو قيل أن وهبت نفسها لك كان يجوز أن يتوهم أن في الكلام دليلاً أنه يجوز ذلك لغير النبي عليه السلام، كما جاز في قوله: (وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ)، لأن بَنَاتِ العَمِّ وبنات الخال يحللن للناس. وقوله: (قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ). أي إن التزويج لا يَنْعقِد إلا بِوَلِيٍّ وَشَاهدين، وملك اليمين لَا يَكُونَ إلا مِمَنْ يَجُوزُ سَبْيُه. وَقَولُه: (تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (51) ترجي بالهمز وغير الهمز، والهمز أكثر وأَجْوَدُ، ومعنى تُرْجِي تُؤَخِرَ بالهَمْزِ وَغَيرِ الهمز، المعنى واحدٌ، وهذا مما خص اللَّه به النبي عليه السلام فكان له أن يؤخر من أحب من نِسائه ويؤوي إليه من أحب من نسائه وليس ذلك لغيره مِنْ أمَّتِهِ، وله أَنْ يَرُدَّ من أَخَّر إلى فراشه عليه السلام. (وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ). أي إن أردت ممن عزلت أن تُؤْوِيَ إليكَ فلا جناح عليك. (ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ). أي ويرضيْنَ كُلُّهُنَّ) بِمَا آتَيْتَهُنَّمن تقريب وإرجاء ويجوز النصب في (كُلُّهُنَّ) توكيداً للهاء والنونِ.

(52)

وقوله عزَّ وجلَّ: (لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (52) ويقرأ: لا تحل لك النساء - بالتاء، فمن قرأ بالياء فلأن الياء في معنى جمع النساء، والنساء يدل على التأنيث فيستغنى عن تأنيث يحل. ويجوز لا تحل - بالتاء - على معنى لا تحل لك جماعة النساء. وقوله: (وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ). موضع " ما " رفع المعنى لا يحل لك إلا مَا ملكتْ يَمينكَ. جعل " ما " بدلاً مِنَ النَساءِ ويجوز أن يكون موضع " ما " نَصْباً على معنى لا يحل لك النساء أَسْتَثْنِي ما ملكت يمينك. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (53) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ) بضم البَاءِ وقد رُويت عَنْ عَاصِم " بِيوت " بكسر الباء وعن جَمَاعَةٍ من أهل الكوفة. وليس يروي البصريون بِيُوت بكسر الباء، بل يقولون إن الضم بعد الكسر ليس موجوداً في كلام العرب ولا في أشعارِها. والذين كسروا فكأنهم ذهبوا إلى اتباع الياء، والاختيار عند الكوفيين الضَّم في (بيُوت). وقوله: (إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ). في موضع نصب. المعنى إلا بأن يُؤذنَ لَكم، أو لأنْ يؤذَنَ لكم. وقوله: (إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ). (إِنَاهُ) نَضْجُه وبلوغه، يقال أَنَى يأنِي إنَاءً إذا نَضِج وَبَلَغَ. و" غيرَ " منصوبةٌ على الحال، المعنى إلا أن يؤذن لكم غير منتظرين. ولا يجوز الخفض في " غير " لأنها إذا كانت نعتاً للطعام لم يكن بدٌّ من إظهار

(55)

الفاعل لا يجوز إلا غير ناظرين إناه أنتم. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ). ويجوز (فَيَسْتَحي) منكم بياء واحدة، وكذلك قوله: (وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الحَق) ويَسْتَحْي بالتخفيف على استحيَيْتُ واسْتَحَيْتُ، والحذف لثقل الياءين. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحتمل إطَالَتُهُمْ كرماً منه فيصبر على الأذَى في ذلك، فعلم الله من يحضره الأدَبَ فصار أَدَباً لهم ولمن بعدهم. وقوله: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ). أي إذا أردتم أن تخاطبوا أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - في أمر فخاطِبُوهُن من وراء حِجَابٍ، فنزل الأمر بالاستِتَارِ. وقوله: (وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ). أي ما كان لكم أذاه في شيء من الأشياء. (وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا). مَوْضعْ " أنْ " رَفع. المعنى: وَمَا كان لكم أن تنكحوا أزواجه من بعده، وذَلِكَ أنه ذُكِرَ أن رَجُلاً قال: إذَا تُوفِّيَ مُحمدٌ تَزَوَّجْتُ امْرَأَتَهُ فلانةً، فأعلم الله أن ذَلِكَ محرَّمٌ بقوله: (إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا). أي كانَ ذنباً عَظِيماً. وقوله: (لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (55)

(60)

ولم يرد في هذه القِصةِ أَعْمَامُهُنَّ وَلَا أَخْوَالُهُنَّ. فجاء في التفسير أنه لم يذكر العَمّ والخَال، لأنَّ كُل واحد منهما يحل لابنة المرأة، فتحِل لابن عمها وابن خالها. فقيل كُرِهَ ذلك لأنهما يصفانها لأبنائِهِمَا. وهذه الآية نزلت في الحجاب فيمن يحل للمرأَةِ البُرُوزُ لَهُ، فذكر الأب والابْنُ إلى آخر الآية. المعنى لا جناح عليهن في رؤية آبَائِهِن لَهُنَّ، ولم يذكر العم والخالَ لأنهما يجريان مجرى الوالدين في الرؤية. وقد جاء في القرآن تسمية العم أباً في قوله: (قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا)، فَجَعَلَ العمَّ أباً. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) المعنى لنسطنك عليهم. (ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61) (مَلْعُونِينَ) منصوب على الحال، المعنى لا يجاورونك إلَّا وهم ملعونون. وقوله: (أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا). لا يجوز أن يكون " ملعونين " منصوباً بما بعد (أَيْنَمَا)، لا يجوز أن تقولَ: مَلْعُوناً أَيْنَمَا ثقف أخِذَ زَيْدٌ يُضْرَب، لأن ما بعدما حروف الشرط لا يعمل فيما قبلها. * * * وقوله: (سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62) (سُنَّةَ اللَّهِ) مَنْضوبٌ بمعنى قوله أخذوا وَقُتِلُوا، فالمعنى سَنَّ اللَّه

(67)

في الذين ينافقون الأنبياء ويرجفون بِهِمْ أن يُقتلوا حَيْثُما ثقِفُوا. * * * وقوله: (وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) الاختيار " السبيلا " بألف، وأن يوقف عليها، لأن أواخر الآي وفواصلها يجري فيها ما يجري في أَوَاخِر الأبياتِ من الشِعْر. والفَوَاصِل، لأنه خوطب العربُ بما يعقلون في الكلام المؤلفِ فَيُدَلُّ بالوقف في هذه الأشياء وزيادة الحروف فيها، - نحو: الظنونا. والسبيلا، والرسولا - أن الكلام قد تم وانقطع، وأن ما بعده مستأنف. * * * وقوله: (رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68) (وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا) ويقرأ (كثيرًا) ومعناهما قريب. * * * وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69) أي لا تؤذوا النبي - عليه السلام - كما آذى أَصحاب موسى مُوسَى، عليه السلام، فينزلَ بكم ما نزل بهم. وكان أذاهم لموسى فيما جاء في التفسير أَنهم عابُوه بشيء في بدنه فاغتسَل يوماً ووضع ثوبه على حجر فذهب الحجر بثوبه فاتبعه موسى فرآه بنو إسرائيل ولم يروا ذلك العيب الذي آذوه بذكره. (وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا). كفمَة اللَّه تكليماً وبرأه من العيب الذي رموه به بآية معجزة. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)

روي عن ابن عَبَّاس وسَعِيدِ بن جبير أنهما قالا: الأمانة ههنا الفرائض التي افترضها اللَّه على عبادة، وقال ابن عُمَر: عرضت على آدمَ الطاعةُ والمعصيةُ وعرف ثوابَ الطاعة. وعقابَ المعصية. وحقيقة هذه الآية - واللَّه أعلم، وهو موافق للتفسير - أن اللَّه عزَّ وجلَّ ائتمن بني آدم على ما افترضه عليهم من طاعته، وائتمن السَّمَاوَاتِ والأرضَ والجبالَ على طاعته والخضوع له، فأعلمنا الله أنه قال: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11). وأعلمنا أن من الحجارة ما يَهْبِطُ من خشية اللَّه وأن الشمس والقمرَ والنجومَ والملائكةَ وكثيراً من الناس يسجدون للَّهِ. فأعلمنا اللَّه أن السَّمَاوَات والأرض والجبال لم تحتمل الأمانة، أي أَدَّتْها، وكل من خان الأمانة فقد احتملها، وكذلك كل من أَثِمَ فقد احتمل الإثم، قال اللَّه عزَّ جل: (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ). فأَعلم اللَّه أن من باء بالإثم يسمَّى حاملا للإثْمِ. فالسَّمَاوَات والأرض والجبال أَبَيْنَ أن يحملن الأمانة وأدَّينَها. وَأَدَاؤها طاعة اللَّه فيمَا أَمَر به، والعَمَلُ به وترك المَعْصِيَةِ. وحَمَلَها الإنْسانُ، قال الحَسَنُ: الكافر والمنافق حَمَلا الأمانة ولم يطيعا. فهذا المعنى والله أعلم. ومن أطاع من الأنبياء والصديقين والمؤمنين فلا قال كان ظلوماً جَهُولًا، وتصديق ذلك ما يتلو هذه الآية من قوله: (لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73)

سورة سبأ

سُورَةُ سبأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) واللَّهُ المحمُود فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وحمده فِي الآخرة يدل عليه قول أهل الجنة: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ) أي أورثنا أرض الجنةِ. * * * وقوله تعالى: (يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2) أي ما يدخل في الأرض وما يخرج منها. ما يدخل في الأرض من قَطْرٍ وغيره، وما يخرج منها من زرع وغيره. (وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا). ما يَصْعَدُ فِيها، يقال عرج يَعْرج إذا صَعَدَ، والمعارج - الدَّرَجُ - من هذا، ويقال: عَرِج يَعْرِج، إذا صار ذَا عَرَجٍ، وَعَرَجَ يَعْرُج إذَا غَمَزَ من شيء أصابه.

(3)

(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (3) الساعة التي يبعث فيها الخَلَقُ، المعنى أنهم قالوا: لَا نُبْعَثُ. فقال اللَّه تعالى: (قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ). بالخَفْضِ في (عَالِمِ) صفة للَّهِ عزَّ وجلَّ، ويقرأ بالرفع من وجهين. أحدهما الابتداء، ويكون المعنى: عَالِمُ الغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ). ويكون " لَا يَعْزُبُ عَنْهُ " هو خَبَر عالم الغَيْبِ. ويرفع على جهة المدح للَّهِ عزَّ وجلَّ. المعنى هو عالم الغيب ويجوز النصبُ ولم يُقْرأْ به على معنى اذْكُرْ عالمَ الغيب، ويقرأ علَّامُ الغيوب وعلَّامَ الغيبِ جَائزٌ. ويقرأ (لا يعزِب عنه) بِكَسْرِ الزاي، يقال: عَزَب عَنِي يَعْزُبُ ويعْزِبُ إذَا غَابَ. * * * (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) اللام دخَلت جواباً لقوله: (قُلْ بَلَى وَرَبِي لَتَأْتِينكُمْ) للمجازاة أي من أجل المجازاة بالثواب والعقاب. وقوله: (أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ). بيَّن اللَّه أَن جزاءَهم المغفرةُ وهي التغطيةُ على الذنُوب. * * * وقوله: - جل وعلا -: (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5) ويقرأ (مُعاجِزين) وَمُعاجزين في مَعْنَى مُسَابقين، ومن قرأ مُعَجِّزِينَ ْفمعناه أنهم يُعَجِّزوُنَ من آمن بها، ويَكُونُ في معنى مُثبِّطِينَ وهو معنى تعجيزهم من آمن بها.

(6)

وقوله: (أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ). (أَلِيمٍ) بالخفض نعت للزجْزِ، (أليمٌ) نعت للعذاب. * * * وقوله تعالى: (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6) ههنا علماء إليهود الذين آمَنُوا بالنبي عليه السلام، منهم كعبُ الأحبار وعبدُ اللَّه بنُ سلام، أي وَلِيَرى، وموضع " يرى، عطف على قوله: (ليجزي) و (الْحَقَّ) منصوب. خبر ليرى الذي و" هُوَ " ههنا فصل يدل على أن الذي بعدها ليس بنعتٍ، ويسميه الكوفيون العماد. " لا تدخل " هو " عماداً إلا في المعرفة وما أشبهها، وقد بيَّنَّا ذلك فيما مَضَى. والرفع جائز في قوله (هُوَ الْحَقُّ). * * * (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) هذا قول المشركين الذين لا يؤمنون بالبعث، يقول بعضهم لبعض: هل ندلكم على محمد الذي يزعم أنكم مبعوثون بعد أنْ تكونوا عظاماً وتراباً ورفاتاً وفي هذه الآية نظر في العربية لطيف. ونحن نشرحه إن شاء اللَّه. (إِذَا) في موضع نَصْب بِـ (مُزِّقْتُمْ) ولا يمكن أَنْ يَعْمل فيها (جَدِيدٍ) لأن ما بعد (أن) لا يعمل فيما قبلها. والتأويل هل ندلكم على رجل يقول لكم إنكم إذا مزقتم تبعثونَ، ويكون " إذا " بمنزلة " إن " الجزاء، يعمل فيها الذي يليها. قال قيس بن الخطيم:

(9)

إذَا قصُرتْ أسْيافُنا كان وَصْلُها. . . خطانا إلى أعدائنا فنضاربُ المعنى يكون وصلها، الدليل على ذلك جزم " فَنُضَارِبْ ". ويجوز أن يكون العامل في " إذا " مضمراً، يدل عليه (إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) ويكون المعنى هل ندلكم على رجل يُنَبئكُمْ يقول لكم إذا مزقتم بعثتم، إنكم لفي خلق جديد، كما قالوا: (أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَا تُراباً وَعِظَاماً أَئِنَا لَمَبْعُوثُونَ). فإذا يجوز أنْ تكون منصوبة بفعل يدل عليه " إنَا لَمَبْعُوثُونَ " ولا يجوز " أنكُمْ لَفِي خلق جديد " بالفتح، لأن اللام إذا جاءت لم يجز إلا كسر إن (1). * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9) أي ألم يَتَأمَّلُوا ويعْلَمُوا أن الذي خلق السماء والأرض قادر على أن يبعثهم، وقَادِرٌ أن يخسف بِهِمُ الأرْضَ أو يسقط السماء عليهم كِسَفاً. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ). أي إن في ذلك عَلَامة تَدلَّ مَنْ أَنَابَ إلى اللَّه ورجع إليه وتأمَّل ما خلق على أنه قادر على أن يحيي الموتى. * * * وقوله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10)

_ (1) قال السَّمين: قوله: {إِذَا مُزِّقْتُمْ}: «إذا» منصوبٌ بمقدرٍ أي: تُبْعَثون وتُجْزَوْن وقتَ تمزيقكم لدلالةِ {إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} عليه. ولا يجوز أن يكونَ العاملُ «يُنَبِّئكم» لأن التنبئةَ لم تقعْ ذلك الوقتَ. ولا «خَلْقٍ جديدٍ» لأنَّ ما بعد «إنَّ» لا يعمل فيما قبلها. ومَنْ تَوَسَّعَ في الظرف أجازه. هذا إذا جَعَلْنا «إذا» ظرفاً مَحْضاً. فإنْ جَعَلْناه شرطاً كان جوابُها مقدراً أي: تُبْعَثون، وهو العاملُ في «إذا» عند جمهور النحاة. وجَوَّز الزجَّاج والنحاس أن يكون معمولاً ل «مُزِّقْتُمْ». وجعله ابنُ عطية خطأً وإفساداً للمعنى. قال الشيخ: «وليس بخطأ ولا إفسادٍ. وقد اخْتُلف في العامل في» إذا «الشرطية، وبَيَّنَّا في» شرح التسهيل «أنَّ الصحيحَ أنَّ العامَل فيها فعلُ الشرط كأخواتِها من أسماء الشرط». قلت: لكنَّ الجمهورَ على خلافِه. ثم قال الشيخ: «والجملةُ الشرطيةُ يُحتمل أَنْ تكونَ معمولة ل» يُنَبِّئُكم «لأنه في معنى: يقول لكم إذا مُزِّقْتُمْ: تُبْعَثُون. ثم أكَّد ذلك بقوله: {إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ}. ويُحتمل أن يكون {إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ} مُعلِّقاً ل» يُنَبِّئكم «سادًّا مَسَدَّ المفعولين، ولولا اللام لفُتِحَتْ» إنَّ «وعلى هذا فجملةُ الشرطِ اعتراضٌ. وقد منع قومٌ التعليقَ في» أعلم «وبابِها، والصحيحُ جوازُه. قال: حَذارِ فقد نُبِّئْتُ إنكَ لَلَّذيْ. . . سَتُجْزَى بما تَسْعَى فتسعدَ أو تَشْقَى وقرأ زيد بن علي بإبدالِ الهمزةِ ياءً. وعنه» يُنْبِئُكم «من أَنْبأ كأكرم. ومُمَزَّقٌ فيه وجهان، أحدهما: أنه اسمُ مصدرٍ، وهو قياسُ كلِّ ما زاد على الثلاثة أي: يجيءُ مصدرُه وزمانُه ومكانُه على زِنَةِ اسم مفعولِه أي: كلَّ تمزيق. والثاني: أنه ظرفُ مكانٍ. قاله الزمخشري، أي: كلَّ مكانِ تمزيقٍ من القبورِ وبطون الوَحْشِ والطير. ومِنْ مجيءِ مُفَعَّل مجيءَ التفعيلِ قوله: ألَمْ تَعْلَمْ مُسَرَّحِيَ القوافِيْ. . . فلا عِيَّاً بهنَّ ولا اجْتِلابا أي: تَسْريحي. والتَّمْزِيق: التخريقُ والتقطيع. يُقال: ثوب مُمَزَّق ومَمْزوق. ويُقال: مَزَقه فهو مازِقٌ ومَزِقٌ أيضاً. قال: أتاني أنهم مَزِقُون عِرْضِيْ. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وقال الممزق العبدي - وبه سُمِّي المُمَزَّق: فإنْ كنتُ مأكولاً فكن خيرَ آكلٍ. . . وإلاَّ فأدْرِكْني ولَمَّا أُمَزَّقِ أي: ولما أُبْلَ وأُفْنَ. و» جديد «عند البصريين بمعنى فاعِل يقال: جَدَّ الشيءُ فهو جادُّ وجديد، وعند الكوفيين بمعنى مفعول مِنْ جَدَدْتُه أي: قَطَعْتُه. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(11)

وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) المعنى فقلْنا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ، وَتُقْرأ أُوَبِي معه، على معنى عودي في التسبيح معه كلما عاد فيه. ومن قرأ (أَوِّبِي مَعَه) فمعناه رَجعِي مَعَه، يقال آب يؤوب إذَا رَجَع، وكل ومعنى رَجِّعِي مَعَه سَبِّحي معه ورَجِّعي التسبيح معه. وَالطيْرَ - والطَّيْرُ، فالرفع من جهتين. إحداهما أن يكون نسقاً على ما في (أَوِّبِي)، المعنى يَا جِبَالُ رجِّعي التسبيح أنت والطيْرُ، ويجوز أِنِ يكون مرفوعاً عل البَدَل. المعنى: يا جبال ويا أيُهَا الطيرُ (أَوِّبِي مَعَه). والنصْب مِنْ ثَلاثِ جَهاتٍ: أن يكونَ عطفاً على قوله: " ولقد آتينا داود مِنَا فَضْلاً والطيرَ " أي وسَخرْنَا له الطيْرَ. حَكى ذلك أبو عبيدة عن أبي عمرِو بنِ العلاء، ويجوز أن يكون نصباً على النداء. المعنى: يا جبال أوِّبي مَعَهُ والطيْرَ، كأنَّه قال دعونا الجبال والطير، فالطير معطوف على مَوْضِع الجِبَالِ في الأصل، وكل منادى - عند البصريين كلهم - في موضع نصبٍ. وقد شرحنا حال المضموم في النداء، وأن المعرفة مبني عَلَى الضم. ويجوز أن يكون " والطيْرَ " نصب على معنى " مع " كما تقول: قمت وزيداً، أي قمت مع زيدٍ، فالمعنى (أَوِّبِي مَعَه) ومع الطير (1). * * * وقوله عز وجل: (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) أي: جعلناه لَيِّناً. وَأَوَّل مَنْ عَمل الدرُوع دَاودُ، وكان ما يُسْتجنُّ به مِنَْ الحديد إنما كانَ قِطَعَ حَدِيدٍ نحو هذه الجَواشِنَ.

_ (1) قال السَّمين: قوله: «أَوِّبِيْ» العامَّةُ على فتحِ الهمزةِ وتشديدِ الواوِ، أمراً من التَّأْوِيْب وهو التَّرجِيْع. وقيل: التسبيحُ بلغةِ الحبشة. والتضعيفُ يحتملُ أَنْ يكونَ للتكثيرِ. واختار الشيخ أَنْ يكونَ للتعدِّي. قال: «لأنهم فَسَّروه ب رَجِّعي معه التسبيحَ». ولا دليلَ؛ لأنه تفسيرُ معنى. وقرأ ابنُ عباس والحسنُ وقتادة وابن أبي إسحاق «أُوْبي» بضمِّ الهمزةِ وسكونِ الواو أمراً مِنْ آب يَؤُوْبُ أي: ارْجِعي معه بالتسبيح. قوله: «والطيرَ» العامَّةُ على نصبِه وفيه أوجهٌ، أحدها: أنه عطفٌ على محلِّ «جبالُ» لأنَّه منصوبٌ تقديراً. الثاني: أنه مفعولٌ معه. قاله الزجاج. ورُدَّ عليه: بأنَّ قبلَه لفظةَ «معه» ولا يَقْتَضي العاملُ أكثرَ مِنْ مفعولٍ معه واحدٍ، إلاَّ بالبدلِ أو العطفِ لا يُقال: «جاء زيدٌ مع بكرٍ مع عمروٍ». قلت: وخلافُهم في تقضية حالَيْنِ يَقْتضي مجيئَه هنا. الثالث: أنه عطفٌ على «فضْلاً» قاله الكسائيُّ. ولا بُدَّ مِنْ حَذْفِ مضافٍ تقديرُه: آتيناه فضلاً وتسبيحَ الطيرِ. الرابع: أنه منصوبٌ بإضمار فعلٍ أي: وسَخَّرْنا له الطيرَ، قاله أبو عمروٍ. وقرأ السُّلَمِيُّ والأعرج ويعقوب وأبو نوفل وأبو يحيى وعاصم في رواية «والطيرُ» بالرفع. وفيه أوجهٌ: النسقُ على لفظ قوله: «جبالُ». وأُنْشِد قولُه: 3723 ألا يا زيدُ والضَّحاكُ سِيْرا. . . فقد جاوَزْتُما خَمَرَ الطريقِ بالوجهين. وفي عَطْفِ المعرَّفِ بأل على المنادى المضمومِ ثلاثةُ مذاهبَ. الثاني: عطفُه على الضميرِ المستكنِّ في «أوِّبي». وجاز ذلك للفَصْل بالظرفِ. والثالث: الرفعُ على الابتداءِ، والخبرُ مضمرٌ. أي: والجبالُ كذلك أي: مُؤَوَّبَةٌ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

و " أن " ههنا، في تأويل التفسير كأنَّه قيل: وألَنا له الحديد أن أعمل سابغاتٍ، بمعنى قلنا له: اعمل سابِغَاتٍ، ويكون في معنى لأن يعمل سابغات. وتصل إن بلفظ الأمر، ومثل هذا من الكلام أَرْسَلَ إليه أَنْ قُمْ إليَّ، أي قال قم إلى فلانٍ، ويكون بمعنى أرسل إليه بأن يقوم إلى فلانٍ. ومعنى " سَابِغَاتٍ " دروع سابغات فذكر الصفة لأنها تدل على الموصوف، ومعنى السابغ الذي يغطي كل شيء يكون عليه حتى يَفْضُل. (وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ). السَّردُ في اللغة تقدمة شيء إلى شيء تأتي به مُنَسَّقاً بَعْضُه في إثْر بَعْض مُتَتَابِعاً فمنه سَرَدَ فلان الحدِيثَ، وقيل في التفسير: السَّرْدُ السَّمْرُ والسَّتْر والخلق وقيل هو أَنْ لاَ يَجْعَل المِسْمَارَ غليظاً والثقبَ دَقيقاً، ولا يجعلَ المسمارَ دَقِيقاً، والثقبَ واسِعاً فَيتقَلْقَلْ وَيَنْخَلِع وينقصفُ. قَدِّرْ في ذلك أي اجْعَلْهُ عَلَى القصد وقدر الحاجة. والذي جاء في التفسير غَيْرُ خارج عن اللغة لأن السَّمْرَ تقدِيمُكَ طرف الحلقة إلى طرفها الآخر، وزعم سيبويه أن قول العرب: رجل سَرَنْدِيٌّ مشتق من السَّردِ، وذلك أن معناه الجريء، قال: والجرِيء الذي يمضي قُدُماً.

(12)

وتفسير: (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) - جعلناه ليِّناً كالخُيُوط يطاوعه حَتى عَمِلَ الدروعَ. * * * وقوله تعالى: (وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) النصب في الريح هو الوجه وقراءة أكثر القراء، على معنى وسَخَّرْنَا لسلَيمانَ الريح، ويجوز الرفع ولسليمان الريح غدوها شهرٌ. والرفع على مَعْنَى ثبتت له الريح، وهو يؤول في المعنى إلى معنى سخرنا الريح، كما أنك إذا قلت: للَّهِ الحمد فتأويله استقر لله الحمدُ، وهُوَ يرجعُ إلى معنى أحمدُ اللَّه الحمْدَ. وقوله: (غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ). أي غدوها مَسيرةُ شَهْرٍ، وكذلك روَاحُها. وكان سليمان يجلس على سريره هو وأصحابه فتسير بهم الريح بالغداة مسيرة شهر، وتسيرُ بالعَشِي مَسِيرَة شَهْرٍ. (وأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ القِطْرِ). القطر النحَاسُ، وهو الصُّفرُ، فأُذيب مذ ذاك وكان قبلَ سليمانَ لَا يذُوبُ. (وَمِنَ الجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ). موضع " مَنْ " نصب، المعنى سخرنا له من الجن مَنْ يعمَلُ. ويجوز أن يكون موضع " مَنْ " رفعاً. ويكون المعنى فيما أعطيناه من الجنِّ (مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْه بإذْنِ رَبِّه) أي بأمْر رَبِّه. (وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا).

(13)

أي من يعدل. ثم بَيَّن ما كانوا يعملون بين يَدَيْه فقال: (يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13) المحراب الذي يصَلَّى فيه، وأشرف موضع في الدارِ وفي البيت يقال له المحراب. (وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ). أكثر القرَّاء على الوقف بغير يا وكان الأصل الوقفَ بالياء، إلا أن الكسرة تنوب عنها، وكانت بغير ألف ولام الوقف عليها بغير ياء. تقول: هذه جواب، فأدْخِلَت الألف واللام وترك الكلام على ما كان عليه قَبْلَ دخولِهِمَا. والجوابي جمعُ جَابية، والجابية الحوض الكبير قال الأعشى: كجابية السيج العراقي تَفْهَقُ أن يعملون له جفانه كالحياض العظام التي يجمع فيها الماء. (وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ): ثابتات. (اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا). " شكراً " منتصب على وَجْهَيْن: أحدهما اعملوا للشكر، أي اشكروا

(14)

الله على ما آتاكم. ويكون (اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا) على معنى اشكروا شكراً. * * * وقوله تالى: (فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14) المنسأة العصا، وإنما سُمِّيَتْ منسأة لأنها يُنْسَأُ بها (1) ومعنى يُنْسَأُ بها يطرد بها ويؤخر بها، فلما توفي سليمان توفي وهو متكئ عليها - على عصاه - فلم يعلم الجنُّ بموته حتى أكلت الأرضَةُ العصا. حَتَّى خرَّ. (فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ) مَوْتَهُ، المعنى (أن لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الغَيْبَ ما لبثوا فِي الْعَذَابِ المُهِينِ). ْالمعنى لأنهم لو كانوا يعلمون ما غاب عَنْهُم مَا عَمِلُوا مُسخرِين. إِنَّمَا عَمِلُوا وهم يظنون أنه حَيٌّ يقف عَلَى عَمَلِهِمْ. وقال بعضهم تبينت الإنسُ الجِن أن لو كانوا يعلمون الغَيْبَ. ويجوز أن يكون تبينت الجِن أن لو كانوا يعلمون الغَيْبَ، والجن تتبيَّنُ أَنها لا تعلمُ الغَيْبَ، فكانَتْ تُوهِمُ أنها تعلم الغَيْبَ فَتَبَيَّنَتْ أنه قد بأن للناس أنَّها لَا تَعْلَمُ، كما تَقُولُ للذي يدعي عندَكَ الباطِلَ إذا تبينت له: قد بينت أن الذي يقول بَاطِل، وهو لم يزل يعلم ذلك ولكنك أردت أن توبخَهُ وَأَنْ تُعْلِمَهُ أنك قد علمت بطلان قوله. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) ويقرأ " مَسْكِنِهِمْ " بفتح الكاف وكسرها، ويقرأ مَسَاكِنِهم ويقرأ لِسَبَأ

_ (1) قال السَّمين: وَقُرئ «مَنْسَأَتَه» بفتح الميم مع تحقيقِ الهمزةِ، وإبدالِها ألفاً، وحَذْفِها تخفيفاً، و «مِنْسَاْءَتَه» بزنة مِفْعَالَتَه كقولهم: مِيْضَأَة ومِيْضاءَة وكلُّها لغاتٌ. وقرأ ابنُ جُبَيْر «مِنْ سَأَتِه» فَصَل «مِنْ» وجَعَلَها حَرفَ جَرٍّ، وجَعَل «سأَتِه» مجرورةً بها. والسَّأَةُ والسِّئَةُ هنا العصا. وأصلُها يَدُ القوسِ العليا والسفلى يقال: سَاةُ القوسِ مثلُ شاة، وسِئَتُها، فَسُمِّيَتِ العصا بذلك على وجهِ الاستعارة. والمعنى: تأكلُ مِنْ طَرَفِ عصاه. ووجهُ ذلك كما جاء في التفسير: أنه اتَّكأ على عصا خضراءَ مِنْ خَرُّوب، والعصا الخضراءُ متى اتُّكِئ عليها تَصيرُ كالقوسِ في الاعوجاجِ غالباً. وساة فَعَلة، وسِئَة: فِعلة نحو: قِحَة وَقَحة، والمحذوفُ لامُهما. وقال ابن جني: «سَمَّى العَصا ساءة لأنها تَسُوء، فهي فَلَة، والعينُ محذوفةٌ» قلت: وهذا يَقْتضي أَنْ تكون القراءة بهمزةٍ ساكنةٍ، والمنقولُ أن هذه القراءةَ بألفٍ صريحة ولأبي الفتح أَنْ يقولَ: أصلُها الهمزُ، ولكن أُبْدِلَتْ. وقوله: «دابَّةُ الأرضِ» فيه وجهان، أظهرُهما: أنَّ الأرضَ هذه المعروفةُ. والمرادُ بدابَّةِ الأرضِ الأَرَضَةُ دُوَيْبَّةٌ تأكُل الخَشَبَ. الثاني: أن الأرضَ مصدرٌ لقولك: أرَضَتِ الدابةُ الخشبةَ تَأْرِضُها أَرْضاً أي: أكلَتْها. فكأنه قيل: دابَّةٌ الأكل. يُقال: أرَضَتِ الدابَّةُ الخشبةَ تَأْرِضها أَرْضاً فأَرِضَتْ بالكسر تَأْرَض هي بالفتح أرَضاً بالفتح أيضاً نحو: أكَلَت القوادحُ الأسنانَ تأكلُها أكلاً فأَكِلت هي بالكسر تَأْكَلُ أَكَلاً بالفتح. ونحوُه أيضاً: جَدَعْتُ أنفَه جَدْعاً فجَدِع هو جَدَعاً بفتح عين المصدر. وبفتح الراء قرأ ابن عباس والعباس بن الفضل وهي مقويةُ المصدرية في القراءة المشهورة. وقيل: الأرضَ بالفتح ليس مصدراً بل هو جمع أَرَضَة، وعلى هذا يكونُ من باب إضافةِ العامِّ إلى الخاصِّ لأنَّ الدابَّةَ أعمُّ من الأَرَضة وغيرِها من الدوابِّ. قوله: «فلمَّا خَرَّ» الظاهر أنَّ فاعلَه ضميرُ سليمان عليه السلام. وقيل: عائدٌ على الباب لأنَّ الدابَّةَ أكلَتْه فوقع. وقيل: بل أكلَتْ عَتَبَةَ البابِ، وهي الخارَّة. ونُقِل ذلك في التفسير، وينبغي أَنْ لا يَصِحَّ؛ إذ كان يكون التركيبُ خرَّتْ بتاءِ التأنيث. و: 3732. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . أَبْقَل إبْقالَها ضرورةٌ أو نادرٌ. وتأويلُها بمعنى العُوْد أَنْدَرُ منه. قوله: «تَبَيَّنَتْ» العامَّةُ على بنائِه للفاعلِ مسنداً للجنِّ. وفيه تأويلاتٌ، أحدُها: أنه على حَذْفِ مضافٍ تقديرُه: تبيَّن أَمْرُ الجنِّ أي: ظهر وبان. و «تبيَّن» يأتي بمعنى بان لازماً، كقولِه: 3733 تَبَيَّنَ لي أنَّ القَماءَةَ ذِلَّةٌ. . . وأنَّ أَعِزَّاءَ الرجالِ طِيالُها فلمَّا حُذِفَ المضافُ، وأقيم المضافُ إليه مُقامَه، وكان ممَّا يجوز تأنيثُ فعلِه، أُلْحِقَتْ علامةُ التأنيثِ. وقوله: {أَن لَّوْ كَانُواْ} بتأويلِ المصدرِ مرفوعاً بدلاً من الجنِّ. والمعنى: ظهر كَوْنُهم لو عَلِموا الغيبَ لَما لَبِثوا في العذاب أي: ظَهَرَ جَهْلُهُمْ. الثاني: أنَّ «تبيَّن» بمعنى بانَ وظَهَر أيضاً. و «الجنُّ» فاعلٌ. ولا/ حاجةَ إلى حَذْفِ مضاف و {أَن لَّوْ كَانُواْ} بدلٌ كما تقدَّم تحريرُه. والمعنى: ظهر للجن جَهْلُهم للناسِ؛ لأنهم كانوا يُوْهِمُون الناسَ بذلك، كقولك: بان زيدٌ جهلُه. الثالث: أنَّ «تَبَيَّن» هنا متعدٍّ بمعنى أَدْرك وعَلِم، وحينئذٍ يكون المرادُ بالجنِّ ضَعَفَتَهم، وبالضميرِ في «كانوا» كبارَهُمْ ومَرَدَتَهم، و {أَن لَّوْ كَانُواْ} مفعولٌ به، وذلك أنَّ المَرَدَةَ والرؤساءَ من الجنِّ كانوا يُوْهِمون ضعفاءَهم أنهم يَعْلمون الغيبَ. فلمَّا خَرَّ سليمان عليه السلامَ مَيِّتاً، مكثوا بعده عاماً في العملِ، تبيَّنَتِ السَّفَلَةُ من الجنِّ أنَّ الرؤساءَ منهم لو كانوا يعلمون الغيبَ كما ادَّعَوْا ما مكثوا في العذابِ. ومِنْ مجيءِ «تَبَيَّن» متعدِّياً بمعنى أَدْرك قولُه: 3734 أفاطِمُ إنِّي مَيِّتٌ فَتَبَيَّني. . . ولا تَجْزَعي كلُّ الأنامِ يموتُ أي: تَبَيَّني ذلك. وفي كتاب أبي جعفر ما يَقْتضي أنَّ بعضَهم قرأ «الجنَّ» بالنصب، وهي واضحةٌ أي: تبيَّنت الإِنسُ الجنَ. و {أَن لَّوْ كَانُواْ} بدلٌ أيضاً من «الجن». وقرأ ابن عباس ويعقوب «تُبُيِّنَتِ الجنّ» على البناءِ للمفعولِ، وهي مؤيِّدَةٌ لِما نَقَله النحاسُ. وفي الآيةِ قراءاتٌ كثيرةٌ أَضْرَبْتُ عنها لمخالفتِها السَّوادَ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(16)

- بالفتح وترك الصرف - وَلِسَبإٍ. فمن فتح وترك الصرْفَ فلأنه جَعَلَ سَبأ اسم قبيلة، وَمَنْ صرف وكسر ونوَّنَ جعل سبأ اسْماً للرجُل واسماً للحيِّ وكل جائز حَسَن. (آيَةٌ جَنَّتَانِ). (آيَةٌ) رفع اسم كان، وَ (جَنَّتَانِ) رفع على نوعين، على أنه بدَل من آيةٍ وعلى إضمارٍ كأنَّه لما قيل آية، قيل الآية جَنَّتَانِ، والجَنتَانِ البُسْتَانَانِ. فكان لهم بستانان، بستان يَمْنَةً، وبُسْتَان يَسْرَة. (كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ). المعنى قيل لهم: كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ). على معنى هذه بلدة طيبة. (وَرَبٌّ غَفُورٌ) على معنى واللَّه رَبٌّ غَفُورٌ. * * * (فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) المعنى: أعرضوا عن أمر الله. (فَأرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ العَرِم). والعَرِم فيه أقوال قال أَبو عبيدة جمع عَرِمَةٍ، وهي السِّكْرُ والمُسَنَّاة وقيل العَرِمُ اسمُ الوَادِي، وقيل العَرِمُ ههنا اسم الجُرَذ الذي ثقب السِّكْر علَيْهِم، وهو الذي يقال له الخُلْدُ. وقيل: العَرِمُ المطر الشديد، وكانوا في نِعْمةٍ وكانت لهم جِنَان يمنَةً وَيَسْرةً، وكانت المرأة تخرج على رَأسها الزَّبِيلُ فتعمل بيديها وتسير بين ذلك الشجر

(17)

فيسقط في زبيلها ما تحتاج إليه من ثمار ذَلِكَ الشَجَرِ، فلم يَشْكُرُوا. فبعث اللَّه عليهم جُرَذاً، وكان لهُم سِكْر فيه أبوابٌ، يفتحون ما يحتاجون إليه من الماء، فثقب ذلك الجرذ حتى نقب عَلَيْهم فَغَرَّق تينك الجنتين. (وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ). آيْ بِهَاتَيْنِ الجنتَينِ المَوْصُوفتين. (جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ). وأُكْل خَمْطٍ - الضَمُّ والإسكان في الكافِ جَائِزَانِ، ويقرأ ذَوَاتَيْ أكُل خمطٍ وذواتي أُكْل خمْطٍ. ومعنى خمط: يقال الكل نبت قد أَخَذ طَعْماً من مرارة حتى لا يمكن أكله خَمْط. وفي كتاب الخليل الخمطُ شَجَرُ الأرَاكِ وقد جاء في التفسير أَن الخَمْطَ الأراك وأكله ثمَرهُ. قال الله عزَّ وجلَّ: (تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ) (1). * * * (ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17) " ذلك " في موضع نَصْبٍ، المعنى جزيناهم ذلك بكفرهم. (وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ). وتقرأ وهل يُجَازَى، ويجوز وهل وَهَلْ يُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ، وَهَذَا مِما يُساَلُ عَنْهُ. يقال: اللَّه - عَزً وَجَلً - يُجازي الكَفُورَ وغيرَ الكَفُورِ. والمعنى في هذه الآية أن المؤمن تُكَفَرُ عنه السيئَات، والْكَافِرَ يحبطُ عمله فيجازى بكل سوء يعمله قال اللَّه عَزَ وَجَل: (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ)

_ (1) قال السَّمين: قوله: {سَيْلَ العرم}: فيه أوجهٌ، أحدها: أنه من باب إضافةِ الموصوفِ لصفتِه في الأصلِ، إذ الأصلُ: السَّيْلُ العَرِمُ. والعَرِمُ: الشديدُ. وأصله مِنَ العَرامَةِ، وهي الشَّراسَةُ والصعوبةُ. وعَرِمَ فلانٌ فهو عارِمٌ وعَرِمٌ. وعُرامُ الجيش منه. الثاني: أنه من بابِ حَذْفِ الموصوفِ وإقامة صفتِه مُقامه. تقديرُه: فأَرْسَلْنا عليهم سَيْلَ المطرِ العَرِم أو الجُرذ العرم أي الشديد الكثير. الثالث: أنَّ العَرِمَ اسمٌ للبناءِ الذي يُجْعَلُ سَدَّاً. وأُنْشد: 3737 مِنْ سبأ الحاضرينَ مَأْرِبَ إذْ. . . يَبْنُون مِنْ دونِ سَيْلِه العَرِما أي البناء القويُّ. الرابع: أنَّ العَرِمَ اسمٌ للوادي الذي كان فيه الماءُ نفسُه. الخامس: أنه اسمٌ للجُرَذِ وهو الفَأْر. قيل: هو الخُلْدُ. وإنما أُضيفَ إليه لأنه تَسَبَّبَ عنه إذ يُرْوى في التفسيرِ: أنه قَرَضَ السِّكْرَ إلى أن انفتح عليهم فغرِقوا به. وعلى هذه الأقوال الثلاثةِ تكون الإِضافةُ إضافةً صحيحةً مُعَرِّفة نحو: غلام زيد أي: سيل البناء، أو سيل الوادي الفلاني، أو سيلُ الجُرَذِ. وهؤلاء هم الذين ضَرَبَتْ بهم العربُ في المثل للفُرْقةِ فقالوا: «تَفَرَّقوا أَيْدِي سبأ وأيادي سبأ». قوله «» بجنَّتَيْهم جَنَّتَيْن «قد تقدَّم في البقرة أن المجرورَ بالباء هو الخارج، والمنصوبَ هو الداخلُ؛ ولهذا غَلِط مَنْ قال من الفقهاء:» فلو أبدل ضاداً بظاءٍ بَطَلَتْ صلاتُه «بل الصواب أَنْ يُقال: ظاءً بضادٍ. قوله:» أُكُلٍ خَمْطٍ «قرأ أبو عمرو على إضافة» أُكل «غير المضاف إلى» خَمْط «. والباقون بتنوينه غيرَ مضافٍ وقد تقدم في البقرةِ أنَّ ابنَ عامرٍ وأبا عمرو والكوفيين يضمون كاف» أكل «غير المضاف لضمير المؤنثةِ، وأن نافعاً وابن كثير يُسَكِّنونها بتفصيل هناك تقدَّمَ تحريرُه، فيكونُ القرَّاءُ هنا على ثلاثِ مراتبَ، الأولى: لأبي عمروٍ» أُكُلِ خَمْط «بضم كاف» أُكُلٍ «مضافاً ل» خَمْطٍ «. الثانية: لنافعٍ وابن كثير تسكينُ كافِه وتنوينِه. الثالثة: للباقين ضَمُّ كافِه وتنوينه. فَمَنْ أضافَ جَعَلَ» الأكل «بمعنى الجنى والثمر. والخَمْطُ قيل: شجرُ الأَراك. وقيل: كلُّ شجرٍ ذي شَوْكٍ. وقيل: كلُّ نَبْتٍ أَخَذَ طعماً مِنْ مرارة. وقيل: شجرةٌ لها ثَمَرٌ تشبه الخَشْخاشَ لا يُنْتَفَعُ به. قوله: {وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ} معطوفان على» أُكُل «لا على» خَمْط «لأنَّ الخَمْطَ لا أُكُلَ له. وقال مكي:» لَمَّا لم يَجُزْ أَنْ يكونَ الخمطُ نعتاً للأكل؛ لأنَّ الخَمْطَ اسمُ شجرٍ بعينه، ولا بدلاً لأنه ليس الأولَ ولا بعضَه، وكان الجنى والثمرُ من الشجر، أُضيف على تقدير «مِنْ» كقولِك: هذا ثوبُ خَزّ «. ومَنْ نَوَّنَ جَعَلَ خَمْطاً وما بعدَه: إمَّا صفةً لأُكُل. قال الزمخشري: «أو وُصِفَ الأُكُلَ بالخَمْط، كأنه قيل: ذواتَيْ أُكُلٍ بَشِعٍ». قال الشيخُ: «والوصفُ بالأسماءِ لا يَطَّردُ، وإنْ كان قد جاء منه شيءٌ نحو قولهم: مررْتُ بقاع عَرْفَجٍ كلِّه». الثاني: البدلُ مِنْ «أُكُل» قال أبو البقاء: «وجعل خَمْطاً أُكُلاً لمجاوَرَتِه إياه وكونِه سبباً له». إلاَّ أنَّ الفارسيَّ رَدَّ كونَه بدلاً. قال: «لأنَّ الخَمْطَ ليس بالأُكُلِ نفسِه». وقد تقدَّمَ جوابُ أبي البقاء. وأجاب بعضُهم عنه - وهو مُنْتَزَعٌ مِنْ كلام الزمخشري - أنه على حَذْفِ مضافٍ تقديرُه: ذواتَيْ أُكُلٍ أُكُلِ خَمْطٍ. قال: والمحذوفُ هو الأولُ في الحقيقةِ. قلت: وهو حسنٌ في المعنى. الثالث: أنه عطفُ بيانٍ، وجعله أبو عليٍ أحسنَ ما في الباب. قال: «كأنَّه بَيَّنَ أنَّ الأُكُلَ هذه الشجرةُ» إلاَّ أنَّ عَطْفَ البيانِ لا يُجيزه البصريُّون في النكرات إنما يَخُصُّونه بالمعارفِ/. قوله: «قليلٍ» نعتٌ ل «سِدْر». وقيل: نعتٌ ل «أُكل». وقال أبو البقاء: «ويجوز أَنْ يكونَ نعتاً ل» خَمْطٍ وأَثْلٍ وسِدْرٍ «. وقُرِئ» وأَثْلاً وشَيْئاً «بنصبهما عطفاً على جَنَّتَيْن. والأَثْلُ: شجرُ الطَّرْفاءِ، أو ما يُشْبِهها. والسِّدرَ سِدْران: سِدْرٌ له ثمرةٌ عَفْصَةٌ لا تُؤْكَلُ ولا يُنْتَفَعُ بورقِه في الاغتسال وهو الضالُّ، وسِدْرٌ له ثمرٌ يُؤْكَلُ وهو النَّبْقُ، ويُغْتَسُل بورقِه. ومراد الآيةِ: الأولُ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(18)

وقال: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28). فأعلم - جلَّ وعزَّ - أنه يحبط عمل الكافِرِ، وأعْلَمَنا أن الحَسَنَاتِ يذهِبْنَ السيْئَاتِ، وأن المؤمنَ تُكِفَرُ عنه سَيِّئَاتِه حَسَنَاتُه. * * * وقوله تعالى: (وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18) هذا عطف على قوله: (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ) (وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً). فَكانوا لا يَحْتَاجُونَ من وادي سبأ إلى الشام إلى زَادٍ. وقيل القُرَى التي باركنا فيها بَيْتُ المقْدِسِ، وقيل أيضاً الشامُ. فكانت القرى إلى كل هذه المواضِعِ من وادي سبأ متصلة. * * * (وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ). جعلنا مَسِيرَهُمْ بمقدار حيث أرادُوا أَن يقيموا حَلُّوا بقرية آمِنينَ. * * * (فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19) (رَبَّنَا بَعِّدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا) ويقرأ (رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا)، ويقرأ (رَبَّنَا بَعَّدَ بَيْنَ أَسْفَارِنَا)، ويقرأ (رَبَّنَا) - بالنصْبِ - بَعُدَ بَيْن أسفارنا - برفع بَيْن -، ويقرأ بَيْن أسفارنا، ويقرأ رَبُّنا بَاعَدَ بين أسْفَارِنَا (1). (وَظَلَمُوا أنْفُسَهُمْ) فمن قرأ بَعُدَ بَيْنُ أَسْفارنا برفع بيْن، فالمعنى بَعُدَ ما يتصِلُ

_ (1) قال السَّمين: قوله: {رَبَّنَا}: العامَّةُ بالنصبِ على النداء. وابن كثيرٍ وأبو عمروٍ وهشام «بَعِّدْ» بتشديدِ العَيْنِ فعلَ طلبٍ. والباقون «باعِدْ» طلباً أيضاً من المفاعلة بمعنى الثلاثي. وقرأ ابنُ الحنفية وسفيان بن حسين وابن السَّمَيْفع «بَعُدَ» بضم العين فعلاً ماضياً. والفاعلُ المَسِيْرُ أي: بَعُدَ المَسِيْرُ. و «بَيْنَ» ظرفٌ. وسعيد بن أبي الحسن كذلك إلاَّ أنَّه ضَمَّ نونَ «بين» جعله فاعلَ «بَعُدَ»، فأخرجه عن الظرفية كقراءةِ «تَقَطَّع بينكُم» رفعاً. فالمعنى على القراءةِ المتضمِّنةِ للطلبِ يكونُ المعنى: أنهم أَشِرُوا وبَطِرُوا؛ فلذلك طلبوا بُعْدَ الأسفارِ. وعلى القراءة المتضمِّنة للطلبِ يكونُ المعنى: أنهم أَشِرُوا وبَطِرُوا؛ فلذلك طلبوا بُعْدَ الأسفارِ. وعلى القراءة المتضمِّنة للخبرِ الماضي يكونُ شكوى مِنْ بُعْدِ الأسفار التي طلبوها أيضاً. وقرأ جماعةٌ كثيرةٌ منهم ابن عباس وابن الحنفية وعمرو بن فائد «ربُّنا» رفعاً على الابتداءِ، «بَعِّدْ» بتشديد العين فعلاً ماضياً خبرُه. وأبو رجاءٍ والحسنُ ويعقوب كذلك إلاَّ أنه «باعَدَ» بالألف. والمعنى على هذه القراءة: شكوى بُعْدِ أسفارِهم على قُرْبها ودُنُوِّها تَعَنُّتاً منهم. وقُرِئ «بُوعِدَ» مبنياً للمفعول. وإذا نصَبْتَ «بينَ» بعد فعلٍ متعدٍّ مِنْ هذه المادةِ في إحدى هذه القراءاتِ سواءً كان أمراً أم ماضياً فجعله الشيخ منصوباً على المفعول به لا ظرفاً. قال: «ألا ترى إلى قراءةِ مَنْ رفع كيف جَعَلَه اسماً»؟ قلت: إقرارُه على ظرفيَّتِه أَوْلَى، ويكون المفعولُ محذوفاً، تقديره: بَعِّدِ السيرَ بينَ أسفارِنا. ويَدُلُّ على ذلك قراءةُ «بَعُدَ» بضم العين «بينَ» بالنصب، فكما تُضْمِرُ هنا الفاعلَ وهو ضميرُ السَّيْرِ كذلك تُبْقي هنا «بينَ» على بابِها، وتَنْوي السيرَ. وكان هذا أَوْلى؛ لأنَّ حَذْفَ المفعولِ كثيرٌ جداً لا نِزاع فيه، وإخراجُ الظرفِ غير المتصرِّفِ عن ظرفيتِه فيه نزاعٌ كثيرٌ، وتحقيقُ هذا والاعتذارُ عن رفعِ «بينكم» مذكورٌ في الأنعام. وقرأ العامَّةُ «أَسْفارِنا» جمعاً. وابن يعمر «سَفَرِنا» مفرداً. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(20)

بِسَفَرِنَا، ومن قرأ بَعُدَ بين أسْفارنا فالمعنى بَعُدَ ما بين أسفارنا، وَبَعُد سيْرنا بين أَسْفَارِنا، ومن قرأ باعِدْ فعلى وجه المسألَةِ، ويكون المعنى أنهم سئموا الرَّاحَةَ وبطِرُوا النعمَةَ، كما قال قوم موسى: (ادْعُ لَنَا رَبِّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأرْضُ - إلى قوله: (الذي هُوَ أدنى بالَّذِي هُوَ خَير). (وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ). أي فرقناهم في البلاد لأنهم لما أذهب الله بِجَنتَيْهِمْ وغرق مَكانَهُم تبدَّدُوا في البلاد فصارت العَرَبُ تتمثل بِهم في الفرقَةِ فتقول: تفرقوا أيْدِيَ سبَأ، وأيادي سَبَأ قال الشاعِرِ: مِنْ صَادِرٍ أو وَارِدٍ أَيْدي سَبَا. وقال كثير: أيادي سبا يا عز ما كنت بعدكم. . . فلم يحل للعينين بعدك منظر * * * (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) (وَلَقَدْ صَدَقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ) ويقرأ (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ) - برفع إبْلِيسَ ونصب الظن. وصدقه في ظَنَه أَنًهُ ظَن - بهم إذا أغْوَاهم اتبَعوه فوجدهم كذلك فقال: (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ). فمن قال (صَدَّقَ) نَصَبَ الظن لأنه مفعولٌ بِهِ، ومن خَفَّفَ فقال " صَدَق " نصب الظنَّ مصدراً

(21)

على معنى صدق عليهم إبليس ظَنًّا ظَنَّه، وصدق في ظنه. وفيها وجهان آخرانِ، أحدهما ولقد صدق عليهم إبليسُ ظنُّهُ، ظَنه بدل من إبْلِيسَ، كما قال تعالى: (يَسْالُونَكَ عَنِ الشَهْرِ الحَرَامِ قِتَال فِيهِ). ويجوز وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنُّهُ، على معنى صدق ظن إبليسَ باتباعِهم إيَّاهُ وقد قُرِئ بهما. * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21) أي ما كان له عليهم من حجة كما قال: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ). (إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ). أي إلا لنعلم ذلك علمَ وقوعه مِنْهُمْ، وهو الذي يُجَازَوْنَ عَلَيْه. واللَّه يعلم الغيبَ وَيَعْلَمُ مَنْ يؤمن مِمن يَكْفُر قبلَ أَنْ يؤمِنَ المؤمنُ ويكفُرَ الكافِرُ ولكن ذلك لا يُوجِبُ ثواباً وَلَا عقَاباً، إنما يثابون ويعاقبون بما كانوا عَامِلينَ. وقوله: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) يعني أن الذين يزعمون أنهم شركاء الله مِنَ المَلَائكة وَغَيْرِهِمْ لاَ شِرْكَ لهم ولا مُعينَ للَّهِ عزَّ وجلَّ فيما خَلَق. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23) (أَذِنَ لَهُ) بضم الهمزة وفتحها، ويكون المعنى لمني أذَن لَه. أي، لمن أذن الله له أن يشفع، ويجوز إلا لمن أذن أن يُشْفَعَ له فيكون " من "

(24)

للشافعين، ويجوز أَنْ يكونَ للمَشْفُوعَ لَهُمْ. والأجود أن يكون للشافعين، لقوله: (حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ). لأن الذين فزع عن قلوبهم ههنا الملائكةُ، وتقرأ حتى إذَا فَزَّعَ عن قُلُوِبهِمْ - بفتح الفاء - وقرأ الحسن: حَتَّى إذَا فَرَغَ عَنْ قُلُوبِهِمْ - بالراء غيرَ المعجمة وبالغين المعجمة - ومعنى فُزعَ كُشِفَ الفَزَعُ عَنْ قُلُوبِهِمْ وَفَزَّعَ عن قلوبِهِمْ كشفَ الله الفَزَع عن قُلُوبهِمْ، وقراءة الحسن، فُرِّغَ تَرْجع إلى هذا المعنى لأنهما فَرغتْ من الفَزَع. وتفسير هذا أن جبريل عليه السلام كان لِما نزل إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - بالْوَحْي ظنت الملائكة أَنَه نزل لِشيءٍ من أمر الساعَةِ فَتَفَزعَتْ لِذَلِكَ، فلما انكشف عنها الفَزَعُ: (قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ). فسألت لأيَ شيءٍ ينزل جبريل. (قَالُوا الْحَقَّ). أي قالوا قال الحق، ولو قرئت - قَالُوا الْحَقُّ لكان وَجْهاً. يكون المعنى قالوا هو الحق (1). * * * (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) روي في التفسير أن المعنى وإنا لعلى هدى وإنكم لفي ضلال مبين، وهذا في اللغة غير جائز ولكنه في التفسير يُؤول إلى هذا المعنى. إنا لعلى هدى أو في ضلال مبين أو إنكم لعلى هدى أو في ضلال مبين، وإنكم لعلى هدى أو في ضلال مبين. فهذا كما يقول القائل: إذا كانت الحال تدل على أنه صَادق - أَحَدُنا صادق، وأَحَدُنا كاذب، والمعنى أَحَدُنَا صادق أو كاذب. ويؤول معنى الآية إلى إنَا لِمَا أقمنا من البرهان لعلى هدى، وإنكم لفي ضلال مبين.

_ (1) قال السَّمين: قوله: {إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ}: فيه أوجهٌ، أحدُها: أَنَّ اللامَ متعلقةٌ بنفسِ الشفاعة. قال أبو البقاء: «كما تقول: شَفَعْتُ له». الثاني: أَنْ يتعلَّقَ ب «تَنْفَعُ»، قاله أبو البقاء. وفيه نظرٌ: وهو أنه يَلْزَمُ أحدُ أمرَيْن: إمَّا زيادةُ اللامِ في المفعولِ في غيرِ مَوْضِعها، وإمَّا حَذْفُ مفعولِ «تنفع» وكلاهما خلافُ الأصلِ. الثالث: أنه استثناءٌ مفرَّغٌ مِنْ مفعولِ الشفاعة المقدرِ أي: لا تنفع الشفاعةُ لأحدٍ إلاَّ لمَنْ أَذِنَ له. ثم المستثنى منه المقدرُ يجوزُ أن يكون هو المشفوعَ له، وهو الظاهرُ، والشافعُ ليس مذكوراً إنما دَلَّ عليه الفَحْوى. والتقدير: لا تنفُع الشفاعةُ لأحدٍ من المشفوع لهم إلاَّ لمَنْ أَذن تعالى للشافعين أَنْ يَشْفعوا فيه. ويجوز أَنْ يكونَ هو الشافِعَ، والمشفوعُ له ليس مذكوراً تقديرُه: لا تنفعُ الشفاعةُ إلاَّ لشافعٍ أُذِن له أَنْ يَشْفَعَ. وعلى هذا فاللامُ في «له» لامُ التبليغِ لا لامُ العلةِ. الرابع: أنه استثناءٌ مفرَّغٌ أيضاً، لكنْ من الأحوال العامة. تقديرُه: لا تنفعُ الشفاعةُ إلاَّ كائنةً لمَنْ أَذِن له. وقرَّرَه الزمخشري فقال: «تقول:» الشفاعة لزيدٍ «على معنى: أنه الشافعُ كما تقول: الكَرْمُ لزيدٍ، وعلى معنى أنه المشفوعُ له كما تقول: القيامُ لزيدٍ فاحتمل قولُه: {وَلاَ تَنفَعُ الشفاعة عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} أَنْ يكونَ على أحدِ هذين الوجهين أي: لا تنفعُ الشفاعةُ إلاَّ كائنةً لمَنْ أَذِن له من الشافعين ومطلقةً له، أو لا تنفع الشفاعة إلاَّ كائنةً لمَنْ أَذِن له أي: لشفيعِه، أو هي اللامُ الثانية في قولك:» أُذِنَ لزيدٍ لعمروٍ «أي: لأجله فكأنه قيل: إلاَّ لمَنْ وقع الإِذنُ للشفيعِ لأجلِه. وهذا وجهٌ لطيفٌ وهو الوجه». انتهى. فقولُه: «الكَرْم لزيدٍ» يعني: أنَّها ليسَتْ لامَ العلة بل لامُ الاختصاصِ. وقوله: «القيامُ لزيد» يعني أنها لام العلة كما هي في «القيام لزيد». وقوله: «أُذن لزيدٍ لعمروٍ» يعني: أنَّ الأولى للتبليغ، والثانيةَ لامُ العلَّةِ. وقرأ الأخَوان وأبو عمروٍ «أُذِنَ» مبنياً للمفعول، والقائمُ مَقامَ الفاعلِ الجارُّ والمجرورُ. والباقون مبنيّاً للفاعل أي: أَذِنَ اللَّهُ وهو المرادُ في القراءة الأخرى. وقد صَرَّح به في قولِه: {إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ الله} [النجم: 26] {إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن} [النبأ: 38]. قوله: «حتى إذا» هذه غايةٌ لا بُدَّ لَها مِنْ مُغَيَّا. وفيه أوجهٌ، أحدُها: أنه قولُه: {فاتبعوه} [سبأ: 20] على أَنْ يكونَ الضميرُ في عليهم من قولِه: {صَدَّقَ عَلَيْهِمْ} [سبأ: 20] وفي «قلوبِهم» عائداً على جميع الكفار، ويكون التفزيعُ حالةَ مفارقةِ الحياةِ، أو يُجْعَلُ اتِّباعُهم إياه مُسْتصحِباً لهم إلى يوم القيامة مجازاً. والجملةُ مِنْ قوله: «قل ادْعُوا» إلى آخرها معترضةٌ بين الغايةِ والمُغَيَّا. ذكره الشيخ. وهو حسنٌ. والثاني: أنه محذوفٌ. قال ابن عطية: «كأنه قيل: ولا هم شفعاءُ كما تحبون أنتم، بل هم عَبَدَةٌ أو مُسْلمون أي: منقادون. حتى إذا فُزِّع عن قلوبِهم» انتهى. وجعل الضميرَ في «قلوبهم» عائداً على الملائكة. وقَرَّر ذلك، وضَعَّفَ قولَ مَنْ جعله عائداً على الكفار، أو جميعِ العالم وليس هذا مَوْضِعَ تنقيحه. وقوله: «قالوا: ماذا» هو جوابُ «إذا»، وقوله: «قالوا الحقَّ» جوابٌ لقولِه: {مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ}. و «الحقَّ» منصوبٌ ب «قال» مضمرةً أي: قالوا قال ربُّنا الحقَّ. أي: القولَ الحقَّ. إلا أنَّ الشيخَ رَدَّ هذا فقال: «فما قَدَّره ابنُ عطية لا يَصِحُّ لأنَّ ما بعدَ الغايةِ/ مخالِفٌ لِما قبلَها، هم منقادون عَبَدَةٌ دائماً، لا ينفكُّون عن ذلك لا إذا فُزِّع عن قلوبِهم، ولا إذا لم يُفَزَّعْ». الثالث: أنه قولُه: «زَعَمْتُم» أي: زعمتم الكفر إلى غايةِ التفزيع ثم تركْتُمْ ما زعمتم وقلتم قال الحقَّ. وعلى هذا يكونُ في الكلام التفاتٌ مِنْ خطابٍ في قولِه: «زَعَمْتم» إلى الغَيْبة في قوله: «قلوبهم». الرابع: أنه ما فُهِم مِنْ سياقِ الكلامِ. قال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: بأيِّ شيءٍ اتَّصل قولُه: {حتى إِذَا فُزِّعَ} ولأيِّ شيء وقعت» حتى «غايةً؟ قلت: بما فُهِم من هذا الكلامِ مِنْ أَنَّ ثَمَّ انتظاراً للإِذْنِ وتوقُّفاً وتمهُّلاً وفَزَعاً مِن الراجين للشفاعةِ والشفعاءِ هل يُؤْذَنُ لهم، أو لا يُؤْذَن؟ وأنه لا يُطْلَقُ الإِذنُ إلاَّ بَعْد مَلِيٍّ من الزمان وطولٍ من التربُّصِ. ودَلَّ على هذه الحالِ قولُه: [تعالى {رَّبِّ السماوات} إلى قوله: {إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن وَقَالَ صَوَاباً} [النبأ: 37 - 38] فكأنه قيل: يَتَرَبَّصون ويتوقَّفون مَلِيَّاً فَزِعينَ وَهِلين، حتى إذا فُزِّعَ عن قلوبِهم أي: كُشِفَ الفَزَعُ عن قلوبِ الشافعين والمشفوعِ لهم بكلمةٍ يتكلم بها ربُّ العزةِ في إطلاقِ الإِذن، تباشروا بذلك، وسأل بعضُهم بعضاً: ماذا قال ربُّكم قالوا: الحق. أي: القولَ الحقَّ وهو الإِذنُ بالشفاعةِ لِمَنْ ارْتَضَى». وقرأ ابنُ عامر «فَزَّع» مبنياً للفاعل. فإنْ كان الضميرُ في «قلوبهم» للملائكةِ فالفاعلُ في «فَزَّع» ضميرُ اسمِ الله تعالى لتقدُّم ذِكْرِه. وإن كان للكفارِ فالفاعلُ ضميرُ مُغْوِيْهم. كذا قال الشيخ. والظاهر أنه يعودُ على الله مطلقاً. وقرأ الباقون مبنيَّاً للمفعول. والقائمُ مقامَ الفاعلِ الجارُّ بعده. وفَعَّل بالتشديد معناها السَّلْبُ هنا نحو: قَرَّدْتُ البعيرَ أي: أَزَلْتُ قُراده، كذا هنا أي: أزالَ الفَزَعَ عنها. وقرأ الحسن «فُزِعَ» مبنياً للمفعول مخففاً كقولِك: ذُهِب بزيدٍ. والحسن أيضاً وقتادة ومجاهد «فَرَّغَ» مبنياً للفاعل من الفراغ. وعن الحسن أيضاً تخفيفُ الراء. وعنه أيضاً وعن ابنِ عُمَر وقتادة مشددَ الراءِ مبنياً للمفعول. والفَراغُ: الفَناء والمعنى: حتى إذا أَفْنى اللَّهُ الوَجَلَ أو انتفى بنفسِه، أو نُفِي الوَجَلُ والخوفُ عن قلوبهم فلمَّا بُني للمفعولِ قام الجارُّ مَقامَه. وقرأ ابن مسعود وابن عمر «افْرُنْقِعَ» من الافْرِنْقاع. وهو التفرُّقُ. قال الزمخشري: «والكلمةُ مركبةٌ مِنْ حروف المفارقة مع زيادة العين، كما رُكِّب» اقْمَطَرَّ «من حروفِ القَمْطِ مع زيادة الراء». قال الشيخ: «فإنْ عَنَى أنَّ العينَ من حروفِ الزيادة، وكذا الراء، وهو ظاهرُ كلامِه فليس بصحيحٍ؛ لأنَّ العين والراءَ ليسا مِنْ حروف الزيادةِ. وإنْ عنى أنَّ الكلمة فيها حروفُ ما ذُكِر، وزائداً إلى ذلك العينُ والراءُ، والمادةُ فَرْقَعَ وقَمْطَر فهو صحيحٌ» انتهى. وهذه قراءةٌ مخالِفَةٌ للسَّواد، ومع ذلك هي لفظةٌ غريبةٌ ثقيلةُ اللفظِ، نَصَّ أهلُ البيانِ عليها وَمثَّلوا بها. وحَكَوْا عن عيسى بنِ عمر أنه غُشِيَ عليه ذاتَ يومٍ فاجتمع عليه النَّظَّارَةُ فلمَّا أفاق قال: «أراكم تَكَأْكَأْتُمْ عليَّ تَكَأْكُؤَكم على ذي جِنَّةٍ افرَنْقِعوا عني» أي: اجتمعتُمْ عليَّ اجتماعَكم على المجنونِ تَفَرَّقوا عني، فعابَها الناسُ عليه، حيث استعمل مثلَ هذه الألفاظِ الثقيلةِ المستغربةِ. وقرأ ابن أبي عبلة «الحقُّ» بالرفع على أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: قالوا قولُه الحقُّ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(26)

وقوله: (قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) معنى يفتح: يحكم، وكذلك الفتاح: الحاكم. * * * وقوله - جلَّ وعزَّ -: (قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) المعنى ألحقتموهم به، ولكنه حذف لأنه في صلة الذين. وقوله (كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). معنى (كَلَّا) رَدْعٌ وتنبيه، المعنى ارْتَدِعُوا عَنْ هذَا القولِ وَتَنبَّهُوا عَن ضَلاَلِتكُمْ، بل هو اللَّه الواحد الذي ليس كمثله شيء. * * * وقوله - عزَّ وجلَّ -: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28) معنى كافَة الإحاطَةُ في اللغة، والمعنى أرسلناك جامعاً للناس في الإنذار والإبلاغ، فاَرْسَلَ اللَّه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى العرب والعجم، وقال: أَنا سَابِق العَرَبِ إلى الإسلام، وَصُهَيْبٌ سابق الروم وبلال سابق الحبشة وسلمانُ سابق الفرس، أي الرسالة عامة، والسابقون من العجَم هؤلاء. * * * وقوله: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) يعنون لا نؤمن بما أتى به محمد - صلى الله عليه وسلم - ولا بالكتب المتقدِّمَةِ. * * * وقوله: (وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33) (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ). معناه بل مكركم في الليل والنهار. (وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا) أشْبَاهاً. (وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ).

(34)

أَسَروها بينهم. أقبل بعضهم يَلُوم بَعْضاً، ويُعرِّف بعضهم بَعْضاً الندامَةَ. * * (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34) مُتْرَفُوها أُولو التُّرْفَةِ وهم رؤُساؤها وقادة الشَرِّ وَيَتبعُهُمْ السِّفْلَةُ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ (وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37) ولم يقل باللتَين ولا باللذَيْنِ ولا باللاتِي، وكل ذلك جائز، ولكن الذِي في المصحف التِي، والمعنى وما أَمْوَالكم بالتي تقربكم ولا أَوْلَادُكم بالذين يُقَرَبُونكم ولكنه حُذِفَ اختصاراً وإيجَازاً. وقد شرحنا مثل هذا. وقوله (إلا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً). موضع " مَنْ " نصب بالاستثناء على البدل من الكاف والميم. على معنى ما يُقَربُ إلا مَنْ آمَنَ وَعَمِل صَالحاً، أي ما تُقَربُ الأموالُ إلا مَنْ آمن وعمل بها في طاعة اللَّه. (فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا). الضعف ههنا يحتاج إلى تفسير ولا أَعْلَمُ أَحَداً فَسَّرَهُ تفسيراً بيِّناً. وجزاء الضعف ههنا عشر حسنات، تأويله فأولئِكَ لهم جَزاءُ الضعْفِ الذي أَعْلَمْناكم مقدارهُ، وهو قوله: (مَنْ جَاء بالحسنة فله عَشْرُ أمثالها) فيه أوجُهُ في العَرَبيةِ، فالذي قرئ به خفض الضعف بإضَافَةِ الجزاء إليه، ويجوز (فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ) على معنى فأولئك لهم الضعفُ

(44)

جزاءً، المعنى في حال المجازاة، ويجوز فأُولَئِكَ لهم جزاءً الضِعْفَ على نصب الضعْف. المعنى، فأُولَئِكَ لهم أَنْ نُجَازِيَهم الضعْفَ. ويجوز رفع الضعف من جهتين: على معنى فأُولَئِكَ لهم الضعْفُ عَلَىْ أن الضَعْفَ بدل من الجزاء، فيكون مرفوعاً على إضمار هو، فأُولَئِكَ لهم جزاء، كأنَّه قال ما هو فقال: الضِعْفُ. ويجوز النَصْبَ فِي الضعْفِ على مفعول ما لم يسم فاعله على معنى فأولئك لهم أن يجازَوُا الضعْفَ. والقراءة من هذه الأوجه كلها خفض الضعف ورفع جزاء. * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) يُعْنَى به مشركو العَربِ بمكةَ لَمْ يَكونُوا أَصْحابَ كُتُبٍ ولا بعث بنبي قبل محمد - صلى الله عليه وسلم -. * * * (وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45) أي عُشر الذي آتينا من قبلهم من القوة والقُدْرَةِ. (فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ). حذفت الياء، المعنى فكيف كان نكيري، لأنه آخر آيةٍ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46) أي أَعِظُكمْ بأن توحدْوا الله وأَنْ تَقولوا لا إله إلا اللَّهُ مخلصاً وقد قيل واحدة في الطاعة، والطاعة تَتَضَمَّن التوحيدَ والِإخلاصَ.

(47)

المعنى: فأنا أعظكم بهذه الخصلة الواحدة أن تقُومُوا، أي لأنْ تَقومُوا. (أنْ تَقُومُوا للَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى). أي أعظكم بطاعة اللَّه لأن تقومُوا للَّهِ منفردين ومُجْتَمِعين. (ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ). المعنى ثم تتفكروا فتعلموا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما هو بمجنون كما تقولون، والجِنَّة الجُنُونُ. (إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ). أي يُنْذِرُكم أنكم إنْ عَصَيْتُمْ لقيتم عذاباً شديداً. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) معناه ما سألتكم من أجر على الرسالة أُؤَدِّيها إليكم، والقرآن الذي أتيتكم به من عند الله - فهو لكم - وتأويله أني إنما أنذركم وأُبَلِّغُكُمْ الرسالة ولستُ أَجُرُّ إلى نفسي عَرَضاً من أعراض الدنيا. (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ). أي إنما أَطْلُب ثوابَ الله بتأدية الرسَالةِ، والياء في " أجري " مُسَكنَة وَمَفْتُوحةٌ والأجود الفتح لأنها اسم فيبنى على الفتح. * * * وقوله - عزَّ وجلَّ -: (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48) بكسر الغين - ويجوز علامَ الغيوب بالنصْبِ، فمن نَصَب فعَلام الغيوب صِفة لِرَبِّي. المعنى قل إن ربي علامَ الغيوب يقذف بالحق ومن رفع " علامُ الغيوب " فعلى وجهين: أحدهما أن يكون صِفةً على موضع أن ربي، لأن تأويله قل ربي علَّامُ الغيوب يقذف بالحق، وإنَّ مؤكدة.

(49)

ويجوز الرفع على البَدَلِ مِما في تَقذِف، المعنى قل إن ربي يقذف هو بالحق علامُ الغيوبِ، ومعنى يقذف بالحق أي يأتي بالحق ويرمي بالحق، كما قال - جلَّ وعزَّ -: (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ). * * * وقوله: (قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49) أي قل جاء أمر اللَّه الذي هو الحق، وما يُبْدِئ البَاطِلُ. " ما " في موضع نصب على مَعْنى وأَيُّ شيءٍ يبدئ الباطِلُ وأيُّ شيءٍ يُعِيدُ. والأجود أن يكون " ما " نفياً على معنى ما يبدئ الباطل وما يعيد. والباطل. ههنا إبليس. المعنى وما يعيد إبليس وما يفيد، أي لا يخلق ولا يبعث. واللَّه - عزَّ وجلَّ - الخالقُ والباعث. ويجوز أَنْ يكونَ البَاطِلُ صَاحِب البَاطِلِ وهو إبليس. * * * وقوله: (وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (51) هذا في وقت بَعْثِهم. وقوله: (فَلَا فَوْتَ) أي فلا فوت لهم، لا يمكنهم أن يَفُوتُوا. (وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ) في التفسير: من تحت أقدامهم. ويجوز فَلَا فَوْتٌ، ولا أعلم أحداً قَرَأَ بِهَا فإن لم تثبت بها روَايةٌ فَلَا تقرأنَّ بها، فإن القراءة سُنَّةٌ. * * * وقوله: (وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (52) (وَقَالُوا آمَنَّا)، في الوقت الذي قال اللَّه - جل وعلا فيه: (لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ) والتَنَاؤشُ التناوُل، أي فكيف

(53)

لهم أن يتناولوا ما كان مبذولاً لهم وكان قريباً منهم، فكيف يتناولونه حين بَعُدَ عَنْهُمْ. وَمَنْ هَمَزَ فقال: التَنَاؤشُ، فلأن واو التناؤش مَضْمُومَة. وكل واو مضمومة ضمَّتُها لازمة، إن شئت أبْدَلْتَ منها همزة وإن شِئْتَ لم تبدل نحو قولك أَدْوُر وتقاوُم، وإن شئت قلت: أدؤر وتَقَاؤم فهَمَزْتَ، ويجوز أن يكون التنَاؤُش من النَّيِّش، وهي الحركة في إبطاء فالمعنى من أين لهم أن يتحركوا فيما لا حيلة لهم فيه. * * * (وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (53) أي كانوا يرجمون ويرمون بالغيب، وترجيمهم أنهم كانوا يظنون أنهم لا يبعثون. * * * (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54) المعنى من الرجوع إلى الدنيا، والإيمان. (كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ). أي بمن كان مذهبُه مَذْهَبَهُم. (إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ). فقد أعلمنا اللَّه جلَّ وعزَّ أنه يُعذبُ عَلَى الشَّكِّ. وقد قال قوم من الضلَّالِ أن - الشاكِّين لا شيء عليهم، وهذا كفر ونقض للقرآن لأن اللَّه - جلَّ وعزَّ - قال: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27).

سورة الملائكة

سُورَة المَلاَئِكَة (مَكِّيَّة) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) قال ابن عباس رحمه اللَّه: ما كنت أدْري ما فاطرُ السَّمَاوَاتِ والأرْض حتى اختصم إليَّ أعرابيان في بِئْر فقال أحدهما: أنا فَطَرْتُها. أي ابتدأْتُهَا. وقيل فاطر السَّمَاوَات والأرض خالق السَّمَاوَات والأرض. ويجوز فَاطِرُ وفَاطِرَ بالرفع والنصب، والقراءة على خفض فاطر. وكذلك (جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ). معنى أولي أصحاب أجنحة، وثُلَاثَ ورُبَاعَ في موضع خفض. وكذلك مثنى إلا أنه فتح ثُلاثَ ورُبَاعَ لأنه لا يتصرف لِعِلتيْن إحداهما أنه معدول عن ثلاثةٍ ثلاثةٍ وَأَرْبَعِةٍ أَرْبَعةٍ واثنين اثنين، فهذه علة. والعلة الثانيةُ، أَن عُدُولَهُ وَقع فِي حَالِ النَّكِرَةِ قال الشاعر: ولكنَّما أَهلي بوادٍ أَنِيسُه. . . سِباغٌ تَبَغَّى الناسَ مَثْنى ومَوْحَدا * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (يَزِيدُ في الخَلْقِ مَا يَشَاءُ). يعنى في خلق الملائكة، والرسلُ مِنَ الملائِكَةِ جبريل وميكائيلُ وإسرافيلُ ومَلَكُ الموت.

(2)

(مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) (يَفْتَح) في موضع جزم على معنى الشرط والجزاء، وجواب الجزاء (فَلَا مُمْسِكَ لَهَا)، ولو كان فلا ممسك له لجاز لأن " ما " في لفظ تذكيرا، ولكنه لَمَّا جَرَى ذكرُ الرحمة كان فلا ممسك لها أحسن، ألا ترى إلى قوله: (وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ). ومعنى ما يفتح الله أي ما يَأتيهِمْ بِهِ من مَطَرٍ ورِزقٍ فلا يقدر أَحَدٌ أن يُمْسِكَه، وما يُمْسِكْ اللَّهُ من ذلك فلا يقدر قادرٌ أن يرسله. ويجوز - ولا أعلم أحَداً قرأ به - " ما يفتحُ اللَّه للناس من رحمة وَما يُمْسِكُ " برفعهما على معنى الذي يفتحه اللَّه للناس من رحمة فلا ممسك لها. والذي يمسك فلا مرسل له، ويجوز " فلا مُمْسِكٌ لها " بالتنوين، وما يمسك فَلَا مُرْسِلٌ له من بعده، وَلَا أعْلَمُ أَحَداً قرأ بها فلا تقرأنَّ بما لم تثبت فيه رواية وإن جاء في العربية لأن القراءةَ سُنَّةٌ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3) هذا ذكر بعد قوله: (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا) فأكد ذلك بأن جعل السؤال لهم (هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ). (هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرِ اللَّهِ) وقُرئت (هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ) بالرفع، على رفع غير. المعنى هَلْ خَالِقٌ غير اللَّه لأن " مِن " مؤكدة، وقد قرئ بهما جميعاً، غَيْرُ وَغَيْرِ، وفيها وجه آخر يجوز في العربية نصب (غيرَ) " هل مِنْ خالقٍ غَيرَ اللَّهِ يرزقكم " ويكون النصب على الاستثناء، كأنَّه هل من خالق إلا اللَّهُ يرزقكم) (1).

_ (1) قال السَّمين: قوله: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ الله}: قرأ الأخَوان «غيرِ» بالجر نعتاً ل «خالقٍ» على اللفظِ. و «مِنْ خالق» مبتدأٌ مُزادٌ فيه «مِنْ». وفي خبرِه قولان، أحدُهما: هو الجملةُ مِنْ قوله: «يَرْزُقُكم». والثاني: أنه محذوفٌ تقديرُه: لكم ونحوُه، وفي «يَرْزُقكم» على هذا وجهان، أحدهما: أنَّه صفةٌ أيضاً ل «خالق» فيجوزُ أن يُحْكَمَ على موضعِه بالجرِّ اعتباراً باللفظ، وبالرفعِ اعتباراً بالموضع. والثاني: أنه مستأنفٌ. وقرأ الباقون بالرفع. وفيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنه خبرُ المبتدأ. والثاني: أنه صفةٌ ل «خالق» على الموضعِ. والخبرُ: إمَّا محذوفٌ، وإمَّا «يَرْزُقُكم». والثالث: أنه مرفوعٌ باسم الفاعل على جهةِ الفاعليةِ؛ لأنَّ اسمَ الفاعلِ قد اعْتَمَدَ على أداةِ الاستفهام. إلاَّ أنَّ الشيخَ تَوَقَّفَ في مثلِ هذا؛ من حيث إنَّ اسم الفاعل وإن اعتمدَ، إلاَّ أنه لم تُحْفَظْ فيه زيادةُ «مِنْ» قال: «فيُحتاج مثلُه إلى سَماعٍ» ولا يَظهرُ التوقُّف؛ فإنَّ شروط الزيادةِ والعملِ موجودةٌ. وعلى هذا الوجهِ ف «يَرْزُقُكم»: إمَّا صفةٌ أو مستأنَفٌ. وجَعَل الشيخُ استئنافَه أَوْلَى قال: «لانتفاءِ صِدْقِ» خالق «على» غير الله «بخلافِ كونِه صفةً فإنَّ الصفةَ تُقَيِّد، فيكون ثَمَّ خالقٌ غيرُ اللَّهِ لكنه ليس برازق». وقرأ الفضل بن إبراهيم النَّحْوِيُّ «غيرَ» بالنصبِ على الاستثناء. والخبر «يَرزُقكم» أو محذوفٌ و «يَرْزُقكم» مستأنفٌ، أو صفةٌ. وقوله: {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} مستأنفٌ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4)

(فَأنَّى تُؤفكُونَ). أي من أين يقع لكم الإفْكُ والتكذيب بتوحيد اللَّه وإنكار البعث. * * * (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4) هذا تَأسٍّ للنبي - صلى الله عليه وسلم - أعلمه الله أَنه قد كُذِبَت رُسُلْ من قبله، وَأَعْلَمَهُ أنه نَصَرَهُمْ فقال جلَّ وعزَّ، (فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا). ْ (وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ). وتَرْجِعُ الأمُورُ، المعنى الأمْرُ رَاجعْ إلى اللَّه في مجازاة من كذَّبَ، ونُصْرةِ من كُذِّب مِن رُسُلِهِ. * * * وقوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) أي ما وعدكم اللَّه من مجازاة فحق. (فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا). أي وإنْ كان لكم حظ في الدنيا يَغُضُّ مِنْ دِينِكُمْ فلا تؤثروا ذلك الحظَّ. (وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ). والغَرُورُ: الشيطانُ، ويَقْرَأُ الغُرورُ بضم الغَيْنِ، وَهِيَ الأبَاطِيلُ ويجوز أن يكون الغُرور: جمع غَاز وغُرور، مثل قاعد وقُعُود، ويجوز أن يكون جمع غَرٍّ مَصدَرُ غَرَرْتُه غَرًّا. فَأما أَن يكون مصدر غررته غُروراً

(8)

فبعيد. لأن المتعدية لا تكاد تقع مصادِرَهَا عَلى فُعُول، وقد جاء بعضها على فُعُول نحو لزمته لزوماً، وَنَهِكَه المرض نُهُوكاً فيجوز غررته غُروراً على ذلك. * * * وقوله تعالى: (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8) الجواب هَهُنَا عَلَى ضَرْبَيْن: أحدهما يدل عليه (فَلَا تَذْهَب نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ). ويكون المعنى أفمن زين له سوء عمله فأضله اللَّه ذهبت نفسك عَلَيْه حَسْرةً، ويكون " فلا تذهب نفس "ايدل عليه. وقد قرئت " فلا تُذْهبْ نَفْسَكَ " بضم التاء وجزم الباء ونصب النفس. ويجوز أن يكون الجواب محذوفاً ويكون المعنى: أفمن زُيِّن له سوء عمله كمن هداه اللَّه، ويكون دليله (فإن اللَّه يضل من يشاء ويهدي من يشاء). * * * وقوله: (وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9) (فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيْتٍ) و (مَيِّتٍ) (فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ) أَيْ نُنْشِى المعنى مثل ذلك، أي مثل إحْيَاءِ الأرْض، وكذلك بعثكم. * * * (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10) أي من كان يريد بعبادته غير اللَّه العزةَ فلله العزة جميعاً، أي في حال اجْتِمَاعِها، أي يجتمع له في الدنيا والآخرة. ثم بين كيف يَعِز باللَّهِ فقال:

(11)

(إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ). أي إليه يصل الكلم الذي هو توحيد اللَّه، وَهُوَ قَوْلُ لَا إلَه ألا اللَّهُ والعمل الصالِحُ يَرْفَعُه. المعنى إذَا وَحَّدَ اللَّهَ وعجل بِطَاعَتِه ارْتَفَع ذَلِكَ إلى اللَّه، واللَّه - عزَّ - وجل - يرتفع إليه كل شيء ويعلم كل شيء. ولكن المعنى فيه ههنا العمل الصالح هو الذي يرفع ذكر التوحيد حتى يكون مُثَبِّتاً للمُوَحِّدِ حقيقة التوحيد. والضمير في (يرفعه) يجوز أن يكون أَحَدَ ثلاثة أشياء، وذلك قول أهل اللغة جميعاً، فيكون والعمل الصالح يرفع الكلمَ الطيبَ، ويجوز أن يكون والعمل الِصالح يرفعه الكلم الطيب، أي لا يقبل العمل الصالح إلا من مُوَحِّدٍ، والقول الثالث أن يرفعه الله عزَّ وجلَّ. * * * (وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ). المعنى مكرُ الذين يمكرون بالنبي - صلى الله عليه وسلم -. (هُوَ يَبُورُ). أَيْ يَفْسُدُ، وقد بين ما مكرهم في سورة الأنفال، في قوله: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ). ففسد جميع مكرهم فجعل اللَّه كلمة نبيِّه وأوليَائِه العُلْيَا، وَأَيديَهم العَالِيةَ بالنصر والحجة. * * * (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11) (وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ). وقرئت يَنْقُصُ. ويجوز " وَمَا نُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا نَنْقُصُ " بالنون جَمِيعاً ولَكِنهُ لم يقرأ بها فيما بلغني، فلا تقرأنَّ بها. وتأويل الآية أن

(12)

الله جلَّ وعزَّ قد كتب عُمَرَ كُلِ مُعَمَّر وكتب يُعَمَّر كذا وكذا سنةً وكذا وكذا شهرا، وكذا وكذا يَوْماً، وكذا وكذا ساعةً، فكل ما نَقَصَ مِنْ عُمْره من سنة أو شهر أو يوم أو ساعةٍ كتب ذلك حتى يبلغ أَجَلَهُ. * * * (وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) ْالفُرَاتُ المبالِغُ في العُذُوبَةِ. (وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ). الأجاج الشديد المرارة، والأجاج أيضاً الشديدُ الحَرَارَةِ. (وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا). وإنما تستخرج الحلية مِنَ المِلْح دُونَ العذْبِ، إلا أنهما لما كانا مُخْتَلِطَ يْنِ العَذْبُ والمِلْحُ، جاز أن يقال تستخرجون الحلية - وهي اللؤلؤ والمَرْجَانُ وما أشبه ذلك مِنْهُمَا - كما قال: (يخرج منهما اللؤلؤ والمُرجَانُ). (وَتَرَى الفُلْكَ فيه مَوَاخِرَ). المعنى في مواخر تشق الماء. وجاء في التفسير أنها تُصَاعِدُ وَتَنْحَدِرُ في البَحْرِ بريح وَاحِدَةٍ. والفُلْكُ جمع فُلْكٍ - لفظ الواحد كلفظ الجمع لأن فُعْلًا جمع فَعَل نحو أَسَدٍ وَأسْدٍ، وَوَثَنٍ وَوُثْن، فكذلك جَمْعُ فُعْل لأنهما أخْتَانِ في الجمع، تقول: جَبَل وأَجْبَال، وَقُفْل وأقفال، وكذلك أسد وآسَاد. وفُلْك للواحد وفُلْكٌ للجَمْاعَةِ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13)). وهي لُفَافَة النواة، والنقير النقرةُ فِي ظَهْرِ النواةِ، والفتيل الذي في وَسَطِ النَّوَاةِ.

(14)

(إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14) (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ) المعنى يقولون: ما كنتم إيَّانَا تَعْبُدُونَ، فيكفرون بِعِبَادَتِكم إيَّاهُمْ (وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ). وهو اللَّه، لأن ما أَنبأ اللَّه بِه مِما يَكُون فهو وحدَه يخْبُرُهُ، لا يَشْرَكُه فِيه أَحَدٌ. * * * (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18) (وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا) المعنى إن تدع نَفْسٌ مُثقَلة بالذنُوب إلى حِمْلِها، إلى ذُنوبها، لا يُحْمَلْ مِنْ ذنوبها شيء. (وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى). أي ولو كان الذي تدعوه ذا قربى مثل الأب والابن، ومن أشبه هؤلاء. * * * (إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ). فتأويل " تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ " - وهو النبي - صلى الله عليه وسلم - تنذر الخلق أَجْمَعِين، والمعنى. ههنا أَن إنْذَارَك ينفع الذين يخشون رَبَّهُمْ. * * * (وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) هذا مثل ضَربه اللَّه للمؤمنين والكافرين، المعنى لا يستوي الأعمى عن الحق وهو الكافر، والبصير بالحق وهو المؤمِنُ الذي يبصر رَشْدَه. وَلاَ الظلُمَاتُ وَلاَ النُّورُ، الظلمات الضلالات، والنور الهدي (وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ) المعنى لا يستوي أصحاب الحق الذين هم في

(22)

ظِلٍّ من الحَق، ولا أصحاب الباطل الذين هم في حَرُورٍ أي في حَرٍّ دَائمٍ لَيْلاً ونهاراً. والحَرُورُ استيقاد الحرِّ ولفحه بالنهار وبالليل. والسَّمُومُ لا يكون إلَّا بالنَّهَارِ (1). * * * (وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) الأحياء هم المؤمنون، والأموات الكافرونَ، ودليل ذلك قوله (أَمْوَاتٌ غَيرُ أحياءٍ). * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا). قال عمر بن الخطاب - رحمه اللَّه - يرفعُهُ: سابقنا سابق. وَمُقْتَصِدُنَا نَاجٍ، وظالمنا مَغْفُورٌ لَهُ. والآية تدل على أن المؤمنين مغفور لهم، لمقتصدهم الظالِم لِنَفْسِهِ منهم بعد صحة العقد. وقد جاء في التفسير أن قوله: (فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ) الكَافِرُ وهو قول ابن عباس، وَقَد رُوِيَ عنِ الحَسَنِ أَنَه الْمُنَافِقُ. واللفظ يدل على ما قاله عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وَمَا عليه أَكْثَرُ المفسرِينَ، لأن قوله: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ) يدل على أن جملة المصطَفَيْنَ هؤلاء. وقال اللَّه - عزَّ وجلَّ - (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى). * * * (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27)

_ (1) قال السَّمين: قوله: {وَمَا يَسْتَوِي الأعمى والبصير}: استوى من الأفعال التي لا يُكْتَفَى فيها بواحدٍ لو قلت: «استوى زيدٌ» لم يَصِحَّ، فمِنْ ثَمَّ لَزِمَ العطفُ على الفاعلِ أو تعدُّدُه. و «لا» في قوله: «ولا الظلماتُ» إلى آخره مكررةٌ لتأكيدِ النفيِ. وقال ابنُ عطية: «دخولُ» لا «إنما هو على نيةِ التَّكْرارِ، كأنه قال: ولا الظلماتُ والنورُ، ولا النورُ والظلماتُ، فاسْتُغْني بذِكْرِ الأوائل عن الثواني، ودَلَّ مذكورُ الكلامِ على مَتْروكِه». قال الشيخ: «وهذا غير مُحْتاجٍ إليه؛ لأنه إذا نُفِي اسْتواؤُهما أولاً فأيُّ فائدةٍ في نَفْي اسْتوائِهما ثانياً» وهو كلامٌ حَسَنٌ إلاَّ أنَّ الشيخَ هنا قال: «فدخولُ» لا «في النفيِ لتأكيدِ معناه، كقوله: {وَلاَ تَسْتَوِي الحسنة وَلاَ السيئة} [فصلت: 34]. قلت: وللناسِ في هذه الآيةِ قولان، أحدهما: ما ذُكِر. الثاني: أنها غيرُ مؤكِّدة؛ إذ يُراد بالحسنةِ الجنسُ، وكذلك» السيئة «فكلُّ واحدٍ منهما متفاوتٌ في جنسِه؛ لأنَّ الحسناتِ درجاتٌ متفاوتةٌ، وكذلك السَّيئاتُ، وسيأتي لك تحقيقُ هذا إنْ شاء اللَّهُ تعالى. فعلى هذا يمكنُ أَنْ يُقالَ بهذا هنا: وهو أنَّ المرادَ نَفْيُ استواءِ الظلماتِ ونَفْيُ استواءِ جنسِ النورِ، إلاَّ أنَّ هذا غيرُ مُرادً هنا في الظاهر، إذ المرادُ مقابَلَةُ هذه الأجناسِ بعضِها ببعضٍ لا مقابلةُ بعضِ أفرادِ كلِّ جنسٍ على حِدَتِه. ويُرَجِّح هذا الظاهرَ التصريحُ بهذا في قوله أولاً: {وَمَا يَسْتَوِي الأعمى والبصير} حيث لم يُكرِّرْها. وهذا من المواضعِ الحسنةِ المفيدة. والحَرُوْرُ: شدةُ حَرِّ الشمس. وقال الزمخشري:» الحَرورُ السَّمُوم، إلاَّ أنَّ السَّمومَ بالنهارِ، والحَرورَ فيه وفي الليل «. قلت: وهذا مذهبُ الفراءِ وغيرِه. وقيل: السَّمومُ بالنهار، والحَرورُ بالليل خاصةً، نقله ابنُ عطية عَن رؤبةَ. وقال:» ليس بصحيحٍ، بل الصحيحُ ما قاله الفراءُ «. وهذا عجيبٌ منه كيف يَرُدُّ على أصحاب اللسانِ بقولِ مَنْ يأخذُ عنهم؟ وقرأ الكسائي في روايةِ زاذانَ عنه» وَمَا تَسْتَوِي الأحيآء «بالتأنيث على معنى الجماعة. وهذه الأشياءُ جيْءَ بها على سبيلِ الاستعارةِ والتمثيلِ، فالأعمى والبصيرُ، الكافرُ والمؤمنُ، والظلماتُ والنورُ، الكفرُ والإِيمان، والظلُّ والحَرورُ، الحقُّ والباطلُ، والأحياء والأمواتُ، لمَنْ دَخَل في الإِسلامِ لَمَّا ضَرَبَ الأعمى والبصيرَ مَثَلَيْن للكافرِ والمؤمنِ عَقَّبَه بما كلٌّ منها فيه، فالكافرُ في ظلمةٍ، والمؤمنُ في نورٍ؛ لأنَّ البصيرَ وإن كان حديدَ النظر لا بُدَّ له مِنْ ضوءٍ يُبْصِرُ به، وقَدَّم الأعمى لأنَّ البصيرَ فاصلةٌ فَحَسُنَ تأخيره، ولمَّا تقدَّم الأعمى في الذكر ناسَبَ تقديمَ ما هو فيه، فلذلك قُدِّمَتِ الظلمةُ على النور، ولأنَّ النورَ فاصلةٌ، ثم ذَكَر ما لكلٍّ منهما فللمؤمنِ الظلُّ وللكافرِ الحَرورُ، وأخّر الحرورَ لأجلِ الفاصلةِ كما تقدَّم. وقولي «لأجلِ الفاصلةِ» هنا وفي غيرِه من الأماكنِ أحسنُ مِنْ قولِ بَعْضِهم لأجلِ السَّجْع؛ لأنَّ القرآن يُنَزَّه عن ذلِك. وقد منع الجمهورُ/ أَنْ يُقال في القرآن سَجْعٌ، وإنما كرَّر الفعلَ في قوله: {وَمَا يَسْتَوِي الأحيآء} مبالغةً في ذلك؛ لأنَّ المنافاةَ بين الحياةِ والموتِ أتمُّ من المنافاةِ المتقدمةِ، وقدَّم الإِحياءَ لشرفِ الحياةِ ولم يُعِدْ «لا» تأكيداً في قولِه: «الأَعمى والبصير» وكرَّرها في غيره؛ لأنَّ منافاةَ ما بعدَه أتمُّ، فإن الشخصَ الواحدَ قد يكونُ بصيراً ثم يصيرُ أَعْمى، فلا منافاةَ إلاَّ من حيث الوصفُ بخلافِ الظلِّ والحرورِ، والظلماتِ والنور، فإنها متنافيةٌ أبداً، لا يَجْتمع اثنان منها في محلّ، فالمنافاةُ بين الظلِّ والحرورِ وبين الظلمةِ والنورِ دائمةٌ. فإنْ قيل: الحياةُ والموتُ بمنزلةِ العمى والبصرِ، فإنَّ الجسمَ قد يكون مُتَّصفاً بالحياةِ ثم يتصفُ بالموت. فالجواب: أنَّ المنافاةَ بينهما أتمُّ من المنافاةِ بين الأعمى والبصيرِ؛ لأنَّ الأعمى والبصيرَ يشتركان في إدراكات كثيرةٍ، ولا كذلكَ الحيُّ والميت، فالمنافاةُ بينهما أتمُّ، وأفردَ الأعمى والبصيرَ لأنَّه قابلَ الجنسَ بالجنسِ، إذ قد يُوْجد في أفراد العُمْيان ما يُساوي بعضَ أفرادِ البُصَراءِ كأعمى ذكي له بصيرةٌ يُساوي بصيراً بليداً، فالتفاوتُ بين الجنسين مقطوعٌ به لا بين الأفراد. وجَمَعَ الظلماتِ لأنها عبارةٌ عن الكفرِ والضلالِ، وطرقُهما كثيرةٌ متشعبةٌ، ووحَّد النورَ لأنه عبارةٌ عن التوحيدِ وهو واحدٌ، فالتفاوتُ بين كلِّ فردٍ مِنْ أفرادِ الظلمة، وبين هذا الفردِ الواحد. والمعنى: الظلماتُ كلُّها لا تجدُ فيها ما يساوي هذا الواحدَ كذا قيل. وعندي أنه ينبغي أَنْ يُقال: إن هذا الجمعَ لا يُساوي هذا الواحدَ فيُعْلَمُ انتفاءُ مساواةِ فردٍ منه لهذا الواحدِ بطريقِ الأَوْلى، وإنما جَمَع الأحياءَ والأمواتَ لأنَّ التفاوتَ بينهما أكثرُ؛ إذ ما من ميتٍ يُساوي في الإِدراك حيَّاً، فذكَرَ أنَّ الأحياءَ لا يُساوون الأموات سواءً قابَلْتَ الجنسَ بالجنسِ، أم الفردَ بالفرد. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(28)

(وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا). جُدَدٌ جمع جُدَّة، وهي الخطَّةُ والطريقَةُ، قال امرؤ القيس كأَن سَراتَهُ وجُدَّةَ مَتْنِه. . . كنائِنُ يَجْرِي فَوقَهُنَّ دَلِيصُ (1) " جُدَّةَ مَتْنِه " الخطَّة السوداء التي تراها في ظَهْرِ حِمارِ الوَحْشِ. وكل طريقةٍ جادَّة وجُدَّة. (وَغَرَابِيبُ سُودٌ). أي ومن الجبال غَرابِيبُ وهي الحِرَارُ، الجبال التي هيْ ذات صُخورٍ سُودٍ. والغِرْبِيبُ الشديد السوادِ (2). * * * (وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28) المعنى وفيما خلقنا مختلف ألوانه، ومن الناس والدواب والأنْعَامِ كذلك أي كاختلاف الثمرات والجبال. (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ). أي من كان عالماً باللَّهِ اشتدت خشيته له. وجاء في التفسير كفى بخشية الله عِلْماً، وبالاغْتِرَارِ بِاللَّه جَهْلاً. * * * (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) (يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ). أي لَنْ تَفْسُدَ وَلَنْ تَكْسَدَ. * * * (لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) غفور لذنُوبِهم شكور لِحَسنَاتِهِمْ.

_ (1) الدليص - الريق - والجدد جمع جُدَّة - الخطة السوداء في متن الحمار - والسراة أعلى متنه، وهو الخط فوق العمود الفقري منه، والبيت في اللسان (دلص - جدد). (2) قال السَّمين: قوله: {وَمِنَ الجبال جُدَدٌ} العامَّةُ على ضمِّ الجيمِ وفتح الدالِ، جمعَ «جُدَّة» وهي الطريقةُ. قال ابن بحر: «قِطَعٌ، مِنْ قولك: جَدَدْت الشيءَ قَطَعْتُه». وقال أبو الفضل: «هي ما تخالَفَ من الطرائق لونُ ما يليها، ومنه جُدَّة الحِمارِ للخَطِّ الذي في ظهرِه. وقرأ الزهري» جُدُد «بضم الجيم والدال جمع جَدِيْدَة، يقال: جديدة وجُدُد وجَدائد. قال أبو ذُؤيب: 3765. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . جَوْنُ السَّراةِ له جَدائدُ أربعُ نحو: سفينة وسُفُن وسفائِن. وقال أبو الفضل:» جمع جديد بمعنى آثار جديدة واضحة الألوان «. وعنه أيضاً جَدَد بفتحهما. وقد رَدَّ أبو حاتمٍ هذه القراءةَ من حيثُ الأثرُ والمعنى، وقد صَحَّحهما غيرُه. وقال: الجَدَدُ: الطريق الواضح البيِّن، إلاَّ أنه وضع المفرَد موضعَ الجمعِ؛ إذ المرادُ الطرائقُ والخطوطُ. قوله:» مختلِفٌ ألوانُها «» مختلف «صفةٌ ل» جُدَد «أيضاً. و» ألوانُها «فاعلٌ به كما تقدَّم في نظيره. ولا جائزٌ أَنْ يكونَ» مختلفٌ «خبراً مقدماً، و» ألوانُها «مبتدأٌ مؤخرٌ، والجملةُ صفةٌ؛ إذ كان يجبُ أَنْ يُقال: مختلفةٌ لتحمُّلِها ضميرَ المبتدأ. وقوله: /» ألوانُها «يحتمل معنيين، أحدهما: أنَّ البياضَ والحمرةَ يتفاوتان بالشدة والضعفِ فرُبَّ أبيضَ أشدُّ من أبيضَ، وأحمرَ أشدُّ مِنْ أحمرَ، فنفسُ البياضِ مختلفٌ، وكذلك الحمرةُ، فلذلك جَمَع» ألوانها «فيكونُ من باب المُشَكَّل. الثاني: أن الجُدَدَ كلَّها على لونين: بياضٍ وحُمْرَةٍ، فالبياضُ والحُمْرَةُ وإنْ كانا لونَيْن إلاَّ أنهما جُمِعا باعتبارِ مَحالِّهما. وقوله:» وغَرابيبُ سُوْدٌ «فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنه معطوفٌ على» حمرٌ «عَطْفَ ذي لون على ذي لون. الثاني: أنه معطوفٌ على» بِيضٌ «. الثالث: أنه معطوفٌ على» جُدَدٌ «. قال الزمخشري:» معطوف على «بيض» أو على «جُدَد»، كأنه قيل: ومن الجبالِ مخططٌ ذو جُدَد، ومنها ما هو على لونٍ واحد «ثم قال:» ولا بُدَّ من تقديرِ حذفِ المضافِ في قوله: {وَمِنَ الجبال جُدَدٌ} بمعنى: ومن الجبالِ ذو جُدَدٍ بيضٍ وحمرٍ وسُوْدٍ، حتى يَؤُول إلى قولِك: ومن الجبالِ مختلفٌ ألوانها، كما قال: {ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا}. ولم يذكُرْ بعد «غرابيب سود» «مختلفٌ ألوانُها» كما ذكر ذلك لك بعد بيض وحُمْر؛ لأنَّ الغِرْبيبَ هو المبالِغُ في السوادِ، فصار لوناً واحداً غيرَ متفاوتٍ بخلافِ ما تقدَّم «. وغرابيب: جمعُ غِرْبيب وهو الأسودُ المتناهِي في السوادِ فهو تابعٌ للأسودِ كقانٍ وناصعٍ وناضِرٍ ويَقَق، فمِنْ ثَمَّ زعَم بعضُهم أنه في نيةِ التأخير، ومِنْ مذهبِ هؤلاءِ يجوز تقديمُ الصفةِ على موصوفِها، وأنشدوا: 3766 والمُؤْمِن العائذاتِ الطير. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . يريد: والمؤمنِ الطيرَ العائذات، وقولَ الآخر: 3767 وبالطويلِ العُمْرِ عُمْراً حَيْدَراً. . . يريد: وبالعمر الطويل. والبصريُّون لا يَرَوْن ذلك ويُخَرِّجُون هذا وأمثالَه على أنَّ الثاني بدلٌ من الأول ف سود والطير والعمر أبدالٌ مِمَّا قبلها. وخَرَّجه الزمخشريُّ وغيرُه على أنه حَذَفَ الموصوفَ وقامَتْ صفتُه مقامَه، وأن المذكورَ بعد الوصفِ دالٌّ على الموصوفِ. قال الزمخشري:» الغِرْبيبُ: تأكيدٌ للأَسْوَدِ، ومِنْ حَقِّ التوكيدِ أَنْ يَتْبَعَ المؤكِّد كقولك: أصفَرُ فاقِعٌ وأبيضٌ يَقَقٌ. ووجهه: أَنْ يُضْمَرَ المؤكَّدُ قبلَه، فيكون الذي بعده تفسيراً لِما أُضْمِر كقوله: والمؤمِنِ العائذاتِ الطيرِ. . . . . . . . . . . . . . . . . . وإنما يُفْعَلُ ذلك لزيادةِ التوكيدِ حيث يدلُّ على المعنى الواحد من طريقَيْ الإِظهار والإِضمار «يعني فيكونُ الأصلُ: وسودٌ غرابيبُ سودٌ، والمؤمنُ الطيرَ العائذاتِ الطيرَ. قال الشيخ:» وهذا لا يَصِحُّ إلاَّ على مذهب مَنْ يُجَوِّز حَذْفَ المؤكَّد. ومن النحويين مَنْ مَنَعَه وهو اختيارُ ابنِ مالك «. قلت: ليس هذا هو التوكيدَ المختلفَ في حَذْفِ مؤكَّدهِ؛ لأنَّ هذا من باب الصفة والموصوف. ومعنى تسميةِ الزمخشريِّ لها تأكيداً من حيث إنها لا تفيد معنًى زائداً، إنما تفيدُ المبالغةَ والتوكيدَ في ذلك اللونِ، والنَّحْويون قد سَمَّوا الوصفَ إذا لم يُفِدْ غيرَ الأولِ تأكيداً فقالوا: وقد يجيْءُ لمجرِد التوكيد نحو: نعجةٌ واحدةٌ، وإلهين اثنين، والتوكيدُ المختلفُ في حَذْف مؤكَّده، وإنما هو من باب التوكيدِ الصناعي، ومذهب سيبويه جوازُه، أجاز» مررت بأخويك أنفسُهما (أنفسَهما) «بالنصب أو الرفع، على تقدير: أَعْنيهما أنفسَهما، أو هما أنفسُهما فأين هذا من ذاك؟ إلاَّ أنه يُشْكِلُ على الزمخشري هذا المذكورُ بعد» غَرابيب «ونحوِه بالنسبة إلى أنه جعله مُفَسِّراً لذلك المحذوفِ، وهذا إنما عُهِد في الجملِ، لا في المفرداتِ، إلاَّ في باب البدل وعَطف البيانِ فبأيِّ شيءٍ يُسَمِّيه؟ والأَوْلَى فيه أن يُسَمَّى توكيداً لفظياً؛ إذ الأصلُ: سود غرابيب سود. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(33)

(جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) فيها وجهانْ: أحدُهُما يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ ومِنْ لؤلُؤٍ. ويجوز ولؤلُؤاً على مَغْنَى يحلون أساورَ، لأن معنى من أَساوِرَ كمعنى أَسَاورَ. والتفسير على الخفض أكثر، على معنى يحلون فيها من أَسَاوِرَ مِنْ ذَهبٍ ولؤلُؤٍ. وجاء في التفسير أَن ذَلِكَ الذهَبَ في صَفاءِ اللؤلُؤِ، كما قال عزَّ وجلَّ: (قواريرَ قواريرَ من فضة)، أي هي قوارير ولكن بياضها كبياض الفضةِ، والفضة أَصْلُه. وَيَجُوزُ أَنْ يكون يُحَلَّوْنَ مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ، وَيُحَلَّوْنَ من لؤلُؤٍ. ويجوز على مَعْنَى وَيُحَلَّوْنَ لؤلُؤاً. وأساور جمعُ إسْوِرَة وَأَساوِر وَوَاحِدُهَا سِوَار. والأسْوَارُ من أَساوِرَةِ الفُرْس، وَهُوَ الجيِّدُ الرمْي بالسهام. قال الشاعر: وَوَتَّرَ الأَسَاوِرُ القِياسَا. . . صُغْدِيَّةً تَنْتَزِعُ الأَنْفاسَا * * * (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) ويجوز الحُزْن مثل الرُّشْد والرَّشَد، والعُرْبُ والعَرَب، ومعنى أذهب عنا الحَزَنَ أذهب عنا كل ما يُحْزِنُ، من حُزْنٍ في مَقَاسٍ. وحُزْنٍ لِعَذابٍ، أَوْ حُزْنٍ للمَوْتِ، وقد أذهب اللَّه عن أهل الجنةِ كُل حُزْنٍ. * * * (الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35)

(36)

مثل الإقامة، تقول: أقمت بالمكان إقامة ومقامةً ومُقَاماً أي أَحَلَّنا دار الخُلُودِ من فَضْله، أي ذلك بتفضله لا بأعْمَالِنَا. (لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ): أي تَعَب. (وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ). واللغُوب الِإعياء من التعَب. وقد قرأ أبو عبد الرحمن السُّلَّمِي لَغُوب - بفتح اللام - والضمُّ أكثر، ومعنى لَغُوب شيء يَلْغَبُ مِنه، أي لا نتكلف شيئاً نَعْيَا مِنْهُ. * * * (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) (فَيَمُوتُوا) نصب، وعلامة النصب سقوط النون، وهو جواب النفي. والمعنى لا يقضى عليهم الموت فيموتوا. (وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا). أي من عذاب نار جهنَّمَ. (كَذَلِكَ يُجْزَى كُلُّ كَفُورٍ). و (نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ). وفيها وجه ثالث: (كذَلِكَ يَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ)، أي كذلك يجزي اللَّهُ. المعنى مثلَ ذلك الجزاء الذي ذكرنا. ولا أَعْلَم أَحَداً قرأ بها، أعني يجزي بالياء وفتحها. * * * (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37) يستغيثون رَبَّنَا أَخْرِجْنَا. المعنى يقولون: (رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ). المعنى إن تخرجنا نعمَلْ صَالِحاً، فوبَّخَهُمُ اللَّهُ فقال: (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ).

(38)

معناه أَوَ لَمْ نُعَمِّرْكم العُمْرَ الذي يتذكر فيه من تذكر. وجاء في التفسير: لَقَدْ أَعْذَرَ اللَّه إلى عَبْدٍ عَمَّرهُ ستين سنةً. ويقال من الستين إلى السبعين. وقد جاء في التفسير أنه يدخل فيها ابنُ سبعَ عَشْرَةَ سَنة وقد قيل أربعين. (وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ). يعنى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقيل الشيْبُ. والقولُ الأول أن النبي - صلى الله عليه وسلم - النذيرُ أكثرُ التفسير عليه، وقد قيل الأربعين. * * * (إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (38) القراءة الكثيرة بالخفض ويجوز عالمٌ غيبَ السَّمَاوَات على معنى يعلم، وعالمٌ غيبَ على معنى قد علم ذلك. * * * (هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا (39) " خلائف " جمع خليفة، المعنى جَعَلَكُمْ أُمَّةً خلفت مَنْ قبلها - ورأت وشاهدت فيمن - سلف ما ينبغي أن يعتبر به. (فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُه). المعنى فعليه جزاء كفره. (وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا). المقت أشدُّ الإبغاض. (قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا (40) (قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ) معناه قل أَخْبِروني عن شركائكم.

(41)

(مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ). المعنى بأي شيء أوجبتم لهم شركة اللَّه، أبخلق خلقوه من الأرض (أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاواتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً). أي أم أعطيناهم كتاباً بما يدعونه من الشركة. (فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ). ويقرأ (بَيِّنَاتٍ). (بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا). والغرور الأباطِيلُ التي تغُرُّ. ومعنى إن يعد: ما يعد، و (بَعْضُهُمْ) بَدَلٌ مِنَ الظالمين. * * * (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41) معنى يمسك يمنع السماوات والأرض من أن تزولا. ولما قالت النصارى المسيحُ ابن اللَّه وقالت اليَهُودُ عُزَيْرٌ ابنُ اللَّهِ كادت السَّمَاوَات يَتَفَطرْنَ منه، وكادَت الجبال تَزُول، وكادت الأرض تنشق، قال اللَّه: (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89). الثلاث الآيات فأمسكها اللَّه. وقال السماواتِ والأرْضَ؛ لأن الأرْضَ تَدُلُ عَلَى الأرَضِينَ (وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ). يحتمل هذا - واللْه أعلم - وجهين من الجواب: أحدهما زوالهما

(42)

في القيامة قال اللَّه: (وَإذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ) ويحتمل أن يقال إن زالتا وهما لا يزولان. وقوله في هذا الموضع: (إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا). فإن قوماً سألوا فقالوا: لِمَ كان في هذا الموضع ذكرُ الحلم والمَغْفِرَةِ وهذا موضع يدل على القدرة؟ فالجواب في هذا أنه لما أمسك السَّمَاوَات والأرض عند قولهم: (اتَخَذَ الرحْمَنُ وَلَداً). حَلُمَ فلم يعجل لهم بالعقوبة وأمسك السماوات والأرضَ أن تزولا من عظم فِرْيَتِهِمْ. * * * (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42) يعني المشركين، وكانوا حَلَفْوا واجتهدوا (لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ) أي من اليهود والنصارى وغَيرِهِمْ. (فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ). وهو محمد - صلى الله عليه وسلم -. (مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا). إلا أن نفروا عن الحقِّ. * * * (اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43) " استكباراً " نصبٌ، مفعول له. المعنى ما زادهم إلا أَنْ نَفَرُوا للاستكبار. .

اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43) (وَمَكْرَ السَّيِّئِ). أي وَمَكْرَ الشرك. (وَلَا يَحِيقُ) يُحِيطُ. وقرأ حمزَةُ: (وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئْ) - على الوقف، وهذا عند النحويين الحذَّاقِ لَحْنٌ، ولا يجوز، وإنما يجوز مثله في الشعر في الاضطرار قال الشاعر: إذا اعْوَجَجْنَ قلتُ صاحِبْ قَوِّمِ ْوالأصل يا صَاحِبُ قَوِّمِ، ولكنه حذف مُضْطَراً. وكانَّ الضم بعدَ الكَسْرِ والكسر بعدَ الكسر يستثقل. وأنشدوا أيضاً. فاليومَ أَشْرَبْ غيرَ مُسْتَحْقِب. . . إِثْماً من الله ولا وَاغِلِ وهذان البيتان قد أنشدهما جميع النحويين المذكورين وزعموا كلهم أن هذا من الاضطرار في الشعر ولا يجوز مثله في كتاب اللَّه. وأنشدناهما أبو العباس محمد بن يزيد رحمه اللَّه إذا اعْوَجَجْنَ قلتُ صاحِ قَوِّمِ وهذا جيِّدٌ بالغ، وأنشدنا: فاليوم فَاشْرَبْ غَيرَ مستحقب وأما ما يروى عن أبي عمرو بن العلاء في قراءته إلى بَارِئْكُم. فإنما هو أن يختلس الكسر اختلاساً، ولا يَجْزِم بَارِئِكم، وهذا أعني

(44)

جزم بارئكم إنما رواه عن أبي عمرو من لا يضبط النحو كضبط سيبويه والخليل، ورواه سيبويه باختلاس الكسر، كأنَّه تقلَّلَ صَوْته عند الكسرة (1). * * * (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ). معناه فهل ينتظرون إلا مثلَ أيام الَّذِينَ خَلَوْا من قَبْلِهِمْ. والمعنى فهل ينتظرون إلا أن ينزل بهم من العذاب مثلُ الذي نزل بمن قبلهم. * * * (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (44) (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ). المعنى لَيفُوتَه من شيء من أَمْر السماوات ولا مِنْ أَمْرِ الأرْضِ. * * * (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45) قالوا: قال (عَلَى ظَهْرِهَا)، لأن المعنى يُعْلَم أنهُ على ظهر الأرض، وهذا حقيقتُه أَنَهُ قد جرى ذكر الأرض بقوله فيما قَبْلَ هذه الآية يليها قوله: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ) فلذلك جاء على ظهرها. وقوله: (مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ). فيه قولان: فقيل مِن دَابَّةٍ من الإنس والجن وكل ما يعقل. وجاء عن ابن مَسْعُودٍ كادَ الجُعَل يهلكُ في جُحْرِه لذَنْبِ ابن آدم. فهذا يدل على العموم. والذِي جاء أنه يُعْنَى به الإنسُ والجِنُّ كأنَّه أشبه، واللَّهُ أعلم. آخر سورة الملائكة.

_ (1) قال السَّمين: قوله: {استكبارا}: يجوزُ أَنْ يكونَ مفعولاً له أي: لأجل الاستكبارِ، وأَنْ يكونَ بدلاً مِنْ «نُفوراً»، وأنْ يكونَ حالاً أي: حالَ كونِهم مُسْتكبرين. قاله الأخفش. قوله: «ومَكْرَ السَّيِّئِ» فيه وجهان، أظهرُهما: أنه عطفٌ على «استكباراً». والثاني: أنه عطفٌ على «نُفوراً» وهذا مِنْ إضافة الموصوفِ إلى صفتِه في الأصلِ؛ إذ الأصلُ: والمكرَ السَّيِّئ. والبصريون يُؤَوِّلونه على حَذْفِ موصوفٍ/ أي: العمل السِّيِّئ. وقرأ العامَّةُ بخفضِ همزةِ «السَّيِّئ»، وحمزة والأعمش بسكونِها وَصْلاً. وقد تَجَرَّأتِ النحاةُ وغيرُهم على هذه القراءةِ ونسبوها لِلَّحْنِ، ونَزَّهوا الأعمشَ عَنْ أَنْ يكونَ قرأ بها. قالوا: وإنما وَقَفَ مُسَكِّناً، فظُنَّ أنه واصَلَ فَغُلِط عليه. وقد احتجَّ لها قومٌ آخرون: بأنه إجراءٌ للوَصْلِ مُجْرَى الوقفِ، أو أَجْرى المنفصلَ مُجْرى المتصلِ. وحَسَّنه كونُ الكسرةِ على حَرْفٍ ثقيل بعد ياءٍ مشددةٍ مكسورةٍ. وقد تقدَّم أنَّ أبا عمروٍ يَقْرأ «إلى بارِئْكم» بسكونِ الهمزةِ. فهذا أَوْلَى لزيادةِ الثقلِ ههنا. وقد تقدَّمَ هناك أمثلةٌ وشواهدُ فعليك باعتبارِها. ورُوِيَ عن ابنِ كثير «ومَكْرَ السَّأْيِ» بهمزةٍ ساكنةٍ بعد السينِ ثم ياءٍ مكسورةٍ. وخُرِّجَتْ على أنها مقلوبةٌ من السَّيْئِ، والسَّيْئُ مخففٌ من السَّيِّئ كالميْت من الميِّت قال الحماسي: 3773 ولا يَجْزُوْنَ مِنْ حَسَنٍ بسَيْءٍ. . . ولا يَجْزُون مِنْ غِلَظٍ بلِيْنِ وقد كَثُر في قراءتِه القلبُ نحو «ضِئاء» و «تَاْيَسوا» و «لا يَاْيَسُ» كما تقدم تحقيقُه. وقرأ عبد الله: «ومَكْراً سَيِّئاً» بالتنكيرِ، وهو موافِقٌ لما قبلَه. وقُرِئ «ولا يُحيق» بضمِّ الياء، «المكْرَ السَّيِّئَ» بالنصب على أنَّ الفاعلَ ضميرُ الله تعالى أي: لا يُحيط اللَّهُ المكرَ السيِّئَ إلاَّ بأهله. اهـ (الدُّرُّ المصُون). وقال أيضا في سورة البقرة ما نصُّهُ: قوله: «إلى بارِئِكم» متعلِّقٌ ب «تُوبوا» والمشهورُ كَسْرُ الهمزة، لأنها حركةُ إعرابٍ، ورُوي عن أبي عمرو ثلاثةُ أوجهٍ أُخَرَ: الاختلاسُ، وهو الإِتيانُ بحركةٍ خفيَّة، والسكونُ المَحْضُ، وهذه قد طَعَنَ عليها جماعةٌ من النحويين، ونسبوا راويَها إلى الغَلَطِ على أبي عمرو، قال سيبويه: «إنما اختلسَ أبو عمرو فظنَّه الروايَ سَكَّن ولم يَضْبِط»، وقال المبردُ: «لا يجوزُ التسكينُ مع توالي الحركات في حرف الإِعراب في كلامٍ ولا شعر، وقراءةُ أبي عمروٍ لَحْنٌ» وهذه جرأةٌ من المبرِّد وجَهْلٌ بأشعارِ العرب، فإنَّ السكونَ في حركاتِ الإِعراب قد وَرَدَ في الشعرِ كثيراً، ومنه قولُ امرئِ القيس: فاليومَ أشربْ غيرَ مُسْتَحْقِبٍ. . . إثْماً مِن اللهِ ولا واغِلِ فسكَّن «أَشْرَبْ»، وقال جرير: . . . . . . . . . . . . . . . . . . ونهرُ تيرى فما تَعْرِفْكُمُ العَرَبُ وقال أخر: رُحْتِ وفي رِجْلَيْكِ ما فيهما. . . وقد بَدَا هَنْكِ من المِئْزَرِ يريد: هَنُك، وتَعْرِفُكم، فهذه حركاتُ إعرابٍ وقد سُكِّنَتْ، وقد أنشد ابنُ عطية وغيرُه رَدَّاً عليه: قالت سُلَيْمى اشْتَرْ لنا سَويقا. . . وقول الآخر: إذا اعْوَجَجْنَ قلتُ صاحِبْ قَوِّمِ. . . وقول الآخر: إنما شِعْريَ شَهْدٌ. . . قد خُلْطَ بِجُلْجُلانْ ولا يَحْسُن ذلك لأنها حركاتُ بناء، وإنما مَنَع هو ذلك في حركاتِ الإِعراب، وقراءةُ أبي عمرو صحيحةٌ، وذلك أنَّ الهمزةَ حرفٌ ثقيل، ولذلك اجْتُرِئَ عليها بجميع أنواعِ التخفيفِ، فاسْتُثْقِلَتْ عليها الحركةُ فقُدِّرَت، وهذه القراءة تشبه قراءة حمزة - رحمه الله تعالى- في قوله تعالى: {وَمَكْرَ السيىء وَلاَ} فإنه سَكَّن هَمزة «السيء» وَصْلاً، والكلامُ عليهما واحد، والذي حسَّنه هنا أنَّ قبلَ كسرةِ الهمزةِ راءً مكسورةً، والراءُ حرفُ تكريرٍ، فكأنه توالى ثلاثُ كَسَرات فَحَسُنَ التسكينُ، وليت المبردَ اقتدى بسيبويهِ في الاعتذار عن أبي عمرو وفي عَدَم الجرأة عليه: وابنُ الَّلُبونِ إذا ما لُزَّ في قَرَنٍ. . . لم يَسْتَطِعْ صَوْلَةَ البُزْل القَنَاعِيْسِ وجميعُ روايةِ أبي عمروٍ دائرةٌ على التخفيفِ، ولذلك يُدْغِمُ المِثْلَيْن والمتقارِبَيْن ويُسَهِّلُ الهمزة ويُسكِّنُ نحو: {يَنصُرْكُمُ} [آل عمران: 160]، و {يَأْمُرُكُمْ} [البقرة: 67]، و {بِأَعْلَمَ بالشاكرين} [الأنعام: 53] على تفصيلٍ معروفٍ عند القرَّاء. ورُوِيَ [عنه] إبدالُ هذه الهمزةِ الساكنةِ ياءً كأنه لم يَعْتَدَّ بالحركةِ المقدَّرةِ، وبعضُهم يُنْكِرُ ذلك [عنه]، فهذه أربعُ قراءات لأبي عمروٍ. وروى ابنُ عطية عن الزهري «بارِيِِكم» بكسر الياء من غيرِ هَمْزٍ، قال: «ورُوِيَتْ عن نافع»، قلت: من حقَّ هذا القارئ أن يُسَكِّنَ الياءَ لأنَّ الكسرةَ ثقيلةٌ عليهَا، ولا يجوزُ ظهورُها إلا في ضرورةِ شعرٍ كقول أبي طالب: كَذَبْتُمْ وبَيْتِ اللهِ نُبْزِي مُحَمَّداً. . . ولم تَخْتَصِبْ سُمْرُ العَوالِيِّ بالدَّمِ وقرأ قتادة: «فاقْتالوا» وقال: هي من الاستقالةِ، قال ابن جني: «اقتال: افْتَعَل، ويُحَتمل أنْ تكونَ عينُها واواً [كاقتادوا] أو ياءً كاقتاس، والتصريفُ يُضْعِفُ أن تكونَ من الاستقالة»، ولكن قتادةَ ينبغِي أن يُحْسَنَ الظَّنُّ به في أنه لم يُوْرِدْ إلا بحُجَّةٍ عنده. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

سورة يس

سُورَة يس (مَكِّيَّة) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ جاء في التفسير (يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) معناه يا إنسانُ، وجاء يا رجل وجاء يا محمدُ والذي عند أهل العربية أنه بمنزلة " الم " افتتاح السُّورَةِ، وجاء أن معناه القسم، وبعضهم أعنى بعضَ العَرَب تقول: يَاسِنَ وَالقُرْآنَ بفتح النون، وهذا جائز في العربية، والتسكين أجودُ لأنها حروف هجاء. وقد شرحنا أشباه ذلك. فأمَّا من فتح فعلى ضربين: على أن (يس) اسم للسورة حكاية كأنَّه قال: اتْلُ يس، وهو على وزن هابيل وقابيل لا ينصرف، ويجوز أن يكون فتحَ لالتقاء السَّاكنين. * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) معناه أن آياتِه أحكمتْ وَبُيِّنَ فِيهَا الأمْرُ والنهيُ والأمثال وأقاصيص الأمم السالفة. * * * (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) هذا خطاب لمحمد - صلى الله عليه وسلم - وهو جَوابُ القَسَمِ جواب (والقُرْآن إنَّكَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم). أي: على طريق الأنبياء الذين تقدموك. وأحسن ما في العربية أن يكون (لَمِنَ المرسلين) خَبرُ " إنَّ " ويكون (على صراط مستقيم)

(5)

خبراً ثانياً، فالمعنى إنك لمن المرسلين الذين أرسلوا على طريقة مستقيمة. * * * وقوله - عزَّ وجلَّ -: (تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) تقرأ (تَنْزِيلُ) - بالرفع والنصب - فمن نصب فعلى المصدر على معنى نَزَّلَ اللَّه ذلك تنزيلا. ومن رفع فعلى معنى الذي أنزل إليك تنزيلُ العزيز الرحيم. * * * (لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) جاء في التفسير لتنذر قوماً مِثْلَ مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ. وجاء لتنذر قوماً لم يُنْذرْ آبَاؤُهم، فيكونُ (مَا) جُحْداً - وهذا - واللَّه أعلم - الاختيار؛ لأن قوله " فَهُمْ غَافِلُونَ " دليل على معنى لم ينذر آباؤهم وإذا كان قد أنذر آباؤهم فهم غافلون ففيه بُعْدٌ، ولكنه قد جاء في التفسير. ودليل النفي قوله: (وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44). ولوكان آباؤهم منذرين لكانوا مُنْذَرِينَ دَارِسِين لكتب - والله أعلم. * * * (لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7) القول ههنا - واللَّه أعلم - مثل قوله: (وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ). المعنى لقد حق القول على أكثرهم بكفرهم وعِنَادِهم. أَضَلَّهم اللَّه وَمَنَعَهُمْ مِنَ الهُدَى.

(8)

وقوله جلَّ وعزَّ (إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وقرأ ابن عباس وابن مسعود رحمهما اللَّه: إنا جعلنا (فِي أيْمَانِهِمْ). وقرأ بعضهم (في أَيْدِيهم أَغلَالًا)، وهاتان القراءتان لا يجب أن يقرأ بواحدة منهما؛ لأنهما بخلاف المصحف. فالمعنى في قوله في أعناقهم ومن قرأ (في أيمانهم) ومن قرأ (في أيديهم) فمعنى واحد. وذلك أنه لا يكونُ الغُل في العنقُ دُونَ اليَدِ ولا في اليد دون العُنُق، فالمعنى إنا جعلنا في أعْنَاقِهِمْ وفي أيمانهم أَغْلَالًا. (فَهِيَ إلَى الأذْقَانِ). كناية عن الأيدي لَا عن الأعناق، لأن الغُل يجعل اليد تلي الذقْنَ، والعُنُق هو مُقَارِبٌ للذقَن، لَا يجعَلُ الغُلُّ العُنَقَ إلى الذقَنِ. وقوله: (فَهُمْ مُقْمَحُونَ). المُقْمَحُ " الرافع رأسِه الغَاضُّ بَصرِه، وقيل للكانونين شَهْرَا قِمَاح لأن الِإبل إذَا وَرَدَتْ الماءَ ترفع رُءوسَها لِشدةِ بَرْدِه، ولذا قيل شهرا قِمَاح، وإنما ذكرت الأعناق ولم تذكر الأيدي إيجازاً واختصاراً لأن الغل يتضمَّنُ العُنُقَ واليَدَ. ومن قرأ (في أيمانهم) فهو أيضاً يدل على العُنُق. ومثل هذا قول المُثَقَّب: فما أَدْرِي إذا يَمَّمْتُ أَرْضاً. . . أُرِيدُ الخَيْرَ أَيُّهما يَلِيني؟ أَأَلخَيْر الذي أنا أَبْتَغيهِ. . . أمِ الشَّر الذي هو يَبْتَغِيني

(9)

وإنما ذكر الخير وحده، ثم قال أَيُّهما يليني، لأن قد علم أَنً الإنسان الخيرُ والشر مُعرَّضَانِ له، لا يدري إذا أَمَّ أَرْضاً أَيَلْقاه هذا أم هذا، ومثله من كتاب اللَّه: (سَرَابِيل تَقِيكمُ الْحَرَّ)، ولم يذكر البرد. لأن ما وَقَى هذا وَقَى هذا. * * * (وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9) (سَدًّا) و (سُدًّا) - بالفتح والضمِ - ومعناهما واحدٌ. وقد قيل: السد فعل الإنْسَانِ والسُّد خلقة المسدود. وفيه وجهان: أحدهما قد جاء في التفسير، وهو أَن قوماً أرادوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - سوءاً فحال اللَّه بينهم وبين ذلك فجعلوا بمنزلة من هذه حاله، فجعلوا بمنزلة من غُلَّتْ يمينه وسُدَّ طريقه من بين يديه ومن خَلْفِهِ وَجُعِلَ على بَصَرِهِ غِشَاوة، وهو معنى (فَأغْشَيْنَاهُمْ). . ويقرأ فَأعْشَيْنَاهُمْ بالعَيْن غير معجمة، فحال اللَّه بينهم وبين رسوله وكان في هؤلاء أبو جهل فيما يُرْوَى، ويجوز أن يكون وصَفَ إضْلاَلَهُم فقال: (إنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالاً فَهِيَ إلَى الأذْقَانِ)، أي أضللناهم فأمسكنا أيديهم عن النفقة في سبيل اللَّه والسعيِ فيما يقرب إلى اللَّهِ (وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا)، كما قال: (خَتَمَ اللَّه عَلَى قُلُوِبهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ) الآية. والدليل على هذا قوله: (وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤمِنُونَ)، لأن من أضله الله هذا الإضلال لم ينفعه الِإنذار. * * * (إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11)

(12)

أي من استمع القران واتبعه. (وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ). أي خاف الله من حيث لا يراه أحد. (فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ). المعنى من اتبع الذكر وخشي الرحمن فبشره بمغفرةٍ وَأَجْرٍ كريم. المغفرة هى العفو عن ذنوبه، وأجر كريم بالجنة. * * * (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12) ما أسلفوا من أعْمَالِهم، ونكتب آثارهم أي من سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً كتِبَ له ثوابها، ومن سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً كتبَ عَليه عقابها. وقد قيل: (وتُكتَبُ آثارُهم) أي خطَاهمْ، والأول أكثر وأبْيَن. * * * (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) (مَثَلًا) مفعول منصوب به، معنى قول الناس: اضرب له مثلًا أي اذكر له مثلاً، ويقال: عندي من هذا الضرب شيء كثير، أي مِنْ هذَا المِثَال وتقول: هذه الأشياء على ضرب واحد أي عَلَى مِثال واحدٍ. فيعني اضرب لهم مَثَلًا: مثل لهم مَثَلًا. وقوله: (أصْحَابَ القَرْيَةِ). أي خبر أصحاب القرية. إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) (إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ).

(18)

جاء في التفسير أنهم أهل إنطاكية، وجه إليهم عيسى اثنين فَكَذبُوهُمَا قال: (فَعَزَزْنَا بِثَالِث). ويقرأ فَعَزَزْنا - بالتشديد والتخفيف - ومعنى فعززنا فقويْنَا وشدَّدْنَا الرسالة بثالث أي برسول ثالث: (فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ) إلى - قوله (الْبَلَاغُ الْمُبِينُ). فأعلمهم الرسُلُ إنما عليهم البلاغُ. * * * (قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) (قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ) أي نَشَاءَمْنَا. (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ). أي لنقتلنكم رَجْماً. * * * (قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19) (قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ) ويجوز طَيْرُكُم معكم. لأنه يقال طَائر وَطَير في معنى واحد، ولا أعلم أحَداً قرأ ههنا طيركم بغير ألف، والمعنى قالوا شُؤْمُكُم مَعَكُمْ. (أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ). أي أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ تَطَيَّرتم، ويقرأ أَأَنْ ذُكِرتُم، أي لأن ذكِرْتُمْ (1). * * * وقوله: (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) هذا رجل كان يعبد اللَّه في غارٍ في جَبَل، فلما سمع بالمرسلين جاء يسعى، أي يَعْدُو إليهم، فقال: أتريدون أَجْراً على ما جئتم به فقال المرسلون: لا، وكان يقال لهذا الرجل فيما رُوي حبيبُ النجار

_ (1) قال السَّمين: قوله: {طَائِرُكُم}: العامَّةُ على «طائر» اسمَ فاعل أي: ما طارَ لكم من الخيرِ والشرِّ فعبَّر عن الحَظِّ والنصيب. وقرأ الحسن - فيما رَوَى عنه الزمخشري - «اطَّيُّرُكم» مصدرُ اطَّيَّر الذي أصلُه تطَيَّر فلمَّا أُرِيْدَ إدغامُه أُبْدِلَتِ التاءُ طاءً، وسُكِّنَتْ واجْتُلِبَتْ همزةُ الوصلِ فصار اطَّيَّرَ فيكون مصدره اطَّيُّرَاً. ولَمَّا ذكر الشيخ هذا لم يَرُدَّ عليه، وكان هو في بعضِ ما رَدَّ به على ابن مالك في «شرح التسهيل» في باب المصادر قال: «إن مصدرَ تَطَيَّر وتدارَأ إذا أدغما وصارا اطَّيَّرَ وادَّارأ لا يجيءُ مصدرُهما عليهما بل على أصلهما فيقال: اطَّيَّر تَطَيُّراً، وادَّارأ تدارُؤاً، ولكنَّ هذه القراءةَ تَرُدُّه إنْ صَحَّتْ وهو بعيدٌ. وقد رَوَى غيرُه عنه» طَيْرُكم «بياء ساكنة ويَغْلِبُ على الظنِّ أنَّها هذه، وإنما تَصَحَّفَتْ على الرائي فحَسِبها مصدراً، وظنَّ أنَّ ألف» قالوا «همزةُ وَصْلٍ. قوله:» أإنْ ذُكِّرْتُمْ «قرأ السبعةُ بهمزةِ استفهام بعدها» إنْ «الشرطيةُ، وهم على ما عَرَفْتَ مِنْ أصولِهم: من التسهيلِ والتحقيق وإدخالِ ألفٍ بين الهمزتين وعدمِه في سورةِ البقرة. واختلف سيبويهِ ويونسُ إذ اجتمع استفهامٌ وشرطٌ أيُّهما يُجابُ؟ فذهبَ سيبويهِ إلى إجابةِ الاستفهام، ويونسُ إلى إجابة الشرطِ، فالتقديرُ عند سيبويهِ:» أإن ذُكِّرْتُمْ تتطيَّرون «وعند يونسَ» تطيَّرُوا «مجزوماً، فالجوابُ للشرطِ على القولين محذوفٌ. وقد تقدَّم هذا في سورة الأنبياء. وقرأ أبو جعفر وطلحة وزرٌّ بهمزتين مفتوحتين إلاَّ أن زرَّاً لم يُسَهِّلَ الثانيةَ كقوله: 3777 أإنْ كُنْتَ داودَ بنَ أحوى مُرَجَّلاً. . . فلستَ براعٍ لابنِ عمِّك مَحْرَما ورُوي عن أبي عمروٍ وزرٍّ أيضاً كذلك، إلاَّ أنهما فَصَلا بألفٍ بين الهمزتين. وقرأ الماجشون بهمزةٍ واحدةٍ مفتوحة. وتخريجُ هذه القراءاتِ الثلاثِ على حَذْفِ لامِ العلةِ أي: ألَئِنْ ذُكِّرْتم تطيَّرْتُمْ، ف تَطَيَّرْتُمْ هو المعلولُ، وأنْ ذُكِّرتم علتُه، والاستفهامُ منسَحِبٌ عليهما في قراءةِ الاستفهامِ وفي غيرِها يكونُ إخباراً بذلك. وقرأ الحسن بهمزةٍ واحدةٍ مكسورة وهي شرطٌ من غير استفهامٍ، وجوابُه محذوفٌ أيضاً. وقرأ الأعمشُ والهمدانيُّ» أَيْنَ «بصيغةِ الظرفِ. وهي» أين «/ الشرطيةُ، وجوابُها محذوفٌ عند جمهور البصريين أي: أين ذُكرتم فطائرُكم معكم، أو صَحِبَكم طائرُكم، لدلالةِ ما تقدَّم مِنْ قولِه» طائرُكُمْ معكم «ومَنْ يُجَوِّزُ تقديمَ الجوابِ لا يَحْتاج إلى حَذْفٍ. وقرأ الحسن وأبو جعفر وأبو رجاء والأصمعيُّ عن نافع» ذُكِرْتُمْ «بتخفيفِ الكاف. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(27)

فأقبل على قومه فقال: (يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) - إلى قوله - (فَاسْمَعُونِ). فأشهد الرسلَ على إيمانِه - قال قتادة: هذا رجل دَعَا قومه إلى الله ومخضَهُمُ النَصِيحَةَ فقتلوه على ذلك وأقبلوا يرجمونه وهو يقول: اللهم اهد قومي اللهم اهد قومي، فأدخله الله الجنَّةَ فهو حيٌّ فيها يرزق، والمعنى فلما عَذبَهُ قومه، قِيلَ ادْخُلِ الجنَّةَ. فلما شاهدها قال: (يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27). أي بمغفرة ربي لي، (من المكرمين) أي من المُدْخَلِينَ الجنةَ. وقيل أيْضاً بما غفر لي* ربي أي ليتهم يعلمون بالعمل والإيمان الذي غفر لي به رَبِّي، ويجوز " بِمَ غَفَرَ لِي رَبِّي "، على معني بأي شيء غفر لي ربي، ويجوز ِ أن يكون " بما " في هذا المعنى بإثبات الألف، تقُول: قد علمت بما صَنَعْتَ هذا، وقد علمت بم صنعت هذا، أي قد علمت بأي شيء صنعت هذا، وحذف الألف في هذا المعنى أجود. * * * (وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) المعنى لم نُنْزِلْ عَلَيهِمْ جُنْداً، لم نَنْتَصِرْ للرسول الذي كَذَبُوهُ بِجُنْدٍ. * * * ومعنىْ (إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29) ما كانت إلا صيحة واحدةً، إلا أَنْ صِيحَ بهم صيحة واحدة فماتوا

(30)

معذبين بها، ويقرأ (إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةٌ) - قَرَأ بها أَبُو جَعْفَرٍ المدني وحدَهُ. وهي جيدة في العربية، فمن نصب فالمعنى ما وقعت عليهم عقوبة الأ صيحةً واحدةً. (فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ). أي ساكنون قَدْ ماتُوا وصاروا بمنزلة الرماد الخَامِدِ الهَامِدِ. * * * (يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (30) وقرئت يا حسرةَ الْعِبادِ بغير على، ولكني لا أحب القراءة بشيء خالف المصحف ألبتةَ. وهذه من أصعب مسألة في القرآن. إذا قالَ القَائِلُ: ما الفائدة في مناداة الحسرة، والحسرة مما لا يجيب؟ فالفائدة في مناداتها كالفائدة في مناداة ما لا يعقل، لأن النداء باب تنبيه. إذَا قلت يا زيدُ فإن لم تكن دعوته لتخاطبه لِغير النداء فلا معنى للكلام، إنما تقول يا زيد فتنبهه بالنداء ثم تقول له: فعلت كذا وافعل كذا، وما أحببت مما له فيه فائدة، ألا ترى أنك تقولُ لَمِنْ هُوَ مُقْبِل عَلَيْكَ: يا زيد ما أَحْسَنَ مَا صَنَعْتَ، ولو قلت له: ما أَحْسَن مَا صَنَعْتَ كنت قد بلغت في الفائدة ما أفهمت به، غير أن قولك يا زيد أوكد في الكلام. وأبلغ في الإفهام. وكذا إذا قلت للمخاطب أنا أعجب مما فعلتَ، فقد - أَفدْتَه أنك متعجب، ولو قلت: واعجباه مما فعلت، ويا عجباه أتفعل كذا وكذا، كان دعاؤك العجب أبلغَ في الفائدة. والمعنى يَا عَجبُ أقبل، فإنه من أوقاتك، وإنما نَداءُ العَجَبِ تنبيه لتمكن علم المخاطب بالتعجب من فعله. وكذلك إذَا قُلتَ: - ويلْ لزيدٍ أَوْ وَيلَ زَيْدٍ: لم فعل

(31)

كذا وكذا كان أبلغ. وكذلك في كتاب اللَّه - عزَّ وجلَّ -: (يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ) وكذلك (يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ). وكذلك (يا حَسْرةً على العِبَادِ). والمعنى في التفسير أن استهزاءهم بالرسُل حَسْرة عليهم. والحَسْرَةُ أَن يَرْكَبَ الإنسانَ مِنْ شِدة الندَمِ ما لا نهاية له بعده حتى يبقى قلبُه حَسِيراً (1). * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31) أي: فيخافون أن يعجَّل لَهُم في الدنيا مثلُ الذي عُجِّل لغيرهم مِمن أُهْلِكَ، وأنهم مع ذلك لا يعودون إلى الدنيا أبداً. وموضع " كَمْ " نصبُ بـ (أَهْلَكْنَا) لأن " كَمْ " لا يعمل فيها ما قبلها، خبراً كانت أو استفهاماً. تقول في الخبر: كم سِرْتُ، تريد سرت فراسخ كثيرةً، ولا يجوز سرت كم فرسخاً، وذلك أن كم في بابها بمنزلة رُبَّ، وأن أصلها الاستفهام والإبهام، فكما أنك إذا استفهمت فقلت للمخاطب: كم فرسخاً سرت لم يجز سرتَ كم فرسخاً، لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله، فكذلك إذا جُعِلَتْ كم خَبَراً فالإبهامُ قائم فيها. و (أَنَّهُمْ) بدل من معنى (ألم يروا كم أهلكنا). والمعنى ألم يروا أن القرون التي أهلكنا أنهم لا يرجعون. ويجوز (إِنهم لا يَرْجِعُونَ) بكسر " إنَّ " ومعنى ذلك الاستئناف. المعنى هم إليهم لا يَرْجِعُون (2).

_ (1) قال السَّمين: قوله: {ياحسرة}: العامَّةُ على نصبِها. وفيه وجهان، أحدهما: أنها منصوبةٌ على المصدرِ، والمنادى محذوفٌ تقديره: يا هؤلاء تَحَسَّروا حسرةً. والثاني: أنها منونةٌ لأنها منادى منكورٌ فنُصِبت على أصلها كقوله: 3782 أيا راكباً إمَّا عَرَضْتَ فبَلِّغَنْ. . . نداماي مِنْ نَجْرانَ أنْ لا تَلاقِيا ومعنى النداءِ هنا على المجازِ، كأنه قيل: هذا أوانُكِ فاحْضُرِي. وقرأ قتادةُ وأُبَيٌّ في أحدِ وجهَيْه «يا حَسْرَةٌ» بالضم، جعلها مُقْبِلاً عليها، وأُبَيٌّ أيضاً وابن عباس وعلي بن الحسين {ياحسرة العباد} بالإِضافة. فيجوزُ أَنْ تكونَ الحَسْرةُ مصدراً مضافاً لفاعلِه أي: يتحسَّرون على غيرهم لِما يَرَوْنَ مِنْ عذابهم، وأَنْ يكونَ مضافاً لمفعوله أي: يَتَحَسَّر عليهم غيرُهم. وقرأ أبو الزِّناد وابن هرمز. وابن جندب «يا حَسْرَهْ» بالهاءِ المبدلةِ مِنْ تاءِ التأنيث وَصْلاً، وكأنَّهم أَجْرَوْا الوصلَ مُجْرى الوقفِ وله نظائرُ مَرَّتْ. وقال صاحب «اللوامح»: «وقفوا بالهاء مبالغةً في التحسُّر، لِما في الهاءِ من التَّأَهُّه بمعنى التأوُّه، ثم وصلوا على تلك الحال». وقرأ ابن عباس أيضاً «يا حَسْرَةَ» بفتح التاء من غير تنوين. ووجْهُها أنَّ الأصل: يا حَسْرتا فاجْتُزِئ بالفتحة عن الألف كما اجتُزِئ بالكسرةِ عن الياء. ومنه: 3783 ولَسْتُ براجعٍ ما فاتَ مِنِّي. . . بَلَهْفَ ولا بلَيْتَ ولا لو اني أي: بلهفا بمعنى لَهْفي. وقُرئ «يا حَسْرتا» بالألف كالتي في الزمر، وهي شاهدةٌ لقراءةِ ابنِ عباس، وتكون التاءُ لله تعالى، وذلك على سبيل المجاز دلالةً على فَرْطِ هذه الحَسْرةِ. وإلاَّ فاللَّهُ تعالى لا يُوْصَفُ بذلك. قوله: «ما يَأْتِيْهم» هذه الجملةُ لا مَحَلَّ لها؛ لأنَّها مُفَسِّرةٌ لسبب الحسرةِ عليهم. قوله: «إلاَّ كانوا» جملةٌ حاليةٌ مِنْ مفعولٍ «يَأْتيهم». اهـ (الدُّرُّ المصُون). (2) قال السَّمين: و {أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ} فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه بدلٌ مِنْ «كم» قال ابن عطية: «وكم هنا خبريةٌ، و» أنهم «بدلٌ منها، والرؤيةُ بَصَرية». قال الشيخ: «وهذا لا يَصِحُّ؛ لأنها إذا كانَتْ خبريةً كانَتْ في موضعِ نصبٍ ب» أهلَكْنا «. ولا يَسُوغُ فيها إلاَّ ذلك. وإذا كانت كذلك امتنع أن يكون» أنَّهم «بدلاً منها؛ لأنَّ البدلَ على نيةِ تكرار العاملِ. ولو سُلِّطت أَهْلكنا على» أنهم «لم يَصِحّ؛ ألا ترى أنك لو قلتَ: أهلَكْنا انتفاءَ رجوعِهم، أو أَهلكنا كونَهم لا يَرجعون، لم يكن كلاماً. لكنَّ ابنَ عطية تَوَهَّمَ أنَّ» يَرَوْا «مفعولُه» كم «فتوَهَّم أنَّ قوله: {أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ} بدلٌ منه؛ لأنه يُسَوِّغُ أَنْ يُسَلَّط عليه فتقول: ألم يَرَوْا أنهم إليهم لا يَرْجعون. وهذا وأمثالُه دليلٌ على ضَعْفِه في عِلْم العربية». قلت: وهذا الإِنحاءُ تحاملٌ عليه؛ لأنه لقائلٍ أَنْ يقول: «كم» قد جعلها خبريةً، والخبريةُ يجوز أَنْ تكونَ معمولةً ل ما قبلها عند قومٍ، فيقولون: «ملكتُ كم عبدٍ» فلم يَلْزَمْ الصدرَ، فيجوزُ أَنْ يكونَ بنى هذا التوجيهَ على هذه اللغةِ وجعل «كم» منصوبةً ب «يَرَوْا» و «أنهم» بدلٌ منها، نَ التي أهلكناها وليس هو ضعيفاً في العربية حينئذٍ. الثاني: أنَّ «أنَّهم» بدلٌ من الجملةِ قبلَه. قال الزجاج: «هو بدلٌ من الجملة، والمعنى: ألم يَرَوْا أن القروأنهم لا يَرْجِعون؛ لأنَّ عَدَمَ الرجوعِ والهلاكَ بمعنى». قال الشيخ: «وليس بشيءٍ؛ لأنه ليس بدلاً صناعياً، وإنما فَسَّر المعنى ولم يَلْحَظ صناعةَ النحو». قلت: بل هو بدلٌ صناعي؛ لأنَّ الجملةَ في قوة المفرد؛ إذ هي سادَّةٌ مَسَدَّ مفعولِ «يَرَوْا» فإنها معلِّقَةٌ لها كما تقدَّم. الثالث: قال الزمخشري: «ألم يَرَوْا» ألم يعلموا، وهو مُعَلَّق/ عن العمل في «كم» لأنَّ «كم» لا يعملُ فيها عاملٌ قبلها - كانَتْ للاستفهام أو للخبرِ - لأنَّ أصلَها الاستفهامُ، إلاَّ أنَّ معناها نافِذٌ في الجملةِ كما نفذ في قولك: «ألم يَرَوْا إنَّ زيداً لمنطلقٌ» وإنْ لم يعملْ في لفظِه، وأنهم إليهم لا يَرْجِعون: بدلٌ مِنْ «كم أهلَكْنا» على المعنى لا على اللفظِ تقديرُه: ألم يَرَوْا كثرةَ إهلاكِنا القرونَ مِنْ قَبْلهم كونَهم غيرَ راجعين إليهم «. قال الشيخ: «قولُه لأنَّ» كم «لا يعملُ فيها ما قبلَها كانت للاستفهام أو للخبرِ» ليس على إطلاقِه؛ لأنَّ العاملَ إذا كان حرفَ جر أو اسماً مضافاً جاز أَنْ يعملَ فيها نحو: «على كم جِذْعٍ بيتُك؟ وابنُ كم رئيسٍ صحبتَ؟ وعلى كم فقير تصدَّقتُ أرجو الثواب؟ وابنُ كم شهيد في سبيل الله أحسنت إليه؟». وقوله: «أو للخبر» والخبرية فيها لغتان: الفصيحةُ كما ذكر لا يتقدَّمُها عاملٌ إلاّ ما ذَكَرْنا من الجارِّ، واللغةُ الأخرى حكاها الأخفش يقولون: «ملكتُ كم غلامٍ» أي: ملكتُ كثيراً من الغِلْمان. فكما يجوزُ تقدُّم العاملِ على كثيراً كذلك يجوزُ على «كم» لأنها بمعناها. وقوله: «لأنها أصلها الاستفهامُ، والخبريةُ ليس أصلُها الاستفهامَ» بل كلُّ واحدةٍ أصلٌ بنفسِها، ولكنهما لفظان مشتركان بين الاستفهام والخبر. وقوله: «لأنَّ معناها نافدٌ في الجملة» يعني معنى «يَرَوا» نافذٌ في الجملة؛ لأنَّه جعلَها مُعَلَّقة وشرحَ «يَرَوْا» ب يعلموا. وقوله: «كما نفذ في قولك: ألم يَرَوْا إنَّ زيداً لمنطلقٌ» يعني أنه لو كان معمولاً من حيث اللفظُ لامتنع دخولُ اللامِ ولَفُتِحَتْ «إنَّ» فإنَّ «إنَّ» التي في خبرها اللامُ من الأدوات المعلِّقة لأفعال القلوبِ. وقوله: «إنهم إليهم» إلى آخره كلامُه لا يَصِحُّ أن يكون بدلاً لا على اللفظِ ولا على المعنى. أمَّا على اللفظِ فإنه زعم أنَّ «يَرَوْا» معلَّقَةٌ فتكون «كم» استفهاميةً فهي معمولةٌ ل «أهلكنا»، و «أهلكنا» لا يَتَسَلَّط على {أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ}. وقد تقدَّم لنا ذلك. وأمَّا على المعنى فلا يَصِحُّ أيضاً لأنه قال: تقديره: أي على المعنى ألم يَرَوْا كثرةَ إهلاكنا القرونَ مِنْ قَبْلهم كونَهم غيرَ راجعين إليهم، فكونُهم غيرَ راجعين ليس كثرةَ الإِهلاكِ، فلا يكون بدلَ بعضٍ من كل، ولا يكون بدل اشتمالٍ؛ لأنَّ بدلَ الاشتمال يَصِحُّ أن يضافَ إلى ما أُبْدِل منه، وكذلك بدلُ بعضٍ من كل. وهذا لا يَصِحُّ هنا. لا تقول: ألم يَرَوْا انتفاءَ رجوعِ كثرةِ إهلاكِنا القرونَ مِنْ قبلهم، وفي بدلِ الاشتمال نحو: «أعْجَبَتْني الجاريةُ مَلاحتُها، وسُرِقَ زيدٌ ثوبُه» يصحُّ: «أعجبتني ملاحَةُ الجاريةِ، وسُرِق ثوبُ زيد». الرابع: أَنْ يكونَ «أنهم» بدلاً مِنْ موضع «كم أهلَكْنا»، والتقدير: ألم يَرَوْا أنهم إليهم. قاله أبو البقاء. ورَدَّه الشيخ: بأنَّ «كم أهلَكْنا»، ليس بمعمولٍ ل «يَرَوْا». قلت: قد تقدَّم أنها معمولةٌ لها على معنى أنها مُعَلِّقَةٌ لها. الخامس: - وهو قولُ الفراء - أن يكون «يَرَوْا» عاملاً في الجملتين من غير إبدالٍ، ولم يُبَيِّنْ كيفيةَ العملِ. وقوله «الجملتين» تجوُّزٌ؛ لأنَّ «أنهم» ليس بجملةٍ لتأويلِه بالمفرد إلاَّ أنه مشتملٌ على مُسْندٍ ومسند إليه. السادس: أنَّ «أنهم» معمولٌ لفعل محذوفٍ دَلَّ عليه السياقُ والمعنى، تقديره: قَضَيْنا وحَكَمْنا أنهم لا يَرْجعون. ويَدُلُّ على صحةِ هذا قراءةُ ابنِ عباس والحسن «إنهم» بكسر الهمزةِ على الاستئناف، والاستئنافُ قَطْعٌ لهذه الجملةِ مِمَّا قبلها فهو مُقَوٍّ لأَنْ تكونَ معمولةً لفعلٍ محذوفٍ يقتضي انقطاعَها عَمَّا قبلَها. والضميرُ في «أنهم» عائدٌ على معنى «كم» وفي «إليهم» عائدٌ على ما عاد عليه واو «يَرَوْا». وقيل: بل الأولُ عائدٌ على ما عاد عليه واو «يَرَوْا». والثاني عائدٌ على المُهْلَكين. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(32)

وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32) من قرأ بالتخفيف (لَمَا) فما زائدة مؤكدة، والمعنى إنْ كل لجميع لدينا مُحْضَرُونَ، ومعناه وَمَا كُلٌّ إلا جميع لدينا مُحْضَرونَ،. ويقرأ (لَمَّا) بالتًشْدِيد ومعنى (لَمَّا) ههنا (ألَّا)، تقول سألتك لَمَّا فعلت. وتفسير الآية أنَّهم يحضرون يوم القيامة فيقفون على ما عملوا. * * * وقوله: (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) (الْمَيْتَةُ) ويقرأ بالتشديد وأصل الميْتة الميِّتَة، والأصل التشديد، والتخفيف أكثر، وكلاهما جائز. (وَآيَةٌ) مرفوعة بالابتداء، وخبرها (لَهُمْ) أي وعلامة تدلهم على التوحيد وأَن اللَّه يبعث الموتى إحياءَ الأرض الميتَةِ. ويجوز أن يكون آية مرفوعة بالابتداء، وخبرها الأرض الميتة. * * * وقوّله: (وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35) ويجوز ثُمْره - بإسكان الميم وضَم الثاء. (وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ). ويقرأ (وَمَا عَمِلَتْ) بغير هاء (1)، وموضع " ما " خفض. المعنى ليأكلوا من ثمره ومما عملته أيديهم. ويجوز أن تكون (ما) نفياً، على معنى ليأكلوا من ثمره ولم تعمله أيْدِيهِمْ. هذا على إثبات الهاء، وإذا حذفت الهاء فالاختيار أن يكون " ما " في موضع خفض، ويكون (ما) في معنى الذي، فيحسن حذف الهاء، ويكون هذا على قوله:

_ (1) قال السَّمين: قوله: {وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ} في «ما» هذه أربعةُ أوجهٍ، أحدها: أنها موصولةٌ أي: ومن الذي عَمِلَتْه أيديهم من الغرس والمعالجة. وفيه تَجَوُّزٌ على هذا. والثاني: أنها نافيةٌ أي: لم يعملوه هم، بل الفاعلُ له هو اللَّهُ تعالى. وقرأ الأخَوان وأبو بكر بحذف الهاء والباقون «وما عَمِلَتْه» بإثباتِها. فإنْ كانَتْ «ما» موصولةً فعلى قراءة الأخوين وأبي بكر حُذِف العائدُ كما حُذِف في قولِه: {أهذا الذي بَعَثَ الله رَسُولاً} [الفرقان: 41] بالإِجماع. وعلى قراءةِ غيرِهم جيْءَ به على الأصل. وإن كانَتْ نافيةً فعلى قراءةِ الأخوين وأبي بكر لا ضميرَ مقدرٌ، ولكن المفعولَ محذوفٌ أي: ما عَمِلَتْ أيديهم شيئاً مِنْ ذلك، وعلى قراءةِ غيرِهم الضميرُ يعودُ على «ثَمَرِه» وهي مرسومةٌ بالهاء في غيرِ مصاحفِ الكوفةِ، وبحذفِها فيما عداها. / والأخَوان وأبو بكرٍ وافقوا مصاحفهم، والباقون - غير حَفْصٍ - وافقوها أيضاً، وجعفر خالَفَ مصحفَه، وهذا يَدُلُّ على أنَّ القراءةَ متلقَّاةٌ مِنْ أفواهِ الرجال، فيكون عاصمٌ قد أقرأها لأبي بكرٍ بالهاء ولحفصٍ بدونها. الثالث: أنها نكرةٌ موصوفةٌ، والكلامُ فيها كالذي في الموصولة. والرابع: أنها مصدريةٌ أي: ومِنْ عَمَلِ أيديهم. والمصدرُ واقعٌ موقعَ المفعولِ به، فيعودُ المعنى إلى معنى الموصولة أو الموصوفة. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(36)

(أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64). * * * وقوله: (سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36) (سُبْحَانَ) تَبْرئَةُ اللَّه من السوءِ وتنزيهه. ومعنى الأزواج، الأجناس كلها من النبات والحيوان وغيرها. (وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ). مما خلق اللَّه من جميع الأنواع والأشباه. * * * (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) ومعنى نسلخ نُخْرِجُ منه النهار إخراجاً لا يبقى معه شيء من ضوء النهار، وذلك من العلامات الدالة على توحيد اللَّه - وقدرته. * * * (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) المعنى وَآيَةٌ لَهُمُ الشَمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرَ لَهَا. أي لأجَل قَدْ أُجِّلَ لَهَا وقدِّرَ لها. ومن قرأ " لا مُسْتَقَر لها " فمعناه أنها جارية أبداً لا تثبت في مكانٍ. * * * (وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) يقرأ بالرفْع والنصب، فمن نصب فعلى " وَقَدَّرْنَا القَمَرَ مَنَازِلَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ " والرفع على معنى وآية لهم القَمَرُ قَدَّرْنَاهُ. ويجوز أن يكون على الابتداء و (قَدَّرْنَاهُ) الخبر. (حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ). العُرجونُ عودُ العِذقِ الذي يسمى الكباسة. وحقيقة العرجون

(40)

أنه العود الذي عليه العذق، والعرجون عود العذق الذي تركبه الشماريخ من العذق، فإذَا جَفَّ وَقدُمَ دَق وَصَغُرَ فحينئذ يشبه الهِلَالَ في آخر الشهر، وفي أول مطلعه. وتقدير (عُرْجُون) فُعْلُول. منَ الانعراج (1). * * * (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40) المعنى لا يذهب أحدهما بمعنى الآخر. (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ). لكل وَاحِدٍ منهما فَلَك، ومعنى يسبحون يَسيرُونَ فيه بانبساط. وكل من انبسط في شيء فَقَدْ سَبحَ فيه، ومن ذلك السباحة في الماء. * * * (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) خوطب بهذا أَهْلُ مَكَةَ، وقيل حَمَلْنَا ذُريتَهُمْ لأن من حمل مع نوح عليه السلام في الفلك فهم آباؤهم، وذُرياتُهُم. والمشحون في اللغة المملوء، شحنت السفينة إذا ملأتها. وشحنت المدينة وأشحنتها إذا مَلأتها. * * * وقوله: (وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42) الأكثر في التفسير أن مِنْ مِثْلِه من مثل سفينة نوح، وقيل من مثله يغنَى به الإبل، وأن الإبل في البريَّةِ بمنزلة السُّفُنِ في البحر. * * * (وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) أي فلا مُغِيثَ لهم.

_ (1) قال السَّمين: قوله: {والقمر قَدَّرْنَاهُ}: قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرٍو برفعِه، والباقون بنصبِه. فالرفعُ على الابتداء، والنصبُ بإضمارِ فعلٍ على الاشتغالِ، والوجهان مُسْتويانِ لتقدُّمِ جملةٍ ذاتِ وجهين، وهي قوله: «والشمسُ تجري» فإنْ راعَيْتَ صدرَها رَفَعْتَ لتعطِفَ جملةً اسميةً على مثلِها، وإنْ راعَيْتَ عَجْزَها نَصَبْتَ لتعطِفَ فعليةً على مثلِها. وبهذه الآيةِ يَبْطُلُ قولُ الأخفشِ: إنه لا يجوزُ النصبُ في الاسم إلاَّ إذا كان في جملةِ الاشتغالِ ضميرٌ يعود على الاسمِ الذي تضمَّنَتْه جملةٌ ذاتُ وجهين. قال: لأنَّ المعطوفَ على الخبرِ خبرٌ فلا بُدَّ مِنْ ضميرٍ يعودُ على المبتدأ فيجوزُ: «زيدٌ قام وعمراً أكرمتُه في داره»، ولو لم يَقُلْ «في داره» لم يَجُز. ووجهُ الردِّ مِنْ هذه الآية أنَّ أربعةً من السبعةِ نصبوا، وليس في جملة الاشتغال ضميرٌ يعودُ على الشمس. وقد أُجْمع على النصب في قولِه تعالى: {والسمآء رَفَعَهَا} [الرحمن: 7] بعد قوله: {والنجم والشجر يَسْجُدَانِ} [الرحمن: 5]. قوله: «منازلَ» فيه أوجهٌ، أحدها: أنه مفعولٌ ثانٍ؛ لأنَّ «قَدَّرنا» بمعنى صَيَّرْنا. الثاني: أنه حالٌ، ولا بُدَّ مِنْ حَذْفِ مضافٍ قبل «منازل» تقديرُه: ذا منازلَ. الثالث: أنه ظرفٌ أي: قَدَّرْنا مسيرَه في منازلَ، وتقدَّم نحوُه أولَ يونس. قوله: «كالعُرْجُون» العامّةُ على ضَمِّ العينِ والجيم. وفي وزنِه وجهان، أحدهما: أنه فُعْلُول فنونُه أصليةٌ، وهذا هو المرجَّحُ. والثاني: وهو قولُ الزجَّاج أنَّ نونَه مزيدةٌ، ووزنُه فُعْلُوْن، مشتقاً من الانعراجِ وهو الانعطافُ، وقرأ سليمان التيمي بكسر العين وفتح الجيم، وهما لغتان كالبُزيُوْن والبِزْيون. والعُرْجُوْن: عُوْد العِذْقِ ما بين الشَّماريخ إلى مَنْبِته من النخلةِ. وهو تشبيهٌ بديعٌ، شبَّه به القمرَ في ثلاثة أشياء: دقتِه واستقواسِه واصفرارِه. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(44)

(إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (44) منصوبة مفعول لها، المعنى: ولا يُنْقَذُونَ إِلَّا لرَحْمَةٍ مِنَّا وَلمَتَاعٍ إِلَى حِينٍ. إلى انقضاء الأجل. * * * (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) ما أسلفتم من ذُنُوبكم، وما تعملونه فيما تستقبلون، وقيل ما بين أيديكم وَمَا خلفكم، على معنى اتقُوا أن ينزل بكم من العذاب مثلُ الذي نزلْ بالأمَمِ قَبْلَكُمْ، وَمَا خَلْفَكُمْ، أي اتقوا عذاب الآخرة. وَمِثْلُه (فَإن أعرضوا فَقَدْ أنْذَرْتُكُم صَاعِقَةً مثلَ صاعِقَةِ عادٍ وثمود). * * * (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (47) أي أطعموا وتصَدَّقُوا. (قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَ). كأنهم يقولون هذا على حد الاستهزاء. وجاء في التفسير أنها نَزَلَتْ في الزنادقة، وقيل في قوم من اليهود. * * * (وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) متى إنجاز هذا الوعْد، أردنا ذلك. * * * (مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) في (يَخِصِّمُونَ) أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ. سكونُ الخاء والصاد مع تشديد الصادِ على جمع بين ساكنين، وهو أشد الأربعة وَأَرْدَؤُهَا، وكان بعض من

(50)

يروي قراءة أهل المدينة يذهب إلى أن هذا لم يُضْبَطْ عن أهل المدينة كما لم يضبط عن أبي عمْرٍو إلى بارِئكم. وإنَّمَا زعم أن هذا تُخْتَلَسُ فيه الحركة اختلاساً وهي فتحة الخاء، والقول كما قال. والقراءة الجيِّدَة (يَخَصِّمُونَ) بفتح الخاء، والأصل يَخْتَصِمُونَ. فطرحت فتحة التاء على الخاء، وأدغمت في الصاد، وكسرُ الخاء جيِّدٌ أيضاً - تكسر الخاء لِسُكُونها وسُكُونِ - الصاد. وَقُرِئَتْ يختصمون، وهي جيدة أيضاً ومعناها يأخذهم وبعضهم يَخْصِمُ بَعْضاً، ويجوز أن يكون تأخذهم وهم عِنْدَ أنْفُسهم يخصمون في الحجة في أنهم لا يبعثون، فتقوم الساعة وهم متشاغلون في متصرفاتهم (1). * * * (فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) لا يستطيع أحد أن يوصي في شيء من أَمْرِهِ. (وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ). لا يلبث إلى أن يصير إلى أهله ومنزله. يموت في مكانه. * * * (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) الصور كما جاء في التفسير القرن الذي ينفُخ فيه إسْرافيلُ. وقد قال أَبُو عُبَيدة: إنَّ الصورَ جمع صُورَة، وصورة جمعها صور. كما قال الله عزَّ وجلَّ: (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) وما قرأ أحد أحْسنَ صُورَكُمْ وَلَا قرأ أحد: وَنُفِخَ في الصُّوَرِ من وجه يثبُتُ. والأجداث القبور، واحدها جَدَثٌ، وَيَنْسِلُونَ: يخرجون بسرعة. * * * وقوله: (قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) (قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا) هذا وقف التمام، وهذا قول المشركين (2).

_ (1) قال السَّمين: قوله: {يَخِصِّمُونَ}: قرأ حمزةُ بسكون الخاء وتخفيف الصادِ مِنْ خَصِم يَخْصَمُ. والمعنى: يَخْصَمُ بعضُهم بعضاً، فالمفعولُ محذوفٌ. وأبو عمرٍو وقالون بإخفاءِ فتحةِ الخاء وتشديدِ الصاد. ونافعٌ وابن كثير وهشام كذلك، إلاَّ أنَّهم بإخلاصِ فتحةِ الخاءِ. والباقون بكسرِ الخاء وتشديدِ الصادِ. والأصلُ في القراءاتِ الثلاثِ: يَخْتَصِمون فأُدْغِمت التاءُ في الصاد، فنافعٌ وابن كثير وهشام نَقَلوا فتحَها إلى الساكنِ قبلَها نَقْلاً كاملاً، وأبو عمرو وقالون اختلسا حركتَها تنبيهاً على أنَّ الخاءَ أصلُها السكونُ، والباقون حَذَفُوا حركتَها، فالتقى ساكنان لذلك، فكسروا أوَّلَهما، فهذه أربعُ قراءاتٍ، قُرِئ بها في المشهور. ورُوِي عن أبي عمرٍو وقالون سكونُ الخاءِ وتشديدُ الصادِ. والنحاةُ يَسْتَشْكِلونها للجمعِ بَيْن ساكنين على غير حَدَّيْهما. وقرأ جماعةٌ «يِخِصِّمُون» بكسرِ الياءِ والخاءِ وتشديد الصاد وكسروا الياءَ إتباعا. وقرأ أُبَيٌّ «يَخْتَصِمُون» على الأصل. قال الشيخُ: «ورُوِي عنهما - أي عن أبي عمرٍو وقالون - بسكونِ الخاء وتخفيفِ الصاد مِنْ خَصِم». قلت: هذه هي قراءةُ حمزةَ ولم يَحْكِها هو عنه وهذا يُشْبِهُ قولَه: {يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} في البقرةِ [الآية: 20]، و {لاَّ يهدي} في يونس [الآية: 35]. اهـ (الدُّرُّ المصُون). (2) قال السَّمين: قوله: {ياويلنا}: العامَّةُ على الإِضافةِ إلى ضمير المتكلمين دون تأنيثٍ. وهو «وَيْل» مضافٌ لِما بعده. ونقل أبو البقاء عن الكوفيين أنَّ «وَيْ» كلمةٌ برأسِها. و «لنا» جارٌّ ومجرور «. انتهى. ولا معنى لهذا إلاَّ بتأويلٍ بعيدٍ: هو أَنْ يكونَ يا عجبُ لنا؛ لأنَّ وي تُفَسَّرُ بمعنى اعجب منا. وابن أبي ليلى:» يا وَيْلتنا «بتاء التأنيث، وعنه أيضاً» يا ويْلتا «بإبدال الياءِ ألفاً. وتأويلُ هذه أنَّ كلَّ واحدٍ منهم يقول: يا ويلتي. والعامَّةُ على فتح ميم» مَنْ و «بَعَثَنا» فعلاً ماضياً خبراً ل «مَنْ» الاستفهامية قبلَه. وابن عباس والضحاك، وأبو نهيك بكسر الميم على أنها حرفُ جر. و «بَعْثِنا» مصدرٌ مجرور ب مِنْ. ف «مِنْ» الأولى تتعلَّق بالوَيْل، والثانيةُ تتعلَّقُ بالبعث. والمَرْقَدُ يجوز أَنْ يكونَ مصدراً أي: مِنْ رُقادِنا، وأن يكونَ مكاناً، وهو مفردٌ أُقيم مُقامَ الجمعِ. والأولُ أحسنُ؛ إذ المصدرُ يُفْرَدُ مطلقاً. قوله: {هَذَا مَا وَعَدَ} في «هذا» وجهان، أظهرهما: أنه مبتدأٌ وما بعده/ خبرُه. ويكونُ الوقفُ تاماً على قوله «مِنْ مَرْقَدِنا». وهذه الجملةُ حينئذٍ فيها وجهان، أحدهما: أنها مستأنفة: إمَّا من قولِ اللَّهِ تعالى، أو مِنْ قولِ الملائكةِ. والثاني: أنها من كلام الكفارِ فتكون في محلِّ نصب بالقول. والثاني من الوجهين الأولين: «هذا» صفةٌ ل «مَرْقَدِنا» و «ما وَعَد» منقطعٌ عَمَّا قبله. ثم في «ما» وجهان، أحدُهما: أنها في محلِّ رفعٍ بالابتداء، والخبرُ مقدرٌ أي: الذي وَعَدَه الرحمنُ وصَدَقَ فيه المرسلون حَقٌّ عليكم. وإليه ذهب الزجَّاج والزمخشري. والثاني: أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: هذا وَعْدُ الرحمن. وقد تقدَّم لك أولَ الكهف: أنَّ حَفْصاً يقف على «مَرْقَدنا» وَقْفةً لطيفةً دونَ قَطْعِ نَفَسٍ لئلا يُتَوَهَّمَ أنَّ اسمَ الإِشارةِ تابعٌ ل «مَرْقَدِنا». وهذان الوجهان يُقَوِّيان ذلك المعنى المذكور الذي تَعَمَّد الوقفَ لأجلِه. و «ما» يَصِحُّ أَنْ تكونَ موصولةً اسميةً أو حرفيةً كما تقدَّم تقريرُه. ومفعولا الوعدِ والصدقِ محذوفان أي: وعَدَناه الرحمن وصَدَقَناه المرسلون. والأصل: صَدَقَنا فيه. ويجوز حَذْفُ الخافض وقد تقدَّم لك نحو «صَدَقني سِنَّ بَكْرِهِ» أي في سِنِّه. وتقدَّم قراءتا «صيحة واحدة» نصباً ورفعاً. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(53)

وقوله: (هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ). (هذا) رفع بالابتداء، والخبر (مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ)، وهذا قول المشركين، أعني هذا ما وعد الرحمن، ويجوز أن يكون " هذا " من نعت مرقدنا على معنى من بَعَثَنا من مَرْقَدِنَا هَذَا الذي كنا راقدين فيه. ويكون ما وعد الرحمن وصدق المرسلون على ضربين: أحدهما على إضمار هذا. والثاني على إضمار حق، فيكون المعنى حق ما وعد الرحمن. والقول الأول أعني ابتداء هذا عليه التفسير، وهو قول أهل اللغة. * * * (إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53) و (إِلَّا صَيْحَةٌ وَاحِدَةٌ) وقد مضى إعْرَابُهما. (فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ). فالمعنى إن إهلاكَهُمْ كان بصيحة وبعثهم وَإحْيَاءَهم بصيحة. * * * (فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54) المعنى من جوزي فإنما يجازى بعمله. * * * (إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) و (فَاكِهُونَ) تفسيره فرحون. وجاء في التفسير أَنَّ شُغْلَهُمْ افتضاض الأبكار، وقيل في شغل عما فيه أهل النار، ويقرأ في شُغُل وَشُغْل وَشُغْل وشُغُل. يجوز في العربية. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56) وظُلَلٍ، ويجوز ظُلُلٍ.

(57)

(عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ). وهي الفرش في الحجال، وَقِيلَ انهَا الفرش، وقيلَ الأسِزةُ. وهي على الحقيقة الفرش كانت في حجال أو غير حجال. * * * (لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57) أي ما يَتمَنوْنَ، يقال: فلان في خَيْرِ مَا ادَّعَى، أي ما تمنى، وهو مأخوذ من الدعاء. المعنى كل مما يدعو أهلُ الجنةِ يَأتِيهِمْ. * * * (سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58) (سَلَامٌ) بدل من (ما) المعنى لهم ما يتمنون به سلام، أي وهذا مُنَى أهل الجنة أن يسلِّمَ اللَّه - عزَّ وجلَّ - عَلَيْهم. و (قَوْلًا) منصوب على معنى لهم سلام يقوله اللَّه - عزَّ وجلَّ - قَوْلاً. * * * (وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) أي انفردوا عن المؤمنين. * * * (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وتقرأ أعْهِدْ - بالكسر، والفتحُ أكثر، على قولك عَهِدَ يَعْهَدُ. والكسر يجوز على ضربين: على عَهدَ يَعْهِدُ، وعلى عهِدَ يَعْهِد مثل حَسِبَ يَحْسِبُ، ومعناه ألم أتقدم إليكم بِعَهْدِ الِإيمان وترك عبادة الشيطان (1). * * * (وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) (جُبْلًّا) ويقرأ (جِبِلًّا) - بكسر الجيم والباء، ويُقْرأ جُبُلًا - بضم الجيم والباء

_ (1) قال السَّمين: قوله: {أَعْهَدْ}: العامَّةُ على فتحِ الهمزةِ على الأصلِ في حرفِ المضارعة. وطلحة والهذيل بن شرحَبيل الكوفي بكسرِها. وقد تقدَّم أنَّ ذلك لغةٌ في حرفِ المضارعةِ بشروطٍ ذُكرت في الفاتحة وثَمَّ حكايةٌ. وقرأ ابنُ وثَّاب «أَحَّدْ» بحاءٍ مشددةَ. قال الزمخشري: «وهي لغةُ تميمٍ، ومنه» دَحَّا مَحَّا «أي: دَعْها معها، فقُلِبَتْ الهاءُ حاءً ثم العينُ حاءً، حين أُريد الإِدغامُ. والأحسنُ أَنْ يُقال: إنَّ العينَ أُبْدِلَتْ حاءً. وهي لغةُ هُذَيلٍ. فلمَّا أُدْغِم قُلب الثاني للأول، وهو عكسُ بابِ الإِدغامِ. وقد مضى تحقيقُه آخرَ آلِ عمران. وقال ابن خالويه:» وابن وثاب والهذيل «أَلَمْ إعْهَدْ» بكسر الميم والهمزة وفتح الهاء، وهي على لغةِ مَنْ كسرَ أولَ المضارعِ سوى الياءِ. ورُوي عن ابنِ وثَّاب «اعْهِد» بكسرِ الهاءِ. يُقال: عَهِد وعَهَد «انتهى. يعني بكسر الميم والهمزة أنَّ الأصلَ في هذه القراءةِ أَنْ يكونَ كسرَ حَرْفَ المضارعةِ ثم نَقَلَ حركتَه إلى الميمِ فكُسِرَتْ، لا أنَّ الكسرَ موجودٌ في الميمِ وفي الهمزةِ لفظاً، إذ يَلْزَمُ من ذلك قَطْعُ همزةِ الوصلِ وتحريكُ الميمِ مِنْ غيرِ سبب. وأمَّا كَسْرُ الهاءِ فلِما ذُكِرَ من أنه سُمِعَ في الماضي» عَهَدَ «بفتحها. وقولُه:» سوى الياء «وكذا قال الزمخشريُّ هو المشهورُ. وقد نُقِل عن بعضِ كَلْبٍ أنهم يَكْسِرون الياءَ فيقولون: يِعْلَمُ. وقال الزمخشري فيه:» وقد جَوَّزَ الزجَّاجُ أن يكون من باب: نَعِمَ يَنْعِمُ، وضَرَب يَضْرِب «يعني أنَّ تخريجَه على أحدِ وجهين: إمَّا الشذوذِ فيما اتَّحذ فيه فَعِل يَفْعِلُ بالكسر فيهما، كنَعِمَ يَنْعِمُ وحَسِب يَحْسِبُ وبَئِسَ يَبْئِسُ، وهي ألفاظٌ عَدَدْتُها في البقرة، وإمَّا أنه سُمِعَ في ماضيه الفتحُ كضَرَبَ، كما حكاه ابنُ خالَوَيْه. وحكى الزمخشري أنه قُرِئ» أَحْهَدْ «بإبدالِ العينِ حاءً، وقد تقدَّم أنها لغةُ هُذَيْلٍ، وهذه تُقَوِّي أنَّ أصلَ» أَحَّد «: أَحْهَد فأُدْغِمَ كما تقدَّم. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(66)

- وتُقْرَأُ جُبْلاً على إسكان الباء وضم الجيم، ويجوز جَبْلًا بفتح الجيم وَجِبْلًا بكسر الجيم، ويجوز أيْضاً جِبَلاً - بكسر الجيم وفتح الباء بغير تشديد اللام، على جمع جِبْلَةٍ. وجِبَل، والجِبْلَةُ في جميع ذلك معناه خليقة كثيرة وخلق كثير (1). * * * وقوله: (وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) المطموس الأعمى الذي لا يُتَبَين له جَفْن. لَا يُرَى شَفْرُ عينه، أي لو نشاء لأعْميْنَاهُمْ فعدلوا عن الطريق فمن أَيْنَ يُبْصرونَ لو فعَلْنا ذلك بهم. * * * (وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ (67) (مَكَانَتِهِمْ) ومكاناتهم، والمكانة والمكانُ في معنىً وَاحدٍ. (فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ). أي لم يقدروا على ذَهاب وَلَا مَجِيءٍ. * * * (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68) (نَنْكُسْهُ) وَ (نُنَكِّسْهُ) وَ (نَنْكِسْهُ)، يقال نكسْتُه أَنْكُسُه وأَنْكِسُهُ جميعاً، ومعناه من أطَلْنا عُمْرَهُ نَكَّسْنَا خلقَه، فَصَارَ بدلُ القوة ضَعْفَاً وَبَدَلُ الشبَابِ هَرَماً (2). * * * (وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) أي ما علمنا محمداً - صلى الله عليه وسلم - قولَ الشِعْرِ. (وَمَا يَنْبَغِي لَهُ) أي ما يتسهل له ذلك. (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ). أي الذي أتى به النبي - صلى الله عليه وسلم - وزعم الكفار أنه شعر ما هو بشعر.

_ (1) قال السَّمين: قوله: {جِبِلاًّ}: قرأ نافعٌ وعاصمٌ بكسر الجيم والباء وتشديد اللام. وأبو عمروٍ وابن عامرٍ بضمةٍ وسكونٍ. والباقون بضمتين، واللامُ مخففةٌ في كلتيهما. وابنُ أبي إسحاق والزهري وابن هرمز بضمتين وتشديد اللام. والأعمش/ بكسرتين وتخفيفِ اللام. والأشهب العقيلي واليماني وحمادُ بن سلمة بكسرةٍ وسكون. وهذه لغاتٌ في هذه اللفظةِ. وقد تقدَّم معناها آخرَ الشعراء. وقُرِئ «جِبَلاً» بكسر الجيم وفتح الباء، جمع جِبْلَة كفِطَر جمع فِطْرَة. وقرأ أمير المؤمنين عليٌّ «جِيْلاً» بالياء، مِنْ أسفلَ ثنتان، وهي واضحةٌ. وقرأ العامة: «أفلَمْ تكونوا» خطاباً لبني آدم. وطلحة وعيسى بياءِ الغَيْبة. والضمير للجِبِلِّ. ومِنْ حَقِّهما أن يَقْرآ {التي كانوا يُوعَدُونَ} لولا أَنْ يَعْتَذِرا بالالتفاتِ. اهـ (الدُّرُّ المصُون). (2) قال السَّمين: قوله: {نُنَكِّسْهُ}: قرأ عاصمٌ وحمزةٌ بضم النون الأولى وفتحِ الثانيةِ وكسرِ الكافِ مشددةً مِنْ نَكَّسَه مبالغةً. والباقون بفتح الأولى وتسكين الثانيةِ وضمِّ الكافِ خفيفةً، مِنْ نَكَسَه، وهي محتملةٌ للمبالغة وعَدَمِها. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(70)

وَلَيسَ يوجب هذا أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يتمثل ببيت شعر قط. إنما يوجب هذا أن يكون النبي عليه السلام ليس بشاعر، وأن يكون القرآن الذي أتى به من عند اللَّه، لإنه مُبَاين لكلام المخلوقين وأوزان أشعار العرب، والقرآن آية مُعجزة تدل على أن نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - وآياته ثابتة أبداً. * * * وقوله: (لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70) يجوز - أن يكون المضمر في قوله (لِيُنْذِرَ) النبي عليه السلام. وجائز أن يكون القرآن ومعنى: (مَنْ كَانَ حَيًّا). أي من كان يعقل ما يخاطب به، فإن الكافِرَ كالميِّت في أنه لم يتدبَّرْ فَيَعْلَمَ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وما جاء به حق. (وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ). ويجوزُ (وَيَحُقَّ القَوْلَ)، أي يوجب الحجة عليهم. ويجوز ُ لِتُنْذِر من كان حيًّا - بالتاء - خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم. ويجوز لِينْذَرَ أَيْ لِيَعْلَمَ، يقال نَذِرْتُ بكذا وكذا، أَنْذَرُ مثل عَلِمْتُ أَعْلَمُ. * * * وقوله: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) معنى (مَالِكُونَ)، ضابطون، لأن القَصْدَ ههنا إلى أنها ذليلة لَهُمْ ألا ترى إلى قوله (وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ) ومثله مِنَ الشعر:

(72)

أصبحت لا أحمل السلاح ولا. . . أملِكُ رأسَ البعير إن نفرا أي لا أضبط رأس البعير. * * * وقوله: (فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) معناه مَا يَرْكبُون، والدليل قراءة من قرأ (فَمِنْهَا رَكُوبَتُهُمْ) ويجوز رُكُوبُهم - بضم الراء ولا أعلم أحداً قرأ بها، على معنى فمنها رُكُوبُهم وأكلُهُم وَشُرْبُهُمْ (1). * * * (لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) أي هم للأصنام ينتصرون، والأصنام لا تستطيع نصرهم. * * * وقوله (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) جاء في التفسير أن أُبَيَّ بن خَلَفٍ جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بعظم بَالٍ " ففركه ثم ذَرَّاهُ، وقال مَنْ يحيي هذا؟ فكان جوابه: (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ). فابتداء القُدْرَةِ فيه أَبَينُ منها في الإعادة. ويقال إن عبد اللَّه بن أْبي كان صاحب القصةِ؛ ويقال العاص بن وائل. وأعْلَمهم أن خلق السَّمَاوَات والأرض أبلغ في القدرة، وعلى إحياء الموتى فقال: (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) وقال في موضع آخر: (لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ).

_ (1) قال السَّمين: قوله: {رَكُوبُهُمْ}: أي: مَرْكوبهم كالحَلُوب والحَصُور بمعنى المَفْعول وهو لا ينقاسُ. وقرأ أُبيٌّ وعائشة «رَكوبَتُهم» بالتاء. وقد عَدَّ بعضُهم دخولَ التاءِ على هذه الزِّنَةِ شاذًّا، وجعلهما الزمخشري: في قولِ بعضِهم جمعاً يعني اسمَ جمع، وإلاَّ فلم يَرِدْ في أبنيةِ التكسير هذه الزِّنَة. وقد عَدَّ ابنُ مالك أيضاً أبنيةَ أسماءِ الجموع، فلم يذكُرْ فيها فَعُولة. والحسن وأبو البرهسم والأعمش «رُكوبُهم» بضم الراء، ولا بدَّ من حذف مضاف: إمَّا من الأولِ، أي: فمِنْ منافعها رُكوبُهم، وإمَّا من الثاني، أي: ذو ركوبِهم. قال ابن خالويه: «العربُ تقول: ناقَةٌ رَكُوْبٌ ورَكُوْبَةٌ، وحَلُوب وحَلُوْبَة، ورَكْباةٌ حَلْباةٌ، ورَكَبُوْتٌ حَلَبُوْت، ورَكَبى حَلَبى، ورَكَبُوْتا حَلَبُوْتا [ورَكْبانَةٌ حَلْبانَة]» وأنشد: 3788 رَكْبانَةٍ حَلْبَانَةٍ زَفُوْفِ. . . تَخْلِطُ بينَ وَبَرٍ موصُوْفِ والمَشارِبُ: جمع مَشْرَب بالفتح مصدراً أو مكاناً. والضمير في «لا يَسْتَطيعون» إمَّا للآلهةِ، وإمَّا لعابديها. وكذلك الضمائرُ بعده. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(83)

وقال: (فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83) معناه تنزيه اللَّه من السوء ومن أن يوصف بغير القدرة، الذي بيده ملكوت كل شىء أى القدرة على كل شيء. (وإليه تُرْجَعُونَ). وَتَرْجِعُونَ أي هوْ يبعثكم بعد موتكم.

سورة والصافات

سُورَةُ وَالصَّافَّاتِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله عزَّ وجلَّ: (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) أكثر القراءة تبيين التاء، وقد قرئت على إدغام التاء في الصادِ. وكذلك (فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2) فإن شئت أدْغمت التاء في الزاي، وإن شئت بَيَّنْتَ، وكذلك (فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (3) (إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4) أقسم بهذه الأشياء - عزَّ وجلَّ - أنَّه وَاحِدْ. وقيل معناه ورَبِّ هذه الأشياء إنه وَاحد. وتفسير الصافات أنها الملائكة، أي هم مطيعون في السماء يسبحون اللَّه - عزَّ وجلَّ - فَالزاجِراتُ، رُوِيَ أن الملائكةَ تزجر السحاب، وقيل: (فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا) كل مَا زَجَرَ عَنْ مَعْصِية اللَّه. (فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً). قيل الملائكةُ، وجائز أن يكون الملائكة وغيرهم أيضاً مِمنْ يَتْلُونَ ذِكْرَ اللَّه (1).

_ (1) قال السَّمين: بسم الله الرحمن الرحيم قوله: {والصافات صَفَّا}: قرأ أبو عمرو وحمزة بإدغامِ التاء من الصافَّاتِ، والزَّاجراتِ والتاليات، في صاد «صَفَّاً» وزاي «زَجْراً» وذال «ذِكْراً»، وكذلك فَعَلا في {والذاريات ذَرْواً} [الذاريات: 1] وفي {فالملقيات ذِكْراً} [المرسلات: 5] وفي {العاديات ضَبْحاً} [العاديات: 1] بخلافٍ عن خلاَّد في الأخيرين. وأبو عمروٍ جارٍ على أصلِه في إدغام المتقاربَيْن كما هو المعروفُ مِنْ أصلِه. وحمزةُ خارجٌ عن أصلِه، والفرقُ بين مَذْهَبَيْهما أنَّ أبا عمرٍو يُجيز الرَّوْمَ، وحمزةَ لا يُجيزه. وهذا كما اتفقا في إدغام {بَيَّتَ طَآئِفَةٌ} في سورة النساء [الآية: 81]، وإن كان ليس من أصلِ حمزةَ إدغامُ مثلِه. وقرأ الباقون بإظهار جميعِ ذلك. ومفعولُ «الصَّافَّات» و «الزَّاجراتِ» غيرُ مرادٍ؛ إذ المعنى: الفاعلات لذلك. وأعرب أبو البقاء «صَفَّاً» مَفْعولاً به على أنه قد يَقَعُ على المصفوفِ. قلت: وهذا ضعيفٌ. وقيل: هو مرادٌ. والمعنى: والصافاتِ أنفسَها وهم الملائكةُ أو المجاهدون أو المُصَلُّون، أو الصافَّاتِ أجنحتَها وهي الطيرُ، كقوله: {والطير صَآفَّاتٍ} [النور: 41]، والزاجراتِ السحابَ أو العُصاةَ إنْ أُريد بهم العلماءُ. والزَّجْرُ: الدَّفْعُ بقوةٍ وهو قوةُ التصويتِ. وأنشد: 3789 زَجْرَ أَبي عُرْوَةَ السِّباعَ إذا. . . أشْفَقَ أَنْ يَخْتَلِطْنَ بالغَنَم وزَجَرْتُ الإِبِلَ والغنمَ: إذا فَزِعَتْ مِنْ صوتِك. وأمَّا «والتاليات» فَيجوز أَنْ يكونَ «ذِكْراً» مفعولَه. والمرادُ بالذِّكْر: القرآنُ وغيرُه مِنْ تسبيحٍ وتحميدٍ. ويجوز أَنْ يكونَ «ذِكْراً» مصدراً أيضاً مِنْ معنى التاليات. وهذا أوفقُ لِما قبلَه. قال الزمخشري: «الفاءُ في» فالزَّاجراتِ «» فالتالياتِ «: إمَّا أَنْ تدلَّ على ترتُّبِ معانيها في الوجودِ كقولِه: 3790أيا لَهْفَ زَيَّابةَ للحارثِ الصَّا. . . بحِ فالغانِمِ فالآيِبِ كأنه قال: الذي صَبَحَ فغَنِمَ فآبَ، وإمَّا على ترتُّبهما في التفاوتِ من بعضِ الوجوه، كقوله: خُذِ الأفضلَ فالأكملَ، واعمل الأحسنَ فالأجملَ، وإمَّا على ترتُّبِ موصوفاتِها في ذلك كقولك:» رَحِمَ اللَّهُ المَحَلِّقين فالمقصِّرين «فأمَّا هنا فإنْ وحَّدْتَ الموصوفَ كانت للدلالةِ على ترتُّبِ الصفات في التفاضُلِ. فإذا كان الموحَّدُ الملائكةَ فيكون الفضلُ للصفِّ ثم للزَّجْرِ ثم للتلاوةِ، وإمَّا على العكس. وإنْ ثَلَّثْتَ الموصوفَ فترتَّبَ في الفضل، فتكون الصافَّاتُ ذواتَ فضلٍ، والزاجراتُ أفضلَ، والتالياتُ أَبْهَرَ فضلاً، أو على العكس» يعني بالعكس في الموضعين أنك ترتقي من أفضلَ إلى فاضلٍ إلى مَفْضولٍ، أو يُبْدَأُ بالأدنى ثم بالفاضل ثم بالأفضل. والواوُ في هذه للقسمِ، والجوابُ/ قولُه: {إِنَّ إلهكم لَوَاحِدٌ}. وقد عَرَفْتَ الكلامَ في الواوِ الثانيةِ والثالثةِ: هل هي للقسمِ أو للعطف؟. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5)

(رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5) قيل المشارق ثلاثمائة وستون مشرقاً، ومثلها مِنَ المَغَاربِ. * * * (إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) (بِزِينَةِ الْكَوَاكِبِ) على إضافة الزينة إلى الكواكب، وعلى هذا أكثرُ القِراءَةِ، وقد قرئت بالتنوين وَخَفْضِ الْكَوَاكِبِ، والمعنى أن الكَواكِبَ بدل من الزينة. المعنى إنا زينا السماء الدنيا بالكواكب، ويجوز بِزِينةٍ الكَواكِبَ. وهي أقل ما في القراءة على معنى بأن زينا الكَواكِبَ. ويجوز أن يكون الكواكب في النصْبِ بَدَلاً من قوله بزينةٍ، لأن " بِزينةٍ " في موضع نصب، ويجوز بزينةٍ الكواكبُ. ولا أَعْلَمُ أَحَداً قرأ بها، فلا تقرأن بها. إلا أن ثبتت بها رواية، لأن القراءة سنة. ورفع الكواكب على معنى أنا زينا السماء الدنيا بأن زَينتها الكواكبُ. وبأن زُيِّنَتِ الكَوَاكِبُ (1). * * * وقوله: (وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7) على معنى وحفظناها من كل شيطانٍ مَارِدٍ، على معنى وَحَفِظْناها حِفظاً من كل شيطان مارد. يُقْذَفونَ بها إذا استرقوا السَّمعَ. * * * (لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) (لَا يَسْمَعُونَ) ويقرأ بالتشديد (يَسَّمَّعُونَ) على معنى يتسمَّعُونَ (2). * * * (وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا) أي يُدْحَرُونَ أي يُبَاعَدُونَ. (وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9)

_ (1) قال السَّمين: قوله: {بِزِينَةٍ الكواكب}: قرأ أبو بكر بتنوين «زينة» ونصب «الكواكب» وفيه وجهان، أحدهما: أَنْ تكونَ الزينةُ مصدراً، وفاعلُه محذوفٌ، تقديره: بأنْ زَيَّنَ اللَّهُ الكواكبَ، في كونِها مضيئةً حَسَنةً في أنفسها. والثاني: أنَّ الزينةَ اسمٌ لِما يُزان به كاللِّيْقَةِ: اسمٌ لِما تُلاقُ به الدَّواةُ، فتكون «الكواكبُ» على هذا منصوبةً بإضمارِ «أَعْني»، أو تكون بدلاً مِنْ سماء الدنيا بدلَ اشتمالٍ أي: كواكبها، أو من محل «بزينة». وحمزةُ وحفصٌ كذلك، إلاَّ أنهما خَفَضا الكواكب على أنْ يُرادَ بزينة: ما يُزان به، والكواكب بدلٌ أو بيانٌ للزينة. والباقون بإضافةِ «زينة» إلى «الكواكب». وهي تحتملُ ثلاثةَ أوجهٍ، أحدها: أَنْ تكونَ إضافةَ أعمَّ إلى أخصَّ فتكونَ للبيان نحو: ثوبُ خَزّ. الثاني: أنها مصدرٌ مضافٌ لفاعلِه أي: بأن زَيَّنَتِ الكواكبُ السماءَ بضوئِها. والثالث: أنه مضافٌ لمفعولِه أي: بأَنْ زَيَّنها اللَّهُ بأَنْ جَعَلها مشرِقةً مضيئةً في نفسِها. وقرأ ابن عباس وابن مسعود بتنوينها، ورفعِ الكواكب. فإنْ جَعَلْتَها مصدراً ارتفع «الكواكب» به، وإنْ جَعَلْتَها اسماً لِما يُزان به فعلى هذا ترتفع «الكواكبُ» بإضمار مبتدأ أي: هي الكواكبُ، وهي في قوة البدلِ. ومنع الفراءُ إعمالَ المصدرِ المنوَّن. وزعمَ أنه لم يُسْمَعْ. وهو غلَطٌ لقولِه تعالى: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ} [البلد: 14] كما سيأتي إن شاء الله. اهـ (الدُّرُّ المصُون). (2) قال السَّمين: قوله: {لاَّ يَسَّمَّعُونَ}: قرأ الأخَوان وحفصٌ بتشديد السين والميم. والأصل: يَتَسَمَّعون فأدغم. والباقون بالتخفيف فيهما. واختار أبو عبيد الأُوْلى وقال: «لو كان مخففاً لم يتعَدَّ ب» إلى «. وأُجيب عنه: بأنَّ معنى الكلامِ: لا يُصْغُون إلى الملأ. وقال مكي:» لأنه جرى مَجْرى مُطاوِعِه وهو يتَسَمَّعُون، فكما كان تَسَمَّع يتعدَّى ب «إلى» تَعَدَّى سَمِع ب «إلى» وفَعِلْتُ وافتعلْتُ في التعدِّي سواءٌ، فَتَسَمَّع مطاوع سمعَ، واستمع أيضاً مطاوع سَمِع فتعدَّى سَمِعَ تعدِّيَ مطاوعِه «. وهذه الجملةُ منقطعةٌ عَمَّا قبلها، ولا يجوزُ فيها أَنْ تكونَ صفةً لشيطان على المعنى؛ إذ يصير التقدير: مِنْ كلِّ شيطانٍ ماردٍ غيرِ سامعٍ أو مستمعٍ. وهو فاسدٌ. ولا يجوزُ أيضاً أَنْ تكونَ جواباً لسؤال سائلِ: لِمَ تُحْفَظُ من الشياطين؟ إذ يَفْسُد معنى ذلك. وقال بعضهم: أصلُ الكلامِ: لئلا يَسْمَعوا، فَحُذِفت اللامُ، وأَنْ، فارتفع الفعلُ. وفيه تَعَسُّفٌ. وقد وَهِم أبو البقاء فجوَّزَ أَنْ تكون صفةً، وأنْ تكونَ حالاً، وأنْ تكونَ مستأنفةً، فالأولان ظاهرا الفسادِ، والثالثُ إن عنى به الاستئنافَ البيانيَّ فهو فاسدٌ أيضاً، وإنْ أرادَ الانقطاعَ على ما قَدَّمْتُه فهو صحيحٌ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(10)

قيل دائم وقيل موجع. * * * (إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10) (إِلَّا مَنْ خَطِفَ) - بفتحِ الطاء وكسرها، يقال خَطِفْتُ أَخْطَفُ. وخطَفْتُ أَخْطِفُ، إذا أخذت الشيء بسرعة، ويجوز إلا من خَطَّفَ بتشديد الطاء وفتح الخاء. ويجوز خِطَفَ. بكسر الخاء وفتح الطاء. والمعنى اختطف، فأدغمت التاء في الطاء وسقطت الألف لحركة الخاء، فمن فتح الخاء ألقى عليها فتحة التاء التي كانت في اختطف. ومن كسر فلسكونها وسكون الطاء. فأما مَنْ روى خِطِفَ الخطفة - بكسرالخاء والطاء - فلا وجه له إلا وجهاً ضعيفاً جداً يكون على اتباع الطاء كسر الخاء (1). * * * (فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ). يقال تَبِعْتهُ وَأَتْبَعْتهُ، واتَّبَعْتُه، إذا مَضَيْتُ في أثره. و (شِهَابٌ ثَاقِبٌ) كوكب مُضَيءٌ. * * * (فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ (11) أي سَلْهم سؤال تَقْرِيرٍ. (أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا) من الأمم السالفة قبلهم وغيرهم من السماوات والأ رضين. (مِنْ طِينٍ لَازِبٍ). ولازم ومعناهما واحد، أي لازق (2). * * * (بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وتقرأ (عَجِبْتُ) - بضم التاء - ومعناه في الفتح بل عجبتَ يَا مُحمد مِن نُزُول الوحي عليك وَيَسْخَرون، ويجوز أن يكون معناه بل عجبتُ (3)

_ (1) قال السَّمين: قوله: {إِلاَّ مَنْ خَطِفَ}: فيه وجهان، أحدُهما: أنه مرفوعُ/ المحلِّ بدلاً مِنْ ضميرِ «لا يَسَّمَّعون» وهو أحسنُ؛ لأنه غيرُ موجَب. والثاني: أنه منصوبٌ على أصلِ الاستثناء. والمعنى: أنَّ الشياطينَ لا يَسمعون الملائكةَ إلاَّ مَنْ خَطِف. قلت: ويجوز أَنْ تكون «مَنْ» شرطيةً، وجوابُها «فَأَتْبَعَه»، أو موصولةً وخبرُها «فَأَتْبَعَه» وهو استثناءٌ منقطعٌ. وقد نَصُّوا على أنَّ مثلَ هذه الجملةِ تكونُ استثناءً منقطعاً كقوله: {لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ * إِلاَّ مَن تولى وَكَفَرَ} [الغاشية: 22 - 23]. والخَطْفَةُ مصدرٌ معرفٌ بأل الجنسية أو العهدية. وقرأ العامَّةُ «خَطِفَ» بفتح الخاء وكسرِ الطاءِ مخففةً. وقتادة والحسن بكسرهما وتشديد الطاء، وهي لغةُ تميمِ بنِ مُرّ وبكرِ بن وائل. وعنهما أيضاً وعن عيسى بفتح الخاء وكسر الطاء مشددةً. وعن الحسن أيضاً خَطِفَ كالعامَّة. وأصل القراءَتَيْن: اخْتَطَفَ، فلمَّا أُريد الإِدغامُ سَكَنت التاءُ وقبلها الخاءُ ساكنةً، فكُسِرت الخاءُ لالتقاءِ الساكنين، ثم كُسِرت الطاءُ إتْباعاً لحركةِ الخاء. وهذه واضحةٌ. وأمَّا الثانية فمُشْكِلَةٌ جداً؛ لأنَّ كَسْرَ الطاء إنما كان لكسرِ الخاء وهو مفقودٌ. وقد وُجِّه على التوهُّم. وذلك أنهم لَمَّا أرادوا الإِدغام نقلوا حركة التاء إلى الخاء ففُتِحَتْ وهم يتوهَّمون أنها مكسورةٌ لالتقاءِ الساكنين كما تقدَّم تقريرُه، فأتبعوا الطاءَ لحركةِ الخاءِ المتوهَّمة. وإذا كانوا قد فَعَلوا ذلك في مقتضياتِ الإِعرابِ فَلأَنْ يَفْعلوه في غيرِه أَوْلَى. وبالجملة فهو تعليلُ شذوذٍ. وقرأ ابن عباس «خَطِفَ» بكسر الخاء والطاء خفيفةً، وهو إتْباعٌ كقولِهم: نِعِمَ بكسر النون والعين. وقُرئ «فاتَّبَعَه» بالتشديد. اهـ (الدُّرُّ المصُون). (2) قال السَّمين: قوله: {أَم مَّنْ خَلَقْنَآ}: العامَّةُ على تشديدِ الميم، الأصلُ: أم مَنْ وهي أم المتصلةُ، عُطِفَتُ «مَنْ» على «هم». وقرأ الأعمش بتخفيفها، وهو استفهامٌ ثانٍ. فالهمزةُ للاستفهام أيضاً و «مَنْ» مبتدأ، وخبره محذوفٌ أي: ألذين خَلَقْناهم أشدُّ؟ فهما جملتان مستقلتان وغَلَّبَ مَنْ يَعْقل على غيره فلذلك أتى ب «مَنْ». ولازِبٌ ولازِمٌ بمعنىً. وقد قُرئ «لازم». اهـ (الدُّرُّ المصُون). (3) قال السَّمين: قوله: {بَلْ عَجِبْتَ}: قرأ الأخَوان بضمِّ التاء، والباقون بفتحها. فالفتحُ ظاهرٌ. وهو ضميرُ الرسولِ أو كلِّ مَنْ يَصِحُّ منه ذلك. وأمَّا الضمُّ فعلى صَرْفِه للمخاطب أي: قُلْ يا محمدُ بل عَجِبْتُ أنا، أو على إسنادِه للباري تعالى على ما يَليقُ به، وقد تقدَّم تحريرُ هذا في البقرة، وما وَرَدَ منه في الكتاب والسنَّة. وعن شُرَيْحٍ أنه أنكرها، وقال: «إنَّ الله لا يَعْجَبُ» فبلغَتْ إبراهيمَ النخعي فقال: «إن شريحاً كان مُعْجَباً برأيه، قرأها مَنْ هو أعلمُ منه» يعني عبد الله بن مسعود. قوله: «ويَسْخَرون» يجوزُ أَنْ يكونَ استئنافاً وهو الأظهرُ، وأن يكونَ حالاً. وقرأ جناح بن حبيش «ذُكِروا» مخففاً. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(14)

من إنكارِهم البعث. ومن قرأ (عَجِبتُ) فهو إخبار عن اللَّه. وقد أنكر قومٌ هَذهِ القراءةَ. وقالوا: اللَّه - عزَّ وجلَّ - لا يعجب، وإنكارهم هذا غلط. لأن القراءة والرواية كثيرة والعجب من اللَّه - عزَّ وجلَّ - خلافُهُ من الآدميين كما قال: (وَيَمْكُرُ اللَّهُ)، و (سَخِرَ اللَّهُ منهم)، (وَهُوَ خَادِعُهُمْ). والمكر من اللَّه والخداع خلافه من الآدميين. وأصل العجب في اللغة أن الإنسان إذا رأى ما ينكره ويقل مثله قال: عجبت من كذا وكذا، وكذا إذا فعل الآدميون ما ينكره اللَّه جاز أن يقولَ فيه عجبتُ واللَّه قد علم الشيء قبل كونه، ولكن الإنكار إنما يقع والعجب الذي يلزم به الحجة عند وقوع الشيء. * * * (وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) أي إذا رأوا آية معجزة استسخروا واستهزأوا. * * * (وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (15) فجعلوا ما يدل على التوحيد مِما يَعجِزون عنه سحراً. نحو انشقاق القَمَر وما أشبهه. * * * وقوله: (أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) ويجوز (إِنَّا)، فمن قرأ (إِنَّا) اجتزأ - بألف الاستفهام. والمعنى في الوجهين أَنُبْعَثُ إذا كنا تراباً وعظاماً، وتفسيره لمبعوثون. * * * (قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ (18)

(19)

المعنى قل نعم تُبْعَثُونَ وَأَنْتُم صَاغرُونَ، ثم فسر أن بعثهم يقع بزجرة واحدة بقوله: (فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ (19) أي يحيون ويبعثون بُصَرَاءَ ينظرون. * * * (وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20) والويل: كلمة يقولها القائل وقت الهلكة. ومعنى (هَذَا يَوْمُ الدِّينِ). يوم الجزاء، أي يَومٌ نُجازى فيه بأعمالنا، فلما قالوا هذا يوم الدين قيل لهم نعم: (هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) أي هذا يوم يفصل فيه بين المحسن والمسيء، ويجازى كل بعَمَلِه، وبما يتفضل اللَّه به على المسلم. * * * (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) معناه ونظراءهم وضرباءهم، تقول عندي من هذا أزواج، أي أمثال، وكذلك زوجان من الخفاف، أي كل واحد نظير صاحبه. وكذلك الزوج المرأة والزوج الرجل، وقد تناسبا بعقد النكاح. وكذلك قوله: (وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58). * * * (فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) يقال: هديت الرجل إذا دللته، وهديت العروس إلى زوجها. وأهديت الهديَّة، وكذلك تقول في العروس: أهديتها إذا جعلتها كالهديَّة.

(24)

وقوله: (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24) أي احبسوهم. * * * (مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25) قوله: (لَا تَنَاصَرُونَ) في موضع نصب على الحال، المعنى ما لكم غير مَتَنَاصِرين. * * * (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27) أي يُسَائِلُ بعضُهم بعضاً. * * * (قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28) هذا قول الكفار للذين أضلوهم. كنتم تخدعوننا بأقوى الأسباب، أي كنتم تأتوننا من قبل الدِّين فَتُرُوننا أن الدِّينَ والحقَّ ما تضلوننا به [وتُزَيِّنُون لنا ضلالتنا] (1). * * * (قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) أي إنما الكفْرُ مِنْ قِبَلِكُمْ. * * * (فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31) حِقت علينا كلمة العذاب. (إِنَّا لَذَائِقُونَ). أي إن الجماعة، المضِل والضال في النارِ. * * * (فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32)

_ (1) زيادة حكاها صاحب اللسان عن الزجاج. اهـ (لسان العرب. 13/ 458).

(34)

أي أضْلَلْنَاكُمْ إنا كنا غَاوينَ ضَالين. * * * (إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) المجرمون المشركون خاصة. * * * (إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) يعني عن توحيد اللَّه عزَّ وجلَّ، وألَّا يَجْعَلُوا الأصْنَامَ آلِهة. * * * (يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) الكأس الإناء إذا كانت فيه خمر فهو كأس، ويقَعُ الكأسُ لكلِ إناء مع شَرَابِهِ [فإن كان فارغاً فليس بكأس] (1). (مِنْ مَعِينٍ). أي من خمر تجري كما يجري الماء عَلَى وجه الأرض مِنَ العُيُونِ. * * * (بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) أي ذَاتَ لَذةٍ. * * * (لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47) لا تغْتَالُه عُقُولَهُم، لا تذْهبُ بِها، ولا يُصِيبهُم منها وجع. (وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ). (يُنْزِفُونَ) - بفتح الزاي وكسرها. فمن قرأ " يُنْزَفُونَ " فالمعنى لَا تَذْهَبُ عقولهم بشربها، يقال للسكران نزيف ومنزوف. ومن قرأ يُنْزِفونَ، فمعناه لا يُنْفِدُونَ شَرابَهم، أي هو دائم أبداً لهم. ويجوز أن يكون يُنْزِفُونَ يَسْكَرُونَ. قال الشاعر:

_ (1) زيادة حكاها ابن الجوزي عن الزَّجَّاج. اهـ (زاد المسير. 7/ 56).

(48)

لَعَمْرِي لئنْ أَنْزَفْتُمُ أَو صَحَوتُمُ. . . لبئسَ النَّدامَى كنتمُ آلَ أَبْجَرا * * * (وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) أي عندهم حُورٌ قد قصرن طرفَهن أي عُيونَهُن عَلَى أَزْوَاجِهِن. (عِينٌ) كِبَارُ الأعَيْنِ حِسَانُها. الواحدة عيناء. * * * (كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49) أي كأنَّ ألوانهن ألوانُ بيض النعَامِ. (مَكْنون)، الذي يكِنه رَأْسُ النعَامِ. ويجوز أن يكون مكنون مَصُون، يقال كننت الشيء إذا سترته، وصُنْتَهُ، فهو مَكْنونٌ، وأكْنَنْتَهُ إذَا أَضْمَرْتَه في نفسك. * * * (يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) (الْمُصَدِّقِينَ) مخففة من صَدَّقَ فهو مُصَدِّق، ولا يجوز ههنا تشديد الصاد، لأن المصَّدِّقين الذين يعطون الصدقة. و (الْمُصَدِّقِينَ) الذين لا يُكذِبون، فالمعنى كان لي قرين يقول أئنك مِمن يُصَدِّق بالبعْث بَعدَ أن تَصِيرَ تُراباً وعظاماً، فأحبَّ قرينُه المسلم أن يراه بعد أن قيل له: (هَلْ أنتُم مُطَّلِعُونَ). أي هل تحبون أن تطلِعُوا فتعلموا أين منزلتكم من منزلة أهل النار. * * * (فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) فاطلع المسلم فرأى قرينه الذي كان يكذب بالبعث في سَواء الجحيم. أي في وسط الجحيم، وسواءكل شيء وسَطُه. ويقرأ: هَلْ أَنْتُمْ مُطْلِعُونَ - بفتح النون وكسرها وتخفيف الطاء - فمن فتح النُونَ مع التخفيف فقال " مُطْلِعُونَ " فهو بمعنَى طَالِعُون ومُطلِعُونَ، يقال طلعت عليهم وأطْلَعْتُ واطَّلَعْتُ بمعنًى ومن قرأ مُطْلِعُون - بكسر النون قرأ " فَأُطْلِعَ " ومن قرأ بفَتْح النونِ " مُطْلِعُونَ " وجب أن يقرأ فأُطْلَعَ. ويجوز ُ " فَأُطْلِعَ " على معنى هل أنتم مُطْلِعُونَ

(56)

أَحَداً، فأمَّا الكسر للنون فهو شاذ عند البصريين والكوفيين جميعاً وله عند الجماعة وجه ضعيف وقد جاء مثله في الشعر: هم القائلون الخير والأمرونه. . . إذا ما خَشَوْا مِن مُحَدث الأمرْ معظما وأنشدوا: وما أدري وظني كل ظَني. . . أَمُسْلِمُني إلى قومي شَرَاحِ والذي أَنْشَدَنَيه محمد بن يزيد: أَيُسْلَمِنُي إلى قومي، وإنما الكلام أمُسْلِمِي وَأَيُسْلِمُنِي، وكذلك هم القائلون الخير والأمروه، وكل أسماء الفاعلين إذا ذكرت بعدها المضمر لم تذكر النون ولا التنوين. تقول: زَيْد ضَارِبي وهما ضارباك ولا يجوز وهو ضاربُني، ولا هم ضاربونك. ولا يجوز هم ضاربونك عندهم إلا في الشعر إلا أنه قد قُرِئ بالكسر: (هلْ أَنْتُم مُطلِعُون) على معنى مطلعوني، فحذفت الياء كما تحذف في رؤوس الآي، وبقيت الكسرة دليلاً عليها. وهو في النحو - أعني كسر النون - على مَا أَخْبَرْتُكَ، والقراءة قليلة بها، وأجودُ القراة وأكثرها مُطَّلِعُونَ - بتشديد الطاء وفتح النون - ثم الذي يليه مُطْلِعُونِ بتخفيف الطاء وفتح النون (1). * * * (قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56)

_ (1) قال السَّمين: وقرأ العامَّةُ «مُطَّلِعُوْنَ» بتشديد الطاءِ مفتوحةً وبفتح النونِ. «فاطَّلَع» ماضياً مبنياً للفاعل، افْتَعَلَ من الطُّلوع. وقرأ ابنُ عباس في آخرين - ويُرْوَى عن أبي عمروٍ - بسكونِ الطاءِ وفتح النون «فأُطْلِعَ» بقطعِ همزةٍ مضمومةٍ وكسرِ اللامِ ماضياً مبنياً للمفعول. و «مُطْلِعُوْنَ» على هذه القراءةِ يحتمل أَنْ يكونَ قاصراً أي: مُقْبِلون مِنْ قولِك: أَطْلَعَ علينا فلانٌ أي: أَقْبَلَ، وأَنْ يكونَ متعدياً، ومفعولُه محذوفٌ أي: أصحابَكم. وقرأ أبو البرهسم وعَمَّار بن أبي عمار «مُطْلِعُوْنِ» خفيفةَ الطاء مكسورةَ النونِ، «فَأُطْلِعَ» مبنياً للمفعول. وقد رَدَّ الناسُ - أبو حاتم وغيرُه - هذه القراءةَ من حيث الجمعُ بين النونِ وضميرِ المتكلم؛ إذ كان قياسُها مُطْلِعيَّ، والأصل: مُطْلِعُوْي، فأُبْدِل وأُدْغِمَ نحو: جاء مُسْلِميَّ العاقلون، وقوله عليه السلام «أوَ مُخْرِجِيَّ هم» وقد وَجَّهها ابنُ جني على أنَّه أُجْرِيَ فيها اسمُ الفاعل مُجْرى المضارع، يعني في إثباتِ النونِ فيه مع الضميرِ. وأَنْشَدَ الطبريُّ على ذلك: 3806 وما أَدْري وظَنِّي كلَّ ظنِّ. . . أمُسْلِمُنِي إلى قومي شُراح /وإليه نحا الزمخشريُّ قال: «أو شَبَّه اسمَ الفاعلِ في ذلك بالمضارعِ لتآخي بينِهما كأنَّه قال:» يُطْلِعُونِ «. وهو ضعيفٌ لا يقع إلا في شِعْرٍ. وذكر فيه توجيهاً آخر فقال:» أراد مُطْلِعونَ إياي فوضع المتصلَ موضعَ المنفصلِ، كقوله: 3807 هم الفاعلونَ الخيرَ والآمِرُوْنَه. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ورَدَّه الشيخ: بأنَّ هذا ليس مِنْ مواضِع المنفصلِ حتى يَدَّعِيَ أن المتصلَ وَقَعَ موقِعَه. لا يجوز: «هندُ زيدٌ ضاربٌ إياها، ولا زيدٌ ضارِبٌ إياي» قلت: إنما لم يَجُزْ ما ذَكَرَ؛ لأنه إذا قُدِرَ على المتصلِ لم يُعْدَلْ إلى المنفصلِ. ولقائلٍ أَنْ يقولَ: لا نُسَلِّمُ أنه يُقْدَرُ على المتصلِ حالةَ ثبوتِ النونِ والتنوينِ قبل الضميرِ، بل يصيرُ الموضعُ موضعَ الضميرِ المنفصلِ؛ فيَصِحُّ ما قاله الزمخشريُّ. وللنحاةِ في اسمِ الفاعلِ المنونِ قبل ياءِ المتكلمِ نحوَ البيتِ المتقدمِ، وقولِ الآخر: 3808 فهَلْ فتىً مِنْ سَراةِ القَوْمِ يَحْمِلُني. . . وليس حامِلَني إلاَّ ابنُ حَمَّالِ وقول الآخر: 3809 وليس بمُعْيِيْنِيْ وفي الناسِ مُمْتِعٌ. . . صَديقٌ إذا أعْيا عليَّ صديقُ قولان، أحدُهما: أنَّه تنوينٌ، وأنه شَذَّ تنوينُه مع الضميرِ، وإنْ قلنا: إن الضمير بعده في محلِّ نصبٍ. والثاني: أنه ليس تنويناً، وإنما هو نونُ وقايةٍ. واستدلَّ ابنُ مالكٍ على هذا بقولِه: وليس بمُعْيِيْني. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وبقوله أيضاً: 3810 وليس المُوافِيني لِيُرْفَدَ خائباً. . . فإنَّ له أَضْعافَ ما كان أمَّلا ووَجْهُ الدلالةِ من الأول: أنَّه لو كان تنويناً لكان ينبغي أن يحذفَ الياءَ قبلَه؛ لأنه منقوصٌ منونٌ، والمنقوص المنونُ تُحذف ياؤه رفعاً وجَرَّاً لالتقاء الساكِنَيْن. ووجهُها من الثاني: أنَّ الألفَ واللامَ لا تُجامِعُ النونَ والذي يُرَجِّح القولَ الأولَ ثبوتُ النونِ في قوله: «والآمِرُوْنَه» وفي قولِه: 3811 ولم يَرْتَفِقْ والناسُ مَحْتَضِرُونَه. . . جميعاً وأَيْدي المُعْتَفِيْنَ رواهِقُهْ فإنَّ النونَ قائمةٌ مقامَ التنوينِ تثنيةً وجمعاً على حَدِّها. وقال أبو البقاء: «ويُقْرأ بكسرِ النونِ، وهو بعيدٌ جداً؛ لأنَّ النونَ إنْ كانت للوقايةِ فلا تَلْحَقُ الأسماءَ، وإنْ كانَتْ نونَ الجمعِ فلا تَثْبُتُ في الإِضافةِ». قلت: وهذا الترديدُ صحيحٌ لولا ما تقدَّم من الجوابِ عنه مع تَكَلُّفٍ فيه، وخروجٍ عن القواعد، ولولا خَوْفُ السَّآمةِ لاسْتَقْصَيْتُ مذاهبَ النحاةِ في هذه المسألة. وقُرِئ «مُطَّلِعُوْن» بالتشديد كالعامَّة، «فأَطَّلِعَ» مضارعاً منصوباً بإضمار «أَنْ» على جوابِ الاستفهامِ. وقُرِئ «مُطْلِعون» بالتخفيف «فَأَطْلَعَ» مخففاً ماضياً ومخففاً مضارعاً منصوباً على ما تقدَّم. يُقال: طَلَع علينا فلانٌ وأَطْلع، كأكْرم، واطَّلَعَ بالتشديد بمعنًى واحد. وأمَّا قراءةُ مَنْ بنى الفعلَ للمفعولِ في القائمِ مقامَ الفاعلِ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه مصدرُ الفعلِ أي: أُطْلِعَ الإِطلاعُ. الثاني: الجارُّ المقدرُ. الثالث - وهو الصحيح - أنه ضميرُ القائلِ لأصحابِه ما قاله؛ لأنه يُقال: طَلَعَ زيدٌ وأَطْلعه غيرُه، فالهمزَةُ فيه للتعدية. وأمَّا الوجهان الأوَّلان فذهب إليهما أبو الفضل الرازيُّ في «لوامحه» فقال: «طَلَعَ واطَّلع إذا بدا وظَهَر، وأَطْلَع إطلاعاً إذا جاء وأَقْبَلَ. ومعنى ذلك: هل أنتم مُقْبلون فأُقْبل. وإنما أُقيم المصدرُ فيه مُقام الفاعلِ بتقدير: فأُطْلِعَ الإِطلاعُ، أو بتقدير حرفِ الجر المحذوف أي: أُطْلِعَ به؛ لأن أَطْلَعَ لازم كما أنَّ أَقْبَلَ كذلك». وقد رَدَّ الشيخُ عليه هذين الوجهين فقال: «قد ذَكرْنا أنَّ أَطْلَعَ بالهمزةِ مُعَدَّى مِنْ طَلَعَ اللازمِ. وأمَّا قولُه:» أو حرف الجرِّ المحذوف أي: أُطْلِع به «فهذا لا يجوزُ؛ لأنَّ مفعولَ ما لم يُسَمّ فاعلُه لا يجوزُ حَذْفُه لأنه نائبٌ عنه، فكما أنَّ الفاعلَ لا يجوزُ حَذْفُه دونَ عامِله فكذلك هذا. لو قلت:» زيدٌ ممرورٌ أو مغضوبٌ «تريد: به أو عليه لم يَجُزْ». قلت: أبو الفضل لا يَدَّعِي أنَّ النائبَ عن الفاعل محذوفٌ، وإنما قال: بتقدير حرفِ الجرِّ المحذوفِ. ومعنى ذلك: أنه لَمَّا حُذِفَ حرفُ الجرِّ اتِّساعاً انقلبَ الضميرُ مرفوعاً فاستتر في الفعلِ، كما يُدَّعى ذلك في حَذْفِ عائد الموصولِ المجرورِ عند عَدَمِ شروطِ الحذفِ/ ويُسَمَّى الحذفَ على التدريج. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(57)

(تَاللَّهِ) معناه واللَّه، والتاء بدل من الواو، لترْدِينِ أي لتهلكني، يقال رَدِيَ الرجُلُ يَرْدَى رَدًى إذَا هَلَكَ، وَأَرْدَيْتُه أَهْلَكتُه. * * * (وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أي أُحْضَرَ العذاب كما أُحُضِرتَ. * * * (أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) المعنى أنعيم الجنة وطعامها خير نزلاً أم شجرة الزقوم خَيْرٌ نُزُلًا. والنزُلُ: ههنا الرَّيْعُ والفضْلُ، @تقول: هذا طعام له نُزُل ونُزْل بتسكين الزَّاي وَضمها وَنَزَل، ويكون ذلك خير نُزُلاً؛ أي أذلك خير في باب الإنْزَال التي تُتَقوَّتُ ويمكن معها الإقامةُ - أَمْ نُزُلُ أهل النارِ. وإنما قيلَ لَهمْ فيما يقام للناس من الأنزال أقمت لهم نُزُلَهُمْ أي غذاءهم، وما يصلح معه أن ينزلوا عليه. * * * ومعنى: (إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) عبرةً للظالمين، أي خبرةً افتتنوا بها، وكذبوا بها فصارت فتنة لهم. وذلك أنهم لما سمعوا أنها شجرة تخرج في أصل الجحيم قالُوا: الشجر يحترق بالنارِ، فكيف ينبت الشجر في النار فافتتنوا وكذبوا بذلك. * * * (طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) فيه ثلاثة أقوال: قيل الشياطين حيات لها رءوس فشُبِّه طَلْعُهَا برءوس تلك الحيات، وقيل رءوس الشياطين نبت معروف. وقيل وهو القَوْل المعروفُ أن الشيء إذا استقبح شُبِّهَ بالشيطان، فقيل: كأنَّه وجه شيطانٍ، وكأنه رأسُ شيطان، والشيطان لا يُرى، ولكنه يستشعر أنه أقبح ما يكون من الأشياء، لو رُئِيَ لرئي في أقبح صورة. قال امرؤ القيس:

(67)

أَيَقْتُلُني والمَشْرَفِيُّ مُضاجِعي ومَسْنونةٌ زُرْقٌ كأَنيابِ أَغوالِ؟ ولم يُرَ الغولُ قط ولا أنيابُها ولكن التمثيل بما يستقبح أبلغ في باب المذكر، يمثل بالشيطان وفي باب ما يستقبح في المؤنث يشبه بالغول (1). * * * (ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67) أي لخلطاً ومِزَاجاً، ويُقْرأ (لَشُوباً مِنْ حَمِيم)، الشوْبُ المصدر، والشوبُ الاسمُ، والخَلْطُ: المخلوط (2). * * * (فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) أي هم يَتْبعُونَ آثارَهم اتباعاً في سُرْعةٍ، ويقال (يُهْرَعُون) كأنهم يزعجونَ من الإسراع إلى اتباع آبائهم، يقال هُرِعَ وأهرع في معنًى واحدٍ إذا اسْتُحِثَّ وَأَسْرَعَ. * * * وَقَولَه: (إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74) المخلصين الذين أخلَصَهُم اللَّه واصطفاهم لعبادَتِه. . ويقرأ المُخْلِصِين أي الموَحِّدِينَ. * * * (وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) أي دعانا بأن ننقذه من الغرق، والمعنى فلنعم المجِيبون نَحْنُ. * * * (وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) يعني كرب الغَرَقِ الذي هو عذاب. * * * (وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77)

_ (1) قال السَّمين: قوله: {رُءُوسُ الشياطين}: فيه وجهان، أحدهما: أنه حقيقةٌ، وأنَّ رؤوسَ الشياطينِ شجرٌ بعينِه بناحيةِ اليمن يُسَمَّى «الأسْتَن» وقد ذكره النابغةُ: 3812 تَحِيْدُ عن أَسْتَنٍ سُوْدٍ أسافِلُها. . . مثلَ الإِماءِ الغوادي تَحْمِل الحُزَمَا وهو شجرُ مُرٌّ منكَرُ الصورةِ، سَمَّتْه العربُ بذلك تشبيهاً برؤوس الشياطين في القُبْح ثم صار أصلاً يُشَبَّه به. وقيل: الشياطين صِنْفٌ من الحَيَّاتِ، ولهنَّ أعْراف. قال: 3813 عُجَيِّزٌ تَحْلِفُ حينَ أَحْلِفُ. . . كمثلِ شيطان الحَماطِ أَعْرَفُ وقيل: وهو شجرٌ يقال له الصَّوْمُ، ومنه قولُ ساعدةَ بن جُؤَيَّة: 3814 مُوَكَّلٌ بشُدُوْفِ الصَّوْم يَرْقُبها. . . من المَغَارِبِ مَخْطوفُ الحَشَا زَرِمُ فعلى هذا قد خُوْطِبَ العربُ بما تَعْرِفُه، وهذه الشجرةُ موجودةٌ فالكلامُ حقيقةٌ. والثاني: أنَّه من بابِ التَّخْييل والتمثيل. وذلك أنَّ كلَّ ما يُسْتَنْكَرُ ويُسْتَقْبَحُ في الطِّباعِ والصورةِ يُشَبَّه بما يتخيَّله الوهمُ، وإن لم يَرَه. والشياطين وإن كانوا موجودين غيرَ مَرْئِيَّين للعرب، إلاَّ أنه خاطبهم بما أَلِفوه من الاستعارات التخييلية، كقوله: 3815. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ومَسْنُوْنَةٌ زُرْقٌ كَأَنْيابِ أَغْوالِ ولم يَرَ أنيابَها، بل ليسَتْ موجودة ألبتَّةََ. اهـ (الدُّرُّ المصُون). (2) قال السَّمين: قوله: {لَشَوْباً}: العامَّةُ على فتح الشين، وهو مصدرٌ على أصلِه. وقيل: يُرادُ به اسمُ المفعولِ، ويَدُلُّ له قراءةُ شيبانَ النحويِّ «لَشُوباً» بالضمِّ. قال الزجاج: «المفتوحُ مصدرٌ والمضومُ اسمٌ بمعنى المَشُوْب» كالنَّقض بمعنى المنقوض. وعَطَفَ ب «ثمَّ» لأحدِ معنيين: إمَّا لأنه يُؤَخِّر ما يظنُّونه يَرْوِيْهم مِنْ عَطَشهم زيادةً في عذابهم، فلذلك أتى ب «ثم» المقتضيةِ للتراخي، وإمَّا لأنَّ العادة تقضي بتراخي الشُّرْبِ عن الأكلِ، فعَمِل على ذلك المِنْوالِ. وأمَّا مَلْءُ البطنِ فيَعْقُبُ الأكلَ، فلذلك عَطَفَ على ما قبلَه بالفاءِ و «مِنْ حميمٍ» صفةٌ ل «شَوْباً». والشَّوْبُ: الخَلْطُ والمَزْجُ ومنه: شابَ اللبنَ يَشُوبُه أي: خَلَطه ومَزَجَه. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(78)

لما جاء الطوفان لم يبق ألا نُوحَ وذُرئتُهُ، والخلق الباقون من ذُرئةِ نوح. * * * (وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) أي تركنا عليه الذكر الجميل إلى يوم القيامة، وذلك الذكر قوله: (سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79) المعنى تَرَكنَا عليه في الآخرين أن يصلى عليه إلى يوم القيامة. * * * (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83) أي من شيعة نوح، من أهلِ مِلَّتِه يعني نوحاً. * * * (إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) جاء في التفسير سليم من الشرك، وهو سليم من الشرك ومن كل دَنسٍ. * * * (فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87) قال إبراهيم لقومه - وهم يعْبُدُون الأصْنَامَ: أي شيءٍ ظنكم بِرَبِّ العالمين وأنتم تعبدون: غيره. وموضع (ما) رفع بالابتداء، والخبرُ (ظَنُّكُمْ). * * * (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) قال لقومه وقد رأى نجماً إني سَقِيمٌ، فأوهمهم أن الطاعُونَ بِهِ. (فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فِراراً من أن يُعْدَىْ إليهم الطاعونُ، وإنما " قال إني سَقِيمٌ، لأن كل واحد وأن كانَ مُعَافىً فلا بد مِن أَنْ يَسْقَم ويموت، قال اللَّه تعالى: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30). أي إنك ستموت فيما يستقبل، وكذلك قوله:

(93)

(إِنِّي سَقِيمٌ) أي سأسْقَم لا محالة. وقد روي في الحديث: لم يكذب إبراهيم إلا في ثَلَاثةٍ، وَقَدْ فَسَّرنَا ذَلِك، وأن هذه الثلاث وقعت فيها معارضة في قوله: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا). على معنى: إنْ كَانُوأ يَنْطِقون فَقَدْ فَعَله كَبِيرُهُمْ وقوله: " سَارَّةُ أخْتِي "، أي أختي في الإسلام. وقوله: (إِنِّي سَقِيمٌ) على ما فسَّرنا. * * * (فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93) معنى راغ عليهم مال عليهم، وضرباً مصدر، المعنى فمال عَلَى الأصنام يضربُهُمْ ضرباً بِالْيَمِينِ، يحتمل وجهين (1): بيمينه، وبالقوة والمكانة. وقال: (عَلَيْهم) وهي الأصنام لأنهم جعلوها معبودةً بمنزلة ما يميز كما قال: (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ). * * * (فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) يعني قوم إبْرَاهِيم. (يَزِفُّونَ) يُسْرِعُونَ إلَيْهِ. ويقرأ على ثَلاثةِ أوْجُهٍ (2). (يَزِفُّونَ) - بفتح الياء وُيزِفُّونَ - بِضَفمهَا، وَيزِفُونَ - بتخفيف الفاء. وأَعْرَبُها كُلُّها (يَزِفُّونَ) بفتح الياء وتشديد الفاء، وأصله من زفيف النعام، وهو ابتداء عَدْوِهَا، يقال زَفَّ النعام يَزِفُّ. ويُقْرَأ يُزِفُّون أي يصيرون إلى الزفِيفِ. ومثله قول الشاعر: تَمَنَّى حُصَيْنٌ أَن يَسُودَ جِذاعَه. . . فأَمْسَى حُصَيْنٌ قد أُذلَّ وأُقْهِرا معنى أَقْهَرَ صار إلى القَهْرِ. وكذلك يُزِفونَ. فأما يَزِفُونَ - بالتخفيف فهو من وَزَفَ يَزِفُ، بمعنى أَسْرَع، ولم يَعْرِفُهُ الفَرَّاء، ولا الكِسَائِى، وعَرفَه غيرُهمَا. * * * وقوله: (قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97)

_ (1) قال السَّمين: و «ضَرْباً» مصدرٌ واقعٌ موقعَ الحالِ أي: فراغ عليهم ضارِباً أو مصدرٌ لفعلٍ، ذلك الفعلُ/ حالٌ تقديرُه: فراغَ يَضْرِب ضَرْباً، أو ضَمَّن «راغَ» معنى يَضْرِبُ، وهو بعيدٌ. و «باليمينِ» متعلِّقٌ ب «ضَرْباً» إن لم نجعَلْه مؤكِّداً وإلاَّ فبعامِلِه. واليمينُ: يجوزُ أن يُرادَ بها إحدى اليدين وهو الظاهرُ، وأنُ يُرادَ بها القوةُ، فالباءُ على هذا للحالِ أي: مُلْتبساً بالقوةِ، وأَنْ يُراد بها الحَلْفُ وفاءً بقولِه: {وتالله لأَكِيدَنَّ} [الأنبياء: 57]. والباءُ على هذا للسببِ. وعَدَّى «راغ» الثاني ب «على» لَمَّا كان مع الضَرْبِ المُسْتَوْلي عليهم مِنْ فَوقِهم إلى أسفلِهم بخلافِ الأولِ فإنه مع توبيخٍ لهم، وأتى بضميرِ العقلاء في قولِه «عليهم» جَرْياً على ظنِّ عَبَدَتها أنها كالعقلاءِ. اهـ (الدُّرُّ المصُون). (2) قال السَّمين: قوله: {يَزِفُّونَ}: حالٌ مِنْ فاعلِ «أَقْبَلوا»، و «إليه» يجوزُ تَعَلُّقُه بما قبلَه أو بما بعده. وقرأ حمزةُ «يُزِفُّون» بضم الياء مِنْ أَزَفَّ وله معنيان، أحدهما: أنَّه مِنْ أَزَفَّ يُزِفُّ أي: دخل في الزَّفيفِ وهو الإِسراعُ، أو زِفافِ العَروسِ وهو المَشْيُ على هيئتِه؛ لأنَّ القومَ كانوا في طمأنينةٍ مِنْ أَمْرِهم، كذا قيل هذا الثاني وليس بشيءٍ؛ إذ المعنى: أنهم لَمَّا سمعوا بذلك بادروا مُسْرِعين، فالهمزة على هذا ليسَتْ للتعديةِ. والثاني: أنه مِنْ أَزَفَّ بعيرَه أي: حَمَله على الزَّفِيْفِ وهو الإِسراعُ أو على الزِّفافِ، وقد تقدَّم ما فيه. وباقي السبعةِ بفتحِ الياءِ مِنْ زَفَّ الظليمُ يَزِفُّ أي: عَدا بسُرْعة. وأصلُ الزَّفيفِ للنَّعام. وقرأ مجاهد وعبد الله بن يزيد والضحاك وابن أبي عبلة «يَزِفُون» مِنْ وَزَفَ يَزِفُ أي: أَسْرَعَ. إلاَّ أنَّ الكسائيَّ والفراء قالا: لا نعرفُها بمعنى زَفَّ، وقد عَرَفَها غيرُهما. قال مجاهد - وهو بعضُ مَنْ قرأ بها -: «الوزيف: النَّسَلان». وقُرِئ «يُزَفُّون» مبنيَّاً للمفعول و «يَزْفُوْن» ك يَرْمُون مِنْ زَفاه بمعنى حَداه، كأنَّ بعضَهم يَزْفو بعضاً لتسارُعِهم إليه. وبين قولِه: «فأَقْبَلُوا» وقولِه: «فراغ عليهم» جُمَلٌ محذوفةٌ يَدُلُّ عليها الفَحْوَى أي: فبلغَهم الخبرُ فرَجَعوا مِنْ عيدِهم، ونحو هذا. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(100)

كل نار بعضُها فوق بَعض، وهي جَحْمٌ. * * * (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) يقول: هب لي ولداً صَالِحاً من الصالِحِينَ. * * * (فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) وهذه البِشَارَة تدل على أنه غلام وأنه يبقى حتى يُوصفَ بالحلم. * * * (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) أي أدرك معه العَمَل، يقال إنَّه قد بلغ في ذلك الوقت ثلاث عشرة سنة. (قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى). تقرأ غَيْرَ مماله، وَ (تَرَى) - مُمَالَة، - و (تُرِي) - بلا إمالة، - وتُرِي - بالإمالة - و (ماذا تُرَى) ففيها خمسة أوجه (1): ترى - بالفتح وبالكسر. وكذلك في تُرِي وتُرَى،. وفيها خمسة أوجه أخر لم يقرأ بشيء منها، فَلَا تقرأنَّ بها، وهو أن تأتي الخمسة التي ذكرناها ممالة وغير ممالة بغير همز فتهمزها كلها، فما كان مُمَالاً هَمِزَ وأمال، وما لم يكن مُمَالاً أمال ولم يهمز. ويجوز ماذا تَرْأَى ممال. وماذا تُرْئِي، وماذا تُرْأَى، وماذا تَرَى وَمَاذا تُرَى. فمعنى ماذا تَرأَى وتُرْئي من الرأي، ومعنى ماذا تُرَى مَاذَا تُشِيرُ. وَزَعَم الفراء أن معناه مَاذَا تُرِيني من صَبْرِكَ، ولا أعلم أحَداً قَالَ هَذَا. وفي كل التفسير ما تُرِي ما تشير. * * * قال: (يَا أبَتِ افْعَلْ مَا تُومَرُ). ورؤية الأنبياء في المنام وحيٌ بمنزلة الوحي إليهم في اليقظة. وقد فَسَّرْنَا يا أَبَهْ، وإعرابَهُ فيما سَلَفَ من الكتاب.

_ (1) قال السَّمين: قوله: «ماذا ترى» يجوزُ أَنْ تكونَ «ماذا» مركبةً مغلَّباً فيها الاستفهامُ فتكونَ منصوبةً ب «تَرَى»، وهي وما بعدها في محلِّ نصب ب «انْظُر» لأنها مُعَلِّقةٌ له، وأنْ تكونَ «ما» استفهاميةً، و «ذا» موصولةً، فتكون مبتدأً وخبراً، والجملةُ معلِّقَةٌ أيضاً، وأَنْ تكونَ «ماذا» بمعنى الذي فتكونَ معمولاً ل «انْظُرْ». وقرأ الأخَوان «تُري» بالضم والكسر. والمفعولان محذوفان، أي: تُريني إياه مِنْ صبرك واحتمالك. وباقي السبعة/ «تَرَى» بفتحتين مِن الرأي. وقرأ الأعمش والضحَّاك «تُرَى» بالضمِّ والفتح بمعنى: ما يُخَيَّلُ إليك ويَسْنَحُ بخاطرك. وقوله: «ما تُؤْمَرُ» يجوزُ أَنْ تكونَ «ما» بمعنى الذي، والعائدُ مقدرٌ أي: تُؤْمَرُه، والأصلُ: تُؤْمَرُ به، ولكنَّ حَذْفَ الجارِّ مُطَّرِدٌ، فلم يُحْذَفْ العائدُ إلاَّ وهو منصوبُ المحلِّ، فليس حَذْفُه هنا كحذفِه في قولك: «جاء الذي مَرَرْتُ». وأَنْ تكونَ مصدريةً. قال الزمخشري: «أو أَمْرَك، على إضافةِ المصدرِ للمفعول وتسميةِ المأمورِ به أمراً» يعني بقولِه المفعول أي: الذي لم يُسَمَّ فاعلُه، إلاَّ أنَّ في تقدير المصدرِ بفعل مبنيّ للمفعولِ خلافاً مَشْهوراً. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(103)

(سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ). يَقول على أمر اللَّه. * * * (فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) أسْلَما اسْتَسْلَمَا لأمر اللَّه. رضي إبراهيم بأن يذبح ابنه، ورضي ابنه بأن يُذبَح تصديقاً للرؤيا وطاعة للَّهِ. واختلف الناس في الذي أمر بذبحه مَنْ كانَ، فقال قوم إسحاق. وقال قوم إسماعيل. فأمَّا من قال إنه إسحاق، فعليٌّ رحمة اللَّه عليه وابنُ مَسْعُودٍ وكعب الأحبار، وجماعة من التابعين. وأما من قال إنه إسماعيل فابن عمر ومحمد بن كعب القرظي وسعيد بن المسيب وجماعة من التابعين. وحجة من قال إنه إسماعيل قوله: (وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112). وَحُجة من قال إنَّه اسحاق، قال: كانت في إسحاق بشارتان الأولى فبشرناه بغُلام حَلِيم. فلما استسلم للذبح واستسلم إبراهيم لذبحه بُشِرَ به نبيًّا من الصالحين. والقول فيهما كثير واللَّه أعلم أيهما كان الذبيح. فأمَّا جواب (فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) أي صَرَعَهُ. فقد اختلف الناس فيه فقال قوم جوابه وناديناه، والواو زائدة، وقال قوم إن الجواب محذوف بأن في الكلام دليلاً عليه. المعنى فلما فعل ذلك سعِدَ وأتاه اللَّه نبوة وَلَدِه وأجزلَ لَهُ الثواب في الآخرة. * * * (وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) الذِّبح: بكسر الذال الشيءُ الذي يُذْبَح، والذَّبْح المصدر، تقول: ذبحته أذْبَحُه ذَبْحاً. وقيل إنه الكَبْشُ الذي تُقُبِّلَ من ابن آدم حين قرَّبَه، وقيل إنَّه رَعَا

(115)

في الجنة أربعين سنة، وقيل إنَه كان وَعِلًا من الأوْعَالِ. والأوعال التيوس الجبليَّةُ. * * * (وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) قيل من الغرَقِ كما فُعِلَ بِفِرْعَوْنَ وَقَوْمِه. * * * (وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) جاء في التفسير أنه إدريس، ورويت عنِ ابن مَسْعُودٍ أنه قرأ: وإن إدريس، ورويت سلام على إدْرَاسِين (1). * * * (أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125) قيل إن بعلًا كانوا يعبدونه، صنماً من ذهب، وقيل إن بعلاً تعني، رَبًّا (2). * * * (اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) وقرئت (اللَّهَ رَبَّكُمْ) على صِفَةِ أحْسَنِ الخَالِقِينَ اللَّهَ. وقرئت: (اللَّهُ رَبَّكُمْ) عَلَى الابثداء والخبر. * * * (سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130) (سَلامٌ عَلَى آلِ يَاسِينَ). وقُرئت إلْيَاس. فمن قرأ بالوصل فموضع إلياسين جمعٌ، هو وأمته المؤمنون، وكذلك يجمع مَا يُنْسَب إلى الشيء بلفظ الشيء، تقول: رأيت المَسامِعَة والمَهَالِبةَ، تريد بني المهَلَّب وبنيْ مِسْمَع، وكذلك: رأيت المهلبين والمِسْمَعِين. وفيها وجه آخر تكون فيه لغتان إلياس وإلياسين كما قال ميكال وميكائيل (3). * * * وقوله: (إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (135) يعني في البَاقِينَ. * * * وقوله: (إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) (أَبَق) هَرَبَ إلى الفلك المشحون، والمشحون المملوء.

_ (1) قال السَّمين: قوله: {وَإِنَّ إِلْيَاسَ}: العامَّةُ على همزةٍ مكسورةٍ، همزةِ قطع. وابنُ ذكوان بوَصْلِها، ولم يَنْقُلْها عنه الشيخُ بل نقلها عن جماعةٍ غيرِه. ووجهُ القراءتَيْن أنه اسمٌ أعجميٌّ تلاعَبَتْ به العربُ فقطعَتْ همزتَه تارةً، ووَصَلَتْها أخرى وقالوا فيه: إلْياسين كجِبْرائين. وقيل: تحتمل قراءةُ الوصلِ أَنْ يكون اسمُه ياسين ثم دَخَلَتْ عليه أل المعرِّفةُ، كما دَخَلَتْ على ليَسَع وقد تقدَّم. وإلياس هذا قيل: هو ابنُ إلْياسين المذكورِ بعدُ، مِنْ وَلَدِ هارونَ أخي موسى. وقيل: بل إلياس إدريسُ. ويَدُلُّ له قراءةُ عبد الله والأعمش وابن وثاب «وإنَّ إدْريس». وقُرِئ «إدْراس» كإبْرَاهيمَ. وإبراهام. وفي مصحف أُبَيّ وقراءتِه: قوله: «وإن إيْليسَ» بهمزة مكسورة ثم ياءٍ ساكنةٍ بنقطتين مِنْ تحتُ ثم لامٍ مكسورةٍ، ثم ياءٍ بنقطتين مِنْ تحتُ ساكنةً، ثم سينٍ مفتوحةٍ. اهـ (الدُّرُّ المصُون). (2) قال السَّمين: قوله: {بَعْلاً}: القرَّاءُ على تنوينِه منصوباً، وهو الرَّبُّ بلغة اليمن. سمع ابنُ عباس رجلاً منهم يَنْشُدُ ضالةً فقال آخر: أنا بَعْلُها فقال: اللَّهُ أكبرُ، وتلا الآيةَ. وقيل: هو عَلَمٌ لصنم بعينه، وله قصةٌ في التفسير. وقيل: هو عَلَمٌ لامرأةٍ بعينها أَتَتْهم بضلال فاتَّبعوها، كذا جاء في التفسير. وتأيَّد صاحبُ هذه المقالة بقراءةِ مَنْ قرأ «بَعْلاءَ» بزنة حَمْراء. قوله: «وتَذَرُوْنَ» يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً على إضمار مبتدأ، وأَنْ يكونَ عطفاً على «تَدْعُون» فيكونَ داخلاً في حَيِّز الإِنكار. اهـ (الدُّرُّ المصُون). (3) قال السَّمين: قوله: {على إِلْ يَاسِينَ}: قرأ نافعٌ وابن عامر {على آلِ يَاسِينَ} بإضافةِ «آل» بمعنى أهل إلى «ياسينَ». والباقون بكسرِ الهمزةِ وسكونِ اللامِ موصولةً ب «ياسين» كأنه جَمَعَ «إلياس» جَمْعَ سلامةٍ. فأمَّا الأُوْلى: فإنَّه أراد بالآل إلياسَ وَلَدَ ياسين كما تقدَّم وأصحابَه. وقيل: المرادُ بياسين هذا إلياسُ المتقدمُ، فيكونُ له اسمان. وآلُه: رَهْطُه وقومُه المؤمنون. وقيل: المرادُ بياسينَ محمدُ بن عبد الله صلَّى الله عليه وسلَّم. وأمَّا القراءةُ الثانيةُ فقيل: هي جمعُ إلياس المتقدمِ. وجُمِعَ باعتبارِ أصحابِه كالمَهالبةِ والأَشاعثةِ في المُهَلَّبِ وبنيه، والأَشعثِ وقومِه، وهو في الأصلِ جمعُ المنسوبين إلى إلياس، والأصلُ إلياسيّ كأشعَريّ. ثم اسْتُثْقِل تضعيفُهما فحُذِفَتْ إحدى ياءَي النسَب/ فلمَّا جُمِعَ سَلامةٍ التقى ساكنان: إحدى الياءَيْن وياءُ الجمعِ، فحُذِفَتْ أولاهما لالتقاءِ السَّاكنين، فصار إلياسين كما ترى. ومثلُه: الأَشْعَرُون والخُبَيْبُون. قال: 3820 قَدْنِيَ مِنْ نَصْرِ الخُبَيْبَيْنِ قَدِيْ. . . وقد تقدَّم طَرَفٌ من هذا آخر الشعراء عند «الأَعْجَمِيْن». إلاَّ أنَّ الزمخشريَّ قد رَدَّ هذا: بأنَّه لو كان على ما ذُكِر لَوَجَب تعريفُه بأل فكان يُقال: على الإِلياسين. قلت: لأنه متى جُمِعَ العَلَمُ جَمْعَ سَلامةٍ أو ثُنِّي لَزِمَتْه الألفُ واللامُ؛ لأنه تَزُوْلُ عَلَميَّتُه فيقال: الزيدان، الزيدون، الزينبات ولا يُلْتَفَتُ إلى قولهم: جُمادَيان وعَمايتان عَلَمَيْ شهرَيْن وجبلَيْن لندورِهما. وقرأ الحسن وأبو رجاء «على إلياسينَ» بوصلِ الهمزةِ على أنه جَمْعُ إلياس وقومِه المنسوبين إليه بالطريق المذكورة. وهذه واضحةٌ لوجودِ أل المعرفةِ فيه كالزيدِيْن. وقرأ عبد الله «على إدْراسين» لأنَّه قرأ في الأول «وإنَّ إدْريَس». وقرأ أُبَيٌّ «على إيليسِيْنَ» لأنه قرأ في الأول «وإنَّ إيليسَ» كما حَرَّرْتُه عنه. وهاتان تَدُلاَّن على أن إلياسينَ جَمْعُ إلياس. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(141)

(فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) (فَسَاهَمَ) قارع، و (الْمُدْحَضِينَ) المَغْلوِبينَ. لما صَارَ يونس في السفينة فلم تَسِرْ فقارَعَهُ أهل السفينة، ووقعت عليه القرعة فخرج منها وألقى نَفْسَهُ فى البحر. * * * (فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) وهو السمكة، ولما خرج من السفينة سَارَتْ. (وَهُوَ مُلِيمٌ). قد أتى بما يلام عليه، يقال: قد أَلَامَ الرجلُ فهو مُليم، إذا أتى ما يجب أن يلام عليه. * * * (فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) منَ المُصَلِّين. * * * (لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) جاء في التفسير أنه لبث أربعين يوماً، وقال الحسن لم يَلْبَثْ إلا قَليلاً وأخرج من بطنه بُعَيْدَ الوقت الذي التقِمَ فيه. * * * (فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) يعني بالمكَان الخالي، والعراء عَلَى وجْهَيْن، مَقْصُورٌ وَمَمْدُودٌ. فالمقصور الناحِيَة، والعزاء ممدود المكان الخالي. قال أَبُو عُبَيدَةَ وغَيْرُهُ: إنما قيل له العراء لأنه لا شجر فيه، ولا شيءَ يُغَطيه، وقيل إن العراء وجه الأرْض. ومعناه وجه الأرض الخالي، وأنشدوا: وَرَفَعْتُ رِجلاً لا أَخافُ عِثارَها. . . ونَبَذْتُ بالبَلَدِ العَراء ِثيابي

(146)

(وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) كل شجرة لا تنبت على ساقٍ، وإنَّمَا تمتد على وجه الأرض - نحو القَرْعِ والبطيخ والحنظل - فهو يقطين. وأحسب اشتقاقها من قَطَنَ بالمكان إذا أقام به، فهذا الشجر كله على وجه الأرض، فلذلك قيل يقطين. * * * (وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) قال غير واحد معناه بل يزيدون. قال ذلك الفراء وَأَبُو عبيدة وقال غيرهما معناهُ أَو يزَيدونَ فِي تَقْدِيركم أنتم إذا رآهم الرائي قال هؤلاء مائة ألف أو يزيدون على المائة وهذا على أصل (أو). وقال قوم: معناها معنى الواو. و (أو) لا تكون بمعنى الواو، لأن الواو معناها الاجتماع، وليس فيها دليل أن أحد الشيئين قبل الآخر. و (أَوْ) مَعناها إفراد أحد شيئين أو أشياء. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أي سلهم مسألة توبيخ وتقرير، لأنهم زعموا أن الملائكة بنات اللْه تعالى اللَّه عَنْ ذَلِكَ. * * * (أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150) معناه بل أَخَلَقْنَا الملائكة إِنَاثًا -. . (وَهُمْ شَاهِدُونَ). * * * (أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) هذه الألف مفتوحة، هذا الاختيار، لأن المعنى سَلْهُمْ هل أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ، فالألف ألف استفهام. ويجوز اصطفى على أن يكون

(158)

حكاية عن قولهم ليَقُولًونَ اصطفى. وفتح الألف وقطعها أجود على أأصطفى. ثم تحذف ألف الوصل (1). * * * (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) الْجِنَّة هَهُنَا المَلَائِكَةُ. * * * (وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ). أي: وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ وهم الملائكة أن الذين قالوا: ولد اللَّه. . . لمُحْضَرونَ العَذَابَ. * * * (سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) تنزيه اللَّه من السوء عن وَصْفِهِم. * * * (فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) أي ما أنتم بمضلين عليه ألا مَنْ أَضَل اللَّهُ. * * * (إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163) أي لستم تضلون إلا أَهلَ النَّارِ، وقرأ الحَسَنُ " إِلَّا مَنْ هُوَ صَالُ الْجَحِيمِ " بضم اللام، والقراءة بكسر اللام، على معنى صالي. والوقف عليها ينبغي أن يكون بالياء، ولكنها محذوفة في المصحف. ولقراءة الحَسنِ وجْهَان: أحدهما أن يكون أراد صالونَ الجحيم فحذفت النونُ للإضافة وحذفت الواو لسكونها وسكون اللام من الجحيم، ويَذْهَبُ بِـ (مَنْ) مَذْهَبَ الجِنْسِ، أي بالجنس الذين هم صالوا الجحيم، ويجوز أن يكون صَالُ في معنى صائل، مفعول من صَالَى، مثل جرف هارٍ أي هائرٍ، والقراءة التي هي الإجماع كسر اللام (2). * * * (وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164)

_ (1) قال السَّمين: قوله: {أَصْطَفَى}: العامَّةُ على فتحِ الهمزة على أنها همزةُ استفهامٍ بمعنى الإِنكارِ والتقريعِ، وقد حُذِفَ معها همزةُ الوَصْلِ استغناءً عنها. وقرأ نافعٌ في روايةٍ وأبو جعفر وشيبةُ والأعمش بهمزةِ وَصْلٍ تَثْبُتُ ابتداءً وتَسْقُطُ دَرْجاً. وفيه وجهان، أحدُهما: أنَّه على نيةِ الاستفهامِ، وإنما حُذِفَ للعِلْمِ به. ومنه قولُ عُمَرَ بن أبي ربيعة: 3824 ثم قالُوا: تُحِبُّها قلتُ بَهْراً. . . عددَ الرَّمْلِ والحَصَى والترابِ أي: أتُحبها. والثاني: أن هذه الجملةَ بَدَلٌ من الجملة المحكيَّةِ بالقول، وهي «وَلَدَ اللَّهُ» أي: يقولون كذا، ويقولون: اصطفى هذا الجنسَ على هذا الجنس. قال الزمخشري: «وقد قرأ بها حمزةُ والأعمشُ. وهذه القراءة وإنْ كان هذا مَحْمَلَها فهي ضعيفةٌ. والذي أَضْعَفَها أنَّ الإِنكارَ قد اكتنف هذه الجملةَ مِنْ جانَبيْها، وذلك قولُه:» وإنهم لَكاذبون «، {مَالَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} فمَنْ جَعَلَها للإَثباتِ فقد أَوْقَعها دخِيلةً بين نَسِيبَيْنِ». قال الشيخ: «وليسَتْ دخيلةً بين نَسِيْبَيْن؛ لأنَّ لها مناسَبةً ظاهرةً مع قولِهم:» وَلَدَ اللَّهُ «. وأمَّا قولُه:» وإنهم لَكاذبون «فهي جملةُ اعتراضٍ بين مقالتَيْ الكفرة جاءَتْ للتنديدِ والتأكيدِ في كَوْنِ مقالتِهم تلك هي مِنْ إفْكِهم». ونَقَلَ أبو البقاء أنه قُرِئ «آصْطفى» بالمدِّ. قال: «وهو بعيدٌ جداً». اهـ (الدُّرُّ المصُون). (2) قال السَّمين: وقرأ العامَّةُ «صالِ الجحيم» بكسرِ اللامِ؛ لأنه منقوصٌ مضافٌ حُذِفَتْ لامُه لالتقاءِ الساكنين، وحُمِلَ على لفظ «مَنْ» فأَفْرَدَ كما أَفْرد هو. وقرأ الحسنُ وابن أبي عبلة بضمِّ اللامِ مع واوٍ بعدَها، فيما نقله الهذلي عنهما، وابن عطية عن الحسن. وقرآ بضمِّها مع عَدَمِ واوٍ فيما نقل ابنُ خالويه عنهما وعن الحسن فقط، فيما نقله الزمخشريُّ وأبو الفضل. فأمَّا مع الواو فإنَّه جَمْعُ سَلامةٍ بالواو والنون، ويكون قد حُمِلَ على لفظ «مَنْ» أولاً فأفردَ في قوله «هو»، وعلى معناها ثانياً فجُمِعَ في قوله: «صالُو» وحُذِفَتْ النونُ للإِضافة. وممَّا حُمِل فيه على اللفظ والمعنى في جملةٍ واحدةٍ وهي صلةٌ للموصولِ قولُه تعالى: {إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نصارى} [البقرة: 111] فأفرد في «كان» وجُمِعَ في هوداً. ومثله قولُه: 3825. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وأَيْقَظَ مَنْ كان مِنْكُمْ نِياما وأمَّا مع عَدَمِ الواو فيُحْتَمَلُ أَنْ يكونَ جمعاً أيضاً، وإنما حُذِفَتْ الواوُ خطاً كما حُذِفَتْ لفظاً. وكثيراً ما يَفْعلون هذا: يُسْقِطون في الخطِّ ما يَسْقط في اللفظِ. ومنه «يَقُضُّ الحق» في قراءةِ مَنْ قرأ بالضاد المعجمة، ورُسِمَ بغير ياءٍ، وكذلك {واخشون، اليوم} [المائدة: 3]. ويُحْتمل أَنْ يكونَ مفرداً، وحقُّه على هذا كسرُ اللامِ فقط لأنه عينُ منقوصٍ، وعينُ المنقوصِ مكسورةٌ أبداً وحُذِفَتِ اللامُ وهي الياءُ لالتقاءِ الساكنين نحو: هذا قاضِ البلد. وقد ذكروا فيه توجيهَيْن، أحدهما: أنه مقلوبٌ؛ إذا الأصلُ: صالي ثم صايل: قَدَّموا اللامَ إلى موضع العينِ، فوقعَ الإِعرابُ على العين، ثم حُذِفَتْ لامُ الكلمة بعد/ القلب فصار اللفظ كما ترى، ووزنُه على هذا فاعُ فيُقال على هذا: جاء صالٌ، ورأيتُ صالاً، ومررت بصالٍ، فيصيرُ في اللفظِ كقولك: هذا بابٌ ورأيتُ باباً، ومررتُ ببابٍ. ونظيرُه في مجردِ القلبِ: شاكٍ ولاثٍ في شائك ولائث، ولكنْ شائِك ولائِث قبل القلب صحيحان، فصارا به معتلَّيْن منقوصَيْنِ بخلافِ «صال» فإنَّه قبلَ القلبِ معتلٌّ منقوصٌ فصار به صحيحاً. والثاني: أنَّ اللامَ حُذِفَتْ استثقالاً مِنْ غيرِ قَلْبٍ. وهذا عندي أسهلُ ممَّا قبلَه وقد رَأَيْناهم يتناسَوْن اللامَ المحذوفةَ، ويجعلون الإِعرابَ على العين. وقد قُرِئَ «وله الجوارُ» برفع الراءِ، {وَجَنَى الجنتين دَانٌ} برفعِ النونِ تشبيهاً ب جناح وجانّ. وقالوا: ما بالَيْت به بالة والأصل بالِية كعافِيَة. وقد تقدَّمَ طَرَف مِنْ هذا عند قولِه تعالى: {وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٌ} فيمَنْ قرأه برفع الشين. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(165)

هذا قول الملائكة، وههنا مضمر، المعنى مَا مِنا مَلَك إلا له مقام معلوم. * * * (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) أَيْ نحن المصلونَ. * * * (وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) المُمَجِّدون للَّهِ، الذين ينزهُونَه عَنِ السوءِ. * * * (وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) كان كفار قريش يقولون لو جاءنا ذكر كما جاء غيرنا من الأولين لأخْلَصْنا العبادة للَّهِ عزَّ وَجَل، فلما جاءهم كفروا به. * * * (فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170) أي سوف يعلمون مَغَبَّةَ كفرهم، وما ينزل بِهم من العذاب والانتقام منهم في الدنيا والآخرة. . * * * وقوله: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) أي تقدم الوعدُ لهم باأنَّ اللَّه ينصرهم بالحجة وبالظفر بِعَدُوهِمْ في الدنيا، والانتقام من عدوهم في الآخرة. * * * (وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173) حزب اللَّه لَهُمُ الغَلَبة. * * * (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) حتى تنقضي المدةُ التي أُمْهِلُوا إليها.

(177)

(فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ (177) نزل بهم العَذَابُ، وكان عذاب هؤلاء في الدنيا القَتْل. وقوله: (فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ) أي فبئس صباح [الذين أنذروا العذاب] (1). * * * (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) فيه ثلاثة أوجه، فمن نصب فعلى مدح اللَّه عزَّ وَجَلَّ. ومن قرأ بالرفع فعلى المدح أيضاً على معنى هُوَ رَبُّ الْعِزَّةِ. ومن خفض فعلى قوله رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ. وفي النصب أيضاً أعني رَبَّ الْعِزَّةِ، واذكر ربَّ الْعِزَّةِ (2).

_ (1) زيادة حكاها ابن الجوزي عن الزَّجَّاج. اهـ (زاد المسير. 7/ 94). (2) قال السَّمين: قوله: {رَبِّ العزة}: أُضيف الربُّ إلى العزَّةِ لاختصاصه بها، كأنه قيل: ذو العزَّة كما تقول: صاحبُ صِدْقٍ لاختصاصِه به. وقيل: المرادُ العزَّةُ المخلوقةُ الكائنةُ بين خَلْقِه. ويترتَّبُ على القولين مسألةُ اليمين. فعلى الأول ينعقدُ بها اليمينُ؛ لأنها صفةٌ من صفاتِه تعالى بخلاف الثاني، فإنه لا ينعقدُ بها اليمينُ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

سورة (ص)

سُورَةُ (ص) بسم اللَّه الزحمن ابرّحيم (ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) قرئت بالفتح وبالكسر، وبتسكين الدال، وهي أكثر القراءة. فمن أسكن " صاد " من حروف الهجاء، وتقدير الدال الوقف عليها. وقد فسرنا هذا في قوله (الم) أعني باب حروف الهجاء. ومعناه الصادق اللَّه، وقيل إنها قسم. * * * وقوله: (وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ). عطف عليها، المعنى أقسم بصاد وبالقرانِ ذي الذكر، ومن فتحها فعلى ضَرْبيْن، يكون فتحاً لالتقاء السَّاكنيْن، ويكون على معنى اتل صادَ، ويكون صاد اسماً للسورة لا ينصرف. ومن كسر فعلى ضربين - لالتقاء السَّاكنين. - وبكسرها على معنى صاد القرآن بعَمَلِك، من قولك صادَى يُصَادِي إذَا قَابَل وَعَادَل، يُقال صاديته إذا قابلته. وجواب قوله: صَادِ والقرآن (إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64). وقال قوم: الجوابُ: (كم أهلكنا قبلَهم مِنْ قَرْنٍ) ومعناه لَكَمْ أهلكنا قبلهم مِنْ قَرْنٍ فلما طال الكلام بَيْنهُمَا حذفت اللام. ومعنى (والقرْآنِ ذِي الذِّكْرِ). أي ذي الذكر والشرف، وقيل ذي الذكر: قد ذكرت فيه أَقَاصيصُ الأوليت والآخرين وما يُحتاج إليه في الحلال والحرام (1). * * * (كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3)

_ (1) قال السَّمين: قرأ العامَّةُ بسكونِ الدالِ مِنْ «صادْ» كسائرِ حروف التهجِّي في أوائلِ السُور. وقد مرَّ ما فيه. وقرأ أُبَيٌّ والحسنُ وابنُ أبي إسحاق وابنُ أبي عبلة وأبو السَّمَّال بكسرِ الدال مِنْ غير تنوينٍ. وفيها وجهان، أحدُهما: أنه كَسْرٌ لالتقاءِ الساكنين، وهذا أقربُ. والثاني: أنه أمرٌ من المصاداة وهي المعارَضَةُ ومنه صَوْتُ الصَّدى لمعارضتِه لصوتِك وذلك في الأماكن الصلبةِ الخاليةِ والمعنى: عارِضِ القرآنَ بعملك، فاعمَلْ بأوامرِه وانتهِ عن نواهيه. قاله الحسن. وعنه أيضاً: أنه مِنْ صادَيْتُ أي: حادَثْتُ. والمعنى: حادِثِ الناسَ بالقرآن. وقرأ ابن أبي إسحاق كذلك، إلاَّ أنه نَوَّنَه وذلك على أنَّه مجرورٌ بحرفِ قَسَمٍ مقدرٍ، حُذِفَ وبقي عَمَلُه كقولِهم: «اللَّهِ لأفعلَنَّ» بالجرِّ. إلاَّ أنَّ الجرَّ يَقِلُّ في غيرِ الجلالة، وإنما صَرَفه ذهاباً به إلى معنى الكتاب والتنزيل. وعن الحسنِ أيضاً وابن السَّمَيْفَعِ وهارون الأعور صادُ بالضمِّ من غيرِ تنوينٍ، على أنه اسمٌ للسورةِ، وهو خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: هذه صاد. ومُنِعَ من الصرف للعَلميَّة والتأنيث، وكذلك قرأ ابن السَّمَيْفَع وهارون: قاف ونون بالضمِّ على ما تقَّدمَ. وقرأ عيسى وأبو عمروٍ في روايةِ محبوب «صادَ» بالفتح مِنْ غير تنوينٍ. وهي تحتمل ثلاثةَ أوجهٍ. البناءَ على الفتح تخفيفاً ك أين وكيف، والجرَّ بحرفِ القسمِ المقدرِ، وإنما مُنع من الصرف للعلميَّةِ والتأنيثِ كما تقدَّم، والنصبَ بإضمارِ فِعْل أو على حذفِ حَرْفِ القَسم نحوَ قولِه: 3829. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . فذاكَ أمانةَ اللَّهِ الثريدُ وامتنعَتْ من الصرف لِما تقدَّم، وكذلك قرآ: «قاف» و «نون» بالفتح فيهما، وهما كما تقدَّم، ولم أحفَظْ التنوينَ مع الفتح والضم. قوله: «والقرآنِ» قد تقدَّم مثلُه في {يس والقرآن} [يس: 1 - 2]، وجوابُ القسم فيه أقوالٌ كثيرةٌ، أحدها: أنه قولُه: {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ} [ص: 64]، قاله الزجاج والكوفيون غيرَ الفراءِ. قال الفراء: «لا نجده مستقيماً لتأخيره جداً عن قولِه:» والقرآن «. الثاني: أنه قولُه:» كم أهلَكْنا «والأصلُ: لكم أهلَكْنا، فحذف اللامَ كما حَذَفها في قولِه: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا} [الشمس: 9] بعد قولِه: {والشمس} لَمَّا طال الكلام. قاله ثعلبٌ والفراء. الثالث: أنه قولُه: {إِن كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرسل} [ص: 14] قاله الأخفش. الرابع: أنه قولُه:» صاد «؛ لأنَّ المعنى: والقرآنِ لقد صدق محمد. قاله الفراء وثعلب أيضاً. وهذا بناءً منهما على جوازِ تقديمِ جوابِ القسم، وأنَّ هذا الحرفَ مُقْتَطَعٌ مِنْ جملةٍ هو دالٌّ عليها. وكلاهما ضعيفٌ. الخامس: أنه محذوفٌ. واختلفوا في تقديره، فقال الحوفي: / تقديرُه: لقد جاءَكم الحقُّ، ونحوُه. وقَدَّره ابن عطية: ما الأمرُ كما يَزْعمون. والزمخشري: إنه لَمُعْجِزٌ. والشيخ: إنَّك لمن المُرْسَلين. قال: «لأنه نظيرُ {يس * والقرآن الحكيم * إِنَّكَ لَمِنَ المرسلين} [يس: 1 - 3] وللزمخشري هنا عبارةٌ بشعةٌ جداً. وهي:» فإنْ قلتَ: قولُه: ص والقرآنِ ذي الذكر بل الذين كفروا في عِزَّةٍ وشِقاقٍ كلامٌ ظاهرُه متنافٍ غيرُ منتظِمٍ. فما وجهُ انتظامِه؟ قلت: فيه وجهان، أَنْ يكونَ قد ذكر اسمَ هذا الحرفِ من حروفِ المعجمِ على سبيلِ التحدِّي والتنبيه على الإِعجازِ كما مَرَّ في أَول الكتاب، ثم أتبعه القسمَ محذوفَ الجواب لدلالةِ التحدِّي عليه، كأنه قال: والقرآنِ ذي الذِّكْرِ إنه لَكلامٌ مُعْجِزٌ. والثاني: أَنْ يكونَ «صاد» خبرَ مبتدأ محذوفٍ على أنها اسمٌ للسورةِ كأنه قال: هذه صاد. يعني هذه السورةَ التي أعْجَزَتِ العربَ والقرآنِ ذي الذِّكْر، كما تقول: «هذا حاتِمٌ واللَّهِ» تريد: هو المشهورُ بالسَّخاءِ واللَّهِ، وكذلك إذا أقسمَ بها كأنَّه قال: أَقْسَمْتُ بصاد والقرآنِ ذي الذِّكْر إنه لَمُعْجِزٌ. ثم قال: بل الذين كفروا في عِزَّةٍ واستكبارٍ عن الإِذعانِ لذلك والاعترافِ، وشِقاقٍ لله ورسوله، وإذا جَعَلْتَها مُقْسَمَاً بها، وعَطَفْتَ عليها {والقرآن ذِي الذكر} جازَ لك أَنْ تريدَ بالقرآنِ التنزيلَ كلَّه، وأَنْ تريدَ السورةَ بعينِها. ومعناه: أُقْسِمُ بالسورةِ الشريفة: والقرآنِ ذي الذِّكْر كما تقولُ: مَرَرْتُ بالرجلِ الكريم والنَّسْمَةِ المباركة، ولا تريد بالنَّسْمَةِ غيرَ الرجلِ «. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

جاء في التفسير ولات حين نداء، وقال أهلُ اللغَةِ وَلَاتَ حينَ مَنْجًى ولا فَوْتَ، يقال نَاصَه ينوصُه إذَا فاته. وفي التفسير لات حين نداء معناه لات حِينَ نِداءٍ يُنْجي. ويجوز لات حِينُ مَنَاص. والرفع جيِّدٌ، والوقف عليها " لاَتْ " بالتاء، والكسائىُّ يقف بالهاء (لَاهْ) لأنه يجعلها هاء التأنيث. وحقيقة الوقف عليها بالتاء، وهذه التاء نظيرةُ التاء في الفعل في قولكَ ذَهَبَتْ وجَلَسَتْ، وفي قولك: رأيتُ زيداً ثمت عَمراً، فَتَاءُ الحروف بمنزلة تاء الأفعال، لأن التاء في الموضعين دخلت على ما لا يعرب، ولا هو في طريق الأسماء فإن قال قائِل: نجعلها بمنزلة قولهم: كان من الأمر ذيهْ وذيهْ، فهذه هاء في الوقف وهذه هاء دخلت على اسم لا يعرب، وقد أجازوا الخَفْضَ فقالوا: لاَتَ أَوَانٍ. وأنشدوا لأبي زُبَيْدٍ: طَلَبُوا صُلْحَنا ولات أَوانٍ. . . فأَجَبْنا أَنْ لَيسَ حِينَ بَقاءِ والذي أنشدنا أبو العباس محمد بن يزيد ورواه: طَلَبُوا صُلْحَنا ولات أَوانٌ وذكر أنه قد روي الكسرُ. فأمَّا النصب فعلى أنها عَمِلَتْ عمل ليس، المعنى وليس الوقت حين مناص ومن رفع بها جعل حين اسم ليس وأضمر الخبر على معنى لَيْس حينُ مَنْجًى لَنَا ومن خفض جعلها مبينة مكسورَةً لالتقاء السَّاكِنَين، كما قالوا: قَدلَكَ فبنوه على الكسر.

(5)

والمعنى ليس حين مناصنا وحين منجانا، فلما قال: ولات أَوَان جعله على معنى ليس حينَ أَوَانِنَا، فلما حُذِفَ المضَافُ بُنِيَ على الوقف ثم كسِرَ لالتقَاءِ السَّاكِنين، والكسر شَاذ شبيه بالخطأ عند البصريين، ولم يَرْوِ سيبويه والخليل الكسر، والذي عليه العمل النصب والرفع. وقال الأخفَشُ: إن (لَاتَ حِينَ مَنَاصٍ) نصبها بـ (لا) كما تَقُولُ لَا رَجُلَ في الدار، ودخلت التاء للتأنيث (1). * * * وقوله جل وَعز: (وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) (عُجَابٌ) في معنى عجيب، ويجوز (عُجَابٌ) في معنى عجيب يقال: رجل كريم وكُرَّام وكُرَام. وهذه حكاية عن ملأ من قُرَيْش لما مَرِضَ أبو طالب المرضة التي مات فيها أتاه أبو جهل بن هشام وجماعة من قريش يعودونه فشَكَوْا إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وقالوا يشتم آلهتنا ويفعل، فعاتبه أبو طالب، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - إني أدعُوكم إلى كلمة يدين لكم العرب بها، وتؤدي بها إليكم العجم الجزيَةَ، فقال أبو جهل: نَعَمْ وَعَشْراً على طريق الاستهزاء أي نقُولها وعشراً معها، فقال: لَا إلهَ إلا اللَّهُ، فقالوا: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا. ثم نَهَضُوا وانطلقوا من مجلسهم يقول بعضهم لبعْض امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ. * * * وقوله: (وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) معناهْ أي امشوا، وتأويله يقولونَ امْشُوا. ويجوز: وانطلق الملأ منهم بأنِ امشوا أي بهذا القول. * * * وقوله: (مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7)

_ (1) قال السَّمين: قوله: {كَمْ أَهْلَكْنَا}: «كم» مفعولُ «أهلَكْنا»، و «مِنْ قَرْنٍ» تمييزٌ، و «مِنْ قبلِهم» لابتداء الغاية. قوله: «ولات حين» هذه الجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحال مِنْ فاعل «نادَوْا» أي: استغاثوا، والحالُ أنه لا مَهْرَبَ ولا مَنْجى. وقرأ العامَّةُ «لاتَ» بفتح التاء و «حينَ» بالنصبِ، وفيها أوجهٌ، أحدها: - وهو مذهبُ سيبويه - أنَّ «لا» نافيةٌ بمعنى ليس، والتاءُ مزيدةٌ فيها كزيادتِها في رُبَّ وثَمَّ، ولا تعملُ إلاَّ في الأزمان خاصةً نحو: لاتَ حينَ، ولات أوان، كقوله: 3830 طلبُوا صُلْحَنا ولاتَ أَوانٍ. . . فَأَجَبْنا أنْ ليسَ حينَ بقاءِ وقول الآخر: 3831 نَدِمَ البُغاةُ ولاتَ ساعةَ مَنْدَمِ. . . والبَغيُ مَرْتَعٌ مُبْتَغِيْه وخيمُ والأكثرُ حينئذٍ حَذْفُ مرفوعِها تقديرُه: ولات الحينُ حينَ مناصٍ. وقد يُحْذَفُ المنصوبُ ويبقى المرفوعُ. وقد قرأ هنا بذلك بعضُهم كقوله: 3832 مَنْ صَدَّ عَنْ نيرانِها. . . فأنا ابنُ قَيْسٍ لا بَراحُ أي: لا براحٌ لي. ولا تعملُ في غيرِ الأحيان على المشهور، وقد تُمُسِّك بإعمالها في غير الأحيان بقولِه: 3833 حَنَّتْ نَوارُ ولاتَ هَنَّا حَنَّتِ. . . وبدا الذي كانَتْ نَوارُ أجَنَّتِ فإنَّ «هَنَّا» مِنْ ظروفِ الأمكنةِ. وفيه شذوذٌ مِنْ ثلاثةِ أوجهٍ، أحدها: عَمَلُها في اسمِ الإِشارةِ وهو معرفةٌ ولا تعملُ إلاَّ في النكراتِ. الثاني: كونُه لا يَتَصَرَّفُ. الثالث: كونُه غيرَ زمانٍ. وقد رَدَّ بعضُهم هذا بأنَّ «هَنَّا» قد خرجَتْ عن المكانية واسْتُعْمِلت في الزمان، كقولِه تعالى: {هُنَالِكَ ابتلي المؤمنون} [الأحزاب: 11] وقولِ الشاعر: 3834. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . فهناك يَعْتَرفون أين المَفْزَعُ كما تقدم في سورة الأحزاب؛ إلاَّ أنَّ الشذوذَيْن الآخرَيْن باقيان. وتأوَّل بعضُهم البيتَ أيضاً بتأويلٍ آخرَ: وهو أَنَّ «لاتَ» هنا مهملةٌ لا عملَ لها و «هَنَّا» ظرفٌ خبرٌ مقدمٌ/ و «حَنَّتِ» مبتدأ بتأويلِ حَذْفِ «أنْ» المصدرية تقديرُه: أنْ حَنَّتْ نحو «تَسْمَعُ بالمُعَيْدِيِّ خيرٌ مِنْ أَنْ تَراه». وفي هذا تكلُّفٌ وبُعْدٌ. إلاَّ أنَّ فيه الاستراحةَ من الشذوذاتِ المذكورات أو الشذوذَيْن. وفي الوقفِ عليها مذهبان: المشهورُ عند العربِ وجماهيرِ القراءِ السبعةِ بالتاءِ المجبورةِ إتْباعاً لمرسومِ الخطِّ الشريفِ. والكسائيُّ وحدَه من السبعةِ بالهاء. والأولُ مذهبُ الخليلِ وسيبويه والزجاج والفراء وابن كَيْسان، والثاني مذهبُ المبرد. وأغرب أبو عبيد فقال: الوقفُ على «لا» والتاءُ متصلةٌ ب «حين» فيقولون: قُمْتُ تحينَ قمتَ، وتحينَ كان كذا فعلتُ كذا. وقال: «رأيتها في الإِمام كذا:» ولا تحين «متصلة. وأنْشَدَ على ذلك أيضاً قولَ الشاعر: 3835 العاطفونَ تحينَ ما مِنْ عاطِفٍ. . . والمُطْعِمون زمانَ لا من مُطْعِمِ والمصاحفُ إنما هي «ولاتَ حين». وحَمَلَ العامَّةُ ما رآه على أنه ممَّا شَذَّ عن قياسِ الخَطِّ كنظائرَ له مَرَّتْ لك. وأمَّا البيتُ فقيل: إنَّه شاذٌّ لا يُلْتَفَتُ إليه. وقيل: إنه إذا حُذِفَ الحينُ المضافُ إلى الجملة التي فيها «لات» جاز أَنْ تُحْذَفَ «لا» وحدها ويُسْتَغْنى عنها بالتاء. والأصل: العاطفونَ حين لات حينَ لا مِنْ عاطفٍ، فحذف «حين» الأول و «لا» وحدَها، كما أنه قد صَرَّح بإضافة «حين» إليها في قول الآخر: 3836 وذلك حينَ لاتَ أوانَ حِلْمٍ. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ذكر هذا الوجهَ ابنُ مالك، وهو متعسِّفٌ جداً. وقد تُقَدَّرُ إضافةُ «حين» إليها مِنْ غيرِ حَذْفٍ لها كقولِه: 3837 تَذَكَّرَ حُبَّ ليلى لاتَ حينَا. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . أي: حين لاتَ حين. وأيضاً فكيف يصنع أبو عبيدٍ بقوله: 3838. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ولاتَ ساعةَ مَنْدَمِ [وقوله]: 3839. . . . . . . . . . . . . . لات أوانَ. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . فإنه قد وُجِدت التاءُ مع «لا» دون «حين»؟ الوجه الثاني من الأوجه السابقة: أنها عاملةٌ عملَ «إنَّ» يعني أنها نافيةٌ للجنسِ فيكون «حينَ مناص» اسمَها، وخبرُها مقدر تقديرُه: ولات حينَ مناصٍ لهم، كقولك: لا غلامَ سفرٍ لك، واسمها معربٌ لكونِه مضافاً. الثالث: أنَّ بعدها فعلاً مقدراً ناصباً ل «حين مَناص» بعدها أي: لات أَرى حينَ مَناصٍ لهم بمعنى: لستُ أرى ذلك ومثلُه: {لاَ مَرْحَباً بِهِمْ} ولا أهلاً ولا سهلاً أي: لا أَتَوْا مَرْحباً، ولا لَقُوا أهلاً، ولا وَطِئوا سهلاً. وهذان الوجهان ذهب إليهما الأخفش وهما ضعيفان. وليس إضمارُ الفعلِ هنا نظيرَ إضماره في قوله: 3840 ألا رَجُلاً جَزاه اللَّهُ خيراً. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . لضرورةِ أنَّ اسمَها المفردَ النكرةَ مبنيٌّ على الفتح، فلمَّا رأينا هذا معرباً قدَّرْنا له فعلاً خلافاً للزجاج، فإنه يُجَوِّزُ تنوينَه في الضرورة، ويدَّعي أن فتحتَه للإِعراب، وإنما حُذِف التنوينُ للتخفيفِ ويَسْتَدِلُّ بالبيتِ المذكور وتقدَّم تحقيقُ هذا. الرابع: أن «لات» هذه ليسَتْ هي «لا» مُزاداً فيها تاءُ التأنيث، وإنما هي: «ليس» فأُبْدلت السينُ تاءً، وقد أُبْدِلت منها في مواضعَ قالوا: النات يريدون: الناس. ومنه «سِتٌّ» وأصله سِدْس. قال: 3841 يا قاتلَ اللَّهُ بني السَّعْلاتِ. . . عمرَو بنَ يَرْبُوعٍ شرارَ الناتِ لَيْسوا بأخيارٍ ولا أَكْياتِ. . . وقُرِئ شاذاً «قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النات» إلى آخره. يريد: شرارَ الناسِ ولا أكياسِ، فأبْدل. ولَمَّا أبدل السينَ تاءً خاف من التباسها بحرفِ التمني فقلب الياءَ ألفاً فبقيَتْ «لات» وهو من الاكتفاء بحرف العلةِ؛ لأنَّ حرف العلة لا يُبْدل ألفاً إلاَّ بشروطٍ منها: أن يتحرَّكَ، وأَنْ ينفتحَ ما قبله، فيكون «حينَ مناص» خبرَها، والاسمُ محذوفٌ على ما تقدَّم، والعملُ هنا بحقِّ الأصالةِ لا الفرعيةِ. وقرأ عيسى بن عمر {وَّلاَتِ حِينِ مَنَاصٍ} بكسر التاء وجرِّ «حين» وهي قراءةٌ/ مُشْكلةٌ جداً. زعم الفراء أنَّ «لات» يُجَرُّ بها، وأنشد: 3842. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ولَتَنْدَمَنَّ ولاتَ ساعةِ مَنْدَمِ وأنشد غيرُه: 3843 طلبوا صلحَنا ولاتَ أوانٍ. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت. وقال الزمخشري: «ومثلُه قول أبي زبيد الطائي: طلبوا صلحنا. البيت. قال: فإنْ قلتَ ما وجهُ الجرِّ في» أوان «؟ قلت: شُبِّه ب» إذ «في قوله: 3844. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وأنتَ إذٍ صحيحُ في أنه زمانٌ قُطِع منه المضافُ إليه وعُوِّض منه التنوينُ لأن الأصلَ: ولات أوان صلح. فإن قلتَ: فما تقولُ في» حينَ مناصٍ «والمضافُ إليه قائمٌ؟ قلت: نَزَّلَ قَطْعَ المضافِ إليه مِنْ» مناص «- لأنَّ أصلَه: حين مناصِهم - منزلةَ قَطْعِه مِنْ» حين «لاتحاد المضاف والمضاف إليه، وجَعَل تنوينَه عوضاً من المضافِ المحذوفِ، ثم بَنى الحين لكونِه مضافاً إلى غير متمكن». انتهى. وخرَّجه الشيخُ على إضمار «مِنْ» والأصل: ولات مِنْ حين مناص، فحُذِفت «مِنْ» وبقي عملُها نحو قولِهم: على كم جِذْعٍ بَنَيْتَ بيتك؟ أي: مِنْ جذع في أصحِّ القولَيْن. وفيه قولٌ آخر: أنَّ الجرَّ بالإِضافة، ومثله قوله: 3845 ألا رَجُلٍ جزاه اللَّهُ خَيْراً. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . أنشدوه بجرِّ «رَجُل» أي: ألا مِنْ رجل. قلت: وقد يتأيَّد بظهورِها في قوله: 3846. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وقالَ: ألا لا مِنْ سبيلٍ إلى هندِ قال: «ويكونُ موضعُ» مِنْ حين مناصٍ «رفعاً على أنه اسم لات بمعنى ليس، كما تقولُ: ليس من رجلٍ قائماً، والخبرُ محذوفٌ، وعلى هذا قولُ سيبويه. وعلى أنه مبتدأٌ والخبرُ محذوفٌ على قولِ الأخفشِ. وخَرَّج الأخفشُ» ولاتَ أَوانٍ «على حَذْفِ مضافٍ، يعني: أنه حُذِفَ المضافُ وبقي المضافُ إليه مجروراً على ما كان. والأصلُ: ولات حينُ أوانٍ. وقد رَدَّ هذا الوجهَ مكيٌّ: بأنه كان ينبغي أَنْ يقومَ المضافُ إليه مَقامَه في الإِعراب فيُرفعَ. قلت: قد جاء بقاءُ المضافِ إليه على جَرِّه. وهو قسمان: قليلٌ وكثيرٌ. فالكثيرُ أَنْ يكونَ في اللفظ مِثْلُ المضاف نحو: 3847 أكلَّ امرِىءٍ تَحْسَبين امرَأً. . . ونارٍ تَوَقَّدُ بالليلِ نارا أي: وكلَّ نارٍ. والقليلُ أَنْ لا يكونَ كقراءة مَنْ قرأ {والله يُرِيدُ الآخرة} بجر» الآخرةِ «فليكنْ هذا منه. على أنَّ المبردَ رواه بالرفعِ على إقامتِه مُقامَ المضافِ. وقال الزجَّاج:» الأصل: ولات أواننا، فحُذِفَ المضافُ إليه فوجَبَ أَنْ لا يُعْرَبَ، وكسرُه لالتقاءِ الساكنين «. قال الشيخ:» هذا هو الوجهُ الذي قرَّره الزمخشريُّ، أَخَذَه من أبي إسحاقَ «قلت: يعني الوجهَ الأولَ، وهو قولُه: ولاتَ أوان صلحٍ. هذا ما يتعلَّقُ بجرِّ «حين». وأمَّا كسرُ تاءِ «لات» فعلى أصلِ التقاءِ الساكنين ك جَيْرِ، إلاَّ أنه لا تُعْرف تاءُ تأنيثٍ إلاَّ مفتوحةً. وقرأ عيسى أيضاً بكسرِ التاءِ فقط، ونصبِ «حين» كالعامَّةِ. وقرأ أيضاً «ولات حينُ» بالرفعِ، «مناصَ» بالفتح. وهذه قراءةٌ مشكلةٌ جداً لا تَبْعُدُ عن الغلطِ مِنْ راويها عن عيسى فإنه بمكانةٍ مِنْ العلمِ المانعِ له من مثلِ هذه القراءةِ. وقد خَرَّجها أبو الفضلِ الرازيُّ في «لوامحه» على التقديمِ والتأخيرِ، وأنَّ «حين» أُجْرِي مُجْرى قبل وبعد في بنائِه على الضمِّ عند قَطْعِه عن الإِضافة بجامع ما بينه وبينهما مِن الظرفيةِ الز

(8)

حكاية عنهم أيضاً، أي ما سمعنا بهذا في النصْرانِية وَلَا اليهوديةِ ولا فيما أدركنا عليه آباءنا. (إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ). أي إلا تقوُّل. * * * (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8) أي كيف أنزل الذكر عليه من بيننا، أي كيف أُنْزِلَ على محمد القرآن من بيننا. (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي). أي ليس يقولون ما يعتقدونه إلا شَاكِّين. * * * وقوله: (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) إن قال قائل: ما وجه اتصال (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ) بقوله: (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي)، أو بقوله (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا). فهذا دليل على حَسَدِهم النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بما آتاه اللَّه من فَضْل النبوةِ. فأعلمَ اللَّهُ أن الملكَ لَهُ والرسالَة إلَيْهِ. يصطفي من يشاء، ويؤتي الملك من يشاء وينزل الغيث والرحمة على من يشاء فقال: (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ). أي ليس عندهم ذلك. * * * (أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10) أي ليس من ذلك شيء. (فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ). أي إن ادَّعَوا شيئاً من ذلك فليصعدوا في الأسباب التي توصلهم إلى السماء، وجائز أن يكون فليرتقوا في هذه الأسباب التي ذكرت وهي التي

(11)

لا يملكها إلا الله. ثم وعد اللَّه نبيَّه عليه السلام النَصْرَ علَيْهم فقال: (جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ (11) (ما) لغوٌ، المعنى جند هُنَالِكَ مهزوم من الأحزاب. * * * (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12) جاءْ في التفسير أن فرعون كانت له حبال وأوتادٌ يُلْعَبُ له عَلَيْها (1). * * * (وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15) (مِنْ فَوَاقٍ) وفُواق بضم الفاء وفتحها، أي ما لها من رجُوع، والفُواق ما بين حَلْبَتَي الناقَةِ، وهو مشتق من الرجوع أيضاً لأنه يَعُودُ اللبَنُ إلى الضرْعِ بين الحلبتين، وأفاق من مرضه من هذا، أي رجع إلى الصحة. فالفواق هو من هذا أيضاً (2). * * * (وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16) (القِط) النصيب، وأصله الصحيفة يكتب للإنسان فيها شيء يصل إليه قال الأعشى. ولا المَلِكُ النُّعْمانُ يوم لَقِيتُه. . . بغِبْطَته يُعْطِي القُطوطَ ويأْفِقُ يأْفِقُ يُفْضِلُ. وهذا تفسير قولهم: (عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا) وهوكقولهم (اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا) - الآية وقيل إنهم لما سمعوا أن المؤمن يؤتى كتابه بيمينه والكاقر يؤتى كتابه بشماله، فيسعد المؤمن ويهلك الكافر، قالوا ربَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا. واشتقاق القِط من قططت أي قطعتُ. وكذلك النصيب إنَّمَا هو القطعة من الشيء. * * * (اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ) ْذا القوة، وكانت قوته على العبادة أتم قوة، كان يصوم يوماً ويفطر يوماً. وذلك أَشَدُّ الصوْمِ، وكان يُصَلِّي نصفَ الليل.

_ (1) قال السَّمين: قوله: {ذُو الأوتاد}: هذه استعارةٌ بليغةٌ: حيث شبَّه المُلْكَ ببيت الشَّعْر، وبيتُ الشَّعْرِ لا يَثبتُ إلاَّ بالأوتادِ والأطناب، كما قال الأفوه: 3851 والبيتُ لا يُبْتَنى إلاَّ على عمدٍ. . . ولا عمادَ إذا لم تُرْسَ أوتادُ فاسْتعير لثباتِ العزِّ والمُلْكِ واستقرار الأمر، كقول الأسود: 3852. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . في ظلِّ مُلْكٍ ثابتِ الأَوْتاد / والأَوْتادُ: جمعُ وَتِد. وفيه لغاتٌ: وَتِدٌ بفتح الواو وكسرِ التاءِ وهي الفصحى، ووَتَد بفتحتين، ووَدّ بإدغام التاء في الدال قال: 3853 تُخْرِجُ الوَدَّ إذا ما أَشْجَذَتْ. . . وتُوارِيْه إذا ما تَشْتَكِرْ و «وَتَّ» بإبدالِ الدالِ تاءً ثم إدغام التاء فيها. وهذا شاذٌّ لأنَّ الأصلَ إبدالُ الأولِ للثاني لا العكسُ. وقد تقدَّم نحوٌ من هذا في آل عمران عند قولِه تعالى: {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار} [آل عمران: 185]. ويُقال: وَتِدٌ واتِدٌ أي: قويٌّ ثابت، وهو مِثْلُ مجازِ قولهم: شُغْل شاغِلٌ. وأنشد الأصمعي: 3854ألاقَتْ على الماءِ جُذَيْلاً واتِداً. . . ولم يَكُنْ يُخْلِفُها المَواعدا وقيل: الأوتادُ هنا حقيقةٌ لا استعارةٌ. ففي التفسير: أنه كان له أوتادٌ يَرْبط عليها الناسَ يُعَذِّبُهم بذلك. وتقدم الخلافُ في الأَيْكة في سورة الشعراء. اهـ (الدُّرُّ المصُون). (2) قال السَّمين: قوله: {مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ}: يجوزُ أَنْ يكونَ «لها» رافعاً ل «مِنْ فَواق» بالفاعليةِ لاعتمادِه على النفي، وأَنْ يكونَ جملةً مِنْ مبتدأ وخبرٍ، وعلى التقديرَيْن فالجملةُ المنفيَّةُ في محلِّ نصبٍ صفةً ل «صَيْحةً» و «مِنْ» مزيدةٌ. وقرأ الأخَوان «فُواق» بضمِّ الفاءِ، والباقون بفتحها. فقيل: [هما] لغتان بمعنًى واحدٍ، وهما الزمانُ الذي بين حَلْبَتَيْ الحالبِ ورَضْعَتَيْ الراضِع، والمعنى: ما لها مِنْ تَوَقُّفٍ قَدْرَ فُواقِ ناقةٍ. وفي الحديث: «العِيادَةُ قَدْرَ فُواقِ ناقة» وهذا في المعنى كقوله تعالى: {فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً} [الأعراف: 34]. وقال ابن عباس: ما لها مِنْ رجوعٍ. مِنْ أفاق المريضُ: إذا رَجَعَ إلى صحته. وإفاقةُ الناقةِ ساعةَ يَرْجِعُ اللبنُ إلى ضَرْعِها. يقال: أفاقَتِ الناقةُ تُفِيْقُ إفاقَةً رَجَعَتْ واجتمعَتْ الفِيْقَةُ في ضَرْعِها. والفِيْقَةُ: اللبنُ الذي يَجْتمع بين الحَلَبَتين ويُجْمع على أفْواق. وأمّا أفاوِيْقُ فجمعُ الجمع. ويُقال: ناقة مُفِيْقٌ ومُفِيْقَةٌ. وقيل: فَواق بالفتح: الإِفاقة والاستراحة كالجواب من أجاب. قاله مُؤرِّج السدوسيُّ والفراء. ومن المفسِّرين ابن زيد والسدِّي. وأمَّا المضمومُ فاسمٌ لا مصدرٌ. والمشهورُ أنهما بمعنىً واحدٍ كقَصاصِ [الشَّعْر] وقُصاصِه وحَمام المكُّوك وحُمامِه. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(18)

(إِنَّهُ أَوَّابٌ). رجاع إلى اللَّه كثيراً، الآيب الراجع، والأوَّابُ الكثيرُ الرُّجوعِ. * * * (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) الإشراق: طلوع الشمس وإضاءتُهَا، يُقَالُ شَرِقَت الشَمْسُ إذا طلعت. وأشرقت إذا أضاءت، وقد قيل شرقت وأشرقت إذا طلعت في معنى واحد. والأول أكثر. * * * (وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) كانت الجبال تُرَجَع التسبيح، وكانت الطير كذلك، فيجُوز أن تكون الهَاءُ للَّهِ - جلَّ وعزَّ - أي كل للَّهِ مسبح، الطير والجبال وَدَاودُ يسبحون للَّهِ عز وجل، ويرجعون التسبيح. ويجوز - واللَّه أعلم - أن يكون (كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ) كل يُرَجعْنَ التسبيح مع داود، يُجِبْنَهُ، كلما سبح سبحت الجبال والطير معه. * * * (وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20) ويجوز وشدَّدنا، ولا أعلم أَحدأ قَرَأَ بهَا. معناه قوينا ملكه فكان من تقوية ماكه أنه كان يَحْرُسُ محرابه في كل ليلة ثلاثة وثلاثون ألفاً مِنَ الرجَال. وقيل أيضاً إنَّ رَجُلًا استعدى إليه على رجل، فادعى عليه أنه أخذ منه بَقَراً، فأنكر المدعى عليه فسأل داود المدعي البينة فلم يقمها، فرأى داود في منامه أن اللَّه يأمره أن يقتل المدعى عليه، فتثبت داود، وقال هو منام، فأتاهُ الوحي بعد ذلك أَنْ يَقْتُلَه فأحضره ثم أعلمه أن الله أَمَرهُ بقَتْلِه، فقال المُدَّعَى عليه: إن اللَّه - جلَّ وعزَّ - ما أخذني بهذا الذنب، وإني قتلت أبا هذا غِيلةً فقتله داود، فذلك مما كان عظم الله، وشدَّدَ ملكه به.

(21)

(وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ). قيل في ذلك أن يحكم بالبينة واليمين، وقيل في فصل الخطاب، أن يفصل بين الحق والباطل. وقيل (أَما بعد)، وهو أول من قال أَمَّا بَعْدُ. * * * (وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) والمحرابُ أرفع بيت في الدار، وكذلك هو أرفع مكان في المسجد، والمحراب ههنا كالغرفة. قال الشاعر: رَبَّةُ مِحْرابٍ إِذا جِئْتُها. . . لم أَلْقَها أَو أَرْتَقي سُلَّما و (تَسَوَّرُوا) يدُلُّ على عُلُوٍّ. وقال (الخَصْم) ولفظه لفظ الواحد، و (تَسَوَّرُوا) لفظ الجماعة لأن قولك خصم يصلح للواحد والاثنين والجماعةِ والذكر والأنثى، يقال: هذا خَصم وهي خصم وهما خصم وهم خُصْم. وإنما صلح لجميع ذلك لأنه مصدر، تقول خصمته أَخْصِمُه خَصْماً. المعنى هما ذوا خصم وهم ذوو خصم، وإن قلت خصوم جاز كما تقول هما عدل وهما ذوا عدل، وقال اللَّه تعالى، (وَأشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْل مِنْكُمْ). فمعنى هما عدل هما ذوا عدل. فما كان من المصادر قد وصفت به الأسماء فتوحيده جائز، وإن وصفت به الجماعة، وتذكيره جائز وإن وصفت به الأنثى، تقول هو رضًى وهما رِضًى، وكذلك هذه رضًى. * * * وقوله تعالى: (إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22) لأنهم أتَوْه مِن غَير مَأتَى الخُصوم، وفي غير وقتهم، وفي وقت لم يكن

(23)

داود يأذن فيه أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْه أحَد، فأنكر ذلك وَفزِع. وإنَّمَا بُعِثَ إليه مَلَكَان فتصَورا في صورة رَجُلَيْن متخاصِميْن. (قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ). القراءة - الرفع، والرافع لِخَصْمانِ نحن، والمعنى نحن خَصْمَانِ ولو كان في الكلام لاَ تَخَفْ خَصْمَيْنِ بَغَى بَعْضُنَا على بَعْض لجاز، على معنى أَتَينَاكَ خَصْمَيْنِ لأنه أنكر إتيانهم، وإتْيَانُ الخُصُومِ قَدْ كَان يعتاده كثيراً. (فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ). أي لا تَجُرْ، يقال أَشَط يُشِط إذا جَار، ويقرأ لَا تَشطُطْ بمعنى لا تَبْعُد عن الحق، وكذلك لَا تَشْطِطْ - بكَسْرِ الطاء وفتح التاء - معناه كمعنى الأول قال الشاعر: تَشُِطُّ غَداً دارُ جِيرانِنا. . . ولَلدَّارُ بَعْدَ غَدٍ (واهْدِنا إلى سَواءِ الصِّراطِ). إلى قصد الطريق - أي طريق الحق. * * * (إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23) كَنَى بالنعجة عن المرأة. قال الأعشى: فَرمَيْتُ غُفْلَةَ عَيْنِه عن شاتِه. . . فأَصَبْتُ حَبَّةَ قَلْبها وطِحالَها عنى بالشاة ههنا المرأة (1).

_ (1) قال السَّمين: قوله: {تِسْعٌ وَتِسْعُونَ}: العامَّةُ على كسر التاءِ، وهي اللغةُ الفاشيةُ. وزيد بن علي والحسن بفتحها فيهما، وهي لُغَيَّةٌ. وقرأ العامَّةُ «نَعْجة» بفتح النون، والحسن وابن هرمز بكسرها. قيل: وهي لغةٌ لبعضِ بني تميمٍ. وكَثُرَ في كلامِهم الكنايةُ بها عن المرأةِ قال ابنُ عَوْنٍ: 3858 أنا أبُوْهُنَّ ثلاثٌ هُنَّهْ. . . رابِعَةٌ في البيتِ صُغْراهُنَّهْ. . . ونَعْجتي خَمْساً تُوَفِّيْهِنَّهْ. . . وقال آخر: 3859 هما نَعْجَتان مِنْ نِعاج تَبالَةٍ. . . لَدى جُؤْذُرَيْنِ أو كبعضٍ دُمَى هَكِرْ وقوله: «وعَزَّني» أي: غَلَبني. قال الشاعر: 3860 قَطاةٌ عَزَّها شَرَكٌ فباتَتْ. . . تُجاذِبُهُ وقد عَلِقَ الجَناحُ يقال: عَزَّهُ يَعُزُّه بضمِّ العينِ وتقدَّم تحقيقُه في سورة يس. وقرأ طلحة وأبو حيوة «وَعَزَني» بالتخفيف. قال ابن جني: «حَذْف الزاي الواحدةِ تخفيفاً. كما قال: 3861. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . أَحَسْنَ به فهنَّ إليه شُوْسُ يريد: أَحْسَسْنَ»، فحذف. وتُرْوَى هذه قراءةً عن عاصم. وقرأ عبد الله والحسن وأبو وائل ومسروق والضحاك «وعازَّني» بألفٍ مع تشديد الزاي، أي: غالبني. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(24)

(فَقَالَ أكْفِلْنِيهَا). أي اجعلني أنا أَكْفُلُهَا، وانزل أنت عنها. (وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ). غلبني في الخُصومَةِ، أي كان أقوى على الاحتجاج مِنِّي. * * * (قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24) المعنى بسؤاله نعجتك ليضمها إلى نعاجه. (وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ). من الشركاء، تقول فلان خليطي وشريكي في معنى وَاحِدٍ. (إلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ). أي قليل هم. وقوله: (وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ) الآية. ويقرأ بالتخفيف - فَتَنَاهُ - يعنى به الملكانِ. ومعنى ظن أيقن، ألا أنه ليس بيقينِ عيانٍ، أَما العِيَانُ فلا يقال فيه إلا علم. (فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ). مكث أرْبَعِينَ يَوْماً سَاجِداً لَا يَرْفَعُ رَأسَهُ يستغفر اللَّه من ذَنْبِهِ، إلا لصلاة مكتوبة ومَا لاَ بُدَّ له منه، وَلاَ ترقأ دَمْعَتُه (1).

_ (1) من الإسرائيليات المنكرة.

(26)

ويروى في التفسير - أن قصةَ داودَ والملكين سَبَبُها أن إبليس - غَضِبَ اللَّهُ عَليه - تمثل له في صورة طَيْرٍ مِنْ ذهَبٍ فسقط بقربه، فأوى إليْه ليأخذه فتنحَّى وطلبه حتى إذَا قَارَبَ أنْ يتناوله تنحى فَبَصُرَ دَاودُ في اتباعِ الطير بِامرأةٍ تغْتَسِلُ، وَبَصُرَتْ به فتجلَّلَت بشعرها حتى سترها ويقال إنها امرأة أُورِيَّا بن حَنَّا. وُيرْوَى أنه كتب إلى صاحب جنده أن يُقْدِمَ أُورِيَّا في حَرْبٍ كانت. فقدَّمَهُ فَقُتِلَ فتزوجَها دَاودُ، وُيرْوَى أن علِيًّا عليه السلام قال: من قال: أن داود عليه السلام قَارَفَ مِن هذه المرأة ريبةً جَلَدْتُه مائة وستين جلدة، لأن من قذف غير النبى جُلِدَ ثمانين جلدة، ومن قذف نبياً جلد مائةً وستين جَلدة. وكان في التفسير أن داود أحب أن يُتْلِفَ أُورِيَّا حتى يتزوج داود بامرأته. وهذا - واللَّه أعلم - إنما كان من داود على جهة محبَّة أن يتفق له ذلك من غير أن يتعمد أو يسعى فى دم الرجل، فجعله اللَّه له ذنباً لما أحبه. ويجوز أن يكون كتب في أن يُقَدَّمَ أمام التابوت هذا الرجُلُ لبأسه ونَجْدَتِه في الحرب ورَجَا كفايته فاتفق مع ذلك أن أصيب وبه حلت له امرأته فعوتب على محبة امرأة رجل ليس له غيرها، ولداود تسع وتسعون امرأة، فكان ذلك من ذنوب الأنبياء، فلما بالغ في التوبة وجهد نفسه في الرغبة إلى اللَّه في العفو حتى كاد أن يتلف نفسه تائباً ومُتَنَصِّلاً إلى اللَّه من ذنبه، واللَّه عزْ وجل قد وصف ذلك فقال: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ). وَقَوْل عَلِيٍّ عليه السلام - صلى اللَّه على داود ورحمه - يدل على صحة هذا التأويل، واللَّه أعلم. * * * (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26)

_ (1) من أساطير وأكاذيب بني إسرائيل، لا يصح ولا يثبت ولا يليق بآحاد المتقين فكيف بصفوة الله - عز وجل - من الأنبياء؟؟!!!

(27)

بهذا جاز أن يقال للخلفاء خلفاء الله في الأرض. (فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ). أي بحكم اللَّه (ذكنت خليفته. وقوله: (بِمَا نَسُوا يَوْمَ الحِسَابِ). أي بتركهم العَمَل لهذا اليوْمِ صاروا بمنزلة الناسين، وإن كانوا يُنْذَرُونَ ويُذَكَّرُونَ. * * * (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أعلمهم اللَّه أنه يعذبهم علي الظن. وكذْلك: (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ) وإنَّمَا قيلَ لهم هذَا لأنهم جَحدوا البَعْثَ. ودليلُ هذا قوله: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115). إذا لم يكن رجعة لم يكن فصل بين الفاجر والبَرِّ. وبعد هذا: (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) ثم قال: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29) المعنى هذا كتاب لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ. ليُفكِروا في آياته، وفي أَدْبَارٍ أُمُورِهم. أي عواقبها. (وَليَتَذَكرَ أُولُو الألْبَابِ) أي ذَوُو العقولِ. * * * (وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30)

(31)

المعنى نعم العبدُ سُلَيْمَانُ إنَّه أوَّابٌ كَثِير الرجوعِ. * * * (إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31) الصافنات الخيل القائمة، وقال أهلُ اللُّغَة وأهل التفسير، الضافنُ القائم الذي يثني إحدى يديه أو إحدى رجليه حتى يقف بها على سَنْبُكِه. وهو طرف الحافِرِ، فثلاث من قوائمه متصلة بالأرض، وقائمة منها تَتصِلُ بالأرْضِ طرف حافِرهَا فقط قال الشاعر أَلِفَ الصُّفُونَ فلا يَزالُ كأَنه. . . مما يَقُومُ على الثلاثِ كسيرا وقال بعضهم الصافِن القائِمُ ثَنَى إحْدَى قَوائمِه ولم يثنها، والخيل أكثر ما تقف - إذا وقفت - صافنةً، لأنها كأَنَّهَا تُراوح بين قوائمها. * * * (فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) " الخير " ههنا الخيلُ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - سمَى زيد الخيل - زيد الخير، وإنما سميت الخيل الخير لأن الخير معقود بنواصي الخيل - كذا جاء في الحديث. وكانت هذه الخيل وردت على سليمان من غنيمة جيش كان له، فتشاغل

(33)

باعتراضها إلى أن غابت الشمس وفاتته صلاة العصر. قال أهل اللغة: (حَتَّى تَوارَتْ بِالحِجَابِ). يعنى الشمس، ولم يَجْر للشمس ذكر. . وهذا لا أحسبهم أعْطَوُا الفكرَ حقَّه فيه، لأن في الآية دليلاً يدل على الشمس، وهو قوله: (إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ) والعِشي في معنى بَعدَ زَوال الشمس. حتى تَوارَتِ الشمسُ بالحجاب، وليس يجوز الإضمارُ إلا أن يجرِيَ ذكْر أو دَليلُ ذِكْرٍ بمنزلة الذِكْرِ. وكان سليمان لِهَيْبَتِه لا يَجْسُر عليه أَحَدٌ حَتَّى يُنَبَّه لوقت صلاة، ولست أدري هل كانت صلاةُ العَصْرِ مَفْروضَةً في ذلك الوقت أم لا، إلا أن اعتراضه الخيل قد شغله حتى جاز وَقْت يذكر اللَّه - جلَّ وعزَّ - فيه. ومعنى (أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ) آثرت حب الخير على ذكر اللَّه (1). * * * (رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33) المسح ههنا على ما جاء في التفسير القطع، وَروي أنه ضَرَبَ سُوقها وأعناقَها (2)، وسُوق جمعُ سَاقٍ، مثل دَار ودُور. ولم يكن سليمان ليضرب أعناقها إلا وقد أباح اللَّه ذلك، لأنه لا يجعل التوبة من الذنب بذَنْبٍ عظيم. وقال قوم إنه مسح أعناقها وسوقها بالماء وبيده، وهذا ليس يوجب شغلها إياه، أعني أن يمسحها بالماء، وإنَّمَا قال ذلك قوم لأن قتلها كان عندهم منكراً. وليس ما يبيحه اللَّه بمنكر، وجائز أن يباح ذلك لسليمان في وقته ويحظر في هذا الوقت، ومالك يذهب إلى أنه لا ينبغي أن يؤكل لحم الخيل والبغال والحمير، لقول اللَّه عزَّ وجلَّ: (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً) وقال في الإبل: (لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ)

_ (1) بل الصحيح - والله أعلم - أنه - عليه السلام - ما أحب الخيل لذاتها، وإنما كان الباعث له هو ذكر الله - عز وجل - لأنها كانت للجهاد في سبيل الله. والله أعلم. (2) لا يصح ولا يثبت.

(34)

(وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34) (فَتَنَّا) امتحنا. (وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا). جاء في التفسير أنه كان لسليمان ابن فخاف عليه الشياطينَ، لأن الشياطين كانت تَقْدِر الراحة مما كانت فيه بموت سليمان، فقالت إن بقي له وَلَدٌ لَمْ نَنْفكَّ مما نحن فيه، فغذاه في السحاب إشفاقاً عليه فمات. فألقى على كرسيه جَسَدٌ، فجائز أن يكون هذا مُجازاتَهُ على ذَنْبِه، وجائز أن يكون فأثكله اللَّه وَلَدَهُ. وأكثر ما جاء في التفسير أن " جسداً " ههنا شيطان، وأن سليمان أُمِرَ ألا يتزوج امرأةً إلا من بني إسرائيل، فتزوج من غيرهم امرأةً كانت تعبد غير اللَّه، فعاقبه اللَّه بأن سَلَبَه مُلكَهُ وكان ملكه في خاتمه فدفعه عند دخوله الحمام إلى شيطانٍ، وجاء في التفسير أنه يقال له صَخْر، فطرحه في البحر فمَكث أربعين يوماً يتيه في الأرض حتى وَجَدَ الخاتم في بطن سَمكةٍ. وكان شيطان تصور في صورته وجلس مجلسه، وكان أمره ينفذ في جميع مَا كَان يَنْفُذُ فيه أَمْرُ سُلَيمانَ، خَلَا نساءِ سُليمانَ، إلى أن رَدَّ اللَّه عليه ملكه (1). قال: (فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ). أي ذلك الذنب. (وَإِن لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ) حسن مَرْجِع. * * * (قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35)

_ (1) هذه الأساطير والافتراءات يقال فيها وأشباهها (سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ)

(36)

أي هب لي ملكاً يكون فيه آية تدل على نبوتي، لا ينبغي لأحد من بعدي من الآدميين الذين ليسوا بأنْبياء، يكون له آية تدل على أنك غفرت لي وَرَددت إليَّ نبوتي. والدليل على هذا قوله (فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) (رُخَاءً) لينةً، وقيل (تجري بأمره) ليست بشديدة كما يحب. (حَيْثُ أصَابَ) إجماع المفسرين وأهل اللُّغَةِ أنه حيث أراد، وحَقِيقَتُهُ قَصَدَ، وكذلك قولك للمجيب في المسألة: أَصَبْتَ، أي قَصدْتَ، فلم تخطئ الجواب. * * * (وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) (الشَّيَاطِين) نسق على الريح. وقوله (كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ) يدل على أنه من الشياطين. المعنى وسخرنا له كل بناء من الشياطين وكل غواص. وكان من يبني: (يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ). وكان من يغوص يخرجون له الحلية من البحر. (وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38) مَرَدَةُ الجن الشياطين، سُخروا له حتى قَرَنَهم في الأصْفَادِ. والأصفاد السلاسل من الحديد، - وكل ما شددته شدًّا وثيقاً بالحديد وغيره، فَقَد صَفَدْتَه وكل من أعطيته عطاء جزيلًا. فقد أصفدتَه كأنك أعطيته ما ترتبط به، كما تقول للمُتَخِذِ مَالاً أَصْلاً يبقى عليه: قد اتخذت عقدة جَيدَةً. * * * (هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39) (هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ) أي أطلق من شئت مِنهم.

(41)

(هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (أَوْ أَمْسِكْ) أو احبس مَن شئت ولا حِسَابَ عليك في حَبْسِه. وجائز أن يكون عطاؤنا ما أعطيناكَ من المال والكثرة والملك. فامنن، أي فاعْطِ منه. (أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ). بغير مِنةٍ عَلَيْكَ، وإن شئت بغير حساب بغير جَزاء. * * * (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) (عَبْدَنَا) منصوب بوقوع الفعل عليه، و (أَيُّوبَ) بدل من (عَبْدَنَا)، لأن أيوب هو الاسم الخاص، والاسم الخاص لا يكون نعتاً إنما يكون بدلًا مُبيّناً بِـ (نُصْبٍ) وَنَصَبٍ - بفتح النون والصاد، ونُصْبٍ بضم النون بمعنًى وَاحدٍ - وقَدْ قُرئتْ بِنُصْب بضم النون - وإسكان الصاد، وقرئت بفتح النون وإسكان الصاد. وَنَصَبٍ بفتح النون والصادِ بِمَنْزِلَةِ نُصْبٍ بضم النونِ، والنُّصْب والنَّصَب بمنزلة الرُّشْد والرَّشَدِ، والبُّخل والبَّخل والعُرْب والعَرَب. والنَّصْبُ - بفتح النون وإسْكانِ الصادِ على أصل المصدر، والنُّصْب والنصَبُ على معنى نَصَبْتُ نَصْباً وَنُصْباً. وَنَصْباً على أصل المصدر. ومعنى (بِنُصْب وَعَذَابٍ) بضُرٍّ في بَدِنِي، وَعَذَابٍ في مَالِي وَأَهْلِي ويجوز أن يكون بضُرٍّ في بَدَني وعذاب فيه. وروي أنه مكث أيوب عليه السلام سَبْعَ سِنِينَ مُبتَلًى يسعى الدُّودُ من بَدَنِه، فنادى رَبِّه: (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (1). * * * (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42) المعنىٍ قلنا له: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ: معناه دُسِ الأرض برجلك فداس الأرْض دَوْسَة خفيفةً، فنبعت له عَيْن فاغتسل منها فَذَهَبِ الداء من ظاهر بدنه، ثم داس دَوْسة ثانية فنبع ماء فشرب منه فغسِلَت الداء من باطن بَدَنِه.

_ (1) من الإسرائيليات المنكرة.

(43)

(وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43) قيل: وَوَهَبْنَا له أهله أعطيناه في الآخِرة ثوابَ فقدهم، ووهبنا له في الدنيا مثلهم، وقيل أُحْيِي له أَهْلُه، وَوُهِبَ لَهُ مِثْلُهم. (رَحْمَةً مِنَّاا). (رَحْمَةً) منصوبة مفعول لها. (وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ). لذوي العقول، ومعنى (وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ) إذا ابتُليَ اللبيبُ ذَكر بَلاءَ أَيوبَ فصَبَرَ. * * * (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44) المعنى وقلنا خذ بيدك. والضغث الحِزْمَةُ منَ الحَشِيش أو الريحان أو ما أشبه ذلك. وجاء في التفسير أن امرأة أيوبَ قالت له: لو تقربت إلى الشيطان فذبحت له عَنَاقاً: قال ولا كفًّا من تُرَاب، وَحَلَفَ أن يَجْلِدَها إذا عُوفيَ مائةَ جَلْدةٍ، وشكر الله لها خِدْمَتَها إيَّاهُ فجعل تحلة يَمِينهِ أن يأخذ حزْمَة فيها مائة قضيبٍ فيضربها ضربة واحدة. فاختلف النَّاسُ فَقَالَ قومٌ هذا لِأيوبَ - عليه السلام - خاصَّةً. وقال قوم: هذا لسائر الناس. (أَوَّابٌ) كثير الرجوع إلى اللَّه. * * * (وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45) (وَاذْكر عَبْدَنَا - (وعبادنا) (1) من قال (عبادَنا) جعل إبراهيمَ وإسحاق ويعقوبَ بدَلاً مِنْ عِبَادِنَا. ومن قرأ

_ (1) قال السَّمين: قوله: {عِبَادَنَآ}: قرأ ابنُ كثير «عَبْدَنا» بالتوحيد. والباقون «عبادَنا» بالجمعِ والرسمُ يحتملهما. فأمَّا قراءةُ ابنِ كثير ف «إبراهيمَ» بدلٌ أو بيانٌ، أو بإضمار أَعْني، وما بعدَه عطفٌ على نفس «عبدَنا» لا على إبراهيم؛ إذْ يَلْزَمُ إبدالُ جمع مِنْ مفردٍ. ولقائلٍ أنْ يقولَ: لمَّا كان المرادُ بعبدنا الجنسَ جاز إبدالُ الجمعِ منه. وهذا كقراءةِ ابنِ عباس {وإله أبيك إِبْرَاهِيمَ} في البقرة في أحدِ القولين وقد تقدَّم. وأمَّا قراءةُ الجماعةِ فواضحةٌ لأنَّها موافقةٌ للأولِ في الجمع. قوله: «الأَيْدي» العامَّة على ثبوتِ الياءِ، وهو جَمْعُ يدٍ: إمَّا الجارِحَةِ، وكنَى بذلك/ عن الأعمالِ؛ لأنَّ أكثرَ الأعمالِ إنما تُزاوَلُ باليدِ. وقيل: المرادُ بالأيدي جمعُ «يَدٍ» المراد بها النعمةُ. وقرأ عبد الله والحسن وعيسى والأعمش «الأَيْد» بغيرِ ياء فقيل: هي الأُوْلى وإنَّما حُذِفَتِ الياءُ اجتزاءً عنها بالكسرة ولأنَّ أل تعاقِبُ التنوينَ، والياءُ تُحْذَفُ مع التنوين، فأُجْرِيَتْ مع أل إجراءَها معه. وهذا ضعيفٌ جداً. وقيل: الأَيْد: القوةُ. إلاَّ أنَّ الزمخشريَّ قال: «وتَفْسيرُه بالأَيْد من التأييد قِلِقٌ غيرُ متمكن» انتهى. وكأنَّه إنما قَلِقَ عنده لعطفِ الأبصارِ عليه، فهو مناسبٌ للأيدي لا للأَيْد من التأييد. وقد يقال: إنه لا يُراد حقيقةُ الجوارح؛ إذ كلُّ أحدٍ كذلك، إنما المراد الكناية عن العمل الصالحِ والتفكُّرِ ببصيرتِه فلم يَقْلَقْ حينئذٍ؛ إذ لم يُرِدْ حقيقةَ الإِبصارِ. وكأنه قيل: أُولي القوةِ والتفكُّر بالبصيرةِ. وقد نحا الزمخشري إلى شيءٍ مِنْ هذا قبلَ ذلك. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(46)

عبَدنَا جعل إبراهيم وحدَهُ البَدَلَ، وجعل إسحاق ويعقوب عَطْفاً على قوله عَبْدنا. وقوله: (أُولي الأيْدِي). وقرئت الأيْد بغير ياء ومعنى أولي الأيدي أولي القوة في العبادة. (والأبْصَارِ) أي هم ذوو بَصِيرةٍ فيما يقرب إلى اللَّه. وقد يقول للقوم: لهم أيَدي بهؤلاء أي هم قادرون عليهم قال الشاعر: اعْمِدْ لِما تَعْلُو فما لكَ بالذِي. . . لا تَسْتَطِيع مِنَ الأُمورِ يَدانِ أي اعمد لما تَقْهرُ ولا تعمد لما تُقْهَرُ فِيه، أي فما لك قَوة. من قرأ أُولي الأيْدِ بِغَير يَاء فمعناه من التأييد والتقوية على الشيء. * * * وقوله: (إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) ويقرأ بخالصةِ ذكرى الدار على إضافة خالصة إلى ذكرى ومن قرأ بالتنوين جعل ذكرى الدار بدلًا مِنْ خَالِصَةٍ. ويكون المعنى إنا أَخْلَصناهم بذكرى الدَّارِ. ومعنى الدار ههنا الدار الآخرة. وتأويله يحتمل وجهين: أحدهما: إنا أَخْلَصْنَاهم جعلناهم لنا خالصين، بأن جعلناهم يُذَكِرُون بالدار الآخرة، وُيزَهِّدُونَ في الدنيا، وكذلك شأن الأنبياء صلوات اللَّه عَلَيْهِم. وَيَجُوزُ أنْ يكون بأنهم يكثرون ذكر الآخرة والرجوع إلى الله جلَّ وعَزَّ. * * * (وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47) أي الذين اتخذهم اللَّهُ صَفْوةً، صَفاهم من الأدناس كلِّهَا وَأَخْلَصَهُم منها.

(48)

وقوله: (وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ (48) ويقرأ واللَّيْسَعَ وَذَا الكِفْلِ. وكان تكفلَ بعمل رَجُل صالح. يقال إنه كان يصلي ذلك الرجل في كل يوم مائة صلاة فتُوُفِّيَ الرجل الصالح فتكفل ذو الكفل بعمله، فكان يعمل عمله، ويقال إن ذا الكفل تكفَّل بأمْرِ أَنْبِيَاءَ فخلَّصهم من القتل فسُمِّيَ ذا الكِفْلِ. (وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ). المعنى وكل هؤلاء المذكورين من الأخيار. والأخيار جمع خيِّر وأَخْيارٌ مثل ميِّت وأموات. * * * (هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) معناه - واللَّه - أعلم - هذا شرف وذكر جميل يذكرون به أَبداً، وإن لهم مع ذلك لَحُسْنَ مآبٍ أي لحسن مَرْجع. يذكرون في الدنيا بالجميل ويرجعون في الآخرة إلى مغفرة اللَّه. ثم بين كيف حسن ذلك المرجعْ فقال: * * * (جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50) (جَنَّاتِ) بدل من (لَحُسْنَ مَآبٍ) ومعنى مفتحة لهم الأبواب أي منها. وقال بعضهم: مُفَتحَةً لهم أبْوَابُها والمعنى وَاحِد، إلا أن على تقدير العَرَبيةِ " الأبْوابُ مِنْهَا " أجودُ من أَنْ تجعل الألف واللام وبدلًا من الهاء والألف. لأن معنى الألف واللام ليس معنى الهاء والألف في شيء. لأن الهاء والألف اسم، والألف واللام دخلتا للتعريف، ولا يبدل حرف جاء لمعنى من اسم ولا ينوب عنه. هذا محال (1). * * * (وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (52)

_ (1) قال السَّمين: قوله: {جَنَّاتِ عَدْنٍ}: العامةُ على نصب «جنات» بدلاً من «حُسْنَ مَآب» سواءً كانَتْ جنات عدنٍ معرفةً أم نكرةً؛ لأنَّ المعرفةَ تُبْدَلُ من النكرة وبالعَكْس. ويجوزُ أن تكونَ عطفَ بيان إنْ كانَتْ نكرةً ولا يجوزُ ذلك فيها إنْ كانَتْ معرفةً. وقد جَوَّز الزمخشريُّ ذلك بعد حُكْمِه واستدلاله على أنها معرفةٌ، وهذا كما تقدَّم له في مواضِعَ يُجِيْزُ عطفَ البيان، وإنْ تَخالَفا تعريفاً وتنكيراً وقد تقدَّم هذا عند قولِه تعالى: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ} [آل عمران: 97] ويجوزُ أَنْ تَنْتَصِبَ «جناتِ عَدْنٍ» بإضمارِ فِعْلٍ. و «مُفَتَّحةً» حالٌ مِنْ «جنات عدن» أو نعتٌ لها إن كانَتْ نكرةً. وقال الزمخشري: «حالٌ. والعاملُ فيها ما في» للمتقين «مِنْ معنى الفعلِ» انتهى. وقد عَلَّلَ أبو البقاءِ بعلةٍ في قوله/: «مُتَّكئين» تقتضي مَنْعَ «مُفَتَّحة» أَنْ تكونَ حالاً، وإنْ كانَتْ العلةُ غيرَ صحيحةٍ. وقال: «ولا يجوزُ أَنْ يكونَ» متكئين «حالاً مِنْ» للمتقين «لأنه قد أخبر عنهم قبلَ الحال» وهذه العلةُ موجودةٌ في جَعْل «مُفَتَّحةً» حالاً من «للمتقين» كما ذكره الزمخشري. إلاَّ أنَّ هذه العلةَ ليسَتْ صحيحةً وهو نظيرُ قولِك: «إن لهندٍ مالاً قائمةً». وأيضاً في عبارتِه تجَوُّزٌ: فإنَّ «للمتقين» لم يُخْبِرْ عنهم صناعةً إنما أخبر عنهم معنًى، وإلاَّ فقد أخبر عن «حُسْن مآب» بأنَّه لهم. وجعل الحوفيُّ العاملَ مقدراً أي: يَدْخلونها مفتحةً. قوله: «الأبواب» في ارتفاعِها وجهان، أحدهما: - وهو المشهورُ عند الناسِ - أنَّها مُرْتفعةٌ باسمِ المفعول كقوله: {وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 73]. واعْتُرِضَ على هذا بأن «مُفتَحةً»: إمَّا حالٌ، وإمَّا نعتٌ ل «جنات»، وعلى التقديرَيْن فلا رابطَ وأُجيب بوجهين، أحدهما: قولُ البصريين: وهو أنَّ ثَمَّ ضميراً مقدراً تقديرُه: الأبوابُ منها. والثاني: أنَّ أل قامَتْ مقامَ الضمير؛ إذِ الأصلُ: أبوابُها. وهو قول الكوفيين وتقدَّم تحقيقُ هذا. والوجهان جاريان في قولِه: {فَإِنَّ الجنة هِيَ المأوى} [النازعات: 41]. الثاني: أنها مرتفعةٌ على البدلِ من الضميرِ في «مُفَتَّحَةً» العائدِ على «جنات» وهو قولُ الفارسيِّ، لمَّا رأى خُلُوَّها من الرابطِ لفظاً ادَّعَى ذلك. واعْتُرض على هذا: بأنَّ مِنْ بدلِ البعض أو الاشتمالِ، وكلاهما لا بُدَّ فيهما مِنْ ضميرٍ فيُضْطَرُّ إلى تقديره كما تقدَّم. ورَجَّح بعضُهم الأولَ: بأنَّ فيه إضماراً واحداً، وفي هذا إضماران وتَبعه الزمخشريُّ فقال: «والأبواب بدلٌ مِن الضمير في» مُفَتَّحَةً «أي: مفتحةً هي الأبواب كقولك: ضربَ زيدٌ اليدَ والرِّجْلَ، وهو مِنْ بَدَلِ الاشتمال» فقوله: «بدلُ الاشتمال» إنما يعني به الأبواب، لأنَّ الأبواب قد يُقال: إنها ليسَتْ بعضَ الجنات، و «أمَّا ضَرَبَ زيدٌ اليدَ والرِّجْلَ» فهو بعضٌ مِنْ كل ليسَ إلاَّ. وقرأ زيد بن علي وأبو حيوةَ {جَنَّاتُ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةٌ} برفعهما: إمَّا على أنهما جملةٌ مِنْ مبتدأ وخبرٍ، وإمَّا على أنَّ كلَّ واحدةٍ خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: هي جناتٌ، هي مفتحةٌ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(53)

يعني حُوراً قد قَصَرْن طَرْفَهُن على أزواجهن فلا يَنْظُرْنَ إلى غيرهم. (أَتْرَابٌ). أقران، (وَكَواعِبَ أَتْرَاباً) أي أسنانهن وَاحِدة، وهن في غاية الشباب والحُسْنِ. * * * (هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (53) أي ليوم تجزى كل نفس بِمَا عَملَتْ، ثم أعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أن نعيم أهل الجنة غير منقطع فقال: * * * (إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54) أي ماله من انقطاع. * * * (هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) المعنى: الأمر هذا. فهذا رفع خبرَ الابتداء المحذوف، وإن شئت كان هذا رفعاً بالابتداء والخبر محذوف، وجهنم بدل مِنْ (شَرَّ مَآب)، أي شر مَرْجِع. * * * (هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) بتشديد السين وتخفيفها، وحميم رفع من جهتين: إحداهما على معنى هذا حميم وغسَّاق فليذوقوه. ويجوز أن يكون (هذا) على معنى تفسير هذا (فليذوقوه) ثم قال بعد (حميم وغسَّاق). ويجوز أن يكون (هذا) في موضع نصب على هذا التفسير. ويجوز أن يكون في موضع رفع. فإذا كان في موضع نصب فعلى " فَلْيَذُقُوا هَذا " فليذقوه. كما قال: (وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ). ومثْلُ ذَلِكَ زَيداً فاضربه.

(59)

ومن رفع فبالابتداء ويجعل الأمر في موضع خبر الابتداء، مثل (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا). وقيل إن معنى (غساق) الشديدُ البرْدِ الذي يُحْرِقُ من بَرْدِه، وقيل إن الغساقَ ما يغسق من جلود أهل النار. ولو قطرت منه قطرة في المشرقِ لِأنْتَنَتْ أهل المغرب. وكذلك لو سقطت في المغرب (1). * * * (وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58) وَيُقْرأ (وأُخَرُ) (وَآخَرُ) عطف على قوله (حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ). أي وعَذَابٌ آخَرُ مِنْ شَكْلِه - يقول مثل ذلك الأول. ومن قرأ وأُخرُ، فالمعنى وأنواع أُخَر من شكله. لأن قوله: (أزواج) معناه أنواع. * * * (هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ (59) الفوج هم تُبَّاعُ الرؤسَاءِ وَأَصْحابهم في الضلالة وقيل لهم: (لَا مَرْحَبًا) مَنْصُوبٌ كقولك رَحُبَتْ بِلَادُكَ مرحبا، وصَادفْتَ مَرْحَباً، فأدْخَلْتَ (لا) على ذَلِكَ المعنى (2). * * * (قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ (60) هذا قول الأتْباعِ للرؤساء. * * * (قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ (61) أي زِدْه على عذابه عذاباً آخر. ودليل هذا قوله تعالى: (رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ) وَمعنى صعْفين مَعْنَى فِزده عذاباً ضِعْفاً.

_ (1) قال السَّمين: قوله: {هذا فَلْيَذُوقُوهُ}: في «هذا» أوجهٌ، أحدها: أَنْ يكونَ مبتدأً، وخبرُه «حميمٌ وغَسَّاقٌ». وقد تقدَّم أنَّ اسم الإِشارة يُكْتَفَى بواحدِه في المثنى كقوله: {عَوَانٌ بَيْنَ ذلك} [البقرة: 68]، أو يكون المعنى: هذا جامِعٌ بين الوصفَيْن، ويكون قولُه: «فَلْيَذُوْقوه» جملةً اعتراضيةً. الثاني: أَنْ يكونَ «هذا» منصوباً بمقدَّرٍ على الاشتغال أي: لِيَذُوقوا هذا. وشبَّهه الزمخشريُّ بقولِه تعالى: {وَإِيَّايَ فارهبون} [البقرة: 40]، يعني على الاشتغال. والكلامُ على مثلِ هذه الفائدةِ قد تقدَّم. و «حميمٌ» على هذا خبرُ مبتدأ مضمرٍ، أو مبتدأٌ وخبره مضمرٌ أي: منه حميمٌ ومنه غَسَّاقٌ كقوله: 3874 حتى إذا ما أضاءَ البرقُ في غَلَسٍ. . . وغُودِرَ البَقْلُ مَلْوِيٌّ ومَحْصُوْدُ أي: منه مَلْوِيٌّ ومنه مَحْصود. الثالث: أَنْ يكونَ «هذا» مبتدأ، والخبرُ محذوفٌ أي: هذا كما ذُكِر، أو هذا للطاغين. الرابع: أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: الأمرُ هذا، ثم استأنف أمراً فقال: فَلْيذوقوه. الخامس: أن يكونَ مبتدأً، وخبرُه «فَلْيذوقوه» وهو رأيُ الأخفشِ. ومنه: 3875 وقائلةٍ خَوْلانُ فانْكِحْ فتاتَهُمْ. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في المائدة عند {والسارق والسارقة} [المائدة: 38] / وقرأ الأخَوان وحفصٌ «غَسَّاقٌ» بتشديد السينِ هنا وفي عمَّ يتساءَلْون، وخَفَّفه الباقون فيهما. فأمَّا المثقلُ فهو صفةٌ كالجَبَّار والضَّرّاب مثالَ مبالغةٍ، وذلك أنَّ فَعَّالاً في الصفاتِ أغلبُ منه في الأسماء. ومِنْ ورودِه في الأسماء: الكَلاَّء والجَبَّان والفَيَّاد لذَكَرِ البُوْم، والعَقَّارُ والخَطَّارُ وأمَّا المخففُ فهو اسمٌ لا صفةٌ؛ لأنَّ فَعَالاً بالتخفيفِ في الأسماءِ كالعَذاب والنَّكال أغلبُ منه في الصفاتِ، على أن منهم مَنْ جَعَله صفةً بمعنى ذي كذا أي: ذي غَسَقٍ. وقال أبو البقاء: «أو يكون فعَّال بمعنى فاعِل». قلت: وهذا غيرُ مَعْروفٍ. والغَسَقُ: السَّيَلانُ. يقال: غَسَقَتْ عينُه أي: سالَتْ. وفي التفسير: أنه ماءٌ يَسيل مِنْ صَدِيدِهم. وقيل: غَسَق أي امتلأ. ومنه: غَسَقَتْ عينُه أي: امتلأت بالدمع ومنه الغاسقُ للقمرِ لامتلائِه وكمالِه. وقيل: الغَسَّاق ما قَتَل ببردِه. ومنه قيل لليلِ: غاسِق؛ لأنه أبردُ من النهار. وقيل: الغَسَق شدَّةُ الظُّلْمة، ومنه قيل لليل: «غاسِق». ويقال للقمر: غاسِقٌ إذا كُسِفَ لاسْوِداده، ونُقِل القولان في تفسير قوله تعالى: {وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ} [الفلق: 3]. اهـ (الدُّرُّ المصُون). (2) قال السَّمين: قوله: {مُّقْتَحِمٌ}: مفعولُه محذوفٌ أي: مقتحِمٌ النارَ. والاقتحام: الدخولُ في الشيء بشدَّة، والقُحْمَةُ: الشدةُ. وقال الراغب: الاقتحام توسُّطُ شِدَّةٍ مُخيفةٍ. ومنه قَحَمَ الفرسُ فارسَه أي: توغَّل به ما يُخافُ منه/. والمقاحيم: الذين يَتَقَحَّمون في الأمر الذي يُتَجَنَّب «. قوله:» معكم «يجوزُ أَنْ يكونَ نعتاً ثانياً ل فَوْج، وأَنْ يكونَ حالاً منه لأنه قد وُصِفَ، وأَنْ يكونَ حالاً من الضمير المستتر في» مُقْتَحِم «. قال أبو البقاء:» ولا يجوزُ أَنْ يكونَ ظرفاً لفسادِ المعنى «، ولم أَدْرِ مِنْ أَيِّ أوجهٍ يَفْسُدُ، والحاليةُ والصفةُ في المعنى كالظرفية؟ وقوله:» هذا فَوْجٌ «إلى قوله:» النار «يجوز أَنْ يكونَ مِنْ كلامِ الرؤساء بعضِهم لبعضِ، وأَنْ يكونَ مِنْ كلامِ الخَزَنَةِ، ويجوز أَنْ يكونَ» هذا فَوْجٌ «مِنْ كلامِ الملائكة، والباقي من كلام الرؤساء، وكان القياسُ على هذا أَنْ يُقال: بل هم لا مَرْحباً بهم لأنهم لا يقولون للملائكة ذلك، إلاَّ أنهم عَدَلُوا عن خطاب الملائكةِ إلى خطابِ أعدائِهم تَشَفِّياً منهم. قوله: {لاَ مَرْحَباً} في» مَرْحباً «وجهان، أظهرُهما: أنه مفعولٌ بفعل مقدرٍ أي: لا أتَيْتُمْ مَرْحباً أو لا سَمِعتم مرحباً. والثاني: أنه منصوبٌ على المصدرِ. قاله أبو البقاء أي: لا رَحِبَتْكم دارُكم مَرْحباً بَلْ ضَيِّقاً. ثم في الجملةِ المنفيةِ وجهان، أحدهما: أنها مستأنفةٌ سِيْقَتْ للدعاءِ عليهم، وقوله:» بهم «بيانٌ للمدعُوِّ عليه. والثاني: أنها حاليةٌ. وقد يُعْتَرَضُ عليه: بأنه دعاءٌ، والدعاءُ طلبٌ والطلبُ لا يَقَعُ حالاً. والجوابُ أنه على إضمارِ القولِ أي: مَقُولاً لهم لا مَرْحباً. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(63)

وقوله تعالى: (أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (63) (أَتَّخَذْنَاهُمْ) يقرأ بقطع الألفِ وفتحها على مَعْنَى الاستفهام (1) ومن وصلها كان على معنى. إنا اتخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا، ويقرأ (سِخْرِيًّا) و (سُخْرِيًّا) - بالكَسْر والضمِ. والمعنى واحد،. وقَدْ قَال قَوْمٌ: إن ما كان من التسخير فهو مضموم الأول. وما كان من الهزؤ فهو مكسور الأول. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64) أي إن وَصْفَنَا الذي وصفناه عَنْهُم لَحَق (2) ثم بين ما هو فقال: هو تخاصم أهل النار، وهذا كله على معنى إذا كان يومُ القيامة قال أهل النار كذا وكذلك كلُّ شيء في القرآن مما يحكي عن أهل الجنة والنار. * * * ْ (قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (65) أي قل إنك تنذر، وإنك تدعو إلى توحيد اللَّه. وَلَوْ قُرِئَتْ: (إِلَّا اللَّهَ الْوَاحِدَ الْقَهَّارَ) - بالنصب - لجَازَتْ ولكنهُ لَم يقْرأ بها، فَلَا تقرأن بها. ومن نصب فعلى الاستثناء، ومن رفع فعلى معنى ما إله إلا اللَّهُ. * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) أي قل النبأ الَّذِي أنبأتكم به عن اللَّه - عزَّ وجلَّ - نبأ عَظِيم، والذي أنبأتكمْ به دليل على نُبُوتي. يعني ما أنبأكم به النبي - صلى الله عليه وسلم - من قصة آدم وإبليس، فإن ذلك لا يعلم إلا بقراءة الكُتُبِ أو بِوَحْي من اللَّه، وقد علم الذين خاطبهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لم يقرأ كتاباً ولا خطه بيمينهِ ولا كان رَيْبٌ فيما يخبر به أنه وحيٌ ثم بيَّنَ ذلك فقال: * * * (مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69)

_ (1) قال السَّمين: قوله: {أَتَّخَذْنَاهُمْ}: قرأ الأخَوان وأبو عمروٍ بوَصْلِ الهمزةِ، وهي تحتملُ وجهين، أحدهما، أَنْ يكونَ خبراً مَحْضاً، وتكون الجملةُ في محلِّ نصبٍ صفةً ثانيةً ل «رِجالاً» كما وقع «كنا نَعُدُّهم» صفةً، وأَنْ يكونَ المرادُ الاستفهامَ وحُذِفَتْ أداتُه لدلالةِ أم عليه كقوله: 3876 تَرُوْحُ من الحيِّ أَمْ تَبْتَكِرْ. . . وماذا عليك بأَنْ تَنْتَظِرْ ف أم متصلةٌ على هذا، وعلى الأول منقطعة بمعنى بل والهمزة لأنها لم تتقدَّمْها همزةُ استفهامٍ ولا تسويةٍ. والباقون بهمزةِ استفهامٍ سَقَطَتْ لأجلِها همزةُ الوصلِ. والظاهر أنه لا محلَّ للجملةِ حينئذٍ لأنها طلبيةٌ. وجَوَّزَ بعضُهم فيها أَنْ تكونَ صفةً لكنْ على إضمارِ القولِ أي: رجالاً مَقُولاً فيهم: أتخذناهم كقوله: 3877 جاؤُوْا بمَذْقٍ هل رَأَيْتَ الذئبَ قَطْ. . . إلاَّ أنَّ الصفةَ في الحقيقةِ ذلك القولُ المضمرُ. وقد تقدَّم الخلافُ في «سِخْرِيَّاً» في {قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون}. والمشهورُ أن المكسورَ في الهُزْء كقولِ الشاعر: 3778 إني أتاني لِسانٌ لا أُسَرُّ بها. . . مِنْ عَلْوَ لا كَذِبٌ فيها ولا سَخْرُ وتقدَّم معنى لَحاقِ الياءِ المشددَّةِ في ذلك. وأم مع الخبرِ منقطعةٌ فقط كما تقدَّم، ومع الاستفهام يجوزُ أَنْ تكونَ متصلةً، وأن تكونَ منقطعةً كقولِك: «أزيدٌ عندك أم عندك عمروٌ»، ويجوزُ أنْ يكونَ «أم زاغَتْ» متصلاً بقوله: «ما لنا» لأنه استفهامٌ، إلاَّ أنه يَتَعَيَّنُ انقطاعُها لعَدَمِ الهمزةِ، ويكون ما بينهما معترضاً على قراءةِ «أتَّخَذْناهم» بالاستفهام إنْ لم نجعَلْه صفةً على إضمارِ القولِ كما تقدَّمَ. اهـ (الدُّرُّ المصُون). (2) قال السَّمين: قوله: {تَخَاصُمُ}: العامَّةُ على رَفْعِ «تَخاصُمُ» مضافاً لأهل. وفيه أوجه، أحدها: أنَّه بدلٌ مِنْ «لَحَقٌّ». الثاني: أنه عطفُ بيانٍ. الثالث: أنه بدلٌ مِنْ «ذلك» على الموضعِ، حكاه مكي، وهذا يُوافِقُ قولَ بعض الكوفيين. الرابع: أنه خبرُ ثانٍ ل «إنَّ». الخامس: أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: هو تخاصُمُ. السادس: أنه مرفوعٌ بقولِه «لَحَقٌّ». إلاَّ أنَّ أبا البقاء قال: «ولو قيل: هو مرفوعٌ ب» حَقٌّ «لكان بعيداً لأنه يَصيرُ جملةً/ ولا ضميرَ فيها يعود على اسم» إن «. وهذا ردٌّ صحيحٌ. وقد يُجابُ عنه: بأنَّ الضميرَ مقدرٌ أي: لحقٌّ تخاصُمُ أهلِ النار فيه كقوله: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور} [الشورى: 43] أي: منه. وقرأ ابن محيصن بتنوين» تخاصم «ورفع» أهلُ «فَرَفْعُ» تخاصُمٌ «على ما تقدَّم. وأمَّا رَفْعُ» أهلُ «فعلى الفاعلية بالمصدرِ المنونِ كقولك:» يُعْجبني تخاصمٌ الزيدون «أي: أنْ تخاصَموا. وهذا قولُ البصريين وبعضِ الكوفيين خلا الفراءَ. وقرأ ابنُ أبي عبلة» تخاصُمَ «بالنصب مضافاً لأهل. وفيه أوجه، أحدها: أنه صفةٌ ل» ذلك «على اللفظِ. قال الزمخشري:» لأنَّ أسماءَ الإِشارة تُوْصَفُ بأسماءِ الأجناس «. وهذا فيه نظرٌ؛ لأنهم نَصُّوا على أنَّ أسماء الإِشارة لا تُوْصَفُ إلاَّ بما فيه أل نحو:» يا هذا الرجلُ «، ولا يجوز» يا هذا غلامَ الرجل «فهذا أبعدُ، ولأن الصحيحَ أنَّ الواقع بعد اسمِ الإِشارة المقارنِ ل أل إنْ كان مشتقاً كان صفةً، وإلاَّ كان بدَلاً و» تخاصُم «ليس مشتقاً. الثاني: أنه بدلٌ من ذلك. الثالث: أنه عطفُ بيانٍ. الرابع: على إضمارِ» أعني «. وقال أبو الفضل:» ولو نُصِبَ «تخاصم» على أنَّه بدلٌ من «ذلك» لجاز «انتهى. وكأنه لم يَطَّلِعْ عليها قراءةً. وقرأ ابن السَّمَيْفع» تخاصَمَ «فعلاً ماضياً» أهل «فاعلٌ به. وهي جملةٌ استئنافيةٌ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(71)

أي ما علمت هذه الأقاصيص إِلا بِوَحْيٍ منَ اللَّهِ. * * * (إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) هم الملأ من الملائكة، وملأ كل قرية وجوههم وأفَاضِلهَمَ. * * * (قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) ((قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ) تقرأ على ثلاثة أوجه: (بِيَدَيَّ) على التَّثْنِية، و (بِيَدَيَ اسْتَكْبَرْتَ) بفتح الياء وتخفيفها وتوحيد اليد، وبتسكين اليد والتوحيد، (بِيَدَي استكبرت) (1). * * * (قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) أي فإنَّكَ لَعين، معناه فإنك مرجوم باللعنة. * * * (وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78) يوم تدان كل نفس بما كسبت، ومعنى يوم الدين يوم الجزاء. * * * (إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) الَّذِي لَا يَعْلَمُه إِلا اللَّهُ، ويوْم الوَقْتِ يَومُ القيامة. * * * وقوله: (إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) بفتح اللام، أخْلَصَهُم اللَّه لِعِبَادَتِه، ومن كسر اللام، فإنَّمَا أراد الَّذِين أخْلَصُوا دينَهُمْ اللَّه. * * * (قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84)

_ (1) قال السَّمين: قوله: {أَن تَسْجُدَ}: قد يَسْتَدِلُّ به مَنْ يَرَى أنَّ «لا» في {أَلاَّ تَسْجُدَ} [الأعراف: 12] في السورةِ الأخرى زائدةٌ؛ حيث سقطَتْ هنا والقصةُ واحدةٌ. وقوله: «لما خَلَقْتُ» قد يَسْتَدِلُّ به مَنْ يرى جوازَ وقوع «ما» على العاقل؛ لأنَّ المرادَ به آدمُ. وقيل: لا دليلَ فيه؛ لأنه كان فَخَّاراً غيرَ جسمٍ حَسَّاسٍ فأشير إليه في تلك الحال. وقيل: «ما» مصدريةٌ والمصدرُ غيرُ مُرادٍ، فيكون واقعاً موقعَ المفعولِ به أي: لمخلوقي. وقرأ الجحدري «لَمَّا» بتشديدِ الميمِ وفتحِ اللامِ، وهي «لَمَّا» الظرفيةُ عند الفارِسيِّ، وحرفُ وجوبٍ لوجوبٍ عند سيبويه. والمسجود له على هذا غيرُ مذكورٍ أي: ما مَنَعَك من السجود لَمَّا خلقْتُ أي: حين خَلَقْتُ لِمَنْ أَمَرْتُك بالسجود له. وقُرِئ «بيَدَيِّ» بكسرِ الياءِ كقراءةِ حمزةَ «بِمُصْرِخِيِّ» وقد تقدَّم ما فيها. وقُرِئ «بيدي» بالإِفرادِ. قوله: «أسْتَكْبَرْت» قرأ العامَّةُ بهمزةِ الاستفهام وهو استفهامُ توبيخٍ وإنكارٍ. و «أم» متصلةٌ هنا. هذا قولُ جمهورِ النحويين. ونقل ابنُ عطيةَ عن بعضِ النحويين أنها لا تكونُ معادِلَةً للألفِ مع اختلافِ الفعلَيْن، وإنما تكونُ معادِلةً إذا دَخَلَتا على فِعْلٍ واحد كقولِك: أقامَ زيدٌ أم عمروٌ، وأزيدٌ قام أم عمروٌ؟ وإذا اختلف الفعلان كهذه الآيةِ فليسَتْ معادِلةً. وهذا الذي حكاه عن بعض النحويين مَذْهَبٌ فاسِدٌ، بل جمهورُ النحاةِ على خلافِه قال سيبويه: «وتقول:» أضرَبْتَ زيداً أمْ قَتَلْتَه؟ «فالبَدْءُ هنا بالفعل أحسنُ؛ لأنك إنما تَسْأل عن أحدِهما لا تدري أيهما كان؟ ولا تَسْأَلُ عن موضعِ أحدِهما كأنك قلت: أيُّ ذلك كان» انتهى. فعادل بها الألفَ مع اختلافِ الفعلين. وقرأ جماعةٌ - منهم ابنُ كثير، وليسَتْ مشهورةً عنه - «استكبَرْتَ» بألف الوصلِ، فاحتملَتْ وجهين، أحدهما: أنْ يكونَ الاستفهامُ مُراداً يَدُلُّ عليه «أم» كقولِه: 3879. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . بسَبْعٍ رَمَيْنَ الجَمْرَ أم بثمانِ وقول الآخر: 3880 ترُوْحُ من الحَيِّ أم تَبْتَكِرْ. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . فتتفق القراءتان في المعنى، واحتمل أَنْ يكونَ خبراً مَحْضاً، وعلى هذا فأم منقطعةٌ لعدمِ شَرْطِها. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(88)

وقرئت: (قَالَ فَالْحَقَّ وَالْحَقَّ أَقُولُ) بنصبهما جميعاً. فَمن رَفَع فعلى ضربين: على معنى فَأنا الحقُّ، والحقُّ أقُولُ. ويجوز رفْعُه علي معْنَى فَالحَقُّ مِنِّي. ومن نصب فعلى معنى فالحقَّ أَقُولُ والحقَّ لأملأن جهنم حَقًّا. * * * (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88) أي بعد الموت.

سورة الزمر

سُورَة الزُّمَر (مَكِّيَّة) ما خلا ثلاث آيات نزلت بالمدينة (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ) إلى تمام ثلاث آيَاتٍ. يقال سورة الغُرَف ويقال سورة الزمَر. روي عن وهب بن منبه أنه قَالَ: مَنْ أَحَبَّ أن يعرف قضاء اللَّه في خلقه فليقرأ سورةَ الغُرَف. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله جلَّ وعزَّ: (تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ). الكتاب ههنا القرآن، ورفع تنزيل الكتاب من جهتين: إحداهما الابتداء ويكون الخبر من اللَّه، أي نزل من عند اللَّه. ويجوز أن يكون رفعه على: هذا تنزيل الكتاب. * * * وقوله: (فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) (الدِّينَ) منصوب بوقوع الفعل عليه، و (مُخْلصاً) منصوب على الحال، أي فاعبد اللَّه موحداً لا تشرك به شيئاً. وزعم بعض النحويين أنه يجوز مخلصاً له الدِّينُ، وقال يرفع الدِّينُ على قولك مخلِصاً، له الدِّينُ، ويكون مخلصاً تمام الكلام. ويكون له الدين ابتداء. وهذا لا يجوز من جهتين. إحداهما أنه لم يقرأ به،

(3)

والأخرى أنه يفسده (أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ) فيكون " له الدينُ " مكرراً في الكلام، لا يحتاج إليه، وإنما الفائدة في (أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ) تحسن بقوله (مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ). ومعنى إخلاص الدِّينِ ههنا عبادة الله وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وهذا جرى تثبيتاً للتوحيد، ونفياً للشرك، ألا ترى قوله: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3) أي فَأَخْلِصْ أَنْتَ الدِّينَ، ولا تتخذ من دونه أولياء، فهذا كله يؤكده مخلصاً له الدِّينَ. وموضع (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ. .) (الَّذِينَ) رفع بالابتداء، وخبرهم محذوف، في الكلام دليل عليه المعنى والذين اتخذوا مِنْ دُونهِ أَوْليَاءَ يقولون مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى. والدليل على هذا أيضاً قراءة أُبَى: (مَا نَعْبُدكُمْ إلا لتُقرِّبُونَا إلَى اللَّهِ). هذا تصحيح الحكاية. المعنى يَقُولُون لأوليَائِهِمْ: ما نعبدكم إلا لتقربونا إلى اللَّه زلفى، وعلى هذا المعنى، يقولون ما نعبدهم، أي يقولون لمن يقول لهم لم عبدتموهم: ما نعبدهم إلا ليُقَربُونَا إلى الله زلفى. أَيْ قُرْبَى. ثم أعلم عزَّ وجلَّ - أنه لا يهدي هؤلاء فقال: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ). ثُمَّ أَعْلَمَ جلَّ وعزَّ: أنه تعالى عن هذه الصفة فقال: (لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4)

(6)

أي تنزيهاً له عن ذلك. . (هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ). وفي هذا دليل أن الذين اتخذوا من دونه أولياء قد دخل فيهم من قال عيسى ابن اللَّه - جلَّ اللَّه وعزَّ عن ذلك -. ومن قال: العُزيْرُ ابن اللَّه. ثم بَيَّنَ - جلَّ وعزَّ - مَا يَدُل على توحيده بما خلق ويعجز عنه المخلوقونَ فقال: (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6) " ثُمَّ " لا تكون إلا لشيءٍ بعد شيء. والنفس الواحدة يعني بها آدم - صلى الله عليه وسلم - وزوجها حَوَّاءُ. وإنَّما قوله " ثُمَّ " لمعنى خلقكم من نَفْس واحدةٍ، أي خلقها وَاحِدة ثم جعل منها زوجها، أي خلقها ثم جَعَل مِنها زَوْجَها قَبْلَكُمْ. وقوله: (وأنْزَلَ لَكُمْ مِن الأنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ). يعنى من الإبل ذَكَراً وأُنْثَى، ومن البقر ذكراً وأنثى ومن الضأن كذلك ومِن المَعْزِ ذكراً وأُنثى. يقال للذكر والأنثى زوجان كل وَاحِدٍ منهما يقال له زوج. (يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ). نُطَفاً ثم عَلَقاً ثم مُضَغاً ثم عِظَاما ثم تُكْسَى العظامُ لحْماً، ثم تُصَوَّرُ وتنفخُ فيها الروحُ، فذلك معنى قوله: خَلْقاً من بعْدِ خَلْقٍ في ظلمات ثلاث في البطن، والرَّحِم، والمشيمة. وقد قيل في الأصلاب والرحِم والبَطْن. (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ). المعنى الَّذِي دَبَّر الخَلْقَ هَذا التَدْبِيرَ لَيْس كَمثِله شيء. (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ).

(7)

المعنى فمن أين تصرفون عن طريق الحق، مثل: (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) أي ْفكيف تعدلون عن الحق بعد هذا البيانِ الذي يدل على صحة التوحيد. * * * (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) (وَإنْ تَشكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ). معناه يرضى الشكر، لأن قوله ((وَإنْ تَشكُرُوا) يَدُلُّ عَلَى الشكر. وقوله: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى). لا يؤخذ أَحَذ بِذنب أَحَدٍ. * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8) (مُنِيبًا إِلَيْهِ) أي تائباً إليه. (ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ). أي أذهب الضُّرَّ عَنْهُ وَأَنْعَمَ عَلَيْهِ. (نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ). يقول: نسي الذعَاء الذي كان يتضرع به إلى اللَّه - جلَّ وعزَّ - وجائز أن يكون معناه نسي اللَّه الذي كان يَتَضَرع إلَيْهِ من قبل. ومثله: (وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5). فكانت (ما) تدل على اللَّه، و " من " عبارة عن كل مُمَيِّز. و (ما) يكون لكل نوع، تقول: ما عندك؟ فيكونُ الجوابُ رجل أو فرس أو ما شئت من الأجناس، فَيَدْخُل المميز في (ما) من جهةِ دُخولها على الأجناس. (قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا). لفظ هذا لفظ أمر، ومعناه - التهديد والوعيد. ومثله (فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) ومثله: (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ)، ومثله قوله

(9)

لمن يتهدده: عُدْ لِما أكره وَحَسْبُكَ، فأنت لست تأمره في المعنى وإنَّمَا تتوعده وتتهدده. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9) (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ) ساعات الليل، وأكثر القراءة بتشديد الميم عَلى معنى بل أم من هو قانت - والقانت المقيم على الطاعة، ودعاء القُنُوتِ الدعاء في القيام، فالقانت القائم بما يجب عليه من أمر اللَّه، ويُقرأ (أَمَنْ هو قانِتٌ) بتخفيف الميم، وتأويله: أمن هو قانت كهذا الذي ذكرنا ممن جعل للَّهِ أنداداً، وكذلك (أَمَّنْ) معناه بَلْ أَمَنْ هو قانت كغيره، أي أمن هو مُطيعٌ كَمن هُوَ عَاص. (يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ). معناه يحذر عذاب الآخرة. (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ). أي لا يستوي العالم والجاهل، وكذلك لا يَسْتَوي المُطيعُ والعَاصِي و (أولُوا الألْبَابِ): ذوو العقول، وواحد الألباب لب وهي العقول. ** (قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10) ذكر سعة الأرض ههنا لِمَن كان يعبد الأصنام. وَأَمَرنا بالمهاجرة عن البَلَدِ الذي يُكَرَهُ فيه على عبادتها، كما قال: (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا) وقد جرى ذكر الأوثان في قوله: (وَجَعلَ للَّهِ أنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلهِ). (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ).

(11)

أي من صبر على البلاء في طاعة اللَّه أُعْطِيَ أَجْرَهُ بغَير حساب. جاء في التفسير بغير مكيال وَغير مِيزَانٍ. يُغْرَفُ لَهُ غَرْفاً، وهذا وإن كان الثوابُ لا يقع على بعضه كيل ولا وَزْن مِما يَتنَغمُ به الإنسان من اللذَةَ@ والسرُور والرَّاحة، فإنهُ يمثل ما يعلم بحاسَّةِ القلب بما يدرك بالنظَرِ، فيعرف مقدار القلَّة من الكثرة. * * * وقوله: (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11) يقول: إني أمرت بتوحيد اللَّه، وأُمِرَ الخلقُ كلُّهُمْ بذلك، وَأَلَّا يُتخذَ من دُوبهِ وَليًّا ولا يجعلَ له أَنْدَاداً. * * * وقوله: (فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15) (فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ) هذا على ما قلنا من الوعيد مثل قوله: (قُلْ تمتعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً). وهذا يدل - واللَّه أعلم - على أنه قَبْلَ أن يؤمَرَ المسلمون بالحرب، وهو مثل (فمن شاء فليؤمن ومَنْ شَاءَ فَليَكْفُر). وقد بين حظ المؤمنين من جزيل الثواب، وحظ الكافرين من عظيم العقاب. وقوله تعالى: (قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ). هذا يعني به الكفار، فإنهم خسروا أَنْفُسَهُم بالتخليد في النارِ، وَخَسِرُوا أهْليهم لأنهم لم يدْخُلوا مَدْخَل المؤمنين الذين لهم أهل في الجنة، ثم بين حَالهم فقال: (أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ). * * * (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (16) وهذا مثل قوله (يَوْمَ يَغْشَاهُمُ العَذَابُ مِنْ فَوْقهِمْ)

(17)

(ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ). أي ذلك الذي وُصِفَ مِن العَذَابِ وما أَعَدَّهُ لأهل الضلَالِ الَّذِي يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ. (يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ). القراءة بحذف الياء، وهو الاختيار عند أهل العربية، ويجوز: يَا عِبَادِي وَيَا عِبَادِيَ، والحذف أجود وعليه القراءة. * * * وقوله: (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) أي الذين اجْتَنَبُوا الشياطين أن يتبعوهم. (وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18) وهذا فيه واللَّه أعلم وَجهَانِ: أَحَدهما أن يكون يستمعون القرآن وغيره فيتبَعُونَ القرآن. وجائز أن يكونوا يستمعون جميع ما أمر الله به فيتبِعون أحسن ذلك نحو القصاص والعفو، فإن من عفا وترك ما يجب له أعظم ثواباً ممن اقتص، ومثله: (وَلَمَنْ صَبَر وَغَفَرَ إن ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِْ الأمُورِ). (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41). * * * وقوله: (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) هذا من لطيف العربية، ومعناه معنى الشرط والجزاء. وأَلِفُ الاستفهام ههنا مَعْنَاهَا معنى التوقيف، والألف الثانية في (أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ) جاءت مُؤَكِّدةً مُعَادَةً لمَّا طال الكلام، لأنه لا يصلح في العربية أن تأتي بألف الاستفهام في الاسْمِ وألف أُخْرَى في الخبر. والمعنى أفمن حق عليه كلمة العذاب أفانت تنقذه. وَمِثْلُه (أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35).

(21)

أعَادَ " أنكم " - ثانية، والمعنى أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا مُخْرَجونَ، ويكون - واللَّه أعلم - على وجه آخر، على أنه حُذِفَ وفي الكلام دليل على المحذوف، على معنى أفمن حق عليه كلمة العذاب يَتَخَلَّصُ منه، أو يِنْجُو مِنه، أفأنت تنقذه، أي لا يقدر أحد أن ينقذَ مَنْ أَضَلَّه اللَّهُ، وسبق في علمه أَنه من أَهْلِ النارِ. * * * وقوله - جلَّ وعزَّ -: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (21) جاء في التفسير أَنَ كلَّ مَا فِي الأرْضِ فابتَداؤه مِنَ السَّمَاءِ، ومعنى " ينابيعُ " الأمكنة التي ينبع منها الماء، وواحد الينابيع يَنْبُوع، وتقدره يَفْعُول من نَبَعَ يَنْبُعُ. * * * (لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ). منازل في الجنة رفيعة، وفوقها منازل أَرْفَعُ مِنْهَا. (وَعْدَ اللَّهِ). القراءة النصب، ويجوز (وَعْدُ اللَّهِ) فَمَنْ نَصَبَ وَهِي القِراءةُ، فبِمَعْنى لَهُم غُرَفٌ. لأن المراد وعدهم اللَّه غرفاً وَعْداً، فوعدُ اللَّه مَنْصُوبٌ عَلَى المَصْدَرِ. ومن رفع فالمعنى: ذلك وَعْدُ اللَّهِ. * * * وقوله - جلَّ وعزَّ -: (ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ). ألوانه خُضْرة وصُفْرة وحُمْرة وبياض وغير ذلك. (ثُمَّ يَهِيجُ) قال الأصْمَعي يقال للنبْتِ إذَا تَمَّ جفافه: قد هَاجَ يَهِيجُ هيجاً.

(22)

(ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا). الحطام ما تَفَتَّتَ وَتَكَسَّر من النبْتِ وغَيْره، ومثل الحطام الرفاتُ والدَّرِين. (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ). أي تَفَكر لذوي العُقُولِ، فيذكرون ما لهم في هذا من الدلالة على توحيد اللَّه جلَّ وعزَّ. * * * (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22) فهذه الفاء فاء المجازاة، والمعنى أفمن شرح اللَّه صَدْرَهُ فاهْتَدَى كمن طبع على قلبه فلم يَهْتَدِ لِقَسْوته. والجواب متروك لأن الكلام دَالٌّ عليه. وُيؤكد ذَلك قوله - جلَّ وعزَّ: (فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ) يقال: قسا قلبه عن ذكر اللَّه ومن ذكر اللَّه. فَمَن قال من ذكر اللَّه، فالمعنى كلما تُلِيَ عليه ذكر اللَّه قَسَا قلبه، كما قال: (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ). ومن قال: عن ذكر اللَّه فالمعنى أنه غلظ قلبه وجفا عن قبول ذكر اللَّه. (أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ). يعني القاسية قلوبهم. الآية. * * * وقوله: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23) يعني القرآن، ومعنى متشابهاً، يشابه بعضه بعضاً في الفضل والحكمة، لا تناقض فيه. و (كتاباً) منصوب على البدل من (أَحْسَنَ الْحَدِيثِ). وقوله: (مَثَانِيَ) من نعت قوله (كِتَاباً) منصوب على النعت، ولم ينصرف (مثاني) لما فسرناه من إنَّه جمع ليسَ عَلَى مِثالِ الوَاحِدِ.

(24)

(تَقْشَعِر مِنْهُ جلودَ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ). يقول: إذا ذكرت آيات العذاب اقشعرت جلود الخاشعين للَّهِ. (ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذَكْرِ اللَّهِ). إذا ذكرت آيات الرحمة لأنت جلودهم وقلوبهم. (ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدي بِهِ مَنْ يَشَاءُ). يقول: الذي وهبه الله لهم من خشيته وخوف عَذَابِهِ ورجاء رحمته هدي اللَّه. * * * (أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) هذا مما جوابه محذوف، المعنى كمن يَدخل الجنة، وجاء في التفسير أن الكافِرَ يُلْقَى في النار مَغْلُولًا، لا يتهيأ له أن يتقيَ النار إلا بِوَجْهِه. * * * وقوله: (وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) (عَرَبِيًّا) منصوب على الحال. المعنى: ضرَبْنا للنْاس في هذا القرآن في حال عربيَّته وبيانه. وذكر (قرآناً) توكيداً، كما تقول: جاءني زيدا رَجُلًا صالِحاً. وجاءني عمرو إنْسَاناً عَاقِلًا. فَتَذْكُرُ رَجُلاً. . و " إنساناً " توكيداً. * * * وقوله جلَّ وَعَزَّ: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29) ويقرأ (سَلَمًا) وَ (سِلْمًا)، فسالماً على معنى اسم الفاعل. سَلِمَ فَهُوَ سَالِم، وَسَلْمٌ وَسِلْمٌ مصدران وصف بهما على معنى وَرَجُلًا ذا سَلَم. ومثله مما جاء

(31)

من المصادر فِعْلاً وَفَعَلاً قولهم: رَبِحْتُ رِبْحاً وَرَبْحاً. قال الشاعِرُ: إِذا الحَسْناءُ لم تَرْحَضْ يَدَيْها. . . ولم يُقْصَرْ لها بَصَرٌ بِسِتْرِ قَرَوْا أَضْيافَهُمْ رَبَحاً بِبُحٍّ. . . يَعِيشُ بفَضْلِهِنَّ الحَيُّ سُمْرِ أَيْ قَرَوْا أَضْيافَهُمْ بذبح القِداح التِي يضْرِبُونَ بها فِي المَيْسرِ. وَتَفسيرُ هذا المثل أنه ضُرِبَ لمن وحَّدَ اللَّه، ولمَن جَعَلَ له شريكاً. فالذي وحد الله مثله مثل السَّالِم لرجل لا يشركه فيه غيرُه. ومثل الذي عَبَدَ غير اللَّه مثل صاحب الشرَكاءِ المَتَشاكِسين. و" الشركاء المتشاكسون " المختلفون العَسِيرُونَ الذين لا يتفِقُونَ. * * * وقوله: (هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً). أي هل يَسْتَوِي مَثَلُ الموَحِّدِ وَمَثَلُ المشرك. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31) يَخْتَصِم المؤمِنُ والكافِرُ، ويخاصِمُ المظلومَ الظالِمَ. * * * (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32) المعنى أي أحد أظلمُ مِمن كذب على اللَّه وكذَّب نبيَّه - صلى الله عليه وسلم -. * * * (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33)

(36)

وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) روي عن علي رحمه اللَّه أنه قال: الَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ محمد - صلى الله عليه وسلم - والذي صدَّق به أبو بَكْرٍ. رحمه اللَّه. وروي أن الَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ جبريل، والذي صدَّق به محمد صلى اللَّه عليهما. وروي أن الَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ محمد - صلى الله عليه وسلم - وصدَّق به المؤمِنون. وجميع هذه الوجوه صحيح. والذي جاء في حرف ابن مسعودٍ: والَّذِينَ جَاءُوا بِالصِّدْقِ وصدَّقُوا بِهِ و (الذين) ههنا و (الذي) في معنى واحد، توحيده - لأنه غير مُوَقت - جائز وهو بمنزلة قولك من جاء بِالصِّدْقِ وصدَّقَ به. (أولَئِكَ هُمُ المُتَقُونَ). و (الذي) ههنا للجنس، المعنى والقبيل الذي جاء بالصدق. وقوله (أولَئِكَ هُمُ المُتَقُونَ) يدل على معنى الجماعة. ومثله من الشِعر: إِنَّ الَّذِي حانَت بِفَلْجٍ دِماؤُهُمْ. . . هُمُ القَوْم كلُّ القَوْمِ يا أُمَّ خالِدِ * * * (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ) ويقرأ (عباده)، ولو قرئت " كافِي عَبْدِه " و " كافي عِبادِه " لجازَتْ، ولكن القراءة سنة لا تخالف. ومعنَى بكاف عبده يدل على النصر، وعلى أنه كقوله: (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ)، وهو مثل: (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95).

(38)

(وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ). أي يخوفون بآلهتهم وأوْثَانِهِم. ويروى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث خالد بن الوليد إلى العُزى ليكسرها، فلما جاء خالد قال له سَادِنُها: أُحَذِرُكَهَا يَا خَالِدُ إن لها شدةً لا يقوم لها شيء فعمد خالِذ إلى العزى فهشم أنفها، فهذا معنى (وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ)، لأن تخويفهم خالِداً هو تخويفهم النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه وجهه. ثم أعلم - مَعَ عِبَادَتِهم العُزى وَالْأوْثَان - أنهم مُقرونَ بأن اللَّهِ خَالِقُهُمْ فقال: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) ويقرأ كاشفاتُ ضُره - بترك التنوين والخفض في ضره ورحمته - فمن قرأ بالتنوين فلأنه غير واقع في معنى هَلْ يكشِفْنَ ضره أو يُمْسِكنَ رحمَتَه ومن أضاف وخفض فعلى الاستخفاف وحذف التنوين. وكلا الوجهين حسن قرئ بهما. * * * (قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) و (عَلَى مَكَانَاتِكُمْ). هذا اللفظ أمر على معنى الوعيد والتهدُّدِ بعد أن أعلموا ما يجب أن يعملوا به، ثم قيل لهم: (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)، وهذا كلام يستعمله الناس في التهدد والوعيد. تقول: متى أسأت إلى فلانٍ انتقمت مِنْكَ، ومتى أحْسَنتَ إليه أحسنتُ إليك فاعمل ما شئت واختر

(41)

لنفسك، فخوطب العباد على قدر مُخَاطَبَاتِهِم وَعِلْمِهِمْ، وقوله على (مَكَانَاتِكُمْ) و (مَكَانَتِكُمْ) معناه على ناحيتكم التي اخترتموها، وجهتكم التي تمَكنْتُمْ - عند أنْفُسِكم - في العلم بها. (إِنِّي عَامِلٌ). ولم يقل على جهتي، لأن فِي الكلام دَلِيلاً على ذلك. * * * (إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41) (وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيل). أي ما أنت عليهم بحفيظ، ثم أخبر بأنه الحفيظ عليهم القدير فقال: * * * (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42) أي ويتوفى الأنفس التي لم تَمُتْ في مَنَامِها، فالميتَةُ المتَوَفاةُ وَفَاةَ المَوْتِ التي قد فارقتها النفس التي يكون بها الحياة. والحركة، والنفسُ التي تميز بها. والتي تتوفى في النوم نفس التمييز لا نفس الحياة، لأن نفس الحياة إِذا زَالَتْ زال معها النفَسُ، والنائم يتنفسُ. فهذا الفرق بين تَوفِّي نفس النائم في النوم وَنَفْس الحيِّ. * * * (وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45) معنى (اشْمَأَزَّتْ) نفرت، وكانوا - أعني المشركين - إذا ذكر اللَّه فقيل: " لا إله إلا اللَّه " نَفَرُوا من هذا، لأنهم كانوا يقولون: اللات والعزى، وهذه الأوثان آلهة.

(49)

وقوله عزَّ وجلَّ: (فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49) (ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ) أعْطَيْنَاهُ ذلك تفضلاً، وكل من أعطى على غير جزاء فقد خول. (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ). أي أعطيته على شَرفٍ وفَضْل يجب له به هذا الَّذِي أعطيت، فقد علمت أني ساُعْطَى هُدى، فأَعلم اللَّه أنه قد يعطى اختباراً وابتلاءً فقال: (بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ). أي تلكَ العَطِيَّةَ فِتْنَةً من الله وبلوى يبتلى بها العَبْدُ ليشكر أو يكفر. * * * (قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50) يقول: فأحْبَطت أعمالهم. * * * (فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أي إلى الله مرجعهم فيجَازِيهم بِاعْمالهم. * * * (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) ومعنى (لَا تَقْنَطُوا) لا تيأسوا، وجاء في التفسير أن قوماً من أهل مكة قالوا إنَّ محمداً يقول: إن منْ عَبدَ الأوثان واتخذ مع الله إلها وقتل النفس، لا يغفر له، فأَعلم اللَّه أن من تاب وآمن غفر اللَّه له كل ذنب، فقال: (لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا). وقال: (وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) أي توبوا، وقيل إنَها نزلت في قوم فتنوا، في دينهم، وعُذِبُوا يمكةَ

(55)

فَرجَعُوا عن الإسلام، فقيل إن هؤلاء لا يُغْفَرُ لَهم بعد رُجوعهم عن الإسلام فأَعلم اللَّه أنهم إن تابوا وأسلموا غفر لهم. * * * (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55) يعني القرآن ودليله: (اللَّهُ نَزَلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً). وقوله: (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ). بِغتة: فجأة. * * * (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أي يا نَدَما، وحرف النداء يدل على تمكن القصة من صاحبها، إذَا قال القائل: يا حسرتاه ويَا ويلَاهُ، فتأويله الحسرة والويل قَدْ حَلَّ بِهِ وأنهما لازمان له غير مفارقين. ويجوز يا حسرتي. وزعم الفراء أنه يجوز يا حسرتاهُ على كذا وكذا بفتح الهاء. ويا حَسْرَتَاهُ - بالكسر والضم. والنحويون أجمعون لا يجيزون أن تثبت هذه الها في الوصل وزعم أنه أنشده من بني فَقْعس رجل من بني أسد:. يا ربِّ يا رَبَّاهُ إِيَّاكَ أَسَلْ عَفْراء يا رَبَّاهُ مِنْ قَبْلِ الأَجلْ وأنشده أيضاً:

(57)

يا مَرْحَبَاهِ بِحَمارِ ناهية والذي أعرف أن الكوفيين ينشدون: يا مرحَبَاهُ بجمار ناهية قال أبو إسحاق: ولا أدري لم اسْتُشْهِدَ بهذَا، ولم يُقرأْ بِهِ قط، ولا ينفع في تفسير هذه الآية شيئاً، وهو خطأ. وَمَعْنَى: (أنْ تَقُولَ نَفْسٌ). خوفَ أن تَقُولَ نفس وَكَراهة أن تَقُولَ نفسٌ. المعنى اتبعوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ خوفاً أن تصيروا إلى حَال يقال فيها هذا - القول، وهي حال الندَامَةِ ومعنى (على ما فَرطْتُ في جَنبِ اللَّه) في أمر اللَّه، أي فرطت في الطريق الذي هو طريق اللَّه الذي دعاني إليه وهو توحيده والإقرار بنبوة رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -. (وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ). أي وما كنت إلا من المستهزئين. * * * (أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) أي وكراهة أن تقول هذا القول الذي يؤدي إلى مثل هذه الحال التي الإنسان فيها في الدنيا، لأن اللَّه قد بين طرُقَ الهدى، والحي في نيَّتِهِ بمنزلة من قد بعث، لأن اللَّه خلقه من نطفة وبلغه إلى أن مَيَّزَ، فالحجة عليه. * * * وقوله (بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59) (بَلَى) جواب النفي وليس في الكلام لفظ النفي. ومعنى (لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي)، و (لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً). كأنَّه قيل: ما هدِيت، فقيل:

(60)

(بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ). وقال اللَّه تعالى: (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) أي: حيث قالوا: (يَا ليتَنَا نُرَدُّ) - الآية. وقد رويت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بكسر الكاف: " بَلَى قَدْ جَاءَتْكِ آيَاتي " جواب للفظ النفس - كما قال: (أنَّ تقول نفس). وإذا قال: (بلى قد جَاءَتْكَ آيَاتِي) بالفتح، فلأن النفس تقع على الذكر والأنثى، فخوطب المذكرون. ومثل (قد جاءتكِ آياتي) - على خطابه المؤنث: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28). * * * وقوله - عزَّ وجلَّ -: (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) القراءة على رفع (وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) على الابتداء والخبر. ويجوز " وُجُوهَهُمْ مُسْوَدَّةً " على البدل من الذين كفروا. المعنى ويوم القيامة ترى وجوه الذين كذبوا على الله مُسْوَدَّةً. والرفع أكثر وعليه القُراءُ ومثل النصب قول عَدِي بن زيدٍ: دَعِيني إن أَمْرَكِ لَنْ يُطَاعا. . . وما أَلْفَيْتِني حلمي مضاعاً * * * (وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (61) (بِمفَازَتِهِمْ). و (بمفازاتهم) يقرأ أن جميعاً.

(63)

(لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (63) أي مفاتيح السَّمَاوَات، المعنى ما كان من شيء من السَّمَاوَات والأرض فالله خالقه وفاتح بابه. (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بآياتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ). أي الذين يقولون إن شيئاً ليس مما خَلَقَ اللَّهُ أو رزقه من السَّمَاوَات والأرض فليس الله خالِقَه، أولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ. ثم أعلم اللَّه - جَل وعز - أنه إنما ينبغي أن يعبد الخالق وحده لا شريك له فقال قل لهم بعد هذا البيان: (قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) (أَفَغَيْرَ) منصوب بـ (أَعْبُدُ) لا بقوله (تَأْمُرُونِّي) المعنى أفغير اللَّه أعْبدُ أيها الجَاهِلُونَ فيما تأمرونني. * * * (بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66) نصب لفظ (اللَّهَ - جلَّ وعزَّ - بقولك (فَاعْبُدْ)، وهو إجماع في قول البصريين والكوفيين، والفاء جاءت على معنى المجازاة، كأنَّه قال: قد تَبينْتَ فَاعْبُدِ اللَّهَ. * * * (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ) ويقرأ (قدَرِهُ) - بفتح الدالَ. جاء في التفسير: ما عَظَّمُوه حق عَظَمَتِهُ. والقدْرُ والقَدَر ههنا بمعنى وَاحِدٍ. (والأرضُ جميعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ). (جميعاً) منصوب عَلَى الحالِ. المعنى والأرض إذا كانت مجتمعةً قَبْضَتُه يومَ القيامة (وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ).

(68)

أكْثَرُ القِرَاءَةِ رَفْع (مَطْوِيَّاتٌ) على الابتداء والخبر. وقد قرئت: (وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٍ) - بكسر التاء على معنى: والأرض جميعاً والسَّمَاوَات قبضته يَوْمَ القِيَامَةِ وَ (مَطْوِيَّاتٍ) منصوب على الحال. وقد أجاز بعض النحويين (قَبْضَتَهُ) بنصب التاء، وهذا لم يقرأ به ولا يجيزه النحويونَ البصريون، لا يقولون: زَيْد قَبْضَتَكَ، ولا المال قَبْضَتَكَ على معنى في قبْضَتِكِ، ولو جاز هذا لجاز زيد دَارَكَ يريدون زَيْد في دَارِكَ. * * * (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68) (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) وقد فسرناه. (فَصَعِقَ) أي مات. (مَنْ فِي السَّمَاواتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ). وجاء في التفسير أنه القَرْن الذي ينفخ فيه إسرافيل. وقال بعض أهل اللغة: هو جمع صورة. (إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ). جاء في التفسير أن هذا الاستثناء وقع على جبريل وميكائيل ومَلَكِ الموت، وجاء أن الاستثناء على حملة العرش. * * * (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69) معناها لما أراد اللَّه الحساب والمجازاة أَشْرقت الأرض. وفي حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قيل له: أنرى رَبَّنَا يا رسول اللَّه؟ فقال: أَتُضَارُّن في رُؤية الشَمْسِ والقمر في غير سحَابٍ؟ قالوا: لا، قال فإنكم لا تُضَارُونَ في رُؤيته.

(73)

وجاء في الحديث: لا تضامون في رؤيته، والذي جاء في الحديث مخفف تُضَارونَ، وتضامُونَ، وله وجه حسن في العربيَّةِ. وهذَا مَوضِع يحتاجِ إلى أن يُسْتَقْصَى تفسيره لأنه أصل في السنة والجماعة ومعناه لا يَنالُكُمْ ضيز وَلاَ ضَيمٌ في رُؤْيَيهِ. أي ترونه حتى تستووا في الرؤية فلا يَضِيمُ بعضُكم بَعْضاً، ولا يِضِيرُ بعضكم بعضاً. وقال أهل اللغة قولين آخرين: قالوا: لا تُضَارُّون بتشديد الراء ولا تضامُّون بتشديد الميم. مع ضم التاء في تُضامون وتُضارُّون. وقال بعض أهل اللغة بفتح التاء وتشديد الراء تَضازون في رُؤيته ولا تَضَامونَ على معنى تتضارون وتتضامون. وتفسير هذا أنه لا يُضَام بَعْضُكمْ بَعضاً وَلاَ يُخَالِفُ بَعْضُكم بَعْضاً في ذلك. يقال: ضارَرْتُ الرجُلَ أُضَارُّه مضارَّةً وضِراراً إذا خالفته قال نابغة بني جَعدَة: وخَصْمَيْ ضِرارٍ ذَوَيْ تُدْارَإِ. . . متى باتَ سِلْمُها يَشْغَبا ومعنى لا تضامونَ في رؤيته لا ينضم بعضكم إلى بعض، ويقول واحد للآخر: أرنيه كما تفعلون عند النظر إلى الهلال، فهذا تفسير بيَّنَ. وكلٌّ ما قيل في هذا. (واشْرَقَتِ الأرْضُ) أُلْبِسَتِ الإشْرَاق بِنُورِ اللَّهِ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) اختلف الناس في الجواب لقوله (حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا). فقال قوم: الواو مسقطة المعنى حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها. قال أبو إسحاق: سمعت محمد بن يزيد يذكر أن الجواب محذوف، وإن

(74)

المعنى، حتى إذا جاءوها إلى آخر الآية سعدوا. قال فالمعنى في الجواب حتى إذا كانت هذه الأشياء صاروا إلى السعادة. وقال قوم حتّى إذَا جَاءُوها جَاءُوها وفتحت أبوابها، فالمعنى عندهم أن (جاءوها) محذوف وعلي معنى قول هؤلاء أنه اجْتَمَع المجيءُ مع الدخول في حال. المعنى حتى إذا جاءوها وقع مجيئهم مع فتح أَبْوَابِها. قال أبو إسحاق: والذي قلته أنا - وهو القول إن شاء اللَّه - أن المعنى (حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ) دخلوها. فالجواب " دخلوها "، وحذف لأن في الكلام دليلاً عليه. ومعنى (طِبْتُم) أي كنتم طيبِين في الدُّنْيَا لم تكونوا خبيثين، أي لم تكونوا أصحابَ خبائثَ. * * * وقوله: (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74) (وَأوْرثَنَا الأرْضَ). يعني أرض الجنة نتخذ منها من المنازل ما شئنا، والعرب تقول لكل من اتخذ منزلًا: تبوأ فلان منزلاً. * * * (وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75) معنى (حَافِّينَ) مُحْدِقين، وكذا جاء في التفسير. (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ). فابتدأ اللَّه - عزَّ وجلَّ - خَلْقَ الأشياء بالحمد وخَتمْه بالحمد، فقال: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ) فلما أفنى الخلق وبعثهم وَحَكَم بَيْنَهُم، فاستقر أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار ختم بقوله: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ).

سورة غافر

سُورَةُ غافر بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) الحواميم كلها مكية، نزلت بمكة، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل الحواميم في القرآن كمثل الحِبَرات في الثياب. وقال ابن مسعود: الحواميم ديباج القرآنُ. وجاء في التفسير عن ابن عباس - رحمه اللَّه - ثلاثة أقوال في حم. قال: حم اسم اللَّه الأعظم، وقال: حم قَسَم. وقال: حم حروف الرحمن مقطعه. والمعنى: " الر " و "حم " و " نون " بمنزلة الرحمن. وقد فسرنا إعراب حروف الهجاء في أول البقرة. والقراءة فيها على ضربين. حم بفتح الحاء، وحم بكسر الحاء. فأمَّا الميم فساكنة في قراءة القراء كلهم إلا عيسى بن عمر فإنه قرأ: حَمَ والكتاب، بفتح الميم، وهو على ضربين: أحدهما أن يجعل حم اسما للسُّورَةِ، فينصبه ولا ينوِّنه لأنه على لفظ الأسماء الأعجمية نحو هابيل وقابيل، ويكون المعنى اتل حم. والأجود أن يكون فتح لالتقاء السَّاكنين حيث جعله اسماً للسورة، ويكون حكاية حروف هجاء.

(3)

وقوله عزَّ وجلَّ: (غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) على صفات اللَّه، فأمَا خفضُ (شديدِ العقاب) فعلى البدل لأنه مما يوصف به النكرة. وقوله: (ذِي الطَّوْلِ). معناه ذي الغِنَى والفضل والقدرة. تقول: لفلان على فُلانٍ طَوْل إذا كان له عليه فضل. * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (4) المعنى في دفع آيات اللَّه بالباطل ليُدْحِضَ به الحق، إلا الذين كَفرُوا. ومعنى (فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلبُهُمْ فِي البِلَادِ). أي فلا تغررك سَلَامَتُهُمْ بَعد كُفْرهم حتى إنهمْ، يَتَصرفُونَ كيف شاءُوا، فإن عاقبة كفرهم العَذَابُ والهلاكُ. ثم بين كيف ذلك وأعلم أن الأمم التي كذبتْ قبلَهُم أنهُمْ أهلكوا بقوله:. (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5) يعني عاداً وثمودَ وَقَومَ لوط والأمم التي أُهْلِكَتْ بيْنَ ذلك. (وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ). أي ليتمكنوا منه فيَقْتُلوه. (وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ). أي ليدفعوا به الحق.

(6)

(فَأَخَذْتُهُمْ). أي جعلت جزاءهم على إرادة أخذ الرسُلِ أَنْ أَخَذْتُهم فَعَاقَبتُهمْ. (فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ). أي إنهم يجتازون بالأمكنة التي أهلك فيهَا القَوْمُ فيرونَ آثار الهلاك. * * * (وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (6) أي ومثل ذلك حقت كلمة ربك - يعني به، قوله (لأمْلأن جَهَنَّمَ) (أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ). ويجوز " إنهُمْ "، ثم أخبر - جَلَّ وعز - بِفَضْل المؤمنين فقال: (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) يعني الملائكة. (يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا). فالمؤمن تستغفر له الملائكة المقَرَّبُونَ. ويعني: (رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ). المعنى يقولون: ربنا وسعت كل شيء، أي تقول الملائكة. وقوله: (رَحْمَةً وَعِلْمًا) منصوب على التمييز. (فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ).

(8)

أي لزموا طريق الهدى التي دعوت إليْهَا. * * * وقوله تعالى: (رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) (وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ). " مَنْ " في موضع نَصْب، عطف على الهاء والميم في قوله: (رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ) أي، وأدخل من صلح. ويصلح أن يكون عطفاً على الهاء والميم في قوله: (وَعَدْتَهُمْ) فيكون المعنى وَعَدْتَهُمْ ووعدت من صلح من آبَائِهِمْ. * * * وقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (10) معناه إن الذين كفروا ينادون إذا كانوا في حالِ العذاب لمقت اللَّه إياكم في الدنيا (إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ). (أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) إذ عُذِبُتُم في النارِ. * * * (قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) (رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا) أي: قد أريتنا من الآيات ما أوجب أن علينا أن نعترف وقالوا في (أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) أي خلقتنا أمواتاً ثم أحْييتنا ثم أَمَتَّنَا بعدُ، ثم بعَثْتَنا بعدَ المَوْت. وقد جاء في بعض التفاسير أن إحدى الحياتين، وإحدى الموتتين أن يحيا في القبر ثم يموت، فذالك أدل على أَحْيَيْتَنَا وأمَتنَا، والأول أكثر في التفسير. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15) جاء في التفسير أن الروحَ الوحي، وجاء أن الروح القرآنُ وجاء أن الروح

(18)

أمر النبوة. فيكون المعنى تُلقي الروح أو أمر النبوة على من تشاء، على من تختصه بالرسالة. (لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاَقِ). أي لينذر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالذي يوحى إليه يوم التلاق، ويجوز أن يكون لينذر اللَّه يوم التلاق، والأجود - واللَّه أعلم - أن يكون لينذرَ النبي - صلى الله عليه وسلم -. والدليل على ذلك أنه قرئ لتُنْذِرَ يوم التلاق - بالتاء -. ويجوز يوم التَلَاقِي بإثبات الياء، والحذف جائز حسن لأنه آخر آية. ومعنى التلاقي يوم يلتقي أهل الأرض وأهل السماء. وتأويل الروح فيما فسَّرنا أنه به حياة الناس، لأن كل مُهتَدٍ حَيٌّ، وكل ضَالٍّ كالميِّتِ، قال الله عز وجل: (أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ). وقال: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ). وهذا جائز في خطاب الناس، يقول القائل لمن لَا يفقه عَنه ما فيهِ صَلَاحُه: أنت مَيِّتٌ. * * * (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18) معنى أنذرهم خوِّفهم، والآزفة يوم القيامَةِ، كذا جاء في التفسير. وإنما قيل لها آزفة لأنها قريبة وإن اسْتَبْعَدَ الناس مَدَاها. يقال قد أزِفَ الأمْرُ إذَا قَرُبَ. وقوله: (إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ). نصب (كَاظِمِينَ) على الحال، والحال محمولة على المعنى لأن القلوب لا يقال لها كاظمة، وإنَّما الكاظمون أصحابُ القُلوبِ والمعنى إذ قلوب الناس لدى الحناجر في حَالِ كَظمِهِمْ. وجاء في التفسير أن القلب من الفزع يرتفع

(19)

فيلتصق بالحنجرة فلا يرجج إلى مكانه ولا يخرج فَيُسْتَراحُ من كَرْبِ غَمِّهِ. (مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ). (يُطاع) من صفة شفيع، أي ولا من شَفيع مُطَاع. * * * (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19) إذا نظر الناظر نظرة خيانة عَلِمَها اللَّه، فإذا نظر أول نظرة غير متعمد خيانةً فذلك غير إثم، فإن عاد ونيتُه الخيانة في النَّظرِ علم الله ذلك، والله - عزَّ وجلَّ - عالم الغيب والشهادة، ولكنه ذكر العلم ههنا ليعلم أن المجازاة لا محالةَ واقعة. * * * وقوله - جلَّ وعزَّ -: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23) أي بعلاماتنا التي تدلَّ على صِحة نبوته، من العصا وإخراج يده بيضاء من غير سوء وأشباه ذلك. (وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ) أي حجة ظاهرةٍ. * * * (إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24) هذه الأسماء. في موضع خفض إلَّا أنها فتحت لأنها لا تَنصَرِفُ لأنها معرفة وهي أعجمية. (فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ). المعنى فقالوا هو ساحر كذاب، جعلوا أمر الآيات التي يعجز عنها المخلوقون سِحْراً. * * * (فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (25)

(26)

وإنه كان قِيلَ لفرعون إن ملكه يزول بسبب غلام يُولَد، فقيل افعلوا هذا حتى لا ينْجو المولود. (وَمَا كيدُ الكَافِرِينَ إلَا في ضَلاَلٍ). أي يذهب باطلًا، ويحيق الله به ما يُرِيدُ. * * * وقوله: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26) (أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ). على هذا مصاحف أهل العراق، وفي مصحف أهل الحجاز: (وَأَنْ يُظْهِرَ) بغير ألف، ويجوز وأن يَظْهر، ومعنى أو وقوع أحد الشيئيق فالمعنى على (أو) أن فرعون قال إني أخاف أن يُبدَلَ دينكم أو يُفْسِدَ، فجعل طاعة الله تعالى هي الفساد، فيكون المعنى إني أخاف أن يبطل دينكم ألبتَّة، فإن لم يبطله أَوْقَع فيه الفَسادَ. ومن قرأ - " وَأَنْ " فيكون المعنى أخاف إبطال دينكم والفساد مَعَهُ. * * * (وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) جاء في التفسير أن هذا الرجُلَ أعني مؤمنَ آل فرعونَ، كان أن يسمى سِمَعَانَ، وقيل كان اسمه حَبِيباً، ويكون (مِنْ آل فِرْعَوْنَ) صفة للرجُلِ، ويكون (يَكْتُمُ إِيمَانَهُ) معه محذوف، ويكون المعنى يَكْتُمُ إِيمَانَهُ مِنْهُمْ، ويكون يكتم من صفة رجل، فيكون المعنى: وقال رجل مؤمن يكتم إيمانه من آل فرعونَ. (أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ). المعنى لأن يقول ربي اللَّه. (وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ). أي بما يدل على صدقه من آيات النبوةِ (وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ) أي فلا يَضُركم.

_ (1) قال السَّمين: قوله: {أَوْ أَن}: قرأ الكوفيون «أو أَنْ» بأو التي للإِبهام والباقون بواو النسق على تَسَلُّط الحرفِ على التبديل وظهور الفساد معاً. وقرأ نافعٌ وأبو عمروٍ وحفصٌ «يُظْهِرَ» بضم الياءِ وكسرِ الهاء مِنْ أَظْهر، وفاعلُه ضميرُ موسى عليه السلام، «الفسادَ» نصباً على المفعول به. والباقون بفتح الياء والهاء مِنْ ظهر، «الفسادُ» رفعاً بالفاعلية وزيدُ بن علي «يُظْهَرَ» مبنياً للمفعول، «الفسادُ» مرفوعٌ لقيامِه مقامَ الفاعل. ومجاهد «يَظَّهَّرَ» بتشديد الظاء والهاء، وأصلها يَتَظَهَّر مِنْ تَظَهَّر بتشديد الهاء فأدغم التاء في الظاء. و «الفسادُ» رفعٌ على الفاعلية. وفتح ابن كثير ياءَ {ذروني أَقْتُلْ موسى} وسَكَّنها الباقون. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(29)

(وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ). وهذا من لطيف المسائل، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا وعد وعْداً وقع الوعدُ بأسره، لم يقع بعضه، فالسؤال في هذا من أيْنَ جاز أن يقول بعض الذي يَعِدُكُمْ، وحق اللفظ كل الذي يَعدُكم فهذا باب من النظَرِ يذهب فيه المناظرِ إلى الزام الحجة بأيْسَرِ ما في الأمر، وليس في هذا نفي إصابة الكل ومثل هذا قول الشاعر: قد يُدْرِكُ المُتَأَنّي بَعْضَ حاجتِه. . . وقد يكونُ مع المسْتَعْجِل الزَّلَلُ إنما ذكر البعضَ ليوجب له الكُل، لا أن البعضَ هو الكل ولكن للقائل إذا قال أَقَل ما يكون للمتَأنِي إدراك بعض الحاجة، وأقل ما يكون للمستعجل الزلل، فقد أبان فضل المتأني على المستعجل بما لا يقدر الخصم أن يدفعه. وكان مُؤمِنَ آل فرعونَ قال لهم: أقل مَا يكون في صدقه أن يُصِيبَكُمْ بعضُ الذي يعدكم، وفي بعض ذَلِك هَلَاكُكُمْ، فهذا تأويله واللَّه أعلم. * * * (يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29) هذه حكاية قول مؤمن آل فرعون. أعلمهم اللَّه أن لهم الملك في حال ظهورهم على جميع الناس. ثم أعلمهم أن بأس اللَّه لا يدفعه دافع ولا ينصر منه ناصر فقال: (فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا). * * * (وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) أي مثل يوم حَزْبِ حِزْبِ، والأحزاب ههنا قوم نوح وعادٍ وثمودَ وَمَن أُهلكَ بعدَهُمْ وَقَبلَهُمْ.

(31)

ومعنى: (مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31) مثل عادة، وجاء في التفسير مثل حال قوم نوح، أي أخاف عليكم أن تقيموا على كُفْرِكُمُ فينزل بكم ما نزل بالأمَم السالِفَةِ المكذبَةِ رُسُلَهم. * * * (وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) (التَّنَادِ) بكسر الدال - وقرأ الحَسَنُ يوم التنادي - بإثبات الياء -، وأكثر القراءة - التناد، وقرأ ابن عباس يوم التنَادِّ - بتشديد الدال، والأصل التنادي وإثبات الياء الوجه، وحذفها حسن جميل لأن الكسرة تدل عليها الياء وهو رأس آية، وأواخر هذه الآيات على الدال. ومعنى يوم التنادي يوم ينادي (أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا) وينادي (أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ). ويجوز - واللَّه أعلم - أن يكون " يَوْمَ الئنَادِ " يوم يدعي كل أناس بإمَامِهِمْ. ومن قرأ يوم التَنادِّ بتشديد الدالِ، فهو من قولهم نَدَّ فلانٌ وندَّ البعيرُ إذا هَرَبَ على وجهه، ومما يدل على هذا قوله: (يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ). وقوله (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35).

(34)

وجاء في التفسير أنهم يؤمر بهم إلى النار فيفرون ولا يعصمهم من النار * * * (وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34) أي الآيات المعجزات. (حَتى إذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا). أي أقمتم على كفركم وظننتم أنه لا يجدد عليكم إيجاب الحجة. (كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ). أي مثل ذلك الضلال يضل اللَّه من هو مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ: (مُسْرِفٌ) ههنا كافر، و (مُرتابٌ) شاكٌّ في أمر اللَّه وأنبيائه. * * * (الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35) (الذين) في موضع نَصْب على الرد على " مَنْ " أي كذلك اللَّه يُضل الذين يجادلون في آيات اللَّه بغير حجة أَتَتْهُمْ. ويجوز أن يكون موضع (الذين) رفعاً على معنى مَنْ هُوَ مُسْرِف مرتابٌ هم الذين يُجَادِلُونَ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنوا). أي كبُر جِدَالُهُمْ مَقْتاً عند الله وعند الًذِينَ آمنوا. (كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ). ويقرأ عَلَى كلِ قَلْبٍ مُتَكَبِّرٍ، والأول الوجه، لأن المتكبر هو الإنسان. وقد يجوز أن تقول: قلب مُتَكَبِّرٌ، أَيْ صَاحِبه مُتَكَبِّرٌ. * * * (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36)

(37)

والصرح القصر، وكل بناء عظيم فهوصرح. (لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ). جاء في التفسير أبْوابَ السماء، والأسباب في اللغَة ما اتصل بالشيء. وكذلك يقال للحبل سبب، لأنه يُوصَلُ بالأشياء. وجاء في التفسير أيضاً طُرُقَ السَّمَاوَاتِ. فالمعنى - واللَّه أعلم. لعلي أبلغ إلى الذي يؤديني إلى السَّمَاوَات. * * * (أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37) ويقرأ (فَأطلِعُ) - بالرفع والنصب. (وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا). هذا قول فرعونَ، يقول وإن كنت زعمت أني أطلِعُ إِلى إله موسى، فأنا قلت هذا على دعوى موسى لا على أني على يقينٍ من ذلك. فيروى أن هامان طَبخ الآجُر لبناء الصَرْحِ وأن أولَ من طَبَخَ الآجُرَ هَامَانُ. (وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ). موضع الكاف نصب المعنى (زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ) مثل ما وَصَفْنَا. (وَصدَّ عَنِ السَّبِيلِ). أي صدَّ عَنِ السَّبِيلِ المستقيم. أي المستقيمة بكفره. (وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ). إلا في خسرانِ، يقال: تبَّتْ يداه أي خسِرتا. * * * (وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يعني سبيل القصد إلى اللَّه عزَّ وجلَّ، وأخرجكم عَنْ سَبِيل فرعونَ. فأهدكم جزم جواب للأمر. المعنى إن تتبعوني أهدِكُمْ. (لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43)

(46)

يعني أنه ليس له استجابة دعوة في الدنيا ولا في الآخرة. قال سيبويه: سألت الخليل عن قوله: (لَا جَرَمَ)، فقال: لا جَرَمَ رَدٌّ لِكَلَام. والمعنى وجب أَنَ لَهُمُ النَّارَ، وحق أن لهم النارَ. وأنْشَدَ: ولقد طعنت أبا عيينة طَعْنَةً. . . جَرَمَتْ فَزَارةَ بَعدهَا أَن يغضبوا المعنى كسبتهم الغَضَبَ، وأحَقَّتْهُمُ بالغضب. فمعنى (لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) لقد وجب أن ما تدعونني إليه ليس له دَعْوَةُ أي وجب بطلان دعوته. (وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ). وَجَبَ مَرَدُنا إلى اللَّهِ، وكذلك (وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ). * * * وقوله - عزَّ وجلَّ -: (سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46) (النَّارُ) بدل من قوله (سُوءُ العَذَابِ)، وجائز أن تكونَ مرتفعة على إضمار تفسير سوء العَذَابِ، كان قائلا قال: ما هو؟ فكان الجوابُ هو: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا) فإن قال قائل: كيف يُعرضُونَ عليها وهم من أهل النار؟ فجاء في التفسير أن أرواحهم في أجواف طير سُودٍ تعرض على النار بالغَدَاة والعشى إلى يوم القيامَةِ. ألا ترى أن - بعده (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) ويقرأ ادخُلُوا على معنى الأمر لهم بالدخول، كأنَّه ويوم تقوم الساعة يقول ادخلوا يا آل فرعون أشد العذاب. وقرئت (أدخِلُوا) على جهة الأمْرِ للملائكة بإدخَالِهِمْ أَشَدَّ العَذَابِ. * * * (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) (وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ). أي: الملائكة، وأحدهم شاهدٌ، مثل صاحب وأصحاب.

(56)

(إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56) أي يجادلون في دفع آيات اللَّه (بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ). أي بغير حجة أَتَتْهُم. (إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ). أي ما هم ببالغي إرادتهم فيه، وإرادتهم دفع آيات اللَّه عزَّ وجلَّ وَدَل على هذا المعنى (يُجَادِلُونَ في آيَاتِ اللَّهِ). لأن الكبر هم قد أوقعوه فليس يلبس هذا ببالغي الكبرِ. وجاء في التفسير أنه يُعْنى بِهِ اليهودُ، وأن الكبر الذي ليس هم ببالغيه تَوقعُ أمر الدَّجالِ، فتكبروا مُتَرَبصِينَ يتوقعون خروج الدجالِ. فأَعلم اللَّه أن هذه الفرقة التي تجادِلُ لا تبلغ خروج الدجَالِ. ويدل على قول من قال هذا قول اللَّه - عزَّ وجلَّ - يعقب هذا: (فاسْتَعِذْ بِاللَّهِ). * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60) (سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ). معناه صَاغِرِينَ. * * * (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78) جاء في التفسير أن اللَّه عَز وَجَل بعث ثمانية ألف نَبي، مِنْهُمْ أربَعَة آلاف من بني اسرائيل، ومنهم أربعة آلاف من سائر الناس. وجاء عن علي رضي اللَّه عنه أنه قال: في قوله تعالى: (وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ) أن اللَّه بعث نبياً أسود. فهو ممن لم تذكر قصته في القرآن. * * * وقوله تعالى: (اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79)

(85)

الأنعام هَهُنَا الإبل. * * * وقوله: (إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ). يجوز على ثلاثة أوجُهٍ (وَالسَّلَاسِلَ) بالنصب، و (السَّلَاسِلِ) بالخفض. فمن رفع فعطف على الأغلال ومن جر فالمعنى إذ الأغْلَالُ فِي أعْنَاقِهِمْ وفي السلاسِلِ، وَمَنْ نَصَب ففتح اللام قرأ (وَالسَّلَاسِلَ يَسْحَبُونَ). * * * (ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُم تَفْرَحُونَ) الآية. يدل عليه قوله تعالى: (فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ). أي ذلك العذاب الذي نزل بكم بما كنتم تفرحون بالباطل الذي كنتم فيه، و (تمرحون) أي تأشرون وتبطرون وتستهزئون. * * * (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85) يقول حين عاينوا العذابَ. (سُنَّتَ اللَّهِ). على معنى سَنَّ اللَّه هذه السُّنَّةَ فِي الأمَمِ كُلِّهَا، لاَ يَنْفَعُهُمْ إيمانُهُمْ إذا رأوا العذاب. (وَخَسِرَ هُنَالِكَ الكَافِرُونَ). وكذلك: (وخَسِرَ هُنَالِكَ المبْطِلُونَ). والمبطلون والكافرون خاسرون في ذلك الوقت وفي كل وقتٍ خاسرون. ولكنه تعالى بيَّن لهم خُسْرانَهُمْ إذا رأوا العذاب.

سورة فصلت

سُورَة فُصِّلَتْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) (تَنْزِيلٌ) رفع بالابتداء، وخبره (كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ). هذا مذهب البصريينَ. وقال الفَرَّاءُ يجوز أن يكون (تَنْزِيلٌ) مرتفعاً بِـ (حم)، ويجوز أن يرتفع بإضمار هذا. المعنى هذا تنزيل من العزيز الرحيم، أي هو تنزيل. (قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) نصب (قُرْآنًا) على الحال. المعنى بينت آياته قرآناً، أي بينت آياته في حال جمعه عربياً. (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أي بيَّنا لمن يعلم. * * * (بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4) (بَشِيرًا وَنَذِيرًا) من صفته. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5) (وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ) فِي غُلُفِ، أي ما تدعونا إليه لا يصل إلى قلوبنا لأنها في أغطية، وواحد الأكِنةِ كِنَان. (وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ).

(7)

أيْ صَمَمٌ وقفل يمنع من الاستماع لقولك أي نحن في ترك القبول منك بمنزلة من لا يستمع قولك. (وَمِنْ بَيْينَا وَبَييكَ حِجَابٌ). أي حاجز في النِحْلَةِ والدِّينِ. وهو - مثل (قُلوِبنَا في أَكِنةٍ) إلا أن معنى هذا أَنا لا نُجامِعُك فِي مَذْهِبٍ. (فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ). أي على مذهبنا، وأنت عامل على مَذْهَبَكَ. ويَجُوزُ أَنْ يكونَ فاعمل في إبطال مذهبنا إنا عاملون في إبطال أَمْرِكَ. * * * (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7) أي لا يرونها واجبة عليهم، وَلاَ يُعْطُونها. * * * (قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) لو أراد - جل وعَلَا - أنْ يخلقها في لَحظَةٍ لَفَعَلَ ولكان ذلك سائغا في قُدْرَتِهِ، ولكنه أحب أن يُبْصِرَ الخَلْقُ وُجُوهَ الأناةِ والقُدْرَةِ على خلق السَّمَاوَات والأرض في أيام كثيرة وفي لحظةٍ وَاحِدَةٍ لأن المخلوقين كلهُم والملائِكَةَ المقَربِينَ لو اجتمعوا على أن يخلقوا مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْهَا مَا خَلَقُوا. وجاء في التفسير أن ابتداء خلق الأرْضِ كان في يوم الأحَدِ واستقام خلقها في يوم الاثنين. * * * (وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) (وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا). في الثلاثاء والأربعاء فصارت الجملة أَربعة أَيَّام، فذلك قوله: (وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ).

(11)

أي في تتمة أرْبَعةِ أَيَّام. (سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ). وَسَواءٍ، ويجوز الرفعُ. فمن خفض جَعَلَهُ صفَةً للأيَّامِ. المعنى في أربعة أَئامٍ مسْتَوَياتٍ، ومن - نصب فعلى المصدر، على معنى استوت سَواءً، واسْتِوَاءً. ومَنْ رَفَع فعلى معنى هي سَوَاء (1). ومعنى (لِلسَّائِلِينَ)، مُعَلًق بِقَوْله: (وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا) لكل محتاج إلى القوتِ. وَإنما قِيلَ (لِلسَّائِلِينَ) لأن كُلًّا يَطْلُبُ القُوتَ وَيَسْألُه. ويجوز أن يكون للسائلين لمن سأل في كم خُلِقَت السماواتُ والأرَضُونَ؛ فقيل: خُلِقَتْ الأرْضُ في أربعة أيام سَوَاء لَا زيادَةَ فِيهَا وَلاَ نقصانَ جَوَاباً لِمَنْ سَأل. * * * (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) معنى استوى عَمَدَ إلى السماءِ وَقَصَدَ. (قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ). على الحال مَنْصُوبٌ، وإنما قِيلَ طَائِعين دُونَ طَائِعَات، لِأنَّهُنَّ جَرَيْن مَجْرَى ما يَعْقِل وُيميزُ، كما قيل في النجوم: (وَكُل في فَلَكَ يُسْبَحُونَ) وقد قِيلَ (قَالَتَا أَتَيْنَا) أَيْ، نَحْنُ وَمَنْ فينَا طَائِعِينَ. وَمَعْنَى (طَوْعًا أَوْ كَرْهًا) على معنى أَطِيعَا لما أَمَرت طَوْعاً، بمنزلة أَطِيعَا الطَاعَةَ أو تُكْرَها إكراهاً. * * * (فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12) (فَقَضَاهُنَّ). فَخَلَقَهُنَّ وَصَنَعُهُنَّ. قَالَ أَبُو ذُؤيبٍ.

_ (1) قال السَّمين: قوله:» سواءً «العامَّةُ على النصبِ، وفيه أوجهٌ، أحدُها: أنه منصوبٌ على المصدرِ بفعلٍ مقدرٍ أي: استَوتْ استواءً، قاله مكي وأبو البقاء. والثاني: أنه حالٌ مِنْ» ها «في» أقواتها «أو مِنْ» ها «في» فيها «العائدةِ على الأرض أو من الأرض، قاله أبو البقاء. وفيه نظرٌ؛ لأنَّ المعنى: إنما هو وصفُ الأيامِ بأنها سواءٌ، لا وصفُ الأرضِ بذلك، وعلى هذا جاء التفسيرُ. ويَدُلُّ على ذلك قراءةُ» سَواءٍ «بالجرِّ صفةً للمضافِ أو المضافِ إليه. وقال السدي وقتادة: سواءً معناه: سواءً لمن سألَ عن الأمرِ واستفهم عن حقيقةِ وقوعِه، وأرادَ العِبْرَةَ فيه، فإنه يَجِدُه كما قال تعالى، إلاَّ أنَّ ابنَ زيدٍ وجماعةً قالوا شيئاً يَقْرُبُ من المعنى الذي ذكره أبو البقاء، فإنهم قالوا: معناه مُسْتَوٍ مُهَيَّأٌ أمرُ هذه المخلوقاتِ ونَفْعُها للمحتاجين إليها من البشر، فعبَّر بالسائلين عن الطالبين. وقرأ زيد بن علي والحسن وابن أبي إسحاق وعيسى ويعقوب وعمرو بن عبيد» سَواءٍ «بالخفضِ على ما تقدَّمَ، وأبو جعفرٍ بالرفع، وفيه وجهان، أحدهما: أنه على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ أي: هي سواءٌ لا تَزيد ولا تنقصُ. وقال مكي:» هو مرفوعٌ بالابتداء «، وخبرُه» للسائلين «. وفيه نظرٌ: من حيث الابتداءُ بنكرةٍ من غيرِ مُسَوِّغٍ، ثم قال:» بمعنى مُسْتوياتٍ، لمن سأل فقال: في كم خُلِقَتْ؟ وقيل: للسَّائلين لجميع الخَلْقِ لأنهم يَسْألون الرزقَ وغيرَه مِنْ عند اللَّهِ تعالى «. قوله:» للسَّائلين «فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنه متعلقٌ ب» سواء «بمعنى: مُسْتويات للسائلين. الثاني: أنه متعلِّقٌ ب» قَدَّر «أي: قَدَّر فيها أقواتَها لأجلِ الطالبين لها المحتاجين المُقتاتين. الثالث: أَنْ يتعلَّق بمحذوفٍ كأنه قيل: هذا الحَصْرُ لأجلِ مَنْ سأل: في كم خُلِقَتِ الأرضُ وما فيها؟. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(13)

وعليهما مسرودتان قضاهما. . . داودُ أو صَنَع السَّوابغَ تبَّع معناه عملهما وَصَنَعُهَما. (وَأوُحَى فِي كُلَ سَمَاءٍ أَمْرَهَا). قِيلَ ما يُصْلِحُهَا، وَقِيلَ مَلَائِكَتُهَا. (وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا). معناه وحفظناها مِنَ اسْتِمَاعِ الشياطِين بالكواكب حِفْظاً فقال: (قل أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ) بمن هذه قدرته (وتجعلون له أنداداً) أي أصناماً تنحتونها بَأيْدِيكم. (ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ). أي الذي هذه صفته وله هذه القدرة رَبُّ العَالَمِينَ. * * * ثم قال: (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13) أي فإن لم يقبلوا رسالتك بعد هذه الإبَانَةَ ويوحدوا اللَّه. (فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ). أي أنذرتهمْ بأنْ يَنْزِلَ بكم ما نزل بمن كفر من الأمَمِ قَبلَكُمْ، ثم قصَّ قصة كُفْرِهِمْ والسبَب في عُتُوِّهِمْ وإقامتهم على ضلالتهم فقال: (فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً) فأرسل اللَّه عليهم ريحاً صَرْصَراً فقال: (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16) (نَحِسَاتٍ) ويروى نَحْسَاتٍ. قال أبو عبيدة: الصرْصَر الشديدة الصوْتِ. وجاء في

(17)

التفسير الشديدة البَرْدِ، وَنَحِسَاتٍ مشئومَاتٍ واحدها نحِسٌ. ومن قرأ نَحْسَات فَواحدها نَحْسٌ، قال اللَّه - عزَّ وجلَّ -: (فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19). (1) * * * (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17) الجَيِّدُ إسقاط التنوين، ويقرأ ثَمودٌ - بالتنوين - ويجوز ثَمُوداً بِالنًصْبِ. بفعل مضمر الذي ظهر تفسيره. ومعنى (هَدَيْنَاهُمْ) قال قَتَادَةُ بَينَّا لَهُمْ طريق الهُدَى وطَريق الضًلاَلَةِ. (فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى). والاختيار رفع ثمود على الابتداء والخبر، وهذا مذهب جميع النحويين. اختيار الرفع، وكلهم يجيز النصْبَ. وقوله - عزَّ وجلَّ -: (فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ). فَالهونُ والخزيُ الذي يهينهم ويخزيهم. * * * (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) يقرأ إلى النارِ - بفتح النون والتفخيم - وقراءة أبي عَمْرٍو - إلى النارِ - على الإمالة إلى الكسر - وإنَّما يختار ذلك مع الراءِ - يعني الكسر - لأنها حرف فيه تكريرٌ، فلذلك آثَرَ أَبُو عَمْرٍ الكسرَ. (فَهُمْ يُوزَعُونَ). جاء في التفسير يُحْبَسُ أَوَّلُهم على آخِرِهِمْ، وأصله من وزعْتُهُ إذا كففته، وقال الحسن البَصْرِي حين وَليَ القضاءَ: لَا بُدَّ للناس من وَزَعةٍ. أي لا بد لهم من أَعْوانٍ يَكُفُّونَ الناس عَنِ التعَدِّي.

_ (1) قال السَّمين: قوله: {صَرْصَراً}: الصَّرْصَرُ: الريحُ الشديدة فقيل: هي الباردةُ مِن الصِّرِّ، وهو البردُ. وقيل: هي الشديدةُ السَّمومِ. وقيل هي المُصَوِّتَةُ، مِنْ صَرَّ البابُ أي: سُمِع صريرُه. والصَّرَّة: الصَّيْحَةُ. ومنه: {فَأَقْبَلَتِ امرأته فِي صَرَّةٍ} [الذاريات: 29]. قال ابن قتيبة: «صَرْصَر: يجوزُ أَنْ يكونَ من الصِّرِّ وهو البردُ، وأَنْ يكونَ مِنْ صَرَّ البابُ، وأَنْ تكونَ من الصَّرَّة، وهي الصيحةُ، ومنه: {فَأَقْبَلَتِ امرأته فِي صَرَّةٍ} [الذاريات: 29]. وقال الراغب:» صَرْصَر لفظة من الصِّرِّ، وذلك يرجِعُ إلى الشَّدِّ لِما في البرودة من التعقُّدِ «. قوله:» نَحِساتٍ «قرأ الكوفيون وابن عامر بكسرِ الحاءِ، والباقون بسكونِها. فأمَّا الكسرُ فهو صفةٌ على فَعِل، وفعلُه فَعِل بكسرِ العين أيضاً كفِعْلِهِ يقال: نَحِس فهو نَحِسٌ كفَرِح فهو فَرِحٌ، وأَشِرَ فهو أَشِرٌ. وأمال الليث/ عن الكسائي ألفَه لأجل الكسرةِ، ولكنه غيرُ مشهورٍ عنه، حتى نسبه الدانيُّ للوَهْم. وأمَّا قراءةُ الإِسكانِ فتحتملُ ثلاثةَ أوجهٍ، أحدُها: أَنْ يكونَ مخففاً مِنْ فَعِل في القراءةِ المتقدمةِ، وفيه توافُقُ القراءتين. والثاني: أنَّه مصدرٌ وُصِفَ به كرجلٍ عَدْلٍ. إلاَّ أنَّ هذا يُضْعِفُه الجمعُ فإنَّ الفصيحَ في المصدرِ الموصوفِ أَنْ يُوَحَّدَ، وكأنَّ المُسَوِّغَ للجمع اختلافُ أنواعِه في الأصل. والثالث: أنه صفةٌ مستقلةٌ على فَعْل بسكونِ العينِ. ولكن أهلَ التصريفِ لم يذكروا في الصفةِ الجائيةِ مِنْ فَعِلَ بكسرِ العين، إلاَّ أوزاناً محصورةً ليس فيها فَعْل بالسكونِ فذكروا: فَرِحَ فهو فَرِحٌ، وحَوِرَ فهو أحورُ، وشَبعَ فهو شبعانُ، وسَلِمَ فهو سالمٌ، وبَلي فهو بالٍ. وفي معنى» نَحِسات «قولان، أحدهما: أنها مِن الشُّؤْم. قال السدِّي: أي: مشائيم مِن النَّحْسِ المعروف. والثاني: أنها شديدةُ البردِ. وأنشدوا على المعنى الأول قولَ الشاعرِ: 3954 يَوْمَيْنِ غَيْمَيْنِ ويوماً شَمْسا. . . نَجْمَيْنِ سَعْدَيْنِ ونجماً نَحْسا وعلى المعنى الثاني قولَ الآخرِ: 3955 كأنَّ سُلافَةً عُرِضَتْ لنَحْسٍ. . . يُحِيْلُ شَفيفُها الماءَ الزُّلالا ومنه: 3956 قد أَغْتدي قبلَ طُلوعِ الشمسِ. . . للصيدِ في يومٍ قليلِ النَّحْسِ وقيل: يُريدُ به في هذا البيت الغبارَ أي: قليلِ الغبار، وقد قيل بذلك في الآيةِ أنها ذاتُ غُبارٍ. و» نَحِسات «نعتٌ لأيَّام، والجمعُ بالألفِ والتاءِ مُطَّرِدٌ في صفةِ ما لا يَعْقِلُ كأيامٍ معدوداتٍ. وقد تقدَّم تحقيقُه في البقرة. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(20)

(حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) جاء في التفسير (جُلُودُهُمْ) كناية عن الفَرج، المعنى شَهِدَتْ فروجهم بمعاصيهم. * * * (وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) أي جَعَلنا اللَّه شهوداً. * * * (وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) (وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ). مرفوع بخبر الابتداء، و (أرْدَاكمْ) خبر ثانٍ. ويجوز أن يكون (ظَنُّكُمُ). بَدَلاً مِنْ (ذَلِكُمْ). ويكون المعنى وظنكم الذي ظننتم بِرَبكُمْ أرْداكم. ومعنى (أرْدَاكُمْ) أهْلَكَكُمْ. * * * (وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25) (وَقَيَّضْنَا): وسببنا من حيث لا يَحْتَسِبُونَ. (لَهُمْ قُرَنَاءَ). . الآية. يقول زينوا لهم أعْمَالَهُم الًتِي يَعْمَلُونَها ويشاهدونها. (وَمَا خَلْفَهُمْ) وما يَعْزمُونَ أَنْ يَعْمَلُوه. * * * (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) أي عارضوه بكلام لَا يُفهَم يكون ذلك الكلام لَغْواً، يقال: لغا يَلْغُو لَغْواً، ويقال لَغِيَ يلْغَى لَغْواً إذا تكلم باللغو، وهو الكلام الذي لَا يُحَصّل ولا تفهم حقيقته (1). * * * (ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28) (ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ) هذا يدل على رفعه. قوله: (فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا). المعنى ذلك العذاب الشديد جزاء أعداء اللَّه. (النَّارُ) رفع بدل من (جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ)

_ (1) قال السَّمين: قوله: {والغوا}: العامَّةُ على فتحِ الغين. وهي تحتملُ وجهين، أحدُهما: أَنْ يكون مِنْ لَغِي بالكسر يَلْغَى. وفيها معنيان، أحدُهما: مِنْ لَغِيَ إذا تكلَّم باللَّغْوِ، وهو ما لا فائدةَ فيه. والثاني: أنه مِنْ لَغِي بكذا، أي: رَمى به فتكونُ «في» بمعنى الباء أي: ارْمُوا به وانبِذُوه. والثاني من الوجهين الأوَّلين: أَنْ تكونَ مِنْ لَغا بالفتح يَلْغَى بالفتحِ أيضاً، حكاه الأخفش، وكان قياسُه الضمَّ كغزا يَغْزو، ولكنه فُتِح لأجلِ حَرْفِ الحلقِ. وقرأ قتادة وأبو حيوة وأبو السَّمَّالِ والزعفراني وابن أبي إسحاق وعيسى بضم الغين، مِنْ لَغا بالفتحِ يَلْغُو كدَعا يَدْعُو. وفي الحديث: «فقد لَغَوْتَ»، وهذا موافِقٌ لقراءةِ غيرِ الجمهور. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(29)

وإن شِئت رفعت (النَّارُ) على التفسير، كأنَّه قيل ما هو فقيل هي النارُ (1). (لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخُلْدِ). أي لهم في النارِ دار الخلد، والنار هي الدار، كما تقول: لك في هذه الدارِ دَارُ السرور، وأنت تعني الدار بِعَيْنها كما قال الشاعر: أَخُو رَغائِبَ يُعْطِيها ويَسْأَلُها. . . يَأْبَى الظُّلامَةَ منه النَّوْفَلُ الزُّفَرُ (1) * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29) (أَرِنَا) بكسر الراء وبإسكانها - لثقل الكسرة كما قالوا في فَخِذٍ فَخْذ، ومن كسر فعلى الأصل، والكسر أَجْوَدُ لأنه في الأصْلِ أَرْئِنَا - فحذفت الهمزة وبقيت الكسرةُ دليلاً عليها والكسر أجود. ومعنى الآية فيما جاء من التفسير أنه يعني بهما ابن آدم قابيل الذي قتل أخاه، وإبليس، فقابيل مِنَ الإنس وإبليس مِنَ الجِنِّ. ومعنى: (نجعلْهُمَا تحت أَقْدَامِنَا). أي يكونان - في الدَّرْك الأسفل. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) أي: وحدوا اللَّه، واستقاموا: عملوا بِطَاعَتِهِ ولزموا سنة نبيِّهِ. (تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ). بُشَراءَ يبشرونهم عند الموت وفي وقت البعث فلا تَهُولُهم أهَوالُ القيامة. * * * وقوله: (نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)

_ (1) قال السَّمين: قوله: {ذَلِكَ}: فيه وجهان، أحدهما: أنه مبتدأٌ و «جزاءُ» خبره. والثاني: أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي: الأمرُ ذلك و {جَزَآءُ أَعْدَآءِ الله النار} جملةٌ مستقلةٌ مبيِّنَةٌ للجملةِ قبلَها. قوله: «النارُ» فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنها بدلٌ مِنْ «جزاء»، وفيه نظرٌ؛ إذ البدلُ يَحُلُّ مَحَلَّ المبدلِ منه، فيصيرُ التقديرُ: ذلك النار. الثاني: أنها خبرُ مبتدأ مضمرٍ. الثالث: أنها مبتدأٌ، و {لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخُلْدِ} الخبر. و «دارُ» يجوز ارتفاعُها بالفاعليَّة أو الابتداءِ. وقوله: {فِيهَا دَارُ الخُلْدِ} يقتضي أَنْ تكونَ «دارُ الخلد» غيرَ النارِ، وليس الأمرُ كذلك، بل النارُ هي نفسُ دارِ الخُلْدِ. وأُجيب عن ذلك: بأنَّه قد يُجْعَلُ الشيءُ ظَرْفاً لنفسِه باعتبارِ متعلَّقِه على سبيل المبالغةِ، كأنَّ ذلك المتعلَّقَ صار مستقَراً له، وهو أبلغُ مِنْ نسبةِ المتعلَّقِ إليه على سبيلِ الإِخبارِ به عنه، ومثلُه قولُه: 3959. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وفي اللَّهِ إنْ لم يُنْصِفُوا حَكَمٌ عَدْلُ وقوله تعالى: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]، والرسولُ عليه السلام هو نفسُ الأُسْوةِ. كذا أجابوا. وفيه نظرٌ؛ إذ الظاهرُ - وهو معنىً صحيحٌ منقولٌ - أنَّ في النار داراً تُسَمَّى دارَ الخلدِ، والنارُ مُحيطةٌ بها. قوله: «جَزاءً» في نصبِه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنَّه منصوبٌ بفعلٍ مقدرٍ، وهو مصدرٌ مؤكدٌ أي: يُجْزَوْن جزاءَ. الثاني: أَنْ يكونَ منصوباً بالمصدرِ الذي قبلَه، وهو {جَزَآءُ أَعْدَآءِ الله}، والمصدرُ يُنْصَبُ بمثلِه كقوله: {فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً} [الإسراء: 63]. الثالث: أَنْ يَنْتَصِبَ على أنه مصدرٌ واقعٌ موقعَ الحالِ، و «بما» متعلِّقٌ ب «جَزاء» الثاني، إنْ لم يكنْ مؤكِّداً، وبالأول إن كان، و «بآياتِنا» متعلِّقٌ ب «يَجْحَدون». اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(33)

معناه وأبشروا بالجنة تنزلُونها نُزُلاً. قال أبو الحسن الأخفش: (نُزُلًا) منصوب من وجهين: أحدهما أن يكون مَنْصُوباً على المصدَرِ، على معنى لكم ْفيها ما تشتهي أنفسكم أنزَلْناهُ نُزُلاً. ويجوز أنْ يكون منصوباً على الحال على معنى لكم فيها ما تشتهي أَنْفُسُكُمْ منزلا نُزُلًا، كما تقول جاء زيد مشياً في معنى جاء زيد ماشياً (1). * * * (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا) منصوب على التفسير كما تقول زيد أحسن منك وجهاً، وجاء في التفسير أنه يعنى به محمد - صلى الله عليه وسلم - لأنه دعا إلى توحيد اللَّه، وجاء أيضاً في التفسير عن عائشة وغيرها أنها نزلت في المؤذنين. * * * (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) و" لا " زائدة مؤكدة، المعنى لا تستوي والسيئة. (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ). معناه ادفع السيئة بالتي هي أحسن. (كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ): الحميم القريب. * * * (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) أي ما يلقى مجازاة هذا أي وما يلَقى هذه الفعلة (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا) أي إِلَّا الَّذِينَ يكظمون الغيظ. (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ). الحظ ههنا الجنَّة، أي وما يلقاها إلا من وجبت له الجنة. ومعنى (ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)، أي حَظٍّ عَظِيمٍ في الخير.

_ (1) قال السَّمين: قوله: {نُزُلاً}: فيه أوجهٌ، أحدها: أنه منصوبٌ على الحالِ من الموصولِ، أو من عائدِه. والمراد بالنُزُلِ الرزقُ المُعَدُّ للنازِل، كأنه قيل: ولكم فيها الذي تَدَّعُونه حال كونِه مُعَدًّا. الثاني: أنَّه حالٌ مِنْ فاعل «تَدَّعُوْن»، أو من الضمير في «لكم» على أَنْ يكونَ «نُزُلاً» جمعَ نازِل كصابِر وصُبُر، وشارِف وشُرُف. الثالث: أنه مصدرٌ مؤكِّدٌ. وفيه نظرٌ؛ لأنَّ مصدرَ نَزَل النزولُ لا النُّزُل. وقيل: هو مصدرُ أَنْزَل. قوله: «مِنْ غَفَورٍ» يجوزُ تعلُّقه بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل «نُزُلاً»، وأَنْ يتعلَّقَ بتَدَّعون، أي: تَطْلبونه مِنْ جهةِ غفورٍ رحيمٍ، وأَنْ يتعلَّقَ بما تعلَّقَ الظرفُ في «لكم» من الاستقرارِ أي: استقرَّ لكم مِنْ جهةِ غفورٍ رحيم. قال أبو البقاء: «فيكونُ حالاً مِنْ» ما «. قلت: وهذا البناءُ منه ليس بواضحٍ، بل هو متعلِّقٌ بالاستقرارِ فَضْلةً كسائرِ الفضلاتِ، وليس حالاً مِنْ» ما «. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(36)

(وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36) يقول إن نزغك مِنَ الشيطان ما يصرفك به عن الاحتمال فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ من شرِّه وامض على حلمك. * * * (وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) أَي مِنْ عَلاَمَاتِهِ التي تَدُلُّ على أَنه واحد. وقوله: (وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ). وقد قال: الليلُ والنهار والقمر وهي مُذَكَرَة. وقال: (خَلَقَهُنَّ) والهاء والنون يدلان على التأنيث، ففيها وجهان: أحدهما أَن ضمير غير ما يعقل على لفظ التأنيث، تقول: هذه كِبَاشُك فسُقْها، وَإنْ شئت فسُقْهُن، وإنَّمَا يكون " خَلَقَهُمْ " لما يعقل لا غير، ويجوز أن يكون (خَلَقَهُنَّ) راجعاً على معنى الآيات لأنه قال: ومن آياته هذه الأشياء. (وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ) (1). * * * (فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38) هذه خطاب لمحمد - صلى الله عليه وسلم - و (الَّذِينَ) ههنا يعنى به الملائكة، فالمعنى فإن استكبروا وَلَمْ يُوحِّدُوا اللَّهَ ويعْبُدوه ويؤمنوا برسوله، فالملائكة (يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ). (وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ). لاَ يَملُّون - ثم زَادَهُمْ في الدلالة فقال: * * * (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) أي مُتَهَشِمَةً متغيرة، وهو مثل هامدة.

_ (1) قال السَّمين: قوله: {خَلَقَهُنَّ}: في هذا الضميرِ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: / أنه يعودُ على الأربعةِ المتعاطفةِ. وفي مجيءِ الضميرِ كضميرِ الإِناثِ - كما قال الزمخشري - هو أنَّ جَمْعَ ما لا يَعْقِلُ حكمُه حكمُ الأنثى أو الإِناث نحو: «الأقلامُ بَرَيْتُها وبَرَيْتُهنَّ». وناقشه الشيخ من حيث إنه لم يُفَرِّقْ بين جمعِ القلةِ والكثرةِ في ذلك؛ لأنَّ الأفصحَ في جمعِ القلةِ أَنْ يُعامَلَ معاملةَ الإِناثِ، وفي جمع الكثرةِ أَنْ يُعامَلَ معاملةَ الأنثى فالأفْصحُ أَنْ يُقال: الأجذاعُ كَسَرْتُهُنَّ، والجذوعُ كَسَرْتُها. والذي تقدَّمَ في هذه الآيةِ ليس بجمعِ قلةٍ أعني بلفظٍ واحدٍ، ولكنه ذكر أربعةً متعاطفةً فتنزَّلَتْ منزلَة الجمعِ المعبَّرِ به عنها بلفظٍ واحد. قلت: والزمخشري ليس في مقام بيانِ الفصيح والأفصح، بل في مقامِ كيفيةِ مجيء الضميرِ ضميرَ إناث بعد تقدُّم ثلاثةِ أشياءَ مذكَّراتٍ وواحدٍ مؤنثٍ، فالقاعدةُ تغليبُ المذكرِ على المؤنثِ، أو لمَّا قال: «ومِنْ آياته» كُنَّ في معنى الآياتِ فقيل: خلقهنَّ، ذكره الزمخشريُّ أيضاً أنه يعود على لفظ الآياتِ. الثالث: أنه يعودُ على الشمس والقمر؛ لأنَّ الاثنين جمعٌ، والجمعُ مؤنثٌ، ولقولهم: شموس وأقمار. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(40)

(فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ). ويقرأ وَرَبأتْ بالهمز، ومعنى ربت عظمت، ومعنى ربأت ارْتَفَعَتْ لأن النبت إذا همَّ أن يظهر ارتفعت له الأرض. * * * وقوله - عزَّ وجلَّ -: (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) (يَلْحَدُونَ) بفتح الياء والحاء، وتفسير يَلْحدُونَ يجعلون الكلام على غير جِهَتِه، ومن هذا اللَّحْدُ لأنه الحفرُ في جانب القَبْر، يُقال لَحَد وَألْحَدَ، في معنى وَاحِدٍ. (اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ). لفط هذا الكلام لفظ أَمْرٍ، ومعناه الوعيد والتهدد، وقد بيَّن لهم المجازاة على الخير والشر. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) فيه وجهان: أحدهما أن الكتب التي تقدمت لا تبطله وَلَا يأتي بعده كتابُ يُبْطِلُه. والوجه الثاني أنه محفوظ من أن يَنقُصَ منه فيأتيه الباطل من بين يديه أو يزاد فيه فيأتيه الباطل من خلفه. والدليل على هذا قوله: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9). * * * (مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43) أي تكذيبك كما كُذِبَ الرسُلُِ مِنْ قَبلِكَ، وقيل لهم كما يقول الكفارُ لك، ثم قال:

(44)

(إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ): المعنى لمن آمن بك. (وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ): لِمَنْ كَذبَك. * * * (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44) (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ) أي بُيِّنَت. (أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ). وتقرأ (أَأَعْجَمِيٌّ) بهمزتين وَ (أَعْجَمِيٌّ) بهمزةٍ واحدةٍ وبهمزة بعدها مخففة تشبه الألف، ولا يجوز أن يكون ألفاً خَالِصَةً لأن بعدها العين وهي ساكنة. وتقرأ أَعجَمِي وعَرَبي - بهمزة واحدة وفتح العين. وقرأ الحسن أَعْجَمى بهمزة وَسَكُونِ العَيْن. والذِي جَاءَ في التفْسِير أَن المعنى (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا): هلَّا بينت آياتِهِ، أقرآنٌ أعجميٌّ ونبيٌّ عربي. فمن قرأ (آأعجمي) فهمزة وألفٍ فَإنهُ مَنْسوبُ إلى اللسَانِ الأعجم، تقول: هذا رَجُل أعجمي إذا كان لا يُفْصِحُ إن كَانَ مِنَ العَجَمِ أو من العَرَبٍ، وتقول: هذا رجل عَجَمِي إذا كان من الأعاجم، فصيحاً كان أَمْ غَيرَ فصيح، ومثل ذَلِكَ: هذا رَجُلٌ أعرابي إذا كان من أهل البادية، وكان جنسه من العَرَب أو من غير العَرَبِ، والأجودُ في القرآن أَعْجَمِي بهمزة وأَلِفٍ على جهة النسبة إلى الأعْجَمِ، ألا ترى قوله: (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا)، ولم يقرأ أحَد عَجَميُّا. فأمَّا قراءة الحسن أعني أَعْجَمى بإسكان العَيْنِ لا على معنى الاستفهام ولكن على معنى هَلَّا بُيِّنَتْ آياتُه، فجعل بعضه بياناً للعجم وبعضه بياناً للعرب، وكل هذه الأوجه الأربعة سائغ في العربية وعلى ذلك تفسيره (1).

_ (1) قال السَّمين: قوله: {ءَاعْجَمِيٌّ}: قرأ الأخوان وأبو بكر بتحقيقِ الهمزة، وهشام بإسقاطِ الأولى. والباقون بتسهيلِ الثانية بينَ بينَ. وأمَّا المدُّ فقد عُرِف حكمُه مِنْ قولِه: «أأنذَرْتَهم» في أولِ هذا الموضوع. فمَنْ استفَهْم قال: معناه أكتابٌ أَعجميٌّ ورسولٌ عربيٌّ. وقيل: ومُرْسَلٌ إليه عَربيٌّ. وقيل: معناه أَبَعْضُهُ أعجميٌّ وبعضُه عربيٌّ. ومَنْ لم يُثْبِتْ همزةَ استفهامٍ فيُحتمل أنه حَذَفها لفظاً وأرادها معنًى. وفيه توافُقُ القراءتين. إلاَّ أنَّ ذلك لا يجوز عند الجمهور، إلاَّ إنْ كان في الكلام «أم» نحو: 3960. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . بسَبْعٍ رَمَيْنَ الجَمْرَ أم بثمان فإنْ لم تكنْ «أم» لم يَجُزْ إلاَّ عند الأخفش. وتقدَّم ما فيه، ويحتمل أَنْ يكونَ جعله خبراً مَحْضاً ويكونُ معناه: هَلاَّ فُصِّلَتْ آياتُه فكان بعضُها أعجمياً تفهمُه العجمُ، وبعضُها عربياً يفهمُه العربُ. والأعجميُّ مَنْ لا يُفْصِحُ، وإن كان مِنَ العرب، وهو منسوبٌ إلى صفته كأحمرِيّ ودَوَّاريّ، فالياءُ فيه للمبالغةِ في الوصفِ وليس النسبُ منه حقيقياً. وقال الرازيُّ في لوامحه: «فهو كياء كُرْسِيّ وبُخْتِيّ». وفَرَّق الشيخُ بينهما فقال: «وليسَتْ كياءِ كُرْسِيّ فإن كرسيّ وبُخْتيّ بُنِيَتِ الكلمةُ عليها بخلافِ ياء» أعجميّ «فإنهم يقولون: رجل أَعْجم وأعْجميّ». وقرأ عمرو بن ميمون «أَعَجَمِيٌّ» بفتح العين وهو منسوبٌ إلى العجم، والياءُ فيه للنسَبِ حقيقةً يُقال: رجل أعجميٌّ وإنْ كان فصيحاً. وقد تقدَّم الكلامُ في الفرقِ بينهما في سورةِ الشعراء. وفي رفع «أَعْجميّ» ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه مبتدأٌ، والخبرُ محذوف تقديرُه، أعجميٌّ وعربيٌّ يَسْتويان. والثاني: أنه خبرُ مبتدأ محذوف أي: هو، أي: القرآن أعجميٌّ والمرسلُ به عربيٌّ. والثالث: أنه فاعلُ فعلٍ مضمرٍ أي: أيَسْتوي أعجميٌّ وعربيٌّ. وهذا ضعيفٌ؛ إذ لا يُحذف الفعلُ إلاَّ في مواضعَ بَيَّنْتُها غيرَ مرةٍ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(45)

وقوله عزَّ وجلَّ: (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ). يعني القرآن. (وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ). أي هم في ترك القبول بمنزلة من في أذنه صمم. (وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى) ويقرأ (وهو عَلَيْهِمْ عَمٍ) بِكسر الميم والتنوين، ويجوز (وهو عَليْهِمْ عَمِيَ) بإثبات الياء وَفَتْحِهَا، ولا يجوز إسكان الياء وترك التنوين (1). (أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ). يعني من قسوة قلوبهم يُبعَدُ عنهم مَا يُتْلَى عليهم. * * * (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45) (وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) ْالكلمة وَعْدَهُمُ الساعة، قال عزَّ وجلَّ: (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ) * * * (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46) (وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا). أي: على نفسه. ويدل على أن الكلمة ههنا الساعة قوله: (إلَيْه يُرَد عِلْمُ السَّاعَةِ). وقوله - عزَّ وجلَّ -: (وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) (وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا). نحو خروج الطلع من قشره. (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي).

_ (1) قال السَّمين: قوله: {والذين لاَ يُؤْمِنُونَ} فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أَنْ يكونَ مبتدأً، و «في آذانِهم» خبرُه و «وَقْرٌ» فاعلٌ، أو «في آذانهم» خبرٌ مقدم «ووقرٌ» مبتدأٌ مؤخر، والجملةُ خبرُ الأول. الثاني: أنَّ وَقْراً خبرُ مبتدأ مضمرٍ. والجملةُ خبرُ الأولِ والتقديرُ: والذين لا يُؤْمنون هو وَقْرٌ في آذانهم لَمَّا أَخْبر عنه بأنه هدىً لأولئك، أخبر عنه أنه وَقْرٌ في آذان هؤلاءِ وَعَمَىً عليهم. قال معناه الزمخشري. ولا حاجةَ إلى الإِضمار مع تمام الكلامِ بدونه. الثالث: أن يكونَ {الذين لاَ يُؤْمِنُونَ} عطفاً على «الذين آمنوا»، و «وَقْرٌ» عطفٌ على «هدىً» وهذا من بابِ العطفِ على معمولَيْ عامِلَيْنِ. وفيه مذاهبُ تقدَّم تحريرُها. قوله: «عَمَىً» العامَّةُ على فتحِ الميم المنونةِ وهو مصدرٌ ل عَمِي يَعْمَى نحو: صَدِي يَصْدَى صَدَىً، وهَوِي يَهْوَى هَوَىً. وقرأ ابن عباس وابن عمر وابن الزبير وجماعة «عَمٍ» بكسرِها منونةً اسماً منقوصاً وُصِفَ بذلك مجازاً. وقرأ عمرو بن دينار ورُوِيت عن ابن عباس «عَمِيَ» بكسر الميم وفتح الياء فعلاً ماضياً. وفي الضمير وجهان أظهرُهما: أنه للقرآن. والثاني: أنه للوَقْر والمعنى يأباه، و «في آذانهم» - إنْ لم تجعَلْه خبراً - متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ منه؛ لأنه صفةٌ في الأصلِ ولا يتعلَّق به، لأنَّه مصدرٌ، فلا يتقدَّم معمولُه عليه وقوله: {وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} كذلك في قراءة العامَّةِ، وأمَّا في القراءتين المتقدمتين فتتعلَّق «على» بما بعده؛ إذ ليس بمصدرٍ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(48)

المعنى أين قولكم أن لي شركاء، واللَّه - جل وعلا - واحدٌ لا شريك له. وقد بين ذلك في قوله: (أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ). (آذَناكَ) أَعْلَمْنَاكَ مَا مِنا من شهِيدٍ لَهُمْ. * * * (وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48) (وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ). أَي أيقنوا. * * * (لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49) لا يَمَل الخير الذي يُصيبه، وإذا اختبر بشيء من الشر يئس وقنط. * * * (وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50) (وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي) أي هذا واجب لي، بعملي استحققته، وهذا يعني به الكَافِرُونَ، ودليل ذلك قوله: (وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى). يقول: إني لست أُوقِنُ بالبعث وقيام الساعة، فإن كان الأمر على ذلك إن لي عنده للحسنى. * * * (وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51) ويقرأ (ناء) والمعنى مُتَقَارِب، يقول: إذا كان فيْ نعمةٍ تباعَدَ عن ذكر اللَّه وَدُعَائِه (وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ) وعريضٌ ههنا كبير، وكذلك لو كان ذو دعاء طويل كانَ معناه كبيرٌ. * * * وقوله: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أي سنريهم الأعلام التي تدل على التوحيد في الآفاق، وواحدها أُفُق. يقول: سنريهم آثار مَن مَضَى قبلهم مِمنْ كَذبَ الرسُلَ من الأمم وآثرَ خلقِ اللَّه في كل البلاد (وَفِي أَنْفُسِهِمْ) من أنهم كانوا نُطَفاً ثم عَلقَاً ثم مُضَغاً ثم عِظاماً

(54)

كُسِيَتْ لحماً، ثم نقلوا إل التمييز والعقل، وذلك كله دَليل على أن الذي فعله واحدٌ ليس كمثلِه شيء. (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ). ويجوز " إنَّهُ "، والقراءة " أنَّه " بالفتح. وموضع (بِرَبِّكَ) في المعنى رفع. المعنى أولم يكف رَبكَ وموضع (أنه) نصب، وإن شئتَ كانَ رفعاً. المعنى في النصب أو لم يكف ربك بأنه على كل شيء شَهِيدٌ. ومن رفع فعلى البدل، المعنى أوَلم يكف أَنَ رَبَّكَ عَلَى كُلِ شَيء شَهِيدٌ، أي أوَلم يكفهم شهادة ربِّك. ومعنى الكفاية ههنا أنه قَد بَين لهم ما فيه كفاية في الدلاَلَةِ على تَوْحِيدِهِ وبينت رُسُلُه (1). * * * (أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54) في شك. (أَلَا) كلمة يبتدأ بها ينبَّهُ بِهَا المخاطب توكيداً يَدُلُّ عَلَى صحة ما بعدها. (أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ). أي عالم بكل شيء علماً يحيطُ بما ظَهَر وَخَفِيَ.

_ (1) قال السَّمين: قوله: {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ} فيه وجهان، أحدهما: أن الباءَ مزيدةٌ في الفاعلِ، وهذا هو الراجحُ. والمفعولُ محذوفٌ أي: أو لم يَكْفِكَ ربُّكَ. وفي قوله: {أَنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} وجهان، أحدهما: أنه بدلٌ مِنْ «بربك» فيكون مرفوعَ المحلِّ مجرورَ اللفظِ كمتبوعِه. والثاني: أنَّ الأصلَ بأنَّه، ثم حَذَفَ الجارَّ فجرى الخلافُ. الثاني من الوجهين الأولين: أَنْ يكون «بربك» هو المفعولَ، وأنه وما بعده هو الفاعلُ أي: أو لم يكْفِ ربُّك شهادتَه. وقُرئ {أَنَّهُ على كُلِّ} بالكسر، وهو على إضمارِ القولِ، أو على الاستئناف. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

سورة الشورى

سُورَةُ الشُّورَى حم عسق، (مَكِّيَّة) بسم الله الرحمن الرحيم قوله عزَّ وجلَّ: (حم (1) عسق (2) قد بيَّنَّا حروف الهجاء، وجاء في التفسير أن هذه الحروفَ اسم من أسماء اللَّه، ورويت حم سق - بغير عين - والمصاحف فيها العين بائنة. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) وقرئت يُوحَى، وقرئت نُوحِي إِليك وإلى الذين من قبلك بِالنونِ (1). وجاء في التفسير أن " حم عسق " قد أوحِيَتُ إِلى كل نَبِي قبلَ محمد - صلى الله عليه - وعليهم أجمعين. وموضع الكاف من " كذلك " نصبٌ. المعنى مثل ذلك يوحى إِليك. فمن قرأ يوحِي بالياء، فاسم اللَّه عزَّ جل رفع بفعله وهو يُوحِي. وَمَنْ قَرأَ. يُوحَى إليك فاسم اللَّه مبين عما لمَ يسم فاعله، ومثل هذا من الشعْرِ. لِيُبْكَ يزيدٌ ضارِعٌ لخُصُومةٍ. . . ومُخْتبِطٌ مما تُطِيحُ الطَّوائِحُ فبين من ينبغي أن يبكيه. ومن قرأ نُوحي إليك بالتون جعل نوحي إخباراً عن اللَّه - عزَّ وجلَّ -. ورفع (اللَّهُ) بالابتداء وجعل (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) خبراً عن (اللَّهُ)، وإن شاء كان

_ (1) قال السَّمين: قوله: {كَذَلِكَ يوحي}: القُراء على «يُوْحي» بالياء مِنْ أسفلَ مبنياً للفاعلِ، وهو اللَّهُ تعالى. «والعزيزُ الحكيمُ» نعتان. والكافُ منصوبةُ المحلِّ: إمَّا نعتاً لمصدرٍ، أو حالاً مِنْ ضميرِه أي: يوحي إيحاءً مثلَ ذلك الإِيحاءِ. وقرأ ابنُ كثير - وتُروى عن أبي عمروٍ - «يُوْحَى» بفتحِ الحاءِ مبنياً للمفعول. وفي القائمِ مَقامَ الفاعلِ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: ضميرٌ مستترٌ يعود على «كذلك» لأنه مبتدأٌ، والتقدير: مثلُ ذلك الإِيحاءِ يُوْحَى هو إليك. فمثلُ ذلك مبتدأٌ، ويُوْحى هو إليك خبرُه. الثاني: أنَّ القائمَ مقامَ الفاعلِ «إليك»، والكافُ منصوبُ المحلِّ على الوجهَيْن المتقدِّمَيْن. الثالث: أنَّ القائمَ [مَقامَه] الجملةُ مِنْ قولِه: «اللَّهُ العزيزُ» أي: يُوْحَى إليك هذا اللفظُ. وأصولُ البَصْريين لا تساعِدُ عليه؛ لأنَّ الجملةَ لا تكونُ فاعلةً ولا قائمةً مقامَه. وقرأ أبو حيوةَ والأعمشُ وأبانٌ «نُوْحي» بالنون، وهي موافقةٌ للعامَّةِ. ويُحتمل أَنْ تكونَ الجملةُ مِنْ قولِه: «اللَّهُ العزيزُ» منصوبةَ المحلِّ مفعولةً ب «نُوْحي» أي: نُوحي إليك هذا اللفظَ. إلاَّ أنَّ فيه حكايةَ الجملِ بغيرِ القولِ الصريحِ. و «نُوْحي» على اختلافِ قراءاتِه يجوزُ أَنْ يكونَ على بابه من الحالِ أو الاستقبالِ، فيتعلَّقَ قولُه: {وَإِلَى الذين مِن قَبْلِكَ} بمحذوفٍ لتعذُّرِ ذلك، تقديرُه: وأوحَى إلى الذين، وأَنْ يكونَ بمعنى الماضي. وجيْءَ به على صورةِ المضارعِ لغَرَضٍ وهو تصويرُ الحالِ. قوله: «اللَّهُ العزيزُ» يجوزُ أَنْ يرتَفِعَ بالفاعليةِ في قراءةِ العامَّةِ، وأَنْ يرتفعَ بفعلٍ مضمرٍ في قراءةِ ابنِ كثير، كأنه قيل: مَنْ يُوْحيه؟ فقيل: اللَّه، ك {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال} [النور: 36]، وقوله: 3964 لِيُبْكَ يزيدُ ضارِعٌ. . . . . . . . . . . . وقد مرَّ، وأَنْ يرتفعَ بالابتداءِ، وما بعدَه خبرُه، والجملةُ قائمةٌ مَقامَ الفاعلِ على ما مَرَّ، وأَنْ يكون «العزيزُ الحكيمُ» خبَريْن أو نعتَيْن. والجملةُ مِنْ قولِه: {لَهُ مَا فِي السماوات} خبرٌ أولُ أو ثانٍ على حَسَبِ ما تقدَّم في «العزيزُ الحكيمُ». وجوَّز أبو البقاءِ أَنْ يكونَ «العزيز» مبتدأً و «الحكيمُ» خبرَه، أو نعتَه، و {لَهُ مَا فِي السماوات} خبرَه. وفيه نظرٌ؛ إذ الظاهرُ تَبَعيَّتُهما للجلالة. وأنت إذا قلتَ: «جاء زيدٌ العاقلُ الفاضلُ» لا تجعلُ العاقل مرفوعاً على الابتداء. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5)

(الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) صفة للَّهِ - عزَّ وجلَّ - يرتفع كما يرتفع اسم اللَّه، ويكون الخبر (لَهُ مَا في السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأرْضِ). * * * قوله: (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَنْفَطِرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ) وقرئت مِمَّنْ فَوْقَهُن، وقرئت (يَتَفَطَّرْنَ)، ومعنى يَنْفَطِرنَ ويتفطرن يَنْشَقِقْن، ويَتَشَققْنَ، فالمعنى - واللَّه أعلم - أي تكاد السَّمَاوَاتُ ينفطرن من فوقهن لعظمة اللَّه. لأنه لما قال: (وَهُوَ العَلِيُّ العَظِيمُ). قال: تكاد السَّمَاوَات ينفطِرْنَ لعَظمِتِه، وكذلك - ينفطرن ممن فوقَهِن، أي من عظمة من فوقَهُن. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ). مَعنَى (يُسَبِّحُونَ) يعظمون اللَّه وينزهونه عن السوء (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ) من المؤمنين. ولا يجوز أن يكون يَسْتَغْفِرُونَ لكل من في الأرض، لأن الله تعالى قال فِي الكفار: (أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّه وَالمَلَائِكَةِ والنَّاسِ أجْمَعِينَ) ففي هذا دليل على أن الملائكة إنما يستغفرون للمؤمنين، ويدل على ذلك قوله في سورة المُؤمِن: (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا). * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) (أُمَّ الْقُرَى) مكة، وموضع (وَمَنْ حَوْلَهَا) نصب. المعنى لتنذر أهل أم القرى ومن حولها، لأن البلد لا يعقل. ومثل هذا (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا). وقوله: (وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ). أي يوم يبعث الناس جَميعاً، ثم أَعلم مَا حَالُهم في ذَلِكَ اليوم فقال: (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ).

(8)

وقوله جلَّ وعزَّ: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (8) ارتفع (الظَّالِمُونَ) بالابتداء. وقوله: (يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31). الفصل بين هذا والأول أن أَعد لهم فِعل فنصب (الظالمين) بفعل مضمر يفسره ما ظهر، المعنى وَأوعد الظالمين أعد لهم عذاباً أليماً. * * * وقوله: (فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا). أي خلق الذكَرَ والأنْثَى مِنَ الحَيَوانِ كُلِّهِ. وقوله: (يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ). أي يُكَثركم بِجَعْلِهِ منكم وَمنَ الأنْعَامِ أزواجاً. وقوله: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ). هذه الكاف مؤكَدة، والمعنى ليس مثله شيء، ولا يجوز أن يقال: المعنى مثلَ مثلِهِ شيء، لأن من قال هذا فقد أثبت المثل للَّهِ تعالى عن ذلك عُلُوًّا كَبيراً (1). * * * قوله: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) روي في التفسير أن أول من أتى بتحريم البنات والأخَوَات والأمهات نوح. (وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى). أي وشرع لكم ما وصى به إبراهيم وموسى وعيسى. وقوله عزَّ وَجَل: (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ).

_ (1) قال السَّمين: قوله: {فَاطِرُ}: العامَّةُ على رفعِه خبراً ل «ذلكم» أو نعتاً ل «ربِّي» على تَمَحُّضِ إضافتِه. و «عليه توكَّلْتُ» معترضٌ على هذا، أو مبتدأ، وخبرُه «جَعَلَ لكم» أو خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: هو. وزيد بن علي: «فاطرِ» بالجرِّ نعتاً للجلالةِ في قوله: «إلى اللَّهِ»، وما بينهما اعتراضٌ أو بدلاً مِن الهاء في «عليه» أو «إليه». وقال مكيٌّ: «وأجاز الكسائيُّ النصبَ على النداء». وقال غيرُه: على المدح. ويجوزُ في الكلامِ الخفضُ على البدلِ من الهاءِ في «عليه». قلت: قد قرأ بالخفضِ زيدُ بن علي. وأمَّا نصبُه فلم أحفَظْه قراءةً. قوله: «يَذْرَؤُكُمْ فيه» يجوزُ أَنْ تكونَ «في» على بابِها. والمعنى: يُكَثِّرُكُمْ في هذا التدبير، وهو أنْ جَعَلَ للناسِ والأنعام أزواجاً حتى كان بين ذُكورِهم وإناثِهم التوالُدُ. والضميرُ في «يَذرَؤُكم» للمخاطبين والأنعامِ. وغَلَّب العُقلاءَ على غيرِهم الغُيَّبِ. قال الزمخشري: «وهي/ من الأحكامِ ذاتِ العلَّتَيْن». قال الشيخ: «وهو اصطلاحٌ غريبٌ، ويعني: أنَّ الخطابَ يُغَلَّبُ على الغَيْبة إذا اجتمعا». ثم قال الزمخشريُّ: «فإنْ قلت: ما معنى يَذْرَؤُكم في هذا التدبيرِ؟ وهلا قيل يَذْرَؤُكم به. قلت: جُعِل هذا التدبيرُ كالمَنْبَع والمَعدِنِ للبَثِّ والتكثيرِ. ألا تَراك تقول: للحَيَوان في خلق الأزواج تكثير، كما قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ} [البقرة: 179]. والثاني: أنها للسببية كالباء أي: يُكَثِّرُكم بسبِبه. والضميرُ يعودُ للجَعْلِ أو للمخلوقِ». قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} في هذه الآيةِ أوجهٌ، أحدُها - وهو المشهورُ عند المُعْرِبين - أنَّ الكافَ زائدةٌ في خبرِ ليس، و «شيءٌ» اسمُها. والتقدير: ليس شيءٌ مثلَه. قالوا: ولولا ادِّعاءُ زيادتِها لَلَزِمَ أَنْ يكونَ له مِثْلٌ. وهو مُحالٌ؛ إذ يَصيرُ التقديرُ على أصالةِ الكاف: ليس مثلَ مثلِه شيءٌ، فنفى المماثلةَ عن مثلِه، فثبَتَ أنَّ له مثْلاً، لا مثلَ لذلك المَثَلِ، وهذا مُحالٌ تَعالى اللَّه عن ذلك. وقال أبو البقاء: «ولو لم تكنْ زائدةً لأَفْضَى ذلك إلى المُحال؛ إذ كان يكونُ المعنى: أنَّ له مِثْلاً وليس لمثلِه مِثْلٌ. وفي ذلك تناقضٌ؛ لأنَّه إذا كان له مِثْلٌ فلِمِثْله مِثْلٌ وهو هو، مع أنَّ إثباتَ المِثْلِ لله تعالى مُحالٌ». قلت: وهذه طريقةٌ غريبةٌ في تقريرِ الزيادةِ، وهي طريقةٌ حسنةٌ فيها حُسْنُ صناعةٍ. والثاني: أنَّ مِثْلاً هي الزائدةُ كزيادتِها في قوله تعالى: {بِمِثْلِ مَآ آمَنْتُمْ بِهِ} [البقرة: 137]. قال الطبري: «كما زِيْدَتِ الكافُ في قوله: 3966 وصَالياتٍ كَكَما يُؤَثْفَيْنْ. . . وقولِ الآخر: 3967 - فصُيِّروا مثلَ كعَصْفٍ مَأْكُوْلْ. . . وهذا ليس بجيدٍ؛ لأنَّ زيادةَ الأسماءِ ليسَتْ بجائزةٍ. وأيضاً يصيرُ التقديرُ ليس ك هو شيءٌ، ودخولُ الكافِ على الضمائرِ لا يجوزُ إلاَّ في شعرٍ. الثالث: أنَّ العربَ تقولُ «مثلُكَ لا يَفْعَلُ كذا» يعْنُون المخاطبَ نفسَه؛ لأنَّهم يُريدون المبالغةَ في نَفْيِ الوصفِ عن المخاطب، فينفونَها في اللفظِ عن مثلِه، فَيَثْبُتُ انتفاؤُها عنه بدليلِها. ومنه قول الشاعر: 3968 على مِثْلِ ليلى يَقْتُل المرءُ نفسَه. . . وإنْ باتَ مِنْ ليلى على اليأس طاويا وقال أوس بن حجر: 3969 ليس كمثلِ الفتى زُهَيْرٍ. . . خَلْقٌ يُوازِيه في الفضائلِ وقال آخر: 3970 سَعْدُ بنُ زيدٍ إذا أبصرْتَ فضلَهُمُ. . . فما كمِثْلِهِمْ في الناسِ مِنْ أَحَدِ قال ابن قتيبة: «العرب تُقيم المِثْلَ مُقامَ النفسِ فتقول: مثلي لا يُقال له هذا، أي: أنا لا يُقال لي». قيل: و [نظيرُ] نسبةُ المِثْل إلى مَنْ لا مِثْل له قولُك: فلانٌ يدُه مبسوطةٌ تريد أنه جَوادٌ، ولا نَظَرَ في الحقيقة إلى اليد، حتى تقولُ ذلك لمَنْ لا يَدَ له كقولِه تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64]. الرابع: أَنْ يُرادَ بالمِثْلِ الصفةُ، وذلك أنَّ المِثْلَ بمعنى المَثَلَ والمَثَلُ الصفةُ، كقولِه تعالى: {مَّثَلُ الجنة} [الرعد: 35] فيكونُ المعنى: ليس مِثْلُ صفتِه تعالى شيءٌ من الصفات التي لغيرِه، وهو مَحْمَلٌ سهلٌ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(14)

تفسير قوله: (ما وَصى بِهِ إبْرَاهِيمَ) - وموضع " أن " يجوز أن يكونَ نَصْباً وَرَفْعاً وَجَرَّا. فالنصْبُ على معنى شرع لكم أن أقيموا الدِّينَ. والرفع على معنى هو أن أقيموا الدِّينَ، والجر على البدل من الباء، والجر أَبْعَدُ هذه الوُجُوه، وجائز أن يكونَ أن أقيموا الدِّينَ تفسيراً لما وصى به نوحاً ولقوله (والذي أوحينا إليك) ولقوله: (وما وَصيْنَا بِهِ إبرَاهِيم). فيكون المعنى: شرع لكم وَلمَنْ قبلكم إقامة الدِّينِ وَتَركَ الفرقة، وشرع الاجتماع على اتباع الرسُلِ * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14) أي وما تفرق أهل الكتاب إلا عَنْ علْم بأن الفرقة ضَلاَلَةٌ ولكنهم فعلوا ذلك بغياً أي للبغي. وقوله: (وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ). أي لَجُوزُوا بأعمالهم، والكلمة هي تأجيله الساعة، يدل على ذلك قوله: (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ). * * * وقوله: (فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) (فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ). معناه فإلى ذلك فادع واستقم أي إلى إقامَةِ الدِّين (فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ). أي آمَنْتُ بكتب اللَّه كُلِّهَا، لأن الذين تفرقوا آمنوا ببعض الكتب وكفروا ببعض. * * * وقوله: (اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) (الْمِيزَان) العدل (وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ). إنما جاز (قَرِيبٌ) لأن تأنيث الساعة غير تأنيث حقيقي، وهو بمعنى لعل

(18)

البعث قريب، ويجوز أن يكون على معنى لعَل مجيء السَّاعَةِ قريب. (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18) أي يستعجل بها من يظن أنه غير مبعوث. وقوله: (وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا). لأنهم يعلمون أنهم مبعوثون مُحَاسبُون. (أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ). أي الذين تدخلهم المرية والشك في الساعة، فيمارون فيها ويجحدون كونها (لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ)، لأنهم لو فكروا لعلموا أن الذي أنشاهم وخلقهم من تراب ثم من نطفة ثم من عَلَقةٍ إلى أن بَلَغُوا مَبَالِغَهُمْ، قادر على إنشائهم وبعْثِهِمْ. * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20) جاء في التفسير أن معناه مَنْ كان يُرِيدُ عمل الآخرة. فالمعْنَى - واللَّه أعلم - أنه من كان يريد جَزاءَ عمل الآخرة نزِدْ له في حرثه، أي نوفقه، ونضاعف له الحسنات. ومن كان يُريدُ حرث الدنيا، أي مَنْ كَانَ إنما يقْصِدُ إلى الحظِّ من الدنيا وهو غير مؤمن بالآخرة نؤته من الدنيا أي نرزُقه من الدنيا لا أنه يُعطَى كل ما يريدُهُ وإذا لم يؤمن بالآخرة فلا نصيب له في الخير الذي يصل إليه من عمل الآخرة. * * * وقوله: (تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22) أي تراهم مشفقين من ثواب ما كسبوا، وثواب ما كسبوا النار. (وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ) أي وثواب كسْبِهِمْ وَاقِعٌ بِهِمْ.

(23)

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ). أي: والظالِمُونَ لهم النار، والمؤمنون لهم الجنة. * * * وقوله: (ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23) يقرأ: يُبَشِّرُ ويَبْشرُ، وُيبْشِرُ وقوله: (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى). أي إلا أن تودوني في قرابتي. وجاء في التفسير عن ابن عباس رحمه الله أنه قال: ليس حي من قريش إلا وللنبي - صلى الله عليه وسلم - فيه قرابة، وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لقريش: أنتم قرابتي وأول من أجابني وأَطَاعَنِي، وروي أن الأنصار أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: قد هدانا اللَّه بك وأنْتَ ابن أختنا، وأتوه بنفقة يستعين بها على ما ينوبه، فأنزل اللَّه عزَّ وجلَّ: (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى). قال أبو إسحاق: وَنَصْبُ (الْمَوَدَّةَ) أن يكون بمعنى استثناء ليس من الأول. لا على معنى أسالكم عليه أجراً المودة في القُرْبَى، لأن الأنبياء صلوات اللَّه عليهم لا يسألون أجراً على تبليغ الرسالة، والمعنى - واللَّه أعلم - ولكنني أذكركم الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى. قوله: (وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا). أي من يعمل حسنة نضاعِفْها له (1). (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ). غفور للذنوب قبول للتوبة مثيب عليها. * * * وقوله - عزَّ وجلَّ -: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24)

_ (1) قال السَّمين: قوله «إلاَّ المودَّةَ» فيها قولان، أحدهما: أنَّها استثناءٌ منقطعٌ؛ إذ ليسَتْ من جنسِ الأَجْرِ. والثاني: أنه متصلٌ أي: لا أسألُكم عليه أجراً إلاَّ هذا. وهو أَنْ تَوَدُّوا أهلَ قرابتي ولم يكنْ هذا أجراً في الحقيقةِ؛ لأنَّ قرابتَه قرابتُهم فكانت صلتُهم لازمةً لهم في المروءةِ، قاله الزمخشري. وقال أيضاً: «فإنْ قلت: هلاَّ قيل: إلاَّ مودةَ القُرْبَى، أو إلاَّ المودةَ للقُرْبى. قلت: جُعِلوا مكاناً للمودَّةِ ومَقَرًّا لها كقولِك: لي في آل فلان مَوَدَّة، وليست» في «صلةً للمودةِ كاللامِ إذا قلتَ: إلاَّ المودةَ للقربى، إنما هي متعلقةٌ بمحذوفٍ تَعَلُّقَ الظَرفِ به في قولك:» المالُ في الكيس «، وتقديرُه: إلاَّ المودةَ ثابتةً في القُرْبَى ومتمكنةً فيها». قلت: وأحسنُ ما سَمِعْتُ في معنى هذه الآيةِ حكايةُ الشعبيِّ قال: أَكْثَرَ الناسُ علينا في هذه الآيةِ فكتَبْنا إلى ابن عباس نسألُه عنها. فكتب: أنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم كان أوسطَ الناسِ في قريش، ليس بطنٌ مِنْ بطونهم إلاَّ قد وَلَدَه، فقال الله تعالى: قل لا أسألُكم عليه أَجْراً إلاَّ أن تَوَدُّوني في قَرابتي منكم فارْعَوْا ما بيني وبينكم فصَدِّقوني. وقال أبو البقاء: «وقيل: متصلٌ أي/: لا أسألكم شيئاً إلاَّ المودةَ». قلت: وفي تأويلِه متصلاً بما ذَكَر، نظرٌ لمجيئه ب «شيء» الذي هو عامٌّ، وما مِنْ استثناءٍ منقطع إلاَّ ويمكن تأويلُه بما ذَكَر، ألا ترى إلى قولِك: «ما جاءني أحدٌ إلاَّ حمارٌ» أنه يَصِحُّ: ما جاءني شيءٌ إلاَّ حماراً. وقرأ زيد بن علي «مَوَدَّة» دون ألفٍ ولام. قوله: {نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً} العامَّةُ على «نَزِدْ» بالنون للعظمة. وزيد ابن علي وعبدُ الوارث عن أبي عمروٍ «يَزِدْ» بالياءِ مِنْ تحتُ أي: يَزِدِ اللَّهُ. والعامَّةُ على «حُسْناً» بالتنوين مصدراً على فُعْل نحو: شُكْر. وهو مفعولٌ به. وعبدُ الوارث عن أبي عمرو «حُسْنى» بألفِ التأنيث على وزنِ بُشْرَى ورُجْعَى وهو مفعولٌ به أيضاً. ويجوز أَنْ يكونَ صفةً ك فُضْلَى، فيكونَ وصفاً لمحذوف أي خَصْلَةً حسنى. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(26)

معناه فإن يشأ اللَّه يُنْسِكَ ما أتاك، كذلك قال قتادة. ويجوز (فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ) يربط على قلبك بالصبر على أذاهم وعلى قولهم (افترى على اللَّه كَذِباً). (ويمحو اللَّه الباطل)، الوقوف عليها (ويمحوا) بواو وألف لأن المعنى واللَّه يمحو الباطل على كل حال، وكتبت في المصحف بغير واو لأن الواو تسقط في اللفظ لالتقاء السَّاكنين، فكتبت على الوصل. ولفظ الواو ثابت، والدليل عليه (ويحق الحق بكلماته)، أي ويمحو اللَّه الشرك ويحق الحق بما أنزله من كتابه على لسان نبيِّهِ عليه السلام. * * * وقوله: (وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26) المعنى ويجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات. * * * قوله عزَّ وجلَّ: (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28) ويقرأ (قَنِطُوا) بكسر النون، يقال قَنط يقنِطُ، وقَنِطَ يَقْنَطُ إذا - يئس. ويروى أن عمر قيل له قد أَجْدَبَتِ الأرض وَقَنِط الناسُ فقال: مُطِرُوا إذَنْ، لهذه الآية. * * * وقوله: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30) (وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا. . .). وهي في مصحف أهل المدينة (بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) - بغَيرِ فَاء -، وكذلك يقرأونها خلا أَبَا جَعفر فإنه يثبت الفاء وهي في مصاحف أهل العراق بالفاء. وكذلك قراءتهم، وهو في العربية أجود لأن الفاء مجازاة جواب الشرط. المعنى ما تُصِبْكُمْ من مُصِيبَةٍ فبما كسبت أيديكم. وقرئت (ويعْلَمُ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ) والنصب على إضمار أن (1)، لأن قبلها جزاء، تقول: ما تصنع أصنع مثله وأُكْرِمَكَ، وإن شئت قلت وَأُكْرِمُكَ على وَأَنا أكرمك، وإن شئت: وَأُكْرِمْكَ جزماً.

_ (1) قال السَّمين: قوله: {وَيَعْلَمَ الذين يُجَادِلُونَ}: قرأ نافعٌ وابنُ عامر برفعِه. والباقون بنصبِه. وقُرِئ بجزمِه أيضاً. فأمَّا الرفعُ فهو واضحٌ جداً، وهو يحتملُ وجهين: الاستئنافَ بجملةٍ فعليةٍ، والاستئنافَ بجملةٍ اسميةٍ، فتُقَدِّرُ قبل الفعل مبتدأً أي: وهو يعلمُ الذين، فالذين على الأول فاعلٌ، وعلى الثاني مفعولٌ. فأمَّا قراءةُ النصبِ ففيها أوجهٌ، أحدُها: قال الزجَّاج: «على الصَّرْف». قال: «ومعنى الصرفِ صَرْفُ العطف عن اللفظ إلى العطفِ على المعنى». قال: «وذلك أنَّه لَمَّا لم يَحْسُنْ عطفُ» ويعلَمْ «مجزوماً على ما قبلَه إذ يكونُ المعنى: إنْ يَشَأْ/ يَعْلَمْ، عُدِل إلى العطف على مصدرِ الفعلِ الذي قبلَه. ولا يتأتَّى ذلك إلاَّ بإضمار» أنْ «ليكونَ مع الفعلِ في تأويلِ اسم». الثاني: قولُ الكوفيين أنه منصوبٌ بواوِ الصرف. يَعْنُون أنَّ الواوَ نفسَها هي الناصبةُ لا بإضمارِ «أنْ»، وتقدَّم معنى الصرف. الثالث: قال الفارسيُّ - ونقله الزمخشري عن الزجاج - إن النصب على إضمار «أنْ»؛ لأنَّ قبلها جزاءً تقول: «ما تصنعْ أصنعْ وأكرمَك» وإنْ شِئْتَ: وأكرمُك، على وأنا أكرِمُك، وإنْ شِئْتَ «وأكرمْك» جزْماً. قال الزمخشري: «وفيه نظرٌ؛ لِما أَوْردَه سيبويه في كتابه» قال: «واعلَمْ أنَّ النصبَ بالواوِ والفاء في قوله:» إنْ تَأْتِني آتِك وأعطيكَ «ضعيفٌ، وهو نحوٌ مِنْ قولِه: 3978. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وأَلْحَقُ بالحجازِ فَأَسْتريحا فهذا لا يجوزُ، لأنه ليس بحَدِّ الكلامِ ولا وجهِه، إلاَّ أنه في الجزاء صار أقوى قليلاً؛ لأنه ليس بواجبٍ أنَّه يفعلُ، إلاَّ أَنْ يكونَ من الأولِ فِعْلٌ، فلمَّا ضارَعَ الذي لا يُوْجِبُهُ كالاستفهام ونحوِه أجازوا فيه هذا على ضَعْفِه». قال الزمخشري: «ولا يجوزُ أَنْ تُحْمَلَ القراءةُ المستفيضةُ على وجهٍ ليس بحَدِّ الكلامِ ولا وجهِه، ولو كانَتْ من هذا البابِ لَما أَخْلَى سيبويه منها كتابَه، وقد ذَكَرَ نظائرَها مِن الآياتِ المُشْكِلة». الرابع: أَنْ ينتصِبَ عطفاً على تعليلٍ محذوفٍ تقديرُه: لينتقمَ منهم ويعلمَ الذين، ونحوُه في العطفِ على التعليلِ المحذوفِ غيرُ عزيزٍ في القرآن. ومنه: {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلْنَّاسِ} [مريم: 21] وخَلَق اللَّهُ السماواتِ والأرضَ بالحقِّ، ولِتُجْزَى «قاله الزمخشري. قال الشيخ:» ويَبْعُدُ تقديرُه: لِيَنْتَقِمَ منهم؛ لأنه تَرَتَّبَ على الشرطِ إهلاكُ قومٍ ونجاةُ قومٍ فلا يَحْسُنُ لينتَقِمَ منهم. وأمَّا الآيتان فيمكنُ أَنْ تكونَ اللامُ متعلقةً بفعلٍ محذوفٍ تقديرُه: ولنجعلَه آيةً للناسِ فَعَلْنا ذلك، ولُتْجزَى كلُّ نفسٍ فَعَلْنا ذلك، وهو - كثيراً - يُقَدِّرُ هذا الفعل مع هذه اللامِ إذا لم يكنْ فعلٌ يتعلَّقُ به «. قلت: بل يَحْسُنُ تقديرُ» لينتقمَ «لأنَّه يعودُ في المعنى على إهلاكِ قومٍ المترتبِ على الشرط. وأمَّا الجزمُ فقال الزمخشري:» فإنْ قلتَ: كيف يَصِحُّ المعنى على جزم «ويعلَمْ»؟ قلت: كأنه قيل: إنْ يَشَأْ يَجْمَعْ بين ثلاثةِ أمور: إهلاكِ قومٍ، ونجاةِ قومٍ، وتحذيرِ آخرين «. وإذا قُرِئَ بالجزم فتُكْسَرُ الميمُ لالتقاءِ الساكنين. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(37)

وروي عن علي رضي اللَّه عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: إن اللَّه أكرم من أن يَثْنيَ على عبده العُقوبَةَ، أي إذا أصابته في الدنيا مصيبة بما كسبت يداه لم يثن عليه العقوبة في الآخرة. وأما من قرأ: (وما أصابكم مِنْ مُصِيبَةٍ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكم ويعفو عن كثير) أي لا يجازى على كثير مما كسبت أيديكم قي الدنيا، وجائز أن يكون (يَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) فلا يجازى عليه في الدنيا ولا في الآخرة. ومعنى: (مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ). ما لهم من مَعْدِلٍ، ولا مِنْ مَنجى، يقال حاص عنه إذا تنحى، ويقال حاض عنه في معنى حاص، ولا يجوز أن يقرأ ما لهم من محيض، وأن كان المعنى واحداً. فأمَّا موضع (الذين) في قوله: (وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) فيجوز أن يكون نصباً، ويجوز أن يكون رفعاً. فمن نصب فعلي معنى ويجيب اللَّه الذين آمنوا وعملوا الصالحات. ومن رفع فعلى معنى يستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات للَّهِ - عزَّ وجلَّ - أي لما يدعوهم اللَّه إليه. * * * وقوله: (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) موضع (الَّذِينَ) خفض صفة لقوله (لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ). و (كَبَائِرَ الْإِثْمِ)، قال بعضهم كل ما وعد اللَّه عليه النار فهو كبيرة. وقيل الكبائر من أول سورة النساء من قوله: (وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ) إلى قوله: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ). وقد قيل: الكبائر الشرك باللَّهِ، وقتل النفس التي حرم اللَّه، وقذف المحصنات، وعقوق الوالدين، وأكل مال اليتيم، والفرار من الزحف، واستحلال الحرام. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38)

(39)

(الذين) في موضع خفض أيضاً، على معنى وما عند اللَّهِ خَيْرٌ وأبقى للذين آمنوا وللذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة. وقوله: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ). أي لا ينفردون برأي حتى يجتمعوا عليه، وقيل إنه ما تشاور قوم قَط - إلا هُدُوا لأحسن ما يحضرهم. * * * (وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) جاء في التفسير أنهم كانوا يكرهون أَنْ يَذلوا أَنْفُسَهُم. فيجترئ عليهم الفساق. وروي أنها نزلت في أبي بكر الصديق. فإن قال قائل: أهم محمودون على انتصارهِم أم لا؟ قيل هم محمودون؛ لأن من انتصر فأخذ بحقه ولم يجاوز في ذلك ما أمر اللَّه به فلم يُسْرِفْ في القتل إن كان ولي دم ولا في قصاص فهو مطيع للَّهِ عزَّ وجلَّ، وكل مطيع محمود، وكذلك من اجتنب المعاصي فهو محمود، ودليل ذلك قوله: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31). * * * وقوله: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) فالأولى (سيئة) في اللفظ والمعنى، والثانية (سيئة) في اللفظ، عاملها ليس بمسيء، ولكنها سميت سيئة لأنها مجازاة لسوء فإنما يجازي السوء بمثله. والمجازاة به غيْرُ سيّئة توجب ذَنْباً، وَإنَّمَا قيل لها سيئة ليعلم أَن الجَارِحَ والجاني يُقْتَص مِنْهُ بمقدار جنايته. وهذا مثل قوله تعالى: (فَمِن اعتدى عليكم فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) تأويله كافئوه بمثله، وعلى هذا كلام العرب. * * * وقوله: (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)

(45)

أي الصابر يؤتى بصبره ثواباً فكل من زادت رغبته في الثواب فهو أتمُّ عَزْم، وقد قال بعض أهل اللغة إن معنى قوله تعالى: (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) أن منه القصاصَ والعفوَ. فالعفو أحسنه (1). * * * وقوله تعالى: (وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (45) (يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ). يعني ينظرون إلى النار من طرف خَفِي، قال بعضهم إنهم يُحْشرونَ عُمْياً فيرونَ النارَ بِقُلوِبهِمْ إذا عُرِضُوا عَلَيْها، وقيل ينظرونَ إليها مُسَارَقَة. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) (مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ). أي ليس لكم مَخلَصٌ من العَذَابِ، ولا تَقْدِرُون أن تنكروا ما تقفون عليه مِنْ ذُنُوبَكُمْ ولا ما يَنْزِلُ بِكُمْ مِنَ العَذَابِ. * * * وقوله: (يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50) أي ويجعل ما يهبه من الولد ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا. فمعنى (يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا) أي يُقْرِنُهُمْ، وكل اثنين يقترن أحدُهما بالآخر فهما زوجان، كل واحد منهما يقال له زوج. تقول: عندي زوجان من الخفاف، يعني أن عندك من العدد اثنين أي خُفيْن، وكذلك المرأة وزوجها زوجان (2). وقوله: (وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا). أي يجعل المرأة عقيماً، وهي - التي لا تَلِدُ، وكذلك رَجُلُ عقيم أيْضاً لا يولد له، وكذلك الريح العقيم التي لا يكون عنها مطر وَلَا خيْر. * * * وقوله: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51)

_ (1) قال السَّمين: قوله: {وَلَمَن صَبَرَ}: الكلامُ في اللام بَيِّنٌ كما تقدَّم. فإنْ جَعَلْتَها شرطيةً ف «إنَّ» جوابُ القسمِ المقدَّر، وحُذِفَ جوابُ الشرطِ للدلالةِ عليه. وإنْ كانَتْ موصولةً كان «إنَّ ذلك» هو الخبرُ. وجَوَّز الحوفي وغيرُه أن تكونَ «مَنْ» شرطيةً، وأنَّ ذلك جوابُها على حَذْفِ الفاء على حَدِّ حَذْفِها في البيت المشهور: 3979 مَنْ يَفْعَلِ الحَسَناتِ. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وفي الرابط قولان، أحدُهما: هو اسمُ الإِشارةِ إذا أُريد به المبتدأُ، ويكون حينئذٍ على حَذْفِ مضافٍ، تقديره: إنَّ ذلك لَمِنْ ذوي عَزْمِ الأمور والثاني: أنه ضميرٌ محذوفٌ تقديرُه: لمِنْ عَزْمِ الأمورِ منه، أوله. وقولُه: «ولَمَنْ صَبَرَ» عطفٌ على قولِه: «ولَمَنِ انتصَرَ». والجملةُ مِنْ قولِه: «إنما السبيلُ» اعتراضٌ. اهـ (الدُّرُّ المصُون). (2) قال السَّمين: قوله: {ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً}: حالٌ، وهي حالٌ لازمةٌ، وسَوَّغ مجيْئَها كذلك: أنَّها بعدما يجوزُ أَنْ يكونَ الأمرُ على خلافه؛ لأنَّ معنى «يُزَوِّجُهم» يَقْرِنُهم. قال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: لِمَ قَدَّم الإِناثَ أولاً على الذكورِ مع تقديمِهم عليهنَّ، ثم رَجَعَ فقدَّمَهم؟ ولِمَ عَرَّف الذكورَ بعدما نَكَّر الإِناثَ؟ قلت: لأنَّه ذكر البلاءَ في آخر الآية الأولى، وكفرانَ الإِنسان بنسيانِه الرحمةَ السابقةَ، ثم عَقَّبَ بذِكْر مُلْكِه ومشيئتِه وذكرَ قسمةَ الأولادِ فقدَّم الإِناثَ؛ لأنَّ سياق الكلامِ أنه فاعلُ ما يشاءُ لا ما يشاؤه الإِنسانُ، فكان ذِكْرُ الإِناثِ التي مِنْ جملة ما لا يَشاؤه الإِنسانُ أهمَّ، والأهمُّ واجبُ التقديمِ، ولِيَليَ الجنسَ الذي كانت العربُ تَعُدُّه بلاءً، ذكر البلاء، وأخَّر الذكورَ، فلمَّا أَخّرهم تدارَك تأخيرَهم وهم أَحِقَّاءُ بالتقديم بتعريفَهم؛ لأنَّ تعريفَهم فيه تَنْويهٌ وتشهيرٌ، كأنه قال: ويَهَبَ لمَنْ يشاءُ الفرسانَ الأعلامَ المذكورين الذين لا يَخْفَوْن عليكم، ثم أعطى بعد ذلك كلا الجنسَيْن حقَّه من التقديمِ والتأخيرِ، وعَرَّفَ أنَّ تقديمَهن لم يكُنْ لتقدُّمِهنَّ ولكنْ لمقتضٍ آخر، فقال: ذُكْراناً وإناثاً، كما قال: {إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأنثى} [الحجرات: 13] {فَجَعَلَ مِنْهُ الزوجين الذكر والأنثى} [القيامة: 39]. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(52)

يقرأ (أَوْ يُرْسِلُ) برفع. (يُرْسِلُ) و (فيوحِي) بإسكان الياء. والتفسير أن كلام الله للبشر إما أن يكون برسالة مَلَكٍ إليْهِمْ كما أرسل إلى أنبيائه، أو من وراء حجاب كما كلم موسى عليه السلام، أو بإلهام يُلْهِمُهُمْ. قال سيبويه: سَألت الخليلَ عن قوله تعالى (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا) بِالنصْبِ. فقال: (يُرْسِل) محمول على " أن يوحي " هذه التي في قوله أن يكلمَهُ اللَّه. قال لأن ذلك غير وجه الكلام لأنه يصرف المعنى: ما كان لبشر أن يرسل اللَّه رسولا، وذلك غير جائز، لأن ما نرسل محمول على وحي. المعنى ماكان لبشر أن يكلمه اللَّه إلا بأن يوحي أو أن يرسل. ويجوز الرفع في (يُرْسِلُ) على معنى الحال، ويكون المعنى: ما كان لبشر أن يكلمه اللَّه إلا موحياً أو مرسلاً رسولًا كذلك كلامُهُ إيَّاهُمْ. قال الشاعر: وخيل قد دَلَفْتُ لها بخيلٍ. . . تحية بينهم ضربٌ وجيعُ ومثل قوله: (أَوْ يُرْسِلَ) بالنصب قوله الشاعر: ولولا رجالٌ من رِزامٍ أَعِزَّةٌ وآلُ سُبَيْعٍ أو أََسُوءَكَ عَلْقَما والمعنى أو أن أسوءك. وقال: ويجوز أن يرفع " أو يرسلُ " على معنى أو هو يرسلُ، وهذا قول الخليل وسيبويه وجميع من يوثق بعلمه (1). * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)

_ (1) قال السَّمين: قوله: {أَن يُكَلِّمَهُ الله}: «أَنْ» ومنصوبُها اسمُ كان وليس «خبرَ» «ما». وقال أبو البقاء: «أَنْ والفعلُ في موضع رفعٍ على الابتداءِ وما قبلَه الخبرُ، أو فاعلٌ بالجارِّ لاعتمادِه على حرفِ النفي» وكأنه [وَهِمَ في التلاوةِ، فزعَم أنَّ القرآنَ: وما لبشَرٍ أَنْ يُكَلِّمه] مع أنَّه يمكنُ الجوابُ عنه بتكلُّفٍ. و «إلاَّ وَحْياً» يجوزُ أَنْ يكونَ مصدراً أي: إلاَّ كلامَ وَحْيٍ. وقال أبو البقاء: «استثناءٌ منقطعٌ؛ لأنَّ الوَحْيَ ليس من جنس الكلام» وفيه نظرٌ لأنَّ ظاهرَه أنه مُفرَّغٌ، والمفرَّغُ لا يُوْصَفُ بذلك. ويجوزُ أَنْ يكونَ مصدراً في موضعِ الحال. قوله: «أو يُرْسِل» قرأ نافعٌ «يُرْسِلُ» برفع اللامِ، وكذلك «فيوحِيْ» فسَكَنَتْ ياؤُه. والباقون بنصبهما. فأمَّا القراءةُ الأولى ففيها ثلاثة أوجهٍ، أحدها: أنَّه رفعٌ على إضمارِ مبتدأ أي: أو هو يُرْسِلُ. الثاني: أنه عطفٌ على «وَحْياً» على أنَّه حالٌ؛ لأنَّ وَحْياً في تقديرِ الحال أيضاً، فكأنه قال: إلاَّ مُوْحِياً أو مرسِلاً. الثالث: أَنْ يُعْطَفَ على ما يتعلَّقُ به «من وراءه»، إذ تقديرُه: أو يُسْمِعُ مِنْ وراءِ حجاب، و «وَحْياً» في موضعِ الحال، عُطِف عليه ذلك المقدَّرُ المعطوفُ عليه «أَوْ يُرْسِلُ». والتقدير: إلاَّ مُوْحِياً أو مُسْمِعاً مِنْ وراءِ حجابٍ، أو مُرْسِلاً. وأمَّا الثانيةُ ففيها ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أَنْ يُعْطَفَ على المضمرِ الذي يتعلَّقُ به {مِن وَرَآءِ حِجَابٍ} إذ تقديرُه: أو يُكَلِّمه مِنْ وراءِ حجابٍ. وهذا الفعلُ المقدَّر معطوفٌ على «وَحْياً» والمعنى: إلاَّ بوَحْي أو إسماعٍ مِنْ وراءِ حجاب أو إرسالِ رسولٍ. ولا يجوزُ أَنْ يُعَطفَ على «يكلِّمَه» لفسادِ المعنى. قلت: إذ يَصيرُ التقديرُ: وما كان لبشَرٍ أن يُرْسِلَ اللَّهُ رسولاً، فَيَفْسُدُ لَفْظاً ومعنى. وقال مكي: «لأنَّه يَلْزَم منه نَفْيُ الرسلِ ونفيُ المُرْسَلِ إليهم». الثاني: أَنْ يُنْصَبَ ب «أنْ» مضمرةً، وتكونَ هي وما نَصَبَتْه معطوفَيْن على «وَحْياً» و «وَحْياً» حالٌ، فيكونَ هنا أيضاً [حالاً: والتقدير: إلاَّ مُوْحِياً أو مُرْسِلاً]. وقال الزمخشري: «وَحْياً وأَنْ يُرْسِلَ مصدران واقعان موقعَ الحال؛ لأنَّ أَنْ يُرْسِلَ في معنى إرسالاً. و {مِن وَرَآءِ حِجَابٍ} ظرفٌ واقعٌ موقعَ الحالِ أيضاً، كقوله: {وعلى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 191]. والتقدير: وما صَحَّ أَنْ يُكَلَّم أحداً إلاَّ مُوْحياً أو مُسْمِعاً مِنْ وراءِ حجاب أو مُرسِلاً». وقد رَدَّ عليه الشيخُ: بأنَّ وقوعَ المصدرِ موقعَ الحالِ غيرُ منقاسٍ، وإنما قاسَ منه المبردُ ما كان نوعاً للفعلِ فيجوزُ: «أتيتُه رَكْضاً» ويمنعُ «أَتَيْتُه بكاءً» أي: باكياً. وبأنَّ «أَنْ يُرْسِلَ» لا يقعُ حالاً لنصِّ سيبويه على أنَّ «أَنْ» والفعلَ لا يَقَعُ حالاً، وإن كان المصدرُ الصريحُ يقع حالاً تقولُ: «جاء زيد ضَحِكاً»، ولا يجوز «جاء أَنْ يضحكَ». الثالث: أنَّه عطفٌ على معنى «وَحْياً» فإنَّه مصدرٌ مقدَّرٌ ب «أنْ» والفعلِ. والتقديرُ: إلاَّ بأَنْ يوحيَ إليه أو بأَنْ يُرْسِلَ، ذكره مكي وأبو البقاء. وقوله: {أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ} العامَّةُ على الإِفراد. وابنُ أبي عبلةَ «حُجُبٍ» جمعاً. وهذا الجارُّ يتعلَّقُ بمحذوفٍ تقديرُه: أو يُكَلِّمَه مِنْ وراء حجاب. وقد تقدَّم أن هذا الفعلَ معطوفٌ على معنى وَحْياً أي: إلاَّ أَنْ يوحيَ أو يكلِّمَه. قال أبو البقاء: «ولا يجوزُ أَنْ تتعلَّق» مِنْ «ب» يُكَلِّمَه «الموجودةِ في اللفظِ؛ لأنَّ ما قبل الاستثناءِ لا يعملُ فيما بعد إلاَّ»، ثم قال: «وقيل:» مِنْ «متعلِّقةٌ ب» يُكلِّمه «لأنه ظرفٌ، والظرفُ يُتَّسَعُ فيه». اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(53)

أي فعلنا في الوحي اليك كما فعلنا بالرسل من قبلك. وموضع (كَذَلِكَ) نصبٌ بقوله (أَوْحَيْنا). ومعنى (رُوحاً مِن أمْرِنَا) ما نحيي به الخلق من أمرنا. أي ما يُهْتَدَى به فيكون حيًّا. وقوله: (مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا) ولم يقل جَعَلْنَاهُمَا لأن المعنى ولكن جعلنا الكتاب نُوراً، وهو دليل على الإيمان. وقوله: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ). ويقرأ: (وَإِنَّكَ لتُهْدي)، فمن قرأ (لَتَهْدِي)، فالمعنى تهدي بما أوحينا إليك إلى صراط مستقيم، ويجوز أن يَكونَ (لَتُهْدَى) مخاطبة للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأُمَّتِه، فيكون المعنى وإنك وأمتك لتُهدَوْنَ إلى صراط مستقيم، كما قال: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ) فهو بمنزلة يا أيها الناس المؤمنون إذا طلقتم النساء (1). * * * وقوله: (صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53) (صِرَاطِ اللَّهِ) خفض بدل من (صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ). المعنى وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطِ اللَّه. ويجوز (صِرَاطُ اللَّهِ) بالرفع، و (صِرَاطَ اللَّهِ) بالنصب. ولا أعلم أحدا قرأ بهما ولا بواحدة منهما، فلا تقرأنَّ بواحدة منهما لأن القراءة سُنَّة. لا تخالف، وإن كان ما يقرأ به جائزاً في النحو.

_ (1) قال السَّمين: قوله: {مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكتاب}: «ما» الأولى نافيةٌ، والثانيةُ استفهاميةٌ. والجملةُ الاستفهامية معلِّقَةٌ للدِّراية فهي في محلِّ نصبٍ لسَدِّها مَسَدَّ مفعولَيْنِ. والجملةُ المنفيةُ بأَسْرِها في محلِّ نصبٍ على الحالِ من الكافِ في «إليك». قوله: «جَعَلْنَاه» الضميرُ يعودُ: إمَّا ل «رُوْحاً» وإمَّا ل «الكتاب» وإمَّا لهما؛ لأنَّهما مَقْصَدٌ واحدٌ فهو كقولِه: {والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} [التوبة: 62]. وقرأ ابن حوشب «لتُهْدَى» مبنياً للمفعول. وابن السَّمَيْفَع «لتُهْدي» بضم التاء وكسر الدال مِنْ أهْدَى. قوله: «نَهْدِي» يجوز أَنْ يكونَ مُسْتأنفاً، وأن يكونَ مفعولاً مكرَّراً للجَعْل، وأَنْ يكونَ صفةً ل «نُوْراً». اهـ (الدُّرُّ المصُون).

سورة الزخرف

سُورَةُ الزُّخرُف (مَكِّيَّة) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله عزَّ وجلَّ: (حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) قد فسرنا معنى (حم)، ومعنى (الْكِتَابِ الْمُبِينِ)، الذي أبان طرقَ الهدى من طرق الضلالة، وأبان كل ما تحتاج إليه الأمَّةِ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) معناه إِنا بيَّنَّاه قرآنا عربياً. * * * وقوله (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) (أم الكتاب) أصل الكتاب، وأصل كل شيء أمُّه، والقرآن مثبت عند اللَّهِ في اللوح المحفوظ، والدليل على ذلك قوله: (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22). * * * وقوله: (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5) ويقرأ (إِنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ) (1) فمن فتحها فالمعنى أفنضرب عنكم الذكر صفحاً لأن كنتم، ومن كسرها فعلى معنى الاستقبال، على معنى إن تكونوا مسرفين نضرب عنكم الذكر، ويقال: ضربت عنه الذكر وأضربت عنه الذكر. والمعنى أفنضرب عنكم ذِكْر العذاب والعذابَ بأن أسرفتم. والدليل على أن

_ (1) قال السَّمين: قوله: {صَفْحاً}: فيه خمسةُ أوجهٍ، أحدها: أنَّه مصدرٌ في معنى يَضْرِب؛ لأنه يُقال: ضَرَبَ عن كذا وأَضْرَبَ عنه، بمعنى أعرض عنه، وصَرَف وجهَه عنه. قال: 3981 اضْرِبَ عنكَ الهمومَ طارِقَها. . . ضَرْبَك بالسيفِ قَوْنَسَ الفرسِ والتقديرُ: أَفَنَصْفَحُ عنكم الذِّكْرَ أي: أفَنُزِيْلُ القرآنَ عنكم إزالةً، يُنْكِرُ عليهم ذلك. الثاني: أنَّه منصوبٌ على الحالِ من الفاعل أي: صافِحين. الثالث: أَنْ ينتصِبَ على المصدرِ المؤكِّدِ لمضمونِ الجملةِ، فيكونَ عاملُه محذوفاً، نحو: {صُنْعَ الله} [النمل: 88] قاله ابنُ عطية. الرابع: أن يكونَ مفعولاً من أجله. الخامس: أَنْ يكونَ منصوباً على الظرف. قال الزمخشري: «وصَفْحاً على وجهَيْن: إمَّا مصدرٍ مِنْ صَفَح عنه إذا أَعْرَضَ عنه، منتصبٍ على أنَّه مفعولٌ له على معنى: أَفَنَعْزِلُ عنكم إنْزالَ القرآنِ وإلزامَ الحجةِ به إعراضاً عنكم. وإمَّا بمعنى الجانبِ مِنْ قولِهم: نَظَرَ إليه بصَفْحِ وَجْهِه. وصَفْحُ وَجْهِه بمعنى: أفَنُنَحِّيه عنكم جانباً، فينتصبُ على الظرف نحو: ضَعْه جانباً وامْشِ جانباً. وتَعْضُدُه قراءةُ» صُفْحاً «بالضم». قلت: يشيرُ إلى قراءةِ حسان ابن عبد الرحمن الضبعي وسميط بن عمير وشبيل بن عزرة قَرؤوا «صُفْحاً» بضم الصاد. وفيها احتمالان، أحدهما: ما ذكره مِنْ كونِه لغةً في المفتوحِ ويكونُ ظرفاً. وظاهرُ عبارةِ أبي البقاء أنَّه يجوزُ فيه جميعُ ما جاز في المفتوح؛ لأنه جَعَله لغةً فيه كالسُّد والسَّد. والثاني: أنه جمعُ صَفُوح نحو: صَبور وصُبُر. فينتصبُ حالاً مِنْ فاعل نَضْرِب. وقَدَّر الزمخشري على عادته فِعْلاً بين الهمزةِ والفاءِ أي: أنُهمِلُكم فَنَضْرِب. وقد عَرَفْتَ ما فيه غيرَ مرةٍ. قوله: «أنْ كُنتم» قرأ نافعٌ والأخَوان بالكسر على أنها شرطيةٌ، وإسرافُهم كان متحققاً، و «إنْ» إنما تدخلُ على غير المتحقِّق، أو المتحقِّقِ المبهم الزمانِ. وأجاب الزمخشريُّ: «أنَّه من الشرط الذي يَصْدُر عن المُدِلِّ بصحةِ الأمرِ والتحقيق لثبوتِه، كقول الأجير:» إنْ كنتُ عَمِلْتُ لك عملاً فَوَفِّني حقي «وهو عالمٌ بذلك، ولكنه يُخَيَّلُ في كلامِه أَنَّ تفريطَك في إيصالِ حقي فِعْلُ مَنْ له شكٌّ في استحقاقِه إياه تجهيلاً له». وقيل: المعنى على المجازاةِ والمعنى: أفنضرِبُ عنكم الذِّكر صَفْحاً متى أَسْرَفتم أي: إنكم غيرُ متروكين من الإِنذار متى كنتم قوماً مُسْرفين. وهذا أراد أبو البقاء بقولِه: «وقرئ إنْ بكسرِها على الشرط، وما تقدَّم يدلُّ على الجواب». والباقون بالفتحِ على العلَّة أي: لأَنْ كنتم، كقول الشاعر: 3982 أتَجْزَعُ أنْ بانَ الخليطُ المُوَدَّعُ. . . . . . . . . . ومثله: 3983 أتَجْزَعُ أنْ أُذْنا قتيبةَ حُزَّتا. . . . . . . . . . . . يُرْوَى بالكسر والفتح، وقد تقدَّم نحوٌ من هذا أول المائدة، وقرأ زيد بن علي «إذ» بذالٍ عوضَ النونِ، وفيها معنى العلَّة. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(10)

المعنى هذا وأنه ذِكْرُ العذابِ قوله: (فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8). أي مضْت سنتهم، ويكون (أفنضرب عنكم الذِكر) أي نهملكم فلا نعرفكم ما يجب عليكم لأن أسرفتم، ومثله: (أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36). * * * وقوله: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) (وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا): طرقاً. * * * وقوله: (وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) معناه خلق الأصناف كلها، تقول عندي من كلِّ زوج أي من كلِّ صنف. (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ). أي خلق لكم وسخرها لكم: (لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ). وقوله عزَّ وجلَّ: (ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) أي تحمدون اللَّه وتعظمونه، فيقول القائل إذا ركب السفينة: بسم اللَّه مجراها ومرساها، ويقول إذا ركب الدابة: الحمد للَّهِ سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين، أي مطيقين، واشتقاته من قولك: أنا لفلان مقرن أي مطيق، أي قد صرت قرناً له. * * * (وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14) أي نحن مقرُّون بالبعث. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) يعنى به الذين جعلوا الملائكة بنات اللَّه، وقد أنشدني بعض أهل

(18)

اللغة بيتا يدل على أن معنى جزء معنى الإناثِ ولا أدري البيْتَ، قديم أم مَصْنُوع، أنشدني: إِنْ أَجْزَأَتْ حُرَّةٌ يَوْماً فلا عَجَبٌ. . . قد تُجْزِئُ الحُرَّةُ المِذْكارُ أَحْيانا أي إن " أنثت، ولدت أنثى. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) ويقرأ (يَنْشَأ)، وموضع " مَن " نَصْبٌ. المعنى أجَعَلُوا من يُنَشَّأُ في الحلية - يعني البنات - للَّهِ (1). (وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ). يعنى البنات، أي الأنثى لا تكاد تستوفي الحجة ولا تبين. وقد قيل في التفسير إن المرأة لا تكاد تحتج بحجة إلا عليها. وقد قيل إنَّه يعني به الأصنام. والأجود أن يكون يعني به المؤنث. * * * وقوله تعالى: (وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19) الجَعْلُ ههنا في معنى القول والحكم على الشيء. تقول: قدْ جَعَلْتُ زيداً أعلم الناس، أي قد وصفته بذلك وحكمت به. وقوله - عزَّ وجلَّ -: (سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ). وتقرأ سنَكْتُبُ، ويجوز سيَكْتُب، المعنى سيكتب اللَّه شَهادَتُهم ولا نعْلَمُ أَحَداً قرأ بها. والقراءةْ بالتاء والنون (2).

_ (1) قال السَّمين: قوله: {أَوَمَن يُنَشَّأُ}: يجوزُ في «مَنْ» وجهان، أحدهما: أَنْ يكونَ في محلِّ نصبٍ مفعولاً بفعلٍ مقدر أي: أو يجعلون مَنْ يُنَشَّأُ في الحِلْية. والثاني: أنه مبتدأ وخبرُه محذوفٌ، تقديره: أو من يُنَشَّأ جزءٌ أو ولدٌ؛ إذ جعلوه لله جزءاً. وقرأ العامَّةُ «يَنْشَأ» بفتح الياء وسكون النون مِنْ نَشَأَ في كذا يَنْشأ فيه. والأخوان وحفص بضم الياء وفتحِ النون وتشديدِ الشينِ مبنياً للمفعولِ أي: يُرَبَّى. وقرأ الجحدريُّ كذلك، إلاَّ أنَّه خَفَّف الشينَ، أَخَذَه مِنْ أنشأه. والحسن «يُناشَأُ» ك يُقاتَل مبنياً للمفعول. والمفاعَلَةُ تأتي بمعنى الإِفعال كالمُعالاة بمعنى الإِعلاء. قوله: {وَهُوَ فِي الخصام غَيْرُ مُبِينٍ} الجملةُ حال. و «في الخصام» يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ يَدُلُّ عليه ما بعده. تقديره: وهو لا يَبين في الخصام. ويجوز أَنْ يتعلَّق ب «مُبين» وجاز للمضافِ إليه أن يعملَ فيما قبل المضافِ؛ لأن «غيرَ» بمعنى «لا». وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في آخر الفاتحة وما أنشدْتُه عليه وما في المسألةِ من الخلاف. اهـ (الدُّرُّ المصُون). (2) قال السَّمين: قوله: {عِبَادُ الرحمن}: قرأ نافع وابن كثير وابن عامر «عند الرحمن» ظرفاً. والباقون «عبادَ» جمع عَبْد، والرسمُ يحتملهما. وقرأ الأعمش كذلك إلاَّ أنه نصبَ «عبادَ» على إضمارِ فعلٍ: الذين هم خُلِقوا عباداً ونحوِه. وقرأ عبدُ الله وكذلك هي في مصحفه «الملائكةَ عبادَ الرحمن». وأُبَيٌّ وعبد الرحمن/ بالإِفراد. و «إناثاً» هو المفعولُ الثاني للجَعْلِ بمعنى الاعتقادِ أو التصيير القولي. وقرأ زيدُ بنُ علي «أُنُثا» جمعَ الجمع. قوله: «أشَهِدُوا» قرأ نافعٌ بهمزةٍ مفتوحة، ثم بأخرى مضمومةٍ مُسَهلةٍ بينها وبين الواو وسكونِ الشينِ. وقرأ قالون بالمدِّ يعني بإدخال ألفٍ بين الهمزتين والقصرِ، يعني بعدمِ الألف. والباقون بفتح الشين بعد همزة واحدة. فنافع أدخل همزةَ التوبيخ على أُشْهِدوا [فعلاً] رباعياً مبنيَّاً للمفعول، فسَهَّلَ همزتَه الثانيةَ، وأدخل ألفاً بينهما كراهةً لاجتماعهما، وتارة لم يُدْخِلْها، اكتفاءً بتسهيل الثانية، وهي أوجهُ. والباقون أدخلوا همزةَ الإِنكار على «شهدوا» ثلاثياً، والشهادةُ هنا الحضورُ. ولم يَنْقُلِ الشيخُ عن نافع تسهيلَ الثانيةِ بل نَقَله عن علي بن أبي طالب. وقرأ الزهريُّ «أُشْهِدُوا» رباعياً مبنياً للمفعول. وفيه وجهان، أحدُهما: أَنْ يكونَ حَذَفَ الهمزةَ لدلالةِ القراءةِ الأخرى، كما تقدَّم في قراءةِ «أعجميٌّ». والثاني: أَنْ تكونَ الجملةُ خبريةً وقعَتْ صفةً ل «إناثاً» أي: أجعلوهم إناثاً مَشْهوداً خَلْقُهم كذلك؟ قوله: «سَتُكْتَبُ شهادتُهم» قرأ العامَّةُ «سَتُكْتَبُ» بالتاءِ مِنْ فوقُ مبنياً للمفعول، «شهادتُهم» بالرفع لقيامه مَقامَ الفاعل. وقرأ الحسن «شهاداتُهم» بالجمع، والزهري: «سَيَكتب» بالياء مِنْ تحت وهو في الباقي كالعامَّة. وابن عباس وزيد بن علي وأبو جعفر وأبو حيوةَ «سنكتبُ» بالنون للعظمة، «شهادتَهم» بالنصب مفعولاً به. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(20)

وقوله: (وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20) المعنى ما لهم بقولهم إنَّ الملائكة بنات اللَّه من علم، ولا بجميع ما تخرصوا به. * * * وقوله: (أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) أي أم هل قالوا عن كتابٍ، المعنى أشهدوا خلقهم أم آتيناهم بكتاب بما قالوه من عبادتهم ما يعبدون من دون اللَّه، ثم أعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أن فِعلَهم اتباع ضلالة آبائهم فقال: (بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) ويقرأ " عَلَى إِمَّةٍ " بالكسرِ، فالمعنى على طريقة. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) أي قد قال لك هَؤلاء كما قال أمثالهم للرسل مِنْ قَبْلكَ. وقوله: (وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ). معناه نقتدي بهم، ويصلح أن يكون خبراً لإنا مهتدون، و (على) من صلة مهتدين، وكذلك مقتدون، فيكون المعنى وإنهم مهتدون على آثارهم، وكذلك يكون المعنى مقتدون على آثارهم، ويصلح أن يكون خبراً بعد خبر، فيكون (وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ) الخبر ويكون (مُهْتَدُونَ) خبراً ثانياً، وكذلك (مُقْتَدُونَ). * * * وقوله: - عزَّ وجلَّ - (قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24) المعنى فيه قل أَتَتبعُون ما وجدتم عليه آباءكم وإن جِئْتُكُمْ بِأهدى منه. * * * وقوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27)

(27)

(بَرَاءٌ) بمعنى بريء مِمَّا تَعْبُدُونَ، والعرب تقول للواحد منها أنا البراء منك، وكذلك الاثنان والجماعة والذكر والأنثى يقولون نحن البراء منك والخلاء منك، ولا يقولون: نحن البراءان منك ولا البراءونَ. وإنما المعنى إنا ذوو البراء منك ونحن ذوو البراء منك كما تقول رجل عدل وامرأة عَدْل وَقَوْمٌ عَدْلٌ، والمعنى ذوو عدل وذوات عدل (1). * * * وقوله: (إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) المعنى إنا نتبرأ مما تعبدون إلا من الله عزَّ وجلَّ، ويجوز أن يكون " إلا " بمعنى لكن فيكون المعنى لكن الذي فطرني فإنه سيهدين (2). * * * (وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) يعني بها كلمة التوحيد وهي لا إله إلا اللَّه باقية في عقب إبراهيم، لا يزال من ولده من يوحد اللَّه عزَّ وجلَّ. * * * (وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) المعنى على رجل من رَجُلَي القريتين عظيم، والرجُلَانِ أحدهما الوليد ابن المغيرة المخزومي من أهلَ مكة، والآخر حبيب بن عمرو بن عمير الثقفي من أهل الطائف، والقريتان ههنا مكة والطائف. ويجوز " لَوْلَا نَزَّلَ " أي لولا نَزَّلَ اللَّه هذا القرآن، ويجوز لوْلاَ نَزَلَ هذا القرآن. ومعنى لولا هلَّا ولم يُقْرَأْ بهاتين الأخْرَيَين، إنما القراءة (نُزِّلَ). و (هذا) في موضع رفع، والقرآن ههنا مُبَيِّنٌ عن هذا ويسميه سيبويه عطف البيان، لأن لفظه لفظ الصفة، ومما يبين أنه عطف البيان قولك مررت بهذا الرجل وبهذه الدار، و (هَذَا الْقُرْآنُ) إنما يذكر بعد هذا اسما يبين بها اسم الإشارة. * * * وقوله عزَّ وجلَّ (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32)

_ (1) قال السَّمين: قوله: {بَرَآءٌ}: العامَّةُ على فتحِ الباءِ وألفٍ وهمزةٍ بعد الراء. وهو مصدرٌ في الأصل وقع موقعَ الصفةِ وهي بَريْء، وبها قرأ الأعمش ولا يُثَنَّى «براء» ولا يُجْمع ولا يُؤَنث كالمصادر في الغالب. والزعفراني وابن المنادي عن نافع بضم الباء بزنة طُوال وكُرام. يقال: طَويل وطُوال وبَريء وبُراء. وقرأ الأعمش «إنِّي» بنونٍ واحدة. اهـ (الدُّرُّ المصُون). (2) قال السَّمين: قوله: {إِلاَّ الذي فَطَرَنِي}: فيه أربعةُ أوجهٍ، أحدها: أنه استثناءٌ منقطع؛ لأنَّهم كانوا عبدةَ أصنامٍ فقط. والثاني: أنه متصلٌ؛ لأنه رُوِي أنهم كانوا يُشْرِكون مع الباري غيرَه. الثالث: أَنْ يكونَ مجروراً بدلاً مِنْ «ما» الموصولة في قولِه: «ممَّا تعبدُون» قاله الزمخشريُّ. ورَدَّه الشيخ: بأنه لا يجوزُ إلاَّ في نفيٍ أو شبهه قال: «وغَرَّه كونُ براء في معنى النفي، ولا ينفعه ذلك لأنه موجَبٌ». قلت: قد تأوَّل النحاةُ ذلك في مواضعَ من القرآن كقولِه تعالى: {ويأبى الله إِلاَّ أَن يُتِمَّ} [التوبة: 32] {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين} [البقرة: 45] والاستثناء المفرغُ لا يكونُ في إيجاب، ولكن لَمَّا كان «يأبى» بمعنى: لا يفعلُ، وإنها لكبيرة بمعنى: لا تَسْهُلُ ولا تَخِفُّ ساغ ذلك، فهذا مثلُه. الرابع: أَنْ تكونَ «إلاَّ» صفةً بمعنى «غير» على أن تكونَ «ما» نكرةً موصوفةً، قاله الزمخشريُّ قال الشيخ: «وإنما أخرجها في هذا الوجهِ عن كونِها موصولةً؛ لأنَّه يرى أنَّ» إلاَّ «بمعنى» غير «لا يُوْصَفُ بها إلاَّ النكرة» وفيها خلافٌ. فعلى هذا يجوزُ أَنْ تكونَ «ما» موصولةً و «إلاَّ» بمعنى «غير» صفةً لها. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(33)

أي قولهم: لِمَ لَمْ ينَزلْ هذا القرآن على غير محمد عليه السلام اعتراض منهم، وليس تفضل اللَّه عزَّ وجلَّ يقسمه غيره. ولما أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالرسالة قالت العرب - أو أكثرها -: كيف لم يرسل اللَّه مَلَكاً وكيف أرسل اللَّه بَشراً، فقال اللَّه عزَّ وجلَّ: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى). وقال: (أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ). فلما سمعوا أن الرسالة كانت في رجال من أهل القرى قالوا: " لَوْلَا نُزِل على أحَدِ هذين الرجلين ". وقال - عزَّ وجلَّ -: (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ). قَكَما فَضلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْض في الرزق وفي المنزلة، كذلك اصطفينا للرسالة من نشاء. وقوله: (لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سِخْرِيًّا). و (سُخْرِيًّا) أي ليستعمل بعضهم بَعْضاً، ويستخدم بعضُهم بعضاً. وقيل (سِخْرِيًّا) أي، يتخذ بعضهم بعضاً عبيداً. ثم أعلم - عزَّ وجلَّ - أن الآخرة أحَظُّ من الدنيا فقال: (وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ). وأعلمَ قِلَّةَ الدنيا عنده عزَّ وجلَّ فقال: (وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) ويقرأ سَقْفاً مِنْ فِضةٍ، ويجوز سُقْفاً بسكون القاف وَضَم السين، فمن قال سُقُفاً وَسُقْفاً فهو جمع سَقْف كما قيل رَهْن وَرُهُنٌ وَرُهْن، ومن قال سَقْفاً ْفهو واحد يَدُلُّ على الجمع المعنى جعلنا لبيت كلِ واحد منهم سقفاَ من فضة.

(34)

وقوله: (وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ). (معارج) دَرَج واحدها مَعْرج. المعنى وجعلنا معارج من فِضةٍ، وكذلك: (أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) أي أَبْواباً من فضةٍ وسُرُراً من فِضةٍ. (وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35) (وَزُخْرُفًا). الزخرف - جاء في التفسير أنه ههنا الذهَبُ، إلا زيد بن أسلم فإنه قال: هو متاع البيت، والزخرف في اللغة الزينة وكمال الشيء فيها، ودليل ذلك قوله: (حتى إذَا أَخَذتِ الأرْضُ زُخْرُفَها) أي كمالها وَتَمامَها. (وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ). معناه وما كل ذلك إلا متاع الحياة الدنْيَا، ويقرأ لَمَا متاع و" ما " ههنا لَغْوٌ، المعنى لَمَتاعُ (1). * * * وقوله: (وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً). أي: لَوْلاَ أن تميل بهم الدنيا فيصيرَ الخلق كفاراً لأعطى اللَّه الكافر في الدنيا غاية ما يتمنى فيها لِقِلَّتِهَا عِنْدَهُ، ولكنه - عزَّ وجلَّ - لم يفعل ذلك لعلمه بأن الغالب على الخلقِ حبُّ العَاجِلَة. * * * وقوله: (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) ويقرأ (وَمَنْ يَعْشَ) بفتح الشين من عَشِيَ يَعْشَى، أي من يَعْمَ عن ذكر الرْحْمنِ.

_ (1) قال السَّمين: قوله: {وَزُخْرُفاً}: يجوز أَنْ يكونَ منصوباً ب جَعَلَ أي: وجَعَلْنا لهم زخرفا. وجوَّز الزمخشري أن ينتصبَ عطفاً على محلِّ «مِنْ فضة» كأنه قيل: سُقُفاً من فضةٍ وذَهَبٍ أي: بعضُها كذا، وبعضها كذا. وقد تقدَّم الخلافُ في «لَمَّا» تخفيفاً وتشديداً في سورة هود، وقرأ أبو رجاء وأبو حيوةَ «لِما» بكسر اللام على أنها لامُ العلةِ دَخَلَتْ على «ما» الموصولة وحُذِفَ عائدُها، وإنْ لم تَطُل الصلةُ. والأصل: الذي هو متاعٌ كقولِه: {تَمَاماً عَلَى الذي أَحْسَنَ} [الأنعام: 154] برفع النون. و «إنْ» هي المخففةُ من الثقيلة، و «كل» مبتدأ، والجارُّ بعده خبرُه أي: وإن كل ما تقدَّم ذِكْرُه كائن للذي هو متاعُ الحياة، وكان الوجهُ أن تدخُلَ اللامُ الفارقة لعدم إعمالِها، إلاَّ أنَّها لما دَلَّ الدليلُ على الإِثباتِ جاز حَذْفُها كما حَذَفها الشاعرُ في قوله: 3992 أنا ابنُ أباةِ الضَّيْم مِنْ آلِ مالكٍ. . . وإنْ مالكٌ كانَتْ كرامَ المعادنِ اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(37)

(نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا). نسبب له شيطاناً، يجعل اللَّه له ذَلِكَ جزاءه (1). * * * وقوله: (وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) أي الشياظين تصدهم عن السبيل، ويحسب الكفار أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ. * * * وقوله - عزَّ وجلَّ -: (لِمَنْ يَكْفُر بالرحْمنِ لبُيُوتِهِم) يصلح أن يكونَ بدلاً من قوله (لمن يكفر بالرحمن)، ويكون المعنى لجعلنا لبيوت من يكفر بالرحمن، ويصلح أن يكون لبُيوتهِمْ على معنى لجعلنا لمن يكفر بالرحمن على بُيُوتهم. * * * وقوله: (حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) ويقرأ (جَاءَانَا) فمن قرأ (جَاءَانَا) فالمعنى حتى إذَا جَاءَ الكَافِرُ وشيطاته. ومن قرأ (حَتَّى إِذَا جَاءَنَا) فعلى الكافر وحده. (قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ). معنى (الْمَشْرِقَيْنِ) ههنا بعد المشرق والمغرب، فلما جعلا اثنين غلب لفظ المشرق كما قال: لنا قمراها والنجوم الطوالع يريد الشمس والقمر، وكما قالوا سنةُ العُمَريْن يراد سنةُ أبي بكر وعمر. رحمةُ اللَّه عَلَيْهِمَا. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39) المعنى لَنْ تَنْفَعَكُم الشرِكَةُ في العذاب، قال محمد بن يزيد في جواب

_ (1) قال السَّمين: قوله: {وَمَن يَعْشُ}: العامَّة على ضم الشين مِن عشا يعشو أي: يتعامى ويتجاهل. وقتادة ويحيى بن سلام «يَعْشَ» بفتحها بمعنى يَعْمَ. وزيد بن علي «يَعْشو» بإثبات الواو. قال الزمخشري: «على أنّ» مَنْ «موصولة وحَقُّ هذا أن يقرأَ نقيضُ بالرفع». قال الشيخ: «ولا تتعيَّنُ موصوليتُها بل تُخَرَّج على وجهين: إمَّا تقديرِ حذفِ حركةِ حرفِ العِلة، وقد حكاها الأخفش لغةً، وتقدَّم منه في سورةِ يوسفَ شواهدُ، وإمَّا على أنه جزمٌ ب» مَنْ «الموصولة تشبيهاً لها ب» مَنْ «الشرطيةِ». قال: «وإذا كانوا قد جَزَموا ب» الذي «، وليس بشرطٍ قط فأَوْلَى بما اسْتُعْمِلَ شرطاً وغيرَ شرطٍ. وأنشد: 3993 ولا تَحْفِرَنْ بِئْراً تُريد أخاً بها. . . فإنّك فيها أنت مِنْ دونِه تقَعْ كذاكَ الذي يَبْغي على الناسِ ظالماً. . . يُصِبْه على رَغْمٍ عواقبُ ما صَنَعْ /قال:» وهو مذهبُ الكوفيين، وله وَجْهٌ من القياسِ: وهو أنَّ «الذي» أَشْبَهَتْ اسمَ الشرطِ في دخولِ الفاءِ في خبرِها، فتُشْبِهُ اسمَ الشرطِ في الجزم أيضاً. إلاَّ أنَّ دخولَ الفاءِ منقاسٌ بشرطِه، وهذا لا ينقاسُ «. ويقال: عَشا يَعْشُو، وعَشِي يَعْشَى. فبعضُهم جعلهما بمعنىً، وبعضُهم فَرَّقَ: بأنَّ عَشِيَ يَعْشَى إذا حَصَلَتْ الآفَةُ من بَصَرَه، وأصلُه الواوُ وإنما قُلِبَتْ ياءً لانكسارِ ما قبلها كرضِيَ يَرْضى وعَشَا يَعْشُو أي: تفاعَل ذلك. ونَظَرَ نَظَرَ العَشِي ولا آفَةَ ببصرِه، كما قالوا: عَرَجَ لمَنْ به آفةُ العَرَجِ، وعَرُجَ لمَنْ تعارَجَ، ومَشَى مِشْيَةَ العُرْجان. قال الشاعر: 3994 أَعْشُو إذا ما جارتي بَرَزَتْ. . . حتى يُوارِيْ جارتي الخِدْرُ أي: أنظرُ نَظَرَ الَعَشِي. وقال آخر: 3995 متى تَأْتِه تَعْشُوا إلى ضَوْءِ نارِه. . . تَجِدْ خيرَ نارٍ عندها خيرُ مُوْقِدِ أي: تَنْظُرُ نَظَرَ العشِي لضَعْفِ بصرِه مِنْ كثرةِ الوَقودِ. وفَرَّق بعضُهم: بأنَّ عَشَوْتُ إلى النارِ إذا اسْتَدْلَلْتَ عليها بنظرٍ ضعيفٍ وقيل: وقال الفراء:» عَشا يَعْشى يُعْرِض، وعَشِي يَعْشَى عَمِيَ «. إلاَّ أنَّ ابن قتيبة قال:» لم نَرَ أحداً حكى عَشَوْتُ عن الشيء: أَعْرَضْتُ عنه، وإنما يقال: تعاشَيْتُ عن كذا إذا تغافَلْتَ عنه وتعامَيْتَ «. وقرأ العامَّةُ» نُقَيِّضْ «بنونِ العظمةِ. وعلي بن أبي طالب والأعمش ويعقوبُ والسلميُّ وأبو عمروٍ وعاصمٌ في روايةٍ عنهما» يُقَيِّضْ «بالياء من تحت أي: يُقَيِّض الرحمنُ. و» شيطاناً «نصبٌ في القراءتين. وابن عباس» يُقَيَّضْ «مبنياً للمفعول،» شيطانٌ «بالرفع، قائمٌ مقامَ الفاعلِ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(41)

هذه الآية إنَّهمْ مُنِعُوا رَوْح التَّأَسِّي لأن التَّأَسِّي يُسَهِّلُ المصيبة، فأعلموا أن لَنْ يَنْفَعَهم الاشْتراك في العَذاب وأن اللَّه - عزَّ وجلَّ - لا يجعل فيه أُسْوة. قال وأنشدني في المعنى للخنساء: ولَوْلا كَثْرَةُ الباكينَ حَوْلِي. . . على إِخْوانِهِمْ لَقَتَلْتُ نَفْسِي وما يَبْكُونَ مِثْلَ أخي ولكِنْ. . . أُعَزِي النَّفْسَ عَنْهُ بالتَّأسِّي (1) * * * وقوله - عزَّ وجلَّ -: (فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42) دخل " ما " توكيداً للشرط والنون الثقيلة في قوله: (نَذْهَبَنَّ) دَخَلتْ أيضاً توكيداً، وإذا دَخَلَتْ (ما) دخلت معها النون كما تَدْخُل مع لام القَسَم. والمعنى إنا نَنْتَقِمُ مِنْهُم إنْ توفيتَ أو نريك ما وعدناهم وَوَعَدْنَاكَ فِيهِمْ من النصْر، فقد أراه اللَّه - عزَّ وجلَّ - ما وعَدَهُ فيهِمْ وَوَعَدَهُمْ مِنْ إهْلَاكِهِمْ إن كذبوا. وقد قيل إنه كانت بعد رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أشياء لم يُحْبِبِ اللَّه أنْ يُريَه إياها. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44) يريدُ أن القرآنَ شرفٌ لك ولقومك. وقوله: (وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ). معناه سوف تسألون عن شِكر ما جعله اللَّه لكم من الشرف. * * * وقوله: (وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45) في هذه المسألة ثلاثَةُ أَوْجُهٍ: جاء في التفسير أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة أسري به جمع له الأنبياء في بيت المقدس فأَمَّهم وصلَّى بهم، وقيل له: سَلْهُمْ فلم يشكك عليه السلام ولم يَسَلْ.

_ (1) قال السَّمين: قوله: «إذْ ظَلَمْتُمْ» قد استشكل المُعْرِبون هذه الآيةَ. ووجهُه: أنَّ قولَه «اليومَ» ظرفٌ حالِيٌّ، و «إذ» ظرفٌ ماضٍ، و «يَنْفَعَكم» مستقبلٌ؛ لاقترانِه ب «لن» التي لنفي المستقبلِ. والظاهرُ أنه عاملٌ في الظرفَيْن، وكيف يعملُ الحدثُ المستقبلُ الذي لم يقَعْ بعدُ في ظرفٍ حاضرٍ أو ماضٍ؟ هذا ما لا يجوزُ. فأُجيب عن إعماله في الظرفِ الحاليِّ على سبيلِ قُرْبِه منه؛ لأنَّ الحالَ قريبٌ من الاستقبالِ فيجوز في ذلك. قال تعالى: {فَمَن يَسْتَمِعِ الآن} [الجن: 9] وقال الشاعر: 3997. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . سَأَسْعَى الآنَ إذ بَلَغَتْ أَناها وهو إقناعيٌّ، وإلاَّ فالمستقبلُ يَسْتحيلُ وقوعُه في الحالِ عقلاً. وأمَّا قولُه: «إذ» ففيها للناسِ أوجهٌ كثيرةٌ. قال ابن جني: «راجَعْتُ أبا عليّ فيها مِراراً فآخرُ ما حَصَّلْت منه: أنَّ الدنيا والآخرةَ متصلتان، وهما سواءٌ في حُكْم اللَّهِ تعالى وعِلْمِه، ف» إذ «بدلٌ من» اليوم «حتى كأنَّه مستقبلٌ أو كأنَّ اليومَ ماضٍ. وإلى هذا نحا الزمخشريُّ قال:» وإذْ بدلٌ من اليوم «وحَمَلَه الزمخشريُّ على معنى: إذْ تبيَّن وصَحَّ ظُلْمُكم، ولم يَبْقَ لأحدٍ ولا لكم شبهةٌ في أنَّكم كنتم ظالمين. ونظيرُه: 3998 إذا ما انْتَسَبْنا لم تَلِدْني لئيمةٌ. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . أي: تَبَيَّن أني وَلَدُ كريمةٍ». وقال الشيخ: «ولا يجوزُ البدلُ ما دامت» إذ «على موضوعِها من المُضِيِّ، فإنْ جُعِلَتْ لمطلقِ الزمانِ جاز». قلت: لم يُعْهَدْ في «إذ» أنها تكونُ لمطلقِ الزمان، بل هي موضوعةٌ لزمانٍ خاصٍ بالماضي كأَمْسِ. الثاني: أنَّ في الكلام حَذْفَ مضافٍ تقديرُه: بعد إذ ظَلَمْتُمْ. الثالث: أنها للتعليلِ. وحينئذٍ تكونُ حرفاً للتعليلِ كاللام. الرابعُ: أنَّ العاملَ في «إذ» هو ذلك الفاعلُ المقدَّرُ لا ضميرُه. والتقدير: ولن ينفعَكم ظلمُكم أو جَحْدُكم إذ ظَلَمْتم. الخامس: أنَّ العاملَ في «إذ» ما دَلَّ عليه المعنى. كأنه قال: ولكن لن ينفعَكم اجتماعُكم إذ ظَلَمْتُمْ. قاله الحوفي، ثم قال: «وفاعلُ» يَنْفَعَكم «الاشتراكُ» انتهى. فظاهرُ هذا متناقضٌ؛ لأنَّه جَعَلَ الفاعلَ أولاً اجتماعَكم، ثم جعلَه آخِراً الاشتراكَ. ومنع أَنْ تكونَ «إذ» بدلاً مِن اليوم لتغايُرِهما في الدلالة. وفي كتاب أبي البقاء «وقيل: إذْ بمعنى» أَنْ «أي: أَنْ ظَلَمْتُم». ولم يُقَيِّدْها بكونِها أن بالفتح أو الكسر، ولكن قال الشيخ: «وقيل: إذ للتعليلِ حرفاً بمعنى» أَنْ «يعني بالفتح؛ وكأنَّه أراد ما ذكره أبو البقاءِ، إلاَّ أنَّ تَسْمِيَتَه» أنْ «للتعليل مجازٌ، فإنها على حَذْفِ حرفِ العلةِ أي: لأَنْ، فلمصاحبتِها لها، والاستغناءِ بها عنها سَمَّاها باسمِها. ولا ينبغي أَنْ يُعْتَقَدَ أنَّها في كتابِ أبي البقاء بالكسرِ على الشرطية؛ لأنَّ معناه بعيدٌ. وقُرِئ» إنكم «بالكسرِ على الاستئناف المفيدِ للعلةِ. وحينئذٍ يكونُ الفاعلُ مضمراً على أحدِ التقادير المذكورة. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(49)

ووجه ثانٍ وهو الذي أختاره، وهو أن المعْنَى سل أمَمَ من أَرْسَلْنَا من قبلك من رُسْلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ؟. ويكون معنى السؤال ههنا على جهة التقرير كما قال: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) فليس يَسْاَلُهمْ ههنا عَمنْ خَلَقَهُمْ إلا على جهةِ التقرير وكذلك إذا سال جميع أمم الأنبياء لم يأتوا بأن في كتبهِمْ أن اعبدوا غيرِي. ووجه ثالث يكون المعنى في خطاب النبي - صلى الله عليه وسلم - معناه مخاطبة الأمَّة، كأنَّه قال: واسألوا، والدليل على أن مخاطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - قد يدخل فيها خطاب الأمة قوله: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ). * * * وقوله: (وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49) إن قال قائل: كيف يقولون لموسى عليه السلام يَا أَيُّهَا الساحر وهم يزعمون أنهم مهتدون؟ فالجواب أنهم خاطبوه بما تقدم له عندهم من التسمية بالسحر، ومعنى بما عَهَدَ عنْدَك أي بما عهد عندك فيمَن آمن به مِنْ كشف العذاب عنه. الدليل على ذلك قوله: (فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (50) أي إذا هم ينقُضُون عَهْدَهُمْ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) " مصر " ههنا يعنى بها مدينة مصر المعروفة، فمصر مذكر سُمِّيَ بهِ مؤنث لأن المدينة الغالب عليها التأنيث، وَقدْ يَجُوزُ مَلكُ مِصْر، يذهب به إلى أن مصر اسم لبلد، وهذا فيه بُعْدٌ من قِبَلِ أن أكثر ما يستعمل البلد لما يضم مدناً

(52)

كبيرةً نحو بلاد الرُّوم وبلاد الشام وبلد خراسان. ويجوز أن تصرف مصراً إذا جعلته اسماَ لبلد عند جميع النحويين من البصريين (1). * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) قال سيبويه والخليلْ عطف " أَنَا " بـ (أَمْ) على قوله (أَفَلَا تُبْصِرُونَ) لأنَّ معنى (أَمْ أَنَا خَيْرٌ) معناه أمْ تُبْصِرُونَ، كأنَّه قال: " أَفَلَا تبصرون أمْ تُبصِرُونَ، قال لأنهم إذَا قالوا أنت خير منه فقد صاروا عنده بُصَرَاءَ، فكأنَّه قال أفلا تبْصِرُونَ أم أنتم بُصَرَاءُ (2). وَمَعْنَى (مَهِين) قليل. يقال شَيءٌ مَهِينٌ أَي قَليلٌ، وهو فعيل من المهانة. وقوله (وَلَا يَكَادُ يُبِينُ). قال ذلك لأنه كانت في لسان موسى عليه السلام لثغة، والأنبياء - صلوات اللَّه عليهم - أجمعون مُبَيِّنونَ بُلَغَاءُ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) كانه لما وَصَفَ نفسه بالمُلْكِ والريَاسَةِ قال: هَلَّا جاء مُوسَى بشيء يُلْقَى عليه فيكون ذلك أسْوِرَةً مِنْ ذَهَبٍ تدل على أنها من عند إلهه الذي يدعوكم إلى توحيده، أو هلَّا جاء معه الملائكةُ مقترنين أي يمشون معه فيَدُلُّونَ على صحة نُبوتهِ، وقد أتى موسى عليه السلام من الآيات بما فيه دلالة على تثبيت النبُوة، وليس للذين يرسل إليهم الأنْبِياءُ أَنْ يَقْتَرِحُوا من الآيات ما يريدون هم. وتقرأ (أساوِرَةٌ مِنْ ذَهب)، ويصلح أن يكون جمعَ الجمعِ تقول أسْوِرَة وَأَسَاوِرَة، كما تقول: أقوال وأقاويل ويجوز أن يكون جَمَعَ إسْوار وأساورة.

_ (1) قال السَّمين: قوله: {وهذه الأنهار}: يجوزُ في «وهذه» وجهان، أحدهما: أَنْ تكونَ مبتدأةً، والواوُ للحالِ. والأنهارُ صفةٌ لاسمِ الإِشارةِ، أو عطفُ بيانٍ. و «تجري» الخبرُ. والجملةُ حالٌ مِنْ ياء «لي». والثاني: أنَّ «هذه» معطوفةٌ على «مُلْك مِصْرَ»، و «تَجْري» على هذا حالٌ أي: أليس مُلْكُ مِصْرَ وهذه الأنهارُ جاريةً أي: الشيئان. قوله: «تُبْصِرونَ» العامَّةُ على الخطابِ لِمَنْ ناداه. وقرأ عيسى بكسر النون أي: تُبْصِروني. وفي قراءةِ العامَّةِ المفعولُ محذوفٌ أي: تُبْصِرون مُلْكي وعَظَمتي. وقرأ فهد بن الصقر «يُبْصِرون» بياء الغَيْبة: إمَّا على الالتفاتِ من الخطاب إلى الغَيْبة، وإمَّا رَدًّا على قوم موسى. اهـ (الدُّرُّ المصُون). (2) قال السَّمين: قوله: {أَمْ أَنَآ خَيْرٌ}: في «أم» أقوالٌ، أحدها: أنها منقطعةٌ، فتتقدَّرُ ب بل التي لإِضرابِ الانتقال، وبالهمزة التي للإِنكار. والثاني: أنها بمعنى بل فقط، كقوله: 4001 بَدَتْ مِثْلَ قَرْنِ الشَّمْسِ في رَوْنَق الضُّحى. . . وصورتِها أم أنتِ في العينِ أَمْلَحُ أي: بل أنتِ. الثالث: أنها منقطعةٌ لفظاً، متصلةٌ معنىً. قال أبو البقاء: «أمْ هنا منقطعةٌ في اللفظ لوقوع الجملةِ بعدَها في اللفظ، وهي في المعنى متصلةٌ معادِلةٌ؛ إذ المعنى: أنا خيرٌ منه أم لا، وأيُّنا خيرٌ» وهذه عبارةٌ غريبةٌ: أن تكونَ منقطعةً لفظاً، متصلةً معنى، وذلك أنهما معنيان مختلفان؛ فإن الانقطاعَ يَقْتضي إضراباً: إمَّا إبطالاً، وإمّا انتقالاً. الرابع: أنها متصلةٌ، والمعادِلُ محذوفٌ تقديره: أم تُبْصِرون. وهذا لا يجوزُ إلاَّ إذا كانت «لا» بعد أم نحو: أتقومُ أم لا؟ أي: أم لا تقوم. وأزيدٌ عندك أم لا؟ أي: أم لا هو عندك. أمَّا حَذْفُه دون «لا» فلا يجوزُ، وقد جاء حَذْفُ «أم» مع المعادِلِ وهو قليلٌ جداً. قال الشاعر: 4002 دعاني إليها القلبُ إني لأَمْرِها. . . سميعٌ فلا أَدْري أَرُشْدٌ طِلابُها أي: أم غَيٌّ. وكان الشيخ قد نقل عن سيبويه أنَّ هذه هي «أم» المعادِلَةُ أي: أم تُبْصِرُون الأمرَ الذي هو حقيقٌ أَنْ يُبْصَرَ عنده، وهو أنَّه خيرٌ مِنْ موسى. قال: «وهذا القولُ بدأ به الزمخشريُّ فقال:» أم/ هذه متصلة لأنَّ المعنى: أفلا تُبْصِرون أم تُبْصرون، إلاَّ أنه وَضَعَ قولَه: «أنا خيرٌ» موضعَ «تُبْصِرون»؛ لأنهم إذا قالوا: أنت خيرٌ، فهم عنده بُصَراءُ، وهذا من إنزالَ السببِ منزلةَ المسبب «. قال الشيخ:» وهذا متكلَّفٌ جداً؛ إذ المعادِلُ إنما يكونُ مقابلاً للسابقِ. فإن كان المعادِلُ جملةً فعليةً كان السابقُ جملةً فعليةً أو جملةً اسميةً يتقدَّر منها فعليةٌ، كقوله: {أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ} [الأعراف: 193] لأنَّ معناه: أم صَمَتُّم، وهنا لا تتقدَّرُ منها جملةٌ فعليةٌ؛ لأنَّ قولَه: {أَمْ أَنَآ خَيْرٌ} ليس مقابلاً لقولِه: «أفلا تُبْصِرون». وإن كان السابقُ اسماً كان المعادِلُ اسماً، أو جملةً فعليةً يتقدَّر منها اسمٌ نحو قولِه: 4003 أمُخْدَجُ اليدَيْنِ أم أَتَمَّتِ. . . ف «أتمَّت» معادِلٌ للاسم، فالتقديرُ: أم مُتِمًّا «قلت: وهذا الذي رَدَّه على الزمخشريِّ رَدٌّ على سيبويه؛ لأنه هو السابقُ به، وكذا قولُه أيضاً: إنه لا يُحْذَفُ المعادِلُ بعد» أم «إلاَّ وبعدها» لا «فيه نظرٌ؛ من حيث تجويزُ سيبويه حَذْفُ المعادِلِ دون» لا «فهو رَدٌّ على سيبويهِ أيضاً. [قوله: {وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ} هذه الجملةُ يجوزُ أَنْ تكونَ معطوفةً على الصلةِ، وأَنْ تكونَ مستأنفةً، وأن تكونَ حالاً]. والعامَّة على» يُبين «مِنْ أبان، والباقر» يَبين «بفتحِها مِنْ بان أي: ظهر. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(55)

وإنما صَرَفْتَ أساورة لأنك ضَمَمْتَ الهاء إلى أسَاور فصار اسْماً وَاحِداً وصار الاسم له مِثال في الواحد مثل عَلَانية وعباقية (1). * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) معنى (آسفونا) أغضبونا. * * * (فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ (56) جعلناهم سلَفاً مُتَقَدِّمِينَ ليتَعِظَ بهم الآخرون. ويُقْرأُ سُلُفاً - بضم السين واللام، ويُقرأُ سُلَفاً - بضم السين وفتح اللام -. فمن قال سُلُفاً - بضمتين - فهو جِمع سَلِيف، أي جميع قد مضى. ومن قرأ سُلَفاً فهو جمع سُلْفَة أي فرقة قد مَضت. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) (يَصِدُّونَ) ويقرأ (يَصُدُّونَ) - بضم الصاد - والكسر أكثر ومعناهما جميعاً يضجُّونَ ويجوز أن يكون معنى المضمومة يُعْرضُونَ. وجاء في التفسير أن كُفارَ قريش خاصمت النبى - صلى الله عليه وسلم - فلما قيل لهم: (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) قالوا قد رضينا أن تكون آلهتُنا بمنزله عيسى ابن مريم والملائكةِ الذين عُبِدوا من دون اللَّه. فهذا معنى ضَرْبِ عيسى المثل. * * * وقوله: (وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) (مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا). أي طلباً للمجادلة لأنهم قد علموا أن المعنى في (حَصَبُ جَهَنَّمَ) ههنا أنه يعني به الأصنام وهم.

_ (1) قال السَّمين: قوله: {أَسْوِرَةٌ}: قرأ حفص «أَسْوِرَة» كأَحْمِرَة. والباقون «أساوِرَة». فأسْوِرَة جمع سِوار كحِمار وأَحْمِرَة، وهو جمعُ قلةٍ، وأساوِرَة جمعُ إسْوار بمعنى سِوار. يقال: سِوارُ المرأة وإسْوارُها، والأصل: أساوير بالياء، فَعُوِّضَ من حرف المدِّ تاءُ التأنيثِ كزَنادقة. وقيل: بل هي جمعُ أَسْوِرة فهي جمعُ الجمعِ. وقرأ أُبَيٌّ والأعمش - ويُرْوى عن أبي عمرو - «أساوِر» دونَ تاءٍ. ورُوِي عن أُبَيّ أيضاً وعبد الله أساْوِير. وقرأ الضحاك «أَلْقَى» مبنياً للفاعلِ أي الله. و «وأساوِرة» نصباً على المفعولية. و «مِنْ ذَهَبٍ» صفةٌ ل أَساورة. ويجوزُ أَنْ تكون «مِنْ» الداخلةَ على التمييز. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(59)

وقوله تعالى: (إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59) يعني به عيسى ابن مريم. ومعنى (وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ) أنه يدلهم على نبوته. * * * (وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) معنى (يَخْلُفُونَ) يخلف بعضهم بعضاً، والمعنى لجعلنا منهم بَدَلًا منكم. * * * (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) ويقرأ (لَعَلَمٌ لِلسَّاعَةِ) المعنى أن ظهورَ عيسى ابن مريم عليه السلام علَمٌ لِلسَّاعَةِ، أي إذا ظهر دَلَّ على مجيء الساعة. وقد قيل إنه يعني به أن القرآن العَلَمُ للساعة يدل على قرب مجيئها، والدليل على ذلك قوله: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ). والأول أكثر في التفسير (1). وقوله: (فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا) أي لا تَشُكُّنَّ فيها. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) قوله جاء (بالحكمة) أي بالإنجيل وبالبينات أي الآيات التي يعجز عنها المخلوقون. وقالوا في معنى (بَعْضَ الَّذي تَخْتلِفونَ فِيهِ) أي كل الذي يختلفون فيه واستشهدوا بقول لبيد.

_ (1) قال السَّمين: قوله: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ}: المشهورُ أنَّ الضمير لعيسى، يعني نزولَه آخر الزمان. وقيل الضميرُ للقرآن أي: فيه عِلْمُ الساعةِ وأهوالُها، أو هو علامةٌ على قُرْبها. وفيه {اقترب لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} [الأنبياء: 1] {اقتربت الساعة} [القمر: 1]. وقيل: للنبي صلَّى الله عليه وسلَّم. ومنه «بُعِثْت أنا والساعةُ كهاتَيْن». والعامَّةُ على «عِلْم» مصدراً، جُعِل عِلْماً مبالغَةً لَمَّا كان به يَحْصُلُ العِلْمُ، أو لَمَّا كان شَرْطاً يُعْلَم به ذلك أُطْلِق عليه عِلْم. وابن عباس وأبو هُرَيْرَة وأبو مالكِ الغِفاري وزيد بن علي «لَعَلَمٌ» بفتح الفاءِ والعينِ أي: لَشَرْطُ وعَلامةٌ، وقرأ أبو نضرة وعكرمةُ كذلك، إلاَّ أنهما عَرَّفا باللام، فقرآ «للعَلَمُ» أي: لَلْعلامَةُ المعروفةُ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(65)

أو يخترم بَعْضَ النُّفوسِ حِمامُها يريد كل النفوس، واستشهدوا أيضاً بقول القطامي: قد يُدْرِكُ المُتَأَنّي بَعْضَ حاجتِه. قالوا معناه كل حاجته. وهذا مذهب أبي عبيدة، والصحيح أن البعض لا يكون في معنى الكل، وهذا ليس في الكلام، والذي جاء به عيسى في الإنجيل إنَّما هو بعض الذي اختلفوا فيه، وبين اللَّه سبحانه لهم من غير الإنجيل ما احتاجوا إليه، وكذلك قوله: أو يخترم بعض النفوس حمامها، إنما يعني نفسه، ونفسه بعض النفوس. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) (الأحزاب) قيل إنهم الأربعة الذين كانوا بعد عيسى، يعني به اليهود والنصارى. وقوله: (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67) جاء في التفسير عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: الأخِلاءُ أَرْبَعَة مؤمنان وكافران - فمات أَحَدُ المؤمِنَيْنِ فَسُئِلَ عن خليله فقال ما علمته إلا أمَّاراً بالمعروف نهَّاءً عن المنكر، اللهم اهده كما هَدَيْتَنِي، وأمِتْه على مَا أَمَتني عليه. وسئل الكافر عن خليله فقال: ما علمته إلا أمَّاراً بالمنكر نهَّاءً عن المعروف، اللهم أضلله كما أضللتني، وأمِتْهُ على ما أَمتني عليه، فإذا كان يوم القيامة أثنى كل واحد على صاحبه شَرًّا.

(68)

قوله - عز وجل - (يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) وتقرأ يا عبادي - بإثبات الياء، وقد فسرنا حذف الياء وإثباتها في مثل هذا فيما سلف من الكتاب. * * * وقوله: (الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) (الذين) في موضع نصب على النعت لِعِبَادِي، لأن عبادي منادى مضاف، وإنَّمَا قيل (لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ) للمؤمنين لا لغيرهم، وكذلك " (ادْخُلوا الجَنَّةَ) لَا خَوْفَ عَلَيْكُمْ يعنى يا عبادي المؤمنين ادْخُلوا الجَنَّةَ. * * * وقوله: (أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) (تُحْبَرُونَ) تكرمون إكراماً يبالغ فيه، والحَبْرَةُ المبالغة فيما وصف بجميل. * * * وقوله: (يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71) " الصحاف " واحدها صَحْفَة وهي القصعة، والأكواب واحدها كوب وهو إناء مستدير لا عروة له. وقوله: (وَفِيهَا مَا تَشْتَهِي الأنْفُسُ). وقرئت (تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ) بإثبات الهاء، وأكثر المصاحف بغيرها، وفي بعضها الهاء. * * * وقوله - عزَّ وجلَّ -: (لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) المبلس: الساكتُ المُمْسِكُ إمساك يائِس من فَرَج. * * * وقوله: (وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) " هِمْ " ههنا فصل كذا يسميها البصريون، وهي تأتي دليلاً على أن ما

(77)

بعدها ليس بصفة لما قبلها، وأن المتكلم يأتي بخبر الأول. ويسميها الكوفيون العِمَاد. وهي عِندَ البصريينِ لا موضع لها في رفع ولا نصب ولَا جَرٍّ، ويزعَمُون أنها بمنزلة (ما) في قوله سبحانه: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ) وقد فسرت ما في هذا فيما تقدم من الكتاب ويجوز " ولكن كانوا هم الظالِمُونَ " في غير القرآن، ولكن لا تقرأنَّ بها لأنَّها تُخَالِفُ المُصْحفَ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77) وقد رُوَيَتْ يَا مَالِ - بغير كاف، وبكسْر اللام - وهذا يسميه النحوُّيونَ الترَخيم، وهو كثير في الشِعْر في مالك وعامر ولكنني أَكْرَهُهُمَا لمخالفتهما المصحف. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أي أم أحكموا عند أنْفُسِهِمْ أَمراً من كيد أو شَرٍّ فَإنا مُبْرِمُونَ. مُحْكِمُونَ مُجَازَاتَهم كيداً بكيدِهِمْ، وشَرًّا بِشَرِّهِمْ. * * * وقوله: (قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81) معناه إنْ كنتم تزعمون أن للرحمن وَلَداً فانا أول الموَحِّدِينَ لأن من عبد الله - عزَّ وجلَّ - واعترف بأنه إلهه فقد دفع أن يكون له وَلَدٌ. والمعنى أن كان للرحمن ولد في قولكم، كما قال: (أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ) أي في قولكم. واللَّه واحد لا شريك له. وقد قيل إنَّ (إنْ) في هذا الموضع في موضع (ما) المعنى ما كان للرحمن وَلَد، (فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ). وقد قيل إن العابدين في معنى الآنفين، فأنا أول من يأنف من هذا القول.

_ (1) قال الإمام فخر الدين الرَّازي بعد كلام طويل ما نصُّه: المعنى أنه تعالى قال: {قُلْ} يا محمد {إِن كَانَ للرحمن وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين} لذلك الولد وأنا أول الخادمين له، والمقصود من هذا الكلام بيان أنى لا أنكر ولده لأجل العناد والمنازعة فإن بتقدير أن يقوم الدليل على ثبوت هذا الولد كنت مقراً به معترفاً بوجوب خدمته إلا أنه لم يوجد هذا الولد ولم يقم الدليل على ثبوته ألبتة، فكيف أقول به؟ بل الدليل القاطع قائم على عدمه فكيف أقول به وكيف أعترف بوجوده؟ وهذا الكلام ظاهر كامل لا حاجة به ألبتة إلى التأويل والعدول عن الظاهر، فهذا ما عندي في هذا الموضع ونقل عن السدي من المفسرين أنه كان يقول حمل هذه الآية على ظاهرها ممكن ولا حاجة إلى التأويل، والتقرير الذي ذكرناه يدل على أن الذي قاله هو الحق، أما القائلون بأنه لا بد من التأويل فقد ذكروا وجوهاً الأول: قال الواحدي كثرت الوجوه في تفسير هذه الآية، والأقوى أن يقال المعنى {إِن كَانَ للرحمن وَلَدٌ} في زعمكم {فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين} أي الموحدين لله المكذبين لقولكم بإضافة الولد إليه، ولقائل أن يقول إما أن يكون تقدير الكلام: إن يثبت للرحمن ولد في نفس الأمر فأنا أول المنكرين له أو يكون التقدير إن يثبت لكم ادعاء أن للرحمن ولداً فأنا أول المنكرين له، والأول: باطل لأن ثبوت الشيء في نفسه لا يقتضي كون الرسول منكراً له، لأن قوله إن كان الشيء ثابتاً في نفسه فأنا أول المنكرين يقتضي إصراره على الكذب والجهل وذلك لا يليق بالرسول، والثاني: أيضاً باطل لأنهم سواء أثبتوا لله ولداً أو لم يثبتوه له فالرسول منكر لذلك الولد، فلم يكن لزعمهم تأثير في كون الرسول منكراً لذلك الولد فلم يصلح جعل زعمهم إثبات الولد مؤثراً في كون الرسول منكراً للولد. الوجه الثاني: قالوا معناه: إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين الآنفين من أن يكون له ولد من عبد يعبد إذا اشتدت أنفته فهو عبد وعابد، وقرأ بعضهم (عبدين). واعلم أن السؤال المذكور قائم ههنا لأنه إن كان المراد: إن كان للرحمن ولد في نفس الأمر فأنا أول الآنفين من الإقرار به، فهذا يقتضي الإصرار على الجهل والكذب، وإن كان المراد إن كان للرحمن ولد في زعمكم واعتقادكم فأنا أول الآنفين، فهذا التعليق فاسد لأن هذه الأنفة حاصلة سواء حصل ذلك الزعم والاعتقاد أو لم يحصل، وإذا كان الأمر كذلك لم يكن هذا التعليق جائزاً. والوجه الثالث: قال بعضهم إن كلمة إن ههنا هي النافية والتقدير ما كان للرحمن ولد فأنا أول الموحدين من أهل مكة أن لا ولد له. واعلم أن التزام هذه الوجوه البعيدة إنما يكون للضرورة، وقد بينا أنه لا ضرورة ألبتة فلم يجز المصير إليها، والله أعلم. أهـ {مفاتيح الغيب حـ 27 صـ 197 - 198} وقال السَّمين: قوله: {إِن كَانَ للرحمن}: قيل: هي شرطيةٌ على بابِها. واخْتُلِفَ في تأويلِه فقيل: إنْ صَحَّ ذلك فأنا أولُ مَنْ يَعْبُده لكنه لم يَصِحَّ ألبتَّةََ بالدليلِ القاطعِ، وذلك أنَّه عَلَّق العبادةَ بكيْنونة الولدِ، وهي مُحالٌ في نفسِها، فكان المُعَلَّقُ بها مُحالاً مثلَها، فهو في صورةِ إثباتِ الكينونةِ والعبادةِ، وفي معنى نَفْيهِما على أَبْلغِ الوجوهِ وأَقْواها، ذكره الزمخشريُّ. وقيل: إن كان له ولدٌ في زَعْمِكم. وقيل: العابدين بمعنى: الآنفين. مِنْ عَبِدَ يَعْبَدُ إذا اشْتَدَّ أَنَفَةً فهو عَبِدٌ وعابِدٌ. ويؤيِّدُه قراءةُ السُّلَميِّ واليماني «العَبِدين» دون ألفٍ. وحكى الخليل قراءةً غريبةً وهي «العَبْدِيْن» بسكون الباءِ، وهي تخفيفُ قراءةِ السُّلَمي فأصلها الكسرُ. قال ابنُ عرفة: «يقال: عَبِدَ بالكسر يَعْبَد بالفتح فهو عَبِد، وقلَّما يقال: عابِد، والقرآن لا يجيْءُ على القليلِ ولا الشاذِّ». قلتُ: يعني فتخريج مَنْ قال: إنَّ العابدين بمعنى الآنفين لا يَصِحُّ، ثم قال كقول مجاهد. وقال الفرزدق: 4010 أولئك آبائي فجِئْني بمثْلِهم. . . وأَعْبَدُ أنْ أَهْجُوْ كُلَيْباً بدارِمِ أي: آنَفُ. وقال آخر: 4011 متى ما يَشَأْ ذو الوُدِّ يَصْرِمْ خليلَه. . . ويُعْبَدْ عليه لا مَحالةَ ظالما وقال أبو عبيدة: «معناه الجاحِدين». يقال: عَبَدَني حَقِّي أي: جَحَدنيه. وقال أبو حاتم: «العَبِدُ بكسر الباءِ: الشديدُ الغَضَبِ»، وهو معنى حسنٌ أي: إنْ كان له ولدٌ على زَعْمِكم فأنا أولُ مَنْ يَغْضَبُ لذلك. وقيل: «إنْ» نافيةٌ أي: ما كان، ثم أَخْبَرَ بقولِه: {فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين} وتكونُ الفاءُ سببيةً. ومنع مكي أَنْ تكونَ نافيةً قال: «لأنه يُوْهِمُ أنَّك إنما نَفَيْتَ عن الله الولدَ فيما مضى دونَ ما هو آتٍ، وهذا مُحالٌ». وقد رَدَّ الناسُ على مكيّ، وقالوا: كان قد تَدُلُّ على الدوامِ كقوله: {وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} [النساء: 96] إلى ما لا يُحْصَى، والصحيحُ من مذاهبِ النحاةِ: أنها لا تدُلُّ على الانقطاعِ، والقائلُ بذلك يقولُ: ما لم يكنْ قرينة كالآياتِ المذكورةِ. وتقدَّمَ الخلافُ في قراءَتَيْ: وَلَد ووُلْد في مريم. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(84)

وقوله عزَّ وجلَّ: (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) المعنى هو الموحَّدُ في السماء وفي الأرْضِ. وقرئت (في السَّماءِ اللَّهُ وفِي الأرْضِ اللَّهُ). ويدل ما خلق بَيْنَهُما وفيهما أَنه وَاحِد حكيم عليم، لأن خلقُهما يدل على الحِكْمَةِ والعِلْمِ (1). * * * وقوله: (وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (88) (وَقِيلَهِ) ويُقْرأ (وقِيلِهِ)، (وقِيلُهِ يَا رَبِّ)، فيها ثلاثة أوجه: الخفض على مَعْنَى (وعنده علم الساعة) وعلمُ قِيلِه يَا رَبِّ والنصب من ثلاثة أوجه: قال أبو الحسن الأخفش إنه منصوب من جهتين: إحداهما على العطف على قوله: (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ) وقيلَهُ، أي ونسمع قيله. ويكون على وقال قيله. قال أبو إسحاق: والَّذي أختاره أنا أن يكون " قيلَه " نصْباً على مَعْنَى وعنده علم الساعة ويعلمُ قيلَهُ، فيكون المعنى إنَّه يعلم الغيب ويعلم قيله، لأن معنى عنده علم الساعة يعلم الساعة ويعلم قيله. ومعنى الساعة في كل القرآن الوقت الذي تقوم فيه القيامَةُ. والرفع على معنى وقيلُه هذا القول، أي وقيله قوله (يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ) (2).

_ (1) قال السَّمين: قوله: {وَهُوَ الذي فِي السمآء إله}: «في السماء» متعلِّقٌ ب «إله» لأنه بمعنى معبودٌ أي: معبودٌ في السماء ومعبودٌ في الأرض، وحينئذٍ فيقال: الصلة لا تكونُ إلاَّ جملةً أو ما في تقديرِها وهو الظرفُ وعديلُه، ولا شيءَ منها هنا. والجوابُ: أنَّ المبتدأَ حُذِفَ لدلالة المعنى عليه، وذلك المحذوفُ هو العائدُ تقديرُه: وهو الذي في السماءِ إلهٌ، وهو في الأرض إلهٌ، وإنما حُذِف لطولِ الصلةِ بالمعمولِ فإنَّ الجارَّ متعلِّقٌ ب إله. ومثلُه «ما أنا بالذي قائلٌ لك سوءاً». وقال الشيخ: «وحَسَّنه طولُه بالعطفِ عليه، كما حَسَّنَ في قولِهم: قائل [لك] شيئاً طولُه بالمعمولِ». قلت: حصولُه في الآيةِ وفيما حكاه سواءٌ؛ فإن الصلةَ طالَتْ بالمعمولِ في كلَيْهما، والعطفُ أمرٌ زائدٌ على ذلك فهو زيادةٌ في تحسين الحَذْفِ. ولا يجوزُ أَنْ يكونَ الجارُّ خبراً مقدماً، و «إله» مبتدأٌ مؤخرٌ لئلا تَعْرَى الجملةُ مِنْ رابطٍ، إذ يصيرُ نظيرَ «جاء الذي في الدار زيد». فإن جَعَلْتَ الجارَّ صلةً وفيه ضميرٌ عائدٌ على الموصولِ وجَعَلْتَ «إله» بدلاً منه. قال أبو البقاء: «جاز على ضَعْفٍ؛ لأن الغَرَض الكليَّ إثباتُ الإِلهيةِ لا كونُه في السماء والأرض، فكان يَفْسُدُ أيضاً من وجهٍ آخرَ وهو قولُه: {وَفِي الأرض إله} لأنه معطوفٌ على ما قبلَه، وإذا لم تُقَدِّرْ ما ذكرْنا صار منقطعاً عنه وكان المعنى: أنَّ في الأرض إلهاً» انتهى. وقال الشيخ: «ويجوزُ أَنْ تكونَ الصلةُ الجارَّ والمجرورَ، والمعنى: أنه فيهما بألوهِيَّتِه وربُوبِيَّتِه، إذ يَستحيل حَمْلُه على الاستقرار». وقرأ عمرُ وعلي وعبد الله في جماعة {وَهُوَ الذي فِي السمآء الله} ضُمِّن العَلَمُ أيضاً معنى المشتقِّ، فيتعلَّقُ به الجارُّ. ومثله «هو حاتمٌ في طَيِّئ» أي: الجوادُ فيهم. ومثلُه: فرعون العذاب. اهـ (الدُّرُّ المصُون). (2) قال السَّمين: قوله: {وَقِيلِهِ}: قرأ حمزةُ وعاصمٌ بالجرِّ. والباقون بالنصب. فأمَّا الجرُّ فعلى وجهَيْن، أحدهما: أنَّه عطفٌ على «الساعة» أي: عنده عِلْمُ قيلِه، أي: قولِ محمدٍ أو عيسى عليهما السلام. والقَوْلُ والقالُ والقِيْلُ بمعنى واحد جاءَتْ المصادرُ على هذه الأوزانِ. والثاني: أنَّ الواوَ للقَسم. والجوابُ: إمَّا محذوفٌ تقديرُه: لتُنْصَرُنَّ أو لأَفْعَلَنَّ بهم ما أريد، وإمَّا مذكورٌ وهو قولُه: {إِنَّ هؤلاء قَوْمٌ لاَّ يُؤْمِنُونَ} ذكره الزمخشريُّ. وأمَّا قراءةُ النصبِ ففيها ثمانيةُ أوجهٍ، أحدُها: أنَّه منصوبٌ على محلِّ «الساعة». كأنَّه قيل: إنه يَعْلَمُ الساعةَ ويعْلَمُ قِيْله كذا. الثاني: أنَّه معطوفٌ على «سِرَّهم ونجواهم» أي: لا نعلم سِرَّهم ونجواهم ولا نعلمُ قِيْلَه. الثالث: عطفٌ على مفعولِ «يكتُبون» المحذوفِ أي: يكتبون ذلك ويكتبون قيلَه كذا أيضاً. الرابع: أنَّه معطوفٌ على مفعولِ «يعلمون» المحذوفِ أي: يَعْلمون ذلك ويعلمون قيلَه. الخامس: أنه مصدرٌ أي: قالَ قيلَه. السادس: أَنْ ينتصِبَ بإضمارِ فعلٍ أي: اللَّهُ يعلمُ قيلَ رسولِه وهو محمدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم. السابع: أَنْ ينتصِبَ على محلِّ «بالحق» أي: شَهِدَ بالحقِّ وبِقيْلِه. الثامن: أَنْ ينتصِبَ على حَذْفِ حرفِ القسمِ كقوله: 4012. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . فذاك أمانةَ اللَّهِ الثَّريدُ وقرأ الأعرجُ وأبو قلابةَ ومجاهدٌ والحسنُ بالرفع، وفيه أوجه [أحدها:] الرفعُ عطفاً على «علمُ الساعةِ» بتقديرِ مضافٍ أي: وعنده عِلْمُ قِيْلِه، ثم حُذِفَ وأُقيم هذا مُقامَه. الثاني: أنَّه مرفوعٌ بالابتداءِ، والجملةُ مِنْ قولِه: «يا رب» إلى آخره هي الخبر. الثالث: أنه مبتدأٌ وخبرُه محذوفٌ تقديرِه: وقيلُه كيتَ وكيتَ مَسْموعٌ أو مُتَقَبَّلٌ. الرابع: أنه مبتدأ وأصلُه القسمُ كقولِهم: «ايمُنُ الله» و «لَعَمْرُ الله» فيكونُ خبرُه محذوفاً. والجوابُ كما تقدَّم، ذَكرَه الزمخشري أيضاً. واختار القراءةَ بالنصب جماعةٌ. قال النحاس: «القراءةُ البَيِّنَةُ بالنصب من جهتَيْن، إحداهما: أنَّ التفرقةَ بين المنصوبِ وما عُطِفَ عليه مُغْتَفَرَةٌ بخلافِها بين المخفوضِ وما عُطِفَ عليه. والثانيةُ تفسيرُ أهلِ التأويل بمعنى النصب». قلت: وكأنَّه يُريدُ ما قال أبو عبيدة قال: «إنما هي في التفسيرِ: أم يَحْسَبون أنَّا لا نَسْمع سِرَّهم ونجواهم ولا نسمعُ قِيْلَه يا رب. ولم يَرْتَضِ الزمخشريُّ من الأوجهِ المتقدمةِ شيئاً، وإنما اختار أَنْ تكونَ قَسَماً في القراءاتِ الثلاثِ، وتقدَّم تحقيقُها. وقرأ أبو قلابة» يا رَبَّ «بفتح الباءِ على قَلْب الياء ألفاً ثم حَذََفَها مُجْتَزِئاً عنها بالفتحة كقولِه: 4013. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . بلَهْفَ ولا بِلَيْتَ. . . . . . . . . . . . . . . . . والأخفشُ يَطَّرِدُها. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

سورة الدخان

سُورَةُ الدُّخَان (مَكِّيَّة) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ جاء في التفسير: من قرأ سورة الدخان في ليلة الجمعة تصديقاً وإيماناً غفر اللَّه له. وقد فسرنا معنى (حم) فيما سَلَفَ. * * * وقوله: (وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) قَسَمٌ. * * * وقوله: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) جاء في التفسير أنها ليلة القدر، قال اللَّه - عزَّ وجلَّ -: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ). وقال المفسرُون: (فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ) هي ليلة القدر. نزل جملة إلى السماءِ الدنْيَا في ليلة القَدْرِ، ثم نزل عَلَى رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - شيئاً بعد شيء. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) يَفْرُق اللَّه عزَّ وجلَّ في ليلة القدر كل أمر فيه حكمة من أرزاقِ العِبادِ وآجالِهِمْ وجميع أَمْرِهم الذي يكون مُؤَجَّلاً إلى ليلة القدر التي تكون في السنة المقبلة. * * * وقوله - عزَّ وجلَّ -: (أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) (أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا) (1)، وقوله: (رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ).

_ (1) قال السَّمين: قوله: {أَمْراً}: فيه اثنا عشر وجهاً، أحدُها: أَنْ ينتصِبَ حالاً مِنْ فاعل «أَنْزَلْناه». الثاني: أنه حالٌ مِنْ مفعولِه أي: أنزلناه آمِرِيْن، أو مَأْموراً به. الثالث: أَنْ يكونَ مفعولاً له، وناصبُه: إمَّا «أَنْزَلْناه» وإمَّا «مُنْذرِين» وإمَّا «يُفْرَقُ». الرابع: أنه مصدرٌ مِنْ معنى يُفْرَق أي: فَرْقاً. الخامس: أنه مصدرٌ ل «أَمَرْنا» محذوفاً. السادس: أَنْ يكونَ «يُفْرَقُ» بمعنى يَأْمُر. والفرقُ بين هذا وما تقدَّم: أنَّك رَدَدْتَ في هذا بالعاملِ إلى المصدرِ وفيما تقدَّم بالعكس. السابع: أنَّه حالٌ مِنْ «كُلُّ». الثامن: أنه حالٌ مِنْ «أَمْرٍ» وجاز ذلك لأنه وُصِفَ. إلاَّ أنَّ فيه شيئين: مجيءَ الحالِ من المضاف إليه في غيرِ المواضع المذكورة. والثاني: أنها مؤكدةٌ. التاسع: أنه مصدرٌ ل «أَنْزَل» أي: إنَّا أَنْزَلْناه إنزالاً، قاله الأخفش. العاشر: أنَّه مصدرٌ، لكن بتأويل العاملِ فيه إلى معناه أي: أَمَرْنا به أَمْراً بسببِ الإِنزال، كما قالوا ذلك في وَجْهي فيها يُفْرَقُ فَرْقاً أو يَنْزِل إنزالاً. الحادي عشر: أنه منصوبٌ على الاختصاص، قاله الزمخشري، ولا يَعْني بذلك الاختصاصَ الاصطلاحيَّ فإنه لا يكون نكرةً. الثاني عشر: أَنْ يكونَ حالاً من الضميرِ في «حكيم». الثالث عشر: أَنْ ينتصِبَ مفعولاً به ب «مُنْذِرين» كقولِه: {لِّيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً} [الكهف: 2] ويكونُ المفعولُ الأول محذوفاً أي: مُنْذِرين الناسَ أمراً. والحاصلُ أنَّ انتصابَه يَرْجِعُ إلى أربعة أشياء: المفعولِ به، والمفعولِ له، والمصدريةِ، والحاليةِ، وإنما التكثيرُ بحَسبِ المحالِّ، وقد عَرَفْتَها بما قَدَّمْتُه لك. وقرأ زيد بن علي «أَمْرٌ» بالرفع. قال الزمخشري: «وهي تُقَوِّي النصبَ على الاختصاصِ». قوله: «مِنْ عِنْدِنا» يجوز أَنْ يتعلَّق ب «يُفْرَقُ» أي: مِنْ جهتِنا، وهي لابتداءِ الغاية مجازاً. ويجوز أَنْ يكونَ صفةً ل أَمْراً. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(7)

منصوبان - قال الأخفش - على الحال، المعنى إنا أنزلناه آمرين أَمْرِاً وراحمين رحْمةً. ويجوز أن يكون منصوباً بِـ (يُفْرَقُ) بمنزلة يفرُقُ فرقاً لأن أمْرَاً بمعنى فَرْقاً، لأن المعْنَى يؤتمر فيها أمراً. ويجوز أن يكون (رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) مَفْعُولًا له، أي إنا أنزلناه رحمة أي للرحْمَةِ (1). * * * وقوله: (رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) بالخفض والرفع. فالرفعُ عَلَى الصفَةِ، والخفض على قوله: (مِنْ رَبِّكَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ. ومن رفع فعلى قوله: (إنَّه هو السميع العليم رَبُّ السَّمَاوَاتِ). وإن شئت على الاستئناف على معنى هو ربُّ السَّمَاوَاتِ. * * * وقوله: (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8) ويقرأ (رَبكُمْ وَرَبِّ آبائِكم الأولينَ) - فالخفض على معنى رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ رَبِّكم وربّ آبائكم الأولين. * * * وقوله: (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) (فارتقب) فانتظر، وفي أكثر التفسير أن الدخان قَدْ مَضى وذلك حين دعا رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - عَلَى مُضَرٍ فقال: اللهم اشدد وطأتك على مُضَرٍ واجْعَلْها عَلَيْهِم سِنِينَ كسني يُوسُفَ. أي اجْعَلْهُم سِنُوهم في الجدب كسني يوسف. والعَرَبُ أيضاً تسمي الجدبِ السَّنَةَ، فيكونُ المْعَنى اجعلها عليهم جَدُوباً. فارتفع القَطْرُ، وأجْدَبَتِ الأرضُ وصار بين السماء والأرض كالدخَانِ. * * * وقوله: (يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11)

_ (1) قال السَّمين: قوله: {رَحْمَةً}: فيها خمسةُ أوجهٍ [أحدها]: المفعولُ له. والعاملُ فيه: إمَّا «أَنْزَلْناه» وإمَّا «أَمْراً» وإمَّا «يُفْرَقُ» وإمَّا «مُنْذِرين». الثاني: مصدرٌ بفعلٍ مقدرٍ أي: رَحِمْنا رَحْمَةً. الثالث: مفعولٌ ب مُرْسِلين. الرابع: حالٌ من ضمير «مُرْسِلين» أي: ذوي رحمة. الخامس: أنها بدلٌ مِنْ «أَمْراً» فيجيءُ فيها ما تقدَّم، وتكثرُ الأوجهُ فيها حينئذٍ. و «مِنْ رَبِّك» يتعلَّقُ برَحْمة، أو بمحذوفٍ على أنها صفةٌ. وفي «مِنْ ربِّك» التفاتٌ من التكلُّم إلى الغَيْبة، ولو جَرَى على مِنْوالِ ما تقدَّمَ لقال: رحمةً منا. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(15)

المعنى يقول الناسُ الذين يحل بهم الجَدْبُ: (هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ) وكذلك قوله (رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ). * * * وقوله - عزَّ وجلَّ -: (إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15) ويجوز أَنَّكُمْ عَائِدُونَ. فمن قرأ أَنكُمْ عائدونَ فهو الوجه، والمعنى أنه يعلمهم أنهم لا يتعِظُونَ، وأنهم إذَا زال عنهم المكروه عادوا في طُغْيانِهم. * * * وقوله - عزَّ وجلَّ: (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16) يوم نَبْطِش، وَنَبْطُش إِنَّا مُنْتَقِمُونَ. هذا مثل عَكَفَ يَعكُف وَيَعْكِفُ، وعَرَشَ يَعْرِشُ ويعْرُشُ وهذا في اللغة كثير. وقيل إن البطشة الكبرى يوم بَدْر. و" يومَ " لا يجوز أن يكون منصُوباً بقوله مُنْتَقِمُونَ، لأن ما بَعْدَ (إنَّا) لا يجوز أن يعمل فيما قبلَها، ولكنه مَنْصُوبُ بقوله: واذكر يوم نبطش البطشة الكبرى. * * * وقوله - عزَّ وجلَّ -: (وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) (أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ) أن أسلموا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ، يعني بني إسرائيل كما قال: (فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ)، أي أطلقهم من عَذَابِكَ. وجائز أن يكون (عِبَادَ اللَّهِ) مَنصُوباً على النداء، فيكون المعنى أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ ما أمركم اللَّه به يا عباد اللَّه. * * * (وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19) أي بِحِجةٍ وَاضحةٍ بَيِّنَةٍ تَدل على أني نبيٌّ. * * * وقوله: (وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) أي أن تقتلون.

(22)

وقوله: (وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) أي إن لم تؤمنوا لي فلا تكونوا عليَّ ولا مَعِي. * * * (فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) من كسر (إنَّ) فالمعنى قال إن هؤلاء، وَ " إنَّ) بعد القول مكسورة. ويجوز الفتح على معنى فَدَعَا رَبَّهُ بأَنَّ هَؤُلَاءِ. * * * وقوله: (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) جاء في التفسير " يَبَساً " كما قال: (فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا" وقال أهل اللغة: رَهواً سَاكِناً. * * * وقوله: (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) جاء في التفسير أن المقام الكريم يعنى به المنابر ههنا، وجاء في مَقام كريم أي في منازل حسنة. * * * قوله: (كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28) المعنى الأمر كذلكْ. موضع كذلك رفع على خبر الابتداء المضمَر. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29) لأنهم ماتوا كفاراً، والمؤمنون إذَا مَاتُوا تبكي عليهم السماء والأرض. فيبكي على المؤمن من الأرض مُصَلَّاه أي مكان مُصَلاهُ ومن السماء مكان مصعد عمله ومنزل رزقه. وجاء في التفسير أن الأرض تبكي على المؤمن أربعين صَبَاحاً. * * * وقوله: (وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ).

(32)

أي ما كانوا مؤخرين بالعذاب. (وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32) أي على عالمي دهرِهم. * * * وقوله: (إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) هذا قاله الكفار من قريش، معنى (إن هي) ما هي، ومعنى (بِمُنْشَرِينَ) بمبعوثين، يقال أنشر اللَّه الموتى فَنَشَرُوا هُمْ [إِذا حَيُوا] (1). * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (37) جاء في التفسير أن تُبَّعاً كان مؤمناً، وأن قومه كانوا كافرين، وجاء أنه نظر إلى كتاب على قبرين بناحية حمير، على قبر أحدهما: هذا قبر رَضْوَى. وعلى الآخر هذا قبر حُبى ابْنتي تُبَّع لا يشركان باللَّهِ شيئاً. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39) يعنى به السَّمَاوَات والأرض أي إلا لإقامة الحق. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) ويجوز ميقاتهم بنصب التاء، ولا أعلم أنه قرئ بها، فلا تقرأن بها. فمن قرأ ميقاتهم بالرفع جعل يوم الفصل اسم إنَّ، وجعل ميقاتهم الخبر، ومن نصب ميقاتهمْ جعله اسم إنَّ ونصب يوم الفصل على الظرف، ويكون المعنى ميقاتهم في يوم الفصل. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) لا يغني ولي عن وَليِّهِ شيئاً، ولا والد عن ولده، ولا مَوْلُودٌ عن وَالِدِه. * * * وقوله: (إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44)

_ (1) زيادة من لسان العرب. 5/ 206).

(47)

يعنى به ههنا أبو جهل بن هشام. والمهل دُرْدِيُّ الزيت ويقال: المهمل ما كان ذائباً من الفضة والنحاس وما أشبه ذلك (3). * * * وقوله: (خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47) ويقرأ فاعْتُلوه - بضم التاء وكسرها. المعنى يا أيها الملائكة خذوه فاعتلوه. والعَتْلُ أن يؤخذَ فيمْضَى به بِعَسْفٍ وَشِدةٍ. (إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ) إلى وَسَطِ الجَحِيمِ. * * * وقوله: (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) الناس كلهم على كسر " إِنَّكَ " إلا الكسائي وحده فإنه قرأ: ذق أنَّكَ أنت، أي لأنَّكَ قُلْتَ إنك أنت العزيز الكريم، وذلك أنه كان يقول: أنا أعز أهل هذا الوادي وَأمْنَعُهمُ فقال الله عزَّ وجلَّ ذق هذا العذابَ إِنَّك أنت القائل: أنا العزيز الكريم. * * * وقوله: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) أي قد أمنوا فيه الغِيَرَ (1). * * * وقوله: (يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53) قيل الإِسْتَبْرَق: الديباج الصَّفيقُ (2). والسُنْدُس: الحرير، وإنما قيل له إستبرق - واللَّه أعلم - لشدة بريقه. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) المعنى لا يذوقون فيها الموت ألبتَّة سوى الموتة الأولى التي ذاقوها في الدنيا، وهما كما قال: (وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ).

_ (1) أمنوا فيه الغِيَرَ والحوادث (زاد المسير. 7/ 350) (2) الغليظ الحسَن (3) قال السَّمين: قوله: {كالمهل}: يجوزُ أَنْ يكونَ خبراً ثانياً، وأَنْ يكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ أي: هو كالمُهْلِ. ولا يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً مِنْ «طعام الأثيم». قال أبو البقاء: «لأنَّه لا عاملَ إذ ذاك». وفيه نظرٌ؛ لأنَّه يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً، والعاملُ فيه معنى التشبيه، كقولك: زيدٌ أخوك شجاعاً. والأَثيم صفةُ مبالَغَةٍ. ويقال: الأَثُوم كالصَّبورِ والشَّكور. والمُهْل: قيل دُرْدِيُّ الزيت. وقيل عَكَر القَطِران. وقيل: ما أُذِيْبَ مِنْ ذَهَبٍ أو فضة. وقيل: ما أُذِيْبَ منهما ومِنْ كُلِّ ما في معناهما من المُنْطبعات كالحديدِ والنحاس والرَّصاص. والمَهْلُ بالفتح: التُّؤَدَةُ والرِّفْقُ. ومنه {فَمَهِّلِ الكافرين} [الطارق: 17]. وقرأ الحسن «كالمَهْل» بفتح الميم فقط، وهي لغةٌ في المُهْلِ بالضم. قوله: «يَغْلي» قرأ ابن كثير وحفصٌ بالياءِ مِنْ تحتُ. والفاعلُ ضميرٌ يعود على طعام. وجَوَّز أبو البقاء أَنْ يعودَ على الزَّقُّوم. وقيل: يعود على المُهْلِ نفسِه، و «يَغْلي» حالٌ من الضميرِ المستترِ في الجارِّ أي: مُشْبهاً المُهْلَ غالياً. ويجوزُ أَنْ يكونَ حالاً مِنَ المُهْلِ نفسِه. وجَوَّزَ أبو البقاء أَنْ يكونَ خبرَ مبتدأ محذوفٍ أي: هو يَغْلي أي: الزقُّوم أو الطعامُ. والباقون «تَغْلي» بالتاء مِنْ فوقُ، على أنَّ الفاعلَ ضميرُ الشجرةِ، والجملةُ خبرٌ ثانٍ أو حالٌ على رَأْيٍ، أو خبرُ مبتدأ مضمر أي: هي تَغْلي. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(57)

وقوله عزَّ وجلَّ: (فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) ويجوز (فَضْلٌ مِنْ رَبِّكَ)، ولا يقرأنَّ بها لخلاف المصحف، والنصْبُ على معنى قوله (يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ). وعلى معنى (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ) وذلك بفضل من اللَّه، فالمعنى فعَل الله بهم ذلك فضلاً منه. وتفضلاً منه. * * * وقوله: (فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59) معناه فانتظر إنهم منتظرون.

سورة الجاثية

سُورَةُ الجاثية (مَكِّيَّة) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله عزَّ وجلَّ: (إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) المعنى - واللَّه أعلم إن في خلق السَّمَاوَات والأرض لآياتٍ ويدل عليه قوله (وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) يقرأ (آياتٍ) و (آياتٌ) بخفض التاء ورفعها وهي في موضع نصب على النسَق على قوله: (إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ). المعنى إن في خَلْقِكم لآيات، ومن قرأ (لَآيَاتٌ) فعلى ضربين: على الاستئناف على معنى وفي خلقكم آياتٌ. وعلى موضع أن مع ما عملت فيه. تقول: إن زيداً قائم وَعَمْراً وعَمْر. فتعطف بعَمْرٍو على زيد إذا نَصَبْتَ، وإذَا رفعت فعلى موضع إنَّ مع زيدٍ، فإن مَعْنَى إنَّ زَيداً قائم زيد قائم. * * * وقوله: (وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) (آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) يقرأ بالرفع وبكسر التاء والتنوين، والموضع موضع نَصْبٍ ويكون قوله: (وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) عطف على قوله: (وفي خلقكم)، وعلى قوله:

(6)

(إن في السَّمَاوَاتِ والأرضِ)، وإن في (اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) آياتٍ. وهذا عطف عَلَى عَامِلَيْن ومثله من الشعر: أكلَّ امرِىءٍ تَحْسَبين امرَأً. . . ونارٍ تَوَقَّدُ بالليلِ نارا عطف على ما عملت فيه كل، وما عملت فيه أتحسبين. وقد أباهُ بعض النحويين، وقالوا: لا يجوز إلا الرفع في قوله: (وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ) وجعله عطفاً على عامل واحد على معنى واختلاف الليل والنهار وتصريف الرياح آيات، وهذا أيضاً عطف على عاملين لأنه يَرْفَع (آياتً) على العطف على ما قبلها كما خفض (واختلافِ) على العطف على ما قبلها. ويكون معطوفاً إن شئت على موضع أن وَمَا عَمِلتْ فيه، وإن شئت على قراءة من قرأ: (وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٍ) (1). * * * وقوله عزَّ وجلَّ (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) و (تؤمنون) جميعاً، والمعنى - واللَّه أعلم - فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ كتاب اللَّهِ وآياته يؤمنون. قال اللَّه عزَّ وجلَّ: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ) فجعل القرآن أحسن الحديث. * * * وقوله: (ويل لِكُلِ أَفاكٍ أَثِيم). (أَفاكٍ) كذاب. * * * وقوله: (هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20)

_ (1) قال السَّمين: قوله: {وَمَا يَبُثُّ مِن دَآبَّةٍ}: فيه وجهان، أظهرهما: أنه معطوفٌ على «خَلْقِكم» المجرورِ ب «في» والتقديرُ: وفي ما يَبُثُّ. والثاني: أنه معطوفٌ على الضميرِ المخفوضِ بالخَلْق، وذلك على مذهبِ مَنْ يرى العطفَ على الضميرِ المجرورِ دونَ إعادةِ الجارِّ واستقبحه الزمخشريُّ وإنْ أُكِّد نحو: «مررتُ بك أنت وزيدٍ» يُشير بذلك إلى مذهب الجرميِّ فإنَّه يقول: إن أُكِّد جازَ، وإلاَّ فلا، فقولُه مذهبٌ ثالثٌ. قوله: {آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} و {آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} قرأ «آياتٍ» بالكسر في الموضعَيْن الأخوَان، والباقون برفعهما. ولا خلافَ في كسرِ الأولى لأنها اسمُ «إنَّ». فأمَّا {آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} بالكسر فيجوزُ فيها وجهان، أحدهما: أنها معطوفةٌ على اسم «إنَّ»، والخبرُ قولُه: «وفي خَلْقِكم». كأنه قيل: وإنَّ في خَلْقِكم وما يَبُثُّ مِنْ دابة آياتٍ. والثاني: أَنْ تكونَ كُرِّرَتْ تأكيداً لآيات الأُولى، ويكونُ «في خَلْقكم» معطوفاً على «في السماوات» كُرِّر معه حرفُ الجَرِّ توكيداً. ونظيرُه أَنْ تقولَ: «إنَّ في بيتك زيداً وفي السوق زيداً» فزيداً الثاني تأكيدٌ للأول، كأنك قلت: إنَّ زيداً زيداً في بيتك وفي السوق وليس في هذه عطفٌ على معمولَيْ عاملَيْن ألبتَّةََ. وقد وَهِم أبو البقاء فجعلها مِنْ ذلك فقال: {آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} يُقرأ بكسر التاءِ، وفيه وجهان، أحدهما: أنَّ «إنَّ» مضمرةٌ حُذِفَتْ لدلالة «إنَّ» الأُولى عليها، وليسَتْ «آيات» معطوفةً على «آيات» الأولى لِما فيه من العطفِ على معمولَيْ عامليْن. والثاني: أَنْ تكونَ كُرِّرَتْ للتأكيد لأنها مِنْ لفظ «آيات» الأُوْلى، وإعرابُها كقولِك: «إن بثوبك دماً وبثوبِ زيد دماً» ف «دم» الثاني مكررٌ؛ لأنَّك مُسْتغنٍ عن ذِكْرِه «انتهى. فقوله:» وليسَتْ معطوفةً على آياتِ الأولى لِما فيه من العطفِ على عامِلَيْن «وَهَمٌ؛ أين معمولُ العاملِ الآخر؟ وكأنه توهَّمَ أنَّ» في «ساقطةٌ مِنْ قولِه:» وفي خَلْقِكم «أو اختلطَتْ عليه {آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} بهذه؛ لأنَّ تَيْكَ فيها ما يُوْهِمُ العطفَ على عامِلَيْن وقد ذكره هو أيضاً. وأمَّا الرفعُ فمِنْ وجهَيْن أيضاً، أحدهما: أَنْ يكونَ» في خَلْقِكم «خبراً مقدَّماً، و» آياتٌ «مبتدأً مؤخراً، وهي جملةٌ معطوفةٌ على جملة مؤكدةٍ. ب» إنَّ «. والثاني: أَنْ تكون معطوفةً على» آيات «الأولى باعتبار المحلِّ عند مَنْ يُجيزُ ذلك، لا سيما عند مَنْ يقولُ: إنه يجوز ذلك بعد الخبرِ بإجماعٍ. وأمَّا قولُه: {واختلاف الليل والنهار} الآية فقد عَرَفْتَ أنَّ الأخَوَيْن يقرآن» آيات «بالكسرِ، وهي تحتاج إلى إيضاحٍ، فإن الناسَ قد تكلَّموا فيها كلاماً كثيراً، وخرَّجوها على أوجهٍ مختلفةٍ، وبها استدلَّ على جوازِ العطفِ على عاملين. قلت: والعطفُ على عامِلَيْن لا يختصُّ بقراءةِ الأخوَيْن بل يجوز أَنْ يُسْتَدَلَّ عليه أيضاً بقراءة الباقين، كما ستقف عليه إن شاء الله تعالى. فأما قراءةُ الأخوين ففيها أوجهٌ، أحدُها: أن يكونَ «اختلافِ الليلِ» مجروراً ب «في» مضمرةً، وإنما حُذِفَتْ لتقدُّم ذكرِها مَرَّتَيْنِ، وحرفُ الجرِّ إذا دَلَّ عليه دليلٌ/ جاز حَذْفُه وإبقاءُ عملِه. وأنشَدَ سيبويه: 4023 الآن قَرَّبْتَ تَهْجُونا وتَشْتِمُنا. . . فاذهَبْ فما بك والأيامِ من عَجَبِ تقديرُه: وبالأيام لتقدُّم الباءِ في «بك» ولا يجوزُ عَطْفُه على الكاف لأنه ليس مِنْ مذهبه - كما عَرَفْتَ - العطفُ على الضميرِ المجرورِ دونَ إعادةِ الجارِّ، فالتقديرُ في هذه الآيةِ: «وفي اختلافِ آيات» ف «آيات» على ما تقدَّم من الوجهين في «آيات» قبلَها: العطفِ أو التأكيدِ. قالوا: ويَدُلُّ على ذلك قراءةُ عبد الله «وفي اختلافِ» تصريحاً ب «في». فهذان وجهان. الثالث: أَنْ يُعْطَفَ «اختلافِ» على المجرورِ ب «في» وآياتٍ على المنصوبِ ب «إنَّ». وهذا هو العطفُ على عاملَيْنِ، وتحقيقُه على معمولَيْ عاملين: وذلك أنَّك عَطَفْتَ «اختلاف» على خَلْق وهو مجرورٌ ب «في» فهو معمولُ عاملٍ، وعَطَفْتَ «آياتٍ» على اسمِ «إنَّ» وهو معمولُ عاملٍ آخرَ، فقد عَطَفْتَ بحرفٍ واحدٍ وهو الواوُ معمولين وهما «اختلاف» و «آيات» على معمولَيْن قبلَهما وهما: خَلْق وآيات. وبظاهرِها استدلَّ مَنْ جَوَّز ذلك كالأخفشِ. وفي المسألة أربعةُ مذاهب: المَنْعُ مطلقاً، وهو مذهبُ سيبويه وجمهورِ البصريين. قالوا: لأنه يُؤَدِّي إلى إقامة حرفِ العطفِ مقامَ عاملين وهو لا يجوزُ؛ لأنه لو جاز في عامِلَيْن لجازَ في ثلاثةٍ، ولا قائل به، ولأنَّ حرفَ العطفِ ضعيفٌ فلا يَقْوَى أَنْ ينوبَ عن عاملَيْنِ ولأنَّ القائلَ بجوازِ ذلك يَسْتَضْعِفُه، والأحسنُ عنده أن لا يجوزَ، فلا ينبغي أَنْ يُحْمَلَ عليه كتابُ اللَّهِ، ولأنه بمنزلةِ التعديتَيْنِ بمُعَدٍّ واحد، وهو غيرُ جائزٍ. قال ابن السراج: «العطفُ على عاملَيْن خطأٌ في القياسِ، غيرُ مَسْموع من العرب» ثم حَمَل ما في هذه الآيةِ على التكرارِ للتأكيد. قال الرمَّاني: «هو كقولِك:» إنَّ في الدارِ زيداً والبيتِ زيداً «فهذا جائزٌ بإجماعٍ فتدبَّرْ هذا الوجهَ الذي ذكره ابنُ السراجِ فإنه حسنٌ جداً، لا يجوزُ أَنْ يُحْمَلَ كتابُ اللَّهِ إلاَّ عليه. وقد بَيَّنْتُ القراءةَ بالكسرِ ولا عيبَ فيها في القرآن على وجهٍ، والعطفُ على عاملَيْن عيبٌ عند مَنْ أجازه ومَنْ لم يُجِزْه، فقد تناهى في العيب، فلا يجوزُ حَمْلُ هذه الآيةِ إلاَّ على ما ذكره ابنُ السَّراج دون ما ذهبَ إليه غيرُه». قلت: وهذا الحَصْرُ منه غيرُ مُسَلَّمٍ فإنَّ في الآيةِ تخريجاتٍ أُخَرَ غيرَ ما ذكره ابن السراج يجوزُ الحَمْلُ عليها. وقال الزجاج: «ومثلُه في الشعر: 4024 أكلَّ امرِئٍ تَحْسَبين امْرَأً. . . ونارٍ تَوَقَّدُ بالليلِ نارا وأنشد الفارسيُّ للفرزدق: 4025 وباشَرَ راعيها الصَّلا بلَبانِه. . . وجَنْبَيْه حَرَّ النارِ ما يتحرَّق وقول الآخر: 4026 أَوْصَيْتُ مِنْ رُبْدَةَ قَلْباً حُرَّاً. . . بالكلبِ خيراً والحَماةِ شَرا قلت: أمَّا البيتُ الأولُ فظاهرُه أنه عَطَفَ و» نارٍ «على» امرئ «المخفوض ب» كل «و» ناراً «الثانية على» امرَأ «الثاني. والتقدير: وتحسبين كلَّ نارٍ ناراً، فقد عطف على معمولَيْ عاملَيْن. والبيتُ الثاني عَطَفَ فيه» جَنْبَيْه «على» بلبانه «وعَطَفَ» حَرَّ النارِ «على» الصلا «، والتقدير: وباشر بجَنْبَيْه حرَّ النار، والبيتُ الثالث عَطَفَ فيه» الحَماة «على» الكلب «و» شَرًّا «على» خيراً «، تقديرُه وأَوْصَيْتُ بالحَماة شراً. وسيبويه في جميع ذلك يرى الجرَّ بخافضٍ مقدرٍ لكنه عُورض: بأنَّ إعمال حرفِ الجرِّ مضمراً ضعيفٌ جداً، ألا ترى أنَّه لا يجوزُ» مررتُ زيدٍ «بخفضِ» زيد «إلاَّ في ضرورةٍ كقولِه: 4027 إذا قيلَ أيُّ الناسِ شرُّ قبيلةٍ. . . أشارَتْ كليبٍ بالأكفِّ الأصابعُ يريد: إلى كليب، وقولِ الآخر: 4028 - . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . حتى تَبَذَّخَ فارتقى الأعلامِ أي إلى الأعلام، فقد فَرَّ مِنْ شيءٍ فوقَع في أضعفَ منه. وأُجيب عن ذلك: بأنه لَمَّا تَقَدَّم ذِكْرُ الحرف في اللفظِ قَوِيَتِ الدلالةُ عليه، فكأنَّه ملفوظٌ به بخلافِ ما أَوْرَدْتموه في المثالِ والشعر. والمذهب الثاني: التفصيلُ - وهو مذهب الأخفش - وذلك أنَّه يجوز بشرطَيْنِ، أحدُهما: أَنْ يكونَ أحدُ العاملَيْن جارًّا. والثاني: أن يتصلَ المعطوفُ بالعاطفِ أو يُفْصَلَ بلا، مثالُ الأولِ الآيةُ الكريمةُ والأبياتُ التي قَدَّمْتُها. ولذلك استصوب المبردُ استشهادَه بالآيةِ. ومثالُ الفَصْل ب لا قولك:» ما في الدارِ زيدٌ ولا الحجرةِ عمروٌ «، فلو فُقِدَ الشرطانِ نحو: إنَّ/ زيداً شَتَمَ بِشْراً، وواللَّهِ خالداً هنداً، أو فُقِدَ أحدُهما نحو: إنَّ زيداً ضربَ بَكْراً، وخالداً بشراً. فقد نَقَلَ ابنُ مالكٍ الامتناعَ عند الجميعِ. وفيه نظرٌ لِما سَتَعْرِفُه من الخلافِ. الثالث: أنَّه يجوزُ بشرطِ أَنْ يكونَ أحدُ العامِلَيْنِ جارَّاً، وأَنْ يكونَ متقدماً، نحوَ الآيةِ الكريمةِ، فلو لم يتقدَّمْ نحوَ:» إنَّ زيداً في الدار، وعمراً السوقِ «لم يَجُزْ، وكذا لو لم يكنْ حرفَ جرٍّ كما تقدَّمَ تمثيلُه. الرابع: الجوازُ، ويُعْزَى للفَرَّاء. الوجهُ الرابعِ من أوجهِ تخريجِ القراءةِ المذكورة: أَنْ تنتصِبَ» آيات «على الاختصاصِ. قاله الزمخشريُّ، وسيأتي فيما أَحْكيه عنه. وأمَّا قراءةُ الرفعِ ففيها أوجهٌ، أحدُها: أَنْ يكونَ الأولُ والثاني ما تقدَّم في {آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ}. الثالث: أَنْ تكونَ تأكيداً لآيات التي قبلها، كما كانَتْ كذلك في قراءةِ النصبِ. الرابع: أَنْ تكونَ المسألةُ من بابِ العطفِ على عامِلَيْن؛ وذلك أنَّ «اختلافِ» عطفٌ على «خَلْقِكم» وهو معمولٌ ل «في» و «آيات» معطوفةٌ على «آيات» قبلَها، وهي معمولةٌ للابتداءِ فقد عَطَفَ على معمولَيْ عامِلَيْنِ في هذه القراءةِ أيضاً. قال الزمخشري: «قُرِئَ {آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} بالرفع والنصبِ على قولِك:» إنَّ زيداً في الدار وعمراً في السوقِ، أو وعمروٌ في السوق «. وأمَّا قولُه: {آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} فمن العطفِ على عامِلَيْنِ سواءً نَصَبْتَ أم رَفَعْتَ فالعاملان في النصبِ هما:» إنَّ «، و» في «أُقيمت الواوُ مُقامَهما فعَمِلَتْ الجرَّ في و {واختلاف اليل والنهار} والنصبَ في» آياتٍ «. وإذا رَفَعْتَ فالعاملانِ: الابتداءُ، و» في «عملت الرفع في» آيات «والجرَّ في» اختلاف «». ثم قال في توجيهِ النصبِ: «والثاني أَنْ ينتصِبَ على الاختصاصِ بعد انقضاءِ المجرور». الوجهُ الخامسُ أَنْ يرتفعَ «آياتٌ» على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ أي: هي آياتٌ. وناقَشَه الشيخُ فقال: «ونسبةُ الجرِّ والرفعِ، والجرِّ والنصبِ للواوِ

(21)

(هذا) إشارة إلى القرآن، المعنى هذا القرآن بصائر للناس. * * * وقوله (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21) (سَوَاءٌ مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ) ويقرأ (سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ)، وقد قرئت سواءٌ مَحْياهم وَمَماتَهمْ بنصب الممات. وحكى بعض النحويين أن ذلك جائز في العربية. ومعنى (اجْتَرَحُوا) اكتسبوا، ويقال: فلانٌ جَارِحةُ أهله أي كاسبهم، والاختيار عند سيبويه والخليل وجميع البصريين (سَوَاءٌ) برفع سواء. وعليه - أكثر القراء، ويجيزون النصب، وتقول: ظننت زيداً - سواءٌ أبوه وأمُّه، وسواءً أبوه وأُمُّه. والرفع أجود، لأن سواء في مذهب المصدر كما تقول: ظننت زيداً ذو استواء أبوه وأُمُّه. ومن قرأ (سَوَاءً) بالنصب جعله في موضع مستوياً محياهم وَمَمَاتُهُمْ ومن نصب محياهم ومماتهم، فهو عند قوم من النحويين (سَوَاءً) في محياهم وفي مماتهم، ويذهب به مذهب الأوقات، وهو يجوز على غير ذلك على أن يجعله بدلاً من الهاء والميم، ويكون المعنى أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعل محياهم ومماتهم سواءً كالذين آمنوا وعملوا الصالحات، أي كمحيا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ومَمَاتهم (1). * * * وقوله: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23) وقد رويت آلِهَةً هَوَاهُ، ولها وجه في التفسير وروي أن قريشاً كانت تعبد العُزى وهي حجر أبيض فإذا رأت حجراً أشد بياضاً منه وأحسن اتخذت ذلك الأحسن واطَّرَحت الأولَ، فهذا يدل على آلهته، وكذلك أيضاً إلهه. وقوله (وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ). أي على ما سبق في علمه قبل أن يخلقه أنه ضال.

_ (1) قال السَّمين: قوله: {أَمْ حَسِبَ}: «أم» منقطعةٌ، فَتُقَدَّر ب بل والهمزةِ، أو ب بل وحدها، أو بالهمزة وحدَها. وتقدم تحقيق هذا. قوله: {كالذين آمَنُواْ}: هو المفعولُ الثاني للجَعْل أي: أَنْ نجعلَهم كائنين كالذين آمنوا أي: لا يَحْسَبُوْن ذلك، وقد تَقَدَّمَ في سورة الحج: أنَّ الأخَوَيْن وحفصاً قرؤُوا هنا «سواءً» بالنصب، والباقون بالرفع، ووَعَدْتُ بالكلام عليه هنا، فأقول وبالله التوفيق: أمَّا قراءةُ النصبِ ففيها ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أَنْ تَنْتَصِبَ على الحالِ من الضميرِ المستترِ في الجارِّ والمجرورِ وهما: «كالذين آمنوا»، ويكونُ المفعولُ الثاني للجَعْل «كالذين آمنوا» أي: أحَسِبوا أَنْ نَجْعَلَهم مثلَهم في حالِ استواءِ مَحْياهم ومماتِهم ليس الأمرُ كذلك. الثاني: أَنْ يكونَ «سواءً» هو المفعولَ الثاني للجَعْل، و «كالذين» في محلِّ نصبٍ على الحال أي: لن نجعلَهم حالَ كونِهم مثلَهم سواءً، وليس معناه بذاك. الثالث: أَنْ يكونَ «سواءً» مفعولاً ثانياً ل «حَسِب». وهذا الوجهُ نحا إليه أبو البقاء، وأظنُّه غَلَطاً لِما سَيَظْهَرُ لك فإنَّه قال: «ويُقْرأ بالنصب. وفيه وجهان، أحدهما: هو حالٌ من الضميرِ في الكافِ أي: نجعلَهم مثلَ المؤمنين في هذه الحالِ. والثاني: أَنْ يكونَ مفعولاً ثانياً ل» حَسِب «والكافُ حالٌ، وقد دَخَلَ استواءُ مَحْياهم وممَاتُهم في الحُسْبان، وعلى هذا الوجهِ مَحْياهم ومماتُهم مرفوعان ب» سَواء «؛ لأنَّه قد قَوِيَ باعتمادِه» انتهى. فقد صَرَّح بأنه مفعولٌ ثانٍ للحُسْبان. وهذا لا يَصِحُّ ألبتَّةََ؛ لأنَّ «حَسِبَ» وأخواتِها إذا وَقَعَ بعدها «أنَّ» المشددةُ أو «أَنْ» المخففةُ أو الناصبةُ سَدَّتْ مَسَدَّ المفعولين، وهنا قد وَقع بعد الحُسْبان «أنْ» الناصبةُ فهي سادَّةٌ مَسَدَّ المفعولَيْنِ، فَمِنْ أين يكونُ «سواءً» مفعولاً ثانياً ل حَسِب؟ فإنْ قلتَ: هذا الذي قُلْتُه رأيُ الجمهورِ سيبويهِ وغيرِه، وأمَّا غيرُهم كالأخفشِ فيدَّعي أنها تَسُدُّ مَسَدَّ واحدٍ. إذا تقرَّر هذا فقد يجوزُ أنَّ أبا البقاءِ ذَهَبَ هذا المذهبَ، فأعرب «أَنْ نجعلَهم» مفعولاً أولَ و «سواءً» مفعولاً ثانياً. فالجواب: أنَّ الأخفشَ صَرَّحَ بأنَّ المفعولَ الثاني حينئذٍ يكونُ محذوفاً. ولَئِنْ سَلَّمْنا أنَّه لا يُحْذَفُ امتنع مِنْ وجهٍ آخرَ: وهو أنه قد رفع به «محياهُم ومماتُهم» لأنه بمعنى مُسْتَوٍ كما تقدَّم، ولا ضميرَ يَرْجِعُ مِنْ مرفوعِه إلى المفعولِ الأولِ، بل رَفَعَ أجنبياً من المفعولِ الأولِ. وهو نظيرُ: «حَسِبْتُ قيامَك مُسْتوياً ذهابُك وعَدَمُه». ومَنْ قرأ بالرفع فتحتمل قراءتُه وجهَيْن، أحدهما: أَنْ يكونَ «سواءٌ» خبراً مقدماً. و «مَحْياهم» مبتدأً مؤخراً/ ويكون «سواء» مبتدأً و «مَحْياهم» خبرَه. كذا أعربوه. وفيه نظرٌ تقدَّم في سورة الحج وهو: أنَّه نكرةٌ لا مُسَوِّغ فيها، وأنه متى اجتمع معرفةٌ ونكرةٌ جَعَلْتَ النكرةَ خبراً لا مبتدأً. ثم في هذه الجملةِ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنَّها استئنافية. والثاني: أنها بدلٌ من الكافِ الواقعةِ مفعولاً ثانياً. قال الزمخشري: «لأنَّ الجملةَ تقع مفعولاً ثانياً فكانَتْ في حكمِ المفردِ. ألا تراكَ لو قُلْتَ: أن نجعلَهم سواءٌ مَحْياهم ومماتُهم، كان سديداً، كما تقول: ظننتُ زيداً أبوه منطلقٌ». قال الشيخ: «وهذا - أَعْني إبدالَ الجملة من المفرد - أجازه ابنُ جني وابنُ مالك، ومنعَه ابنُ العِلْجِ»، ثم ذكر عنه كلاماً كثيراً في تقرير ذلك ثم قال: «والذي يَظْهَرُ أنه لا يجوزُ»، يعني ما جَوَّزه الزمخشريُّ قال: «لأنَّها بمعنى التصييرِ ولا يجوزُ:» صَيَّرْتُ زيداً أبوه قائمٌ «لأنَّ التصييرَ انتقالٌ من ذاتٍ إلى ذاتٍ، أو من وصفٍ في الذاتِ إلى وصفٍ فيها. وتلك الجملةُ الواقعةُ بعد مفعولِ» صَيَّرْت «المقدرةُ مفعولاً ثانياً ليس فيها انتقالٌ مما ذكرْنا فلا يجوز». قلت: ولِقائلٍ أَنْ يقولَ: بل فيها انتقالٌ مِنْ وصفٍ في الذاتِ إلى وصفٍ فيها؛ لأنَّ النحاة نَصُّوا على جوازِ وقوع الجملةِ صفةً وحالاً نحو: مررتُ برجلٍ أبوه قائمٌ، وجاء زيدٌ أبوه قائم. فالذي حكموا عليه بالوصفيَّةِ والحاليةِ يجوزُ أَنْ يقعَ في حَيِّز التَّصْيير؛ إذ لا فَرْقَ بين صفةٍ وصفةٍ من هذه الحيثيَّة. الثالث: أن تكونَ الجملةُ حالاً، التقدير: أم حَسِبَ الكفار أَنْ نُصَيِّرهم مثلَ المؤمنين في حالِ استواءِ محياهم ومماتِهم، ليسوا كذلك بل هم مُفْترقون. وهذا هو الظاهر عند الشيخِ. وعلى الوجهين الأخيرين تكونُ الجملةُ داخلةً في حَيِّز الحُسْبانِ. وإلى ذلك نحا ابن عطية فإنه قال: «يَقْتضي هذا الكلامُ أنَّ لفظَ الآية خبرٌ، ويظهر أنَّ قولَه: {سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ} داخلٌ في المَحْسَبَةِ المُنْكَرَةِ السيئةِ، وهذا احتمالٌ حسن والأولُ جيدٌ» انتهى. ولم يبين كيفيةَ دخولِه في الحُسْبانِ، وكيفيَّةُ أحدِ الوجهين الأخيرَيْن: إما البدلِ وإمَّا الحاليةِ كما عَرَفْتَه. وقرأ الأعمشُ «سواءً» نصباً «مَحْياهم ومَماتَهم» بالنصب أيضاً. فأمَّا «سواءً» فمفعولٌ ثانٍ أو حالٌ كما تقدَّم. وأمَّا نصب «مَحْياهم ومماتَهم» ففيه وجهان، أحدهما: أَنْ يكونا ظَرْفَيْ زمانٍ، وانتصبا على البدلِ مِنْ مفعولِ «نَجْعَلَهم» بدلِ اشتمال، ويكون «سواءً» على هذا هو المفعولَ الثاني. والتقدير: أن نجعلَ محياهم ومماتَهم سواءً. والثاني: أَنْ ينتصِبا على الظرفِ الزمانيِّ. والعاملُ: إمَّا الجَعْلُ أو سواء. والتقدير: أَنْ نجعلَهم في هذَيْن الوقتَيْن سواءً، أو نجعلَهم مُسْتَوِين في هذين الوقتين. قال الزمخشري مقدِّراً لهذا الوجه: «ومَنْ قرأ بالنصبِ جَعَلَ» مَحْياهم ومماتَهم «ظَرْفَيْنِ كمَقْدَمِ الحاجِّ وخُفوقِ النجم». قال الشيخ: «وتمثيلُه بخُفوق النجم ليس بجيدٍ؛ لأنَّ» خُفوقَ «مصدرٌ ليس على مَفْعَل فهو في الحقيقةِ على حَذْفِ مضافٍ أي: وقتَ خُفوقِ بخلاف مَحْيا ومَمات ومَقْدَم فإنها موضوعةٌ على الاشتراك بين ثلاثةِ معانٍ: المصدريةِ والزمانيةِ والمكانيةِ. فإذا اسْتُعْملت مصدراً كان ذلك بطريق الوَضْعِ لا على حَذْفِ مضافٍ كخُفوق؛ فإنه لا بُدَّ مِنْ حَذْفِ مضافٍ لكونِه موضوعاً للمصدرية». وهذا أمرٌ قريبٌ لأنَّه إنما أراد أنه وَقَع هذا اللفظُ مُراداً به الزمانُ. أمَّا كونُه بطريق الأصالةِ أو الفرعيةِ فلا يَضُرُّ ذلك. والضميرُ في «مَحْياهم ومماتُهم» يجوزُ أَنْ يعودَ على القَبِيْلَيْنِ بمعنى: أنَّ مَحْيا المؤمنين ومماتَهم سواءٌ عند الله في الكرامةِ، ومَحْيا المجترحين ومماتَهم سواءٌ في الإِهانةِ عنده، فَلَفَّ الكلام اتِّكالاً على ذِهْنِ السَّامع وفهمِه. ويجوزُ أَنْ يعودَ على المُجْترحين فقط. أَخْبَرَ أَنَّ حالَهم في الزمانَيْن سواءٌ. قال أبو البقاء: «ويُقْرَأُ» مَماتَهم «بالنصب أي: في مَحْياهم ومماتَهم. والعاملُ» نَجْعل «أو سواء. وقيل: هو ظرفٌ». قلت: قوله: «وقيل» هو القولُ الأولُ بعينِه. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(24)

(وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً). ويقرأ غَشوة بفتح الغيْن بغير ألف، ويقرأ غُشَاوَةَ - بضم الغين والألف (1). * * * وقوله: (وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24) فإن قال قائل: كيف قالوا نموت ونحيا وهم لا يقرون بالبعث. فالدليل على أنهم لا يقرون بالبعث قولهم ما هِيَ إلا حياتنا، وفي نموت ونحيا ثلاثة أقوال. يكون المعنى (نَمُوتُ وَنَحْيَا)، يحيا أولادُنا، فيموت قوم ويحيا قوم. ويكون معنى (نَمُوتُ وَنَحْيَا) نحيا ونموت، لأن الواو للاجتماع. وليس فيها دليل على أن أحد الشيئين قبل الآخر. ويكون (نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ) أي ابتداؤنا موات في أصل الخلقة، ثم نحيا ثم يهلكنا الدَّهْرُ. فَاَعْلَمَ اللَّه - عزَّ وجلَّ - أَنهمْ يَقولُونَ ذلك ضُلَّالًا، شَاكِين فقال: (وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ). المعنى ما هم إِلَّا يَظُنُّونَ. * * * وقوله - عزَّ وجلَّ -: (مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) يجوز في (حُجَّتَهُمْ) الرفْعُ، فمن رفع جعل (حُجَّتُهُمْ) اسم كان و (أنْ قَالُوا) خبر كان. ومن نصب (حُجَّتَهُمْ) جعل اسم كان أَنْ مَعَ صِلَتِها. ويكون المعنى ما كان (حُجَّتَهُمْ) إلَّا مَقَالَتَهم ائتوا بآبائنا. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) أي كل أحد يُجزى بما تضمنه كتابه، كما قال عزَّ وجلَّ:

_ (1) قال السَّمين: قوله: {أَفَرَأَيْتَ}: بمعنى: أَخْبِرْني، وتقدَّم حكمُها مشروحاً. والمفعولُ الأولُ «مَنْ اتَّخذ»، والثاني محذوف، تقديره بعد غشاوة: أيهتدي، ودَلَّ عليه قولُه: «فَمَنْ يهْديه» وإنما قَدَّرْتَه بعد غشاوة لأجلِ صلاتِ الموصولِ. قوله: «على عِلْمٌ» حالٌ من الجلالةِ أي: كائناً على علمٍ منه فيه أنَّه أهلٌ لذلك. وقيل: حالٌ من المفعول أي: أضلَّه وهو عالِمٌ، وهذا أشنعُ له. وقرأ الأعرجُ «آلهةً» على الجمع، وعنه كذلك مضافة لضميره: «آلهتَه هواه». قوله: «غِشاوة» قرأ الأخَوان «غَشْوَة» بفتح الغين وسكونِ الشين. والأعمشُ وابن مصرف كذلك إلاَّ أنَّهما كسرا الغَيْنَ. وباقي السبعة «غِشاوة» بكسر الغين. وابنُ مسعود والأعمشُ أيضاً بفتحها، وهي لغةُ ربيعةَ. والحسن وعكرمة وعبد الله أيضاً بضمِّها، وهي لغةُ عُكْلية. وتقدَّم الكلامُ في ذلك أولَ البقرة، وأنَّه قُرئ هناك بالعين المهملة. والعامَّةُ: «تَذَكَّرون» بالتشديد والجحدريُّ بتخفيفها. والأعمش بتاءَيْن «تَتَذَكَّرون». قوله: {مِن بَعْدِ الله} أي: مِنْ بعد إضلالِ الله إياه. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(29)

(وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ). ْفهذا مثل قوله: (كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا). رفع (كُلُّ) بالابتداء، والخبر (تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا). ومَن نصب جعله بدلاً من " كُلَّ " الأول، والمعنى وترى كل أمة تدعى إلى كتابها. ومعنى (جَاثِيَةً) جالسة على الركب، يقال قد جثا فلان يجثو إذا جلس على ركبته، ومثله جَذا يجذو. والجُذُؤ أشا استيفازاً من الجثو لأن الجذو أن يجلس صاحبه على أطراف أصابعه. * * * وقوله: (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) الاسْتِنْساخُ لا يكون إلا من أَصْل، وهو أن يستنسخ كتاباً من كتابٍ. فنستنسخَ ما يكتب الحفظة ويثبت عند اللَّه - عزَّ وجلَّ -. * * * وقوله: (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ (31) جواب (أَمَّا) محذوف، لأن في الكلام دليلاً عليه، المعنى وأما الذين كفروا فيقال لهم: أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ، ودلت الفاء في قوله (أَفَلَمْ) على الفاء المحذوفة فى قولك فيقال لهم. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) (وَالسَّاعَةُ) (وَالسَّاعَةَ)، فمن نصب فَعَطفٌ على الوعد. المعنى: وإذا قيل إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأنَّ الساعةَ. ومن رفع فعلى معنى وقيل الساعةُ لا ريب فيها.

(34)

وقوله عزَّ وجلَّ: (وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (34) أي اليوم نترككم في العذاب، كما تركتم الإيمان والعمل ليومكم. والدليل على ذلك قوله: (فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35) لا يردون ولا يلتمس منهم عمل وَلَا طَاعة. * * * وقوله: (وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37) أي له العظمة في السَّمَاوَات والأرض. * * * ْوقوله: (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ). ويقرأ (مِنَّةً) (جميعاً) منصوب على الحال، والمعنى كل ذلك منه تفضُّلٌ وإحسان. و (مِنَّةً) على معنى المفعول له، والمعنى فعل ذلك مِنَّةً، أي مَنَّ مِنَّةً. لأن تسخيره بمعنى مَنَّ عليكم.

سورة الأحقاف

سُورَةُ الأحقاف بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله عزَّ وجلَّ: (مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3) جاء في التفسير: مَا خَلَقْنَاهما إِلَّا للحَقِّ، أي لإقامة الحق، وتكون على معنى ما قامت السماوات والأرض إلا بالحق. وقوله بعقب هذا: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ). أي أعرضوا بعد أن قام لهم الدليل بخلق الله السماوات والأرض، وما بينهما ثم دعاهم إلى الدليل لهم على بطلان عبادة ما يعبدونَ من الأوثان فقال: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4) ويقرأ أَرَيْتُمْ بغير ألف. (مَا تَدْعُونَ مِنْ دونِ اللَّهِ) ما تدعونه إلهاً من دون اللَّه. (أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ). أي في خلق السَّمَاوَاتِ، أي فلذلك أشركتموهم في عبادة الله عزَّ وجلَّ.

(5)

(ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا). أي ايتوني بِكتابِ أنزل فيه برهانُ ما تَدَّعُونَ. (أَوْ أَثَرَةٍ مِنْ عِلْمٍ) ويقرأ (أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ)، وقرئت أو أَثْرةٍ مِنْ عِلْمٍ - بإسكان الثاء - ومعناها؛ إذا قال: أَثارة على معنى عَلَامةٍ مِنْ عِلْم، ويجوز أن يكون على معنى بقية من علم، ويجوز أن يكون على معنى ما يؤثر من العلم. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) أي من أضل مِمنْ عَبَدَ غيرَ اللَّه. وجَمِيعُ مَا خلق اللَّه دليل على وَحْدَانِيَّته فمن أضل ممن عبد حجراً لا يستجيب لَه. وقال و (مَنْ) وقال و (وَهُمْ) وهو لغير ما يعْقِل، لأن الذين عبدوها أجْرَوْهَا مجرى ما يميز فخوطبوا على مُخَاطَبَاتِهِمْ كما قالوا: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) ولو كانت " ما " لكان جَيداً كما قال: (لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ). * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6) أي كانت الأصْنامُ كَافِرةً بعبادتهم إياها، تقول ما دعوهم إلى عبادتنا. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8)

(9)

أي فَلَسْتُمْ تملكون من اللَّه شيئاً، أي اللَّه أملك بعباده. (كَفَى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) أي كفَى هو شهيداً. وَ (بِه) في موضع رفع. وقوله في هذا الموضع: (وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) معناه أنه مَنْ أَتَى من الكبائر العِظَام ما أتيتُمْ به من الافتراء على اللَّه جلَّ وعزَّ وَعَلا - ثم تاب فإن الله غفورٌ رَحيمٌ له. * * * وقوله: (قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9) أي ما كنت أول من أرْسِلَ. قد أرسل قبلي رُسُلٌ كثيرونَ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ) كان رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - رأى في منامه أنه سيصير إلى أَرْض ذَاتِ نَخْل وَشَجرٍ، وقد شكا أصحابه الشدةِ التي نالتهم فلما أَعْلَمَهُم أنه سيصير إلى أرض ذات نَخْل وَشَجرٍ، وتأخَّرَ ذَلِكَ استبطأوا ما قال عليه السلام، فأعلمهم أن الذي يتبِعُهُ ما يُوحَى إليه، إن أمر بِقِتَال أو انتقال، وكان ذلك الأمْرُ وحياً فَهُو مُتَّبِعُهُ، ورؤيا الأنبياء عليهم السلام وَحْيٌ (1). * * * وقوله: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) جاء في التفسير أن عبد اللَّه بن سلام صار إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قآمن به، وقال له: سَلْ اليهودَ عني فَإنهُمْ سَيُزَكونَنِي عندك ويخبرونك بمكانِي من العِلْم، فَسَاَلَهُم النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه من قبْل أن يَعْلَمُوا أَنه قدْ آمن. فأخبروا عنه بأنه أعلمُهُم بالتوراة وبِمَذْهَبِهِم، وأنه عالم ابن عالم ابن عَالِم. قآمن بحضرتِهِم وشهِدَ أن محمداً رسول اللَّه فقالوا بَعْدَ إيمانه أنتَ شرُّنَا وابن شَرِّنَا.

_ (1) قال السَّمين: قوله: {بِدْعاً}: فيه وجهان، أحدهما: على حَذْفِ مضافٍ تقديرُه: ذا بِدْعٍ، قاله أبو البقاء. وهذا على أَنْ يكونَ البِدْعُ مصدراً. والثاني: أَنَّ البِدْعَ بنفسِه صفةٌ على فِعْل بمعنى بديع كالخِفِّ والخَفيف. والبِدْعُ والبديعُ: ما لم يُرَ له مِثْلٌ، وهو من الابتداع وهو الاختراعُ. أنشد قطرب: 4039ب فما أنا بِدْعٌ مِنْ حوادِثَ تَعْتَري. . . رجالاً عَرَتْ مِنْ بعدِ بُؤْسَى بأَسْعُدِ وقرأ عكرمة وأبو حيوةَ وابنُ أبي عبلة «بِدَعاً» بفتح الدال جمع بِدْعة أي: ما كنتَ ذا بِدَع. وجَوَّز الزمخشري أَنْ يكونَ صفةً على فِعَل ك «دِين قِيَم» و «لحم زِيَم». قال الشيخ: «ولم يُثْبِتْ سيبويه صفةً على فِعَل إلاَّ قوماً عِدَا، وقد اسْتُدْرِك عليه» لحم زِيَم «أي: متفرق، وهو صحيحٌ. فأمَّا» قِيَم «فمقصورٌ مِنْ قيام، ولولا ذلك لصَحَّتْ عينُه كما صَحَّتْ في حِوَل وعِوَض. وأمَّا قولُ العربِ:» مكان سِوَىً «و» ماء رِوَىً «ورجل رِضَا وماء صِرَىً فمتأوَّلَةٌ عند التَّصْريفيِّين» قلت: تأويلُها إمَّا بالمصدريَّة أو القَصْر كقِيَم في قيام. وقرأ أبو حيوةَ أيضاً ومجاهد «بِدَع» بفتح الباء وكسر الدال وهو وصفٌ كحَذِر. وقوله: «يُفْعَلُ» العامَّةُ على بنائه للمفعول. وابنُ أبي عبلة وزيد ابن علي مبنياً للفاعلِ أي: الله تعالى. والظاهرُ أنَّ «ما» في قولِه: {مَا يُفْعَلُ بِي} استفهاميةٌ مرفوعةٌ بالابتداءِ، وما بعدها الخبرُ، وهي معلِّقَةٌ لأَدْري عن العملِ، فتكونُ سادَّةً مَسَدَّ مفعولَيْها. وجَوَّزَ الزمخشري أَنْ تكونَ موصولةً منصوبةً يعني أنها متعديةٌ لواحدٍ أي: لا أعْرِفُ الذي يفعلُه اللَّهُ تعالى. قوله: {إِلاَّ مَا يوحى} العامَّةُ على بناء «يُوْحَى» للمفعول. وقرأ ابن عُمير بكسرِ الحاءِ على البناءِ للفاعلِ، وهو اللَّهُ تعالى. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(11)

قال: ألم يأتكم في التوراة عن موسى عليه السلام: إذا رأيتم محمداً فأقرئِوه السلام مني وآمنوا به، وأَقْبَلَ يَقِفُهُمْ من التوراة على أَمْكنةٍ فيها ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - وصفته، وهم يستكبرون ويجحَدون ويتعمدون ستر ذلك بِأيْدِيهم. وجواب: (إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ) أتؤمِنُونَ. ثم أعلم أن هؤلاء المعاندين خاصة لَا يؤمِنونَ، فقال: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ). أي قد جعل جزاءَهم على كفرهم بعدما تَبَينَ لهم الهُدَى مَدَّهم في الضلَالَة. وَقِيلَ في تفسير قوله: (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ) عَلَى مثل شهادَةِ عبْد اللَّه بن سَلَام. والأجود - واللَّه أعلم - أن يكون (عَلَى مِثْلِه) على مثل شهادة النبي - صلى الله عليه وسلم -. * * * وقوله: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) جاء في التفسير أنه لما أسلمت جُهَينة ومُزَينَةُ وأسلم وغِفار، قالت بَنو عَامِرٍ وغطفان وأسد وأشجع: لو كان ما دخل فيه هؤلاء مِنَ الذِين خَيراً ما سبقونا إليه، ونحن أعز مِنْهمْ، وَإنما هؤلاء رُعَاةُ الْبَهْمِ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (12) (إِمَامًا) منصوب على الحال وقوله: (وَرَحْمَةً) عطف علَيْهِ. (وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا).

(13)

المعنى واللَّه أعلم، وهو مصدق لما بين يَدَيْهِ لساناً عَربيًّا، لما جاء بعد هذا الموضع. (قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ). وحذف (له) ههنا أعني من قوله (وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ) لأن قبله (وَمِنْ قَبْلِهِ) كتاب موسى، فالمعنى وهذا كتاب مُصَدِّقٌ له، أي مُصَدِّقٌ التوْرَاةَ و (لِسَانًا عَرَبِيًّا) منصوبان على الحال. المعنى مصدق لما بين يديه عَرَبِيًّا، وذكر (لِسَانًا) توكيداً. كما تقول جاءني زيد رجلًا صالحاً، تريد: جاءني زيد صالحاً. وتذكر رجلًا توكيداً، وفيه وجه آخر، على معنى وهذا كتاب مصدق لِسَانًا عَرَبِيًّا. المعنى مصدق النبي عليه السلام، فيكون المعنى مصدق ذا لسانٍ عربى. وقوله: (لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا) ويقرأ (لِتُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا). (وبُشْرَى لِلمُحْسِنينَ) الأجود أن يكون (بُشْرَى) في موضع رفع، المعنى وهو بشرى للمحسنين، ويجوز أن يكون بشرى في موضع نصب على معنى لينذر الذين ظلموا وُيبشِرَ المحسنين بُشْرَى (1). * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13)

_ (1) قال السَّمين: قوله: {وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ موسى}: العامَّةُ على كسر ميم «مِنْ» حرفَ جرٍّ. وهي مع مجرورِها خبرٌ مقدَّمٌ. والجملةٌ حاليةٌ أو خبرٌ مستأنفٌ. وقرأ الكلبيُّ بنصبِ «الكتابَ» تقديرُه: وأَنْزَلَ مِنْ قبلِه كتابَ موسى. وقُرِئ «ومَنْ» بفتح الميم «كتابَ موسى» بالنصبِ على أن «مَنْ» موصولةٌ، وهي مفعولٌ أولُ لآتَيْنا مقدَّراً. وكتابَ موسى مفعولُه الثاني. أي: وآتَيْنا الذي قبلَه كتابَ موسى. قوله: «إماماً ورَحْمَةً» حالان مِنْ «كتاب موسى». وقيل: منصوبان بمقدرٍ أي: أنْزَلْناه إماماً. ولا حاجةَ إليه. وعلى كَوْنِهما حالَيْن هما منصوبان بما نُصِبَ به «مِنْ قبل» من الاستقرار. قوله: «لِساناً» حالٌ مِن الضمير في «مُصَدِّقٌ». ويجوزُ أَنْ يكونَ حالاً مِنْ «كتاب» والعاملُ التنبيهُ، أو معنى الإِشارةِ و «عربيَّاً» [صفةٌ] ل «لساناً»، وهو المُسَوِّغُ لوقوع هذا الجامد حالاً. [وجَوَّز أبو البقاء] أَنْ يكونَ مفعولاً به ناصبُهُ «مُصَدِّقٌ». وعلى هذا تكون الإِشارةُ إلى غيرِ القرآنِ؛ لأنَّ المرادَ باللسانِ العربيِّ القرآنُ وهو خلافُ الظاهر. وقيل: هو على حَذْفِ مضافٍ أي: مُصَدِّقٌ ذا لسانٍ عربي، وهو النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم. وقيل: هو على إسقاطِ حرفِ الجرِّ أي: بلسانٍ. وهو ضعيفٌ. قوله: «ليُنْذِرَ» متعلِّقٌ بمصدِّق. و «بُشْرَى» عطفٌ على محلِّه. تقديره: للإِنذار وللبشرى، ولمَّا اختلف العلةُ والمعلولُ وَصَلَ العاملُ إليه باللامِ، [وهذا فيمَنْ قرأ بتاء الخطابِ. فأمَّا مَنْ قرأ بياءِ الغَيْبة. وقد تقدَّم ذلك في يس فإنهما مُتَّحدان. وقيل: بُشْرى] عطفٌ على لفظ «لتنذِرَ» أي: فيكونُ مجروراً فقط. وقيل: هي مرفوعةٌ على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ. تقديرُه: هي بُشْرَى. وقيل: بل هي عطفٌ على «مُصَدِّقٌ» وقيل: هي منصوبةٌ بفعل مقدرٍ أي: وبَشِّر بُشْرى. ونقل الشيخُ وجهَ النصبِ عطفاً على محلِّ «لتنذِرَ» عن الزمخشري وأبي البقاء. ثم قال: «وهذا لا يَصِحُّ على الصحيح من مذاهبِ النحويين لأنهم يَشْتَرِطون في الحَمْلِ على المَحَلِّ أَنْ يكونَ بحقِّ الأصالة، وأَنْ يكونَ للموضعِ مُحْرِزٌ، وهنا المحلُّ ليسَ بحقِّ الأصالة، إذ الأصلُ في المفعولِ [له] الجرُّ، والنصبُ ناشِئ عنه، لكن لَمَّا كَثُرَ بالشروط المذكورةِ وَصَلَ إليه الفعلُ فنصبَه» انتهى. قوله: «الأصلُ في المفعول له الجرُّ بالحرفِ» ممنوعٌ بدليل قولِ النَّحْويين: إنَّه يَنْصِبُ بشروطٍ ذكروها. ثم يقولون: ويجوزُ جرُّه بلامٍ، فقولُهم «ويجوز» ظاهرٌ في أنه فرعٌ لا أصلٌ. و «للمُحْسِنين» متعلقٌ ب «بُشْرَى» أو بمحذوفٍ على أنَّه صفةٌ لها. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(15)

معنى (ثم استقاموا) أي أقاموا على توحيد اللَّه وشريعة نبيه عليه السلام. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا) وتُقْرأُ (إِحْسَانًا)، وكلتاهما جيِّدٌ، ونصب (إِحْسَانًا) على المصدر، لأن معنى وصيناه بوالديه أمرناه بأن يحسن إليهما (إِحْسَانًا). * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا) وَ (كَرْهاً)، وقد قرئ بهما جميعاً. المعنى حملته أمه على مشَقَّة ووضعته على مشَقَّة. وقوله: (وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا) وقد قرئت (وفصله ثلاثون شَهراً). ومعنى فِصَاله فطامُه. وَأَقَل ما يكون الحمل لستة أَشْهُر. والاختيار (وَفِصَالُهُ)، لأن الذي جاء في الحديث: إلا رِضَاعَ بعد الفِصَالِ " يعني بعد الفطام. وقوله: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً) جاء في التفسير أن الأشد ثلاث وثلاثون سنة، وقيل الأشد ثَماني عشرة سنة، وقيل الأشد بلوغ الحلم، والأكثر أن يكون ثلاثاً وثلاثين، لأن الوقت الذي يكمل فيه الإنسانُ في بدنه وقوته واستحكام شبابه أن يبلغ بضْعاً وثلاثين سنة، وكذلك في تمييزه. وقوله: (وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي). معناه اجعل ذُرِّيَّتِي صالحين (1). * * * وقوله: أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16) (أُولَئِكَ الَّذِينَ يُتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا). ويجوز (أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا). فالقِرَاءَة (يُتَقَبَّلُ) و (نَتَقَبَّلُ) وكذلك يُتجاوزُ ونَتجاوزُ، ويَتقبَّلُ جائز، ولَا أعْلَمُ أحَداً قَرأ بها.

_ (1) قال السَّمين: قوله: {إِحْسَاناً}: قرأ الكوفيون «إحْساناً» وباقي السبعةِ «حُسْناً» بضمِّ الحاءِ وسكونِ السينِ، فالقراءةُ الأولى يكون «إحساناً» فيها منصوباً بفعلٍ مقدَّرٍ أي: وَصَّيْناه أَنْ يُحْسِنَ إليهما إحساناً. وقيل: بل هو مفعولٌ به على تضمينِ وصَّيْنا معنى أَلْزَمْنا، فيكونُ مفعولاً ثانياً. وقيل: بل هو منصوبٌ على المفعولِ به أي: وصَّيناه بهما إحساناً مِنَّا إليهما. وقيل: هو منصوبٌ على المصدرِ؛ لأنَّ معنى وصَّيْنا: أَحْسَنَّا فهو مصدرٌ صريحٌ. والمفعولُ الثاني/ هو المجرورُ بالباء. وقال ابن عطية: «إنها تتعلَّق: إمَّا بوَصَّيْنا، وإمَّا بإحساناً». ورَدَّ الشيخُ: هذا الثاني بأنَّه مصدرٌ مؤَوَّلٌ فلا يتقدَّم معمولُه عليه، ولأن «أَحْسَنَ» لا يتعدَّى بالباء، وإنما يتعدَّى باللامِ. لا تقول: «أحسَنْتُ بزيدٍ» على معنى وصول الإِحسان إليه. وقد رَدَّ بعضُهم هذا بقولِه: {وَقَدْ أَحْسَنَ بي إِذْ أَخْرَجَنِي} [يوسف: 100] وقيل: هو بغير هذا المعنى. وقدَّر بعضُهم: ووَصَّيْنا الإِنسانَ بوالدَيْه ذا إحسانٍ، يعني فيكونُ حالاً. وأمَّا «حُسْناً» فقيل فيه ما تقدَّم في إحسان. وقرأ عيسى والسُّلَمي «حَسَناً» بفتحِهما. وقد تقدَّمَ معنى القراءتَيْنِ في البقرة وفي لقمان. قوله: «كُرْهاً» قد تَقَدَّم الخلافُ فيه في النساء. وله هما بمعنىً واحد أم لا؟ وقال أبو حاتم: «الكَرْهُ بالفتح لا يَحْسُنُ لأنَّه بالفتح الغَصْبُ والغَلَبَةُ». ولا يُلْتَفَتُ لِما قاله لتواتُرِ هذه القراءةِ. وانتصابُها: إمَّا على الحالِ من الفاعلِ أي: ذاتَ كُرْه. وإمَّا على النعت لمصدرٍ مقدرٍ أي: حَمْلاً كُرْهاً. قوله: «وحَمْلُه» أي: مدةُ حَمْلِه. وقرأ العامَّةُ «فِصالُه» مصدر فاصَلَ، كأنَّ الأمَّ فاصَلَتْهُ وهو فاصَلَها. والجحدري والحسن وقتادة «فَصْلُه». قيل: والفَصْلُ والفِصال بمعنىً كالفَطْمِ والفِطام، والقَطْفِ والقِطاف. ولو نَصَب «ثلاثين» على الظرفِ الواقعِ موقعَ الخبرِ جاز، وهو الأصلُ. هذا إذا لم نُقَدِّر مضافاً، فإنْ قَدَّرْنا أي: مدةُ حَمْلِه لم يَجُزْ ذلك وتعيَّن الرفعُ، لتصادُقِ الخبرِ والمُخْبَرِ عنه. قوله: {حتى إِذَا بَلَغَ} لا بُدَّ مِنْ جملةٍ محذوفةٍ تكونُ «حتى» غايةً لها أي: عاش واستمرَّتْ حياتُه حتى إذا. قوله: «أربعين» أي: تمامَها ف «أربعين» مفعولٌ به. قوله: {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذريتي} أَصْلَحَ يتعدَّى بنفسِه لقولِه: {وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} [الأنبياء: 90] وإنما تعدَّى ب في لتضمُّنِه معنى الطُفْ بي في ذرِّيَّتي، أو لأنه جَعَلَ الذرِّيَّة ظرفاً للصَّلاح كقولِه: 4040. . . . . . . . . . . . . . . . . يَجْرَحُ في عَراقيبها نَصْلي. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(17)

وقوله: (وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ). هذا منصوبٌ لأنه مَصْدَرٌ مؤكد لما قبله، لأن قوله: أولئك الذين نَتَقئلُ عَنْهُم أحسنَ مَا عَمِلُوا. بمعنى الوعد، لأنه قد وعدهم الله القَبُولَ. فوعدُ الصِّدْقِ توكيد لذلك. * * * وقوله تعالى: (وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) (أُفِّ لَكُمَا) وقد قرئت (أُفٍّ لَكُمَا) (أُفَّ لَكُمَا) وقد فسرنا ذلك في سُورَةِ بني إسرائيل. وقولهِ: (أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ). ويقرأ (أَنْ أَخرُجَ) ويجوز أَتَعِدَانِي بالإدْغَام، وإن شئت أَظْهَرَت النونَيْنِ. وإنْ شئت أسكنت الياء، وإن شئت فتحتها. وقد رُوِيَتْ عن بعضهم أَتَعِدانَني - بالفتح. وذلك لحن لا وجه له، فَلاَ تَقْرَأَنَّ به، لأن فتح نُونِ الاثْنَيْنِ خطأ، وإن حُكِي ذلكَ في شُذُوذٍ، فلا تحمل القراءة على الشذوذِ (1). ويروى أن قوله في الآيةِ التي قبل هذه إلى قولك له: (أولئك الذين نتقبل عنهم) نزلت في أبي بكر رَحْمَةُ اللَّه عَلَيْه. فأما قوله: (وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا). فقال بعضهم: إنها نزلت في عبد الرحمن قبل إسلامه، وهذا يبطله قوله (أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18)

_ (1) قال السَّمين: قوله: «أَتَعِدانِني» العامَّةُ على نونَيْن مكسورتَيْن: الأولى للرفع والثانية للوقاية، وهشام بالإِدغام، ونافع في روايةٍ بنونٍ واحدة. وهذه مُشَبَّهةٌ بقوله: {تأمروني أَعْبُدُ} [الزمر: 64]. وقرأ الحسن وشيبة وأبو جعفر وعبد الوارث عن أبي عمروٍ بفتح النونِ الأولى، كأنَّهم فَرُّوا مِنْ توالي مِثْلَيْنِ مكسورَيْن بعدهما ياءٌ. وقال أبو البقاء: «وهي لغةٌ شاذَّةٌ في فتح نون الاثنين» قلت: إنْ عَنَى نونَ الاثنين في الأسماءِ نحو قولِه: 4041 على أَحْوَذِيَّيْنَ اسْتَقَلَّتْ. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . فليس هذا منه. وإن عَنَى في الفعلِ فلم يَثْبُتْ ذلك لغةً، وإنَّما الفتحُ هنا لِما ذكَرْتُ. قوله: «أَنْ أُخْرَجَ» هو الموعودُ به، فيجوزُ أَنْ تُقَدِّرَ الباءَ قبل «أَنْ» وأَنْ لا تُقَدِّرَها. قوله: «وقد خَلَتْ» جملةٌ حاليةٌ. وكذلك {وَهُمَا يَسْتَغثِيَانِ الله} أي: يَسْألان اللَّهَ. واستغاث يتعدَّى بنفسِه تارةً وبالباء أخرى، وإن كان ابنُ مالكٍ زعمَ أنَّه متعدٍّ بنفسِه فقط، وعابَ قولَ النحاةِ «مستغاث به» قلت: لكنه لم يَرِدْ في القرآن إلاَّ متعدَّياً بنفسِه: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} [الأنفال: 9] {فاستغاثه الذي} [القصص: 15] {وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ} [الكهف: 29] قوله: «وَيْلَكَ» منصوبٌ على المصدرِ بفعلٍ مُلاقٍ له في المعنى دونَ الاشتقاقِ. ومثله: وَيْحَه ووَيْسَه ووَيْبَه، وإمَّا على المفعولِ به بتقدير: ألزمَك الله وَيْلَكَ. وعلى كلا التقديرَيْن الجملةُ معمولةٌ لقولٍ مقدرٍ أي: يقولان وَيْلَكَ آمِنْ. والقولُ في محلِّ نصب على الحال أي: يَسْتغيثان اللَّهَ قائلين ذلك. قوله: {إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ} العامةُ على كسرِ «إنَّ» / استئنافاً أو تعليلاً. وقرأ عمرو بن فائد والأعرج بفتحِها على أنها معمولةٌ ل آمِنْ على حَذْفِ الباءِ أي: آمِنْ بأنَّ وَعْدَ اللَّهِ حقٌّ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(19)

فأَعلم اللَّه أن هؤلاء قد حقتْ عَلَيْهِم كلمة العذاب، وإذا أعلم بذلك فقد أعلم أنهم لا يؤمنون، وعبد الرحمن مؤمن، ومن أفاضل المُؤْمِنِين. وسَرَوَاتِهم. والتفسير الصحيح أنها نزلت في الكافر العاق. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19) (وَلِيُوَفِّيَهُمْ) (وَلِنُوَفِّيَهُمْ) جميعاً، بالنون والياء. * * * وقوله: (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20) أكثر القراءة الفتح في النون والتفخيم في النارِ، وأكثر كلام العرب على إمالة الألف إلى الكسر، وبها يَقْرأ أبو عَمْرٍو (عَلَى النَّارِ) يختار الكسر في الرَّاءِ، لأن الراء عندهم حرف مُكررٌ، فكان كسرته كسرتانِ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ) بغير ألف الاستفهام، ويقرأ (أَأَذْهَبْتُم) - بهمزتين محققتين، وبهمزتين الثانية منهما مخففة، وهذه الألف للتوبيخ، التوبيخ إن شئت أثبت فيه الألف، وإن شئت حذفتها، كما تقول: " يا فلان أحدثت مَا لا يَحِل لك جَنَيْتَ عَلَى نَفْسِك " إذا وَبَّخْتةُ. وإن شئت: أأخذت مَا لَا يَحِل لَكَ، أجنيت على نفسك. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ) معناه الهَوَان. * * * وقوله - عز وجل -: (وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) (الأحقاف) رمال مستطيلة مُرْتفعة كالدَكَّاوات، وكانت هذه الأحقافُ منازلَ عَادٍ.

(22)

وقوله: (وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ) أي قد أنذروا بالعذاب إنْ عَبَدُوا غير اللَّه فيما تَقَدَّمَ قَبْلَ إنْذَارِ هُودٍ. وعلى لسان هود عليه السلام. (إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) أي لِتَصْرِفنا عنها بالإفْكِ والكَذِب. . (فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا) أي اثتنا بالعذاب الذي نَعِدُنا، (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) * * * (قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (23) أي هو يعلم متى يأتيكم العَذَابُ (وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ) إلَيْكُمْ. ويقرأ بالتخفيف وأُبْلِغُكُمِ. (وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ) أي أدُّلُّكُمْ على الرَّشَادِ وأنتم تَصُدُّونَ وَتَعْبُدونَ آلِهَة لا تَنفع ولا تَضُر. * * * وقوله: (فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) أي فلما رَأَوُا السحاب الذي نشأت منه الريح التي عُذِبُوا بِهَا قد عَرَضت في السماء، قالوا الذي وَعَدْتَنا به سحابٌ فيه الغيث والحياة والمطر. فقال اللَّه عزَّ وجلَّ: (بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ). وقرأ بعضهم: " قُل بَلْ هُوَ ما اسْتَعْجَلْتُم ". وكانت الريح من شدتها ترفع الراعي مَعَ غَنَمِهِ، فأهلك اللَّه قوم عَادٍ بتلك الريح. وقوله: (مُمْطِرُنَا) لَفظه لفظ معرفة، وهو صفة للنكرة، المعنى عَارِضٌ مُمطِرٌ إيَّانَا، إلا أَن إيَّانَا لا يفصل ههنا. * * * وقوله: (فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25)

(26)

في هذا خمسة أوجه: أجودها في العربية والقراءة، (لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ) مَسَاكِنُهُمْ)، وتأويله لَا يُرَى شيءٌ إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ لأنَّهُمْ قد أُهْلِكُوا. ويجوز فأصبحوا لاَ تُرَى إلا مساكِنُهُمْ فيكون المعنى لا تُرَى أشخاصٌ إلا مَسَاكِنُهُم. ويقرأ فأصبحوا تَرَى مَسَاكِنَهُمْ، أي لا ترى شيئاً إلا مساكِنَهُمْ. وفيها وجهان بحذف الألف، فأصبحوا لا يُرَى إلا مَسْكِنهُمْ، وَمَسْكَنَهُمْ، ويجوز فأصبحوا لا ترى إلا مَسْكَنَهُمْ. يقال: سَكَن يَسْكُن مَسْكَناً وَمَسْكِناً (1). * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (كذَلِكَ نَجْزِي القَوْمَ المُجْرِمِينَ) المعنى مثل ذلك نجزي القوم المجرمين أي بالعَذَابِ. * * * وقوله: (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (26) (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ) (إن) ههنا في معنى " ما " و (إن) في النفي مع " ما " التي في مَعْنى الَّذِي أحسن في اللفظ مِنْ " مَا "، ألا ترى أنك لو قلت رغبت فيما ما رَغِبَت فيه لكان الأحسن أن تقول: قَدْ رَغِبْتَ فيما إن رَغِبْتَ فيه، تريد في الذي ما رغبت فيه، لاختلاف اللفظين. * * * وقوله عزَّ وجل: (بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28) أي دعاؤهم آلهتهم هُوَ إفكُهُمْ، ويقرأ (أَفَكَهُمْ) بمعنى وذلك كذبُهُمْ وَكُفْرُهُمْ، والأفك والأفَكَ مثل النَجْس والنجَسُ ويقرأ أَفَكُهُم، أي ذلك جَعَلَهُم ضلالاً كافرين، أي صَرَفَهُمْ عنِ الحق، ويقرأ آفَكَهُمْ أَيْ جَعَلَهُمْ يأفكونَ، كما تقول: ذلك أكفرهم وأضلهُمْ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29)

_ (1) قال السَّمين: قوله: {فَأْصْبَحُواْ لاَ يرى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ}: قرأ حمزةُ وعاصم «لا يُرَى» بضمِّ الياءِ مِنْ تحتُ مبنياً للمفعولِ، «مَسَاكنُهم» بالرفع لقيامِه مقامَ الفاعلِ. والباقون من السبعةِ بفتح تاءِ الخطاب «مَساكنَهم» بالنصب مفعولاً به. والجحدريُّ والأعمش وابنُ أبي إسحاقَ والسُّلميُّ وأبو رجاءٍ بضمِّ التاءِ مِنْ فوقُ مبنياً للمفعول. «مساكنُهم» بالرفع لقيامِه مقامَ الفاعل، إلاَّ أنَّ هذا عند الجمهور لا يجوزُ، أعني إذا كان الفاصلُ «إلاَّ» فإنه يمتنع لَحاقُ علامةِ التأنيثِ في الفعل إلاَّ في ضرورةٍ كقولِه: / 4045. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وما بَقِيَتْ إلاَّ الضلوعُ الجراشِعُ وقول الآخر: 4046 كأنه جَمَلٌ هَمٌّ وما بَقِيَتْ. . . إلاَّ النَّحِيزةُ والألواحُ والعَصَبُ وعيسى الهمداني «لا يُرى» بالياء مِنْ تحتُ مبنياً للمفعول، «مَسْكَنُهم» بالتوحيد. ونصر بن عاصم بتاء الخطاب «مَسْكَنَهم» بالتوحيد أيضاً منصوباً، واجتُزِئ بالواحد عن الجمع. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(30)

أي قال بعضهم لبعض صَهْ، ومعنى صهْ اسْكُتْ، ويقال إِنهُمْ كانوا تسعة نَفرٍ أو سبعة نَفَرٍ، وكان فيهم زوبَعَة. (فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) أي فلما تلى عليهم القرآن حتى فرَع منه، (وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) ويُقْرَأُ (فَلما قضَاهُ). * * * (قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) أي يُصَدِّق جَمِيعَ الكُتب التي تقدمَتْهُ والأنبياء الذين أَتَوْا بها. وفي هذا دليل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث إلى الإنس والجِنِّ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33) دخلت الباء في خبر (إنَّ) بدخول (أَوَلَمْ) في أول الكلام، ولو قلت: ظنَنْت أن زيداً بقائم لم يجز، وَلَوْ قُلْتَ: ما - ظننتُ أَن زيداً بقائم جاز بدخول ما، ودخول أن إنما هو توكيد للكلام فكأنَّه في تقدير أَلَيْسَ اللَّهُ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْييَ المَوْتَى فيما ترون وفيما تعلمونه. وقد قرئت يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُحْييَ المَوْتَى، والأوْلَى هي القراءة التي عليها أكثر القراء. وهذه جائزة أيضاً. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35) جاء في التفسير أن أُولي العَزْمِ نوح وإبراهيم ومُوسَى وعيسى ومحمد. صَلواتُ الله عليهم أجمعين.

قوله: (لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ). الرفع على معنى ذلك بَلَاغٌ. والنصبُ في العربيًةِ جيدٌ بالغ. إلَا أَنَه يخالف المصحف، وبَلَاغاً على معنى يبلغون بَلَاغا كما قال: (كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ) مَنصُوبٌ عَلَى معنى: (حُرمَتْ عليكم أُمَّهَاتُكُمْ)، تأويله: كتب اللَّه ذلك كتاباً. . * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ). تأويله أنه لا يهلك مع رحمة اللَّه وتَفَضله إلا القومُ الفَاسِقُونَ ولو قرئت " فَهَلْ يَهْلِكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ " كان وجهاً. ولا أعلم أحداً قرأ بها. وما في الرجاء لرحمة اللَّه شيء أقوى من هذه الآية. وهي قوله: (فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ) (1).

_ (1) قال السَّمين: قوله: {فاصبر}: الفاءُ عاطفةٌ هذه الجملةَ على ما تقدَّمَ، والسببيَّةُ فيها ظاهرةٌ. قوله: «من الرسُل» يجوزُ أَنْ تكونَ تبعيضيَّةً، وعلى هذا فالرسلُ أولو عَزْمٍ وغيرُ أُولي عَزْمٍ. ويجوز أَنْ تكونَ للبيانِ، فكلُّهم على هذا أُوْلو عَزْم. قوله: «بلاغٌ» العامَّةُ على رَفْعِه. وفيه وجهان، أحدهما: أنَّه خبرُ مبتدأ محذوفٍ، فقدَّره بعضُهم: تلك الساعةُ بلاغٌ، لدلالةِ قولِه: {إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ} وقيل: تقديرُه هذا أي: القرآن والشرعُ بلاغٌ. والثاني: أنَّه مبتدأٌ، والخبرُ قولُه: «لهم» الواقعُ بعد قولِه: «ولا تَسْتَعْجِلْ» أي: لهم بلاغٌ، فيُوْقَفُ على «فلا تَسْتعجل». وهو ضعيفٌ جداً للفصلِ بالجملةِ التشبيهية، لأنَّ الظاهرَ تَعَلُّقُ «لهم» بالاستعجال، فهو يُشْبِه التهيئةَ والقطعَ. وقرأ زيد بن علي والحسن وعيسى «بلاغاً» نصباً على المصدرِ أي: بَلَغَ بلاغاً، ويؤيِّده قراءةُ أبي مجلز «بَلِّغْ» أمراً. وقرأ أيضاً «بَلَغَ» فعلاً ماضياً. ويُؤْخَذُ مِنْ كلامِ مكيّ أنه يجوزُ نصبُه نعتاً ل «ساعةً» فإنه قال: «ولو قُرِئ» بلاغاً «بالنصبِ على المصدر أو على النعتِ ل» ساعةً «جاز». قلت: قد قُرِئ به وكأنه لم يَطَّلِعْ على ذلك. وقرأ «الحسن» أيضاً «بلاغ» بالجرِّ. وخُرِّجَ على الوصف ل «نهار» على حَذْفِ مضافٍ أي: مِنْ نَهارٍ ذي بلاغ، أو وُصِف الزمانُ بالبلاغ مبالغةً. قوله: «يُهْلَكُ» العامَّةُ على بنائِه للمفعولِ. وابن محيصن «يَهْلِك» بفتح الياء وكسرِ اللام مبنياً للفاعل. وعنه أيضاً فتحُ اللامِ وهي لغةٌ. والماضي هلِكَ بالكسر. قال ابن جني: «كلٌ مرغوبٌ عنها». وزيد بن ثابت بضمِّ الياءِ وكسرِ اللام/ والفاعلُ اللَّهُ تعالى. «القومَ الفاسقين» نصباً على المفعولِ به. و «نُهْلك» بالنون ونصب «القوم». اهـ (الدُّرُّ المصُون).

سورة محمد

سُورَةُ محمَّد - صلى الله عليه وسلم - بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1) قوله عزَّ وجلَّ: (أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ). أحبطها فلا يرون في الآخرة لها جزاء، والمعنى أن حبط ما كان من صدَقَاتِهِمْ وصلتهم الرحِمَ وأبواب البر بكفرهم، كما قال عزَّ وجلَّ: (كَذَلِكَ يُرِيهُمُ اللَّهُ أعْمَالَهُم حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ) وقوله (كَسَرَابٍ بِقيعَةٍ) وهؤلاء هم الذين صدوا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والدليل على ذلك قوله: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2) أي كفَّر عَنْهُم وما اقترفوه وَهُمْ كافرونَ لمَّا آمنوا باللَّهِ وبالنبي عليه السلام. وسائر الأنبياء أجمعين. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ). أي أصْلَحَ امْرَهُمْ وحالهم. * * * وقوله: (ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3) أي الأمر ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل. وجائز أن يكون ذلك الإضلال لاتباعهم الباطل، وتلك الهداية والكفارات باتباع المؤمنين الحقَ، ثم قال عزَّ وجلَّ:

(4)

(كذلك يَضْرِبُ اللَّهُ للنَّاسِ أمْثَالَهُمْ). أي كذلك يبين الله للناس أمثال حسنات المؤمنين وسيئات الكافرين أي كالبيان الذي ذكر، ومعنى قول القائل: ضربت لك مثلًا، أي بينت لك ضرباً من الأمثال، أي صنفاً منها. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) معناه فاضربوا الرقاب ضرباً، منصوبٌ على الأمر، وتأويله فإذا لقيتُم الذين كفروا فاقتلوهم، ولكن أكثر مواقع القتل ضرب العُنُق، فأعلمهم اللَّه - عزَّ وجلَّ - كيف القصد، وكيف قال: (واضْرِبُوا مِنْهُم كُلً بَنَانٍ) أي فليس يتوهم بهذا أن الضَّربَ محظور إلَّا على الرقبة فقط. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ). (أَثْخَنْتُمُوهُمْ) أكثرتم فيهم القتل، كما قال: (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ)، فالأسر بعد المبالغة في القتل. ثم قال: (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً). أي بعد أن تَأسِروهُمْ إِما مننتم عليهم مَنَّا، وإِما أطلقتموهم بفداء. وقوله: (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا). (حتى) موصولة بالقتل والأسْرِ، المعنى فاقتلوهم وأسِرُوهُمْ حتى تضع الحرب أوزارها. والتفسير حتى يؤمنوا وُيسْلِمُوا، فلا يجب أن تحاربوهم، فما دام الكفر فالجهاد والحرب قائمة أبداً. وقوله: (ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ). .

(5)

(ذلك) في موضع رفع، المعنى الأمر ذلك، ويجوز أنْ يكون مَنْصُوباً على معنى افعلوا ذلك. (وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ). أي لو يشاءُ اللَّهُ لَعذَّبَهُمْ وأهلكهم لأنه قادِرٌ عَلَى ذَلِك. (وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ). المعنى ولكن أمركم بالحرب ليبلو بعضكم ببعض، أي ليمَحِّصَ اللَّه المؤمنين ويمحق الكافِرينَ. وقوله: (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ). ذكر في أول السورة: (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ) وأعلم أن الذين قاتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم. ويقرأ عَلَى أربعة أوْجُهٍ: قَاتَلُوا في سبيل اللَّه، وقُتِلُوا في سبيل اللَّه، على ما لم يسمَّ فاعله، ويُقْرأ قُتِّلُوا بتشديد التاء، ويُقْرأ قَتَلُوا في سبيل اللَّه، بفتحِ القاف. * * * وقوله: (سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) يُصْلِحُ لَهُمْ أمر معاشهم في الدنيا مع ما يجازيهم به في الآخرة، كما قال - عزَّ وجلَّ -: (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) أي لو أنهم قبلوا ما فيها وما في الكتب وعملوا به لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرْجُلِهم، وكما قال: (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12) فوعد الله عزَّ وجلَّ المؤمنين إصلاح شأنهم وبالهم في الدنيا والآخِرة. * * * وقوله: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8)

(9)

(الَّذِينَ) في موضع رفع على الابتداء. ويكون (فَتَعْسًا لَهُمْ) الخبر. ويجوز أن يكون نصباً على معنى أتعسهم اللَّه. والتععحم، في اللغة الانْحِطاطُ والعُثور. * * * (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9) كرهوا القرآن ونبوة النبي عليه السلام فأحبط اللَّه أعمالهم. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10) المعنى فينظروا كيف كان عاقبة الكافرين الذين من قبلهم. (دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ)، أي أهلكهم اللَّه. (وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا) أي أمثال تلك العاقبة، فأهلك الله عزَّ وجل بالسَّيف من أهلك ممن صدَّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. * * * (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11) أي بأن اللَّه ولي الذين آمنوا يتولاَّهم في جميع أمورِهم في هدايتهم والنصر على عدوهم. (وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ). أي لا وليَّ لهم ينصرهم من اللَّهِ في هِدَايةٍ ولا عُلُوٍّ على المؤمنين، ثم أعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - ما أعدَّ للمؤِمنين مع النصر والتمكين، وما أعدَّ للكافرين مع الخذلان والإِضلال فقال: (إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12) ثم بين صفات تلك الجنات وقال: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ). والمثوى المنزل. * * * وقوله - عزَّ وجلَّ -: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (13)

(14)

المعنى وكم من أهل قَرْيةٍ هي أشدُّ قوةً مِنْ أهْلِ قَرْيتِكَ التي أخرجتك. أي الذين أخرجوك أهلكناهم بتكذيبهم للرسل فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ. ثم أعلم فقال: * * * (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (14) وهذه ألفُ توقِيفٍ وتَقْرِيرٍ، لأن الجواب معلوم، كما أنك إِذا قلْتَ من يفعل السيئات يشق، ومن يفعل الحسنات يَسْعَد، ثم قلت: الشقاء أحب إليك أم السعادَة. فقد علم أن الجواب السعَادَة، فهذا مجرى ألف التوقيف والتقرير. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15) (مَثَلُ الْجَنَّةِ). تفسير لقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ)، ففسر تلك الأنهار فقال: (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) أي مما عرفتموه من الدنيا من جناتها وأنهارها جنَّةٌ (فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ). ويقرأ من ماء غير أسِنٍ، ويجوز في العربية أسْنٍ، يقال أَسَنَ الماءُ يأسِن فهو آسِنٌ، ويقال: أسَنَ الماءُ فهو أَسِنٌ إذا تغيرت رائحته، فأعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أن أنهار الجنة لا تَتَغير رائحة مائها، ولايَأسَن. (وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ). أي لا يدخله ما يدخل ألبان الدنيا من التغيرِ. (وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ). ليس فيها غَوْلٌ أي لا تُسْكِرُ وَلاَ تفنى. (وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى). معناه مصفى لم يخرج من بطون النحل فَيخالطه الشَمْع. (وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ).

(16)

كما قال: (إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ)، وصف تلك الجناتِ فقال: مثل الجنَّة جنَّة كما وصف. وقيل إن المعنى صِفَةُ الجنَّةِ، وهو نحَوٌ مِما فَسَّرَنَا. ثم قال: (وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ). أي لهم فيها من كل الثمَرات وَلَهُم مَغْفِرةٌ من رَبهمْ، يَغْفِر ذُنُوبَهُمْ ولا يجازون بالسيئات، ولا يوَبَّخُونَ في الجنَّةِ، فَيُهكوْنَ الفوز العظيم والعَطاءَ الجَزِيلَ. ثم قال: (كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ). المعنى أفمن كان على بَينَةٍ من رَبِّه وأُعْطَىْ هَذِهِ الأشْيَاء، كمَن زُيِّنَ له سوء عمله وهو خَالِدٌ في النَّارِ. (وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ). واحد الأمعاء مِعًى، مثل ضِلَع وَأضْلَاع. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16) يعني المنافقين. (حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا). كانُوا يَسْمُعونَ خطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - فإذا خرجوا سألوا أصحاب رسول الله استهزاء وإعلاماً أنهم لم يلتفتوا إلى ما قال، فقالوا: مَاذَا قَال آنِفاً، أي ماذا قال الساعة، ومعنى آنفاً من قولك استأنَفْتُ الشيء إذا ابْتَدَأتُه، ورَوْضَة أُنُفٌ، إذَا لَمْ تُرْعَ بَعْدُ، أي لها أولٌ يُرعَىْ، فالمعنى ماذا قال من أول وَقْتٍ يَقْرُب مِنَّا. وقوله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17) الضمير الذي في (زَادَهُمْ) يجوز أن يكون فيه أحدُ ثلاثة أوْجُهٍ: فأجْوَدُهَا - واللَّه أعلم - أن يكون فيه ذكر الله، فيكون المعنى مردُوداً على

(18)

قوله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ) ويجوز أن يَكونَ الضَميرُ في (زَادَهم) قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -. فيكون المعنى وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ ما قال رسول اللَّه هُدًى. ويجوز أن يكون زَادَهم إعراضُ المنافقين واستهزاؤهم هُدًى. قوله: (وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ). يجوز أن يكون وَألهمهم تقواهم، كما قال عزَّ وجلَّ: (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا). ويجوز أن يكون - واللَّه أعلم - وآتَاهمْ ثَوَابَ تَقْوَاهُمْ. * * * وقوله - عزَّ وجلَّ - (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (18) ويقرأ " إِلَّا السَّاعَةَ إِنْ تَأْتِهمْ " بغير ياء، والأولى أجْوَد لموافقة المصحف. وموضع " أن " نَصْبٌ البدَلِ مِنَ السَّاعَةِ. المعنى فهل ينظرون إِلا أن تأتِيَهُمْ السَّاعَة بَغْتةً. وهذا البدل المشتمل على الأول في المعنى وهو نحو قوله (وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ) المعنى لولا أن تطؤوا رِجالاً مؤمِنين ونساءً مؤمِنَاتٍ. ومعنى (هَلْ يَنْظُرُونَ) هَلْ يَنْتَظِرونَ واحِدٌ. ومن قرأ: إن تأتهم " (فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا) فعلى الشرط والجزاء. وأشراطها أعلامها. (فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ). المعنى فمن أين لهم ذكراهم إذا جاءتهم الساعة، و (ذِكْرَاهُمْ) في موضع رفع بقوله (فَأَنَّى).

(19)

وقوله: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19) هذه الفاء جاءت للجزاء، المعنى قد بَيَّنَا مَا يَدل على أنَّ الله وَاحِدٌ فأعلم اللَّه أنه لا إِله إلا اللَّه، والنبي عليه السلام قد علم ذلك ولكنه خطاب يدخل الناس فيه مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما قال الله عزَّ وجلَّ: (يَا أيها النبي إذا طلقتم ْالنساء)، والمعنى من عَلِمَ فليقم على ذلك العلم، كما قال: (اهْدِنَا الصِرَاطَ المسْتقيم) أي ثبتنا على الهداية. (وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ). أي يعلم متصرفاتكم ويعلم مثواكم، أي يعلم أين مقامكم في الدنيا والآخرة. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20) كان المؤمنون - رحمهم اللَّه - يأنسون بالوحي ويسْتَوْحِشُونَ لإِبْطائِه فلذلك قالوا: (لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ). (فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ). ومعنى (مُحْكَمَةٌ)، غير منسوخة، فإذا ذكر فيها فَرْضُ القِتَالِ (رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) يعنى المنافقين. (يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ). لأنهم منافقون يكرهون القتال، لأنهم إذا قعدوا عنه ظَهَرَ نِفَاقُهُمْ، فَخَافوا عَلَى أنْفُسِهِم القَتْل. (فَأَوْلَى لَهُمْ). (أَوْلَى لَهُمْ) وعيدٌ وتَهَدُدٌ، المعنى وَلِيَهُم المكروهُ * * * وقوله: (طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ (21)

(22)

قال سيبويه والخليل: المعنى طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ أمثل، وقيل إنهم كان قولهم أولًا طاعة وقول معروف. ويجوز - واللَّه أعلم - أن يكون المعنى فإذا أنزلت سورة ذات طاعة أي يؤمر فيها بالطاعة، وقول معروف، فيكون المعنى فإذا أنزلت سورة ذات طاعة وقول معروف. * * * (فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ). المعنى فإذا جَدَّ الامْرُ ولزم فرض القتال، فلو صدقوا اللَّه فآمنوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وعملوا بما نزل عليه وما أمروا به من فرض القتال لكان خيراً لهم. المعنى لكان صدقهم اللَّه بإِيمانِهِمْ خيراً لهم. * * * وقوله: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) وقرأ نافع " فَهَلْ عَسِيتُمْ " واللغة الجيدة البالغة عَسَيْتُمْ - بفتح السين ولو جاز عَسِيتُمْ لجاز أن تقول: عَسِيَ رَبُّكُمْ أنْ يَرْحَمَكُمْ. ويقرأ (إِنْ تُوُلِّيتُمْ) و (إِنْ تَوَلَّيْتُمْ) - بضم التاء وفتحها. (أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ). فمن قرأ (تَوَلَّيْتُمْ) - بالفتح - ففيها وجهان: أحَدَهُمَا أن يكون المعنى لعلكم إن توليتم عما جاءكم به النبي أنْ تَعُودُوا إلى أمر الجاهلية، فتفسدوا وَيَقْتُلُ بعضكم بعضاً. (وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ)، أي تئدوا البنات، أي تدفنوهن أحياء. ويجوز أن يكون فلعلكم إن توليتم الأمر أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحَامَكُمْ، ويَقْتُلُ قُريشٌ بَنِي هاشم، وبَنو هَاشِم قُريْشاً، وكذلِكَ إن توليتم. * * * وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25) المعنى رجعوا - بعد سماع الهدى وتَبَيُّنِهِ - إلى الكُفرْ. وقوله: (الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ).

(26)

معنى (سَوَّلَ لَهُمْ) زَيَّنَ لَهُمْ (وَأمْلَى لهم)، أملى اللَّه لهم كما قال: (إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا) معناه إنما نؤخرهم. وقد قرئت (الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأُمْلِي لَهُمْ) على الإخبار عَنِ اللَّه عزَّ وجلَّ، المعنى وأنَا أُمْلِي. وقُرئت (وَأُمْلِيَ لَهُمْ) بفتح الياء على ما لم يسم فاعله (1). * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26) المعنى - والله أعلم - الأمر ذلك أي ذلك الِإضلال بقولهم للذين كرهوا ما نزل اللَّه، وجاء في التفسير أنهم اليهود، قالوا سنطيعكم في بعض الأمر، أي سنطيعكم في التظاهر على عداوة النبي - صلى الله عليه وسلم - (وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَسْرَارَهُمْ). و (إِسْرَارَهُمْ) قرئ بهما جميعاً، فمن قرأ (أَسْرَارَهُمْ) - بالفتح - فهُو جمعُ سِرٍّ وأسرار، مثل حمل وأحمال، ومن قرأ (إِسْرَارَهُمْ) فهو مصدر أسْرَرْتً إسرَاراً. * * * وقوله: (فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27) يفعلون بهم ذلك في نار جهنم - واللَّه أعلم - ويكون المعنى فكيف يكون حالهم إذا توفتهم الملائكة وهم يضربون وجوههم وأدبَارَهم. * * * قوله: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28) المعنى - واللَّه أعلم - ذلك جزاؤهم بأنهم اتبعوا الشيء الذي أسخط اللَّه وكرهوا رضوانه، أي اتبعو مَن خالف النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن خالف الشريعة وكرهوا الِإيمان بالنبي - صلى الله عليه وسلم - واتباع شريعته. (فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ).

_ (1) قال السَّمين: قوله: {الشيطان سَوَّلَ}: هذه الجملةُ خبرُ {إِنَّ الذين ارتدوا}. وقد تقدَّم الكلامُ على «سَوَّل» معنًى واشتقاقاً. وقال الزمخشري هنا: «وقد اشتقَّه من السُّؤْل مَنْ لا عِلْمَ له بالتصريفِ والاشتقاقِ جميعاً» كأنَّه يُشير إلى ما قاله ابن بحر: مِنْ أنَّ المعنى: أعطاهم سُؤْلَهم. ووجهُ الغلطِ فيه أنَّ مادةَ السُّؤْلِ من السؤال بالهمز، ومادةَ هذا بالواوِ فافترقا، فلو كان على ما قيل لقيل: سَأَّل بتشديد الهمزة لا بالواو. وفيما قاله الزمخشريُّ نَظَرٌ؛ لأن السؤالَ له مادتان: سَأَل بالهمز، وسال بالألفِ المنقلبةِ عن واوٍ، وعليه قراءةُ «سال سايل» وقوله: 4067 سالَتْ هُذَيْلٌ رسولَ الله فاحِشةً. . . ضَلَّتْ هُذَيْلٌ بما سالَتْ ولم تُصِبِ وقد تقدَّم هذا في البقرةِ مُسْتوفى. قوله: «وأَمْلَى» العامَّةُ على «أَمْلَى» مبنياً للفاعل، وهو ضمير الشيطان. وقيل: هو للباري تعالَى. قال أبو البقاء: «على الأول يكونُ معطوفاً على الخبر، وعلى الثاني يكونُ مُسْتأنفاً». ولا يَلْزَمُ ما قاله بل هو معطوفٌ على الخبر في كلا التقديرَيْن، أخبر عنهم بهذا وبهذا. وقرأ أبو عمروٍ في آخرين «أُمْلِيَ» مبنياً للمفعول، والقائمُ مَقامَ الفاعلِ الجارُّ. وقيل: القائم مَقامَه ضميرُ الشيطان، ذكره أبو البقاء، ولا معنى لذلك. وقرأ يَعْقُوبُ وسلام ومجاهد/ «وأُمْلِيْ» بضمِ الهمزةِ وكسرِ اللام وسكونِ الياءِ. فاحتملَتْ وجهَيْن، أحدُهما: أَنْ يكونَ مضارعاً مُسْنداً لضمير المتكلم أي: وأُمْلِي أنا لهم، وأَنْ يكونَ ماضياً كقراءة أبي عمروٍ سُكِّنَتْ ياؤه تخفيفاً. وقد مضى منه جملةٌ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(29)

أي ما كان من عمل خيرٍ نحو صلة رحم أوْ برٍ أو صَدَقةٍ، أحبط اللَّه ذلك بكفرهم بما أتى به النبي - صلى الله عليه وسلم -. * * * وقوله: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29) (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) المنافقون أي لن يبدي اللَّه عداوتهم لرسوله عليه السلام ويظهره على نفاقهم. * * * (وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30) معنى (لَأَرَيْنَاكَهُمْ) لعَرفْنَاكَهُمْ، تقول: قد أرَيْتَكَ هَذَا الأمْر أي قد عرفتك إياه، المعنى لو نشاء لجعلنا على المنافقين علامة وهي السيمياء. (فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ). أي بتلك العلامة. (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ)، أي في فحوى القَوْلِ. فدلَّ بهذا والله أعلم - على أن قول القائل وفعله يدُلُّ على نِيَّته. وقولُ الناس: قد لَحَنَ فلانٌ، تأويله: قد أَخذ في ناحية عن الصواب، وَعدَلَ عن الصواب إِليها، وقول الشاعر: مَنْطِقٌ صائِبٌ وتَلْحَنُ أَحْيا. . . ناً وخَيْرُ الحديثِ ما كانَ لَحْنا تأويله: خير الحديث من مِثْل هذه ما كان لا يعرفه كلُّ أحد، إِنما يُعْرََفُ قولها في أنحاء قولها.

(31)

وقوله: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31) معنى (لَنَبْلُوَنَّكُمْ) لنختبرنكم بالحرب. (حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ). وهو عزَّ وجلَّ قَدْ عَلِمَ قَبْلَ خَلْقِهِم المجاهدين منهم والصابرين، ولكنه أراد العلم الذي يقع به الجزاء، لأنه إنما يجازيهم على أعمالهم. فتأويله حتى يعلم المجاهدين علم شهادة، وقد علم - عزَّ وجلَّ - الغيب، ولكن الجزاء بالثواب والعقاب يقع على علم شهادة. * * * وقوله - عزَّ وجلَّ -: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34) أعلم - عزَّ وجلَّ - أنه لا يغفر لمن مات على الكفر. * * * وقوله: (فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35) (إِلَى السَّلْمِ) والسَّلَم، ومعناه الصلْحُ، يقال للصُّلِحَ هو السِّلْمُ، والسَّلْمُ، والسَّلَمُ. ومعنى (لَا تَهِنُوا) لا تَضْعُفوا. يقال: وَهَنَ يَهِن، إِذَا ضَعُفَ، فمنع اللَّه المُسْلِمينَ أن يَدْعوا الكافرين إِلىَ الصُّلْحِ وأمرَهًمْ بِحَرْبِهِمْ حتى يُسْلِمُوا. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ). تأويله. أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ فى الحجةِ ومَعَكًمً النبيُ - صلى الله عليه وسلم - وَمَا أتَى به من الآياتِ التي تدل على نبُوته، (وَاللَّهُ مَعَكمْ) أي نَاصِرُكُمْ. وقوله - عزَّ وجلَّ - (وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ). أي لن ينْقِصكُمْ شيئاً مِن ثَوَابِكًمْ. * * * وقوله: (إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36) وقد عرفهم أنَّ أجورهم الجنةُ. وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36) إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (37)

(38)

أي إِن يجهدكُمْ بالمسألة (تَبْخَلُوا وَيُخْرِج أضْغَانَكُمْ). ونخْرِج أضْغَانُكُمْ، وقد قرئ بهما جميعاً. * * * وقوله: (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38) جاء في التفسير: إن تَوَلَّى العِبَادُ استَبْدَلَ اللَّه بِهِمُ المَلَائِكَة. وجاء أيضاً: إن تَوَلَّى أهل مكَةَ استبدل الله بهم أهل المدينة. وجاء أيضاً - يَستَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكمْ مِن أهل فَارِسَ. فأما ما جاء أنه يستبدل بهم الملائكة، فهو في اللغةِ عَلَى مَا أَتَوَهَّم فيه بُعْدٌ لأنه لا يقال للملائكة قومٌ، إِنما يقال قوم لِلآدَمِيينَ. والمعنى - واللَّه أعلم - وَإِنْ تَتَوَلًوْا يستَبْدِل قَوماً أطْوَعَ مِنكم، كما قال - عزَّ وجلَّ - (عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ). إِلى آخر القصة. فلم يتولَّ جَميعَ النَّاسِ - واللَّه أعلم.

سورة الفتح

سُورَةُ الفتح (مَدنيةٌ) كلها بِإِجْمَاعٍ بسم اللَّه الرحمن الرَّحيم قوله - عزَّ وجلََّّ -: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) جاء في التفسير أنه فتحُ الحُديبية، وَكان هذا الفتح عَن غَير قتالٍ قيل إنه كان عن تراضٍ بين القوم. والحُدَيْبيَةُ بئرٌ فسمي المكان باسم البئر. والفتح إنما هُوَ الطفَرُ بالمكان والمدينةِ والقَرْيَةِ، كان بحرب أو بغَيْر حُرْبٍ، أو كان دخول عَنْوَةٍ أو صُلْح، فَهوَ فتحٌ لأن الموضع إِنما يكون مُنْغَلِقاً فإذا صار في اليَدِ فَهُوَ فتحُ. ومعنى (فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا) - وَاللَّهُ أعلَمُ - هو الهداية إلى الِإسْلاَمِ. وجاء في التفسير: قضينا لكَ قضاء مُبِينًا أي حكمنا لك بإظهار دين الِإسلام والنصرة على عدوك. وأكثَر ما جاء في التفسير أنه فتح الحُدَيْبِيةِ، وكان في فتح الحديبية آية عظيمة من آيات النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذلك أنها بئر فاسْتُقِيَ جميعُ ما فيها من الماء حتى نَزَحَت ولم يبق فيها ماء، فتمضمض رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ثم مَجَّهُ فيها فدرت البئر بالماء حتى شَرِبَ جميع من كان مع النبي - صلى الله عليه وسلم -. وليس يخرج هذا من معنى فتحنا لك فتحاً مبيناً أنه يُعْنَى به الهداية إلى الِإسْلاَم، ودليل

(2)

ذلك قوله (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) فالمعنى فتحنا لك فتحاً في الدين لتَهْتَدِيَ بِهِ أنت والمُسْلِمونَ. * * * ومعنى (وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3) نَصْراً نَصْراً ذا عِزٍّ لا يقع معه ذُلٌّ. ثم أعلم عن أسباب فتح الدين على نبيه عليه السلام فقال: * * * (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4) أي أسْكَنَ قُلوبَهم التعظيم للهِ ولرسوله، والوقار. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا). تأويله - واللَّه أعلم - أن جميع ما خلق الله في السَّمَاوَات والأرض جنود له، لأن ذلك كله يدل على أنه واحد وأنه لا يَقْدِرُ أحدٌ أنْ يأتِيَ بمثل شيء واحد مما خلق اللَّه في السَّمَاوَاتِ والْأَرْضِ. ومن الدليل أيضاً على أن معنى قوله: (إِنَّا فتحنا لك) أي إنَّا أرشدناك إلى الإِسلام وفتحنا لك أمر الدينِ قوله عزَّ وجلَّ: (وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6) كانوا يظنون أن لن يَعودَ الرسول والمؤمِنونَ إلى أهْليهم أبداً وَزينَ ذلك في قلوبِهِمْ، فجعل الله دائرة السَّوْءِ عَليْهم. ومن قرأ " ظَنَّ السُّوءِ " فهو كما ترى أيْضاً. قال أبو إسحاق: وَلاَ أعْلَمُ أحداً قَرأ بِهَا، وقد قيل أيضاً إنه قرِئ بِهِ. وزعم الخليل وسيبويه أن معنى السوء هِهنا الفساد. والمعنى: الظانين باللَّهِ ظَنَّ الفَسَادِ، وهو ما ظَنُّوا أن الرسول عليه السلام ومن معه لا يَرْجِعونَ.

(7)

قال اللَّه تعالى: (عَلَيْهِمْ دَائِرَة السَّوْءِ) أي الفساد والهلاك يقع بهم (وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا). * * * (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (7) تفسيره مثل الأول. (وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) عَالِياً حَكيماً فِيما دَبَّرَهُ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) أي شاهداً على أمتِك يوم القيامة. وهذه حال مُقَدَّرَة أي مبشَراً بالجنة من عمل خَيْراً ومنْذِراً مَنْ عَمِل شرَّا بالنَّارِ. * * * (لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9) الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - وخطاب للنَاس وَلأمَّتِه. والمعنى يَدُل على ذلك. ويجوز (لِيُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ). وقَدْ قرِئ بهمَا جميعاً. وجائز أن يكون (لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) خِطَاباً للمومِنينَ وللنَّبي جَميعاً. لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد آمن بالله وبآياته وكتُبه ورسلِه. وقوله (شاهداً) حال مقدرة، أي يكون يوم القِيَامَةِ، والبشارة والِإنذار حال يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - ملابساً لها في الدنيا لمن شاهده فيها من أمَّتِه، وحال مُقدرة لمن يأتي بعده من أمَّتِه إلى يوم القيامَةِ مِمنْ لم يشاهده. يَعْنِي بقوله مُقدَّرة أن الحال عنده في وقت الِإخإر عَلَى ضَرَبَيْن. حال ملَابسة يَكونُ المُخْبِر ملَابِساً لها في حين إِخْبارِه. وَحَالٌ مُقَدَّرَةٌ لأن تلابَسَ فى ثانٍ مِنَ الزَمَانِ. وقوله عزَّ وجلَّ: (وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ). معنى (تُعَزِّرُوهُ) تنصروه، يقال: عَزَّرْته أُعَزِّرهُ، أي نصرته مَرةً بعْدُ مرةٍ. وجاء في التفسير لتنصروه بالسيْفِ ويجوز وَلِتَعْزروه، يقال: عَزَرْتُه أعْزرُه عَزْراً، وعَزَّرْته أُعَزِّرهُ عَزْراً وتعْزِيراً. ونصرة النبي - صلى الله عليه وسلم - هي نُصْرَة الله عَزَّ وجلَّ. (وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا).

(10)

فهذه الهاءُ تَرْجِع عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. ومعنى يُسبحون اللَّه، أي يُصلُّون له. والتسبِيح في اللًغَةِ تعظِيم الله وتنزيهه عن السوءِ. * * * وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10) أي أخذكَ عَلَيْهم البَيْعَةَ عَقْدٌ لِلَّهِ عزَّ وجلَّ عَلَيْهم. ومعنى (يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) يحتمل ثلاثة أوجُهٍ: منها وَجْهَانِ جاءا في التفسير، أحدُهما يَدُ اللَّه في الوَفَاء فَوْقَ أيْدِيهم. وجاء أيْضاً يد اللَّه في الثواب فوق أيْدِيهم. والتفسير - واللَّه أعلم - يد الله في المِنَّةِ عَلَيْهِمْ في الهِدَايَةِ فوق أيْدِيهِمْ في الطاعة. وقوله: (فَمَنْ نَكَثَ فَإنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ). والنكث في اللغةِ نقضُ مَا تَعْقِده، وما تُصْلِحه. وجاء في التفسير: ثلاثة أشياء تَرجِعُ عَلى أهلِهَا. أحدُهَا النكث. والبغي والمكر. قال اللَّه - عزَّ وجلَّ - (إِنَّما بَغْيُكُم عَلَى أنْفُسِكم). والمكْرُ قال اللَّه عزَّ وجلَّ: (وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) وقوله: (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا). (فَسَنُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) ويقرأ (فَسَيُؤتيه أجْراً عظيماً). ويقرأ عَلَيْهِ اللَّه، وعَلَيهُ اللَّهَ. وقد فسرنا مثل هذا فيما سلف. * * * (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11) (فَاسْتَغْفِرْ لَنَا) بإظهار الراء عند اللَامِ، وقد رُوِيت عَنْ أبِي عَمْروٍ فاستغفِلَّنَا بالإدغام، وكذلك في قوله يَغْفِلَّكًمْ. ولا يُجيزُ سيبويه والخليل إدغام الراء في اللام. ولا يحكون هذه اللغة عن أحدٍ من العرب -، ويذكرون أن إدغام الراء

(12)

في اللام غير جائز لأن الراء عندهم حرفٌ مَكرر، فإذا أدغم في اللام بطل هذا الإشباع الذي فيه. وأعلم الله عزَّ وجلَّ أن هؤلاء منافقون فقال: (يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ). وأعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أنهم تخلفوا عن الخروج مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بظنِهم ظن السَّوءِ، فأطلع الله نبيه على ذلك، قال اللَّه عزَّ وجلَّ: (بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12) أي هالكين عند اللَّهِ - عزَّ وجلَّ - فاسِدين في عِلْمِه. وقوله عزَّ وجلَّ: (شَغلَتْنَا أمْوَالُنَا). أي ليس لنا من يَقوم بها. (وأهْلُونَا). أي وشغلتنا أهلونا، ليس لنا من يخلفنا فيهم، ويجوز وأهلُنَا، ولكن القراءة المشهورة بالواو، فمن قال وَأهلُونا فهو جمع أهل وأهلون، ومن قال وأهلنا فهو يتضمَّن الجماعة كُلها. * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15) يعنى بقوله: (يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ) - قوله عزَّ وجلَّ:

(16)

(فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا). فأرادُوا أن يأتوا بما ينقض هذا. فأعلم الله عزَّ وجلَّ أنهم لا يعقلون، ولا يقدرون على ذلك فقال: (قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ). ولو كان الكلام نهياً لقال: قل لا تَتَبِعُونا. وقرئت: " يُرِيدُونَ أنْ يُبَدِّلُوا كَلِمَ اللَّهِ). فالْكَلِمُ جمع كلمة، والكلام في موضع التَّكلِيم. * * * وقوله: (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16) وقد قرئت (أو يُسْلِموا)، فالمعنى تقاتلونَهُمْ حتى يسلموا. وإِلَّا أن يسلموا. فإن قال قائِلٌ: قد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهم: (لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا) فكيف جاز أن يقول: (سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ). فإنما قال - صلى الله عليه وسلم - ذلك لأن اللَّه أعلمه أنَّهُمْ منافقون، وأعلمه مع ذلك أنهم لا يُقَاتِلُونَ معَه. وجاء في التفسير أنه عنِيَ بقوله: (سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ) بنو حنيفة، وأبو بكر رحمه اللَّه، قاتلهم في أيام مسيلمة. وجاءً أيضاً هوازِن. والمعنى أن كل من ظَاهِره الِإسلام فعلى أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يدعوهم إلى الجهاد. والصحابة لم يطْلَعُوا في وقت الجهاد على من يُقَاتِل ومن لا يُقَاتِل. ولا على من ينافق ومن لا ينافق، لأن الإظهار على ذلك من آيات الأنبياء عليهم السلام. وقد قيل: (إِلَى قَوْمٍ أوليَ بَأْسٍ شَدِيدٍ) أي، إلى فارس والروم، وذلك في أيام أبي بكر وعمَر رحمة اللَّه عليهما وَمَنْ بَعْدَهم.

(18)

(فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا). أي إن تبْتًم وتَركْتُم النِّفَاقَ وجَاهَدْتم. يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا. (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا). [وإن تولَّيتم فأقمتم على نفاقكم، وأعرضتم عن الإِيمان والجهاد كما تولَّيتم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يعذِّبكم عذاباً أليماً] (1). ثم أعلم عزَّ وجلَّ بخبر من أخلص نيَّتَهُ فقال: * * * (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18) أي علم أنهم مًخْلِصون. وجاء في التفسير أن الذين بايعوا تحت الشجرة كانوا ألفاً وأرْبَعَمائة. وقيل ألفاً وخمسمائة، وقيل ألفاً وثَلاثَمائةٍ وكانوا بايعوا النبي - صلى الله عليه وسلم - على أن لا يوَلوُّا في القتال وَلَا يَهْرَبُوا، وسُمِّيَتْ بيْعةَ الرضوانِ لقوله تعالى: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) وكانت الشجرةُ سَمُرَةً. (فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا). قيل إنه فتح خَيْبَر. * * * (وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20) وهذا التكرير تكرير في الوَعْدِ، أي فعجَّلَ هذه يَعْني خَيْبَر. (وَكَص ايْدِيَ النَّاسِ عَنْكًمْ وَلتَكًونَ آيةً للمؤمِنِينَ).

_ (1) النصُّ مضطرب في الكتاب المطبوع، وتمَّ ضبطه من زاد المسير فيما حكاه عن الزَّجَّاج. اهـ (زاد المسير. 7/ 432).

(21)

أي كف أيديَ الناس عَنْكمْ لَمَّا خرجوا وخلفوا عِيَالَهمْ بالمدينة حَفِظَ اللَّه عِيَالَهمْ وَبَيْضَتَهمْ، وَقَد همَّت اليَهودُ بِهِمْ فَمَنَعهَم اللَّه ذَلِكَ. * * * (وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21) المعنى وعدكم اللَّه مغانم أخرى (قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا)، قد علمها اللَّه. وهو مَا يَغْنَم المُسْلِموَن إِلَى أنْ لاَ يُقَاتِلَهمْ أحدٌ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23) المعنى لو قاتلك من لم يقاتلك لَنصِرْتَ عَلَيْهم، لأن سنة الله النَصْر لأوليائه وحِزْبه. (سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23) و (سُنَّةَ اللَّهِ) منصوبة على المصْدَرِ، لأن قوله (لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ) مَعناه سنَّ اللَّهُ خِذْلَانَهُمْ سُنَّةً، وقد مر مثل هذا في قوله: (كِتَابَ اللَّهِ عَليهمْ). وفي قوله: (صُنْعَ اللَّهِ)، ولو قرئت " سُنَّةُ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ " لكان جيِّداً في العربيةِ. المعنى تلك سنة اللَّه التي قد خَلَتْ مِنْ قَبْلُ، ولكن لا أعلم أحداً قرأ بها فلا تقرأنَّ بها. * * * (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24) (مَكَة) لا تَنْصَرِفُ لأنَّها مؤنثَةٌ وهي مَعْرِفَة. وقوله: (مِنْ بَعْدِ أن أظْفَرَكمْ عَلَيْهِمْ). جاء في التًفْسِيرِ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أُتِيَ باثنتيْ عشر رَجُلًا أُخِذوا بلا عهد

(25)

ولا عقد فخلاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ومَنَّ عَلَيْهمْ، وكان عاقبة ذلك أن سلِمَ للرجل مَنْ بَينَهُ وبينه قَرابةٌ وَمَن هُوَ مؤمِن أن يُصَابَ قال الله عزَّ وجلَّ: (وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25) وموضع " أن " رفع بدل مِنْ (رِجَالٌ)، المعنى لولا أنْ تطأوا رجالاً مُؤْمِنينَ ونساءً مؤمِنَاتٍ. ثم قال: (لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا). أي لو تَميَّزَ الكافِرُونَ مِنَ المُسْلِمِينَ لأنزلنا بالكافرين ما يكون عَذَاباً لَهُمْ فى الدنيَا. وَمَعْنَى: (فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ). قيل: لولا أن يقتلوا منهم قوماً مؤمنين خطأً فَتَلزَمُكُم الديَاتُ والمعنى - واللَّه أعلم - لولا كراهة أنْ يَلحقكُمْ عَنتٌ بأن قتلتم من هو على دينكم إذ أنتم مختلِطُونَ بهم لعَذَبنا الذين كفروا مِنهُمْ عذاباً أليماً. * * * وقوله: (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ). (الهَدْيَ) مَنْصُوبٌ سبق على الكاف والميم، المعنى وصَدُوا الهَدْيَ. و (مَعكوفاً) مَحْبُوساً أنْ يبْلُغَ مَحِلًهُ. (وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ) كما وَصَفْنَا لنَصَرْنَاكُمُ عَلَيْهم، ولكن الذي مَنَع عن ذلك كراهةُ وَطْءِ المؤمنين بالمكرُوه والقَتْلِ. وموضع (أَنْ يبلُغَ مَحِلَّه) منصوب عَلَى مَعْنى وصدوا الهَدْيَ محبوساً عن أنْ يبلُغَ مَحِلَّهُ. * * * وقوله - عَزَّ وَجَلً - (فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26) أَنْزَلَ اللَّه عَلَيْهِم الوقار والهيبة. (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى).

(27)

جا في التفسير أن شعارَهم لا إله إِلا الله، وكلمة التقوَى توْحِيد اللهِ والإِيمان برسوله عليه السلام. (وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا). أي كانوا أحق بها من غيرهم، لأنَّ اللَّهَ - جلَّ وعزَّ - اختارَ لنبيه - صلى الله عليه وسلم - ولدينه أهلَ الخَيْرِ ومُسْتَحِقيه، ومن هو أولى بالهِدَايَة مِنْ غيره. * * * وقوله: (لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27) رأى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - في منامه كأنَّهُ وأصْحابَهُ - رحمهم اللَّه - يدخلون مكَة محلِّقِين ومُقَصِّرِين، فَصَدَق اللَّهُ رسوله الرؤيا فدخلوا على ما رأى. وكانوا قد استبطأوا الدخُولَ. ومعنى (إنْ شَاءَ اللَّهُ) يخرج على وَجْهَيْن: أحدهما إِن أمركم اللهُ به. ويجوز وهو حسن أن يكون " إن شَاءَ اللَّهُ " - جرى على ما أمر الله به في كل ما يُفعَلُ مُتَوَقعاً، فقال: (وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ). * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29) وَصَفَهُم اللَهُ بِأن بعضَهُمْ مَتَحَنِّنٌ على بَعْضِ، وأن عَليْهمِ السكينةَ والوقَارَ، وبعضهم يخلص المودةَ لبَعْضٍ، وهم أشِداءُ عَلَى الكُفَارِ. أشداء جمع شديدٍ، والأصل أشدِدَاء، نحو نصيب وأنْصِبَاء، ولكن الدالَيْنِ تَحَركَتَا فأدْغِمتِ الأولى في الثانية، ومثل هذا قوله: (مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ).

وقوله: (سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ). أي في وجوههم عَلَامَة السجودِ، وهي علامة الخاشِعين لِلَّهِ المصَلِّين. وقيل يبعثون يَوْمَ القِيَامَةِ غرًّا مُحجَّلينَ من أثر الطُهُورِ، وهذا يجعله اللَّه لَهُمْ يَوْمَ القيامَةِ عَلامَة وهي السيماء يُبَين بها فَضْلَهمْ عَلَى غَيْرِهِمْ. وقوله: (ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ). أي ذلك صفة محمد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه في التَورَاةَ، ثم أعلم أنَّ صفَتَهم في الِإنجيل أيضاً. (كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ). معنى (أَخْرَجَ شَطْأَهُ) أخرج نباته (فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ)، أي فَآزَرَ الصغارُ الكبارَ حتى استوى بعضه مع بعْض (عَلَى سُوقِهِ) جمع ساقِ. وقوله: (يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ). (الزُّرَّاعَ) محمد عليه السلام والدُّعاة إلى الِإسْلاَمِ وهم أصحَابًه. وقوله: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا). (مِنْهم) فيه قولان: أن تكون " مِنهم " ههنا تخليصاً للجنس من غيرِه كما تقول: أنفقْ نَفَقَتَك منَ الدراهِمِ لَا مِنَ الدنَانِيرِ. المعنى اجعل نفقتك من هذا الجنس، وكما قال: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ)، لا يريد أن بعضها - رجس وبعضها غير رِجْسٍ. ولكن المعنى اجتنبوا الرجس الذِي هُوَ الأوثانُ.

فالمعنى وعد اللَّه الذين آمنوا وعملوا الصالحات من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - المؤمنين أجراً عظيماً وفَضَّلَهُمْ الله على غيرهم لِسَابِقتِهم وَعَظَّم أجْرَهُمْ. والوجه الثاني أن يكون المعنى وعد الله الذين أقاموا منهم على الإيمَانِ والعمل الصالح مَغْفِرةً وأجراً عظيماً.

سورة الحجرات

سُورَةُ الْحُجُرَات بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) وقد قرئت (لَا تَقَدَّمُوا) بفتح التاء والدال، والمعنى إذا أمِرْتم بأمْرٍ فلا تفعلوه قبلَ الوقتِ الذي أمِرْتم أن تفعلوهُ فِيهِ. وجاء في التفسير أن رجلاً ذبح يوم الأضْحَى قَبْلَ صَلاةِ الأضْحَى فتقدم قبل الوقت فاعلم اللَّهُ أن ذلك غير جائز. ففي هذا دليل أنَّهُ لَا يَجُوزُ أن يؤدى فَرْضٌ قبل وقْتِهِ وَلَا تطوعٌ قَبْلَ وَقْتِهِ مِمَّا جَاءَت به السُّنَّةُ، وفي هذا دليل أن تقديم الزكاةِ قبل وقتها لا ينبغي أن يجوز، فأما ما يروى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استسلَفَ من العباس شيْئاً من الزكاة، فلا أعلم أن أحداً ممن أجاز تقديم الزكاة احتج إلا بهذا الحديث، وهذا إن صح فهو على ضربين: أحدهما أن يكون مخصوصاً والآخر أن يكونَ الحاجة اشتدت فوقع اضطرار إلى استسلاف الزكاة. والإجماع أن إعطاءها في وقتها هو الحق، وهو الفَضلُ إنْ شَاء اللَّه. ومن قرأ: (لَا تَقَدَّمُوا) فمعناه كمعنى (لَا تُقَدِّمُوا) (1). * * * وقوله عزْ وجلَّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2)

_ (1) قال السَّمين: قوله: {لاَ تُقَدِّمُواْ}: العامَّةُ على ضمِّ التاءِ وفتح القافِ وتشديدِ الدالِ مكسورةً، وفيها وجهان، أحدُهما: أنَّه متعدٍّ، وحُذِفَ مفعولُه: إمَّا اقتصاراً كقولهم: هو يعطي ويمنع، {وَكُلُواْ واشربوا} [البقرة: 187]، وإمَّا اختصاراً للدلالةِ عليه أي: لا تُقَدِّموا ما لا يَصْلُحُ. والثاني: أنه لازمٌ نحو: وَجَّه وتَوَجَّه، ويَعْضُدُه قراءةُ ابنِ عباس والضَّحَّاك «لا تَقَدَّمُوا» بالفتح في الثلاثة، والأصلُ: لا تَتَقَدَّمُوْا فحذَف إحدى التاءَيْن. وبعضُ المكِّيين «لا تَّقَدَّمُوْا» كذلك، / إلاَّ أنَّه بتشديد التاء كتاءات البزي. والمتوصَّلُ إليه بحرفِ الجرِّ في هاتَيْن القراءتَيْن أيضاً محذوفٌ أي: لا تَتَقَدَّموا إلى أمرٍ من الأمور. وقُرِىء «لا تُقْدِموا» بضمِّ التاءِ وكسرِ الدالِ مِنْ أَقْدَمَ أي: لا تُقْدِموا على شيءٍ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(3)

أمرهم اللَّه - عزَّ وجلَّ - بتبجيل نبيِّه عليه السلام، وَأنْ يَغُضوا أصْوَاتَهُمْ وأن يخاطبوه بالسكينة والوقار، وأن يفضلوه في المخاطبة، وذلك مما كانوا يفعلونه في تعظيم ساداتهم وكبرائهم. ومَعنى (كَجَهْرِ بَعْضِكُم لِبَعْضٍ) أي لا تنزلوه منزلةَ بعضكم من بعض. فتقولوا: يا محمدِ خاطبوه بالنبوة، والسكينة والإِعظام. وقوله: (أنْ تَحْبَط أعْمَالُكُمْ). معناه لا تفعلوا ذلك فتحبط أعمالكم. والمعنى لئلا تحبط أعمالكم فالمعنى معنى اللام في أن. وهذه اللام لام الصيرورة وهي كاللام في قوله: (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا) والمعنى فالتقطه آل فرعَوْنَ ليصير أمرهم إلى ذلك، لَا أنَّهمْ قصدوا أن يصير إلى ذلك. ولكنه في المقدار فيما سبق من علم الله أن سبب الصير التقاطهم إياه، وكذلك لا ترْفَعُوا أصواتكم فيكون ذلك سبباً لأن تحبط أعمالكم. (وَأنْتُمْ لَا تَشْعُرونَ). هذا إعلامٌ أن أمرَ النَبِى - صلى الله عليه وسلم - ينبغي أن يُجَلَّ وُيعَظَّمَ غايَة الِإجْلَالِ. وأنه قد يُفعل الشيءُ مما لا يَشْعَرُ به من أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيكون ذلك مُهلكاً لِفَاعِلِه أو لِقَائِله. ولذلك قال بعض الفقهاء: من قال إدْ زِرَّ رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وسخ يريد به - النقصَ منه وجب قتْلُه. هذا مذهبُ مالِكٍ وأصْحَابه. * * * وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) (امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ) أخلَصَ قلُوبَهمْ. وَ " هُمْ " يخرج على تفسير حقيقة اللغة، والمعنى

_

(4)

اختبر اللَّه قُلُوبَهم فَوَجَدَهُمْ مُخْلِصِين - كما تقول: قد امتحنت هذا الذهب وهذه الفضة. تأويله قد اختبرْتُهُمَا بأن أذَبْتُهَمَا حتى خلصت الذهَب والْفضة فَعَلِمْتُ حَقِيقَةَ كل واحد منهما. * * * وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) يقرأ بضم الحاء والجيم، والحُجَرَاتَ بِفَتْح الجيم، ويجوز في اللغة الحُجْرات. بتسكين الجيم - ولا أعلم أحَداً قَرأ بالتَسْكِينِ وَقَدْ فَسًرْنَا هذا الجمع فيما تقدم من الكتاب. وواحد الحجرات حُجْرَةٌ. ويجوز أن تكون الحُجراتُ جمع حُجَرٍ وحُجرات، والأجود أن تكون الحُجُرَات جمع حُجرة، وأن الفتح جاز بدلاً من الصفةِ لثقل الضمَتَيْن. وهؤلاء قوم جاءوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من بني تميم فَنَادَوْه من وراء الحجرات. ولهم في التفسير حديث فيه طول، وجملته أنهم جاءوا يفاخرون النبي وأنَّهمْ لم يلقَوْه بما يجب له عليه السلام. * * * قال: (وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) أي - من تاب بعد هذا الفِعْل فاللَّه غفور رحيم. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6) ويقرأ فتثَبَّتُوا أَنْ تُصِيبُوا. (قَوْماً بجَهَالةٍ). جاء في التفسير أنها نزلت بسبب الوليد بن عقبة. وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بَعَثَهُ ساعِياً يجْبي صدقات بني المصطلق، وكان بينه وبينهم أحْنَة أي عداوة،

(7)

فلما اتصَلَ بهم خَبَرُه وقد خرج نحوهم قال بعضهم لبعْضٍ: قد علمتم ما بيننا وبين هذا الرجل، فامْنعوه صَدَقَاتِكًمْ، فاتصل به ذلك فرجع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره أنهم مَنَعوه الصدقة وأنهم ارْتدُّوا، وأعَدُّوا السِّلَاحَ للحَرْبِ، فوجه رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - بخالد بن الوليد ومعه جيش، وتقدم إِليْه أن ينزل بعقوتهم ليلاً، فإن رأى ما يدل على إقامتهم على الإسلام من الأذان والصلاة والتَّهجد أمسك عن محاربتهم، وطالبهم بصَدَقَاتِهِمْ فلما صار خَالِدٌ إليهم ليلاً سَمِعَ النداء بِالصلَاة، ورآهم يُصَلُّونَ ويتهجَّدونَ، وقالوا له: قد استبطأنا رسالة رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - في الصدَقَاتِ، وسلموها إليه، فأنزل اللَّه - عزَّ وجلَّ - (إِنْ جَاءَكًمْ فَاسِق بِنَبَأٍ) أي بخَبرٍ (فَتَبَينوا أنْ تصِيبًوا قَوْمَاً بِجَهَالَةٍ) أي كراهة أن تصِيبوا قوماً بِجَهَالَةٍ وهذا دليل أنه لا يجوز أن يقبل خبر من فاسق [إلا أن] (1) يتَبَيَّن وأَنَ الثقة يجوز قبول خبرِه. والثقةً من لم تجرب عليه شهادَةً زورٍ وَلَا يُعْرَف بفِسْقٍ وَلَا جُلِدَ في حَدٍّ، وهو مع ذلك صحيح التمييز. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) أي لو أطاع مثل هذا المخبر الذي أخبره بما لا أصل له لوقعتم في عَنَتٍ، والعَنَتُ الفساد والهَلاَكُ. (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ). . هذا يعنى به المؤمنون المخلصون. (وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ). ويحتمل (فِي قُلُوبِكُمْ) وجهين: أحدهما أنه دلهم عليه بالحجج القاطعة البينة، والآيات التي أتى بها النبي - صلى الله عليه وسلم - المعجزةِ. والثاني أنه زَيَّنَهُ في قلوبهم بتوفيقه إياهم.

_ (1) زيادة ضرورية.

(8)

(وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ). وذلك أيضاً تبْيينه ما عليهم في الكفر وتوفيقه إياهم إن اجْتَنَبوه. وقوله: (أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ). أي هؤلاء الذين وفقهم اللَّه - عزَّ وجلَّ - بتحبيب الِإيمان إليهم وتكريه الكفر أولئك هم الراشدون. * * * (فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8) منصوب مفعول له - المعنى فعل الله ذلك بكم فضلاً من اللَّه ونعمةً أي للفضل والنعْمةِ، ولو كان في غير القرآن لجاز (فَضْلٌ من اللَّه ونعمةٌ). المعنى ذلك فضل من الله ونعمة. * * * وقوله - عزَّ وجلَّ -: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) والباغية التي تعدل عن الحق وما عليه أئمة المسْلِمين وَجَمَاعَتُهُمْ. (حَتَى تَفِيءَ إِلى أمْرِ اللَّهِ). حتى ترجع إلى أمر اللَّه. (فَإِنْ فَاءَت): فإن رَجَدَتْ. (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا). أي وأعْدِلُوا. (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) وهذه - قيل - نزلتْ بسبب جَمْعَيْن من الأنْصَارِ كان بينهم قِتَال ولم يكن ذلك بسيوف ولا أسْلحة، جاء في التفسير أنه كان بينهم قِتال بالأيدي والنَعَال وَتَرَامٍ بِالحِجَارةِ.

(10)

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) ويقرأ بين إخْوَانكم، وبين إخْوَاتِكُمْ وبين إخْوَتكم. فأعلم اللَّه - عزَ وجل - أن الذينَ يجمعهم وأنهم إِخوَة إذا كانوا متفقين في دينهم فرجعوا في الاتفاق في الدين إلى أصل النسَبِ، لأنهم لآدَم وحَواء، ولو اختلفت أدْيَانُهم لافترقوا في النسَبِ، وإن كان في الأصل أنهم لأب وأم. ألَا ترى أنه لا يرث الولدُ المؤمن الأب الكافِرَ ولا الحمِيمُ المؤمِنُ نسيبه الكافِر. * * * وقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) عسى أن يكون المسخور منه خيراً من الساخرين، وكذلك عسى أن يكون النساء المسخور منهن خيراً من النساء الساخرات، فنهى اللَّه - عزَّ وجلَّ - أن يسخر المؤمنون من المؤمنين، والمؤمنات من المؤمنات. (وَلَا تَلْمِزُوا أنْفُسَكُمْ). واللمز والهمز العيب والعض من الِإنسان. فأعلمَ اللَّهُ أن عيب بعضهم بعضاً لازم لهم، يلزَمُ العائِبَ عيبُ المعيب. (وَلَا تَنَابَزُوا بِالْألْقَابِ) والنبز واللقب في معنىً وَاحِدٍ، لا يقول المسلم لمن كان يَهودياً أو نصرانياً فأسلم لقباً يعيره فيه بأنه كان نصرانياً أو يهودياً. (بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ)، أي بئس الاسم أن يقول له: يا يهودي ويا نصراني وقد آمن، ويحتمل أن يكون في كل لقبٍ يكرهه الِإنسان، لأنه إنما يجب أن يخاطب المؤمن أخاه بأحب الأسماء إليه. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12) أمر اللَّه عزَّ وجل باجتناب كثير مِنَ الظن، وهو أن تظن بأهل الخير سوءاً

(13)

إذا كنا نعلم أن الذي ظهر منه خير، فأمَّا أهل السوء والفسق فلنا أن نظن بهم مِثْلَ الذي ظهر منهم. وقوله: (ولا يَغْتَبْ بَعْضُكُم بَعْضاً)، والغيبة أن يُذْكَرَ الإنسان من خلفه بسوء وإن كان فيه السوء وأما ذكره بما ليس فيه فذلِكَ البهْتُ والبُهْتَانُ - كذلك جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. * * * وقوله عزَّ وجلَّ -: (أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا). ويجوز (مَيِّتاً) وتأويله أن ذكرك بِسوءٍ من لم يَحْضر لك بمنزلة أكل لحمه وهو مَيِّت لَا يُحِسُّ هُوَ بذلك، وكذلك تقول للمغتاب فلان يأكل لحوم الناس. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فَكَرِهْتُمُوهُ). ويُقرأ " فَكُرِّهْتُمُوهُ " - فتأويله كما تكرهون أكل لحمه مَيتاً كذلك تجنبوا ذكره بالسوء غائباً. * * * وقوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) خلقناكم من آدم وحواء، وكلكم بنو أبٍ وَاحِدٍ وَأُمٍّ وَاحِدَة إِلَيْهما تَرْجِعُونَ. (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا). والشعب أعظم من القبيلة. أي لم يجعلكم شعوباً وقبائل لتفاخروا وإنما جعلناكم كذلك لتتعارَفُوا، ثم أعلمهم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أن أرفعهم عِنْدَهُ مَنْزِلَةً أتْقَاهُمْ فقال: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ). ولو قرئتِ " أَنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ " جاز ذلك على معنى وجَعَلْناكم

(14)

شعوباً ليعرف بعضكم بعضاً أنَّ أكرمكم عند اللَّه أتقاكم (1). * * * وقوله - عزَّ وجلَّ - (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) وهذا موضع يحتاج الناس إلى تفهمه، وأين ينفصل المؤمن من المسلم. وأين يستويان. والِإسلام إظهار الخضوع والقبول لما أتى به النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبذلك يحقن الدَّمُ. فإن كان مع ذلك الِإظهار اعتقاد وتصديق بالقلب فذلك الِإيمان الذي مَنْ هُوَ صفته فهو مؤمن مُسْلِم، وهو المؤمن باللَّه ورسوله غَيْرَ مرتابٍ ولا شَاكٍّ. وهو الذي يرى أن أداء الفرائض واجب عليه، وأن الجهاد بنفسه وماله واجب عليه لا يدخلُه في ذلكَ رَيبٌ، فهو المؤمِنَ وهو المُسْلِمُ حقاً، كما قال عز وجلَّ: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15). أي إذا قالوا إنا مؤمنون فهم الصادقون، فأما من أظهر قبول الشريعة واستسلم لدفع المكروه فهو في الظاهر مسلم، وباطنه غير مُصَدق، فذلك الذي يقول أسلمتُ لأن الِإيمانَ لا بد من أن يكون صاحبه صديقاً، لأنَّ قولك آمَنْتُ بكذا وكذا معناه صدقت به، فأخرج اللَّه هؤلاء من الِإيمان فقال: (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ). أي لم تصدقوا إنما أسلمتم تعوذاً من القتل، فالمؤمن مُبْطِنٌ من التصديق مثل ما يظهر، والمسلم التام الِإسلام وهو مظهر الطاعة مع ذلك مؤمن بها، والمسلم الذي أظهر الِإسلام تعوذاً غير مؤَمن في الحقيقة، إلا أن حكمه في الظاهر حكم المسلمين.

_ (1) قال السَّمين: قوله: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ}: الشُّعوب: جمع شَعْب وهو أعلى طبقاتِ الأنسابِ، وذلك أن طبقاتِ النَّسَبِ التي عليها العربُ ستٌّ: الشَّعْبُ والقبيلة والعِمارة والبَطْنُ والفَخِذُ والفَصيلةُ، وكلُّ واحدٍ يَدْخُل فيما قبله، فالفصيلةُ تَدْخُلُ في الفَخِذ، والفَخِذُ في البطن. وزاد بعضُ الناسِ بعد الفَخِذ العشيرة، فجعلها سبعاً وسُمِّيَ الشَّعبُ شعباً لتشَعُّبِ القبائلِ منه، والقبائل سُمِّيَتْ بذلك لتقابُلها، شُبِّهَتْ بقبائلِ الرأسِ وهي قطعٌ متقابلةٌ. وقيل: الشُّعوب في العجم، والقبائل في العرب، والأسباطُ في بني إسرائيل. وقيل: الشعبُ النَسبُ الأبعدُ، والقبيلةُ الأقربُ. وأنشد: 4086 قبائلُ مِنْ شُعوبٍ ليس فيهِمْ. . . كريمٌ قد يُعَدُّ ولا نَجيبُ والنسَبُ إلى الشَّعْب «شَعوبيَّة» بفتح الشين، وهم جيلٌ يَبْغَضون العربَ. قوله: {لتعارفوا} العامَّةُ على تخفيفِ التاء، والأصلُ: لتتعارفوا فحذفَ إحدى التاءَيْن. والبزيُّ بتشديدِها. وقد تقدَّم ذلك في البقرة. واللام متعلقةٌ بجَعَلْناكم. وقرأ الأعمش بتاءَيْن وهو الأصلُ الذي أدغمه البزيُّ وحَذَفَ منه الجمهورُ. وابن عباس: «لِتَعْرِفُوا» مضارعَ عَرَفَ. والعامَّةُ على كسرِ «إنَّ أكْرَمَكم». وابن عباس على فتحها: فإنْ جَعَلْتَ اللامَ لامَ الأمرِ وفيه بُعْدٌ اتَّضَحَ أَن يكونَ قولُه: «أنَّ أَكْرَمَكم» بالفتح مفعولَ العِرْفان، أَمَرَهم أَنْ يَعْرِفوا ذلك، وإنْ جَعَلْتَها للعلة لم يظهرْ أَنْ يكونَ مفعولاً؛ لأنه لم يَجْعَلْهم شعوباً وقبائلَ ليعرِفوا ذلك، فينبغي أن يُجْعَلَ المفعولُ محذوفاً واللامُ للعلة أي: لِتَعْرِفوا الحقَّ؛ لأنَّ أكرمَكم. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(17)

وقوله تعالى: (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17) قيل إن هذه نزلت في المنافقين. فاعلموا أنكم إنْ كنتم صادقين فإنكم قد أسلمتم فلله المنُّ عَلَيْكمْ لِإخراجه إياكم من الضلالة إلى الهدى. وقد قيل: إنها نزلت في غير المنافقين، في قوم من المسلمين قالوا آمنا وهاجرنا وفعلنا وصنعنا فمنوا على رسول الله بذلك. والأشبه - واللَّه أعلم - أن يكون في قوم من المنافقين. وقوله - عزَّ وجلَّ - (وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا). (لَا يَألِتْكُم) ويُقرأ (لَا يَلْتِكمْ)، فمن قرأ (يَألِتْكُم) فدليله (وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) ومعناه وما نقصناهم، وكذلك (لا يَألِتْكُم) لاينقصكم. ومن قرأ (لَا يَلِتْكمْ) فهو من لات يليت، يقال: لَاتَه يَلِيتُهُ. وَألَاتَهُ يُليتُه إذا نقصه أيضاً، والمعنى فيهما واحد. أعني (يَألِتْكُم) و (يَلِتْكمْ). والقراءة (لَاَ يَلِتْكمْ) أكثر، والأخرى أعني (يَألِتْكُم) جيدة بالغة، ودليلها في القرآن على ما وصفنا.

سورة (ق)

سُورَةُ (ق) خمس وأربعون آية " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله عزَّ وجلَّ (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) أكثر أهل اللغة وما جاء في التفسير أن مجاز (ق) مجاز الحروف التي تكون في أوائل السوَر نحو (ن)، و (الم)، و (ص) وقد فسرنا ذلك ويجوز أن يكون معنى (قَافْ) معنى قضي الأمر، كَمَا قِيلَ (حم) حُمَّ الأمْرُ. واحتج الذين قالوا من أهل اللغة أن معنى (ق) بمعنى قضي الأمر بقول الشاعر: قلنا لها قفي قالت قاف. . . لا تحسبي أنا نسينا الإيجاف معناه فقالت أقف ومذهب الناس أن قاف ابتداء للسورة على ما وصفنا، وقد جاء في بعض التفسير أن قاف جبل محيط بالدنيا من ياقوتة خضراء وأن السماء بيضاء وإنما اخْضَرت مِنْ خُضْرَتِه، واللَّه أعلم وجواب القسم في (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) مَحْذُوف، يدل عليه (أإذا مِتْنَا وكُنَّا تراباً). المعنى واللَّهِ أعلم: والقرآن المجيد إنكم لمبعوثون. فعجبوا فقالوا (أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا).

(3)

أي أنبعث إذَا - مِتْنَا وكنا تُراباَ. ولو لم يكن إذا متعلق لم يكن في الكلام فائدة. وقوله: (ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) أي يبعد عندنا أن نبعث بَعَدَ المَوْتِ. ويجوز أن يكون الجواب (قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأرْضُ مِنْهُمْ)، فيكون المعنى: ق والقرآن المجيد لقد علمنا ما تنقص الأرض منهم وحذفت اللام لأن ما قبلها عوض منها كما قال: (والشمس وضحاها) إلى قوله: (قَدْ أفْلَحَ مَنْ زَكَاهَا)، المعنى لقد أفلح من زكاها. والمعنى (ما تَنَقُصُ الأرْضُ مِنْهُم). ما تأخذه الأرض من لحومهم. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5) مَريج: مختلف ملتبس عليهم مرة يقولون للنبي - صلى الله عليه وسلم - شاعر ومرة ساحِر ومرة مُعَلَّم. فهذا دليل على أن أمرهم مريج ملتبس عليهم. ثم دلهم عزَّ وجلَّْ على قدرته على بعثهم بعد الموت بعظيم خلقه الذي يدل على وحدانِيته وأنه على كل شيء قدير فقال: (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وأن الله عزَّ وجلَّ ممسكها بغير عَمَدٍ من أن تقع على الأرض. (وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ). لا صدع فيها ولا فرجة. (وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) والرواسي الجبال. (وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8)

(9)

أي فعلنا ذلك لِنُبَصِّر به ونَدُلَّ على القُدرة. ثم قال (لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) أي لكل عبد يرجع إلى اللَّه ويفكر في قدرته. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) أي وأنبتنا فيها حب الحَصِيدِ، فجمع بذلك جميع ما يقتات به من حب الحنطة والشعير وكل ما حَصِدَ. * * * (وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) بسوقها طولها، المعنى وأنبتنا فيها هذه الأشياء. * * * وقوله: (رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11) ينتصب على وجهين: أحدهما على معنى رزقناهم رزقاً لأن إنباته هذه الأشياء رزق، ويجوز أن يكون مفعولاً له، المعنى: فأنبتنا هذه الأشياء للرزق. ثم قال: (كَذَلِكَ الخُروجُ). أي كما خلقنا هذه الأشياء نبعثكم. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أي فحقت عليه كلمة العذاب والوعيد للمكذبين للرسل، وكذلك قوله: (فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) * * * وقوله: (أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15) هذا تقرير لأنهم اعترفوا بأن اللَّه - عزَّ وجلَّ - الخَالِقُ، وأنكروا البعث؛ فقال: (أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ)، يقال: عَيِيتُ بالأمر إذا لم تعْرف وجهه. وأعَيْيتُ إذَا تعبتُ.

(16)

وقوله عزَّ وجلَّ: (بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ). أي بل هم في لَبْسٍ مِنَ البَعْثِ. * * * (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) أي نَعلَمُ ما يخفي وما يكنه في نفسه. (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ). والوريد عرق في باطن العنق، وهما وريدان، قال الشاعر. كأَنْ ورِيدَاهُ رِشَاءا خُلْبِ يعني من ليف. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) (المُتَلَقيَانِ) كاتباه الموكلانِ بِهِ، يَتَلقيان ما يعمله فيَثبتانه. المعنى عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد، فدل أحَدُهما على الآخر، فحذف المدلول عليه، ومثله قَوْلُ الشاعِر. نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وأنْتَ بِمَا عِنْ. . . دَكَ رَاضٍ والرَّأْيُ مُخْتَلِفُ أي نحن بما عندنا راضون وأنت بما عندك راض، ومثله أيضاً رَمَانِي بِأَمْرٍ كُنْتُ مِنْهُ وَوالِدِي. . . بَريئاً ومِنْ أَجْلِ الطَّوِىِّ رَمَانِي المعنى رماني بأمر كنت منه بريئاً، ووالدي بريئاً منه.

(18)

وقوله (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) (عَتِيدٌ) أي ثابت لازم. * * * وقوله: (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) أي جاءت السكرة التي تدل الإنسانَ على أنه ميت. (بِالْحَقِّ) أي بالمَوْتِ الذي خلق له. وقال بعضهم: وجاءت سكرة الحق بالموت، ورويت عن أبي بكر رحمه اللَّه والمعنى واحد، وقيل الحق ههنا اللَّه عزَّ وجلَّ. * * * وقوله: (وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) قيل في التفسير سائقِ يسوقها إلى محشرها، وَ (شَهِيدٌ) يشهد عَلَيْها بِعَمَلِها وقيل: وَ (شَهِيدٌ) هُوَ العَمل نفسه. * * * وقوله: (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) وهذا مَثلٌ، المعنى كنت بمنزلة من عليه غطاء وعلى قلبه غشاوة. (فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ). أي فعلمك بما أنت فيه نافذٌ، ليس يراد بهذا البصر من - بَصَرِ العين - كما تقول: فلان بصير بالنحو والفقه، تُرِيدُ عَالِمَاً بِهِمَا، ولم ترد بصر العَيْن. * * * - وقوله: (وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) (ما) رفع بهذا و (عَتِيدٌ) صفة لـ (ما) فِيمَنْ جَعَلَ " ما " في مذهب النكرة، المعنى هذا شيء لدي عتيد. ويجوز أن يكون رفعه على وجهين غير هذا الوجه، على أن يُرْفَع (عَتِيدٌ) بإضْمارٍ، كأنك قلت: هذا شيءٌ لَدَيَّ هو عتيد ويجوز أن ترفعه على أنه خبر بعد خبر، كما تقول هذا حلو حامض، فيكون المعنى هذا شيء لَدَيَّ عتيدٌ. ويجوز أن يكون رفعه على البدل من " ما "، فيكون المعنى هذا عتيد. * * * وقوله: (أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) أي عَنِدَ عن الحق، وقوله: (ألْقِيَا)، الوجه عندي - واللَّه أعلم - أن يكون أمر الملكين، لأن (ألْقِيَا) للاثنين،، وقال بعض النحويين: إن العربَ

(27)

تأمر الواحد بلفظ الاثنين، فتقول قوماً واضربا زيداً يا رجل، وروَوْا أن الحجاج كان يقول: يا حَرَسِي اضربا عنقه، وقالوا: إنما قيل ذلك لأن أكثر ما يتكلم به العرب فيمن تأمره بلفظ الاثنين، نحو. خليلي مُرا بي على أُمِّ جُندَبِ قفا نبك من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ وقال محمد بن يزيد: هذا فعل مثنى توكيداً كأنَّه لَمَّا قال ألْقِيَا ناب عن قوله ألْقِ ألْقِ، وكذلك عنده قفا معناه عنده قف قف، فناب عن فعلين فبنى. وهذا قولٌ صالحٌ وأنا اعتقد أنه أمر الاثنين (1)، واللَّه أعلم. * * * وقوله: (قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27) المعنى إنما طغى وهو بضلاله وإنما دعوته فاستجاب، كما قال: (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي). * * * وقوله: (مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29) أي من عمل حسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا، ومن عمل سيئة - فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) وقرئت (يَوْمَ يَقُولُ لِجَهَنَّمَ) نصب (يَوْمَ) على وجهين: على معنى ما يبدل القول لديَّ في ذلك اليوم. وعلى معنى أنذرهم يوم نقول لجهنم، كما قال: (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ).

_ (1) قال السَّمين: قوله: {أَلْقِيَا}: اختلفوا: هل المأمورُ واحدٌ أم اثنان؟ فقال بعضُهم: واحد، وإنما أتى بضميرِ اثنين، دلالةً على تكرير الفعل كأنه قيل: أَلْقِ أَلْقِ. وقيل: أراد أَلْقِيَنْ بالنونِ الخفيفة فأبدلها ألفاً إجراءً للوَصْلِ مُجْرى الوقفِ، ويؤيِّده قراءةُ الحسنِ «أَلْقِيَنْ» بالنونِ. وقيل: العرب تخاطِبُ الواحدَ مخاطبةَ الاثنين تأكيداً كقولِه: 4095 فإن تَزْجُراني يا بنَ عَفَّانَ أَزْدَجِرْ. . . وإنْ تَدَعاني أَحْمِ عِرْضاً مُمَنَّعا وقال آخر: 4096 فقُلْتُ لصاحبي لا تَحْبِسانا. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت. وقال بعضُهم: المأمور مثنى. وهذا هو الحقُّ لأنَّ المرادَ مَلَكان يفعلان ذلك. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(35)

وقوله عزَّ وجلَّ: (هَلِ امْتَلَأْتِ). أي: أم لم تمتلئ، وإنما السوال توبيخ لمن أُدْخِلَهَا، وزيادة في مكروهه. ودليل على تصديق قوله: (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ). فأمَّا قوله: (وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ). ْففيه وجهان عند أهل اللغة: أحدهما أنها تقول ذلك بعد امتلائها فتقول: (هل من مزيد). أي هل بقي في موضع لم يمتلئ، أي قد امتلأت. ووجه آخر: تقول: هل من مزيد تغيظاً على من عصى كما قال عزَّ وجلَّ: (سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا). فأمَّا قولها هذا ومخاطبتها فاللَّه - عز وجل - جعل فيها ما به تميز وتخاطب، كما جعل فيما خلق أن يسبح بحمده، وكما جعل في النملة أن قالت: (يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ) وقد زعم قوم أنها امتلأت فصارت صورتها صورة من لو ميَّزَ لَقال: (هل من مزيد) كما قال الشاعر: امتلأ الحوض وقال قطني. . . مهلاً رويداً قد ملأت بطني وليس هناك قول. وهذا ليس يُشْبِه ذاك، لأن الله عزَّ وجلَّ قد أعلمنا أن المخلوقات تسبح وأننا لا نفقه تسبيحها، فلو كان إنما هو أن يدل على أنها مخلوقة كنا نفقه تسبيحها. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35) المعنى لهم فيها ما يشاءون ولدينا مزيد مما لم يخطر على قلوبِهِمْ. وجاء في التفسير أن السحاب يمر بأهل الجنة فيمطر لهم الحور، فيقول الحورُ نحن الذين قال اللَّه عزَّ وجلَّْ فيهم، (وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ).

(36)

(وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) اختلف الناس في القرن فقال قوم: القرن عشر سنين، وقال قوم ثلاثون سنة، وقال قوم أربعون سنة، وقال قوم سبعون سنة، وقالوا مائة سنة، وقال قوم مائة وعشرون سنة. والقرن واللَّه أعلم مقدار التوسط في أعمار أهل الزمان، فالقرن في قوم نوح على مقدار أعمارهم. واشتقاقه من الاقتران فكأنه المقدار الذي هو أكبر ما يقترن فيه أهل ذلك الزمان في بقائهم. وقوله عزَّ وجلَّّ: (فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ). وقرئت (فَنَقَبُوا) - بالتشديد والتخفيف - المعنى طوِّقوا وفتِّشوا، فلم تَرَوا مَحيصاً من الموت. قال امرؤ القيس. لقَدْ نَقَّبْتُ في الآفاقِ حتَّى. . . رَضِيتُ مِنَ الْغَنِيمَةِ بالإِيابِ وتقرأ نَقِّبوا في البلاد، أي فتشوا وانظروا، ومن هذا نَقيبُ القومِ للذي يعرف أمرهم، مثل العريف. * * * قوله عزَّ وجلَّ: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) وقرئت (أو أُلقِيَ السمعُ) ومعنى (مَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ) أي من صرف قلبه إلى التّفَهُّمِ، ألا ترى أن قوله: (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) أنهم لم يستمعوا استماع متفهم مسترشد فجعلوا بمنزلة من لم يسمع كما قال الشاعر:

(38)

أصمُّ عما ساءه سميعُ ومعنى (أو ألقى السمع) أي استمع ولم يشغل قلبه بغير ما يسمع. والعرب تقول: ألق إليَّ سَمعَك، أي استمع مني. ومعنى (وَهُوَ شَهِيدٌ) أي وقَلْبُه فيما يسمعُ. وجاء في التفسير أنه يعنى به أهل الكتاب الذين كانت عندهم صفة النبي - صلى الله عليه وسلم -. فالمعنى على هذا التفسير (أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) أن صفة النبي عليه إلسلام في كتابه. * * * وقوله: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38) اللُّغوب: التَّعَب والإعياء، يقال: لَغَبَ يلْغُبُ لُغوباً. وهذا فيما ذكر أن اليهود - لُعِنَتْ - قالت: خلق اللَّه السَّمَاوَات والأرض في ستَةِ أيامِ أولُها الأحَد وآخرها الجمعة، واستراح يوم السبت، فأَعلم اللَّه عزَّ وجلَّّ أنه خَلقها في ستة أيام وسبحانه وتعالى أن يوصف بتعب أوْ نَصَبٍ. ثم قال: (فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) يعني قبل طلوع الشمس صلاة الفجر، وقبل الغُروب صلاةَ العَصْرِ * * * (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40) (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ) صلاة المغرب. (وَأَدْبَارَ السُّجُودِ) الركعتان بعد صلاة المغرب على هذا. ويجوز أن يكون الأمر بالتسبيح بعد الفراغ من الصلاة. ويقرأ (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ) و (إِدْبَارَ السُّجُودِ)، فمن قرأ و (أَدْبَارَ) بقتح الألف فهو جمع دبر. ومن قرأ و (إِدْبَارَ) فهو على مصدر أدْبَرَ يُدْبِرُ إِدباراً.

(41)

وقوله تعالى: (وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41) جاء في التفسير أنه يعنى به أنه ينادى بالحشر من مكان قريب. وقيل: هي الصخرة التي في بيت المقدس، ويقال إنها في وسط الأرْضِ. * * * قوله عزَّ وجلَّ (يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) أي يوم يبعثون ويخرجون، ومثله (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7). والأجداث القبور وقال أبو عبيدة: يوم الخروج من أسماء يوم القيامة. واستشهَدَ بقول العَجاجِ. أَلَيسَ يَوْمٌ سُمِّيَ الخُرُوجا. . . أَعْظَمَ يَوْمٍ رَجَّةً رَجُوجا؟ * * * وقوله: (وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45) هذا كما قال: (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22). وهذا قبل أن يؤمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالحرب لأن سورة (ق) مكية.

سورة الذاريات

سُورَةُ الذاريات (مكية) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله عزَّ وجلَّ: (وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) جاء في التفسير عن علي رضي الله عنه أن الكواء سأله عن ((وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا) فقال علي: هي الرياح، قال: (فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا) قال السحابُ، قال: (فَالْجَارِيَاتِ يُسْراً) قال الفلك. قال: (فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا) قال الملائكة. والمفسرون جميعاً يقولون بقول عليٍّ في هذا. * * * (وَالذَّارِيَاتِ) مجرور على القسم، المعنى أحلف بالذاريات وبهذه الأشياء، والجواب: (إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5). وقال قوم: المعنى وَرَبِّ الذَّارِيَاتِ ذَرْوًا كما قال عزَّ وجل: (فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ). والذاريات من ذَرَتِ الريح تَذرو إذا فرقت التراب وغيره. يقال: ذرت الريح وأذرت بمعنى وَاحِدٍ، ذرت فهي ذاريةٌ، وهن ذاريات، وأذرت فهي مُذْرِية ومُذْرِياتٌ للجماعة، وذاريات أيضاً. والمعنى وربِّ الرياحِ الذارياتِ، وربِّ السُفُنِ الجارياتِ، وربِّ الملائكةِ المقسماتِ، إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ. * * * وقوله: (وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6) أي إن المجازاة على أعمَالكم لواقعة.

(7)

وقوله: (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) جاء في التفسير أنها ذات الخلق الحسن، وأهل اللغة يقولون ذات الحبك ذات الطرائق الحسنة، والمحبوك في اللغة ما أُجِيدَ عَمَلهُ وكل ما تراه من الطرائق في الماء وفي الرمل إذا أصابته الريح فهو حبك، وواحدها حِبَاك. مثل مِثَال ومُثُل، وتكون واحدتها أيضاً حبيكة مثل طريقة وطرق (1). * * * وقوله: (إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) أي في أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - * * * (يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) أي يُصرف عنه من صُرِفَ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) هم الكذابون، تقول: قد تَخَرَّصَ عليَّ فُلان الباطل. ويجوز أن يكون الخرَّاصون الذين يتظنون الشيء لا يُحِقونه، فيعملون بما لا يدرون صحته. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) ويجوز إِيَّانَ بكسر الهمزة وفتحها، أي يقولون متى يوم الجزاء. * * * وقوله: (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) بنصب يوم، ويجوز يَوْمُ هم على النَّار يفتنونَ. فمن نَصَبَ فهو على وجْهَين: أحدهما على معنى يقع الجزاء يَوْمَ هُمْ عَلى النار يفْتَنونَ ويجوز أن يكون لفظه لفظَ نَصْبٍ ومعناه معنى رفع، لأنه مضاف إلى جملة كلام، تقول: يعجبني يَوْمَ أنْتَ قَائِمٌ، ويوم أنت قائم، ويوْمُ أنْتَ تَقُومُ، وإن شئت فتحت وهو في موضع رفع كما قال الشاعر: لم يَمْنع الشُّرْبَ منها غَيْرَ أَن نطقت. . . حمامة في غُصُونٍ ذاتِ أَوْقالِ وقد رويت غَيْر أن نطقت، لما أضاف غير إلى أن وليست بِمُتَمكَنةٍ فتح، وكذلك لما أضاف يوم إِلى (هُمْ علَى النَّارِ) فتح. وكما قرئت:

_ (1) قال السَّمين: قوله: {ذَاتِ الحبك}: العامَّةُ على «الحُبُك» بضمتين وهي الطرائقُ نحو: طرائق الرَّمْل والماءِ إذا صَفَقَتْه الريحُ، وحُبُك الشَّعْر: آثارُ تَثَنِّيه وتَكَسُّرِه. قال زهير: 4102 مُكَلَِلٌ بأصولِ النجم تَنْسُجُه. . . ريحُ حَريقٍ لضاحي مائِه حُبُكُ والحُبُكُ: جمعٌ يُحتمل أَنْ يكونَ مفردُه «حَبيكة» كطريقةٍ وطُرُق أو حباكِ نحو: حِمار وحُمُر. قال الراجز: 4103 كأنَّما جَلَّلها الحُوَّاكُ. . . طِنْفِسَةٌ في وَشْيِها حِباكُ وأصلُ الحَبْكِ: إحكامُ الشيءِ وإتقانُه، ومنه يقال للدِّرع: مَحْبوكة. وقيل: الحَبْكُ الشَّدُّ والتوثُّقُ. قال امرؤ القيس: 4104 قد غدا يَحْمِلُنِي في أَنْفِه. . . لاحِقُ الإِطْلَيْنِ مَحْبوكٌ مُمَرّْ وفي هذه اللفطةِ قراءاتٌ كثيرةٌ: فعن الحسن ستٌ: الحُبُك بالضم كالعامَّةِ، الحُبْك بالضمِّ والسكون، وتُروى عن ابن عباس وأبي عمروٍ، الحِبِك بكسرهما، الحِبْك بالكسر والسكون، وهو تخفيف المكسور، الحِبَك بالكسر والفتح، الحِبُك بالكسر والضم. فهذه سِتٌّ أقلقُها الأخيرةُ؛ لأنَّ هذه الزِّنةَ مهملةٌ في أبنية العربِ، قال ابنُ عطية وغيرُه: «هو من التداخُلِ» يعني: أن فيها لغتين: الكسرَ في الحاء والباء والضمَّ فيهما، فأخذ هذا القارىءُ الكسرَ من لغةٍ والضمَّ مِنْ أخرى. واستبعدها الناسُ؛ لأن التداخُلَ إنما يكون في كلمتين. وخَرَّجها الشيخ على أن الحاءَ أُتْبِعَتْ لحركة التاءِ في «ذات» قال: «ولم يَعْتَدَّ باللام فاصلةً لأنها ساكنةٌ فهي حاجزٌ غيرُ حصينٍ». وقد وافق الحسنَ على هذه القراءةِ أو مالك الغفاريُّ. وقرأ عكرمةُ بالضمِّ والفتح جمعَ «حُبْكَة» نحو: غُرْفة وغُرَف. وابن عباس وأبو مالك «الحَبَك» بفتحتين جمعُ «حَبَ‍كة» كعَقَبة وعَقَب، فهذه ثمانِ قراءات. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(15)

(ومِنْ خِزْيِ يَوْمَئْذٍ)، ففتحت يوم وهو في موضع خفض لأنك أضفته إلى غير متمكن. ومعنى (يُفْتَنُونَ) يحرقون وُيعَذَّبونَ، ومن ذلك يقال للحجارة السود التي كأنها قد أحرقت [بالنَّارِ] الفَتِينُ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) أعلم عزَّ وجلَّ ما لأهل النَّار، ثم أعلم ما لأهل الجنَّة لأنَه لَمَّا قَالَ: (وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ) أعلم جزاء أهل الجنَّةِ، وجزاء أهل النَّارِ. وقوله: (آخِذِينَ) نصب على الحال، المعنى إن المتقين في جَنَاتٍ وعيون في حال أخْذِ مَا آتَاهًمْ رَبهُمْ، ولو كان في غير القرآن لجاز " آخِذُونَ " ولكن المصحَفَ لَا يخَالف، ويكون المعنى إن المتَقين آخِذُونَ مَا آتَاهُمْ رَبهمْ في جنات وعيونٍ، والوجه الأول أجْوَد في المعنى وعليه القراءة. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) المعنى كانوا يهجعون قليلًا من الليل، أي كانوا ينامون قليلًا مِنَ الليْلِ. ثم أعلم اللَّه عزَّ وجلَّ في أي شيء كانَ سَهَرُهُمْ فقال: (وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وجائز أن يكون " ما " مُؤكَدة لَغْواً، وجائز أن يكون " ما " مع ما بعدها مَصْدراً، يكون المعنى كانوا قليلًا من الليل هجوعهم. * * * (وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) (المحروم) جاء في التفسير الذي لا ينمو له مال، والأكثر في اللغة لا ينمى له مال، وجاء أيضاً أنه [المجارَف] (1) الذي لا يكاد يكتسب. * * * قوله: (فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)

_ (1) جاء في اللسان: والمُجَرَّفُ والمُجارَفُ الفقير كالمُحارَفِ عن يعقوب وعدّه بدلاً وليس بشيء ورجل مُجَرَّفٌ قد جَرَّفَه الدهرُ أَي اجْتاح مالَه وأَفْقَرَه اللحياني رجل مُجارَفٌ ومُحارفٌ وهو الذي لا يَكْسِب خيراً ابن السكيت الجُرافُ مِكْيالٌ ضَخْم وقوله بالجُرافِ الأَكْبر يقال كان لهم من الهَواني. اهـ (لسان العرب. 9/ 25).

(24)

أي إن ما أتى به النبي - صلى الله عليه وسلم - حق وإن قوله: (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ) حَقٌّ. فالمعنى أن هذا الذي ذكرنا في أمر الآيات والرزْقِ وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - حق (مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) وقرئت (مِثلُ ما أنكم تنطقونَ)، وهذا كما تقول في الكلام: إنَّ هذا لحق كما أنك متكلمٌ. فمن رفع " مثلُ " فهي من صفة الحق، المعنى إنه لحقٌّ مِثْلُ نطْقِكُمْ. ومن نصب فعلى ضربين: أحدهما أن يكون في موضع رفع إلاَّ أنه لما أضيف إلى " أنَّ " فتح. ويجوز أن يكونَ منصوباً على التوكيد، على معنى إنه لحقٌّ حَقًّا مثل نطقكم. * * * وقوله: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) جاء في التفسير أنه لما أتَتْهُ الملاتكةُ أكرمهم بالعِجل. وقيل: أكرمهم بأنه خَدَمَهُمْ، صلوات الله عليه وعليهم. * * * (إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) (فَقَالُوا سَلَاماً قَالَ سِلْمٌ). وقرئت: (قَالَ سَلاَمٌ). فنصب الأولى على معنى السَّلامُ عليكم سَلاماً. وسلمنا عليك سلاما. ومن قرأ، (قَالَ سَلَامٌ) فهو على وجهين: على معنى قال سَلام عليكم. ويجوز أن يكون على معنى أمرنا سَلامٌ. ومن قرأ (سِلْمٌ) فالمعنى قال سِلْمٌ أي أمري سِلْمٌ، وأمرنا سِلْمٌ. أي لا بَأس علينا. وقوله: (قَوْمٌ مُنْكَرُونَ). رفعه على معنى أنتم قوم منكرونَ. * * * (فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) معنى (فَرَاغَ إِلَى أهْلِهِ) عدل إِلَيْهِمْ من حيث لا يعلمون لأيِّ شيء عَدَل،

(27)

وكذلك يَقُولُ: راغ فلان عنا إذا عدل عنهم من حيث لا يعلمون. * * * وقوله: (فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27) المعنى فقربه إِليهم ليأكلوا منه فلم يأكلوا، قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ على النكير. أي أمركم في ترك الأكل مما أنْكِرُه. * * * وقوله: (فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28) معنى " أوْجَسَ " وقع في نَفْسِه الخوفُ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ) معنى " عليم " أنه يبلغ وَيَعْلَمَ. * * * وقوله: (فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) والصرةُ شدة الصاحِ ههنا (فصَكَتْ وَجْهَهَا) أي لطمت وَجْهَهَا. * * * (وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ). المعنى وَقَالَتْ أنَا عَجُوزٌ عَقِيمٌ، وكيف ألِدُ. ودليل ذلك قوله في موضع آخر: (قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا). * * * (قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30) أي كما قلنا لك قال ربك، أي إنما نخبرك عن اللَّه - عزَّ وجلَّْ - واللَّه حكيم عَلِيم، يقدر أن يجعل العقيم ولوداً، والعجوز كذلك. فعلم إبراهيم أنهم رسل وأنهم ملائكة. * * * (قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) أي ما شأنكم وفيم أرْسِلْتُمْ. * * * (قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) أي إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ لنهلكهم بِكُفْرِهَمْ. * * * (مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34)

(37)

أي معَلَّمَة على كل حجر منها اسم من جعل إِهْلَاكُه به، والمسَوَّمَة المعلَّمَة أُخِذَ من السومَةِ وهي العَلاَمة. * * * وقوله: (وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (37) أي تركنا في مدينة قوم لوط علامة للخائفين تَدُلُّهُمْ عَلَى أن اللَّه أهلكهم وينكل غيرهم عن فعلهم. * * * وقوله: (وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) هذا عطف على قوله: (وَفِي الأرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِيِننَ) وعلى قوله: (وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ). وقوله: (بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ)، أي بحجة واضحة. * * * (فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) أي تولى بما كان يتقوى به من جُنْدِهِ ومُلكِهِ. (وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) المعنى وقال هذا ساحر أو مجنون * * * (فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) (فَأخَذْنَاهُ) وركنه الذي يتقوى به (فَنَبَذْنَاهُمْ في اليمْ) واليم البحر. (وَهُوَ مُلِيمٌ) أي اللائمة لازمة له، أي ليس ذلك الذي فعل به بكفارة له. والمُلِيمُ في اللغة الذي يأتي بما يجب أن يلام عليه. ومعنى (نبذناهم) ألقيناهم، وكل شيء ألقيته تقول فيه قد نبذته. ومن ذلك نبذت النبيذ، ومن ذلك تقول للملقوط منبوذ لأنه قد رُمِيَ به. * * * وقوله: (وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) أي (وَفِي عَادٍ) أيضاً آية على ما شرِحنا في قوله: (وَفِي مُوسَى) والريح العقيم التي لا يكون معها لَقْحٌ، أي لا تأتي بمطر، وإنما هي ريح الإهلاك. * * * (مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42)

(43)

والرميم الورق الجاف المتحطم، مثل الهشيم، كما قال: (كَهَشِيم المُحْتَظِرِ). * * * (وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) أي وفي ثمود أيضاً آية. * * * وقوله: (وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (46) قرئت (وقومِ نوحٍ) - بالخفض - (وقومَ نوحٍ) - بالنصب - فمن خفض فالمعنى في قوم نوح. ومن نصب فهو عطف على معنى قوله: (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ). ومعنى أخذتهم الصاعقة أهلكناهم. فالمعنى فأهلكناهم وأهلكنا قوم نوح من قبل. والأحسن واللَّه أعلم أن يكون محمولًا على قوله: (فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ)، لأن المعنى فأغرقناه وجنوده وأغرقنا قوم نوح من قبل (1). * * * (وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) أي بقُوَّةٍ. (وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) جعلنا بينها وبين الأرض سعة. * * * (وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48) عطف على ما قبله مَنْصُوبٌ بفعل مضمر، المعنى وفرشنا الأرْضَ فرشناها. ومعنى (فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ) نحن، ولكن اللفظ بقوله فرشناها يدلُّ على المضمر المحذوف. * * * وقوله: (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) المعنى - واللَّه أعلم - على الحيوان لأن الذكر والأنثى يقال لهما زَوْجَانِ ومثله (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى). ويجوز أن يكون الزوجان من كل

_ (1) قال السَّمين: قوله: {وَقَوْمَ نُوحٍ}: قرأ الأخَوان وأبو عمرو بجرِّ الميم، والباقون/ بنصبها. وأبو السَّمَّال وابن مقسم وأبو عمرو في روايةِ الأصمعيِّ «وقومُ» بالرفع. فأمَّا الخفضُ ففيه أربعةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه معطوفٌ على «وفي الأرض». الثاني: أنه معطوفٌ على «وفي موسى» الثالث: أنه معطوفٌ على «وفي عاد». الرابع: أنه معطوفٌ على «وفي ثمودَ»، وهذا هو الظاهرُ لقُرْبِه وبُعْدِ غيرِه. ولم يذكرْ الزمخشريُّ غيرَه فإنه قال: «وقُرِىء بالجرِّ على معنى» وفي قوم نوح «. ويُقَوِّيه قراءةُ عبد الله» وفي قوم نوح «. ولم يَذْكُرْ أبو البقاء غيرَ الوجهِ الأخيرِ لظهورِه. وأمّا النصبُ ففيه ستةُ أوجهٍ، أحدها: أنه منصوبٌ بفعلٍ مضمرٍ أي: وأهلَكْنا قومَ نوح؛ لأنَّ ما قبلَه يَدُلُّ عليه. الثاني: أنه منصوبٌ ب اذْكُرْ مقدراً، ولم يَذْكُرْ الزمخشريُّ غيرَهما. الثالث: أنَّه منصوبٌ عطفاً على مفعول» فأَخَذْناه «. الرابع: أنه معطوفٌ على مفعول {فَنَبَذْنَاهُمْ فِي اليم} وناسَبَ ذلك أنَّ قومَ نوح مُغْرقون من قبلُ. لكنْ يُشْكِلُ أنَّهم لم يَغْرَقوا في اليمِّ. وأصلُ العطفِ أَنْ يقتضيَ التشريكَ في المتعلَّقات. الخامس: أنَّه معطوفٌ على مفعولِ» فَأَخَذَتْهم الصاعقةُ «. وفيه إشكالٌ؛ لأنهم لم تأخُذْهم الصاعقةُ، وإنما أُهْلكوا بالغَرَقِ. إلاَّ أَنْ يُرادَ بالصاعقةِ الداهيةُ والنازلةُ العظيمة من أيِّ نوع كانت، فيَقْرُبُ ذلك. السادس: أنه معطوفٌ على محلِّ» وفي موسى «، نقله أبو البقاء وهو ضعيفٌ. وأما الرفعُ على الابتداءِ والخبرُ مقدَّرٌ أي: أهلَكْناهم. وقال أبو البقاء:» والخبرُ ما بعدَه «يعني مِنْ قولِه: إنهم كانوا قوماً فاسقين. ولا يجوز أَنْ يكونَ مرادُه قولَه:» من قبلُ «؛ إذ الظرفُ ناقصٌ فلا يُخبَرُ به. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(50)

شيء، ويكون المعنى في كل شيء في الحيوان الذكر والأنثى ويكون في غيره صِنفان أصل كل حيوان ومَوَاتٍ، واللَّه أعلم. * * * وقوله عزَّ وجلََّ: (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) المعنى ففروا إلى اللَّه من الشرك باللَّه ومن مَعَاصِيه إليه. (إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ)، أي أنذركم عذابه وعقابه. * * * وقوله: (وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51) كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) المعنى الأمر كذلك، أي كما فعل من قبلهم في تَكذيبِ الرسُلِ. * * * (إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ). أي إلا قالوا هذا ساحر، ارتفع ساحر بإضمار هو. * * * وقوله: (أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53) معناه أوصى أولهم آخرهم، وهذه ألف التوبيخ وألف الاستفهام. * * * وقوله: (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) أي لا لوم عليك إذ أديت الرسَالةَ. * * * (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) أي ذكرهم بأيام الله وعذابه وعقابه ورحمته. * * * قوله: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) اللَّه - عزَّ وَجَلّ - قد علم من قبل أن يَخْلُقَ الجنَّ والِإنسَ من يعبده مِمَّنْ يكفر به، فلو كان إنما خلقهم ليجبرهم على عِبَادَتِه لكانوا كلهم عباداً مؤمنين ولم يكن منهم ضُلَّالٌ كافِرونَ. فالمعنى: وما خلقت الجنَّ والِإنس إلا لأدعوهم إلى عِبَادَتِي. وأنا مرِيدٌ العِبَادَةَ مِنْهُمْ، يعني من أهلها. * * * (مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57)

(58)

أي ما أريد أن يرزقوا أحَداً من عبادي، وما أريد أن يطعموه (1)؛ لأني أنا الرزاقُ المطعِمُ. * * * (إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) والقراءة الرفْعُ وهو في العربية أحسن نكون رفع (الْمَتِينُ) صفة لِلًهِ عزّ وجَل، ومن قرأ (ذو القوةِ المتينِ) - بالخفض - جعل المتين صفة للقوة لأن تأنيث القوة كتأنيث الموعظة، كما قال: (فمن جَاءَهُ مَوْعِظةٌ) المعنى فمن جاءه وَعظ. ومعنى (ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) ذو [الاقْتِدَارِ] الشديد. * * * وقوله: (فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (59) الذَّنُوب في اللغة النصيب والدلو يقال لها الذنوب. المعنى فإن للذين ظلموا نصيباً من العذاب مثلَ نَصيبِ أصْحَابِهم الذين أهلكوا نحو عاد وثمود وقوم لوط. * * * (فَلَا يَسْتَعْجِلُونَ). أي إن أُخِّرُوا إلى يَوْمِ القيامَةِ. * * * (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60) أي من يوم القيامة.

_ (1) قال ابن الجوزي: قوله تعالى: {ما أُريدُ منهم من رِزْقٍ} أي: ما أُريدُ أن يرزُقوا أنفسهم {وما أُريدُ أن يُطْعِموني} أي: أن يُطْعِموا أحداً من خَلْقي، لأنِّي أنا الرَّزّاق. وإنما أسند الإطعام إلى نفسه، لأن الخلق عيالُ الله، ومن أطعمَ عِيالَ أحد فقد أطعمه. وقد جاء في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " يقول اللهُ عز وجل يوم القيامة: يا ابن آدم: استطعمتُكَ فلم تُطْعِمْني "، اي: لم تُطْعِم عبدي. اهـ (زاد المسير. 8/ 43).

سورة الطور

سُورَةُ الطور (مَكِّيَّة) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله: (وَالطُّورِ (1) قسم، والطور الجبل، وجاء في التفسير أنه الجبل الذي كَلَّمَ اللَّه عليه موسى عليه السلام. * * * (وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) الكتاب ههنا ما أثبت على بني آدم من أعمالهم. * * * (وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) فىِ التفسير أنه بيت في السماء بإزاء الكعبة يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ثم يخرجون منه وَلَا يَعُودُونَ إليه. * * * وقوله: (إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) جواب القسم، أي وهذه الأشياء إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ). وجائز أن يكون المعنى - واللَّه أعلم - ورب هذه الأشياء (إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ). * * * وقوله: (يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) (تمور) تدور. و" يومَ " منصوبُ بقوله (إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ). أي لواقع يوم القيامة.

(11)

(فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) والويل كلمة يقولها العرب لكل من وقع في هلكة. * * * قوله: (الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) أي يشاغلهم بكفرهم لعب عاقِبتُه العذاب. * * * (يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) أي يوم يزعجون إليها إزعاجاً شديداً، ويدفعون دفعاً عنيفاً، ومن هذا قوله: (الذِي يَدُعُّ اليَتِيمَ)، أي يدفعه عما يجب له. * * * وقوله: (هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14) المعنى فيقال لهم: (هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ). (والبَحْرِ المَسْجُورِ). جاء في التفسير أن البحر يسجر فيكون نار جهنم. وأما أهل اللغة فقالوا: البحر المسجور المملوء. وأنشدوا: إِذا شاء طالَعَ مَسْجُورَةً. . . تَرى حَوْلَها النَّبْعَ والسَّاسَما يعني ترى حولها عيناً مملوءة بالماء. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15) لفظ هذه الألف لفظ الاستفهام، ومعناها ههنا التوبيخ والتقريع أي أتصدقون الآن أن عذاب الله لواقع. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16) (سَوَاءٌ) مرفوع بالابتداء، والخبر محذوف، المعنى سواء عليكم الصبر والجزع.

(18)

(إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). معنى إنما ههنا ما تجزون إِلَّا ما كنتم تعملون، أي الأمر جارٍ عليكم على العدل، ما جوزيتم إِلَّا أعمالكم. * * * وقوله: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18) (فَكِهِينَ) و (فَاكِهِينَ) جميعاً، والنصب على الحال. ومعنى (فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ) أي معجبين بما آتاهم رَبُّهُمْ * * * (وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ). أي غفر لهم ذنوبهم التي توَجِبُ النَّار بإسلامهم وتوبتهم. * * * وقوله عزَّ وجلٌ: (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) المعنى: يقال لهم كلوا واشربوا هنيئاً. و (هنيئاً) منصوب وهو صفة في موضع المصدر. المعنى كلوا واشربوا هُنِّئتُمْ هَنيئاً وليهنكم ما صرتم إِليه. * * * وقوله: (يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23) معنى (يتنازعون) يتعاطون فيها كأساً، يُتَناول هذا الكأس من يد هذا وهذا من يد هذا. وقوله: (لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ) معناه لا يجري بينهم ما يُلْغَى، أي لا يجري بينهم باطل ولا ما فيه إثم كما يجري في الدنيا لِشَرَبَةِ الخمر. والكأسُ في اللُغة الإِنَاءُ المملوء، فإذا كان فارغاً فليس بكأس. وتقرأ: لا لغوَ فيها ولا تَأثِيمَ. بالنَصْبِ. فمن رفع فعلى ضربين: على الرفع بالابتداء، و " فِيْهَا " هو الخبر. وعلى أن يكون " لا " في مذهب " ليس " رافعة. أنشد سيبويه وغيره: مَن صَدَّ عن نِيرانِها. . . فأنا ابن قيس لاَ بَراحُ

(25)

ومن نصب فعلى النَّفْي والتبرية كما قال في قوله: لا ريب فيهِ، إلا أن الاختيارَ عند النحويين إذا كررَتْ " لا " في هذا الموضع الرفع. والنصْبُ عند جميعهم جائز حَسَن. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) الكلام - واللَّه أعلم - يدل ههنا أنهم يتساءلون في الجنَّة عن أحوالهم التي كانت في الدنيا، كان بعضهم يقولُ لبعض: بم صرت إلى هذه المنزلة الرفيعة، وفي الكلام دليل على ذلك وهو قوله في جواب المسألة: (إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ). أي مشفقين من المصير إلى عذاب الله عزَّ وجلَّ، فعملنا بطَاعَتِه، ثم قرنوا الجوابَ مع ذلك بالِإخلاص والتوحيد بقولهم: (إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ). أي نُوَحِّدُه ولا ندعو إلهاً غيره. * * * (فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) أي عذاب سموم جهنم. * * * وقوله: عزَّ وجلَّ: (فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29) أي ذكرهم بما أعتَدْنَا للمتقِينَ المؤمنين والضلال للكافِرِين. (فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ) أي لست تقول ما تَقُولُه كهانَة، ولا تنطق إِلَّا بَوَحيٍ من الله عزَّ وَجَلَّ. * * * وقوله: (أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) (رَيْبَ المَنُونِ) حوادث الدهر. * * * (قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31)

(32)

فجاء في التفسير أن هؤلاء الذين قالوا هذا - وكان فيهم أبو جهل - هلكوا كلهم قبل وفاة رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. * * * وقوله: (أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32) أي أتأمرهم أحْلَامُهُم بترك القبول ممن يدعوهم إلى التوحيد وتأتيهم على ذلك بالدلائل، ويعملون أحْجَاراً ويعبدونها. (أمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ). أي أم هم يكفرون طغياناً وقد ظهر لهم الحق. * * * (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34) أي إذا قالوا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تقوله فقد زعموا أنه من قول البشر، فليَقولوا مثلَهُ فما رام أحَدٌ مِنهم أن يقول مثل عَشْرِ سُور ولا مثل سورةٍ. * * * وقوله: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) معناه بل أُخلِقُوا من غير شيء. وفي هذه الآية قولان: وهي مِنْ أصْعَب ما في هذه السورة. قال بعض أهل اللغة: ليس هم بأشد خلقاً من خلق السَّمَاوَات والأرض، لأن السَّمَاوَات والأرض خُلِقَتَا من غير شيء، وهم خُلِقوا من آدم وآدم من تراب. وقيل فيها قولٌ آخر، (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ) أَمْ خُلِقُوا لِغَيْرِ شَيْءٍ أي خلقوا باطِلًا لا يحاسبون ولا يؤمرون ولا يَنْهَوْنَ. * * * ْوقوله: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّاتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّاتِهُمْ). وقرئت (أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) وقرئت " واتبعتم ذُريَّتُهُمْ " وكلا الوجهين جائز، الذُرية تقع على الجماعة، والذريَّات جَمِع، وذُرَيَّة على التوحيد أكثر. وتأويل الآية أن الأبناء إذا كانوا مؤمنين، وكانت مراتب آبائهم في الجنة

(37)

أعلى من مراتبهم ألحق الأبناء بالآباء، ولم ينْقص الآباء من عملهم شيئاً. وكذلك إن كان عَمَل الآبَاء أنقَص، أُلْحِقَ الآبَاءُ بالأبْنَاءِ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ). معناه ما أنْقَصْنَاهم، يقال ألَتَه يَألِته ألْتاً إِذَا نَقَصَة. قال الشاعِرْ أَبْلِغْ بَني ثُعَلٍ عَنِّي مُغَلْغَلَةً. . . جَهْدَ الرِّسالَةِ لا أَلْتاً ولا كَذِبا ويقال لأته يليتهُ لَيْتاً إذا نَقَصَهُ وصرفَهُ عن الشيء. قال الشاعر: وليلةٍ ذات ندى سَريْتُ. . . وَلَم يَلتْني عن هواها ليتُ (1) * * * وقوله عزَّ وجلَّّ: (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) المصيطرون: الأرباب المتسَلِّطونَ. يقال: قد سيطر علينا وتسيطر وتسيطر. بالسين والصّاد. والأصل السين، وكل سين بعدها طاء يجوز أن تقلب صاداً، تقول: سيطر وصيطر، وسطا وصَطا. وتفسير (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ) أي عندهم ما في خزائن ربك من العلم. وقيل - في " خزائن ربك " أي رزق ربك. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) وقال أهل اللغة: - معنى يستمعون فيه، يستمعون عليه ومثله: (لَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) أي على جذوع النخل. (فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ).

_ (1) قال السَّمين: قوله: {والذين آمَنُواْ}: فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنه مبتدأٌ، والخبرُ الجملةُ من قولِه: {أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} والذُّرِّيَّةُ هنا تَصْدُق على الآباء وعلى الأبناء أي: إنَّ المؤمنَ إذا كان عملُه أكبرَ أُلْحِقَ به مَنْ دونَه في العمل، ابناً كان أو أباً، وهو منقولٌ عن ابن عباس وغيرِه. والثاني: أنه منصوبٌ بفعلٍ مقدرٍ. قال أبو البقاء: «على تقدير وأكرَمْنا الذين آمنوا». قلت: فيجوزُ أَنْ يريدَ أنه من باب الاشتغالِ وأنَّ قولَه: {أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} مُفَسِّر لذلك الفعلِ من حيث المعنى، وأَنْ يريدَ أنه مضمرٌ لدلالةِ السياقِ عليه، فلا تكونُ المسألةُ من الاشتغالِ في شيء. والثالث: أنه مجرورٌ عطفاً على «حورٍ عينٍ». قال الزمخشري: «والذين آمنوا معطوفٌ على» حورٍ عينٍ «أي: قَرَنَّاهم بالحورِ وبالذين آمنوا أي: بالرُّفَقاءِ والجُلَساءِ منهم، كقوله: {إِخْوَاناً على سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ} [الحجر: 47] فيتمتَّعون تارةً بملاعبةِ الحُور، وتارةً بمؤانسةِ الإِخوانِ». ثم قال الزمخشري: «ثم قال تعالى: {بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} أي: بسببِ إيمانٍ عظيمٍ رفيعِ المحلِّ وهو إيمانُ الآباءِ أَلْحَقْنا بدَرَجَتِهم ذرِّيَّتَهم، وإنْ كانوا لا يَسْتَأهِلُونها تَفَضُّلاً عليهم». قال الشيخ: «ولا يتخيَّلُ أحدٌ أنَّ» والذين آمنوا «معطوفٌ على» بحورٍ عينٍ «غيرُ هذا الرجلِ، وهو تخيُّلُ أعجميٍّ مُخالفٍ لِفَهْمِ العربيِّ القُحِّ ابنِ عباسٍ وغيرِه». قلت: أمَّا ما ذكره أبو القاسم من المعنى فلا شكَّ في حُسْنِه ونَضارَتِه، وليس في كلامِ العربيِّ القُحِّ ما يَدْفَعُه، بل لو عُرِض على ابنِ عباسٍ وغيرِه لأَعْجبهم. وأيُّ مانعٍ معنوي أو صناعي يمنعُه؟. وقوله: {واتبعتهم} يجوزُ أَنْ يكونَ عطفاً على الصلةِ، ويكونَ «والذين» مبتدأً، ويتعلقَ «بإيمان» بالاتِّباع بمعنى: أنَّ اللَّهَ تعالى يُلْحق الأولادَ الصغارَ، وإن لم يَبْلغوا الإِيمانَ، بأحكام الآباءِ المؤمنين. وهذا المعنى منقولٌ عن ابنِ عباس والضحاك. ويجوزُ أَنْ يكونَ معترضاً بين المبتدأ والخبر، قاله الزمخشري. ويجوزُ أَنْ يتعلَّق «بإيمان» بألحَقْنا كما تقدَّم. فإنْ قيل: قولُه: «اتَّبَعتْهم ذُرِّيَّتَهم» يفيد فائدةَ قولِه: {أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ}. فالجوابُ أنَّ قولَه: «أَلْحَقْنا بهم» أي: في الدرجات والاتِّباعُ إنما هو في حُكْمِ الإِيمان، وإن لم يَبْلُغوه كما تقدَّم. وقرأ أبو عمرو و «وأَتْبَعْناهم» بإسناد الفعل إلى المتكلمٍ المعظِّمِ نفسَه. والباقون «واتَّبَعَتْهم» بإسنادِ الفعلِ إلى الذرِّيَّة وإلحاقِ تاء التأنيث. وقد تَقَدَّم الخلافُ في إفرادِ «ذُرِّيَّتهم» وجمعِه في سورة الأعرافِ محرراً بحمد الله تعالى. قوله: {أَلَتْنَاهُمْ} قرأ ابن كثير «أَلِتْناهم» بكسر اللام، والباقون بفتحِها. فأمَّا الأولى فَمِنْ أَلِتَ يَأْلَتُ بكسرِ العينِ في الماضي وفتحِها في المضارع كعَلِمَ يَعْلَمُ. وأمَّا الثانيةُ فتحتمل أَنْ تكونَ مِنْ أَلَتَ يَأْلِتُ كضَربَ يَضْرِبُ، وأَنْ تَكونَ مِنْ أَلات يُليت كأَماتَ يُميت، فَأَلَتْناهم كأَمَتْناهم. وقرأ ابن هرمز «آلَتْناهم» بألفٍ بعد الهمزة، على وزنِ أَفْعَلْناهم. يقال: آلَتَ يُؤْلِتُ كآمَنَ يُؤْمِنُ. وعبد الله وأُبَيٌّ والأعمش وطلحة، وتُرْوى عن ابنِ كثير «لِتْناهم» بكسر اللام كبِعْناهم يُقال: لاتَه يَليته، كباعه يَبيعه. / وقرأ طلحة والأعمش أيضاً «لَتْناهم» بفتح اللام. قال سهل: «لا يجوز فتحُ اللامِ مِنْ غير ألفٍ بحالٍ» ولذلك أَنْكر «آلَتْناهم» بالمدِّ: وقال: «لا يَدُلُّ عليها لغةٌ ولا تفسيرٌ». وليس كما زعم؛ بل نَقَلَ أهلُ اللغةِ: آلَتَ يُؤْلِتُ. وقُرِىء «وَلَتْناهم» بالواو ك «وَعَدْناهم» نَقَلها هارون. قال ابن خالويه: «فيكونُ هذا الحرفُ مِنْ لاتَ يَليت، ووَلَتَ يَلِتَ، وأَلِتَ يَأْلَت، وأَلَت، وأَلات يُليت. وكلُّها بمعنى نَقَص. ويقال: أَلَتَ بمعنى غَلَّظ. وقام رجلٌ إلى عمر يَعِظُه فقال له رجل: لا تَأْلِتْ أميرَ المؤمنين أي: لا تُغْلِظْ عليه». قلت: ويجوزُ أَنْ يكونَ هذا الأثرُ على حالِه، والمعنى: لا تُنْقِصْ أميرَ المؤمنين حَقَّه، لأنه إذا أَغْلَظَ له القولَ نَقَصَه حَقَّه. قوله: {مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ} «مِنْ شيءٍ» مفعولٌ ثانٍ ل «أَلَتْناهم» و «مِنْ» مزيدةٌ فيه. والأُولى في محلِّ نصبٍ على الحال مِنْ «شيء» لأنَّها في الأصلِ صفةٌ له، فلَمَّا قُدِّمَتْ نُصِبَتْ حالاً. وجَوَّزَ أبو البقاء أَنْ يتعلَّقَ ب «أَلَتْناهم» وليس بظاهرٍ. وفي الضمير في «أَلَتْناهم» وجهان، أظهرهما: أنَّه عائدٌ على المؤمنين. والثاني: أنَّه عائد على أبنائهم. قيل: ويُقَوِّيه قولُه: {كُلُّ امرىء بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ}. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(40)

أي بحجة واضحة، والمعنى - واللَّه أعلم - أنهم كجبريل الذي يأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - بالوحي ويبيِّنُ تبيينه عن اللَّه، ما كان وما يكون. ثم سفر أحلامهم في جعلهم البنات للَّهِ فقال: * * * (ام لَهُ البَنَات وَأ@كُم البَنُونَ). - أي أنتم يجعلواط للَّهِ ما تكرهون وأنتم حكماءْ عند أنفسكم. * * * (أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) المعنى أن الحجة واجبة عليهم من كل جهة، لأنك أتيتهم بالبيان والبرهان ولم تسألهم على ذلك أجراً. * * * ْوقوله جلَّ وعزَّ: (أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أي أم يريدون لكفرهم وطغيانهم كيداً. فاللَّه عزَّ رجل يكيدهم ويجزيهم بكيدهم العذاب في الدنيا والآخرة. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43) المعنى بل ألَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ. فإن قال قائل: هم يزعمون أن الأصنام آلهتهم، فإن قيل لهم: (أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ)؟ فالجواب في ذلك ألَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يخلق ويرْزق ويفعل ما يعجز عنه المخلوقون، فمن يفعل ذلك إلا الله عزَّ وجلَّ، ثم نَزَهَ نفسه عزَّ وجلَّ فقال: (سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ). جاء في التفسير وفي اللغة أن معناه تنزيه اللَّهِ - عمَّا يشركون، أي عمن يجعلون شريكاً لِلَّهِ عزَّ وجلَّ. * * * وقوله: (وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ (44) أي وإن يروا قطعة من العذاب يقولوا لشدة طغيانهم وكفرهم: هذا سحاب مركوم، ومركوم قد ركم بعضا، على بعض، وهذا في قوم من أئمة الكفر وهم الذين

(45)

قال اللَّه - عزَّ وجلَّ - فيهم: (وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15). فأعلمَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ أن هُؤلَاءِ لَا يَعْتَبِرونَ وَلَا يوقِنُونَ ولا يؤمنون بأبْهَرِ ما يكون من الآيات. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) (يَصْعَقُونَ) وقرئت: (يُصْعَقُونَ)، أي فذرهم إلى يوم القيامةِ. ثم أعلم أنه يعجل لهم العذاب في الدنيا فقال: (وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (47) المعنى وإن للذين ظلموا عذاباً دون عذاب الآخرة، يعني من القتل والأسر وسبي الذَارَارِي الَّذِي نزل بهم، وأعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أنه ناصِرٌ دينه ومهلك من عادى نبيه، ثم أمره بالصبر إلى أن يقع العذاب بهم فقال: (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) أي فإنك بحيث نراك ونحفظك ونرعاك، ولا يصلون إلى مكروهك. (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ). أي حين تقوم من منامك، وقيل حين تقوم في صلاتك، وهو ما يُقَالُ مع التكبير: سبحانك اللهم وبحمدك. * * * (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49) وقرئت (وَأَدْبَارَ النُّجُومِ). فمن قرأ (إِدْبَارَ) بالكسر فعلى المصدر أَدبَرْت إِدْباراً. ومن قرأ (أَدْبَارَ) بالفتح فهو جمع دبر. وأجمعوا في التفسير أن معنى (أَدْبَارَ السًّجُودِ) معناه صلاة الركعتين بعد المغرب، وأن (إِدْبَارَ النُّجُومِ) صلاة ركعتي الغداة.

سورة النجم

سُورَةُ النَّجْم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) أقسم اللَّه - عزَّ وجَلَّ - بالنَّجم. وقوله: (مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) جَوَاب القسم. وجاء في التفير أن النجم الثريَّا، وكذلك يسميها العَرَبُ، وجاء أيضاً في التفسير أن النجم نزول القرآن نَجماً بعد نجم، وكان ينزل منه الآية والآيتان، وكان بين أول نزوله إلى استتمامه عشرون سنةً. وقال بعض أهل اللغة: النجم بمعنى النجوم وأنشدوا. فباتت تَعُدُّ النَّجْمَ في مُسْتَحيرةٍ. . . سَريعٍ بأَيدي الآكِلينَ جُمودُها يصف قِدراً كثيرة الدسم، ومعنى تعد النجم أي من صفاء دسمها ترى النجوم فيه، والمستحيرة القدر، فقال يجمد على الأيدي الدَّسَمَ مِنْ كَثْرتِه وقالوا مثله: (فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ). ومعنى: (إذَا هَوَى)، إذا سقط، وإذا كان معناه نزول القرآن فالمعنى في " إذَا هَوَى "، إذَا نزل (1).

_ (1) قال السَّمين: قوله: {إِذَا هوى}: في العاملِ في هذا الظرفِ أوجهٌ، وعلى كلٍ فيها إشكال. أحدُ الأوجهِ: أنه منصوبٌ بفعل القسمِ المحذوفِ تقديرُه: أُقْسِمُ بالنجم وقتَ هُوِيِّه، قاله أبو البقاء وغيرُه. وهو مُشْكِلٌ فإن فِعْلَ القسمِ إنشاءٌ، والإِنشاءُ حالٌ، و «إذا» لِما يُسْتقبل من الزمان فكيف يتلاقيان؟ الثاني: أنَّ العاملَ فيه مقدرٌ على أنَّه حالٌ من النجم أي: أُقْسِم به حالَ كونِه مستقراً في زمانِ هُوِيِّه. وهو مُشْكِلٌ مِنْ وجهين، أحدهما: أن النجم جثةٌ، والزمانُ لا يكونُ حالاً عنها كما لا يكونُ خبراً عنها. والثاني: أنَّ «إذا» للمستقبلِ فكيف يكونُ حالاً؟ وقد أُجيب عن الأول: بأنَّ المرادَ بالنجم القطعةُ من القرآن، والقرآنُ قد نَزَلَ مُنَجَّماً في عشرين سنةً. وهذا تفسيرُ ابن عباس وغيرِه. وعن الثاني: بأنها حالٌ مقدرةٌ. الثالث: أنَّ العاملَ فيه نفسُ النجم إذا أُريد به القرآنُ، قاله أبو البقاء. وفيه نظرٌ؛ لأنَّ القرآنَ لا يَعْمل في الظرف إذا أُريد به أنه اسمٌ لهذا الكتابِ المخصوص. وقد يُقال: إن النجمَ بمعنى المُنَجَّم كأنه قيل: والقرآنِ المنجَّمِ في هذا الوقتِ. وهذا البحثُ وارِدٌ في مواضعَ منها {والشمس وَضُحَاهَا} [الشمس: 1] وما بعدَه، وقولُه: {والليل إِذَا يغشى} [الليل: 1]، {والضحى والليل إِذَا سجى} [الضحى: 1]. وسيأتي في الشمس بحثٌ أخصُّ مِنْ هذا تقف عليه إنْ شاء الله تعالى. وقيل: المراد بالنجم هنا الجنسُ وأُنْشد: 4121 فباتَتْ تَعُدُّ النجمَ في مُسْتَحيرةٍ. . . سريعٍ بأيدي الآكلين جمودُها أي: تَعُدُّ النجومَ، وقيل: بل المرادُ نجمٌ معين. فقيل: الثُّريَّا. وقيل: الشِّعْرَى لذِكْرِها في قوله: {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشعرى} [النجم: 49]. وقيل: الزُّهْرة لأنها كانت تُعْبَدُ. والصحيح أنها الثريَّا، لأنَّ هذا صار عَلَماً بالغَلَبة. ومنه قولُ العرب: «إذا طَلَعَ النجمُ عِشاءً ابتغى الراعي كِساءً». وقالوا أيضاً: «طَلَعَ النجمُ غُدْيَة فابتغى الراعي كُسْيَة». وهَوَى يَهْوي هُوِيّاً أي: سقط من علو، وهَوِي يَهْوَى هَوَىً أي: صَبَا. وقال الراغب: «الهُوِيُّ سقوطٌ مِنْ عُلُوّ». ثم قال: والهُوِيُّ: ذهابٌ في انحدارٍ. والهوى: ذهابٌ في ارتفاع وأَنْشد: / 4122. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . يَهْوي مخارِمَها هُوِيَّ الأجدَلِ وقيل: هَوَى في اللغة خَرَقَ الهوى، ومَقْصَدُه السُّفْلُ، أو مصيرُه إليه وإن لم يَقْصِدْه. قال: 4123. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . هُوِيَّ الدَّلْوِ أسْلَمَها الرِّشاءُ وقد تقدَّم الكلامُ في هذا مُشْبَعاً. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(2)

(مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) يعني النبي - صلى الله عليه وسلم -. * * * وقوله: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) أي ما الذي يأتيكم به مِما قَاله بهَواه. * * * (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) " إن " بمعنى " ما "، المعنى: ما هو إلا وحي. * * * (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) يعني به جبريل عليه السلام. * * * وقوله: (ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) (ذُو مِرَّةٍ) من نعت قوله (شَدِيدُ الْقُوَى)، والمرة القوة. (عَلَّمَهُ) علم النبي - صلى الله عليه وسلم -. * * * وقوله: (فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) قال بعض أهل اللغة: " هو " ههنا يعنى به النبي عليه السلام. المعنى فاستوى جبريل والنبي - صلى الله عليه وسلم - بالأفق الأعلى. وهذا عند أهل اللغة لا يجوز مثله إلا في الشعر إلا أن يكون مثل قولك: استويت أنا وزيدٌ، ويستقبحون استويت وزيدٌ. وإنما المعنى استوى جبريل وهو بالأفق الأعلى على صورته الحقيقية. لأنه كان يتمثل للنبي - صلى الله عليه وسلم - إذا هبط عليه بالوحي في صورة رجلٍ، فأحبَّ رسول اللَّهِ أن يراه على حقيقته فاستوى في أفق المشرق فملأ الأفق. فالمعنى - واللَّه أعلم - فاستوى جبريل في الأفق الأعلى على صورته. * * * (ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) ومعنى (دَنَا، وَتَدَلى) واحد، لأن المعنى أنه قَربَ، وتدلى زَادَ في القرب. كما تقول: قد دنا فلان مني وقرب، ولو قلت: قد قُرَبَ مني ودنا جاز. * * * (فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9)

(10)

المعنى كان ما بينه وبين رسول اللَّه مقدار قوسين مِنَ القَسِيِّ العربيةِ أو أقرب. وهذا الموضع يحتاج إلى شرح لأن القائل قد يقول: ليس تَخْلُو " أو " من أن تكون للشك أو لغير الشك. فإن كانت للشك فمحال أن يكون موضع شك. وإن كان معناها بل أدنى، بل أقْرَبُ فما كانت الحاجة إلى أن يقول: (فكان قاب قَوْسَيْن) - كان ينبغي أن يكون كان أدنى من قاب قَوسَينْ. والجواب في هذا - والله أعلم - أن العباد خوطبوا على لغتهم ومقدار فهمهم وقيل لهم في هذا ما يقال للذي يحزر (1)، فالمعنى فكان على ما تُقَدرونَه أنتم قدر قوسين أو أدنى من ذلك، كما تقول في الذي تقدره: هذا قدر رُمْحَينِ أو أنقص من رُمْحَين أو أرجح. وقد مرَّ مثل هذا في قوله: (وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ). * * * (فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) أي فَأوحى جبريل إلى النبي عليه السلام ما أوحى. * * * قوله: (مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) وقرئت: (مَا كَذَّبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى) بتشديد الذَّال. * * * وقوله: (لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18) جاء في التفسير أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رَبَّهُ - عزَّ وجلَّ - بقلبه، وأنه فَضْلٌ خُصَّ به كما خُصَّ إبراهيم عليه السلام بِالخُلَّةِ. وقيل رأى أمراً عظيماً، وتفسيره (لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى). * * * وقوله - عزَّ وجل -: (أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12)

_ (1) الحَزَّاءُ والحازي الذي يَحْزُرُ الأَشياء ويقَدِّرُها بظنه. (انظر اللسان. 14/ 174).

(19)

(أفَتمْروُنه) و (أفَتُمارُونَه) وقرئت بالوجهين جميعاً، فمن قرأ (أفَتَمرونَهُ) فالمعنى أفتَجْحَدونَهُ. ومن قرأ (أفَتُمارُونَه) فمعناه أتجادولنه فى أنه رأى اللَّه - عز وجل - بقلبه، وأنه رأى الكبرى من آياته. * * * وقوله تعالى: (مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) أي ما زاغ بصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وَمَا طَغَى، ما عدل وَلاَ جَاوَزَ القصدَ في رؤيته جبريل قد ملأ الأفقَ. * * * وقوله تعالى: (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) أي رآه مرة أخرى عند سدرة المنتهى. * * * (عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) جاء في التفسير أنها جنة تصير إليها أرواح الشهداء، فلما قصَّ هذه الأقاصيص، وأعلم - عزَّ وجلَّ - كيف قصه جبريل، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يأتيه ذلك من عند اللَّه الذي ليس كمثله شيء قيل لهم: * * * (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) كأن المعنى - واللَّهُ أعلم - أخبرونا عن هذه الآلهة التي لكم تعبدونها من دون اللَّه - عزَّ وجلَّ - هل لها من هذه القدرة والعظمة التي وصف بها رب العزة - جلَّ وعزَّ - شيء. وجاء في التفسير أن اللَّاتَ صَنَمٌ كان لثقيف يعبدونه، وأن العُزَّى سَمُرة، وهي شجرة كانت لغطفانَ يعبدونها، وأن مَنَاة صخرة كانت لِهذَيْلٍ وخزاعة يعبدونها من دون اللَّه. فقيل لهم أخبرونا عن هذه الآلهة التي تَعْبدونَها وتعبدون معها الملائكة، تزعمون أن الملائكة وهذه بنات اللَّه. فوبَّخَهمْ اللَّه فقال: أرأيتم هذه الإناث ألِلَّهِ هي وأنتم تَخْتَارونُ الذُكْرَانَ. وذلك قوله: (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21).

(22)

ومن قرأ (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَّ وَالْعُزَّى) بتشديد التاء فزعموا أن رَجُلًا كان يَلِتُّ السَّويق وَيَبيعُة عند ذلك الصنم فسمي الصنمُ اللَّاتّ - بتشديد التاء - والأكثر " اللَّاتَ " بتخفيف التاء. وكان الكسائي يقف عليها بالهاء، يقول " اللاه " وهذا قياس والأجود في هذا اتباع المصحف والوقف عليها بالتاء. وقرئت (عِنْدَهَا جَنَّهُ الْمَأْوَى) - بالهاء - والأجود (جَنَّةُ الْمَأْوَى)، لأنه جاء في التفسير كما ذكرنا أنه يحل فيها أرواح الشهداء (1). * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) أي جَعْلكم للَّهِ البنات ولكم البنين. والضِّيزى في كلام العرب: الناقصةُ الجائرة، يقال: ضازه يَضِيزُه: إذا نقصه حَقَّه، ويقال: ضَأَزَه يَضْأَزُه بالهمز. وأجمع النحويُّون أن أصل ضِيزَى: ضُوزًى، وحُجَّتُهم أنها نُقلت من «فُعْلى» من ضْوزى إلى ضِيزى، لتَسلم الياء، كما قالوا: أبيض وبِيْض، وأصله: بُوضٌ، فنُقلت الضَّمَّة إلى الكسرة. . وقرأت على بعض العلماء باللُّغة: في «ضيزى» لغات؛ يقال: ضِيزَى، وضُوزَى، وضُؤْزَى، وضَأْزَى على «فَعْلى» مفتوحة؛ ولا يجوز في القرآن إلاّ «ضِيزى» بياءٍ غير مهموزة؛ وإنما لم يقُل النحويُّون: إنها على أصلها لأنهم لا يعرفون في الكلام «فِعْلى» صفة، إنما يعرفون الصِّفات على «فَعْلَى» بالفتح، نحو سَكُرَى وغَضْبى، أو بالضم، نحو حُبْلى وفُضْلى. . وكذلك قالوا مشية - حيكى، وهي مشية يحيك فيها صاحبها، يقال: حاك يحيك إذا تبختر، فحيكى عندَهم فعْلَى أيضاً (2). * * * وقوله عزَّ وجلَّ (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26) جاء (شَفَاعَتُهُمْ) واللفظ لفظ واحد، ولو قيل شفاعته لجاز ولكن المعنى

_ (1) قال السَّمين: قوله: {عِندَ سِدْرَةِ}: ظرفٌ لِرَآه و «عندها جنةُ» جملةٌ ابتدائيةٌ في موضعِ الحالِ. والأحسنُ أَنْ يكونَ الحالُ الظرفَ، و «جَنَّةُ المَأْوى» فاعلٌ به. والعامَّةُ على «جنَّة» اسمٌ مرفوعٌ. وقرأ أمير المؤمنين وأبو الدرداء وأبو هريرة وابن الزبير وأنس وزر بن حبيش ومحمد بن كعب «جَنَّهُ» فعلاً ماضياً. والهاء ضميرُ المفعول يعود للنبي صلَّى الله عليه وسلَّم. والمَأْوَى فاعلٌ بمعنى: سَتَره إيواءُ اللَّهِ تعالى. وقيل: المعنى: ضَمَّه المبيتُ والليلُ. وقيل: جَنَّهُ بظلالِه ودَخَلَ فيه. وقد رَدَّت عائشةُ رضي الله عنها هذه القراءةَ وتبعها جماعةٌ وقالوا: «أجَنَّ اللَّهُ مَنْ قرأها»، وإذا ثبتت قراءةً عن مثلِ هؤلاء فلا سبيلَ إلى رَدِّها، ولكنِّ المستعملَ إنما/ هو أَجَنَّه رباعياً، فإن استعمل ثلاثياً تَعَدَّى ب «على» كقولِه {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الليل} [الأنعام: 76]. وقال أبو البقاء: «وهو شاذٌّ والمستعملُ أجنَّه». وقد تقدَّم الكلامُ على هذه المادةِ في الأنعام. و «إذ يَغْشَى» منصوبٌ ب رآه. وقولُه: «ما يَغْشَى» كقولِه: {مَآ أوحى} [النجم: 10]. اهـ (الدُّرُّ المصُون). (2) قال السَّمين: قوله: {ضيزى}: قرأ ابنُ كثير «ضِئْزَى» بهمزةٍ ساكنةٍ، والباقون بياءٍ مكانَها. وزيدُ علي «ضَيْزَى» بفتح الضادِ والياءِ الساكنة. فأمَّا قراءةُ العامَّةِ فيُحْتمل أَنْ تكونَ مِنْ ضازه يَضَيزه إذا ضامه وجارَ عليه. فمعنى ضِيْزَى أي: جائرة. قال الشاعر: 4132 ضازَتْ بنو أُسْدٍ بحُكْمِهِمُ. . . إذ يَجْعلون الرأسَ كالذَّنَبِ وعلى هذا فتحتملُ وجهين، أحدُهما: أَنْ تكونَ صفةً على فُعْلى بضم الفاءِ، وإنما كُسِرت الفاءُ لتصِحَّ الياءُ كبِيْض. فإنْ قيل: وأيُّ فالجوابُ أن سيبويه حكى أنه لم يَرِدْ في الصفاتِ فِعْلَى بكسر الفاء إنما وَرَدَ بضمِّها نحو: حُبْلى وأُنْثى ورُبَّى وما أشبهه. إلاَّ أنه قد حَكى غيرُه في الصفات ذلك، حكى ثعلب: «مِشْية حِيْكى»، ورجلٌ كِيْصَى. وحكى غيرُه: أمرأةٌ عِزْهى، وامرأة سِعْلى، وهذا لا يُنْقَضُ لأن سيبويه يقول: حِيْكى وكِيْصى كقولِه في «ضيزَى» لتَصِحَّ الياءُ، وأما عِزْهَى وسِعْلى فالمشهورُ فيهما: سِعْلاة وعِزْهاة. والوجه الثاني: أَنْ تكونَ مصدراً كذِكْرى، قال الكسائي: يقال: ضازَ يَضيز ضِيْزَى، كذَكَر يَذْكُر ذِكْرى. ويُحتمل أَنْ يكونَ مِنْ ضَأَزَه بالهمز كقراءةِ ابن كثير، إلاَّ أنه خُفِّفَ همزُها، وإن لم يكنْ من أصولِ القُرَّاءِ كلِّهم إبدالُ مثلِ هذه الهمزةِ ياءً لكنها لغةٌ التُزِمَتْ فقرؤُوا بها، ومعنى ضَأَزَه يَضْأَزُه بالهمز: نَقَصه ظُلماً وجَوْراً، وهو قريبٌ من الأول. ومِمَّن جَوَّز أَنْ تكونَ الياءُ بدلاً مِنْ همزة أبو عبيد، وأَنْ يكونَ أصلُها ضُوْزَى بالواوِ لأنه سُمِع ضازَه يَضُوْزُه ضُوْزى، وضازه يَضِيْزُه ضِيْزى، وضَأَزه يَضْأَزُه ضَأْزاً، حكى ذلك كلَّه الكسائيُّ، وحكى أبو عبيد ضِزْتُه وضُزْته بكسرِ الفاء وضمِّها. وكُسِرت الضادُ مِنْ ضُوْزَى لأنَّ الضمةَ ثقيلةٌ مع الواو، وفعلوا ذلك ليَتَوَصَّلوا به إلى قَلْب الواوِ ياءً، وأنشد الأخفش على لغةِ الهمز: 4133 فإن تَنْأَ عَنَّا نَنْتَقِصْك وإن تَغِبْ. . . فَسَهْمُكَ مَضْؤُوْزٌ وأَنْفُكَ راغِمُ و «ضِئْزَى» في قراءةِ ابن كثير مصدرٌ وُصِفَ به، ولا يكون وصفاً أصلياً لِما تقدَّم عن سيبويه. فإنْ قيل: لِم لا قيل في «ضِئْزى» بالكسر والهمز: إنَّ أصلَه ضُئْزَى بالضم فكُسِرَتِ الفاءُ كما قيل فيها مع الياء؟ فالجواب: أنه لا مُوْجِبَ هنا للتغيير؛ إذ الضمُّ مع الهمز لا يُسْتثقل استثقالَه مع الياء الساكنة، وسُمع منهم «ضُوْزَى» بضم الضاد مع الواو أو الهمزة. وأمَّا قراءةُ زيدٍ فَتَحْتمل أَنْ تكونَ مصدراً وُصِف به كدَعْوى، وأَنْ تكونَ صفةً كسَكْرى وعَطْشَى. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(27)

معنى جماعة، لأن " كَمْ " سؤال عن عَدَدٍ وإخبار بِعَدَدٍ كثير، لأن " رُبَّ " لِلْقِلَّةِ و " كم " للكثرة، ومعنى شفاعتهم ههنا يفسرها قوله - عزَّ وجلَّ -: (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9). فأعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ، أنَّهُمْ لَا يَشْفَعُون إلَّا لمن - ارْتَضَى. فهذا تأويل قوله (لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى). * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28) أي يقولون إن الملائكة بنات اللَّه عزَّ وجلَّ. * * * وقوله: (ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (30) لأنه وَصَفَهُمْ بأنهم لا يريدونَ إلا الحياة الدنيا فقال: (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ). إنّما يعلمون ما يحتاجون إليه في مَعَاشِهِم، فقد نبذوا أمر الآخرة وراء ظهورهم. * * * وقوله عزَّ وَجَلّ: (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32) قيل إن اللمم نحو القُبلة والنظرة وما أشبه ذلك، وقيل إلا اللمم إلَّا أن يكون العبد قد ألمَّ بفاحشة ثم تاب. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ). يدل هذا على أن اللمم هوَ أن يَكونَ الِإنْسانُ قد ألم بالمعصية ولم يُصِرّ ولم يُقِمْ على ذلك، وإنما الِإلْمَامُ في اللغة يوجب أنك تأتي الشيء الوقت ولا تقيم

(33)

عليه، فهذا - واللَّه أعلم - معنى اللْمَم في هذا الموضع. * * * وقوله عزَّ وجلَّ - (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى (34) معنى " أكدى " قطع، وأصله من الحفر في البئر يقال للحافر إذا حَفَر البئر فبلغ إلى حَجَرٍ لا يمكنه معه الحفر: قد بلغ إلى الكدية، فعند ذلك يقطع الحفر. * * * وقوله: (أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35) معناه فهو يعلم والرؤية على ضربين: أحَدُهُمَا " رَأيتُ " أبصَرتُ والآخر عَلِمْتُ، كما تقول: رأيت زيداً أخاكَ وَصَدِيقَكَ مَعْنَاهُ عَلِمْتُ. ألا تَرَى أن المَكفُوفَ يقول: رأيت زيداً عَاقِلًا، فلو كان من رؤية العَيْنِ لم يجز. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أي قضى، يقال إن إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - وَفَّى مَا أمِرَ به، وما امْتحِنَ به من ذبح وَلدِه، فعزم على ذلك حتى فداه اللَّه بالذبح وامْتُحِن بالصبر على عداوة قومه حين أُجِّجَتْ له النار فطُرِحَ فيها، وَأمِرَ أيضاً - بالاختَتانِ فاختتن، وقيل وفَّى وهي أبلغ من وَفَى لأن الذي امتُحِنَ به من أعظم المِحَنِ. ومعنى (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَهِيمَ) أي أم لم يخبر، ثم أعلم ما في الصحف. * * * ومَوْضعُ (أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) خَفْضٌ،. المعنى أم لم يُنَبأ بأن لا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى. وَ " أنْ " ههنا بدل من (ما) ويجوز أن تكون " أنْ " في مَوْضع رَفْع على إضمار " هو " كَأنهُ لما قِيلَ: بما في صحف موسى قيل: مَا هوَ؛ قيل هو (أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى). ومعناه ولا تؤخذ نفس بإثم غيرها. وكذلك قوله: (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)

(40)

أي هذا أيضاً مما في صحف إبراهيم وموسى عليهما السلام. وَمَعْنَاه: ليس للِإنسان إلَّا جزاء سعيه، إن عَمِلَ خيراً جزِيَ خيراً. وإن عَمِل شرًّا جزِيَ شرَّا. . وتزر من وَزَرَ يَزِز إذَا كسبَ وِزْرَاً وهو الِإثم. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) إن قَالَ قَائِلٌ: إن الله عزَّ وجلَّ يَرَى عَمَلَ كل عَامِلٍ ويعلمه، فما معنى (سَوْفَ يُرَى)؟ فالمعنى أنه يرى العَبْدُ سَعْيَة يوم القيامَةِ، أي يرى في مِيزَانه عَمَلَه. * * * (ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41) أي يجزي عمله أوفى جزاء. وجائز أن تقرأ سَوْفَ يَرى، والأجْوَدُ يُرَى. لأن قولك إنَّ زيداً سوف أكرم، فيه ضَعْفٌ لأن إنَّ عاملة وأكرم عاملة، فلا يجوز أن ينتصب الاسم من وجْهَيْن، ولكن يجوز على إضمار الهاء، على معنى سوف يراهُ، أو على إضمار الهاء في " أن " تقول: إن زيداً سَأكْرِمُ، على أنه زيد سأكرم. * * * ْوقوله تعالى: (وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42) أي إليه المرجع، وهذا كله في صحف إبراهيم ومُوسَى. * * * (وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48) قيل في (أَقْنَى) قولان: أحدهما (أَقْنَى) هو أرضَى. والآخر (أَقْنَى) جعل له قِنْيَةً، أي جعل الغنى أصْلاً لِصَاحِبِه ثَابتاً. ومن هذا قولك: قد أقْتَنَيت كذا وكذْا. أي عملت على أنه يكون عِنْدِي لا أخرجه مِنْ يَدِي. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (49)

(50)

الشعرى كوكب خَلْفَ الجوزاء، وهو أحد كوكبي ذِرَاع الأسَد، وكان قوم من العرب يعبدون الشعرى، فأعلم اللَّه - جلَّ وعزَّ - أنه رَبُّها وأنه خَالِقُهَا، وهوَ المَعْبُود - عزَّ وجلَّ (1). * * * (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (50) هؤلاء هم قوم هودٍ، وهم أُولَى عَادٍ. فأما الأولى ففيها ثلاثِ لُغاتٍ: بسكون اللام وإثْباتِ الهَمْزَةِ، وهي أجْوَد اللغَاتِ والتي تَليها في الجَوْدَةِ " الأولى " - بضم اللام وطرح الهَمْزَةِ، وكان يجب في القياس إذا تحركت اللام أن تسقطَ ألف الوَصْلِ، لأن ألِفَ الوَصْلِ اجْتُلِبَتْ لسكون اللام، ولكن جاز ثُبُوتهَا لأن ألف لَامِ المَعْرِفَةِ لا تسقط مع ألف الاستفهام "، فخالفت ألفات الوَصْلِ. ومن العرب من يقول: لُولي - يريد الأولى - فطرح الهمزة لتحرك اللام. وَقَدْ قُرِئ (عاداً لُّوْلى). على هذه اللغَةِ، وأُدغِمَ التنوين في اللام. والأكثرْ عاداً الأولى بكسر التنوين (2). * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51) ثمود نسق على عادٍ، ولا يجوز أن ينصب بقوله (فَمَا أَبْقَى) لأنَّ مَا بَعْدَ الفاء لا يعمل فيما قبلها، لا تقول: زيداً فضربت. فكيف وَقَدْ أتت " ما " بعد الفاء. وأكثر النحويين لا ينصب ما قبل الفاء بما بعدها. والمعنى وأهلك ثمود فما أبقاهم. * * * (وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53) المؤتفكة المخسوفُ بهَا، أي ائتفكت بأهلها، ومعنى أهوى، أي رُفِعَتْ حِينَْ خُسِفَ بهم إلى نحو السماء حتى سمع من في السماء أصوات أهل مدينة قوم لوط ثم أهويت أي ألقِيَتْ في الهاوية.

_ (1) قال السَّمين: قوله: {رَبُّ الشعرى}: الشِّعْرى في لسان العرب كوكبان يُسَمَّى أحدُهما: الشِّعْرى العَبُور، وهو المرادُ في الآيةِ الكريمةِ فإنَّ خُزاعةَ كانت تَعْبُدها، وسَنَّ عبادتَها أبو كبشةَ رجلٌ مِنْ ساداتِهم، وكانت قريشٌ تقولُ لرسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: أبو كبشَة تشبيهاً بذلك الرجل، في أنه أَحْدَثَ ديناً غيرَ دينهم. والشِّعْرى العَبُور تَطْلُعُ بعد الجوزاءِ في شدَّةِ الحرِّ، ويُقال لها: مِرْزَمُ الجَوْزاء ويُسَمَّى كلبَ الجبَّار. والثاني: / الشِّعْرَى الغُمَيْصاء، وهي التي في الذِّراع. وسبب تَسْميتها بذلك ما زَعَمَتْه العربُ: مِنْ أنَّهما كانا أخْتَيْن أو زوجَيْن لسُهَيْل، فانحدر سهيلٌ إلى اليمنِ، فاتَّبَعْته الشِّعْرى العَبُوْر فعبَرَتْ المَجَرَّة فسُمِّيَتِ العَبورَ، وأقامَتِ الغُمَيْصاءُ، وبَكَتْ لفَقْدِه حتى غَمَصَتْ عَيْنُها، ولذلك كانت أَخْفَى من العَبُوْر. اهـ (الدُّرُّ المصُون). (2) قال السَّمين: قوله: {عَاداً الأولى}: اعلَمْ أنَّ هذه الآيةَ الكريمةَ مِنْ أشكلِ الآياتِ نَقْلاً وتوجيهاً، وقد يَسَّر اللَّهُ تعالى تحريرَ ذلك كلِّه بحولِه وقوتِه فأقول: إنَّ القرَّاءَ اختلفوا في ذلك على أربعِ رُتَبٍ، إحداها: قرأ ابن كثير وابن عامر والكوفيون «عادَاً الأُولى» بالتنوين مكسوراً وسكونِ اللام وتحقيقِ الهمزةِ بعدها، هذا كلُّه في الوصلِ فإذا وقفوا على «عاداً» وابتدؤوا ب «الأُوْلى» فقياسُهم أَنْ يقولوا «الأولى» بهمزةِ الوصلِ وسكونِ اللامِ وتحقيقِ الهمزة. الثانيةُ: قرأ قالون «عاداً لُّؤْلَى» بإدغامِ التنوين في اللامِ، ونَقْلِ حركةِ الهمزةِ إلى لام التعريفِ، وهمزِ الواوِ، هذا في الوصل. وأمَّا في الابتداءِ بالأولى فله ثلاثةُ أوجهٍ، الأولُ: «الُّؤْلَى» بهمزةِ وصل، ثم بلامٍ مضمومة، ثم بهمزةٍ ساكنة. الثاني: «لُؤْلَى» بلامٍ مضمومةٍ ثم بهمزةٍ ساكنةٍ. الثالث: كابتداءِ ابنِ كثير ومَنْ معه. الثالثة: قرأ ورش «عاداً لُّوْلى» بإدغامِ التنوين في اللام ونَقْلِ حركةِ الهمزةِ إليها كقالون، إلاَّ أنه أبقى الواوَ على حالِها غيرَ مبدلةٍ همزةً هذا في الوصل. وأمَّا في الابتداءِ بها فله وجهان: «ألُّوْلَى» بالهمزةِ والنقلِ، و «لُوْلَى» بالنقلِ دونَ همزِ وصلٍ، والواوُ ساكنةٌ على حالِها في هذَيْن الوجهَيْن. الرابعة: قرأ أبو عمروٍ كوَرْشٍ وَصْلاً وابتداءً سواءً بسواءٍ، إلاَّ أنه يزيدُ عليه في الابتداءِ بوجهٍ ثالثٍ، وهو وجهُ ابنِ كثير ومَنْ ذُكِرَ معه، فقد تحصَّل أنَّ لكلّ مِنْ قالون وأبي عمرو في الابتداء ثلاثةَ أوجهٍ، وأنَّ لورشٍ وجهين. فتأمَّلْ ذلك فإنَّ تحريرَه صعبُ المأخذِ من كتب القراءات هذا ما يتعلَّقُ بالقراءات. وأمَّا توجيهُها فيُوقف على معرفةِ ثلاثةِ أصولٍ، الأول: حكمُ التنوينِ إذا وقع بعدَه ساكنٌ. الثاني: حكمُ حركةِ النقلِ. الثالث: أصلُ «أُوْلَى» ما هو؟ إمَّا الأولُ فحكمُ التنوينِ الملاقي أنْ يُكْسَرَ لالتقاءِ الساكنين نحو: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} [الإِخلاص: 1] أو يُحْذَفَ تشبيهاً بحرفِ العلةِ كقراءةِ {أَحَدٌ الله الصمد}، وكقولِ الشاعر: 4140. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ولا ذاكرَ اللَّهَ إلاَّ قليلاً وهو قليلٌ جداً، وقد مضى تحقيقُه. وأمَّا الثاني فإنَّ للعرب في الحركة المنقولةِ مذهبين: الاعتدادَ بالحركةِ، وعدمَ الاعتدادِ بها، وهي اللغةُ العالية. وأمَّا الثالثُ فأُوْلَى تأنيثُ أَوَّل، وقد تقدَّم الخلافُ في أصلِه مستوفى في أولِ هذا التصنيفِ فعليك باعتبارِه. إذا تقرَّرَتْ هذه الأصولُ الثلاثةُ فأقولُ: أمَّا قراءةُ ابنِ كثير ومَنْ معه فإنهم صرفوا «عاداً»: إمَّا لأنه اسمٌ للحيِّ أو الأبِ فليس فيه ما يمنعُه، وإمَّا لأنَّه كان مؤنثاً اسماً للقبيلةِ أو الأمِّ، إلاَّ أنَّه مثلُ هِنْد ودَعْد فيجوزُ فيه الصرفُ وعدمُه فيكونُ كقوله: 4141 لم تَتَلَفَّعْ بفَضْلِ مِئْزَرِها. . . دَعْدٌ ولم تُسْقَ دعدُ في العُلَب فصرفَها أولاً ومَنَعَها ثانياً، ولَم يَنْقُلوا حركةَ الهمزةِ إلى لام التعريف فالتقى ساكنان، فكسروا التنوينَ لالتقائِهما على ما هو المعروفُ من اللغتين وحذفوا همزةَ الوصلِ من «الأُوْلى» للاستغناءِ عنها بحركة التنوين وَصْلاً فإذا ابتدَؤوا بها احتاجُوا إلى همزة الوصل فأَتَوْا بها فقالوا: الأُوْلى كنظيرِها/ من هَمَزاتِ الوصلِ. وهذه قراءة واضحة لا إشكال فيها ومن ثم اختارها الجَمُّ الغَفيرُ. وأمَّا قراءة مَنْ أدغم التنوينَ في لامِ التعريفِ وهما نافعٌ وأبو عمرو مع اختلافِهما في أشياءَ كما تقدَّم بيانُه فوجْهُه الاعتدادُ بحركةِ النقل؛ وذلك أنَّ مِنَ العربِ مَنْ إذا نَقَل حركة الهمزةِ إلى ساكنٍ قبلَها كلامِ التعريفِ عامَلَها معاملَتَها ساكنةً، ولا يَعْتَدُّ بحركةِ النقلِ، فيكسرُ الساكَنَ الواقعَ قبلَها، ولا يُدْغِم فيها التنوينَ، ويأتي قبلها بهمزةِ الوصلِ فيقول: لم يَذْهَبِ لَحْمَرُ، ورأيت زياداً لَعْجَم، من غيرِ إدغام التنوينِ، والَحْمَرُ والَعْجَمُ بهمزة الوصلِ لأن اللامَ في حكمِ السكونِ، وهذه هي اللغةُ المشهورة. ومنهم مَنْ يَعْتَدُّ بها، فلا يكسِر الساكنَ الأولَ، ولا يأتي بهمزةِ الوصلِ، ويُدْغم التنوين في لام التعريف فيقولُ: لم يَذْهَبْ لَحْمر بسكون الباء، ولَحْمَرُ ولَعْجَمُ من غيرِ همزٍ، وزيادُ لّعجم بتشديدِ اللامِ، وعلى هذه اللغةِ جاءَتْ هذه القراءةُ، هذا من حيث الإِجمال. وأمَّا من حيث التفصيلُ فأقول: أمَّا قالون فإنه نَقَلَ حركة الهمزةِ إلى لام التعريف، وإنْ لم يكنْ من أصلِه النقلُ لأجل قَصْدِه التخفيفَ بالإِدغام، ولَمَّا نقل الحركةَ اعْتَدَّ بها، إذ لا يمكن الإِدغامُ في ساكنٍ ولا ما هو في حُكْمِه. وأمَّا همزُه الواوُ ففيه وجهان منقولان، أحدُهما: أَنْ تكونَ أُوْلى أصلُها عنده وُؤْلَى مِنْ وَأَل أي: نجا، كما هو قولُ الكوفيين، ثم أَبْدَلَ الواوَ همزةً لأنها واوٌ مضمومةٌ، وقد تقدَّم لك أنها لغةٌ مطردةٌ، فاجتمع همزتان ثانيتُهما ساكنةٌ فَوَجَبَ قلبُها واواً نحو: «أُوْمِنُ»، فلمَّا حُذِفَتْ الهمزةُ الأولى بسببِ نَقْلِ حركتِها رَجَعَتْ الثانيةُ إلى أصلِها من الهمزةِ لأنَّها إنما قُلِبت واواً من أجلِ الأُولى، وقد زالَتْ، وهذا كما رأيتَ تكلُّفٌ لا دليلَ عليه. والثاني: أنَّه لَمَّا نَقَلَ الحركةَ إلى اللامِ صارَت الضمةُ قبل الواوِ كأنَّها عليها، لأنَّ حركةَ الحرفِ بين يديه، فأبدل الواوَ همزةً كقولِه: 4142 أَحَبُّ المُؤْقِدِيْنَ إليَّ موسى. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وكقراءةِ «يُؤْقنون» وهمزِ «السُّؤْقِ» و «سُؤْقِه» وقد تقدَّم تحريرُ ذلك، وهذا بناءً منه على الاعتدادِ بالحركةِ أيضاً. وليس في هذا الوجهِ دليلٌ على أصلِ «أُوْلى» عنده ما هو؟ فيُحتمل الخلافُ المذكورُ جميعُه. وأمَّا ابتداؤُه الكلمةَ من غير نَقْلٍ فإنه الأصلُ، ولأنه إنما نَقَلَ في الوصلِ لقَصْدِه التخفيفَ بالإِدغام، ولا إدغامَ في الابتداءِ فلا حاجةَ إلى النقلِ. وأمَّا الابتداءُ له بالنقلِ فلأنه محمولٌ على الوصل ليجريَ اللفظُ فيهما على سَنَنٍ واحدٍ. وعلةُ إثباتِ ألفِ الوصلِ مع النقلِ في أحدِ الوجهَينِ: تَرْكُ الاعتدادِ بحركةِ اللامِ على ما عليه القراءةُ في نظائرِه ممَّا وُجِدَ فيه النقلُ؛ إذ الغَرَضُ إنما هو جَرْيُ اللفظِ في الابتداءِ والوصلِ على سَنَنٍ واحدٍ، وذلك يَحْصُل بمجرد النقلِ وإنْ اختلفا في تقديرِ الاعتدادِ بالحركةِ وتركِه. وعلةُ تَرْكِ الإِتيانِ بالألفِ في الوجهِ الثاني حَمْلُ الابتداءِ على الوصلِ في النقلِ والاعتدادِ بالحركةِ جميعاً. ويُقَوِّي هذا الوجهَ رسمُ «الأولى» في هذا الموضع بغيرِ ألفٍ. والكلامُ في همز الواوِ مع النقل في الابتداءِ كالكلامِ عليه في الوَصْل كما تقدَّم. وأمَّا ورشٌ فإنَّ أصلَه أن ينقلَ حركةَ الهمزةِ على اللام في الوصلِ فنقل على أصلِه، إلاَّ أنه اعتدَّ بالحركةِ ليصِحَّ ما قَصَدَه في التخفيفِ بالإِدغامِ، وليس من أصله الاعتدادُ بالحركة في نحو ذلك. ألا ترى أنه يَحْذِفُ الألفَ في {سِيَرتَهَا الأولى} [طه: 21] و {وَيَتَجَنَّبُهَا الأشقى} [الأعلى: 11] ولو اعْتَدَّ بالحركةِ لم يَحْذِفْها. وأمَّا ما جاء عنه في بعضِ الرواياتِ: {قَالُواْ لآنَ جِئْتَ بالحق} [البقرة: 71] فإنه وجهٌ نادرٌ مُعَلَّلٌ باتِّباعِ الأثرِ والجَمْعِ بين اللغتين. والابتداءُ له بالنَّقْلِ على أصلِه في ذلك أيضاً، والابتداءُ له بألفِ الوصلِ على تَرْكِ الاعتدادِ بالحركةٍِ، إذْ لا حاجةَ إلى قَصْد ذلك في/ الابتداءِ، وتَرْكِ الإِتْيانِ له بالألف على الاعتدادِ له بالحركة حَمْلاً للابتداءِ على الوصل وموافقةَ الرسمِ أيضاً، لا يُبْتَدأ له بالأصل، إذ ليس مِنْ أصلِه ذلك، و «الأُوْلَى» في قراءتِه تَحْتَمل الخلافَ المذكورَ في أصلِها. وأمَّا أبو عمروٍ فالعلةُ له في قراءتِه في الوصلِ والابتداءِ كالعلةِ المتقدمةِ لقالون، إلاَّ أنَّه يُخالفه في همزِ الواو لأنه لم يُعْطِها حكمَ ما جاوَرَها، وليسَتْ عنده مِنْ وَأل بل مِنْ غيرِ هذا الوجهِ، كما تقدَّم لكَ الخلافُ فيه أولَ هذا الموضوع، ويجوز أَنْ يكونَ أصلُها عندَه مِنْ وَأَل أيضاً إلاَّ أنه أَبْدَلَ في حالِ النقلِ مبالغةً في التخفيف، أو موافَقَةً لحالِ تَرْكِ النَّقلِ، وقد عاب هذه القراءةَ أعني قراءةَ الإِدغامِ أبو عثمانَ، وأبو العباس، ذهاباً منهما إلى أنَّ اللغةَ الفَصيحة عدمُ الاعتدادِ بالعارِض

(54)

(فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54) معناه فغشاها اللَّه - عزَّ وجلَّ - من العذاب ما غَشَّى. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (55) هذا - واللَّه أعلم - خطاب للِإنسانِ. لما عدَّدَ عليه مما فعله الله به، مما يدل على وحدانيته. كان المعنى أيها الإنسان فبأيِّ نِعم ربِّك التي تدُلُّك على أنه واحدٌ تتشكَّك؟، لأن [المراد به الشَكُّ]. * * * وقوله: (هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى (56) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - مجراه في الِإنذار مجرى مَنْ تَقَدَّمَة من الأنبياء، صلوات اللَّه عَلَيْهم، وجائز أن يكون في معنى هذا إنذار لكم، كما أنذر من قبلكم وقد أعلمتم بما قص الله عليكم من حال من كذب بالرُسُلِ، وما وقع بهم من الإهلاك. * * * وقوله: (أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) معناه قربَ القريبة، تقول: قد أزف الشيء إذا قرب ودنا، وهذا مثل (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ). * * * ومعنى (لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (58) معناه لا يكشف علمها متى تكون أحَدٌ إلا الله عزَّ وجلَّ، كما قال - - عزَّ وجلَّ - (لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ). * * * (أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) أي مما يتلى عليكم من كتاب اللَّه، (تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61). تفسيره: لاهون.

(62)

وقوله: (فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62) معناه فاسجدوا للَّهِ الذي خلق السماوات والأرَضِين، ولا تعبدوا اللَّاتَ والعُزى ومناة الثالثة الأخرى، والشِّعْرَى، لأنه قَدْ جرى ذكر معبوداتهم في هذه السورة.

سورة القمر

سُورَةُ القَمَر بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) أجمع المفسرون، - ورَوينا عن أهل العلم الموثوق بهم - أن القمر انشق على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال أبو إسحاق: وزعم قوم عَندُوا عَنِ القَصْدِ وما عليه أهل العلم: أنَّ تاوِيله أن القمر ينشق يوم القيامة، والأمر بين في اللفظ وإجْماعِ أهلِ العلم لأن قوله: (وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) فكيف يكون هذا في القيامَةِ. قال أبو إسحاق: وجميع ما أملم عليكم في هذا ما حَدثني به إسماعيل ابن إسحاق قال حَدثَنَا محمد بن المنهال، قال حَدثنا يزيد بن زرَيْع قال ثَنَا شعْبةَ عن قَتَادة - عن أنس أن أهل مكة سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - آية فَأراهم القَمَرَ مَرتَيْنِ انشقاقَه، وكان يذكر هذا الحديث عند هذه الآية: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ). حدثنا إسماعيل بن إسحاق قال ثنا مسَدد، قال ثنا يحيى عن شعبة عن قتادة عن أَنَسٍ قال: انشق القمر فرقين.

ثنا نصر بن علي قال ثنا حرمي بن عمارة، قال ثنا شعبة عن قتادة عَنْ أنس بن مالك قال: انشق القمر على عهد رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -. حدثنا إسماعيل قال ثنا محمد بن عيد قال ثنا محمد بن ثور عن معمر عن قتادة عَن أنَس قال: سأل أهل مكة النبي - صلى الله عليه وسلم - آية فانشق القمر بمكة مرتين، فقال: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2). يعني ذَاهِبٌ. ثنا إسماعيل قال ثنا نصر قال ثنا أبو أحمد قال ثنا إسرائيل عن سماك عن إبراهيم عن الأسود عن عبد اللَّه قال: انشق القَمَرُ فأبصرت الجبل بين فرجتي القَمَر. ثنا إسماعيل قال ثنا نصر قال حدثَنِي أبي قال أخبرنا إسرائيل عن سماك عن إبراهيم عن الأسود عن عبد اللَّه في قوله: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) قال: انشق القمر حتى رأيت الجبل بين فلقتي القَمَر. ثنا إسماعيل قال ثنا محمد بن عبد اللَّه بن نمير قال ثنا أبو مُعاويَةَ قال ثنا الأعمش عن إبراهيم عن أبي معمر عن عبد اللَّه قال: انشق القمر ونحن مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بمعنى حتى ذهبت فرقة منه خلف الجبل فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، اشْهَدُوا. ثنا إسماعيل قال ثنا مسدد قال ثنا يحيى عن شعبةَ وسفيانٍ عن الأعْمش وعن إبراهيم عن أبي مَعْمَر عن أبي مسعود قال: انشق القمر على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فرقتين فرقة فوق الجبل وفرقة دونه. فقال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - اشهدوا ثنا إسماعيل قال ثنا مسعود قال ثنا يحيى عن شعبة عن الأعمش عن مجاهدٍ عن ابن عمر مثله. ثنا إسماعيل قال ثنا علي بن عبد اللَّه قال ثنا سفيان قال أخبرنا ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن أبي معمر عن عبد اللَّه: انشق القمر على عهد

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شقتين، فقال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اشهدوا اشهدوا. ثنا إسماعيل قال قال علي وحدثنا به مَرةً أخرى عن ابن أبي نجيح عن مجاهِدٍ عن أبي معمر عن عبد الله بن مسعود: انشق القمر شقتين حتى رأيناه. فقال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اشْهَدُوا. ثنا إسماعيل قال ثنا محمد بن أبي بكر قال ثنا محمد بن كثير عن سليمان يعني ابن كثير عن حصين عن محمد بن جبير عن أبيه، قال: انشق القمر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرقتين على هذا الجبل وعلى هذا الجبل فقال الناس: سحرنا محمدٌ، فقال رجل: إنْ سَحَركم فلم يسحر الناسَ كُلَّهُمْ. وحدثنا إسماعيل قال ثنا محمد بن أبي بكر قال ثنا زهير بن إسحاق عن دَاودَ عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: ثلاث قد ذكرهن الله في القرآن قد تقضين: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ). فقد انشق القمر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شقتين حتى رآه الناس. ثنا إسماعيل قال ثنا نصر بن علي قال ثنا عبد الأعلى قال ثنا داود بن أبي هِنْدٍ عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ). قال: قد مضى قبل الهجرة وانشق القمر حتى - رأوا شقتيه. حدثنا إسماعيل قال ثنا علي بن عبد الله قال: ثنا سفيان قال قال عمرو عن عكرمة قال انشق القمر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال المشركون سَحَرَ القمَر سَحَر القمَرَ، فأنزل اللَّه - عزَّ وجلَّ -: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2). ْحدثنا إسماعيل قال ثنا محمد بن أبيْ بكرقال ثنا الضحاك بن مخلد عن ابن جريج عن عمروٍ عن عكرمة: انشق القَمَرُ على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال

المشركون: سَحَرَ القَمَرَ، سَحَرَ القَمَرَ، فنزلت: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2). حدثنا إسماعيل قال ثنا عَارِمُ بْنُ الْفَضْلِ وسليمان بن حرب قالا: ثنا حماد ابن زيد عن عكرمة عن عطار بن السائب عن أبي عبد الرحمن السُّلَّمِي قال: انطلقت مع أبي يوم الجمعة فخطبنا حذيفة - وقال سليمان في حديثه: فخطب حذَيْفَةُ وهو بالمدائن فتلا: ((اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ)، ثم قال: ألا إن الساعة قد اقتربت وإن القمر قد انشق، إلا وإن المضمار اليوم والسباق غدا، قال سليمان في حديثه: فقلت لأبي يا أبتاه ترسل الخيل غداً وقال عارم في حديثه: فقلت لأبي يستبق الناس غداً، فلما كانت الجمعة التي تليها خطبنا فتلا: ((اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ)، فقال: ألا اُن الساعة قد اقتربت وإن القمر قد انشقَّ على عهد نبيكم - صلى الله عليه وسلم - ألا وإن المضمار اليوم والسباق غداً، والغاية النار والسابق من سبق إلى الجَنَّةِ. حدثنا إسماعيل قال: ثنا حجاج بن المنهال قال: حدثنا حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن عبد اللَّه بن حبيب، قال: كنا بالمدائن فجئنا إلى الجمعة فخطبنا حذيفة فحمد اللَّه وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فإن الله تبارك وتعالى يقول: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ)، ألا إِنَّ اليَوْمَ المضمار وغداً السباق، ألا وَإن الغاية النَّارُ، فلما كانت الجمعة الأخرى خطبنا فحمد اللَّه وأثنى عليه قال فقال مثل قوله، وقال: السابق من سبق إلى الجنة. ثنا إسماعيل ثنا علي قال ثنا سُفْيَانُ عن سليمان، وقَطَرٍ عن مسلم عن مسروق عن عبد الله قال: مضى اللزام ومضت البطشة ومضى الدخان ومضى الروم - حدثنا إسماعيل قال ثنا عبد الله بن إسماعيل عن عبد الرحمن بن زيد

(2)

ابن أسلم في قول اللَّه عزَّ وجلَّ: ((اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) قال ابن زيد: انشق القمرُ في زمان رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فكان يرى نصفه على قُعَيْقِعَانَ والنصف الآخر على أبي قيس. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) أي ذاهب وقيل دائم. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) تأويله أنه يستقر لأهل النار عملهم ولأهل الجنة عملهم. * * * وقوله عزَّ وجلَّ َ: (وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) يعنى من أخبار من قد سلف، قبلهم فأهلكوا بتكذيبهم ما فيه مُزْدَجَر، أي ما فيه مُنْتَهَى، تقول: نهيتُه فانتهى وزجرته فازدجر. والأصل فازتجر بالتاء، ولكن التاء إذا وقعت بعد زَايٍ أبدلت دَالًا نحو مُزْدَان أصله مزْتَان، وكذلك مزتجر. وإنما أبدلت دالًا لأن التاء حرف مهموس والزاي حرف مجهورٌ فأبْدِلَ من التاء من مكانها حرف مجهورٌ، وهو دال، فهذا لَا يفهمه إلا من أحكم كل العربية، وهذا في آخر كتاب سيبويه، والذي ينبغي أن يقال للمتعلم إذا بنيت افتعل أو مفتعل مِما أوله زاي فاقلب التاء دَالاً، نحو ازدجر ومزدجر. * * * وقال عزَّ وجلَّ: (حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5) رُفِعَتْ (حِكمَةٌ) بدلاً من " ما ". المعنى ولقد جاءهم حكمة بالغة. وإن شئت رفعت حكمة بإضمار (هو) المعني هو حكمة بالغة. وقوله: (فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ). " ما " جائز أن يكون في لفظ الاستفهام، ومعناها التوبيخ، فيكون المعنى فأي شيء تُغْنِي النُّذُرُ، ويكون موضعها نصباً بـ (تُغْنِ). ويجوز أن يكون نفياً على معنى فليست تغني النذر.

(6)

وقوله: (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) وقف التمام (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ). وقوله (إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ) إلى ما كانوا يَنْكِرونَهُ من البعث، فتول عنهم يوم كذا في الآية. و (يَوْمَ) منصوب بقوله (يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ). فأمَّا حذفُ الواو من (يدعُو) في الكتاب فلأنها تحذف في اللفظ لالتقاء السَّاكنين، وهما الواو من (يدعُو) واللام من (الداعِي)، فأجريت في الكتاب على ما يلفظ بها، وأما الداعي فإثبات الياء فيه أجْوَدُ. وقد يجوز حذفها لأن - الكسرة تدل عليها. * * * وقوله عزَّ وجلََّّ: (خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7) منصوب على الحال. المعنى يخرجون من الأجداث خشَعاً أبصارهم. وقرئت (خَاشِعاً أبْصَارهُم). وقرأ ابن مسعود (خَاشِعةً أبصارُهم). ولك في أسماء الفاعلين إذا تقدمت على الجماعة التوحيد نحو خاشعاً أبصارهم، ولك التوحيد والتأنيث - لتأنيث الجماعة - خاشعة أبصارهم. ولك الجمع نحو خُشَعاً أبْصَارُهم. تقول: مررتُ بشبَّانٍ حَسَنٍ أوجههم، وحِسَانٍ أوْجُهُهُمْ، وحَسَنَةٍ أوجههم، قال الشاعر: وشَبابٍ حَسَنٍ أَوْجُهُهُمْ. . . مِنْ إِياد بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعَدّ * * * - وقوله عزَّ وجلَّ: (مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8) مَنْصُوبٌ أيضاً على - الحال. المعنى يخرجون خُشَعاً أبصارُهُم مهطعين. ومعنى (مُهْطِعِينَ) ناظِرين لا يقلعون أبْصَارُهم. * * * وقوله: (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) أي كذبتِ قوم نُوحٍ نُوحاً قبل قومك يا مُحمدُ. * * * (وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ). وقالوا هو مجنون كما قال قومك يا محمد لك - صلى الله عليه وسلم - وعليهم أجمعين

(10)

وازدُجِر، زُجِرَ بالشَتْمِ. وقد بيَّنَّا ما في مزدجر في انقلاب التاء دَالاً وأصل هذا وازتجر. * * * وقوله: (فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) والقراءة (أَنِّي) بفتح الألف وقرأ عيسى بن عمر النحوي (إِنِّي) - بكسر الألف - وفسر سيبويه (إِنِّي) بالكسر فقال على إرادة القول على معنى فَدَعَا رَبَّهُ فقال إِنِّي مَغْلُوبٌ. قال: ومثله: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى). المعنى، قالوا ما نعبدهم إلا لقربونا. ومن فتح - وهو الوجه - فالمعنى دَعَا رَبَّهُ بأَنِّي مَغْلُوبٌ. * * * وقوله: (فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) المعنى فأجبنا دعاءه فنصرناه، وبيَّن النَصْرَ الذي نصر به فقال: (فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ). ينصبُّ انصباباً شديداً. * * * (وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) هذا أكثر القراءة (عُيُونًا) بِالضم. وقد رويت (عِيُوناً) - بكسر العين - وهي رديئة في العربية. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ). يعني ماء السماء والأرض ولم يقل فالتقى الماءان، ولو كان ذلك لكان جائزاً، إلا أن الماء اسم يجمع مَاء الأرض وماءَ السماء. ومعنى (عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) أي قدْ قُدِرَ في اللوح المحفوظ. وقيلَ قَدْ قُدِرَ أي كان قدر ماء السماء كقدر ماء الأرض. * * * (وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) المعنى على سفينة ذات ألواح. والدُّسُر اسم المسامير والشُّرُط التي

(14)

تُشَدِّ بها الألواح، وكل شيء نحو السَّمْر أو إدخال شيء في شيءٍ بقوَّة وشِدة قَهر فهو دَسْر، يقال: دَسَرْتُ المسمار أدْسُرُه وأَدْسِرُه. والدُّسُر: واحدها دِسار، نحو حِمار، وحُمُر. * * * وقوله: (تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14) أي فعلنا ذلك جزاء لنوح وأصحابه، أي - نجيناه ومن آمن مَعَهُ، وأغرقنا من كذَّبَ به جزاء لِماصُنِعَ بِهِ. * * * وقوله: (تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا) أي تجري بمرأى مِنَا وحفظ. * * * قوله عَزَ وَجَلَّ: (وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) أي تركنا هذه الفَعْلَة وأمر سفينة نُوحٍ، آيَةً أي علامَةً لِيُعْتَبَرَ بها. (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ). القراءة بالدال غير المعجمة، وأصله مُذْتَكِر بالذال والتاء، ولكن التاء أبدل منها الدال، والذال من موضع التاء، وهي أشبه بالدال من التاء فأدغمت الذال في الدالِ، فهذا هو الوجه، أعني القراءة بالدال - غير معجمة - وقد قال بعض العرَبِ (مُذَّكِر) بالذال معجمةً، فأدغم الثاني في الأول وهذا ليس بالوجه إنما الوجه إدغام الأول في الثاني. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17) المعنى سَهَّلْنَا، وَقِيل: إنَّ كُتبَ أهل الأديانَ نحو التوراة والِإنجيل إنما يتلوها أهلها نظراً، ولا يكادون يحفظون كُتُبَهُمْ من أولها إلى آخرها كما يحفظ القرآنُ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) صَرْصَر شديدة البرد.

(20)

(فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ). يعني نَحس مشؤوم، مستمر أي دائم الشؤم، وقيل في يوم أربعاء في آخر الشهر لا يدورُ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) " كَأنَّهُمْ " ههنا في موضع الحال. والمعنى تنزع الناس مُشْبِهِينَ النَخْلَ المنْقَعِر، فالمنْقَعِرُ المقطوع من أُصُوله، وكانت الريحُ تَكُبُّهُمْ على وُجوهِهِم. وقوله: (مُنْقَعِرٍ) النخل يذكَّرُ ويؤنث، يقال: هذا نخل، وهذه نَخْلٌ فمنقعِرٌ على من قال: هذا نخل، ومن قال: هذه نخل. فمثل قوله تعالى (أعجازُ نَخْلٍ خَاوَية). * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) النُّذُر جمعُ نَذِير. * * * (فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (24) (بَشَرًا) منصوب بِفعل مُضْمر الذي ظهر يُفَسِرهُ، المعنى أنتَبعُ بشراً. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ). معناه إنا إذاً لفي ضلال وجنون، يقال: ناقة مسعورة إذا كان بها جُنونٌ. ويجوز أن يكون على معنى إن اتبعناه فنحن في ضَلَال وفي عَذَابٍ. * * * وقوله: (بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) (أشِرٌ) بمعنى بَطِر، يقال: (أشِرَ يأْشَرُ أشراً فهو (أشِرٌ، مثل بَطِر يبطَر بَطَراً فهو بَطِر. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27) (فتنةً) منصوب مفعول له، المعنى إنا مرسلو النَّاقة لنفتنهم، أي لنختبرهم.

(28)

وقوله عزَّ وجلَّ: (وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) أي الماء قسمة بين الناقة وبين ثمود لها يوم ولهم يوم، وهذا معناه كل شرب محتضر، يحْضَر القوم الشرب يوماً، وتحضر الناقة يَوْماً. * * * (فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29) وكان يقال له أحمر ثمود، وَأحَيمْر ثمود، والعرب تَغْلِط فتجعَل أحمر عادٍ فنضرب به المثل في الشؤم، قال زهير يَصِف حَرْباً. فَتُنْتَجْ لكم غِلمانَ أَشأَم كلُّهُمْ. . . كأَحْمَرِ عاد ثم تُرْضِعْ فَتَفْطِمِ ومعنى (فَتَعَاطَى فَعَقَرَ) فَتَعَاطى عَقْرَ النَاقَةِ فعقر فبلغ ما أرادَ. * * * وقوله تعالى:: (إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) بكسر الظاء، ويقرأ المححتظر بفتح الظاء، والهشيم ما يبسَ من الورق وتَكسَّر وتحطَّم، أي فكانوا كالهشيم الذي يجمعه صاحب الحظيرة، أي قد بلغ الغاية في الجفاف، حتى بلغ إلى أن يجمع ليوقد. ومن قرأ (المحتظَر) - بفتح الظاء - فهو اسم للحظيرة. المعنى كهشيم المكان الذي يُحتَظر فيه الهشيم. ومن قرأ (المحْتَظِر). - بكسر الظاء نسبة إلى الذي يجمع الهشيم من الحطب في الحظيرة، فإن ذلك المحتظِر، لأنه فاعل. * * * وقوله تعالى: (إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34) " سَحَر " إذا كان نكرة يراد به سحراً من الأسحار انصرف، تقول: أتيت زيداً سحراً من الأسحار، فإذا أردت سحر يومك قلت أتيته لِسَحَر يا هَذَا وأتيته سَحَرَ يا هذا. * * * وقوله تعالى: (نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) منصوب مفعول له. المعنى نجيناهم للِإنعام عليهم. ولو قرئت " نعمةٌ مِنْ عِنْدَنَا " كان وجهاً، ويكون المعنى تلك

(38)

نِعمَةٌ مِنْ عِندِنا، وَإِنْجَاؤنَا إِياهُمْ نعمة من عندنا. قال أبو إسحاقَ: ولكني لا أعلم أحداً قرأ بها، فلا تقرأنَّ بها إلَّا أن تثبت رواية صحيحة. قال مشايخنا من أهل العلم: القراءة سُنَّةٌ متَّبُعَة، ولا يرون أن يقرأْ أحد بما يجوز في العربية إِذَا لَمْ تَثْبُتْ رِوَايةٌ صحيحة. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) بكرة وغدوة إذا كانتا نكرتين نونَتَا وصُرِفَتَا، وإذا أرَدْتَ بهما بكرة يومك وغداة يومك لم تصرفهما، فـ (بكرة) ههنا نكرة، ولو كانت قرئت بكرةَ عَذَاب مستقر، وقرئت " نجيناهم بسَحَرَ نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا " كانتا جائزتين في العربية. يكون المعنى بكرةَ يومهم، وسَحَر يَوْمِهِمْ، ولكن النكرة والصرف أجود في هذه الآية، ولم تثبت رواية في أنه كان في يوم كذا من شهر كذا. * * * ْوقوله تعالى: (وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (37) راودَ قومُ لوط لوطاً عن ضيفه، وهم الملائكة، فأمر اللَّه - عزَّ وجلّ جبريل فسفق أعينهم بجناحيه سَفْقَةً، فأذهبها وَطَمَسَها، فبقوا في البيت عمياً حيارى. * * * وقوله عزَّ. وجلَّ: (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أي أكفاركم يا معشر العرب، ومن أرسل إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - (خيرٌ مِن أولائكم) أي الكفار الذين ذكرنا أقَاصِيصَهُمْ وَإِهْلَاكَهُمْ. (أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ). أي أم أتاكم في الكُتُبِ أنكم مبرَّأُونَ مِمَّا يُوجِبُ عِدَاءَكُمْ. * * * (أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) والمعنى بل أَيَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ، فيدلون بقوة واجتماع عليك،

(45)

ثم أعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أنه يهلِكُهُمْ في الجهة التي يقدرون الغلبة منها فقال: (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) فأعلم الله عزَّ وجلَّ - نبيَّه - عليه السلام - أنه يظهره عليهم ويجعل كلمته العلْيَا، فقال: (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ). فكانت هذه الهزيمةُ يوم بَدْرٍ (1). * * * ثم قال عزَّ وجلَّ: (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46) أي لَيْسَ مَا نَزَلَ بِهِمْ مِنَ الْقَتْلِ في يوم بدر والأسر بمخفف عنهم من عذاب الآخرة شيئاً، فقال: (وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ). أي أشَدُّ، وكل داهية فمعناها الأمر الشديد الذي لا يُهْتَدى لدوائه. ومعنى (وَأَمَرُّ) أشد مَرَارَةً من القتل والأسر. * * * وقوله: (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47) في التفسير إن هذه الآية نزلت في القَدَرِيَّةِ. * * * وقوله تعالى: (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) المعنى يقال لهم: (ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ). * * * (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) أي كل ما خلقنا فمقدورمكتوب في اللوح المحفوظ قبل وقوعه. ونصب " كُلَّ شَيْءٍ " بفعل مضمر، المعنى إنا خلقنا كل شيء خلقناه بِقَدَرٍ. ويدل على هذا (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) (مُسْتَطَرٌ) مفعول من السطر، المعنى كل صَغِيرْ من الذنوب وكبير مستطر مكتوب على فاعليه قبل أن يفعلوه، ومكتوب لهم وعليهم إذا فعلوه لِيجازَوْا عَلَى أفعالهم. * * * وقوله: (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ). المعنى وُيوَلُّونَ الأدْبَارَ، كما قال: (وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ).

_ (1) قال السَّمين: والعامَّةُ على «سَيُهْزَمُ» مبنياً للمفعول. «والجَمْعُ» مرفوعٌ به. وقُرِىء «ستَهْزِمُ» بفتح التاء خطاباً للرسول عليه السلام، «الجمعَ» مفعولٌ به، وأبو حيوة في روايةٍ ويعقوب «سَنَهْزِمُ» بنونِ المعظِّمِ نفسَه، و «الجمعَ» منصوبٌ أيضاً، ورُوِيَ عن أبي حيوة أيضاً وابن أبي عبلة «سَيَهْزِمُ» بياء الغَيْبة مبنياً للفاعل، «الجمعَ» منصوبٌ، أي: سَيَهْزِمُ اللهُ الجمعَ. «ويُوَلُّوْن» العامَّة على الغَيْبة. وأبو حيوة وأبو عمروٍ في روايةٍ «وتُوَلُّون» بتاء الخطاب، وهي واضحةٌ. والدُّبُرُ هنا: اسمُ جنسٍ. وحَسُنَ هنا لوقوعِه فاصلةً بخلافِ {لَيُوَلُّنَّ الأدبار} [الحشر: 12]. وقال الزمشخري: «أي: الأدبار، كما قال: 4166 كُلُوا في بَعْضِ بَطْنِكُمُ تَعِفُّوا. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وقُرىء» الإِدْبار «. قال الشيخ:» وليس مثل/ «بعضِ بَطْنكم» لأن الإِفراد هنا له مُحَسِّنٌ ولا مُحَسِّنٌ لإِفرادِ «بَطْنكم». اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(54)

وكذا المعنى في قوله: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) المعنى في جنات وأنهار والاسم الواحد يدل على الجميع فَيجْتَزأ بِهِ من الجميع. وأنشد سيبويه والخليل: بها جِيَف الحَسْرى فأمَّا عِظامُها. . . فَبيضٌ وأَمَّا جِلْدُها فَصَلِيبُ يريدون وأما جلودها. وأنشد: في حَلْقِكمْ عَظْمٌ وَقَدْ شجينا المعنى في حلوقكم عظام، وَكما قال: كُلُوا في بعض بَطْنِكُم تَعِفُّوا. . . فإنَّ زمانَكمْ زَمَنٌ خَمِيصُ المعنى كلوا في بعض بطونكم (1).

_ (1) قال السَّمين: قوله: {نَهَرٍ}: العامةُ بالإِفرادِ وهو اسمُ جنسٍ بدليل مقارنتِه للجمع، والهاء مفتوحةٌ كما هو الفصيح، وسَكَّنها مجاهد والأعرج وأبو السَّمَّال والفياض وهي لُغَيَّةٌ. وقد تقدَّم الكلامُ عليها أولَ البقرة. وقيل ليس المرادُ هنا نهرَ الماءِ، وإنما المرادُ به سَعَةُ الأرزاقِ لأنَّ المادةَ تَدُلُّ على ذلك كقول قيس بن الخطيم: / 4169 مَلَكْتُ بها كَفِّي فَأَنْهَرْتُ فَتْقَها. . . يَرى قائمٌ مِنْ دونِها ما وراءَها أي: وسَّعْتُ. وقرأ أبو نهيك وأبو مجلز والأعمش وزهير الفرقبي «ونُهُر» بضم النونِ والهاءِ، وهي تحتمل وجهين، أحدهما: أَنْ يكونَ جمعَ نَهَر بالتحريك وهو الأَوْلى نحو: أُسُد في أَسَد. والثاني: أن يكون جمعَ الساكنِ نحو: سُقُف في سَقْف ورُهُن في رَهْن، والجمع مناسِبٌ للجمع قبلَه في «جنات» وقراءةُ العامة بإفرادِه أَبْلَغُ وقد تقدَّم كلامُ ابن عباس في قوله تعالى آخر البقرة {وملائكته وَكُتُبِهِ} [البقرة: 285] بالإِفرادِ، وأنه أكثرُ مِنْ «الكتب». وتقدَّم أيضاً تقديرُ الزمخشري لذلك، فعليك. . . قوله تعالى {فِي مَقْعَدِ} يجوزُ أَنْ يكونَ خبراً ثانياً، وهو الظاهرُ وأَنْ يكون حالاً من الضمير في الجارِّ لوقوعِه خبراً. وجَوَّز أبو البقاء أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ قولِه «في جنات» وحينئذٍ يجوزُ أَنْ يكونَ بدلَ بعضٍ، لأن المقعدَ بعضُها، وأَنْ يكون اشتمالاً أنها مشتمِلَةٌ، والأولُ أظهرُ، والعامَّةُ على إفراد «مَقْعَد» مُراداً به الجنس كما تقدَّم في «نَهَر». وقرأ عثمان البتِّي «مقاعِدِ» وهو مناسبٌ للجمع قبلَه. ومَقْعَدُ صِدْقِ من بابِ رجلُ صدقٍ: في أنه يجوزُ أنْ يكون من إضافةِ الموصوف لصفتِه. والصدقُ يجوزُ أَنْ يُرادَ بهِ ضدُّ الكذبِ، أي: صُدِّقوا في الإِخبار به، وأَنْ يرادَ به الجَوْدَةُ والخيريَّةُ. و «مليك» مثلُ مبالغةٍ وهو مناسِبٌ هنا، ولا يُتَوهَّمُ أنَّ أصلَه مَلِك لأنه هو الوارِدُ في غيرِ موضعٍ، وأنَّ الكسرةَ أُشْبِعَتْ فتولَّد منها ياءٌ؛ لأنَّ الإِشباعَ لم يَرِدْ إلاَّ ضرورةً أو قليلاً، وإنْ كان قد وقع في قراءةِ هشام «أَفْئِيدَةً» في آخر إبراهيم، وهناك يطالعَ ما ذكَرْتُه فيه. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

سورة الرحمن

سُورَةُ الرَّحْمَنِ (مَكِّيَّة) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله عزَّ وجلَّ: (الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) (الرَّحْمَنُ) اسم من أسماء الله تعالى. لا يقال لغيره، وهو في الكتب المتقدمَة، ومعناه الكثير الرحمة. * * * وقوله: (عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) معناه يسَّرهُ لأن يذكر. * * * وقوله: (خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) قيل إنه يعني بالِإنسان ههنا النبي - صلى الله عليه وسلم - عَلَّمَهُ البَيَانَ. علمه القرآن الذي فيه بيان كل شيء. وقيل الإنسان ههنا آدم - صلى الله عليه وسلم -. ويجوز في اللغة أن يكون الِإنسان اسماً لجنس الناس جميعاً، ويكون على هذا المعنى عَلَّمَه البَيانَ جعله مميزاً حتى انفصل الِإنسان من جميع الحيوان. * * * وقوله تعالى: (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) مرفوعان بالابتداء. وقوله (بِحُسْبَانٍ) يَدُل عَلَى خبرِ الابتداء ويكون المعنى: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ يجريان بحسابٍ، وبكون أيْضاً معنى (بِحُسْبَانٍ) أنهما، يَدُلانِ على عدد الشهور والسنين وجميع الأوقات. * * * وقوله تعالى: (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6)

(7)

قال أهل اللغة وأكثر أهل التفسير: النجم كل ما نبت على وجه الأرض مما ليس له سَاق. والشَجَرُ كل ما له ساق، ومعنى سجودهما دوران الظل معهما كما قال: (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ). وقد قيل إنَّ النجم أيضاً يراد به النجوم. وهذا جائز أن يكون، لأن اللَّه - عزَّ وجلَّ - قد أعلمنا أن النجم يسجد، فقال: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ). ويجوز أن يكون النجم ههنا يعني به ما نبت على وجه الأرض وما طلع من نجوم السماء، يقال لكل ما طلع: قَدْ نَجَمَ. * * * وقوله: (وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) المعنى رفعها فوق الأرض وأمسكها أن تقع على الأرض، ووضع الميزان لينتصف بعض الناس من بعض. وقيل: الميزان ههنا العدل، لأن المعادَلةَ موازنة الأشياء. * * * وقوله: (أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) ألا يجاوزوا القدر والعدل. ويجوز (أَلَّا تَطْغَوْا) بمعنى اللام، " لأن ْ لَا تَطْغَوْا " وتكون (أَلَّا تَطْغَوْا) على النهي ومعنى " أن " التفسير. فيكون المعنى - واللَّه أعلم - ووضع الميزان أي لا تطغوا في الميزان. ويدل عليه المعطوف عليه وهو قوله: (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9) القراءة بضم التاء، وروى أهل اللغة: أَخْسَرْت المِيزَانَ وَخَسَرْتُ، فعلى

(10)

خَسَرت " ولا تَخْسِروا ". ولا تقرأنَّ بها إلا أن تثبت رواية صَحيحةٌ عن إمام في القراءة. وقد رُوِي أن إنساناً قرأ بها من المتقدمين ولكنه ليس مِمن أخذت عنه القراءة ولا له حرف يقرأ بِه. * * * وقوله: (وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10) الأنَامُ الِإنْسُ والجِنُّ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11) معنى (الأكمام) ما غَطَّى وكل شجرة تخرج ما هو مُكَمَّم فهي ذات أَكمام وأَكمامُ النخلة ما غَطى جُمّارَها من السَّعَف والليف والجِذْع وكلُّ ما أَخرجته النخلة فهو ذو أَكمام فالطَّلْعة كُمُّها قشرها ومن هذا قيل للقَلَنْسُوة كُمَّة لأنها تُغَطِّي الرأْس ومن هذا كُمّا القميص لأنهما يغطيان اليدين. * * * وقوله عزَّ وجل: (وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12) ويقرأ والريحانَ، وأكثر القراءة (والريْحَانُ). والعصف ورق الزرع ويقال التِّبْن هو العصْفُ، ويقال العَصْفَة (1) قال الشاعر. تَسْقي مَذانِبَ قد مَالَتْ عَصِيفتُها. . . جُدُورُها من أَتِيِّ الماء مَطْمُومُ ويروى بأتِيَ الماء. ومعنى (ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ) ذو الورق [والرِّزقُ]، العرب تقول: سبْحَانَ اللَّه وَرَيْحانه. قال أهل اللغة: معناه واسترزاقه، قال النمر بن تولب. سلام الإِله وريحانه. . . ورحمته وسماء درر قال: معنى ريحانه رزقه لمن قرأ، (والريْحَانِ) عطف على العصف، ومن

_ (1) قال السَّمين: قوله: {والحب ذُو العصف والريحان}: قرأ ابنُ عامر بنصب الثلاثة. وفيه ثلاثةُ أوجهٍ: النصبُ على الاختصاص، أي: وأخُصُّ الحبَّ، قاله الزمخشري. وفيه نظرٌ؛ لأنه لم يَدْخُلْ في مُسَمَّى الفاكهة والنخل حتى يَخُصَّه مِنْ بَيْنِها، وإنما أراد إضمارَ فعلٍ وهو أَخَصُّ، فليس هو الاختصاصَ الصناعيَّ. الثاني: أنَّه معطوفٌ على الأرض. قال مكي: «لأنَّ قولَه» والأرضَ وَضَعَها «، أي: خلقها، فعطف» الحَبَّ «على ذلك». الثالث: أنَّه منصوبٌ ب «خَلَق» مضمراً، أي: وخلق الحَبَّ. قال مكي: «أو وخَلَقَ الحَبَّ» وقرأ به موافقةً لرَسْم مصاحِف بلده، فإنَّ مصاحفَ الشامِ «ذا» بالألف. وجَوَّزوا في «الرَّيْحان» أن يكونَ على حَذْفِ مضافٍ، أي: وذا الريحان فحُذِفَ/ المضافُ، وأٌقيم المضافُ إليه مُقامَه ك {وَسْئَلِ القرية} [يوسف: 82]. وقرأ الأخَوان برفع الأَوَّلين وجَرِّ «الرَّيْحان» عطفاً على «العَصْفِ»، وهي تؤيِّدُ قولَ مَنْ حذفَ المضافَ في قراءةِ ابنِ عامرٍ. والباقون برفع الثلاثةِ عطفاً على فاكهة، أي: وفيها أيضاً هذه الأشياءُ. ذكر أولاًّ ما يتلذَّذُون به من الفواكه، وثانياً الشيءَ الجامعَ بين التلذُّذِ والتغذِّي وهو ثَمَرُ النَخْلِ، وثالثاً ما يَتَغَذَّى به فقط، وهو أعظمُها، لأنه قُوْتُ غالبِ الناسِ. ويجوز في الرَّيْحان على هذه القراءةِ أَنْ يكونَ معطوفاً على ما قبلَه، أي: وفيها الرَّيْحانُ أيضاً، وأَنْ يكونَ مجروراً بالإِضافةِ في الأصلِ، أي: وذو الرَّيحْان ففُعِلَ به ما تقدَّم. والعَصْفُ: وَرَقُ الزَّرْعِ. وقيل: التِّبْنُ. وأصلُه كما قال الراغب: مِن «العَصْفِ والعَصِيْفة وهو ما يُعْصَفُ، أي: يُقْطَعُ من الزَرْع» وقيل: هو حُطامُ النباتِ. والريحُ العاصف: التي تكسِرُ ما تمرُّ عليه وقد مَرَّ ذلك. والرَّيْحان في الأصل: مصدرٌ ثم أُطْلِقَ على الرزق كقولهم: «سُبْحانَ الله ورَيْحَانَه»، أي: استِرْزاقُه وقيل: الرَّيْحان هنا هو المَشْمومُ. وفي الرَّيْحان قولان، أحدُهما: أنه على فَعْلان كاللَّيَّان مِنْ ذواتِ الواوِ. والأصلُ: رَوْحان. قال أبو علي: «فأُبْدِلَتْ الواوُ ياءً، كما أَبْدَلوا الياءَ واواً في» أَشاوى «. والثاني: أن يكون أصلُه رَيْوِحان، على وزن فَيْعِلان، فأُبْدِلَتِ الواوُ ياءً، وأُدْغِمَتْ فيها الياءُ، ثم خُفِّفَ بحَذْفِ عينِ الكلمةِ كما قالوا: كَيْنُوْنة وبَيْنُونة. والأصلُ تشديدُ الياءِ فخفِّفَتْ كما خُفِّف هَين ومَيْت. قال مكي:» ولَزِم تَخْفِيْفُه لطولِه بلَحاق الزيادتَيْنِ «. ثم رَدَّ قولَ الفارسيِّ بأنه لا مُوْجبَ لقَلْبِها ياءً ثم قال:» وقال بعضُ الناسِ «فذكَر ما قَدَّمْتُه عن أبي علي إلى آخره. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(13)

قرأ: (والريْحَانُ) عطف على (الْحَبُّ) ويكون المعنى فيهما فاكهة فيهما الحب ذو العصف وفيهما الريحان، فيكون الريحان ههنا الريحان الذي يشم، ويكون أيضاً ههنا الرزق. فذكر اللَّه - عزَّ وجلَّ - في هذه السورة ما يدل على وحدانيته من خلق الِإنسان وتعليم البيان ومن خلق الشمسِ والقمر والسماء والأرض ثم خاطب الِإنس والجن فقال: * * * (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13) أي: فَبِأَيِّ نِعَمِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ من هذه الأشياء المذكورة، لأنها كلها منعم بها عليكم في دلالتها إياكم على وحدانيته وفي رزقه إياكم ما به قوامكم والوصلة إلى حياتكم، والآلاء واحدها أَلَى وَإِلْيٌ (1)، وكل ما في السورة من قوله (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) فمعناه على ما فسَّرْناه، فَبِأَيِّ نِعَمِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (1). * * * قوله عزَّ وجلَّ: (خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وقال في موضع آخر: (إنَا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ) وقال: (مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) وقال: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ). وهذه الألفاظ التي قال الله عزَّ وجلَّ إنه خلق الِإنسان منها مختلفة اللفظ وهي في المعنى راجعة إلى أصل وَاحدٍ. فأصل الطين التراب. فأعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أنه خلق آدم من تراب جُعِلَ طيناً ثم انتقل فصار كالْحمَأ ثم انتقل فصار صَلْصَالًا كالْفَخار، والصلصال اليابس، فهذا كله أصله التراب وليس فيه شيء ينقض بعضه بعضاًء وإنما شرحنا هذا لأن قوماً من

_ (1) قال السَّمين: قوله: {آلآءَ الله} أي نِعَمه، وهو جمعٌ مفردُه» إلْيٌ «بكسر الهمزة وسكونِ اللام كحِمْل وأحمال، أو» أُلْي «بضم الهمزة وسكون اللام كقُفل وأقفال، أو» إلَى «بكسرِ الهمزة وفتح اللام كضِلَع وأضلاع وعِنب وأعناب، أو» أَلَى «بفتحها كقفا وأقفاء، قال الأعشى: 2228. . . أبيضُ لا يَرْهَبُ الهُزال ولا يقطعُ رَحْمي ولا يَخُونُ إلى. . . يُنشد بكسر الهمزة وهو المشهور وبفتحها ومثله» الآناء «جمع إنْي أو أُنْي أو إنَى أو أَنَى. وقال الأخفش:» إنْوٌ «. والآناء: الأوقات كقوله: {وَمِنْ آنَآءِ الليل} [طه: 130]. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(15)

الملحدين يسألون عن مثل هذا ليُلْبِسُوا على الضعفة، فأعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - من أي شيء خلق أبا الإنس جميعاً آدم عليه السلام، وأعلم من أي شي: خلق أصل الجنِّ فقال: (وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15) والمارج اللهب المختلط بسواد النَّار. * * * وقوله - عزَّ وجلَّ -: (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) يعنى به مشرقَي الشمس وكذلك القمر، ومغربي الشمس والقَمَر، فأحَدُ المشرقين مشرق الشتاء والآخر مشرق الصيف، وكذلك المغربان. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) معناه على الأرض. * * * قوله: (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31) يعني بالثقلين الِإنس والجن. ويجوز ُ (سَنَفْرَغُ لَكُمْ) بفتح الراء. ويجوز (سَيَفْرُغُ) - بفتح الياء - ويجوز (سَيُفْرَغ لكم) - بضم الياء وفتح الراء - ومعناه سنقصد لِحِسَابِكُمْ، واللَّه لا يَشْغَلُه شأن عن شأن. والفراغ في اللغة على ضربين: أحدهما الفراغ من شُغلٍ والآخر القصد للشيء، تقول: قد فرغت مما كنت فيه. أي قد زال شغلي به، وتقول: سَأتَفَرغ لفلانٍ، أي سأجْعَلُ قَصْدِي له (1). * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33) والأقطار النَواحي. (لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ). أي حيثما كنتم شاهدتم حجةً لِلَّهِ وسلطاناً تدل على أنه واحدٌ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35) ويقرأ (ونحاسٍ) - بكسر السين - والنحاس الدُّخان، والشواظ اللهب الذي لا دُخَانَ معه.

_ (1) قال السَّمين: قوله: {سَنَفْرُغُ}: قرأ سَيَفْرُغُ بالياءِ الأخَوان أي: سَيَفْرُغُ اللَّهُ تعالى. والباقون من السبعة بنون العظمة، والراءُ مضمومةٌ في القراءتَيْن، وهي اللغةُ الفُصْحى لغة الحجازِ. وقرأها مفتوحة الراء مع النونِ الأعرجُ، وتحتمل وجهَيْن، أحدهما: أَنْ تكونْ مِنْ فَزَغَ بفتحِ الراء في الماضي، وفُتِحت في المضارع لأَجْلِ حرفِ الحَلْقِ. والثاني: أنه سُمِعَ فيه فَرِغَ بكسرِ العينِ، فيكون هذا مضارعه/ وهذه لغةُ تميمٍ. وعيسى بن عمر وأبو السَّمَّال «سَنِفْرَغُ» بكسر حرفِ المضارعةِ وفتحِ الراءِ. وتوجيهُها واضحٌ مِمَّا تقدَّم في الفاتحة قال أبو حاتم: «وهي لُغَةُ سُفْلى مُضَرَ. والأعمش وأبو حيوةَ وإبراهيمُ» سَنِفْرَغُ «بضم الياء مِنْ تحتُ مبنياً للمفعولِ. وعيسى أيضاً بفتح نونِ العظمةِ وكسرِ الراء. والأعرجُ أيضاً بفتح الياء والراء. ورُوي عن أبي عمروٍ. وقد تقدَّم قراءةُ» أيها «في النور. والفَراغُ هنا استعارةٌ. وقيل: هو القَصْدُ. وأُنْشِد لجرير: 4176 ألانَ وقد فَرَغْتُ إلى نُمَيْرٍ. . . فهذا حينَ كُنْتُ لهمُ عَذاباً وأنشد الزجاج: 4177. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . فَرَغْتُ إلى العبدِ المقيَّدِ في الحِجْلِ ويَدُلُّ عليه قراءةُ أُبَيّ» سَنَفْرُغُ إليكم «أي: سَنَقْصِدُ إليكم. والثَّقَلان: الجن والإِنس لأنهما ثَقَلا الأرضِ. وقيل: لثِقَلِهم بالذنوب. وقيل: الثَّقَلُ: الإِنسُ لشَرَفَهم. وسُمِّيَ الجنُّ بذلك مجازاً للمجاورة. والثَّقَل. العظيم الشريف. وفي الحديث:» إني تاركٌ فيكم ثَقَلَيْن كتابَ الله وعِتْرتي « اهـ (الدُّرُّ المصُون).

وقوله عزَّ وجلَّ: (مَرَجَ البَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ). معنى مرج خلط، يعني البحر الملح والبحر العذب. وقوله تعالى: (بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يبغِيَانِ). البرزخ الحاجز، وهو حاجز من قدرة اللَّه، لا يبغيان لا يَبْغي الملح على العذب فيختلط به، ولا العذب على الملح فيختلط به. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22) (المرجان) صغار اللؤلؤ، واللؤلؤ اسم جامع للحَبِّ الذي يخرج من البحر. وقال (يَخْرُجُ مِنْهُمَا) وإنما يخرج من البحر الملح لأنه قد ذكرهما وَجَمَعَهُمَا، فإذا خرج من أحدهما فقد خرج منهما، ومثل ذلك قوله عزَّ وجلَّ: (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16). والشمس في السماء الدنْيَا إلَّا أنه لما أجمل ذكر السبع كان ما في إحداهن فِيهِنَ، ويقرأ: (يُخْرَجُ مِنْهُمَا) بضم الياء. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَئَاتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (24) الجواري الوقف عليها بالياء، وإنما سقطت الياء في اللفظ لسكون اللام. والاختيار وصلها، وإن وقف عليها واقف بغير ياء فذلك جائز على بعد. ولكن يروم الكسر في الراء ليدل على حذف الياء. ويقرأ " المُنْشِآت " - بكسر الشين - والفتح أجود في الشين. ومعنى المنشئآت المرفوعات الشُّرُع. والمنشِئَات على معنى الحاملات الرافعات الشرع، ومعنى كالأعلام كالجبال، قال الشاعر:

(37)

إذا قطعن عَلَمَاً بدا علم والجواري السُفُن. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37) معنى (وَرْدَةً) صارت كلون الورد، وذلك في يوم القيامة. ومعنى (كَالدِّهَانِ) تتلون من الفزع الأكبر تَلَوْن الدهان المختلفة. والدِّهَان جمع دُهْنٍ، ودليل ذلِك قَوله (يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ) أي كالزيت الذي قد أُغْلِيَ. وقيل (فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ) أي فكانت كلون فرسٍ وردَةٍ. والكَمِيتُ الوردُ يتلون فيكون في الشتاء لونه خلاف لونه في الصيف. ويكون في الفصل لونه غير لونه في الشتاء والصيف. * * * (فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39) وقال في موضع آخر (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24) فإذا كان ذلك اليوم كانت سيما المجرمين سواد الوجه والزرقة. ودليل ذلك قوله: (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ) أي بعلامتهم هذه، ودليل ذلك قوله: (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ)، وقوله: (وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102).

(41)

وقوله: (فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41) قيل تجعل الأقدام مضمومة إلى النواصي من خلف ويلقون في النار. وذلك أشد لعذابهم، والتشويه بهم. * * * وقوله: (هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍءَانٍ (44) يعني (آنٍ). قد أنى يأنى فهو آنٍ إذا انتهى في النضج والحرارة، فإذا استغاثوا من النار جعل غياثهم الحميم الآني الذي قد صار كالمهل، فيطاف بهم مرَّةً إلى الحميم ومرة إلى النار. أسْتَجِيرُ باللَّه وبرحمته منها. ثم أعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - ما لمن اتقاه وخافه فقال: * * * (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) قيل من أراد معصية فذكر ما عليه فيها فتركها خوفاً من اللَّه - عزَّ وجلََّّ - ورهبةَ عِقَابه ورجاء ثوابه فله جنتانِ. ثم وصفهما فقال: * * * (ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48) والأفنان جمع فَنٍّ، أي له فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعْيُن من كل فَنٍّ، والأفنان الألْوانُ، والأفنان الأغصَانُ، واحدها فنَن، وهو أجود الوجهين (1). * * * وقوله عزَّ وجلََّّ: (فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52) الزوجان النوعان. * * * وقوله: (فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56) معناه فيهن حورٌ قاصرات الطرف، قد قَصَرْنَ طرفَهُنَّ على أزوَاجِهِنَ لا ينظرن إلى غيرهم. * * * (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ). لَمْ يَمْسَسْهُنَّ. ويقرأ " لَمْ يَطْمُثْهُنَّ "، وهي في القراءة قليلة، وفي اللغة

_ قال في اللسان: وقال عكرمة في قوله تعالى (ذَواتَا أَفْنانٍ) قال ظِلُّ الأغصانِ على الحِيطانِ وقال أَبو الهيثم فسره بعضهم ذَواتا أغصانٍ وفسره بعضهم ذواتا أَلوان واحدها حينئذ فَنّ وفَنَنٌ كما قالوا سَنٌّ وسَنَنٌ وعَنٌّ وعَنَنٌ قال أَبو منصور واحدُ الأَفنان إذا أَردت بها الأَلوان فَنٌّ وإذا أردْتَ بها الأغصان فواحدها فَنَنٌ أَبو عمرو شجرة فَنْواء ذات أَفنان قال أبو عبيد وكان ينبغي في التقدير فَنَّاء ثعلب شجرة فَنَّاء وفَنْواء ذات أَفْنانٍ وأَما قَنْواء بالقاف فهي الطويلة قال أَبو الهيثم الفُنُون تكون في الأغصان والأغصان تكون في الشُّعَبِ والشُّعَبُ تكون في السُّوق وتسمى هذه الفُروعُ يعني فروعَ الشجر الشَّذَبَ والشَّذَبُ العِيدانُ التي تكون في الفُنون ويقال للجِذعِ إذا قطع عند الشَّذَب جِذْعٌ مُشَذَّبٌ قال امرؤ القيس يُرادَا على مِرْقاةِ جِذْعٍ مُشَذَّبِ يُرادا أي يُدارا يقال رادَيْتُه ودارَيْتُه والفَنَنُ الفَرْع من الشجر والجمع كالجمع وفي حديث سِدْرة المُنْتَهَى يسير الراكب في ظِلِّ الفَنَنِ مائةَ سَنةٍ وامرأَة فَنْواء كثيرة الشعر والقياس في كل ذلك فَنَّاء وشعَر فَيْنان قال سيبويه معناه أَن له فنوناً كأَفنانِ الشجر ولذلك صرف ورجل فَيْنان وامرأَة فَينانة قال ابن سيده وهذا هو القياس لأَن المذكر فَيْنان مصروف مشتق من أَفنان الشجر وحكي ابن الأَعرابي امرأَة فَيْنَى كثيرة الشعر مقصور قال فإن كان هذا كما حكاه فحكم فَيْنان أن لا ينصرف قال وأُرى ذلك وهَماً من ابن الأَعرابي وفي الحديث أَهلُ الجنة مُرْدٌ مُكَحَّلون أُولو أَفانِين يريد أُولو شُعور وجُمَم وأَفانِينُ جمع أَفنان وأَفنانٌ جمع فَنَنٍ وهو الخُصلة من الشعر شبه بالغصن قال الشاعر يَنْفُضْنَ أَفنانَ السَّبيبِ والعُذَرْ يصف الخيلَ ونَفْضَها خُصَل شعر نواصيها وأَذنابها وقال المَرَّار أَعَلاقَةً أُمَّ الوُلَيِّد بعدَما أَفْنانُ رأْسِك كالثَّغام المُخْلِسِ؟ يعني خُصَلَ جُمَّة رأْسِه حين شاب أَبو زيد الفَينان الشعر الطويل الحسَنُ قال أَبو منصور فَيْنانٌ فَيعال من الفَنَن والياء زائدة التهذيب وإن أَخذت قولهم شعر فَيْنانٌ من الفَنَن وهو الغصن صرفته في حالي النكرة والمعرفة وإن أَخذته من الفَيْنة وهو الوقت من الزمان أَلحقته بباب فَعْلان وفَعْلانة فصرفته في النكرة ولم تصرفه في المعرفة وفي الحديث جاءَت امرأَةٌ تشكو زوجَها فقال النبي صلى الله عليه وسلم تُرِيدينَ أن تزَوَّجِي ذا جُمَّةٍ فَينانة على كل خُصلة منها شيطان الشعر الفَيْنانُ الطويل الحسن والياء زائدة ويقال فَنَّنَ فلانٌ رأْيه إذا لَوَّنه ولم يثبت على رأْي واحد والأَفانِينُ الأَساليب وهي أَجناس الكلام وطُرُقه ورجل مُتفَنِّنٌ أي ذو فُنون وتَفنَّنَ اضطرب كالفَنَن وقال بعضهم تَفنَّن اضطرب ولم يَشْتقَّه من الفَنن والأَول أَولى قال لو أَن عُوداً سَمْهَريّاً من قَنا أو من جِيادِ الأَرْزَناتِ أَرْزَنا لاقى الذي لاقَيْتُه تَفنَّنا والأُفْنونُ الحية وقيل العجوز وقيل العجوز المُسِنَّة وقيل الداهية وأَنشد ابن بري لابن أَحمر في الأُفْنون العجوز شَيْخٌ شآمٍ وأُفْنونٌ يَمانِيةٌ من دُونِها الهَوْلُ والمَوْماة والعِلَلُ وقال الأَصمعي الأُفْنون من التَّفَنُّن قال ابن بري وبيت ابن أَحمر شاهد لقول الأَصمعي وقولُ يعقوب إنَّ الأُفْنون العجوز بعِيدٌ جدّاً لأَنَّ ابنَ أَحمر قد ذكر قبل هذا البيت ما يَشْهَد بأَنها محبوبته وقد حال بينه وبينها القَفْرُ والعِلل والأُفْنون من الغُصن المُلتفُّ والأُفنون الجَرْيُ المختلط من جَرْي الفرس والناقة والأُفنون الكلام المُثبَّجُ من كلام الهِلْباجة وأُفْنون اسم امرأَة وهو أَيضاً اسم شاعرسمي بأَحد هذه الأَشياء والمُفَنَّنة من النساء الكبيرة السيئة الخُلُق ورجل مُفَنَّنٌ كذلك والتَّفْنِينُ فِعْلُ الثَّوْب إذا بَلِيَ فتفَزَّرَ بعضهُ من بعض وفي المحكم التَّفْنِينُ تفَزُّر الثوب إذا بَليَ من غير تشقق شديد وقيل هو اختلاف عمَله برِقَّة في مكان وكثافة في آخر وبه فسرابن الأَعرابي قول أَبانَ بن عثمان مَثَلُ اللَّحْن في الرجل السَّريِّ ذي الهيئة كالتَّفنِين في الثوب الجيِّد وثوب مُفَنَّنٌ مختلف ابن الأَعرابي التَّفْنِينُ البُقعة السَّخيفة السَّمِجة الرقيقة في الثوب الصفيق وهو عيب والسَّريُّ الشريف النفيس من الناس والعربُ تقول كنتُ بحال كذا وكذا فَنَّةً من الدهر وفَيْنةً من الدهر وضَرْبة من الدهر أي طرَفاً من الدهر والفَنِينُ وَرَمٌ في الإبط ووجع. اهـ (لسان العرب. 13/ 326).

(58)

طَمَثَ يطمِثُ ويطمُثُ. وفي هذه الآية دليل على أن الجني يغشى، كما أن الِإنسى يغشى (1). * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58) قال أهل التفسير وأهل اللغة: هن في صفاء الياقوت وبياض المرجان والمرجان صغار اللؤلؤ وهو أشد بياضاً. وقوله: (فِيهنَّ) وإنما ذكر جنَّتَين يعني من هاتين الجنتين وما أعد لصاحب هذه القصة غير هاتين الجنَّتَين. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60) أي ما جزاء من أحسن في الدنيا إلا أن يُحْسَنَ إليه في الآخرةِ. * * * وقوله - عزَّ وجلَّ: (وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62) أي لمن خاف مقام ربه جنتان وله من دونهما جَنَّتان. والجنة في لغة العرب البستان. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (مُدْهَامَّتَانِ (64) يعني أنهما خَضْراوَانِ تضرب خضرتهما إلى السَّواد، وكل نبت أخضَر فتمام خضرته ورِيِّه أن يضرب إلى السَّوَادِ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66) جاء في التفسير أنهما ينضخان كُلً خَير. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) قال قوم: إن النخل والرَّمَّان ليسا من الفاكهة. وقال بعض أهل اللغَةِ، منهم يونس النحوي، وهو يتلو الخليل في القدم والحذق: إن الرَّمَّان والنخل من أفضل الفاكهة، وإنما فُصِلاَ بالواو لفضلهما، واستشهد في ذلك بقوله تعالى: (مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ). فقال لفضلهما فصِلَا بالواو

_ أي: يغشى المرأة قال ابن الجوزي: وفي الآية دليل على أن الجِنِّيَّ يَغْشَى المرأة كالإنسيِّ. اهـ (زاد المسير. 8/ 122).

(70)

قوله عزَّ وجلَّ: (مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54) قيل الإستبرق الديباج الصفيق جدًّا نحو ما يعمل للكعبة والبطائن ما يلي الأرض. وقوله: (وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ). أي ما يجنى من ثمرهما إذا أرادوه دنا من أفواههم حتى يتناوَلوه بإفواههم وأيديهم. * * * وقوله: (فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70) أصْلُه في اللغَة خَيِّرات، والمعنى أنَّهن خَيرات الأخلاق حسان الخلق. وقد قرئ بها - أعني بتشديد الياء. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72) الخيام في لغَةِ العَرَبِ جَمْع خَيْمَةٍ. والخيام شيئانِ: الخيام الهوادج والخيام البيوت. وجاء في التفسير أن الخيمة من هذه الخيام من دُرَّةٍ مجَوَّفَةٍ. ومعنى (مَقْصُورَاتٌ) مُخَدَّرات، قد قصرن على أزْوَاجِهِنَّ. * * * وقوله: (مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76) وقرئت (على رَفَارفَ خُضْرٍ وعَبَاقِرَيَّ حِسَانٍ) (1). القراءة هي الأولى، وهذه القراءة لا مخرج لها في العربية، لأن الجمع الذي بعد ألفه حرفان نحو مساجد ومفاتيح لا يكون فيه مثل عباقري لأن ما جاوز الثلاثة لا يجمع بياء النسب. لو جمعت " عبقري " كان جمعه

_ (1) قال السَّمين: قوله: {رَفْرَفٍ}: الرَّفْرَفُ جمع رَفْرَفَة فهو اسمُ جنسٍ. وقيل: بل هو اسمُ جمعٍ، نقلهما معاً مكيٌّ، وهي ما تَدَلَّى من الأسِرَّة مِنْ عالي الثياب. وقال الجوهريُّ: «ثيابٌ خُضْرٌ يُتَّخَذُ منها المجالِسُ، الواحدةُ رَفْرَفة» واشتقاقُه مِنْ رَفَّ الطائرُ: أي: ارتفع في الهواء. ورَفْرَفَ بجناحَيْه: إذا نَشَرهما للطيران ورَفْرَفُ السَّحابِ هُبوبُه، ويَدُلُّ على كونه جمعاً وصفُه بالجمع. وقال الراغب: «رفيفُ الشجر: انتشارُ أغصانِه. ورَفَّ الطائرُ: نَشَرَ جناحَه يَرِفُّ بالكسرِ. ورَفَّ فَرْخَه يَرُفُّه بالضم تَفَقَّده، ثم اسْتُعير للتفَقُّدِ. ومنه» ماله حافٌّ ولا رافٌّ «، أي: مالَه مَنْ يَحُفُّه ويتفقَّدُه. والرَّفْرَفُ: المنتشِرُ من الأوراقِ. وقولُه {على رَفْرَفٍ خُضْرٍ}: ضَرْبٌ من الثياب مُشَبَّه بالرياض. وقيل: الرَّفْرَفُ طرفُ الفُسْطاطِ والخِباءِ الواقعِ على الأرض دونَ الأَطنْابِ والأوتادِ. وذكر الحسن أنه المَخادُّ» انتهى. وقال ابن جُبير: «رياضُ الجنَّة، مِنْ رَفَّ البيتُ إذا تَنَعَّمَ وحَسُن. وعن ابن عُيَيْنة هي الزَّرابِيُّ. ونُعِت هنا بخُضْر لأنَّ اسمَ الجنسِ يُنْعَتُ بالجمعِ كقولِه: {والنخل بَاسِقَاتٍ} [ق: 10] وبالمفرِد. وحَسَّنَ جَمْعَه هنا جَمْعُ حِسان. وقرأ العامَّةُ» رَفْرَفٍ «وقرأ عثمان بن عفان ونصر ابن عاصم وعاصم والجحدري والفرقبي وغيرهم» رَفارِفَ خُضْرٍ «بالجمع وسكونِ الضاد. وعنهم أيضاً» خُضُرٍ «بضم الضاد وهو إتباعٌ للخاء. وقيل: هي لغةٌ في جمع أَفْعَلَ الصفةِ. وأُنْشد لطرفة: 4198 أيها الفتيانُ في مَجْلِسِنا. . . جَرِّدُوا منها وِراداً وشُقُرْ وقال آخر: 4199 وما انْتَمَيْتُ إلى خُوْرٍ ولا كُسُف. . . ولا لئامٍ غداةَ الرَّوْع أَوْزاعِ وقرؤوا» عباقِرِيَّ «بكسر القاف وفتحِها وتشديدِ الياءِ متوحةً/ على مَنْعِ الصرفِ. وهي مُشْكِلَةٌ؛ إذ لا مانعَ من تنوينِ ياءَيْ النسَبِ، وكأنَّ هذا القارىءَ تَوَهَّمَ كَوْنَها في مَفاعِل فمنعَها من الصرفِ. وقد رَوَى عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وجماعةٍ» وعباقِرِيٍّ «منوناً ابنُ خالويه ورُوِي عن عاصمٍ» رَفارِفٍ «بالصرف. وقد يُقال في مَنْ مَنَعَ» عباقِرِيَّ «إنَّه لما جاوزَ» رفارِفَ «الممتنعَ امتنع مُشاكلةً. وفي مَنْ صَرَفَ رفارِفَ: إنَّه لما جاوَزَ عباقِريَّاً المنصرفَ صَرَفَه للتناسُب ك {سَلاسلاً وأَغْلالاً} [الإِنسان: 4] كما سيأتي. وقرأ أبو محمد المروزي وكان نَحْوياً» خَضَّارٍ «كضَرَّاب بالتشديد. وأَفْعَلُ وفَعَّالٌ لا يُعْرَفُ. والجمهورُ» وعَبْقِرِيٍّ «منسوب إلى عَبْقَر، تَزْعُم العربُ أنه بلدُ الجن فكلُّ ما عَظَّموه وتعجَّبوا منه قالوا: هذا عَبْقريٌّ. وفي الحديث:» فلم أرَ عَبْقَريَّاً يَفْري فَرِيَّه «والمرادُ به هنا قيل: البُسُط التي فيها صُوَرٌ وتماثيلُ. وقيل: هي الزَّرابِيُّ. وقيل: الطَّنافِسُ. وقيل: الدِّيباج. وعَبْقريّ جمع عَبْقَريَّة، يعني فيكونُ اسمَ جنسٍ، كما تقدَّم في رَفْرفَ. وقيل: هو واحدٌ دالٌّ على الجمع، ولذلك وُصِف بحسان. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(77)

عباقرة، كما أنك لو جمعت " مُهَلَّبِيّ " كان جمعه مَهَالِبَة، ولم يقل مَهَالِبيّ، فإن قال قَائِل: فمن أين جاز عبقَريَ حِسَانٌ، و " عَبْقَري " واحد، وحسان جمع؟ فالأصل أن واحده عبقريَّةٌ، والجمع عبقري، كما تقول ثَمَرَةَ وثَمَر ولوزَةٌ ولوْزٌ. ويكون أيضاً عبقري اسماً للجنس، فالقراءة هي الأولى. وأما تفسير (رَفْرَفٍ خُضْرٍ وعَبْقَرِيٍّ) فقالوا: الرَّفْرَفُ ههنا رياض الجنَّةِ وقالوا: الرفرف الوسائد، وقالوا المحابس، وقالوا أيضاً فضول المحابس للفرش. فأما العبقري، فقالوا: البُسُط، وقالوا: الطنافِسُ المبْسُوطَةُ والذي يدل على هذا من القرآن قوله: (وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16). فالنمارق الوسائد، والزرابى البسط. فمعنى " رفرف " ههنا، و " عَبْقَرِيْ " أنه الوسائد والبُسط. ويدل - واللَّه أعلم - على أن الوسائد ذوات رَفْرَفَ. وأصل العبقري في اللغة صفة لكل ما بولغ في وصفه، وأصله أن عبقر اسم بلد كان يوَشَّى فيه البسط وغيرها، فنسب كل شيء جيد، وكل ما بولغ في وصفه إلى عبقر. قال زهير: بِخَيْلٍ عليها جِنَّةٌ عَبْقَريةٌ. . . جَديرون يوماً أَن يَنالوا فيَسْتَعْلُوا * * * وقوله: (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (77) أي: فَبِأَيِّ نعم رَبِّكما التي عددت عليكما يا معشر الجن والِإنس تكذبان. فإنما ينبغي أن يعظِّما الله ويمجداه، فختم السورة بما ينبغي أن يمجَّدَ به - عزَّ وجلَّ - ويُعظَّم - فقال عزَّ وجلَّ: (تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78). (1)

_ (1) قال ابن الجوزي: قوله تعالى: {تبارك اسمُ ربِّكَ} فيه قولان. أحدهما: أن ذِكْر «الاسم» صِلَة، والمعنى: تبارك ربُّك. والثاني: أنه أصل. قال ابن الأنباري: المعنى: تفاعل من البَرَكة، أي: البَرَكة تُنال وتُكْتَسَب بذِكْر اسمه. وقد بيَّنّا معنى «تبارك» في [الأعراف: 54]، وذكرنا في هذه السورة معنى {ذي الجلال والإكرام} [الرحمن: 27]، وكان ابن عامر يقرأ: «ذو الجلال» وكذلك هي في مصاحف أهل الشام؛ والباقون: «ذي الجلال» وكذلك هي في مصاحف أهل الحجاز والعراق، وهم متفقون على الموضع الأول أنه «ذو». اهـ (زاد المسير. 8/ 129).

سورة الواقعة

سُورَةُ الواقعة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله عزَّ وجلَّ: (إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) يقال لكل آت كان يتوقع قد وَقَعَ، تقول: قد وقع الأمر. كقولك قد جاء الأمر. والواقعة ههنا الساعة والقيامة. * * * وقوله: (خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3) المعنى أنها تخفض أهل المعاصي، وترفع أهل الطاعة. و (خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ) القراءة بالرفع، والنصبُ جائز ولم يقرأ به إمام من القراءَ، وقد رويت عن الزِيدي صاحب أبي عمرو ابن العلاء، فمن رفع وهو الوجه. فالمعنى هي خافضة رافعة ومن نصب فعلى وجهين: أحدهما " إذا وقعت الواقعة خافِضَةً رافِعةً " على الحال ويجوز على إضمار " تقع " ويكون المعنى إذا وقعت تقع خافضة رافعة - على الحال من تقع المضمر. * * * وقوله - عزَّ وجلَّ -: (لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) أي لا يردها شيء كما تقول: قَدْ حَمَلَ فُلان لا يُكَذَبُ، أي لايرد حَمْلَته شيء و" كَاذِبَة " مصدر كقولك [عافاه] الله عافية وعَاقَبَهُ عاقبة، وكذلك كذب كاذبة، وهذه أسماء في مَوْضِعِ المَصَادِرِ. * * * وقوله: (إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4)

(5)

موضع " إذا " نصب. المعنى إذا وقعت في ذلك الوقت. ويجوز النَصْب على " تقع " (إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا). ومعنى (رُجَّتِ) حركت حركة شديدة وزلزلتْ. * * * (وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) (بُسَّتِ) لُتَّت وخُلِطتْ، و (بُسَّتِ) أيضاً سابتْ. * * * (فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6) غباراً، ومثله (وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا). ومثل خُلِطتْ ولُتَّت قول الشاعر: لا تَخْبِزوا خَبْزاً وبُسَّا بَسَّا. . . ومثل [سابت وانسابتْ] قوله: وانْبَسَّ حَيَّاتُ الكَثِيبِ الأَهْيَلِ * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) أي أصنافاً ثلاثة، يقال للأصناف التي بعضها مع بعض أزواج كما يقال للخفين زوجان. * * * وقوله.: (فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) رفع بالابتداء. والمعنى وأصحاب الميمنة ما هم، أي شيء هُمْ (وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) أي شيء هم. وهذا اللفظ مجراه في العربية مجرى

(10)

التعَحب، ومجراه من اللَّه - عزَّ وجلَّ - في مخاطبة العباد مجرى ما يعظم به الشأنُ عندهم. . ومثله (الحاقة ما الحاقة)، و (القارعة ما القارعة). ومعنى (أصحاب الميمنة) أصحاب اليمين. (وأصحاب المشامة) أصحاب الشمال. (وأصحاب اليمين) هم أصحاب المنزلة الرفيعة. وأصحاب الشمال هم أصحاب المنزلة الدنيئة الخسيسة. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) معناه - واللَّه أعلم - السابقون السابقون إلى طاعة اللَّه عزَّ وجل والتصديق بأنبيائه. والسابقون الأول رفع بالابتداء، والثاني توكيد، ويكون الخبر (أولئك المقربون). ثم أخبر أين محلهم فقال: (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ويجوز أن يكون السابِقُون الأول رفعاً بالابتداء. ويكون خبره (السابقون) الثاني. فيكون المعنى - واللَّه أعلم - السابقون إلى طاعة اللَّه السابقون إلى رحمة اللَّه. ويكون (أولئك المقربون) من صِفتهم. * * * وقوله: (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) (ثُلَّةٌ) رفع على معنى هم (ثُلَّةٌ). والثُّلَّة: الجماعَة، وهذا - واللَّه أعلم - معنى (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ) أي جماعة ممن عاين الأنبياء وصدق بِهِمْ. فالذين عاينوا جميع النبيين وصدَّقوا بِهِم أكثر ممن عاين النبي عليه السلام، وذلك قوله في قصة يونس: (وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (148). هَؤلاء سوى سائر من آمن بجميع الأنبياء ممن عاينهم وصَدَّقَهُم ويجوز أن يكون الثُّلَّة بمعنى قليل من الأولين وقليل من الآخرين. لأن اشتقاق الثلة من القطعة. والثل الكسر والقطع، والثُّلَّة نحو الفئة والفرقة. * * * وقَوْلُه: (عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16)

(17)

(متكئين، ومتقابلين) منصوبان على الحال، المعنى أولئك المقربون في جنات النعيم في هذه الحال. والسرر جمع سرير، مثل كثيب وكثب. ومعنى " متقابلين " ينظر بعضهم إلى وجوه بعض ولاينظر في أقفاء بعض. وصفوا مع نعمهم بحسن العشرة وتهذيب الأخلاق، وصفاء المودة ومن ذلك قوله عزَّ وجلَّ: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47). وجاء في التفسير (موضونة) مرمولة ومعنى مرمولة منسوجة، نحو نسج الدروع، وجاء في التفسير أنها من ذهب. ومثل موضونة قول الأعشى. ومن نَسْجِ داودَ مَوْضونَة. . . يُساقُ بها الحَيُّ عِيراً فَعِيرا * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) الأكواب آنية لا عُرى لها ولا خراطيم، والِإبريق ما له خرطوم وعُروة. (وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ). والكأس: الِإناء فيه الشراب، فإن لم يكن فيه شراب فليس بكأسِ. وقوله: (مِنْ مَعِينٍ) معناه من خمر تجْري من العُيونِ. * * * وقوله: (لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19) تأويله لا ينالهم عن شربها ما يَنال أهل الدنيا من الصُّداع. (وَلَا يُنْزِفُونَ) لا يسكرون، والنزيف السكران، وإنما قيل له نزيف ومنزوف لأنه نزف عقله. ويقرأ (وَلَا يُنْزَفُونَ)، معناه لا ينزف شَرابُهُمْ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23)

(23)

بالخفض، وقرئت بالرفع، والذين قرأوها بالرفع كرهوا الخفض لأنَّهُ عطف على قوله: (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ). فقالوا: الحور ليس مما يطاف به، ولكن مخفوض على غير ما ذهب إليه هؤلاء لأن معنى (يطوف عليهم وِلْدَان مخلدونَ) ينعمون بهذا، وكذلك ينعمون بلحم طيرٍ وكذلك ينعمون بحورٍ عِينٍ. ومن قرأ بالرفع فهو أحْسَن الوجهين لأن معنى (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ) بهذه الأشياء بمعنى ما قد ثبت لهم فكأنه قال: ولهم حُورٌ عِينٌ. ومثله مما حمل على المعنى قول الشاعر: بَادَت وغُيِّر آيهن مع البلي. . . إلاَّ رَواكدَ جَمْرُهُنَّ هَباءُ ومشججٌ أما سواءُ قذا له. . . فبدا وغيره سَارَه المَعْزَاءُ لأنه قال: إلَّا رَوَاكِدَ، كان المعنى بها رَوَاكِد، فَحَمَلَ ومشججٌ على المعنى. وقد قرئت (وحوراً عِيناً) بالنَّصْبِ على الحمل على المعنى أيضاً، لأن المعنى يُعْطَوْن هذه الأشياءَ يُعْطَون حوراً عيناً، إلا أن هذه القراءة تخالف المصحف الذي هو الِإمَامَ، وأهل العلم يكرهون أن يُقْرَا بِمَا يَخَالِف الِإمَامَ. ومعنى الحور: الشديدات البياض، والعِين الكبيرات العيُونِ حِسَانها (1). ومعنى (كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) أي كأمثال الدر حين يخرج من صَدَفِه وَكِنِّه. لم يغيره الزَّمَان واختلاف أحوال الاستعْمَال وإنما يعنى بقوله: (كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ) أي في صفائهن وتَلْألُئِهِن كصفاء الدُّرِّ وتَلَألِئِه. * * * وقوله: (جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) منصوب مفعول له. المعنى يفعل بهم ذَلِكَ لِجَزاءِ أعمَالَهم. ويجوز أن يكون (جَزَاءً) منصوباً على أنه مصدر. لأن معنى (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ)

_ (1) قال السَّمين: قوله: {وَحُورٌ} قرأ الأخَوان بجرِّ «حور عين». والباقون برفعِهما. والنخعيُّ: «وحِيرٍ عين» بقلب الواو ياءً وجرِّهما، وأُبَيٌّ وعبد الله «حُوْراً عيناً» بنصبهما. فأمَّا الجرُّ فمن أوجه، أحدها: أنه عطفٌ على {جَنَّاتِ النعيم} [الواقعة: 12] كأنه قيل: هم في جنات وفاكهة ولحمٍ وحورٍ، قاله الزمخشري. قال الشيخ: «وهذا فيه بُعْدٌ وتفكيكُ كلامٍ مرتبطٍ بعضُه ببعض، وهو فُهْمُ أعجمي». قلت: والذي ذهب إليه معنى حسنٌ جداً، وهو على حَذْفِ مضافٍ أي: وفي مقاربة حور، وهذا هو الذي عناه الزمخشري. وقد صرَّح غيرُه بتقدير هذا المضاف. الثاني: أنه معطوفٌ على «بأكواب» وذلك بتجوُّزٍ في قوله: «يطُوفُ» إذ معناه: يُنَعَّموْن فيها باكواب وبكذا وبُحور، قاله الزمخشري. الثالث: أنه معطوفٌ عليه حقيقةً، وأن الوِلْدانَ يَطُوفون عليهم بالحور أيضاً، فإن فيه لذةً لهم، طافُوا عليهم بالمأكولِ والمشروبِ والمُتَفَكَّهِ بعد المنكوحِ، وإلى هذا ذهب أبو عمرو بن العلاء وقطرب. ولا التفات إلى قولِ أبي البقاء: «عطفاً على أكواب في اللفظ دون المعنى؛ لأنَّ الحوَر لا يُطاف بها». وأمَّا الرفعُ فمِنْ أوجهٍ أيضاً، عطفاً على «ولْدانٌ»، أي: إنَّ الحورَ يَطُفْنَ عليهم بذلك، كما الوَلائدُ في الدنيا. وقال أبو البقاء: «أي: يَطُفْنَ عليهم للتنعُّمِ لا للخدمة» قلت: / وهو للخدمةِ أبْلَغُ؛ لأنهم إذا خدمهم مثلُ أولئك، فما الظنُّ بالمَوْطوءات؟ الثاني: أَنْ يُعطفَ على الضمير المستكنِّ في «مُتَّكِئين» وسَوَّغ ذلك الفصلُ بما بينهما. الثالث: أَنْ يُعْطفَ على مبتدأ وخبر حُذِفا معاً تقديرُه: لهم هذا كلُّه وحورٌ عين، قاله الشيخ، وفيه نظر؛ لأنَّه إنما عُطِف على المبتدأ وحدَهُ، وذلك الخبرُ له ولِما عُطِف هو عليه. الرابع: أَنْ يكونَ مبتدأً، خبرُه مضمرٌ تقديرُه: ولهم، أو فيها، أو ثَمَّ حورٌ. وقال الزمخشري «على وفيها حُوْرٌ كبيت الكتاب: 4211. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . إلاَّ رَواكدَ جَمْرُهُنَّ هَباءُ الخامس: أن يكونَ خبراً لمبتدأ مضمر، أي: نساؤهم حورٌ، قاله أبو البقاء. وأمَّا النصبُ ففيه وجهان، أحدهما: أنه منصوبٌ بإضمارِ فِعْل، أي: يَعْطَوْن، أو يَرِثُون حُوْراً، والثاني: أن يكونَ محمولاً على معنى: يَطوف عليهم؛ لأن معناه يُعْطَوْن كذا وكذا فعطف عليه هذا. وقال مكي:» ويجوز النصبُ على أَنْ يُحْمَلَ أيضاً على المعنى؛ لأنَّ معنى يَطوفُ وِلْدانٌ بكذا وكذا يُعْطَوْن كذا وكذا، ثم عطف حوراً على معناه «فكأنه لم يَطَّلعْ عليها قراءةً. وأمَّا قراءةُ» وحِيْرٍ «فلمجاورتها» عين «ولأنَّ الياءَ أخفُّ من الواو، ونظيرهُ في التغيير للمجاورة:» أَخَذَه ما قَدُم وما حَدُث «بضم دال» حَدُث «لأجل» قَدُم «وإذا أُفْرِد منه فَتَحْتَ دالَه فقط، وقوله عليه السلام: «وربِّ السماوات ومَنْ أَظْلَلْنَ ورَبِّ الشياطين ومَنْ أَضْلَلْنَ» وقوله عليه السلام: «أيتكنَّ صاحبةُ الجمل الأَرْبَب تَنْبَحُها كلابُ الحَوْءَب» فَكَّ «الأَرْبَبَ» لأجل «الحَوْءَب». وقرأ قتادة «وحورُ عينٍ» بالرفع والإِضافة ل «عين» وابن مقسم بالنصب والإِضافةِ وقد تقدَّم توجيهُ الرفع والنصب. وأمَّا الإِضافةُ فمِنْ إضافة الموصوف لصفته مؤولاً. وقرأ عكرمةُ «وحَوْراءَ عَيْناءَ» بإفرادِهما على إرادةِ الجنس. وهذه القراءةُ تحتمل وجهَيْن: أحدهما: أَنْ تكونَ نصباً كقراءة أُبَيّ وعبد الله، وأن تكونَ جرَّاً، كقراءة الأخوَيْن؛ لأن هذين الاسمَيْن لا ينصرفان فهما محتملان للوجَهْين. وتقدَّم الكلام في اشتقاق العِين. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(26)

يجازون جزاء بأعمالِهِم. وهذا الوجه عليه أكثر النحويين. * * * وقوله: (إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26) (قِيلًا) منصوب بقوله (لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26). فالمعنى لا يسمعون إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا، مَنصوبٌ من جهتين إحداهما أن يكون من نعت لـ (قِيلًا)، فيكون المعنى لا يَسْمَعون إلا قيلاً يسلم فيه من اللغو والِإثم. والوجه الثاني أن يكونَ (سَلاَماً) منصوباً على المصدر، فيكون المعنى لا يسمعون فيها إلا أن يَقولَ بعضهُم لبعض سَلَامًا سَلَامًا. ودليل هذا قوله تعالى: (تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ). * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) المخضود: الذي قد نزع شوكه، والطلح جاء في التفسير أنه شجر الموز، والطلح شجر أم غَيْلانَ أيضاً، وجائز أن يكون يعنى به ذلك الشجر. لأنَّ له نَوْراً طيب الرائحة جدًّا، فخوطبوا ووعدوا بما يحبُّونَ مثله، إلا أن فضله على ما في الدنيا كفضل سائر ما في الجنة على ما في الدنيا. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) معناه تام دائم. * * * وقوله: (وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) يعنى به أنه ماء لا يتعبون فيه ينسكب لهم كيف يحبون. * * * وقوله: (إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) يعني الحورَ، أنْشِئْنَ لأولياء الله عَزَّ وجل، لَيْسَ ممن وقعت عليه ولادة. * * * (فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) لَمْ يُطْمِثْنَ. * * * (عُرُبًا أَتْرَابًا (37) عُرُباً، والعرب المتحببات إلى ازوَاجِهِنَ.

(40)

وقوله: (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40) معناه - واللَّه أعلم - جماعة ممن تبع النبي - صلى الله عليه وسلم - وعاينه، وجماعة ممن آمن به وكان بعده. * * * وقوله: (وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) اليحموم الشديد السواد، وقيل إنه الدخان الشديد السَّوَاد. وقيل (وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ) أي من نار يعذبون بها. ودليل هذا قوله عزَّ وجلَّ: (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ) إلا أنه موصوف في هذا الموضع بِشِدة السواد. * * * (وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) قيل في التفسير: الحنث الشرك، وَقيل على الِإثم العظيم، وهو - واللَّه أعلم - الشرك والكفر بالبعث، لأن في القرآن دليل ذلك وهو (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا) فهذا - واللَّه أعلم - إصرارهم على الحنث العظيم. * * * (فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) ويقرأ (شَرْبَ الْهِيمِ)، والشَّرْب المصدر، والشُّربُ الاسم، وقد قيل إن الشُّرْب أيضاً مَصْدَرٌ. والهيم الِإبلُ العِطَاشُ (1). * * * وقوله: (هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56) أي هذا غذاؤهم يوم الجزاء أي يوم يجازَوْنَ بأعمالهم. * * * وقوله: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أي ما يكون منكم من المَنِيِّ الذي يكون مِنهُ الوَلَدُ، يقال: أمنى الرجل يمني، ومَنَى يَمْنِي. فيجوز على هذا " تَمْنُون " بفتح التاء، ولا أعلم أحداً قرأ بها، فلا تقرأنَّ بها إلا أن تثبت رواية.

_ (1) قال السَّمين: قوله: {شُرْبَ الهيم}: قرأ نافعٌ وعاصمٌ وحمزةُ بضم الشين، وباقي السبعة بفتحِها، ومجاهد وأبو عثمان النهدي بكسرِها فقيل: الثلاثُ لغاتٌ في مصدر شَرِب، والمقيسُ منها إنما هو المفتوحُ. وقيل: المصدرُ هو المفتوحُ والمضموم والمكسورُ اسمان لِمَا يُشْرَبُ كالرِّعْي والطِّحْن. / وقال الكسائي: يُقالُ شرِبْتُ شُرباً وشَرْباً. ويروى قولُ جعفر: «أيامُ مِنى أيامُ أكلٍ وشُرْبٍ وبِعال» بفتح الشين. والشَّرْب في غيرِ هذا اسمٌ للجماعة الشاربين قال: 4215 كأنَّه خارِجٌ من جَنْبِ صَفْحَتِهِ. . . سَفُّوْدُ شَرْبٍ نَسُوْهُ عند مُفْتَأَدِ والمعنى: مثلَ شُرْبِ الهِيم. والهِيْمُ فيه أوجهٌ، أحدها: أنه جَمْعُ أَهْيمَ أو هَيْماء، وهو الجَمَلَُ والناقةُ التي أصابها الهُيامُ وهو داءٌ مُعْطِشٌ تشرب الإِبلُ منه إلى أن تموتَ أو تَسْقُمُ سُقْماً شديداً، والأصلُ: هُيْم بضمِّ الهاءِ كأَحْمر وحُمْراء وحُمْر، فقُلِبت الضمةُ كسرةً لتصِحَّ الياءُ، وذلك نحو: بِيْض في أبيض. وأُنْشد لذي الرمة: 4216 فأصبَحْتُ كالهَيْماءِ لا الماءُ مُبْرِدٌ. . . صَداها ولا يَقْضي عليها هُيامُها الثاني: أنه جمع هائِم وهائِمة من الهُيام أيضاً، إلاَّ أنَّ جَمْعَ فاعِل وفاعِلة على فُعْل قليلٌ نادرٌ نحو: بازِل وبُزْل وعائِذ وعُوْذ ومنه: العُوْذُ المَطافيل. وقيل: هو من الهُيام وهو الذَّهابُ؛ لأنَّ الجملَ إذا أصابه ذلك هامَ على وَجْهه. الثالث: أنه جمع هَيام بفتح الهاء وهو الرَّمْلُ غيرُ المتماسكِ الذي لا يُرْوَى من الماء أصلاً، فيكونُ مثلَ سَحاب وسُحُب بضمتين، ثم خُفِّف بإسكان عينه ثم كُسِرَتْ فاؤه لتصِحَّ الياء، كما فُعِلَ بالذي قبله. الرابع: أنَّه جمعُ «هُيام» بضم الهاء وهو الرَّمْل غيرُ المتماسكِ أيضاً لغةً في «الهَيام» بالفتح، حكاها ثعلب، إلاَّ أن المشهورَ الفتحُ ثم جُمع على فُعْل نحو: قُراد وقُرْد، ثم خُفِّفَ وكُسِرَتْ فاؤُه لتصِحَّ الياء والمعنى: أنَّه يُصيبهم من الجوع ما يُلجِئُهم إلى أَكْلِ الزَّقُّوم، ومن العطشِ ما يَضْطرُّهم إلى شُرْب الحميم مثلَ شُرْبِ الهِيْم. وقال الزمخشري: «فإن قلتَ: كيف صَحَّ عَطْفُ الشاربين على الشاربين، وهما لذواتٍ واحدةٍ، وصفتان متفقتان، فكان عطفاً للشيء على نفسِه؟ قلت: لَيْستا بمتفقتَيْن من حيث إنَّ كونَهم شاربين على ما هو عليه مِنْ تناهي الحرارة وقَطْع الأمعاء أمرٌ عجيبٌ، وشُرْبُهم له على ذلك كما تَشْرَب الهِيم أمرٌ عجيب أيضاً، فكانتا صفتَيْن مختلفتَيْن» انتهى يعنى قولَه: «فشاربون عليه من الحميم، فشاربون» وهو سؤالٌ حسنٌ، وجوابُه مثلُه. وأجاب بعضُهم عنه بجواب آخر: وهو أنَّ قولَه: {فَشَارِبُونَ شُرْبَ الهيم} تفسيرٌ للشُرْب قبلَه، ألا ترى أنَّ ما قبلَه يَصْلُح أن يكونَ مثلَ شُرْبِ الهيمِ ومثلَ شُرْبِ غيرِها ففَسَّره بأنه مثلُ شُرْبِ هؤلاء البهائم أو الرِّمالِ. وفي ذلك فائدتان، إحداهما: التنبيهُ على كثرةِ شُرْبهم منه والثاني: عَدمُ جَدْوَى الشُّرْب، وأن المشروبَ لا يَنْجَعُ فيهم كما لا يَنْجَعُ في الهِيْم على التفسيرَين. وقال الشيخ: «والفاءُ تقتضي التعقيبَ في الشُّرْبَيْنِ، وأنهم أولاً لمَّا عَطِشوا شَرِبوا من الحميم، ظَنّاً منهم أنه يُسَكِّنُ عَطَشَهُم، فازداد العطشُ بحرارةِ الحميمِ، فشربوا بعده شُرْباً لا يقع بعدَه رِيٌّ أبداً. وهو مِثْلُ شُرْبِ الهيم فهما شُربان مِنَ الحَميم لا شُرْبٌ واحدٌ، اختلفَتْ صفتاه فَعَطف. والمشروبُ مِنْه في {فَشَارِبُونَ شُرْبَ الهيم} محذوفٌ لفَهْمِ المعنى تقديرُه: فشاربون منه» انتهى. والظاهرُ أنه شُرْبٌ واحدٌ بل الذي نعتقدُ هذا فقط، وكيف يُناسِبُ أَنْ تكونَ زيادتُهم العطشَ بشُرْبِه مقتضيةً لشُرْبِهم منه ثانياً؟ اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(59)

رقوله: (أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) احتج عليهم في البعث بالقدرة على ابتداء الخلق كما قال عزَّ وجلَّ: (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79). * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) أي إن أردنا أن نخلق خلقاً غيركم لم يسبقنا سابق ولا يفوتنا ذلك. * * * وقوله: (وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) أي إن أردنا أن نجعل منكم القردة والخنازير لم نسبق ولَا فَاتَنا ذَلك. * * * (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62) أي قد علمتم ابتداء الخلق فلم أنَكرتم البعث. ومعنى " لَوْلَا تَذَكَّرُونَ " هلَّا تذكرون. * * * وقوله: (لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) أي لو جعلنا ما تزرعون حطاماً، أي أبطلناه حتى يكون متحطماً لا حنطة فيه ولا شيء مما تَزْرَعُونَ. (فَظَلْتُم تَفًكَّهُونَ). أي تَنَدّمُون، ويجُوزُ فَظِلْتُم تفكهون - بكسر الظاء - (1) * * * وقوله: (إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) أي يقولون قد غرمنا وذهب زرعنا، (بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ). * * * وقوله: (أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) وهي السحاب واحدته مُزْنَةٌ وجمعه مُزْن.

_ (1) قال السَّمين: قوله: {فَظَلْتُمْ}: هذه قراءةُ العامَّةِ أعني فتحَ الظاء مع لامِ واحدة. وقد تقدَّم الكلامُ عليها مستوفى في طه. وأبو حيوة وأبو بكرٍ في روايةٍ بكسرِ الظاء. وعبد الله والجحدريُّ «فظَلِلْتُمْ» على الأصل بلامَيْن، أُولاهما مكسورةٌ. ورُوي عن الجحدري فتحُها، وهي لغةٌ أيضاً. والعامةُ «تَفَكَّهون» بالهاء، ومعناه: تَنْدَمون، وحقيقتُه: تُلْقُون الفُكاهةَ عن أَنْفسِكم، ولا تُلْقَى الفُكاهةُ إلاَّ من الخِزْيِ فهو من بابِ: تَحَرَّج وتَأَثَّم وتَحَوَّب. وقيل: تَفَكَّهون: تَعْجَبون. وقيل: تَلاومون، وقيل: تَتَفَجَّعون، وهذا تفسيرٌ باللازم. وقرأ أبو حرام العكلي «تَفَكَّنون» بالنون مثل تَتَنَدَّمون. قال ابن خالويه: «تَفَكَّهَ تَعَجَّب، وتَفَكَّن تندَّمَ». وفي الحديث: «مَثَلُ العالِمِ مَثَلُ الحَمَّة يَأْتيها البُعَداء ويترُكها القُرَباء. فبيناهُمْ إذ غار ماؤها فانتفع بها قومٌ وبقي قومٌ يَتَفَكَّنون» أي: يَتَنَدَّمون. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(70)

وقوله: (لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70) الأجاج الماء الملح الذي لا يمكن شربه ألبتَّة. (فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ)، معناه " فَهَلَّا. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) معناه تقدحونَ، تقول وري الزند يَرِي ورْياً، فهو وارٍ إذا انقدحت منه النار، وأوريت النار إذا قدحتها، والعرب تقدَحُ بالزندِ والزنْدَةِ، وهذا خشب يحك بعضه على بعض فيخرجِ منه النار، فقال: * * * (أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73) أي إذا رآها الرائي ذَكَرَ جهنم وما يخافه من العذاب، فذكر الله عزَّ وجلّ واستجار به منها. ومعنى (مَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ)، المقوي الذي ينزل بالقواء. وهي الأرض الخالية. فذكر اللَّه - عزَّ وجلَّ - جمع ما يدل على توحيده وما أنعم به عليهم من خَلْقِهم، وتغذيتهم مما يأكلون ويشربون، مما يدل على قَدْرَتِهِ ووحدانيتَه. ثم قال عزَّ وجلَّ: * * * (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74) أي فبرِّئ اللَه - عزَّ وجلََّ. [لما ذكر ما يدل على توحيده، وقدرته، وإنعامه، قال: «فسبح» أي: برِّء الله ونزّهه عما يقولون في وصفه] (1). * * * (فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) معناه أقسم، ودخلت (لَا) توكيداً كما قال عزَّ وجل: (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ)، معناه لأن يعلم أهل الكتاب. ومواقع النجوم مَسَاقِطُها. كما قال - عزَّ وجلَّ - (فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ). وقيل إن مواقعِ النجومِ يعنى به نجوم القرآن، لأنه كان ينزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - نُجُوماً شيئاَ بَعْدَ شَيءٍ (2) ودليل هذا القول (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77). * * * وقوله: (فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) أي مصون في السماء في اللوح المحفوظ.

_ (1) زيادة حكاها ابن الجوزي عن الزَّجَّاجِ. (زاد المسير. 8/ 150). (2) قال السَّمين: قوله: {فَلاَ أُقْسِمُ}: قرأه العامَّةُ «فلا»، لامَ ألفٍ، وفيها أوجهٌ، أحدُها: أنها حرفُ نفي، وأنَّ المنفيَّ بها محذوفٌ، وهو كلامُ الكافرِ الجاحدِ تقديرُه: فلا حُجَّةَ لِما يقولُ الكافرُ، ثم ابتدأ قَسَماً بما ذَكَر، وإليه ذهب جماعةٌ من المفسِّرين والنَّحْويين. وضُعِّفَ هذا: بأنَّ فيه حَذْفَ اسمِ «لا» وخبرِها. قال الشيخ: «ولا يجوز» ولا ينبغي؛ فإن القائلَ بذلكَ مثلُ سعيدِ بنِ جُبير تلميذِ حَبْر القرآنِ وبحرِه عبدِ اللَّهِ ابن عباس رضي الله عنهما، ويَبْعُدُ أَنْ يقولَه سعيدٌ إلاَّ بتوقيف. الثاني: أنها زائدةٌ للتوكيدِ، مِثْلُها في قولِه تعالى: {لِّئَلاَّ يَعْلَمَ} [الحديد: 29] والتقدير: فأُقْسِمُ، وليَعْلَمَ، وكقولِه: 4224. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . فلا وأَبي أعدائِها لا أَخُوْنُها الثالث: أنَّها لامُ الابتداءِ. والأصلُ: فَلأُقْسِمُ فأُشْبِعَتْ الفتحةُ فتولَّد منها ألفٌ، كقولِه: 4225 أَعوذُ باللَّهِ من العَقْرابِ. . . قاله الشيخُ، واستشهدَ بقراءةِ هشام «أَفْئِيْدَة». قلت. وهذا ضعيفٌ جداً، واستند أيضاً لقراءةِ الحسن وعيسى/ «فَلأُقْسِمُ» بلامٍ واحدةٍ. قلت: وفي هذه القراءةِ تخريجان أحدُهما: أنَّ اللامَ لامُ الابتداءِ، وبعدَها مبتدأٌ محذوفٌ، والفعلُ خبرُه، فلمَّا حُذِفَ المبتدأُ اتصلَتْ اللامُ بخبرِه وتقديرُه: فلأَنا أٌقْسِمُ نحو: لَزيدٌ منطلقٌ، قاله الزمخشري وابن جني. والثاني: أنها لامُ القسمِ دخَلَتْ على الفعل الحالي. ويجوز أَنْ يكونَ القسم جواباً للقسمِ كقوله: {وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا} [التوبة: 107] فنفسُ «ليَحْلِفُنَّ» قسمٌ جوابُه «إنْ أرَدْنَا» وهو جوابٌ لقسمٍ مقدرٍ، كذلك هذا، وهو قولُ الكوفيين: يُجيزون أَنْ يُقْسَم على فعلِ الحالِ. البصريُّون يَأْبَوْنه ويُخَرِّجون ما يُوهم ذلك على إضمار مبتدأ فيعود القسم على جملةٍ اسمية. ومنع الزمخشري أن تكونَ لامَ القسمِ قال: «لأمرَيْن، أحدهما: أنَّ حَقَّها أَنْ تُقْرَنَ بالنونِ المؤكدةِ، والإِخلالُ بها ضعيفٌ قبيحٌ. والثاني: أنَّ لأفعلنَّ في جواب القسم للاستقبالِ، وفعلُ القسمِ يجب أَنْ يكونَ للحال» وهذا كما تقدَّم أنه يرى مذهبَ البَصرْيين، ومعنى قولِه: «وفعلُ القَسَمِ يجبُ أنْ يكونَ للحال» يعني أنَّ فِعْلَ القسمِ إنشاءٌ والإِنشاءُ حالٌ. وإمَّا قولُه: «أَنْ يُقْرن بها النونُ» هذا مذهبُ البصريين. وأمَّا الكوفيون فيجيزون التعاقبَ بين اللام والنونِ نحو: واللَّهِ لأَضْرِبُ زيداً كقولِه: 4226 لَئِن تَكُ قد ضاقَتْ عليكم بيوتُكمْ. . . لَيَعْلَمُ ربِّي أنَّ بيتيَ واسعُ وواللَّهِ اضربَنَّ زيداً كقولِه: 4227 وقتيلُ مُرَّةَ أَثْأَرَنَّ. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وقد تقدَّم قريبٌ من هذه الآية في قولِه تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكِّمُوكَ} [النساء: 65] ولكن هناك ما لا يُمْكن القولُ به هنا كما أنَّ هنا ما لا يمكن القولُ به هناك، وسيأتي قريبٌ منه في القيامةِ في قراءةِ ابن كثير {لأُقْسِمُ بيوم القيامة} [القيامة: 1]. وقرأ العامَّة «بمواقِع» جمعاً، والأخَوان «بموقع» مفرداً بمعنى الجمع لأنَّه مصدرٌ فوُحِّدَ، ومواقعُها: مَساقِطُها ومَغارِبُها. وقيل: سُقوطُها يوم تَنْكَدِرُ. وقيل: النجومُ للقرآن، ويؤيِّدُه «وإنَّه لَقَسَمٌ»، و {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} والمُقْسَمُ عليه قولُه: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} وعلى هذا فيكونُ في الكلام اعتراضان، أحدُهما: الاعتراضُ بقوله: «وإنه لَقَسَمٌ» بين القسمِ والمُقْسَم عليه، والثاني: الاعتراضُ بقولِه: «لو تعلمون» بين الصفةِ والموصوفِ. وأبى ابنُ عطية أَنْ يُجْعَلَ قولُه: «وإنَّه لَقَسَمٌ» اعتراضاً فقال: «وإنه لَقَسَمٌ» تأكيدٌ للأمرِ وتنبيهُ المُقْسَم به، وليس هذا باعتراضٍ بين الكلامَيْن، بل هذا معنىً قُصِدَ التَّهَمُّمُ به، وإنما الاعتراضُ قولُه: «لو تعلمون» قلت: وكونُه تأكيداً ومُنَبِّهاً على تعظيمِ المُقْسَمِ به لا يُنافي الاعتراضَ بل هذا معنى الاعتراضِ وفائدتُه. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(79)

وقوله: (لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) يعنى به الملائكة. لا يمسه في اللوح المحفوظ إلا الملائكة. ويقرأ " الْمُطَهِّرُونَ " وهي قليلة، ولها وجهان: أحدهما الذين طَهَّروا أنفسهم من الذُنوبِ. والثاني أن يكون الَّذِينَ يُطَهِّرونَ غيرهم. * * * وقوله: (تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80) صفة لقوله (كريم)، وإن شئت كان مرفوعاً على قوله هو تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) أي أفبالقرآن تكذِبُونَ، والفدْهِن المدَاهِنَّ والكذاب المنافق. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) كانوا يقولون: مطرنا بنوء كذا، ولا ينسبون السقيا إلى اللَّه - عزَّ وجلَّ - فقيل لهم: أتجعلون رِزقكم أي شكركم بما رزقتم التكذيبَ. وقرئت " وتَجْعَلُونَ شكْرَكمْ أنكم أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ " ولا ينبغي أن يقرأ بها لخلاف المصحف. وقد قالوا إن تفسير رزقكم ههنا الشكر، ورووا أنه يقال " وتجعلون رزقي في معنى شكري " وليس بصحيح. إنما الكلام في قوله (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) يدل على معنى " وتجعلون شكركم أنكم تكذَبُون " أي تجعلون شكر رزقكم أن تقولوا: مطرنا بنوء كذا، فَتكْذِبُونَ في ذلك. * * * وقوله: (فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) يعنى إذا بلغت الروح الحلقوم. * * * (وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) أي أنتم يا أهل الميِّت في تلك الحال ترونه قد صار إلى أن تخرج نفسه. * * * (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85)

(87)

جاء في التفسير أنه لا يموت أحد حتى يعلم أهو من أهل الجنَّةِ أم من أهل النَّارِ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87) ومعناه هلَّا ترجعون الروح إن كنتم غير مَدِينين، أي غيرمَمْلوكين مُدَبَّرين ليس لكم في الحياة والموت قدرة، فهلَّا إن كنتم كما زعمتم ومثل قولكم الذي جاء في القرآن: (الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168). كما قال (أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا). فالمعنى إن كنتم تقدرون أن تؤخروا أجلًا فهلَّا تَرْجِعُون الروح إذا بلغت الحلقوم، وهلَّا تدرأون عن أنفسكم الموت. * * * وقوله: (فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) بفتح الراء في (رَوح). ومعناه فاستراحة وبرد، (وَرَيْحَانٌ) رزق قال الشاعر: سلام الإله وريحانه. . . ورحمته وسماء دِرَرْ ورُوِيت " فَرُوحٌ " بضم الراء، وتفسيره فحياة دائمة لا موت بعدها (وَرَيْحَانٌ) رِزق. وجائز أن يكون ريحان ههنا تحية لأهل الجنة، وأجمع النحويون أن أصل ريحان في اللغة (رَيِّحَان) من ذوات الواو فالأصل " رَيْوِحان " فقلبت الواو

(90)

ياء وأدغمت فيها الأولى، فصارت ريحان، فخفف كما قالوا في " ميِّتٍ ميْت، ولا يجوز في " رَيْحان " التشديد إلا على بُعْدٍ لأنه قد زيد فيه ألف ونون فخفف بحذف الياء وألزم التخفيف. ورفعه على معنى فأما إن كان المتوفى من المقربين فله روح وَرَيْحان. * * * وقوله: (وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وقد بيَّن ما لأصحاب اليمين في أوَل السورة. ومعنى (فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) أنك ترى فيهم ما تحب من السَّلاَمةِ وقد علمت ما أُعِدَّ لهم من الجزاء. * * * وقوله: (وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وُيقْرا (فَنُزْل) بالتخفيف والتثقيل. فمعناه فغذاء من حميم وتَصْلِيَة جحِيمً). أي إقامةً في جحيم. فأَعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أن الجحيم ههنا للمكذبين الضالين. * * * وقوله: (إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) أي إن هذا الذي قصصنا عليك في هذه السورة من الأقاصيص وما أعد اللَّه لأوليائه وأعدائه وما ذكِرَ مما يدل على وحدانيته لَيَقِين حَق اليقين، كما تقول: " إن زيداً لعالم حق عالم، وإنه للْعَالِم حق العَالِم " إذا بالغت في التوكيد. * * * وقوله: (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96) أي فَنَزِّهِ اللَّه - عزَّ وجلَّ - عن السوء، لأن معنى سبحان اللَّه تنزيه اللَّه عن

السوءِ. كذلك جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأهلُ اللغة كذلك يُفَسِّرونَه. بَرَاءة اللَّه من السوء. وأنشَدَ سِيبَوَيْه في هذا المعنى: أقول لما جاء في فخره. . . سبحان من علقمة الفاجر أي أبرأ منه.

سورة الحديد

سُورَةُ الحديد (مدنية) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله عزَّ وجلَّ: (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) قال قوم: التسبيح آثار الصنعة في السَّمَاوَاتِ وفي الأرضِ ومن فيهما وكذلك فسروا قوله: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ)، وهذا خطأ، التسبيحِ تمجيد اللَّه وتنزيهه من السوء ودليل ذلك قوله: (وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْيِيحَهُمْ) فلو كان التسبيح آثارَ الصّنعة لكانَتِ مَعقوله، وكانوا يفقهونها. ودليل هذا القول أيضاً قوله: (وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ)، فلو كان تسبيحها آثار الصنعة لم يكن في قوله (وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ) فائدة. * * * وقوله: (لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) أي يحي الموتى يوم القيامةِ، وُيميتُ الأحياء في الدنيا. ويكون يُحْيِي وَيُمِيتُ: يُحْيِي النطف التي إِنَّمَا هي مَوَات، وَيُمِيتُ الأحياء. ويكون موضع (يُحْيِي وَيُمِيتُ) رَفْعاً على معنى هو يُحْيِي وَيُمِيتُ. ويجوز أن يكون نصباً على معنى له ملك السَّمَاوَات والأرض مُحْيياً ومُمِيتاً قادِراً.

(3)

وقوله تعالى: (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) تأويله هو الأول قبل كل شيء والآخر بعد كل شيء، والظاهر العالم بما ظهر والباطن العالم بما بطن، كما تقول: فلان يُبْطُنُ أمر فُلانٍ، أي يعلم دِخْلَةَ أمْرِه. (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) لا يخفى عليه شيء * * * وقوله تعالى: (يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) تأويله يعلم ما يدخل في الأرض من مَطَرٍ وَغَيْرِه. (وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا) من نبات وغيره. (وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ) من رزق ومطر وملك. (وَمَا يَعْرُجُ فِيها). أي ما يصعد إليها من أعمال العباد، وما يَعْرُج مِنَ الملائكة. * * * (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (6) معناه يدخل الليل في النهار بأن ينقص من الليل ويزيد في النَّهَارِ. وكذلك (وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ) ينقص من النهارَ ويزيد في الليْلِ وهو مثل قوله: (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ). * * * وقوله: (آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) معناه صَدقوا بأن اللَّه واحد وأن محمداً رسوله. (وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ). أي أنفقوا مما مَلككم، فأنفقوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا يُقَربُ مِنْهُ. * * * وقوله: (وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10)

(11)

تأويله وأي شيء لكم في ترك الِإنفاق فيما يقرب من اللَّه وأنتم مَيِّتونَ تَارِكُونَ أمْوَالَكُم. وقوله: (لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا). لأن من تقدم في الِإيمان باللَّه وبرسوله عليه السلام وصَدَّقَ به فهو أفضل مِمنْ أتى بعدَه بالِإيمان والتصديق، لأن المتقدِّمينَ نالهم من المشقة أكثر مما نال مَنْ بَعْدَهُمْ، فكانت بصائرهم أيضاً أنفذ. وقال: (وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى). إلا أنه أعلم فضل السابق إلى الِإيمان على المتأخر. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11) (فَيُضَاعِفُهُ لَهُ) ويقرأ (فَيُضَاعِفَهُ لَهُ) - بالنصب، فمن نصب فعلى جواب الاستفهام بالفاء، ومن رفع فعلى العطف على يقرض، ويكون على الاستئناف على معنى فهو يضاعفه له. ومعنى (يُقْرِضُ) ههنا يفعَل فعلاً حسناً في اتِّباع أمر اللَّه وطاعته. والعرب تقول لكل من فعل إليها خيراً: قد أحَسْنَتَ قَرْضِي، وقد أقرضتني قرضاً حَسَناً، إذا فعل به خيراً. قال الشاعر: وإِذا جُوزِيتَ قَرْضاً فاجْزِه. . . إِنما يَجْزِي الفَتَى ليْسَ الجَمَلْ المعنى إذا أسدي إليك معروف فكافئ عليه. * * * وقوله: (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) (يَوْمَ) منصوب بقوله: (فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ) في ذلك اليوم.

(13)

ومعنى: (يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ). أي بمعنى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، وهو علامة أيديهم الصالحة. (يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا)، أي بلغنا به إِلى جَنَتِك. * * * وقوله تعالى: (يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) وقرئت (أنْظِرُونا) - بقطع الألف ووصلها - فمن قال: (انْظُرُونَا) فهو من نظر ينظر، معناه انتظرونا. ومن قال: (أنْظِرُونا) - بالكسر - فمعناه - أَخِّرونا. وقد قيل إنَ مَعْنَى " أنْظِرونا " انتظرونا أيضاً. وأنْشَدَ القائل بيت عمرو بن كلثوم: أَبا هِنْدٍ فلا تَعْجَلْ علينا. . . وأَنْظِرْنا نُخَبِّرْكَ اليَقِينا وقوله: (قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا). تأويله لا نور لَكم عندنا. وقوله: (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ). أي ما يلي المؤمنين ففيه الرحمة، وما يلي الكافرين ظاهره يأتيهم مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ. * * * قوله عزَّ وجلَّ: (وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) معنى (فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ) اسْتَعْمَلُتُموهَا في الفِتْنَةِ، وتربصتم بالنبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين الدوائر. (وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ). أي ما كنتُمْ تَمنَّونَ من نزول الدوائر بالمؤمنين. (حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ).

(15)

أي حتى أنزل الله نَصْرَهُ عَلَى نَبِيِّهِ والمؤمنين. (وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ). أيْ غَرَّكُمُ الشَيْطَانُ، وهو الغرور على وَزْن الفَعُول، وَفَعُول من أسماء المبالغة، تقول: فلان أكول إذا كانَ كثير الأكل وضروبٌ إذَا كانَ كثير الضرْبِ، ولذلك قيل للشيطان: الغرور لأنه يَغُرُّ ابنَ آدم كثيراً، فإذا غرَّ مرة واحدةً فهو غارٌّ، ويصلح غارٌّ للكثير، فأمَّا غَرُورُ فلا يصلح لِلْقَلِيْلِ، وقرئت (الغُرُورُ) وهو كل ما غرَّ من متاع الدنيا. ومعنى (ارْتَبْتُمْ) غَلَّبْتُمُ الشكَّ على اليقين. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15) هي أوْلَى بِكُمْ لما أسْلَفْتُمْ من الذُنُوبِ، ومثل ذلك قول الشاعر: فَعَدَتْ كِلا الفَرْجَيْن تَحْسِبُ أَنه. . . مَوْلَى المَخافَةِ خَلْفُها وأَمامُها مثل ذلك. أي مولى المخافة خلفها وأمامها. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) (وَمَا نَزَّلَ مِنَ الْحَقِّ) ويقرأ (وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ) - بالتخفيف. وقوله (يَأْنِ) من أنَى يَأني، ويقال آن يئين. وفي هذا المعنى ومعناه " حَانَ يَحِينُ ". وهذه الآية - واللَّه أعلم - نزلت في طائفة من المؤمنين حُثوا عَلَى الرِّقَّة والرحمةِ والخشوع. فأما من كان ممن وصفه - عزَّ وجلَّ - بالخضوع والرقة والرحمة فطائفة من المؤمنين فوق هؤلاء. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ)

(17)

وقرئت بالتاء، - تكونوا - (فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ). أي لا تكونوا كالذين لما طالت عليهم المدة قَسَتْ قُلُوبُهُمْ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17) معناه أن إحياء الأرض بعد موتها دليل على توحيد اللَّه، ومن آياته الدالة على ذلك. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) بتشديد الصَّاد، معناه أن المتَصَدِّقين والمتصدِّقَاتِ. ويقرأ (إِنَّ الْمُصَدِّقِينَ وَالْمُصَدِّقَاتِ) بالتخفيف، ومعناه إن المؤمنين والمؤمنات مِمنْ صدَّق اللَّهَ ورسولَهُ فآمن بما أتى به النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقوله: (وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا). أي تصدَّقوا من مال طيِّبٍ. (يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ). أي يضاعف لهم ما عملوا، ويكون ذلك التضعيف أجْراً كريماً. * * * وقوله: (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19) (الصِّدِّيقُونَ) على وزن " الفعِيلينَ " وأحدهم صِدِّيقٌ وهو اسم للمبَالَغَةِ في الفِعْلِ تقول: رجل " صِدِّيقٌ " كثير التصديق وكذلك رجل سكِّيت كثير السُّكوتِ. فالمعنى إنَّ المُؤمِنَ المصَدِّقَ باللَّه ورسُلِهِ هو المبالغ في الصِّدْقِ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ). يصلح أن يكون كلاماً مسْتَانفاً مرفوعاً بالابتداء، فيكون المعنى " والشُهَدَاءَ عِنْدَ رَبِّهِمْ لهم أجرهم ونورهم. والشهداء هم الأنبياء، ويجوز أن يكون " والشهداء " نسقا على ما قبله، فيكون المعنى أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ

(20)

وأولئك هم الشهداء عند رَبِّهِمْ، ويكون (لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ) للجماعة من الصديقين والشهداء. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20) (كَمَثَلِ) الكاف في موضع رفع من وجهين: أحَدُهُما أن تكون صفة فيكون المعنى: " إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم مَثلُ غيثٍ، وهو المطر ويكون رفعها عَلَى خَبرٍ بَعْدَ خَبَرٍ، على معنى أن الحياة الدنيا وزينتَها مَثْلُ غَيْثٍ أعجب الكفار نباته. والكفار ههنا له تفسيران: أحدهما أنه الزرْعُ، وإذا أعجب الزُرَّاعَ نبَاتُه مع علمهم به، فهو في غاية ما يستحسن، ويكون الكفَّار ههنا الكفَّار باللَّه، وهم أشد إعجاباً بزينة الدُّنْيَا من المؤمنين. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا). معنى (يَهِيجُ) يأخذ في الجفاف فَيَبْتَدِئ به الصُّفْرَةِ. (ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا). أي متحطماً متكَسِّراً ذاهِباً. وضرب الله هذا مثلاً لزوال الدنيا. وقوله عزَّ وجلَّ: (وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ). ويقرأ (ورُضْوان)، وقد روينا جميعاً عن عاصم - بالضم والكسر - فمعناه فمغفرة لأولياء الله وعذاب لأعدائه. * * * وقوله (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21) المعنى سابقوا بالأعمال الصالحة.

(22)

وقيل إن الجَنات سَبْع، وقيل أرْبَع لقوله (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) وقوله بعد ذلك (وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62). وقيل عرضها ولم يذكر طولها - واللَّه أعلم - وإنما ذِكْرُ عَرْضِها هَهنا تمثيل للعِبَادِ بِمَا يَفْعَلونَه ويقَعُ فِي نفوسِهم، وأكبر ما يقع في نفوسهم مقدار السَّمَاوَاتِ والأرضِ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ). وهذا دليل أنه لا يدخل أحَدٌ الجنَّةَ إِلًا بفضل اللَّه. ثم أعلمهم أن ذلك المؤَدِّي إلى الجنَّةِ أو النَّارِ لَا يكون إلا بقضاء وَقَدَرٍ فقال عزَّ وجلَّ: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) أي مِنْ قَبل أن نَخْلقَهَا، فما وقع في الأرض من جَدْبٍ أوْ نَقْصٍ وكذلك ما وقع في النفوس من مرضٍ وموتٍ أو خسْرانٍ في تجارةٍ أو كسبِ خيرٍ أو شَرٍّ فمكتوبٌ عند اللَّه معلومٌ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23) فمن قرأ " أتاكُمْ " فمعناه جاءكم، ومن قَرأ (آتَاكمْ) فمعْنَاه أعْطَاكم ومعنى " تفرحوا " ههنا لا تفرحوا فَرَحاً شديداً تأشروا فيه وتبطروا ودليل ذلك: (وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ). فدل بهذا أنه ذم الفرح الذي يختال فيه صاحبه ويبطر له، فأمَّا الفرح بنعمة اللَّه والشكر عليها فغير مذمومِ. وكذلك (لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ). أي لا تحزنوا حزناً يطغيكم حتى يخرجكم إلى أن تلزِموا أنْفسِكُم الهَلَكَةَ ولا تعتدوا بثواب - اللَّه ما تسلبونَه وَمَا فاتكم.

(24)

وقوله: (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24) ويقرأ (بالبَخَلِ) مثل الرُّشدِ والرَّشَد، وهذا على ضربين: أحَدُهمَا في التفسير أنهم الذين يبخلون بتعريف صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - التي قد عرفوها في التوراة والإنجيل. والوجه الثاني أنه لما حَثَّ على الصفَةِ، أعلم أنَّ الًذِينَ يَبْخَلونَ بها ويأمرون بالبخل بها، فإن الله عزَّ وجل غني عنهم. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) جاء في التفسير أن آدم عليه السلام هبط إلى الأرْضِ بالعلاة والمطرقة والكلبتين. والعلاة هي التي يسميها الحدادونَ السِّنْدَانَ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ (فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ). أي: [يُمتَنع به]، ويحارَبُ به. (وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ). يستعملونه في أدواتهم وما ينتفعون به من آنِيَتِهِمْ، وجميع ما يتصرف وقوله: (وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ). أي ليعْلَمَ الله من يقاتل مع رسَلِه في سُبُلِهِ. وقد مر تفسيره ومعناه. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27) (ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا) أي أتبعنا نوحاً وإبراهيم رسُلًا بعْدَهمْ. (وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ). جاء في التفسير أن الِإنجيل آتاه اللَّه عيسى جمْلَةً واحدةً. وقوله (وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً). ويجوز رآفة على وزن السماحة، حكى أبو زيد أنه يقال: رَؤُفْت بالرجل رَأفَةً، وهي القِراءة. وقد قرئَت ورآفَة.

وقوله: (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ). هذه الآية صعبة في التفسير. ومعناها - واللَّه أعلم - يحتمل ضَربَيْن: أحَدُهُمَا أن يكون المعنى في قوله: (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا) ابتدَعوا رهبانية كما تقول: رأيت زيداً، وعمراً أكرمتُه، وتكون (مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيهِمْ) معناه لم نكتبها عليهم ألبتَّةَ، ويكون (إلا ابْتغَاءَ رضوان الله) بَدَلًا - من الهاء والألف، فيكون المعنى ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رِضْوَانِ اللَّه، وابتغاءُ رضوان اللَّه اتبَاعُ مَا أمَرَ بِه. فَهذا - واللَّه أعلم - وجه. وفيها وجه آخر في (ابْتَدَعُوهَا). جاء في التفسير أنَّهُمْ كانوا يَرَوْنَ من مُلُوكهم ما لا يَصْبِرُونَ عليهِ فاتخذوا أسراباً وصَوَامِعَ. فابتدعوا ذلك، فلما ألزمرا أنْفُسَهُم ذلك التطوع ودَخَلُوا فيه لزمهم [إِتمامه]، كما أن الِإنسان إذا جعل على نفسه صوماً لم يُفْتَرَض عليه لزمه أنْ يُتِمَّهُ. وقوله عزَّ وجلَّ: (فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا). على ضربين - واللَّه أعلم -: أحدهما أن يكونوا قصَّروا فيما ألزموه أنْفُسَهُم. والآخر وهو أجود أن يكونوا حين بُعِثَ النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يؤمنوا به كانوا تاركين لطاعة اللَّهِ، فما رعوا تلك الرهبانية حق رعايتها. ودليل ذلك قوله عزَّ وجلَّ: (فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ). أي الذين آمنوا منهم بالنبي عليه السلام.

(28)

(وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) أي كافرونَ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) يعني (آمِنُوا بِرَسُولِهِ)، صَدِّقُوا برسُوله. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ). معناه يؤتكم نصيبين من رحمته، وإنَّما اشتقاقه في اللغة من الكِفْل، وهو كساء يجعله الراكب تحته إذا ارتدف لئلا يسقط، فتَأويله يؤتكم نصيبين يحفظانكم من هلكة الْمَعَاصي. (وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ). كما قال عزَّ وجلَّ: (نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أيْدِيهِمْ) وهذه علامة المؤمنين في القيامة، ودليل ذلك قوله: (يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ). ويجوز أن يكون واللَّه أعلم: (وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ) يجعل لهم سبيلاً واضحاً من الهدى تهتدون به. * * * وقوله: (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) المعنى فعل الله بكم ذلك كما فعل بمن آمَن مِنْ أَهْلِ الكِتابِ لأنْ يَعْلَموا و (لا) مؤكدة. و (أَلَّا يَقْدِرُونَ) (لا) ههنا يدل على الِإضمار في " أن " مع تخفيف " أن " المعنى أنهم لا يقدرون، أي لِيَعْلَمَ أهل الكتاب أنهم لاَ يَقْدِرُونَ على شيء من فضل اللَّه (1).

_ (1) قال السَّمين: قوله: {لِّئَلاَّ يَعْلَمَ}: هذه اللامُ متعلقةٌ بمعنى الجملة الطلبية المتضمنةِ لمعنى الشرطِ، إذ التقدير: إنْ تتقوا اللَّهَ وآمنتم برسلِه يُؤْتِكم كذا وكذا، لئلا يعلمَ. وفي «لا» هذه وجهان، أحدهما: / وهو المشهورُ عند النحاةِ والمفسِّرين والمُعْرِبين أنها مزيدةٌ كهي في {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ} [الأعراف: 12]، و {أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ} [يس: 31] على خِلافٍ في هاتين الآيتين. والتقدير: أَعْلَمَكم اللَّهُ بذلك، ليعلمَ أهلُ الكتابِ عدمَ قدرتِهم على شيءٍ مِنْ فضلِ اللَّهِ وثبوتَ أنَّ الفَضْل بيدِ الله، وهذا واضح بَيَّنٌ، وليس فيه إلاَّ زيادةُ ما ثبتَتْ زيادتُه شائِعاً ذائعاً. والثاني: أنها غيرُ مزيدةٍ. والمعنى لئلا يعلمَ أهلُ الكتابِ عَجْزَ المؤمنين، نقل ذلك أبو البقاء وهذا لفظُهُ، وكان قد قال قبلَ ذلك: «لا» زائدة والمعنى: ليعلمَ أهلُ الكتابِ عَجْزَهم «وهذا غيرُ مستقيم؛ لأنَّ المؤمنين عاجزون أيضاً عن شيءٍ مِنْ فضل اللَّهِ وكيف يعملُ هذا القائلُ بقولِه {وَأَنَّ الفضل بِيَدِ الله}؛ فإنه معطوفٌ على مفعولِ العِلْمِ المنفيِّ فيصيرُ التقدير: ولئلا يعلمَ أهلُ الكتاب أنَّ الفضلَ بيد الله؟ هذا لا يستقيمُ نَفْيُ العِلْمِ به ألبتَّةَ، فلا جرم كان قولاً مُطَّرحاً ذكَرْتُه تنبيهاً على فسادِه. وقراءةُ العامَّةِ» لئلا «بكسر لام كي وبعدها همزةٌ مفتوحةٌ مخففةٌ. وورش يُبْدِلها ياءً مَحْضَة وهو تخفيفٌ قياسيٌّ نحو: مِيَة وفِيَة، في: مئة وفئة. ويدلُّ على زيادتِها قراءةُ عبد الله وابن عباس وعكرمةَ والجحدري وعبد الله بن سلمة» لِيَعْلَم «بإسقاطِها، وقراءةُ حطان ابن عبد الله» لأَنْ يعلمَ «بإظهار» أَنْ «. والجحدري أيضاً والحسن» لِيَنَّعَلَمَ «وأصلُها كالتي قبلها لأَنْ يعلم، فأبدل الهمزةَ ياءً لانفتاحِها بعد كسرة، وقد تقدم أنه قياسٌ كقراءة ورش» لِيَلاَّ «ثم أَدْغَمَ النون في الياء. قال الشيخ:» بغير غُنَّة كقراءة خلف {أَن يَضْرِبَ} [البقرة: 26] بغيرِ غُنَّة «انتهى. فصار اللفظ لِيَنَّعْلَمَ. وقوله:» بغير غنَّة «ليس عَدَمُ الغنَّةِ شرطاً في صحة هذه المسألةِ، بل جاء على سبيل الاتفاقِ ولو أَدْغَمَ بُغنَّةٍ لجاز ذلك فسقوطُها في هذه القراءاتِ يؤيِّد زيادتها في المشهورةِ. وقرأ الحسن أيضاً فيما رَوَى عنه أبو بكر ابن مجاهد» لَيْلاً يَعْلَمَ «بلام مفتوحةٍ وياءٍ ساكنةٍ كاسم المرأة ورفعِ الفعلِ بعدها. وتخريجُها: على أنَّ أصلَها: لأَنْ لا، على أنها لامُ الجرِّ ولكنْ فُتِحَتْ على لغةٍ معروفة، وأنشدوا: 4237 أُريدُ لأَنْسَى ذِكْرَها. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . بفتح اللام، وحُذِفَت الهمزةُ اعتباطاً، وأُدْغمت النونُ في اللام فاجتمع ثلاثة أمثالٍ فثَقُلَ النطقُ به فأبدلَ الوسطَ ياءً تخفيفاً، فصار اللفظُ» لَيْلا «كما ترى ورُفِع الفعل؛ لأنَّ» أَنْ «هي المخففةُ لا الناصبةُ، واسمُها على ما تقرَّر ضميرُ الشأنِ، وفُصِل بينها وبين الفعلِ الذي هو خبرُها بحرفِ النفي. وقرأ الحسن أيضاً فيما روى عنه قطرب «لِيْلا» بلام مكسورة وياءٍ ساكنةٍ ورفع الفعل، وهي كالتي قبلها في التخريج. غايةُ ما في الباب أنه جاء بلامٍ مكسورةٍ كما في اللغة الشهيرة. ورُوي عن ابن عباس «لكي يعلَمَ»، و «كي يعلم» وعن عبد الله «لكيلا» وهذه كلُّها مخالِفةٌ للسوادِ الأعظمِ ولسوادِ المصحف. وقرأ العامَّةُ {أَنْ لا يَقْدِرُون} بثوبت النون على أنَّ «أَنْ» هي المخففة وعبد الله بحَذْفِها على أَنَّ «أَنْ» هي الناصبة وهذا شاذٌّ جداً؛ لأنَّ العِلْمَ لا تقع بعده الناصبةُ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

سورة المجادلة

سُورَةُ المجادلة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله عزَّ وجلَّ: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) إدغام الدال في السين حسن، لقرَب المخرجين. يقرَأ (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ) بإدغام الدال في السين حتى لا يلفظ التكلم بِدال. وإنما حسن ذلك لأنَّ السين والدال من حروف طرف اللسان فإدغام الدال في السين تقوية للحرف. وإظهار الدال جائز لأن موضع الدال - وإن قَرُبَ من موضع السين - فموضع الدال حَيِّزٌ على حدة. ومن موضع الدال الطاء والتاء، هذه الأحرف الثلاثة موضعها واحد. والسين والزايُ والصاد من موضع واحدٍ، وهي تسمى حروف الصفير، فلذلك جاز إظهار الدال. وهذه الآية نزلت بسبب خَوْلَة بنت ثعلبة، وَأوْس بن الصامت وكانا من الأنصار، قال لها: أنت على كظهر أُمِّي. وقيل قَالَ لها أنت على كأُمِّي. وكانت هذه الكلمة مما يطلق بها أهل الجاهلية، فروَوْا أنها صارت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إنَّ أوْساً تزوجَنِي وأنا شَابَّة مرغوب فِيَّ، فلما خلا سني ونثرتُ بَطني، أي كثر ولدي جعلني عليه كأمِّه. فروي أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال لها: ما عندي في أمرك شيء، فشكت إلى اللَّه عزَّ وجلََّ وقالت: اللهم إني أشكو إليك. وروي أيضاً أنها قالت للنبي عليه السلام فيما قالت: إن لي صبية صِغَاراً إن ضممتهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إليَّ جاعوا، فأنزل اللَّه

(2)

- عزَّ وجلَّ - كفَّارة الظِّهار. وفي هذا دَليل أنه لا يكون ما يطلق به الجاهلية طلاقاً إلا أن يأتي الإسلام بذلك نحو ما قالوا في خليَّة وبَرِيَّة وحبلك على غاربك. وأصل قولهم: أنْتِ طَالِقٌ لَمَّا أتى الِإسلام بحكم فيه مضى على حكم الإسلام. * * * وقوله: (الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) المعنى ما اللواتي يجعلن من الزوجات كالأمهات بأُمَّهَاتٍ. (إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ). المعنى ما أمهاتهم إلا اللائي وَلَدْنَهُمْ، فذكر اللَّه - عزَّ وجلَّ - الأمَّهاتِ في موضع آخر فقال: (وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ)، فأعلمَ اللَّهُ أنَّ المرضِعَاتِ أمهاتٌ، والمعنى ما أمهاتهم إلا اللائي ولَدْنَهم، أي الوَالِداتُ والمرضِعَاتً. فلا تكن الزوجات كهؤلاء، فأَعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أن ذلك منكر وباطل فقال: (وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ). عفا عنهم وغفر لهم بجعله الكفارة عليهم. و (الذِين) في مَوْضِع رَفْعٍ بالابتداء، وخبره (مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ). وأمهاتهم في موضع نصب على خبر (ما). المعنى ليس هن بأُمَّهَاتِهِمْ. * * * وقوله: (وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) (الذين) رفع بالابتداء، وخبرهم فعَلَيْهم تَحْرِير رَقَبَةٍ، ولم يذكر " عَلَيْهم " لأن في الكلام دليلًا عليه، وإن شئت أضمرت فكفارتهم تحريرُ رَقَبَةٍ. (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا). فاختلف أهل العلم فقال بعضهم: الكفارة للمسيس. وقال بعضهم: إذا أراد العوْدَ إليها والِإقامة مسَّ أو لم يمس كفَّرَ.

(4)

وقوله عزَّ وجلَّ: (ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ). المعنى ذلكم التغليظ في الكفَّارة توعظون به. وقال بعض الناس لا تجب الكفَّارة حتى يقول ثانية: أنت عليَّ كظهر أُمِّي. وهذا قول من لا يدري اللغة، وهو خلاف قول أهل العلم أجمعين. إنما المعنى ثم يعودون العودة التي من أجل القول، فلتلك العودة تلزم الكفارة لا لكل عودَة. وفيها قول آخر للأخفش وهو أن يُجْعَلَ " لما قالوا " من صلة فتحرير رقبة، فالمعنى عنده: والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون فتحرير رقبة لما قالوا، فهذا مذهب حسن أيضاً. والدليل على بطلان هذا القائل أن " ثم يعودون لما قالوا " أن يقول ثانية: أنت على كظهر أُمِّي - قول جميع أهل العلم ومتابعته هو إياهم: (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا) فأجمعوا أنه ليس (فَإِنْ فَاءُوا) فإن حَلَفُوا ثانية. ومعنى فاءوا في اللغة وعادوا معنى واحد. وقوله: (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) كناية عن الجماع، ودليل ذلك قوله: (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ). فالمعنى من قبل أن تدخلوا بِهِنَّ. * * * وقوله: (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4) المعنى فمن لم يجد الرقبة فكفارته صيام شهرين متتابعين، وإن شئت فعليه صيام شهرين متتابعين. ولو قرئت فَصِيَامٌ شهرين جَازَ كما قال اللَّهُ - عزَّ وجلَّ - (أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15). ولا أعلم أحداً قرأ بالتنوين. * * * وقوله: (فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا).

(5)

" مَن " في موضع رفع على معنى فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ الصيام فكفارتُه إِطعام سِتَينَ مِسْكِيناً، وكذلك فإطعامٌ بالتنوين ولا أعلم أحداً قرأ بها. وقوله: (ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ). (ذَلِكَ) في مَوْضِع رَفْعٍ، المعنى الفرض ذَلِكَ الذِي وَصَفْنَا. ومعنى لتؤمنوا باللَّه ورسوله، أي لتصَدِّقوا ما أتى به رسول اللَّه، ولتصَدِّقوا أن اللَّه أمرنا به. (وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ). أي تلك التي وَصَفنا في الظِّهار والكفَّارة حدودُ اللَّهِ. (وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ). أي لمن لم يصدق بها، وأليم مؤلم. * * * وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (5) معنى (كُبِتُوا) أُذلُّوا وأُخْزوا بالعذاب وبأن غلِبُوا، كما نزل بمن قَبلَهُم ممنْ حَادَّ اللَّهَ. ومعنى (يُحَادُّونَ اللَّهَ) ويشاقون الله أي هم في غير الحَدِّ الذي يكون فيه أولياء اللَّه، وكذلك يُشَّاقُون يكونون في الشق الذي فيه أعداء اللَّه. * * * وقوله: (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6) (يَوْمَ) منصوب بمعنى قوله: وللْكَافِرين عَذَابٌ مُهِينٌ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا)، أي يبعثهم مجتمعين في حال واحدة. (فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا). أي يخبرهم بذلك ليعلموا وجوب الحجة عليهم. * * * وقوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)

(8)

أي يعلم كل ما في السَّمَاوَات وكل ما في الأرض مما ظهر للعباد ومما بطن. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ). أي ما يكون من خَلْوَةِ ثلاثةٍ يسرون شيئاً وَيتناجون به إلا وهو رابعهم عالم به، وهو في كل مكانٍ، أي بالعلم. ونجوى مشتق من النجوة وهو ما ارتفع وَتَنَحَّى تقول: فلان من هذا المكان بنجوةٍ إذا كانت ناحية منه فمعنى تناجون يتخالون بما يريدونَ. وذكر الله هذه الآية لأن المنافقين واليهودَ كانوا يتناجَوْنَ، فيوهمونَ المسلمين أنهم يتناجون فيما يسوءهم ويؤذيهم فيحزنون لذلك، فنهي الله عزَّ وجلَّ - عق تلك النجوى فعاد المنافقون واليهود إلى ذلك فأَعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم قد عادوا في مثل تلك النجوى بعينها فقال: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) أي يوصي بعضهم بعضاً بمعصية الرسول. (وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ). أي هَلَّا يعذبُنَا الله بما نقول، وكانوا إذا أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - قالوا: السام عليكم، والسام: الموت، فقالوا: لم لا ينزل بنا العذاب إذا قلنا للنبي - عليه السلام - هذا القول، واللَّه - عزَّ وجلَّ - وَعدهم بعذاب الآخرة وبالخزي في الدنيا، وبإظهار الإسلام وأمْرِ النبي - صلى الله عليه وسلم - وغَلَبَةِ حِزْبِه، فقال: (حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا). وقال: (كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ). وقال: (فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56). فصدق وَعْدَهُ ونصر جُنْدَهُ رأظْهَرَ دِينَهُ وكبت عَدُوَّهُ.

(9)

وقوله عزَّ وجلَّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) أي إذا تخاليْتُمْ لِلسِّر فلا تخالوا إلا بالبرِّ والتقوى، ولا تكونوا كاليهود والمنافقين. وفي تناجوا ثلائة أوجهٍ: فلا تتناجَوْا بتاءين ظاهرتين. وبتاء واحدة مدغمة مشدَّدَةٍ: فلا تَنَاجَوْا. وإنما أدْغمت التاءان لأنهما حرفان من مخرج واحد مُتحرّكان وقبلهما ألف، والألف قد يكون بعدها الدغم نحو دَابَّةٍ وَرَادَّ. ويجور الِإظهار لأن التاءين في أول الكلمة وأن " لا " كلمة على حالها. و" تتناجوا " كلمة أخرى، فلم يكن هذا البناء لاَزِماً فلذلك كان الِإظهار أجود. ويجوز الِإدغام، ويجوز حَذْفُ التاء لاجتماع التاءين. يحكى عن العرب " تبين هذه الخصلة، وتتبين هذه الخَصْلَةُ، وفي القرآن لعلكم تَذَكَّرُون، وَتَتَذَكَّرُونَ وتذكُرون واحدة، ولا أعلم أحداً قرأ " ولا تناجوا " بتاء واحدة ولكن تقرأ " فَلَا تَنْتَجُوا " أي لا تفتعلوا من النجوى. * * * وقوله: (إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10) أي النجوى بالِإثْمِ والعًدْوَانِ مِنَ الشَيطانِ ليحزن الذين آمنوا. ويجوز (ليُحْزِنَ الذين آمنوا) - بضم الياء وكسر الزاي - العرب تقول: حزنني الأمر وأحزنني. (وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا). أي ليس يضرُّ التناجي المؤمنين شيئاً. ويجوز أن يكون وليس بضارهم الشيطان شيئاً. وقوله: (إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ)، أي لا يضرهم شيء إلا ما أراد الله (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ). أي يكلون أمرهم إلى الله ويستعيذون به من الشيطان الرجيم.

(11)

وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11) (فِي الْمَجْلِسِ) (تَفَسَّحُوا) ويقرأ (في المَجَالِس) وتقرأ (تَفَاسَحُوا). وجاء في التفسير أن المجلس ههنا يعنى به مجلس النبي - صلى الله عليه وسلم - وقيل في المجالس مجالس الحرب مثل قوله تعالى: (مقاعد للقتال). فأمَّا مَا أمِروا به في مجلس النبي عليه السلام فقيل إن الآية نزلت بسبب عبد اللَّه بن شَمَّاسٍ وكان من أهل الصفَّةِ، وكان من يجلس في مجلس النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذوي الغِنَى والشرف كأنهم لَا يُوَسعُون لِمَنْ هو دونَهمْ، فأمر اللَّه المؤمنين بالتواضع وأن يفسحوا في المجلس لمن أرادَ النبي - صلى الله عليه وسلم - ليتساوى الناس بالأخذِ بالحظ منه. (وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا). أي إذا قيل انهضوا - قوموا - فانهضوا. وهذا كما قال: (وَلَامُسْتَانِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُوذِي النَبِى فَيَسْتَحي مِنْكُمْ). وَقِيلَ أيْضاً (وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا) أي إذا قيل قوموا لصلاة أو قضاء حَقٍّ أو شهادَةٍ فانشُزُوا. ويجوز " انشُروا فانْشُرْوا، جميعاً يقرأ بهما ويرويان عن العرب نشر ينشرُ وينْشِز. * * * وقوله: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ). والدليل على فضل أهل العلم ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: عبادةُ العالم يَوْماً واحِداً تعدِلُ عِبَادَةَ العابد الجاهل أربعين سنةً. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أي إذا خاليتم الرسول بالسِّرِّ فقدموا قبل ذلك صدقة وافعلوا ذلك. وقيل إن سبب ذلك أن الأغنياء كانوا يستخلون النبي - صلى الله عليه وسلم - فَيُسَارُّونَه بما يريدونَ، وكان الفقراء لا يتمكنون من النبي - صلى الله عليه وسلم - تمكنهم ففرض عليهم

(13)

الصدقة قبل النجوى ليمتنعوا من ذلك، فروي أن عَلِيًّا رحمه الله أراد أن يناجِيَ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فتصدق بدينار باعه بعشرة دَرَاهم قبل منَاجَاتِه، ثم نسخ ذلك الزكاة فقال - عزَّ وجلَّ: (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13) أي أطيعوه في كل أمْرٍ، ودخل في ذلك التَّفَسُّحُ في المجْلِسِ لتَقَارُب النَّاسِ في الدُّنُوِ من النبي عليه السلام. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) هؤلاء المنافقون تولَّوُا اليهودَ. ومعنى قَوله: (ويحْلِفُونَ عَلَى الكَذِبِ) يَدل على تفسيره قوله: (وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ) وقوله: (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ) يدل عليه قوله: (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ). * * * وقوله: (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19) معنى " استحوذ " في اللغة استولى، يقال: حُذْتُ الِإبِلَ وَحُزْتُهَا إذا استوليت عليها وجمعتها، وهذا مما خرج على أصله ومثله في الكلام أجْوَدْتُ وأطيبتُ، والأكثر أجدتُ وأطَبتُ، إلَّا أنَّ استحوذ جاء على الأصل، لأنه لم يُقَلْ عَلَى حَاذَ لأنه إنما بني على استفعل في أول وهلة كما بني افتقر على افتعل وهو من الفقر ولم يُقَلْ منه فَقُرَ ولا استعمل بغير زيادة، ولم يقل: حاذ عليهم الشيطان ولو جاء استحاذ كان صواباً، ولكن استحوذ ههنا أجود لأنَّ

(20)

الفعل في ذا المعنى لم يستعمل إلا بزيادة. وقوله عزَّ وجلَّ: (أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ). قال أبو عبيدة: حزب الشيطان جند الشَيطان، والأصل في اللغة أن الحزب الجمع والجماعة، يقال منه: قد تحزب القوم إذا صاروا فِرَقاً، جماعةً كذا وجماعة كذا. * * * وقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) قد فسرنا يحادون ومعناه يشاقونَ أي يصيرون في غير حَد أولياء اللَّه. وفي غير شِقِّهِمْ. (أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ)، أي أولَئِكَ في المغلوبين. * * * وقوله: (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) أي قضى الله قضاء ثابتاً، ومعنى غلبة الرسل عَلَى نَوعين: مَنْ بُعِثَ بالحرب فغالب في الحرب. ومن بعث منهم بغير حرب فهو غالب بالحجة. (إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ). أي مانعٌ حِزْبَهُ من أن يُذَلَّ لأنه قال جلَّ وعلَا: (أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ). والعزيز الذي لا يُغلب وَلَا يُقْهَر. * * * وقوله: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22) جاء في التفسير أن هذه الآية نزلت بسبب حاطب بن أبي بَلْتَعة، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - عزم على قصد أهل مكة فكتب حاطب يشرح لهم القصةَ وُينْذِرَهمْ ليحرزوا فنزل الوحي على رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فذكر حاطبٌ لَمَّا وُبِّخَ بذلك أن له بمكة أهلاً وأنه لَيس لَه أحدٌ يكنفهم، وإنما فَعَلَ ذلك ليحاط أهله، فأعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أن إيمان المؤمِنِ يَفْسدُ بِمَوَدةِ الكفار بالمعاونة على المؤمنين. وأعلم اللَّه تعالى أنه من كان مؤمناً باللَّه واليوم الآخر لا يوالي مَنْ كَفَر، ولو كان أباه أو أُمَّه أو أخاه أوْ أحَداً مِنْ عَشِيرته.

وقوله تعالى: (أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ). يعني الذين لا يوادُّون من حَادَّ اللَّهَ ورَسوله، ويوالون المؤمنين. وقوله: (وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ). أي قواهم بنور الِإيمان بإحياء الإِيمان، ودليل ذلك قوله: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا). فكذلك: (وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ). فأعلم الله عزَّ وجلَّ أن ذلك يوصلهم إلى الجنَّة فقال: (وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ). أي الذين لَا يُوادُّونَ من حاد الله ورسوله ومن المؤمنين، وحزب الله أي الداخلون في الجمع الذي اصطفاه الله وارتضاه. وقوله: (أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ). (أَلَا) كلمة تنبيه، وتوكيد للقصَّةِ. و (الْمُفْلِحُونَ) المدركون البقاء في النعيم الدائم.

سورة الحشر

سُورَةُ الحشر (مَدنية) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) افتتح اللَّه السورة بذكر تقديسه وأن له أشياء تبرئُهُ من السُّوءِ ومثل ذلك قوله: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ). * * * وقوله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2) هَؤلَاءِ بنو النضير، كان لهم عزَّ ومنعة مِنَ اليهود، فظنَّ الناس أنهم لعزهم وَمَنْعَتِهِمْ لا يخرجون من ديارِهِمْ، وظنَّ بنو النضير أنَّ حُصُونَهمْ تمنعهم من الله، أي من أمر اللَّه (فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ). - كان بنو النضير لما دخل النبي عليه السلام المدينة عاقدوه ألَّا يكونوا عليه ولا معه، - فلما كان يوم أحد وظهر المشركون على المسلمين نكثوا ودخلهم الريب، وكان كعب، بن الأشرف رئيساً لهم فخرج في ستين رَجُلًا إلى مكة وعاقد المشركين على التظاهر على النبي عليه السلام، فأطلع اللَّه نبيه عليه السلام على ذلك، فلى ما صار إلى المدينة وَجَّهَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - محمد بن مسلمة ليَقْتلَه، وكان محمد بن مَسْلَمَةً رضيعاً لكعب، فاستَأذَنَ محمد بن مسلمة رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - في، أن ينال منه [ليعتر] كعب بن الأشرف، فجاءَهُ محمد

(5)

ومعه جماعة فاستنزله من منزله وأوهمه أنه قَدْ حُمِلَ عَلَيْهِ في أخذ الصدقَةِ مِنهُ فلما نزل أخذ محمد بن مَسْلَمَةً بناصيته وكَبَّرَ، فخرج أصحابه فقتلوه في مكانِه، وغَدَا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غازياً بني النَضِير فأناخ عليهم، وقيل إنه غزاهم على حمار مخطومِ بليف، فكان المؤمِنونَ يخربون من منازل بني النضير ليكون لهم أمكنة للقتال، وكان بنو النضير يخربون منازلهم ليَسدُّوا بها أبْوابَ أزقتهم لِئَلَّا يُبْقَى علي المؤمنين، فقذف اللَّهُ في قلوبهم الرعْبَ (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ). ومعنى إخرابها بأيدي المؤمنين أنهم عَرَّضُوهَا لِذَلك. ففارقوا رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - على الجلاء من منازلهم وأن يحملوا ما استقلت به إبِلهمْ ما خلا الفضة والذهب، فجلوا إلى الشام وطائفة منهم جلت إلى خيبر وطائفة إلى الحيرة، وذلك قوله: (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ). وهو أول حَشْرٍ حُشِرَ إلى الشامِ - ثم يحشر الخلق يوم القيامةِ إلى الشامِ ولذلك قيل لأول الحشر. فجميع اليهود والنصارى يُجْلَوْنَ من جزيرة العَرَبِ. وروي عن عمرَ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لأخْرِجَنَّ اليهُودَ مِنْ جَزِيرَةِ العَرَبِ ". قال الخليل: جزيرة العرب مَعْدِنها وَمَسْكَنها، وإنما قيل لها جَزِيرة العَرَبِ لأن بحر الحبس وبحر فارس ودجلة والفرات قد أحاطت بها، فَهِيَ أرضها ومَعْدِنها. قال أبو عبيدة: جزيرة العرب من [جَفْر] أبي موسى إلى اليَمَنِ في الطول ومن رمل بَيْرِينَ إلى منقطع السماوة في العرض. وقال الأصْمَعِى إلى أقصى عَدَن أبْيَن إلى أطراف اليمن حتى تبلغ أطرافَ بَوَادي الشام. * * * وقوله تعالى: (مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5) أي ما قطعتم من نخلة - والنخل كله ما عدا البرني والعجوة يسميه أهل المدينة الألْوَان، وأصل لِينَةٍ لِوْنَهَ فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها فقيل لينة.

(6)

فأنكر بنو النضير قطع النخل فأعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أن ذلك بإذنه - القطع والترك جميعاً. (وليُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ). بأن يريهم أموالهم يتحكم فيها المسلمون كيف أحبوا. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) يعني ما أفاء اللَّه على رسوله من بني النضير مما لم يوجفوا عليه خيلاً ولا ركاباً - والركاب الإِبلُ والوَجِيفُ دون التقريب من السير، يقال: وجف الفرس وأوجَفته، والمعنى أنه لا شيء لكم فيه إنما هو لرسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - خالصاً يعمل فيه ما أحب، وكذلك كل ما فتح على الأئمة مما لم يوجف المسلمون عليه خيلًا ولاركاباً. * * * وقوله: (مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7) معنى (فلِلَّهِ) أي له أن يأمركم فيه بما أحَبَّ. (وَلِلرسُولِ وَلِذِي القُرْبَى). يعني ذوي قرابات النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنهم قد منعوا الصدقة فَجُعِلَ لهم حَق في الفيء. (وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ). * * * وقوله: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) بَيَّنَ مَن المَسَاكِينُ الذين لهم الحق فقال: (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ). * * * وقوله: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) يعني الأنصار.

(10)

(وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ) يعني المهاجرين. (يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ) أي يحب الأنْصَارُ المُؤْمِنِينَ. (وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا). أي لا يجد الأنصار في صدورهم حاجة مما يُعْطَى المهاجرونَ. وقوله: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ). قال أبو إسحاق: ما أفاء اللَّه على رسوله من أهل القرَى نحو خيبر. وما أشْبَهَهَا، فالأمر عند أهل الحجاز في قسمة الفيء أنه يُفَرَّق في هذه الأصْنَافِ المسمَّاة على قَدْرِ ما يراه الِإمام على التحري للصلاح في ذلك إن رأى الِإمام ذلك، وإن رأى أنَّ صِنفاً من الأصناف يحتاج فيه إلى جميع الفيء صرف فيه أو في هذه الأصنافِ عَلى قَدْرِ مَا يَرَى. * * * قوله: (كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ). يقرأ بضم الدال وفتحها - فالدُّولَة اسم الشيء الذي يتداول. والدَّوْلَة الفِعْل والانتقال من حال إلى حالٍ. وقرئت أيضاً (دُولَةٌ) - بالرفع - فمن قرأ " كَيْلاَ يَكُونَ دُولَةٌ " فعلى أن يكون على مذهب التمام. ويجوز أن يكون " دُولَةٌ " اسمَ يكونُ وخَبَرُها " بين الأغنياء ". والأكثر (كيلا يكونَ دولةً بيْنَ الأغْنِيَاءِ مِنْكُمْ) على معنى كيلا يكون الفيء دولةٍ، أي متداولًا. وقوله: (وَمَا آتَاكَم الرسُولُ فَخُذوهُ). أي من الفيء. (وَمَا نَهَاكمْ عَنْهُ) أي عن أخذه (فَانْتَهوا). * * * قوله (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10) أي ما أفاء اللَّه على رسوله من أهل القُرى فلله ولرسوله ولهؤلاء

(11)

المسلمين وللذين يجيئون من بعدهم إلى يوم القيامة، ما أقاموا على محبة - أصحاب رسول الله عليه السلام. ودليل ذلك قوله: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ) في حال قولهم: (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ. .). الآية. فمن يترحم على أصحاب رسول اللَّهِ ولم يكن في قلبه غِلٌ لهم أجمعين فله حظٌّ فِي فَيْء المسلمين، ومن شَتَمُهُمْ ولم يترحم عَلَيهم أو كان في قَلْبِهِ غِلٌّ لَهُمْ فما جعل الله له حقًّا في شيء من فيء المسلمين. فهذا نصُّ الكتَابِ بَيِّنٌ. * * * قوله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) هُمْ إِخْوَانُهُمْ يَضُمُّهُمْ الكُفْرُ. (لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ). وقد بَانَ ذلك في أمر بني النضِير الذين عاقدهم المنافقون لأنهم أخرجوا من ديارهم وأموالهم فلم يخرج معهم المنافقون، وقُوتلُوا فلم ينصروهم. فأظهر الله عزَّ وجلَّ كَذِبَهُمْ. فإن قال قائل: ما وجه قوله: (وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ) ثم قال: (وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ). قال أهل اللغة في هذا قولين: قالوا معناه أنهم لو تَعَاطَوْا نَصْرَهُمْ، أي ولئن نَصَرهُم مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ. * * * وقوله: (لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14)

(15)

وقرئت (أَوْ مِنْ وَرَاءِ جِدَارٍ) - على الوَاحِد - وقُرئت بتسكين الدال. فمن قرأ (جُدُرٍ) فهو جمع جدار وجُدُرٍ مثل حمار وَحُمُرٍ. ومن قرأ بتسكين الدال حذف الضمة لِثِقَلِهَا كما قالوا صُحْفٌ وَصُحُفٌ. ومن قرأ (جِدَارٍ) فهو الوَاحِد. فأعلم اللَّه عزَّ وجلَّ أنهم إذا اجتمعوا على قتالِكم لما قذف اللَّه في قلوبهم مِنَ الرُعبِ لا يبرزون لحربكم إنما يقاتلون متحصنين بالقرى والجُدْرانِ. وقوله: (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى). أي مختلفون لا تستوي قلوبهم ولا يتعاونون بِنيات مُجْتَمِعَة لأن اللَّه - - عزَّ وجلَّ - ناصر حزبه وخاذِل أعدائِه. * * * وقوله: (كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (15) مثل ما نال أهل بَدْرٍ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16) أي مثل المنافقين في غرورهم لبني النضِير وَقَوْلهِم لَهُمْ: (لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ) - (كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ) وهو - واللَّه أعلم - يدل عليه قوله: (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ). فكذلك المنافقون، لَمَّا نَزَلَ ببني النضِيرِ ما نزل تبرأوا منهم. وقد جاء في التفسير أن عابداً كان يقال له بَرْصِيصَا كان يُدَاوِي مِنَ الجُنُونِ فداوى امرأة فأعَجَبته فأغواه الشيطان حتى وَقَعَ بها ثم قتلها - ثم تبرأ

(17)

منه الشيطان، وفي الحديث طول ولكن هذا معناه. * * * وقوله: (فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17) وقرأ عبد الله بن مسعود أنهما في النار خَالِدَان فِيهَا، وَهوَ في العربيةِ جائز إلَّا أنه خلاف المصحف، فمن قَالَ (خَالِدَيْن فيها) فنصب على الحال. ومن قرأ (خالدان) فهو خبر أَنَّ. والقراءة فَكانَ عَاقِبَتهُمَا على اسم كانَ ويكون خبر كانَ أنهما في النار على معنى فكان عاقبتهما كَوْنَهُما في النَّارِ ويقرأ فكان (عاقِبَتُهُمَا) والنصب أحسَنُ. ويكون اسم كان (أَنَّهُمَا). * * * وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) أي ليوم القيامَةِ، وقُرِّبَ على الناسِ فجعل كأنه يأتي غَداً. وأصل غَدٍ غَدْوٌ إلا أنه لم يأت في القرآن إلا بحذف الواو، وقد تُكُلِّمَ به بحذف الواو، وجاء في الشَعْر بإثبات الواوِ وحَذْفِها. قال الشاعر في إثباتها: وما الناسُ إلاَّ كالدِّيارِ وأَهلِها. . . بها يومَ حَلُّوها وغَدْواً بَلاقِعُ وقال آخر: لا تَغْلُواها وادْلُواها دَلْوَا. . . إنَّ مَعَ اليَوْمِ أَخاه غَدْوَ * * * وقوله عزَّ وجل: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) نسوا الله تركوا ذكره وما أمرهم به فترك اللَّه ذكرهم بالرحمة والتوفيق. * * * وقوله: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21)

(22)

ْأعلم اللَّه عزَّ وجلَّ أن من شأن القرآن وعَظَمَتِهِ وَبَيانِه أنه لو جُعِلَ في الجبل تمييز كما جعل فيكم وأنزل عليه القرآن لخشع وتصدَّع من خشية اللَّه ومعنى خشع تطأطأ وخضع، ومعنى تصدَّع تشققَ. وجائز أن يكون هذا عَلَى المَثَلِ لقوله: (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ) كما قَالَ - سبحانه -: (لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90). * * * وقوله: (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هذا رد على أول السورة، على قوله: (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ). * * * قوله: (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) (الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ). والقدوس الطاهر ومن هذا قيل: بيت المقدس أي بيت المكان الذي يتطهر فيه من الذُنُوبِ. وقوله: (السَّلَامُ). اسم من أسماء اللَّه عزَّ وجلَّ، وقيل السلام الذي قد سَلِمَ الخلقُ من ظُلْمِهِ. (الْمُؤْمِنُ). الذي وَحَّد نَفْسَهُ بقوله: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). وقيل المؤمِنُ الذي أمِنَ الخلقُ من ظُلمِه. وقوله: (العَزِيزُ). أي الممتنِعُ الذي لا يغلبه شيء. (الْمُهَيْمِنُ). - جاء في التفسير أنه الشهيد، وجاء في التفسير أنه الأمين، وزعم بَعْضُ

(24)

أهل اللغة أن الهاء بدل من الهمزة وأن أصله المؤيمِنُ، كما قالوا: إِياك وهِيَّاكَ، والتفسير يشهد لهذا القول لأنه جاء أنه الأمِينُ، وجاء أنه الشهِيدُ. وتأويل الشهيد الأمين في شهادته. وقوله: (الْجَبَّارُ). تأويله الذي جبر الخلق على ما أراده من أمْرِه. وقوله: (الْمُتَكَبِّرُ). الذي تكبر عن ظلم عِبَادِه. (سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) تأويله تنزيه الله عن شركِهِمْ. * * * قوله: (هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24) وقد رويت رواية لا ينبغي أن تُقْرَأ، رويت (الْبَارِئَ الْمُصَوِّرَ) بالنصب معناه الذي برأ آدم وصَوَّرَة. وقوله: (لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى). جاء في التفسير أنها تسعة وتسْعُون اسماً، من أحصاها دَخَل الجنَّةَ وجاء في التفسير أن اسم اللَّهِ الأعظم اللَّه، ونحن نبيِّن هذه الأسماء واشتقاق ما ينبغي أن يبين منها إن شاء اللَّه. روى أبو هريرة الدوسي عن النبي عليه السلام قال إن للَّهِ مائة اسم غير واحِدٍ مَن أحصاها دخل الجنَّةَ. وهو الله الواحد الرحمن الرحيم الأحَدُ الصمَدُ الفرد السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق البارئ المصور الحي القيوم العَلِى الكبير الغني الكريم الولي الحميد العليم اللطيف السميع البصير الودود الشكور الظاهر البَاطِن الأول الآخر المبدئ البديع الملك القدوس الذَارِئ الفَاصِلُ الغَفُورُ المجيد الحليم الحفيظ الشهيد الربُّ

القدير التَّوَّاب الحافظ الكفيل القريبُ المجيب العَظيمُ الجليل العَفُوُّ الصَّفُوح الحق المبين المعز المذل القوِي الشديد الحنَّان المَّان الفتاح الرؤوف القابض الباسط الباعثُ الوَارِث الدَّيَّانُ الفاضل الرقيب الحسيب المتين الوكيل الزكي الطاهر المحسن المجمل المبارك السُّبُّوح الحكيم البرُّ الرَّزاق الهادي المولى النصير الأعلى الأكبر الوهاب الجواد الوفى الواسع الخلاَّق الوِتْر. جاء في التفسير أن اسم اللَّه الأعظم اللَّه. قال سيبويه: سألت الخليل عن هذا الاسم فقال: الأصل فيه إله فأدخلت الألف واللام بدلًا من الهمزة. وقال مرة أخْرَى: الأصل لَاهْ وأدْخِلَتِ الألف واللام لَازِمة. وأما الرحمن الرحيم فالرحمن اسم الله خاصة لا يقال لغير اللَّه رحمن، ومعناه المبالغ في الرحَمَةِ وأرحم الراحمين - وَفَعْلانُ من بناء المُبَالَغَةِ، تقول للشديد الامتلاء ملآنُ وللشديد الشبع شبعَانُ، والرحيم اسم الفاعِلِ من رحم فَهُوَ رَحِيم، وهو أيضاً للمبالغة والأحدُ أصله الوَحَدُ بمعنى الواحد، وهو الواحد الذي ليس كمثله شيء. والصَّمَدُ السيد الذي صَمَدَ له كل شيء، أي قصد قَصْدَهُ. وتأويل صمود كل شيء للَّهِ أن في كل شيء أثر صنعة اللَّه. السلام الذي سلم الخلق من ظلمه، وقد فَسَّرْنَا المؤمِن المهَيْمِن، وفسرنا الجبار المتكبر. والباريء الخالق، تقول برأ اللَّه الخلق يبرؤهم أي خلقهم، والقيُّوم المُبَالِغُ في القيام بكل ما خَلَقَ، وما أراد، والولي المتولي للمؤمنين اللطيف للخلق من حيث لا يعلمون ولا يقدرون، والودودُ المحب الشديد المحبَّةِ. الشكور الذي يرجع الخير عنده، الظاهر الباطن الذي يعلم مَا ظَهَرَ وَمَا بَطَن، المبدئ الذي ابتدأ كل شيء من غير شيء، والبديع الذي ابتدع الخلق على غير مثالٍ، القدُوس قد رويت القَدُّوس بفتح القاف، جاء في التفسير أنه المبارك، ومن ذلك أرض مقدَّسَةٌ مباركة، وقيل الطاهر أيضاً. والمذرئ - مهموز - الذي ذرأ الخلق أي خلقهم، والفاصل الذي فصل بين الحَقِّ والباطل، والغفور الذي

يغفر الذنوب، وتأويل الغفران في اللغة التغطيةُ على الشيء ومن ذلك المِغفَرُ ما غطَيَ به الرأس. المجيد الجميل الفعال، والشهيد الذي لا يغيب عنه شيء. والرَّبُّ مالك كل شيء والصَّفوح المتجاوز عَنِ الذُنُوبِ يصفح عنها. الحَنَّانُ ذو الرحمة والتعطف المَنَّان الكثير المَنِّ على عباده بمُظَاهر النعم. الفتاح الحاكم، الدَّيَّانُ المجازي، الرقيب الحافظ الذي لا يغيب عنه شيء. المتين الشديد القوة على أمْرِه، الوكيل الذي يوكل بالقيام بجميع ما خلق. والزكي الكثير الخير السُّبُّوح الذي بيَّن عن كل سِرٍّ، الحليم الذي لا يعجل بالعقوبة، وكان الحلم على هذا تأخير العقوبة.

سورة الممتحنة

سُورَةُ الممتحنة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1) قيل المعنى تُلقُونَ إليهم المودَّةَ، والمعنى - واللَّه أعلم - يلقون إليهم أخبار النبي عليه السلام وسِرَّهُ بالمودةِ التي بينكُمْ وبينهم، ودليل هذا القول: (تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ) ما يستره النبي عليه السلام بالمودة. ويروى أنها نزلت في حاطب بن أبي بلتعة، وكان كتب إلى أهل مكة يتنصُحُ لهم، فكتب إليهم أن رسول الله يريد أن يغزوكم فخذوا حذركم فأطلع اللَّه نبيه على ذلك، وكان كتب إليهم كتاباً ووجه به مع امرأةٍ يقال إنها كانت مولاة بني هاشم، فوجَّه رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - بعَلِى والزبَيْرِ خلفَها فلحقاها فسألاها عن الكتاب فأنكرت، ففتشا ما معها فلم يجدا شيئاً، فقال علي رضوان اللَّه عليه: إن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - لم يَكذِبْنا فأقسم عليٌّ عليها لتخرجن الكتابَ أو ليضربنها بالسيف، فقالت لهما: وَلِّيَا وُجُوهكما وأخرجت الكتابَ من قرن من قرون شعرها، فجاء بالكتاب إلى النبي عليه السلام فعرضه على حاطب فاعترف به وقال إن لي بمكة أهلًا ومالًا فأردت أن أتقرب مِنْهُمْ، ولَنْ يرد اللَّه بأسه عنهم، فأنزل الله عزَّ وجلَّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ) الآية إلى آخر القصة.

(2)

وأما قوله: (إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي). هذا شرط جوابه تَقَدَّم. المعنى إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي فلا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء. وجهاداً، وابتغاء) منصوبان لأنهما مفعولان لهما. المعنى إن كنتم خرجتم لجهاد وابتغاء مرضاتي فلا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء. ثم أعلمهم تعالى أنه ليس ينفعهم التقرب إليهم بنَقْل أخبار النبي عليه السلام فقال: * * * (إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) معنى يثقفوكم يلقَوْكم. (وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ). ثم أعلمهم أن أهلهم وأولاَدَهم لا ينفعُونهم شيئاً في القيامةِ فقال: (لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3) قرئت (يَفْصِلُ) على أربعة أوجه. يَفْصِل بينَكُمْ على مَعْنَى يفصل اللَّه بينكم، ويُفْصَلُ بينكم على ما لم يسمَّ فاعله، والمعنى راجع إلى الله عزَّ وجلَّ. ويُفَصَّلَ بَيْنَكُمْ - بتشديد الصاد وفتحها وضم الياء على ما لم يُسمَّ فاعله. وقرئت يُفصَّل بينكم، ويجوز نُفصِّل بينكم ونُفصِل بينكم - بالنون. فهذه سِتَةُ أوجُهٍ. * * * وقوله تعالى: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءَاءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ إِسْوَةٌ) ويجوز أسوة بضم الهَمْزَةِ. (فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءَاءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ). فأعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أن أصحاب إبراهيم صلوات اللَّه عليه تَبَرأوا من قومهم وعَادَوْهًمْ، فأمِرَ أصحاب النبي عليه السلام أن يتأسَّوْا بهم وبقولهم.

(5)

وقوله: (إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ). فإن ذلك عن موعدة وعدها إياه، فلما تبين له إقامَتُهُ على الكفر تبرَّأ منه. فأمَّا ما يجوز في " بُرَءاءُ منكم " فأربعة أوجه: أجودُها بُرَءَاءُ على فُعَلاء، مثل ظريف وظرفاء، وشريك وشركاء، وكذلك بري. وبُرَءَاءُ، ويجوز بُرَاء منكم وبَرَآءٌ منكم جميعاً بالمَد فمن قال بِراء بالمد فهو بمنزلة ظريف وظراف. ومن قال بُرَاءٌ بالضم - أبْدَلَ الضمَ من الكسرة كما قالوا رُخْلَةَ ورِخَال وقال بعضهم: رُخال بضم الراء وقالوا: شاة رُبَى وغَنَمٌ رُبَات وَرِبَابٌ - بضم الراء وكسرها - وهي الحديثة النتاج، أي الحديثة الولادة. ويجوز بَرَاء منكم بفتح الباء، لأن العَرَبَ تقول: أنا البراء مِنْكَ ويقول الاثنان والثلاثة: نحن البراء منك، وكذلك تقول المرأةُ: أنا البراء منك. فلا تقرأ من هذه الأوجه إلا بما قرأ به من تُوْجَد عنه القِراءةُ. * * * وقوله: (رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) معناه لا تظهرهم علينا فيظنوا أنهم على حق فَيَفْتَتِنُوا بِذَلِكَ. * * * وقوله: (عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) " عسى " واجبة من اللَّه. جاء في التفسير أنه يعني بهذا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تَزَوجَ أمَّ حبيبة بنت أبي سفيان، فهذه هي المودة وقيل إنه يعني به من أسلم مِنهُمْ فيكون بينكم وبينهم موَدَّة. * * * وقوله: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) " أن " في موضع جر بدل من " الذِين ". المعنى لا ينهاكم أن تبروا الَّذين لم يقاتلوكم في الدِّينِ. وهذا يدل على أن المعنى: لا ينهاكم الله عن بِرِّ الذين

(9)

بينكم وبينهم عَهْدٌ ودليل ذلك قوله: (وتُقْسِطُوا إلَيْهِمْ) أي وتعدلوا فيما بينكم وبينهم، من الوفاء بالعهد، يقال أقسط الرجل فهو مقسط إذا عَدَل، وقسط فهو قاسط إذا جار، وقيل إنه يعني به النساء والصبيانُ. * * * وقوله: (إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9) (ظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ) أي عاونوا على إخراجكم. (أَنْ تَوَلَّوْهُمْ) " أن " في موضع جر أيضاً على البدل. المعنى إِنَّمَا ينهاكم اللَّه عن أن تتولوا هؤلاء الذين قاتلوكم في الدِّين لأن مُكَاتَبَتهم بإظهار ما أسره النبي عليه السلام مُوِالِاةٌ. * * * وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) موضع " مهاجرات " نصب على الحال، وقيل المؤمنات وإن لم يُعْرَفْنَ بالِإيمانِ وَقَبْلَ أن يَصِلُوا إلى النبي عليه السلام، وإنما سمين بذلك لأن تقديرهُنَّ الِإيمان. (فَامْتَحِنُوهُنَّ). معناه اختبروهُنَّ. وهذه نزلت بسبب عهد الحديبية الذي كان بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين مَنْ عَاهَدَهُ بمكة من خزاعة وغيرهم، وكان عليه السلام عاهدهم على أنه من جَاءَ منهم إليه ردَّه إليهم، ومن صار من عنده إليْهِمْ لم يردوه إليه، فأعلم اللَّه - جلَّ وعزََّّ - أن من أتى من المؤمِنَاتِ ممن يريد الدخول في الِإسلام فلا يرجعن إلى الكُفَّار، فذلك قوله: (فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ). فأعلم عزَّ وجلَّ - أن إظهار الِإيمَانِ يدخُلُ في جملة الِإسلام، واللَّه عالم

بما في القلوب، وكانت المحنة إذَا جَاءَتِ المرأةُ المهاجِرَةُ أن تحلَّفَ باللَّه أنه ما جاء بها غَيرَة على زوجها، ولا جاءت إلا مُحِبَّةً لِلًهِ وَلرَسُولهِ وللرغْبَةِ في الإِسلام فَهذِهِ المِحنَةُ. وقوله تعالى: (فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ). أي لا تردوهُن، يقال: رجع فلان ورجعته. وقوله: (لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ). أي إنَّ المؤمنات لا يَحْلِلْنَ للكُفَارَ ولا الكفارُ يحلون للمؤمنات (وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا) فكان الزوج يُعْطَى مَهْرَ امرأته التي آمنت، وكان يؤخَذ مِنْهمْ مَهْرُ من مضى إليهم من نساء المؤمنين مِمن تلحق بزوجها إذا رغبت في الكُفْرِ. فأقامَتْ عَلَيْه. (وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ) أي وَلاَ إِثْمَ عليكم. (أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ) أي أن تزوجوهُنَّ. (إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) وهذا دليل على أن التَزْوِيج لَا بُدَّ فيه مِنْ مَهْرٍ. (وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ). أي إذا كفرن فقد زَالَتِ العِصمَةُ بين المشركةِ والمؤمِنِ، أي قد انبَتَّ عَقْدُ حبل النكاح، وأصل العصمة الحبل، وكل ما أَمْسَك شيئاً فقد عَصَمَهُ. وقرِئَت: (وَلَا تُمْسِكُوا). (وَلَا تَمْسَّكُوا)، والأصل تَتَمسًكوا من قَوْلكَ تَمَسَّكْت بالشيءِ إِذَا أنتَ لَمْ تُخْله من يَدِك أو إرادتِكَ، فحذفت إحدى التاءين. وقُرِئَتْ (تُمْسِّكُوا) - بضم التاء والتشديد من قَوْلكَ مَسَّكَ يُمَسِّكُ. وقرئت (تُمْسِكُوا) بضم التاء وتَخْفِيفِ السين على معنى أمْسَكَ يُمْسِكُ.

(11)

وقوله: (وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11) (فَعَاقَبْتُمْ) على فاعلتم، وقرئت فعقَبْتُمْ بغير ألف وتخفيف القاف. وجاء في التفسير فَغَنِمْتُمْ، وتأويله لأي اللغة كانت العقبى لكم، أي كانت العقبى والغلبة لكم حتى غنمتم. وعَقِبْتُم أجْوَدُها في اللغَةِ، وفَعَقَبتُمْ بالتخفيف جَيِّدٌ في اللغة أيْضاً. أي صارت لكم عقبى الغلبة، إلا أنَّهُ بالتشديد أبلغ. ومعنى (فعاقبتم) أصبتموهم في القتال بعقوبة حتى غنمتم. أي إنْ مَضَتْ امرأة منكم إلى من لا عهد بينكم وبينه. (فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا). أي مثل ما أنفقوا في مُهُورِهِنَّ، وكذلك إنْ مَضَتْ إلى من بينكم وبينهم عَهْدٌ، فنكثَ في إعطاء المَهْرِ فالذي ذهبت زوجَتُهُ كَانَ يعْطَى من الغنيمة المَهْرَ، فلا ينقص شيء من حقه، يعطى حَقَّهُ كاملاً بعد إخراج مهور النساء، فمن ثم دفع عمر بن الخطاب رحمه الله فيما رَوَوْا مهر أم أيمن. * * * وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أي لا يأتين بِوَلَدٍ ينسبنه إلى الزوج، فإن ذلك بَهتان وَفِرية. (وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ). قيل لا يعصينَك في أمر في النوح، وقيل في تمزيق الثياب وخمش الوجوه ومحادَثَةِ الرجال. والجملة أن المعنَى لَا يُعْصِيَنَك في جميع ما تأمُرُهُن به بالمعروف.

(13)

وروي أن النبي عليه السلام جلس على الصفا، وجلس عمر رحمه اللَّه دُونَهُ، فكن يبايعن النبي - صلى الله عليه وسلم - على ما تَضَمَّنَتْه الآية، ويمسحن أيدِيَهُنَّ بِيَدِ عُمرَ. وقيل كن يمسحن بأيديهن من وراء ثوبٍ. * * * وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13) يعني به اليهودُ. (كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ). أيْ كما يئس الكفارُ الذين لاَ يوقنون بالبعث من موتاهم أن يُبْعَثُوا، فقد يئس اليهود والذين عاقدوا النبي - صلى الله عليه وسلم - من أن يكون لهم في الآخرة حظ. وقيل: (قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ) أي من الذين في القبور، يعلمون أنهم لا حَظَّ لهم فِي الآخِرةِ.

سورة الصف

سُورَةُ الصَّف (مَكِّيَّة) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) قد فسرنا ما في قوله: (سَبَّحَ لِلَّهِ). * * * قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) الأصل " لما " فحذفت الألف لأن ما واللام كالشيء الواحد، فكثر استعمال " ما " واللام في الاستفهام، فإذا وقفت عليها قلت: لمه ولا يوقف عليها في القرآن بها لئلا يخالف المصحف. وينبغي للقارئ أنْ يَصِلَها. وهذا قيل لهم لأنهم قالوا: لو علمنا مَا أحَبُّ الأعمال إلى اللَّه - عزَّ وجلَّ - لأصبناه ولو كان فيه ذَهَابُ أنفسنا وأمْوَالِنَا فأنزل اللَّه - عزَّ وجلَّ -: (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) إلى قوله: (وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ). فلما كانَ يوم أحُدٍ تولَّى من تَوَلَّى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى كسرت رَبَاعيته وَشُجَّ في وَجْهِهِ أنزل اللَّه - عزَّ وجلَّ -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) (أنْ تَقُولُوا) في موضع رفِع. و (مَقْتاً) نصبٌ على. التمييز، المعنى كَبُرَْ قولكم ما لا تَفعلون مَقْتاً عند اللَه، ثم أعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - ما الذي يحبه فقال:

(4)

(إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4) أي بنيان لاصق بعضُه بِبَعْض لا يغادر بَعْضُه بَعْضاً. فأعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أنه يحب من يثبت في الجهاد في سبيله ويلزم مَكَانَهُ كَبُيُوتِ البناء المرْصُوصِ. ويجوز - واللَّه أعلم - أن يكون عني أن تستوي نِياتُهُمْ في حَرْبِ عَدُوهِمْ حتى يكونوا في اجتماع الكلمةِ ومُوَالَاةِ بعضهم بعضاً كالبنيانِ المرصوص. * * * وقوله: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5) قد بينَّا في سورة الأحْزاب ما كان آذوه به. (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ). أي عدَلُوا عنِ الحق وانصرفوا عنه فأضلَّهم الله وَصَرَفَ قُلوبَهُمْ. وقوله: (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) معناه لا يهدي من سبق في علمه أنَّهُ فَاسِقٌ. * * * وقوله: (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6) موضع (إِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) و (إذ قال موسى) جميعاً نصب. المعنى اذكر إذ قال موسى، واذكر إذ قال عيسى ابنُ مريم. أي اذْكر لقومِكَ وأُمَّتِكَ قَصةَ مُوسَى وعيسى وما كان عاقبة من آمَنَ بِهِمَا وعاقبة من كفر وآذى الأنبياءَ. وقولُه: (لِلْحَوَارِيينَ). قيل إن الحواريين سموا بذلك لبياض ثيابِهِمْ، وقيل كانوا قصَّارِينَ. والحَوارِيُّونَ خُلْصَان الأنْبِيَاءِ وصَفْوَتُهُمْ، والدليل على ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم -:

الزبيرُ ابنُ عَمَّتِي وحَوَاريِّي مِنْ أُمَّتِي. وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حواريُّون. وتأويل الحوارِيين في اللغة الذين أخلَصُوا ونُقُّوا من كُل عَيْبِ، وكذلك الدقيق الحوارَى من هذا، إنما سُمِّيَ لأنَّه يُنَقى من لُبَابِ البُرِّ وخالِصِه. وتأويله في الناس أنه الذي إذَا رُجِعَ في اختياره مَرة بعد مَرةٍ وُجِدَ نقيًّا مِنَ العُيُوب. فأصل التحوير في اللغة من حَارَ يحورُ، وهو الرجوع والترجيعُ. فهذا تأويله - واللَّه أعلم. وقوله: (مَنْ أنْصَارِي إلى اللَّهِ). أي من أنْصَارِي مع اللَّه، وقال قوم مَنْ أنْصَارِي إلى نَصْرِ اللَّهِ. وقال الشاعر: ولَوْحُ ذِراعَيْنِ في بِرْكةٍ. . . إِلى جُؤْجُؤٍ رَهِلِ المَنْكِبِ المعنى الكاهل مع جؤجؤ رهل الْمنْكِب. * * * وقو له: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ) وأكثر القراءة كونوا أنصارَ اللَّهِ، وهو الاختيار لقولهم نحن أنْصَارُ اللَّه. لأن الآيتين في جواب كونوا أنصاراً للَّهِ، نحن أنصَارُ اللَّهِ. ويجوز أن يكون " نحن أنصار اللَّه " جواباً لذلك. وقرئت (وَاللَّهُ مُتِمٌّ نُورَهِ) - (وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ) كلاهما جَيدٌ.

(12)

وقوله عزَّ وجلَّ: (فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ). مَعْنَى (أَيَّدْنَا) قَوَّينَا، واشتقاقه من الأيْدِ، والأيْدُ القوَّةُ. * * * وقوله: (يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) هذا جواب (تؤمنون باللَّه وَرَسُوله وتُجَاهِدُونَ) لأن معناه معنى الأمْرِ. المعنى آمنوا باللَّه ورسوله وجاهدوا في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم يغفر لكم ذنوبكم. أي إن فعلتم ذلك يغفر لكم. والدليل على ذلك قراءة عَبْدُ الله بن مسعودٍ: آمِنُوا باللَّهِ وَرَسولهِ، وقد غلِطَ بعض النحويين فقال: هذا جَوابُ " هل "، وهذا غلط بين، ليس إذا دلهم النبي على ما ينفعهم غفر الله لهم، إنما يغفر اللَّه لهم إذا آمنوا وجاهدوا. فإنما هو جواب (تُومِنُونَ باللَّهِ ورَسُوله وتجاهدون يغفر لكم). فأمَّا جواب الاستفهام المجزوم فكقَولكَ هل جئتني بشيء أعطكَ مثله. المعنى لو كنت جئتني أعطيتك، وَإِنْ جئتني أعْطَيْتُكَ. وكذلك " أين بيتك أزُرْكَ ". * * * وقوله: (فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ). أي في جنات إقامة وخلودٍ، يقال عَدَنَ بالمكان إذَا أقام به. * * * وقوله: (وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) المعنى ولكم تجارة أخرى تحبونها وهي نصر من الله وفتح قريب. وإن شئت كان رفعاً على البَدَلِ من (أُخْرَى). المعنى يُدْخِلْكُمْ جَنًاتٍ ولكُمْ نَصْرٌ من اللَّه وَفَتْحٌ قَرِيبٌ. * * * وقوله: (إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ). (مُصَدِّقًا) منصوب على الحال. أي إِني رسول اللَّه إليكم في حال

تصديقٍ لما تَقَدمَني من التوراة وفي حال تبشير برسول (يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ). قُرِئَتْ بفتح الياء - مِنْ بَعْدِيَ -. وبإسكان الياء، وحذْفِها من اللفظ لالتقاء السَّاكنين، وأَما في الكتاب فهي ثابتة. من بَعْدي اسمُه أحمد. والاختيار عند سيبويه والخليل تحريك هذه الياء بالفتح. فأمَّا من قرأ (يَغْفِر لكُمْ) - بإدغام الراء في اللام - فغير جائز في القراءة عند الخليل وسيبويه، لأنه لا تدغَمُ الراء في اللام في قولهما. وقد رُوَيتْ عن إمام عَظِيم الشأن في القِرَاءةِ. وهُوَ أبو عمرو بن العلاء، ولا أَحْسَبُه قرأ بها إلا وقد سمعها عن العَرَب. زَعم سيبويه والخليل وجميع البصريين - مَا خَلَا أَبا عمرو أن اللامَ تُدْغَمُ في الراءِ، وأن الرَّاءَ لا تُدغَمُ في اللامِ. وحجة الذين قالوا أن الراء لا تدغم في اللام أن الراء حرف مكرر قويٌّ فَإذَا أدغمت الراء في اللام ذهب التكرير منها. وَدَلِيلُهُمْ على أَن لَهَا فضلة عَلَى غَيْرِهَا في التمكن أَنَكَ لَا تميلُ ما كان على مثال فاعل إذا كان في أَوله حَرْفٌ مِنْ حُرُوف الإطباقِ أَو المسْتَعْلِيَةِ، وهي سبعة أَحْرُفٍ منها أَربعة مطبقة وهي الصَّادُ والضَّاد والطَّاءُ والظَّاء. وثلاثة مستعلية وهي: الخَاءُ والغَيْن والقاف. لا تقول: هذا صالح، بإمالة الصادِ، إلى الكسر - فإن كان في مَوْضع اللام رَاء جاز الكسر، تقول: هذا صَارِم. ولا تقول: مَرَرْت بضَابَطٍ - بإمالة الضادِ - ولكن تقول: مَررت بضارِبِ، فَتُسفِلَ الراءَ المكسورَة كَسْرَةَ الصاد والضادِ المطبقتين. وهذا الباب انفرد به البَصْرِيونَ في النحو وليس للكوفيين ولا المدنيين فيه شيء، وهو باب الِإمالةِ.

سورة الجمعة

سُورَةُ الجمعة (مدنية) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله عزَّ وجلَّ: (يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) (الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ) بضم القاف القراءة، وقد رُوِيتْ القَدُّوس بفتح القاف، وهي قليلة. ومعنى القدوس المبارَكُ وقيل الطاهِرُ أيضاً. * * * وقوله: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) (الْأُمِّيِّينَ) الذين لا يكتبون، الذين هم على ما خُلِقَت عليه الأمَّةُ قبل تعلم الكتاب، والكتَابُ لا يكون إلا بتعَلُّم ٍ. وقولهم في الذي لا يعرف الكلام ولا القراءة: هو يقرأ بالسليقة، أَي لم يتعلم القراءة مُعْرباً إنما يقرأ على ما سمع الكلام على سلِيقَتهِ. والسَّلِيقَةُ والطبيعةُ والنحيبَةُ والسَّجيَّةُ والسَّرجُوجَةُ، ْ مَعْنَاهُ كله الطبيعةُ. وقيل أول ما بدأ الكتاب في العرب بَدَا مِنْ أَهْل الطائِفِ، وذكر أَهل الطائف أنهم تعلمُوا الكتابة في أَهل الحِيرَةِ، وذكر أَهلُ الحيرَةِ أَنهم تعلموا الكتابة من أَهل الأنبار. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) " آخرين " في مَوْضِع جَرٍّ. المعنى هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ

(5)

وبَعَثَ في الذين لم يلحقوا بهم، أَي في آخرين منهم لَمَّا يَلْحَقوا بِهِم. فالنبي عليه السلام مبعوث إلى من شاهده وإلى كل من كان بَعْدَهُمْ من العرب والعجم. ويجوز أن يكون (وآخرين) في موضع نصب على معنى يعلمهم الكتاب والحكمة وُيعَلَمُ آخرين منهم لما يلحقوا بِهِمْ. * * * وقوله: (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) الأسفار الكُتُب الكبار، واحدها سِفْر، فأعلم اللَّه - عَزً وجَل - أن اليهودَ مَثَلُهُمْ في تركهم استعمال التوراة والإيمان بالنبي عليه السلام الذي يجدونه مكتوباً عندهم فيها كمثل الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً. ثم قال: (بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ). ومعنى (بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ) المثل الذي ضَرَبْنَاه لَهُمْ. وقرأ أبو عَمْرو كمثل الحِمَارِ - بكسر الألف - وهذه الِإمالة أَعْنِي كسر الراء كثير في كَلَامِ العَرَبِ. وقوله: (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ). معناه أَنه لا يهدي من سبق في علمه أَنه يكون ظَالِماً. * * * وقوله: (قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6) وذلك لأنهم قالوا: (نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) فقيل لهم: إنْ كِنتُمْ تزعمون فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ. أي فإن اللَّه سَيُمِيتُكُمْ. وَأعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أنهم لايَتَمَنَّوْنَهُ، لأنهم قد عَلِمُوا أن النبي عليه السلام حَقٌّ وأَنهم إن تَمَنَّوهُ مَاتُوا، فلم يَتَمَنَّوْهُ.

(8)

فهذه من أدل آيات النبي - صلى الله عليه وسلم -. ثم أعلم عزَّ وجلَّ أنهم إنْ لم يَتَمنُوا الموت وَلَمْ يَمُوتُوا فِي وَقْتِهِمْ أنهم يموتون لَا مَحالةَ فقال: * * * (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) ودخلت الفاء في خبر إِنَّ، ولا يجوز إنَّ زَيْداً فمنطَلِق، لأن (الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ) فيه معنى الشرط والجزاء. ويجوز أَن يكونَ تَمَام الكَلاَمِ: (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ) كَأَنَّه قيلَ: إنْ فَرَرْتُم من أَي موتٍ كانَ مِنْ قَتْلٍ أَو غيره فإنه مُلَاقِيكُمْ، ويكون (فَإِنَّهُ) استئنافٌ، بعد الخبر الأول. * * * وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) وقرئت الجُمْعَة - بإسكان الميم - ويجوز في اللغة الجمَعَة - بفتح الميم - - ولا ينبغي أن يقرأ بها إلا أن تثبت بها روايةٌ عن إمام من القُرَّاء. فمن قرأ الجُمْعَة فهو تخفيف الجُمُعَةِ، لثقَلِ الضَمَّتَيْنِ. ومن قال في غير القراءة الجُمَعَةِ، فمعناه التي تجمع النَّاسَ، كما تقول رجل لُعَنَة، أَيْ يُكْثِرُ لَعْنَ الناس، ورَجُل ضُحَكَةٌ، يكثر الضَّحِكَ. وقوله: (فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ). معناه فاقصدوا إلى ذكر اللَّه، وليس معناه العدو. وقرأ ابن مَسْعودٍ: " فَامْضُوا إلى ذِكْرِ اللَّهِ " وقال: لو كانت فاسْعَوْا لَسَعَيْتُ حتى يسقط رِدَائي. وكذلك قرأ أبَيٌّ بن كَعْب: (فَامْضُوا). وَقَدْ رويت عن عمر بن الخطاب. ولكن اتباع المصحف أولى، ولو كانت عند عمر " فامضوا " لا غير، لغيرها في المصحف. والدليل على أن معنى السَّعْيِ التصرف في كل عمل قول اللَّه - عز وجل -

(10)

(وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) فلا اختلاف في أَن معناه: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا عمل. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ). فالبيع من وقت الزوال في يوم الجُمَعَةِ إلى انقضاء الصلاةِ كالمحرَّمِ. * * * وقوله: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) هذا معناه الِإباحة، ليس معناه إذا انقضت الصلاة وجب أن يَتْجر الإنْسانُ كما قال: (وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا) فليس على من حَلَّ من إحرامٍ أن يصطادَ إنما هو مباح له، مثل ذلك قوله في الكلام: إذَا حَضَرتني فلا تنطق وَإذا غبت عني فتكلم بما شئت، إنَّما معناه الِإباحة. * * * وقوله: (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ) بضم الواو لسكونها وسكون اللام. وَاخْتِير الضم مع الواو، لأن الواو ههنا أصل حركتها الرفع. لأنها تنوب عن - أسماء مرفوعة. وقد قرئت (فتمنَوِ الموت) بكسر الواو لالتقاء السَّاكنين، إذا التقيا من كلمتين كسر الأول منهما كما تقول: قَلِ الحق فتكسر اللام لسكون لام الحق. * * * وقوله: (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11) ولم يقل إليهما، ويجوز من الكلام، وإذا رأو تجارة أو لهواً انفضوا إليه انفضوا إليها، وانفضوا إليهما فحذف خبر أحدهما لأن الخبر الثاني يدل على الخبر المحذوف والمعنى إذا رأوا تجارة انفضوا إليها أو لهواً انفضوا إليه. وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان في خطبتِهِ فجاءت إبل لدحية بن خليفة الكلبي وعليها زيت فانفضوا ينظرون إليها وتركوا النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب، وبقي النبي عليه السلام مع اثني عشر رجلًا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لو لحق آخرُهُمْ أَوَّلَهُمْ لالتهب الوادي نَاراً. فأَعلم اللَّه عزَّ وجلَّ أَن ما عند الله خيرٌ من اللهو ومن

التجارة، وأَعلم النبي عليه السلام غليظ ما في التولي عن الِإمام إذا كان يخطب يوم الجمعة. واللَّهوُ هَهنا قِيلَ الطَّبْلُ، وهو - واللَّه أَعلم - كل ما يُلْهَى بِهِ. (وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ). أَي ليس يفوتهم من أَرْزَاقِهم لتخلفهم عن النظر إلى الميرة شيءٌ مِنْ رِزْقٍ ولا بتركهم البيعَ في وقت الصلاة والخطبة.

سورة المنافقين

سُورَةُ المُنَافِقِينَ (مدنية) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) أَكْذَبَهمْ فيما تَعتقده قلوبُهمْ، وفي أنهم يحلفون باللَّهِ إنهم لمنكم. ويحلفون بالله ما قالوا، ولقد قالوا كلمة الكفر. * * * وقوله: (اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2) أي سُتْرةً يستترون بها منه، ودليل ذلك أَنهم حَلَفوا على ما وصفنا. وقد قرئت: (اتَّخَذُوا إِيْمَانَهُمْ) بكسر الهمزة - أي إظْهَارَهُم الإيمَانَ (جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ). * * * وقوله: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3) وقرئت فَطَبَع على قلوبِهِم. ورويت فَطَبَعَ الله على قلوِبهم. والقراءة المعروفة المجمع عليها ههنا فَطُبِعَ، على ما لم يسمَّ فاعله. ويجوز في العربيَّةِ فطبعْ عَّلى قلوبهِمْ على إدغام العين في العين لأنهما من مخرج واحد، ولاجتماع الحركات لأنه يجتمع لسِت حَرَكاتٍ، ومن ترك الإدغام فلأن الحرفين

(4)

من كلمتين وأن العين من الحلق وحروف الإدغام في حروف الفم أَكثر منها ْفي حروف الحلق نحو مدَّ وشَدَّ وقَرَّ وَرَدَّ وأكثر مِنْ بَابِ دَعَّهُ يُدعُّه. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4) كَأنه وصفهم بتمام الصوَرِ وَحُسْنِ الإِبَانة، ثم أعلم أنهم في تركهم التَّفهُّمَ والاستبصار بمنزلة الخشب فقال: (كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ). ويقرأ (خُشْبٌ مُسَنَّدَةٌ) بإسْكانِ الشِين. فمن قرأ بإسكان الشين فهو بمنزلة بَدَنةٍ وَبُدْنٍ. ومن قال خَشُب - بضم الشين - فهو بمنزلة ثَمَرَةَ وَثُمُر. ويجوز (خَشَبٌ مُسَنَّدَةٌ)، فلا تقرأ بها إلا أَن تثبت بها رواية، وخشبة وخَشَبٌ مثل شجرة وشَجَر. وقوله: (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ). وصفهم اللَّه تَعَالى بِالجُبْنِ، ويكون أمر كل من خاطب النبي عليه السلام فإنَّمَا يخاطبه في أمرهم بكشف نِفَاقِهِمْ. وقوله: (هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ). أَي هم العدو الأدنى، فاحذرهم لأنهم كانوا أَعداء النبي - صلى الله عليه وسلم - ويظهرون أَنَّهم مَعَهُ. وقوله - عزَّ وجلَّ -: (قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ). ومعنى (أَنَّى يُؤْفَكُونَ) من أين يصرفون عن الحق إلى الباطل. * * * قوله: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) قرأ أَبو عمرٍو يَسْتَغْفِر لَّكُمْ - بإدغام الراء في اللام - وهي عند سيبويه لا تجوز، وقد بيَّنَّا ذلك في سورة الصف.

(7)

وقوله: (لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ). على فَعَّلُوا، وَقُرِئَتْ (لَوَوْا رُءُوسَهُمْ) بالتخفيف. وهذه قيل إنها نزلت في عبد اللَّه بن أُبَيٍّ. * * * وقوله: (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7) هذه أيضاً نزلت في عبد الله بن أُبَيٍّ. وذلك أنه قال لقوم ينفقون على بعض من مع رسول اللَّه: لا تنفقوا عليهم حتى ينفَضُوا عنه. ْ (وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ). أَي أن اللَّه يرزقهم وهو رازقهم في حال إنفاق هؤلاء عليهم. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8) يعنون أَيضاً عبد الله بنَ أُبَيٍّ. فأعلم اللَّه أَنه مظهر دينه على الدين كله ومعزٌّ رسوله ومن معه من المؤمنين فقال: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ). * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) حَضهم الله على إدامة الذِكر له وأن لا يضنوا بأموالهم فقال: (وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) أي من قبل أن يُعاين ما يعلم معه أَنَه مَيَت. (فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ).

فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ وقرئت (فَأَصَّدَّقَ وَأكونَ من الصالحين). فجاء في التفسير أنهُ ما قَصَّر أحدٌ في الزكاة أو في الحج إلا سأل الكرة. فمن قال (فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ). (فَأَصَّدَّقَ) جواب (لَوْلَا أَخَّرْتَنِي) ومعناه هلَّا أَخَّرْتَنِي. وجزم (وَأَكُنْ) على موضع (فَأَصَّدَّقَ)، لأنه على معنى إن أَخرتني أصَّدَّق وأكن من الصالحين. ومن قرأ وأكونَ فهو على لفظ (فَأَصَّدَّقَ) وَأَكونَ (1).

_ (1) قال السَّمين: قوله: {وَأَكُن}: قرأ أبو عمروٍ «وأكونَ» بنصب الفعل عطفاً على «فأصَّدَّقَ» و «فأصَّدَّقَ» منصوبٌ على جوابِ التمني في قوله: «لولا أَخَّرتني» والباقون «وأكُنْ» مجزوماً، وحُذِفَتِ الواوُ لالتقاء الساكنين. واختلفت عبارات الناس في ذلك، فقال الزمخشري: «عطفاً على محلِّ» فأصَّدَّقَ «كأنه قيل: إنْ أخَّرْتَني أصَّدَّقْ وأكنْ». وقال ابنُ عطية: «عطفاً على الموضع؛ لأنَّ التقديرَ: إنْ أخَّرتني أصَّدَّقْ وأكن، هذا مذهب أبي علي الفارسي: فأمَّا ما حكاه سيبويه عن الخليلِ فهو غيرُ هذا وهو أنه جزمٌ على توهُّمِ الشرطِ الذي يَدُلُّ عليه التمني، ولا موضعَ هنا لأن الشرطَ ليسَ بظاهرٍ، وإنما يُعْطَفُ على الموضع حيث يَظْهَرُ الشرطُ كقولِه: {مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ} [الأعراف: 186] فمَنْ جَزَمَ عَطَفه على موضع {فَلاَ هَادِيَ لَهُ} لأنه لو وقع موقعَه فِعْلٌ لانجزم» انتهى. وهذا الذي نَقَله عن سيبويهِ هو المشهورُ عند النَّحويين. ونَظَّر سيبويه ذلك بقول زهير: 4268 بَداليَ أني لَسْتُ مُدْرِكَ ما مَضَى. . . ولا سابقٍ شيئاً إذا كان جائيا فخفضَ «ولا سابقٍ» عطفاً على «مُدْرِكَ» الذي هو خبر ليس على توهُّمِ زيادةِ الباء فيه؛ لأنه قد كَثُرَ جَرُّ خبرِها بالباء المزيدة، وهو عكسُ الآيةِ الكريمةِ؛ لأنه في الآية جُزِمَ على توهُّمِ سقوط الفاء، وهنا خُفِضَ على تَوَهُّمِ وجودِ الباءِ، ولكنَّ الجامعَ توهُّمُ ما يَقْتضي جوازَ ذلك، ولكني لا أُحِبُّ هذا اللفظَ مستعملاً في القرآن، فلا يُقال: جُزم على التوهُّم، لقُبْحه لفظاً. وقال أبو عبيد: «رأيتهُ في مصحف عثمان» وأكُنْ «بغير واوٍ. وقد فَرَّق الشيخ بين العطفِ على الموضعِ والعطفِ على التوهُّمِ بشيءٍ فقال:» الفرقُ بينهما: أنَّ العاملَ في العطف على الموضع موجودٌ، وأثرُه مفقودٌ، والعاملُ في العطفِ على التوهُّمِ مفقودٌ، وأثرُه موجودٌ «انتهى. قلت: مثالُ الأول:» هذا ضاربُ زيدٍ وعمراً «فهذا من العطفِ على الموضع، فالعاملُ وهو» ضارب «موجودٌ، وأثرُه وهو النصبُ مفقودٌ. ومثالُ الثاني ما نحن فيه؛ فإنَّ العاملَ للجزمِ مفقودٌ، وأثُره موجودٌ. وأَصْرَحُ منه بيتُ زهير فإنَّ الباءَ مفقودةٌ وأثُرها موجودٌ، ولكن أثرَها إنما ظهر في المعطوفِ لا في المعطوفِ عليه، وكذلك في الآية الكريمة. ومن ذلك بيتُ امرىء القيس: 4269 فظلَّ طُهاةُ اللحمِ مِنْ بينِ مُنْضِجٍ. . . صَفيفِ شِواءٍ قَديرٍ مُعَجَّلِ فإنهم جعلوه مِن العطفِ على التوهُّم؛ وذلك: أنه توهَّم أنه أضاف» منضج «إلى» صَفيف «، وهو لو أضافَه إليه لَجَرَّه فعطفَ» قدير «على» صفيف «بالجرِّ تَوَهماً لجرِّه بالإِضافة. / وقرأ عبيد بن عمير» وأكونُ «برفع الفعل على الاستئناف، أي: وأنا أكونُ، وهذا عِدَةٌ منه بالصَّلاح. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

سورة التغابن

سُورَةُ التَّغَابُن بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مكية ما خلا ثلاث آيات نزِلت بالمدينة، وهي من آخرها قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ. . .) إلى آخرها. وقيل إن الصحيح أنها مدنية كلها. * * * قوله عزَّ وجلَّ: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خلقكم في بطون أمهاتكم كفاراً ومؤمنين، وجاء في التفسير أن يحيى عليه السلام خلق في بطن أُمِّه مؤمناً، وخلق فرعون في بطن أُمِّه كافراً، ودليل ما في التفسير قوله عزَّ وجلَّ: (فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39). فأعلم اللَّه يُعالى أنه مخلوق كذلك، وجائز أن يكون (خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) أي مؤمن بأن اللَّه خلقه وكافِر بأن اللَّه خلقه. ودليل ذلك أقوله سبحانه،: (قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19). وقال: (أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37). * * * وقوله: (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) ويقرٍأ (صِوَرَكم) بكسر الصادِ، وصُورَة يجمِع صُوَراً مثل غُرْفَةَ وَغُرَف. ورُشْوَة ورُشى، ويجمع أيضاً صِوَر مثل رِشْوة وَرِشَى وفُعَل وفِعَل أختان، قالوا

(5)

حٌلًى وحِلًى، ولِحىً وَلُحىً جمع لحية. ومعنى (أَحسَنَ صُورَكم) خلقكم أحسن الحَيَوَانِ كلِّه. والدليل على ذلك أن الإنسان لا يُسَرُّ بأن يكون صورته على غير صورة الآدميين، فالإنسان أحسن الحيوان. وقيل أيضاً فأحسن صوركم من أَرَادَ اللَّه أَن يكون أبيض كان أبيض، ومن أراد أنْ يكون أَسودَ كان أَسْوَدَ ومن أَراد أَن يكون دَمِيماً كان دَمِيماً أَو تاماً كان تامًّا. فأحسن ذلك - عزَّ وجلَّ - وأَتى من كل صورةِ بكل صنف على إرادته. * * * وقوله: (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5) أي وذاقوا في الدنيا عظيم السطوات وَلَهُمْ في الآخرةِ عَذَابٌ أَلِيمٌ. ثم أعلم اللَّه عزَّ وجلَّ بِمَ نَزَلَ بِهِمْ ذَلِكَ فقال: (ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6) فأعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أنه نزل بهم العذاب في الدنيا وأنه ينزلً بِهِمْ في الآخرة بكفرهم. * * * وقوله: (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) أي وبالقرآن الذي هو نًورٌ وكتابٌ مبِينٌ. * * * وقوله: (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) (يَوْمَ) مَنصوبٌ بقوله (لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ) يوم الجمع. ويوم التغابن يومَ يغبن أَهلُ الجنَّةِ أَهلَ النَّارِ، ويغبن من ارتفعت منزلته في الجنة من كان في دُونِ مَنْزِلَتِه. وضرب ذلك مثلاً للشَراءِ والبيعِ كما قال: (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) وقال في موضع آخر: (فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16). وذلك في الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضلالة بالهدى.

(11)

وقوله: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) معناه إلا بِأمر اللَّه، وقيل أَيضاً إلا بعلم اللَّه. وقوله: (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ). وَيُسَلِّمُ في وقت المصيبة لأمر الله يهد قلبه يجعله مهتدياً. وقُرِئت (يَهْدَ قلبُه)، تَأويل هَدَأَ قَلْبُه يهدأ إذا سكن، ويكون على طرح الهِمزة، ويكون في الرفع يَهْدَا قلبه - غير مهموز - وفي - الجزم: مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدَ قَلْبُهُ، بطرح الألف للجزم، ويكون التأويل إذا سَلَّمَ لأمر اللَّه سَكَنَ قَلْبُه. * * * وقوله: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) هذه رخصة لقوله: (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ). وقوله: (وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ) أَي قدموا خَيراً لأنفسكم من أموالكم. (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ). ويجوز (ومن يُوَقَّ شُحَّ نَفْسِهِ)، ولا أعلم أحداً قرأ بها فلا تقرأن بها إلَّا أن تثبت رواية في قراءتها. (فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) معناه الظافرون بالفَوْزِ والخَيْرِ. * * * قوله: (إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ). جاء في التفسير أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا أَمر بالهجرة مِنْ مَكة إلى المدينة أَرَادَ قَومٌ الهِجْرَةَ فقال لهم أَزْوَاجُهُم وأَوْلَادُهُمْ: قد صبرنا لكم على مفارقة الدين، ولا نصبر لكم على مفارقتكم ومفارقة الأموال والمساكن فأعلم اللَّه تعالى أن من كان بهذه الصورة فهو عَدُوٌّ، وإن كان وَلَداً أو كانت زوجة. ثم أمر عزَّ وجل بالعَفْو والصَّفْح فقال: (وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

(17)

ثم أَعلم أن الأموال والأولاد مما يفتتن به فقال: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ). أي ما أمكنكم الجهاد والهجرة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فَلاَ يَفْتننكُمْ الميل إلى الأموال والأوْلَادِ عن ذلك. * * * (إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) فَاقترض عزَّ وجلَّ مما رزق وأعطى تفضلاً وامتحاناً. (وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ). يَشْكُر لكم ما عملتم وَيحْلُم عنكم عند استِحقَاقِكم العقوبَةَ على ذنوبِكمْ. * * * (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) يعلم ما تُكُِّه الصدورُ " مما لا تعلمه الحفظة، ويعلم ما تسقط من وَرَقَةٍ وما قَطَر مِنْ قَطْرِ المَطَرِ.

سورة الطلاق

سُورَةُ الطَّلاق (مدنية) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمن الرَّحِيمِ قوله عزَّ وجلَّ: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1) هذا خطاب للنبي عليه السلام والمؤمنون داخلون معه في الخطاب. ومعناه إن أردتم الطلاق كما قال: (إذَا قمْتمْ إلى الصَّلَاةِ) معناه إذا أرَدْتم القيام إلَى الصلاة. وقوله: (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ). فطلاق السنة المجْتَمَع عَلَيْه في قول مَالِك أَن يطلق الرجل امْرَأَته طَاهِراً من غير جماع تطليقة واحدة، ثم يتركها إذا أراد المقام على فراقها ثَلَاثَ حِيَض، فإذا طعنت في الحيضة الثالثة فلا يملك رجعتها، ولكن إن شاء وشاءت أن يجددا نكاحاً جَدِيداً كان ذلك لهما لأن معنى: (لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا) أَي بعد الطلاق الواحد. فإذا طلقها ثلاثاً في وقت واحد فلا معنى في قوله: (لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا). وإنما تفسيره الرجعة، أعني إذا وقع الثلاث في وقت واحدٍ، وهذا قول مالك - رحمه الله - وقال أهل العراق إن طلقها طاهراً من غير جماع ثم أوقع عند كل حيضة تطليقة فهو أيضاً عندهم طلاق السنة، وأن فعل ما قال مالك فهو عندهم سنة أيْضاً. وقال الشافعي إذا طلَّقها طَاهِراً من غير جماع فهو مطلق للسنة أيضاً طلق واحدة أَو ثلاثاً، وهذا يسقط معه إذا كان ثلاثاً.

(2)

قوله: (لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا). وقد جاء التشديد فيمن تعدى طلاق السنة، فقال: (ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ). وقال: (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ). يعني بحدود اللَّه حدود طلاق السنة وما ذَكَرَ مع الطلاق. وقوله: (وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ). ويقرأ (مُبَيَّنَةٍ). فجعل للمطلقات السكنى، وقيل إن خروجهن من بُيوتهِنَّ فاحشة. وقيل الفاحشة المبينة الزنا. ودليل هذا القول قوله: (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ)، يعني الزنا. وقيل أَيضاً: (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) زنا أو سَرق أَو شربُ خَمْر. وقيل كل ما يجب فيه الحد فهو فاحشة. * * * قوله: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) معناه يجعل له مخرجاً من الحرام إلى الحلال، وقيل أيضاً من النار إلى الجنَّة ويرْزُقْه مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبْ مَعْنَاهُ - وَاللهُ أَعْلَمُ - أنه إذا اتقَى اللَّهَ وآثَرَ الحلال والصبر على أهله إن كان ذَا ضَيْقَةٍ فتح الله عليه ورزقه من حيث لا يحتسب. وجائز أن يكون إذا اتقى الله في طلاقه، وآثر ما عند اللَّه وجرى في ذلك على السُّنَّةِ رزقه الله أهلاً بَدَل أهله. وقوله: (إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3) (إِنَّ اللَّهَ بَالِغٌ أَمْرَهُ) وتقرأ (بَالِغُ أَمْرِهِ)، أي إِن اللَّه بالغ ما يُرِيدُ. وقرئت إنَّ اللَّهَ بَالِغ أمْرُهُ، على رفع الأمر بِبَالِغ، أَي إنَّ اللَّهَ يبلغ أَمره وينفذ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا). وقَدَراً، أَي ميقاتاً وَأَجَلًا. * * * وقوله: (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4)

قيل في بعض التفسير إِنهم سألوا فقالوا: قد عرفنا عدةَ التي تحيض. فما عدةُ التي لا تحيض والتي لم تحض؟ فقيل إن ارتبتم، أي إذا ارتبتم فعدتهن ثَلَاثَةُ أشْهُرٍ. والذي يذهب إليه مالك، واللغةُ تدل عليه أن معناه إِن ارتبتم في حيضها وقد انقطع عنها الحيض وكانت ممن يحيض مثلها فعدتها ثلاثة أشهُرٍ، وذلك بعد أن تترك تسعة أشْهُرٍ بمقدار الحمل، ثم تعتد بعد ذلك ثلاثة أشهر، فإن حاضت في هذه الثلاثة الأشْهُرِ تمت ثلاث حِيَض. وجائز أن يتأخر هذا الحيض فيكون كلما قاربت أن تخرج من الثلاثة حاضت، فهذا مذهب مالك وهو الذي يروى عن عمر رحمه اللَّه. وقال أهل العراق تترك ولو بلغت في ذلك أكثر من ثلاثين سنةً ولو بلغت إلى السبعين، يعنون حتى تبلغ مبلغ من لا يحيض، وقالوا: ولو شاء اللَّه لابتلاها بأكثر من ذلك، وكذلك في قوله: (وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ) معناه عند مالك معناه إِن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر، واليائسة عند مالك وغيره بإجماع التي قد يئست من المحيض فلا ارتياب في أمرها أنها لا تحيض تعتد ثلاثة أشهر. ولم يأتِ في القرآن النَّصُّ عَلَى ذلك، ولكن في القرآن دليل عليه وأنا أبَيِّنُه إن شاء الله. فأمَّا الصغيرة التي لا يُوطأ مثلها فإن دخل بها ووطئها مكانَهُ فإنما عقرها (1). ولا عدةَ عند مالك عليها، إلا أن يكون مثلها يَسْتقيم أَن يُوطَأ وإنما هي عنده في عداد من لم يُدخَلْ بها. والذي في القرآن يدل على أن اليائسة التي لا يُرتاب فيها يجب أن تعتد ثلاثة أشهر لقوله: (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ) فمعناه واللائي لَا يَحِضْن فعدتهن ثلاثة أَشْهُرٍ، فقياس اللائي لا يحضن قياس اللائي لم يحضن

_ (1) قال في اللسان: وفي الحديث فيما روى الشعبي ليس على زانٍ عُقْرٌ أَي مَهْر وهو للمُغْتَصَبةِ من الإِماء كمَهْرِ المثل للحُرَّة وفي الحديث فأَعْطاهم عُقْرَها قال العُقْرُ بالضم ما تُعْطاه المرأَة على وطء الشبهة وأَصله أَن واطئ البِكْر يَعْقِرها إِذا اقْتَضَّها فسُمِّيَ ما تُعْطاه للعَقْرِ عُقْراً ثم صار عامّاً لها وللثيّب وجمعه الأَعْقارُ. اهـ (لسان العرب. 4/ 591)

(6)

فلم يحتج إلى ذكر ذلك. وإذا كان عدة المرتاب بها ثلاثة أشهر فالتي لا يرتاب بها أولى بذلك. قوله تعالى: (وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ). معناه أجلهن في الانقطاع فيما بينهن وبين الأزواج أن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ. * * * وقوله: (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6) (مِنْ وُجْدِكُمْ) ويقرأ (من وِجْدِكم)، يقال وَجَدْتً في المال وُجْداً، أَي صرت ذا مالٍ. وَوِجداً وَجِدَةً، وَوَجَدْتُ الضَّالَّةَ وِجْدَاناً وَوَجَدْتُ على فلانٍ وَجْداً، ووجَدْت عليه مَوْجِدَةً. فأوجب اللَّه تعالى السُّكْنَى حتى تنقضِيَ العِدةُ. والسكنى والنفقة على الزوج إذا طلق طلاق السنة إلى أن تأتي ثلاث حِيَضٍ، فإذا أَبَتَّ الطلاقَ قبل انقضاء العِدةِ فعليه النفقة والسكنى في قول أهل العراق، وعليه السكنى في مذهب مالك والشافعي، فأما الحاملِ فعليه النفقة لها، وذا في القرآن نص بقوله تعالى: (وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ). وقوله: (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ). أي فأعطوهن أجْرَةَ رِضَاعهنَّ. (وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ). قيل في التفسير إنه الكسوةُ والدِّثَار، والمعروف - واللَّه أعلم - أن لا يقصِّر الرجلُ في نفقة المرضع التي ترضع ولَدَه إذا كانت هي والدتَه لأن الوالدَةَ أَرأف بولدها من غيرها به، فلا تقصرُ في رضاعه والقيام بشأنه، فحق كل واحد منهما أن يأتمر في الولد بمعروف. (وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى).

(7)

معناه فليرضع الوالد غير والِدَةِ الصبِى، وهذا خبر في مَعْنى الأمْرِ لأن لفظ. . (فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى) لفظ الخبر ومعناه فليرضع. ومثله في لفظ الخبر ومعنى الأمر قوله: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ) معناه ولْيُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ. * * * قوله: (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7) أَمَرَ أهل التوسِعَةِ أن يُوَسِّعوا على نسائهم المرْضِعَاتِ أَوْلَادَهنَّ على قدر سعتِهن. (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ). أي مَن كان رزقه بمقدار القوت فلينفق على قدر ذلك، كما قال: (عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ). (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا) أي إلا ما أعطاها. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا). أعلم الله المؤمنين أنهم وَإن كانوا في حالٍ ضَيِّقَةٍ، وقيل كان الغالب على أكثرهم في ذلك الوقت في عهد رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - الفقر والفاقةُ فأعلمهم عز وجل أنه سَيوسِرُ المسلمون - ففتح الله عليهم بعد ذلك وجعل يُسراً بعد عُسْرٍ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8) أي عجلنا لها العذاب، وَمَعناه: عتا أهلها فحاسبنا أهلها وَعَذَّبْنَاهُم. * * * وقوله: (فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (9) أَي ثِقْلَ عاقبةَ أَمرها.

(10)

(وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا) يعني في الآخرة وهو قوله: (أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) يعني بعد ذلك الذي نزل بِهِم في الدنيا. ثم وعظ الله هذه الأمَّةَ في تصديق النبي عليه السلام، واتباع أَمْره وأعلم أنه قد بعث رسوله ليخرج الناس من الظلمات إلى النور فقال: (فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا). ومعنى أولي الألباب أصحاب العقول، وواحد أولي الألباب ذُو لُبٍّ أَي ذو عَقْلً. (قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11) (رَسُولًا) مَنْصوبٌ على ثلاثَةِ أوجه: أجوَدُهَا أن يكون قَوله: (قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا) دليلاً على إضمار أَرْسَلَ رَسُولَاَ يتلو عليكم. ويجوز أن يكون يعني بقوله (رَسُولًا) النبي عليه السلام. ويكون (رَسُولًا)، منصوباً بقوله (ذِكراً). يكون المعنى قد أنزل الله اليكم ذِكراً (رَسُولًا) ذَا ذِكْرٍ رسولًا يتلو، ويكون (رَسُولًا) بَدَلاً مِنْ ذِكرٍ، ويكون يعنى به جبريل عليه السلام. ويكون دليل هذا القول قوله يعنى به جبريل عليه السلام: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ) (1). ومعنى: (مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) من ظلمات الكفر إلى نور الإِيمان لأن أدلة الكِفر مظلمَة غَير بَيِّنَةٍ، وأدلة الإسلام واضحة بيِّنَة. قوله: (قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا). أي رزقه اللَّه الجنة التي لا ينقطع نعيمها، ولا يزول. ثم ذكر - جلَّ وعزَّ - ما يدلُّ على توحيده فقال:

_ (1) قال السَّمين: قوله: {رَّسُولاً}: فيه أوجهٌ، أحدُها وإليه ذهب الزجَّاج والفارسي أنه منصوبٌ بالمصدرِ المنونِ قبلَه؛ لأنه يَنْحَلُّ لحرفٍ مصدري وفعلٍ، كأنه قيل: أن ذَكرَ رسولاً، والمصدرُ المنوَّنُ عاملٌ كقولِه تعالى: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً} [البلد: 14] وقولِه: 4275 بضَرْبٍ بالسيوفِ رؤوسَ قَوْمٍ. . . أَزَلْنا هامَهُنَّ عن المَقيلِ الثاني: أنَّه جُعِل نفسُ الذِّكْرِ مبالغةً فأُبْدِل منه. الثالث: أنَّه بدلٌ منه على حَذْفِ مضافٍ مِنْ الأول تقديرُه: أنزل ذا ذكرٍ رسولاً. الرابع: كذلك، إلاَّ أنَّ «رسولاً» نعت لذلك المحذوف. الخامس: أنه بدلٌ منه على حَذْفِ مضافٍ مِنْ الثاني، أي: ذِكْراً ذِكْرَ رسول. السادس: أَنْ يكونَ «رسولاً» نعتاً ل ذِكْراً على حَذْفِ مضاف، أي: ذِكْراً ذا رسولٍ، ف «ذا رسول» نعتٌ لذِكْر. السابع: أَنْ يكونَ «رسولاً» بمعنى رسالة، فيكونَ «رسولاً» بدلاً صريحاً مِنْ غير تأويل، أو بياناً عند مَنْ يرى جَرَيانه في النكراتِ كالفارسيِّ، إلاَّ أنَّ هذا يُبْعِدُه قولُه: «يَتْلُو عليكم»، لأنَّ الرسالةَ لا تَتْلوا إلاَّ بمجازٍ، الثامن، أَنْ يكونَ «رسولاً» منصوباً بفعلٍ مقدر، أي: أرسل رسولاً لدلالةِ ما تقدَّمَ عليه. التاسع: أَنْ يكونَ منصوباً على الإِغراء، أي: اتبِعوا والزَمُوا رسولاً هذه صفتُه. واختلف الناس في «رسولاً» هل هو النبيُّ صلى الله عليه وسلم، أو القرآنُ نفسُه، أو جبريلُ؟ قال الزمخشري: «هو جبريلُ عليه السلام» أُبْدِل مِنْ «ذِكْراً» لأنه وُصِف بتلاوةِ آياتِ اللَّهِ، فكأنَّ إنزالَه في معنى إنزالِ الذِّكْرِ فصَحَّ إبدالُه منه «. قال الشيخ:» ولا يَصِحُّ لتبايُنِ المدلولَيْنِ بالحقيقة، ولكونِه لا يكونَ بدلَ بعضٍ ولا بدلَ اشتمال «انتهى. وهذا الذي قاله الزمخشريُّ سبقه إليه الكلبيُّ. وأمَّا اعتراضُه عليه فغيرُ لازمٍ لأنه إذا بُوْلِغَ فيه حتى جُعِل نفسَ الذِّكْر كما تقدَّم بيانُه. وقُرىء» رسولٌ «على إضمار مبتدأ، أي: هو رسول. قوله: {لِّيُخْرِجَ} متعلِّقٌ إمَّا ب» أَنْزَل «، وإمَّا ب» يَتْلو «وفاعِلُ يُخْرِج: إمَّا ضميرُ الباري تعالى المنَزِّل، أو ضميرُ الرسولِ، أو الذِّكرِ، و» مَنْ يُؤْمِنْ «هذا أحدُ المواضعِ التي رُوْعي فيها اللفظُ أولاً، ثم المعنى ثانياً، ثم اللفظُ آخِراً، وقد تقدَّم ذلك في المائِدة. وقد تأوَّلَ بعضُهم هذه الآية [وقال: ليس قولُه» خالدين «فيه ضميرٌ عائدٌ على» مَنْ «إنما يعود على مفعولِ» يُدْخِلْه «، و» خالدين «حالٌ منه، والعاملُ فيها» يُدْخِلْه «لا فِعْلُ الشرطِ]. هذه عبارةُ الشيخِ، وفيها نظرٌ؛ لأنَّ» خالدين «حالٌ مِنْ مفعول» يُدْخِلْه «عند القائلين بالقول الأول، وكأنَّ إصلاحَ العبارة أَنْ يقالَ: حالٌ مِنْ مفعولِ» يُدْخِلْه «الثاني، وهو» جناتٍ «والخلودُ في الحقيقةِ لأصحابِها، وكان ينبغي على رأي البصريين أن يقال: خالدين هم فيها، لجريان الوصفِ على غير مَنْ هو له. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(12)

(اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12) ففي كل سماء وكل أرض خلق من خَلْقِه، وأمر نافِذٌ مِن أَمْرِهِ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). وقوله: (وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا). (عِلْمًا) منصوب على المَصدر المؤكد، لأن معنى قوله: (وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا) أي قد علم كل شيء عِلْمًا. ومثله: (وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ) ثم قال: (صُنْعَ اللَّهِ) مُوكِّداً. لأن معنى قوله: (صُنْعَ اللَّهِ) صَنَعَ اللَّهُ الجبالَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ.

سورة التحريم

سُورَةُ التَّحْريم (مدنية) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) أَي وقد غفر اللَّه لك ذلك التحريم. وجاء في التفسير أن النبي - صلى الله عليه وسلم - شرب عسلاً عند زينب بنت جحش فأجمعت عائشة وحفصة على أن يقولا له: إنَّا نَشَمُّ منك رِيحَ المغافير، والمغافير صمغ متغير الرائحة. وقيل في التفسير إنه بَقْلَة (1)، فلما صار إلى كل واحدة منهما قالت له: إني أَشَمُّ منك ريح المغافير فحرَّم النبي - عليه السلام - على نفسه شرب العسل، وقيل إنه حلف على ذلك. وجاء في التفسير - وهو الأكثر - أن النبي - عليه السلام - خلا في يوم لعائشة مع جاريته أم إبراهيم، وكان يقال لها مارية القبطية فوقفت حفصة على ذلكِ، فقال لها رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - لا تُعْلِمِي عَائِشَةَ ذلك، فقالت له لَسْتُ أفعل. وحَرَّمَ مَارِية على نفسه. وقيل إنه حلف مع ذلك أيضاً، فأعلمت حفصة عائشة الخبر واستكتمتها إيَّاه، فأطلع الله نبيَّه على ذلك فقال الله عزَّ وجلَّ: (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا) يعني حفصة. موضع " إذ " نِصْبٌ، كأنه فال: واذكر (إِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا) يعني حفصة. (فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ)، أي فلما خَبَّرت به عائشةَ.

_ والمغافير: بقلة أو صمغة متغيرة الرائحة، فيها حلاوة. واحدها مَغْفُور.

(وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ). وقًرِئَتْ (عَرَفَ بعضَه) بتخفيف الراء. وأعلم الله أن التحريم على هذا التفسير لا يحرم. فقال لنبيه عليه السلام: (لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ). فلم يجعل الله لنبيه أن يُحَرِّمَ إلا ما حَرَّمَ اللَّه، فعلى هذين التفسيرين ليس لأحد أن يحرِّم ما أحلَّ اللَّه، فقال اللَّه: (قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ). يعني الكفَّارة، لأنه قد روىِ أنه مع ذلك التحريم حَلَفَ. وقال قومٌ إن الكفَّارةَ كفَّارةُ التحريم. فَأمَّا (عَرَّفَ بَعْضَهُ). فتأويله أنه عرف بعضه حفصة، (وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ) جاء في التفسير أنه لما حرم مارية أخبر حفصة أنه يملك مِن بعده أبو بكر وعمر، فعرفها بعضَ ما أفشت من الخبر، وأعرض عن بعض. فإن النبى - صلى الله عليه وسلم - قد عرف كل ما كان أَسَره. والِإعراض لا يكون إلا عما يعرف. وتأويل هذا في اللغة حَسَن بَيِّنٌ. معنى (عَرفَ بَعْضَه) جازى عليه، كما تقول لمن تتوعده: قَدْ عَلِمتُ مَا عَمِلْتَ وَقَد عَرَفْتُ ما صَنَعْتَ. وتأويله فسأجازيك عليه، لا أنك تقصد إلى أنك قد علمت فقط. ومثله قول الله عز وجل: (وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ). فتأويله يعلمه اللَّه ويجازي عليه، فإن اللَّه يعلم كل ما يُفعَل. ومثله قوله تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) واللَّه يعلم ما في قلوب الخلق أجمعين. ومثله قوله: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7). ليس الفائدة أنه يرى ما عمل، إنما يرى جزاء مَا عَمِلَ. فقيل إن النبي - صلى الله عليه وسلم -طلَّق حفصة تطليقة واحدةً فكان ذلك جزاءها عنده.

(4)

فذلك تأويل (عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ). أي جازى على بعض الحديث. وكانت حفصة، صَوَّامةً قوَّامَةً فأمره الله تعالى أن يراجعها فراجعها. * * * وقوله: (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4) يعني به عائشة وحفصة. ومعنى (صَغَتْ قُلُوبُكُمَا). عدلت قلوبكما وزاغت عن الصدق. وقوله: (وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ). أي تتعاونا عليه، فإن اللَّه هو مولاه أي هو يتولى نصرته،. (وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ). جاء في التفسير أن صالح المؤمنين أبو بكر وعمر، وجاء أَيضاً في التفسير أن صَالِح المؤمنين عمر، وقيل إن صالحي المؤمنين خيار المسلمين. و" صَالِح " ههنا ينوب عن الجمع كما تقول: يَفْعَل هَذَا الخَيِر من الناس تريد كل خَير. (وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ). في معنى ظهَرَاء، أي والملائكة أيضاً نصَّارٌ للنبي - صلى الله عليه وسلم - (1). * * * قوله عزَّ وجلَّ: (عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5) (يُبْدِلَهُ) وقرئت (يُبَدِّلَهُ)، بتشديد الدال وفتح الباء، وُيُبَدِّلَهُ للتَكْثِيرِ، وَكِلَاهمَا جَيِّدٌ وقد قرئ به. * * * وقوله: (قَانِتَاتٍ). جاء في التفسير مطيعاتٍ، والقُنُوتُ القِيامُ بما يقرب إلى اللَّه - عزَّ وجلَّ -.

_ (1) قال السَّمين: قوله: {إِن تَتُوبَآ}: شرطٌ وفي جوابِه وجهان، أحدهما: هو قولُه «فقد صَغَتْ» والمعنى: إن تتوبا فقد وُجِدَ منكم ما يُوْجِبُ التوبةَ، وهو مَيْلُ قلوبِكما عن الواجبِ في مخالفةِ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم في حُبِّ ما يُحِبُّه وكراهةِ/ ما يكرهه. وصَغَتْ: مالَتْ، ويَدُلُّ له قراءةُ ابنِ مسعودٍ «فقد راغَتْ». والثاني: أن الجوابَ محذوفٌ تقديرُه: فذلك واجبٌ عليكما، أو فتابَ اللَّهُ عليكما، قاله أبو البقاء. وقال: «ودَلَّ على المحذوفِ فقد صَغَتْ؛ لأن إصغاءَ القلبِ إلى ذلك ذنبٌ». وهذا الذي قاله لا حاجةَ إليه، وكأَنَّه زَعَمَ أنَّ مَيْلَ القلبِ ذنبٌ فكيف يَحْسُنُ أَنْ يكونَ جواباً؟ وغَفَلَ عن المعنى الذي ذكرْتُه في صحةِ كَوْنِه جواباً. و «قلوبُكما» مِنْ أفصحِ الكلامِ حيث أوقه الجمعَ موقعَ المثنى، استثقالاً لمجيءِ تثنيتَيْن لو قيل: قلباكما. وقد تقدَّم تحريرُ هذا في آيةِ السَّرِقةِ في المائدة، وشروطُ المسألةِ وما اختلف الناس فيه. ومِنْ مجيءِ التثنيةِ قولُه: 4278 فتخالَسا نَفْسَيْهما بنوافِذٍ. . . كنوافِذِ العُبْطِ التي لا تُرْقَعُ والأحسنُ في هذا البابِ الجمعُ، ثم الإِفرادُ، ثم التثنيةُ، وقال ابن عصفور: «لا يجوز الإِفراد إلاَّ في ضرورة كقوله: 4279 حمامةَ بَطْنِ الواديَيْنِ تَرَنَّمي. . . سَقاكِ مِنْ الغُرِّ الغوادِي مَطيرُها وتبعه الشيخُ، وغلَّط ابنَ مالك في كونِه جَعَلَه أحسن من التثنيةِ. وليس بغلطٍ للعلة التي ذكرها، وهي كراهةُ توالي تثنيتَيْن مع أَمْنِ اللَّبْس. وقوله: {إِن تَتُوبَآ} فيه التفاتٌ من الغيبة إلى الخطابِ، والمرادُ أُمَّا المؤمنين بنتا الشيخَيْن عائشةُ وحفصةُ رضي الله عنهما وعن أبوَيْهما. قوله: {وَإِن تَظَاهَرَا} أصلُه تتظاهرا فأَدْغَمَ، وهذه قراءة العامَّةِ، وعكرمةُ» تتظاهرا «على الأصل، والحسن وأبو رجاء ونافع وعاصم في روايةٍ عنهما بتشديد الظاء والهاء دون ألف وأبو عمروٍ في روايةٍ» تظاهرا «بتخفيف الطاء والهاء، حَذَفَ إحدى التاءَيْن وكلُّها بمعنىً المعاونة مِن الظهر لأنه أقوى أعضاءِ الإِنسانِ وأجلُّها. قوله: {هُوَ مَوْلاَهُ} يجوزُ أَنْ يكونَ» هو «فصلاً، و» مَوْلاه «الخبرَ، وأن يكونَ مبتدأً، و» مَوْلاه «خبرُه، والجملةُ خبرُ» إنَّ «. قوله: {وَجِبْرِيلُ} يجوزُ أَنْ يكون عطفاً على اسمِ الله تعالى ورُفِعَ نظراً إلى محلِّ اسمِها، وذلكَ بعد استكمالِها خبرَها، وقد عَرَفْتَ مذاهبَ الناسِ فيه، ويكونَ» جبريلُ «وما بعده داخلَيْن في الولايةِ لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، ويكونَ جبريلُ ظهيراً له بدخولِه في عمومِ الملائكةِ، ويكونَ» الملائكة «مبتدأً و» ظهيرٌ «خبرَه، أُفْرِدَ لأنه بزنةِ فَعيل. ويجوزُ أَنْ يكونَ الكلامُ تمَّ عند قولِه:» مَوْلاه «ويكونُ» جبريل «مبتدأ، وما بعده عَطْفٌ عليه. و «ظهيرٌ» خبرُ الجميع، فتختصُّ الولايةُ بالله، ويكون «جبريل» قد ذُكر في المعاونةِ مرَّتين: مرةً بالتنصيصِ عليه، ومرةً بدخولِه في عموم الملائكةِ، وهذا عكس ما في البقرة مِنْ قوله: {مَن كَانَ عَدُوّاً للَّهِ وملائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ} فإنه ذكر الخاصَّ بعد العامِّ تشريفاً له، وهنا ذُكِر العامُّ بعد الخاصِّ، لم يَذْكُرِ الناسُ إلاَّ القسمَ الأول. وقوله: {وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} الظاهرُ أنه مفردٌ، ولذلك كُتب بالحاء دونَ واوِ الجمع. وجَوَّزوا أن يكونَ جمعاً بالواو والنون، حُذِفَتْ النونُ للإِضافة، وكُتِبَ دون واوٍ اعتباراً بلفظه لأنَّ الواوَ ساقطةٌ لالتقاء الساكنين نحو: {وَيَمْحُ الله الباطل} بالشورى: 24] و {يَدْعُ الداع} {سَنَدْعُ الزبانية} [العلق: 18] إلى غيرِ ذلك، ومثل هذا ما جاء في الحديثِ: «أهلُ القرآن أهلُ الله وخاصَّتُه» قالوا: يجوز أن يكونَ مفرداً، وأن يكونَ جمعاً كقولِه: {شَغَلَتْنَآ أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا} [الفتح: 11] وحُذِفَتِ الواوُ لالتقاء الساكنين لفظاً، فإذا كُتِب هذا فالأحسنُ أَنْ يُكتبَ بالواوِ لهذا الغرضِ، وليس ثَمَّ ضرورةٌ لحَذْفِها كما مَرَّ في مرسوم الخط. وجَوَّزَ أبو البقاء في «جبريلُ» أن يكونَ معطوفاً على الضمير في «مَوْلاه» يعني المستتَر، وحينئذ يكون الفصلُ بالضميرِ المجرورِ كافياً في تجويزِ العطفِ عليه. وجوَّز أيضاً أَنْ يكونَ مبتدأ و «صالحُ» عطفٌ عليه. والخبرُ محذوفٌ أي: مَواليه. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(6)

وقوله تعالى: (سَائِحَاتٍ). جاء في التفسير عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن السائحين هم الصائمونَ، وهو مما في الكتب الأولى. وقال أهل اللغة: إنما قيل للصائم سائح لأن الذي يسيح متعَبِّدٌ ولا زاد مَعَه، فحين يجد الزاد يطعَمُ، والصائم كذلك يَمْضِي النهار ولا يَطعَمُ شيئاً فلشبهه به سُمِّيَ سَائِحاً. * * * وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6) (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا). معناه خذوا أنفسكم وأهليكم بما يَقَرِّبُ من اللَّه - جلَّ وعزَّ - وجنبوا أنفسكم وَأَهْليكم المعاصي. ومعنى (قُوا أَنْفُسَكُمْ) أي: وقُّوا أَنْفُسَكُمْ (1) وجاء في التفسير: رَحم الله رَجُلاً قال: يا أهلاه صَلَاتَكُمْ صيامكم مِسْكينكم يتيمكم جيرانكم. معناه ألزموا واحفظوا صلاتكم وهذه الأشياء المذكورة، ادُّوا فرض اللَّه فيها. وفي الحديث لعل اللَّه يجمعهم معه في الجنَّة. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَقُودُهَا النَّاسُ والحِجَارَةُ). جاء في التفسير أنها حجارة الكبريت. والوَقُود بفتح الواو ما تُوقَدُ به النَّارُ من حَطبٍ وغَيْرِهِ، يقال وقدت النار وُقُوداً - بضم الواو -. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً) بفتح النون، وتقرأ (نُصُوحاً) - بضم النُون - فمن فتح فعلى صفة التوبة. ومعناه توبة بالغة في النصح، وفَعُول من أسماء الفاعلين التي تستعمل للمبالغة في الوصف، تقول رجل صبورٌ وَشَكُورٌ، وتوبة نَصُوحٌ. وَمَنْ قَرأ (نُصُوحاً) - بضَم النُّونِ - فمعناه يَنصَحُونَ بهذا نُصُوحاً. يقال: نصحت له نُصْحاً ونصاحَةً ونصوحاً.

_ (1) قال السَّمين: قوله: {قوا أَنفُسَكُمْ}: أمرٌ من الوِقايةِ فوزنُه «عُوا» لأن الفاءَ حُذِفَتْ لوقوعِها في المضارع بين ياءٍ وكسرةٍ، وهذا محمولٌ عليه، واللامُ حُذِفَتْ حَمْلاً له على المجزوم، بيانه أنَّ أصلَه اِوْقِيُوا كاضْرِبوا فحُذِفَتِ الواوُ التي هي فاءٌ لِما تقدَّمَ، واستثْقِلَتِ الضمةُ على الياء فحُذِفَتْ، فالتقى ساكنان، فحُذِفَتْ الياءُ وضُمَّ ما قبل الواوِ لتصِحَّ. وهذا تعليلُ البَصْريين. ونقل مكيٌّ عن الكوفيين: أنَّ الحذفَ عندهم فرقاً بين المتعدي والقاصر فحُذِفت الواوُ التي هي فاءٌ في يَقي ويَعِدُ لتعدِّيهما، ولم تُحْذَفْ من يَوْجَل لقُصوره. قال: «ويَرِدُ عليهم نحو: يَرِمُ فإنه قاصرٌ ومع ذلك فقد حذفوا فاءَه». قلت: وفي هذا نظرٌ؛ لأنَّ يَوْجَل لم تَقَعْ فيه الواوُ بين ياءٍ وكسرةٍ لا ظاهرةٍ ولا مضمرةٍ. فقلت: «ولا مضمرة» تحرُّزاً مِنْ يَضَعُ ويَسَعُ ويَهَبُ. و «ناراً» مفعولٌ ثانٍ. و {وَقُودُهَا الناس} صفةٌ ل «ناراً» وكذلك «عليها ملائكةٌ». ويجوزُ أَنْ يكونَ الوصفُ وحدَه عليها و «ملائكةٌ» فاعلٌ به. ويجوزُ أَنْ تكونَ حالاً لتخصُّصِها بالصفة الأولى وكذلك {لاَّ يَعْصُونَ الله}. وقرأ بعضُهم «وأَهْلوكم» وخُرِّجَتْ على العطفِ على الضمير المرفوع ب «قُوا» وجَوَّزَ ذلك الفصلُ بالمفعولِ. قال الزمخشري بعد ذِكْرِهِ القراءةَ وتخريجَها: «فإنْ قلتَ: أليس التقديرُ: قُوا أنفسَكم، ولْيَقِ أَهْلوكم أنفسكم؟ قلت: لا. ولكن المعطوفَ في التقديرِ مقارنٌ للواو، و» أنفسَكم «واقعٌ بعده كأنَّه قيل: قُوا أنتم وأهلوكم أنفسَكم لمَّا جَمَعْتَ مع المخاطبِ الغائبَ غَلَّبْته [عليه] فجعَلْتَ ضميرَهما معاً على لفظِ المخاطبِ». وتقدَّم الخلافُ في واو «وقود» ضماً وفتحاً في البقرة. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(10)

وجاء في التفسير أن التوبة النَّصُوحُ التي لا يعاود التائب مَعَها المعْصِيةَ. وقال بعضهم التي لا ينوي معها معاودة المعصية. وقوله: (يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ). (يَوْمَ) منصوبٌ بقوله: (عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ). أي في هذا اليوم. والقراءة النصب في قوله: (وَيُدْخِلَكُمْ) عطف على (أنْ يُكَفِّرَ) ولو قرئت بالجزم لكانَ وَجْهاً، يكون محمولا على موضع (عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ) لأن عسى من الله واجبة، قال الله تعالى: (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82). * * * وقوله: (نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا). أما إذا رأى المؤمنون نور المنافقين يُطْفَأ سأَلوا الله أَنْ يُتَمِّمَ لهم نورهم. * * * وقوله: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) أعلم الله عزَّ وجلَّ أن الأنبياء لا يُغْنون عمَّن عمل بالمعاصي شيئاً. وجاء في التفسير أن خيانتهما لم تكن في بغاء، لأن الأنبياءَ لا يبتليهم اللَّه في نِسائِهم بفسادٍ، وقيل إن خيانة امرأة لوط أنها كانت تدل على الضيف، وخيانة امرأة نوح أنها كانت تقول: إنه مجنون - صلى الله عليه وسلم - وعلى أَنبيائه أجمعين. فأما من زعم غير ذلك فمخطئ لأن بعض من تأول قوله: (يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ).

(11)

ذهب إلى جنس من الفسَادِ. يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ والقراءة في هذا ((عَمِلَ غَيْرَ صَالِحٍ)، و (عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ). وهما يرجعان إلى معنى وَاحدٍ. وذلك أن تأويل (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ) إِنَّهُ ذو عمل غيرِ صالح. وكل من كفر فقد انقطع نسبه من أَهله المؤمنين، لا يرثهم ولا يرثونه. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) جاء في التفسير أن فرعون وَتَد لها أرْبَعةَ أَوْتادٍ وشدَّ بدنها ورجليها وجعل على صدرها رَحًى، وجعلها في الشمس، وأن اللَّه فرج لها فرأت بيتها في الجنة. وجاء في التفسير أن الملائكة كانت تظلها بأجنحتها من الشمس. * * * وقوله: (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12) (وَكُتُبِهِ) وقرئت (وَكِتَابِهِ). (أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا) جاء في التَفسير أنه يعنى به فرج ثوبها. والعرب تقول للعفيف: هو نِقى الثَّوْبِ، وهو طيب الحُجْزةِ، تريد أَنهُ عفيف وأَنشدوا بيت النابغة الذبياني: رِقاق النِّعالِ طَيِّب حُجُزاتهم. . . يُحَيَّوْن بالرَّيْحان يومَ السَّباسِب فسروا " طَيِّب حُجُزاتهم " أنهم أَعِفَّاء. وكذلك (فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا) أي في فرجِ ثوبها.

سورة الملك

سُورَةُ الْمُلْكِ (مَكِّيَّة) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ جاء في التفسير أَنها تسمى المنجية، تنجي قارئها من عذاب القبر. وجاء في التفسير أن في التوراة: سورةُ الملك من قرأها - في لَيْلَةٍ فَقَدْ أكْثَرَ. * * * وقوبه: (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) معناه تعالى وتعاظم. * * * قوله: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) المتعلق بـ (أَيُّكُمْ) المضْمَر. والمعنى لِيَبْلُوَكُم فيعلم أيكم أحسن عَملاً علم ما وقع. واللَّه عزَّ وجلَّ قد علم ما يكون منهم إلا أَنَّ الجَزَاء يجب بوقوع العَمَلِ منهم، وارتفعت " أي " بالابتداء، ولا يعمل فيها ما قَبلَها لأنها على أصل الاستفهام، وهذا مثل قوله: (لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12). وهذا عند النحويين في تَقْدِير التسْمِيَةِ، معناه معنى الألف وأم، إذا قلت: قد علمت أَيُّكُمْ أَفْضَلُ، فالمعنى قد علمت أزيد أَفضلُ أَمْ عمرو. فَعَلِمْت لا يعمل فيه، بعد الألف، وكذلك لا يعمل في أي، والمعنى واحد. ومعنى (خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ) خلق لكم الحياة ليختبركم فيها وخلق الموت ليبعثكم ويجازيكم بأعمالكم. وجاء في تفسير الكلبي خلق الموت في صورة كبش أملح لا يمر بشيء

(3)

إلا مات، ولا يطأ على شيء إلا مَاتَ، ولا يجد رائحته شيء إلا مات، وخلق الحياة في صورة فرس بلقاء فوق الحمار ودون البغل، لا تمر بشيء إلا أَحْيَتْهُ ولا تطأ على شيء إلا أحيته ولا يجد ريحها شيء إلا حصي، واللَّه أعلم بحقيقة ذلك. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) فِي خَلْقِ ويقرأ (فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَوُّتٍ) بغير ألف. ويجوز في (تفَاوُتٍ) (تَفَاؤُتٍ) مهموز، تبدل الهمزة من الواو المضمومة، ويقال: تفاوت الشيء تفاوتاً وتفوَّت تفوُّتاً إذا اختلف، فالمعنى ما ترى في خلقه السماء اختلافاً ولا اضطراباً. ومعنى (طباقاً) مطبق بعضها عَلَى بَعْض، طباق مصدر طوبقت طباقاً. وقوله: (فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ). أي هل ترى فيها فروجاً أو صَدُوعاً. * * * (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4) (خَاسِئًا) منصوب على الحال، ومعناه صَاغِراً، وهو حَسِيرٌ، قد أَعْيَى من قبل أَنْ يَرَى في السَّمَاءِ خَلَلاً. * * * وقوله: (وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) (عَذَابُ جَهَنَّمَ) بالنصب والرفع، والنصب يكون عطفاً على قوله: (وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ)، أي وأعتدنا للذين كفروا بِرَبِّهِمْ عَذَابَ جَهَنَّمَ. * * * قوله: (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا).

(7)

معناه التي تدنو منكم من سبع السَّمَاوَات. وقوله: (بِمَصَابِيحَ) يعني الكواكب. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) وهو أقبح الأصوات وهو كصوت الحمار. * * * وقوله: (تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) معناه تكاد ينقطع مِنْ غيظها عليهم. وقوله: (كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ). هذا التوبيخ زيادة لهم في العذاب. ثم اعترفوا بجهلهم فقالوا: (لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) أي لو كنا سَمِعْنَا سَمْعَ مَن يَعِي ويفَكِرُ مَا كنا في أصحاب السعير، أَو يَعْقِل عَقْل من يمَيِّز وينظُر ما كنا في أهل النَّارِ. * * * (فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11) ويروى (فَسُحُقاً) بضم الحاء. (سُحْقًا) منصوب على المصدَر، المعنى أسْحَقَهُم اللَّهُ سُحْقًا. أي بَاعَدَهُم الله من رحمته مبَاعَدَةً، والسحيق البعيد. * * * وقوله: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) معناه في جبالها، وقيل في جوانبها، وقيل في طرقها. وأشبه التفسير - واللَّه أعلم - تفسير من قال في جبالها، لأن قوله: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا)، معناه سهَّل لكم السلوكَ فيها، فإذا أمكنكم السلوك في جبالها فهو أَبْلَغُ في التذْلِيل.

(16)

قوله: (وَإِلَيْهِ النُّشُورُ). معناه: إن اللَّه الذي خلق السَّمَاوَاتِ بغير عَمَدٍ لا تفاوت فيها وخلق الأرْضَ وذللها لكم قادر على أن ينْشُرَكم، أي يبعثكم. * * * وقوله: (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) معنى تمور تَدُورُ. * * * وقوله: (أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) أي كما أرسل على قومِ لُوطٍ الحجَارَة التي حَصَبَتْهُمْ. * * * وقوله: (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19) بين لهم بخلق السَّمَاوَات والأرْضِينَ مَا دَلَّهم على توحيده، وَبَين لهم بتسخير الطيْرِ في جو السماء صَافًاتٍ أَجْنِحَتهُنَّ وقابضاتها. (مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ) بِقُدْرَتِهِ. * * * (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) أعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أن المؤمن سالك الطريقة المستقيمة، وأن الكافر في ضلالته بمنزلة الذي يمشي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ. وجاء في التفسير أن الكافر يمشي على وجهه في الآخرة. وَسُئِلَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كيف يمشون على وُجُوهِهِم؟ فقال: الذي مشاهم على أرجلهم قَادِرٌ على أن يمْشيَهُمْ على وُجُوهِهِمْ. * * * وقوله: (فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27) وقرئت " سُِيْئَتْ " بِإِشْمَامِ السِين الضَّمَّ، ويجوز " سِيتْ " على طرح الهمزة، وإلقاء الحركة على الياء.

(30)

والمعنى فلما رأوا العذاب زلفةً، أَيْ قريباً، سِيَتْ وجوه الذين كفروا. تَبين فيها السوء (1). (وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ). وقُرِئَتْ (تَدْعُونَ)، من دعوت أَدْعو. فَأمَّا (تَدَّعُونَ)، فجاء في التفسير تُكَذِبُونَ. وتأويله في اللغة هذا الذي كنتم من أجله تَدَّعُونَ الأباطيل والأكاذيب. أي تدعون أنكم إذَا مِتُّم وكنتم تراباً وعظاماً أَنَّكُمْ لا تُخْرَجُونَ. ومن قَرَأَ تَدْعُونَ. بالتخفيف - فالمعنى هذا الذي كنتم به تستعجلون وتدعون اللَّه في قولكم: (اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32). ويجوز أن يكون معنى (تَدَّعُونَ) هذا أَيضاً تَفْتَعِلُونَ، من الدعاء. وتفتعلون من الدِعوى، يجوز ذلك - واللَّه أعلم. * * * وقوله: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30) أي غائِراً، وهو مصدرٌ يوصف به الاسم، فتقول: ماء غَوْرٌ، وماءَان غَوْرٌ ومياه غَوْرٌ. كما تقول: هذا عَدْل وهذَان عَدْلٌ وهؤلاء عَدْلٌ. ومعنى مَعِين جارٍ من العُيونِ. وجاء في التفسير [ظاهر]، والمعنى أَنَّه يظهر من العُيُون.

_ (1) قال السَّمين: قوله: {رَأَوْهُ}: أي: الموعودَ أو العذابَ زُلْفَةً أي: قريباً، فهو حالٌ ولا بُدَّ مِن حَذْفِ مضافٍ أي: ذا زُلْفَةٍ، أو جُعِل نفسَ الزُّلْفَةِ مبالغةً. وقيل: «زُلْفَةً» تقديرُه: مكاناً ذا زُلْفَةٍ فينتصِبُ انتصابَ المصدرِ. قوله: {سِيئَتْ} الأصلُ: ساء أي: أحزنَ وجوهَهم العذابُ ورؤيتُه. ثم بُنِي للمفعول. و «ساء» هنا ليسَتْ المرادِفَةَ ل «بِئْسَ» كما عَرَفْتَه فميا تقدَّم غيرَ مرةٍ. وأَشَمَّ كسرةَ السينِ الضمَّ نافعٌ وابنُ عامرٍ والكسائيُّ، كما فعلوا ذلك في {سياء بِهِمْ} [هود: 77] في هود، وقد تقدَّم، والباقون بإخلاصِ الكسرِ، وقد تقدَّم في أولِ البقرةِ تحقيقُ هذا وتصريفُه، وأنَّ فيه لغاتٍ، عند قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} [البقرة: 11]. قوله: {تَدَّعُونَ} العامَّةُ على تشديدِ الدالِ مفتوحةً. فقيل: من الدَّعْوى أي: تَدَّعُون أنه لا جنةَ ولا نارَ، قاله الحسن. وقيل: من الدعاءِ أي: تَطْلبونه وتستعجلونه. وقرأ الحسن وقتادة وأبو رجاء والضحاك ويعقوبُ وأبو زيدٍ وابنُ أبي عبلةَ ونافعٌ في روايةِ الأصمعيِّ بسكونِ الدالِ، وهي مؤيِّدَةٌ للقولِ: إنَّها من الدعاء في قراءةِ العامَّة. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

سورة (ن)

سُورَةُ (ن) (مَكِّيَّة) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله عزَّ وجلَّ: (ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) قرئت بإدغام النون في الواو، وقرئت بتبيين النون عند الواو. وقرئت نُونَ والقلم - بفتح النون. وَالَّذِي اختارَ إِدْغام النون في الواو كانت الواو ساكنة أَوْ متحركة. لأن الذي جاء في التفسير يُبَاعِدُهَا من الإسكان والتبْيين، لأن من أسكنها وبينها فإنما يجعلها حرفَ هجاء والذي يدغِمُهَا فجائز أن يَدغمها وهي مفتوحة (1). وجاء في التفسير أن " نُون " الحوتُ التي دُحِيت عَلَيْهَا سَبْعُ الأرضين وجاء في التفسير أيضاً أن النون الدواة، ولم يجئ في التفسير كما فسرت حروف الهجاء -، والِإسْكان لا يَجوز أن يكون فيه إلَّا حرف هجاء. وجاء في التفسير أن أول ما خلق اللَّه القلم، فقال له: اكتب، فقال: أيْ ربِّ، وما أكتب؟ قال: القدر، فجرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة، وجرى فيما جرى به القلم (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ). * * * وقوله: (وَمَا يَسْطُرُونَ). معناه: وما تكتب الملائكة. * * * وقوله: (مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2)

_ (1) قال السَّمين: قوله: {ن}: كقوله: {ص والقرآن} [ص: 1] وجوابُ القسمِ الجملةُ المنفيةُ بعدَها. وزعم قومٌ أنه اسمٌ لحُوتٍ وأنه واحد النِّينان. وقومٌ أنه اسمُ الدَّواةِ، وقومٌ أنه اسمٌ لوحٍ مكتوبٍ فيه. قال الزمخشري: «وأمَّا قولُهم هو الدَّواةُ فما أدري: أهو وَضْعٌ لغويٌّ أم شرعيٌّ، ولا يَخْلو إذا كان اسماً للدَّواةِ مِنْ أنْ يكونَ جنساً أو عَلَماً، فإن كان جنساً فأين الإِعرابُ والتنوينُ؟ وإن كان عَلَماً فأين الإِعراب؟ وأيهما كان فلا بُدَّ له مِنْ مَوْقِع في تأليفِ الكلامِ؛ لأنَّك إذا جَعَلْتَه مُقْسَماً به وَجَبَ إنْ كان جنساً أَنْ تَجُرَّه وتُنَوِّنَه، ويكونُ القَسَم بدَواة مُنكَّرةٍ مجهولةٍ، كأنه قيل: ودَواةٍ والقلم، وإنْ كان عَلَمَاً أَنْ تَصْرِفَه وتَجرَّه، أو لا تصرِفه وتفتحَه للعلميِّةِ والتأنيثِ، وكذلك التفسيرُ بالحوتِ: إمَّا أَنْ يُرادَ به نونٌ من النينانِ، أو يُجْعَلَ عَلَماً للبَهَموتِ الذي يَزْعُمون، والتفسيرُ باللَّوْح مِنْ نورٍ أو ذَهَبٍ والنهر في الجنةِ نحوُ ذلكَ». وهذا الذي أَوْرَده أبو القاسم مِنْ محاسِنِ علمِ الإِعرابِ، وقَلَّ مَنْ يُتْقِنُه. وقرأ العامَّةُ: «ن» ساكنَ النونِ كنظائرِه. وأدغم ابنُ عامر والكسائيُّ وأبو بكرٍ عن عاصمٍ بلا خلافٍ، وورش بخلافٍ عنه النونَ في الواو، وأظهرها الباقون، ونُقِلُ عَمَّنْ أدغمَ الغُنَّةُ وعَدَمُها. وقرأ ابن عباس والحسن وأبو السَّمَّال وابنُ أبي إسحاق بكسرِ النونِ وسعيد بن جبير وعيسى بخلافٍ عنه بفتحِها، فالأُولى على التقاءِ الساكنين. ولا يجوزُ أَنْ يكونَ مجروراً على القَسَم، حَذَفَ حرفَ الجرِّ وبقي علمُه كقولِهم: «اللَّهِ لأفعلَنَّ» لوجهَيْن، أحدُهما: أنَّه مختصُّ بالجلالةِ المعظَّمة، نادرٌ فيما عداها. والثاني: أنه كان ينبغي أَنْ يُنَوِّنَ. ولا يَحْسُنُ أَنْ يُقال: هو ممنوعُ الصَّرْفِ اعتباراً بتأنيث السورة، لأنه كان ينبغي أَنْ لا يَظْهَرَ فيه الجرُّ بالكسرة ألبتَّةََ. وأمَّا الفتحُ فيحتمل ثلاثةَ أوجهٍ، أحدها: أَنْ يكونَ بناءً، وأُوْثِر على الأصلِ للخفَّةِ كأينَ وكيفَ. الثاني: أَنْ يكونَ مجروراً بحرف القسمِ المقدَّرِ/ على لغةٍ ضعيفة. وقد تقدَّم ذلك في قراءةِ «فالحقِّ والحقِّ» [ص: 84]. بجرِّ «الحقِّ»، ومُنِعَتِ الصَّرْفَ، اعتبارٌ بالسورة، والثالث: أَنْ يكونَ منصوباً بفعلٍ محذوفٍ، أي: اقرؤوا نونَ، ثم ابتدأ قَسَماً بقولِه «والقلمِ»، أو يكونَ منصوباً بعد حَذْفِ حرفِ القسم كقولِه: 4290. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . فذاكَ أمانةَ اللَّهِ الثِّريدُ ومُنعَ الصَّرْفَ لِما تقدَّم، وهذا أحسنُ لعَطْفِ «والقلمِ» على مَحَلِّه. قوله: {وَمَا يَسْطُرُونَ} «ما» موصولةٌ اسميةٌ أو حرفية، أي: والذي يَسْطُرونه مِنَ الكُتُب، وهم: الكُتَّابُ أو الحَفَظُة من الملائكة وسَطْرِهم. والضميرُ عائدٌ على مَنْ يُسَطِّرُ لدلالةِ السياقِ عليه. ولذِكْرِ الآلةِ المُكْتَتَبِ بها. وقال الزمخشري: «ويجوزُ أَنْ يُرادَ بالقلمِ أصحابُه، فيكون الضميرُ في» يَسْطُرون «لهم» يعني فيصيرُ كقولِه: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ} [النور: 40] تقديرُه: أو كذي ظُلُماتٍ، فالضميرُ في «يَغْشاه» يعود على «ذي» المحذوف. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(3)

هذه مسألة من أبواب النحو، تحتاج، إلى تبيين. قوله: (أنت) هو اسم (ما)، و (بِمَجْنُونٍ) الخبر، و (بِنِعْمَةِ رَبِّكَ) موصول بمعنى النفي. المعنى: انتفى عنك الجنون بِنِعْمَةِ رَبِّكَ، كما تقول: أنت بنعمة اللَّه فَهِمٌ، وما أنت بنعمة اللَّه جاهل. وتأويله: فارقك الجهل بِنِعْمَةِ رَبِّكَ، وهذا جواب لقولهم: (وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6). * * * قوله: (وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) أي: غير مَقطوع، وجاء في التفسير: غير محسوب. * * * (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) قيل: على الإسلام، وقيل: على القرآن. والمعنى - واللَّه أعلم - أَنت على الخلق الذي أَمرك اللَّه به في القرآن. * * * قوله: (فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) معنى المفتون: الذي قد فُتِنَ بالجنون. قال أبو عبيدة، معنى الباء الطرح، المعنى: أيكم المفتون. قال: ومثله قول الشاعر: نضرب بالسيف ونرجو بالفرج

(9)

قال معناه: نرجو الفرج. وليس كذلك. المعنى: نرجو كشف ما فيه نحن بالفرج، أو نرجو النصر بالفرج. والباء في (بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ) لا يجوز أن تكون لغواً. وليس هذا جائزاً في العربية في قول أحد من أهلها. وفيه قولان للنحويين: قالوا: المفتون ههنا بمعنى الفتون، المصادر تجيء على المفعول. تقول العرب: ليس لهذا معقول. أي عقل. وليس له معقود رأي، بمعنى عقد رأى. وتقول: دعه إلى ميسور. بمعنى: إلى يسر. فالمعنى: فستبصر وييصرون بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ. وفيه قول آخر: بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ بالفرقة التي أنت فيها، أو فرقة الكفار التي فيها أبو جهل والوليد بن المغيرة المخزومي ومن أشبههم. فالمعنى على هذا: فستبصر ويبصرون في أي الفريقين المجنون. أفي فرقة الإسلام أم في فرقة الكفر. * * * وقوله: (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) أي: ودُّوا لو تصانعهم في الدين فيصانعونك. * * * وقوله: (وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) فعيل من المهانة، وهي القلة. ومَعناه ههنا القلة في الرأي والتمييز. * * * وقوله: (هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) الهَمَّاز الذي يغتاب الناس. * * * وقوله: (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) معناه: كان يمنع أهله وَوَلده ولحمته من الِإسلام. وجاء في التفسير أنه الوليد بن المغيرة المخزومي، وكان موسراً كثير المال، وكان له عشرة بنين فكان يقول لهم وللحمته: من أسلم منكم منعته رفدي. * * * وقوله: (مُعْتَدٍ أَثِيمٍ). أي متجاوز في الظلم، وأثيم: أي أثيم بربه، أي أثيم باعتدائه وذنبه.

(13)

قوله عزَّ وجلَّ: (عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) جاء في التفسير أن العُتُل ههنا الشديد الخصومة، وجاء في التفسير أنه الجافي الخلق اللئيم الضريبة، وهو في اللُّغَةِ الغليظ الجافي. والزنيم جاء في اللغة أنه الملزق في القوم وليس منهم، قال حسَّانُ بن ثابت الأنصاري. وَأَنْتَ زَنِيمٌ نِيطَ في آل هَاشِمٍ. . . كما نِيطَ خَلْفَ الرَّاكِبِ القَدَحُ الفَرْدُ وقيل إن الزنيم الذي يعرف بالشر كما تعرف الشاة بزنمتها، والزنمتان المعلقتان عند حلوق المِعْزَى. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) وقرئت على لفظ الاستفهام، والمعنى معنى التوبيخ. وَمَوْضِعُ " أنْ " نَصبٌ على وجهين: على معنى أَلِأنْ كان ذا مال وبنين يَقُولُ، (إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آياتُنَا). فيكون " أن " نصْباً بمعنى قال ذلك لأن كان ذا مال وبنين، أي جعل مجازاة النَعَمِةِ التي خُوِّلَهَا في المال والبنين والكفر بآياتنا. وَإِذَا جَاءَتْ ألِفُ الاسْتِفْهام فهذا هو القول لا يصلح غيره. وقيل في التفسير: ولا تطع كل حلاف مهين أن كان ذا مال وبنين أي لَا تُطعْهُ لِيَسَارِه وعَدَدِه. (إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) (وأساطيرُ) مرفوعة بإضمار هي، المعنى إذا تتلى عليه آياتنا قال هي أساطير الأولين. وواحد الأساطير أسطورة. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)

(17)

معناه سَنَسِمُهُ عَلَى أنفه، والخرطوم الأنف، ومعنى سنسمه سنجعل له في الآخرة العلم الذي يعرف به أهل النار من اسوداد وجوهِهِمْ. وجائز - واللَّه أعلم - أذا يفرده بِسمَةٍ لمبالغته في عداوة النبي عليه السلام. فيخصُّ من التشويه بما يتبين به من غيره كما كانت عداوته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - عداوةً يُتَبَين بها من غيره. * * * وقوله: (إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) والجنَّة: البستان، وهؤلاء قوم بناحية اليمن كان لهم أب يتصدق من جنته على المساكين، فجاء في التفسير أنه كان يأخذ منها قوت سنته، ويتصدق بالباقي وجاء أيضاً أنه كان يترك للمساكين ما أخطأه المنجل، وما كان في أسفل الأكداس، وما أخطاه القطاف من العنب وما خرج عن البساط الذي يبسط تحت النخلة إذا صُرِمَتْ، فكان يجتمع من ذلك شيء كثير، فقال بنوه: نحن جماعة، وإن فعلنا بالمساكين ما كان يفعل أبونا ضاق علينا الأمر فحلفوا لَيَصْرِمُنَّهَا بِسُدْفة من الليل. قال الله عزَّ وجلَّ: (وَلَا يَسْتَثْنونَ). فحلفوا ولم يقولوا: إن شاء اللَّه، فلما كان الوقت الذي اتَعَدُوا فِيه بِسُدْفة غَدَوْا إلى جنتهم ليصرموها. * * * (وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) من قولهم: حاردت السنة إذا منعت خيرها. وقيل على غَضبٍ (1). فأما الحرد الذي هو القصد فأنشدوا فيه: أَقْبَل سَيْلٌ جاء مِنْ أَمْرِ اللهْ. . . يَحْرِدُ حَرْدَ الجَنَّةِ المُغِلَّهْ

_ (1) قال السَّمين: قوله: {على حَرْدٍ قَادِرِينَ}: يجوزُ أَنْ يكونَ «قادرين» حالاً من فاعل «غَدَوْا». و «على حَرْدٍ» متعلِّقٌ به، وأَن يكونَ «على حَرْدٍ» هو الحالَ، و «قادرين»: إمَّا حالٌ ثانيةٌ، وإمَّا حالٌ مِنْ ضميرِ الحالِ الأولى. والحَرْدُ فيه أقوال كثيرة، قيل: الغضبُ والحَنَقُ. وأُنْشد للأشهب ابن رُمَيْلة: 4304 أُسُوْدُ شَرىً لاقَتْ أُسُودَ خَفِيَّةٍ. . . تَساقَوْا على حَرْدٍ دماءَ الأساوِدِ قيل: ومثلُه قولُ الآخرِ: 4305 إذا جِيادُ الخيل جاءتَ تَرْدي. . . مملوءَةً مِنْ غَضَبٍ وحَرْد عَطَفَ لَمَّا تغايرَ اللفظان كقولِه: 4306. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وأَلْفى قولَها كَذِباً ومَيْنا وقيل: المَنْعُ. مِنْ حارَدَتِ الإِبلُ: قَلَّ لَبَنُها، والسَّنَةُ: قَلَّ مَطَرُها، قاله أبو عبيد والقُتبيُّ. ويقال: حَرِدَ بالكسر يَحْرَدُ حَرْداً، وقد تُفْتح فيقال: حَرَداً، فهو حَرْدانُ وحارِدٌ. يقال: أسدٌ حارِدٌ، ولُيوث حَوارِدُ. وقيل: الحَرْدُ والحَرَدُ الانفرادُ. يُقال: حَرَدَ بالفتح، يَحْرُد بالضم، حُروداً وحَرْداً وحَرَداً: انعزل، ومنه كوكبٌ حارِدٌ، أي: منفردٌ. قال الأصمعي: «هي لغةُ هُذَيْل». وقيل: الحَرْدُ القَصْدُ. يقال: حَرَد يَحْرِدُ حَرْدَك، أي: قَصَدَ قَصْدَك، ومنه: 4307. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . يَحْرِدُ حَرْدَ الجنَّةِ المُغِلَّهْ وقد فُسِّرت الآيةُ الكريمةُ بجميعِ ما ذَكَرَتْ. وقيل: الحَرْدُ اسمُ جنَّتِهم بعينِها، قاله السُّدي. وقيل: اسم قَرْيتِهم، قاله الأزهري. وفيهما بُعْدٌ بعيدٌ. و «قادرين»: إمَّا مِنْ القُدْرَةِ، وهو الظاهرُ، وإمَّا مِن التقدير وهو التضييقُ، أي: مُضَيِّقين على المساكينِ. وفي التفسيرِ قصةٌ توضِّحُ ما ذكرْتُ «. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(19)

أي يقصد قَصْدَ الجنةِ المغلَّةِ. * * * قوله تعالى: (فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) أي أرسل عليها عذاباً من السماء فاحترقت كُلها. * * * (فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) أي فأصبحت كالليل سواداً. * * * (فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22) أي إن كنتم عازمين على صرام النخل. * * * (فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أي يسرون الكلام بينهم بأن: (لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ). والتخافِتُ إسرار الكلام. * * * (فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) (فَلَمَّا رَأَوْهَا) مُحْتَرِقَةً. (قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ)، أي قد ضللنا طريق جَنتِنَا، أي ليست هذه، ثم عَلِمُوا أَنَّهَا عُقُوبَةٌ فقالوا: * * * (بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) أي حُرِمْنَا ثَمَرَ جنتنا بمنعنا المساكين. * * * (قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) (أَوْسَطُهُمْ) أعدلهم من قوله: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) أي عَدْلاً. (لَوْلَا تُسَبِّحُونَ). قال لهم: استثنوا في يمينكم، لأنهم أقسموا لَيَصْرِمُنَّهَا مصبحين

(35)

ولم يستثنوا. ومعنى التسبيح ههنا الاستثناء، وهو أَنْ يَقول: إن شاء اللَّه. فإذا قال قائل التسبيح أن يقول: سبحان اللَّه، فالجَوابُ فِي ذلكَ أن كل ما عظمت الله به فهو تسبيح، لأن التسبيح في اللغة فيما جاء عن النبي عليه السلام تنزيه الله عن السوء. فالاستثناء تعظيم الله والإقرار بأنه لا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَفعل فِعْلاً إلا بمشيئتِهِ - عزَّ وجلَّ. فالمعنى في قوله: (إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ). إنا بلونا أهل مكة حين دعا عليهم رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فقال: اللهمِ اشدد وطأتك على مُضَرَ واجعلها عليهم سنين كسني يوسف، فابتلاهم اللَه بالجرب والهلاك وذَهَابِ الأقواتِ كما بلى أصحاب هذه الجنة باحتراقِها وذهاب قوتهم منها. * * * وقوله: (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) هذه الألف ألف الاستفهام، ومجازها ههنا التوبيخ والتقرير. وجاء في التفسير أن بعض كفار قُرَيْش قال: إن كان ما يذكرون أن لهم في الآخرة حَقًا، فإن لنا في الآخرة أكبر منه كما أنا في الدنيا أفضل منهم. فوبخهم الله فقال: (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ). وكذلك: (مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ). معناه على أي أحوال الكفر تخرجون حُكمَكُمْ. * * * (أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) أي أعندكم كتاب من اللَّه عزَّ وجلَّ أن لكم لما تخيرونَ. * * * (أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39) (أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ* معناه مؤكدة (إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ). أي حَلِفٌ على ما تَدَّعُونَ في حكمكم.

(40)

قوله: (سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40) والزعيمِ الكفيل والضَامِنِ. والمعنى سلهم أَيُّهُمْ كَفَلَ بِذَلِكَ. * * * قوله: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) أي فليأتوا بشركائهم يوم القِيَامةِ. ومعنى (يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ) في اللغة يُكشَفُ عن الأمر الشديد. قال الشاعر: قد شمرت عن ساقها فشُدُّوا. . . وجدَّت الحرب بكم فَجِدُّوا والقوس فيها وترٌ عُردُّ. وجاء في التفسير عن أحمد بن عبد الله بن أحمد بن حَنْبَل قال ثنا أبي. قال ثنا محمد بن جَعْفَرٍ يعني غندر، عن شعبة عن مغيرة عن إبراهيم قال. قال ابن عباس في قوله: (يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ) عن الأمر الشديد. وقال ابنُ مَسْعُودٍ: يكشف الرحمن عن ساقه. فأما المؤمنون فيخرون له سُجَّداً وأما المنافقون فتكون ظهورهم طبقاً طبقاً كان فيها السفافيد. فهذا ما روينا في التفسير وما قاله أهل اللغة. قال أبو إسحاق: هذا تأويل قوله (وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أبْصَارُهُمْ). يعنى به المنافقُونَ.

(43)

وقوله: (تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43) (تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) معناه تَغشاهم ذِلَّةٌ. (وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43) يعنى به في الدنيا. * * * وقوله: (فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) ومثله: (ذَرْني ومن خَلَقْتُ وَحِيداً)، معناه لا تَشْغَلْ قَلْبَكَ بِهِ، كِلْهُ إليَّ فإني أُجازيه. ومثله قول الرجل: ذرني وإياه. وليس أنه مَنَعه بِهِ ولكن تأويله كِلْهُ إليَّ فَإنِي أَكْفِيكَ أَمْرَه. * * * وقوله: (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) يعني: يونس عليه السلام. * * * (إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ) أي مملوء غَمًّا وكرباً. * * * وقوله: (لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) والمعنى أنه قد نبذ بالعراء وهو غير مذموم، ويدل على ذلك أن النعمة قد شَمِلته. * * * وقوله: (فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) هذا تخليصٌ له من الذَّم، والعراء المكان الخالي قال الشاعر: رَفَعْتُ رِجلاً لا أَخافُ عِثارَها. . . ونَبَذْتُ بالبَلَدِ العَراء ِثيابي * * * قوله عزَّ وجلَّ: (وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وقرئت (ليزهقونك) - بالهاء - ولكن هذه تخالف المصحف أعني الهاء والقراءة على ما وافق المصحف (1). وهذه الآية تحتاج إلى فصل إبانةٍ في اللغة فأمَّا ما رُوِيَ في التفسير

_ (1) قال السَّمين: قوله: {لَيُزْلِقُونَكَ}: قرأها نافعٌ بفتح الياءِ، والباقون بضمِّها. فأمَّا قراءةُ الجماعةِ فمِنْ أَزْلَقَه، أي: أَزَلَّ رِجْلَه، فالتعديةُ بالهمزةِ مِنْ زَلَق يَزْلِقُ. وأمَّا قراءةُ نافع فالتعديةُ بالحركةِ يقال: زَلِقَ بالكسر وزَلَقْتُه بالفتح. ونظيرُه: شَتِرَتْ عَيْنُه بالكسرِ، وشَتَرها اللَّهُ بالفتح، وقد تقدَّم لذلك أخواتٌ. وقيل: زَلَقه وأَزْلَقه بمعنى واحدٍ. ومعنى الآية في الاصابةِ بالعينِ. وفي التفسير قصةٌ. والباءُ: إمَّا للتعديةِ كالداخلةِ على الآلةِ، أي: جعلوا أبصارهم كالآلةِ المُزْلِقَةِ لك، كعَمِلْتُ بالقَدوم، وإمَّا للسببيةِ، أي: بسبب عيونِهم. قوله: {لَمَّا سَمِعُواْ الذكر} مَنْ جَعَلْها ظرفيةً جَعَلها منصوبةً ب «يُزْلِقُونك»، ومَنْ جعلها حرفاً جَعَلَ جوابَها محذوفاً للدلالةِ، أي: لَمَّا سَمِعوا الذِّكْرَ كادوا يُزْلِقونك، ومَنْ جَوَّزَ تقديمَ الجوابِ قال: هو هنا متقدِّمٌ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

فروي أن الرجل من العرب كان إذا أراد أن يعتان شيئا. أي يصيبَه بالعين تجوع ثلاثة أيام، ثم يقول للذي يريد أن يعتانه: لَا أَرَى كاليوم إبلاً أَو شاءً أو ما أراد. المعنى لَمْ أَرَ كإبل أَراها اليوم إبلًا فكان يصيبها بالعين بهذا القول. فقالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - لما سمعوا منه الذكر كما كانوا يقولون لما يريدون أَنْ يُصِيبوه بالعين. فأما مذهب أهل اللغة فالتأويل عندهم أنه من شدة إبغَاضِهِم لك وعدوانهم يكادون بِنَظَرهم نَظَر البغضاء أن يضروك، وهذا مستعمل في الكلام، يقول القائل: نظر إليَّ نظراً يكاد يَصْرَعنِي بِهِ، ونظراً يكاد يأكلني فيه. وتأويله كله أنه نظر إليَّ نظراً لو أمكنه معه أكلي أوْ أَن يَصْرَعَنِي لفعَلَ. وهذا بين واضح، واللَّه أعلم.

سورة الحاقة

سُورَةُ الحَاقَّة (مَكِّيَّة) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) الأوَّلَةُ: مرفوع بالابتداء، و " ما " رفع بالابتداء أَيْضاً. و (الْحَاقَّةُ) الثانية خبر " ما " والعائد على " ما " (الْحَاقَّةُ) الثانيةُ. على تقدير ما هي، والمعنى تفخيم شأنها، واللفظ لفظ استفهام كما تقول: زيد ما هو، على تأويل التعظيم لشأنه في مَدْح كان أَوْ ذَمٍّ. والحاقَةُ: السَّاعَةُ والقِيامة وسميت (الْحَاقَّةُ) لأنها تحق كل شيء يعمله إنسان من خير أو شر. وكذلك (وَمَا أدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ). معناهُ أَي شيء أعلمك ما الحاقة. و" ما " موضعها رفع، وأن كان بعد أدراك لأن ما كان في لفظ الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله. المعنى ما أعلمك أي شيء الحاقةُ. ثم ذكر اللَّه - عزَّ وجلَّ - من كذبَ بالحاقةِ والساعة وأمر البعث والقِيَامَةِ وما نزل بِهِمْ وَعْظاً لأمَّة محمد - صلى الله عليه وسلم - فقال: (كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) أي بالقيامة. * * * (فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) ومعنى (بِالطَّاغِيَةِ) عند أهل اللغة بطغيانِهِمْ، وفاعِلَة قد يأتي يمعنى المصادِر نحو عافية وعاقبة. والذي يدل عليه معنى الآية. - واللَّه أعلم - أنهم أهلكوا بالرجفة الطاغية، كما قال:

(6)

(وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) يقال للشيء العظيم عاتٍ وعاتية، وكذلك أهلكوا بالطاغية، ودليل الوصف بالطغيان في الشيء العظيم قوله عزَّ وجلَّ: (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ). فوصف الماء بالطغيان لمجاوزته القَدْرَ في الكَثْرةِ، وكذلك أهلكوا بالطاغية، واللَّه أعلم. وقوله: (بِرِيح صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ) أي بريح شديدة البرد جدًّا، والصَّرْصَرُ شدة البردِ، وصَرْصَر متكرر فيها البرد، كما تقول قد قلقلت الشيء، وأقْلَلْتُ الشيء إذا رَفَعته من مكانه، إلا أن قلقلته رَدَدْتُه أي كررْتُ رفعه، وأَقْلَلْتُه رفعته. فليس فيه دليل تَكْرِيرٍ، وكذلك صَرْصَرَ وَصَر وصَلْصَلَ، وَصَل. إذا سمعت صوت الصرير غير مُكَرر قلت قد صَر وَصَل، فإذا أردت أن الصوت تكرر قلت: قد صَلْصَلَ، وصَرْصَرَ. * * * وقوله تعالى: (سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) معنى (سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ) أقامها عليهم كما شاء، ومعنى (حُسُوماً) دَائمَةً. وقالوا مُتَابِعةً، فأمَّا ما توجبه اللغة فعلى معنى تَحْسِمُهم حُسُوماً. أَي تُذْهِبُهُمْ وتُفْنِيهِمْ. وقوله - عزَّ وجلَّ -: (كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ). (أَعْجَازُ نَخْلٍ) أصول نخل، وقيل خاوية للنخل لأن النخل تذكر وتُؤنثُ. يقال: هذا نخل حسن، وهذه نخل حَسَنَة، فخاوية على التأنيث. وقال في موضع آخر: (أعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ). * * * وقوله: (وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9)

(10)

وقُرِئَتْ وَمَن قِبَلَهُ فمن قال: ومن قِبَلَهُ فمعناه وتباعُة، ومن قال ومَنْ قَبْلَه فالمعنى مَنْ تَقَدَّمَهُ. (وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ). (وَالْمُؤْتَفِكَاتُ) الذين ائتفكوا بِذُنُوبِهِمْ، أي أهلكوا بِذُنُوبِهِمْ الَّتي أعظَمُها الإفكُ، وهو الكذبُ في أمر الله بأنهم كفروا وكذَبوا بالرسل فلذلك قيل لهم مؤتفكون، وكذلك الذين ائتفكت بهم الأرض، أي خسِفَ بِهِمْ إنما معناه انقلبت بِهِمْ كما يقلب بهم الكذاب الحق إلى البَاطِلِ ومعنى (بالخاطئة) بالخطأ العظيم، والدليل على أن من عظيم آثامهم الكذِبُ قوله: (فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (10) لإأنهم كذبوا رسُلَهُمْ. (أَخْذَةً رَابِيَةً): معنى (رَابِيَةً) تَزِيد عَلَى الأحْدَاثِ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) معنى طغى الماء طما وارتفع، ومعنى الجارية، أي سفينة نوحٍ عليه السلام وَاللَّهُ أعلم. * * * وقوله: (لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12) معناه لنجعل هذه الفعلة لكم تذكرة، أي إغراق قوم نوح ونجاته والمؤمنين مَعَهُ. * * * وقوله: (وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ). معناه أُذُنٌ تحفظ ما سَمِعَتْ وَتَعْمَل به، أي ليحفظ السامع ما سمع ويعمل به. تقول لكل شيء حفظته في نفسك: قَدْ وَعَيْته، يقال: قَدْ وَعَيْتُ

(13)

العِلم وَوَعَيْتُ قُلْتَ، وتقول لما حفظته في غير نفسك: أَوْعَيتُه، يقال أوعيت المتاعَ في الوعاء. * * * وقوله: (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) القراءة بالرفع في (نَفْخَةٌ) على ما لم يسم فاعله. وذكر الأخفش (نفخةً وَاحِدةً) بالنَصْبِ ولم يذكر قرئ بها أم لا، وهي في العربية جائزة على أن قولك في الصور يقوم مقام ما لم يسم فاعله، تقول: في الصور نفخاً، ففي الصور على لفظ الجر، والمعنى نفخ الصور نفخة واحدةً، وهذا على من نصب نفخة واحدة. ومن رفع فعلى مَعْنَى نُفِخَ نفخة واحدةٌ فِي الصورِ. فأما تذكير نفخ فلو كان نفخت في الصور نفخة جاز لأنه تأنيثٌ ليس بِحقيقيٍّ، فتذكيره جَائِز، لأن النفخة والنفخ بمعنًى وَاحِدٍ. ومثله (فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ). المعنى معنى الوعظ. وقال في موضع آخر: (قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ). * * * وقوله: (وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) يقال لكل ما ضعف جدًّا قد وَهَى فهو واهٍ، ويجوز واهية بإمالة الألف والواو لكسر الهاء. * * * وقوله: (وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) المعنى الملائكة على جَوَانِبَها، ورَجَا كل شيء نَاحِيَتُه، مقصور، والتثنيةُ رَجَوان والجمع أَرْجَاءِ. * * * (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ). يروى ثمانية أملاك أرْجُلُهم في تخوم الأرض السابعة والعَرْشُ فوق رُؤوسِهِم وَهُمْ مُطْرِقُونَ يُسَبِّحُونَ.

(19)

(فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) يروى إذا كان يوم القيامةِ عرض الخلق ثلاث عَرَضاتٍ في الاثنين منها الاحتجاج والاعتذار والتوبيخ، وفي الثالثةِ تنثر الكتب فيأخذ الفائز كتابه بيمينه والهالك كتابه بشماله. و (هَاؤُمُ) أمر للجماعة بِمَنْزِلَةِ هَاكم، تقول للواحد هَاءَ يَا رَجل وللاثنين )، وهَا يا رَجُلَانِ، وللثلاثة هَاؤُمُ يا رجال، وللمَرْأَةِ هاءِ يا امرأَةُ - بكسر الهمزة - وللاثنين هاؤما وللجَمَاعَةِ النِسَاءِ هَاؤنَّ. وفي هذه ثلاث لغَات قد ذكرتها في غير كِتَابِ القرآنِ (1). * * * وقوله: (إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) معناه إني أيقنتْ بأني أحاسب وأبعَث. فأمَّا " كتابيه " و " حسابيه " فالوجه أن يوقف على هذه الهَائَاتِ ولا تُوصِلْ. لأنها أدخلت للوقف، وقد حذفها قوم في الوصل ولا أحب مخالفة المصحف، ولا أن أقرأ بإثبات الهاء في الوصل. وهذه رؤوس آياتٍ فالوجه أن يوقف عندها. وكذلك قوله: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10). * * * وقوله: (هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) معناه ذهبت عني حجتِيَهْ، والسلْطَان الحُجَّة، وكذلك قيل للأمراء سلاطين لأنهم الذينَ تقام بِهِمً الحجة والحُقوق. * * * وقوله: (قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) معناه تدنو من مريدها لا يمْنَعه مِنْ تَناولها بُعْدٌ وَلاَ شَوْك. وقوله: (فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ). ومعناه في الأيام التي مَضَتْ لهم.

_ (1) قال السَّمين: قوله: {هَآؤُمُ}: أي: خُذُوا. وفيها لغاتٌ، وذلك أنَّها تكونُ فِعْلاً صريحاً، وتكونُ اسمَ فعلٍ، ومعناها في الحالَيْنِ خُذْ. فإن كانَتْ اسمَ فعلٍ وهي المذكورةُ في الآيةِ الكريمةِ ففيها لغتان: المدُّ والقَصْرُ تقول: ها درهماً يا زيدُ، وهاءَ درهماً. ويكونان كذلك في الأحوالِ كلِّها مِنْ إفرادٍ وتثنيةٍ وجمعٍ وتذكيرٍ وتأنيثٍ، وتتصلُ بهما كافُ الخطابِ اتصالَها باسمِ الإِشارةِ، فَتُطابِقُ مخاطبَك بحسب الواقع، مطابَقَتَها وهي ضميرُهُ، نحو: هاكَ هاءكَ، هاكِ هاءَكِ إلى آخرِه، وتَخْلُفُ كافَ الخطابِ همزةُ «هاء» مُصَرَّفةً تَصَرُّفَ كافِ الخطابِ، فتقول: هاءَ يا زيدُ، وهاءِ يا هندُ، هاؤُما، هاؤُم، هاؤُنَّ، وهي لغةُ القرآن. وإذا كانت فِعْلاً صريحاً لاتصالِ الضمائر البارزةِ المرفوعةِ بها كان فيها ثلاثُ لغاتٍ، إحداها: أَنْ تكونَ مثلَ: عاطى يُعاطي. فيُقال: هاءِ يا زيدُ، هائِي يا هندُ، هائِيا يا زيدان، أو يا هندان، هاؤُوا يا زيدون، هائِيْنَ يا هنداتُ. الثانية: أَنْ تكونَ مثلَ «هَبْ» فتقول: هَأْ، هَئِي، هَآ، هَؤُوا، هَأْنَ. مثلَ: هَبْ، هَبِي، هَبا، هَبُوا، هَبْنَ. الثالثة: أَنْ يكونَ مثلَ: خَفْ أمراً مِنَ الخوفِ فيقال: هَأْ، هائي، هاءا، هاؤوا، هَأْنَ، مثلَ: خَفْ، خافِي، خافا، خافُوا، خَفْنَ. واختُلِفَ في مَدْلولِها: فالمشهورُ أنَّها بمعنى خُذوا. وقيل: معناها تعالوا، فيتعدَّى ب «إلى». وقيل: هي كلمةٌ وُضِعَتْ لإِجابةِ الداعي عند الفرحِ والنشاطِ. وفي الحديث: «أنه ناداه أعرابيٌّ بصوتٍ عالٍ، فجاوبَه النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: هاؤُم بصَوْلةِ صَوْتِه» ومِنْ كوْنِها بمعنى «خُذْ» الحديث في الرِّبا: «إلاَّ هاءَ وهاء» أي: يقول كلُّ واحدٍ من المتبايعَيْن. خذ. وقيل معناها اقصِدوا. وزعم هؤلاء أنها مركبةٌ مِنْ ها التنبيه وأمُوا من الأَمِّ، وهو القَصْدُ فصَيَّره التخفيفُ والاستعمالُ إلى هاؤم. وقيل الميم ضميرُ جماعةِ الذكورِ. وزَعَم القُتَبيُّ أنَّ الهمزةَ بدلٌ من الكافِ، فإنْ عَنَى أنَّها تَحُلُّ مَحَلَّها فصحيحٌ. وإنْ عَنَى البدَل الصناعيَّ فليس بصحيح. وقوله: {هَآؤُمُ} يطلبُ مفعولاً يتعدَّى إليه بنفسِه، إنْ كان بمعنى خُذْ أو اقْصِدْ، وب «إلى» إنْ كان بمعنى تعالَوا. و «اقْرؤُوا» يَطْلُبُه أيضاً فقد تنازَعا في «كتابِيَهْ» وأعملَ الثاني للحَذْفِ من الأولِ. وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في سورة الكهفِ وفي غيرِها. والهاءُ في «كتابِيَهْ وحِسابِيَهْ وسُلْطانِيَهْ ومالِيَهْ» للسَّكْت، وكان حقُّها أَنْ تُحْذَفَ وَصْلاً، وتَثْبُتَ وَقْفاً، وإنما أُجْرِيَ الوَصْلُ مُجْرَى الوقفِ، أو وُصِلَ بنيَّة الوقفِ في «كتابِيَهْ وحِسابِيَهْ» اتفاقاً فأَثْبَتَ الهاء، وكذلك في «مالِيه وسُلْطانِيَهْ»، و «ما هِيَهْ» في {القارعة} [القارعة: 10] عند القُرَّاءِ كلِّهم إلاَّ حمزةَ رحمه الله فإنه حَذَفَ الهاءَ مِنْ هذه الكَلِمِ الثلاثِ وَصْلاً وأَثْبَتَها وقفاً؛ لأنَّها في الوقفِ يُحْتاج إليها لتحصينِ حركةِ الموقوفِ عليه، وفي الوصلِ يُسْتَغْنَى عنها. فإنْ قيل: فلِمَ لَمْ يَفْعَلْ ذلك في «كِتَابِيَهْ/ وحسابِيَهْ» فالجوابُ: أنه جَمْعٌ بني اللغتين، هذا في القراءاتِ السبعِ. وقرأ ابنُ محيصن بحَذْفِها في الكَلِم كلِّها وَصْلاً ووَقْفاً، إلاَّ في «القارعة»، فإنه لم يَتَحَقَّقْ عنه فيها نَقْلٌ. وقرأ الأعمشُ وابنُ أبي إسحاق بحَذْفِها فيهنَّ وَصْلاً، وإثباتِها وَقْفاً. وابن محيصن يُسَكِّنُ الياءَ في الكَلِمِ المذكورةِ وَصْلاً. والحقُّ أنها قراءةٌ صحيحةٌ أعني ثبوتَ هاءِ السكتِ وَصْلاً، لثبوتِها في خَطِّ المصحفِ الكريمِ، فلا يُلْتَفَتُ إلى قولِ الزهراوي: «إنَّ إثباتَها في الوصلِ لَحْنٌ، لا أعلَمُ أحداً يُجيزه». وقد تقدَّم الكلامُ على هاءِ السكتِ في البقرة. والأنعام بأشبعَ مِنْ هذا فعليك باعتبارِه. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(31)

قوله: (ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) المعنى اجعلوه يصلى النَّارَ. * * * قوله (وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) معناه من صديد أهل النار، واشتقاقه مما ينغسِلُ مِنْ أبدَانِهمْ. * * * وقوله: (قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41)، و (قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) " ما " مُؤَكدَة، ْ وهي لَغْوٌ في باب الإعراب، والمعنى (قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ) و (قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ). * * * وقوله: (تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43) رفعه بِـ (هُوَ) مُضْمِرَة يدل عليها قوله: (وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ) أي هُوَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ. * * * وقوله: (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) يعني به النبي - صلى الله عليه وسلم - * * * (لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) أي بالقُدْرَةِ والقؤة وقال الشماخ: إذا ما راية رفعت لمجد. . . تلقاها عرابة باليمين * * * قوله: (ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) الوتين نياط القلب. * * * (فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) (حَاجِزِينَ) من نعت (أَحَدٍ)، وَ (أَحَدٍ) في معنى جميع. المعنى فما منكم قوم يحجزون عنه. * * * وقوله: (وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) المعنى أن القُرآن لليقين حق اليقين. * * * قوله: (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52) التسبيح معناه تَنْزيهُ اللَّهِ مِنَ السوءِ وتنزيهه تعالى.

سورة المعارج

سُورَةُ المعارج (مَكِّيَّة) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله عزَّ وجلَّ: (سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) وقرئ سال بغير همز، يقال:. سالت اسال، وسَلْتُ أَسَالُ، والرجلان يتساءلان ويتساوَلان بمعنى واحِد. والتأويل دَعَا دَاع بعذاب واقع. وذلك كقولهم: (اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32). وقيل معنى سأل سائِلٌ بعذاب، أي عن عذاب واقع، فالجواب قوله: (لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِع). أي يقع بالكافرين، وقيل إن سال سايل بغير همز، سايل وَادٍ في جهنم (1). * * * وقوله: (مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) قيل معارج الملائكة،. وقيل ذي الفَوَاصِل. * * * وقوله: (تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) جاء في التفسير أَنًه يَوْمُ القِيَامَةِ، وجاء أَيضاً أن مقداره لو تكلفتموه خمسون ألف سنة، والملائكة تعرج في كل يوم واحِدٍ. وقرئت: تعرجُ

_ (1) قال السَّمين: قوله: {سَأَلَ}: قرأ نافع وابنُ عامر بألفٍ مَحْضَةٍ. والباقون بهمزةٍ مُحَقَّقةٍ، وهي الأصلُ، وهي اللغةُ الفاشيةُ. ثم لك في «سأل» وجهان أحدُهما: أنْ يكونَ قد ضُمِّنَ معنى دعا؛ فلذلك تعدَّى بالباء، كما تقول: دعوت بكذا. والمعنى: دعا داعٍ بعذابٍ. والثاني: أَنْ يكونَ على أصلِه. والباءُ بمعنى عن، كقوله: 4326 فإن تَسْألوني بالنساء. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . «فأسْأل بن خبيرا»، وقد تقدَّم تحقيقُه. والأولُ أَوْلَى؛ لأن التجوُّزَ في الفعل أَوْلَى منه في الحرف لقوتِه. وأمَّا القراءةُ بالألفِ ففيها ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنها بمعنى قراءةِ الهمزة، وإنما خُفِّفَتْ بقَلْبِها ألفاً، وليس بقياسِ تخفيفِ مثِلها، بل قياسُ تخفيفِها جَعْلُها بينَ بينَ. والباءُ على هذا الوجهِ كما في الوجهِ الذي تقدَّم. الثاني: أنها مِنْ سال يَسال مثلُ خاف يَخاف. وعينُ الكلمةِ واوٌ. قال الزمخشري: «وهي لغةُ قريش يقولون: سِلْتَ تَسالُ، وهما يتسايلان». قال الشيخ: «وينبغي أَنْ يُتَثَبَّتَ في قوله:» إنها لغةُ قريشٍ، لأنَّ ما جاء في القرآنِ من باب السؤالِ هو مهموزٌ، أو أصلُه الهمزُ، كقراءةِ مَنْ قرأ «وسَلُوا اللهُ مِنْ فضلِه» [النساء: 32] إذ لا جائزٌ أَنْ يكونَ مِنْ «سال» التي عينُها واوٌ، إذ كان يكون ذلك «وسَالوا اللهَ» مثلَ «خافوا»، فيَبْعُدُ أن يجيءَ ذلك كلُّه على لغةِ غيرِ قريشٍ، وهم الذين نَزَل القرآنُ بلغتِهم إلاَّ يسيراً، فيه لغةُ غيرِهم. ثم في كلامِ الزمخشريِّ «وهما يتسايَلان» بالياء، وهو وهمٌ من النسَّاخ، إنما الصوابُ: يتساوَلان بالواو، لأنه صَرَّحَ أولاً أنه من السُوال يعني بالواو الصريحةِ، وقد حكى أبو زيدٍ عن العربِ: «هما يتساولان». الثالث: أنَّها مِنْ السَّيَلان. والمعنى: سالَ وادٍ في جهنم بعذابٍ، فالعينُ ياءٌ، ويؤيِّدُه قراءةُ ابن عباس «سالَ سَيْلٌ». قال الزمخشريُّ: «والسَّيْلُ مصدرٌ في معنى السائلِ كالغَوْر بمعنى الغائر. والمعنى: اندفع عليهم وادي عذابٍ» انتهى. والظاهرُ الوجهُ الأولُ لثبوتِ ذلك لغةً مشهورةً قال: 4327 سالَتْ هُذَيْلٌ رسولَ اللهِ فاحشةً. . . ضَلَّتْ هُذَيلٌ بما سالَتْ ولم تُصِبِ وقرأ أُبَيٌّ وعبد الله «سال سالٌ» مثلَ «مال» وتخريجُها: أنَّ الأصلَ «سائلٌ» فحُذِفَتْ عينُ الكلمةِ وهي الهمزةُ، واللامُ محلُّ الإِعرابِ وهذا كما قيل: «هذا شاكٌ» في شائِكِ السِّلاح وقد تقدَّم الكلامُ على مادةِ السؤالِ في أول البقرة، / فعليك باعتبارِه. والباءُ تتعلَّق ب «سال» من السَّيَلان تعلُّقَها ب «سال الماءُ بزيدٍ». وجَعَلَ بعضُهم الباءَ متعلقةً بمصدرٍ دَلَّ عليه فِعْلُ السؤال، كأنه قيل: ما سؤالُهم؟ فقيل: سؤالُهم بعذابٍ، كذا حكاهُ الشيخ عن الإِمام فخر الدين، ولم يَعْتَرِضْه. وهذا عَجَبٌ؛ فإنَّ قولَه أولاً «إنه متعلِّقٌ بمصدرٍ دَلَّ عليه فِعْلُ السؤال» يُنافي تقديرَه بقولِه: «سؤالُهم بعذاب»؛ لأنَّ الباءَ في هذا التركيبِ المقدَّرِ تتعلَّق بمحذوفٍ لأنها خبرُ المبتدأ، لا بالسؤال. وقال الزمخشري: «وعن قتادةَ: سأل سائلٌ عن عذابِ الله بمَنْ يَنْزِلُ وعلى مَنْ يقعُ؟ فَنَزَلَتْ، و» سأَل «على هذا الوجهِ مُضَمَّنٌ معنى عُنِيَ واهتمَّ». اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5)

الملائكة، ويعرج الملائكة. وقيل منذ أول أَيامِ الدنيا إلى انقضائها خمسون ألف سنة. وجائز أن يكون " فِي يَوْمٍ " من صلة " واقع "، فيكون المعنى سأل سائل بعذاب واقع في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة. وذلك العذابُ يقع في يوم القيامة. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5) هذا يدل على أن ذلك قبل أن يؤمر النبي عليه السلام بالقتال. * * * قوله: (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7) يرونه بعيداً عندهم كأنهم يستبعدونه على جهة الِإحالة، كما تقول لمنَاظِرِكَ: هذا بعيد لا يكون. * * * وقوله: (وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7) أي صحيحاً يقرب فَهْمُ مثله بما دل اللَّه على يوم البعث بقوله: (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ). وما أشبه هذا من الاحتجاجات في البعث. * * * وقوله: (يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) العِهْن الصوف، والمهل دُرْدِيُّ الزَّيت. * * * (وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10) وقرئت (ولا يُسْأَلُ حَمِيم). فمن قرأ (وَلَا يَسْأَلُ) فالمعنى أنهم يعرف بعضهم بعضاً، ويدل عليه قوله: (يُبَصَّرُونَهُمْ). ومن قرأ (ولا يُسْأَل حَمِيمٌ حَمِيمًا). فالمعنى لا يُسْأَل قريب عن قرابته، ويَكُونُ (يُبَصَّرُونَهُمْ) - واللَّه أعلم - للملائكة. * * * وقوله: (وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) معناه أدنى قبيلته منه.

(15)

وقوله: (كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) (كَلَّا) ردع وتنبيه، أي لَا يَرجعُ أحدٌ من هؤلَاء فاعتبروا. * * * (نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16) (نَزَّاعَةٌ) وقُرئت (نَزاعَةً للشوَى). والقراءة (نَزَّاعَةٌ)، والقراء عليها وهي في النحو أَقْوى مِنَ النصْبِ. وذكر أَبو عبَيْدٍ إنها تجوز في العربيَّةِ، وأنه لا يَعْرِفُ أَحَداً قَرَأَ بها. وقد رويت عن الحسن، واختلف فيها عن عَاصِمٍ، فَأَما ما رواه أبو عمرو عن عاصم فَـ (نَزَّاعَةً) - بالنصب - وروى غيره (نَزَّاعَةٌ) بالرفع. فأَما الرفع فَمِنْ ثَلاث جِهَاتٍ: أحدها أن تكون " لَظًى، و " نَزَّاعة " خبراً عن الهَاءِ والألِفِ، كما تقول: إنه حُلْوٌ حَامِضٌ، تريد أنه جمع الطعمين. فيكون الهاء والألف إضماراً للقصة، وهو الذي يسميه، الكوفيون المجهول. المعنى أن القصة والخبر لظى نَزَّاعَة لِلشَّوَى، والشوى الأطراف، اليدَانِ والرَجْلَانِ والرأس، والشوى جمع شواه، وهي جلدة الرأس. قال الشاعر: قَالَتْ قُتَيْلَةُ مَا لَهُ. . . قَدْ جُلِّلَتْ شَيْباً شَوَاتُهْ؟ فأمَّا نصب (نَزَّاعَةً) فعلى أنها حال مؤكدة كما قال: (وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا) وكما تقول أنا زيدٌ معروفاً، فيكون (نَزَّاعَةً) منصوباً مُؤَكِداً لأمر النار. ويجوز أن ينصب على معنى أنها تتلظى (نَزَّاعَةً) كما قال جلَّ ثناؤه: (فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14). والوجه الثالث في الرفع يرفع على الذَّمِّ بإضمار هي على معنى هي نَزَّاعَةٌ لِلشَّوَى. ويكون نصبها أيضاً على الذم فيكون نصبها على ثلاثة أوجه. * * * وقوله: (تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17)

(19)

تدعو الكافر باسمه والمنافق باسمه. * * * وقوله: (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) الهلوع على ما في الآية من التفسير يفزع وَيجْزَعُ مِنَ الشَّرِّ. * * * (إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) الإنسان ههنا في معنى الناس، فاستثنى اللَّه - عزَّ وجلَّ - المؤمنين المصلين فقال: (إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23). يعني به المحافظين على الصلاة المكتوبة. ويجوز أن يكون الذين لا يُزِيلُونَ وجوههم عن سمت القبلة ولا يلتفتون، فيكون اشتقاقه من الدائم وهو الساكن، كما جاء النهي عن البول في الماء الدائم، والمحروم الذي هو محارف قد حرم المكاسب. وهو لا يَسْألُ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) أي، على هؤلاء. وقيل إنها في مَعنى " مِنْ " المعنى عند قائل هذا إلا مِنْ أَزْوَاجِهِم أَو ما ملكت وقيل إن " على " محمول على المعنى، المعنى فإنَهُم لَا يلَامُونَ على أزواجهم، ويدل عليه (فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ). * * * وقوله: (فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31) معناه في العُدْوَانِ. وهي المبالغة في مخالفة أمر اللَّه ومجاوزة القدر في الظلِم. وقيل: (فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ). أي من طلب غير الأزواج وَمَا ملكت الأيمان فقد اعتدى.

(32)

والعَادُونِ جَمْعُ عَادٍ وَعَادُونَ. * * * قوله: (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) أي يَرْعَوْنَ العهد والأمانة ويحافظون عليها. وكل محافظ على شيء فهو مُرَاعٍ له. والإِمام راعٍ لرعيته. * * * وقوله: (فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) (مُهْطِعِينَ) منصوب على الحال، والمهطع المقبل ببصره على الشيء لا يزايله، لأنهم كانوا ينظرون إلى النبي عليه السلام نظر عداوة. قال اللَّه تعالى: (وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ). معناه غيظاً وحنقاً. * * * قوله: (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37) حلقاً حلقاً وجماعةً جماعة، وعِزِينَ جمع عِزَة، فكانوا عن يمينه وشِمَالِه مجتمعين، فقالوا إن كان أصحاب محمد يدخلون الجنة فإنا ندخلها قبلهم. وإن أعطوا فيها شيئاً أعطِينا أكثر منه، فقال عزَّ وجلَّ: * * * (أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) وقرئت (أَنْ يَدْخُلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ). ثم قال: * * * (كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) أَي من تراب ومن نطفة، فأي شيء لهم يدخلون به الجنة، وهم لك على العداوة وعلى البغضاء. * * * وقوله: (فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) معناه فأُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ. و" لا " مؤكدة كما قال:

(42)

(لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ). ومعناه ليعلم أهل الكتاب، ومعنى (بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ) أي مشارق الشمس ومغاربها، وكذلك القَمَرُ، وهي مشارق الصيف ومشارق الشتاء وَمَغَارب الصيف، ومغارب الشتاء فتشرق الشمس كل يوم من مشرق، وتغرب من مغرب، وكذلك القَمَرُ. * * * وقوله: (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) (يخوضوا) جواب الأمر مجزوم، وقيل إنه مجزوم وإن كان لفظه بغير آلةِ الأمْرِ لأنه وضع موضع الأمر، كأنه قال ليخوضوا وليَلْعَبُوا. وهذا أَمْر على جهة الوعيد، كما تقول: اصنع ما شئت فإني أعاقبك عليه. وقد مر تفسير هذا مستقصًى. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) والأجداث القبور واحدها جَدَث، ويقال أيضاً جَدَفٌ في هذا المعنى. وقرئت إلى (نَصْبٍ يوفِضُونَ) وَ (إلى نُصْبٍ) - بضم النون وسُكونِ الصاد، وقرِئَتْ (إلى نُصُبِ) بضم النون والصاد. فمن قَرَأَ نصْب، فمعناه كأنَّهم إلى علم مَنْصُوبَِ لهم. ومن قرأ (إلى نصْبِ) فمعناه إلى أَصْنَام لهم. كما قال (وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ). ومعنى (يوفِضُونَ) يُسْرِعُونَ. قال الشَاعِر: لأَنْعَتَنْ نَعامةً مِيفاضا. . . خَرْجاءَ تَغْدُو وتطلُبُ الإِضَاضا ْالميفاض السريعة، وخرجاء ذات لونين سَوَادٍ وبياضٍ. ومعنى الأضاض الموضع الذي يُلْجَأ إليه، يقال أضَتني إليك الحاحة أضَاضاً.

(44)

قوله: (خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44) (تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) أي تغشاهم ذِلًةٌ. وقوله: (مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ). قرئت بالفتح والكسر، فمن قرأ بِكَسْرِ يَوم فَعَلَى أَصْل الِإضافة لأن الذي يضاف إليه الأول مجرور بالإضافة. ومن فتح يوم فلأنه مضاف إلى غير متمكن مضاف إلى " إذْ "، و " إذْ " مبهمة، ومعناه يوم إذ يكون كذا وكذا، فلما كانت مبهمة وأضيف إليها، بني المضاف إليها على الفتح. كذلك أنشدوا قول الشاعر: لم يَمْنع الشُّرْبَ منها غَيْرَ أَن نطقت. . . حمامة في غُصُونٍ ذاتِ أَوْقالِ فلما أضاف " غير " إلى " أن " بناها على الفتح، وهي في موضع رفع، والرفْعُ أيضا قَد رُوِيَ، فقالوا " غيرُ " أن نطقت، كما قرئ الحرف على إعراب الجر، وعلى البناء على الفتح.

سورة نوح

سُورَةُ نُوحٍ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله عَر وَجَلً: (إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) " أن " في موضع نصب بـ (أَرْسَلْنَا)، لأنَّ الأصْلَ بأن أَنْذِرْ قَوْمَكَ، فلما أسقطت الباء أفضى الفِعْلُ إلى " أن " فنصبها وقد قال قوم يُرتَضَى عِلْمُهُمْ إن موضع مِثْلِها جَر وإن سقطت الباء. لأن " أن " يحسن معها سقوط الباء. ولا تسقط من المصدر الباء، لأنك لو قلت: إني أرسلتك بالإنْذَارِ والتهدد لم يُجِزْ أن تقول إني أَرْسَلْتُك الإنذار والتهدُّدَ، ولو قلت إني أرسلتك بأن تُنْذِرَ وأن تهدد لجاز وإني أرسَلْتُكَ أن تنذر وأن تهدِّدَ. وأصل الِإنذار في اللغة الِإعلام بما يخاف منه فيحذر، وأن لا يتعرض له ويجوز أن يكون " أَن " تفسير لما أُرْسِلَ بِهِ. فيكون المعنى: إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَيْ أَنْذِرْ قَومَكَ. * * * (قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) أرسل الله نوحاً وجميع الأنبياء بالأمر بعبادته وإيثار تقواه وطاعة رسله. * * * وقوله: (أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) (يَغْفِرْ) جزم جواب الأمر (أعْبُدُوا اللَّهَ) واتقوه وأطيعوني يغفر لكم من

(4)

ذنوبكم، والنحويون البصريون كلهم ما خلا أبا عمرو بن العلاء لا يدغِمُونَ الراء في اللام، لا يجيزون يَغْفِر لَّكُمْ، وأبو عمرو بن العلاء يرى الإدغام جائزاً. وزعم الخليل وسيبويه أن الراء حرف مكرر متى أدغم في اللام ذهب التكرير منه، فاختل الحرف، والمسموع من العرب وقرأه القراء إظهار الراء. (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4) ومعنى (مِنْ ذُنُوبِكُمْ) ههنا - يغفر لكم ذنوبكم ودخلت "مِنْ " تختص الذنوب من سائر الأشياء، لم تدخل لتَبْعيض الذنُوب، ومثله قوله (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ). معناه اجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان ليس الرجس ههنا بعض الأوثان. وقوله: (وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ). معناه اتقوا الله وأطيعون يؤخركم عن العذاب، أي يؤخركم فتموتوا غير ميتة المُسْتَأْصَلِين بِالعَذَابِ. ثم قال: (إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ) معناه إذا جاء الأجل في الموت لا يؤخر بعذاب كان أو باستئصال. * * * قوله: (جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) قيل إنهم كانوا يسدُّون آذانهم ويغطون وجوههم لئلا يسمعوا قَوْلَه. وليبالغوا في الإعراض عنه بتغطية الوجوه. وقوله: (وَأَصَرُّوا) أقاموا ولم ينووا توبة منه. (وَاسْتَكْبَرُوا) أخذتهم العزة من اتباع نوح والدليل على ذلك قوله: (أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ). * * * وقوله: (ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) أي دعوتهم مظهراً لهم الدعوة. و" جِهَارًا " منصُوبٌ مصدر موضوع موضع

(11)

الحال. المعنى دعوتهم مجاهراً بالدعاء إلى توحيد الله وتقواه. * * * (ثُمَّ إني أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ، لَهًمْ إسْرَاراً). أي خَلَطْتُ لَهُمْ دُعَاءَهم في العلانيةَ بدعاء السر. فقلت: (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا). أي استدعوا مَغْفِرَةَ رَبِّكُمْ. * * * (يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وقيل إِنهم كانوا قد أجدبوا فَاعْلَمَهُم أن إيمانهم باللَّه يجمع لهم مَعَ الحظِّ الوافِرِ في الآخرة. الخِصْب والغِنَى في الدنيا. و (مِدْرَارًا): كثيرة الدَّر، أي كثيرة المطر. * * * (وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12) يعطيكم زينة الدنيا وهي المال والبنون. * * * (وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ): أَي بساتين. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) قيل: مَا لكم لَا تَخَافُونَ للَّهِ عَظَمةً، وقيل لا ترجون عاقبة، وحقيقته - واللُّه أعلم - مالكم لا ترجون عاقبة الإيمان فتوحدون الله وقد جعل لكم في - أنفسكم آية تدل على توحيده من خلقه إياكم، ومن خلق السَّمَاوَاتِ والأرضِينَ والشمس والقمر فقال: * * * (وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14) أي طوراً بعد طورٍ، نقلكم من حالٍ إلى حال ومن جِهَةٍ من الخلق إلى جهة - خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة، ثم جعل المضغة عظْماً، وكسا العظم لحماً ثُمَّ قَررَهُمْ فقال:

(15)

(أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) و (طباقاً) مَنْصوبٌ على جهتين: إحداهما مطَابِقَةً طِباقاً. والأخرى من نعت (سَبْعَ) أيْ خَلَق سبعاً ذات طباق. * * * (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) قال أهل العربية: يجوز أن يكون في السماء الدنيا وقيل (فِيهِنَّ) لأنهن كالشيء الوَاحِد. وجاء في التفسير أن وجه الشمس يضيء لأهل الأرض من ظَهْرها وقَفَاهَا ويضيء لأهل السَّمَاوَات وكذلك القمر. * * * (وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) و (نَبَاتًا) محمول في المصدر على المعنى، لأن معنى " أنبتكم " جعلكم تنبتون نباتاً والمصدر على لفظ أنبتكم إنباتاً ونباتاً أبلغ في المعنى. * * * قوله: (لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20) أي طرقاً بَيِّنَةً. * * * وقوله: (وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21) (وَوُلْدُهُ) ويقرأ: (وَوَلَدُهُ). والوَلَدُ والولد بمعنى واحِدٍ، مثل العَرَب والعُرْب، والعجم والعُجْم. * * * وقوله (وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) يقال: مكر كبير وكُبَّار وكِبار في معنى واحد. * * * (وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وقُرِئَتْ (وُدًّا) - بضم الواو -. (وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا) هذه خمسة أصنام كانَتْ في قَوْمِ نُوح يعبدونها. ثُمَّ صَارَتْ إلَى العَرَبِ

(25)

فكان وَدّ لكلب، وكان سُواع لِهَمَدَان، وكان يَغُوث لمذحج، وكان نَسْر لحمَير وقرئت (يَغُوثاً وَيَعُوقاً). ويغوث ويعوق لا ينْصَرِفَان لأنَّهُمَا في وزن الفعل وهما معرفتان. والقراءة التي عليها القراء والمصحف ترك الصرف. وليس في يغوث ويعوق ألف في الكتاب، ولذلك لا ينبغي أن يقرأ: إلا بترك الصرف. والذين صرفوا جعلوا هذين الاسمين الأغلب عليهما كما الصرف إذ كان أصل الأسماء عندهم الصرْفَ، أَو جعلوهما نَكِرةً وإن كانا معرفتين، فكأنهم قالوا: ولا تذرون صنماً من أصنامكم، ولا ينبغي أن يقرأ بها لمخالفتها المصحف (1). * * * قوله ت (مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25) ويقرأ (مما خطاياهم)، وخطيئة يجمع على خطايا. وخطيئات. وقَد فسَّرنَا ذلك فيما سلف من الكتاب. * * * (وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) (دَيَّارًا) في معنى أحد. يُقَال ما في الدار أحَدٌ وما بها دَيَّارٌ. وأصْلهَا دَيْوَار، [فَيْعَال] فقلبت الواو ياء وأدغمت إحداهما في الأخرى. وإنما دعا عليهم نوح عليه السلام لأنَّ اللَّه جَل - وَعَلَا أوحى إليه (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ). * * * قوله تعالى: (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28) (وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا) قالوا بيتي مَسْجداً، وإن شئت، أسكنت الياء وإن شئت فتحتها. * * * وقوله: (وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا). معناه إلا تباراً، والتبار الهلاك، وكل شيء أهلك فقد تبر، ولذلك سُمِّيَ كلُّ مكَسَّرٍ تبرا.

_ (1) قال السَّمين: قوله: {وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً}: يجوزُ أَنْ يكونَ مِنْ عَطْفِ الخاص على العام إنْ قيل: إنَّ هذه الأسماءَ لأصنامٍ، وأن لا يكونَ إنْ قيل: إنها أسماءُ رجالٍ صالحينَ على ما ذُكر في التفسير. وقرأ نافع «وُدّاً» بضم الواوِ، والباقون بفتحها، وأُنْشِدَ بالوَجْهَيْن قولُ الشاعر: 4344 حَيَّاكَ وَدٌّ فإنَّا لا يَحِلُّ لنا. . . لَهْوُ النساءِ وإنَّ الدين قد عزما وقول الآخر: 4345 فحيَّاكِ وَدٌّ مِنْ هُداكِ لفِتْيَةٍ. . . وخُوْصٍ بأعلى ذي فُضالةَ مُنْجِدِ قوله: {وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ} قرأهما العامَّةُ بغير تنوين. فإن كانا عربيَّيْن فالمنعُ من الصَرْف للعلميَّةِ والوزن، وإن كانا أعجميَّيْن فللعلميَّةِ والعُجْمة. وقرأ الأعمش: «ولا يَغُوْثاً ويَعُوْقاً» مصورفَيْن. قال ابن عطية: «وذلك وهمٌ: لأنَّ التعريفَ لازمٌ ووزنَ الفعل» انتهى. وليس بوهمٍ لأمرَيْن، أحدهما: أنه صَرَفَهما للتناسُبِ، إذ قبله اسمان منصرفان، وبعده اسمٌ منصرفٌ، كما صُرِفَ «سلاسل». والثاني: أنه جاء على لغةِ مَنْ يَصْرِفُ غيرَ المنصرِف مطلقاً. وهي لغةٌ حكاها الكسائيُّ. ونقل أبو الفضل الصَّرْفَ فيهما عن الأشهبِ العُقَيْليِّ ثم قال: «جَعَلهما فَعُولاً؛ فلذلك صرفهما، فأمَّا في العامَّة فإنهما صفتان من الغَوْث والعَوْق». قلت: وهذا كلامٌ مُشْكِلٌ. أمَّا قولُه: «فَعُولاً» فليس بصحيحٍ، إذ مادةُ «يغث» و «يعق» مفقودةٌ. وأمَّا قولُه: «صفتان من الغَوْث والعَوْق» فليس في الصفاتِ ولا في الأسماءِ «يَفْعُل» والصحيحُ ما قَدَّمْتُه. وقال الزمخشري: «وهذه قراءةٌ مُشْكِلة؛ لأنهما إنْ كانا عربيَّيْنِ أو أعجميَّيْنِ ففيهما مَنْعُ الصَّرْفِ، ولعله قَصَدَ الازدواجَ فصرَفهما. لمصادفتِه أخواتِهما منصرفاتٍ: وَدَّاً وسُوعاً ونَسْراً». قال الشيخ: «كأنه لم يَطَّلعْ على أنَّ صَرْفَ ما لا ينصرفُ لغةٌ». اهـ (الدُّرُّ المصُون).

سورة الجن

سُورَةُ الجِنِّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله عزَّ وجلَّ: (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) القراءة (أوحِيَ) بإثبات الواو. - قد قرئت: (قُلْ أُحِيَ إِلَيَّ) - بغير واو. فمن قال: (أُحِيَ إِلَيَّ) فهو من وحيت إليه، والأكثر أَوْحَيْت إليه. والأصل وحِي، ولكن الواو إذا انْضمَّت قد تبدل منها الهمزة نحو: (وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ)، أصله وقِّتَتْ لأنه مِنَ الوَقْتِ. وجاء في التفسير أن هؤلاء النفر الذين من الجن استمعوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي الصبح ببطن نخلة، وهو قوله: (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا) أي قال بعضهم لبعض أَمْسِكوا عن الكلام واستمعوا. وقيل إنهم كانوا من جِنَ نَصِيبينْ، وقيل إنهم كانوا مِنَ اليَمَن، وقيل إنهم كانوا يَهوداً، وَقِيل إنهم كانوا مشركين. فأمَّا قوله: (أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ)، و (أَنَّ) مفتوحة لا غير. * * * وقوله: (إِنَّا سَمِعْنَا) وقوله: (فَإِنَّ لَهُ)، وقوله: (فَإِنَّهُ يَسْلُكُ). فهذه الثلاث مكسورة لا غير. وقد اختلف القراء فيما في هذه السورة غير هذه الحروف الثلاث فقال بعضهم: (وَأَنَّهُ، وأَنَّا) فَاما عَاصمٌ فروى عنه أبوبكر بن عياش مثل قراءة نافع ومن تابعه، وروى حفص بن سليمان عن الفتح فيما قرأه أبو بكر بالكسر، والذي يَخْتاره النحوُّيونَ قراءة نافع ومن تابَعَهُ في هذه الآية عندهم ما كان محمولاً على

(3)

الوحي فهو (أنَّه) بفتح (أنَّ) وما كان من قول الجن فهو مكسور معطوف على قوله: (فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا)، وعلى هذه القراءة يكون المعنى، وقالوا إنه تعالى جَدُّ رَبِّنَا، وقالوا إنه كان يقول سفيهنا. ومن فتح فذكر بعض النحويين ْأنه معطوف على الهاء. المعنى عِندَه فآمنا به وبأنه تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا وكذلك ما بعد هذا عنده، وهذا رديء في القياس. لا يعطف على الهاء المكنية المحفوضة إلا بإظهار الخافض، ولكن وجهه أن يكون محمولًا على معنى آمناً به، لأن معنى آمنا به صدقناه وعلمناه، ويكون المعنى: وصدقنا أنه تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا. * * * (وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3) وتأويل (تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا) تعالى جلال رَبِّنَا وعظمته عن أن يتخذ صَاحِبَةً أَوْ وَلَداً (1). * * * وقوله تعالى: (وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6) كان أهل الجاهلية إذا مرتْ جماعة منهم بوادٍ يقولون: نعوذ بعزيز هذا الوادي من مردة الجن وَسُفَهَائِهِمْ. ومعنى (فَزَادُوهُمْ رَهَقًا) فَزادوهم ذِلَّةً وضعفاً. ويجوز - واللَّه أعلم - أن الإنس الذين كانوا يستعيذون بالجن زادوا الجن رهقاً، ويجوز أَنْ يكون الجن زادوا الإنس رَهَقاً. * * * وقوله: (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9) أي كنا نستمع فالآن حين حَاوَلْنَا الاستماع ورمينا بالشُهُبِ، وهي الكواكب. و (رَصَدًا) أي حَفَظَةً تمنع من الاستماع. وقيل إن الانقضاض الذي رميت به الشياطين حَدَثَ بعد مَبْعَثِ النبي عليه السلام وهو أَحَدُ آيَاتِه. * * * (وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10) المعنى إنا لا ندري بحدوث رجم الكواكب أَلِصَلاَحٍ في ذلك لأهل الأرض أو غيره.

_ (1) قال السَّمين: قوله: {وَأَنَّهُ تعالى جَدُّ رَبِّنَا}: قرأ الأخَوان وابن عامر وحفص بفتح «أنَّ» وما عُطِف عليها بالواو في اثنتي عشرة كلمةً، والباقون بالكسرة. وقرأ ابنُ عامر وأبو بكرٍ «وإنه لَمَّا قام» بالكسرة، والباقون بالفتح، واتفقوا على الفتحِ في قوله: {وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ} وتلخيص هذا: أن «أنَّ» المشددةَ في هذه السورةِ على ثلاثةِ أقسامٍ: قسمٍ ليس معه واوُ العطفِ، فهذا لا خلاف بين القُرَّاءِ في فتحِه أو كسرِه. على حسبِ ما جاءَتْ به التلاوةُ واقْتَضَتْه العربيةُ، كقولِه: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ استمع} لا خلافَ في فتحِه لوقوعِه موقعَ المصدرِ وكقوله: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً} [الجن: 1] لا خلافَ في كسرِه لأنه محكيٌّ بالقول. القسم الثاني أَن يقترنَ بالواوِ، وهو أربعَ عشرةَ كلمةً، إحداها: لا خلاف في فتحِها وهي: قولُه تعالى: {وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ} [الجن: 18] وهذا هو القسم الثالث والثانية: {وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ} [الجن: 19] كَسَرَها ابنُ عامرٍ وأبو بكر، وفتحها الباقون. والاثنتا عشرةَ الباقيةُ: فَتَحها الأخوان وابن عامرٍ وحفص، وكسرها الباقون، كما تقدَّم تحريرُ ذلك كلِّه. والاثنتا عشرةَ هي قولُه: {وَأَنَّهُ تعالى جَدُّ رَبِّنَا}، {وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ} [الجن: 4] {وَأَنَّا ظَنَنَّآ} [الجن: 5] {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ} [الجن: 6] {وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ} [الجن: 7] {وَأَنَّا لَمَسْنَا} [الجن: 8] {وَأَنَّا كُنَّا} [الجن: 9] {وَأَنَّا لاَ ندري} [الجن: 10] {وَأَنَّا مِنَّا الصالحون} [الجن: 11] {وَأَنَّا ظَنَنَّآ} [الجن: 12] {وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا} [الجن: 13] {وَأَنَّا مِنَّا المسلمون} [الجن: 14]. وإذا عَرَفْتَ ضَبْطَها من حيث القراءاتُ فالتفِتْ إلى توجيهِ ذلك. وقد اختلف الناسُ/ في ذلك فقال أبو حاتم في الفتح: «هو معطوفٌ على مرفوعِ» أُوْحِيَ «فتكونُ كلُّها في موضعِ رفعٍ لِما لم يُسَمَّ فاعِلُه». وهذا الذي قاله قد رَدَّه الناسُ عليه: مِنْ حيث إنَّ أَكثرَها لا يَصِحُّ دخولُه تحت معمولِ «أُوْحِي» ألا ترى أنه لو قيل: أوُحي إليِّ أنَّا لَمَسْنا السماءَ، وأنَّا كُنَّا، وأنَّا لا نَدْري، وأنَّا منَّا الصالحون، وأنَّا لمَّا سَمِعْنا، وأنَّا مِنَّا المسلمون لم يَسْتَقِمْ معناه. وقال مكي: «وعَطْفُ» أنَّ «على {آمَنَّا بِهِ} [الجن: 2] أتَمُّ في المعنى مِنْ العطفِ على» أنَّه استمعَ «لأنك لو عَطَفْتَ {وَأَنَّا ظَنَنَّآ} [الجن: 5] {وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا} [الجن: 13] {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإنس} [الجن: 6] {وَأَنَّا لَمَسْنَا} [الجن: 8]، وشِبْهَ ذلك على {أَنَّهُ استمع} [الجن: 1] لم يَجُزْ؛ لأنه ليس مِمَّا أُوْحِي، إليه، إنما هو أمرٌ أو خبر، وأنه عن أنفسهم، والكسرُ في هذا أَبْينُ، وعليه جماعة مِنْ القُراءِ. الثاني: أنَّ الفتحَ في ذلك عَطْفٌ على مَحَلِّ» به «مِنْ» آمَنَّا به «. قال الزمخشري:» كأنه قال: صَدَّقْناه وصَدَّقْناه أنه تعالى جَدُّ رَبَّنا، وأنَّه كان يقولُ سفيهُنا، وكذلك البواقي «، إلاَّ أنَّ مكيَّاً ضَعَّفَ هذا الوجهَ فقال: والفتحُ في ذلك على الحَمْلِ على معنى» آمَنَّا به «وفيه بُعْدٌ في المعنى؛ لأنهم لم يُخْبِروا أنهم آمنوا بأنَّهم لَمَّا سَمِعوا الهدى آمنوا به، ولم يُخْبِروا أنهم آمنوا أنه كان رجالٌ، إنما حكى اللَّهُ عنهم أنهم قالوا ذلك مُخْبِرين به عن أنفسِهم لأصحابِهم، فالكسرُ أَوْلى بذلك» وهذا الذي قاله غيرُ لازمٍ؛ فإنَّ المعنى على ذلك صحيحٌ. وقد سَبَق الزمخشريَّ إلى هذا التخريجِ الفَرَّاءُ والزجَّاجُ. إلاَّ أنَّ الفَرَّاء استشعر إشكالاً وانفصل عنه، فإنه قال: «فُتِحَتْ» أنَّ «لوقوع الإِيمانِ عليها، وأنت تجدُ الإِيمانَ يَحْسُنُ في بعضِ ما فُتحَ دونَ بعضٍ، فلا يُمْنَعُ من إمضائِهنَّ على الفتح، فإنه يَحْسُنُ فيه ما يُوْجِبُ فَتْحَ» أنَّ «نحو: صَدَقْنا وشَهِدْنا، كما قالت العربُ: 4347. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وزَجَّجْنَ الحواجبَ والعُيونا فنصَبَ» العيونَ «لإِتباعِها الحواجبَ، وهي لا تُزَجَّجُ. إنما تُكَحَّلُ، فأضمر لها الكُحْلَ» انتهى. فأشار إلى شيءٍ مِمَّا ذكرَه مكيٌّ وأجاب عنه. وقال الزجَّاج: «لكنَّ وجهَه أَنْ يكونَ محمولاً على معنى» آمنَّا به «؛ لأنَّ معنى» آمَنَّا به «صَدَّقْناه وعَلِمْناه، فيكون المعنى: صَدَّقْنا أنه تعالى جَدُّ ربِّنا». الثالث: أنه معطوفٌ على الهاء به «به»، أي: آمنَّا به وبأنه تعالى جَدُّ ربِّنا، وبأنه كان يقولُ، إلى آخره، وهو مذهب الكوفيين. وهو وإن كان قوياً من حيث المعنى إلاَّ أنَّه ممنوعٌ مِنْ حيث الصناعةُ، لِما عَرَفْتَ مِنْ أنَّه لا يُعْطَفُ على الضميرِ المجرورِ إلاَّ بإعادةِ الجارِّ. وقد تقدَّم تحقيقُ هذَيْن القولَيْن مستوفىً في سورةِ البقرة عند قولِه: {وَكُفْرٌ بِهِ والمسجد الحرام} [البقرة: 217] على أنَّ مكِّيَّاً قد قَوَّى هذا لمَدْرَكٍ آخرَ وهو حَسَنٌ جداً، قال رحمه الله: «وهو يعني العطفَ على الضميرِ المجرورِ دونَ إعادةِ الجارِّ في» أنَّ «أجوَدُ منه في غيرها، لكثرةِ حَذْفِ حرفِ الجرِّ مع» أنَّ «. ووجهُ الكسرِ العطفُ على قوله: {إِنَّا سَمِعْنَا} [الجن: 1] فيكون الجميعُ معمولاً للقولِ، أي: فقالوا: إنَّا سَمِعْنا، وقالوا: إنَّه تعالى جَدُّ ربِّنا إلى آخرِه. وقال بعضُهم: الجملتان مِنْ قولِه تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ} [الجن: 6] {وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ} [الجن: 7] معترضتان بين قولِ الجنِّ، وهما مِنْ كلامِ الباري تعالى، والظاهرُ أنَّهما مِنْ كلامِهم، قاله بعضُهم لبعضٍ. ووجهُ الكسرِ والفتحِ في قولِه: {وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ عَبْدُ الله} [الجن: 19] ما تقدَّم. ووَجْهُ إجماعِهم على فتح {وَأَنَّ المساجد} [الجن: 18] وجهان، أحدُهما: أنَّه معطوفٌ على {أَنَّهُ استمع} [الجن: 1] فيكونُ مُوْحى أيضاً. والثاني: أنه على حَذْفِ حرفِ الجرِّ، وذلك الحرفُ متعلِّقٌ بفعل النهي، أي: فلا تَدْعوا مع اللَّهِ أحداً؛ لأنَّ المساجدَ للَّهِ، ذكرهما أبو البقاء. قال الزمخشري:» أنه استمع «بالفتح؛ لأنَّه فاعلُ» أُوْحي «و {إِنَّا سَمِعْنَا} [الجن: 1] بالكسرِ؛ لأنَّه مبتدأٌ مَحْكِيٌّ بعد القولِ، ثم تحملُ عليهما البواقي، فما كان مِنَ الوحي فُتِحَ، وما كان مِنْ قَوْل الجِنِّ كُسِرَ، وكلُّهُنَّ مِنْ قولِهم إلاَّ/ الثِّنْتَيْنِ الأُخْرَيَيْنِ وهما: {وَأَنَّ المساجد} [الجن: 18] {وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ عَبْدُ الله} [الجن: 19]. ومَنْ فتح كلَّهن فعَطْفاً على مَحَلِّ الجارِّ والمجرور في {آمَنَّا بِهِ} [الجن: 2]، أي: صَدَّقْناه، وصَدَّقْنا أنه «. وقرأ العامَّةُ: {جَدُّ رَبِّنَا} بالفتح مضافاً ل» رَبِّنا «، والمرادُ به هنا العظمةُ. وقيل: قُدْرتُه وأمرُه. وقيل: ذِكْرُه. والجَدُّ أيضاً: الحَظُّ، ومنه قولُه عليه السلام:» ولا يَنْفَعُ ذا الجَدِّ منك الجَدُّ «والجَدُّ أيضاً: أبو الأبِ، والجِدُّ بالكسرِ ضِدُّ التَّواني في الأمر. وقرأ عكرمةُ بضمِّ باءِ» رَبُّنا «وتنوينِ» جَدٌّ «على أَنْ يكون» ربُّنا «بدلاً مِنْ» جَدٌّ «، والجَدُّ: العظيم. كأنه قيل: وأنَّه تعالى عظيمٌ ربُّنا، فأبدل المعرفة من النكرةِ، وعنه أيضاً» جَدَّاً «منصوباً منوَّناً،» رَبُّنا «مرفوعٌ. ووجْهُ ذلك أَنْ ينتصِبَ» جَدَّاً «على التمييز، و» ورَبُّنا «فاعلٌ ب» تعالى «وهو المنقولُ مِنْ الفاعليةِ، إذ التقديرُ: تعالى جَدُّ رَبِّنا، ثم صار تعالى ربُّنا جَدَّاً، أي: عَظَمةً نحو: تَصَبَّبَ زيدٌ عَرَقاً، أي: عَرَقُ زيدٍ. وعنه أيضاً وعن قتادةَ كذلك، إلاَّ أنَّه بكسرِ الجيم، وفيه وجهان، أحدُهما: أنَّه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ، و» رَبُّنا «فاعلٌ ب» تعالى «والتقدير: تعالى ربُّنا تعالِياً جدَّاً، أي: حقاً لا باطلاً. والثاني: أنَّه مصنوبٌ على الحالِ، أي: تعالى ربُّنا حقيقةً ومتمكِّناً قاله ابنُ عطية. وقرأ حميد بن قيس» جُدُّ ربِّنا «بضم الجيم مضافاً ل» ربِّنا «وهو بمعنى العظيم، حكاه سيبويه، وهو في الأصل من إضافةِ الصفةِ لموصوفِها؛ إذ الأصلُ: ربُّنا العظيمُ نحو:» جَرْدُ قَطِيفة «الأصل قطيفة جَرْدٌ، وهو مُؤَول عند البَصْريين وقرأ ابن السَّمَيْفَع» جَدَى رَبِّنا «بألفٍ بعد الدال مضافاً ل» ربِّنا «. والجَدى والجَدْوى: النَّفْعُ والعَطاء، أي: تعالى عَطاءُ ربِّنا ونَفْعُه. والهاءُ في» أنَّه استمعَ «» وأنَّه تعالى «وما بعد ذلك ضميرُ الأمرِ والشأنِ، وما بعده خبرُ» أنَّ «وقوله {مَا اتخذ صَاحِبَةً} مستأنَفٌ فيه تقريرٌ لتعالِي جَدِّه. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(11)

وقوله: (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11) (قِدَدًا) متفرقون، أي كنا جماعات، متفرقين، مُسْلِمِينَ وغير مسلمين. * * * قوله: (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) هذا تفسير قولهم: (كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا)، والقاسطون: الجائرون. وقوله (فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا). يعني قصدوا طريق الحق والرشد، ولا أعلم أَحَدأ قرأ في هذه السورة رُشْداً، والرُّشْد والرَّشَدُ يجوز في العربية، إلا أن أواخر الآي فيما قَبْلَ الرَّشَد وبَعْدَه على الفتح، مبني على فَعَل، فأواخر الآي أن يكون على هذا اللفظ وتَسْتَوي أَحْسَنُ، فإن ثبتت في القراءة بها رواية فالقراءة بها جائزة. ولا يجوز أن تقرأ بما يجوز في العربية إلا أن تثبت بذلك رواية وقراءة عن إمام يقتدى بقراءته، فإن اتباع القراءة السنة، وتتبع الحروف الشواذ والقراءة بها بدعة. * * * قوله: (وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15) يقال قسط الرجل إذَا جَارَ، وأَقسط إذَا عَدَل. * * * وقوله: (وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) وهذا تفسيره لو استقاموا على الطريقة التي هي طريق الهدي لأسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا غَدَقاً. والغَدَقَ الكثير، ودليل هذا التفسير قوله عزَّ وجلَّ: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ). وكقوله: (لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) وقد قيل إنه يعني به: لو استقاموا على طريقة الكفر. ودليلٍ هذا التفسير عندهم قوله تعالى:

(17)

(وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33). والذي يختار وهو أكثر التفسير أن يكون يعنى بالطريقة طريق الهدى. لأن الطريقة معَرفَة بالألف واللام. والأوجب أن يكون طريقة الهدى. واللَّه أعلم. * * * وقوله: (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17) لنختبرهم بذلك. وقوله: (وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا). معناه - واللَّه أعلم - عذاباً شَاقًّا، وقيل صخرة في جهنم - وهي في اللغة - واللَّه أعلم - طريقة شَاقَّة مِنَ العذاب. يقال: قد وقع القوم في صَعودٍ وَهَبُوطٍ، إذا كانوا في غير استواء وكانوا في طَرِيقة شاقَّة. ويقرأ (لأسقيناهم ماء غَدِقا)، والغدق المصدر، والغَدِق اسم الفاعل، تقول: غَدِق يَغْدَقُ غَدَقَا فَهو غَدِق، إذا كَثُر الندى في المكان أو الماء. * * * وقوله: (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18) معناه الأمر بتوحيد الله في الصلوات. وقيل المساجد مواضع السجود من الإنسان، الجبهة والأنف واليدان والركبتان والرجْلَانِ. و" أن " ههنا يصلح أن يكون في موضع نصب ويصلح أن يكونَ في مَوْضِع جَرٍّ. والمعنى لأن المساجد لِلَّهِ. فلا تدعوا مع الله أَحَداً، فلما حذفت اللام صار الموضع موضع نَصْبٍ. ويجوز أن يكون جَرًّا وإن لم تظهر اللام، كما تقول العرب: وَبَلَدٍ ليس به أنيس. تريد رُبَّ بَلَدٍ. * * * وقوله: (وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19)

(22)

ويَقرأ (لُبَداً)، ويجوز (لُبَّداً). والمعنى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما صَلَّى الصبْحَ بذات نخلة كادت الجن - لما سمعوا القرآن وتعجبوا منه - أن يسقطوا على النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقيل كادوا يعني به جميع الملأ التي تظاهرت على النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعنى (لُبَداً) يركب بعضه بعضا، وكل شيء ألصقته بشيء إلصاقاً شديداً فقد لبدته ومن هذا اشتقاق هذه اللبود التي تفرش. فأما من قرأ لَبِدًا فهو جمع لِبْدَة ولبَد. ومن قرأ لُبَداً نهو جمع لُبْدَة وَلُبَدَة ولِبْدَة فني معنى واحِدٍ. ومعنى من قرأ (لُبَّداً) فهو جمع لابد ولُبدٍ، مثل رَاكِع وَرُكَّعٍ وغازٍ وغُزًّى (1). * * * قوله: (قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) أي، مَنْجًى إلا أن اشتقاقه من اللحد، وهو مثل (لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا) فالملتحد من جنس المُدَّخَل. * * * ونَصَبَ (إِلَّا بَلَاغًا) على البدل من قوله (مُلْتَحَدًا). المعنى ولن أجد من دونه منجى إلا بلاغاً أي لا ينجيني إلا أن أبلغ عن الله ما أرسلتُ به. * * * وقوله: (قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25) أي بُعْدًا، كما قال: [(وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ)]. * * * قوله: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ) هذه الآية توجب على من ادعى أنَّ النُّجومَ تدلُّه على ما يكون من حياة وموت وغير ذلك أن قد كفر بما في القرآن. وكذلك قوله: (قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ). والاستثناء بقوله: (إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) معناه أنه لا يظهر على غَيْبه إلا الرسُلَ، لأن الرسُلَ يستدل على نبوتهم بالآيات المعجزات، وبأن يخبروا بالغيب فيعلم بذلك أنهم قد خالفوا غير الأنبياء. ثم أعلم عزَّ وجلَّ أنه يحفظ ذلك بأن يَسْلُك (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا).

_ (1) قال السَّمين: قوله: {لِبَداً} قرأ هشام بضمِّ اللامِ، والباقون بكسرِها. فالأولى. جمعُ لُبْدَة بضمِّ اللامِ نحو: غُرْفة وغُرَف. وقيل: بل هو اسمٌ مفردٌ صفةٌ من الصفاتِ نحو: «حُطَم»، وعليه قولُه تعالى: {مَالاً لُّبَداً} [البلد: 6]. وأمَّا الثانيةُ: فجمعُ «لِبْدَة» بالكسر نحو: قِرْبَة وقِرَب. واللِّبْدَة واللُّبْدة. الشيءُ المتلبِّدُ أي: المتراكبُ بعضُه على بعضٍ، ومنه لِبْدَة الأسد كقولِه: 4358. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . له لِبْدَةٌ أظفارُه لم تُقَلَّم ومنه «اللِّبْدُ» لتَلَبُّدِ بعضِه فوق بعض، ولُبَدٌ: اسمُ نَسْرِ لُقمانَ ابنِ عادٍ، عاش مِئَتي سنةٍ حتى قالوا: «طال الأمَدُ على لُبَدٍ» والمعنى: كادَتِ الجِنُّ يكونون عليه جماعاتٍ متراكمةً مُزْدَحمِيْن عليه كاللَّبِدِ. وقرأ الحسنُ والجحدريُّ «لُبُداً» بضمتين، ورواها جماعةٌ عن أبي عمروٍ، وهي تحتملُ وجهَيْنِ، أحدُهما: أَنْ يكونَ جمعَ لَبْد نحو: «رُهُن» جمعَ «رَهْن». والثاني: أنَّه جمعُ «لَبُود» نحو: صَبورُ وصُبُر، وهو بناءُ مبالغةٍ أيضاً. وقرأ ابن مُحَيْصن بضمةٍ وسكونٍ، فيجوزُ أَنْ تكونَ هذه مخففةً من القراءةِ التي قبلها، ويجوزُ أن تكونَ وَصْفاً برأسِه. وقرأ الحسن والجحدريُّ أيضاً «لُبَّداً» بضم اللام وتشديد الباء، وهو جمعُ «لابِد» كساجِد وسُجَّد، وراكع ورُكَّع. وقرأ أبو رجاء بكسرِ/ اللامِ وتشديدِ الباءِ وهي غريبةٌ جداً. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(28)

إذا نزل الملك بالوحي أرسل اللَّه معه رصداً يحفظون الملك من أن يأتي أحد من الجن فيستمع الوحيَ فيخبر به الكهنة فيخبروا به الناس فيساؤوا الأنبياء. فأعلم الله أنه يسلك من بين يدي الملك ومن خلفه رَصَداً. * * * (لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28) فيجوز أن يكون ليعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الرسالة أتته ولم تصل إلى غيرهِ. ويجوز أَنْ يكونَ - واللَّه أعلم - ليعلم اللَّه أن قد أبلغوا رسالاته، وما بعده يدل على هذا وهُوَ قوله: (وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا). فهذا المضمر في (وَأَحْصَى) لله عزَّ وجلَّ لا لغيره. ونصب (عدَداً) على ضربين، على معنى وأحصى كل شيء في حال العَدَدِ، فلم تخفَ عليه سقوط ورقة ولا حَبَّةٍ في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابِس، ويجوز أَن يكون (عَدَداً) في موضع المصدَرِ المحمول على معنى وأحصى، لأن معنى أحصى وَعَدَّ كل شيء عَدَداً.

سورة المزمل

سُورَةُ المُزَّمِّل (مَكِّيَّة) ما خلا آيتين من آخرها مدنية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) هذا خطاب للنبي عليه السلام، وقيل إنه نزل عليه هذا وعليه قطيفة. والْمُزَّمِّلُ أصله المُتَزَمِّل، ولكن التاء تدغم في الزاي لقربها منها، يقال: تَزَمَّل فُلان إذا تلفف بثيابه، وكل شيء لافف فَقَدْ زُمِّلَ. قال امرؤ القيس: كأَنّ أَبَاناً في أَفَانِينِ وَدْقِهِ. . . كبيرُ أُناسٍ في بِجَادٍ مُزَمَّلِ وقيل إنه كان مُتَزَمِّلًا في حال هيئة الصلاة. * * * قوله: (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) فالمعنى - واللَّه أعلم - أن (نصفه) بدل من (الليل) كما تقول: ضربت زيداً رَأْسَهُ فإنما ذكرت زيداً لتؤكد الكلام، وهو أوكد من قولك ضربت رأس زيداً فالمعنى قم نصف الليل إلا قليلاً أو انقص من النصف أو زد على النصف، وذكَر (أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا) بمعنى إلا قليلاً ولكنه ذُكِرَ مَع الزِيادة، فالمعنى قم نصف الليل أو انقص من نصف الليل أو زد على نصف. وهذا - واللَّه أعلم - قبل أن يقع فرض الصلوات الخمس (1). ومعنى: (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4)

_ (1) قال السَّمين: قوله: {إِلاَّ قَلِيلاً نِّصْفَهُ}: للناس في هذا كلامٌ كثيرٌ، واستدلالٌ على جوازِ استثناءِ الأكثرِ والنصفِ، واعتراضاتٌ وأجوبةٌ عنها. وها أنا أذكرُ ذلك مُحَرِّراً له بعون اللهِ تعالى. اعلم أنَّ في هذه الآيةِ ثمانيةَ أوجهٍ أحدُها: أنَّ «نصفَه» بدلٌ من «الليلَ» بدلُ بعضٍ من كلٍ. و «إلاَّ قليلاً» استثناءٌ من النصفِ كأنه قيل: قُمْ أقلَّ مِنْ نصفِ الليلِ. والضميرُ في «مِنْه» و «عليه» عائدٌ على النصفِ. والمعنى: التخييرُ بين أمرَيْنِ: بينَ أَنْ يقومَ أقلَّ مِنْ نصفِ الليلِ على البَتِّ، وبين أَنْ يَخْتارَ أحدَ الأمرَيْن، وهما: النُّقْصانُ من النصفِ والزيادةُ عليه، قاله الزمخشريُّ: وقد ناقَشَه الشيخ: بأنه يَلْزَمُه تكرارٌ في اللفظِ؛ إذ يَصير التقديرُ: قُم نِصفَ الليلِ إلاَّ قليلاً مِنْ نِصْفِ الليل، أو انقُصْ مِنْ نصفِ الليل. قال: «وهذا تركيبٌ يُنَزَّهُ القرآنُ عنه». قلت: الوجهُ فيه إشكالٌ، لا من هذه الحيثية فإنَّ الأمرَ فيها سهلٌ، بل لمعنىً آخرَ [سأَذْكرهُ قريباً إنْ شاء الله]. وقد جعل أبو البقاءِ هذا الوجهَ مرجوحاً فإنه قال: «والثاني هو بدلٌ مِنْ قليلاً يعني النصف قال:» وهو أَشبهُ بظاهرِ الآية لأنه قال: «أو انقُصْ منه أو زِدْ عليه»، والهاءُ فيهما للنِّصْفِ. فلو كان الاستثناءُ من النصف لصار التقديرُ: قُم نصفَ الليل إلاَّ قليلاً أو انقُصْ منه قليلاً، والقليلُ المستثنى غيرُ مقدَّر، فالنقصانُ منه لا يُعْقَلُ «. قلت: الجوابُ عنه: أنَّ بعضَهم قد عَيَّنَ هذا القليلَ: فعن الكلبيِّ ومقاتلٍ: هو الثلثُ، فلم يكن القليلُ غيرَ مقدَّرٍ. ثم إنَّ في قولِه تناقضاً لأنه قال:» والقليلُ المستثنى غيرُ مقدَّرٍ، فالنقصانُ منه [لا يُعْقَل «] فأعاد الضميرَ على القليل، وفي الأولِ أعادَه على النصفِ. ولقائلٍ أن يقولَ: قد يَنْقَدحُ هذا الوجهُ بإشكالٍ قويٍّ: وهو أنَّه يَلْزَمُ منه تكرارُ المعنى الواحدِ: وذلك أنَّ قولَه:» قُمْ نِصْف الليلِ إلاَّ قليلاً «بمعنى: انقُصْ مِنْ الليل؛ لأنَّ ذلك القليل هو بمعنى النقصانِ، وأنت إذا قلت: قُمْ نصفَ الليلِ إلاَّ القليلَ مِن النصفِ، وقُمْ نصفَ الليل، أو انقُصْ من النصفِ، وجدتَهما بمعنىً. وفيه دقةٌ فتأمَّلْه، ولم يَذْكُرِ الحوفيُّ غيرَ هذا الوجهِ المتقدِّمِ، فقد عَرَفْتَ ما فيه. ومِمَّنْ ذَهَبَ إليه أبو إسحاقَ فإنه قال:» نصفَه «بدلٌ من» الليل «و» إلاَّ قليلاً «استثناءٌ من النصفِ. والضميرُ في» منه «و» عليه «عائدٌ للنصف. المعنى: قُمْ نصفَ الليل أو انقُصْ من النصفِ قليلاً إلى الثلثِ، أو زِدْ عليه قليلاً إلى الثلثِ، أو زِد عليه قليلاً إلى الثلثَيْن، فكأنَّه قال: قُمْ ثلثَيْ الليلِ أو نصفَه أو ثلثَه». قلت: والتقديراتُ التي يُبْرزونها ظاهرةٌ حسنةٌ، إلاَّ أنَّ التركيبَ لا يُساعِدُ عليها، لِما عَرَفْتَ من الإِشكال الذي ذكَرْتُه لك آنفاً. الثاني: أَنْ يكونَ «نصفَه» بدلاً مِنْ «قليلاً»، وإليه ذهب الزمخشريُّ وأبو البقاء وابنُ عطية. قال الزمخشريُّ: «وإنْ شِئْتَ جَعَلْتَ» نصفَه «بدلاً مِنْ» قليلاً «، وكان تخييراً بين ثلاثٍ: بين قيامِ النصفِ بتمامِه، وبين قيامِ الناقصِ منه، وبين قيامِ الزائدِ عليه، وإنما وَصَفَ النصفَ بالقِلَّةِ بالنسبة إلى الكلِّ». قلت: وهذا هو الذي جعله أبو البقاء أَشْبَهَ مِنْ جَعْلِه بدلاً من «الليل» كما تقدَّمَ. إلاَّ أنَّ الشيخ اعترض هذا فقال: «وإذا كان» نصفَه «بدلاً مِنْ» إلاَّ قليلاً «فالضميرُ في» نصفَه «: إمَّا أَنْ يعودَ على المبدلِ منه أو على المستثنى منه، وهو» الليلَ «، لا جائِزٌ أَنْ يعودَ على المبدلِ منه؛ لأنه يَصيرُ استثناءَ مجهولٍ مِنْ مجهولٍ؛ إذ التقديرُ: إلاَّ قليلاً نصفَ القليل، وهذا لا يَصِحُّ له معنىً ألبتَّةََ، وإن عاد الضميرُ على الليل فلا فائدةَ في الاستثناءِ من» الليل «، إذ كان يكونُ أَخْصَرَ وأوضحَ وأَبْعَدَ عن الإِلباس: قُمِ الليلَ نصفَه. وقد أَبْطَلْنا قولَ مَنْ قال:» إلاَّ قليلاً «استثناءٌ من البدلِ، وهو» نصفَه «، وأنَّ التقديرَ: قُم الليلَ نصفَه إلاَّ قليلاً منه، أي: من النصفِ. وأيضاً: ففي دَعْوى أنَّ» نصفَه «بدلٌ مِنْ» إلاَّ قليلاً «والضميرُ في» نِصفَه «عائدٌ على» الليل «، إطلاقُ القليلِ على النصفِ، ويَلْزَمُ أيضاً أَنْ يصيرَ التقديرُ: إلاَّ نصفَه فلا تَقُمْه/، أو انقُصْ من النصفِ الذي لا تقومه وهذا معنىً لا يَصِحُّ وليس المرادَ من الآيةِ قطعاً». قلت: نقولُ بجواز عَوْدِه على كلٍ منهما، ولا يَلْزَمُ محذورٌ. أمَّا ما ذكره: مِنْ أنه يكونُ استثناءَ مجهولٍ مِنْ مجهولٍ فممنوعٌ، بل هو استثناءُ معلومٍ من معلومٍ، لأنَّا قد بَيَّنَّا أنَّ القليل قَدْرٌ معيَّنٌ وهو الثلثُ، والليل، فليس بمجهولٍ. وأيضاً فاستثناءُ المُبْهَمِ قد وَرَدَ. قال تعالى: {مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ} [النساء: 66]. وقال تعالى: {فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ} [البقرة: 249] وكان حقُّه أَنْ يقولَ: لأنه بدلُ مجهولٍ مِن مجهولٍ. وأمَّا ما ذكره مِنْ أَنَّ أَخْصَرَ منه وأَوْضَحَ كيتَ وكيت: أمَّا الأخْصَرُ فمُسَلَّمٌ. وأمَّا أنه مُلْبِس فممنوعٌ، وإنما عَدَلَ عن اللفظِ الذي ذكَرَه لأنه أَبْلَغ. وبهذا الوجهِ اسْتَدَلَّ مَنْ قال بجوازِ استثناءِ النصفِ والأكثرِ. ووجهُ الدلالةِ على الأولِ: أنَّه جَعَلَ «قليلاً» مستثنى من «الليل»، ثم فَسَّر ذلك القليلَ بالنصفِ فكأنه قيل: قُمِ الليلَ إلاَّ نصفَه. ووَجْهُ الدلالةِ على الثاني: أنَّه عَطَفَ «أو زِدْ عليه» على «انقُصْ منه» فيكونُ قد استثنى الزائدَ على النصفِ؛ لأنَّ الضميرَ في «مِنْه»، وفي «عليه» عائدٌ على النصفِ. وهو استدلالٌ ضعيفٌ؛ لأنَّ الكثرة إنما جاءَتْ بالعطفِ، وهو نظيرُ أَنْ تقول: «له عندي عشرةٌ إلاَّ خمسةً ودرهماً ودرهماً» فالزيادةُ على النصفِ بطريقِ العطفِ لا بطريقِ أن الاستثناءِ أخرجَ الأكثرَ بنفسِه. الثالث: أنَّ «نصفَه» بدلٌ من «الليلَ» أيضاً كما تقدَّم في الوجه الأولِ، إلاَّ أنَّ الضميرَ في «منه» و «عليه» عائدٌ على الأقلِّ من النصف. وإليه ذهب الزمخشري فإنه قال: «وإنْ شِئْتَ قلت: لَمَّا كان معنى {قُمِ الليل إِلاَّ قَلِيلاً نِّصْفَهُ} إذا أَبْدَلْتَ النصفَ من» الليل «: قُمْ أقلَّ مِنْ نصفِ الليل، رَجَعَ الضميرُ في» منه «و» عليه «إلى الأقلِّ من النصفِ، فكأنه قيل: قُمْ أقلَّ مِنْ نصفِ الليلِ أو قُمْ أنقصَ مِنْ ذلك الأقلِّ أو أزيدَ مِنْه قليلاً، فيكون التخييرُ فيما وراءَ النصفِ بينه وبينَ الثُّلُثِ». الرابع: أَنْ يكونَ «نصفَه» بدلاً مِنْ «قليلاً» كما تقدَّمَ، إلاَّ أنَّك تجعلُ القليلَ الثاني رُبْعَ الليلِ. وقد أوضح الزمخشريُّ هذا أيضاً فقال: «ويجوز إذا أَبْدَلْتَ» نصفَه «مِنْ» قليلاً «وفَسَّرْتَه به أَنْ تجعلَ» قليلاً «الثاني بمعنى نصفِ النصفِ، بمعنى الربع، كأنه قيل: أو انقص منه قليلاً نصفَه، وتجعلَ المزيدَ على هذا القليل أعني الربعَ نصفَ الربع، كأنه قيل: أو زِدْ عليه قليلاً نصفَه. ويجوزُ أَنْ تجعلَ الزيادةَ لكونِها مُطْلَقَةً تتمَّةَ الثلثِ فيكون تخييراً بين النصفِ والثلثِ والرُّبُع» انتهى. وهذه الأوجهُ التي حَكَيْتُها عن أبي القاسم مِمَّا يَشْهدُ له باتِّساعِ عِلْمِه في كتاب الله. ولَمَّا اتسَعَتْ عبارتُه على الشيخ قال: «وما أوسعَ خيالَ هذا الرجلِ!! فإنه يُجَوِّزُ ما يَقْرُبُ وما يَبْعُدُ». قلت: وما ضَرَّ الشيخَ لو قال: وما أوسعَ عِلْمَ هذا الرجلِ!!. الخامس: أَنْ يكونَ «إلاَّ قليلاً» استثناءً مِنْ القيامِ، فتجعلَ الليلَ اسم جنسٍ ثم قال: «إلاَّ قليلاً» أي: إلاَّ اللياليَ التي تترُكُ قيامَها عند العُذْرِ البيِّن ونحوِه: وهذا النَّظر يَحْسُنُ مع القولِ بالنَّدْبِ، قاله ابنُ عطية، احتمالاً مِنْ عندِه. وفي عبارته: «التي تُخِلُّ بقيامِها» فأَبْدَلْتُها: «التي تَتْرُكُ قيامَها». وفي الجملة فهذا خلافُ الظاهرِ، وتأويلٌ بعيدٌ. السادس: قال الأخفش: «إنَّ الأصل: قُم الليلَ إلاَّ قليلاً أو نصفَه، قال:» كقولك: أَعْطِه درهماً درهَمْين ثلاثةً «. أي: أو درهمَيْن أو ثلاثةً «. وهذا ضعيفٌ جداً؛ لأن فيه حَذْفَ حرفِ العطفِ، وهو ممنوعٌ لم يَرِدْ منه إلاَّ شَيْءٌ شاذٌّ يمكن تأويلُه كقولِهم:» أكلْتُ لحماً سَمَكاً تَمْراً «. وقول الآخر: 4364 كيف أَصْبَحْتَ كيف أَمْسَيْتَ مِمَّا. . . يَزْرَعُ الوُدَّ في فؤادِ الكريم أي: لحماً وسمكاً وتمراً، وكذا كيف أصبَحْتَ وكيف أمسَيْتَ. وقد خَرَّجَ الناس هذا على بَدَلِ البَداء. السابع: قال التبريزيُّ:» الأمرُ بالقيام والتخييرُ في الزيادةِ والنقصان، وقعَ على الثلثَيْن مِنْ آخرِ الليلِ؛ لأنَّ الثلثَ الأولَ وقتُ العَتَمَةِ، والاستثناءُ واردٌ على المأمورِ به، فكأنه قال: قُمْ ثُلُثي الليلِ إلاَّ قليلاً، أي: ما دونَ نصفِه، أو زِدْ عليه، أي: على الثلثَيْنِ، فكان التخيير في الزيادةِ والنقصانِ واقعاً على الثلثَيْن «وهو كلامٌ غريبٌ لا يَظْهَرُ من هذا التركيبِ. الثامن: أنَّ» نصفَه «منصوبٌ على إضمارِ فِعْلٍ/، أي: قُمْ نصفَه، حكاه مكيٌّ عن غيرِه، فإنَّه قال:» نصفَه بدلٌ من «الليل» وقيل: انتصبَ على إضمارِ: قُمْ نصفَه «. قلت: وهذا في التحقيقِ هو وجهُ البدلِ الذي ذكرَه أولاً؛ لأنَّ البدلَ على نيةِ تَكْرارِ العاملِ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5)

بينْه تبييناً، والتبيين لا يتم بأن يعجل في القرآن، إنما يتم بأن تبين جميع الحروف وتوفي حَقَها في الإشباع. * * * قوله - عزَّ وجلَّ -: (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) جاء في التفسير أنه يثقل العمل به، لأن الحلال والحرام والصلاةَ والصيَامَ وجميع ما أمر اللَّه به أن يعمل، ونهى عنه، لا يؤديه أحد إلا بتكلف ما يثقل عليه. ويجوز على مذهب أهل اللغة أن يكون معناه أنه قول له وَزْن في صِحتِه وبيانه ونفعه، كما تقول: هذا كلام رَصِينٌ، وهذا قول له وَزْن، إذا كنت تستجيدُه وتعلم أنه قد وقع موقع الحكمة والبيانِ. * * * قوله عزَّ وجلَّ: (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) (وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا) وتقرأ: (وِطْاءً وَأَقْوَمُ قِيلًا). (نَاشِئَةَ اللَّيْلِ) ساعات الليل كلها، كلما نَشَأ منه، أي كل مأ حدث منه فهو ناشئة، ومعنى هي أَشَدُّ وَطْئًا أي أشد مواطأة لتقلب السمع. ومَنْ قَرَأَ (وَطْئًا) - بفتح الواو - فمعناه هي أبلغ في القيامِ وأبين في القول، ويجوز أن يكون أشد وطأ أغلظ على الإنسانِ من القيام بالنهار، لأن الليل جُعِلَ لِيُسْكنَ فيه. وقيل أشد وَطئًا أي أبلغ في الثواب، لأن كل مجتهد فثوابه عَلَى قَدْرِ اجتهاده. * * * قوله: (إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7) معناه فراغاً طويلاً ومتصرفاً طويلاً. * * * (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) أي إن فاتك شيء من الليل فلك في النهار فراغ.

(9)

وقرئت (سَبْخاً) بالخاء معجمة، والقراءة بالحاء غيرمعجمة، ومعنى (سبخاً) صحيح في اللغة، يقال للقطعة من القطن سبخة، ويقال سبخت القطن بمعنى نفشته، ومعنى نَفشتُه وسَعتُه، فالمعنى على ذلك أن لك في النهار توسُّعاً طويلا، وَمَعْناه قريب من معنى السبح (1). (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا) المعنى واذكر اسم ربك بالنهار، ومعنى (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ) انقَطِعِ إليه في العِبَادَةِ ومن هذا قيل لمريم عليها السلام البتول لأنها انقطعت إلى اللَه جل ثناؤه في العبادة، وكذلك صدقة بتلة منقطعة من مال المصدق وخارجة إلى سُبُل اللَّه. والأصل في المصدر في تبتل تَبتَّلْتُ تَبْتِيلًا، وبَتلْتُ تبتيلًا، فتبتيلاً محمول على معنى تَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا. * * * قوله: (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9) أي اتخذه كفيلاً بما وعدك. * * * وقوله: (وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10) هذا يدل - واللَّه أعلم - قبل أن يؤمر المسلمون بالقتال. * * * (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11) ومثله: (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11). فإن قال قائل ما مجاز ذَرْني؟ واللَّه - عزَّ وجلَّ - يفعل ما يشاء، لا يحول بينه وبينٍ إرادته حائل؟ فالجواب في ذلك أن العرب إذا أرادت أن تَأْمُرَ الإنسان بأَن له همة بأمْرٍ أو بإنْسَانٍ تقول: دعني وزيداً، ليس أنه حال بينه وبَيْنَ زَيدٍ أَحَدٌ، ولكن تأويله لا تَهْتَمَّ بزيدٍ فإني أكفيكه. * * * وقوله: (إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) الأنكال واحدها نِكْل. وجاء في التفسير أنه ههنا قُيُودٌ مِنْ نَارٍ.

_ (1) قال السَّمين: قوله: {سَبْحَاً}: العامَّةُ على الحاء المهملة وهو مصدرُ سَبَحَ، وهو استعارةٌ، استعارَ للتصرُّفِ في الحوائجِ السِّباحةَ في الماءِ، وهي البُعْدُ فيه. وقرأ يحيى بن يعمر وعكرمة وابنُ أبي عبلة سَبْخاً «بالخاء المعجمةِ. واختلفوا في تفسيرِها، فقال الزمخشري:» استعارةً مِنْ سَبْخِ الصُّوفِ: وهو نَفْشُه ونَشْرُ أجزائِه لانتشارِ الهَمِّ وتفرُّقِ القلبِ بالشواغل. وقيل: التَّسبيخُ: التخفيفُ، حكى الأصمعيُّ: سَبَخَ الله عَنَك الحُمَّى، أي: خَفَّفَها عنك. قال الشاعر: 4366 فَسَبِّخْ عليكَ الهَمَّ واعلمْ بأنَّه. . . إذا قَدَّرَ الرحمنُ شيئاً فكائِنُ أي: خَفِّفَ. ومنه «لا تُسَبِّخي بدُعائِك»، أي: لا تُخَفِّفي. وقيل: التَّسْبيخ: المَدُّ. يقال: سَبِّخي قُطْنَكِ، أي: مُدِّيه، والسَّبيخة: قطعة من القطن. والجمعُ سبائخُ. قال الأخطل يصف صائِداً وكلاباً: 4367 فأَرْسَلوهُنَّ يُذْرِيْنَ الترابَ كما. . . يُذْرِيْ سبائخَ قُطْنٍ نَدْفُ أوتارِ وقال أبو الفضل الرازي: «وقرأ ابن يعمرَ وعكرمة» سَبْخاً «بالخاء معجمةَ وقالا: معناه نَوْماً، أي: يَنامُ بالنهار ليَسْتعينَ به على قيام الليل. وقد تحتمِلُ هذه القراءةُ غيرَ هذا المعنى، لكنهما فَسَّراها فلا تَجاوُزَ عنه». قلت: في هذا نظرٌ؛ لأنهما غايةُ ما في البابِ أنَّهما نقلا هذه القراءةَ، وظَهَرَ لهما تفسيرُها بما ذكرا، ولا يَلْزَمُ مِنْ ذلك أنَّه لا يجوزُ غيرُ ما ذَكَرا مِنْ تفسيرِ اللفظة. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(13)

(وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13) طعامهم الضريع كما قال عزَّ وجلَّ: (لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6). وهو الشبْرَقُ، وهو شوك كالعَوْسَج. * * * وقوله: (يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (14) (يَوْمَ) منصوب معلق بقوله (إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا)، أي ينكل [بالكافرين] ويُعَذَبهم (يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ)، وترجف تزلزل وتحرك أغلظ حركة. (وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا). والكثيب جمعه الكثبان، وهي القِطَع العظام من الرمل. ومعنى (مَهِيلًا) سَائِلا قد سيلَ، وَأَصْل مَهيل مَهْيُول، يقال تراب مهيل وتراب مهيول أي مَصْبُوب فسَئل، والأكثر مهيل، وإنما حذفت الواو لأن الياء تحذف منها الضمة في مَهْيُول فتسكن هي والواو وتحذف الواو لالتقاء السَّاكنين وقد شرحنا هذا في مثلَ هذا الموضع أكثر من هذا الشرح، واختصرنا على ما سلف لاختلاف النحويين فيه، وأنه يطولُ شرحُه في هذا الكتاب. * * * وقونه: (فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16) الوبيل الثقيل الغليظ جدًّا، ومن هذا قيل للمطر الغليظ العظيم وابل. * * * وقوله: (فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17) المعنى فكيف تتقون يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا إن كفرتم، أي بأي شيء [تتحصَّنون] من عذاب اللَّه في يومٍ مِنْ هَولِه يشيب فيه الصَّغَير من غير كِبَر. وتذهل فيه كل مرضعة عمَّا أَرْضَعَت، وَتَرَى النَّاسَ سَكرَى وَما همْ بِسَكرَى ولَكِنَ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ، ثم وصف مِن هَوْل ذلك اليَوْمِ أن قَالَ: * * * (السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18)

(20)

أي السماء تنشق به كما قال: (إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ). وقيل في التفسير: (السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ) أي السماء مثقلة باللَّهِ عزَّ وجلَّ (1). * * * وقوله: (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20) (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ). فمن قرأ (نِصْفَهُ) بالنًصْبِ (وَثُلُثَهُ) فهو بيِّنٌ حَسَن. وهو تفسير مقدار قيامه لأنه لمَّا قال (أدنى من ثلثي الليل) كان نصفه مبيناً لذلك الأدْنَى، وَمن قرأ و (نِصْفِهُ) و (ثُلُثِهُ)، فالمعنى وَتَقُوم أدنى من نصفه وَمِنْ ثُلُثِه. * * * وقوله: (مُنْفَطِرٌ بِهِ). ولم يقل منفطرة، ومنفطرة جائز وعليه جاء: (إذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ). ولا يجوز أن يقرأ في هذا الموضع السماء منفطرة؛ لخلاف المصحف. والتذكير على ضربين: أحدهما على معنى السماء معناه السقف، قال اللَّه عزَّ وجلَّ: (وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا). والوجه الثاني على قوله: امرأة مرضع، أي عَلَى جِهَةِ النَسَبِ. المعنى السماء ذات انفطار، كما تقول امرأة مرضع أَيْ ذات رَضَاعٍ. * * * وقوله: (أُولِي النَّعْمَةِ). النعمة التنعم، والنِّعْمَةِ اليَدُ الجميلة عِنْدَ الِإنسان والصنع من اللَّه تعالى ولو قرئت أولي النِّعْمَةِ لكان وَجْهاً، لأن المنعم عليهم يكونون مؤمنين وغير مؤمنين، قال اللَّه جل ثناؤه: (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ).

_ (1) قال السَّمين: قوله: {السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ}: صفةٌ أخرى، أي: مُتَشَقِّقة بسبب هَوْلِه: وإنما لم تُؤَنَّثِ الصفةُ لأحدِ وجوهٍ منها: تأويلُها بمعنى السَّقْفِ. ومنها: أنها على النَّسَبِ أي: ذات انفطارٍ نحو: مُرْضِعٍ وحائضٍ. ومنها: أنها تُذَكَّر وتؤنَّثُ: أنشد الفراء: 4376 ولو رَفَعَ السَّماء إليه قوماً. . . لَحِقْنا بالسَّماءِ وبالسَّحابِ ومنها: أنَّها اسمُ جنسٍ يُفْرَّقُ بينه وبين واحدِه بالتاءِ فيقال: سَماءة وقد تقدَّم أنَّ في اسم/ الجنسِ والتذكيرَ والتأنيثَ؛ ولهذا قال الفارسي: «هو كقولِه: {جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ} [القمر: 7] {الشجر الأخضر} [يس: 80] و {أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ} [القمر: 20] يعني فجاء على أحد الجائزَيْن. والباءُ فيه سببيَّةٌ كما تقدَّم. وجَوَّز الزمخشريُّ أَنْ تكونَ للاستعانةِ، فإنه قال:» والباءُ في «به» مِثْلُها في قولِك: «فَطَرْتُ العُوْدَ بالقَدُومِ فانْفَطر به». قوله: {وَعْدُهُ} يجوزُ أَنْ يكونَ الضميرُ لله تعالى، وإنْ لم يَجْرِ له ذِكْرٌ للعِلْمِ به، فيكونُ المصدرُ مضافاً لفاعلِه. ويجوزُ أَنْ يكونَ لليومِ، فيكونَ مضافاً لمفعولِه. والفاعلُ وهو اللَّهُ تعالى مُقَدَّرٌ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

وقوله - جَل وَعَزَّ -: (وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا). معناه خيراً لكم من متاع الدنيا. و (خَيْرًا) منصوب مفعول ثانٍ لـ (تَجِدُوهُ) ودخلت " هو " فصلاً. وقد فسرنا ذلك فيما سلف من الكتاب، ولو كان في غير القرآن لجاز تجدوه هو خير. فكنت ترفع بـ هُوَ، ولكن النصب أجود في العربية. ولا يجوز في القرآن غيره.

سورة المدثر

سُورَةُ الْمُدَّثِّر (مَكِّيَّة) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله عزَّ وجلَّ: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) القراءة بتشديد، والأصلُ المُتَدَثِّر، والعلة فيها كالعلَّةِ فِي المُتَزمِّل. وتفسيرها كتفسير المزَمِّل. وقد رويت المُتَدَثر - بالتاء - * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) أي صفه بالتعظيم وأنه أكَبرَ، ودخلت الفاء على معنى جواب الجزاء. المعنى قم فأنذر أي قم فكبر رَبَّكَ. (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) مثلها، وتأويل (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) أي لا تكن غادِراً. يقال للغادر دَنَس الثياب، ويكون (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) أي نَفْسَك فطهر. وقيل (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) أي ثيابك فقصر لأن تَقْصِيرَ الثَوبِ أَبعدُ مِنَ النجاسة وأنه إذا انجر على الأرض لم يؤمن أن يُصِيبَه ما ينجسه. * * * (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) (وَالرِّجْزَ) بكسر الراء، وقرئت بضم الراء، ومعناهما واحد. وَتَأْوِيلُهما اهجر عبادة الأوثان. والرجز في اللغة العذاب، قال اللَّه تعالى: (وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ). فالتأويل على هذا ما يؤدي إلى عذاب الله فاهجره. * * * (وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) أي لا تعط شيئاً مقَدِّراً أن تأخذ بدله ما هو أكثر منه، وتستكثر حال

(8)

مُتَوَقعَة وهذا للنبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة وليس على الإنسان إثم أن يهدي هديَّةً يرجو بها ما هو أكثر منها، والنبي - صلى الله عليه وسلم - أدَّبَّه الله بأشرف الآداب وأجل الأخلاق. * * * وقوله: (فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) الناقور الصُّورُ، وقيل في التفسير إنه يعني به النفخة الأولى. و (يَوْمٌ عَسِيرٌ) يرتفع بقوله: (فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ). المعنى فذلك يَوْمٌ عَسِيرٌ يوم ينفخ في الصور و" يَوْمَئِذٍ: يجوز أَنْ يكونَ رَفْعاً، ويجوز أن يكون نَصْباً. فإذا كان رفعاً فإنما بني على الفتح لإضافته إلى (إذ) لأن (إذ) غير متمكنة، وإذا كان نصباً فهو على معنى فذلك يوم عَسِيرٌ في يوم ينفخ في الصور. * * * وقوله: (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) قد فسرنا معنى (ذَرْنِي) في المزمل. و (وَحِيدًا) مَنْصُوبٌ على الحال، وهو على وجهين: أحدهما أن يكون وحيداً من صفة اللَّه - عزَّ وجلَّ - المعنى ذَرْنِي ومن خلقته وَحْدي لم يشركني في خلقه أحَدٌ، وَيكونُ (وَحِيدًا) من صفة المخلوق، ويكون المعنى، ذرني ومن خلقته وحده لا مالَ له ولا ولَد. * * * (وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) تقديره مال غير منقطع عنه، وقيل ألف دينار، وبنين شهُوداً، أي شهودٌ معه لا يحتاجون إلى أن يتصرفوا ويغيبوا عنه. وهذا قيل يعنى به الوليد بن المُغِيرَة، كان له بنون عشرة وكان مُوسِراً * * * وقوله: (سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) أي سأحمله على مَشَقَّةٍ مِنَ العَذَاب. * * * قوله: (إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) معنى - (قُتِلَ) ههنا لُعِنَ، ومثله: (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10).

(25)

وكان الوليد بن المغيرة قال لرؤساء أهل مكة، قد رأيتم هذا الرجل - يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلمتم ما فشا من أمره، فإن سألكم الناس عنه ما أنتم قائلون. قالوا نقول: هو مجنون، قال: إذن يخاطبوه فيعلموا أنه غير مجنون. قالوا فنقول: إنه شاعر، قال: هم العرب، يعلمون الشعر ويعْلَمُونَ أَنَ ما أتى به لَيْسَ بِشِعْرٍ. قالوا: فنقول إنه كاهن، قال الكهنة لا تقول إنه يكون كذا وكذا إن شاء اللَّه وهو يقول إن شاء الله، فقالوا قَدْ صَبَأَ الوليد. وجاء أبو جَهْل ابن أخيه، فقالوا: إن القوم يقولون إنك قد صبوت. وقد عَزَمُوا على أن يجمعوا لك مالًا فيكون عِوَضاً مِما تقدر أنْ تَأخُذَ من أصحاب محمد، فقال: واللَّه ما يَشْبَعُونَ، فكيف أقْدِرُ أن آخذَ منهم مَالًا وإني لَمِنْ أَيْسَر الناس، ومر به جماعة فذكروا له ما أتى به النبي - صلى الله عليه وسلم - ففكر وعَبَس وجهه وَبَسَر، أي نظر بكراهة شَدِيدَةٍ. فقال: ما هذا الذي أتى به محمد إلَّا سِحرٌ يأثره عن مسَيْلمة وعن أهل بابل. * * * (إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) أي ما هذا إلا قول البشر. * * * (سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) (سَقَر) لا ينصرف لأنها معرفة، وهي مؤنثة، وسَقَر اسم من أسماء جهنم. ثم أعلم اللَّه تعالى شأن سقر في العذاب فقال: * * * (وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) تأويله وما أعلمك أي شيء سقر فقال: (لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) البشر جمع بَشَرةٍ، أي تحرق الجلْدَ حَتَّى يَسْودَّ. * * * (عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30) (1)

_ (1) قال السَّمين: قوله: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ}: هذه الجملةُ فيها وجهان أعني: الحاليةَ والاستئنافَ وفي هذه الكلمةِ قراءاتٌ شاذةٌ، وتوجيهاتٌ تُشاكِلُها. وقرأ أبو جعفر وطلحةُ «تسعَة عْشَر» بسكون العين مِنْ «عَشر» تخفيفاً لتوالي خمسِ حركاتٍ مِنْ جنسٍ واحدٍ/ وهذه كقراءةِ {أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً} [يوسف: 4]، وقد تقدَّمَتْ. وقرأ أنسٌ وابنُ عباس «تسعةُ» بضمِّ التاء، «عَشَرَ» بالفتح، وهذه حركةُ بناءٍ، ولا يجوزُ أَنْ يُتَوَهَّمَ كونُها إعراباً؛ إذا لو كانَتْ للإِعرابِ لَجُعِلَتْ في الاسمِ الأخيرِ لِتَنَزُّلِ الكلمتَيْن منزلةَ الكلمةِ الواحدةِ، وإنما عُدِل إلى الضمة كراهةَ توالي خمسِ حركاتٍ. وعن المهدويِّ. «مَنْ قرأ» تسعةُ عَشَر «فكأنه من التداخُلِ كأنه أراد العطفَ فتركَ التركيبَ ورَفَعَ هاءَ التأنيث، ثم راجَعَ البناءَ وأسكنَ» انتهى. فَجَعَلَ الحركةَ للإِعرابِ. ويعني بقولِه «أسكنَ»، أي: أسكنَ راءَ «عشر» فإنه هذ القراءة كذلك. وعن أنس أيضاً «تسعةُ أَعْشُرَ» بضم «تسعةُ» وأَعْشُرَ بهمزةٍ مفتوحةٍ ثم عينٍ ساكنةٍ ثم شين مضمومة. وفيها وجهان، قال أبو الفضل: «يجوزُ أَنْ يكونَ جَمعَ العَشَرةَ على أَعْشُر ثم أجراه مُجْرى تسعة عشر». وقال الزمخشري: «جمع عَشير، مثل يَمين وأَيْمُن. وعن أنسٍ أيضاً» تسعَةُ وَعْشُرَ «بضم التاءِ وسكونِ العينِ وضمِّ الشين وواوٍ مفتوحةٍ بدلَ الهمزةِ. وتخريجُها كتخريجِ ما قبلَها، إلاَّ أنَّه قَلَبَ الهمزةَ واواً مبالغةً في التخفيفِ، والضمةُ كما تقدَّم للبناءِ لا للإِعرابِ. ونقل المهدويُّ أنه قُرِىءَ» تسعةُ وَعَشَرْ «قال:» فجاء به على الأصلِ قبلَ التركِيبِ وعَطَفَ «عشراً على تسعة» وحَذَفَ التنوينَ لكثرةِ الاستعمالِ، وسَكَّنَ الراءَ مِنْ عشر على نيةِ الوقفِ. وقرأ سليمان بن قتة بضمِّ التاءِ، وهمزةٍ مفتوحةٍ، وسكونِ العين، وضم الشين وجرِّ الراءِ مِنْ أَعْشُرٍ، والضمةُ على هذا ضمةُ إعرابٍ، لأنه أضاف الاسمَ لِما بعده، فأعربَهما إعرابَ المتضايفَيْنِ، وهي لغةٌ لبعضِ العربِ يَفُك‍ُّون تركيبَ الأعدادِ ويُعْرِبُونهما كالمتضايفَيْنِ كقول الراجز: 4393 كُلِّفَ مِنْ عَنائِه وشِقْوَتِهْ. . . بنتَ ثماني عَشْرَةٍ مِنْ حَجَّتِهْ قال أبو الفضل: «ويُخْبَرُ على هذه القراةِ وهي قراءةُ مَنْ قرأ» أَعْشُر «مبنياً أو معرباً من حيث هو جمعٌ أنَّ الملائكةَ الذين هم على سَقَرَ تسعون مَلَكاً. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(31)

أي على سقر تِسْعَةَ عَشَرَ مَلَكاً، وَوَصَفَهُم اللَّه في موضع آخر فقال: (عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6). الذي حكاه البَصْرِيون تسعَةَ عَشر بفتح العين في عَشَر. وقد قرئت بتسكين العَيْنِ، والقراءة بفتحها، وإنما أسكنها من أسكنها لكثرة الحركات، وذلك أَنَهمَا اسمَانِ جُعِلاَ اسماً وَاحِداً، ولذلك بُنِيَا على الفتح، وقرأ بَعْضهم تسعَةُ عَشَر فأعربت على الأصل، وذلك قليل في النحو، والأجود تِسعةَ عَشَر على البناء على الفتح، وفيها وجة آخر " تِسْعَة أعْشرٍ "، وهي شاذَّة، كأنَّها على جمع فعيل وأَفْغل، مثل يَمِين وأَيْمُن (1). * * * وقوله تعالى: (وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31) (وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا). أَيْ مِحْنَةً، لأن بعضهم قال بعضنا يكفي هؤلاء. وقوله: (لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ). أي يعلمون أن ما أَتى به النبي عليه السلام موَافِقَاً لما في كتبهم. (وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا). لأنهم كلَّمَا صَدقوا بما يَأتي في كتاب اللَّه عزَّ وجلَّ زاد إيمانهم. (وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ) أيْ لَا يَشكونَ. وقوله: (وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ). جاء في التفسير أن النار في الدنيا تذكر بالنار في الآخرة. * * * وقوله: (وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) ويقرأ (إِذْ دَبَرَ)، وكلاهما جَيِّدٌ في العربية. يقال: دبر الليل وَأدْبَرَ، وكذلك قَبَل الليل وَأقْبَلَ. وقد قرئت أيضاً (إِذَا أَدْبَرَ) (وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ). بإثبات الألف فيهما.

_ (1) قال السَّمين: قوله: {إِذْ أَدْبَرَ}: قرأ نافعٌ وحمزةُ وحفصٌ «إذ» ظرفاً لِما مضى مِنْ الزمانِ، «أَدْبَرَ» بزنةِ أَكْرَمَ. والباقون «إذا» ظرفاً لِما يُسْتقبل، «دَبَرَ» بزنةِ ضَرَبَ، والرسمُ محتملٌ لكلتَيْهما، فالصورةُ الخطيَّةُ لا تختلفُ. واختار أبو عبيد قراءةَ «إذا» قال: لأنَّ بعدَه «إذا أَسْفَرَ» قال: «وكذلك هي في حرفِ عبدِ الله» قلت: يعني أنَّه مكتوبٌ بألفَيْنِ بعد الذالِ أحدُهما ألفُ «إذا» والأخرى همزةُ «أَدْبَرَ». واختار ابنُ عباس أيضاً «إذا» ويُحْكى أنَّه لَمَّا سَمِعَ «أَدْبَرَ» قال: «إنما يُدْبِر ظهرُ البعير». واختلفوا: هل دَبَر وأَدْبَر، بمعنى أم لا؟ فقيل: هما بمعنىً واحدٍ/ يقال: دَبَر الليلُ والنهارُ وأَدْبَرَ، وقَبَلَ وأَقْبل. ومنه قولُهم «أمسٌ الدابرُ» فهذا مِنْ دَبَرَ، وأمسٌ المُدْبر قال: 4394. . . . . . . . . . . ذهبوا كأمس الدابِر وأمَّا أَدْبَرَ الراكبُ وأَقْبل فرباعيٌّ لا غيرُ. هذا قولُ الفراء والزجاج. وقال يونس: «دَبَرَ انقضى، وأَدْبَرَ تَوَلَّى ففرَّق بينهما. وقال الزمخشري:» ودَبَرَ بمعنى أَدْبَرَ كقَبَل بمعنى أَقْبَلَ. قيل: ومنه صاروا كأمسٍ الدابرِ، وقيل: هو من دَبَرَ الليلُ النهارَ إذا خَلَفَه «. وقرأ العامَّةُ» أسْفَرَ «بالألف، وعيسى بنُ الفضل وابن السَّمَيْفَع» سَفَرَ «ثلاثياً». والمعنى: طَرَحَ الظلمةَ عن وجهِه، على وجهِ الاستعارةِ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(35)

وقوله: (إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36) هذه الهاء كناية عَنِ النَّارِ، أَي إنَّها لكبيرة في حَالِ الِإنذار. وَنَصْب (نَذِيرًا) على الحال، وذَكَّر (نَذِيرًا) لأنَّ مَعْنَاهُ معنى العَذَابِ. ويجوز أن يكون التذكير على قولهم امرأة طاهر وطالق، أي ذات طلاقٍ وكذلك نذير ذات إنْذَارٍ. ويجوز أَنْ يَكُونَ (نَذِيرًا) مَنْصُوباً مُعَلَّقا بأولِ السورَةِ على معنى قم نذيراً للبشرِ. * * * وقوله: (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) أي أن يتقدم فيما أمر به أو يتأخر، فقد أنذرتم. * * * قوله عزَّ وجلَّ: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) قيل أصحابُ اليمين الأطْفَالُ لأنهم لا يسألون، تفضل اللَّه عليهم بأن أعطاهم الجنَّةَ، وكل نفْس رَهِينة بِعَمَلِهَا إما خَلَّصَهَا وإما أوبَقَها. والتخليص مع عملها بتفضل اللَّه. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) أي نَتًبعُ الغاوِينَ. * * * وقوله: (فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) يعني الكفار وفي هذا دليل أن المؤمنين تنفعهم شفاعة بعضهم لِبَعْض. * * * وقوله: (فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) منصوب على الحال. * * * (كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) وقرئت مُسْتَنْفَرَة. قال الشاعر:

(51)

أمْسِكْ حِمَارَك إنَّه مُسْتَنْفِرُ. . . في إثْرِ أَحْمِرَةٍ عَمَدْنَ لِغُرَّبِ (1) * * * وقوله: (فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) القسورةُ الأسَدُ، وقيل أيْضاً القَسورَةُ الرَّمَاة الذين يَتَصَيدُونَها. * * * وقوله: (بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52) قيل كانوا يقولون: كان مَن أذنب من بني إسْرَائِيلَ يجد ذنبه مكتوباً من غَدٍ عَلَى بَابِه فما بالنا لا نكون كذلك. وَقَدْ جَاءَ في القرآنِ تفْسِيرُ طَلَبِهِمْ في سورة بني إسرائيل في قوله: (وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ). * * * وقوله: (هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56) أَي هو أهل أَنْ يُتقَى عِقَابُه، وأهل أَنْ يُعمل بما يؤدي إلى مغفرته.

_ (1) قال السَّمين: قوله: {كَأَنَّهُمْ} هذه الجملةُ يجوزُ أَنْ تكونَ حالاً من الضمير في الجارِّ، وتكون بدلاً مِنْ «مُعْرِضِيْنَ» قاله أبو البقاء، يعني أنَّها كالمشتملة عيلها، وأنْ تكونَ حالاً من الضميرِ في «مُعْرِضِين»، فتكونَ حالاً متداخلةً. وقرأ العامَّةُ «حُمُرٌ» بضمِّ الميم، والأعمش بإسكانِها. وقرأ نافعٌ وابنُ عامر بفتح الفاء مِنْ «مُسْتَنْفَرة» على أنه اسمُ مفعولٍ، أي: نَفَّرها القُنَّاص. والباقون بالكسرِ بمعنى: نافِرة: يُقال: استنفر ونَفَر بمعنى نحو: عَجِب واستعجب، وسخِر واسْتَسْخر. قال الشاعر: 4398 أَمْسِكْ حِمارَكَ إنَّه مُسْتَنْفِرُ. . . في إثْرِ أَحْمِرَةٍ عَمَدْنَ لغُرَّبِ وقال الزمخشري: «كأنها تطلُبُ النِّفار مِنْ نفوسِها في جَمْعِها له وحَمْلِها عليه» انتهى. فأبقى السينَ على بابِها من الطَّلَبِ، وهو معنى حسن. ورجَّحَ بعضُهم الكسرَ لقولِه «فَرَّتْ» للتناسُبِ. وحكى محمدُ ابنُ سَلاَّم قال: «سألتُ أبا سَوَّار الغَنَويَّ وكان عربياً فصيحاً، فقلت: كأنهم/ حُمُرٌ ماذا؟ فقال: مُسْتَنْفَرَة طَرَدَها قَسْورة. فقلت: إنما هو {فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ} فقال: أفرَّتْ؟ قلت: نعم. قال:» فمُسْتَنْفِرة إذن «انتهى. يعني أنها مع قولِه» طَرَدها «تُناسِبُ الفتحَ لأنَّها اسمُ مفعولٍ فلما أُخْبر بأنَّ التلاوةَ {فَرَّتْ مِن قسْورة} رَجَعَ إلى الكسرِ للتناسُبِ، إلاَّ أنَ بمثلِ هذه الحكاية لا تُرَدُّ القراءةُ المتواترةُ. والقَسْوَرَةُ: قيل: الصائِدُ. وقيل: ظلمةُ الليل. وقيل: الأسد، ومنه قولُ الشاعر: 4399 مُضَمَّرٌ تَحْذَرُه الأبطالُ. . . كأنه القَسْوَرَةُ الرِّئْبالُ أي: الأسد، إلاَّ إنَّ ابن عباس أنكرَه، وقال: لا أعرفُ القَسْوَرَةَ: الأسدَ في لغة العرب، وإنما القَسْوَرَةُ: عَصَبُ الرجال، وأنشد: 4400 يا بنتُ، كثوني خَيْرَةً لخَيِّرَهْ. . . أخوالُها الجِنُّ وأهلُ القَسْوَرَهْ وقيل: هم الرُّماةُ، وأنشدوا للبيد بن ربيعة: 4401 إذا ما هَتَفْنا هَتْفَةً في نَدِيِّنا. . . أتانا الرجالُ العانِدون القساوِرُ والجملةُ مِنْ قولِه» فَرَّتْ «يجوزُ أَنْ تكونَ صفةً ل» حُمُر «مثلَ» مُسْتَنْفرة «، وأنْ تكونَ حالاً، قاله أبو البقاء. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

سورة القيامة

سُورَةُ القِيَامَةِ (مَكِّيَّة) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله عزَّ وجلَّ: (لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) لا اختلاف بين الناس أن معناه أقسِم بيوم القيامَةِ. واختلفوا في تفسير " لاَ "، فقال بعضهم " لا " لَغوٌ وإن كانت في أول السورة، لأن القرآن كله كالسورَةِ الوَاحِدَةِ، لأنه متَصِلٌ بَعْضه بِبَعْضٍ فجعلت " لا " ههنا بمنزلتها في قوله: (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ). وقال بعض النحوبين: " لاَ " رَد لِكَلاَمِهِمْ. كَأنهم أنكروا البعث فقيل لا ليس الأمر كما ذَكَرْتُمْ أقسم بيوم القيامة وقوله: (إنكم مَبْعوثونَ) دَلَّ على الجواب (1). * * * قوله: (بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4) المعنى: بلى لَنَجْمَعَنكمْ قَادِرِين، المعنى أقسم بيوم القيامة والنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ لَنَجْمَعنَّها قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ. وجاء في التفسير بلى نقدر على أن نجعله كخفِّ البَعِيرِ. والذي هو أشكل بجمع العِظَامِ بلى نَجْمَعها قَادِرِين، عَلَى تَسْوِيَةِ بَنَانِه على ما كانت، وإن قَلَّ عِظَامهَا وَصَغرت وبلغ مِنها البِلَى. والنفس اللوامة تفسيرها أن كل نفسٍ تلوم صاحبها في الآخِرَةِ إن كان عَمِلَ شرًّا لَامَتْهُ نفسه وأن كان عمل خَيراً لَامَتْهُ على ترك الاستكثار منه.

_ (1) قال السَّمين: قوله: {لاَ أُقْسِمُ}: العامَّةُ على «لا» النافيةِ. واختلفوا حينئذٍ فيها على أوجهٍ، أحدُها: أنها نافيةٌ لكلامٍ متقدِّمٍ، كأنَّ الكفارَ ذَكروا شيئاً. فقيل لهم: لا، ثم ابتدأ اللَّهُ تعالى قَسَماً. الثاني: أنها مزيدةٌ. قال الزمخشري: «وقالوا إنها مزيدةٌ، مِثْلُها في: {لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب} [الحديد: 29] وفي قولِه: 4402 في بِئْرِ لاحُورٍ سَرَى وما شَعَرْ. . . واعترضوا عليه: بأنها إنما تُزاد في وسط الكلام لا في أولِه. وأجابوا: بأنَّ القرآنَ في حُكْمِ سورةٍ واحدةٍ متصلٍ بعضُه ببعضٍ. والاعتراضُ صحيحٌ؛ لأنها لم تقَعْ مزيدةً إلاَّ في وسط الكلامِ، لكن الجوابَ غيرُ سديدٍ. ألا ترى إلى امرىء القيسِ كيف زادَها في مستهلِّ قصيدتِه؟ قلت: يعني قولَه: 4403 لا وأبيك ابنةَ العامرِيْ. . . يِ. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . كما سيأتي، وهذا الوجهُ والاعتراضُ عليه والجوابُ نقله مكي وغيرُه. الوجه الثالث: قال الزمخشري:» إدخالُ «» لا «النافيةِ على فعلِ القسمِ مستفيضٌ في كلامِهم وأشعارِهم. قال امرؤ القيس: لا وأبيك ابنةَ العامرِيْ. . . يِ لا يَدَّعِي القومُ أنِّي أفِرّْ وقال غُوَيَّةُ بن سُلْميٍّ: 4404 ألا نادَتْ أُمامةُ باحْتمالِ. . . لِتَحْزُنَني فلابِك ما أُبالي وفائدتُها توكيدُ القسم» ثم قال بعد أَنْ حكى وجهَ الزيادةِ والاعتراضَ والجوابَ كما تقدَّمَ «والوَجهُ أَنْ يُقال: هي للنفي، والمعنى في ذلك: أنه لا يُقْسِمُ بالشيءِ إلاَّ إعظاماً له يَدُلَّكَ عليه قولُه تعالى: {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النجوم وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة: 75 - 76] فكأنه بإدخالِ حرفِ النفي يقول: إنَّ إعظامي له بإقسامي به كلا إعظامٍ، يعني أنه يَسْتَأْهِلُ فوق ذلك. وقيل:» إنَّ «لا» نفيٌ لكلامٍ وَرَدَ قبل ذلك «. انتهى. فقولُه:» والوجهُ أَنْ يُقال «إلى قولِه:» يعني أنه يستأهِلُ فوق ذلك «تقريرٌ لقولِه:» إدخالُ «لا» النافيةِ على فعلِ/ القسمِ مستفيضٌ «إلى آخره. وحاصلُ كلامِه يَرْجِعُ إلا أَنَّها نافيةٌ، وأنَّ النفيَ مُتَسَلِّطٌ على فعل القسمِ بالمعنى الذي شَرَحَه، وليس فيه مَنْعٌ لفظاً ولا معنىً ثم قال: فإن قلتَ: قولُه تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ} [النساء: 65] والأبياتُ التي أَنْشَدْتُها المُقْسَمُ عليه فيها منفيٌّ، فهلا زَعَمْتَ أنَّ» لا «التي قبلَ القسمِ زِيْدَتْ موطئةً للنفيِ بعدَه ومؤكِّدةً له، وقَدَّرْتَ المقسم عليه المحذوفَ ههنا منفيَّاً، كقولِك: لا أُقْسم بيومِ القيامةِ لا تُتركون سُدى؟ قلت: لو قَصَروا الأمرَ على النفيِ دونَ الإِثباتِ لكان لهذا القول مَساغٌ، ولكنه لم يُقْصَرْ. ألا ترى كيف لُقِيَ {لاَ أُقْسِمُ بهذا البلد} [البلد: 1] بقولِه: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان} وكذلك قولُه: {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النجوم} [الواقعة: 75] بقوله: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} وهذا من محاسنِ كلامِه فتأمَّلْه. وقد تقدَّم الكلامُ على هذا النحوِ في سورة النساءِ، وفي آخر الواقعة، ولكنْ هنا مزيدُ هذه الفوائدِ. وقرأ قنبل والبزي بخلافٍ عنه «لأُقْسِمُ بيوم» بلامٍ بعدَها همزةٌ دونَ ألفٍ. وفيها أربعةُ أوجهٍ، أحدُها: أنها جوابٌ لقسمٍ مقدرٍ، تقديرُه: واللَّهِ لأُقْسِمُ، والفعلُ للحالِ؛ فلذلك لم تَأْتِ نونُ التوكيدِ، وهذا مذهبُ الكوفيين. وأمَّا البصريُّون فلا يُجيزون أَنْ يقعَ فعلُ الحالِ جواباً للقسم، فإنْ وَرَدَ ما ظاهرُه ذلك جُعل الفعل خبراً لمبتدأ مضمرٍ، فيعودُ الجوابُ جملةً اسميةً قُدِّرَ أحدُ جزأَيْها، وهذا عند بعضِهم من ذلك، التقديرُ واللَّهِ لأنا أُقْسِمُ. الثاني: أنه فعلٌ مستقبلٌ، وإنما لم يُؤْتَ بنونِ التوكيدِ؛ لأنَّ أفعالَ اللَّهِ حقٌّ وصدقٌ فهي غنية عن التأكيدِ بخلاف أفعالِ غيره. على أنَّ سيبويهِ حكى حَذْفَ النونِ إلاَّ أنَّه قليلٌ، والكوفيون يُجيزون ذلك مِنْ غير قلةٍ إذ مِنْ مذهبهم جوازُ تعاقُبِ اللامِ والنونِ فمِنْ حَذْفِ اللامِ قولُ الشاعر: 4405 وقتيلِ مَرَّةَ أَثْأَرَنَّ فإنَّه. . . فَرْغٌ وإنَّ أخاكم لم يُثْأَرِ أي: لأَثْأَرَنَّ. ومِنْ حَذْفِ النونِ وهو نظيرُ الآية قولُه: 4406 لَئِنْ تَكُ قد ضاقَتْ عليكم بيوتُكُمْ. . . لَيَعْلَمُ ربي أنَّ بيتيَ واسعٌ الثالث: أنها لامُ الابتداءِ، وليسَتْ بلامِ القسمِ. قال أبو البقاء: «نحو: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ} [النحل: 124] والمعروفُ أنَّ لامَ الابتداءِ لا تَدْخُل على المضارع إلاَّ في خبر» إنَّ «نحو: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ} وهذه الآيةُ نظيرُ الآيةِ التي في يونس [الآية: 16] {وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ} فإنهما قرآها. بقصر الألف، والكلامُ فيها قد تقدَّم. ولم يُخْتَلَفْ في قولِه:» ولا أُقْسِم «أنه بألفٍ بعد» لا «؛ لأنه لم يُرْسَمْ إلاَّ كذا، بخلاف الأولِ فإنه رُسِمَ بدون ألفٍ بعد» لا «، وكذلك في قولِه: {لاَ أُقْسِمُ بهذا البلد} لم يُختلَفْ فيه أنَّه بألفٍ بعد» لا «. وجوابُ القسمِ محذوفٌ تقديرُه: لتُبْعَثُنَّ، دلَّ عليه قولُه:» أيحسَبُ الإِنسانُ «. وقيل: الجوابُ أَيَحْسَبُ. وقيل: هو» بلى قادِرين «ويُرْوَى عن الحسن البصري. وقيل: المعنى على نَفْيِ القسم، والمعنى: إني لا أُقْسِم على شيء، ولكن أسألُك: أيحسَبُ الإِنسانُ. وهذه الأقوالُ شاذَّةٌ مُنْكَرةٌ لا تَصِحُّ عن قائليها لخروجِها عن لسانِ العرب، وإنما ذكرْتُها للتنبيهِ على ضَعْفها كعادتي. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5)

وقوله: (بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5) معناه أَنَه يُسوِّفُ بالتوبة، وُيقَدِّم الأعمال السيئَةَ. ويجوز - واللَّه أعلم - أن يكون معناه ليكفرَ بِمَا قُدَّامَهُ. ودليل ذلك قوله: (يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ). فيفجر أمامه على هذا - واللَّه أعلم - يُكَذِّبُ بما قُدَّامَه مِنَ البَعْثِ. * * * وقوله: (فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) ويقرأ (بَرَقَ البَصَرُ). فمن قرأ (بَرِقَ) فمعناه فَزِعَ وَتَحَيَّرَ. وَمَن قَرأ (بَرَقَ) فهو من بَرَقَ يَبْرُقُ. مِنْ بَرِيق العَيْنَيْنِ. * * * وقوله: (وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) أي ذَهَبَ ضَوْءُ القَمَرِ. * * * (وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) أي جمِعَا فِي ذَهَابِ نُورِهما. * * * (يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) وَيُقْرَأُ (أَيْنَ الْمَفِرُّ) - بكسر الفاء - فمن فتح فهو بمعنى أين الفِرَارُ. ومن كسر فعلى معنى أين مكان الفِرار. والمَفْعَلُ مِن مِثْل جَلَسْتُ بفتح العَيْنِ، وكذلك المصدر، تقول: جَلَسْتُ مَجْلَساً - بفتح اللام - بمعنى جُلُوساً. فإذا قلت جَلَسْتُ مَجْلِساً، فأنت تريد المكان. ثم أعلم تعالى أنه لَا حِرْزَ لَهُم ولا مَحِيصَ. فقال: * * * (كَلَّا لَا وَزَرَ (11) الوَزَرُ في كلام العَرَبِ الجَبَلُ الَّذِي يُلجأ إليه: هذا أصله، وَكُل ما التجأت إليه وَتَخَلَّصْتَ به فَهُوَ وَزَز. * * * وقوله: (بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15) معناه بل الِإنسان تشهد عليه جوارحه، قال اللَّه عزَّ وجلَّ: (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24). وقال في موضع آخر

(15)

(حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20). فأَعلم اللَّه أن هذه الجوارح التي يتصرفون بها شواهد عليهم. * * * قوله: (وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15) ولو أدلى بكل حُجةٍ عِنْدَهُ. وجاء في التفسير المعاذير السُتُور، وَاحِدُها مِعذار. * * * وقوله: (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) كان جبريل عليه السلام إذا نزل بالوحي على النبي - صلى الله عليه وسلم - تلاه النبي عليه السلام عليه كراهة أَنْ يَنْفَلِتَ مِنْهُ، فأَعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أنه لا ينسيه إيَّاهُ وَأَنَّه يجمعه في قلبه فقال: * * * (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) أَي إِنَّ عَلَيْنَاأن نُقرِئَكَ فَلَا تَنْسَى، وعلينا تلاوته عليك. * * * (فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) أي لا تعجل بالتلاوة إلى أن تقرأ عليك مَا يُنْزَلُ فِي وَقْتِهِ. * * * (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19) أي علينا أن ننزِّله قرآناً عربياً غير ذي عوج، فيه بيان للناس. * * * قوله: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) نُضِّرَت بِنَعِيمِ الجَنَّةِ والنَّظَرِ إلى رَبِّهَا. قال اللَّه - عزَّ وجلَّ -: (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24). * * * (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25) (بَاسِرَةٌ) كريهة مقطبة، قد أيقنت بأن العذاب نازل بها. ومعنى: (تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ).

(26)

توقن أن يفعل بها داهية من العذاب. * * * وقوله: (كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26) (كَلَّا) رَدْعٌ وتنبيه، ومعناه ارْتَدِعُوا عما يؤدي إلى العذاب. * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ). ذكرهم الله بصعوبة أول أيام الآخرة عند بلوغ النَّفْس التَّرْقوَةِ. * * * (وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) أي من يشفي من هذه الحال، وهذا - واللَّه أعلم - يقوله القائل عِنْدَ البأْسِ، أي من يَقْدِرَ أَنْ يَرْقِيَ مِنَ الموْتِ. وقيل في التفسير: (مَنْ رَاقٍ) مَن يَرْقَى بِروحِه أمَلَائكة الرحمة أم ملائكة العذاب. * * * (وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) أَيْ وَأَيْقَنَ الذي تَبلغ روحه إلى تراقيه أنه مفارق للدنيا. * * * (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) عند الموت تلتصق السَّاق بالسَّاقِ قيل والتفت آخر شدة الدنيا بأول شِدَّةِ الآخرة. * * * وقوله: (فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) يعنى به أبو جهل بن هشام. وجاء في التفسير إنَّ لكل أُمَّةٍ فِرعَوْناً، وإنَّ فِرْعَونَ هذه الأمَّةِ أَبو جَهْلٍ بن هشام. * * * (ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) معناه بتبختر، مأخوذ من المَطَا وهو الظهر. * * * وقوله: (أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) معناه - واللَّه أعلم - وَلِيَكَ المكروه يا أبا جهل، والعرب تقول أولى لفلان إذا دعت عليه بالمكروه.

(36)

(أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أي أن يترك غير مَأمورٍ وغير مَنْهِيٍّ، ثم دلهم على البعث بالقدرة على الابتداء فقال: * * * (أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) وقرئت (تُمْنَى) فمن قرأ (تُمْنَى) فللفظ النطفة. ومَنْ قرأ (يُمْنَى) فللفظ (مَنِيٍّ). * * * (ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39) ثم قررهم فقال: * * * (أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40)

سورة الإنسان

سُورَةُ الإِنْسَانِ (مَكِّيَّة) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله عزَّ وجلَّ: (هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) المعنى ألم يأت عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ، - وقد كان شيئاً إلَّا أَنَّهُ كَانَ تُرَاباً وَطِيناً إلى أن نفخ فيه الروح فلم يكن قبل نفخ الروح فيه شيئاً مَذْكُوراً، ويجوز أن يكون يعنى به جميع الناس، ويكون المعنى أنهم كانوا نُطَفاً ثم عَلَقاً ثم مُضَغاً إلى أن صاروا شيئاً مَذْكُوراً. ومعنى (هَلْ أتى) قد أتى على الإنسان، أي ألم يأت على الِإنْسَانِ حين من الدهر (1). * * * وقوله: (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) (أَمْشَاجٍ) أخلاط مَنَيٍّ ودم، ثم ينقل مِنْ حَالٍ إلى حَالٍ. وَوَاحِدُ الأمشاج [مَشِيجٌ]، ومعنى نبتليه نختبره يدل عليه: (فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً). أي جعلناه كذلك لنختبره. * * * قوله: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3) معناه هديناه الطريق إما لِشَقوةٍ وإما لِسَعَادَةٍ.

_ (1) قال السَّمين: قوله: {هَلْ أتى}: في «هل» هذه وجهان، أحدُهما: أنَّها على بابِها من الاستفهامِ المَحْضِ، أي: هو مِمَّنْ يُسْأَلُ عنه لغرابتِه: أأتى عليه حينٌ من الدهرِ لَم يكنْ كذا، فإنه يكونُ الجوابُ: أتى عليه ذلك، وهو بالحالِ المذكورةِ، كذا قاله الشيخ، وهو مدخولٌ كما ستعرِفُه قريباً. وقال مكي في تقرير كونها على بابِها من الاستفهام. «والأحسنُ أَنْ تكونَ على بابِها للاستفهام الذي معناه التقريرُ، وإنما هو تقرير لمَنْ أنكر البعثَ، فلا بُدَّ أَنْ يقولَ: نعم قد مضى دهر طويل لا إنسانَ فيه. فيقال له: مَنْ أَحْدَثَه بعد أن لم يكُنْ وكَوَّنه بعد عَدَمِه كيف يمتنع عليه بَعْثُه وإحياؤه بعد مَوْتِه؟ وهو معنى قولِه: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النشأة الأولى فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ} [الواقعة: 62]، أي: فهلاَّ تَذَكَّرون فتعلَمون أنَّ مَنْ أَنْشأ شيئاً بعد أن لم يكُنْ قادرٌ على إعادتِه بعد مَوْتِه وعَدَمِه» انتهى. فقد جَعَلها لاستفهامِ التقريرِ لا للاستفهامِ المَحْضِ، وهذا هو الذي يجبُ أَنْ يكونَ؛ لأنَّ الاستفهامَ لا يَرِدُ مِنَ الباري تعالى لاَّ على هذا النحوِ وما أشبهه. والثاني: أنها بمعنى «قد» قال الزمخشري: «هل بمعنى» قد «في الاستفهام خاصة. والأصل: أهل بدليلِ قولِه: 4430 سائِلْ فوارسَ يَرْبوعٍ بشَدَّتِنا. . . أهَلْ رَأَوْنا بوادي القُفِّ ذي الأَكَمِ فالمعنى: أقد أتى، على التقريرِ والتقريبِ جميعاً، أي: أتى على الإِنسان قبلَ زمانٍ قريبٍ حينٌ من الدهرِ لم يكنْ فيه شيئاً مذكوراً، أي: كان شيئاً مَنْسِيَّاً غير مذكور» انتهى. فقولُه: «على التقريرِ» يعني المفهومَ من الاستفهامِ، وهو الذي فهم مكيٌّ مِنْ نفسِ «هل». وقوله: «والتقريب» يعني المفهومَ مِنْ «قد» التي وقع مَوْقِعَها «هل». ومعنى قولِه «في الاستفهام خاصةً» أنَّ «هل» لا تكونُ بمعنى «قد» إلاَّ ومعها استفهامٌ/ لفظاً كالبيتِ المتقدِّم، أو تقديراً كالآية الكريمةِ. فلو قلتَ: «هل جاء زيدٌ» تعني: قد جاء، من غيرِ استفهامٍ لم يَجُزْ، وغيرُه جَعَلَها بمعنى «قد» من غيرِ هذا القيدِ. وبعضُهم لا يُجيزه ألبتَّةََ، ويَتَأّوَّل البيتَ: على أنَّ مِمَّا جُمِعَ فيه بين حرفَيْ معنىً للتأكيدِ، وحَسَّن ذلك اختلافُ لفظِهما كقولِ الشاعِرِ: 4331 فأَصْبَحْنَ لا يَسْأَلنْنَي عَنْ بِما به. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . فالباءُ بمعنى «عن»، وهي مؤكِّدةٌ لها، وإذا كانوا قد أَكَّدوا مع اتفاقِ اللفظِ كقولِه: 4432 فَلا واللَّهِ لا يُلْفَى لِما بي. . . ولا لِلِما بهمْ أبداً دَواءُ فَلأَنْ يُؤَكِّدوا مع اختلافهِ أَحْرى. ولم يَذْكُرِ الزمخشريُّ غيرَ كونِها بمعنى «قد»، وبقي على الزمخشريِّ قيدٌ آخر: وهو أَنْ يقولَ: في الجملِ الفعليةِ؛ لأنَّه متى دخلَتْ «هل» على جملةٍ اسميةٍ استحالَ كونُها بمعنى «قد» لأنَّ «قد» مختصَّةٌ بالأفعالِ. وعندي أنَّ هذا لا يَرِدُ؛ لأنَّه تقرَّر أنَّ «قد» لا تباشِرُ الأسماءَ. قوله: {لَمْ يَكُن} في هذه الجملة وجهان، أحدُهما: أنَّها في موضعِ نصبٍ على الحالِ من «الإِنسان»، أي: هل أتى عليه حينٌ في هذه الحالةِ. والثاني: أنها في موضعِ رفع نعتاً ل «حينٌ» بعد نعتٍ. وعلى هذا فالعائدُ تقديرُه: حينٌ لم يكُنْ فيه شيئا مذكوراً، والأول أظهرُ لفظاً ومعنىً. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4)

وقوله: (إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4) الأجود في العربية ألا يُصْرَف سَلَاسِلَ، ولكن لما جُعِلَتْ رَأْسَ آيَةٍ صرفت ليكون آخر الآي على لفظٍ وَاحدٍ (1). * * * قوله: (إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) الأبرار واحدهم بَرٌّ. (يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا). يجوز " في اللغة أن يكونَ طَعْمُ الطيب فيها والكَافورِ، وجائز أن يمزج بالكافور فلا يكون في ذلك ضرر لأن أهل الجنة لا يمسهم فيما يأكلون ويشربون ضَررٌ ولا نَصَبٌ. والكأس في اللغة الِإناء إذا كان فيه الشرَابُ. فإذا لم يكن فيه الشراب لم يسم كأساً. قال الشاعر: صَبَنْتِ الكأْسَ عَنَّا أُمَّ عمروٍ وكانَ الكأْسُ مَجْراها اليَمِينا * * * وقوله: (عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6) (عيناً) جائز أن يكون من صفة الكأس. والأجود أن يكون المعنى من عَيْنٍ. قوله: (يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا). معناه تجري لهم تلك العين كما يحِبُّون. * * * قوله: (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) معناه يبلغ أقصى المبالغ فيه. * * * قوله: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8)

_ (1) قال السَّمين: قوله: {سَلاَسِلَ}: قرأ نافعٌ والكسائيُّ وهشام وأبو بكر بالتنوين، والباقون بغيرِ تنوينٍ، ووقَفَ هؤلاءِ وحمزةُ وقنبلٌ عليه بالألفِ بلا خلافٍ. وابنُ ذكوانَ والبزيُّ وحفصٌ بالألفِ وبدونِها، فعَنْ ثلاثتِهم الخلافُ، والباقون وقَفوا بدون ألفٍ بلا خلافٍ. فقد تَحَصَّل لك من هذا أن القُرَّاءَ على [أربع] مراتبَ: منهم مَنْ يُنَوِّنُ وصْلاً، ويقفُ بالألفِ وَقْفاً بلا خلافٍ وهم نافعٌ والكسائيُّ وهشامٌ وأبو بكر، ومنهم مِنْ لا يُنَوِّنُ ولا يأتي بالألفِ وقفاً بلا خلافٍ، وهما حمزةُ وقنبلٌ، ومنهم مَنْ لم يُنَوِّنْ، ويقف بالألفِ بلا خلافٍ، وهو أبو عمروٍ وحدَه، ومنهم مَنْ لم يُنَوِّنْ، ويقفُ بالألف تارةٍ وبدونِها أخرى، وهم ابنُ ذكوانَ وحفصٌ والبزيُّ، فهذا نهايةُ الضبطِ في ذلك. فأمَّا التنوينُ في «سلاسل» فذكَرُوا له أوجهاً منها: أنه قَصَد بذلك التناسُبَ؛ لأنَّ ما قبلَه وما بعده منونٌ منصوبٌ. ومنها: أن الكسائيَّ وغيرَه مِنْ أهلِ الكوفةِ حَكَوا عن بعض العربِ أنهم يَصْرِفُون جميعَ ما لا ينصَرِفُ، إلاَّ أفعلَ منك. قال الأخفش: «سَمِعْنا من العربِ مَنْ يَصْرِفُ كلَّ ما لا يَنْصَرِف؛ لأنَّ الأصل في الأسماء الصرفُ، وتُرِك الصرفُ لعارضٍ فيها، وأنَّ الجمعَ قد جُمِع وإنْ كان قليلاً. قالوا: صواحِب وصواحبات. وفي الحديث:» إنكن لصَواحِبات يوسف «وقال الشعر: 4439 قد جَرَتِ الطيرُ أيامِنينا. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . فجمع» أيامِن «جَمْعَ تصحيحِ المذكر. وأنشدوا: 4440 وإذا الرجالُ رأوا يزيدَ رأيتَهمْ. . . خُضُعَ الرِّقابِ نواكِسي الأبصارِ بكسرِ السينِ مِنْ نواكِس، وبعدَها ياءٌ تَظهرُ خطاً لا لفظاً لذهابِها لالتقاءِ الساكنين، والأصلُ:» نواكِسِين «فحُذِفَتِ النونُ للإِضافةِ، والياءُ لالتقاءِ الساكَنيْن. وهذا على رواية كسرِ السينِ، والأشهرُ فيها نصبُ السينِ فلمَّا جُمِع شابَهَ المفرداتِ فانصَرَفَ. ومنها أنه مرسومٌ في إمامِ الحجازِ والكوفةِ بالألفِ، رواه أبو عبيدٍ، ورواه قالون عن نافعٍ. وروى بعضُهم ذلك عن مصاحفِ البصرةِ أيضاً. وقال الزمخِشريُّ:» وفيه وجهان، أحدُهما: أَنْ تكونَ هذه النونُ بدلاً من حرفِ الإِطلاقِ ويَجْري الوصل مَجْرى الوقفِ. والثاني: أَنْ يكونَ صاحبُ هذه القراءةِ مِمَّنْ ضَرِيَ بروايةِ الشِّعْر، ومَرَنَ لسانُه على صَرْفِ ما لا ينصرف «. قلت: وفي هذه العبارةِ فَظاظةٌ وغِلْظة، لا سيما على مَشْيَخَةِ الإِسلام وأئمةِ العلماءِ الأعلامِ. ووَقَفَ هؤلاء بالألفِ ظاهراً. وأمَّا مَنْ لم يُنَوِّنْه/ فظاهرٌ؛ لأنَّه على صيغةِ منتهى الجموع. وقولهم: قد جُمِع، نحو: صَواحبات وأيامِنين لا يَقْدَحُ؛ لأنَّ المَحْذورَ جمعُ التكسيرِ، وهذا جمعُ تصحيحٍ، وعَدَمُ وقوفِهم بالألفِ واضحٌ أيضاً. وأمَّا مَنْ لم يُنَوِّنْ ووقفَ بالألفِ فإتْباعاً للرَّسمِ الكريمِ كما تقدَّمَ، وأيضاً فإنَّ الرَّوْمَ في المفتوحِ لا يُجَوِّزُه القُرَّاءُ، والقارىءُ قد يُبَيِّنُ الحركةَ في وَقْفِه فأَتَوْا بالألفِ لَتَتَبيَّنَ بها الفتحةُ. ورُوِيَ عن بعضٍ أنه يقول:» رَأَيْتُ عُمَرا «بالألف يعني عُمَرَ بن الخطاب. والسَّلاسِلُ: جمع سِلْسلة، وقد تقدَّم الكلامُ فيها. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(9)

هذه الهاء تعود على الطعام، المعنى يطعمون الطعام أشد ما تكون حاجتهم إليه للمسكين، وَوَصَفُهُم الله بالأثرة عَلَى أنْفُسِهِم. (وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا). الأسير قيل كان في ذلك الوقت من الكُفَّار، وقَدْ مُدِحَ من يطعم الأسير وهو كافرٌ، فكيف بأسَارَى المسلمين. وهذا يدل عَلَى أَنَ في إطعام أهل الحبوس ثواباً جزيلا، وأَهْل الحبوس أُسَرَاء. * * * وقوله: (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) المعنى يقولون إنما نطعمكم لوجه اللَّه، أي لطلب ثواب اللَّه - عزَّ وجلَّ - وجائر أن يكونوا يطعمون ولا ينطقونَ هذا القول ولكن معناهم في أطعَامِهمِ هذا، فَتُرْجِمَ مَا في قُلُوبِهِم، وكذلك: * * * (إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) العبوس الذي يُعَبِّسُ الوُجُوهَ، وهذا مثل قوله: (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ). وقَمْطَرِيراً، يقال يوم قمطرير ويؤْم قُماطر إذا كان شَديداً غليظاً، وجاء في التفسير أن قمطريرا معناه تَعْبسُ فَيجمعُ مَا بينَ العينين وهذا سائغ في اللغة. يقال اقمَطَرتْ النَّاقَةُ إذا رفعت ذنبها وجمعت قطريها وَرمَتْ بأنفها. * * * وقوله (مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13) واحدتها أريكة، وجاء في التفسير أَنَهَا من الحِجَالُ فيها الفرش وفيها الأسِرَّةُ. وفي اللغة أن كل متكأ عليه فَهُوَ أريكَة. ونصب (مُتَّكِئِينَ) على الحال المعنى وجزاهم جنَّة في حَالِ اتكائهم فيها. وكذلك: (وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14) وجائز أن يكون دانية نعتاً للجنة. المعنى وجزاهم جنة دانية عَليْهِمْ ظِلَالُهَا (1) * * * (وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا).

_ (1) قال السَّمين: قوله: {وَدَانِيَةً}: العامة على نصبِها وفيها أوجهٌ، أحدُها: أنها عطفُ على محلِّ «لا يَرَوْن». الثاني: أنها معطوفة على «مُتَّكئين»، فيكونُ فيها ما فيها. قال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: ودانيةً عليهم ظلالُها علامَ عُطِف؟ قلت: على الجملةِ التي قبلها، لأنَّها في موضع الحال من المَجْزِيِّيْنَ، وهذه حالٌ مثلُها عنهم، لرجوعِ الضميرِ منها إليهم في» عليهم «إلاَّ أنَّها اسمٌ مفردٌ، وتلك جماعةٌ في حكمِ مفردٍ، تقديره: غيرَ رائين فيها شَمْساً ولا زَمْهريراً ودانية. ودخلت الواوُ للدَّلالة على أن الأمرَيْن مجتمعان لهم. كأنَّه قيل: وجَزاهم/ جنةً جامِعِيْنَ فيها: بين البُعْدِ عن الحَرِّ والقُرِّ ودُنُوِّ الظِّلالِ عليهم. الثالث: أنها صفةٌ لمحذوفٍ أي: وجنةً دانِيَةً، قاله أبو البقاء. الرابع: أنها صفةٌ ل» جنةٌ «الملفوظِ بها، قاله الزجَّاج. وقرأ أبو حيوةَ» ودانِيَةٌ «بالرفع. وفيها وجهان، أظهرهما: أَنْ يكونَ» ظلالُها «مبتدأ و» دانيةٌ «خبرٌ مقدمٌ. والجملةُ في موضعِ الحال. قال الزمخشري:» والمعنى: لا يَرَوْنَ فيها شَمْساً ولا زَمْهريراً، والحالُ أنَّ ظلالَها دانِيَةٌ عليهم «. والثاني: أَنْ ترتفعَ» دانيةٌ «بالابتداء، و» ظلالُها «فاعلٌ به، وبها استدلَّ الأخفشُ على جوازِ إعمالِ اسمِ الفاعلِ، وإنْ لم يَعْتَمِدْ نحو:» قائمٌ الزيدون «، فإنَّ» دانية «لم يعتمِدْ على شيءٍ مِمَّا ذكره النَّحْويُّون، ومع ذلك فقد رُفِعَتْ» ظلالُها «وهذا لا حُجَّة له فيه؛ لجوازِ أَنْ يكونَ مبتدأً وخبراً مقدَّماً كما تقدَّم. وقال أبو البقاء:» وحُكِيَ بالجَرِّ أي: في جنَّةٍ دانية. وهو ضعيفٌ؛ لأنه عُطِفَ على الضميرِ المجرورِ من غيرِ إعادةِ الجارِّ «. قلت: يعني أنَّه قُرِىء شاذاً» ودانِيَةٍ «بالجَرِّ على أنها صفةٌ لمحذوفٍ، ويكونُ حينئذٍ نَسَقاً على الضميرِ المجرورِ بالجَرِّ مِنْ قولِه:» لا يَرَوْنَ فيها «أي: ولا في جنةٍ دانيةٍ. وهو رَأْيُ الكوفيين: حيث يُجَوِّزون العطفَ على الضميرِ المجرورِ مِنْ غيرِ إعادةِ الجارِّ؛ ولذلك ضَعَّفَه، وقد تقدَّم الكلامُ في ذلك مُشْبعاً في البقرة. وأمَّا رَفْعُ» ظلالُها «فيجوزُ أَنْ يكونَ مبتدأً و» عليهم «خبرٌ مقدمٌ، ولا يرتفع ب» دانية «؛ لأنَّ» دنا «يتعدَّى ب» إلى «لا ب» على «. والثاني: أنها مرفوعةٌ ب» دانية «على أَنْ تُضَمَّن معنى» مُشْرِفَة «لأنَّ» دنا «و» أَشْرَفَ «يتقاربان، قال معناه أبو البقاء، وهذان الوجهان جاريان في قراءةِ مَنْ نصبَ» دانيةً «أيضاً. وقرأ الأعمش» ودانِياً «بالتذكير للفَصْلِ بين الوَصْفِ وبين مرفوعِه ب» عليهم «، أو لأنَّ الجمعَ مذكرٌ. وقرأ أُبَيٌّ «ودانٍ عليهم» بالتذكير مرفوعاً، وهي شاهدةٌ لمذهبِ الأخفشِ، حيث يرفع باسمِ الفاعلِ. وإنْ لم يَعْتَمِد. ولا جائزٌ أَنْ يُعْرَبا مبتدأً وخبراً مقدَّماً لعدمِ المطابقةِ. وقال مكي: «وقُرِىء» دانِياً «ثم قال:» ويجوزُ «ودانيةٌ» بالرفعِ، ويجوزُ «دانٍ» بالرفعِ والتذكيرِ «ولم يُصَرِّح بأنهما قُرِئا، وقد تقدَّم أنهما مقروءٌ بهما فكأنَّه لم يَطَّلِعْ على ذلك. قوله: {وَذُلِّلَتْ} يجوزُ أَنْ يكونَ في موضع نصبٍ على الحال عطفاً على» دانِيَةً «فيمَنْ نَصَبَها أي: ومُذَلَّلةً. ويجوزُ أَنْ تكونَ حالاً من الضميرِ في» عليهم «سواءً نَصَبْتَ» دانِيَةً «أو رَفَعْتَها، أم جَرَرْتَها. ويجوزُ أَنْ تكونَ مستأنفةً. وأمَّا على قراءةِ رفعِ» ودانيةٌ «فتكونُ جملةً فعليةً عُطِفَتْ على اسميَّةٍ. ويجوز أَنْ تكونَ حالاً كما تقدَّمَ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(15)

هذا كقوله تعالى: (قطوفها دانية). وقيل كلما أرادوا أنْ يَقْطَعُوا شيئاً منها ذُلِّلَ لَهُمْ، ودنا منهم قُعُوداً كانوا أَوْ مُضْطَجِعينَ أَوْ قِيَاماً. * * * (وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ) قرئت غير مصروفة، وهذا الاختيار عند النحويين البصريين لأنَّ كل جمع يأتي بعد ألفه حرفان لا ينصرف. وقد فسرنا ذلك فيما سلف من الكتاب. ومَن قرأ (قواريراً) فصرف الأول فلأنَّهُ رأسُ آية، وترك صرف الثاني لأنه ليس بآخر آية، ومن صرف الثاني أتبْعَ اللَّفْظَ اللفظ، لأن العرب رُبَّما قَلَبَتْ إعراب الشيء ليتبع اللفظ اللفظ، فيقولون: هذا حُجْر ضَبِّ خَرِبٍ، وإنما الخرب من نعت الحُجْرِ، فكيف بما يترك صرفه، وجميع ماَ يترك صرفه يجوز صرفه في الشِعْرِ. * * * ومعنى (قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) أصل القوارير التي في الدنيا من الرمل، فأعلم اللَّهُ أن فضل تلك القوارير أن أَصْلَها مِنْ فِضةٍ يرى من خارجها مَا فِي دَاخِلها ومعنى: (قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا). أَي جُعِلَت بكون الِإناء عَلى قَدْرِ ما يحتاجون إليه وُيرِيدُونَهُ. وَقُرِئَتْ (قُدِّرُوها تَقْدِيراً). أي جعلت لهم على قدر إرادتهم (1). * * * (وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) أي يجمع طعم الزنجبيل، والعرب تصف الزنجبيل، وهو مستطاب عندها جدًّا قال الشاعر: كأَنَّ القَرنْفُلَ والزَّنْجَبِيلَ. . . باتا بِفيها وأَرْياً مَشُورا فجائز أن يكون طعم الزنجبيل فيها، وجائز أن يكون مزاجها وَلَا غائِلَةَ لَهُ كما قلنا في الكافور.

_ (1) قال السَّمين: قوله: {قَوَارِيرَاْ قَوَارِيرَاْ}: اختلف القُراء في هذَين الحرفَيْن بالنسبة إلى التنوين وعَدَمِهِ، وفي الوقوفِ بالألفِ وعَدَمِها كما تقدَّم خلافُهم في {سَلاَسِلَ}. واعلَمْ أنَّ القُرَّاء فيهما على خمسِ مراتبَ، إحداها: تنوينُهما معاً، والوقفُ عليهما: بالألفِ، لنافعٍ والكسائيِّ وأبي بكر. الثانيةُ: مقابِلَةُ هذه، وهي عَدَمُ تنوينِهما وعَدَمُ الوقفِ عليهما بالألفِ، لحمزةَ وحدَه. الثالثة: عَدَمُ تنوينِهما، والوقفُ عليهما بالألف، لهشامٍ وحدَه. الرابعة: تنوينُ الأولِ دونَ الثاني، والوقفُ على الأولِ بالألفِ، وعلى الثاني بدونِها، لابنِ كثيرٍ وحدَه. الخامسةُ: عَدَم تنوينِهما معاً، والوقفُ على الأولِ بالألفِ، وعلى الثاني بدونِها: لأبي عمروٍ وابن ذكوانَ وحفصٍ. فأمَّا مَنْ نَوَّنَهما فلِما مَرَّ في تنوينِ سلاسل؛ لأنَّهما صيغَةُ منتهى الجمع، ذاك على مَفاعلِ، وذا على مَفاعيل. والوقفُ بالألفِ التي هي بدلٌ من التنوين، وفيه موافقةُ المصاحفِ المذكورةِ فإنَّهما مَرْسومان فيها بالألفِ على ما نَقَلَ أبو عبيد. وأمَّا عَدَمُ تنوينِهما وعَدَمُ الوقفِ بالألف فظاهرٌ جداً. وأمَّا مَنْ نَوَّنَ الأولَ دونَ الثاني، فإنَّه/ ناسَبَ بين الأولِ وبين رؤوسِ الآيِ. ولم يناسِبْ بينَ الثاني وبين الأولِ. والوجهُ في وَقْفِه على الأولِ بالألفِ وعلى الثاني بغيرِ ألفٍ ظاهرٌ. وقد رَوَى أبو عُبيد أنه كذلك في مصاحِف أهلِ البصرة. وأمَّا مَنْ لم يُنَوِّنْهما، ووقف على الأولِ بالألفِ، وعلى الثاني بدونِها؛ فلأنَّ الأولَ رأسُ آيةٍ فناسَبَ بينه وبين رؤوس الآيِ في الوقفِ بالألفِ. وفَرَّق بينه وبين الثاني؛ لأنه ليسَ برأس آيةٍ. وأمَّا مَنْ لم يُنَوِّنْهما ووقف عليهما بالألفِ فلأنَّه ناسَبَ بين الأول وبين رؤوس الآيِ وناسَبَ بين الثاني وبين الأولِ. وحَصَل مِمَّا تقدَّم في «سلاسل» وفي هذَيْن الحرفَيْنِ أنَّ القُرَّاءَ منهم مَنْ وافَقَ مصحَفَه، ومنهم مَنْ خالفَه لاتِّباع الأثَرِ. وتقدَّم الكلامُ على «قوارير» في سورةِ النمل ولله الحمدُ. وقال الزمخشري: «وهذا التنوين بدلٌ مِنْ حرفِ الإِطلاقِ لأنَّه فاصلةٌ، وفي الثاني لإِتباعِه الأولَ» يعني أنَّهم يَأْتُون بالتنوينِ بدلاً مِنْ حرفِ الإِطلاق الذي للترنم، كقولِه: 4448 يا صاحِ ما هاجَ الدُّموعَ الذُّرَّفَنْ. . . وفي انتصابِ «قوارير» وجهان، أحدُهما وهو الظاهرُ أنَّه خبرُ كان. والثاني: أنها حالٌ، و «كان» تامةٌ أي: كُوِّنَتْ فكانَتْ. قال أبو البقاء: «وحَسُن التكريرُ لِما اتَّصل به مِنْ بيانِ أصلِها، ولولا التكريرُ لم يَحْسُنْ أَنْ يكونَ الأولُ رأسَ آيةٍ لشدَّةِ اتصالِ الصفةِ بالموصوفِ. وقرأ الأعمش» قواريرُ «بالرفع على إضمارِ مبتدأ أي: هي قوارير. و» مِنْ فضة «صفةٌ ل» قوارير «. قوله: {قَدَّرُوهَا} صفةٌ ل» قواريرَ «. والواو في» قَدَّروها «فيه وجهان، أحدهما: أنَّه للمُطافِ عليهم. ومعنى تقديرهم إياها: أنهم قَدَّروها في أنفسِهم أَنْ تكونَ على مقاديرَ وأشكالٍ على حَسَبِ شَهَواتِهم، فجاءَتْ كما قَدَّروا. والثاني: أنَّ الواو للطائفين للدلالةِ عليهم، مِنْ قولِه تعالى: «ويُطافُ» والمعنى: أنهم قَدَّروا شرابَها على قَدْر رِيِّ الشَّارِب، وهو ألذُّ الشرابِ لكونِه على مِقْدارِ حاجتِه لا يَفْضُل عنها ولا يَعْجِزُ، قاله الزمخشري. وجَوَّزَ أبو البقاء أَنْ تكونَ الجملةُ مستأنفةً. وقرأ عليٌّ وابنُ عباس والسُّلميُّ والشعبيُّ وزيدُ بن علي وأبو عمروٍ في روايةِ الأصمعيِّ «قُدِّرُوْها» مبنياً للمفعول. وجَعَله الفارسِيُّ مِنْ بابِ المَقْلوبِ قال: «كأنَّ اللفظ: قُدِّروا عليها. وفي المعنى قَلْبٌ؛ لأنَّ حقيقةَ المعنى أن يقال: قُدِّرَتْ عليهم، فهي مثلُ قولِه: {لَتَنُوءُ بالعصبة أُوْلِي القوة} [القصص: 76] ومثلُ قولِ العرب:» إذا طَلَعَتِ الجَوْزاءُ أُلْقِيَ العُوْدُ على الحِرْباء «. وقال الزمخشري:» ووجهُه أَنْ يكونَ مِنْ قُدِّر منقولاً مِنْ قَدَرَ. تقول: قَدَرْتُ [الشيءَ] وقَدَرَنيه فلان، إذا جعلك قادراً له ومعناه: جُعلوا قادرين لها كما شاؤوا، وأُطْلِق لهم أَنْ يُقَدِّروا على حَسَبِ ما اشْتَهَوْا «. وقال أبو حاتم:» قُدِّرَتْ الأواني على قَدْرِ رِيِّهم «ففَسَّر بعضُهم قولَ أبي حاتمٍ هذا قال:» فيه حَذْفٌ على حَذْفٍ: وهو أنه كان: «قُدِّرَ على قَدْرِ ريِّهم إياها» ثم حُذِفَ «على» فصار: «قَدْرُ رِيِّهم» على ما لم يُسَمَّ فاعِلُه، ثم حُذِف «قَدْرُ» فصار «رِيُّهم» ما لم يُسَمَّ فاعلُه، فحُذِفَ الرِّيُّ فصارَتِ الواوُ مكانَ الهاءِ والميمِ، لَمَّا حُذِفَ المضافُ مِمَّا قبلَها، وصارَتِ الواوُ مفعولَ ما لم يُسَمَّ فاعلُه، واتصلَ ضميرُ المفعولِ الثاني في تقديرِ النصبِ بالفعلِ بعدَ الواوِ التي تَحَوَّلَتْ من الهاءِ والميم، حتى أُقيمَتْ مُقامَ الفاعل «. قلت: وفي هذا التخريجِ من التكلُّف ما لا يَخْفَى مع عَجْرَفَةِ ألفاظِه. وقال الشيخ:» والأقربُ في تخريج هذه القراءةِ الشاذَّة: «قُدِّرَ رِيُّهم منها تقديراً» فحُذِف المضافُ وهو الرِّيُّ، وأُقيم الضميرُ مُقامَه، فصار التقديرُ: قُدِّروا مِنْها، ثم اتُّسِع في الفعل فحُذِفَتْ «مِنْ» ووصَلَ الفعلُ إلى الضميرِ بنفسِه فصار: «قُدِّرُوْها» فلم يكن فيه إلاَّ حَذْفُ مضافٍ واتِّساعٌ في الفعل «. قلت: وهذا مُنْتَزَعٌ من تفسيرِ كلامِ أبي حاتم. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(18)

وقوله: (عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18) المعنى يسقون عيناً، وسَلْسَبِيل اسم العَيْن إلا أنه صرف لأنه رأس آية. وسَلْسَبيل في اللغَةِ صفَة لما كان في غاية السلاسة، فكأنَّ العيق - واللَّه أعلم - سميت بصفتها (1). * * * (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19) أي يخدمهم وصفاء مُخَلَّدُونَ، وتأويل (مُخَلَّدُونَ) أي لا يجوز واحد منهم حَدَّ الوَصَافة أَبداً هو وصيف، والعرب تقول للرجل الذي لا يشيب: هو مُخَلَّدٌ. ويقال مُخَلَّدُونَ محلَّون عليهم الحلَى، ويقال لجماعة الحلى الخَلَدَة. * * * وقوله: (حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا). أي هم في حسن ألوأنهم وصفائها كاللؤلؤ المنثور. * * * قوله: (وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) جاء في التفسير أنه " ملكا كبيراً " أنهم تسلم عليهم الملائكة. وجَاء أَيضاً تستأذن عليهم الملائكة، وَ (ثَمَّ) يعنَى به الجنة، والعامل في (ثَمَّ) مَعْنَى رَأيْتَ. المعنى وَإذَا رأيت ببصرك (ثَمَّ). وقيل المعنى وإذا رأيت مَا (ثَمَّ) رَأَيتَ نَعِيماً وهذا غَلَطٌ لأن ما موصولة بقوله (ثَمَّ) على هذا التفسير - ولا يجوز إسقاط الموصول وترك الصلة، ولكن " رأيت " يتعدى في المعنَى إلى (ثَمَّ). * * * وقوله: (عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) (عَالِيْهُمْ) بإسكان الياء، وَقرِئَتَ (عَالِيَهُمْ) - بفتح الياء - وقرئت عَلَيْهم - بغير ألف (ثِيَابُ سُنْدُسٍ). وهذه الثلاثة توافق المصحف وكلها حسن في العربية، وقرئ على وجهين غير هذه الثلاثة. قرئت (عَالِيَتُهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ) - بالرفع والتأنيث - وَ (عَالِيَتَهُمْ) بالنَّصْبِ - وهذا الوجهان جَيِّدان في العربية إلا أَنَهمَا يخالفان

_ (1) قال السَّمين: قوله: {سَلْسَبِيلاً}: السَّلْسَبيل: ما سَهُل انحدارُه في الحَلْف. قال الزجاج: «هو في اللغة صفةٌ لِما كان في غايةِ السَّلاسَة». وقال الزمخشري: «يقال: شَرابٌ سَلْسَلٌ وسَلْسالٌ وسَلْسبيل، وقد زِيْدت الباءُ في التركيبِ حتى صارَتِ الكلمةُ خماسيَّةً، ودَلَّتْ على غايةِ السَّلاسَةِ». قال الشيخ: «فإنْ كان عَنى أنَّه زِيْدت حقيقةً فليس بجيدٍ؛ لأنَّ الباءَ ليسَتْ من حروف الزيادةِ المعهودةِ في علمِ النحوِ، وإنْ عَنَى أنها حرفٌ جاء في سِنْخِ الكلمةِ، وليس في سَلْسَل ولا سَلْسال فَيَصِحُّ، ويكون مما اتَّفَقَ معناه، وكان مختلفاً في المادة». وقال ابن الأعرابي: «لم أسمَعْ السَّلْسبيلَ إلاَّ في القرآنِ». وقال مكي: «هو اسمٌ أعجميُّ نكرةٌ، فلذلك صُرِفَ». ووزن سَلْسَبيل: فَعْلَلِيْل مثلَ «دَرْدَبيس». وقيل: فَعْفَليل؛ لأنَّ الفاءَ مكررةٌ. وقرأ طلحةُ «سَلْسَبيلَ» دونَ تنوينٍ ومُنِعَتْ من الصرف للعلميَّةِ والتأنيث؛ لأنها اسمٌ لعَيْنٍ بعينها، وعلى هذا فكيف صُرِفَتْ في قراءةِ العامَّةِ؟ فيُجاب: بأنُّه سُمِّيَتْ بذلك لا على جهة العَلَمِيَّة بل على جهة الإطلاقِ المجرَّدِ، أو يكونُ مِنْ بابِ تنوين {سَلاَسِلَ} [الإِنسان: 4] {قَوَارِيرَاْ} [الإِنسان: 15] وقد تقدَّمَ. وأغربُ ما قيل في هذا الحرف أنه مركبٌ من كلمَتَيْن: مِنْ فعلِ أمرٍ وفاعلٍ مستترٍ ومفعولٍ. والتقدير: سَلْ أنت سَبيلا إليها. قال الزمخشري: «وقد عَزَوْا إلى عليٍّ رضي الله عنه أنَّ معناه: سَلْ سبيلاً إليها». قال: «وهذا غيرُ مستقيمٍ على ظاهِره، إلاَّ أنْ يُرادَ أنَّ جملةَ قولِ القائلِ» سَلْ سبيلاً «جَعِلَتْ عَلَماً للعين، كما قيل: تأبَّط شَرَّاً وذَرَّى حبَّا. وسُمِّيت بذلك لأنه لا يَشْرَبُ منها إلاَّ مَنْ سأل سبيلاً إليها بالعمل الصالِح، وهو مع استقامتِه في العربية تكلُّفٌ وابتداعٌ وعَزْوُه إلى مثلِ عليّ عليه السلام أَبْدَعُ. وفي شعرِ بعضِ المُحْدَثين: 4451 سَلْ سبيلاً فيها إلى راحةِ النَّفْ. . . سِ براحٍ كأنَّها سَلْسَبيلُ قال الشيخ بعد تعجُّبِه مِنْ هذا القول:» وأَعْجَبُ مِنْ ذلك توجيهُ الزمخشريِّ له واشتغالُه بحكايتِه «. قلت: ولو تأمَّل ما قاله الزمخشريُّ لم يَلُمْه، ولم يتعجَّبْ منه؛ لأنَّ الزمخشري هو الذي شَنَّعَ على هذا القولِ غاية التشنيع. وقال أبو البقاء:» والسلسبيلُ كلمةٌ واحدةٌ «. وفي قوله:» كلمة واحدة «تلويحٌ وإيماءٌ إلى هذا الوجهِ المذكور. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

المصحف، ولا أرى القراءة بهما، وقرَّاء الأمصار ليس يَقْرَأُونَ بِهِمَا (1). فأما تفسير إسكان (عَالِيهِمْ) بإسكان الياء، فيكون رفعه بالابتداء، ويكون خبره (ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ). ومن نَصَبَ فقال: (عَالِيَهُمْ) بفتح الياء، فقال بعض النحويين إنه ينصبه على الظرْفِ، كما تقول فوقَهُم ثياب، وهذا لا نعرفه في الظروف، ولو كان ظرفاً لم يَجُزْ إسكان الياء. ولكن نصبه على الحال من شيئين: أحدهما من الهاء والميم، المعنى يطوف على الأبرار وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ عَالِياً الأبْرَارَ ثيابُ سندسٍ لأنه وقدْ وصف أحوالهم في الجنَّةِ، فيكون المعنى يطوف عليهم في هذه الحال هؤلاء. ويجوز أن يكون حالا من الولدان. المعنى إذا رَأَيْتَهُمْ حسبتهم لُؤلُؤاً منثوراً في حال علو الثياب إياهم. فالنصب على هذا بين. فأما " عَلَيْهم ثيابُ سُنْدُسٍ " فرفع كقولك عليك مَالٌ فترفعُهُ بالابتداء، ويكون المعنى وثياب سندس عليهم. وتفسير نصب عاليتهم ورفعها كتفسير عاليهم. والسندس الحرير. وقد قرئت خُضرٌ وخُضْرٍ. فمن قرأ (خضرٌ) فهو أحسن لأنه يكون نعتاً للثياب، فلفظ الثياب لفظ الجميع، وخُضْرٌ لفظها لفظ الجمع. ومن قرأ خُضْرٍ فهو من نعت السندس، والسُّندُسُ في المعنى راجع إلى الثياب. وقرئت (وَإِسْتَبْرَقٌ) وهو الدِّيبَاج الصَّفِيق الغليظ الخشن. وقرئت بالرفع والجر. فمن رفع فهو عطف على ثياب المعنى عليهم إستبرق. ومن جر عطف على السندس. ويكون المعنى: عليهم ثياب من هذين النوعين ثياب سندس وإستبرق. وقرئت (وَإِسْتَبْرَقَ) على وجهين غير هذين الوجهين، كلاهما ضَعِيف في العربية جدًّا، قرئت (وَإِسْتَبْرَقَ) وَحُلُّوا - بنصب (إِسْتَبْرَقَ) - وهو في موضع الجر ولم يصرف، قرأها ابن مُحْيصِن، وزعموا أنه لم يصرفه لأن (وَإِسْتَبْرَق) اسم أعجمى، وأصله بالفارسية استبره، فلما حول إلى العربية لم يصرف وهذا غلط لأنه نكرة ألا ترى أن الألف واللام يدخلانه، تقول: السندس والإستبرق. والوجه الثاني، واستبرَق وَحُلُّوا - بطرح الألف - جعل الألف ألف

_ (1) قال السَّمين: قوله: {عَالِيَهُمْ}: قرأ نافعٌ وحمزةٌ بسكونِ الياءِ وكسرِ الهاء، والباقون بفتح الياءِ وضَمِّ الهاء. لَمَّا سَكَنَتِ الياءُ كُسِرَتْ الهاءُ، ولَمَّا تَحَرَّكَتْ ضُمَّت على ما تَقَرَّرَ في هاءِ الكنايةِ أولَ هذا الموضوعِ. فإمَّا قراءةُ نافعٍ وحمزةَ ففيها أوجهٌ، أظهرُها: أَنْ تكونَ خبراً مقدَّماً. و «ثيابُ» مبتدأٌ مؤخرٌ، والثاني: أنَّ «عالِيْهم» مبتدأ و «ثيابُ» مرفوعٌ على جهةِ الفاعلية، وإنْ لم يعتمد الوصفُ، وهذا قولُ الأخفشِ. والثالث: أنَّ «عالِيْهم» منصوبٌ، وإنما سُكِّن تخفيفاً، قاله أبو البقاء. وإذا كان منصوباً فسيأتي فيه أوجهٌ، وهي وارِدَة هنا؛ إلاَّ أنَّ تقديرَ الفتحةِ من المنقوصِ لا يجوزُ إلاَّ في ضرورةٍ أو شذوذٍ، وهذه القراءةُ متواترةٌ فلا ينبغي أَنْ يُقالَ به فيها. وأمَّا قراءةُ مَنْ نَصَبَ ففيه أوجهٌ، أحدُها: أنَّه ظرفٌ خبراً مقدماً، و «ثيابُ» مبتدأٌ مؤخرٌ كأنه قيل: فوقَهم ثيابُ. قال أبو البقاء: «لأنَّ عالِيَهم بمعنى فَوْقَهم. وقال ابن عطية:» ويجوز في النصبِ أَنْ تكونَ على الظرف لأنَّه بمعنى فوقهم «. قال الشيخ:» وعالٍ وعالية اسمُ فاعلٍ، فيحتاج في [إثبات] كونِهما ظرفَيْن إلى أَنْ يكونَ منقولاً مِنْ كلامِ العرب: عالِيَك أو عاليتُك ثوبُ «. قلت: قد وَرَدَتْ ألفاظٌ مِنْ صيغةِ أسماءِ الفاعِلِيْن ظروفاً نحو: خارجَ الدار وداخلَها وباطنَها وظاهرَها. تقول: جلَسْتُ خارج الدارِ، وكذلك البواقي فكذلك هذا. الثاني: أنَّه حالٌ من الضمير في {عَلَيْهِمْ} [الإِنسان: 19]. الثالث: أنه حالٌ مِنْ مفعولِ {حَسِبْتَهُمْ} [الإِنسان: 19]. الرابع: أنه حالٌ مِنْ مضافٍ مقدرٍ، أي: رَأَيْتَ أهلَ نعيم ومُلكٍ كبير عالَيهم. ف» عاليَهم «حالٌ مِنْ» أهل «المقدرِ. ذكرَ هذه الأجهَ الثلاثةَ الزمخشريُّ فإنه قال:» وعاليَهم بالنصبِ على أنَّه حالٌ من الضميرِ في «يَطوف عليهم» أو في «حَسِبْتَهم»، أي: يطوفُ عليهم وِلْدانٌ عالياً للمَطوفِ عليهم ثيابٌ، أو حَسِبْتَهم لؤلؤاً عاليَهم ثيابٌ. ويجوزُ أَنْ يراد: [رأيت] أهلَ نعيم «. قال الشيخ:» أمَّأ أَنْ يكونَ حالاً من الضمير في «حَسِبْتَهم» فإنه لا يعني إلاَّ ضمير المفعول، وهو لا يعودُ إلاَّ على «وِلدانٌ» ولذلك قدَّر «عاليَهم» بقوله: «عالياً لهم»، أي: للوِلْدان. وهذا لا يَصْلُحُ؛ لأنَّ الضمائر الآتية بعد ذلك تَدُلُّ على أنها للمَطوفِ عليهم مِنْ قوله: «وحُلُّوا» و «سَقاهم» و {إِنَّ هذا كَانَ لَكُمْ جَزَآءً} وفَكُّ الضمائر وَجَعْلُ هذا لذا، وهذا لذا، مع عدمِ الاحتياجِ والاضطرارِ إلى ذلك، لا يجوزُ. وأمَّا جَعْلُه حالاً مِنْ محذوفٍ وتقديرُه: أهلَ نعيم فلا حاجةَ إلى ادِّعاء الحَذْفِ مع صحةِ الكلامِ وبراعتِه دونَ تقديرِ ذلك المحذوفِ «. قلت: جَعْلُ أحَدِ الضمائر لشيءٍ والآخرِ لشيءٍ آخرَ لا يمنعُ صحةَ ذلك مع ما يميِّزُ عَوْدَ كلِّ واحدٍ إلى ما يليقُ به، وكذلك تقديرُ المحذوفِ غيرُ ممنوعٍ أيضاً، وإنْ كان الأحسنُ أَنْ تتفقَ الضمائرُ، وأن لا يُقَدَّرَ محذوفٌ، والزمخشريُّ إنما ذَكَرَ ذلك على سبيل التجويزِ، لا على أنَّه أَوْلى أو مساوٍ، فَيُرَدُّ عليه بما ذكره. الخامس: أنه حالٌ مِنْ مفعول «لَقَّاهم». السادس: أنه حال مِنْ مفعول «جَزاهُمْ» ذكرهما مكي. وعلى هذه الأوجهِ التي انتصبَ فيها على الحالِ يرتفعُ به «ثيابُ» على الفاعلية، ولا تَضُرُّ إضافتُه إلى معرفةٍ في وقوعِه حالاً؛ لأنَّ الإِضافةَ لفظيةٌ، كقولِه تعالى: {عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا} [الأحقاف: 24] [وقولِه:] 4452 يا رُبَّ غابِطِنا. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ولم يؤنَّثْ «عالياً» لأنَّ مرفوعَه غير حقيقيِّ التأنيثِ. السابع: أَنْ ينتصِبَ «عاليَهم» على الظرفيةِ، ويرتفع «ثيابُ» به على جهة الفاعلية. وهذا ماشٍ على قولِ الأخفش والكوفيين حيث يُعملون الظرفَ وعديلَه وإنْ لم يَعْتمد، كما تقدَّم ذلك في الوصفِ. وإذا رُفعَ «عاليَهم» بالابتداء و «ثيابُ» على أنه فاعلٌ به كان مفرداً على بابِه لوقوعِه موقعَ الفعلِ، وإذا جُعل خبراً مقدَّماً كان مفرداً مُراداً به الجمعُ، فيكونُ كقولِه تعالى: {فَقُطِعَ دَابِرُ القوم} [الأنعام: 45]، أي: أدبار، قاله مكي. وقرأ ابن مسعود وزيد بن علي «عاليتُهم» مؤنثاً بالتاء مرفوعاً. والأعمش وأبان عن عاصم كذلك، إلاَّ أنه منصوبٌ، وقد عَرَفْتَ الرفعَ والنصبَ ممَّا تقدَّم، فلا حاجةَ لإِعادتهما. وقرأَتْ عائشة رضي الله عنها «عَلِيَتْهم» فعلاً ماضياً متصلاً بتاء التأنيث الساكنة، و «ثيابُ» فاعلٌ به، وهي مقوِّيَةٌ للأوجه المذكورة في رفع «ثياب» بالصفةِ في قراءة الباقين كما تقدَّم تفصيلُه. وقرأ ابنُ سيرين ومجاهد وأبو حيوة وابن أبي عبلة وخلائق «عليهم»، جارَّاً ومجروراً، وإعرابُه كإعرابِ «عاليَهم» ظرفاً في جوازِ كونِه خبراً مقدَّماً، أو حالاً ممَّا تقدَّم، وارتفاعُ «ثيابُ» به على التفصيلِ المذكورِ آنفاً. وقرأ العامَّةُ/ «ثيابُ سُنْدُسٍ» بإضافةِ الثيابِ لِما بعدها. وأبو حيوةَ وابنُ أبي عبلةَ «ثيابٌ» منونةً «سُندُسٌ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ» برفعِ الجميعِ، ف «سندسٌ» نعتٌ ل «ثيابٌ» لأنَّ السُّنْدسَ نوعٌ، و «خُضْرٌ» نعتٌ ل «سندس»؛ إذ السندسُ يكونُ أخضرَ وغيرَ أخضرَ، كما أنَّ الثيابَ يكونُ سُنْدُساً وغيرَه. و «إستبرقٌ» نَسَقٌ على ما قبلَه، أي: وثياب استبرق. واعلَمْ أنَّ القرَّاءَ السبعةَ في «خُضْر وإستبرق» على أربع مراتبَ، الأولى: رَفْعُهما، لنافعٍ وحفصٍ فقط. الثانية: خَفْضُهما، للأخوَيْن فقط. الثالثة: رَفْعُ الأولِ وخفضُ الثاني لأبي عمروٍ وابنِ عامرٍ فقط. الرابعةُ عكسُ الثالثةِ، لابنِ كثيرٍ وأبي بكرٍ فقط. فأمَّا القراءةُ الأولى: فإنَّ رَفْعَ «خُضْرٌ» على النعتِ ل ثياب، ورَفْعَ «إستبرقٌ» نَسَقاً على الثياب، ولكن على حَذْفِ مضافٍ، أي: وثيابُ إستبرقٍ. ومثلُه: «على زيدٍ ثوبُ خَزٍّ وكتَّانٌ» أي: وثوبُ كُتَّانٍ. وأمَّا القراءةُ الثانية فيكونُ جَرُّ «خُضْرٍ» على النعتِ لسُنْدسٍ. ثم اسْتُشْكِل على هذا وَصْفُ المفردِ بالجمعِ فقال مكي: «هو اسمٌ للجمع. وقيل: هو جمعُ سُنْدُسَة» كتَمْر وتَمْرة، واسمُ الجنسِ وَصْفُه بالجمع سائغٌ فصيحٌ. قال تعالى: {وَيُنْشِىءُ السحاب الثقال} [الرعد: 12]. وإذا كانوا قد وَصَفوا المفردَ المُحَلَّى لكونِه مُراداً به الجنسُ بالجمعِ في قولِهم: «أَهْلَكَ الناسَ الدِّينارُ الحُمْرُ والدِّرْهَمُ البيضُ»، وفي التنزيل: {أَوِ الطفل الذين} [النور: 31] فَلأَنْ يُوْجَدَ ذلك في أسماءِ الجموعِ أو أسماءِ الأجناسِ الفارقِ بينها وبين واحدِها تاءُ التأنيثِ بطريقِ الأَوْلى. وجَرُّ «إستبرق» نَسَقاً على «سندسٍ» لأنَّ المعنى: ثيابٌ مِنْ سُندسٍ وثيابٌ مِنْ إستبرق. وأمَّا القراءةُ الثالثةُ فرَفْعُ «خُضْرٌ» نعتاً ل «ثيابٌ» وجَرُّ «إستبرقٍ» نَسَقاً على «سُنْدُسٍ»، أي: ثيابٌ خضرٌ مِنْ سُندسٍ ومِنْ إستبرقٍ، فعلى هذا يكون الإِستبرقُ أيضاً أخضرَ. وأمَّا القراءةُ الرابعة فجَرُّ «خُضْرٍ» على أنه نعتٌ لسُنْدس، ورَفْعُ «إستبرقٌ» على النَّسَقِ على «ثياب» بحَذْفِ مضافٍ، أي: وثيابُ إستبرق. وتقدَّم الكلامُ على مادةِ السُّنْدُس والإِستبرق وما قيل فيهما في سورة الكهف. وقرأ ابنُ مُحيصنٍ «وإستبرقَ» بفتحِ القافِ. ثم اضطرب النَّقْلُ عنه في الهمزة: فبعضُهم يَنْقُل عنه أنه قَطَعها، وبعضهم ينقُلُ عنه أنه وَصَلَها. فقال الزمخشري: «وقُرِىءَ» وإسْتبرقَ «نصباً في موضعِ الجرِّ على مَنْعِ الصرفِ؛ لأنَّه أعجميٌّ وهو غَلَطٌ؛ لأنَّه نكرةٌ يَدْخُلُهُ حرفُ التعريف. تقول:» الإِستبرق «إلاَّ أَنْ يَزْعُمَ ابن مُحيصن أنه يُجْعَلُ عَلَماً لهذا الضَّرْبِ من الثيابِ. وقُرِىءَ» واستبرقَ «بوصْل الهمزةِ والفتح، على أنَّه مُسَمَّى باسْتَفْعل من البَريق، ليس بصحيحٍ أيضاً؛ لأنَّه مُعَرَّب مشهورٌ تعريبُه، وأنَّ أصلَه اسْتَبْرَه. وقال الشيخ:» ودلَّ قولُه «إلاَّ أَنْ يزعمَ ابنُ محيصن» وقولُه بعدُ: «وقُرىء» واسْتبرق «بوَصْلِ الألفِ والفتح أنَّ قراءةَ ابنِ محيصن هي بقَطْعِ الهمزةِ مع فتحِ القافِ. والمنقولُ عنه في كتبِ القراءاتِ أنَّه قرأ بوَصْل الألفِ وفتح القافِ». قلت: قد سَبَقَ الزمخشريُّ إلى هذا مكيٌّ فقال: «وقد قرأ ابنُ محيصن بغيرِ صَرْفٍ، وهو وهمٌ إنْ جعلَه اسماً لأنه نكرةٌ منصرفةٌ. وقيل: بل جَعَله فعلاً ماضياً مِنْ بَرِقَ فهو جائزٌ في اللفظِ، بعيدٌ في المعنى. وقيل: إنَّه في الأصلِ فعلٌ ماضٍ على اسْتَفْعل مِنْ بَرِقَ، فهو عربيٌّ من البريق، لمَّا سُمِّي به قُطِعَتْ ألفُه؛ لأنه ليس مِنْ أصلِ الأسماءِ أَنْ يدخلَها ألفُ الوصلِ، وإنما دَخَلَتْ في أسماءٍ معتلةٍ مُغَيَّرَةٍ عن أصلِها معدودةٍ لا يُقاسُ عليها «انتهى. فدلَّ قولُه:» قُطِعَتْ ألفُه «/ إلى آخرِه أنه قرأ بقطعِ الهمزةِ وفتحِ القافِ. ودلَّ قولُه أولاً:» وقيل: بل جعله فعلاً ماضياً مِنْ بَرِقَ «أنه قرأ بوَصْلِ الألفِ؛ لأنَّه لا يُتَصَوَّرُ أ

(24)

وصل، وجعله مُسمًّى بالفعل من البريق، وهذا خطأ لأن الإستبرق معروف معلوم أنه اسم نُقِل من العجمية إلى العربية كما سمي الديباج وهو منقول من الفارسية. * * * قوله عزَّ وجلَّ: (وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا) جاء في التفسير أنهم إذا شربوه ضمِرَت بُطُونُهم وَرَشَحَتْ جُلُودَهم عرقاً كرائحة المسك، وقيل إنه طهور ليس برجس كخمر الدنيا. * * * قوله: (وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا (24) أو ههنا أوكد من الواو، لأن الواو إذَا قُلتَ: لا تطع زيداً وعَمراً فأطاع أحدهما كان غير عاص، لأنه أمره ألا يطيع الاثنين. فإذا قالَ (وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا) " أو " قد دلت على أنَّ كل واحد منهما أهل لأن يعصى، وكما أنك إذا قلت: لا تخالف الحسن أو ابن سيرين، أو: اتبع الحسن أو ابن سيرين، فقد قلت: هذان أهل أن يُتبَعَا، وكل واحد منهما أهل وقد فسرنا مثل هذا التفسير في غَيْرِ هذا الحرف في أول سورة البقرةِ في قوله تعالى: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا) إلى آخر الآية - وَبَعْدَ ذلك (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ) وتأويله مِثْلُهُم لأنك إنْ جَعَلْتَ مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً، أو مَثلَّتَهُم بالصَّيِّبٍ أوْ بِهِمَا جميعاً فأنت مُصِيبٌ. * * * ْوقوله عزَّ وجلَّ: (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25) الأصيلُ العَشِى، يقال: قَدْ أَصَلْنَا إذا دخلوا في الأصيل، وهو العشِي. * * * قوله: (نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (28) (أَسْرَهُمْ) خلقهم جاء في التفسير أيضاً مَفَاصِلُهُمْ. -

(30)

وقوله (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30) أي لستم تشاءون إلا بمشيئة اللَّه. * * * (وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31) نصب (الظالمين) لأن قبله مَنْصُوباً. المعنى يدخل من يشاء في رحمته ويعذبُ الظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا، ويكون (أَعَدَّ لَهُمْ) تفسيراً لهذَا المضمر. وقرئت (والظالمون) ولا أرى القراءة بها، من وجهين: أحدهما خلاف المصحف. والآخر إن كانت تجوز في العربية على أن يرفع الظالمين بالابتداء. والذي بعد الظالمين خبر الابتداء، فإن الاختيار عند النحويين البصريين النصب، يقول النحْوِيُونَ أعطيت زيداً وعَمْراً أَعَدَدْتُ له بُرا. فيختارون النصب على معنى وَبَرَرْتُ عَمراً وَأَبر عَمراً أعددت له بُرا، فلا يختارون للقرآن إلا أَجْوَد الوجوه، وهذا مع موافقة المصحف.

سورة المرسلات

سُورَةُ الْمُرْسَلَاتِ (مَكِّيَّة) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قال أبو إسحاق: قوله عزَّ وَجلَّ: (وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1) جاء في التفسير أنها الريَاح أرسلت كعرف الفرس، وكذلك: (فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (3). الرياح تأتي بالمطر كما قال عزَّ وجلَّ: (وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) (1). * * * وقوله: (فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4) يعنى به الملائكة جاءت بما يفرق بين الحق والبَاطلِ، وكذلك * * * (فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5) يعنى الملائكة. وقيل في تفسير (والمرسلات) أنها الملائكة أرسلت بالمعروف. وقيل إنها لعرف الفرس. وقيل - (فالعَاصِفَاتِ عَصْفاً) الملائكة تعصف بروح الكافِر؛ والباقي إلى آخر الآيات يعنى به الملائكة أيضاً. وفيه وجه ثالث، (وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا) يعني به الرسل. (فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا) الرياح، (فالناشرات نشراً) الرياح. (فالفارقات فرقاً) على هذا - التفسير الرسل أيضاً. وكذلك (فالملقيات ذِكراً). وهذه كلها مجرورة على جهة القسم، وجواب القسم (إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7)

_ (1) قال السَّمين: قوله: {عُرْفاً}: فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنَّه مفعولٌ مِنْ أجلِه، أي: لأجلِ العُرْفِ وهو ضِدُّ النُّكْرِ. والمرادُ بالمُرْسَلاتِ: إمَّا الملائكةُ، وإمَّا الأنبياءُ، وإمَّا الرِّياحُ أي: والملائكةُ المُرْسَلاتُ، أو والأنبياء المُرْسَلات، أو والرياحُ المُرْسَلات. والعُرْفُ: المعروفُ والإِحسانُ. قال الشاعر: 4454 مَنْ يَفْعَلِ الخيرَ لا يَعْدَمْ جَوازِيَهُ. . . لا يَذْهَبُ العُرْفُ بينَ اللَّهِ والناسِ وقد يُقال: كيف جَمَعَ صفةَ المذكرِ العاقلِ بالألفِ والتاءِ، وحقُّه أَنْ يُجْمَعَ بالواوِ والنونِ؟ تقول: الأنبياءُ المُرْسَلونَ، ولا تقولُ: المُرْسَلات. والجوابُ: أنَّ المُرْسَلات جَمْعُ مُرْسَلة، ومُرْسَلة صفةٌ لجماعةٍ من الأنبياء، فالمُرْسَلات جمعُ «مُرْسَلة» الواقعةِ صفةً لجماعة، لا جمعُ «مُرْسَل» المفردِ. الثاني: أَنْ ينتصِبَ على الحالِ بمعنى: متتابعة، مِنْ قولِهم: جاؤوا كعُرْفِ الفَرَس، وهم على فلانٍ كعُرْف الضَّبُع، إذا تألَّبوا عليه. الثالث: أَنْ ينتصِبَ على إسقاطِ الخافضِ أي: المُرْسَلاتِ بالعُرْفِ. وفيه ضَعْفٌ، وقد تقدَّمَ الكلامُ على العُرْف في الأعراف. والعامَّةُ على تسكينِ رائِه، وعيسى بضمِّها، وهو على تثقيلِ المخففِ نحو: «بَكُر» في بَكْر. ويُحتمل أَنْ يكونَ هو الأصلَ، والمشهورةُ مخففةٌ منه، ويُحْتَمَلُ أَنْ يكونا وزنَيْنِ مستقلَّيْن. قوله: {عَصْفاً}: مصدرٌ مؤكِّدٌ لاسمِ الفاعلِ، والمرادُ بالعاصفات: الرياحُ أو الملائكةُ، شُبِّهَتْ بسُرْعة جَرْيِها في أمرِ الله تعالى بالرياحِ، وكذلك «نَشْراً» و «فَرْقاً» انتصبا على المصدرِ أيضاً. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(6)

وقال بعض أهل اللغة: المعنى وربِّ المرسلات، وهذه الأشياء كما قال: (فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ). وقرئت عَرْفاً وَعُرفاً والمعنى واحد في العرف والعرف. * * * وقوله: (عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6) وقرئت عُذُراً أَو نُذُراً. فمعناهما المصدَرُ، والعذْرُ والعُذارُ بمعنى وَاحِدٍ. ونصب (عُذْرًا أَوْ نُذْرًا) على ضربين: أحدهما مفعول على البدل من قوله ذِكراً. المعنى فالملقيات عذراً أو نُذْراً، ويكون نصباً بِذِكراً، فالمعنى فالملقيات أن ذكرت عذراً ونذراً. ويجوز أن يكون نصب عُذْراً أَو نُذْراً على المفعول له، فيكون المعنى فالملقيات ذكراً للإعذار والإنذار. * * * وقوله: (فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) معناه أُذْهِبَتْ وغُطيَتْ. * * * (وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (9) معناه شقَّت كما قال عزَّ وجلَّ: (إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ). * * * (وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (10) ذهب بها كلها بسرعة، يقال انتسفت الشيء إذَا أَخذته كله بسرعة. * * * (وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) وقرئت (وُقِّتَتْ) بالواو، والمعنى واحد، فمن قرأ (أُقِّتَتْ) بالهمز فإنه أبدل الهمزة من الواو لانضمام الواو، فكل واو انضمت وكانت ضمتها لازمةً جاز أن تبدل منها همزة، ومعنى (وُقِّتَتْ) جعل لها وقت وأجل. * * * قوله: (لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12)

(13)

ثم بَينَ فقال: (لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) أي أجلت القضاء فيما بينها وبين الأمم ليوم الفصل. * * * قوله: (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15) (ويلٌ) مرفوع بالابتداء. و (لِلْمُكَذِّبِينَ) الخبر، ويجوز في العربية (وَيْلاً يَوْمَئِذٍ) ولا يجيزه القراء لمخالفة المصحف * * * قوله عزَّ وجلَّ: (أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) على الاستئناف، ويقرأ ثم نتبعْهم - بالجزم عطف على نهلك، ويكون المعنى أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ أي أَولًا وَآخِراً. ومن رفع فعلى معنى ثم نُتبع الأول الآخر من كل مجرم. * * * قوله عزَّ وجلَّ: (كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) موضع الكاف نصب، المعنى مثل ذلك نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ * * * قوله: (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26) (كفاتاً) ذات جمع، المعنى تضمهم أَحْيَاءً على ظُهُورِها، وأمواتاً في بطنها، و (أحياء) منصوب بقوله (كِفَاتَاً)، يقال كفت الشيء أكفته إذا جمعته وضممته. (وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا (27) أي جبالاً ثوابت، يقال رسا الشيء يَرْسُو إذا ثبت (شَامِخَاتٍ) مرتفعات. (وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا) أَي عَذْبأ. * * * قوله: (انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) يعنى النار لأنهم كذَبوا بالبعث والنشور والنار (انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30)

(32)

يعنى بالظل ههنا دُخَانُ جَهَنَّمَ، ثم أعلم عزَّ وجلَّ أنه ليس بظليل ولا يدفع من لهب النار شيئاً فقال: (لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) جاء في التفسير أنه القصرُ مِنْ هذِه القُصُورِ، وقيل القصر جمع قَصَرة. وهو الغليظ من الشجر، وقرئت كالقَصَرِ - بفتح الصاد - جمع قَصَرَةُ أي كأنَّها أعناق الإبِلَ. * * * وقوله: (كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (33) يقرأ (جِمَالاتٌ) وجُمَالاتٌ، - بضم الجيم وكسرها - يُعْنَى أن الشرر كالجمال السُّودِ، يقال للإبل التي هي سود تضرب إلى الصُّفْرَةِ: إبل صُفْر. فمن قرأ (جِمَالاتٌ) بالكسر فهو جمع جِمَال، كما تقول بُيُوت وبيوتات وهو جمع الجمع، ومن قرأ (جُمَالاتٌ) بالضم فهو جمع جمالة. وهو القَلْسُ من قلوس سفن البحر، ويقال كالقَلْسِ من قلوس الجسر. ويجوز أن يكون جمع جَمَل وجمالٍ وجمالات، كما قيل رجال جمع رجل، وقرئت (جِمَالَة صُفْر) على جمع جمل وجمالة كما قيل حجر وحجارة، وَذَكَر وذِكارة، وقُرئت (جُمالة صُفْر) على ما فسَّرنا في جُمَالَات (1). * * * وقوله: (هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) يوم القيامة له مواطن ومواقيتُ، فهذا من المواقيت التي لا يتكلمون فيها. * * * وقوله: (هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) أي هذا يوم يفصل فيه بين أهل الجنة والنار وأهل الحق والبَاطِلِ. * * * وقوله: (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)

_ (1) قال السَّمين: قوله: {إِنَّهَا}: أي: إنَّ جهنَّم؛ لأنَّ السياقَ كلَّه لأجلها. وقرأ العامَّةُ: «بَشرَرٍ» بفتح الشينِ وعَدَمِ الألفِ بين الراءَيْن. وورش يُرَقِّقُ الراءَ الأولى لكسرِ التي بعدها. وقرأ ابن عباس وابن مقسم بكسرِ الشين وألفٍ بين الراءَيْنِ. وعيسى كذلك، إلاَّ أنَّه فتح الشين. فقراءةُ ابنِ عباس يجوزُ أَنْ تكونَ جمعاً لشَرَرَة، وفَعَلة تُجْمَعُ على فِعال نحو: رَقَبة ورِقاب ورَحَبة ورِحاب، وأَنْ تكونَ جمعاً لشَرِّ، لا يُراد به أَفْعَلُ التفضيلِ. يقال: رجلٌ شَرٌّ ورجالٌ شِرارٌ، ورجلٌ خيرٌ ورجالٌ خِيار، ويؤنثان فيقال: امرأة شَرَّةٌ، وامرأةٌ خَيْرةٌ. فإن أُريد بهما التفضيلُ امتنعَ ذلك فيهما، واختصَّا بأحكامٍ مذكورةٍ في كتبِ النحْويين أي: تَرمي بشِرارٍ من العذابِ أو بشِرار من الخَلْق. وأمَّا قراءةُ عيسى/ فهي جمعُ شَرارَةٍ بالألفِ وهي لغةُ تميمٍ. والشَّرَرَةُ والشَّرارَة: ما تطايَرَ من النارِ متفرِّقاً. قوله: {كالقصر} العامَّةُ على فتح القافِ وسكونِ الصادِ، وهو القَصْرُ المعروف، شُبِّهَتْ به في كِبَرِه وعِظَمِه. وابن عباس وتلميذاه ابن جُبَيْر وابنُ جَبْر، والحسن، بفتحِ القافِ والصادِ، وهي جمعُ قَصَرة بالفتح والقَصَرَةُ: أَعْناقُ الإِبلِ والنخلِ، وأصولُ الشجرِ. وقرأ ابن جبير والحسن أيضاً بكسرِ القافِ وفتحِ الصاد جمع «قَصَرة» يعني بفتح القافِ. قال الزمخشريُّ: «كحاجةٍ وحِوَج» وقال الشيخ: «كحَلَقة من الحديدِ وحِلَق». وقُرىء «كالقَصِرِ» بفتح القاف وكسرِ الصادِ، ولم أَرَ لها توجيهاً. ويظهرُ أنَّ ذلك مِنْ بابِ الإِتباعِ، والأصلُ: كالقَصْرِ بسكونِ الصادِ، ثم أتبعَ الصادَ حركةَ الراءِ فكسَرها، وإذا كانوا قد فَعَلُوا ذلك في المشغولِ بحركة نحو: كَتِف وكَبِد، فلأَنْ يَفْعلوه في الخالي منها أَوْلَى. ويجوزُ أَنْ يكون ذلك للنقل بمعنى: أنه وَقَفَ على الكلمةِ فَنَقَل كسرةَ الراءِ إلى الساكنِ قبلَها. ثم أَجْرَى الوَصْلَ مُجْرَى الوقفِ، وهو بابٌ شائِعٌ عند القُرَّاءِ والنحاة. وقرأ عبدُ الله بضمِّهما. وفيها وجهان، أحدُهما: أنَّه جمعُ قَصْرٍ كرَهْن وَرُهُن، قاله الزمخشريُّ. والثاني: أنَّه مقصورٌ من قُصور كقولِه: 4458 فيها عيايِيْلُ أُسودٍ ونُمُرْ. . . يريد: ونُمور. فقصَر وكقوله: «النُّجُم» يريد النجوم. وتخريجُ الزمخشريِّ أَوْلَى؛ لأنَّ محلَّ الثاني: إمَّا الضرورةُ، وإمَّا النُّدُور. قوله: {جِمَالَةٌ}: قرأ الأخَوان وحَفْصٌ «جِمالَةٌ». والباقون «جِمالات». فالجِمالَةُ فيها وجهان، أحدُهما: أنَّها جمعٌ صريحٌ، والتاءُ لتأنيثِ الجمعِ. يُقال: جَمَلٌ وجِمال وجِمالَة نحو: ذَكَر وذِكار وذِكارة، وحَجَر وحِجارة. والثاني: أنه اسمُ جمعٍ كالذِّكارة والحِجارة، قاله أبو البقاء، والأولُ قولُ النُّحاةِ. وأمَّا جِمالات فيجوزُ أَنْ يكونَ جمعاً ل «جِمالة» هذه، وأَنْ يكونَ جمعاً ل جِمال، فيكون جمعَ الجمعِ. ويجوزُ أَنْ يكونَ جمعاً ل جَمَل المفردِ كقولهم: «رجِالات قريش» كذا قالوه. وفيه نظرٌ؛ لأنَّهم نَصُّوا على أنَّ الأسماءَ الجامدةَ غيرَ العاقلةِ لا تُجْمَعُ بالألفِ والتاءِ، إلاَّ إذا لم تُكَسَّرْ. فإنْ كُسِّرَْتْ لَم تُجْمَعْ. قالوا: ولذلك لُحِّن المتنبيُّ في قولِه: 4459 إذا كان بعضُ الناسِ سَيْفاً لدولةٍ. . . ففي الناسِ بُوْقاتٌ لها وطُبولُ فجمع «بُوقاً» على «بُوقات» مع قولِهم: «أَبْواق»، فكذلك جِمالات مع قولهم: جَمَل وجِمال. على أنَّ بعضَهم لا يُجيزُ ذلك، ويَجْعَلُ نحو «: حَمَّامات وسِجلاَّت شاذَّاً، وإنْ لم يُكَسَّرْ. وقرأ ابنُ عباس والحسنُ وابن جبير وقتادةُ وأبو رجاء، بخلافٍ عنهم، كذلك، إلاَّ أنَّهم ضَمُّوا الجيمَ وهي حِبالُ السفنِ. وقيل: قُلوس الجسورِ، الواحدةِ» جُمْلة «لاشتمالِها على طاقاتِ الحِبال. وفيها وجهان، أحدهما: أَنْ تكونَ» جُمالات «جمعَ جُمال، وجُمال جَمْعَ جُمْلة، كذا قال الشيخ، ويَحْتاجُ في إثباتِ أنَّ جُمالاً بالضمِّ جمعُ جُمْلة بالضمِّ إلى نَقْلٍ. والثاني: أنَّ» جُمالات «جمعُ جُمالة قاله الزمخشري، وهو ظاهرٌ. وقرأ ابنُ عباس والسُّلَمِيُّ وأبو حيوةَ» جُمالة «بضمِّ الجيم، وهي دالَّةٌ لِما قاله الزمخشريُّ آنِفاً. قوله: {صُفْرٌ} صفةٌ لجِمالات أو لِجمالة؛ لأنَّه: إمَّا جمعٌ أو اسمُ جمعٍ. والعامَّة على سكونِ الفاءِ جمعَ صفْراء. والحسنُ بضمِّها، وكأنَّه إتْباعٌ. وَوَقَعَ التشبيهُ هنا في غايةِ الفصاحةِ. قال الزمخشريُّ:» وقيل: صُفْرٌ سُوْدٌ تَضْرِبُ إلى الصُّفرة. وفي شعرِ عمرانَ بنِ حِطَّانَ الخارجيِّ: 4460 دَعَتْهُمْ بأعلَى صوتِها ورَمَتْهُمُ. . . بمثل الجِمال الصفر نَزَّاعةِ الشَّوى وقال أبو العلاء المعري: 4461 حمراءُ ساطِعَةُ الذوائب في الدُّجَى. . . تَرْمي بكل شَرارةٍ كطِرافٍ فشبَّهها/ بالطِّراف، وهو بيت الأُدَم في العِظَمِ والحُمْرَةِ، وكأنه قَصَدَ بخُبْثِه أَنْ يزيدَ على تشبيهِ القرآن. ولتبجُّحه بما سُوِّل له مِنْ تَوَهُّم الزيادة جاءَ في صَدْرِ بيتِه بقولِه: «حمراءُ» توطئةً لها ومناداةً عليها، وتَنْبيهاً للسامِعين على مكانِها. ولقد عَمِيَ جمع الله له عَمى الدَّارَيْن عن قولِه عزَّ وجلَّ: «كأنه جِمالةٌ صُفْرٌ» فإنه بمنزلةِ قولِه كبيتٍ أحمر. وعلى أنَّ في التشبيهِ بالقَصْر وهو الحِصْنُ تشبيهاً مِنْ جهتَين: مِنْ جهةِ العِظَمِ، ومن جهةِ الطولِ في الهواءِ، وفي التشبيه بالجِمالات وهي القُلُوسُ تشبيهٌ مِنْ ثلاثِ جهاتٍ: الطُّولِ والعِظَمِ والصُّفْرةِ «انتهى. وكان قد قال قبلَ ذلك بقليلٍ:» شُبِّهَتْ بالقُصورِ ثم بالجِمال لبيانِ التشبيهِ، ألا ترى أنَّهم يُشَبِّهون الإِبلَ بالأَفْدان «قلت: الأَفْدانُ: القصورُ، وكأنه يُشيرُ إلى قولِ عنترة: 4462 فوقَفْتُ فيها ناقتي وكأنَّها. . . فَدَنٌ لأَقْضِيَ حاجةَ المُتَلَوِّمِ اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(48)

ههنا إضمار القول، المعنى (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) يقال لهم: (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). * * * قوله: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48) إذا أمروا بالصلَاةِ لَمْ يُصَلُّوا. * * * وقوله: (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50) أي: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بعد القرآن الذي أتاهم فيه البيان وأَنَهُ مُعْجِزَة وهو آية قائمة، دليلة على الإسلام مما جاء به النبي عليه السلام.

سورة النبأ

سُورَةُ النَّبَأ (مَكِّيَّة) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله عزَّ وجلَّ: (عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) أصله عن ما يتساءلون. فأدْغمت النون في الميم، لأن الميم تشرك النُونَ في الغُنَّةِ في الأنف، وقد فسرنا لم حذفت الألف فيما مضى من الكتاب، والمعنى عن أي شيء يتساءلون، فاللفظ لفظ الاستفهام، والمعنى تفخيم القصة كماتقول: أي شيء زَيْدٌ. ثم بين فقال: * * * (عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) قيل هو القرآنَ، وقيل عن البعث، وقيل عن أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -. والذي يدل عليه قوله: (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا) يدل على أنهم كانوا يَتساءلون عن البعث. * * * وقوله: (كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) وقرئتْ: (كلا ستعلمون) بالتاء. والذىَ عليه القراء: (كَلَّا سَيَعْلَمُونَ) بالياء. وهو أجود، والتاء تروى عَنِ الحَسنِ. * * * وقوله: (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وقرئت (مَهْداً)، وأكثر القراء يقرأونها (مِهَادًا). والمعنى واحد وتأويله إنا ذللناها لهم حتى سكنوها وساروا في مناكبها.

(8)

وقوله: (وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) خلق الذكَر والأنثى، وقيل أزواجاً أي ألواناً. * * * (وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) والسُّبَاتُ أن ينْقطع عن الحركة والروحُ في بدنه، أي جعلنا نومكم راحة لكم. * * * (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) أي تسكنون فيه وهو مشتمل عليكم * * * (وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) أي سبعَ سمواتٍ. * * * (وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) أي جعلنا فيها الشمس سراجاً. وتأويل (وَهَّاجًا) وَقًاداً. . * * * (وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) المعصرات: السحائب لأنها تعصر الماء وقيل المعصرات كما يقال: قد أَجَزَّ الزرْعُ فهو مُجَزّ إذا صار إلى أن يمطر. فقد أَعْصَر (1) ومعنى ثجاج صباب. * * * (لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) كل ما حصد فهو حَبٌّ، وكل ما أكلته الماشية من الكلأ فهو نَبَات. * * * (وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16) أي وبساتين ملتفة، فأعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - ما خلق وأنه قادِرٌ على البعث فقال: * * * (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17) * * * (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18) بدل من يوم الفصل، إن شئت كان مُفسَراً ليوم الفصلِ. وقد فسرنا الصور فيما مضى. (فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا) أي تأتي كل أمة مع إمَامِهِم.

_ (1) قال ابن الجوزي حكايا عن الزَّجَّاجِ ما نصه: وقال الزجاج: إنما قيل للسحاب: معصرات، كما قيل: أجزَّ الزرع، فهو مُجِزُّ، أي: صار إلى أن يُجَزَّ، فكذلك السحاب إذا صار إلى أن يمطر، فقد أعصر. اهـ (زاد المسير. 9/ 6) وقال السَّمين: قوله: {مِنَ المعصرات}: يجوزُ في «مِنْ» أَنْ تكونَ على بابِها من ابتداءِ الغاية، وأَنْ تكونَ للسببية. ويَدُلُّ قراءةُ عبدِ الله بنِ يزيد وعكرمة وقتادة «بالمُعْصِرات» بالباءِ بدلَ «مِنْ» وهذا على خلافٍ في «المُعْصِرات» ما المرادُ بها؟ فقيل: السحاب. يقال: أَعْصَرَتْ السَّحائِبُ، أي: شارَفَتْ أَنْ تُعْصِرَها الرياحُ فتُمْطِرَ كقولك: «أجَزَّ الزرعُ» إذا حان له أن يُجَزَّ. ومنه «أَعْصَرَتِ الجارِيَةُ» إذا حان لها أَنْ تحيضَ. قاله الزمخشريُّ. وأنشد ابنُ قتيبة لأبي النجم: 4466 تَمْشي الهُوَيْنَى ساقِطاً خِمارُها. . . قد أَعْصَرَتْ أو قَدْ دَنَا إعْصارُها قلت: ولولا تأويلُ «أَعْصَرَتْ» بذلك لكان ينبغي أَنْ تكونَ المُعْصَرات بفتح الصادِ اسمَ مفعول؛ لأنَّ الرياحَ تُعْصِرُها. وقال الزمخشري: «وقرأ عكرمةُ» بالمُعْصِرات «. وفيه وجهان: أَنْ يُراد الرياحُ التي حانَ لها أَنْ تُعْصِرَ السحابَ، وأَنْ يُرادَ السحائبُ؛ لأنَّه إذا كان الإِنزالُ منها فهو بها/ كما تقول: أَعْطى مِنْ يدِه درهماً، وأَعْطى بيدِه. وعن مجاهد: المُعْصِرات: الرياحُ ذواتُ الأعاصيرِ. وعن الحسن وقتادة: هي السماواتُ. وتأويلُه: أنَّ الماءَ يَنْزِلَ من السماءِ إلى السحاب فكأنَّ السماواتِ يَعْصِرْنَ، أي: يَحْمِلْنَ على العَصْر ويُمَكِّنَّ منه. فإنْ قلتَ: فما وَجْهُ مَنْ قرأ» من المُعْصِرات «وفسَّرها بالرياح ذواتِ الأعاصيرِ، والمطرُ لا يَنْزِلُ من الرياح؟ قلت: الرياحُ هي التي تُنْشِىءُ السحابَ وتَدِرُّ أخلافَه، فيَصِحُّ أَنْ تُجْعَلَ مَبْدأً للإِنزال. وقد جاء: إنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ الرياحَ فتحملُ الماءَ من السماء، فإنْ صَحَّ ذلك فالإِنْزالُ منها ظاهرٌ. فإنْ قلت: ذكر ابن كَيْسانَ: أنه جَعَلَ المُعْصِرات بمعنى المُغِيثات، والعاصِرُ هو المُغيث لا المُعْصِر. يقال: عَصَرَهُ فاعْتَصَرَ. قلت: وَجْهُه أَنْ يُرادَ: اللاتي أَعْصَرْن، أي: حان لها أَنْ تُعْصِرَ، أي: تُغيث». قلت: يعني أنَّ «عَصَرَ» بمعنى الإِغاثةِ ثلاثيٌّ، فكيف قيل هنا: مُعْصِرات بهذا المعنى، وهو من الرُّباعي؟ فأجاب عنه بما تقدَّم، يعني أنَّ الهمزةَ بمعنى الدُّخولِ في الشيء. قوله: {ثَجَّاجاً} الثَّجُّ: الانصِبابُ بكثرةٍ وشِدَّةٍ. وفي الحديث: «أحَبُّ العملِ إلى اللَّهِ العَجُّ والثَّجُّ» فالعَجُّ: رَفْعُ الصوتِ بالتلبيةِ، والثَّجُّ: إراقةُ دماءِ الهَدْيِ. يقال: ثَجَّ الماءُ بنفسِه، أي: انصَبَّ وثَجَجْتُه أنا، أي: صَبَبْتُه ثَجّاً وثُجوجاً، فيكونُ لازماً ومتعدياً. وقال الشاعر: 4467 إذا رَجَفَتْ فيها رَحَىً مُرْجَحِنَّةٌ. . . تَبَعَّجَّ ثَجَّاجاً غَزيرَ الحوافِلِ وقرأ الأعرج «ثجَّاحاً» بالحاءِ المهملةِ أخيراً. وقال الزمخشري: «ومَثاجِحُ الماءِ مَصابُّه، والماءُ يَنْثَجِحُ في الوادي». اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(19)

(وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19) أي تشققت كما قال عزَّ وجلَّ: (إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ) (إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ). * * * وقوله: (إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22) أي يَرْصُدُ أَهلَ الكفر ومن حق عليه العذاب. تكاد تميز من الغيظ، فلا يجاوزها من حقت عليه كلمة العذاب. ومعنى (مَآبًا) إليها يرجعون. * * * وقوله: (لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) وَلَبِثينَ، يقال: لبث الرجل فهو لابث، ويقال: هو لبث بمكان كذا أي صار اللبث شَأنَهُ. والأحقاب واحدها حُقْب، والحقب ثمانون سنة، كل سنة اثنا عشر شهراً، وكل شهر ثلاثون يوماً، وكل يوم مقداره ألف سنة من سني الدنيا، والمعنى أنهم يلبثون أحقاباً لاَ يَذُوقُون في الأحقاب برداً ولا شراباً، وهم خالدون في النار أبداً كما قال عزَّ وجلَّ: (خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا) (1). * * * ومعنى: (لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) قيل نوماً، وجائز أن يكون لَا يَذُفقُونَ فِيهَا بَرْدَ رِيح وَلاَ ظِلٍّ وَلاَ نَوْم. * * * (إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) أي لا يذوقون فيها إلَّا حميماً وهو في غاية الحرارة.

_ (1) قال السَّمين: قوله: {لاَّبِثِينَ}: منصوبٌ على الحالِ من الضميرِ المستترِ في «للطَّاغِين» وهي حالٌ مقدرةٌ. وقرأ حمزةُ «لَبِثِيْنَ» دونَ ألفٍ، والباقون «لابِثين» بها. وضَعَّفَ مكيٌّ قراءةَ حمزةَ، قال: «ومَنْ قرأ» لبِثين «، شَبَّهه بما هو خِلْقَةٌ في الإِنسان نحو: حَذِر وفَرِق، وهو بعيدٌ؛ لأنَّ اللُّبْثَ ليس مِمَّا يكونُ خِلْقَةً في الإِنسان، وبابُ فَعِل إنما هو لِما يكونُ خِلْقَةً في الإِنسانِ، وليس اللُّبْثُ بخِلْقةٍ». ورَجَّح الزمخشريُّ قراءةَ حمزةَ فقال: «قُرِىءَ: لابِثين ولَبِثين. والَّلبِثُ أَقْوى»؛ لأنَّ اللابِثَ يُقال لِمَنْ وجِدَ منه الُّلبْثُ، ولا يُقال: لِبثٌ إلاَّ لمَنْ شأنُه الُّلبْثُ كالذي يَجْثُمُ بالمكانِ، لا يكاد يَنْفَكُّ منه «. قلت: وما قاله الزمخشريُّ أَصْوَبُ. وأمَّا قولُ مكيّ: الُّلبْثُ ليس خِلْقَةً فمُسَلَّمٌ؛ لكنه بُوْلِغَ في ذلك فجُعِلَ بمنزلةِ الأشياءِ الخِلْقيَّة. قوله: {أَحْقَاباً} منصوبٌ على الظرفِ، وناصبهُ» لا بثين «، هذا هو المشهورُ. وقيل: هو منصوبٌ بقولِه» لا يَذُوقون «وهذا عند مَنْ يرى تقديمَ معمولِ ما بعد» لا «عليها، وهو أحدُ الأوجه، وقد تقدَّم هذا مستوفىً في أواخر الفاتحة. وجَوَّز الزمخشريُّ أَنْ ينتصِبَ على الحالِ، قال:» وفيه وجهٌ آخر: وهو أَنْ يكونَ مِنْ حَقِبَ عامُنا: إذا قَلَّ مطرُه وخيرُه، وحَقِبَ فلانٌ: إذا أَخْطَأَهُ الرِّزْقُ فهو حَقِبٌ، وجمعهُ أَحْقاب، فينتصِبُ حالاً عنهم بمعنى: لابثين فيها حَقِبين جَحِدين «. وقد تقدَّم الكلامُ على» الحُقُب «، وما قيل فيه في سورة الكهف. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(26)

والغَسَّاقُ: قيل ما يَغْسِقُ من جُلُودهم، أي يسيل. وقيل: الغسَّاق الشديد البَرْدِ. * * * (جَزَاءً وِفَاقًا (26) أي جُوزُوا وِفْق أعمالهم. * * * (إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) أي لا يؤمنون بالبعث وَلَا بأنهمْ يُحَاسَبُونَ، ويرجون ثواب حساب. * * * (وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28) هذا أكثر القراءة، وَقَدْ قُرِئَتْ (كِذَابًا) بالتخفيف. و (كِذَّابًا) بالتَشْدِيدِ أكثر. وهو في مصادر فعَّلْتُ أجود من فِعَال. قال الشاعر: لَقَدْ طَالَ مَا ثَبَّطَتني عن صَحَابَتي. . . وَعَنْ حوَجٍ قِضَّاؤها من شِفَائِيَا من قضيت قضَاء. ومثل كِذَاباً - بالتخفيف قول الشاعر: فَصَدَقْتُها وكَذَبْتُها. . . وَالمَرْءُ يَنْفَعُهُ كِذَابُهْ * * * وقوله: (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29) (وَكُلَّ) منصوبٌ، بفعل مُضْمَر تفسيره أَحْصَيْنَاهُ كتاباً. المعنى وأَحصينا كلَّ شيء أحْصَيْناه. وقوله (كِتاباً) توكيد لقوله (أحْصَيْنَاهُ) لأن معنى أحْصَيْنَاه وكتبناه فيما يحصل ويثبت واحد؛ فالمعنى كتبناه كتاباً. * * * وقوله - جلَّ وعزَّ: - (وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) أي تقدير الآية لا يرجون ثواب حساب - فهناك مضاف محذوف.

(36)

قال أبو إسحاق: الكأس كل إناء فيه شرابٌ فهو كاس، فإذا لم يكن فيه شراب. فليس بكأس، وكذلك المائدة: ما كان عليها من الأخونة طعام فهو مائدة، ومعنى دهاقاً مليء، وجاء في التفسير أَيْضاً أنها صافية، قال الشاعر: يَلَذُّه بكَأْسِه الدِّهاق * * * وقوله: (جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36) منصوب بمعنى (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا)، المعنى جازاهم بذلك جزاء. وكذلك (عَطَاءً حِسَابًا)، لأن معنى أعطاهم وجزاهم وَاحِد. و (حِسَابًا) معناه ما يكفيهم، أي فيه ما يشتهون. يقال: أَحْسَبَنِي كذا وكذا بمعنى كفاني. * * * وقوله: (رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37) قرئت بالجر على الصفة من قوله: " مِنْ رَبِّكَ " رَبِّ. وقرئت " ربُّ " على معنى هو رَبُّ السَّمَاواتِ والأرْضِ. وكذلك قرئَت (الرَّحْمَنُ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا) - بالجرِّ والرفع. وتفسيرها تفسير (رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ). * * * وقوله: (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38) (الرُّوحُ) خلق كالإنس، وليس هو إنس. وقيل: الروح جبريل عليه السلام. * * * وقوله: (فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39) أي مرْجعاً. * * * وقوله: (وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40) جاء في التفسير أنه إذا كان يوم القيامة اقتُصَّ للجَمَّاءِ مِنَ القَرْناء. والجمَّاء

التي لا قرن لها. ثم يجعل اللَّه تعالى الجميع تراباً، وذَلِك التُرابً هو القَتَرَة التي تَرْهَقُ وجوهَ الكفار وتعلو وجوههم، فيتمنى الكافر أن يكون ترَاباً. وقد قيل: إن معنى (يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا). أي ليتني لم أبعث، كما قال: (يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25).

سورة النازعات

سُورَةُ النَّازِعَاتِ (مَكِّيَّة) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله عزَّ وجلَّ: (وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) قيل في التفسير يعنى به الملائكة تنزِع روحَ الكَافِرِ وتنشطها فيشتد عليه أمر خروج نَفْسِه. * * * وقوله: (وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) أرواح المؤمنين تخرج بسهولةٍ. وقيل: (وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا) القسِي، (وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا) الأَوْهاق (وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا) السُّفن، (فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا) الخيل. * * * (فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5) (فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا) الملائِكَة، جبريل وميكائيل وإسرافيل وملَك الموْتِ فجبريل بالوحي والتنزيل وميكائيل بالقطر والنبات، وإسرافيل للصورِ وملك الموت لقبض الأرْوَاحِ. وقيل: (وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا): النجوم تنزع من مَكَانٍ إلى مكانٍ وكذلك (وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا) النجوم تسبح في الفلك كما قال: (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ).

_ (1) الأَوْهاق جمع وهق وهو الأربطة والقيود

(6)

وكذلك (فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا) فأما (المدبرات أمراً) فالملائكةً، وقيل ((فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا) الملائكة تسبق الشياطينَ بالوَحْي إلى الأنبياء كل هذا جاء في التفسير واللَّه أعلم بحقيقة ذلك. * * * وقوله: (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) ترجف تتحرك حركة شديدة، وقيل: الراجفة النفخة الأولى التي تموت معها جميع الخلق. * * * وَقَوْلَهُ: (تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قيل النفخة الثانية التي تبعث معها الخلق، وهو كقوله تعالى: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68). و (يَوْمَ) منصوب على معنى قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ. ومعنى واجفة شديدة الاضطراب. * * * (أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9) ذليلة. وجواب والنازعات - واللَّه أعلم - محذوفٌ، والمعنى كأنَّه أَقْسَمَ فقال: وهَذِه الأشْياء لَتُبْعثنَّ، والدلِيلُ عَلَى ذَلكَ قوله: * * * (يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أي إنا نرد في الحياة بعد الموت إذا كنا عظاماً نَخِرة، أي نُردُّ ونبعث. ويقال: رجع فلان في حافرته إذا رجع في الطريق الذي جاء فيه. (أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11) وقرئت (نَخِرَةً) (1)، و (نَاخِرَةً) أكثر في القراءة وأجود لشبه آخِرِ الآي بعضها ببعض، الحافرة

_ (1) قال السَّمين: قوله: {نَّخِرَةً}: قرأ الأخَوان وأبو بكر «ناخِرَة» بألفٍ، والباقون «نَخِرَة» بدونِها وهما كحاذِر وحَذِر، فاعِل لمَنْ صَدرَ منه الفِعْلُ، وفَعِل لِمَنْ كان فيه غَريزةً، أو كالغَريزة. وقيل: ناخِرة ونَخِرة بمعنى بالية. وقيل: ناخِرَة، أي: صارَتِ الريحُ تَنْخِرُ فيها، أي: تُصَوِّتُ، ونَخِرَة، أي: تَنْخِرُ فيها دائماً. وقيل: ناخِرَة: بالِية، ونَخِرَة: متآكلة. وعن أبي عمروٍ: الناخِرة: التي لم تَنْخَرْ بعدُ، والنَّخِرَةُ: البالية. وقيل: الناخِرَةُ: المُصَوِّتَةُ فيها الريحُ، والنَّخِرةُ: الباليةُ التي تَعَفَّنَتْ. قال الزمخشري: «يُقال: نَخِر العظمُ، فهو نَخِرٌ وناخِرٌ، كقولِك: طَمِعَ فهو طَمعٌ وطامعٌ، وفَعِل أَبْلَغُ مِنْ فاعِل، وقد قُرِىء بها، وهو البالي الأجوفُ الذي تَمُرُّ فيه الرِّيحُ فيُسْمَعُ له نَخِير». قلت: ومنه قولُه: 4484 وأَخْلَيْتُها مِنْ مُخِّها فكأنَّها. . . قواريرُ في أجوافِها الريحُ تَنْخِرُ وقال الراجزُ لفَرَسه: 4485 أَقْدِمْ نَجاحُ إنها الأَساوِرَهْ. . . ولا يَهْوْلَنَّكَ رَحْلٌ نادِرَهْ فإنما قَصْرُك تُرْبُ السَّاهِرَهْ. . . ثم تعودُ بعدها في الحافِرَهْ مِنْ بعدِ ما كنتَ عِظاماً ناخِرَهْ. . . ونُخْرَةُ الرِّيْح بضمِّ النون: شِدَّةُ هبوبِها، والنُّخْرَةُ أيضاً: مُقَدَّمُ أَنْفِ الفَرَسِ والحمارِ والخِنْزير. يقال: هَشَم نُخْرَتَه، أي: مُقَدَّمَ أَنْفِه. و «إذا» منصوبٌ بمضمرٍ، أي: إذا كُنَّا كذا نُرَدُّ ونُبْعَثُ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(12)

وناخرة وخاسرة. ونخرة جَيدة أيضاً، يقال: نخر العظم يَنْخَر فهو نخِر مثل عفِنَ الشيءُ يعْفنُ فهو عَفِن. وَنَاخِرة على معنى عظاماً فارغة يصير فيها من هبوب الريح كالنخير، ويجوز ناخرة كما تقول: بَلِي الشيء وبليت العظام فهي بَالِية. * * * (قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12) أي هذه الكرة كرة خُسْران. والمعنى أهلها خاسرونَ. ثم أَعْلَمَ عزَّ وجل سهولة البعث عليه فقال: * * * (فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14) والساهرة وجه الأرض. * * * وقوله: (إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) أي المبارك. وقرئت " طُوَى اذْهَبْ " - غَيْرَ مَصْرُوفَةٍ - وطًوًى منوَّنَةً. وقرئت طِوَى بكسر الطاء. وطُوَى اسم الوادي الذي كلم الله عليه موسى. فمن صرفه فهو بمنزلة نُغَر (1) وَصُرَدِ إذا سميت به مذكراً، ومن لم يصرفه فهو على ضربين: أحدهما أَنْ يكون اسمَ البقعة التي هي مشتملة على الوادي، كما قال: (فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ) وَقِيلَ إنَه مُنِعَ الصرْف لأنه معدول نحو عُمَر، فكان طوى عُدِلَ عَنْ طاوٍ كما أن عًمرَ عُدِلَ عَنْ عَامِر. ومن قال طِوى بالكسر فعلى معنى المقدَّس مرةً بعد مَرةٍ. كما قال طرفة بن العَبْد: أَعاذِل إِنَّ اللَّوْمَ في غيرِ كُنْهِه عليَّ طُِوىً من غَيِّك المُتَرَدِّد أي إن اللوْمَ المكرُورَ عَلَيَّ. * * * وقوله: (فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20)

_ (1) النغر فراخ العصافير واحدها نغرة.

(25)

يعنى أنه اليدُ التي أخرجها تتلألأ من غير سوء. * * * قوله عزَّ وجلَّ: (فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25) (نَكَالَ) منصوب مصدر مؤكد لأن معنى أخذه اللَّه نَكَّلَ بِهِ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى أي أغرقه في الدنيا ويعذبه في الآخرة. وجاء في التفسير أن (نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى) نكال قوله: (مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي). وقوله: (أنا رَبُّكُمُ الأعْلَى). فنكل اللَّه به نكال هاتين الكلمتين (1). * * * قوله: (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) قال بعض النحويين: (بناها) من صلة السَّمَاءِ، المعنى أم التي بناها. وقال قوم: السماء ليس مِما يوصل، ولكن المعنى أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ أَشَدُّ خَلْقًا. ثم بين كيف خلقها فقال: * * * (بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) أي أظْلَمَ لَيْلَها. * * * (وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا): أظهر نورها بالشمس. * * * وقوله: (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) القراءة على نصب (الْأَرْضَ)، على معنى: ودحا الأرضَ بعد ذلك، وفسر هذا المضمر فقال (دَحَاهَا)، كما تقول: ضربت زيدا وعمرا أكرمته. وقد قرئت (وَالْأَرْضُ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا) على الرفع بالابتداء. والنصب أجودُ، لأنك تعطف بفعل على فعل أحسن، فيكون على معنى بناها. وفعَل وفَعَل ودَحَا الأرض بعد ذلك. * * * قوله: (وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32)

_ (1) قال السَّمين: قوله: {نَكَالَ الآخرة}: يجوزُ أَنْ يكونَ مصدراً ل «أَخَذَ»، والتجوُّزُ: إمَّا في الفعل، أي: نَكَّل بالأَخْذِ نَكالَ الآخرةِ، وإمَّا في المصدر، أي: أَخَذَه أَخْذَ نَكالٍ. ويجوزُ أَنْ يكونَ مفعولاً له، أي: لأجل نَكالِه. ويَضْعُفُ جَعْلُه حالاً لتعريفِهِ، وتأويلُه كتأويلِ جَهْدَك وطاقَتَك غيرُ مَقيس. ويجوزُ أَنْ يكونَ مصدراً مؤكِّداً لمضمونِ الجملةِ المتقدِّمةِ، أي: نَكَّل الله به نَكالَ الآخرةِ، قاله الزمخشري، وجعله ك {وَعْدَ الله} [النساء: 122] و {صِبْغَةَ الله} [البقرة: 138]. والنَّكالُ: بمنزلةِ التَّنْكيل، كالسَّلام بمعنى التَّسْليم. والآخرةُ والأولى: «إمَّا الداران، وإمَّا الكلمتان، فالآخرةُ قولُه: {أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى} [النازعات: 24]، والأولى: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِي} [القصص: 38] فحُذِفَ الموصوفُ للعِلْم به. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(33)

تفسير نصب الجبال كتفسير نصب الأرض، وكذلك يجوز الرفع، وقد قرئ به في الجبال على تفسير والأرض. ومعنى (أَرْسَاهَا) أثبتَهَا. * * * وقوله: (مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33) نصب (مَتَاعًا لَكُمْ) بمعنى قوله أخْرَجَ مِنْهَا مَاَءَهَا ومَرْعَاهَا للِإمتاع لكم. لأن معنى أخرج منها ماءها ومرعاها أمتع بذلك. * * * وقوله: (فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) إذا جاءت الصيحة التي تَطُم كلَّ شيء، الصيْحة التي يقع معها البعث والحساب والعقاب والعذاب والرحمة. * * * وقوله: (فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) هذا جواب فإذا جاءت الطامة الكبرى، فإن الأمر كذلك، ومعنى هي الْمَأْوَى أي هي الْمَأْوَى له، وقال قوم: الألف واللام بَدَل من الهاء، المعنى فهي مأواه لأن الألف واللام بدل من الهاء، وهذا كما تقول للإنسان: غُضِ الطرفَ يا هَذَا. فلابس الألف واللام بدلا من الكاف وأن كان المعنى غضَ طَرْفَك لأن المخاطب يعلم أنك لا تأمره بغض طرف غيره. قال الشاعر: فغضَّ الطرفَ إنَّك من نُمَيْرٍ. . . فلا كعباً بلغتَ ولا كِلَابا وكذلك معنى (فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) على ذلك التفسير. * * * وقوله: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) معناه متى وقوعها وقيامها. ومعنى (إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) أي منتهى علمها.

(45)

وقوله: (إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45) وقرئت (مُنْذِرٌ) بالتنوين على معنى إنما أنت في حال إنذار من يخشاها وتنذر أيضاً فيما يستقبل من يخشاها، ومُفعِل وفاعِل إذا كان واحد منهما ومما كان في معناهما لما يستقبل وللحال نوَّنته لأنه يكون بَدَلاً من الفعل، والفعل لا يكون إلا نكرة. وقد يجوز حذف التنوين على الاستئفاف، والمعنى معنى ثبوته يعني ثبوت التنوين، فإذا كان لما مضى فهو غير مُنَوَّنٍ ألبتَّةَ، تقول: أنت منذر زيداً، أي - أنت أنذرت زيداً. * * * وقوله: (إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46) هذه الألف والهاء عائدة على (عَشِيَّةً)، المعنى إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا. أو ضحى العشية، فأضفت الضحى إلى العشية، والغداة والعَشِي والضحوة والضحى لليوم الذي يكون فيه، فإذا قلت أتيتك صباحاً ومساءه، أو مساء وصَباحَه، فالمبنى أتيتك صباحاً ومساء يلي الصباح، وأتيتك مساء وصَبَاحاً يلي المساء.

سورة عبس

سُورَةُ عَبَسَ بسم اللَّه الرحمن الرحيم قوله: (عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) (أَنْ) في موضع نصب مفعول له، المعنى لأن جاءه الأعمى. وهذه الآيات وما بعدها إلى قوله (فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى) نزلت في عبد اللَّه ابن أمِّ مكتوم. كان صار إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - والنبي يدعو بعض أشراف قريش إلى الإسلام رجاء أن يسلم بإسلامه غيره، فتشَاغَل - عليه السِلام - بدعائه عن الإقبال على عبد الله بن أم مكتوم، فأمره الله ألا يتشاغَلَ عن الإقبالِ على أَحَدٍ من المسلمين بغيره، فقال: (عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) (فَتَنْفَعُهُ الذِّكْرَى) وُيقْرَأُ (فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى). فمن نصب فعلى جواب (لَعَلَّ) ومن رفع فعلى العطف على (يَزَّكَّى) * * * وقوله: (أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) أي أنت تقبل عليه، ويقرأ (تَصَّدَّى)، فمن قرأ (تَصَدَّى) - بتخفيفِ الصاد - فالأصل تَتصَدَّى، ولكن حذفت التاء الثانية لاجتماع تاءين، ومن قرأ (تَصَّدَّى)

(7)

بإدغام التاء، فالمعنى أيضا تتَصَدَّى، إلا أن التاء أدغمت في الصاد لقرب المخرجين - مخرج التاء مِنَ الصادِ. * * * وقوله: (وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) أي أي شيء عليك أن لا يسلم من تَدْعُوه إلى الإسلام. * * * وقوله: (فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) معناه تَتَشَاغَلُ، يقال: لَهيت عن الشيء ألهى عنه إذا تشاغلت عنه. * * * وقوله: (كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) يعنى به هذه الموعظة التي وعظ الله بها النبي عليه السلام. * * * (فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) ذُكِرَ لأن الموعظة والوعظ واحد، والمعنى راجع إلى حَمَلَةِ القُرآن المعنى فمن شاء أن يذكره ذكره. ثم أخبر جلَّ وعزَّ أن الكتابَ في اللوح المحفوظ عنده، فقال: (فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) والسَّفَرَةُ الكتبة، يعني به الملائكة، واحدهم سَافِر وَسَفَرة مثل كاتب وكتبة، وكافر وكفرة، وَإنما قيل للكتاب سَفَرة، وللكاتب سافِر، لأن مَعْنَاه أنه يبَيِّن الشيءَ وُيوَضحُه، يقال أَسْفَرَ الصُّبْحُ إذَا أضاء، وسفرت المرأة إذا كشفت النقاب عن وَجْهِهَا، ومنه: سَفَرت بين القوم أي كشفت قلب هذا وقلب هذا لأصلح بينهم. * * * وقوله: (كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16) جمع بارٍّ. * * * وقوله: (قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) يكون على جهة لفظ التعجُب، ويكون التَعَجب مِمَّا يؤمَرُ بِهِ الآدَمِيُّونَ

(18)

ويكون المعنى كقوله: (فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) أي اعْجَبُوا أنتم من كُفْرِ الإنْسَان، ويجوز على معنى التوبيخ ولفظه لفظ الاستفهام. أيْ أيُّ شيء أكفَرَهُ. ثم بَيَّن مِن أَمْره ما كان ينبغي أن يُعْلَمَ مَعَهُ أن الله خَالِقُه، وأنه وَاحِد فقال: * * * (مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) على لفظ الاستفهام، ومعناه التقرير ثم بيَّن فقال: * * * (مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) المعنى فَقَدَّرَهُ على الاستواء كما قال عزَّ وجلَّ: (أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37). * * * وقوله: (ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) أي هداه السبيل (إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا). * * * وقوله: (ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) معنى أقبره جعل له قَبراً يوارى فيه، يقال أَقْبَرْتُ فُلَاناً، جعلت له قبراً. وقبرت فلاناً دفنته فأنا قابِرُهُ. قال الشاعر: لَوْ أَسْنَدَتْ مَيْتاً إلى نَحْرِهَا. . . عَاشَ ولم يُنْقَلْ إلَى قَابِرِ * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) معناه بعثه، يقال: أنشر اللَّهُ المَوْتَى، فَنُشِرُوا، فالواحد نَاشِر قال الشاعر: حَتَّى يَقُولَ النَّاسُ مَمَّا رَأَوْا. . . يَا عَجَبَاً لِلْمَيِّتِ النَّاشِرِ

(24)

وقوله: (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أي فلينظر الإنسان كيف خلق الله طعامه وطعام جميع الحيوان الذي جعله الله سبباً لحياتِهِمْ. * * * (أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) (إِنَّا صَبَبْنَا) ويقرأ (أَنَّا صَبَبْنَا)، فمن قرأ (إِنَّا) فعلى الابتداء والاستئناف ومن قرأ (أَنَّا) فعلى البدل من الطعَام، ويكون (إِنَّا) في موضع جرٍّ، المعنى فلينظر الإنسان إلى إِنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (1). * * * (ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) أي بالنبات. * * * (فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) والحبُ كل ما حُصِدَ، كالحنطة والشعير وكل ما يتغَذى به من ذي حَبٍّ. والقضب الرطْبة. * * * (وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) حدائق واحدتها حديقة، وهي البساتين، والشجر الملتف، قوله (غُلْبًا) معناه مُتَكاثِفَة عِظام. * * * (وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) الأب جميع الكلأ الذي تعتلفه الماشيةُ، وذكر اللَّه عزَّ وجلَّ من آياته ما يدل على وحدانيته في إنشاء ما يغذو جميع الحيوان. * * * وقوله: (مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32) منصوب، مصدر مؤكد لقوله (فَأَنْبَتْنَا فِيهَا) الأشياء التي ذكرت، لأن إنباته هذه الأشياء قد أمتع بها الخلق من الناس وجميع الحيوان. * * * وقوله. (فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33)

_ (1) قال السَّمين: قوله: {أَنَّا صَبَبْنَا المآء صَبّاً}: قرأ الكوفيون «أنَّا» بفتح الهمزة غيرَ ممالةِ الألف. والباقون بالكسر. والحسنُ بن عليّ بالفتحِ والإِمالةِ. فأمَّا القراءةُ الأولى ففيها ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنها بدلٌ مِنْ «طعامِه» فتكونُ في محلِّ جر. استشكل بعضُهم هذا الوجهَ، وَرَدَّه: «بأنه ليس الأولَ فيُبْدَلَ منه؛ لأنَّ الطعامَ ليس صَبَّ الماءِ. ورُدَّ على هذا بوجهَيْن، أحدهما: أنَّه بدلُ كلٍّ مِنْ كلّ بتأويلٍ: وهو أنَّ المعنى: فَلْيَنْظُرِ الإِنسانُ إلى إنعامِنا في طعامِه فصَحَّ البدلُ، وهذا ليسَ بواضح. والثاني: أنَّه مِنْ بدلِ الاشتمالِ بمعنى: أنَّ صَبَّ الماءِ سببٌ في إخراجِ الطعامِ فهو مشتملٌ عليه بهذا التقدير. وقد نحا مكي إلى هذا فقال: لأنَّ هذه الأشياءَ مشتملةٌ على الطعامِ، ومنها يتكوَّنُ؛ لأنَّ معنى» إلى طعامه «: إلى حدوثِ طعامهِ كيف يتأتَّى؟ فالاشتمالُ على هذا إنما هو من الثاني على الأولِ؛ لأنَّ الاعتبارَ إنما هو في الأشياءِ التي يتكوَّن منها الطعامُ لا في الطعامِ نفسِه». والوجه الثاني: أنَّها على تقديرِ لامِ العلةِ، أي: فلينظُرْ لأِنَّا، ثم حُذِفَ الخافضُ فجرى الخلافُ المشهورُ في محلِّها. والوجهُ الثالث: أنَّها في محلِّ رفعٍ خبراً لمبتدأ محذوفٍ، أي: هو أنَّا صَبَبْنا، وفيه ذلك النظرُ المتقدِّم؛ لأنَّ الضميرَ إنْ عاد على الطعام فالطعامُ ليس هو نفسَ الصَّبِّ، وإنْ عاد على غيرِه فهو غيرُ معلومٍ، وجوابُه ما تقدَّمَ. وأمّا القراءةُ الثانية فعلى الاستئنافِ تعديداً لِنِعَمِه عليه. وأمَّا القراءةُ الثالثةُ فهي «أنَّى» التي بمعنى «كيف» وفيها معنى التعجبِ، فهي على هذه القراءةِ كلمةٌ واحدةٌ، وعلى غيرِها كلمتان. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(37)

التي تكون عليها القيامةُ، تصِخُّ الأسماع أي تُصِمُّها فلا يسمع إلا ما يدعى فيه لإحيائها. . ثم فسَّرَ في أي وقت تجيء فقال: (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) (يُغْنِيهِ) بالغين معجمة، وقد قرئت (شَأْنٌ يُعْنِيهِ)، أي شأن لا يهمه معه غيرُه وكذلك (يُغْنِيهِ) لَا يَقْدِرَ مع الاهتمام به على الاهتمام بغيره. ثم بَينَ أَحْوَالَ المُؤْمِنِينَ والكَافِرِينَ فوصف أحوال المؤمنين فقال: * * * (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) (مُسْفِرَةٌ) مضيئة قد علمت ما لها من الفوز والنعيم. ووصف الكفار وأهل النار فقال: * * * (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أي غَبَرَةٌ يعلوها سواد كالدخَانِ، ثم بَينَ مَنْ أَهْل هَذِه الحالِ فقال: (أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42).

سورة التكوير

سُورَةُ التَّكْوير (مَكِّيَّة) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله: (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) معنى (كُوِّرَتْ) جمع ضوءها ولُفَّتْ كما تلف العمامة، يقال: كرتُ العِمَامَةَ على رأسِي أكوِّرُها، وكوَّرْتُها أكوِّرهاَ إذا لَفَفْتَها. * * * (وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) انكدرت: تهافتت وتناثرت. * * * (وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) صارتْ سَرَاباً. * * * (وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) (الْعِشَارُ) النوق الحوامل التي في بطونها أولاها، والواحِدَةُ عُشَراء، وإنما قيل لها عشار لأنها إذَا أتت عليها عَشَرةُ أَشهُرٍ - وهي تضع إذا وضعت لِتَمام في سنة - فَهِيَ عُشَراء، أحسن ما يكون في الحملُ، فليس يعطلها أهلها إلا في حال القيامة. وخوطبت العرب بأمر العِشار لأن مالها وَعَيْشَها أكثرهُ من الِإبل (1). * * * (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) قيل تحشر الوحوش كلها حَتَّى الذُّبَابُ يُحْشَرُ للقصاص.

_ (1) قال السَّمين: والعِشار: جمع عُشَراء، وهي الناقةُ التي مَرَّ لِحَمْلِها عشرةُ أشهرٍ، ثم هو اسمُها إلى أَنْ تَضَعَ في تمام السنةِ، وكذلك «نِفاس» في جَمْع نُفَساء. وقيل: العِشارُ: السَّحابُ. وعُطِّلت، أي: لا تُمْطر. وقيل: الأرضُ التي تَعَطَّل زَرْعُها. والتَّعْطيل: الإِهمالُ. ومنه قيل للمرأة: «عاطِلٌ» إذا لم يكُنْ عليها حُلِيّ. وتقدَّم/ في «بئرٍ مُعَطَّلةٍ». وقال امرؤ القيس: 4511 وجِيْدٍ كجِيْدِ الرِّئْمِ ليس بفاحشٍ. . . إذا هي نَصَّتْهُ ولا بمُعَطَّلِ وقرأ ابنُ كثير في روايةٍ «عُطِلت» بتخفيفِ الطاءِ. قال الرازي: «هو غَلَطٌ، إنما هو» عَطَلَتْ «بفتحتَيْنَ بمعنى تَعَطَّلَتْ؛ لأنَّ التشديدَ فيه للتعدي. يُقال: عَطَّلْتُ الشيءَ وأَعْطَلْتُه فَعَطَلَ». والوحوش: ما لم يَتَأنَّسْ من حيوانِ البَرِّ. والوَحْشُ أيضاً: المكانُ الذي لا أُنْسَ فيه، ومنه لَقِيْتُه بوَحْشِ إصْمِت، أي: ببلدٍ قَفْر. والوحشُ: الذي يَبيت جوفُه خالياً من الطعام، وجمعُه أَوْحاش، ويُسَمَّى المنسوبُ إلى المكانِ الوَحْشِ: وَحْشِيّ، وعَبَّر بالوَحْشِيِّ عن الجانبِ الذي يُضادُّ الإِنسيَّ، والإِنسيُّ ما يُقْبَلُ من الإِنسان، وعلى هذا وحشيُّ الفَرَس وإنْسِيُّه. وقرأ الحسن وابن ميمون بتشديد الشينِ مِنْ حُشِّرَتْ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(6)

(وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) بالتثقيل، ويقرأ (سُجِرَتْ) بالتخفيف. ومعنى سُجِّرَتْ قيل إنه في معنى فُجِّرتْ، وقيل سُجِّرَتْ مُلِئَتْ، وِمنه البحر المسْجُورِ المَمْلُوء. وقيل معنى سُجِرَت جُعَلِتْ مياهها نيراناً بها يعذَب أهل النَّارِ. * * * (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) قُرِنَتْ كل شيعةٍ بمن شَايَعَتْ، وقيل قُرِنَتْ بأعمَالِها، وقيل قُرِنَت الأجسام بالأرواح. * * * (وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) ويقرأ (وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سَأَلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) والْمَوْءُودَةُ: التي كانت العرب تَئِدُهَا، كانُوا إذَا وُلدَ لأحَدِهم بنت دَفَنَها حيَّة، فمعنى سؤالها ب (بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) تبكيتُ قَاتِلِها في القيامة لأن جَوَابَهَا قُتِلَتُ بغير ذنب. ومثل هذا التبكيت قول الله تعالى: (يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ) فإنما سؤاله وجوابه تبكيت لمَنِ ادَّعى هذا عليه. يقال: وَأَدْتُ أَئِدُ وأْداً، إذا دفنت المولود حيًّا، والفاعل وَائدٌ، والفاعلة وائدة، والفاعلات وائدات. قال الفرزدق: وَمِنَّا الَّذِي مَنَعَ الوَائِدَا. . . تِ فَأَحْيَا الوَئِيدَ وَلَمْ يُوأَدِ وكذلك من قرأ: سَأَلَتْ بأي ذنب قُتِلَتْ، سؤالها تبكيت لقاتلها (1). * * * (وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10)

_ (1) قال السَّمين: قوله: {الموءودة}: هي البنتُ تْدْفَنُ حيةً مِنْ الوَأْدِ، وهو الثِّقَلُ؛ لأنَّها تُثْقَلُ بالترابِ والجَنْدَل. يقال: وَأَدَه يَئِدُهُ كوَعَدَه يَعِدُه. وقال الزمخشري: «وَأَدَ يَئِدُ، مقلوبٌ مِنْ آد يَؤُوْد إذا أَثْقَلَ. قال اللَّهُ تعالى: {وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا} [البقرة: 255] لأنه إثْقالٌ بالتراب». قال الشيخ: «ولا يُدَّعى ذلك؛ لأنَّ كلاً منهما كاملُ التصرُّفِ في الماضي والأمرِ والمضارعِ والمصدرِ واسمِ الفاعلِ واسمِ المفعولِ، وليس فيه شيءٌ مِنْ مُسَوِّغات ادِّعاءِ القَلْبِ. والذي يُعْلَمُ به الأصالةُ مِنْ القَلْب: أَنْ يكونَ أحدُ النَّظْمَيْن فيه حُكْمٌ يَشْهَدُ له بالأصالةِ، والآخرُ ليس كذلك أو كونُه مجرداً من حروف الزيادة والآخر فيه مزيداً، وكونُه أكثرَ تصرفاً والآخر ليس كذلك، أو أكثرَ استعمالاً من الآخرِ، وهذا على ما قُرِّرَ وأُحْكِمَ في علمِ التصريفِ. فالأول: كيَئِس وأيِسَ. والثاني: كَطَأْمَنْ واطمأنَّ. والثالث: كشوايع وشواعِي. والرابع: كلَعَمْري ورَعَمْلي». وقرأ العامَّةُ: «المَوْءُوْدَة» بهمزةٍ بينَ واوَيْن ساكنتَيْن كالمَوْعودة. وقرأ البزيُّ في روايةٍ بهمزةٍ مضمومةٍ ثم واوٍ ساكنةٍ. وفيها وجهان، أحدُهما: أَنْ تكونَ كقراءةِ الجماعة ثم نَقَلَ حركةَ الهمزةِ إلى الواوِ قبلها، وحُذِفَتِ الهمزةُ، فصار اللفظُ المَوُوْدَة: واوٌ مضومةٌ ثم أخرى ساكنةٌ، فقُلبت الواوُ المضمومةُ همزةً نحو: «أُجوه» في وُجوه، فصار اللفظُ كما ترى، ووزنُها الآن المَفُوْلة؛ لأنَّ المحذوفَ عينُ الكلمةِ. والثاني: أَنْ تكونَ الكلمةُ اسمَ مفعولٍ مِنْ آدَه يَؤُوده مثلَ: قاده يَقُوده. والأصلُ: مأْوُودة، مثلَ مَقْوُوْدة، ثم حَذَفَ إحدى الواوين على الخلافِ المشهورِ في الحَذْفِ مِنْ نحوِ: مَقُوْل ومَصُوْن فوزنُها الآن: إمَّا مَفُعْلَة إنْ قلنا: إنَّ المحذوفَ الواوَ الزائدةُ، وإمَّا مَفُوْلة إنْ قُلْنا: إنَّ المحذوفَ عينُ الكلمةِ، وهذا يُظْهِرُ فَضْلَ عِلْمِ التصريفِ. وقُرِىءَ «المَوُوْدة» بضمِّ الواو الأولى على أنه نَقَل حركةَ الهمزةِ بعد حَذْفِها ولمَ يَقْلِبَ الواوَ همزةً. وقرأ الأعمش «المَوْدَة» بزنةِ المَوْزَة. وتوجيهُه: أنه حَذَفَ الهمزةَ اعتباطاً، فالتقى ساكنان، فحَذَفَ ثانيهما، ووزنُها المَفْلَة؛ لأنَّ الهمزةَ عينُ الكلمةِ، وقد حُذِفَتْ. وقال مكي: «بل هو تخفيفٌ قياسِيٌّ؛ وذلك أنَّه لمَّا نَقَل حركةَ الهمزةِ إلى الواوِ لم يَهْمِزْها، فاستثقلَ الضمَّةَ عليها، فسَكَّنها، فالتقى ساكنان فحَذَفَ الثاني، وهذا كلُّه خروجٌ عن الظاهرِ، وإنما يظهر في ذلك ما نَقَله القُرَّاء في وقفِ حمزةَ: أنه يقفُ عليها كالمَوْزَة. قالوا: لأجل الخطِّ لأنها رُسِمَتْ كذلك، والرسمُ سُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ. والعامَّةُ على» سُئِلت «مبنياً للمفعولِ مضمومَ السين. والحسنُ بكسرِها مِنْ سال يَسال كما تقدَّم. وقرأ أبو جعفر» قُتِّلَتْ «بتشديد التاءِ على التكثيرِ؛ لأنَّ المرادَ اسمُ الجنسِ، فناسبَه التكثيرُ. وقرأ عليٌّ وابن معسود وابن عباس» سَأَلَتْ «مبنياً للفاعل،» قُتِلْتُ «بضمِّ التاءِ الأخيرة التي للمتكلم حكايةً لكلامِها. وعن أُبَيّ وابن مسعود أيضاً وابن يعمرَ» سَأَلَتْ «مبنياً للفاعل،» قُتِلَتْ «بتاءِ التأنيث الساكنةِ كقراءةِ العامة. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(11)

وَنَشَرَتْ. نشرت الصحف وأعطى كل إنسان كتابه بيمينه أو بشماله على قدر عمله. * * * (وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11) وقرئت (قُشِطَتْ) بالْقَافِ، ومعناهما قُلِعَت كما يُقْلَع السَّقْفُ. يقال: كَشَطْتُ السقفَ وقشطت السقف بمعنى واحد. والقاف والكاف تُبْدَلُ إحداهما من الأخرى كثيراً. وَمِثلُ ذَلِكَ لبكت الشيء ولبقته إذَا خَلطته. * * * (وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) (سُعِرَتْ) وَ (سُعِّرَتْ) بالتشديد والتخفيف، ومعناه أُوقدت، وكَذَلِكَ (سُعِّرَتْ). إلا أن (سُعِّرَتْ) أوقدت مرة بعد مرة. * * * (وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) أي قربت من المتقين، وجواب هذه الأشياء قوله: * * * (عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14) أي إذا كانت هذه الأشياء التي هي في يوم القيامة، علمت في ذلك الوقت كل نفس ما أَحْضَرَتْ، أَي مِنْ عَمَل، فأثيبت عَلَى قَدْرِ عَمَلِها. * * * وقوله: (فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) الخُنَس جمع خَانِسٍ، والجواري جمع جَارِيَةٍ، من جَرَى يَجْرِي. والخنس جمع خانس وخانسةٍ، وكذلك الْكُنَّسِ جمعُ كانِس وكانسةٍ. والمعنى فأقسم، و " لَا " مؤكدة. والخنس ههنا أكثر التفسير يعنى بها النجوم، لأنها تَخْنِس أَيْ تَغِيبُ لأن مَعَنى (وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18)). وَمَعَنَى (الخُنَس). و (الكُنْس) في

(17)

النجوم أنها تطلع جارية، وكذلك تخْنسُ، أي تغيب، وكذلك تكنس تدخل في كناسها، أي تغيب في المواضع التي تغيب فيها. وقيل الخنس ههنا يعني بَقَر الْوَحْشِ وظباء الوحش، ومعنى خُنس جمع خَانِسٍ والظباء خنسٌ والبَقَر خُنسٌ. والخَنسُ قِصَرُ الأنف وتأخره عَنِ الفَمِ، وإذا كان للبقر أو كان للظباء فمعنى الكنس أي التي تكنس، أي تدخل الكِنَاسَ وهو الغصن من أغْصَانِ الشجَرِ. * * * (وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) يقال عَسْعَسَ الليل إذَا أَقْبَلَ، وعَسْعَسَ إذا أَدْبَرَ، والمَعْنَيَانِ يرجعان إلى شيءٍ وَاحدٍ، وهو ابتداء الظلام في أوله، وإدباره في آخره. * * * (وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إذا امتدَّ حَتَى يصيرَ نَهَاراً بيِّناً. وجواب القسم في هذه الأشياء أعني (فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ) وما بعده قوله: * * * (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) يعنى أن القرآن نزل به جبريل عليه السلام. * * * (ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) قيل إنه من قوة جبريل - صلى الله عليه وسلم - أنه قَلَبَ مَدِينة قوم لُوطٍ بِقَوَادِمِ جناحه وهي قرى أربع. * * * (وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) هذا أيضاً جواب القسم، المعنى فأقسم بهذه الأشياء أن القرآن نزل به جبريل عليه السلام، وأقسم بهذه الأشياء مَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ، يعني به النبي - صلى الله عليه وسلم -

(24)

لأنهم قالوا: (يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6). فقال: (ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2). وقال في هذا الموضع (وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) قد فسرنا ذلك فِي سُورَةِ والنجِمْ. * * * (وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) (بِظَنِينٍ) ويقرأ (بِضَنِينٍ) فمن قَرَأ (بِظَنِينٍ) فمعناه ما هو على الغيب بِمُتهَم وهو الثقة فيما أداه عن اللَّه - جلَّ وعزَّ -، يقال ظننت زيداً في معنى اتهمت زيداً، ومن قرأ (بِضَنِينٍ) فمعناه ما هو على الغيب ببخيل، أي هو - صلى الله عليه وسلم - يؤدي عن الله وُيعَلِّمُ كتابَ اللَّه (1). * * * (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) معناه فأيَّ طريق تسلكون أبين من هذه الطريقة التي بينتُ لَكُمْ. * * * (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) أي الاستقامة واضحة لكم، فمن شاء أخذ في طريق الحقِّ والقصد وهو الإيمان باللَّهِ عزَّ وجلَّ ورسوله. ثم أعلمهم أن المشيئَةَ في التوفيق إليه، وأنهم لا يقدرون على ذَلِك إلا بمشيئة اللَّه وتوفيقه فقال: * * * (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29) ودليل ذلك أيضاً: (وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ).

_ (1) قال السَّمين: قوله: {بِضَنِينٍ}: قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بالظاء بمعنى مُتَّهم، مِنْ ظنَّ بمعنى اتَّهم فيتعدَّى لواحدٍ. وقيل: معناه بضعيفِ القوةِ عن التبليغ مِنْ قولِهم: «بئرٌ ظَنُوْنٌ»، أي: قليلةُ الماءِ. وفي مصحفِ عبد الله كذلك، والباقون بالضاد بمعنى: ببخيلٍ بما يأتيه من قِبَلِ ربِّه، إلاَّ أنَّ الطبريَّ نَقَلَ أنَّ الضادَ خطوطُ المصاحفِ كلِّها، وليس كذلك لِما مرَّ، وكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها، وهذا دليلٌ على التمييز بين الحرفين، خِلافاً لمَنْ يقول: إنه لو وقع أحدُهما مَوْقِعَ الآخرِ لجاز، لِعُسْرِ معرفتِه. وقد شَنَّعَ الزمخشري على مَنْ يقول ذلك، وذكر بعضَ المخارج وبعضَ الصفاتِ، بما لا يَليق التطويلُ فيه. و «على الغيب» متعلقٌ ب «ظَنِين» أو «بضَنِين» اهـ (الدُّرُّ المصُون).

فهذا إعلام أن الإنسان لا يعمل خيراً إلا بتوفيق اللَّه ولا شرًّا إلا بخذلانٍ من اللَّه، لأن الخير والشر بقضائه وقَدَرِه يضل من يشاء ويهدي من يشاء كما قال جَلَّ وَعَزَّ (اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13).

سورة الانفطار

سُورَةُ الانْفِطَار (مَكِّيَّة) بسم اللَّه الرحن الرحيم قوله عزَّ وجلَّ: (إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) أي انشقت، تتشقق السماء يومَ القيامة بالغمام، كما قال عزَّ وجلَّ: * * * (وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) أي تَساقطت وتهافتت. * * * (وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) فُجِّرَ العَذْبُ إلى المالح. * * * (وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) يعني بحثرت، أي قلب ترابها وبعث الموتى الذين فيها. * * * (عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) (مَا قَدَّمَتْ) من عَمَلٍ أمرت به وما (أَخَّرَتْ) منه فلم تعلمه. وقيل: وَأخرَتْ سَنَّتْ من سُنةٍ - عُمِل بها بعدها. * * * قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) أي ما خدعك وَسَوَّلَ لكَ حتى أضعت ما وجب عليك. * * * وقوله: (الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) (فَعَدَّلَكَ) أي خلقك في أحسن تقويم وتقرأ (فَعَدَلَكَ) بالتخفيف والتشديد جميعاً (1). * * * وقوله: (فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8) يجوز أن يكون (ما) صِلةً مُؤَكدَة، ويكون المعنى في أي صورة شاء ركَبَكَ. إما طويلا وإما قصيرا، إما مستحسنا وإما غير ذلك. ويجوز أَنْ يكون

_ (1) قال السَّمين: قوله: {الذي خَلَقَكَ}: يحتمل الإِتباعَ على البدلِ والبيان والنعتِ، والقطعَ إلى الرفع أو النصبِ. قوله: {فَعَدَلَكَ} قرأ الكوفيون «عَدَلَك، مخففاً. والباقون/ مثقلاً. فالتثقيل بمعنى: جَعَلكَ متناسِبَ الأطرافِ، فلم يجعَلْ إحدى يَدَيْكَ أو رِجْلَيْكَ أطولَ، ولا إحدى عينَيْك أَوْسَعَ، فهو من التَّعْديلِ. وقراءةُ التخفيفِ تحتمل هذا، أي: عَدَلَ بعضَ أعضائِك ببعضٍ. وتحتمل أَنْ تكونَ من العُدولِ، أي: صَرَفَك إلى ما شاء من الهيئاتِ والأشكالِ والأشباهِ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(9)

ما في معنى الشرط والجزاء، فيكون المعنى في أي صورة ما شاء أن يركبك فيها ركبك * * * وقوله: (كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) أي بل تكذبون بأنكم تبعثون وتدانون، أي تجازون بأعمالكم، ثم أعلمهم - عزَّ وجلَّ - أن أعمالهم محفوظة فقال: * * * (يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12) فيكتبونه عليهم. * * * وقوله: (يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) يوم الجزاء وهو يوم القيامة. * * * وقوله (وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) فكرر ذكر اليوم تعظيماً لشأنه. * * * وقوله: (يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19) وقرئت (يَوْمُ) لا يملك نفس. فمن قرأ بالرفع فعلى أن اليومَ صفةٌ لقوله (يَوْمُ الدِّينِ) ويجوز أن يكون رفعاً بإضمار هو، فيكون المعنى هو لا تملك لنفس شيئاً، ويجوز أن يكون في موضع رفع وهو مبني على الفتح لِإضافته إلى قوله " لا تملك " لأن " ما " أضيف إلى غير المتمكن قد يبنى على الفتح وإن كان في موضع رفع أو جر كما قال الشاعر: لم يَمْنع الشُّرْبَ منها غَيْرَ أَن نطقت. . . حمامة في غُصُونٍ ذاتِ أَوْقالِ فأضاف غير إِلى أن نطقت فبناه على الفتح، وجائز أن يكون نصبه على معنى هذه الأشياء المذكورة، يكون (يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا) (1).

_ (1) قال السَّمين: قوله: {يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ}: قرأ ابن كثير وأبو عمرو برفع «يوم» على أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ، أي: هو يومُ. وجَوَّز الزمخشري أَنْ يكونَ بدلاً مِمَّا قبلَه، يعني قولَه: «يومَ الدين». وقرأ أبو عمروٍ في روايةٍ «يومٌ» مرفوعاً منوناً على قَطْعِه عن الإِضافة، وجَعَلَ الجملةَ نعتاً له، والعائدُ محذوفٌ، أي: لا يَمْلِكُ فيه. وقرأ الباقون «يومَ» بالفتح. وقيل: هي فتحةُ إعرابٍ، ونصبُه بإضمار أعني أو يَتجاوزون، أو بإضمار اذكُرْ، فيكونُ مفعولاً به، وعلى رأي الكوفيين يكون خبراً لمبتدأ مضمر، وإنما بُني لإِضافتِه للفعل، وإن كان معرباً، كقولِه {هذا يَوْمُ يَنفَعُ} [المائدة: 119] وقد تقدَّم. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

سورة المطففين

سُورَةُ الْمُطَفِّفِينَ (مَكِّيَّة) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله عزَّ وجلَّ: (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) (وَيْلٌ) رفع بالابتداء والخبر قوله (لِلْمُطَفِّفِينَ)، ولو كان في غير القرآن لجاز " ويلاً " للمطففين، على معنى جعل الله لهم ويلاً، والرفع أجود في القراءة لأن المعنى قد ثبت لهم هذا، والويل كلمة تقال لكل من هو في عذاب وهلكة، والمطففون الذين ينقصون المكيال والميزان وإنما قيل للفاعل من هذا مطفف، لأنه لا يكاد يسرق في المكيال والميزان، إلا الشيء الحقير الطفيف. وإنما أخِذَ من طَفَّ الشيء وهو جانبه، وقد فسر أمره في السورة فقال: * * * (الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) المعنى إذا اكتالوا من الناس استوفوا عَلَيْهم الكيل وكذلك إذا اتَّزَنُوا استوفوا الوزن، ولم يذكرا إذا اتَّزَنوا " لأن الكيل والوزن بهما الشراء والبيع فيما يكال ويوزن. * * * (وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أي إذا كالوا لهم أو وزنوا لهم يخسرون، أي ينقصون في الكيل والوزن، ويجوز في اللغة يَخْسِرون. يقال:. أخسَرَتُ الميزان وخَسَرتُه، ولا أعلم أحداً قرأ في هذا الموضع يَخْسرون، ومن " تأول معنى " كَالُوهُم " كالوا لههم لم يجز أن يقف على كالوا حتى يصلها بِ (هم)، فيقول (كالُوهُم) (1).

_ (1) قال السَّمين: قوله: {كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ}: رُسِمتا في المصحفِ بغير ألفٍ بعد الواوِ في الفعلَيْن، فمِنْ ثَمَّ اختلفَ الناسُ في «هم» على وجهين، أحدهما: هو ضميرُ نصبٍ، فيكونُ مفعولاً به، ويعودُ على الناس، أي: وإذا كالُوا الناسَ، أو وَزَنوا الناسَ. وعلى هذا فالأصلُ في هذَيْن الفعلَيْن التعدِّي لاثنين، لأحدِهما بنفسِه بلا خِلافٍ، وللآخرِ بحرفِ الجرِّ، ويجوزُ حَذْفُه. وهل كلٌّ منهما أصلٌ بنفسِه، أو أحدُهما أصلٌ للآخر؟ خلافٌ مشهورٌ. والتقدير: وإذا كالوا لهم طعاماً أو وَزَنُوه لهم، فحُذِف الحرفُ والمفعولُ المُسَرَّح. وأنشد الزمخشريُّ: 4513 ولقد جَنَيْتُكَ أَكْمُؤاً وعَساقِلاً. . . ولقد نَهْيْتُك عَن بناتِ الأَوْبَرِ أي: جَنَيْتُ لك. والثاني: أنه ضميرُ رفعٍ مؤكِّدٍ للواو. والضميرُ عائدٌ على المطففينِ، ويكونُ على هذا قد حَذَفَ المَكيلَ والمَكيلَ له والموزونَ والموزونَ لهُ. إلاَّ أنَّ الزمخشريَّ رَدَّ هذا، فقال: «ولا يَصِحُّ أَنْ يكونَ ضميراً مرفوعاً للمطفِّفين؛ لأنَّ الكلامَ يَخْرُجُ به إلى نَظْم فاسدٍ، وذلك أنَّ المعنى: إذا أخذوا من الناسِ اسْتَوْفُوا، وإذا أعطَوْهم أَخْسَروا. فإنْ جَعَلْتَ الضميرَ للمطفِّفين انقلبَ إلى قولِك: إذا أخذوا من الناسِ اسْتَوْفَوْا، وإذا تَوَلَّوا الكيلَ أو الوزنَ هم على الخصوص أَخْسَروا، وهو كلامٌ مُتَنَافِرٌ؛ لأنَّ الحديثَ واقعٌ في الفعل لا في المباشر». قال الشيخ: «ولا تنافُرَ فيه بوجهٍ، ولا فرقَ بين أَنْ يؤكَّد الضميرُ أو لا يُؤَكَّد، والحديثُ واقعٌ في الفعل. غايةُ ما في هذا أنَّ متعلقَ الاستيفاء وهو على الناس مذكورٌ، وهو في {كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ} محذوفٌ للعلم به؛ لأنه من المعلوم أنهم لا يُخْسِرون ذلك لأنفسهم». قلت: الزمخشريُّ يريدُ أَنْ يُحافظَ على أنَّ المعنى مرتبطٌ بشيئَيْن: إذا أخذوا مِنْ غيرِهم، وإذا أَعْطَوْا غيرَهم، وهذا إنما يَتِمُّ على تقديرِ أَنْ يكونَ الضميرُ منصوباً عائداً على الناس، لا على كونِه ضميرَ رفعٍ عائداً على المطفِّفين، ولا شكَّ أن هذا المعنى الذي ذكَره الزمخشريُّ وأرادَه أَتَمُّ وأَحسنُ مِنْ المعنى الثاني. ورجَّح الأوّلَ سقوطُ الألفِ بعد الواوِ، ولأنه دالٌّ على اتصالِ الضميرِ، إلاَّ أنَّ الزمخشري استدركه فقال: «والتعلُّقُ في إبطالِه بخطِّ المصحفِ وأنَّ الألفَ التي تُكتب بعد واوِ الجمع غيرُ ثابتةٍ فيه، ركيكٌ لأنَّ خَطَّ المصحفِ لم يُراعِ في كثيرٍ منه حَدَّ المصطلحِ عليه في علمِ الخطِّ، على أني رأيْتُ في الكتب المخطوطةِ بأيدي الأئمة المُتْقِنين هذه الألفَ مرفوضةً لكونِها غيرَ ثابتةٍ في اللفظِ والمعنى جميعاً؛ لأنَّ الواوَ وحدَها مُعْطِيَةٌ معنى الجَمْع، وإنما كُتِبت هذه الألفُ تَفْرِقَةً بين واوِ الجمعِ وغيرِها في نحو قولِك:» هم [لم] يَدْعُوا «، و» هو يَدْعُو «، فمَنْ لم يُثْبِتْها قال: المعنى كافٍ في التفرقةِ بينهما، وعن عيسى بنِ عمرَ وحمزةَ أنَّها يرتكبان ذلك، أي: يجعلان الضميرَيْن للمطففين، ويقفان عند الواوَيْن وُقَيْفَةً يُبَيِّنان بها ما أرادا». ولم يَذْكُر فعلَ الوزنِ أولاً؛ بل اقتصر على الكيلِ، فقال: «إذا اكْتالوا» ولم يَقُلْ: أو اتَّزَنوا، كما قال ثانياً: أو وَزَنُوهم. قال الزمخشري: «كأنَّ المطفِّفين كانوا لا يأخذون ما يُكال ويُوْزَنُ إلاَّ بالمكاييلِ دون الموازينِ لتمكُّنهم بالاكتيالِ من الاستيفاءِ والسَّرِقَةِ؛ لأنَّهم يُدَعْدِعُون ويَحْتالون في المَلْء، وإذا أَعْطَوْا/ كالُوا ووزَنوا لتمكُّنِهم من البَخْسِ في النوعَيْن جميعاً». قولُه: «يُخْسِرون» جوابُ «إذا» وهو مُعَدَّىً بالهمزة. يقال: خَسِرَ الرجلُ، وأَخْسَرْتُه أنا، فمفعولُه محذوفٌ، أي: يُخْسِرون الناسَ مَتاعَهم. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4)

ومن الناس من يجعل " هم " توكيداً لما في كالوا، فيجوز أن تقف فتقول: وإذا كالوا، والاختيار أن تكون " هم " في موضع نصب، بمعنى كالوا لهم. ولو كانت على معنى كالوا، ثم جاءت " هم " توكيداً، لكانَ في المصحف ألف مثبْة قَبلَ (همْ). * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يعنى يوم القيامة، أي إنهم لو ظنوا أنهم يبعثون ما نَقصوا في الكيل والوزن. * * * وقوله: (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6) (يَوْمَ) منصوب بقوله (مَبْعُوثُونَ) المعنى ألا يظنون أنهم يبعثون يوم القيامة. ولو قرئت " يَوْمِ يقوم الناس " بكسر يوم لكان جَيِّداً على معنى ليوم يقوم الناس. ولو قرئت بالرفع لَكَانَ جَيِّداً يومُ يقوم الناسُ، على معنى ذلك يوم يقوم الناس، ولا يجوز القراءة إلا بما قرأ به القراء (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ) - بالنصب - لأن القراءة سنة، ولا يجوز أن تخالف بما يجوز في العربية. * * * وقوله: (كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) (كَلَّا) رَدعٌ وتنبيه. المعنى ليس الأمر على ما هم عليه، فليرتدعوا عَنْ ذَلِكَ وقوله: (فِي سِجِّينٍ) زعم أهل اللغة أن سِجِّينَ فِعِّيل من السجْنِ، المعنى كتابهم في حبس، جعل ذلك دَلالة على خساسة مَنْزِلَتِهِمْ. وقيل (فِي سِجِّينٍ) في حسابٍ، وفِي سِجِّينٍ في حجر من الأرْضِ السابِعَةِ (1). * * * وقوله: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) أي ليس ذلك مما كنت تعلمه أنت وَلَا قَوْمُك، ثم فسر فقال: * * * (كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9) أي مكتوب.

_ (1) قال السَّمين: قوله: {لَفِي سِجِّينٍ}: اختلفوا في نون «سِجِّين». فقيل: هي أصليةٌ. اشتقاقهُ من السِّجْنِ وهو الحَبْسُ، وهو بناءُ مبالغةٍ، فسِجِّين من السَّجْنِّ كسِكِّير من السُّكْر. وقيل: بل هي بدلٌ من اللامِ، والأصلُ: سِجِّيْل، مشتقاً من السِّجِلِّ وهو الكتابُ. واختلفوا فيه أيضاً: هل هو اسمُ موضعٍ، أو اسمُ كتابٍ مخصوصٍ؟ وهل هو صفةٌ أو عَلَمٌ منقولٌ مِنْ وصفٍ كحاتِم. وهو مصروفٌ إذ ليس فيه إلاَّ سببٌ واحدٌ وهو العَلَمِيَّةُ، وإذا كان اسمَ مكانٍ، فقوله «كتابٌ مَرْقُوْمٌ»: إمَّا بدلٌ منه، أو خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ، وهو ضميرٌ يعودُ عليه، وعلى التقديرَيْن فهو مُشْكِلٌ؛ لأنَّ الكتابَ ليس هو المكانَ فقيل: التقدير: هو مَحَلُّ كتابٍ، ثم حُذِفَ المضافُ. وقيل: التقديرُ: وما أدراك ما كتابُ سِجِّين؟ فالحذفُ، إمَّا مِنْ الأولِ، وإمَّا مِنْ الثاني: وأمَّا إذا قُلْنا: إنه اسمٌ ل «كتاب» فلا إشكال. وقال ابن عطية: «مَنْ قال: إنَّ سِجِّيناً موضعٌ فكتابٌ مرفوعٌ، على أنه خبرُ» إنّ «والظرفُ الذي هو» لفي سِجِّين «مُلْغَى، ومَنْ جعله عبارةً عن الخَسارة، فكتابٌ خبرُ مبتدأ محذوفٍ، التقدير: هو كتابٌ، ويكونُ هذا الكلامُ مفسِّراً لِسِجِّين ما هو؟» انتهى، وهذا لا يَصِحُّ ألبتَّةَ؛ إذ دخولُ اللامِ يُعَيِّنُ كونَه خبراً فلا يكونُ مُلْغى. لا يقال: اللامُ تَدْخُلُ على معمولِ الخبرِ فهذا منه فيكونُ مُلْغى؛ لأنه لو فُرِضَ الخبرُ وهو «كتابٌ» عاملاً أو صفتُه عاملةٌ وهو «مرقوم» لامتنعَ ذلك. أمَّا مَنْعُ عملِ «كتابٌ» فلأنَّه موصوف، والمصدرُ الموصوفُ لا يعمل. وأمَّا امتناعُ عملِ «مرقومٌ» فلأنَّه صفةٌ، ومعمولُ الصفةِ لا يتقدَّمُ على موصوفِها. وأيضاً فاللامُ إنما تدخُلُ على معمولِ الخبر بشرطِه، وهذا ليس معمولاً للخبرِ، فتعيَّنَ أَنْ يكونَ الجارُّ هو الخبرَ، وليس بملغى. وأمَّا قولُه ثانياً «ويكون هذا الكلامُ مفسِّراً لسِجِّين ما هو» فمُشْكِلٌ؛ لأنَّ الكتابَ ليس هو الخسَارَ الذي جُعِلَ الضميرُ عائداً عليه مُخْبِراً عنه ب «كتابٌ». وقال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: قد أخبر الله تعالى عن كتاب الفجار بأنه في سِجِّين وفَسَّر سِجِّيناً ب» كتاب مرقوم «فكأنه قيل: إنَّ كتابَهم في كتابٍ مرقوم فما معناه؟ قلت:» سِجِّين «كتابٌ جامعٌ، هو ديوانُ الشرِّ دَوَّن الله فيه أعمال الشياطين وأعمال الكفَرَةِ والفَسَقَةِ من الجنِّ والإِنسِ، وهو كتابٌ مَسْطورٌ بَيِّنُ الكِتابةِ، أو مَعْلَمٌ يَعْلَمُ مَنْ رآهُ أنه لا خَيْرَ فيه فالمعنى: أنَّ ما كُتِبَ مِن أعمالِ الفُجَّارِ مُثْبَتٌ في ذلك الديوانِ، ويُسَمَّى سِجِّيلاً فِعِّيلاً من السَّجْلِ وهو الحَبْسُ والتضييق؛ لأنه سببُ الحِبْسِ والتضييق في جهنم» انتهى. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(13)

وقوله عزَّ وجلَّ: (إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) أساطير أباطيل، واحدها أسطورة مثل أحدوثة وَأحادِيث. * * * وقوله: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) (كَلَّا) وتفسيرها تفسير التي قبلها. (بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ) بإدغام اللام في الراء وتفخيم الألف. وقد قرئت بل ران - بإمالة الألف والراء إلى الكسر. وقرئت بلْ ران بإظهار اللام والإدغام، والِإدغام أجود لقرب اللام من الراء، ولغلبة الراء على اللام. وإظهار اللام جائز إلا أن اللام من كلمة، والراء من كلمة أخرى. وران بمعنى غطى عَلَى قُلُوبِهِمْ، يقال: ران على قلبه الذنب يَرينُ رَيْناً إذا غشي على قلبه. ويقال غان على قلبه يغينُ غَيْناً. والغَيْنُ كالغيم الرقيق، والريْن كالصدأ يغشى على القلب. * * * وقوله جل ثناؤه: (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) وفي هذه الآية دليل على أن الله يُرَى في الآخرة، لولا ذلك لما كان في هذه الآية فائدة، ولا [خسَّت] منزلة الكفار بأنهم يحجبون عن اللَّه - عزَّ وجلَّ - وقال تعالى في المؤمنين: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23). فأعلم اللَّه عزَّ وجلَّ أن المؤمنين ينظرون إلى اللَّه، وأن الكفارَ يُحْجَبُونَ عَنْه * * * (ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثم بعد [حجبهم] عن الله يدخلِون النار وَلاَ يخرجُونَ عنها خَالِدِين فيها. * * * (ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) أي كنتم تكذبون بالبعث والجنة والنَّارِ. ثم أَعْلَمَ - عزَّ وجلَّ - أين محل كتاب الأبرار وما لهم من النعيم فرفع كتابهم على قدر مرتبتهم كما سَفَل وخسَّس كتاب الفجار فقال: * * * (كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) أَي أعلى الأمكنة (1).

_ (1) قال السَّمين: قوله: {لَفِي عِلِّيِّينَ}: هو خبر «إنَّ». وقال ابنُ عطية هنا كما قال هناك، ويُرَدُّ عليه بما تقدَّم. وعِلِّيُّون جمع عِلِّيّ، أو هو اسمُ مكانٍ في أعلى الجنة، وجَرَى مَجْرَى جمع العقلاء فرُفع بالواوِ ونُصِبَ وجُرَّ بالياء مع فوات شرطِ العقل. وقال أبو البقاء: «واحدُهم عِلِّيّ وهو الملك. وقيل: هي صيغةُ الجمع مثلَ عشرين» ثم ذكر نحواً مِمَّا ذَكرَهُ في «سِجِّين» مِنْ الحَذْفِ المتقدِّم. وقال الزمخشري: «عِلِّيُّون: عَلَمٌ لديوانِ الخبر الذي دُوِّن فيه كلُّ ما عَمِلَتْه الملائكةُ وصُلَحاءُ الثقلَيْنِ، منقولٌ مِنْ جَمْع» عِلِّيّ «فِعِّيل من العُلُو ك» سِجِّين «مِنْ السَّجْن»، سُميِّ بذلك: إمَّا لأنه سببُ الارتفاعِ، وإمَّا لأنه مرفوعٌ في السماءِ السابعةِ «. قلت: وتلك الأقوالُ الماضيةُ في» سِجِّين «كلُّها عائدةٌ هنا. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(19)

(وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) وإعراب هذا الاسم كإعراب الجمع لأنه على لفظ الجمع، كما تقول هذه قِنِسْرُونَ، ورأيت قِنِسْرِين، وقال بعض النحويين: هذا جمع لما لا يُحَدُّ وَاحِده، نحو ثَلَاثُون وَأَرْبَعونَ، فثلاثون كان لفظه لفظ جمع ثَلَاثٍ. وكذلك قول الشاعر: قَدْ شَرِبَتْ إِلاَّ الدُّهَيْدِهِينَا. . . قُلَيِّصَاتٍ وأُبَيْكِريِنَا يعني أن الإبل قَدْ شَرِبَت الأجمع الدهْدَاةِ، والدهداة حاشية الإبل كان قليصات وأبيكرين، ودهيدهين جمع ليس واحده محدوداً معلوم العَدَدِ. والقول الأول قول أكثر النحويين وأَبْيَنُها. * * * وقوله: (عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) الأرائك: واحدها أريكة، وهي الأسِرَّة في الحجال. * * * وقوله: (يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) الرحيق الشراب الذي لاَ غِشَّ فيه، قَالَ حَسَّان: يَسْقُونَ مَنْ وَرَدَ البَريصَ عليهمُ. . . بَرَدى يُصَفَّقُ بالرحِيقِ السَّلْسَل ومعنى (مَخْتُومٍ): في انقطاعه خاصة - ثم بَيَن فَقَالَ: * * * (خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26)

(27)

شربوا هذا الرحيق فَنِيَ ما في الكأس وانقطع الشرْبُ، انختم ذلك بطعم المسك ورائحته. * * * (وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28) تأتيهم من علو عيناً تنسم عليهم من الغرف، فعيناً في هذا القول منصوبة مَفْعولةٌ، كما قال: (أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا). ويجوز أن يكون (عَيْنًا) منصوبة بقوله يَسْقَوْنَ عيناً، أي مِنْ عَيْنٍ. ويجوز أن يكون عيناً منصوباً على الحال، ويكون (تَسْنِيم) معرفة و (عَيْنًا) نكرة. * * * وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) هؤلاء جماعة من كفار قرَيش كان يَمُرُّ بِهِمْ من قَدُمَ إسلامُه مع النبي - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه، وغيره - رحمهم اللَّه فيعيرونَهُمْ بالإسلام على وجه السخْرِية مِنْهمْ. * * * (وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) معجبيين بما هم فيه يَتَفكَّهوَنَ بذكرهم. * * * (وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) أي ما أرسل هؤلاء القوم على أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يحفظون عَلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ. * * * (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) يعني يوم القيامةِ. * * * (هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) أي هل جُوزُوا بِسُخْرِيَتهمْ بالمؤمِنينَ في الدنيا. ويقرأ هَثُّوِّبَ، بإدغام اللام في الثاء.

سورة الانشقاق

سُورَةُ الانْشِقَاق (مَكِّيَّة) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله: (إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) ْتنشق يوم القيامة بالغمام، وجواب (إذا) يدل عليه: (فَمُلاَقِيهِ) المعنى إذا كان يوم القيامة لقي الِإنْسَانُ عَمَلَهُ. * * * ومعنى: (وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) أي سمعت، يقال: أذنت للشيء آذن إذَا سَمِعتَ قال الشاعِرُ: صُمٌّ إِذا سَمِعوا خَيْراً ذُكِرْتُ به. . . وِإِنْ ذُكِرْتُ بسُوء عندهم أَذِنُوا أي سمعوا. ومعنى (وَحُقَّتْ) أي حق لها أنْ تَفْعَلَ (1). * * * (وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) أزيلت عَنْ هَيْئَتِهَا وَبُدِّلت. * * * (وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) أَلْقَتْ مَا فِيهَا مِنَ المَوْتَى والكُنُوز. * * * وقوله: (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) جاء في التفسير إنك عامِل لربك عَمَلاً فملاقيه. وجاء أيضاً: سَاعٍ إلى

_ (1) قال السَّمين: قوله: {وَأَذِنَتْ}: عَطْفٌ على «انْشَقَّتْ»، وقد تقدَّم أنه جوابٌ على زيادةِ الواوِ، ومعنى «أَذِنَتْ»، أي: استمعَتْ أَمْرَه. يُقال: أَذِنْتُ لك، أي: استمَعْتُ كلامَك. وفي الحديث: «ما أَذِن اللَّهُ لشيءٍ إذْنَه لنبيٍّ يتغَنَّى بالقرآن» وقال الشاعر: 4521 صُمٌّ إذا سَمِعوا خيراً ذُكِرْتُ به. . . وإن ذُكِرْتُ بسُوْءٍ عندهم أَذِنوا وقال آخر: 4522 إنْ يَأْذَنُوا رِيْبةً طاروا بها فَرَحاً. . . وما هُمُ أَذِنُوا مِنْ صالحٍ دَفَنوا وقال الجحَّافُ بنُ حكيم: 4523 أَذِنْتُ لكمْ لَمَّا سَمِعْتُ هريرَكُمْ. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . والاستعارةُ المذكورةُ في قولِه تعالى: {قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ} [فصلت: 11] أو الحقيقةُ عائدٌ ههنا. قوله: {وَحُقَّتْ} الفاعلُ في الأصلِ هو اللَّهُ تعالى، أي: حَقَّ اللَّهُ عليها ذلك، أي: بسَمْعِه وطاعتِه. يُقال: هو حقيقٌ بكذا وتَحَقَّق به، والمعنى: وحُقَّ لها أَنْ تفعلَ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(8)

رَبِّك سَعْياً فَمُلاقِيهِ. والكدح في اللغة السعْيُ [والدأب] في العَمَلِ في باب الدنيا وباب الآخرة، قال تميم بن مقبل: وما الدَّهرُ إِلا تارَتانِ فمنهما. . . أَموتُ وأُخْرى أَبْتَغي العَيْشَ أَكْدَحُ أي وَتَارة أسعى في طلبه العيش وأدْأبُ، وقيلإ فملاقيه @فملاقٍ رَبًكَ. وقيل فَمُلَاقٍ عَمَلكَ. * * * وقوله: (فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) رَوينَا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ذلك العرض على اللَّه - عزَّ وجلَّ - وأَنَّه مَنْ نوقش الحساب عُذِّبَ. وَرَوينَا أيضاً أنه مَن نوقش الحسابَ هَلَكَ. * * * وقوله: (فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) أي يقول: يا ويلاه، يا ثبوراه، وهذا يقوله من وقع في هلكة أي من أوتي كتابه وراء ظهره، ودليل ذلك علَى أَنهُ من المُعذبِينَ قوله: (وَيَصْلَى سَعِيرًا (12) وقرئت (وَيَصْلَّى سَعِيرًا)، أي يكثر عذابه. * * * وقوله: (إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) يعني في الدنْيَا. * * * فأمَّا (وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا) فمن صفة المؤمن، وينقلب إلى أهله في الجنانِ التي أعَدَّهن اللَّه لأوليائه. * * * وقوله: (إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14)

(15)

هذه صفة الكافر ظنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ بأن لن يبعث، ومعنى يحور - في اللغة - أن يرجع إلى اللَّه عزَّ وجلَّ. * * * (بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15) قبلَ أَن يخلقه، عالماً بأن مرجعه إليه - عَزَّ وَجَلَّ - * * * قوله: (فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) معناه فأقسم وقد فسرنا ذلك. والشفَق الحمرة التي ترى في الأفق في المغرب بعد سقوط الشمس. وقيل الشفق النَّهارُ (1). * * * (وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) معنى وَسَقَ جَمَعَ وَضم. قَال الشاعِر. مُسْتَوْسِقَاتٍ لو يَجِدْنَ سَائِقَا * * * (وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) اجتمع واستوى ليلة ثلاثَ عَشْرَةَ وأربَعَة عشرة. * * * (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19) (لَيَرْكَبُنَّ) أي حالًا بعد حال حتى يصير إلى اللَّه عزَّ وجلَّ، من إحياء وَأمامَةٍ وَبَعْثٍ. وقُرِئَتْ: (لَتَرْكَبَنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ). أي لَتَرْكَبَنَّ يا محمد طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ من أطباق السماء (2). * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23)

_ (1) قال السَّمين: قوله: {بالشفق}: قال الراغب: «الشَّفَقُ: اختلاطُ ضوءِ النهارِ بسوادِ الليل عند غُروبِ الشمس. والإِشفاقُ: عنايةٌ مختلِطَةٌ بخوفٍ؛ لأنَّ المُشْفِقَ يحبُّ المُشْفَقَ عليه، ويَخاف ما يلحقُه، فإذا عُدِّيَ ب» مِنْ «فمعنى الخوفِ فيه أظهرُ، وإذا عُدِّي ب» على «فمعنى العنايةِ فيه أظهرُ». وقال الزمخشري: «الشَّفَقُ: الحُمْرَةُ التي تُرى في الغرب بعد سقوطِ الشمسِ، وبسقوطِه يخرُجُ وقتُ المغربِ ويَدْخُلُ وقتُ العَتَمَةِ عند عامَّةِ العلماء، إلاَّ ما يُرْوى عن أبي حنيفةَ في إحدى الروايتَيْن أنه البياضُ وروى أسدُ بن عمرو أنه رَجَعَ عنه. سُمِّي شَفَقاً لر‍ِقَّته، ومنه الشَّفَقَةُ على الإِنسان: رِقَّةُ القلبِ عليه». انتهى. والشَّفَقُ شفقان: الشَّفَقُ الأحمر، والآخر الأبيضُ، والشَّفَق والشَّفَقَةُ اسمان للإِشفاقِ. قال الشاعر: 4527 تَهْوَى حياتي وأَهْوَى مَوْتَها شَفَقا. . . والموتُ أكرَمُ نَزَّالٍ على الحُرَمِ اهـ (الدُّرُّ المصُون). (2) قال السَّمين: قوله: {لَتَرْكَبُنَّ}: هذا جوابُ القسم. وقرأ الأخَوان وابن كثير بفتحِ التاءِ على خطابِ الواحد، والباقون بضمِّها على خطاب الجمع. وتقدَّم تصريفُ مثلِه. فالقراءةُ الأولى رُوْعي فيها: إمَّا خطابُ الإِنسانِ المتقدِّمِ الذِّكْرِ في قوله: {ياأيها الإنسان} [الانشقاق: 6]، وإمَّا خطابُ غيرِه. وقيل: هو خطابٌ للرسول، أي: لتركبَنَّ مع الكفارِ وجهادِهم. وقيل: التاءُ للتأنيثِ والفعلُ مسندٌ لضميرِ السماء، أي: لتركبَنَّ السماءَ حالاً بعد حال: تكون كالمُهْلِ وكالدِّهان، وتَنْفَطر وتَنشَقُّ. وهذا قولُ ابنِ مسعود. والقراءة الثانيةِ رُوْعِي فيها معنى الإِنسان إذ المرادُ به الجنسُ. وقرأ عمر «لَيَرْكَبُنَّ» بياء الغَيْبة وضَمِّ الباء على الإِخبار عن الكفار. وقرأ عمر أيضاً وابن عباس بالغَيبة وفتحِ الباء، أي: لَيركبَنَّ الإِنسانُ. وقيل: ليركبَنَّ القمرُ أحوالاً مِنْ سَرار واستهلال وإبدار. وقرأ عبد الله وابن عباس «لَتِرْكَبنَّ» بكسر حَرْفِ المضارعة وقد تقدَّم تحقيقُه في الفاتحة. وقرأ بعضُهم بفتح حرف المضارعة وكسرِ الباء على إسناد الفعل للنفس، أي: لَتَرْكَبِنَّ أنت يا نفسُ. قوله: {طَبَقاً} مفعولٌ به، أو حالٌ كما سيأتي بيانُه. والطَّبَقُ: قال الزمخشري: «ما طابَقَ غيرَه. يُقال: ما هذا بطَبَقٍ لذا، أي: لا يطابقُه. ومنه قيل للغِطاء: الطَّبَقُ. وأطباق الثرى: ما تَطابَقَ منه، ثم قيل للحال المطابقةِ لغيرِها: طَبَقٌ. ومنه قولُه تعالى: {طَبَقاً عَن طَبقٍ}، أي: حالاً بعد حال، كلُّ واحدةٍ مطابقةٌ لأختها في الشدَّةِ والهَوْلِ. ويجوز أنْ يكونَ جمعَ» طبقة «وهي المرتبةُ، مِنْ قولهم: هم على طبقاتٍ، ومنه» طبَقات الظهر «لفِقارِه، الواحدةُ طبَقَة، على معنى: لَتَرْكَبُّنَّ أحوالاً بعد أحوالٍ هي طبقاتٌ في الشدَّة، بعضُها أرفعُ من بعض، وهي الموتُ وما بعده من مواطنِ القيامة» انتهى. وقيل: المعنى: لتركبُنَّ هذه الأحوال أمةً بعد أمةٍ. ومنه قولُ العباس فيه عليه السلام: 4530 وأنتَ لَمَّا وُلِدْتَ أَشْرَقَتِ الْ. . . أرضُ وضاءَتْ بنورِك الطُّرُقُ تُنْقَلُ مِنْ صالِبٍ إلى رَحِمٍ. . . إذا مضى عالَمٌ بدا طَبَقُ يريد: بدا عالَمٌ آخرُ: فعلى هذا التفسير يكون «طبقاً» حالاً لا مفعولاً به. كأنه قيل: متتابعِين أُمَّةً بعد أُمَّة. وأمَّا قولُ الأقرعِ: 4531 إنِّي امرُؤٌ قد حَلَبْتُ الدهرَ أَشْطُرَه. . . وساقَني طبَقاً منه إلى طَبَقِ فيحتملُ الأمرين، أي: ساقَني مِنْ حالةٍ إلى أخرى، أو ساقني من أمةٍ وناس إلى أمةٍ وناسٍ آخرين، ويكون نصبُ «طَبَقاً» على المعنيَيْن على التشبيه بالظرف، أو الحال، أي: منتقلاً. والطَّبَقُ أيضاً: ما طابقَ الشيءَ، أي: ساواه، ومنه دَلالةُ المطابقةِ. وقال امرؤ القيس: 4532 دِيْمَةٌ هَطْلاءُ فيها وَطَفٌ. . . طَبَقُ الأرضِ تَحَرَّى وتَدُرّ قوله: {عَن طَبقٍ} في «عن» وجهان، أحدُهما: أنها على بابها، والثاني: أنها بمعنى «بَعْدَ». وفي محلِّها وجهان، أحدهما: أنها في محلِّ نصبٍ على الحال مِنْ فال «تَرْكَبُنَّ». والثاني: أنَّها صفةٌ ل «طَبقا». قال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: ما محلُّ» عن طبَق «؟ قلت: النصبُ على أنُّه صفةٌ ل» طبقا «، أي: طبقاً مجاوزاً لطبق، أو حالٌ من الضمير في» لتركبُنَّ «، أي: لتركبُنَّ طبقاً مجاوزِيْن لطبَق أو مجاوزاً أو مجاوزةً على حَسَبِ القراءة». وقال أبو البقاء: «وعن بمعنى بَعْدَ. والصحيح أنها على بابِها، وهي صفةٌ، أي: طبقاً حاصلاً عن طَبق، أي: حالاً عن حال. وقيل: جيلاً عن جيل» انتهى. يعني الخلافَ المتقدِّمَ في الطبق ما المرادُ به؟ هل هو الحالُ أو الجيلُ أو الأمةُ؟ كما تقدَّم نَقْلُه، وحينئذٍ فلا يُعْرَبُ «طَبَقاً» مفعولاً به بل حالاً، كما تقدَّم، لكنه لم يَذْكُرْ في «طبقاً» غيرَ المفعولِ به. وفيه نظرٌ لِما تقدَّم مِن استحالتِه معنى، إذ يصير التقديرُ: لتركَبُنَّ أمةً بعد أمَّةٍ، فتكون الأمةُ مركوبةً لهم، وإن كان يَصِحُّ على تأويلٍ بعيدٍ جداً وهو حَذْفُ مضافٍ، أي: لَتركبُنَّ سَنَنَ أو طريقةَ طبقٍ بعد طبقٍ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(24)

أي بما يحملون في قلوبهم، يقال: أوْعَيْتُ المتاعَ في الوعاء، ووعيتُ العلمَ. * * * وقوله: (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) المعنى اجعل بدل البشارة للمؤمنين بالجنة والرحمة والرضوان، للكفار العذاب الأليم. * * * (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25) لا يمنُّ عليهم، قال أهل اللغة: غير ممنون غير مقطوع، يقال منيت الحبل إذَا قطعته.

سورة البروج

سُورَةُ الْبُرُوجِ (مَكِّيَّة) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله عزَّ وجلَّ: (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) جواب القسم: (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ). وقيل (ذَاتِ الْبُرُوجِ) ذات الكواكب وقيل ذات القصور لقُصُورِ في السماء. * * * (وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) يوم القيَامة. * * * (وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) شاهد يوم الجمعة، ومشهود يوم عرفة. وقيل: وَشَاهد يعنى به النبي - صلى الله عليه وسلم -. ومشهود يوم القيامة، كما قال تعالى: (ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ). * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) الأخدود: شق في الأرض، ويجمع أَخَاديد (1). وقيل أصحاب الأخْدُودِ قوم كانوا يَعْبدُونَ صَنما، وكان معهم قوم يكتمون إيمانَهم، يعبدون اللَّه عزَّ وجلَّ ويوحدونه، فعلموا بهم فخدُّوا لهم أخدوداً وملأوه ناراً، وقذفوا بهم في تلك النار فتقحموها ولم يَرْتَدُّوا عَنْ دينهم ثبوتاً على الإسلام، ويقيناً أنهم يصيرون إلى الجنة. فجاء في التفسير أن آخِرَ من ألقي منهم امرأة معها صَبِي رضيع. فلما رأت النار صدت بَوَجْهِهَا وَأَعْرَضَتْ، فقال لها الصبي: يا أمتاه قفي

_ (1) قال السَّمين: قوله: {قُتِلَ}: هذا جوابُ القسمِ على المختارِ، وإنما حُذِفَتِ اللامُ، والأصلُ: لَقُتِلَ، كقولِ الشاعر: 4533 حَلَفْتُ لها باللَّهِ حَلْفَةَ فاجرٍ. . . لَناموا فما إنْ مِنْ حديثٍ ولا صالِ وإنما حَسُن حَذْفُها للطُّولِ، كما سيأتي إن شاء اللَّهُ تعالى في قولِه: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا} [الشمس: 9]. وقيل: تقديرُه: لقد قُتِلَ، فحَذَفَ اللامَ وقد، وعلى هذا فقولُه: «قُتِلَ» خبرٌ لا دُعاءٌ. وقيل بل هي دعاءٌ فلا يكونُ جواباً. وفي الجواب حينئذٍ أوجهٌ، أحدُها: أنَّه قولُه: {إِنَّ الذين فَتَنُواْ}. الثاني: قولُه: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ} قاله المبرد. الثالث: أنه مقدرٌ. فقال الزمخشري: ولم يَذْكُرْ غيرَه «هو محذوفٌ يَدُلُّ عليه {قُتِلَ أَصْحَابُ الأخدود}، كأنه قيل: أُقْسِمُ بهذه الأشياءِ إنَّ كفَّار قريشٍ مَلْعونون كما لُعِنَ أصحابُ الأُخدودِ» ثم قال: «وقُتِل دعاءٌ عليهم، كقوله: {قُتِلَ الإنسان} [عبس: 17]، وقيل: التقدير: لَتُبْعَثُنَّ. وقرأ الحسن وابن مقسم» قُتِّلَ «بتشديدِ التاءِ مبالغةً أو تكثيراً. وقوله:» الموعودِ «، أي: الموعود به. قال مكي:» الموعود نعتٌ لليوم. وثَم ضميرٌ محذوفٌ يتمُّ الموعودُ به. ولولا ذلك لَما صَحَّتِ الصفةُ؛ إذ لا ضميرَ يعودُ على الموصوفِ مِنْ صفتِه «انتهى. وكأنَّه يعني أن اليومَ موعودٌ به غيرُه من الناس، فلا بُدَّ مِنْ ضمير يَرْجِعُ إليه، لأنه موعودٌ به لا موعودٌ. وهذا لا يُحتاج إليه؛ إذ يجوزُ أَنْ يكون قد تَجَوَّزَ بأنَّ اليومَ وَعَدَ بكذا فيصِحُّ ذلك، ويكونُ فيه ضميرٌ عائدٌ عليه، كأنَّه قيل: واليومِ الذي وَعَدَ أَنْ يُقْضَى فيه بين الخلائِقِ. والأُخْدودُ: الشِّقُّ في الأرضِ. قال الزمخشري:» والأخْدودُ: الخَدُّ في الأرضِ، وهو الشِّقُّ. ونحوُهما بناءً ومعنىً: الخَقُّ والأُخْقُوق، ومنه: «فساخَتْ قوائمُه في أخاقيقِ جِرْذان». انتهى. فالخَدُّ في الأصلِ مصدرٌ، وقد يقعُ على المفعولِ وهو الشِّقُّ نفسُه، وأمَّا الأخدودُ فاسمٌ له فقط. وقال الراغب: «الخَدُّ والأُخْدُوْدُ شِقٌّ في أرضٍ، مستطيلٌ غائِصٌ. وجمع الأخدود: أخاديدُ. وأصلُ ذلك مِن خَدَّيْ الإِنسان، وهما ما اكتنفا الأَنْفَ عن اليمينِ والشمالِ، والخَدُّ يُستعار للأرضِ ولغيرها كاستعارةِ الوجهِ، وتخدُّدُ اللحمِ زَوالُه عن وجهِ الجسم» ثم يُعَبَّرُ بالمُتَخَدِّدِ عن المهزول، والخِدادُ مِيْسَمٌ في الخَدِّ. وقال غيره: سُمِّيَ الخَدُّ خَدَّاً لأنَّ الدموعَ تَخُدُّ فيه أخاديدَ، أي: مجاريَ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(8)

ولا تنافقي، وقيل إنه قال لها: مَا هِيَ إلا [غُميضة]، فَصَبَرَتْ فألقِيتْ في النار. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا ذكر أصحاب الأخدودِ تَعَوَّذَ مِنْ جَهْد البلاء. فأَعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - قِصًةَ قَوْم بلغت بصيرتُهم وحقيقة إيمَانِهِم إلى أن صبروا على أن يحرقوا بالنار في اللَّه عزَّ وجلَّ. * * * (وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) أي ما أنكروا عليهم ذنباً إلا إيمَانَهم، ثم أعلم - عزَّ وجلَّ - مَا أُعِدَّ لأوْلَئِك الَّذِينَ أَحْرَقُوا المُؤْمِنِينَ فقال: * * * (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10) أي أحْرَقُوا المُؤْمِنِينَ والمُؤْمِنَاتِ، يقال فتنت الشيء، أحرقته، والفَتِينُ حجارة سودٌ كأنَّها مُحْرَقَة. (فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ). فالمعنى واللَّه أعلم فلهم عذاب جهنم بكفرهم، ولهم عذاب الحريق بما أحرقوا المؤمنين والمؤمنات. * * * قوله عزَّ وجلَّ: (إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) أي يبدئ الخلق ثم يعيده بعد بلاه. * * * (وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) أي المحب أولياءه. * * * (ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) (الْمَجِيدِ) ويقرأ (الْمَجِيدُ). ومعنى المجيد الكريم. فمن جَرَّ (الْمَجِيدِ) فمن صفة العرش، ومن رفع فمن صفة (ذُو). * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18)

(20)

(فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ) في موضع جرٍّ بَدَلًا من الجنود، المعنى هل أتاك حديث فرعون وثمود. * * * وقوله: (وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20) أي لا يعجزه منهم أحد. قدرته مُشْتَمِلة عليهم. * * * (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) ويقرأ (قرآنُ مَجِيدٍ)، والقراءة (قُرْآنٌ مَجِيدٌ) من نعت قرآن. ومن قرأ قرآنُ، فالمعنى هو قرآن رَبٍّ مَجِيدٍ. * * * وقوله: (فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22) القرآن في اللوح وهو أم الكتاب عند اللَّه. وقرئت (مَحْفُوظٌ)، مِنْ نعت (قُرْآنٌ) المعنى بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ محفوظٌ في لوح.

سورة الطارق

سُورَةُ الطَّارِقِ (مَكِّيَّة) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله: (وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1) جواب القسم: (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4). والطارق النجم، والنجم يعنى به النجوم. وإنما قيل للنجم طارق لأنه طلوعه بالليل، وكلُّ ما أتى ليلا فهو طارق، لأن الليل يسكن فيه، ومن هذا قيل: أَطرَقَ فُلَان إذا أَمْسَكَ عَنِ الكلامِ وَسَكَنَ. * * * (النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) و (الثَّاقِبُ) المُضِيء لقال ثقب يثقُبُ تقوباً إذا أضاء، ويقال للموقِدِ: أثقب نارك أي أَضِئها. * * * وقوله: (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4) (لَمَا عَلَيْهَا) معناه لَعَلَيْها حافظ، و " ما " لغوٌ. وقرئت " لَمَّا " عَلَيْها حَافِط - بالتشديد. والمعنى معنى (إلا) استعْمِلَتْ " لَمَّا " في موضع " إلا " في موضعين: أحدهما هذا. والآخر في بَابِ القَسَمِ. يقال: سَأَلْتكَ لَمَّا فَعلت بمعنى إلا فعلت (1). * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) معناه من فوق، ومذهب سيبويه وأصحابه أن معناه النسب إلى الاندفاق. المعنى من ماء ذي اندفاق. * * * وقوله: (يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7)

_ (1) قال السَّمين: قوله: {إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا}: قد تقدَّم في سورةِ هود التخفيفُ والتشديدُ في «لَمَّاً». فمَنْ خَفَّفها هنا كانت «إنْ» هنا مخففةً من الثقيلة، و «كلُّ» مبتدأٌ، واللامُ فارقةٌ، و «عليها» خبرٌ مقدَّمٌ و «حافظٌ» مبتدأٌ مؤخرٌ، والجملةُ خبرُ «كل» و «ما» مزيدةٌ بعد اللامِ الفارقةِ. ويجوزُ أَنْ يكونَ «عليها» هو الخبرَ وحدَه، و «حافِظٌ» فاعلٌ به، وهو أحسنُ. ويجوزُ أَنْ يكونَ «كلُّ» متبدأً، و «حافظٌ» خبرَه، و «عليها» متعلقٌ به و «ما» مزيدة أيضاً، هذا كلُّه تفريعٌ على قولِ البصريِين. وقال الكوفيون: «إنْ هنا نافيةٌ، واللامُ بمعنى» إلاَّ «إيجاباً بعد النفي، و» ما «مزيدةٌ. وتقدَّم الكلامُ في هذا مُسْتوفى. وأمَّا قراءةُ التشديدِ فإنْ نافيةٌ، و» لَمَّا «بمعنى» إلاَّ «، وتقدَّمَتْ شواهدُ ذلك مستوفاةً في هود. وحكى هارونُ أنه قُرِىءَ هنا» إنَّ «بالتشديدِ،» كلَّ «بالنصب على أنَّه اسمُها، واللامُ هي الداخلةُ في الخبرِ، و» ما «مزيدةٌ و» حافظٌ «خبرُها، وعلى كلِّ تقديرِ فإنْ وما في حَيِّزِها جوابُ القسمِ سواءً جَعَلها مخففةً أو نافيةً. وقيل: الجواب {إِنَّهُ على رَجْعِهِ}، وما بينهما اعتراضٌ. وفيه بُعْدٌ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(8)

الترائب: جاء في التفسير أنها أربعة أضلاع من يمنة الصدر وأربَعُ أضلاع من يَسْرةِ الصدر. وجاء في التفسير أن الترائب اليدان والرجلان والعينان. وقال أهل اللغة أجمعون: الترائب موضع القلادة من الصدر. وأنشدوا لامرئ القيس: مُهَفْهَفَةٌ بَيْضَاءُ غَيْرُ مُفَاضَةٍ. . . تَرائِبُها مَصْقُولَةٌ كالسَّجَنْجَلِ * * * وقوله: (إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8) جاء في التفسير: على رجع الماء إلى الإحليل لَقَادِرٌ. وجاء أيضاً على رجعه إلى الصلب، وجاء أيضاً على رجعه على بعث الإنسانِ، وهذا يشهد له قوله: * * * (يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) أي إنه قادر على بعثه يوم القيامة. * * * وقوله: (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12) (ذات الرجع) ذات المطر لأنه يجيء ويرجع ويتكرر. قال أبو عبيدة: الرجعُ: الماء، وأنشد بيت المنخل الهذلي؛ أَبيض كالرَّجْع رَسوبٌ إِذا. . . ما ثاخَ في مُحْتَفَلٍ يَخْتَلي قال يصف السيف، يقول: هو أبيض كالماء.

(12)

(وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12) أي تصدع بالنبات. * * * (إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) جواب القسم يعنى به القرآن، يفصل بين الحق والباطل. * * * (وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14) مَا هُوَ بالَّلعِبِ. * * * (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) يعني به الكفار، أنهم يحاتلون النبي عليه السلام، ويظهرون ما هم خلافه. . * * * (وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) كيد اللَّه لهم استدراجهم من حيث لا يعلمونَ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17) أي أمهلهم قليلاً.

سورة الأعلى

سُورَةُ الْأَعْلَى (مَكِّيَّة) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله عزَّ وجلَّ: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) أي نَزِّهْ ربَّك عن السوءِ وقل: سبحان ربي الأعلى. * * * (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) خلق الإنسان مستوياً، أشهده على نفسه بأنه ربُّه. وخلقه على الفطرة. * * * وقوله: (وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) هداه السبيل إما شَاكِراً وَإما كَفوراً. وقال بعض النحويين: فَهَدَى وَأَضل ولكن حذفت وأضل لأن في الكلام دليلاً عليه، قال عزَّ وجلَّ: (يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ). * * * (وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5) (أحوى) في موضع نصب حال من (المرعى) المعنى الذي أخرج المرعى أَحْوَى أي أخرجه أخْضَرَ يضرب إلى الحُوَّة، والحُوَّة السَّوَادُ. (فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى)، جفَّفَه حتى صيره هشيماً جافًّا كالغثاء الذي تراه فوق ماء السيل. * * * قوله: (سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7) أعلم الله عزَّ وجلَّ أنه سيجعل للنبي - صلى الله عليه وسلم - آيةً يتبيَّن له بها الفَضْلية بأن

(11)

جبريل عليه السلام ينزل عليه بالوحي وهو أُمِّيٌّ لا يكتب كتاباً ولا يقرْؤه. ويقرئ أصحابه ولا ينسى شيئاً من ذلك ولا يكرر عليه الشيء. قال الله عز وجل: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9). * * * فأما (إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ) فقيل إلا ما شاء الله ثم يذكره بعد، وقيل إلا ما شاء اللَّه أن يؤخره من القرآن (1). * * * (وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) المعنى يتجنب الذكرى الأشقى. * * * وقوله: (ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13) لا يموت موتاً يستريح به من العذاب، ولا يحيا حياة يجد معها روح الحياة. * * * وقوله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) أي قد صادف البقاء الدائم والفوز بالنعيم. ومعنى (تَزَكَّى) تكثَّر بتقوى اللَّه، ومعنى الزاكي النامي الكثير. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وقرئت (بَلْ يُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) بالياء. والأجود التاء، لأنها رويت عن أُبَيٍّ بن كعب: بل أنتم تؤثرون الحياة الدنيا. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) يعني من قوله: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) إلى هذا الموضع. وقيل بل السورة كلها.

_ (1) قال السَّمين: قوله: {إِلاَّ مَا شَآءَ الله}: فيه أوجهٌ، أحدُها: أنَّه مفرغٌ، أي: إلاَّ ما شاءَ الله أن يُنْسِيَكَهُ فإنك تَنْساه. والمرادُ رَفْعُ تلاوتِه. وفي الحديث: «أنه كان يُصبح فينسَى الآياتِ لقولِه: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا} [البقرة: 106]. وقيل: إنَّ المعنى بذلك القِلَّةُ والنُّدْرَةُ، كما رُوِيَ» أنه عليه السلام أسقطَ آيةً في صلاتِه، فحسِب أُبَيٌّ أنها نُسِخَتْ، فسأله فقال: «نَسِيْتُها» «وقال الزمخشري:» الغَرَضُ نَفْيُ النِّسْيان رَأْساً، كما يقول الرجل لصاحبه: أنت سَهِيْمي فيما أَمْلِكُ إلاَّ ما شاء اللَّهُ، ولم يَقْصِدْ استثناءَ شيءٍ، وهو مِنْ استعمالِ القلَّة في معنى النفي «انتهى. وهذا القولُ سبقَه إليه الفراء ومكي. وقال الفراء وجماعة معه:» هذا الاستثناءُ صلةٌ في الكلام على سنةِ الله تعالى في الاستثناء. وليس [ثم] شيءٌ أُبيح استثناؤُه «. قال الشيخ:» هذا لا يَنْبغي أَنْ يكونَ في كلامِ اللَّهِ تعالى ولا في كلامٍ فصيحٍ، وكذلك القولُ بأنَّ «لا» للنهي، والألفَ فاصلةٌ «انتهى. وهذا الذي قاله الشيخُ لم يَقْصِدْه القائلُ بكونِه صلةً، أي: زائداً مَحْضاً بل المعنى الذي ذكره، وهو المبالغةُ في نَفْي النسيانِ أو النهي عنه. وقال مكي:» وقيل: معنى ذلك، إلاَّ ما شاء الله، وليس يشاءُ اللَّهُ أَنْ يَنْسَى منه شيئاً، فهو بمنزلةِ قولِه في هود في الموضعَيْنِ: خالِدِيْنَ فيها ما دامَتِ السماواتُ والأرضُ إلاَّ ما شاء ربُّك «وليس جَلَّ ذِكْرُه تَرَكَ شيئاً من الخلودِ لتقدُّمِ مَشيئتِه بخُلودِهم». وقيل: هو استثناءٌ مِنْ قولِه {فَجَعَلَهُ غُثَآءً أحوى}. نقله مكي. وهذا يَنْبغي أَنْ لا يجوزَ ألبتَّةَ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

سورة الغاشية

سُورَةُ الْغَاشِيَةِ (مَكِّيَّة) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله عزَّ وجلَّ: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) قيل إن الغاشية القيامة لأنها تغشى الخلق، وقيل الغاشية النار لأنها ْتغشى وجوه الكفار. * * * (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) (خَاشِعَةٌ) خبر (وُجُوهٌ)، ومعنى خاشعة ذليلة. * * * (تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4) ويقرأ (تُصْلَى). * * * وقوله (تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) أي متناهية في شدة الحرِّ: كقوله: (يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44). * * * (لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) يعني لأهل النار، والضريع الشبرق. وهو جنس من الشوك، إذا كان رطباً فهو شبرق، فإذا يبس فهوَ الضَّرِيعُ، قال كفار قريش: إنَّ الضريع لَتَسْمَنُ عليه إبِلُنَا، فقال اللَّه - عزَّ وجلَّ - * * * (لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) ومعنى (هَلْ أتَاكَ) أي هذا ألم يكن من عِلْمِكَ ولا من علم قَوْمِكَ، وكذلك

(11)

الأقاصيص التي أخبر بها النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال اللَّه - عزَّ وجلَّ -: (مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا). * * * وَمَعْنَى (عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ): قيل إنها عاملة ناصبة في الدنيا لغير ما يقَربُ إلى الله تعالى، وقيل إنهم الرهبان ومن أشبههم، وقيل (عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ) في النار. فوصف مُقاساتها العذاب. وقوله في صفة أهل الجنة: (لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11) وقرئت (لَا يَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً)، وقرئت (لَا تُسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةٌ) أي لا تسمع فيها آئمة. ويجوز أن يكون لا تسمع فيها كلمة تلغى، أي تسقط، لا يتكلم أهل الجنة إلا بالحكمة، وحمد اللَّه على مارزَقَهم من نعيمه الدائم. * * * وقوله: (وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) الأكواب آنية شبيهة بالأباريق لا عرى لها. * * * (وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) واحدتها نمرقة. * * * (وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) الذرابِي: البسط، واحدتها زربية. * * * وقوله: (أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) نبههم الله على عظيم من خلقه قَد ذَلَّلَه للصغِيرِ يقوده وينتجهُ وينهضه. ويحمل عليه الثقيل من الحمل وهو بارك فينهض بثقيل حمله، وليس ذلك في شيء من الحوامِل غيره، فأراهم عظيماً من خلقه ليدلهم بذلك على توحيده. * * * (وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) يعنى بغير عَمَدٍ. * * * (وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) (نُصِبَتْ) مرساة مثبتة لا تزول.

(20)

(وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) أَي دُحِيتَْ وَبُسِطَتْ. * * * (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) هذا قبل أن يؤمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالحرب. * * * (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) أي بِمسَلَّط. * * * (إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) أي عذابَ جَهنَّمَ * * * (إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) (إيَّابهم) وقُرئت إيابَهُمْ، بالتخفيف والتثقيل. ومعنى إيابهم رجوعهم، ومَعْنَى (إيَّابهم) على مصدر أَيَّبَ إيَّاباً، على معنى فَيْعَلَ فِيعَالاً، من آب يؤوبَ والأصل إيوابا، فأدغمت الياء في الواو، وانقلبت الواو إلى الياء لأنها سبقت بسكونٍ.

سورة الفجر

سُورَةُ الْفَجْرِ (مَكِّيَّة) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله عزَّ وجلَّ: (وَالْفَجْرِ (1) الفجر انفجار الصبح من الليل، وجواب القسم (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14) * * * (وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) ليالي عشر ذي الحجة. * * * (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) (وَالْوِتْرِ) قرئَت (وَالْوَتْرِ) بفتح الواو، والوَتْرِ يوم النحر، والوتر يوم عرفة وقيل الشفع والوتر الأعداد، والأعداد كلها شفع ووتر. وقيل: (الْوَتْرِ) اللَّه عزَّ وجلَّ، الواحد. و (الشَّفْعِ) جميع الخلق، خلِقوا أزواجاً. * * * (وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) إذا مَضىَ. سَرَى يَسْرِي، كما قال - عزَّ وجلَّ: (وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ). وَ (يَسْرِ) حذفت الياء لأنها رأس آية. وقد قرئت (والليل إذَا يَسْري) بإثبات الياء. واتباع المصحف وحذف الياء أَحَبُّ إليَّ لأن القراءة بذلك أكثر. ورُووس الآي فَوَاصِلُ تحذف معها اليَاءَات وتدل عليه الكسرات (1). * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أي لذي عَقْل وَلُبٍّ، ومعنى القسم توكيد ما يَذْكُر وتصحيحه بأن يُقْسِم

_ (1) قال السَّمين: قوله: {إِذَا يَسْرِ}: منصوبٌ بمحذوفٍ هو فعلُ القسم، أي: أُقْسِم به وقتَ سُراه. وحَذَفَ ياءَ «يَسْري» وَقْفاً، وأثبتها وصلاً، نافعٌ وأبو عمروٍ، وأثبتها في الحالَيْنِ ابنُ كثير، وحَذَفَها في الحالين الباقون لسقوطِها في خَطِّ المصحفِ الكريم، وإثباتُها هو الأصلُ لأنها لامُ فعلٍ مضارعٍ مرفوعٍ، وحَذْفُها لموافقةِ المصحفِ وموافقةِ رؤوسِ الآي، وجَرْياً بالفواصلِ مَجْرى القوافي. ومَنْ فَرَّقَ بين حالَتَيْ الوقفِ والوصلِ فلأنَّ الوقفَ محلُّ استراحةٍ. ونَسَبُ السُّرى إلى الليل مجازٌ؛ إذ المرادُ: يُسْرَى فيه، قاله الأخفش. وقال غيره: المرادُ يَنْقُصُ كقوله: {إِذْ أَدْبَرَ} [المدثر: 33]، {إِذَا عَسْعَسَ} [التكوير: 17]. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(6)

وقوله: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) قيل هما عادان عاد الأولى وَهي إرَم، وعاد الأخيرة، وقيل إرم أبو عاد. وهو عاد بن إرم، وقيل إرم اسم لبلْدَتِهِمْ التي كانوا فيها. وإرم لم تنصرف لأنها جعلت اسماً للقبيلة، فلذلك فتحت وهي في موضع جَرٍّ. * * * وقوله: (إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) أي ذاتِ الطُولِ، يقال رجل معمَّد إذا كان طويلًا. وقيل (ذَاتِ الْعِمَادِ) ذات البناء الطويل الرفيع. * * * وقوله: (وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) جابوا: قطعوا، كما قال عزَّ وجلَّ - (وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ). * * * (وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) فِرْعَون لم ينصرف لأنه أعجمي، وقيل (ذِي الْأَوْتَادِ)، لأنه كان له أربَعُ أَسَاطِين، إذا عاقَب الانْسَانَ ربط منه كل قائمة إلى اسطوانة من تلك الأساطين. ومعناه ألم تر كيف أهلك ربُّك هذه الأمم التي كذبت رُسُلَها. وكيف جعل عقوبتها أن جعل سوطه الذي ضربهم به العذاب فقال: (فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) * * * وقوله تعالى: (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14) أي يرصدا من كفر به وعبد غيره بالعذاب. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) والمعنى إذا ما اختبره رَبُّهُ وَأَوْسَعَ عَليه فيقول رَبِّي أَكْرَمَنْ.

(16)

(وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) أي جعل رزقه مَقدَّراً. (فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا). أي ليس الأمر كما يظن الِإنسانُ، وهَذَا يُعْنَى به الكافِرُ الذي لا يؤمِنُ بالبَعْثِ، وإنما الكرامة عنده والهوان بكثرة الحظ في الدنيا، وَصِفَةُ المْؤمِنِ أنَ الإكرَام عنده توفيق اللَّهِ إياه أي ما يؤديه إلى حَظِّ الآخرةِ. * * * (كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) (وَلَا تَحُضُّونَ) وَيُقْرَأ (وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ). وكانوا يأكلون أَمْوالَ اليَتامَى إسرافاً وَبِدَاراً فقال: * * * (وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) ((وَيَأْكُلُونَ) أي تراث اليتامى (لَمًّا) يُلِمُّون بِجَمِيعِه. * * * وقوله: (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20) أي كثيراً، والتزاث أصله الوُراث من وَرِثْتُ، ولكن التاء تبدل من الوَاوِ إذَا كَانَتِ الواوُ مَضْمُومَةً، نحو تُراث وأصله وُرَاث ونحو تجاه وأصله وجاهِ من وَاجَهْتُ. * * * وقوله: (كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) إذا زلزلت فَدَكَّ بعضُهَا بَعْضاً. * * * (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) والمعنى والملائكة كما قال جل ثَنَاوةُ: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ).

(23)

وقوله: (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) كما قال: (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ). وقيل في التفسير جيء بجهنم تقَادُ بألف زِمَام كل زمام في أيدي سبعين ألف مَلَكٍ. * * * (يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ) يَوْمَئِذٍ يُظْهِر الإنْسَانُ التَّوْبَةَ. (وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى) أي ومن أين له الذكرى، أي التوبة. * * * (يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) أي لدار الآخرة التي لَا مَوْتَ فِيهَا. * * * (فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) (لَا يُعَذَّبُ) المعنى لَا يُعذًبَ عَذَابَ هذا الكافِرِ وعذاب هذا الصِّنْفَ مِنَ الكفار أحَدٌ. * * * (وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26) ومن قرأ (لَا يُعَذِّبُ)، وهو أكثر القراءة، فالمعنى لا يَتَوَلَّى يوم القيامَةِ عذاب اللَّه أَحَدٌ، الملك يومئذ لِله وَحْدَه - جلَّ وعزَّ. وقيل لا يعذب عَذَابه أَحَدٌ، أي عذاب اللَّه أَحَدٌ، فعلى هذا لا يُعَذِبُ أحَدٌ في الدنيا عَذَاب اللَّه في الآخرة (1). * * * وقوله: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) " أيُّ " تؤنث إذا دعوت بِها مؤنًثاً وَتذَكَّرُ، تقول: يَا أَيَّتُهَا المرأة. وإن شئت يَا أَيُّهَا المرْأةُ، فمن ذكَره فلأنَّ (أَيَّا) مبْهَمَةٌ ومن أنَّث فَلأنَّها مع إبْهَامِهَا قد لزمها الإِعراب والإِضافة. وزعم سيبويه أن بعض العرب تقول كُلتُهُنَّ في كلُهُنَّ. والمطمئنة التي اطمأنت بالإيمان وأخبتت إلَى رَبِّهَا. * * * (ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28)

_ (1) قال السَّمين: قوله: {لا يُعَذِّبُ}: قرأ الكسائي «لا يُعَذَّبُ» و «لا يُوْثَقُ» مبنيين للمفعولِ. والباقون قرؤُوهما مبنيَّيْن للفاعل. فأمَّا قراءةُ الكسائي فأُسْنِد الفعلُ فيها إلى «أحد» وحُذِفَ الفاعلُ للعِلْم به وهو اللَّهُ تعالى أو الزَّبانيةُ المُتَوَلُّون العذابَ بأمرِ اللَّهِ تعالى. وأمَّا عذابه ووَثاقه فيجوزُ أَنْ يكونَ المصدران مضافَيْن للفاعلِ والضميرِ للَّهِ تعالى، ومضافَيْنِ للمفعول، والضميرُ للإِنسانِ، ويكون «عذاب» واقعاً موقع تَعْذيب. والمعنى: لا يُعَذَّبُ أحدٌ تعذيباً مثلَ تعذيبِ اللَّهِ تعالى هذا الكافرَ، ولا يُوْثَقُ أحدٌ توثيقاً مثلَ إيثاقِ اللَّهِ إياه بالسَّلاسِلِ والأغلالِ، أو لا يُعَذَّبُ أحدٌ مثلَ تعذيبِ الكافرِ، ولا يُوْثَقُ مثلَ إيثاقِه، لكفرِه وعنادِه، فالوَثاق بمعنى الإيثاق كالعَطاء بمعنى الإِعطاء. إلاَّ أنَّ في إعمالِ اسمِ المصدرِ عملَ مُسَمَّاه خلافاً مضطرباً فنُقل عن البصريين المنعُ، وعن الكوفيين الجوازُ، ونُقل العكسُ عن الفريقَيْن. ومن الإِعمال قولُه: 4571 أكُفْراً بعد رَدِّ الموتِ عني. . . وبعد عَطائِكَ المِئَةَ الرَّتاعا ومَنْ مَنَعَ نَصَبَ «المِئَة» بفعلٍ مضمر. وأَصْرَحُ من هذا قولُ الآخر: 4572. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . فإنَّ كلامَها شفاءٌ لِما بيا وقيل: المعنى ولا يَحْمِلُ عذابَ الإِنسانِ أحدٌ كقوله: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} [الأنعام: 164] قاله الزمخشري. وأمَّا قراءةُ الباقين فإنه أَسْنَدَ الفعلَ لفاعلِه. / والضميرُ في «عذابَه» و «وَثاقَه» يُحتمل عَوْدُه على الباري تعالى، بمعنى: أنَّه لا يُعَذِّبُ في الدنيا مثلَ عذابِ اللَّهِ تعالى يومئذٍ أحدٌ، أي: إنَّ عذابَ مَنْ يُعَذِّبُ في الدنيا ليس كعذابِ الله تعالى يومَ القيامةِ، كذا قاله أبو عبد الله، وفيه نظرٌ: من حيث إنه يَلْزَمُ أَنْ يكونَ «يومئذٍ» معمولاً للمصدرِ التشبيهيِّ، وهو ممتنعٌ لتقدُّمِه عليه، إلاَّ أن يُقالَ: يُتَوَسَّعُ فيه. وقيل: المعنى لا يَكِلُ عذابه ولا وَثاقَه لأحدٍ؛ لأنَّ الأمرَ لله وحدَه في ذلك. وقيل: المعنى أنَّه في الشدة والفظاعةِ في حَيِّزٍ لم يُعَذِّبْ أحدٌ قط في الدنيا مثلَه. ورُدَّ هذا: بأنَّ «لا» إذا دَخَلَتْ على المضارعِ صَيَّرَتْه مستقبلاً، وإذا كان مستقبلاً لم يطابقْ هذا المعنى، ولا يُطْلَقُ على الماضي إلاَّ بمجازٍ بعيدٍ، وبأنَّ «يومَئذٍ» المرادُ به يومَ القيامة لا دارُ الدنيا. وقيل: المعنى أنَّه لا يُعَذِّبُ أحدٌ في الدنيا مثلَ عذابِ اللهِ الكافرَ فيها، إلاَّ أن هذا مردودٌ بما رُدَّ به ما قَبلَه. ويُحتمل عَوْدُه على الإِنسان بمعنى: لا يُعَذِّبُ أحدٌ من زبانيةِ العذابِ مثلَ ما يُعَذِّبون هذا الكافرَ، أو يكونُ المعنى: لا يَحْمِلُ أحدٌ عذابَ الإِنسانِ كقوله: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} [فاطر: 18]. وهذه الأوجهُ صَعْبَةُ المَرامِ على طالِبها من غيرِ هذا الموضوعِ لتفرُّقها في غيرِه وعُسْرِ استخراجِها منه. وقرأ نافعٌ في روايةٍ وأبو جعفر وشَيْبة بخلافٍ عنهما «وِثاقَه» بكسر الواو. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(29)

أَصْلُ (مَرْضِيَّةً) مَرْضوَّة أي راضية بما أتاها، قد رُضِيَتْ وَزُكيَتْ. * * * (فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) في جملة عبادي المصطفين. وقرئت فادْخُلي في عَبْدي. (وَادْخُلِي جَنَّتِي (30) فعلى هذه القراءة - واللَّه أعلم - ادخلي إلى صاحبك الذي خَرَجْتِ مِنه فادخُلي فيه. والأكثر في القراءة والتفسير: (فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30).

سورة البلد

سُورَةُ الْبَلَدِ (مَكِّيَّة) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله عزَّ وجلَّ: (لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) يعنى بالبلد ههنا مكة، والمعنى أقسم بهذا البلد. و" لا " أدخلت توكيداً كما قال عزَّ وجلَّ: (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ). وقرئت (لأقْسِمُ بهذا البلد). تكون اللام لامَ القسَم والتوكيد، وهذه القراءة قليلة. وهي في العربية بعيدة لأن لام القسم لا تدخل على الفعل المستقبل إلا معه النون، تقول لأضربن زيداً، ولا يجوز لأضرِبُ تريد الحال. وزعم سيبويه والخليل أن هذه اللام تدخل مع أن فاستغنى بها في باب إن، تقول إني لأحِبُّكَ. * * * ومعنى: (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) أُحِلَّتْ مَكًةُ للنبي عليه السلام ساعة من النهار، ولم تحل لأحد قبله ولا لأحَدٍ بعده، ومعني أُحِلَّتْ له أُحِلَّ لَه صَيْدُهَا وأن يختلى خلالها وأن يعضد شجرها. يقال: رَجلْ حِلٌّ وَحَلال وَمُحَلٌّ، وكذلك رجل حرام وحِرْم وَمحْرِمٌ (1). * * * وقوله: (وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) جاء في التفسير أن معناه آدم وولده، وجاء معناه أيضاً كل والد وكل مولودٍ.

_ (1) قال السَّمين: قوله: {وَأَنتَ حِلٌّ بهذا البلد}: فيه وجهان، أحدُهما: أنَّ الجملةَ اعتراضيةٌ على أحد معنَييْن: إمَّا على معنى أنه تعالى أَقْسَمَ بهذا البلدِ وما بعدَه على أنَّ الإِنسانَ خُلِقَ في كَبَدٍ واعتُرِض بينهما بهذه الجملةِ، يعني ومن المكابَدَةِ أنَّ مثلَكَ على عِظَمِ حُرْمَتِك يُسْتَحَلُّ بهذا البلدِ كما يُسْتَحَلُّ الصَّيْدُ في غير الحَرَمِ، وإمَّا على معنى أنَّه أَقْسَم ببلدِه على أنَّ الإِنسان لا يَخْلُوا مِنْ مَقاساةِ الشدائِد. واعْتُرِض بأَنْ وَعَدَه فتحَ مكة تَتْميماً للتسلية، فقال: وأنت حِلٌّ به فيما تَسْتَقْبِلُ تصنعُ فيه ما تريدُ من القَتْلِ والأَسْرِ، ف «حِلٌّ» بمعنى حَلال، قال معنى ذلك الزمخشري. ثم قال: «فإنْ قلتَ أين نظيرُ قولِه» وأنت حِلٌّ «في معنى الاستقبال؟ قلت: قوله تعالى {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ} [الزمر: 30] ومثلُه واسعٌ في كلامِ العبادِ تقول لمن تَعِدُهُ الإِكرامَ والحِباء: أنت مُكَرَّمٌ مَحْبُوٌّ، وهو في كلامِ اللَّهِ تعالى أوسعُ؛ لأنَّ الأحوال المُسْتَقْبَلَةَ عنده كالحاضرِةَ المشاهَدَةِ، وكفاك دليلاً قاطِعاً على أنه للاستقبالِ، وأنَّ تفسيرَه بالحالِ مُحالٌ، أنَّ السورةَ بالاتفاقِ مكيةٌ، وأين الهجرةُ عن وقتِ نزولِها فما بالُ الفتحِ؟ وقد ناقشه الشيخ بما لا يَتَّجِهُ، ورَدَّ عليه قولَه الإِجماعَ على نزولِها بمَكةَ بخلافٍ حكاه ابنُ عطية. الثاني من الوجَهْين الأوَّلَيْن. أنَّ الجملةَ حاليةٌ، أي: لا أُقْسِمُ بهذا البلدِ وأنت حالٌّ بها لعِظَمِ قَدْرِك، أي: لا يُقْسِمُ بشيءٍ وأنت أحَقُّ بالإِقسام بك منه. وقيل: المعنى لا أٌقْسِم به وأنت مُسْتَحَلٌّ فيه، أي: مُسْتَحَلٌّ أَذاك. وتقدَّم الكلام في مثلِ» لا «هذه المتقدِّمةِ فِعْلَ القسمِ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4)

ْوقوله: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4) هذا جواب القسم، المعنى أقسم بهذه الأشياء (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ)، أي يكابد أمره في الدنيا والآخرة. وقيل: (فِي كَبَدٍ) أي خلق منتصباً يمشي على رِجْلَيْه وسائر الأشياء والحيوان غير منتصبة. وقيل (فِي كَبَدٍ) خَلْقُ الإنسان في بَطْنِ أمَهِ ورأسه قِبَلَ رأسِها، فإذا أرادت الولادة انقلب الرأس إلى أسفل. * * * وقوله (أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) هذا جاء في التفسير أنه رجل كان شديداً جدًّا، وكان يبسط له الأديم العكاظِي فيقوم عليه فيهد فلا يخرج من تحت رجليه إلا قطعاً من شدتِه، وكان يقال له كلدة فقيل: أيحسب لشدته أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ وأنه لا يبعث. وقيل أن لن يَقْدِرَ عليه اللَّه عزَّ وجلَّ لأنه كان لا يؤمن بالبعث. * * * (يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6) وقرئت (أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا)، ويُقْرأَ لُبَّدًا). ومعنى " لُبَد " كثير بعضه قَدْ لُبِّدَ بِبَعْض، وفُعَل للكثرةِ، يقال: رجل حُطَم: إذا كان كثير الحطم. ومن قرأ لُبَّداً فَهو جمع لاَبِدٍ. * * * (أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أي أيحسب أن لم يحص عليه ما أنفق، وفي الكلام دليل على أنه ادعَى أنه أنفق كثيراً لم ينفعهُ. * * * وقوله جلَّ وعزَّ: (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10) أي ألم نَفعل به ما يُسسْتَدلُّ به على أن اللَّه قَادرٌ على أن يبعثه وأن يحصِيَ عليه ما يعمله. * * * (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10)

(11)

الطريقين الْوَاضِحَيْن، النجد المرتفع من الأرْضِ، فالمعنى ألم نعرْفه طريق الخير وَطَرِيقَ الشرِّ بَيِّنَيْنِ كبيان الطريقين العَالِيَيْنِ. * * * وقوله (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) المعنى فلم يقتحم العقبة كما قال: (فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلًى). ولم يذكر " لا " إلا مَرةٍ وَاحِدَةً، وقلما يتكلم العرب في مثل هذا المكان إلا بلا مَرتين أو أكثر، لا تكاد تقول: لا حَيَّيتَني تريد مَا حَيَّيْتَنِي. فإن قلت: لاحَييْتَني ولا زُرْتَني صَلَح. ْوالمعنى في (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) موجود أن " لا " ثانية كأنَّها في الكلام لأن قوله: (ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) تدل على معنى فلا اقتحم العقبة ولا آمن. * * * وقرئت: (فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) وقرئت (فَكَّ رَقَبَةً)، (أو أَطْعَمَ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ). وكلاهما جائز، فمن قال (فَكُّ رَقَبَةٍ) فالمعنى اقتحام العقبة فك رقبة أو إطعام، ومن قرأ (فَكَّ رَقَبَةً) فهو محمول على المعنى (1). والمسغبة المجاعة. * * * ْوقوله: (يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) معناه ذا قرابة، تقول زيد ذو قرابتي وذو مقربتي، وزيد قرابتي قبيح لأن القرابة المصدر قال الشاعر:

_ (1) قال السَّمين: وقرأ أبو عمرو وابن كثير والكسائيُّ «فَكَّ» فعلاً ماضياً، «ورقبةً» نصباً «أو أَطْعم» فعلاً ماضياً أيضاً. والباقون «فَكُّ» برفع الكاف اسماً، «رقبةٍ» خَفْصٌ بالإِضافة، «أو إطعامٌ» اسمٌ مرفوعٌ أيضاً. فالقراءةُ الأولى الفعلُ فيها بَدَلٌ مِنْ قولِه «اقتحمَ» فهو بيانٌ له، كأنَّه قيل: فلا فَكَّ رقبةً ولا أطعَمَ، والثانيةُ يرتفع فيها «فَكُّ» على إضمار مبتدأ، أي: هو فَكُّ رقبة أو إطعامٌ، على معنى الإِباحة. وفي الكلامِ حَذْفُ مضافٍ دلَّ عليه «فلا اقتحمَ» تقديرُه: وما أدراك ما اقتحامُ العقبة؟ فالتقدير: اقتحامُ العقبة فكُّ رَقَبَة أو إطعامٌ، وإنما احْتيج إلى تقديرِ هذا المضافِ ليتطابقَ المفسِّر والمفسَّر. ألا ترى أنَّ المفسِّر - بكسرِ السين - مصدرٌ، والمفسَّر - بفتحِ السينِ - وهو العقبةُ غيرُ مصدر، فلو لم نُقَدِّرْ مضافاً لكان المصدرُ وهو «فَكُّ» مُفَسِّراً للعين، وهو العقبةُ. وقرأ أميرُ المؤمنين وأبو رجاء «فَكَّ أو أطعمَ» فعلَيْن كما تقدَّم، إلاَّ أنهما نصبا «ذا» بالألف. وقرأ الحسن «إطعامٌ» و «ذا» بالألفِ أيضاً وهو على هاتَيْنِ القراءتَيْن مفعولُ «أَطْعم» أو «إطعامٌ» و «يتيماً» حينئذٍ بدلٌ منه أو نعتٌ له. وهو في قراءةِ العامَّةِ «ذي» بالياء نعتاً ل «يوم» على سبيل المجاز، وُصِفَ اليومُ بالجوع مبالغةً كقولهم: «ليلُك قائمٌ ونهارُك صائمٌ» والفاعلُ لإِطعام محذوفٌ، وهذا أحدُ المواضعِ التي يَطَّرِدُ فيها حَذْفُ الفاعلِ وحدَه عند البصريين، وقد بَيَّنْتُها مُسْتوفاةً ولله الحمدُ. والمَسْغَبَةُ: الجوعُ مع التعبِ، وربما قيل في العطش مع التعب، قال الراغب. يُقال منه: سَغِبَ الرجل يَسْغَبُ سَغْباً وسُغُوباً فهو ساغِبٌ وسَغْبانُ والمَسْغَبَةُ مَفْعَلَة منه، وكذلك المَتْرَبَةُ من التراب. يقال تَرِب، أي: افتقر حتى لَصِقَ جِلْدُه بالتراب. فأمَّا أَتْرَبَ بالألف فبمعنى استغنى نحو: أَثْرى، أي: صار مالُه كالتراب وكالثرى والمَقْرَبَةُ أيضاً: مَفْعَلَة من القَرابة. وللزمخشري هنا عبارةٌ حلوة قال: «والمَسْغَبَةُ والمَقْرَبَةُ والمَتْرَبَةُ مَفْعَلات مِنْ سَغِبَ إذا جاع وقَرُبَ في النَّسَب وتَرِبَ إذا افتقر». اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(17)

يَبْكِي عليه غَرِيبٌ ليس يَعْرِفُهُ. . . وذُو قَرَابَتهِ في الحَيِّ مَسْرُورُ وقوله: (ذَا مَتْرَبةً). يعنى أنه من فقره قد لصق بالتُّرَابِ. * * * وقوله: (ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) معناه إذا فعل ذلك وكان عقد الإيمان ثم أقام على إيمانِه. (وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ). أي على طاعة اللَّه، والصبر عن الدخول في معاصيه، ثم كان مع ذلك مِنَ الَّذِينَ يتواصون (بالمرحمة)، أولئك أصحاب اليمن على أنفسهم أي كانوا ميامين على أنفسهم غير مشائيم. * * * (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19) أي هم المشائيم على أنفسهم، نعوذ باللَّهِ من النار. * * * وقوله: (عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (20) ويقرأ بغير هَمزٍ، ومعناه مطبقة. يقال آصَدْتُ البابَ وأوصدته إذا أطبقته.

سورة الشمس

سُورَةُ الشَّمْسِ (مَكِّيَّة) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله عزَّ وجلَّ: (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) هذا قسم وجوابه: (قَدْ أفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا). ومعناه لَقَدْ أَفْلَحَ ولكن اللام حذفت لأن الكلامَ طَالَ فصار طوله عوضا منها ومعنى (وضحاها) وَضِيائِها. وقيل ضحاها النهار، وقرأ الأعمش وأصْحَابُهُ ضحاها وتلاها وطحاها بالفتح، وقرأوا باقي السُّورة بالكسر. وقرأ الكسائي السورة كلها بالإمالة. وقرأها أبو عمرو بن العلاء بين اللفظين. وهذا الذي يسميه الناس الكسر ليس بكسر صحيح، يسميه الخليل وأبو عمرو الِإمَالَةَ، وإنما كسر من هذه الحروف ما كان منها من ذوات الياء ليدلوا على أن الشيء من ذوات الياء. ومن فتح ضحاها وَتَلَاهَا وطحاها فلأنه من ذوات الواو، ومن كسر فلأن ذوات الواو كلها إذا رد الشيء إلى ما لم يسم فاعله انتقل إلى الياء، تقول قد تُلِيَ وَدُحِيَ وَطُحِيَ. * * * وقوله: (وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) معناه حين تلاها، وقيل حين - استدار فكان يتلو الشمس في الضياء والنور. * * * وقوله: (وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3)

(5)

قالوا معناه إذَا جَلَّى الظلمة، وإن لم يكن في الكلام ذكر الظلمة فالمعنى يدل عليها كما تقول: أصبحت باردة، تريد أصبحت غُداتنا بَارِدة وقيل: (وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا) إذا بين الشمس لأنها تبين إذا انبسط النهار. * * * وقوله: (وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) معناه والسماء وبنائها، وكذلك (وَالأرْضِ وَمَا طَحَاهَا) معناه والأرض وطحوها. وكذلك: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) وقيل معنى " ما " ههنا معنى (مَنْ) المعنى والسماء والذي بناها. ويحكى عن أهل الحجاز " سُبْحَانَ مَا سَبَّحْتُ لَهُ " أي سبحان الذي سبحت، وَمَنْ سَبَّحْتُ له. فأقسم اللَّه - عزَّ وجلَّ - بهذه الأشياء العظام من خلقه لأنها تدل على أَنه واحِدٌ والذي ليس كمثله شيء (1). * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قيل علمها طريق الفجور وطَرِيقَ الهدى. والكلام على أن أَلهَمَها التقوى، وفقَهَا للتقوى، وألْهَمَها فُجورَهَا خذلها، واللَّه أعلم. * * * وقوله: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) أي قد أفلحت نفسٌ زَكاهَا اللَّهُ. * * * (وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10) خابت نَفْسٌ دَسَّاهَا اللَّه. ومعنى (دَسَّاهَا) جعلها قليلة خَسِيسَةً. والأصل دَسَّسَهَا، ولكن الحروف إذا اجتمعت من لفظٍ واحِدٍ أُبدَل من أحدها ياء. قال الشاعر: تَقَضِّيَ البَازِي إِذا البَازِي كَسَرْ

_ (1) قال السَّمين: قوله: {وَمَا بَنَاهَا}: وما بعدَه، فيه وجهان، أحدُهما: أنَّ «ما» موصولةٌ بمعنى الذي، وبه استشهد مَنْ يُجَوِّزُ وقوعَها على آحادِ أولي العلم؛ لأنَّ المرادَ به الباري تعالى، وإليه ذهب الحسنُ ومجاهدٌ وأبو عبيدةَ، واختاره ابن جرير. والثاني: أنها مصدريةٌ، أي: وبناءِ السماء، وإليه ذهبَ الزجَّاج والمبرد، وهذا بناءً منهما على أنها مختصةٌ بغيرِ العقلاءِ، واعْتُرِضَ على هذا القولِ: بأنَّه يَلْزَمُ أَنْ يكونَ القَسَمُ بنفسِ المصادر: بناءِ السماء وطَحْوِ الأرضِ وتَسْويةِ النفس، وليس المقصودُ إلاَّ القَسَمَ بفاعلِ هذه الأشياءِ وهو الرَّبُّ تبارك وتعالى. وأُجِيب عنه بوجهَيْن، أحدُهما: يكونُ على حَذْفِ مضافٍ، أي: وربِّ - أو باني - بناءِ السماء ونحوه. والثاني: أنه لا غَرْوَ في الإِقسام بهذه الأشياء كما أَقْسم تعالى بالصبح ونحوه. وقال الزمخشري: «جُعِلَتْ مصدريةً وليس بالوجهِ لقولِه» فأَلْهمها «وما يؤدي إليه مِنْ فسادِ النظم. والوجهُ أَنْ تكونَ موصولةً، وإنما أُوْثِرَتْ على» مَنْ «لإِرادة معنى الوصفية كأنه قيل: والسماءِ والقادرِ العظيم الذي بناها، ونفس والحكيمِ الباهرِ الحكمةِ الذي سَوَّاها. وفي كلامهم:» سبحانَ ما سَخَّرَكُنَّ لنا «انتهى. يعني أنَّ الفاعلَ في» فألهمها «عائدٌ على اللَّهِ تعالى فليكُنْ في» بناها «كذلك، وحينئذٍ يَلْزَمُ عَوْدُه على شيءٍ وليس هنا ما يمكنُ عَوْدُه عليه غيرُ» ما «فتعيَّنَ أَنْ تكونَ موصولةً. وقال الشيخ:» أمَّا قولُه: «وليس بالوجهِ لقولِه» فَأَلْهمها «يعني مِنْ عَوْدِ الضمير في» فَأَلْهمها «على الله تعالى، فيكونُ قد عاد على مذكورٍ وهو» ما «المرادُ به الذي. قال:» ولا يَلْزَمُ ذلك؛ لأنَّا إذا جَعَلْناها مصدريةً عاد الضميرُ على ما يُفْهَمُ مِنْ سياق الكلامِ، ففي «بناها» ضميرٌ عائدٌ على الله تعالى، أي: وبناها هو، أي: الله تعالى، كما إذا رأيتَ زيداً قد ضرب عَمْراً فتقول: «عجبتُ مِمَّا ضَرَبَ عمراً» تقديره: مِنْ ضَرْبِ عمروٍ هو، كان حسناً فصيحاً جائزاً، وعَوْدُ الضمير على ما يُفْهَمُ مِنْ سياقِ الكلامِ كثيرٌ وقوله: «وما يُؤدِّي إليه مِنْ فسادِ النظم» ليس كذلك، ولا يُؤدِّي جَعْلُها مصدريةً إلى ما ذُكِرَ، وقوله: «وإنما أُوْثِرَتْ» إلى آخره لا يُراد بما ولا بمَنْ الموصولتين معنى الوصفيةِ؛ لأنهما لا يُوْصفُ بهما بخلاف «الذي» فاشتراكُهما في أنَّهما لا يُؤَدِّيان معنى الوصفيةِ موجودٌ بينهما فلا تنفردُ به «ما» دون «مَنْ» وقوله:: وفي كلامِهم «إلى آخره تَأَوَّله أصحابُنا على أنَّ» سبحان «عَلَم و» ما «مصدريةٌ ظرفيةٌ» انتهى. أمَّا ما رَدَّ به عليه مِنْ كونِه يعود على ما يُفْهَمُ من السِّياق فليس يَصْلُح رَدَّاً، لأنه إذا دار الأمرُ بين عَوْدِه على ملفوظٍ به وبينَ غيرِ ملفوظٍ به فعَوْدُه على الملفوظِ به أولى لأنَّه الأصلُ. وأمَّا قولُه: فلا تنفرد به «ما» دونَ «مَنْ» فليس مرادُ الزمخشري أنها تُوْصَفُ بها وصْفاً صريحاً، بل مُرادُه أنها تقعُ على نوعِ مَنْ يَعْقل، وعلى صفتِه، ولذلك مَثَّل النَّحْويون ذلك بقوله: {فانكحوا مَا طَابَ} [النساء: 3]، وقالوا: تقديره: فانْكِحُوا الطيِّبَ مِنْ النساءِ، ولا شكَّ أن هذا الحكمَ تَنْفَرِدُ به «ما» دون مَنْ. والتنكيرُ في «نفس»: إمَّا لتعظيمِها، أي، نفس عظيمة، وهي نفسُ آدمَ، وإمَّا للتكثيرِ كقولِه: {عَلِمَتْ نَفْسٌ} [الانفطار: 5]. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(11)

قالوا معناه تقضض. وقيل: قد أفلح مَنْ زَكَّى نفْسَه بالعمل الصالح. * * * وقوله: (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11) أي بطغيانها، وأصل (طَغْواها) طَغْيَهَا وَفَعْلَى إذا كانت من ذوات الياء أبدلت في الاسم وَاواً ليفصُل بين الاسم والصفة، تقول: هي التقوى، وإنما هي مِنْ أيقنتُ، وهي التقوى وإنما هي من يقنت، وقالوا: امرأةٌ خَزْياً لأنها صفةٌ. * * * وقوله تعالى: (فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13) (ناقةَ) مَنْصُوبٌ على معنى ذروا ناقة اللَّه، كما قال سبحانه: (هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ)، أي ذروا سقياها، وكان للناقَةِ يَوْمٌ وَلَهُمْ يَوْمٌ في الشِّرْبِ. * * * (فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) (فَكَذَّبُوهُ) أي فلم يوقنوا أنهم يُعَذبُونَ حين قال لهم (وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ). * * * (فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا). معناه دَمْدَمَ عَلَيْهِمْ أطبق عليهم العَذَابَ، يقال: دَمْدَمْتُ على الشيء إذا أطبقت عليه، وكذلك [دَمَمْتُ] عليه القبرَ وما أشبهه، وكذلِكَ ناقة مَدْمُومَةٌ، أي قد ألْبَسَها الشحم، فإذا كررت الإطباق قُلْتَ دَمْدَمُتْ عليه (1). * * * وقوله: (وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15) أكثر ما جاء في التفسير لا يخاف الله تعالى تبعةَ ما أَنزل بِهِمْ، وقيل لا يخاف رَسُولُ اللَّهِ صَالِحٌ عليه السلام الذي أرسل إليهم عُقْبَاهَا. وقيل إذا انبعث أشقاها وهو لا يخاف عقباها.

_ (1) قال السَّمين: قوله: {فَدَمْدَمَ}: الدَّمْدَمَةُ. قيل: الإِطباقُ يُقال: دَمْدَمْتُ عليه القبرَ، أي: أَطْبَقْتُه عليه. وقيل: الإِلزاقُ بالأرض. وقيل: الإِهلاكُ باستئصالٍ. وقيل: الدَّمْدَمَةُ حكايةُ صوتِ الهَدَّة ومنه: دَمْدَمَ في كلامه. ودَمْدَمْتُ الثوبَ: طَلَيْتُه بالصَّبْغ. والباءُ في «بذَنْبهم» للسببية. قوله: {فَسَوَّاهَا} الضميرُ المنصوبُ يجوزُ عَوْدُه على ثمودَ باعتبار القبيلةِ كما أعادَه في قولِه «بَطَغْواها» ويجوزُ عَوْدُه على الدَّمْدَمَة والعقوبةِ، أي: سَوَّاها بينهم، فلم يَفْلَتْ منهم أحدٌ. وقرأ ابن الزبير «فَدَهْدَمَ» بهاءٍ بين الدالَيْن بدلَ الميم، وهي بمعنى القراءةِ المشهورةِ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

سورة والليل

سُورَةُ وَاللَّيْل (مَكِّيَّة) ْبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) هذا قسم جوابه (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى)، أي إن سَعْيَ المْؤمِنِ والكَافِرِ لمخْتَلِف بينهما بُعْدٌ. ومعنى إذَا يَغْشَى الليل الأرْضَ توارى الأفُقَ وجميع ما بين السماء والأرض، والنهار إذَا تَجَلَى إذا بأن وظهر. * * * (وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3) كما فسَرناها في قوله: (والسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا). * * * وقوله: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) في التفسير أنها نزلت في أَبِي بَكْرٍ الصديقِ - رَحِمَه اللَّهُ - وكان اشترى جماعة كان يعذبهم المشركون ليرتدُّوا عن الإسلام فيهم بلال فوصَفَهُ اللَّه - عز وجل - على أنه أعْطى تقوى، وصدَّق بالحسنى، لأنه يجازى عليه. وقيل صَدَّقَ لأنه يخلف عليه لقوله: (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ). * * * وقاك: (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) أي للأمر السهل الذي لا يقدر عليه أَحَدٌ إلَّا المؤمنين. * * * وقوله: (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)

(10)

نزلت في رجل أكْرَة ذِكْرَهُ، وهي جامعة لكل مَنْ بَخِلَ وَكَذَّبَ لأن الله جلَّ وعزَّ يجازيه أو يخلف عليه. * * * (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) العذاب والأمرُ العَسِيرُ. * * * (وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11) قِيلَ إذا مات وقيل إِذَا تَرَدَّى في النارِ. * * * (إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) أي إن علينا أن نبين طريق الهدى من طريق الضلاَل. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) (تَلَظَّى) معناه تتوهج وَتَتَوقَّدُ. وَهذه الآية هيَ التي مِنْ أَجْلِهَا قال أهل الإرجاء بالإرجاء، فزعموا أنه لا يدخل النار إلا كافر لقوله: (لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16). وليس كما ظنوا، هذه نَارٌ مَوْصوفة بعينها لا يصلى هذه النارَ إلا الأشقى الَّذي كذَّبَ وَتَوَلَّى، ولأهل النار منازل فمنها قوله: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ). واللَّه عزَّ وجلَّ كل ما وَعَد عليه بجنس من العذاب فَجَائز أن يُعَذِبَ به. وقال عزَّ وجلَّ: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) فلو كان كل من لم يشرك باللَّه لا يعذب، لم يكن في قوله تعالى.: (وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ) فائدة، وكان يغفر ما دون ذلك. * * * وقوله: (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) أي يطلب أن يكون عند الله زاكياً، لا يطلب بذلك رياءً، ولا سمعةً. ونزلت في أبي بكر - رضي اللَّه عنه -. * * * (وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) أي لم يفعل ذلك مجازاة لِيَدٍ أُسْدِيَتْ إليه.

(20)

(إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) أي إلا طلب ثوابه. * * * وقوله: (وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21) أي سوف يدخل الجنة كما قال: (ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30).

سورة الضحى

سُورَةُ الضُّحَى (مَكِّيَّة) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) هذا قسم وجوابه (مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى). والضحى: النهار، وقيل ساعة من ساعات النهار. * * * (وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) وقوله إذا سجا معناه إذا سكن. قال الشاعر: يا حبَّذا القمراءُ والليلُ الساجْ. . . وطُرُقٌ مثلُ مُلاء النَّسَّاجْ * * * ومعنى: (مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) أي لم يقطع الوحي عنك وَلَا أَبْغَضَكَ، وذلك أنه تأخر الوحي عن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - خمسة عشر يوماً، فقال ناس من الناس: إن محمداً قد ودعه صاحبه وقلاه، فأنزل الله عزَّ وجلَّ - (مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى) المعنى ما قلاك، كما قال: (وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ) المعنى والذاكراته (1). * * * وقوله: (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وكان النبي عليه السلام يكفله عمُّه أَبُو طَالبٍ. * * * وقوله: (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) معناه - واللَّه أعلم - أنه لم يكن يدري القرآن ولا الشرائِع فهداه اللَّه

_ (1) قال السَّمين: قوله: {مَا وَدَّعَكَ}: هذا هو الجوابُ. والعامَّةُ على تشديد الدالِ من التَوْديع. [وقرأ] عروة بن الزبير وابنه هشام وأبو حيوة وابن أبي عبلة بتخفيفِها مِنْ قولِهم: وَدَعَه، أي: تركه والمشهورُ في اللغةِ الاستغناءُ عن وَدَعَ ووَذَرَ واسمِ فاعِلهما واسمِ مفعولِهما ومصدرِهما ب «تَرَكَ» وما تصرَّفَ منه، وقد جاء وَدَعَ ووَذَرَ. قال الشاعر: 4591 سَلْ أميري ما الذي غَيَّرَهْ. . . عن وِصالي اليومَ حتى وَدَعَهْ وقال الشاعر: 4592 وثُمَّ وَدَعْنا آلَ عمروٍ وعامرٍ. . . فرائِسَ أَطْرافِ المُثَقَّفةِ السُّمْرِ قيل: والتوديعُ مبالغةٌ في الوَدْع؛ لأن مَنْ وَدَّعك مفارقاً فقد بالغ في تَرْكِك. قوله: {وَمَا قلى} أي: ما أَبْغَضَك، قلاه يَقْليه بكسر العين في المضارع، وطيِّىء تقول: قلاه يقلاه بالفتح قال الشاعر: 4593 أيا مَنْ لَسْتُ أَنْساه. . . ولا واللَّهِ أَقْلاه لكَ اللَّهُ على ذاكَ. . . لكَ اللَّهُ [لكَ اللَّهُ] وحُذِفَ مفعولُ «قَلَى» مراعاةً للفواصلِ مع العِلْم به وكذا بعدَ «فآوى» وما بعدَه. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(9)

إلى القرآن وشرائع الإسلام، ودليل ذلك قوله: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ) وقال قوم: كان على أَمْرِ قَوْمِهِ أربعين سنة (1). * * * وقوله: (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) أي لا تقهره على ماله. * * * (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) أي لا تنهرهُ، إما أعطيته، وإما رددته ردًّا لَيِّناً. * * * (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11) أي بلِّغ ما أرسلت به وحَدِّثْ بالنبوة التي آتاك الله وهي أجَلُّ النِّعمِ.

_ (1) كلام في غاية الفساد والبطلان، ويكفي في رده قوله تعالى (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2).

سورة الشرح

سُورَةُ الشَّرْحِ (مَكِّيَّة) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) أي شرحناه للإسلام. * * * (وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) أي وضعنا عنك إثمك أن غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر. * * * (الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) جعل ذكر رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - مقروناً بذكر توحيد اللَّه في الأذان وفي كثير مما يذكر الله جلَّ وعزَّ، يقول فيه: أشهد أن لا إله إلا اللَّه، أشهد أن محمداً رسول اللَّه. * * * وقوله: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) فذكر العسر مع الألف واللام ثم ثَنَّى ذكره، فصار المعنى إنَّ مع العُسْرِ يُسْريْنِ، وقال النبي عليه السلام: لا يغلب عسر يُسْرَين. وقيل: لو دخل العسر جحراً لدخل اليسر عليه، وذلك أن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا في ضيقٍ شديدٍ. فأعلمهم الله أنهم سَيُوسِرونَ وأن سَيُفْتَح عَلَيْهِمْ. وَأَبْدَلَهمْ بالعُسْرِ اليُسْرَ (1). * * * وقوله: (وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8) أي اجْعَل رغبتك إلى الله وحده.

_ (1) قال السَّمين: قوله: {فَإِنَّ مَعَ العسر يُسْراً}: العامَّةُ على سكونِ السين في الكلم الأربع، وابن وثاب وأبو جعفر وعيسى بضمِّها. وفيه خلافٌ. هل هو أصلٌ، أو مثقلٌ من المسكِّن؟ والألفُ واللامُ في «العُسر» الأولِ لتعريف الجنس، وفي الثاني للعهدِ؛ ولذلك رُوِيَ عن ابن عباس: «لن يُغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْن» ورُوي أيضاً مرفوعاً أنه عليه السلام خرج يضحك يقول: «لن يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ» والسببُ فيه: أنَّ العربَ إذا أَتَتْ باسمٍ ثم أعادَتْه مع الألفِ واللامِ ِكان هو الأولَ نحو: «جاء رجلٌ فأكرمْتُ الرجلَ» وكقولِه تعالى: {كَمَآ أَرْسَلْنَآ إلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فعصى فِرْعَوْنُ الرسول} [المزمل: 1516] ولو أعادَتْه بغير ألفٍ ولامٍ كان غيرَ الأول. فقوله: {إِنَّ مَعَ العسر يُسْراً} لَمَّا أعاد العُسْرَ الثاني أعادَه بأل، ولَمَّا كان اليُسْرُ الثاني غيرَ الأولِ لم يُعِدْه ب أل. وقال الزمخشري: «فإنْ قلتَ ما معنى قولِ ابن عباس؟ وذكرَ ما تقدَّم. قلت: هذه عَمَلٌ على الظاهرِ وبناءٌ على قوةِ الرجاءِ، وأنَّ موعدَ اللَّهِ لا يُحْمل إلاَّ على أوفى ما يحتملُه اللفظُ وأَبْلَغُه، والقولُ فيه أنه يحتمل أَنْ تكونَ الجملةُ الثانيةُ تكريراً للأولى، كما كرَّر قولَه: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} [المرسلات: 15] لتقريرِ معناها في النفوسِ وتمكينِها في القلوب، وكما يُكَرَّر المفرد في قولك:» جاء زيدٌ زيدٌ «وأَنْ تكونَ الأولى عِدَةً بأنَّ العُسْرَ مُرْدَفٌ بيُسْرٍ لا مَحالَةَ، والثانيةُ عِدَةً مستأنفةٌ بأنَّ العُسْرَ متبوعٌ بيسرٍ، فهما يُسْران على تقديرِ الاستئناف، وإنما كان العُسْرُ واحداً لأنه لا يخلو: إمَّا أَنْ يكونَ تعريفُه للعهدِ وهو العسرُ الذي كانوا فيه فهو هو؛ لأنَّ حكمَه حكمُ» زيد «في قولك:» إنَّ مع زيد مالاً، إنَّ مع زيد مالاً «وإمَّا أَنْ يكونَ للجنسِ الذي يَعْلَمُه كلُّ أحدٍ فهو هو أيضاً، وأمَّا اليُسْرُ فمنكَّرٌ مُتَناولٌ لبعض الجنسِ، وإذا كان الكلامُ الثاني مستأنفاً غيرَ مكررٍ فقد تناوَلَ بعضاً غيرَ البعضِ الأولِ بغيرِ إشكال». وقال أبو البقاء: «العُسْرُ في الموضعَيْنِ واحدٌ؛ لأنَّ الألفَ واللامَ توجبُ تكريرَ الأولِ، وأمَّا» يُسْراً «في الموضعَيْنِ فاثنانِ، لأنَّ النكرةَ إذا أُريد تكريرُها جيْءَ بضميرِها أو بالألفِ واللام، ومن هنا قيل:» لن يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْن «وقال الزمخشري أيضاً:» فإنْ قلتَ: إنَّ «مع» للصحبة، فما معنى اصطحابِ اليُسْرِ والعُسْرِ؟ قلت: أراد أنَّ اللَّهَ تعالى يُصيبُهم بيُسرٍ بعد العُسْرِ الذي كانوا فيه بزمانٍ قريبٍ، فَقَرُبَ اليُسْرُ المترقَّبُ حتى جَعَله كأنَّه كالمقارِنِ للعُسْرِ، زيادةً في التسلية وتقويةً للقلوب «وقال أيضاً: فإنْ قلتَ ما معنى هذا التنكير؟ قلت: التفخيمُ كأنه قيل: إنَّ مع العُسْر يُسْراً عظيماً وأيَّ يُسْرٍ؟ وهو في مُصحفِ ابن مسعودٍ مرةٌ واحدٌ. فإنْ قلتَ: فإذا ثَبَتَ في قراءتِه غيرَ مكررٍ فلِمَ قال:» والذي نفسي بيده لو كان العُسْرُ في جُحْرٍ لطَلَبه اليُسْرُ حتى يَدْخُلَ عليه، لن يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْن «قلت:» كأنه قَصَدَ باليُسْرين ما في قوله «يُسْراً» مِنْ معنى التفخيم، فتأوَّله ب «يُسْرِ الدارَيْن» وذلك يُسْران في الحقيقة «. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

سورة التين

سُورَةُ التِّينِ (مَكِّيَّة) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله: (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) قيل التين دمشق والزيتون بيت المقدس. وقيل: التين جبل عليه دمشق، والزيتون جبل عليه بيت المقدس. وقيل والتين والزيتون جَبَلانِ. وقيل التين والزيتون هذا التين الذي نعرفه، وهذا الزيتون الذي نعرفُه. * * * (وَطُورِ سِينِينَ (2) جبل، وقرأ بعضهم و " طورِ سيناء "، وهذا القول - والله أعلم - أشبه لقوله: (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ). * * * (وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) يعني مكة. * * * (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) أي في أَحْسَنِ صُورَةٍ. * * * (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إلى أرذل العُمُر، وقيل إلى الضلال كما قال عزَّ وجلَّ: (إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ). وهو - واللَّه أعلم - أنْ خلق الخلق على الفطرة فمن كفر وضل فهو المردود إلَى أَسْفَلِ السَّافِلِين.

(6)

(إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) أي إلَّا هُؤلَاءِ فَلم يردوا إلى أسفل سافلين. * * * وقوله: (فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ). أي لا يُمَنَّ عَلَيْهِمْ، وقيل غير ممنون غير مقطوع. وجواب القسم في قوله: (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) قوله: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ).

سورة العلق

سُورَةُ العَلَقِ (مَكِّيَّة) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) جاء في التفسير أن أول آية نزلت من القرآن (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ). * * * وقوله: (الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) أي الذي علم الكتابة. * * * وقوله: (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7) هذه نزلت في أَبي جَهْلٍ بنِ هِشَام، وكذلك: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10). لأن أبا جهل قال: إنْ رَأَيْتُ مُحمداً يُصَلِّي تَوَطَّأْتُ عنقه. * * * وقوله: (كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) أي لنُجَرنَّ ناصيته إلى النار، يقال: سَفَعْتُ بالشيء إذَا اقْبَضْتُ عليه وجذبته جَذْباً شديداً (1). * * * وقوله: (نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) وتأويله بناصيةٍ صَاحِبُها كاذبٌ خاطئ، كما يقال فلان نهارُه صائم وليلُه قائم، المعنى هو صائم فِي نهاره وقائم في ليله. * * * (فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17)

_ (1) قال السَّمين: قوله: {لَنَسْفَعاً}: الوقفُ على هذه النونِ بالألفِ، تشبيهاً لها بالتنوين، وكذلك يُحْذَفُ بعد الضمة والكسرة وقفاً. وتكتب ههنا ألفاً إتباعاً للوقف. ورُوِي عن أبي عمروٍ «لَنَسْفَعَنَّ» بالنونِ الثقيلةِ. والسَّفْعُ: الأَخْذُ والقَبْضُ على الشيءِ بشدةٍ وجَذْبه. وقال عمرو بن معد يكرب: 4607 قومٌ إذا سَمِعُوا الصَّريخَ رَأَيْتَهُمْ. . . ما بين مُلْجمِ مُهْرِه أو سافعِ وقيل: هو الأَخْذُ بلغةِ قريشٍ. وقال الراغب: «السَّفْعُ: الأخْذُ بسُفْعِه الفَرَس، أي: بسَوادِ ناصيتِه، وباعتبار السوادِ قيل للأثافيّ:» سُفْعٌ «وبه سُفْعَةُ غَضَبٍ، اعتباراً بما يَعْلُو من اللون الدُّخاني وَجْهَ مَنْ اشتدَّ به الغضبُ، وقيل: للصَّقْر:» أسْفَعُ «لِما فيه مِنْ لَمْعِ السَّوادِ، وامرأةٌ سَفْعاءُ اللونِ» انتهى. وفي الحديث: «فقامَتِ امرأةٌ سَفْعاءُ الخَدَّيْن». اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(18)

معناه فليدع أهل ناديه، وهم أهل مجلسه، وَكَانُوا عَشِيرَتَه أي فليستنصر بهم. * * * (سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) الزبانية الغلاظ الشداد، وَاحِدُهم زِبْنية، وهم ههنا الملائكة، قال اللَّه عزَّ وجلَّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ) وَهُمُ الزَبَانِيَةُ. * * * (كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19) (كَلَّا) أي ليس الأمر على ما عليه أبوجهل. (لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) أي وتقرَّب إلى ربِّك بالطاعة.

سورة القدر

سُورَةُ الْقَدْرِ مدنية وقيل الصحيح (مَكِّيَّة) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) الهاء ضمير القرآن ولم يجر له ذكَر في أول السورة ولكنه جرى ذكره فيما قبلها، وهو قوله؛ (حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ)، وهي لَيْلة القَدْرِ. ومعنى ليلَة القدر ليلة الحكم قال الله تعالى: (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ). نزل القرآن كله إلى السماء الدنيا في ليلة القَدْرِ، ثم نزل به جبريل عليه السلام على النبي - صلى الله عليه وسلم - في عشرين سنة. * * * وقوله: (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) من ألف شهر ليس فيه لَيلة القَدْرِ. * * * وقوله: (تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) تنزل الملائكة بما يقضي الله عزَّ وَجَل في ليلَة القدرَ للسنة إلَى أن تأتيَ ليلةُ القَدْرِ. وقُرِئَتْ (مِنْ كُلِّ امْرِئٍ) (1)، وهذه القراءة تخالف المصحف، إلا أنها قد رويت عن ابن عباس. * * * وقوله: (سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)

_ (1) قال السَّمين: «امْرِئٍ» مُذ‍كَّرُ امرأة، أي: مِنْ أجلِ كلِّ إنسانٍ. وقيل: مِنْ أجل كلِّ مَلَكٍ، وهو بعيدٌ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

أي لا داء فيها، ولا يستطيع الشيطانُ أن يصنع فيها سَيِّئاً، والروح جبريل عليه السلابم. وقرئت (مَطْلَعَ الفَجْرِ)، وَمَطْلِعَ الفَجْرِ - بفتح اللام والكسر - فمن فتح فَهوَ المصدَرُ بمعنى الطلع. تَقُول: طلع الفجر طلوعاً وَمَطْلَعاً. ومن قال مَطْلِع فهو اسم لوقت الطلوع وكذلك لمكان الطلوع، الاسم مَطْلِع بكسر اللام.

سورة القيمة

سُورَةُ القَيِّمَة (مَدَنية) وقيل الصحيح (مَكِّيَّة) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله عزَّ وجلَّ: (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) (المشركين) في موضع جر عطف على أهل الكتاب، المعنى لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب ومن المشركين. وقوله: (مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ). أي لم يكونوا منفكين من كفرهم، ومعنى منفكين منتهين عن كفرهم. * * * وقوله (رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2) (رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو) يرتفع على ضربين: أَحَدهُما على البَدَلَ مِنَ (الْبَيِّنَةُ). المعنى حتى يأتيهم رسول من اللَّه. والضرب الثاني على تفسير (الْبَيِّنَةُ)، و (الْبَيِّنَةُ) (رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً). أي مطهرة من الأدناس والباطل، قال الله عزَّ وجلَّ: (فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14). * * * وقوله: (فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3)

(4)

أي كتب غير ذات عوج مستقيمة تُبَيِّنُ الحقَّ من الباطل على الاستواء والبرهان. * * * قوله.: (وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) أي ما تفرقوا في ملكهم وكفرهم بالنبي عليه السلام إلا من بعد أن تبينُوا أنه الذي وعدوا به في التوراة والإنجيل. * * * (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) أي يعبدونه مُوحِّدين له لا يعبدون معه غيره (حُنَفَاءَ) على دين إبراهيم ودين محمد عليه السلام. (وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ). أي يؤمنوا مع التوحيد بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ويقيموا شرائعه. (وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ). أي وذلِكَ دين الأمة الْقَيِّمَةِ بالحق فيكون ذلك دين الملَّةِ المستقيمة. * * * وقوله: (أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) القراءة (الْبَرِيَّةِ) بترك الهمزة. وقد قرأ نافع (البريئة) بالهمز، والقُرَّاء غيرُهُ مجمعُونَ على ترك الهمز، كما أجمعوا في النبي، والأصل البريئة، إلا أن الهمزة خففت لكثرة الاستعمال. يقولون: هذا خيرُ البريِّةِ وشرُّ البريَّةِ وما في البريَّة مِثْلُه، واشتقاقهُ من برأ اللَّه الخلق. وقال بعضهم: جائز أن يكون اشتقاقها من البَرَا وهو التراب، ولو كان كذلك لما قرأوا البريئة بالهمز. والكلام برأ اللَّه الخلق يبرؤهم، ولم يحك أحد براهم يبريهم، فيكون اشتقاقه من البَرَا وهو التراب (1). * * * وقوله: (جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8) (جَنَّاتُ عَدْنٍ) أي جَنَّاتُ إقامة.

_ (1) قال السَّمين: قوله: {البرية}: قرأ نافعٌ وابن ذَكْوان «البَريئة» بالهمزِ في الحرفَيْن، والباقون بياءٍ مشدَّدةٍ. واخْتُلِف في ذلك الهمز، فقيل: هو الأصلُ، مِنْ بَرَأ اللَّهُ الخَلْقَ ابتدأه واخترعَه فيه فعليةٌ بمعنى مَفْعولةٌ، وإنما خُفِّفَتْ، والتُزِمَ تحفيفُها عند عامَّةِ العربِ. وقد ذَكَرْتُ أنَّ العربَ التزمَتْ غالباً تخفيفَ ألفاظٍ منها: النبيُّ والخابِيةَ والذُّرِّيَّة والبَرِيَّة. وقيل: بل البَرِيَّةُ دونَ همزةِ مشتقةٌ مِنْ البَرا، وهو الترابُ، فهي أصلٌ بنفسِها، فالقراءتان مختلفتا الأصلِ متفقتا المعنى. إلاَّ أنَّ ابنَ عطيةَ غَضَّ مِنْ هذا فقال: «وهذا الاشتقاقُ يَجْعَلُ الهمزةَ خطأً وهو اشتقاقٌ غيرُ مَرْضِيّ» انتهى. يعني أنَّه إذا قيل بأنَّها مشتقةٌ من البَرا وهو الترابُ فمَنْ أين يجيْءُ في القراءةِ الأخرى؟ وهذا غيرُ لازم لأنهما قراءتان مُسْتقلَّتان، لكلٍ منهما أصلٌ مستقلٌ، فقيل: مِنْ بَرَأَ، أي: خَلَق، وهذه مِنْ البَرا؛ لأنَّهم خُلِقوا مِنْه، والمعنى بالقراءتين شيءٌ واحدٌ، وهو جميعُ الخَلْقِ. ولا يُلْتَفَتُ إلى مَنْ ضَعَّف الهمزَ من النحاةِ والقُرَّاءِ لثبوتِه متواتِراً. وقرأ العامَّةُ «خيرُ البَرِيَّة» مقابلاً لشَرّ. وعامر بن عبد الواحد «خِيارُ» وهو جمع خَيِّر نحو: جِياد وطِياب في جمع جَيِّد وطَيِّب، قاله الزمخشري. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

سورة الزلزلة

سُورَةُ الزَّلْزَلَةِ مدنية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله عزَّ وجلَّ: (إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) إذا حركت حركة شديدة، والقراءة (زِلْزَالَها) بكسر الزاي، ويجوز في الكلام زَلْزَالَها، وقرئت (زَلْزَالَها)، وليس في الكلام فَعْلَال بفتح الفَاء إلا في المضاعف نحو الزلزال والصلْصَال. والاختيارُ كَسرِ الزاي، والفتح جائز. * * * (وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) أخرجت كُنوزها وموتاها * * * (وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) هذا قول الكافِرِ لأنه لم يكن يؤمن بالبعث، فقال: مَا لَها، أي لأي شيء زلزالها. * * * (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) (يَوْمَئِذٍ) منصوب بقوله: (إِذَا زُلْزِلَت)، وأخرجت، في ذلك اليوم ومعنى (تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا)، [تخبرُ] بما عُمِلَ عَليها. * * * (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) أي يَصْدُرون متفرقينَ منهم من عمْل صالحاً ومنهم من عمل شَرًّا

(7)

والقراءة (لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ) وُيرْوَى (لِيَرَوْا أَعْمَالَهُمْ)، ولا أعلم أَحَداً قرأ بها. ولا يجوز أن يقرأ بما يجوز في العربية إذا لم يقرأ به من أُخِذَت عَنْهُ القراءة. * * * ومعنى: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) تأويله أن اللَّه جلَّ وعزَّ قد أحصى أعمال العباد من خَيرٍ، وكل يرى عمله، فمن أَحَبَّ اللَّه أن يغفر له غَفَر له. ومن أحب أَنْ يُجَازِيَه جَازَاهُ. وقيل مَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ في الدنيا. وكذلك شَرُّا يره في الدنيا (1). واللَّه أعلم.

_ (1) قال السَّمين: قوله: {خَيْراً}، {شَرّاً}: في نصبِهما وجهان، أظهرهما: أنهما تمييز للمِثْقال فإنه مقدارٌ. والثاني: أنهما بدلان مِنْ «مثقالَ» قوله: {يَرَهُ} جوابُ الشرط في الموضعين. وقرأ هشام بسكونِ هاء «يَرَهْ» وَصْلاً في الحرفَيْن. وباقي السبعةِ بضمِّها موصولةً بواوٍ وَصْلاً، وساكنةً وَقْفاً كسائرِ هاءِ الكنايةِ، هذا ما قرَأْتُ به. ونَقَل الشيخُ عن هشام وأبي بكر سكونَها، وعن أبي عمرو ضمُّها مُشْبعة، وباقي السبعةِ بإشباعِ الأولى وسكونِ الثانية. انتهى. وكان ذلك لأجلِ الوقفِ على آخرِ السورةِ غالباً. أمَّا لو وَصَلوا آخرَها بأولِ «العادِيات» كان الحكمُ الإِشباعَ هذا مقتضى أصولِهم كما قَدَّمْتُه وهو المنقولُ. وقرأ العامَّةُ «يَرَهُ» مبنياً للفاعلِ. وقرأ ابن عباس والحسين بن علي وزيد بن علي وأبو حيوة وعاصم والكسائي في رواية «يُرَه» مبنياً للمفعول. وعكرمة «يَراه» بالألفِ: إمَّا على تقديرِ الجزمِ بحَذْفِ الحركةِ المقدرة، وإمَّا على تَوَهُّمِ أنَّ «مَنْ» موصولةٌ، وتحقيق هذا مذكورٌ في أواخِر يوسف. وحكى الزمخشري أن أعرابياً أَخَّر «خيراً يَرَهُ» فقيل له: قَدَّمْتُ وأَخَّرْتَ، فأنشد: 4615 خذا بَطْنَ هرشى أوقَفاها فإنَّه. . . كِلا جانِبَيْ هرشى لَهُنَّ طريقُ انتهى. يريدُ أنَّ التقديمَ والتأخيرَ سواءٌ، وهذا لا يجوزُ ألبتَّةََ فإنه خطأٌ لا يُعْتَقَدُ به قراءةً. والذَّرَّة قيل: النملةُ الصغيرةُ. وأصغرُ ما تكونُ قضى عليها حَوْلٌ قال امرؤ القيس: 4616 من القاصراتِ الطَرْفِ لو دَبَّ مُحْوِلٌ. . . من الذَّرِّ فوق الإِتْبِ منها لأَثَّرا اهـ (الدُّرُّ المصُون).

سورة والعاديات

سُورَةُ وَالْعَادِيَاتِ (مَكِّيَّة) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) يعنى بالعاديات ههنا الخيل، وهذَا قسم جوابه: (إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ). وقوله: (ضَبْحًا). معناه والعاديات تضبح ضبحاً، وضبحها صوت أجوافها إذا عَدَتْ. * * * (فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) إذا عدت الخيل بالليل وأصابت حوافرها الحجارة انقدح منها النيران. * * * (فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) يعنى الخيل. وجاء في التفسير أنها سَريَّة كانت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى كندة. * * * (فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) النقع الغبارُ، فقال " بِهِ " ولم يتقدم ذكر المكان، ولكن في الكلام دَليلٌ عليه، المعنى فَأَثَرْنَ بمكان عَدْوِهَا نَقْعًا أَيْ غباراً. * * * (فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5) القراءة (فَوَسَّطْنَ) أي فتوسطْنَ المكان. ولو قال (فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا) لجازَتْ، إلا أنِّي لَا أعْلَمُ أحَداً قَرأ بها (1).

_ (1) قال السَّمين: قوله: {فَوَسَطْنَ}: العامَّةُ على تخفيفِ السينِ، أي: تَوَسَّطْنَ. وفي الهاءِ في «به» أوجهٌ، أحدُها: أنها للصبح، كما تقدَّم. والثاني: أنها للنَّقْعِ، أي: وَسَطْنَ بالنَّقْعِ الجَمْعَ، أي: جَعَلْنَ الغبارَ وَسْطَ الجمع، فالباءُ للتعدية، وعلى الأولِ هي ظرفيةٌ، الثالث: أنَّ الباءَ للحاليةِ، أي: فتوَسَّطْن مُلْتبساتٍ بالنقع، أي: بالغبار جمعاً من جموع الأعداء. وقيل: الباءُ مزيدةٌ، نقله أبو البقاء و «جَمْعاً» على هذه الأوجهِ مفعولٌ به. الرابع: أنَّ المرادَ ب جَمْع المزدلفةُ وهي تُسَمَّى جَمْعاً. والمرادُ أنَّ الإِبلَ تتوسَّطُ جَمْعاً الذي هو المزدلفةُ، كما مرَّ عن أميرِ المؤمنين رضي الله عنه، فالمرادُ بالجَمْعِ مكانٌ لا جماعةُ الناسِ، كقولِ صفية: 4626. . . . . . . . . . . والعادياتِ غَداةَ جَمْعٍ. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وقولِ بشرِ بنِ أبي خازم: 4627 فَوَسَطْنَ جَمْعَهُمُ وأَفْلَتَ حاجبٌ. . . تحت العَجابةِ في الغُبارِ الأَقْتَمِ و «جَمْعاً» على هذا منصوبٌ على الظرف، وعلى هذا فيكونُ الضميرُ في «به»: «إمَّا للوقتِ، أي: في وقت الصبح، وإمَّا للنَّقْع، وتكونُ الباءُ للحال، أي: مُلْتبساتٍ بالنَّقْع. إلاَّ أنه يُشْكِلُ نَصْبُ الظرفِ المختصِّ إذ كان حَقُّه أَنْ يتعدى إليه ب» في «وقال أبو البقاء:» إنَّ جَمْعاً حالٌ «وسبقه إليه مكي. وفيه بُعْدٌ؛ إذ المعنى: على أنَّ الخيلَ توسَّطَتْ جَمْعٌ الناسِ. وقرأ علي وزيد بن علي وقتادة وابن أبي ليلى بتشديد السين، وهما لغتان بمعنىً واحدٍ أعني التثقيلَ والتخفيفَ. وقال الزمخشري:» التشديدُ للتعديةِ والباءُ مزيدةٌ للتأكيدِ كقوله: {وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً} [البقرة: 25] وهي مبالَغَةٌ في «وَسَطْن» انتهى. وقولُه: «وهي مبالَغَةٌ» يناقِضُ قولَه أولاً «للتعدية»؛ لأن التشديدَ للمبالغة لا يُكْسِبُ الفعلَ مفعولاً آخر تقول: «ذَبَحْتُ الغنم» مخففاً ثم تبالِغُ فتقول: «ذَبَّحْتها» مثقلاً، وهذا على رأيِه قد جَعَله متعدياً بنفسِه بدليلِ جَعْلِه الباءِ مزيدةً فلا يكون للمبالغة. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(6)

وقوله عزَّ وجلَّ: (إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) معناه لكفورٌ، يعنى بذلك الكافِرُ. * * * (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) معنى (لَشَدِيدٌ) لَبخيل، أي وإنه من أَجْل حُبِّ المال لبخيل. قال طرفة: أَرَى المَوْتَ يَعْتَامُ الكِرَام ويَصْطَفي. . . عَقِيلَةَ مَالِ البَاخِلِ المُتَشدِّدِ * * * وقوله: (أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) بعثر وبحثر بمعنى وَاحِدٍ، والمعنى أفلا يعلم إذا بعث الموتى. * * * وقوله: (إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11) الله عزَّ وجلَّ خبير بَهَم في ذلك اليوم وَفي غيره، ولكن المعنى إن اللَّه يجازيهم على كفرهم في ذلك اليوم، وليس يجازيهم إلا بِعِلْمِهِ أعمالهم. ومثله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوِبهِمْ) @ فمعناه أولئك الذين لايتركُ مجازاتِهُمْ.

سورة القارعة

سُورَةُ الْقَارِعَةِ (مَكِّيَّة) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله عزَّ وجلَّ: (الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) القارعة والواقعة والحاقَّة مِن صفات ساعة القيامَةِ. والقارعة التي تقرع بالأهوال. وقد فسرنا إعراب (الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ) ومِثلها (الْقَارِعَةُ مَا الْقَارِعَةُ). * * * وقوله: (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) (يَوْمَ) منصوب على الظرف، المعنى يكون يوم يكون الناس كالفراش المبثوث، والفراش ما تراه كصغار البق يتهافت في النار، وشبه الناس في وقت البعث بالجراد المنتشر، والفراش المبثوث لأنهم إذا بعثوا يموج بعضهم في بعض كالجراد الذي يموج بعضه في بعض. * * * وقوله: (وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) (العِهْن) الصوف، واحدته عِهنة، يقالُ عِهْنة وعِهْن، مثل صوفة وصوف. * * * وقوله: (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) ذات رِضًى، معناه من ثقلت موازينه بالحسنات، كما تقول: لفلان عندي وزن ثقيلٌ، تأويله له وزن في الخير ثقيل. ومعنى (فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ) ذات رضى يرضاها من يعيش فيها. وقال قوم: معناه مرْضِيةٍ، وهو يعود إلى هذا المعنى في التفسير.

(8)

وقوله: (وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) أي فَمَسْكَنَه النار. وقيل (أُمُّهُ) لَمَسْكِنِه لأن الأصل في السكونِ إلى الأُمَّهاتِ فَأُبْدَلَ فِيمَا يَسْكُنُ إلَيْه (نَارٌ حَامِيَةٌ). * * * وقوله: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) الوقف " هِيَه "، والوصل هي نار حَامِيةٌ إلا أن الهاء دخلت في الوقف تبين فتحة الياء، والذي يجب اتباع المصحف فيوقف عليها ولا توصل. فيقرأ (وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11)). لأن السنة اتباع المصحف، والهاء ثابتة فيه.

سورة التكاثر

سُورَةُ التَّكَاثُر (مَكِّيَّة) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله عزَّ وجلَّ: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) أي شَغَلكم التكَاثُر بالأموال والأولاد عن طاعة اللَّهِ. * * * (حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) أي حتى أَدْرَككم الموت على تلك الحال. وجاء في التفسير أن حَيينِ من العرب، وهم بنو عبد مناف وبنو سهم تَفاخروا وتكاثروا، ففخرت بنو عبد مناف على بني سهم بأن عدوا الأحياء، فقالت بنو سهم: فاذكروا الموتى. وَكَثرَتْهُم بَنُو سهم بعد أن كان بنو عبد مناف قد كَثرُوا بني سَهْمٍ. * * * وقوله: (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) (كَلَّا) ردع وتنبيه، المعنى ليس الأمر الذي ينبغي أن يكونوا عليه التكَاثُرَ، والذي ينبغي أن يكونوا عليه طاعة اللَّه والإيمانُ بنبيه - صلى الله عليه وسلم -. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) المعنى لو علمتم الشيء حق علمه، وصرفتُم التفهم إليه، لارْتَدَعْتُم. ثم قال: * * * (لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6)

(8)

كما قال: (وَإِنْ مِنْكُمْ إلا وَارِدُهَا). والقراءة لتروُن - بضم الواو غير مهموزة - فضمت الواو لسكونها وسكون النون - وقد همزها بعضهم - لَتَرؤن - والنحويونْ يكرهون همزة الواو، لأن ضمتها غير لازمة لأنها حركت لالتقاء السَّاكنين، ويهمزون الواو التي ضمتها لازمة نحو أَدْؤرٍ جمع دار، فيجوز أدؤر بالهمز وادور بغير الهمز، وأنت مخير فيهما، فأمَّا " لَتَرؤنَّ " ثم لَتَرَوُنَها فلا يختار النحويون إلا ترك الهمزة، وقرئت: " لتُرَؤُنَّ " الجحيم، على ما لم يُسَم فاعِلُه. * * * (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8) أي يوم القيامة، عن كل ما يتنعَم به في الدنيا، وجاء في الحديث أن النبي عليه السلام أكل هو وجماعة من أصحابه تمراً - وروي بُسْراً - وشربوا عليه ماء فقال: الحمد للَّهِ الذي أطعمنا وسقانا وجعلنا مسلمين. وجاء أن مما لا يسأل العبد عنه لباساً يواري سوْأَتَه وطعاماً يقيم به صلبه، ومكاناً يكنه مِنَ الحَرِّ والبَرْدِ.

سورة والعصر

سُورَةُ والْعَصْرِ (مَكِّيَّة) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) الإنسان ههنا في معنى الناس، كما تقول: قد كثر الدرهم والدينار في أيدي الناس، تريد قد كثر الدراهم. وقوله: (لَفِي خُسْرٍ) الخسرُ والخسْرانُ في معنى وَاحِدٍ. المعنى إن الناس الكفارَ والعاملين بغير طاعة الله لفي خُسرٍ. * * * (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3) تواصوا بالِإقامة على تَوْحِيدِ اللَّه والإيمان بنبيه عليه السلام. (وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) على طاعة اللَّه والجهاد في سبيله والقيام بشرائع نبيه. والعصر هو الدهر، والعصران اليوم، والعصرُ الليلة. قال الشاعر: ولن يَلْبَثَ العَصْرَانِ يومٌ وليلة. . . إِذا طَلَبَا أَن يُدْرِكا ما تَيَمَّما

(وَالعَصْرِ) قسم وجوابه (إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ). وقال بعضهم: معناه ورَبِّ العَصْرِ كما قال جل ثناؤه: (فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ). (1)

_ (1) قال السَّمين: قوله: {والعصر}: العامَّةُ على سكونِ الصادِ. وسلام «والعَصِرْ» والصَّبِرْ «بكسرِ الصادِ والباء. قال ابنُ عطية: ولا يجوزُ إلاَّ في الوقفِ على نَقْلِ الحركةِ. ورُوِيَ عن أبي عمروٍ» بالصَّبِر «بكسرِ الباء إشماماً. وهذا أيضاً لا يجوزُ إلاَّ في الوقفِ» انتهى. ونَقَل هذه القراءةَ جماعةٌ كالهُذَليِّ وأبي الفضل الرازيِّ وابنِ خالويه. قال الهُذَليُّ: «والعَصِرْ والصَّبِرْ، والفَجِرْ، والوَتِرْ، بكسرِ ما قبل الساكنِ في هذه كلِّها هارونُ وابنُ موسى عن أبي عمروٍ والباقون بالإِسكانِ كالجماعةِ» انتهى. فهذا إطْلاقٌ منه لهذه القراءةِ في حالتي الوقفِ والوصلِ. وقال ابن خالويه: «والصَّبِرْ» بنَقْل الحركةِ عن أبي عمرو «فأطْلَقَ ايضاً. وقال أبو الفضل:» عيسى البصرة بالصَّبِرْ «بنَقْلِ حركةِ الراءِ إلى الباءِ يُحتاجَ إلى أَنْ يأتيَ ببعضِ الحركةِ في الوقفِ، ولا إلى أَنْ يُسَكَّنَ فيُجْمَعَ بين ساكنَيْن، وذلك لغةٌ شائعةٌ وليسَتْ بشاذةٍ، بل مُسْتفيضةٌ، وذلك دَلالةٌ على الإِعرابِ، وانفصالٌ من التقاءِ الساكنَيْن، وتأديةُ حقِّ الموقوفِ عليه من السكونِ» انتهى. فهذا يُؤْذِنُ بما ذَكَرَ ابنُ عطيةَ أنه كان ينبغي. وأنشدوا على ذلك: 4636. . . . . . واصْطِفاقاً بالرِّجِلْ. . . يريد بالرِّجْلِ. وقال آخر: 4637 أنا جريرٌ كُنْيتي أبو عَمِرْ. . . أَضْرِبُ بالسَّيْفِ وسَعْدٌ في القَصِرْ والنقلُ جائزٌ في الضمة أيضاً كقوله: 4638. . . . . . . . . . . . . إذْ جَدَّ النُّقُرْ. . . والعَصْرُ: الليلةُ واليومُ قال: 4639 ولن يَلْبَثَ العَصْرانِ يَوْمٌ وليلةٌ. . . إذا طلبا أن يُدْرِكا ما تَيَمَّما اهـ (الدُّرُّ المصُون).

سورة الهمزة

سُورَةُ الهُمَزَة (مَكِّيَّة) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله: (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) (وَيْلٌ) مرفوع بالابتداء والخبر (لِكُلِّ هُمَزَةٍ) ولو كان في غير القرآن جاز النصب، ولا يجوز في القرآن لمخالفة المصحف. فمن قال: وْيلاً للكافرين. فالمعنى جعل الله له ويلاً، ومن قال: (وَيْلٌ) فهو أجود فى العربية لأنه قد ثبت له الويل، والويل كلمة تقال لكل من وقع في هلكة. والهُمَزَةُ اللُمَزَةُ الذي يغتاب النَّاسَ ويَغُضُّهم قال الشاعر: إذا لَقِيتُكَ عَنْ كُرْهٍ تُكَاشِرُني. . . وإن تَغَيَّبْتُ كُنْتَ الهَامِزَ اللُّمَزَهْ * * * (الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) وقرئت: (الذي جَمَّعَ مَالًا)، وقرئت (جَمَعَ مَالًا)، بالتخفيف. وقرئت (وَعَدَّدَهُ) بالتشديد، وقرئت (وَعَدَدَهُ) - بالتخفيف. فمن قرأ (وَعَدَّدَهُ) فمعناه، وَعَدَّدَهُ للدهُور. ومن قرأ (وَعَدَدَهُ) فمعناه جمع مالاً وَعَدَداً، أي وقوماً أعَدَّهم نُصَّاراً (1).

_ (1) قال السَّمين: قوله: {الذى جَمَعَ}: يجوزُ جرُّه بدلاً، ونصبُه ورفعُه على القطع. ولا يجوزُ جَرُّه نعتاً ولا بياناً لتغايُرِهما تعريفاً وتنكيراً. وقولُه: «جَمَعَ» قرأ الأخَوان وابن عامر بتشديدِ الميم على المبالغةِ والتكثيرِ، ولأنَّه يوافِقُ «عَدَّدَه» والباقون «جمَعَ» مخففاً وهي محتمِلَةٌ للتكثيرِ وعدمِه. قوله: «وعَدَّدَه» العامَّةُ على تثقيل الدالِ الأول، وهو أيضاً للمبالغةِ. وقرأ الحسن والكلبُّي بتخفيفِها. وفيه أوجهٌ، أحدُها: أنَّ المعنى: جَمَعَ مالاً وعَدَدَ ذلك المالَ، أي: وجَمَعَ عَدَدَه، أي: أحصاه. والثاني: أنَّ المعنى: وجَمَعَ عَدَدَ نفسِه مِنْ عَشِيرَتِهِ وأقاربِه، و «عَدَدَه» على هَذَيْنِ التأويلَيْنِ اسمٌ معطوفٌ على «مالاً» أي: وجَمَعَ عَدَدَ المالِ أو عَدَدَ نفسِه. الثالث: أنَّ «عَدَدَه» فعلٌ ماضٍ بمعنى عَدَّه، إلاَّ أنَّه شَذَّ في إظهارِه كما شَذَّ في قولِه: 4641. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . إني أَجُوْدُ لأَِقْوامٍ وإنْ ضَنِنُوا اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(3)

وقوله: (يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) أي يعمل عمل من لا يظن مع يساره أنه يَمُوتَ. * * * وقوله: (كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) أي يرمى به في النار. والحُطَمَةُ اسم من أسماء النار. وقرئت (لَيُنْبَذَانِّ فِي الْحُطَمَةِ). ورويت - عن الحسن، على أن المعنى لينبذنَّ هو وماله في الحُطَمَةِ. وقرئت (لَتَنْبُذُنَ) فِي الْحُطَمَةِ، فمعناه أنه لينبذ هو وجمعُه في الحطمة. والقراءة المعروفة (لَيُنْبَذَنَّ). * * * قوله: (نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) هذه نار معدة لهؤلاء الكفار ومن كان مثلهم. ومعنى (تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ) يبلغ ألمها وإحْرَاقُها إلى الأفئدة. * * * وقوله: (إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) قرئت بالِهمز وبغير همز. وقرئت مُوصَدَة، والعرب تقول أَوْصَدْتُه فعلى هذا مُوصَدَة. وتقول آصَدْتُه فعلى هذا مؤصَدَة. بالهمزة. ومعنى " مُوصَدَةٌ " مطبقة، أي العَذَابُ مطبَق عليهم. * * * وقوله: (فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9) وقرئت (فِي عُمُدٍ) وهو جمع عمَادٍ وَعُمَد وَعُمُد، كما قالوا: إِهابٌ وأَهَبٌ وَأُهُبٌ. ومعناه أنها في عُمَد مِنَ النَّارِ (1).

_ (1) قال السَّمين: قوله: {فِي عَمَدٍ}: قرأ الأخَوان وأبو بكر بضمتين جمعَ «عَمُود» نحو: «رَسُول ورُسُل». وقيل: جمعُ عِماد نحو: كِتاب وكُتُب. ورُوي عن أبي عمروٍ الضمُّ والسكونُ، وهو تخفيفٌ لهذهِ القراءةِ. والباقون «عَمَد» بفتحتَيْن. فقيل: اسمُ جَمْعٍ لعَمود. وقيل: بل هو جمعٌ له، قال الفراء: كأَدِيْم وأَدَم «وقال ابو عبيدة:» هو جمعُ عِماد «و» في عَمَدٍ «يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً مِنْ الضميرِ في» عليهم «، أي: مُوْثَقِين، وأَنْ يكونَ خبراً لمبتدأ مُضمرٍ، أي: هم في عَمَدٍ، وأَنْ يكونَ صفةٌ لمُؤْصَدَة، قال أبو البقاء» يعني: فتكون النارُ داخلَ العَمَدِ «. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

سورة الفيل

سُورَةُ الْفِيلِ (مَكِّيَّة) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله عزَّ وجلَّ: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) (كَيْفَ) في موضع نصب ب (فَعَلَ رَبُّكَ) لا بِقَوْله: (أَلَمْ تَرَ)، لأن كيف من حروف الاستفهام. ومعنى (أَلَمْ تَرَ) ألم تعلم، فأَعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - رسوله ما كان مما سَلَفَ من الأقاصيص وما فيه دَالٌّ على توحيد اللَّه وتعظيمه أمر كعبته، وكان من قصة أصحاب الفيل أنَّ قوماً من العرب - وكانوا ببلاد النجاشي - وكانوا بحضرة بيت هو مصَلَّى للنَّصَارَى وأصحاب النجاشي. فأججوا ناراً استعملوها لبعض ما احتاجوا إليه، ثم رحلوا ولم يطفئوها فحملتها الريح حتى أَحْرَقَتِ البَيْتَ الذي كان مصلاهم وَمَثَابة للنجاشي وَأَصْحَابِه، فقصد مكة مقَدِّراً أَن يَحرقَ بيت الحَرَامَ ويستبيح أهل مكة. فلما قربوا من الحرم لَمْ تَسِرْ بهم دَوَابهم نحو البيتِ فإذا عطفوها راجعين سَارَتْ. فوعظهم اللَّهُ بأَبْلَغ مَوْعظةٍ، فأقاموا على قصد البيت وعلى أن يحرقوه، فأرسل الله عليهم طَيراً أَبابيل، فجعل كيدهم في تضليل، أي في ذهاب وهلاك، وكان مع كل طائر ثلاثة أحجار، حجر في منقاره وحَجران في رجليه، يقع الحجر منها على رأس الرجل فيخرج من دبره على كل حجر اسم الرجل الذي وقع عليه، فقال اللَّه جل ثناؤه: (وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) جماعات من ههنا وجماعات من ههنا والمعنى أرسل اللَّه عليهم هذا الطير بهذه الحجارة من كل جانب.

(4)

ومعنى (تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) وصف اللَّه في كل من عَذَبه بالحجارة أَنَها مِنْ سِجِّيلٍ، فقال في قوم لُوطٍ: (وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ). فالمعنى وأرْسَل عليهم ما يرميهم بحجارة مِنْ سِجِّيلٍ، أي من شديد عَذَابه، والعرب إذا وصفت المكروه بسِجِيلٍ كأنها تعني به الشدَّةَ ولا يوصف بهء غير المكروه. قال الشاعر. وَرَجْلَةً يَضْرِبُونَ البَيْضَ عَنْ عُرُضٍ. . . ضرباً تواصَتْ به الأبطالُ سِجِّيلَا أَيْ ضَرْباً. شَدِيداً. وأما (أبابيل) قال أبو عُبَيدَةَ: لا واحد لها، وقال غيره: إبَّالةُ وَأَبابيل. و (إبَّالَة) كأنَّها جماعة، وقَالَ بَعْضُهم واحدها " إبَّوْل " وأبابيل، مثل عجول وعجاجيل. * * * (فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5) أي جعلهم كَوَرَقِ الزَّرْعِ الذي جَفَّ وأُكل: أي: وقع فيه الأُكال. وجاء في التفسير أن الله تعالى أرسل عليهم سيلًا فحملهم إلى البحر.

سورة قريش

سُورَةُ قُرَيْشٍ (مَكِّيَّة) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله عزَّ وجلَّ: (لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) فيه ثلاثة أوجه: (لإِلافِ قُرَيْشٍ)، و (لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ)، ووجه ثالث " لِإِلْفِ قُرَيْش). وقد قرئ بالوجهين الأولين (1). * * * وقوله: (إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) يجوز فيه ما جاز في " لِايلَافِ " إلا أَنه قد قرئ في هذها إلْفِهِمْ " و" إيلافهم " ويجوز إلَافِهم. وهذه اللام قال النحويون فيها ثلاثة أوجه، قيل هي موصولة بما قبلها، المعنى فجعلهم كعصف مأكول لإلف قريش. أي أهلك اللَّه أصحاب الفيل لتبقى قريش وما قَد ألفُوا من رحلة الشتاء والصيف. وقال قوم: هذه لام التعجب فكان المعنى اعجبوا لإيلاف قريش. وقال النحويون الذين ترتضى عربيتهم: هذه اللام معناها متصل بما بعد فليعبدوا، والمعنى فليعبد هؤلاء ربَّ هذا البيت لِإِلْفِهِمْ رحلة الشتاء والصيف. والتأويل أن قريشاً كانوا يرحلون في الشتاء إلى الشام وفي الصيف إلى

_ (1) قال السَّمين: قوله: {لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ}: في متعلَّقِ هذه اللامِ، أوجهٌ، أحدُها: أنه ما في السورةِ قبلَها مِنْ قولِه {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ} [قريش: 5]. قال الزمخشري: «وهذا بمنزلةِ التَّضْمينِ في الشِّعْرِ» وهو أَنْ يتعلَّقَ معنى البيتِ بالذي قبلَه تَعَلُّقاً لا يَصِحُ إلا‍َّ به، وهما في مصحفِ أُبَي سورةٌ واحدٍ بلا فَصْلٍ. وعن عُمَرَ أنه قرأهما في الثانية من صلاة المغرب وفي الأولى بسورةِ «والتين» انتهى. وإلى هذا ذهبَ أبو الحسنِ الأخفشُ إلاَّ أنَّ الحوفيَّ قال: «ورَدَّ هذا القولَ جماعةٌ: بأنَّه لو كان كذا لكان» لإِيلافِ «بعضَ سورةِ» ألم تَرَ «وفي إجماعِ الجميعِ على الفَصْلِ بينهما ما يدلُّ على عَدَمِ ذلك» الثاني: أنَّه مضمرٌ تقديرُه: فَعَلْنا ذلك، أي: إهلاكَ أصحابِ الفيل لإِيلافِ قريش. وقيل: تقديرُه اعْجَبوا. الثالث: أنه قولُه «فَلْيَعْبُدوا». وإنما دَخَلَتْ الفاءُ لِما في الكلامِ مِنْ معنى الشرطِ، أي: فإنْ لم يَعْبُدوه لسائرِ نِعَمِه فَلْيَعْبدوه لإِيلافِهم فإنَّها أَظْهَرُ نعمِهِ عليهم، قاله الزمخشري وهو قولُ الخليلِ قبلَه. وقرأ ابن عامر «لإِلافِ» دونَ ياءٍ قبل اللامِ الثانيةِ، والباقون «لإِيلافِ» بياءٍ قبلَها، وأَجْمَعَ الكلُّ على إثبات الياءِ في الثاني، وهو «إيلافِهِمْ» ومِنْ غريبِ ما اتَّفَق في هذَيْن الحرفَيْنِ أنَّ القرَّاءَ اختلفوا في سقوطِ الياءِ وثبوتِها في الأولِ، مع اتفاقِ المصاحفِ على إثباتِها خَطَّاً، واتفقوا على إثباتِ الياءِ في الثاني مع اتفاقِ المصاحفِ على سقوطِها فيه خَطَّاً، فهو أَدَلُّ دليلٍ على أنَّ القُرَّاءَ مُتَّبِعون الأثَر والروايةَ لا مجرَّدَ الخطِّ. فأمَّا قراءةُ ابنِ عامرٍ ففيها وجهان، أحدُهما: أنه مصدرٌ ل أَلِف ثلاثياً يُقال: أَلِفْتُه إلافاً، نحو: كتبتُه كِتاباً، يُقال: أَلِفْتُه إلْفاً وإلافاً. وقد جَمَعَ الشاعرُ بينَهما في قولِه: 4647 زَعَمْتُمْ أنَّ إخْوَتَكُمْ قُرَيْشٌ. . . لهم إلْفٌ وليس لكُمْ إلافُ والثاني: أنَّه مصدرُ آلَفَ رباعياً نحو: قاتَلَ قِتالاً. وقال الزمخشري: «أي: لمُؤالَفَةِ قريشٍ». وأمَّا قراءةُ الباقين فمصدرُ آلَفَ رباعياً بزنةِ أَكْرَم يقال: آلَفْتُه أُوْلِفُه إيْلافاً. قال الشاعر: 4648 مِنَ المُؤْلِفاتِ الرَّمْلِ أَدْماءُ حُرَّةٍ. . . شعاعُ الضُّحى في مَتْنِها يَتَوضَّحُ وقرأ عاصمٌ في روايةٍ «إإْلافِهم» بمهزتين: الأولى مسكورةٌ والثانية ساكنةٌ، وهي شاذَّةٌ، لأنه يجب في مثلِه إبدالُ الثانية حرفاً مجانساً كإِيمان. ورُويَ عنه أيضاً بِهَمْزَتين مَكْسورَتَيِن بعدهما ياءٌ ساكنةٌ. وخُرِّجَتْ على أنه أَشْبَعَ كسرةً الهمزةِ الثانية فتولَّد منها ياءٌ، وهذه أَشَذُ مِنْ الأولى ونَقَلَ أبو البقاء أشَذَّ منها فقال: «بهمزةٍ مكسورةٍ بعدها ياءٌ ساكنةٌ، بعدها همزةٌ مسكورةٌ، وهو بعيدٌ. ووَجْهُها أنه أشبعَ الكسرةَ فنشَأَتْ الياءُ، وقَصَد بذلك الفصلَ بين الهمزتَيْن كالألفِ في {أَأَنذَرْتَهُمْ} [البقرة: 6]. وقرأ أبو جعفر «لإِلْفِ قُرَيْشٍ» بزنة قِرْد. وقد تقدَم أنه مصدرٌ لأَلِفَ كقوله: 4649. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . لهم إلْفٌ وليس لكم إلافُ وعنه أيضاً وعن ابن كثير «إلْفِهم» وعنه أيضاً وعن ابن عامر «إلا فِهِمْ» مثل: كِتابهم. وعنه أيضاً «لِيْلافِ» بياءٍ ساكنةٍ بعد اللامِ؛ وذلك أنه لَمَّا أبدل الثانيةَ حَذَفَ الأولى على غير قياسٍ. وقرأ عكرمةُ «لِتَأْلَفْ قُرَيْش» فعلاً مضارعاً وعنه «لِيَأْلَفْ على الأمر، واللامُ مكسورةٌ، وعنه فَتْحُها مع الأمرِ وهي لُغَيَّةٌ. وقُرَيْش اسمٌ لقبيلةٍ. قيل: هم وَلَدُ النَّضْرِ بنِ كِنانَةَ، وكلُّ مَنْ وَلَدُه النَّضْرُ فهو قُرَشِيٌّ دونَ كِنانةَ، وهو الصحيحُ وقيل: هم وَلَدُ فِهْرِ بن مالك ابن النَّضْر بنِ كِنانةَ. فَمَنْ لم يَلِدْه فِهْرٌ فليس بقُرَشيٍّ، فوقع الوِفاقُ على أنَّ بني فِهْرٍ قرشيُّون. وعلى أنًَّ كنانةَ ليسوا بقرشيين. ووقع الخلافُ في النَّضْر ومالكٍ. واخْتُلِفَ في اشتقاقِه على أوجه، أحدها: أنه من التَّقَرُّشِ وهو التجمُّعُ سُمُّوا بذلك لاجتماعِهم بعد افتراقِهم. قال الشاعر: 4650 أبونا قُصَيُّ كان يدعى مُجَمِّعاً. . . به جَمَّعَ اللَّهُ القبائلَ مِنْ فِهْرِ والثاني: أنه من القَرْشِ وهو الكَسْبُ. وكانت قريشٌ تُجَّاراً. يقال: قَرَشَ يَقْرِشُ أي: اكتسب. والثالث: أنه مِنْ التفتيش. يقال قَرَّشَ يُقَرِّشُ عني، أي: فَتَّش. وكانت قريشٌ يُفَتِّشون على ذوي الخُلاَّنِ ليَسُدُّوا خُلَّتَهم. قال الشاعر: 4651 أيُّها الشامِتُ المُقَرِّشُ عنا. . . عند عمروٍ فهَلْ له إبْقاءُ وقد سأل معاويةُ ابنَ عباس. فقال: سُمِّيَتْ بدابةٍ في البحرِ يقال لها: القِرْش، تأكلُ ولا تُؤكَل، وتَعْلو ولا تعلى وأنشد قولَ تُبَّعٍ: 4652 وَقُرَيْشٌ هي التي تَسْكُنُ البَحْ. . . رَ سُمِّيَتْ قُرَيْشٌ قُرَيْشَا تأكلُ الغَثَّ والسَّمينَ ولا تَتْ. . . رُكُ فيها لذي جناحَيْنِ رِيشا هكذا في البلادِ حَيُّ قُرَيْشٍ. . . يأكلونَ البلادَ أكْلاً كَميشا ولهم آخِرَ الزمان نَبيٌّ. . . يُكْثِرُ القَتْلَ فيهمُ والخُموشا ثم قريشٌ: إمَّا أَنْ يكونَ مصغراً مِنْ مزيدٍ على الثلاثةِ، فيكونَ تصغيرُه تصغيرَ ترخيمٍ. فقيل: الأصلُ: مُقْرِش. وقيل: قارِش، وإمَّا أَنْ يكونَ مُصَغَّراً مِنْ ثلاثيٍّ نحوَ القَرْشِ. وأجمعوا على صَرْفِه هنا مُراداً به الحيُّ ولو أُريد به القبيلةُ لا متنعَتْ مِنْ الصرفِ كقولِ الشاعر: 4653 - غَلَبَ المَساميحَ الوليدُ سَماحةً. . . وكفى قُرَيْشَ المُعْضِلاتِ وسادَها قال سيبويه في مَعَدّ وقُرَيْش وثَقِيْف وكِنانةَ:» هذه للأحياءِ «وإنْ جعلَتها اسماً للقبائلِ فهو جائزٌ حَسَنٌ». اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4)

اليمن فيمتارون، وكانوا في الرحلتين آمنين والناس يتخطفون، وكانوا إذا عرض لهم عارض قالوا نحن أهل حرم الله فلا يتعرض لهم. فأعلم اللَّه سبحانه أن من الدلالة على وحدانيته ما فعل بهؤلاء لأنهم ببلد لا زرع فيه وأنهم فيه آمنون. قال اللَّه - جل ثناؤه - (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67). أي يؤمنون بالأصنام ويكفرون باللَّه - عزَّ وجلَّ - الذي أنعم عليهم بهذه النِّعْمَةِ، فأمرهم بعبادته وحده لأِنْ آلَفَهُم هاتين الرحلتين. * * * (الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4) وكانوا قد أصابتهم شدة حتى أكلوا الميتة والجيف. (وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ). آمنهم من أن يخافوا في الحرم، ومِن أَنْ يخافوا في رحلتهم يقال: أَلِفْت المكان آلفه إلفاً، وآلفت المكان بمعنى ألفت، أولفهُ إيلافاً.

سورة الماعون

سُورَةُ الْمَاعُون (الدِّين) (مَكِّيَّة) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) وقرئت " أَرَيْتَ " والاختيارُ أرأيت بإثبات الهمزة الثانية لأن الهمزة إنَّمَا طرحت للمستقبل في ترى ويرى وأرى. والأصل ترأى وَيرأى. فأمَّا رأيت فليس يصح عن العرب فيها ريت. ولكن ألف الاستفهام لما كانت في أول الكلام سَهَّلَت إلقاء الهمزة، والاختيار إثباتها. * * * وقوله: (فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) معنى يدُع في اللغة يدفع، وكذلك قوله: (يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا). أي يدفعون إليها دفعاً بعنف، فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ عن حَقِه. ويقرأ (فَذَلِكَ الَّذِي يَدَعُ الْيَتِيمَ). تأويله فذلك الذي لا يعبأ باليتيم ويتركه مهملاً * * * وقوله: (وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) أي لا يطعم المسكين ولا يأمر بإطْعَامِه. * * * وقوله: (الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6). يُعْنَى بهذا المنافقون، لأنهم كانوا إنما يراءون بالصلاة إذَا هُمْ رآهم المؤمنون صلوا معهم، وإذا لم يروهم لم يصلوا، وقيل هم عن صلاتهم

(7)

ساهون يؤخرونها عن وقتها، ومن تعمَّد تأخيرها عن وقتها حتى يدخل وقت غيرها فالويل له أيضاً كما قال اللَّه عزَّ وجلَّ. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7) أي يمنعون ما فيه منفعة. والماعون في الجاهلية ما فيه منفعة حتى الفأس والدلو والقدر والقَدُّاحَة وكل ما انتفع به من قليل أو كثير. قال الأعشى: بأَجْوَدَ منه بماعُونِه. . . إذا ما سَمَاؤهم لم تَغِمْ والماعون في الإسلام قيل هو الزكاة والطاعة. قال الراعي. قَوْمي على الإِسْلام لمَّا يَمْنَعُوا. . . ماعُونَهُمْ ويُضَيِّعُوا التَّهْلِيلا

_ (1) قال السَّمين: قوله: {الماعون}: أوجهٌ، أحدُها: أنه فاعُول من المَعْنِ وهو الشيءُ القليل. يُقال: «مالُه مَعْنَةٌ» أي: قليلٌ، قاله قطرب. الثاني: أنَّه اسمُ مفعولٍ مِنْ أعانه يُعينه. والأصلُ: مَعْوُوْن. وكان مِنْ حَقِّه على هذا أَنْ يقال: مَعُوْن كمَقُوْل ومَصُون اسمَيْ مفعول مِنْ قال وصان، ولكنه قُلِبَتِ الكلمةُ: بأنْ قُدِّمَتْ عينُها قبل فائِها فصار مَوْعُوْن، ثم قُلِبَتِ الواوُ الأولى ألفاً كقولِهم «تابَةٌ» و «صامَةٌ» في تَوْبة وصَوْمَة، فوزنُه الآن مَعْفُوْل. وفي هذا الوجه شذوذٌ من ثلاثةِ أوجهٍ، أوَّلُها: كَوْنُ مَفْعول جاء من أَفْعَل وحقُّه أَنْ يكونَ على مُفْعَل كمُكْرَم فيقال: مُعان كمُقام. وإمَّا مَفْعول فاسمُ مفعولِ الثلاثي. الثاني: القَلْبُ وهو خلافُ الأصلِ: الثالث: قَلْبُ حرفِ العلةِ ألفاً، وإنْ لم يتحرَّكْ، وقياسُه على تابة وصامة بعيدٌ لشذوذِ المَقيسِ عليه. وقد يُجاب عن الثالث: بأنَّ الواوَ متحركةٌ في الأصل قبل القلبِ فإنه بزنةِ مَعْوُوْن. الثالث: من الأوجه الأُوَل: أنَّ أصله مَعُوْنَة والألفُ عوضٌ من الهاء، ووزنُه مَفُعْل كمَلُوْم ووزنُه بعد الزيادة: ما فُعْل. واختلفَتْ عباراتُ أهلِ التفسير فيه، وأحسنُها: أنَّه كلُّ ما يُستعان به ويُنتفع به كالفَأْس والدَّلْوِ والمِقْدحة وأُنْشِد قولُ الأعشى: 4657 بأَجْوَدَ مِنْه بماعُوْنِه. . . إذا ما سماؤُهمُ لم تَغِمّْ ولم يَذْكُرِ المفعولَ الأولَ للمَنْع: إمَّا للعِلْمِ به، أي: يَمْنعون الناسَ أو الطالبين، وإمَّا لأنَّ الغَرَضَ ذِكْرُ ما يمنعونه لا مَنْ يمنعون، تنبيهاً على خساسَتِهم وضَنِّهم بالأشياءِ التافهةِ المُسْتَقْبَحِ مَنْعُها عند كلِّ أحدٍ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

سورة الكوثر

سُورَةُ الْكَوْثَر (مَكِّيَّة) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله عزَّ وجلَّ: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) جاء في التفسير أن الكوثر نهر في الجنة أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل، حافَّتَاه قباب الدر، مجوف، وجاء في التفسير أيضاً أن الكوثر الإسلام والنبوةُ. وقال أهل اللغة: الكوثر فوعل من الكثرة، ومعناه الخير الكثير. وجميع ما جاء في تفسير هذا قد أعطيه النبي عليه السلام. قد أعطي الإسلام والنبوة وإظهار الدين الذي أتى به على كل دين والنصر على عدوه والشفاعة. وما لا يحصى مما أعطيه، وقد أعطي من الجنة على قدر فضله على أهل الجنة. * * * ومعنى (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) أي وانحر أيضاً لربك، وقيل يعنى به صلاة الغداة في يوم النحر، أي وانحر بعد صلاة الفجر، والأكثر فيما جاء " فَصَلِّ لِرَبك وانْحَرْ " صلاة يوم الأضْحَى ثم النحر بعد الصلاة. وقيل (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) أي اجعل يمينك على شمالك إذا وقفت في الصلاة وضمهما إلى صدرك.

(3)

وقوله عزَّ وجلَّ: (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3) (شَانِئَكَ) مبغضك وهذا هو العاص بن وائل دخل النبي عليه السلام وهو جالس فقال: هذا الأبتر، أي هذا الذي لا عقب له، فقال اللَّه تعالى: (إِنَّ شَانِئَكَ) يا محمد (هُوَ الْأَبْتَرُ). فجائز أن يكون هو المنقطع العقب. وجائز أن يكون هو المنقطع عنه كل خير. والبتر استئصال القطع.

سورة الكافرون

سُورَةُ الْكَافِرُونَ (مَكِّيَّة) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله عزَّ وجلَّ: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) أي لست في حالي هذه عابداً ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد ولَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُم. أي ولا أعبد فيما أستَقْبِل ما عبدتم، ولا أنتم فيما تستقبلون عابدون ما أعبد - فهذا نفي الحال، وأن يكون أيضاً فيما يستقبل، ينتقل عن الحال. وكذلك نفى عنهم العبادة في الحال للَّهِ عزَّ وجلَّ وفي الاستقبال. وهذا - واللَّه أعلم - في قومه. أعلمه الله أنهم لا يؤمنونَ كما قال عزَّ وجلَّ في قصة نوح: (لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ). * * * (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6) قيل هذا قبل أن يؤمر - صلى الله عليه وسلم - بالقتال.

سورة النصر

سُورَةُ النَّصْرِ (مدنية) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله عزَّ وجلَّ: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) قيل إن الفتح كَمَا جاء في التفسير أنه نعيت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - نفسه في هذه السورة. فأعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أنه إذَا جَاء فتح مكة ودخل الناس في الإسلام أفواجاً فقد قرب أجله - صلى الله عليه وسلم - وكان يقول ذلك إنه قد نعيت إلى نفسي في هذه السورة. فأمره اللَّه عزَّ وجلَّ أن يكثر التسبيحَ والاستغفار ليختم له في آخرِ عمره بالزيادة في العمل الصالح باتباع ما أمره به. * * * (وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) ومعنى: (أَفْوَاجًا) جماعات كثيرة، أي بعد أن كانوا يدخلون وَاحِداً واحِداً. واثنين اثنين، صارت القبيلة تدخل بأسرها في الإسلام.

سورة تبت

سُورَةُ تَبَّتْ (مَكِّيَّة) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله عزَّ وجلَّ: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) معناه خسرت يدا أبي لهب، وتب: أي خسر. وجاء في التفسير أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا عمومته وقدم إليهم صحفة فيها طعام فقالوا: أحدنا وحده يأكل الشاة وإنما قدم إلينا هذه الصحفة، فأكلوا منها جميعاً ولم ينقص منها إلا الشيء اليسير، فقالوا: مالنا عندك إن اتبعناك، قال: لكم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم، وإنما تتفاضلون في الدين، فقال أبو لهب: تبًّا لك ألهذا دعوتنا!؟ فأنزل الله عز وجل: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ) * * * وقوله: مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) المفسرون قالوا: ما كسب هاهنا ولده. موضع (ما) رفع، المعنى مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وكسبه. * * * (سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) أي: وولده سيصلى ناراً ذات لهب. ويقرأ: (سَيُصْلَى نَارًا). * * * (وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) (حَمَّالَةُ الْحَطَبِ) ويقرأ (حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) - بالنصب - وامرأته رفع من وجهين: أحدهما العطف على ما في " سَيُصْلَى "، المعنى سيصلى هو وامرأته ويكون (حَمَّالَةُ الْحَطَبِ) نعتا لها. ومن نصب فعلى الذم، والمعنى: أعني (حَمَّالَةَ الْحَطَبِ). ويجوز رفع (وَامْرَأَتُهُ) على الابتداء، و (حَمَّالَةُ) من نعتها، ويكون الخبر: (فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ). خبر الابتداء.

_ (1) قال السَّمين: قوله: {تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ}: أي: خَسِرَتْ، وتقدَّم تفسيرُ هذه المادةِ في سورة غافر في قولِه: {إِلاَّ فِي تَبَابٍ} [غافر: 37]، وأسند الفعلَ إلى اليدَيْنِ مجازاً لأنَّ أكثرَ الأفعالِ تُزاوَلُ بهما، وإنْ كانَ المرادُ جملةَ المَدْعُوِّ عليه. وقوله: «تَبَّتْ» دعاءٌ، و «تَبَّ» إخبارٌ، أي: قد وقع ما دُعِيَ به عليه. كقول الشاعر: 4668 جَزاني جَزاه اللَّهُ شرَّ جَزائِه. . . جزاءَ الكِلابِ العاوياتِ وقد فَعَلْ ويؤيِّده قراءةُ عبد الله «وقد تَبَّ» والظاهرُ أنَّ كليهما دعاءٌ، ويكونُ في هذا شَبَهٌ مِنْ مجيءِ العامِّ بعد الخاصِّ؛ لأنَّ اليَدَيْن بعضٌ، وإن كان حقيقةُ اليدَيْن غيرَ مرادٍ، وإنما عَبَّر باليدَيْنِ؛ لأن الأعمال غالِباً تُزاوَلُ بهما. وقرأ العامة «لَهَبٍ» بفتح الهاء. وابنُ كثيرٍ بإسكانِها. فقيل: لغتان بمعنىً، نحو النَّهْر والنَّهَر، والشَّعْر والشَّعَر، والنَّفَر والنَّفْر، والضَّجَر والضَّجْر. وقال الزمخشري: «وهو مِنْ تغييرِ الأعلامِ كقوله:» شُمْس ابن مالك «بالضم، يعني أنَّ الأصلَ شَمْسِ بفتح الشين فَغُيِّرَتْ إلى الضَمِّ، ويُشير بذلك لقولِ الشاعر: 4669 وإنِّي لَمُهْدٍ مِنْ ثَنَائِي فَقاصِدٌ بِهِ. . . لابنِ عَمِّ الصِّدْقِ شُمْسِ بنِ مالكِ وجَوَّزَ الشيخُ في» شُمْس «أَنْ يكونَ منقولاً مِنْ» شُمْس «الجمع مِنْ قولِه:» أذنابُ خيلٍ شُمْسٍ «فلا يكونُ من التغيير في شيءٍ. وكنى بذلك: إمَّا لالتهابِ وجنَتَيْه، وكان مُشْرِقَ الوجهِ أحمرَه، وإمَّا لِما يَؤُول إليه مِنْ لَهَبِ جنهمَ، كقولِهم: أبو الخيرِ وأبو الشَّرِّ لصُدورِهما منه. وإمَّا لأنَّ الكُنيةَ أغلبُ من الاسم، أو لأنَّها أَنْقصُ منه، ولذلك ذكرَ الأنبياءَ بأسمائِهم دون كُناهم، أو لُقْبحْ اسمِه، فإنَّ اسمَهِ» عبد العزى «فعَدَلَ إلى الكُنْية، وقال الزمخشري:» فإنْ قلتَ: لِمَ كَناه والكُنيةُ تَكْرُمَةٌ؟ ثم ذكَرَ ثلاثةَ أجوبةٍ: إمَّا لشُهْرَتِه بكُنْيته، وإمَّا لقُبْحِ اسمِه كما تقدَّم، وإمَّا لأنَّ مآلَه إلى لهبِ جهنمِ «. انتهى. وهذا يقتضي أنَّ الكنيةَ أشرفُ وأكملُ لا أنقصُ، وهو عكسُ قولٍ تقدَّمَ آنفاً. وقُرئ:» يدا أبو لَهَبٍ «بالواوِ في مكانِ الجرِّ. قال الزمخشري:» كما قيل: عليُّ بن أبو طالب، ومعاويةُ بنُ أبو سفيان، لئلا يتغيَّرَ منه شيءٌ فيُشْكِلَ على السامعِ ول فَلِيْتَةَ بنِ قاسمٍ أميرِ مكة ابنان، أحدُهما: عبدِ الله بالجرِّ، والآخرُ عبدَ الله بالنصب «ولم يَختلف القُرَّاءُ في قولِه: {ذاتَ لَهَب} أنها بالفتح. والفرقُ أنها فاصلةٌ فلو سَكَنَتْ زال التَّشاكلُ. قوله: {مَآ أغنى}: يجوزُ في «ما» النفيُ والاستفهامُ، وعلى الثاني تكون منصوبةَ المحلِّ بما بعدَها التقدير: أيُّ شيء أغنى المالُ؟ وقُدِّم لكونِه له صَدْرُ الكلامِ. قوله: {وَمَا كَسَبَ} يجوز في «ما» هذه أَنْ تكونَ بمعنى الذي، فالعائد محذوفٌ، وأَنْ تكونَ مصدريةً، أي: وكَسْبُه، وأَنْ تكونَ استفهاميةً يعني: وأيَّ شيءٍ كَسَبَ؟ أي: لم يَكْسَبْ شيئاً، قاله الشيخُ، فجعل الاستفهامَ بمعنى النفيِ، فعلى هذا يجوزُ أَنْ تكونَ نافيةً، ويكونَ المعنى على ما ذَكَرَ، وهو غيرُ ظاهرٍ وقرأ عبد الله: «وما اكْتَسَبَ». قوله: {سيصلى} العامَّةُ على فتحِ الياءِ وإسكانِ الصادِ وتخفيفِ اللامِ، أي: يصلى هو بنفسِه. وأبو حيوةَ وابنُ مقسمٍ وعباسٌ في اختيارِه بالضمِّ والفتحِ والتشديدِ. والحسن وأبن أبي إسحاق بالضمِّ والسكون. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5)

وجاء في التفسير. (حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) أنها أم جميل وأنها كانت تمشي بالنميمة قال الشاعر: مِن البِيضِ لم تُصْطَدْ على ظَهْرِ لأْمَةٍ. . . ولم تَمْشِ بينَ الحَيِّ بالحَطَبِ الرَّطْبِ أي بالنميمة. وقيل إنها كانت تحمل الشوك، شوك العضاة فتطرحه في طريق النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه. * * * وقوله عزَّ وجلَّ: (فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5) الجَيِّد العنق. وقيل في التفسير: (حبل مِنْ مَسَدٍ). سلسلة طولها سَبْعُونَ ذراعاً. يعنى أنها تسلك في السلسلة سبعون ذراعاً. والمسد في لغة العرب الحبل إذا كان من ليفِ المُقْلِ، وقد يقال لما كان من أدبار الإبل من الحبال مَسَدٌ. قال الشاعِرُ: وَمَسَدٍ أُمِرَّ مِنْ أَيَانُقِ (1).

_ (1) قال السَّمين: قوله: {وامرأته حَمَّالَةَ الحطب}: قراءةُ العامَّةِ بالرفع على أنهما جملةٌ مِنْ مبتدأ وخبرٍ سِيْقَتْ للإِخبار بذلك. وقيل: «وامرأتُه» عطفٌ على الضميرِ في «سَيَصْلى»، سَوَّغَه الفصلُ بالمفعولِ. و «حَمَّالةُ الحطبِ» على هذا فيه أوجهٌ: كونُها نعتاً ل «امرأتهُ». وجاز ذلك لأن الإِضافةَ حقيقيةٌ؛ إذا المرادُ المضيُّ، أو كونُها بياناً أو كونُها بدلاً لأنها قريبٌ مِنْ الجوامدِ لِتَمَحُّضِ إضافتِها، أو كونُها خبراً لمبتدأ مضمرٍ، أي: هي حَمَّالةُ. وقرأ ابنُ عباس «ومُرَيَّتُهُ» و «مْرَيْئَتُهُ» على التصغير، إلاَّ أنَّه أقَرَّ الهمزةَ تارةً وأبدلَها ياءً، وأدغم فيها أخرى. وقرأ العامةُ {حَمَّالَةُ} بالرفع. وعاصمٌ بالنصبِ فقيل: على الشَّتْم، وقد أتى بجميلٍ مَنْ سَبَّ أمَّ جميل. قاله الزمخشري، وكانت تُكْنَى بأمِّ جميل. وقيل: نصبٌ على الحالِ مِنْ «أمرأتُه» إذا جَعَلْناها مرفوعةً بالعطفِ على الضَّميرِ. ويَضْعُفُ جَعْلُها حالاً عند الجمهور من الضميرِ في الجارِّ بعدها إذا جَعَلْناه خبراً ل «امرأتُه» لتقدُّمها على العاملِ المعنويِّ. واستشكل بعضُهم الحاليةَ لِما تقدَّم من أنَّ المرادَ به المُضِيُّ، فيتعرَّفُ بالإِضافةِ، فكيف يكونُ حالاً عند الجمهور؟ ثم أجابَ بأنَّ المرادَ الاستقبالُ لأنَّه وَرَدَ في التفسير: أنها تحملُ يومَ القيامةِ حُزْمَةً مِنْ حَطَبِ النار، كما كانت تحملُ الحطبَ في الدنيا. وفي قوله: {حَمَّالَةَ الحطب} قولان. أحدُهما: هو حقيقةُ. والثاني: أنه مجازٌ عن المَشْيِِ بالنميمةِ ورَمْيِ الفِتَنِ بين الناس. قال الشاعر: 4670 إنَّ بني الأَدْرَمِ حَمَّالو الحَطَبْ. . . هُمُ الوشاةُ في الرِّضا وفي الغضبْ وقال آخر: 4671 مِنْ البِيْضِ لم تُصْطَدْ على ظَهْرِ لأْمَةٍ. . . ولم تَمْشِ بين الحَيِِّ بالحطبِ الرَّطْبِ جَعَلَه رَطْباً تنبيهاً على تَدْخينه، وهو قريبٌ مِنْ ترشيحِ المجازِ. وقرأ أبو قلابة {حاملةَ الحطبِ} على وزن فاعِلَة. وهي محتملةُ لقراةِ العامَّةِ. وعباس «حَمَّالة للحطَبِ» بالتنوين وجَرِّ المفعولِ بلامٍ زائدةٍ تقويةً للعاملِ، كقولِه تعالى: {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} [هود: 107] وأبو عمروٍ في روايةٍ «وامرأتُه» باختلاسِ الهاءِ دونَ إشباعٍ. قوله: {فِي جِيدِهَا حَبْلٌ}: يجوزُ أَنْ يكونَ «في جيدِها» خبراً ل «امرأتُه» و «حبلٌ» فاعلٌ به، وأَنْ يكونَ حالاً مِنْ «امرأتُه» على كونِها فاعلة. و «حبلٌ» مرفوعٌ به أيضاً، وأَنْ يكونَ خبراً مقدَّماً. و «حَبْلٌ» مبتدأٌ مؤخرٌ. والجملةُ حاليةٌ أو خبر ثانٍ، والجِيْدُ: العُنُق، ويُجْمع على أجيادُ. قال امرؤ القيس: 4672 وجِيْدٍ كجِيْدِ الرِّئْمِ ليس بفاحِشٍ. . . إذا هي نَصَّتْهُ ولا بمُعْطَّلِ و {مِّن مَّسَدٍ} صفةٌ ل «حَبْل» والمَسَدُ: لِيْفُ المُقْلِ: وقيل: اللِّيفُ مطلقاً. وقيل: هو لِحاءُ شَجَرٍ باليمن. قال النابغة: 4673 مَقْذُوْفَةٌ بِدَخِيْسِ النَّحْضِ بَازِلُها. . . له صريفٌ صَريفُ القَعْوِ بالمَسَدِ وقد يكونُ مِنْ جلود الإِبل وأَوْبارِها. وأنشد: 4647 ومَسَدٍ أُمِرَّ مِنْ أَيانِقِ. . . ويقال: رجلٌ مَمْسود الخَلْق، أي: شديدُه. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

سورة الإخلاص

سُورَةُ الإِخْلَاصِ (مَكِّيَّة) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله عزَّ وجلَّ: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) بتنوين أحَدٍ، وقرئت بترك التنوين " أَحَدُ اللَّهُ الصَّمَدُ " وقرئت بإسكان الدال. وحذف التنوين. أما حذف التنوين، فلالتقاء السَّاكنين أيضاً، إلا أنه سكون (1) السَّاكنين، فمن أسكن أراد الوقف ثم ابتدأ فقال: (اللَّهُ الصَّمَدُ) وأما (هُوَ)، فإنما هو كناية عن ذِكْرِ الله عزَّ وجلَّ. المعنى الذي سألتم تبيين نِسْبَته (هُوَ اللَّهُ). و (أَحَدٌ) مرفوع على معنى هو أحد هو الله فهو مبتدأ ويجوز أن يكون " هو " للأمر كما تقول هو زَيد قَائِمٌ، أي الأمر زيد قائم. والمعنى الأمر اللَّه أَحَدٌ (2). * * * وقوله: (اللَّهُ الصَّمَدُ (2) روِيَ في التفسير أن المشركين قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - انسب لنا ربك، فأنزل اللَّه عزَّ وجلَّ: (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4). وتفسير (الصَّمَد) السَيد الذي ينتهي إليه السُّؤدَدُ قال الشاعر:

_ (1) بياض بالأصل. (2) قال السَّمين: قوله: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ}: في «هو» وجهان، أحدهما: أنه ضميرٌ عائدٌ على ما يفْهَمُ من السياقِ، فإنه يُرْوى في الأسباب: أنَّهم قالوا لرسولِ الله صلَّى الله عليه وسلم: صِفْ لنا ربَّك وانْسُبْه. وقيل: قالوا له: أمِنْ نُحاس هو أم مِنْ حديدٍ؟ فنَزَلَتْ. وحينئذٍ يجوزُ أَنْ يكونَ «الله» مبتدأً، و «أَحَدٌ» خبرُه. والجملةُ خبرُ الأولُ. ويجوزُ أَنْ يكونَ «اللَّهُ» بدلاً، و «أحدٌ» الخبرَ. ويجوزُ أَنْ يكونَ «اللَّهُ» خبراً أوَّلَ، و «أحدٌ» خبراً ثانياً. ويجوزُ أَنْ يكونَ «أحدٌ» خبرَ مبتدأ محذوفٍ، أي: هو أحدٌ. والثاني: أنَّه ضميرُ الشأنِ لأنه موضعُ تعظيمٍ، والجلمةُ بعدَه خبرُه مفسِّرِةٌ. وهمزةُ «أحد» بدلٌ من واوٍ، لأنَّه من الوَحْدة، وإبدالُ الهمزةِ من الواوِ المفتوحةِ. وقيل: منه «امرأةٌ أناة» من الونى وهو الفُتورُ. وتقدَّم الفرقُ بين «أحد» هذا و «أحد» المرادِ به العمومُ، فإنَّ همزةُ ذاك أصلٌ بنفسِها. ونَقَل أبو البقاءِ أنَّ همزةَ «أحد» هذا غيرُ مقلوبةٍ، بل أصلٌ بنفسِها كالمرادِ به العمومُ، والمعروفُ الأولُ. وفَرَّق ثعلب بين «واحد» وبين «أحد» بأنَّ الواحدَ يدخُلُه العَدُّ والجمعُ والاثنان، و «أحَد» لا يَدْخُلُه ذلك. ويقال: اللَّهُ أحدٌ، ولا يقال: زيدٌ أحدٌ؛ لأنَّ للَّهِ تعالى هذه الخصوصيةَ، وزَيْدٌ له حالاتٌ شتى. ورَدَّ عليه الشيخُ: بأنَّه يُقال: أحد وعشرونَ ونحوه فقد دخلَه العددُ «أنتهى. وقال مكي:» إنَّ أَحَدَاً أصلُه وَأَحَد، فأُبْدِلَتِ الواوُ همزةً فاجتمع ألفان، لأنَّ الهمزةَ تُشْبه الألفَ، فحُذِفَتْ إحداهما تخفيفاً «. وقرأ عبد الله وأُبَيُّ {اللَّهُ أحدٌ} دونَ» قُلْ «وقرأ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم» أحدٌ «بغيرِ» قل هو «وقرأ الأعمش:» قل هو اللَّهُ الواحد «. وقرأ العامَّةُ بتنوين» أحدٌ «وهو الأصلُ. وزيد بن علي وأبان ابن عثمان وابن أبي إسحاق والحسن وأبو السَّمَّال وأبو عمروٍ في روايةٍ في عددٍ كثيرٍ بحذف التنوين لالتقاء الساكنين كقولِه: 4675 عمرُو الذي هَشَمَ الثَّريدَ لقومِه. . . ورجالُ مكةَ مُسْنِتُون عِجافُ وقال آخر: 4676 فأَلْفَيْتُه غيرَ مُسْتَعْتِبٍ. . . ولا ذاكرَ اللَّهَ إلاَّ قليلا اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4)

لَقَدْ بَكَّرَ النَّاعي بِخَيْريْ بَني أَسَدْ. . . بعمرو بن مَسْعودٍ وبالسَّيدِ الصَّمَدْ وقيل الصمد الذي لا جوف له، وقيل الصمد الذي صَمَدَ له كل شيءٍ والذي خلق الأشياء كلها، لا يستغنى عنه شيء وكلها تدل على وحدانيته وهذه الصفات كلها يجوز أن تكون للَّهِ عزَّ وجلَّ. * * * وقوله (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4) فيها أربعة أوجه في القراءة. (كُفُواً) بضم الكاف والفاء، وكُفْواً بضم الكاف وسكون الفاء وكِفْواً " بكسر الكاف وسكون الفاء. وقد قرئ بها. وكِفَاء بكسر الكاف. والكَفْء - بفتح الكاف وسكون الفاء اسم. لم يقرأ بها. وفيها وجه آخر لا يجوز في القراءة. ويقال فلان كُفءُ فلان مثل كُفِيّ فلان (1). جاء في الحديث أن (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) تعدل بثلث القرآن، و (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) تعدل ربع القرآن. و (إِذَا زُلْزِلَتِ) تعدل نصف القرآن.

_ (1) قال السَّمين: قوله: {الصمد}: فَعَل بمعنى مَفْعُول كالقَبَضِ والنَّقَضِ. وهو السَّيِّدُ الذي يُصْمَدُ إليه في الحوائجِ، أي: يُقْصَدُ ولا يَقْدِرُ على قضائِها إلاَّ هو. وأنشد: 4677 ألا بَكَّرَ النَّاعي بخَيْرِ بني أسدْ. . . بعَمْرِو بن مسعودٍ وبالسَّيِّد الصَّمَدْ وقال الآخر: 4678 عَلَوْتُه بحُسامٍ ثم قُلْتُ له. . . خُذْها حُذَيْفُ فأنتَ السَّيِّدُ الصَّمَدُ وقيل: الصَّمَدُ: هو الذي لا جَوْفَ له، ومنه قوله: 4679 شِهابُ حُروبٍ لا تَزال جيادُه. . . عوابِسَ يَعْلُكْنَ الشَّكِيْمَ المُصَمَّدا وقال ابن كعب: تفسيرُه ما بعده مِنْ قولِه: «لم يَلِدْ ولم يُوْلَدُ» وهذا يُشْبِهُ ما قالوه في تفسير الهَلوع. والأحسنُ في هذه الجملة أَنْ تكون مستقلةً بفائدةِ هذا الخبرِ. ويجوز أنْ يكونَ «الصَّمَدُ» صفةً. والخبرُ في الجملةِ بعده، كذا قيل: وهو ضعيفٌ، من حيث السِّياقُ، فإنَّ السِّياقَ يَقْتضي الاستقلالَ بأخبارِ كلِّ جملةٍ. قوله: {كُفُواً أَحَدٌ}: في نصبِه وجهان، أحدُهما: أنه خبرُ «يكنْ» و «أحدٌ» اسمُها و «له» متعلِّقٌ بالخبر، اي: ولم يكُنْ أحدٌ كُفُواً له. وقد رَدَّ المبردُ على سيبويهِ بهذه الآيةِ، من حيث إنه يزعمُ أنه إذا تَقَدَّم الظرفُ كان هو الخبرَ، وهنا لم يَجْعَلْه خبراً مع تقدُّمِه. وقد رُدَّ على المبردِ بوجهَيْن، أحدُهما: أنَّ سيبويهِ لم يُحَتِّمْ ذلك بل جَوَّزه. والثاني: أنَّا لا نُسَلِّم أن الظرفَ هنا ليس بخبرٍ بل هو خبرٌ، ونصبُ «كُفُواً» على الحال على ما سيأتي بيانُه. وقال الزمخشري: «الكلامُ العربيُّ الفصيحُ أَنْ يؤخَّرَ الظرفُ الذي هو لَغْوٌ غيرُ مستقِرِّ ولا يُقَدَّمَ. وقد نَصَّ سيبويه في» كتابِه «على ذلك، فما بالُه مُقَدَّماً في أَفْصَحِ كلامٍ وأَعْرَبِه؟ قلت: هذا الكلامُ إنما سِيْقَ لنَفْيِ المكافأةِ عن ذاتِ الباري تعالى، وهذا المعنى مَصَبُّه ومَرْكَزُه هو هذا الظرفُ، فكان لذلك أهمَّ شيءٍ وأَعْناه وأحقَّه بالتقديمِ وأَحْراه». والثاني: أَنْ يُنْصَبَ على الحال مِنْ «أحد» لأنَّه كان صفتَه فلمَّا تقدَّم عليه نُصِب حالاً، و «له» هو الخبر. قاله مكي وأبو البقاء وغيرُهما. ويجوز أَنْ يكونَ حالاً من الضمير المستكِنِّ في الجارِّ لوقوعِه خبراً. قال الشيخ بعد أَنْ حكى كلامَ الزمخشري ومكي: «وهذه الجملةُ ليسَتْ من هذا البابِ وذلك أنَّ قولَه: {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} ليس الجارُّ والمجرورُ فيه تامَّاً، إنما ناقصٌ لا يَصْلُحُ أَنْ يكونَ خبراً ل» كان «بل هو متعلِّقٌ ب» كُفُواً «وقُدِّمَ عليه. التقدير: ولم يكنْ أحدٌ مكافِئاً له، فهو في معنى المفعولِ متعلِّقٌ ب» كُفُواً «وتَقَدَّم على» كُفُواً «للاهتمامِ به، إذ فيه ضميرُ الباري تعالى، وتوسَّطَ الخبرُ وإنْ كان الأصلُ التأخيرَ؛ لأنَّ تأخيرَ الاسمِ هو فاصلةٌ فحَسُنَ ذلك. وعلى هذا الذي قَرَّرْناه يَبْطُل إعرابُ مكي وغيرِه أنَّ» له «الخبرُ، و» كُفُواً «حالٌ مِنْ» أحد «لأنه ظرفٌ ناقصٌ لا يَصْلُح أَنْ يكونَ خبراً. وبذلك يَبْطُل سؤالُ الزمخشريِّ وجوابُه. وسيبويه إنما تكلَّم في الظرفِ الذي يَصْلُحُ أَنْ يكونَ خبراً وأنْ لا يكون. قال سيبويه:» وتقول: ما كان فيها أحدٌ خيرٌ منك، وما كان [أحدٌ] مثلُك فيها، وليس أحدٌ فيها خيرٌ منك، إذا جعلت «فيها»: مستقراً، ولم تجعَلْه على قولك: فيها زيدٌ قائمٌ أَجْرَيْتَ الصفةَ على الاسم. فإن جَعَلْتَه على «فيها زيدٌ قائمٌ» نَصَبْتَ فتقول: ما كان فيها أحدٌ خيراً منك، وما كان أحدٌ خيراً منك فيها، إلاَّ أنَّكَ إذا أرَدْتَ الإِلْغاءَ فلكما أَخَّرْتَ المُلْغَى فهو أَحْسَنُ، وإذا أرَدْتَ أَنْ يكونَ مستقرَّاً فكلما قَدَّمْته كان أحسنَ، والتقديمُ والتأخيرُ والإِلغاءُ والاستقرارُ عربيٌُّ جيدٌ كثيرٌ قال تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} وقال الشاعر: 4680 ما دامَ فيهِنَّ فَصِيْلٌ حَيَّاً. . . انتهى كلامُ سيبويه. قال الشيخ: «فأنت ترى كلامَه وتمثيلَه بالظرف الذي يَصْلُح أَنْ يكونَ خبراً. ومعنى قولِه» مستقرَّاً «أي: خبراً للمبتدأ أو لكان. فإن قلتَ: فقد مَثَّل بالآية. قلت: هذا أوقَع مكيَّاً والزمخشريَّ وغيرَهما فيما وقعوا فيه، وإنما أراد سيبويه أنَّ الظرفَ التامَّ وهو في قولِه: ما دامَ فيهِنَّ فَصِيلٌ حَيَّاً. . . أُجْري فَضْلةً لا خبراً كما أنَّ» له «في الآية أُجْرِي فَضْلَةً فجعلَ الظرفَ القابلَ أن يكونَ خبراً كالظرفِ الناقصِ في كونِه لم يُستعمل خبراً. ولا يَشُكُّ مَنْ له ذِهْنٌ صحيحٌ أنه لا ينعقدُ كلامٌ مِنْ» له أحد «بل لو تأخَّرَ» كُفُو «وارتفع على الصفةِ وقد جَعَل» له «خبراً لم ينعقِدْ منه كلامٌ. بل أنت ترى أنَّ النفيَ لم يتسلَّطْ إلاَّ على الخبرِ الذي هو» كُفُواً «والمعنى: لم يكنْ أحدٌ مكافِئَه» انتهى ما قاله الشيخ. وقوله: «ولا يَشُكُّ أحدٌ» إلى آخره تَهْوِيلٌ على الناظرِ. وإلاَّ فقولُه: «هذا الظرفُ ناقصٌ» ممنوعٌ؛ لأنَّ الظرفَ الناقصَ عبارةٌ عَمَّا لم يكُنْ في الإِخبارِ به فائدةٌ، كالمقطوعِ عن الإِضافة، ونحوِ «في دارٍ رجلٌ» وقد نَقَلَ عن سيبويه الأمثلَةَ المتقدمةَ نحو: «ما كان فيها أحدٌ خيراً منك»، وما الفرق بين هذا وبين الآيةِ الكريمة؟ وكيف يقول هذا وقد قال سيبويهِ في آخرِ كلامهِ: «والتقديمُ والتأخيرُ والإِلغاء والاستقرارُ عربيٌّ جيدٌ كثيرٌ»؟ وقرأ العامَّةُ بضمِّ الكافِ والفاء. وسَهَّل الهمزةَ الأعرجُ وشيبةُ ونافعٌ في روايةٍ. وأسكنَ الفاءَ حمزةُ، وأبدل الهمزةَ واواً وقفاً خاصة. وأبدلها حفصٌ واواً مطلقاً. والباقون بالهمزِ مطلقاً. وقد تقدَّم الكلامُ على هذا في أوائِل البقرةِ في قوله: {هُزُواً} [البقرة: 67]. وقرأ سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس «كِفاءٌ» بالكسر والمدِّ، أي: لا مِثْلَ له. وأُنْشِدَ للنابغة: 4681 لا تَقْذِفَنِّي برُكْنٍ لا كِفاءَ له. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ونافعٌ في رواية «كِفا» بالكسر وفتح الفاء مِنْ غير مَدّ، كأنه نَقَلَ حركةَ الهمزةِ وحَذَفَها. والكُفْءُ: النظيرُ. وهذا كفْءٌ لك، أي: نظيرُكَ والاسم الكَفاءة بالفتح. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

سورة الفلق

سُورَةُ الْفَلَقِ (مَكِّيَّة) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله عزَّ وجلَّ: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) وهو فلق الصبح وهو ضياؤه، ويقال أيضاً فرق الصبح. يقال: " هو أبين من فلق الصبح ". ومعنى الفلق الخلق: قال اللَّه عزَّ وجلَّ: (فَالِقُ الْإِصْبَاحِ) و (فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى). وكذلك فلق الأرض بالنبات والسحاب بالمطر، وإذا تأملت الخلق تبين لك أن خلقه أكثره عن انفلاق. فالفلق جميع المخلوقات وفلق الصبح من ذلك. * * * (وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) (غَاسِقٍ) يعنى به الليل. (إِذَا وَقَبَ) إذا دَخَل. وقيل لليل غاسقٌ - واللَّه أعلم - لأنه أبرد من النهار. والغاسق البارد. * * * (وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) (النَّفَّاثَاتِ) السواحر، تنفث: تتفل بلا ريق كأنه نفخ كما يفعل كل من يرقى.

سورة الناس

سُورَةُ النَّاسِ (1) (مَكِّيَّة) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) (الْوَسْوَاسِ) ذُو الْوَسْوَاسِ، وذُو الْخَنَّاسِ وهو الشيطان (الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) وقيل في التفسير: إن له رأس كرأس الحية، يجثم على القلب، فإذا ذكر اللَّهَ العبدُ تنحَّى وخنس، وإذا ترك ذكرَ اللَّهِ رجع إلى القلب يوسوس. * * * وقوله: (مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6) قيل: الناس هنا يصلح للجنِّ والإنسِ المعنى على هذا القول: يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ الذين هم جنٌّ، ويُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ والتأويل عند أبي إسحاق غير هذا المعنى: " قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ " من الجنِّ الذين هم الجنُّ. و (النَّاسِ) معطوف على (الْوَسْوَاسِ) المعنى: مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ، ومِنْ شَرِّ النَّاسِ قال أبو إسحاق: وهذا المعنى عليه أمر الدعاء، إنه يستعاذ مِنْ شَرِّ الْجِنِّ والإِنْسِ، ودليل ذلك (مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ). * * * آخر كتاب معاني القرآن، والْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى، وحسبنا الله ونعم الوكيل، وصلَّى الله على نبيه محمد وآله الطيبين وسلم تسليماً. ابتدأ أبو إسحاق إبراهيم بن السَّرِي النحوي الزَّجَّاج في إملاء هذا الكتاب في صفر من سنة خمس وثمانين ومائتين، وأتمَّه في ربيع الأول من سنة إحدى وثلاثمائة، وكُتبَ في دمشق جمادى الأولى سنة خمس وتسعين وثلاثمائة. رحم الله من دعا لكاتبه بالرحمة والمغفرة ولجميع أُمَّةِ محمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم.

_ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ تَمَّ كتابةُ سورة النَّاسِ من مخطوط معاني القرآن وإعرابه للزجاج، وقد أغفله المحقق.

§1/1