معالم حضارات الشرق الأدني القديم

محمد أبو المحاسن عصفور

مقدمة

مقدمة كان الاعتقاد السائد لدى الكثيرين إلى زمن قريب أن دراسة الحضارات القديمة لا يتناولها بالبحث إلا بعض الخاصة من المرفهين أو المترفين الذين يشبعون هوايتهم في التعمق في الدراسة والبحث عن المجهول؛ ولكن نظرًا لأن كل ما تزخر به الحياة الراهنة من منتجات وخبرات وعادات وتقاليد ومظاهر مختلفة أخرى؛ إنما ترجع في أصولها إلى مختلف الجهود البشرية، وقد وضعت أسسها منذ عصور سحيقة وتطورت بمرور الزمن حتى وصلت إلى ما وصلت إليه الآن فإن هذه الدراسة لم تعد موضوعًا قاصرًا على فئة من الناس بل ولا يمكن أن تفضل دراسة حضارة أمة على حضارة أمة أخرى غيرها؛ ولذا أخذ الاهتمام بها يتزايد حتى أصبحت دراستها منتشرة في جميع أنحاء العالم المتمدين وكثيرًا ما تتضافر جهود الباحثين من مختلف الدول والشعوب في دراسة الحضارات القديمة وتشجيعها على اعتبار أنها التراث الإنساني الذي استمدت منه مختلف الأمم أصول حضاراتها الحالية، ومن ثم يعملون على توفير أسباب هذه الدراسة بموالاة الكشوف الأثرية وترميم الآثار المختلفة ويعكفون على دراسة اللغات القديمة حتى يتمكنوا من وضع صورة حية أو قريبة من الواقع لهذه الحضارات ومظاهرها المختلفة، وهكذا تشعبت فروع البحث وتعددت نواحيه حتى أصبح

من المستحيل أن يلم باحث أو دارس بحضارات مختلفة بل ولا بمختلف نواحي حضارة واحدة؛ وعلى ذلك فإن وضع مؤلف واحد لعدد من الحضارات لا يمكن أن يكون جامعًا مانعًا يرضي كل الرغبات ويسد كل الفجوات. ومع إنني ترددت كثيرًا في وضع هذا المؤلف؛ إلا أنني وجدت أن الضرورة تقضي بأن أُيَسِّر على طلبتي بعض الشيء وأجنبهم مشقة البحث في العديد من المراجع لمجرد سرعة الاطلاع على المعالم الرئيسية لحضارات الإقليم الذي نعيش فيه -الشرق الأدنى- على أنه ينبغي أن لا يفهم من ذلك أن في هذا المؤلف غنىً عن الاطلاع على مختلف المراجع المتخصصة في دراسة هذه الحضارات ونواحيها المتعددة. وقد يبدو للقارئ أنني في تناول هذه الحضارات لم أراعِ ترتيبها حسب أهميتها أو أسبقيتها في الزمن ولكنني أود أن ألفت النظر إلى أنني فضلت اتباع نفس الترتيب الذي سبق أن اتبعته في كتابي السابق: "معالم تاريخ الشرق الأدنى القديم" استكمالًا للفائدة المرجوة؛ إذ إنني جردت ذلك الكتاب من كل ما يشير إلى المظاهر الحضارية إلا فيما يختص بالعصور السابقة للكتابة على أساس أنها الوسيلة الوحيدة لتتبع تاريخ تلك العصور، وهكذا يمكن اعتبار هذا المؤلف مع سابقه متكاملين

بالنسبة لمن يود الاطلاع على المعالم المهمة لتاريخ وحضارات الشرق الأدنى القديم. ولا يسعني فى هذا المجال؛ إلا أن أقدم واجب الشكر إلى كل من عاونني على إخراج هذا الكتاب الذي أرجو أن يحقق الغرض المطلوب، والله ولي التوفيق. محمد أبو المحاسن عُصْفُور

مقدمة الطبعة الثانية ما كنت أظن أنني سأعيد طبع هذا الكتاب بعد مرور نحو من عشرة أعوام على ظهور طبعته الأولى؛ إذ اعتقدت أن موضوعه سيكتب فيه خلال تلك الفترة غير أن ما ظهر من مؤلفات لا يتناول إلا حضارة قطر أو قطرين فحسب من أقطار الشرق الأدنى وهي في جملتها تسهب في ذلك وتتعرض للكثير من التفصيلات التي تجعل من العسير الإلمام بالمعالم الرئيسية لحضارات إقليم الشرق الأدنى أو تكوين فكرة شاملة عنها. ومن خلال تجربتي في التدريس؛ وجدت أن كتابي هذا يناسب طلبة أقسام التاريخ في الجامعات العربية كمًّا وكيفًا؛ كما أنني لا أشك في أن الذين تبهرهم رؤية آثار أسلافنا يودون لو أن هذه الآثار تفصح لهم عن أسلوب الحياة الذي اتبعه أولئك الذين خلفوها وأن توضح لهم مظاهر حياتهم؛ فعسى أن يكون في هذا الكتاب ما يفي -قدر الإمكان- بهذا الغرض وتوخيت فيه البساطة بحيث يستطيع القارئ العادي أن يستوعبه وأن يكوِّن فكرة عامة لا بأس بها عن أصحاب تلك الحضارات التي كانت أقدم ما ظهر من حضارات في العالم والله ولي التوفيق ... المؤلف

محتوى الكتاب الموضوع صفحة مقدمة هـ قائمة بالأشكال م تمهيد 1 أولًا: حضارة مصر 5- 144 الأسرة: 16، الملك: 27، المسكن: 36، الملابس والزينة: 43، الإدارة: 58، الديانة: 64، القضاء: 94، العسكرية: 97، الحياة الاقتصادية: 100، العلوم والآداب: 124، الفنون: 131. ثانيًا: بلاد العرب 145- 154 ثالثًا: الإقليم السورى 155-171 "أ" الأموريون: 155. "ب" الكنعانيون والفينيقيون: 158.

الموضوع صفحة "ج" الآراميون:166. "د" العبرانيون:168. رابعًا: آسيا الصغرى 172- 193 الأسرة: 173، الملك: 175، الإدارة: 176، العسكرية: 178، الديانة: 180، الحياة الاقتصادية: 187، العلوم والفنون: 188. خامسًا: بلاد النهرين 94- 264 الأسرة: 196، الملك: 199، المنازل: 202، الملابس والزينة: 205، الإدارة: 210، العسكرية: 212، الديانة: 216، القضاء: 223، الحياة الاقتصادية: 229، العلوم والآداب: 242، الفنون: 255 سادسًا: إيران 65- 288 الحياة الاجتماعية: 268، الدولة: 272، العسكرية: 276، الديانة: 278، الفنون:283

الموضوع صفحة خاتمة 289 المراجع العربية 295 المراجع الأجنبية 296 فهرس الأعلام 299

قائمة بالأشكال الشكل صفحة 1- تماثيل سيدات من العصر قبل التاريخي 17 2- تمثال منقرع وزوجته 18 3- فريق من المتصارعين 24 4- راقصات يمثلن لوحة حية 25 5- لعبة محاولة معرفة الضارب 26 6- لعبة الثعبان 26 7- أحد الملوك بالزِّي القديم 30 8- نموذج من الطين لمنزل من عصر ما قبل الأُسَر 37 9- رسم تخطيطي لمنزل من كاهون 40 10- رسم تخطيطي لمنزل من العمارنة 41 11- الزِّي التقليدي في الدولة القديمة 45 12- الزِّي العادي للمرأة 49 13- سيدة أثناء تصفيف شعرها 55 14- إلهة السماء في هيئة بقرة 67 15- إلهة السماء في هيئة امرأة 68 16- إله النيل في هيئة رجل 101 17- نساء يقمن بتذرية القمح 103

الشكل صفحة 18- زورق من البردي به صائد سمك 109 19- طريقة بناء السفن 112 20- نقل تمثال ضخم 117 21- نبيل على محفة يحملها حماران 120 22- خطأ الفنان عند خروجه على وضع تقليدي 133 23- ضخامة الشخص المهم بالنسبة لمن حوله في النقوش 135 24- هَرَمَي خفرع ومنقرع وأمامهما معابدهما الجنزية 140 25أ- معبد الشمس 141 25ب- معبد من الدولة الوسطى 142 26- نموذج من الخزف لعربة يجرها الخيل 161 27- نحت عاج يمثل مزج الفن الفينيقي بالفن المصري 163 28- تطعيم بالعاج به طابع مصري 164 29- تابوت في هيئة آدمية لأحد ملوك صيدا 165 30- تابوت لملك من ببلوس عليه موكب جنزي 166 31- عربة مصرية تهاجم عربة حيثية 179 32- إله يقف على ظهر حيوان 181 33- ملك يتعبد إلى إله في هيئة ثور 182 34- منظر يبين اتجاه المواكب نحو مركز واحد 190 35- منظر يبين أشخاصًا يغلب عليهم القصر وعدم تناسق الأعضاء 191 36- تمثال غريب اختصرت رأساه 191

الشكل الصفحة 37- تمثال مجنح لأبي الهول 192 38- نقش حيثي 193 39- الملك أورنمو يحمل سلة البناء 201 40- منزل من منازل جنوب العراق 203 41- نقبة للرجال تنتهي بصفوف من الهداب 205 42- زي سابغ يكشف أحد الذراعين 207 43- الإله يلبس تاجًا عليه قرون تتلاقى 208 44- ملك يلبس تاجًا مخروطيًّا يعلوه سن مدبب 209 45- عقود من الذهب 209 46- رمز الإله آشور 218 47- نموذج من البرونز لمركبة تجرها أربعة حمير 237 48- خريطة للعالم بها موقع بابل 249 49- لوح عليه نظرية هندسية 251 50- قيثارة مثل بها رأس ثور 256 51- إبريق من الحجر نحتت به حيوانات 257 52- تمثال مغنية أحد المعابد 258 53- تمثالان تبدو فيهما ضخامة الساقين 259 54- منظر لمدينة بابل 264 55- مدينة إيرانية قديمة 270 56- نماذج من العملة الفارسية 275

الشكل صفحة 57- معبد النار فى نقش رستم 280 58- الإله أهورا مزدا 281 59- دبابيس من البرونز 283 60- ثور مجنح من مدخل قصر اجزر كسيس 285 61- أعمدة تنتهى برءوس حيوانات 287

تمهيد

تمهيد الحضارة: الحضارة في اللغة خلاف البداوة؛ لأنها تدل على سكنى الحضر أو اجتماع الناس للتعاون على أسباب المعيشة ودفع المضرات؛ فهي تمثل مرحلة من مراحل التطور الاجتماعي وتقابل كلمة: "Civilisation". وبما أن كل مجتمع -مهما كان بدائيًّا- يصيب شيئًا من التطور ببذل الجهد والكفاح الدائم فإن هذا اللفظ خرج عن مدلوله الأصلي إلى مدلول عام شامل فأصبحت كلمة الحضارة تطلق على كل إنتاج مادي أو أدبي للإنسان سواء كان إنتاجًا راقيًا أو بدائيًّا وعلى ذلك يمكن القول بأنه لا يوجد مجتمع دون حضارة، وكثيرًا ما يختلط هذا اللفظ في معناه بكلمة الثقافة ولكن إذا ما تأملنا الأصل اللغوي لهذه الكلمة الأخيرة لوجدنا أنها تدل على التطور العقلي عن طريق التدريب والتعليم، وهي تقابل لفظ: "Culure" كذلك يختلط اللفظان: الحضارة والثقافة، في معناهما بكلمة المدنية وإن كان اختلاط هذه الأخيرة بكلمة الحضارة أعم من اختلاطها بالثقافة؛ إلا أن المدنية أصلا تدل على سكنى المدن. وقد تطور معناها حتى أصبح يدل على أقصى ما يصل إليه مجتمع ما في ميدان حضارته أثناء عصر من العصور. وهكذا نجد أن كتب اللغة تميل إلى ترتيب مراحل التطور الاجتماعي إلى البداوة ثم الحضارة وأخيرًا المدنية، على اعتبار أن البداوة تقوم على حياة الحيوان من صيد ورعي فمن دَأْبِهَا التنقل وعدم الاستقرار.

والحضارة تدل على سكنى الحضر والانتظام في مجتمعات تتعاون في معيشتها أما المدنية فتدل على سكنى المدن والانتظام في مجتمعات أكثر تعقيدًا ورقيًّا أو كما تقول بعض كتب اللغة: إنها تمثل الانغماس في حياة الدَّعة والترف. فالحضارة على أي حال تمثل كل مظهر من مظاهر الإنتاج البشري أو غالبًا ما يحددها سلوك الإنسان وطرق معيشته وتفاعله مع البيئة؛ ولذا كان من الطبيعي أن تختلف كل حضارة في مظاهرها عن الحضارات الأخرى؛ فلكل حضارة من الحضارات -قديمها وحديثها- مظاهر مميزة وعلى هذا يميز الناس بين الحضارة المصرية والحضارة اليونانية والحضارة الإسلامية وهكذا. ومن العسير إبراز مميزات كل من تلك الحضارات وخاصة القديمة منها لأننا -من جهة- مازلنا نشعر بقصور الدراسات المتعلقة ببعض مظاهرها ومما يزيد المشكلة تعقيدًا أن بعض المدونات لم يمكن تفسيرها تمامًا حتى الآن؛ كما أننا -من جهة أخرى- نستشهد على مظاهر هذه الحضارات بمخلفات أثرية نحن على يقين من أنها لم تكن منتشرة بين عامة الناس؛ وإنما هي من مخلفات ثراة القوم وخاصتهم فضلًا عن كونها تمثل أرقى ما كانوا يمتلكونه وأفضل ما وصلت إليه الفنون في أزمانهم؛ فهي بالأحرى تمثل مخلفات المدنية لا مخلفات الحضارة، ومع كلٍّ ينبغي أن لا نقلل من شأنها عند مقارنة الحضارات المختلفة بعضها بعضًا إذ لا سبيل إلى التعرف إلى مظاهر هذه الحضارات إلا عن طريقها. ومع أن الكثيرين قد يتساءلون عن الأسباب التي تدعو الإنسان إلى الاحتفاظ بكثير من منتجاته الحضارية وهو ما أتاح لنا فرص العثور على

ما يمثل هذه المنتجات في الحضارات القديمة؛ فإن من الممكن أن يعزى ذلك إلى عاملين أساسين هما: ديانة أهل هذه الحضارات وفنونها. والديانة شأنها شأن الحضارة خرجت في معناها عن مدلولها الأصلي؛ لأنها في اللغة كالدين لها معاني مختلفة منها الجزاء والمكافأة والطاعة والانقياد والعادة والعبادة، وهي كذلك اسم لجميع ما يعبد به الله والملة؛ إلا أن المعنى المألوف هو أنها: "الاعتراف بقوة أو قوى تفوق البشر، تسيطر عليهم، ويجب عليهم إطاعتها ويؤثر اعترافهم بها في سلوكهم وفي عقليتهم"، وقد تختلط في معناها بالعقيدة؛ ولكن هذه الأخيرة تدل في اللغة على عقد الرأي أو عقد القلب والضمير على أمر معين كما تدل على الاقتناء والجمع؛ فإذا قيل اعتقدت كذا أي عقدت عليه القلب والضمير، واعتقدت ضيعة ومالًا أي اقتنيتهما؛ إلا أن المعنى الشائع للعقيدة هو أنها: "إيمان بتفوق قوة من القوى"؛ ولكن ليس من الضروري أن تسيطر هذه القوة على البشر. وقد تطور هذا فأصبحت العقيدة اسمًا لما يدين به الإنسان. ومن الواضح أن الإنسان في الحضارات القديمة كانت له ديانات وعقائد عامة ولكننا لا نعرف شيئًا عن أصولها ونشأتها وطقوسها ومذاهبها؛ إلا من عصور متأخرة وخاصة بعد أن عرفت الكتابة؛ ومع هذا فإن ما نعرفه عنها لا يعد كافيًا لارتباطها بعواطف الإنسان وإحساساته الداخلية وهذه لا يمكن إدراكها؛ لأنها لم تدون في أغلب الأحيان -ورغم هذا يمكننا أن نتصور بأنها كانت ساذجة بسيطة في أول الأمر ثم تطورت ودخلتها زيادات وحواشي أخرجتها عن شكلها الأصلي، وما دام الأمر كذلك؛ فإن الإنسان -سواء في ديانته أو عقائده- يحاول أن يسترضي هذه القوى بكل ما لديه من وسائل مادية وغير مادية فشيَّد لها المعابد

وقدَّم القرابين وقام بمختلف الطقوس من أجلها. وهذه بالطبع يبدو أثر البيئة فيها واضحًا هي الأخرى. ولما كانت الفنون هي كل ما يخرجه ذوق الإنسان ليحقق فائدة عملية في حياته وليرضي به غريزة من غرائزه. وبما أن الإنسان تميز بالذوق السليم والشعور بالجمال فمن الممكن القول: بأن الفن هو "الإنتاج الذي يرضي به الإنسان شعوره بالجمال"؛ لذا خضعت فنونه في كل من الحضارات القديمة إلى أصول وقواعد تميزت بها -وإن كانت قد وقعت في بعض الأخطاء- إلا أنها لم تحد عنها محافظة على تقاليدها وقواعدها؛ وبالتالي فإن كلا من هذه الفنون قد تأثرت هي الأخرى كذلك بالبيئة التي نشأت فيها وخضعت لمؤثراتها المختلفة. وعلى هذا يمكن القول بأن أهم المخلفات الأثرية التي تتخذ منها شواهد وأدلة على مظاهر الحضارات المختلفة ترتبط بفنون أهل هذه الحضارات ودياناتهم ارتباطًا وثيقًا؛ إلا أن كل المظاهر الحضارية في أي مجتمع من المجتمعات قوامها تفاعل الإنسان في هذا المجتمع مع بيئته التي عاش فيها؛ ولذا تنوعت هذه المظاهر وتنوعت بين قطر وآخر وبين أمة وأخرى ولا يحدث بينها من التشابه إلا بقدر تشابه بيئاتها وإن كانت بعض المظاهر تجد سبيلها من مكان إلى آخر عن طريق النقل والمحاكاة وسنتناول فيما يلي أهم المظاهر الحضارية في مختلف أقطار الشرق الأدنى.

أولا: حضارة مصر

أولًا: حضارة مصر التعرف على الحضارة المصرية: لعل من أشق الأمور دراسة الحضارة المصرية دراسة شاملة وافية؛ لأنها وإن تناولها الباحثون بالدراسة في عصور مختلفة؛ إلا أن الكشف عن أسرار اللغة المصرية لم يتم إلا منذ فترة وجيزة نسبيًّا وعلى ذلك ظلت حضارة مصر غامضة بالنسبة لهؤلاء الباحثين رغم أن آثارها كانت تحيط بهم وفي متناول أيديهم؛ فاليونان مثلًا صادفتهم عقبات كثيرة في تفهم تلك الحضارة؛ بل إنهم حينما جاءوا إلى مصر دهشوا أشد دهشة لما شاهدوه من حضارة في وادي النيل؛ حيث كانوا يعتقدون بأنهم أرقى الأمم حضارة وثقافة، وقد بدت لهم مظاهر الحضارة المصرية غاية في الغرابة والغموض وكانوا بين مقدر لها وساخر منها؛ ولكن الأغلب أنهم كانوا يكنون لها الاحترام العميق مع أنهم عجزوا عن تفسير كثير مما شاهدوه من الاختلافات بينها وبين حضارتهم، وقد استهوتهم كذلك بعض قواعد السلوك عند المصريين؛ ولذا نجدهم يقارنون مظاهر هذه الحضارة بمظاهر حضارتهم فيذكر هيرودوت مثلًا: بأن المصري كان يكتب من اليمين إلى اليسار في حين تكتب شعوب العالم الأخرى من اليسار إلى اليمين وفي مصر تخرج المرأة إلى الأسواق وتقوم بالعمل في الحقول؛ بينما يظل الرجل في البيت؛ ليقوم بالغزل أو النسيج، كما أن النساج المصري كان يدفع لحمة النسيج من أعلى إلى أسفل وهذا كله عكس ما يحدث في البلاد الأخرى. ومع أن العالم القديم ظل ينظر إلى المصريين على أنهم شعب غريب

الأطوار؛ إلا أنه كان يتطلع إلى مظاهر حضارتهم وينظر إليها نظرة التقديس والإجلال وكانت نقوشهم وطقوسهم الدينية التي كان يقوم بها الكهنة تمثل عالَمًا مليئًا بالأسرار والغموض وكثيرًا ما طمع اليونانيون في الوصول إلى دراسة تلك الأسرار؛ ولهذا نجد أن بعضهم وخاصة في عهد البطالمة يندمجون في الأوساط الكهنوتية ويقومون بالطقوس الدينية؛ ولكنهم لم يستطيعوا فهم كل تلك الألغاز التي أطاحت بهم؛ ومع هذا ظلوا على احترامهم وتقديرهم لرجال العلم والكهنة والمعبودات المصرية حتى وحدوا بين بعضها وبين الآلهة اليونانية. ومنذ العصر اليوناني استمر الغموض يحيط بالنقوس المصرية لم يستطع أحد تفسيرها رغم المحاولات العديدة التي بذلت في سبيل حل طلاسمها؛ ولكن طريقة تلك الكتابة جعلت من المحتم الوصول إلى تفسيرها؛ فمعظمها كتابة رمزية تصويرية وكانت دقة المصري وعنايته الفائقة بتدوين أهم الحوادث خير مساعد للعلماء في مهمتهم؛ فقد صور الأشخاص والمناظر المختلفة وكتب فوقها ما يدل عليها وكانت أولى النتائج المهمة في سبيل حل طلاسم اللغة المصرية هي: ما وصل إليه العالم الإنجليزي توماس ينج "Tomas Young" الذي قرر بأن الكتابة المدونة فوق المناظر المختلفة؛ هي شرح لتلك المناظر وأن أسماء الملوك الممثلين في تلك المناظر توضع داخل أشكال بيضاوية أي: خراطيش، وأن هذه الكتابة ليست كلها رمزية تصويرية أي أن أشكالها "رموزها" لا يدل كل منها على معنى؛ وإنما بعض هذه الأشكال أو الرموز له قيمة صوتية فقط ولا يدل على معنىً قائم بذاته. وفي نفس الوقت أو بعده بقليل عثرت الحملة الفرنسية على حجر رشيد وتوصل شمبليون من مقارنة

الخراطيش المكتوبة به إلى نفس النتيجة التي وصل إليها "ينج" كما توصل إلى القيمة الصوتية لبعض الرموز وبدأ يضع معجمًا للحروف والعلامات الهيروغليفية. وتتابعت جهود العلماء بعد ذلك؛ فأمكن تفسير اللغة المصرية وفهم كل ما أمكن العثور عليه من آثار مكتوبة، ومع أن الآثار المصرية مليئة بآلاف النصوص والوثائق؛ إلا أنها ليست كافية للتعرف على كل نواحي الحياة المصرية؛ لأن كل ما كتب على الآثار المختلفة لا يخرج عن كونه شرح لبعض المناظر الدينية المتكررة مع الإشارة إلى الآلهة والقرابين المختلفة بالإضافة إلى أسماء الملوك وبعض الأحداث التاريخية المهمة التي حدثت في عهدهم أو عهد أسلافهم. أي أن المحصول من هذا الإنتاج الضخم كان محصولًا ضئيلًا للغاية لا يتناسب إطلاقًا مع وفرة الوثائق المكتوبة؛ فالاعتماد إذن على هذه المدونات وحدها لا يكفي لإعطاء فكرة كاملة عن الحضارة المصرية في أشكالها المختلفة.

مقومات الحضارة المصرية

مقومات الحضارة المصرية: وكانت العقيدة التي يدين بها المصري خير ما أمدنا بفكرة واضحة عن الحضارة المصرية إذ إن المصري اعتقد في البعث وأنه سيحيا حياة أخرى أبدية -من جهة- ولأنه أحب حياته الدنيا وطمع في أن يجعل من حياته الأخرى صورة مطابقة لها -من جهة أخرى- صور مناظر حياته على جدران مقبرته أملًا في أن تتحول هذه المناظر إلى حقيقة واقعة عند البعث، ومع أننا نعتقد بأن هذه المناظر قد صورت على شاكلة ما كان يقوم به في حياته الدنيا؛ إلا أننا مع هذا نلاحظ

بأنه حرص على أن يجعل من تلك الحياة حياة مثالية، وتغالى في إظهارها بمظهر الحياة دائمة السعادة والرفاهية. وقد وصل في ذلك أحيانًا إلى درجة السَّفَهِ حيث حرص على أن يأخذ معه إلى العالم الآخر كل ما ظن أنه سيحتاج إليه من آلات وأدوات وحيوانات أليفة. ومع أن كثيرًا من حضارات العالم القديم قد درست عن طريق دراسة آثار المنازل ومخلفات مناطق السكن في تلك الحضارات؛ إلا أننا في مصر نجد أن هذه المنازل قد اختفى معظمها ولم يبقَ منها إلا النادر فقط؛ حيث كان المصري يعتقد بأن حياته في الدنيا حياة زائلة وأن الحياة الآخرة هي الحياة الأبدية فكان يقيم مساكنة من موادَّ خفيفة سريعة البلى واستعمل لذلك اللَّبِن والأخشاب ولم يستعمل الحجر؛ إلا نادرًا وعلى الأخص حول الأبواب والنوافذ فقط ولم يبقَ من المدن المصرية التي كانت آهلة بالسكان؛ إلا أمثلة شاذة مثل: كاهون وتل العمارنة، والسبب في بقائهما هو أنهما قد بُنِيَتَا لغرض خاص ثم أهملتا بعد بنائهما والإقامة فيهما قليلًا وهجرهما السكان بعد ذلك. ويشبه ذلك أيضًا بعض القرى التي أقيمت من أجل عمال الجبانات مثل: مساكن عمال جبانتي الجيزة وسقارة؛ ولذا كان من الصعب استنتاج صورة واضحة للمساكن المصرية في عصورها المختلفة؛ ولكن أمكن التوصل إلى ذلك عن طريق البقايا المتخلفة من تلك المدن ومن مساكن العمال ومن بعض النماذج التي وضعت في المقابر لغرض من الأغراض السحريه أو لمجرد اللهو والتسلية. وكذلك من النقوش التي تمثل تلك المنازل. أما الفن المصري فهو جدير بالإعجاب وقد وصل إلى درجة عالية من

الرقي في كل نواحيه المختلفة من عمارة ونقش ونحت وأدب وموسيقى، وقد بنيت هذه على أصول مستقلة فاقت في معظمها كل فنون الشعوب الأخرى ومما يميز الحضارة المصرية في هذا السبيل أننا نجد آثارها ممثلة في عصورها المختلفة، أي أن مظاهر تلك الحضارة ممثلة بصورة مستمرة من عصور ما قبل التاريخ في سلسلة متتابعة لا نكاد نجد فيها فجوة، فهي تمتاز عن سائر الأقطار الأخرى في هذه الناحية، وقد مكنتنا دراسة آثارها من التعرف على المصري في آلاف السنين ومنها يتضح أن اللغة المصرية لم تتغير إلا مرة واحدة وتغيرت الديانة مرتين كما تغيرت الطبقة الحاكمة عدة مرات، أما المصري نفسه فقد ظل دون تغيير يذكر؛ لأن ظروف الحياة الطبيعية ظلت كما هي ثابتة لا تتغير ولم يحدث مثل ذلك للشعوب الأخرى؛ ولهذا الأمر أهميته البالغة؛ لأنه يرينا كيف تطورت الآراء والأفكار خلال الخمسين قرنًا التي مضت وكيف تطورت العادات وإلى أي مدى أثرت الحضارة المصرية وتأثرت بالحضارات الأخرى وليس من المبالغة في شيء أن نذكر بأن الحضارة المصرية كان لها أثر كبير في الحضارتين اليونانية والرمانية اللتين نقل عنهما العرب. وهؤلاء بدورهم كان لهم أثرهم في الحضارات الأوروبية المعاصرة بل ويمكن أن نتبع أصل بعض الألفاظ في اللغة الإنجليزية وفي اللغات الأوروبية الأخرى ونرجعها إلى أصول مصرية قديمة. وما دامت الحضارة تنتج عن النشاط الإنساني وأن هذا النشاط يتأثر بالبيئة أي أنها تفاعل بين الإنسان وبيئته فمن الممكن القول: بأن البيئة المصرية بمميزاتها المختلفة هي التي حددت نوع تلك الحضارة وأثرت في تفكير المصري وإنتاجه، وإذا ما تأملنا هذه البيئة محاولين أن ندرس بصفة عامة

جغرافية مصر فى معناها الضيق لوجدنا أن نهر النيل يمتد فيها من صخور الشلال الأول إلى البحر المتوسط وهو يتفرع فى الدلتا إلى أن يصب فى البحر؛ وعلى ذلك شملت مصر قسمين مختلفين: الأول يمتد فيه وادى طويل ضيق مساحته المنزرعة ضئيلة للغاية وتحف به الصحارى من الجانبين ويمكن لأى إنسان إذا ما وصل إلى حافة الوادى أن يقف باحدى قدميه على الأرض المنزرعة ويرتكز بقدمه الأخرى على الصحراء، أى أن الانتقال من الأرض المنزرعة إلى الصحراء انتقال فجائى، وتلى الصحراء شرقا وغربا سلاسل من التلال القليلة الارتفاع تمتد بطول الوادى تقريبا أما فى الدلتا فالوادى متسع والأراضى الزراعية شاسعة فهى فى معظم العصور أغنى وأكثر إزدحاما من الوجة القبلى وما زالت كذلك حتى الآن ولكنها فى أقدم العصور التاريخية كانت أقل سكانا لكثرة مستنقعاتها. ولما كان الانسان القديم فى مصر يخشى خطر الفيضان ويتجنبه فإنه كان يسكن على جانبى الوادى على الهضاب المرتفعة وكان النهر فى بداية الأمر قليل العمق متسع المجرى، وكلما عمق مجراه كلما انحسرت المياة من الجانبين وتبعه السكان هابطين من الهضاب إلى حافة الوادى وعلى هذه نجد أقدم البقايا الأثرية من عصور ما قبل الأسرات موغلة فى الصحراء بعيدة عن الوادى وأكثر ارتفاعا من تلك التى تليها فى الزمن فتكونت بذ المدرجات النهرية المعروفة التى تعد شاذة فى تتابعها الزمنى لأن المعتاد فى الطيقات الأثرية أن تكون أقدامها هى السفلى وأحداثها هى العليا أما فى المدرجاتالنهرية فإن العكس هو الذى حدث.

وتتميز البيئة المصرية بأن الظاهرة الغالبه فيها تتمثل فى خطوط متوازية أو متعامدة فالوادى شريط ضيق يحيط بالنهر من الجانبين تبعد عنه قليلا الصحراوين الشرقية والغربية وهذه وتلك تخف بها سلاسل قليلة الارتفاع تظهر كأنها خطوط عمودية على طبقات الوادى التى تسير فى خطوط مستقيمة وكان لهذا أثره فى التفكير المصرى فقد رأى المصرى أن تلك الوديان والصحارى تمتد إلى مسافات شاسعة دون عائق وتمثل فضاء لا نهائيا كما أنه رأى بعض مظاهر الطبيعة فى إستمرار دائم فالشمس تشرق كل يوم فى المشرق وتغرب فى المغرب فاعتقد بأن هناك حياة خالدة يعيش فيها المرء حياة أبدية وأن الحياة الدنيا فترة اتنقال إلى عالم الخلود -وقد أثرت هذه البيئة كذلك فى نشاطه الفنى إذ خضع الفن إلى قواعد لا تحيد كثيرا عما تمثله المرء فى بيئته، فرسومه ونقوشه بل وتماثيله أيضا تخضع لقانون الاتجاهات المستقيمة حتى ليمكننا القول باننا إذا ما أخذنا صورة إنسان أو تمثالا من تلك التى قام بعملها المصري القديم وقطعنا الرأس والأطراف لوجدنا صعوبة فى تفسير الجزء الباقى كذلك إذا ما تأملنا هذه الصورة أو ذلك التمثال لوجدنا أن الراس يتعامد على الكتفين وأن هذين يمثلان خطا مستقينا يوازى الخطوط الأفقية الأخرى فى الجسم كذلك يتوازى الذراعان والساقان والخطوط الرأسية الأخرى ولذا قال أحد فلاسفة اليونان عن التماثيل المصرية بأنها كلها جميلة ولكن ينقصها المدرب الرياضى وذلك لأن الحركة فيها غير واضحة. وإذا ما خرجنا عن دائرة الأفكار الفلسفية والدينية والفن إلى الحياة العملية المصرية لوجدنا أن الجماعات التى عاشت فى مصر فى أجزائها المختلفة كان يسهل عليها الاتصال فيما بينها وأهم ظاهرة قامت بتسيير هذا الاتصال هى نهر النيل

الذي كان له أكبر الأثر فى نشأة الحضارة المصرية وتطورها؛ فمن المعروف أن اتجاه التيار فى النهر "من الجنوب إلى الشمال" واتجاه الرياح السائدة "الرياح التجارية الشمالية الشرقية" "من الشمال إلى الجنوب" وعدم وجود العوائق على طول النهر من البحر المتوسط إلى أسوان مما يجعل الملاحة ميسورة في كل أوقات السنة وفي الاتجاهات المختلفة؛ وعلى ذلك كان من الطبيعي أن تنشط الملاحة فتمكنت الجماعات المنتشرة على طول الوادي من الاتصال بعضها بالبعض بسهولة ويسر وتبادلت مظاهر ثقافاتها وحضاراتها المختلفة -وكان للنيل كذلك أكبر الفضل في توحيد تلك الجماعات إذ أن خطر الفيضان المشترك والرغبة فى التحكم فى مياه النهر للحصول على منافع مشتركة حتمت إيجاد مجتمع موحد متعاون فى ذلك الجزء من العالم. ولا شك فى أن وادى النيل كان فى أول الأمر مسرحا لتنافس تلك الجماعات الصغيرة المتفرقة التى كانت تعيش على جانبيه والتى كانت تكون أقاليم مستقلة يغير أقواها على ما جاوره من أقاليم أضعف ويبسط سلطانه عليها حتى انقسم وادى النيل فى جزئه الأدنى إل قسمين كبيرين: مملكة الوجه القبلى وممكلة الوجه البحرى- ومملكة الوجه القبلى كانت تضم أصلا أثنين وعشرين إقليما من تلك الأقاليم الصغيرة أما مملكة الوجه البحرى فكانت تضم عشرين إقليما وقد ظل هذا التقسيم يراعى فى معظم العصور الفرعونية، كذلك ظل انقسام البلاد إلى مملكتين عالقا فى الأذهان حتى نهاية تلك العصور ويتمثل ذلك فى الألقاب الملكية وفى الكثير من الإدارات الحكومية فكان الملك يلقب الملكية وفى كثير من الإدارات الحكومية فكان الملك يلقب بملك الوجهين القبلى والبحرى وأطلق على بيت المال مثلا إسم "بيتى الذهب والفضة" والمقصود هو بيت

الذهب والفضة الخاص بالجنوب ومثيله الخاص بالشمال كذلك كان هناك وزيران أحدهما للجنوب والآخر للشمال.

نشأة الحضارة المصرية

نشأة الحضارة المصرية ظل العالم المتحضر فترة من الزمن لا يعرف فيها شيئا عن نشأة الحضارة المصرية وتطورها بل وخيل للكثير من الباحثين بأن تلك الحضارة التى توحى آثارها بالنمو والإزدهار والتعقيد لم تكن أصيلة فى مصر ولم تتطور فيها وإنما جلبت إليها من الخارج صورة راقية، إلا أن العثور على آثار تمثل الحضارات السابقة لعصر الأسرات "أى الحضارات البدائية" فى سلسلة متتابعة تكاد تكون متكاملة أثبت أن الحضارة المصرية أصيلة فى مصر نشأت وتطورت فيها وإن كان الأمر لا يخلو بالطبع "كما هو الحال فى الحضارات الأخرى" من التأثر بحضارات الأقاليم المجاورة فى بعض مظاهرها. ولكن مما لاشك فيه بأن البيئات المتشابهة والأجناس المتشابهة تنتج حضارات متشابهة وهكذا كان تشابه بيئات الشرق الأدنى القديم مما يعقد الأمور فى التعرف على انتقال الحضارات من بيئة لأخرى. ولما كانت الحضارة المصرية قد وصلت إلى درجة رفيعة من التقدم والرقى فإنه كان من الأهمية بمكان أن يجتهد الباحثون فى التوصل إلى معرفة الجنس الذى يعد مسؤلا عن هذه الحضارة أو الذى أبدعها وأنشأها إلا أن كل الجهود التى بذلت لم تؤدى حتى الآن إلى نتيجة حاسمة إذ لم يعثر على بقايا بشرية يمكن الحكم منها على نوع السكان الذين عاشوا فى العصر الحجرى القديم وقد حاول العلماء عبثا التعرف على هؤلاء من مخلفات العصور التالية، وأقدم ما وجد من

مخلفات بشرية يدل على وجود عناصر مختلفة كانت تعيش جنبا إلى جنب ولذا يمكن القول بأن الحضارة المصرية ترجع الى أجناس مختلفة عاشت فى وادى النيل واحتك بعضها بالبعض كما كانت لهم علاقات بالأجناس المشابهة التى عاشت فى الأقطار المجاورة ولذا قال بعض المؤرخين بأنه لم يوجد مصرى على الإطلاق وإنما كان هناك دائما مصريون ويعنى هذا أنه لم ينفرد فى مصر جنس واحد وإنما وجدت أجناس متجاورة اختلطت ببعضها وكونت فى مجموعها سكان وادى النيل الأدنى. ومما لاشك فيه أن الشعبة الحامية من جنس حوض البحر المتوسط كانت أكثر العناصر نشاطا فى شمال أفريقيا بما فى ذلك وادى النيل، ويبدو أن جنسا له بعض الصفات الزنجية قوى التكوين والبنية كان يسود العالم القديم وقد دخلت الى وادى النيل فى أثناء دخوله اليها عناصر حامية قليلة العدد ثم ما لبثت هذه الأخيرة أن ازداد عددها حتى أصبحت هى الغالبة فى الوادى ورغم ذلك ظل خليط تلك العناصر مع الجنس أقوى البنية ممثلا فى معظم العصور التاريخية. ومن المعروف كذلك أن عناصر كثيرة مختلفة قد دخلت إلى مصر فى عهودها المختلفة ولكن هذه لم تؤثر فى التكوين الجنسى للسكان إلا بنسب ضئيلة لأن تلك العناصر عند دخولها إلى مصر لا تلبث أن تحتفظ بالسكان وتندمج فيهم وتفقد مميزاتها الجنسية بالتدريج وإن ظلت بعض تلك المميزات تظهر فى العناصر الناتجة من إختلاطها حينا بعد حين. وقد أدى تشابه بعض مظاهر الحضارة فى مصر مع مظاهر للحضارة فى جنوب غربى آسيا إلى الإعتقاد بأن الحضارة المصرية قد نقلت من

هذه الجهات إلى مصر عن طريق هجرة من الهجرات ولكن تشابه ظروف البيئة فى تلك المرحلة البدائية يجعلنا نتردد كثيرا ف الأخذ بهذا الرأي، ومع كل فإن انتقال تلك المضاهر الحضارية قد تم عن طريق احتكاك مباشر أو غير مباشر بين سكان وادى النيل وبين سكان جنوب غربى آسيا وليس ضروريا أن يكون عن طريق هجرة من الهجرات. فنشأة الحضارة فى مصر إذن ما زال يكتنفها الغموض ومهما قيل فى ذلك فإن ما يعنينا هو أننا نجد في العصور الفرعونية حضارة بهرت العالم ووصلت إلى مدى بعيد في ميدان التقدم في كافة مظاهرها المختلفة وقد تمثلت في مصر دولة قوية فتية يحكمها بيت مالك له تقاليده ومراسيمه المعقدة ويحيط بالملك حشاية يحمل أفرادها مختلف الألقاب ويحتلون مناصب رفيعة، وتكاد تحاكى في تنظيمها الإدارى ما نسير عليه في حياتنا الحاضرة وكانت الطقوس الدينية تقام في بعض العبادات الحديثة وكان الجيش يتبع أساليب وفنون حربية تسير وفق الأسس التى تقوم عليها الجيوش النظامية -وهكذا فى سائر النظم كانت مصر دولة لا تختلف في كيانها كثيرا عن أى دولة حديثة. ويرى كثير من الأثريين بأن الحضارة المصرية كانت حضارة مادية حسية فى أساسها وأنها كانت تهدف إلى الناحية العلمية دون النظرية. ولكن مما لاشك فيه أن كثيرا من النتائج العملية التى وصل إليها المصرى كانت عن طريق إتجاهه إلى بعض النواحى النظرية أى أنه سما بتفكيره عن تحقيق أهداف عملية فى دراسته لبعض النواحى العلمية، ومهما

كان الأمر فإنه في كل إنتاجه في المراحل الأولي من حضارته كان يهدف أصلا إلى تحقيق منفعة في حياته العملية شأنه في ذلك شأن الشعوب الأخرى. وإذا ما أردنا دراسة مظاهر الحضارة المصرية المختلفة فان من الملائم أن نتحدث عنها على أنها مظاهر لمجتمع نشيط راق وصل إلى مرتبة عالية من التنظيم وبالطبع تحتل الأسرة المكانة الأولى فى دراسة أى مجتمع من المجتمعات وتمثل الحياة اليومية لأفرادها مظاهر الحضارة المختلفة.

الاسرة

الأسرة إذا ما أردنا أن نتتبع تقاليد الزواج والنظام الأسرى في مصر القديمة فإننا لا نكاد نجد ما يشير إلى هذه الأمور في بداية العصور الفرعونية، ويخيل إلينا أن المصري في عصور ما قبل الأسرات كان يتخذ زوجة كأليف تعاونه في حياته وتنجب له الاطفال شأنه في ذلك شأن الإنسان في كل المجتمعات البدائية البسيطة، فإنجاب الذرية من أهم البواعث على الزواج في تلك المجتمعات -ويستدل على أن المصرى القديم قد توخى هذا الغرض من تماثيل السيدات التى وجدت في عصور ما قبل الأسرات فهى عموما تماثيل لسيدات متضخمات الأثداء والبطون وهى في هيأتها وتكوينها تدل على أن المقصود منها تمثيل الأمومة وانجاب الذرية، "شكل 1" ومن نصائح أحد الحكماء لشاب يحضه على الزواج قوله له أن يتخذ له زوجة في شبابه "فإن أحسن شئ في الوجود هو بيت الإنسان الخاص به" وأن "تلد له ابنا" -ويبدو أن الاحتفاظ بالزوجة لم يكن سهلا كما هو الحال في سائر الجماعات البدائية فربما كان القوى يغتصب زوجة الضعيف ويتخذها

لنفسه ولذا نجد أن الملك المتوفى يوصف فى نصوص الأهرام بأنه "يأخذ النساء من أزواجهن على حسب رغبته". ولا نعرف طقوس الزواج فى مصر القديمة إلا أن من المرجح أنه كانت هناك عقود قانونية كما يفهم ذلك من أقوال الحكماء في نصحهم لمن يستمعون إليهم عند الإشارة إلى الزوج بقولهم "لكى يؤسس المرء لنفسه بيتا" مما يدل على أن هناك إتفاقا من نوع ما أو عقدا يكتب بصورة خاصة1. "شكل 1" تماثيل سيدات من العصر قبل التاريخى. أما مركز المرأة فى مصر القديمة فكان على خلاف ما يعتقده الأوربيون عن نساء الشرق إذ أن هؤلاء يعتقدون بأن المرأة في الشرق ملهاة للرجل وأنها لعبته ولمجرد تسليته والوقوف على راحته وظنوا أن الحالة في مصر القديمة لم تكن تختلف عن ذلك إلا أن هذا القول يتنافى مع الواقع فالمرأة فى الشرق من الناحية العملية تحظى بمكانة أعظم بكثير من مكانة المرأة الأوروبية ولها من الحقوق مالا تحلم به هذه الأخيرة في كثير من الأحيان. وعلى أية حال احتلت المرأة مركزا هاما في مصر

_ 1 إرمان-رانكه "ترجمة أبو بكر ومحرم كمال" "مصر والحياة المصرية" "القاهرة سنة 1953" ص 162.

القديمة وظهرت سيدات عظيمات قمن بأدوار كبيرة في التاريخ، وكانت الزوجة الشرعية لاتقل مركزًا عن الزوج فهي على قدم المساواة معه وقد مثلت في تماثيل الدولة القديمة في حجم يكاد يكون مساويًا لحجم الرجل "شكل 2" وتضع يدها حول رقبته أو وسطه في تآلُفٍ وكانت تشترك في صيده ولهوه وفي الإشراف على أعماله المختلفة. أما في العصور المتأخرة نسبيًّا فقد روعي أن تمثل الزوجات بحجم أصغر من حجم أزواجهن لأسباب فنية أو تقليدية. "شكل 2": تمثال منقرع وزوجته بمتحف بوسطن وكان من النادر أن يجمع المرء أكثر من زوجة شرعية ومع هذا كانت الزوجات الشرعيات للشخص الواحد في درجة عظيمة من الوُدِّ

والتآلف فمثلا نجد أن "إميني" الذي كان نبيلا من نبلاء الدولة الوسطى كانت له زوجتان شرعيتان: إحداهما تسمى: حنوت، والآخرى تدعى: نبت، وقد أنجبت له الأولى ثلاث بنات وولدًا واحدًا، أما الثانية: فكان لها ولدان وخمس بنات وقد أسمت "حنوت" بناتها جميعًا باسم الزوجة الثانية، وسمت الأخرى ثاني بناتها باسم "حنوت" ويدل هذا على مقدار الصفاء بينهما1. وفي العصور المتأخرة لم تنشر عادة الزواج بأكثر من واحدة إلا في الطبقات الدنيا أو عند الملوك فقط وحكام الأقاليم وذلك لأسباب تتعلق بالوراثة أو لأسباب سياسية فأحد حكام الأقاليم في الدولة الوسطى قد أصاب ميراثًا عن طريق زواج والده بإحدى السيدات اللائي يرثن أحد الأقاليم أي أنه لم يكن له الحق في وراثته إلا عن طريق هذا الزواج، كما أن الملوك في الدولة الحديثة عمدوا إلى مصاهرة بعض ملوك دول الشرق المجاورة، ومن أبرز هذه الزيجات: زواج رمسيس الثاني بابنة ملك الحيثيين بعد عقد معاهدة الصلح بينهما، وقد جاء هذا الزواج توكيدًا للتحالف بينهما. وكان الزواج يتم غالبًا في سن مبكرة فالولد يتزوج عادة في سن الخامسة عشر أما البنت فكانت تتزوج في الثانية عشرة، وكان زواج الأخت قاعدة متبعة ويمنح الوالد ابنته لولده ليتزوج منها وتطور الأمر فأصبحت كلمة الأخت تطلق لتعني الحبيبة أو الخليلة كما كانت تدل على الزوجة ولم تكن هناك غضاضة في زواج الأخت فقد نشأت هذه العادة على الأرجح

_ 1 إرمان، رانكة "المرجع السابق "ص: 159".

في المجتمعات الصغيرة لظروف حتمتها البيئة حتى تحافظ على دمائها وظل الملوك في مصر يتبعونها للمحافظة على الدم الملكي المقدس في دائرة البيت الملكي نفسه. ورغم الزواج المبكر كانت الحالة الخلقية بين الأزواج عادية في معظم الأحيان ولكن شابتها بعض الشوائب في أحوال نادرة إذ إن أمثلة وردت عن حدوث بعض الخيانات الزوجية إلا أنها لم تكن شائعة. وكان ينظر إلى الأرملة نظرة الحذر وكان الحكماء يحضون الشباب على تجنب الالتقاء بها حتى لا يقعوا في حبائلها كما أنهم كانوا ينفرون من المرأة المجهولة الأصل1. ولم يكن النبيل أو العظيم ليقتصر زوجته الشرعية فقط بل كان يتخذ بعض المحظيات فكان له بيت للحريم -شأنه في ذلك شأن الملوك- كان يعرف باسم: بيت المحجبات، ويخضع لرقابة شديدة. ولم يكن للحريم حقوق الزوجات الشرعيات، وليس لأبنائهم ولا لبناتهم حقوق شرعية، ولم يظهرن في الحفلات على قدم المساواة مع الزوجات بل كان مركزهن في المؤخرة دائمًا، وكان على المحظيات أن يقمن بالغناء وبالترفيه عن السيد، ومع هذا فقد وجدت أمثلة كثيرة للعتق وتشير إلى ذلك نصوص مختلفة وبعض النصوص تشتد في عتقهن والاحتفاظ لهن بالحقوق الشرعية كالأحرار2. وكان مركز الأم عظيمًا للغاية وكان المرء ينسب إليها أحيانًا لا إلى

_ 1 Max. d' Anii 2.13FF 2 Rec. Trav 29, 166, ASA 14, 23, JEA, 26, 23 FF

والده فيضاف اسم الأم بعد اسم الشخص، وكان التوريث في الدولة الوسطى يسير على نظام ابن الأبنة الكبرى هو الذي يرث لا الابن الأكبر كما أن جِد الشخص من جهة أمه كثيرًا ما كان يتوسط لحفيده في نيل الحظوة لدى البلاط أو في الحكومة، ولم يكن الابن ليرث عن أبيه شيئًا إلا بعد أن يقرر الملك ومستشاروه ذلك، لكي يوضع في مكان والده؟ 1. ومن جهة أخرى كان يراعي دائمًا أن يحمي الابن اسم والده وأن يخلده فهو يشرف على تقديم القرابين له ويحافظ على مقبرته وإبقاء آثاره لأن المصري كان يعتقد أن زوال اسمه من النقوش هلاك أبدي له؛ ولذا كثيرًا ما عمد بعض المصريين إلى إزالة أسماء بعض السابقين للانتقام منهم، ومع كل لا نجد أمثلة كثيرة يفتخر فيها الابن بوالده، بل ولم نجد سلسلة نسب كاملة تستمر عدة أجيال إلا في العصور المتأخرة وربما ذلك لصعوبة التعرف على الأجيال السابقة وذلك لأن الشخص كثيرًا ما كان يغير اسمه في بعض مراحل حياته كما أن بعض الأشخاص كانوا يعرفون بأسماء التدليل لا بأسمائهم الأصلية وأصبحت أسماء التدليل هذه واختصارات الأسماء شائعة منذ الدولة الوسطى على الأقل. أما الروابط العائلية بين أفراد الأسرة المختلفة فقد كانت تشوبها بعض الشوائب أحيانًا وذلك لانتشار عادة التسري ووجود الكثير من الرقيق الأجنبي وكان المصري ينظر إلى هؤلاء نظرة التحقير بل أنه كان ينظر

_ 1 إرمان، رانكة "المرجع السابق" "ص: 165، 166".

إلى الأجنبي عامة نظرة الاحتقار شأنه في ذلك شأن الأمم التي تنهض وخاصة إذا كانت الأمم الأخرى أضعف منها ويتمثل هذا في تعريف المصري للمصريين بأنهم: الرجال أو بني الإنسان. وللبدو بأنهم: سكان الرمال أو الصحراء. ولأهل الجنوب بأهل كوش الخاسئين، ومن الأمثلة الواضحة على احتقار أهل البلاد الأخرى مانجده في نص يمثل شكوى أحد الأبناء إلى الوزير في حق والده الذي كتب جزءًا من أملاكه لزوجته الثانية، فقد أجاب الوزير على هذه الشكوى بأن الوالد حر فيما يمتلك حتى ولو كانت تلك الزوجة التي أعطاها ليست زوجته بل محبوبه أجنبية آسيويه أو نوبية1. وكثيرًا ما كانت الزوجة الثانية وخاصة التي لا أولاد لها، تُعامل بشيء من القسوة من أولاد زوجها وإن كنَّ أحيانًا يعاملن معاملة طيبة ويحظين بمركز ممتاز وبالطبع كان المال عاملا مهمًّا في تحديد بعض أنواع العلاقات التي كانت تسود في الأسرات. أما فيما يختص بالأطفال وتنشئتهم فإنهم في عهد الدولة القديمة كانوا يتركون لحريتهم حتى سن الرابعة تقريبًا وكثيرًا ما تمثلهم النقوش وهم عرايا مجردين من اللباس يلعبون أو يصحبون آباءهم في نزهاتهم وصيدهم، أما بعد الدولة القديمة فيندر أن نجد صورة لطفل مجرد من اللباس، وكانوا يذهبون إلى مدارس تلحق بالمعابد غالبًا ولكن أبناء النبلاء وذوي النفوذ كانوا يذهبون إلى مدارس البلاط حيث ينشئون مع أبناء الملك وكانت العلامة المميزة لأبناء الملوك والنبلاء خصله من الشعر أشبه بالضفيرة على جانبي الرأس. ومع أنهم كانوا يعاملون بشيء من الحزم في تربيتهم أكثر

_ 1 JEA 13, PL. XIV, p 32

من أطفال العصر الحالي إلا أنهم كانوا يحظون بالكثير من اللُّعب التي وجدت منها نماذج في بعض المقابر ومنها أنواع متقدمة في صناعتها وفكرتها كثيرا 1. وقد روعي في قواعد السلوك أن تجعل من الإنسان شخصًا ممتازًا في عمله وفي علاقته مع الآخرين وهي تحضُّ على التعليم والابتعاد عن الشرور والآثام وعن قرناء السوء، ومن تعاليم بعض الحكماء نتبين أن السلوك في حضرة العظماء كان معقدًا يشوبه الكثير من التكلف ولا يكاد يختلف كثيرًا عن قواعد السلوك الحالية، ومن أمثلة ذلك ماورد على لسان أحد الحكماء: "إذا دعيت إلى حضرة العظيم فلا تجلس إلا إذا دعاك وإذا دعيت إلى الطعام فكل مما هو أمامك ولا تنظر إلى ما يأكله ذلك العظيم، اضحك عندما يضحك فإن هذا مما يبهج قلبه.. إلخ". أما عن وسائل الترفيه وقتل أقات الفراغ: فكثيرًا ما كانت الأسرة تشترك في الخروج مع عميدها في رحلات صيده ولهوه، فبعض النقوش تبين لنا الرجل واقفًا في زورقه وهو يقوم بصيد الطيور أو الأسماك في المستنقعات ومعه زوجته وأولاده وقد يصحبهم قط أليف يأتي بالطيور المصابة إلى القارب، أما في رحلات الصيد المحفوفة بالمخاطر مثل: صيد فرس النهر والتمساح وصيد الحيوانات المفترسة في الصحاري فأغلب الظن أن الرجال هم الذين كانوا يخرجون فيها وحدهم إذ لم يَرِدْ في النقوش ما يبين اصطحابهم لعائلاتهم فيها، غير أنه في أحوال نادرة كان يطيب لبعضهم

_ Garstang Burial Customs, pp. 151 ff; Petrie, Naqada & Ballas, pp. 34 f; Petrie Kahun, Pl. 30, 57& Pl. IX, 18- 20.

أن يصحبوا زوجاتهم في صيد الصحراء حيث تقوم كلاب الصيد بدور مهم فيها إذ تكون حيوانات الصيد الرئيسية من الأرانب والغزلان التي يسهل للكلاب الإمساك بها، وكثيرًا ما كانت تقام في الصحراء ساحة مسورة بحواجز "جدران" في هيئة الشباك تساق إلى داخلها حيوانات الصيد حيث كان الملك في الدولة القديمة يمتع نفسه بإطلاق سهامه عليها بينما يقف على خدمته عدد من الخدم يقدمون له السهام التي يطلقها، وقد حاكى أمراء الأقاليم ملوكهم في هذه الرياضة منذ عهد الفوضى الأول، أما في الدولة الحديثة فإن الملوك كانوا مولعين بصيد الحيوانات المتوحشة ومواجهتها في العراء لما في ذلك من إثارة وحماس رغم الخطورة التي كانوا يتعرضون لها. أما تسلية الأسرة داخل الدار فتنحصر في مشاهدة رب الدار وأسرته لبعض المتصارعين وهم يعرضون ألعابهم في مرونة وخفة ومهارة "شكل 3". "شكل 3": فريق من المتصارعين. أو بعض المتبارزين المسلحين بعصي قصيرة ويتقون ضربات خصومهم بأذرعهم الطليقة التي تحميها سيور جلدية شدت إليها، وقد تشاهد الأسرة

كذلك عرضًا لبعض الفتيات يلعبن بكرات صغيرة ألعابًا فيها كثير من المهارة والحذق أو يؤدين حركات بهلوانية أو يقمن بالرقص وهو ما كان يقوم به الرجال كذلك في بعض الأحيان، وكثيرًا ما يبدو في مناظر الرقص ما يمثل اللوحات الحية أو رقص الباليه "شكل 4"، وكانت الموسيقى "شكل 4": راقصات يمثلن لوحة حية والتصفيق بالأيدي والغناء ترافق الرقص في كثير من الأحيان، وقد أغرم المصريون بإقامة الحفلات التي كانت لا تخلو من الموسيقى والغناء والشراب. ولم يقتصر المصريون على ضروب التسلية الرياضية أو مشاهدة فرق المصارعين والراقصين وغيرهم والاشتراك في الحفلات المختلفة بل كانت لديهم أنواع أخرى من الألعاب وضروب اللهو فمن ذلك مثلا: قيام بعض الصبية بلعبه يَتَكَهَّنُ فيها أحدهم بمن يضربه وهو راكع لا يرى أيدي زملائه حين يهوي أحدهم على ظهره "شكل 5" أو يشتركون في قذف أداة ذات سن مدببة على لوحة من الخشب وغيرها من الألعاب التي تحتاج إلى مران ومهارة، كما أن الألعاب التي تحتاج إلى إعمال الفكر كانت محببة لديهم في سائر عصورهم ومنها ما يشبه رقع الشطرنج أو الداما الحالية، ومنها لعبة كانت رقعتها

"شكل 5": لعبة محاولة معرفة الضارب ذات مقبض وقد رسم عليها شكل أفعى مُلْتَفَّة حول نفسها ولكنها مقطعة في بعض الأماكن وكان المتباريات يلعبانها بوضع تماثيل صغيرة للأسود والكلاب على جسم الأفعى، ويبدو أن الفائز هو الذي يستطيع إخراج تماثيله من ذلك التيه الممثل في شكل جسم الأفعى بشروط معينة "شكل 6" وغير ذلك من الألعاب التي لم يكن التوصل إلى طريقة لعبها أو قواعدها. "شكل 6": لعبة الثعبان

الملك

الملك مدخل ... الملك كان الملك على رأس المجتمع وهو سيده فذاته مَصُونة ولا تُمَسُّ، ولم يصل إلى هذه المكانة بالطبع إلا بعد تعاقب أجيال عديدة من الجماعات التي عاشت في وادي النيل، إذ يمكننا أن نتخيل أن هذه الجماعات كانت تسلم قيادها إلى زعماء أفرادها وتثق كل جماعة في زعيمها وتعترف له بالقوة والسيطرة، ثم أخذت هذه الجماعات تندمج معًا وانتقلت الزعامة إلى أيدي أقوى زعيم من هؤلاء، وبالطبع لم يكن ليصل إلى الزعامة إلا من تمتع بمييزات يعجز عنها غيره من الأفراد مما أدى إلى أن تنسب إليه قوى خارقه وأن يحاط بمظاهر الإجلال والقدسية ولكنه في نفس الوقت كثيرًا ما كان عرضة لأن يصبح هدفًا للحاسدين والمنافسين الذين يتحينون الفرص للإيقاع به والتخلص منه لإبداله بغيره، وليس من الضروري أن يكون العامل على التخلص منه عدوًّا بل قد يكون من أقرب المقربين إليه إذ يتصور أنه أحق منه بالمكانه التي يتمتع بها. ولا شك في أن حروبًا كثيرة دارت بين الأقاليم المختلفة إلى أن وحدت هذه الأقاليم في قطرين: "مملكة الوجه القبلي ومملكة الوجه البحري" واستمر الحال على هذا المنوال زمنًا طويلا قبل أن توحد المملكتان توحيدًا مؤكدًا، وبالطبع أخذت مكانة الزعيم الأقوى تزداد ويعظم توقيره، وما أن صار هذا ملكًا حتى كانت قدسيته قد بلغت أوجها ونسب إلى الآلهة، ونظرًا لطول الأمد الذي عاشت فيه مملكتا الوجه القبلي والبحري منفصلتين فقد حرص الملك على إبراز حكمه لهذين القطرين فأصبح يطلق على نفسه: موحد القطرين، أو سيد القطرين.

ومن البديهي أن تنتقل كل الحقوق والواجبات التي كانت لزعيم الجماعة إلى ملك البلاد، وبما أن الزعيم كانت له السلطة المطلقة على الجماعة يتصرف في شئونها ويرعى حقوقها ويدافع عنها فقد أصبح الملك صاحب الحق المطلق في كل أملاك الدولة، وإذا سمح بإعطاء شئ منها إلى بعض المقربين له فإنما يكون ذلك من قبيل المنحة أو العارية التي يستطيع أن يستردها حينما يشاء بل وكانت الرعية من الناحية النظرية على الأقل ملكًا له يتصرف فيها وفق مايريد، وكان هو المحور التي يدور حوله كل شئون الدولة وهو المسيطر عليها والمتصرف فيها، إلا أنه في الواقع لم يكن ليستطيع ذلك إلا بمعاونة الوزراء وعدد من المستشارين الذين يستعينون بدورهم بالعديد من الموظفين والكتَّاب، وإلى جانب هؤلاء يعمل قوَّاد الجيش وجنودهم والكهنة وأتباعهم على احتفاظ الملك بسلطانه وإعلاء شأنه والمعاونة في تصريف شئون الدولة، وفي مختلف الأقاليم كان يمثل الملك أمراؤها الذين كانوا يستعينون بدورهم بأجهزة مصغرة لما هو موجود بالعاصمة. وكان على الملوك أن يحسنوا علاقاتهم بكل هذه السلطات وفي نفس الوقت كانوا يعملون على عدم تهديدها لسلطانهم، وما دام الملك كان قويًّا فإنه كان ينعم باستقرار الأمر له، وازدهرت البلاد ونعمت بالأمن والهدوء في حين أن ضعف الملوك كان يؤدي إلى كثرة الدسائس من حولهم وقد ينجم عن ذلك إسقاطهم على أيدي مغتصبي العرش أو قيام الثورات ضدهم وإن لم يكن هذا ولا ذاك فإن كلا من الطوائف المختلفة التي تعاون الملك في تصريف أمور الدولة تعمل على زيادة نفوذها والإكثار من الامتيازات التي تتمتع بها وتسوء أحوال الدولة ويعم فيها الفساد.

ومع أن الملك كان ينسب إلى الآلهة بل واعتبر في نظر المصريين إله كما يتضح ذلك من الألقاب التي كان يتخذها1، كذلك كانوا يشيرون إليه بلفظ: "الإله"، "حور الذي في القصر"، "الإله الطيب" ... إلخ، وبعد موته يطلقون عليه: الإله العظيم، إلا أن فكرة ألوهية الملك الحي لم تمثل ماديًّا إلا ابتداء من عصر الأسرة الثامنة عشر، فمنذ أقدم العصور لم تنشأ معابد لعبادة الملك وهو على قيد الحياة إذ إن أقدم ماعثر عليه من معابد لعبادة الملك وهو مازال حيًّا كان من عهد أمنحتب الثالث2، ومن الممكن أن تكون الفكرة التي ابتدعتها حتشبسوت في معبدها بالدير البحري والتي حاكاها أمنحتب الثالث في معبد الأقصر من تصوير مولدهما كأن الإله آمون نفسه قد اتصل جنسيًّا بوالدتيهما وأنجبهما من صلبه مما جعل فكرة إنشاء معبد لعبادة أمنحتب الثالث لشخصه مقبولة لديه إلا أنه لم يبدأها في مصر إذ لم تبدأ عبادة شخص الملك الحي في مصر إلا منذ عهد رمسيس الثاني. ومادام الملوك يتمتعون بمثل هذه المكانة فإنه كان لابد من أن يمتازوا عن رعاياهم في زيِّهم وزينتهم وإن كان لباسهم في أقدم العصور يتسم بالبساطة لا يزيد على إزار قصير ذو شريط يمتد فوق الكتف الأيسر وحزام مثبت به ذيل حيوان من الخلف ويوضع فيه خنجر من الأمام وهذا الزي يشبه ما كان يلبسه صيادو الوحوش في أقدم العصور

_ 1 الألقاب الخمسة الشائعة هي: حور، الرَّبتان -المنتسب إلى الإلهتين: نخبت إلهة الوجة القبلي، ووادجيت إلهة الوجة البحري-، ملك مصر العليا والسفلى، حور الذهبي، ابن رع. 2 في سد نجا، سيصب، صلب بشمال السودان.

"شكل 7" وإلى جانب هذا الإزار كان الملوك يتزينون بنقبة قصيرة تلتف حول الوسط فوق ما يشبه الجعبة التي تستر العورة، وفي الوسط حزام مثبت بمشبك من الأمام نقش عليه اسم الملك وقد أصبح هذا الزي تقليديًّا في معظم العصور الفرعونية. "شكل 7" أحد الملوك بالزي القديم وكان يتحلى بلحية طويلة صناعية مدببة يثبتها إلى ذقنه كما يضع على رأسه عصابة تنحدر على الكتفين بثنايا كثيرة وتلوى في الخلف على هيئة ضفيرة قصيرة فوق العنق ويشدها على الجبهة شريط يمثل على منتصفه الجزء العلوي للأفعى السامة "أوريوس" رمزًا لحمايتها له كأنها تهدد أعداء الملك، بينما يمتد بقية جسمها في خط متعرج فوق منتصف الرأس، أما التيجان فقد كانت تختلف في أشكالها وما ترمز لها فمنها: التاج الأبيض وهو تاج الوجه القبلي وكان على شكل مخروط طويل ومنها: التاج الأحمر وهو تاج الوجه البحري وكان على شكل قلنسوة لها ظهر كمسند مرتفع وحلية ملتوية من الأمام ومنها: التاج المزدوج الذي يجمع بين التاجين السابقين ومنها: التاج الأزرق ... إلخ، ومن شارات الملك

التي كان يستعملها عصًا معقوفة، كان شكلها يستخدم في الكتابة بمعنى: حاكم أو ملك، وأداة تشبه السوط أو المذبة، أما السلاح التقليدي الذي كان يمثل مستخدمًا له في النقوش التي تبينه وهو يقضي على الأعداء؛ فكان هراوة أو دبوس قتال هو عبارة عن عصا قصيرة مثبت في طرفها كتلة من الحجر. وقد تطورت أزياء الملوك بمرور الزمن؛ ولكنها في الغالب لم تختلف عن ملابس الرعية إلا بما تحلى به من زخارف ذهبية على أن النقبة الملكية التقليدية ظلت ملازمة لهذه الأزياء؛ فكانت تلبس فوق الملابس العادية أو تحتها، وإلى جانب شارات الملك السابقة أخذ الملوك منذ عصر الدولة الحديثة يستخدمون سيفًا يشبة المنجل. ومن الطبيعي أن كثرة واجبات الملك وتعقد الحياة الاجتماعية قد استوجبا ظهور الملك بمظهر لائق في المناسبات المختلفة؛ ولذا كان من المحتم مراعاة اختيار الملابس والشارات المناسبة والعناية بها وملاحظة دقة استعمالها واختص عدد من الموظفين في البلاط بهذه الأمور؛ فكان هناك: موظفو خزانة الثياب الملكية، والمشرف على ثياب الملك، وغسال فرعون، ورئيس غسالي القصر، ورئيس القائمين بتبيض الثياب الملكية، والمشرف على صانعي الشعر"المستعار"، وصانع شعر فرعون، وأمناء التيجان ... إلخ. أما الحلي: فكانت لها إدارة مهمة في القصر: إدارة الحلى الملكية ولها رئيس وكاتب ورئيس صناع ورئيس فنانين، والمستشار الخاص بحلي الملك، ومبدع الحلي الملكية. وكان العرش في أول أمره بسيطًا عبارة عن مقعد في هيئة مكعب ذو ظهر قليل الارتفاع، وابتداء من عصر الدولة الحديثة صار هذا المقعد

يوضع تحت مظلة تحملها أعمدة خشبية دقيقة، ويبدو العرش وكأنه يرتكز على رءوس أعداء مصر التقليديين-الزنوج والآسيويين- وتحلَّى المظلة في أعلاها بزخارف في هيئة صفوف من أفاعي الحماية-أوريوس- وفي قاعدتها بأسماء البلاد الأجنبية التي هزمها الملك.

حاشية الملك

حاشية الملك لا يمكننا أن نتعرف على كل أفراد حاشية الملك ووظائفهم في البلاط بصورة كامله؛ ولكن من الممكن أن نتبع الكثيرين منهم إذا تأملنا مناظر الاحتفالات المدنية والدينية التي كان الملك يشترك فيها وخاصة من عهد الدولة الحديثة؛ ففي أقدم العصور كان الملك يتجلى لرعيته في محفَّة يحملها عدد من الجنود ويرافقه موظف كبير يحمل لقب: حامل المروحة على يمين الملك، وهو يحمل مروحة صغيرة رمزًا لمكانته؛ بينما يوجد حامل مروحة كبيرة أمام المحفَّة وآخر من خلفها، وحينما يخرج الموكب الملكي من القصر لحضور أحد الاحتفالات أو للنزهة يجري في المقدمة رجلان يحملان العصي لإفساح الطريق أمام المركبة الملكية التي تشدها خيول مزينة وعلى جانبيها يجري الحرس الملكي ويتبعها عدد من الجنود يمثلون مختلف فرق الجيش ومن بعدهم كبار الضباط في مركباتهم، وإذا صاحبت سيداتُ القصر الملكَ في هذا الموكب؛ فإن عربات الملكة والأميرات تجري إلى جانب عربة الملك. وفي الاحتفالات التي تجري داخل المعابد نجد إلى جانب الكهنة القائمين بالطقوس بعض أبناء الملك الذين حضروا لمشاهدتها ويحيط بالملك عدد من كبار موظفيه، وقد يحمل محفته عدد من أبنائه بينما يقوم عدد آخر منهم باستخدام المراوح ويتقدم الكهنة في

الموكب طائفة من أقارب وأولاد الملك والأمراء العظام وفي طليعة الموكب نافخو الأبواق وقارعو الطبول، معلنين قدوم الموكب. ومما يوضح لنا الدور الذي كان يقوم به بعض رجال البلاط عدد من النصوص التي خلفها هؤلاء وافتخروا فيها بمكانتهم وحظوتهم لدى سادتهم؛ فهناك مثلًا: المشرف على أسرار غرفة الصباح، وهو ما يعادل حاليًا: رئيس الخدمة الخاصة، الذي كان يشرف على ملابس الملك وزينته وتمتد اختصاصاته إلى كثير من الشئون، وكثيرًا ما كان يعهد بهذه الوظيفة إلى ابن الملك، أو إلى أقرب المقربين إليه؛ لأنه في غالب الأحيان كان يتحكم في إدارة القصر أيضًا، وإلى جانب هذا الموظف كان هناك عدد كبير من المقربين إلى الملك وكانت تقاليد القصر صارمة بحيث لا يمكن لأحد هؤلاء أن يتعدى في مثوله أمام الملك المكان الذي يخصص له أو أن يقترب من شخص الملك أكثر مما يستحق، ومع أن لقب: السمير والسمير الوحيد، يوحيان بأن حامل كل منهما لا بد وأن يكون من أتباع الملك الذين يضمهم بلاطه إي أن هذين اللقبين كثيرًا ما كانا يمنحان على سبيل التشريف لأشخاص يعملون في خارج البلاط أو في أماكن نائية عن العاصمة. ومع أن الملوك كانوا يجمعون بين عدد من الزوجات إلا أن زوجة واحدة هي التي تعد ملكة شرعية وهي التي كان يجري في عروقها الدم الملكي أو تكون أولى زوجات الملك، وكان اسمها يوضع في خرطوش كما هو الحال بالنسبة لاسم زوجها وكان نفوذها عظيمًا وخاصة إذا استطاعت أن تتحكم في شخص الملك، وكثيرًا ما كنَّ يلعبنَ دورًا

رئيسيًّا في البلاط بعد وفاة أزواجهن، كما أن بعضهن بلغن مرتبة التقديس كآلهات. وإلى جانب الملكات وغيرهن من زوجات الملك كان الملوك يحتفظون بحريم خاص ومحظيات يخضعن لرئيسة ويشرف عليهن عدد من الموظفين لهم مكانتهم مثل: المشرف على غرف الحريم الملكية، نائب رئيس الحريم، إلى جانب عدد من الحراس الذين يمنعونهن من الاتصال بالعالم الخارجي اتصالًا غير مرغوب فيه، وكثيرًا ما كان بعض النبلاء ذوو المكانة يفخرون بأنهم كانوا يشغلون وظيفة: المشرف على بيت الحريم الملكي، وبأنهم كانوا يعرضون الحريم على الملك ويلاحظون الرقص في القصر، وبالطبع كانت مهمة هذه الحريم تنحصر في تسلية الملك وإدخال السرور إلى نفسه، وكان الوصول إلى مرتبة محظية ملكية يعد شرفًا تتطلع إليه الكثيرات؛ لأن بعضهن كن يتمتعن بحظوة كبيرة لدى الملك وتمنحن ألقاب شرف رفيعة مثل: حاكمة البلاد كلها، سيدة القطرين، الحاكمة الجميلة ... إلخ، وكثيرًا ما كان يفخر بعض العظماء باتخاذ محظيات ملكيات كزوجات لهم. ولا شك في أن تعدد زوجات الملوك وكثرة محظياتهم قد أدى إلى وجود عدد وفير من الأبناء الملكيين؛ ولذا كانت تخصص لهم أملاك معينة كما كانت تسند إليهم مناصب مختلفة دينية وقضائية وإدارية وعسكرية، وقد عني بتنشئة هؤلاء الأمراء في أقسام خاصة من القصر وكان المشرفون على تربيتهم يتمتعون بمكانة سامية فمرضعاتهم -وهن غالبًا من زوجات الأشراف- كن يلعبنَ دورًا مهمًّا في البلاط وخاصة إذا ما أصبح الجالس

على العرش أو الملكة من بين الذين أرضعتهم، كما أن مربي الأمير أو الأميرة كان هو الآخر يعد أعلى شخصيات البلاط. وكثيرًا ما كان الملوك يسمحون بتنشئة بعض أبناء كبار رجال الدولة مع أبنائهم في البلاط ويولونهم عطفهم ورعايتهم؛ ولذا كان هؤلاء يفخرون دائمًا بهذه النشأة عندما يصبحون رجالًا، مهما علا قدرهم. وينبغي أن ندرك بأن كل ملك كان يشمل بعطفه، إلى جانب أفراد أسرته عدد من الأقارب يميزهم لقب: قريب الملك، أو المعروف لدى الملك، ولا يخلو الأمر من وجود أدعياء حملوا هذا اللقب؛ ولذا كان أقرباء الملك الحقيقيون يميزون أنفسهم بلقب: قريب حقيقي للملك، ويمكننا أن نتصور أن الملوك وخاصة في أقدم العصور كانوا لا يسندون أكبر وظائف الدولة إلا من يعيشون على مقربة منهم ومن يتوخون فيهم الإخلاص والحكمة؛ ولذا لا نستبعد أن الوزراء ورؤساء الكهنة كانوا من بين الأمراء الملكيين أو من أقرباء الملك، ويجيء هؤلاء في مركزهم الاجتماعي بعد ملك البلاد وأسرته بالطبع، وكان سراة القوم والنبلاء كثيرًا ما يحملون ألقابًا شرفية كانت لا تمنح صاحبها الحق في القيام بأعباء وظيفية وإن كانت في معناها تدل على أعمال معينة؛ إلا أن ذلك لم يكن ليقصد به إلا إظهار ما لحاملها من حظوة لدى الملك وتتيح له أن يظهر في معيته، ومع كلٍّ يمكننا أن نتخيل أن هذا الإجراء كان وسيلة فعالة لمراقبة هؤلاء بإبقائهم على مقربة من القصر. أما حكام الأقاليم فكانوا يمثلون طبقة خاصة ويجمعون من السلطات مثلما يجمع الملوك في نطاق الأقليم التي يحكمونها، غير أنهم كانوا دون

شك أدنى مرتبة من الوزراء إلا إذا ارتبطوا برباط المصاهرة أو النسب مع البيت المالك نفسه. وفيما عدا هؤلاء الذين أسلفنا ذكرهم جميعًا لا نكاد نتبين من طبقات المجتمع الباقية سوى طائفة الموظفين الذين كان المجال أمامهم مفتوحًا للترقي إلى أرقى المناصب والارتفاع بمكانتهم الاجتماعية، ولا نكاد نتبين من الآثار شيئًا يستحق الذكر من الطبقات الاجتماعية الأخرى إلا أن من الممكن أن نتخيل أن هؤلاء كانوا يمثلون على الترتيب مهرة الصناع والفنانين ثم الكَادِحِين من أبناء الشعب وهم التجار والمزارعون والأُجراء وأصحاب الحرف الوضيعة والرقيق؛ على أنه يبدو أنه كان في الإمكان تحرر بعض العبيد والوصول إلى مكانة اجتماعية مرموقة.

المسكن

المسكن لايمكننا -بالرغم من تقدم الكشوف الأثرية في مصر- أن نكون فكرة واضحة عن أقدم المنازل التي وجدت فيها؛ لأن هذه كانت من موادَّ خفيفة دون شك وكانت باستمرار تقع في نفس الأماكن المجاورة للمجرى؛ فإذا ما دمر منزل أو تهدم حل محله منزل جديد يبنى على أنقاض المنزل الأول؛ ولذا كان من العسير العثور على آثار لأقدم المنازل وإعطاء صورة مؤكدة عنها ومع ذلك يمكن أن نتصور أشكال تلك المنازل من الرسوم التي وردت عن أقدم المعابد المصرية؛ لأنه من المعروف -حسب رأي المحدثين- أن المنزل المصري هو أساس التصميم في المعابد والمقابر ومما يؤيد ذلك أن المصري نفسه كان يطلق على المعبد اسم بيت الإله وعلى

المقبرة بيت الروح أو المنزل الأبدي فكلاهما إذن صمم على غرار المنازل التي أقيمت للأحياء. وأقدم أنواع المعابد كانت عبارة عن أكواخ من الألياف المضفرة ومن سيقان البردي وغيرها من النباتات المماثلة، ولا شك أن المنازل كانت على مثالها، وقد استبدلت هذه في العصور التاريخية؛ بل ومنذ ما قبل الأسرات بمنازل من الطمي كما يستدل على ذلك من نموذج من الطين "شكل 8" وجد في إحدى مقابر الوجه القبلي وهو يمثل المنزل في "شكل 8": نموذج من الطين لمنزل من عصر ما قبل الأسرات

هيئة متوازي مستطيلات مائل الجدران إلى الداخل وكان إطار الباب من الخشب والعارضة الأسطوانية التي تربط القائمتين من الخشب أيضًا، وبالحائط الخلفي للمنزل نافذتان عاليتان متقاربتان تثبت فيهما عوارض قصيرة من الخشب. وقد سبقت الإشارة بأننا لم نعثر على مدن مصرية كاملة؛ إلا في حالات نادرة وقد بنيت هذه المدن لأغراض خاصة وفي عصور خاصة، ثم أهملت وهجرت بعد سكنها بفترة قصيرة؛ فأدى ذلك إلى طمرها بالرمال وأتيحت الفرصة لحفظها، ومن أمثلة هذه: مدينة كاهون، التي ترجع إلى الدولة الوسطى، وهذه المدينة -شأنها في ذلك شأن مثيلتها: أخيتاتون، وتل العمارنة التي بنيت في عهد إخناتون- بنيت دفعة واحدة، أي أنها لم تنمو بالتدريج؛ فهي مدينة مصطنعة؛ ولذا بقي تخطيطها سليمًا في جملته، وعلى ذاك أمكن للأثريين الذين قاموا بالحفر فيها أن يستكملوا النقص في بعض المنازل التي تهدمت واستطاعوا أن يكونوا فكرة صحيحة عن شكل المنازل فيها. وتبلغ مساحة مدينة كاهون حسب الأبحاث الأثرية التي تمت فيها "350×400" متر مربع تقريبًا، ويحيط بها سور من اللَّبِن به فتحتان إحداهما جنوبية غربية، والثانية شمالية شرقية. وتنقسم هذه المدينة إلى قسمين: أحدهما صغير خاصة بمنازل العمال، والآخر كبير كان يقطنه الملك وبعض النبلاء وكبار موظفي البلاط وهو مقر الحكومة أيضًا. ومنازل العمال غاية في التواضع ويشترك كل منزلين في حائطهما الخلفي أما القسم الكبير من المدينة فيقع في الجانب الشرقي منها وينفصل عن القسم السابق بجدار عريض يمتد بطول المدينة، وهذا القسم كان يشغل

نحو ثلاثة أرباع المدينة، ونصفه على الأقل كان خاصًّا بالملك وكبار موظفي البلاط والحكومة، وهو يتألف من عشرة أو أحد عشر منزلًا في حجم القسم الخاص بالعمال، ويفصل كل بيتين حائطٌ مشترك، وإلى جنوب تلك المنازل الكبيرة كانت توجد منازل صغيرة أشبه بالفيلات وهي خاصة بالنبلاء وإن كان بعض هذه المنازل الصغيرة كبير الحجم متعدد الحجرات ومنها ما يضم نحو سبعين قسمًا بين غرفة ودهليز "شكل 9". وأهم الأجزاء الرئيسية في أي منزل من منازل النبلاء هو: المدخل وحجرتان للبواب ودهليز يتفرع إلى فرعين: أحدهما يتجه إلى بيت الرجال والآخر يتجه إلى قسم الحريم. أما منازل العمال والطبقات الدنيا من الشعب فكانت كما ذكرنا بسيطة متواضعة. وهي على العموم تتألف من ردهة تحيط بها بعض غرف وكانت أحيانًا تتكون من طابقين. أما في الدولة الحديثة فأحسن الأمثلة للمنازل فيها تلك التي وجدت في تل العمارنة وهي كذلك على نوعين: منازل لأفراد الشعب عبارة عن غرفة رئيسية في الوسط تبعدها ردهات تفصلها وتخفيها عن أنظار الداخلين، وفيها سُلَّم يؤدي إلى السطح، ولها غرفتان خلفيتان، كما توجد بها أحيانًا غرفة للاستحمام، أما منازل السادة، فكانت أشبه بالدوَّار في الريف المصري الحالي، فبعد المدخل الرئيسي يوجد فناء، ومن هذا يصعد سُلَّم إلى قسم الرجال، ويليه مباشرة بَهْو أعمدة أو مكان للاستقبال يجلس فيه صاحب الدار، وبجوار هذا الجزء توجد غرفة للطعام، ومن هذه يفتح باب إلى حجرة أخرى للاستقبال، وهي صغيرة نسبيًّا، ويلي هذه سُلَّم يؤدي إلى الدور العلوي أيضًا، حيث يوجد القسم الخاص بالسيدات.

"شكل 9": رسم تخطيطي لمنزل من كاهون وحول حجرات الاستقبال توجد المخازن وبعض الحجرات الخاصة بموظفي الدار، ودورات للمياة، وكذلك توجد بعض الحظائر، والفناء الأمامي للدار ينفتح في حديقة كبرى مجاورة للمنزل قد يكون لها مدخل خاص آخر وفي بعض الأحيان يوجد بها معبد خاص "شكل 10" وكانت

"شكل 10" رسم تخطيطي لمنزل من العمارنة الأبواب والنوافذ في هذه الدور قليلة العدد عادة والنوافذ صغيرة المساحة وترتفع إلى قرب السطح وكانت الجدران تزين في كثير من الأحيان وبعض المنازل يطلى من الخارج. وكانت هذه المنازل تزود بأثاث كافٍ من أسرة ومساند رأس ووسائد وكراسي وغالبًا ما كان هذا الأثاث دقيق الصناعة مزخرفًا بمختلف الزخارف وخاصة في عصر الدولة الحديثة بل وابتداء من أواخر عهد الدولة الوسطى؛ كان الأثاث يطعم بالأصداف والأخشاب الثمينة وبعض الأحجار الكريمة وشبه الكريمة، وبعد أن ازدادت الصلة بشمال السودان

كان الأثاث يطعم بالعاج والآبنوس وتطورت أشكال موائد الطعام والأواني، وظهرت أشكال كثيرة لقدور المشروبات وقواعدها وربما كانت هذه منقولة عن طراز آسيوية كما زينت صناديق حفظ الملابس بالنقوش والرسوم المختلفة التي تمثل مناظر الصيد والحروب وغيرها، وما زال أثر ذلك يطالعنا في العصور الحديثة حيث نجد مثل هذه الصناديق في الريف المصري الآن، وغالبًا ما كانت جدران المنازل تغطى بستر من الحصير، كذلك وجدت مواقد فحم للتدفئة وكثر استعمال المصابيح وتعددت أشكالها وأشكال قواعدها، كما وجدت أدوات للاغتسال ولسائر الأغراض الأخرى. وكانت هذه الدور تزود بأماكن مخصصة للطبخ وأماكن لمختلف الصناعات والأعمال المنزلية، وهذه الأعمال لا تقتصر على الأعمال البسيطة التي نزاولها في منازلنا في الوقت الحاضر بل كانت متعددة ومعقدة فكانت كل دار أشبه بمصانع صغيرة متعددة تجتمع تحت سقف واحد ولكلٍّ من هذه عمالها المختصين وإلى جانب هؤلاء موظفين إداريين وعمال للشئون المنزلية مثل: البساتين والطباخين والخدم والكتاب والحرس. أما طوائف الصناع الذين كانوا يعملون في المنازل فمن أهمهم: صناع الجعة والخبازين وصناع الأواني الفخارية والنجارين وغيرهم، ولا يفوتنا أن نذكر هنا بأن المائدة المصرية كانت معقدة تعددت فيها أنواع الأطعمة بل وتعددت أنواع الصنف الواحد منها مثل: الخبز وكانت الحفلات والمآدب غاية في البذخ والإسراف مما يدل على اهتمام المصري بطعامه اهتمامًا بالغًا، كما كان يميل إلى التأنق فيه والعناية به في معظم أطوار حياته فلا تكاد تخلو مناظر الحفلات والموائد من تمثيل الزهور وكثيرًا ما كانت ترتب في شكل بهيج.

ودراسة المنازل المصرية تدل على أن المصري عامة وصل إلى أقصى ما يمكن الوصول إليه في سبيل تهيئة مسكنه لراحته وراحة عائلته كما كان يتوخى في تصميمه أن يحقق أغراضه الصحية والاجتماعية.

الملابس والزينه

الملابس والزينه مدخل ... الملابس والزينة يبدو أن الإنسان في البداية كان يتخذ من الجلد رداء يغطي جسمه وفي ذلك كان يستوي الرجال والنساء، وقد ظل الجلد مستعملًا بعد ذلك في عصر الدولة القديمة؛ ولكنه أصبح قاصرًا على فئة خاصة هي فئة الكهنة التي استعملت جلد الفهد كزي تقليدي ديني فوق نقبة بسيطة في كل العصور الفرعونية. وأقدم لباس للرجال كان عبارة عن حزام حول الوسط يشد إليه ما يشبه الجعبة أو الكيس لستر العورة، بعد ذلك ظهرت النقبة القصيرة البسيطة وهي تشبه قطعة القماش -الفوطة- التي يلفها بعض الصيادين أحيانًا في بحيرة المنزلة حول وسطهم تصل إلى الركبة تقريبًا وهى تعرف في مصر القديمة باسم: شنديت، -شكل "7"- وتكاد تكون هذه من أول ما استعمل من الملابس؛ فهي من عصر مبكر جدًّا؛ بل ويخيل إلينا أنها استعملت منذ أن عرف الإنسان النسيج وهي تعد الأساس الذي قامت عليه جميع الأزياء الخاصة بالرجال في العصور التالية وأقدم الرسوم الدالة عليها تصورها في هيئة خطوط تتدلى من الحزام وتتعامد عليه أي أنها في هذا تذكر بألياف النخيل أو السمار أي أنها تشبه زي السكان الأصليين في جزر هاواي. ثم أصبحت هذه النقبة بيضاء مستطيلة الشكل تثبت حول الوسط

بحزام وتترك الركبة عارية غير مغطاة وقج أصبحت جعبة العورة غير ضرورية؛ ولكنها ظلت لباسًا تقريبًا؛ كذلك كان هذا الكيس يمثل في تماثيل بعض الآلهة ونقوشها، وربما كان هذا الزى "أي الجعبة" من أصل أفريقي؛ فبعض القبائل ما زالت تستعمله حتى زمننا هذا. وعند الصيد كان يضاف إلى الإزار القصير "الشنديت" ذيل الحيوان، وقد انقرض هذا هو الآخر إلا من ملابس الملك. وظلت النقبة الضيقة الكتانية هى القطعة الرئيسية في لباس المصري في الأسرة الأولى والدولة القديمة وكان يلبسها أفراد من ذوى المراكز السامية حتى عهد الأسرة الرابعة، ثم اقتصر استعمالها بعد ذلك على الكتبة والخدم والفلاحين؛ فالمعروف أن التطور يبدأ أولًا فى البيت الملكي ثم يقلده النبلاء وهؤلاء يقلدهم من يتلوهم من الطبقات بعد أن يفقد الشكل الجديد رونقه عند الطبقة الخاصة، وبعد ذلك يصبح شائعًا في الطبقات الدنيا؛ بينما يتخذ العظماء زيًا جديدًا آخر وهكذا. ولم يخرج المصرى عما جرى به العرف أيضًا من مراعاة لظروف السن فما كان ملائما السنين لم يكن مناسبًا لحديثي السن. ومنذ عهد خفرع اتخذ النبلاء نقبة أوسع وأطول عن ذي قبل وتغالوا في ذلك من أواخر الأسرة الخامسة، وأصبحت النقبة بارزة من الأمام ثم قصروا في شكلها في عصر الأسرة السادسة؛ ولكنها كانت أحيانًا تزخرف بخرز منظوم؛ إلا أن ذلك لم يدم طويلًا إذ بطل استعمال الخرز بانتهاء عصر الدولة القديمة -وفى نفس الوقت تقريبًا أي في نهاية عصر الدولة القديمة

بدأ الخدم والفلاحون يستعملون نقبة أوسع مقلدين بذلك خدم العظماء الذين كانوا قد بدءوا محاكاة أسيادهم، وفي أحوال نادرة استعمل الرجال ملابس طويلة سابغة تشبه القميص وتصل إلى قرب القدمين وغالبًا ما كان يظهر بها الموتى الممثلين أمام موائد القرابين، ويبدو أن هذا الزي كان يستعمله المسنون في نهاية حياتهم أي في الفترة التي تسبق وفاتهم، وكان هناك رداء للاحتفالات يلبسه العظماء وهو من النوع القديم القصير، وربما كان أوسع منه قليلًا ويتميز عنه بشكله الأنيق المستدير من الأمام وفيه يبرز طرف رفيع من النقبة من تحت الحزام مرتفعًا إلى أعلى أو شريط خاص ويزين بمشبك أنيق أو أنشوطة جميلة يكتب عليه أحيانًا اسم صاحبه ويزخرف الجزء الخلفي من الإزار بقطعة من القماش الذهبي ذي الثنايا. "شكل 11" "شكل 11": الزي التقليدي في الدولة القديمة

وفي حالات خاصة من الدولة القديمة والوسطى "الكهنة فقط" كان رداء الحفلات يكمل بجلد فهد يضعونه على أكتافهم؛ بحيث تنحدر رأس ومخالب الحيوان الأمامية إلى أسفل وتربط المخالب الخلفية بشرائط فوق الكتف، وقد ظلت هذه الملابس دون تغيير في عهد الفوضى الأول، اللهم إلا أن النقبة استطالت إلى منتصف الساق. وفي الدولة الوسطى زخرف الطرف الأعلى للنقبة بحاشية مطرزة أو بعمل ثنايا أنيقة في الجزء الأول منها، وكان النبلاء يتخذون نقبة خفيفة شفافة فلبسوا تحتها نقبة داخلية، أما العامة؛ فقد اقتصروا على نقبة سميكة، وقد عاصر النقبة المزدوجة التي كان يرتديها النبلاء معطف قصير أو ثوب ضيق محبوك مخطط يغطي الجسم من الرأس إلى القدمين. ولم يطرأ على ذلك تغيير يذكر فيما بين الدولتين الوسطى والحديثة؛ غير أن الأشكال الفاخرة أخذت تطغى على الأشكال البسيطة ولم يحتفظ بالنقبة البسيطة؛ إلا الكهنة. وفي عهد الدولة الحديثة بالذات أدى احتكاك مصر بالبلاد الآسيوية في الشمال إلى تغيرات سريعة في الزِّي؛ فمنذ عهد حتشبسوت غطي الجزء الأعلى من الجسم بقميص فضفاض؛ ولكنها تغيرت من جيل لآخر؛ ففي بداية النصف الثاني من الأسرة الثامنة عشر استطالت النقبة الخارجية من الخلف وقصرت من الأمام وفي نهاية الأسرة كانت النقبة الداخلية طويلة فضفاضة أما الخارجية فكانت ترفع وهي منتفخة فتظهر من تحتها النقبة الداخلية وكان الجزء الأمامي منها ينتهي بثنايا سميكة وتتدلى أطراف الحزام كشرائط طويلة. وقد أخذت النقبة الخارجية تقل في الأهمية في الاحتفالات حتى

أصبحت قطعة من القماش تلف حول الخصر؛ بينما أصبحت النقبة الداخلية فضفاضة ذات ثنايا، وتعددت أشكال هذه النقبة الداخلية فكانت أحيانًا قصيرة من الأمام وتغطي الساقين من الخلف وفى أحيان أخرى كانت تتخذ شكل النقبة القديمة أو كانت تلف حول الخصر مرتين أو ثلاث. أما الجزء الذي يغطي الجسم من أعلى فظل ثابتًا تقريبًا؛ ولكنه في عصر الأسرة التاسعة عشر أصبح أكثر اتساعًا، أما المعطف الذى كان يغطي الظهر ويربط من الأمام على الصدر؛ فقد ظل مستعملًا كذلك وظهر الملوك فيه كثيرًا ولم يلبسه الأشخاص إلا فى الحفلات. وقد وجدت ملابس خاصة ترتديها طبقات معينة من الشعب أو ملابس تدل على وظيفة لابسها وهذه وجدت في جميع العصور فالملك -مثلًا- كان يلبس في الحفلات التذكارية قميصًا قصيرًا ونقبة ملكية لها ذيل حيوان ثم أصبحت هذه النقبة في متناول طبقات عدة فيما بين الدولتين الوسطى والحديثة حتى إنها في عهد الأسرة الثامنة عشر أصبحت زيًّا شائعًا بين المشرفين على كل أنواع الإدارات في المناسبات الرسمية فقط، وإن كانوا أحيانًا يلبسون زيًّا مشابهًا، ومع كل فحينما قضت ظروف التجديد باستعمال نقبة خارجية؛ فإنهم كانوا يرفعون هذه ويربطونها حتى تظهر النقبة الداخلية من تحتها؛ إشارةً إلى مكانتهم، ومن علامات الشرف أيضًا أن النبلاء في الدولتين القديمة والوسطى كانوا يلفون قطعة من القماش الأبيض حول صدورهم أو يعلقونها متدلية فوق الكتف في شكل شريط عريض، وقد أصبح هذا الشريط زيًّا مميِّزًا للكاهن المرتل في جميع العصور كما أن الشريط الضيق الذي كان يمسكه النبلاء بين أصابعهم ورؤساء الأعمال؛ لم يقتص استعماله على عصر من العصور.

وابتداء من أواخر الدولة الوسطى كان كبير القضاء والوزير يلبس ثوبًا محبوكًا ينحدر من الصدر حتى يبلغ القدمين يثبته شريط من الخلف عند الرقبة. وفي عهد إخناتون زين الملك وزوجة أرديتهما بخرطوش آتون، أما ملابس صغار الموظفين؛ فقد كانت متأخرة في تطورها؛ ففي عهد الدولة الوسطى لبس هؤلاء النقبة القصيرة التي كانت مستعملة في الدولة القديمة، وفي الدولة الحديثة لبسوا النقبة الأطول الخاصة بالدولة الوسطى؛ كذلك كان أفراد الطبقات الدنيا من الشعب كالفلاحين والرعاة والعمال يلبسون نقبة قصيرة عادية غير مضمومة الأطراف تكفي أية حركة لفتحها من الأمام وكانت من الكتان عادة وفي عهد الدولة الحديثة بالذات كان العمال يلبسون فوقها شبكة من الجلد وكثيرًا ما كانت ترقع في الأماكن المستهلكة فوق الساقين، أما الرعاة والملاحين فكانوا يلبسون نقبة بدائية من الشرائط المضفرة وكان الصيادون ومن يعملون في الماء يلبسون حزامًا تتدلى منه أشرطة أو هدب من الأمام، وكثيرًا ما كان الصياد والراعي والجزار يضطر إلى خلع زيه أثناء العمل فيعمل وهو عارٍ تمامًا.

ملابس النساء

ملابس النساء مدخل ... ملابس النساء كانت ملابس النساء بسيطة متماثلة منذ أقدم العصور حتى الأسرة الثامنة عشر فلا فرق يذكر بين الفلاحة والابنة الملكية؛ إذ كان الثوب بسيطًا خاليًا من الثنايا وكان من الضيق بحيث يبرز تقاطيع الجسم بوضوح "شكل 12"، وكان ينحدر من الثدي ويمتد حتى يبلغ العقبين ويثبت بشريطين يمران فوق الكتفين، وهذان الشريطان وحدهما هما اللذان خضعا

"شكل 12": الزي العادي للمرأة للتطور فأحيانًا كانا يمتدان في وضع رأسي من القميص إلى الكتفين وأحيانًا يتقاربان من بعضهما في ميل عن الاتجاه الرأسي وفي أحيان أخرى كانا يتقاطعان، وقديمًا كان هذان الشريطان يغطيان الثديين تمامًا ثم أصبحا يضيقان أو يختفيان تمامًا فيبرز الثديان. وكان القميص عادة من لون واحد لا زخرف فيه إلا عند حافته العليا إذ كانت هذه تطرز أو تزخرف أحيانًا، وكانت الملابس المحلَّاة بالرسوم نادرة، وهذه الزخارف كانت عبارة عن خطوط أفقية أو رأسية أو تنحصر في زخرف ريشي أو زهيرات تنتشر فوق الأثداء والأغلب أن تطرح شبكة من حبات الخرز فوق القميص البسيط الذي كان أحيانًا يلبس

فوق الثوب العادي، كما هو ممثل في تمثال زوجة كبير الكهنة "رع حتب" الموجود في المتحف المصري. وفي الأسرة الثامنة عشرة -أي حوالي الوقت الذي تغير فيه زي الرجال- تغير كذلك زي النساء وأصبح من قطعتين أيضًا: الأولى قميص ضيق يغطي الكتف اليسرى بينما تكون الكتف اليمنى عارية، أما الرداء الثاني وهو الخارجي فكان فضفاضًا ويربط من الأمام فوق الثدي وكلاهما من الكتان الشفاف ترى تقاسيم الجسم خلالهما؛ وإن كان بعض الأثريين يرى أن تمثيل تقاسيم الجسم لايرجع إلى شفافية الأثواب وإنما يرجع إلى غرض ديني يحتم إظهار سائر أعضاء الجسم، أي لم يكن هذان الثوبان شفافين، وكان الرداء الخارجي يوشى عند حاشيته بتطريز وينسدل باستقامة عند الوقوف، ثم تطور هذا الباس كثيرًا بحيث يصعب تتبع تفصيلاته؛ وإن كان من المؤكد أن الرداء الخارجي في عصري الأسرتين التاسعة عشر، والعشرين قد تطور فأصبح ينسدل فوق الذراع اليسرى، أما الذراع اليمنى فكانت طليقة. وحوالي نهاية الأسرة العشرين أضيف قميص سميك إلى الثوب الداخلي الذي كان على الأرجح نصف شفاف علاوة على الرداء الخارجي المفتوح؛ كذلك وجد زي آخر مختلف عن الطراز المألوف وهو يتألف من ثوب طويل له أكمام ومعطف قصير مزركش بهداب يوضع فوق الأكتاف ومن الأمام ينسدل رداء يشبه النقبة؛ ولكنه يمتد من الرقبة إلى القدمين. أما الخادمات فقد كن يلبسن قميصًا يصل إلى الرقبة وله كمان قصيران أحيانًا ولم يكن هناك فارق يذكر بين ملابس الخادمات والطبقات الدنيا

وبين السيدات من نفس العصر وهذه الثياب عمومًا لم تكن لتسمح إلا بحركات محدودة؛ ولذا كن يحتفظن بنقب صغيرة عند العمل ويتجردن عما عدا ذلك وهو ماكانت تفضله الراقصات اللائي كنَّ يزين النقبة بكل ألوان الزخارف، أما صغار الوصيفات فكنَّ عاريات تمامًا إلا من حزام ضيق مطرز حول الخصر. ونظرًا لانتشار الكتان في صنع الملابس حرص المصريون على نظافته وتفننوا فيها وأدى هذا إلى وجود فئة خاصة للقيام بهذا العمل، ومن الألقاب التي كان يفخر بها بعضهم لقب: رئيس الغسالين للملك ورئيس المبيضين للملابس الملكية. ولا ندري شيئًا عن المادة التي استعملت لإزالة الأوساخ أو التي تعادل الصابون؛ ولكننا نعرف من الرسوم والنقوش الأثرية أن المصري كان يضرب ملابسه بعصًا قصيره ويعصرها ويضخمها بالدهون والزيوت العطرية. ولا نعرف شيئًا يذكر عن حياكة الثياب؛ ولكن يبدو أن هذه المهنة كانت شاقة عسيرة كان يقوم بها الرجال في الغالب وإن قامت النساء أحيانًا بمثل هذا العمل كما يفهم ذلك من قصة الأخوين مثلًا ولم يحدث هذا إلا في نطاق محدود.

النعال

النعال: كان المصريون كثيرًا ما يمثلون حفاة لا فارق بين فلاح وملك، شيخ وشاب، رجل وامرأة. وفي الدولة القديمة لم تستعمل المرأة النعال إلا نادرًا؛ كذلك كان الرجال لايلبسونها إلا عند الضرورة القصوى أو للنزهة وكان الخدم والعمال الزراعيين يستعملون النعال في الحقول للسير على الجذور

والقش، وكان العظماء يخلعون النعال كلما أمكن ذلك ويعطونها لحامل النعال. وفي الدولة الوسطى كان عدم امتلاك النعال من علامات الفقر كما يتضح ذلك مما ورد في تنبؤات الحكيم "ايبور- ور". وفي الدولة الحديثة أصبح استعمالها عامًّا ومع ذلك ظل المعتاد أن يخلع النعل في حضرة الشخص الأعلى مقامًا. والنعال عامة كانت في جوهرها من شكل واحد؛ فالجزء الأسفل كان من البردي أو سعف النخيل أو الجلد وفي هذه الحالة الأخيرة كان يخاط نعل آخر من سعف النخيل فوق الجلد، وللنعل سيران من المادة المصنوع منها أحدهما يمر على أعلى القدم والآخر يوضع بين الأصبع الكبير والأصبع التالي له ويتصل بمنتصف السير الأول، وأحيانا يمر سير ثالث حول القدم من الخلف يحكم تثبيت النعل. ومن نهاية الأسرة الثامنة عشر فضلوا نوعًا طرفة مدبب إلى أعلى أي أن هذه النعال كانت تشبه بعض الصنادل التي تلبس في الصيف.

الزينة

ب الزينة: 1- الشعر: لم يكن قص الشعر وحلاقة الذقن معروفين في العصر الباكر وقد استمر عامة الشعب والرعاة والفلاحين أحيانًا في عدم قص الشعر والحلاقة خلال الدولة القديمة أيضًا، ولا يدل ذلك على عدم اهتمام القوم بزينة الرأس؛ بل إن ما عثر عليه في مقابر العصور السحيقة ومن أوائل عصر الأسرات يدل على مدى اهتمامهم بهذه الزينة حيث وجدت الأمشاط ودبابيس الشعر في تلك المقابر.

ويبدو أن عادة قص الشَّعر بدأت عند الطبقات الراقية منذ الأسرة الأولى أي حوالي نفس العصر الذي وجدت فيه النقبة الكتانية التي حلت محل النقبة المضفورة، وفي بعض الأحيان كان الشَّعر يقص بحيث يبقى قصيرًا فوق الرأس فلا تحتاج إلى غطاء، وفي أحيان أخرى كان الشعر لا يُزال ولذا كان لا بد من لبس قلنسوة ضيقة محبوكة لحماية الرأس ضد أشعة الشمس، كما كان من المعتاد كذلك استعمال شعر مستعار. وفي الدولة القديمة تميز نوعان من الشَّعر المستعار: أحدهما يشبه الشعر المجعد القصير والآخر يشبه الجدائل الطويلة، وكان الأول لا يترك من الجبهة ظاهرًا إلا القليل في أغلب الأحيان ويغطي الآذان، وكان الثاني يمتد خلف العنق، وخصلاته تتخذ أشكالًا هندسية أي تكون في هيئة المثلث أو المربع أو شكل مستدير ويكون قص الشعر على الجبهة في هذه الحالة مستقيمًا أو مستديرًا. وفي الدولة الوسطى لم يظهر تغير يذكر. أما في الدولة الحديثة؛ فقد حدثت تطورات كثيرة أهمها شكلين: الأول قصير مقصوص من الخلف باستدارة والثاني طويل مهدل من الأمام على الكتفين، وكان كلاهما يرسل أو يجعد بطريقة جذابة أو يكون في جدائل صغيرة حول الوجه وتكون الجدائل حلزونية في الشعر الطويل بحيث يبرز الفرق بين شعر الرأس المستقيم وبين تلك الجدائل، وقد استمر هذا حتى عصر الأسرة العشرين. ولم يقتصر تزيين الشعر على الرجال وحدهم؛ بل سارت النساء على هذا المنوال أيضًا ففي عصر الدولة القديمة كانت تعلو رءوسهن كسوة

كبيرة من الشعر المرسل الذي يتدلى حتى الثديين في مجموعتين وهي في الغالب من الشعر المستعار، وكانت كل الطبقات تتساوى في هذا وإن كانت الخادمات والبنات أحيانًا لايستعملن هذا الشعر المستعار، وفي بعض الأحيان كانت السيدات العظيمات تستعملن شعرًا مستعارًا قصيرًا ينتهي عند الأكتاف ويظهر من تحته الشعر الطبيعي المفروق وهو يغطي الجبهة إلى قرب العينين. وقد ظل الشعر المستعار في الدولة الوسطى كما كان في الدولة القديمة؛ إلا أن هدابًا جميلًا أضيف في نهاية مجموعتي الشعر، وكانت بعض السيدات الراقيات يعقصن شعرهن الطبيعي القصير في جدائل صغيرة تشبه الشعر المستعار الذي استعمله الرجال في الدولة القديمة. وفي الأسرة الثامنة عشر ظهرت أشكال جديدة في أغطية الرأس حيث أبطلت الغدائر الطويلة التي كانت من الأمام وأصبح الشعر طليقًا مرسلًا على الظهر والكتفين أو على الظهر فقط، وكان ينسدل في بساطة أو يضفر في جدائل أو يجعد وتكون هذه الجدائل منمقة أو في جدائل قصيرة وكانت أطراف الضفائر العديدة أو الجدائل تجمع أو تجدل معًا بحيث يكون الشعر الثقيل بمثابة حاشية ذات هداب، وقد وردت بعض النقوش التي تمثل عازفات للموسيقى وشعرهن المجعد يحيط بالوجه وتتدلى من خلف الرأس بضعة جدائل في ضفيرة متصلة بها. وبعد الأسرة العشرين؛ رجعت الطريقة القديمة وإن غالت السيدات في طول الشعر المستعار وطرق تصفيفه. ويبدو أن عملية التصفيف كانت تستغرق وقتًا وجهدًا كبيرين فمن

النقوش نرى بعض السيدات وأمامهن وصيفاتهن يقمن بتصفيف شعورهن بينما تقدم لهن المشروبات ليستعينوا بها على قضاء الوقت الطويل الذي تستغرقه هذه العملية "شكل 13" التي يمكن مقارنتها بعملية تصفيف الشعر لدى سيدات شمال السودان الآن. وقد عثر على عدد كبير من الأمشاط مختلفة الأشكال والأحجام من عصور مصر المختلفة وكانت هذه الأمشاط تزخرف بمختلف النقوش. "شكل 13": سيدة يصفف لها شعرها وتتناول مشروبا

اللحية

2- اللحية: حلقت اللحية من عصر الأسرات الأولى وربما كان حب المصريين للنظافة هو الدافع لذلك، وفي الدولة القديمة ظل الشارب الرفيع ممثلًا في تماثيلها ونقوشها؛ ولكنه اختفى بعد ذلك ولم تمثل اللحية المدببة إلا في زي الملوك فقط

وهي لحية صناعية عبارة عن جديلة صغيرة مضفورة جيدًا لتبدو كلحية طبيعية وقد قلد العظماء في الدولة القديمة الملوك واستمر ذلك في الدولة الوسطى. أما في الدولة الحديثة؛ فقد أصبحت اللحية نادرة وفي مناسبات معينة وكانت لحية الشخص العادي أصغر من لحية الملك، وكان للآلهة لحية خاصة وهي أطول من لحى البشر وتجدل على شكل ضفيرة تثنى عند طرفها المدبب إلى أعلى.

الحلي

3- الحلي: استعمل العقود الرجال والنساء على السواء؛ وذلك منذ أقدم العصور، وكانت العقود من أحجار كريمة ونصف كريمة ومن القاشاني وتنظم في خيوط بسيطة بها تميمة في الوسط؛ غير أن هناك عقودًا عريضة تتألف من عدة صفوف تنتظم خرزاتها بأشكال بديعة وتنتهي خلف العنق بثقل على هيئة شرابة "شكل 10"، أما الأساور فكانت من القرن والعظم والعاج والنحاس ووجدت كذلك أساور من الصوان أعرض ولكنها كانت دقيقة في أول الأمر ثم حلت محلها أساور أعرض، وكان يلبسها الرجال والنساء على السواء حول الذراع والساعد، وكانت الخلاخيل شائعة بين النساء أما الأقراط فكانت إما في هيئة حلقات تثبت في الأذن وبها فجوة تضغط على شحمتها وإما في صورة معلقات تثبت بدبوس ينفذ في شحمة الأذن، ويبدو أن الحلقات جاءت إلى مصر من الجنوب أما المعلقات فجاءت من آسيا، وقد امتنع الرجال عن استعمالها فيما عدا الملوك، ابتداء من عصر الأسرة التاسعة عشر.

أما الخواتم فقد استعملت في الحلى منذ أقدم العصور وتعددت أشكالها، وفي العصور المتأخرة أصبح ينقش عليها اسم صاحبها ولقبه أو تنقش عليها رسوم يقصد منها التوفيق والفأل الحسن وقد ينقش عليها أحيانًا اسم الملك الحاكم. ولم يستعمل المصريون -باستثناء الأسرة المالكة- غطاء للرأس سوى القلنسوة الضيقة المحبوكة التي سبقت الإشارة إليها عند الكلام على الشعر المستعار، وكان الملك يضع تيجانًا مختلفة أو عصابة للرأس ذات ثنايا. أما الملكات فكن منذ بدء الدولة الحديثة يضعن الحلية القديمة التي تتزيَّى بها الآلهات وهي على شكل أنثى العقاب التي تنشر جناحيها على الرأس، وكانت نساء العامة في الحفلات تكتفي بإكليل أو شريط مزركش في أطرافه مشبك نفيس يشده ويربطه. وكان الأولاد في جميع العصور تقريبًا لا يمتازون بأي زي خاص للرأس؛ ولكن ابتداء من الدول الحديثة كانوا يضعون عصابة ذات ربطة عريضة حلت محل خصلة الشعر الجانبية، كذلك كانوا يضعون أحيانًا بعض التيجان البسيطة إذا كانوا من الأمراء. وقد امتاز الرجال على النساء بالعصي والصولجانات، وكان لكل عصا ولكل صولجان اسم خاص ودلالة خاصة وتستخدم في مناسبات معينة. وقد أبطل استعمال الأصباغ والوشم منذ الدولة القديمة؛ ولكن ظلت للعطور أهميتها البالغة حتى أن المصري كان يرى ضرورة تزويد الميت بسبعة أنواع من العطور المقدسة ونوعين من الأصباغ، وكان الكحل يستخدم منذ

أقدم العصور وهو من نوعين أخضر وأسود ووجدت لوحات الصحن التي كان يسحق عليها في المقابر منذ ما قبل الأسرات، ولم يقتصر استعمال المساحيق على الكحل فقط؛ بل كانت هناك مساحيق أخرى استعملت ابتداء من عهد الدولة الحديثة ربما كان استعمالها قد نقل إلى مصر من الخارج. ومن رسوم الحفلات والمآدب نتبين مقدار عناية القوم بزينتهم، وكثيرًا ما تساءل الأثريون عن كنه المخروط الذي كان يمثل فوق رءوس السيدات وقد اتضح أنه عبارة عن كومة من مواد عطرية دهنية، وكانت الْمِرْآة من أهم الأدوات التي عثر عليها في المقابر حيث اعتنى المصري باقتنائها وتعددت أشكالها وكانت تصنع من البرونز المصقول، أما مقبضها فقد اختلفت المادة التي صنع منها وتعددت أشكاله.

الإدارة

الإدارة من الملاحظ في مصر القديمة أن إسناد المناصب الإدارية للأشخاص كان كثيرًا ما يرتبط بوضعهم الاجتماعي؛ على أنه كان من الممكن في بعض الأحيان أن يرتقي بعض الأشخاص في مكانتهم الاجتماعية عند توليهم بعض المهام الإدارية. وقد سبق أن أشرنا إلى أن الملك كان صاحب السلطة العليا في البلاد، وأنه مصدر السلطات جميعًا وقصره المحور الذي تدور حوله كل شئون الدولة، كما بينا أنه كان يستعين من يتوسم فيهم القدرة والإخلاص من بين المحيطين به، ولا يتأتى له أو لهؤلاء أن يهيمنوا

على كل صغيرة وكبيرة في جميع أنحاء البلاد إلا إذا كان لهم أعوان يشرفون على مختلف الشئون في أقصى البلاد ودانيها. ومن البديهي أن كل بقعة من البلاد كانت تخضع لنفوذ أقوى الرجال فيها، وهؤلاء بدورهم يخضعون لنفوذ أقوى رجال الإقليم الذي يتضمن بقعتهم وهكذا مما أدى إلى ظهور عدد من الموسرين ذوي النفوذ في مختلف الأنحاء، وانقسمت مصر منذ عصور سحيقة إلى "42" إقليمًا: عشرين منها في الشمال، "22" في الجنوب، ونظرًا لأن الملك كان من الناحية النظرية على الأقل يمتلك البلاد جميعها؛ فإنه كان يمنح إمارة الأقاليم إلى المقربين من رجاله، ولو أن الكثيرين كانوا من المنعة والنفوذ بحيث لا يمكن إحلال غيرهم في مكانهم؛ إلا أن هذا التقليد ظل متبعًا واستمرت إدارة الأقاليم تعد منحة من الملك، ولا شك في أن بعض ذوي الخطوة استطاعوا أن يمنحوا إمارة الأقاليم التي كان يتولاها آباؤهم وما لبثت هذه أن أصبحت تنتقل في أسرات معينة استقرت في أقاليمها وعملت على زيادة نفوذها حتى أصبح حاكم الإقليم يعتبر نفسه سيدًا مستقلًا في إقليمه. ولذا أصبح من الضروري أن يسند الملك مهمة الإشراف على حكام الأقاليم إلى من يثق فيهم؛ ولذا تجد أن لقب: حاكم الوجه القبلي، أخذ يظهر منذ منتصف الأسرة الخامسة تقريبًا أما لقب: حاكم الوجه البحري، فلم يعثر على ما يثبت وجودة إلا من عصر الدولة الوسطى، ومن الملاحظ أن حاكم الوجه القبلي كان يعاونه: العظماء العشرة للجنوب، الذين لم يكونوا في درجة واحدة من المكانة بل ولم يكن لبعضهم نصيب

في الإدارة إلا اسميًّا فقط، ولم يكن لهؤلاء نظراء في الوجة البحري1؛ إذ يبدو أن الحاجة لم تكن لتدعو إلى وجود أمثالهم هناك، ومع هذا كان هؤلاء في الوجه القبلي يعدون في نفس الوقت قضاة ورؤساء في المناطق التابعة لهم كما كانوا بمثابة مساعدين للملك، وبهذه الصفة حملوا ألقاب مختلفة منها: مستشار الأوامر الملكية، والمشرف على المهام الملكية، والمشرف على الكتبة الملكيين، إلى غير ذلك من الألقاب التي تدل على المهام التي كانوا يضطلعون بها، ومنذ عهد الأسرة الخامسة كان يرأس هؤلاء حاكم الوجه القبلي، إلا أن هذا اللقب سرعان ما فقد قيمته العملية وأصبح من ألقاب الشرف، ولم يعثر على نظيره -حاكم الوجه البحري- إلا في عصر الدولة الوسطى وربما كان ذلك لأن إدارة الدلتا ظلت منذ أقدم العصور حتى الدولة القديمة على الأقل تختلف بعض الشيء عن إدارة الوجه القبلي. ويلاحظ أن كل إقليم من الأقاليم التي انقسمت إليها البلاد كانت له محاكمه وجيشه ومخازن غلاله، أي أن الحكم في عهد الدولة القديمة كان لا مركزيًّا إلا فيما يختص بالخزينة العامة للدولة، ففي كل إقليم أملاك للخزينة العامة يشرف عليها مندوبها في الإقليم وإلى جانب هذه توجد في العاصمة إدارة مالية مركزية للدولة ذات اختصاصات متعددة وينجز أعمالها طوائف مختلفة من الموظفين فمنهم الكتبة ورؤساؤهم ومنهم المشرفون ومنهم أمناء الخزانة، ويظهر أن هذان الأخيرين كان يوكل إليهم أمر

_ 1 أرمان - رانكة، المرجع السابق، ص80- 82.

الحصول على المعادن والأحجار الثمينة، ولذا كان من بين اختصاصاتهم الإشراف على البعثات التي ترسل للحصول على هذه الموارد فكان منهم من يلقب: المشرف على المشاة، والمشرف على الأسلحة، والمشرف على حركات السفن، والمشرف على عمال الإله، والمشرف على مهام الملك ... إلخ. وإلى جانب هذه الإدارة المركزية؛ وجدت إدارات أخرى مركزية تتولى شئون ذات أهمية خاصة مثل: الإدارة المركزية للإشراف على الأراضي الزراعية ومخازن الغلال والإدارة العليا للقضاء، وكان المشرف على كل من هذه الإدارات يحاول أن يوسع من اختصاصه بضم إدارات تحت إشرافه، وفي كل من هذه الإدارات يوجد عدد من الكتبة يشرف عليهم: رؤساء كتبة ومشرفون. وكانت بعض هذه الإدارات في الدولة القديمة غالبًا ما تتبع الوزير مباشرة. وقد ازداد عدد الوظائف في العاصمة وتنوعت ألقاب الموظفين إلى أن أصبح بعضها ذو طابع رنان يرضي غرور من يشغل مثل هذه الوظائف؛ فمثلًا أصبح قائد الجيش مستشار جميع البلاد الأجنبية، ورئيس كهنة عين شمس مستشار السماء، وهكذا. وعندما يكون البيت المالك قويًّا كان حاكم الإقليم يعد موظفًا إداريًّا تحت إشراف البلاط، ولذا كان يدفن في جبانة العاصمة على مقربة من مقبرة الملك شأنه في ذلك شأن موظفي البلاط الآخرين، أما عند ضعف الملوك فإن حاكم الإقليم كان يشعر بالاستقلال ويعتبر إقليمه دويلة صغيرة تملكها أسرته، وكثيرًا ما كان حاكم الإقليم يحاول توسيع رقعة إقليمة على حساب الأقاليم الأخرى ويبني كل منهم مقبرته في عاصمة إقليمه

ويؤرخ الحوادث بحسب تاريخ حكمه لإقليمه؛ أي أن حكومة الدولة أصبحت حكومة إقطاعية، وما إن استقر الأمر لمؤسس الأسرة الثانية عشر؛ إلا وأخذ يثبت الحدود بين الأقاليم المختلفة ويقرب إليه الأمراء الأقوياء ويعزل غير المخلصين، ويعين بدلًا منهم حكامًا يثق فيهم؛ وهكذا أصبح أمراء الأقاليم في الدولة الوسطى أمراء إقطاع مخلصين للملك، وكانت حكومة الإقليم صورة مصغرة لحكومة الدولة؛ فكان للإقليم خزانته التي كان أمينها يشرف على كل من يعملون من أجل الأمير في مختلف المهن والصناعات، وإلى جانب هذا الموظف الكبير يوجد جيش من المشرفين والكتبة مثل: المشرف على الجند، والمشرف على مخازن الغلال، والمشرف على الماشية، والمشرف على الصحراء وغيرهم، كما كان حاكم الإقليم يتشبه بالفرعون فيحيط نفسه بحاشيته ويجعل بلاطه صورة مصغرة للبلاط الملكي، ومع هذا ظلت الإدارات المركزية التي عرفت منذ الدولة القديمة دون تغيير، ولها فروعها الثابتة في الأقاليم؛ بل وزادت أهمية عما سبق، ومن هذه: إدارة الخزينة والأملاك الملكية ... إلخ. وقد تغير الحال في عهد الدولة الحديثة، فقد بدأ الملوك منذ أن طردوا الهكسوس يسيطرون على البلاد واعتبروا كل ما حرروه بقسوة السلاح ملكًا خاصًّا، وانتهى أمر معظم أمراء الأقاليم والنبلاء وأصبحت كل الأملاك ملكًا للفرعون فيما عدا أملاك الكهنة. ونظرًا للدور العظيم الذي قام به الجيش في حرب الاستقلال فقد ازدادت مكانة أفراده حتى أصبحت له القوة الرئيسية في الدولة وأصبح يتدخل في كثير من شئونها؛ ولكن ما لبثت قوة الكهنة أن أخذت في الازدياد هي الأخرى

حتى فازوا بقدر كبير من السلطة أيضًا، وهكذا نجد أن كبار رجال الجيش من جهة وكبار الكهنة من جهة أخرى قد تمكنوا تدريجيًّا من انتزاع الكثير من الامتيازات التي كان يتمتع بها الأمراء والنبلاء من قبل. ونظرًا لتوسع الدولة الحديثة وكثرة فتوحاتها؛ زاد عدد الأجانب في مصر سواء جاءوا كأسرى حرب أو كرقيق أو كجنود مرتزقة، وقد استخدم هؤلاء في مختلف الأعمال وارتفع شأن الكثير منهم وزاد نفوذهم وأصبح منهم عدد وفير من كبار موظفي الدولة ووصل بعضهم إلى مكانة سامية في بلاط الفرعون نفسه. وقد أدى هذا التوسع أيضًا إلى جانب ما حدث من تطور اجتماعي إلى تنوع الإدارات وضخامة عدد الموظفين، وكان أكثر هؤلاء عددًا -بالطبع- هم الكتبة الذين كانوا يسجلون كل شيء؛ فما من وارد إلى المخازن وما من منصرف يمكن إثباته؛ إلا إذا كان مسجلًا، كما كانت كل العقود والمعاملات الرسمية تسجل في وثائق تحفظ في إدارة السجلات وقد تعمل منها بعض النسخ أيضًا، وكان كل موظف يحرص على مرضاة رؤسائه وعلى حسن معاملة زملائه له؛ وإلا تعرض للكثير من المتاعب. وكما هو الحال في كل عصر؛ كان بعض كبار الموظفين يميلون إلى جمع الكثير من الاختصاصات في أيديهم، وقد أدى ذلك إلى تمتعهم بالعديد من الألقاب؛ بينما عجزوا عن الاضطلاع بمهام وظائفهم فاكتفوا بمباشرة شئون أهم هذه الوظائف؛ تاركين بقية اختصاصاتهم لصغار الموظفين، وبالتدريج فقدت هذه الألقاب دلالتها وأصبحت ألقابًا جوفاء. وكان يتبع كل إدارة من الإدارات عدد من العمال والصناع، وهؤلاء كانوا ينقسمون إلى فرق لكل منها رئيس، وقد وردت إشارات كثيرة يفهم منها أن العمال لم يكونوا دائمًا طائفة بائسة؛ بل كانوا يحصلون على

مخصصات تسمح لهم بحياة غير عسيرة؛ فكان منهم المتزوجون ومنهم من كان له بيته ومقبرته الخاصتان به، وبعضهم كان على شيء من الثقافة؛ غير أننا نجد من بعض الإشارات الخاصة الأخرى ما يفيد إلى أنهم كثيرًا ما كانوا يتعرضون للاستغلال أو الأزمات بسبب تأخير صرف أجورهم ومخصصاتهم؛ حتى إنهم كانوا يثورون في بعض الأحيان ويضربون عن عملهم؛ إلا إذا أجيبت مطالبهم كما حدث بين عمال المقابر في عهد رمسيس الثالث. ومن هذا نرى أن هؤلاء العمال كانوا يتمتعون بقسط من الحرية لا يتوافر للأرقاء الذين كانوا غالبًا من الأسرى والعبيد.

الديانة

الديانة مدخل ... الديانة ليس من المغالاة في شيء القول بأن دراسة الديانة المصرية تشمل في الواقع نحو نصف علم المصريات، وهي تستمد عناصرها الأولى من البيئة المصرية؛ فالشعور بالولاء والحب أو الخوف والرهبة تجاه عنصر من عناصرها؛ جعل المصري يعتقد بقدرة ذلك العنصر ويقدر صفاته وبدأ يتصرف إزاءه بما يتخيل أنه يرضي ذلك العنصر أو يتجنب أذاه. وبالطبع كانت بعض هذه العناصر الشائعة معروفة للجميع مثل الظواهر الطبيعية، وهناك عناصر أخرى كانت تؤثر في حياة الإنسان اليومية، وهي تختلف من إقليم إلى آخر وبين جماعة وأخرى وقد وجد الإنسان أن العناصر الطبيعية كالشمس والقمر وغيرها بعيدة عنه ولم يعرف كيف يتقرب لها تقربًا ماديًّا؛ بينما كانت العناصر الأخرى المحيطة به أقرب منالًا؛ فتقرب منها ونسب نفسه إليها ومن ذلك نشأت الطواطم؛ إذ كانت بعض الجماعات مثلًا تقدر بعض مميزات حيوان أو نبات معين فتتخذه لها رمزًا وطوطمًا.

كذلك وجدت هذه الجماعات أن بعض الكائنات لها قدرة خارقة أو أنها كانت تتصف بالقدرة على الخلق أو الثبوت والدوام أو القضاء على غيرها من كائنات؛ فرأت إحدى الجماعات أن الثور مثلًا قادر على الإخصاب وإنتاج الذرية فقدسوه كما وجدت جماعة أخرى أن نوعًا من الأشجار له صفه الثبوت والاستقرار؛ فقدسوا هذا النوع من الشجر ورأت جماعة ثالثة بأن اللَّبُؤة تمثل البطش والقوة فقدسوها وهكذا.

تطور التفكير الدينى

تطور التفكير الديني: وجد المصري القديم في الكائنات المحلية صفات الخلق؛ ولكنه لم يفكر في كيفية الخلق بعد، ولم يكن هناك ما يمنع من تقديس الظواهر الطبيعية جنبًا إلى جنب مع الكائنات المحلية كما أن انتصار جماعة من الجماعات على ما جاورها كان يعد بالتالي انتصارًا لمعبودها على معبود الجماعة المغلوبة، ومع هذا كان يسمح لمعبود الجماعة المغلوبة بالبقاء كمظهر آخر للمعبود الأقوى أو كممثل لصفة من صفاته. ويعد انتقالًا من تمثيل المعبودات المحلية في صورة الحيوان أو بعض الكائنات الأخرى إلى تمثيلها في صورة إنسانية تطورًا كبيرًا لم يصل إليه المصري؛ إلا بعد أن بلغ مرحلة معينة من الحضارة، فبداية تحكم الإنسان وسيطرته على الحيوان والعالم المادي من حوله من جهة وبداية التقليل من شأن القوة الجسمانية من جهة أخرى جعل الإنسان يقدر ما للبشر من مزايا فتخيل آلهته في صورة إنسانية؛ ولكنه للتمييز بينها صار يصورها على هيئة الإنسان برأس يمثل رأس المعبود الأصلي أو برأس أضيفت إليه علامة مميزة لذلك المعبود، فمثلًا صورة الإله أمون

في هيئة آدمية برأس كبش وصور الإلهة حتحور برأس آدمية ولها قرون بقرة وهكذا. وبالطبع كان تمثيل الآلهة في هذه الهيئة الإنسانية مما ساعد على التفكير بأن هذه الآلهة لها من المشاعر ما يحاكي مشاعر البشر من حب وبغض، وأن هذه الآلهة تحمي وتعطي وتعاقب وتأخذ وهكذا مما لا يمكن التعبير عنه عند الحيوان أو الجماد. ومن جهة أخرى أعطيت لهذه الآلهة صفات تتعلق بالإنتاج والتناسل وبالخلق والموت ودفن الموتى ... إلخ. ولذا كانت بعض الآلهة من الذكور وبعضها من الإناث؛ كذلك أعطيت الآلهة بعض المهام والأعمال الخاصة التي ظن المصري أنها تقوم بها؛ فضلًا عن صفاتها الأصلية، فمثلًا كان الإله خنوم فضلًا عن اعتباره الإله الذي يصور الأجنة في الأرحام أو الإله الخالق، كان يعتبر كذلك إله الماء النقي أو إله منابع النيل، وكان أبو منجل رمز إله القمر تحوت يعد كذلك الإله العالم وكاتب الآلهة. وقد تطورت الديانة من وقت لآخر، وظهرت معتقدات جديدة ولكن -كما سبقت الإشارة- لم تختفِ المعبودات القديمة، وكانت النتيجة أن تعقدت الديانة المصرية تعقيدًا شديدًا لاشتراك كثير من الآلهة في صفات واحدة وإن اختلفت مدلولاتها. وكان المصري مسالِمًا بطبعه وقد أثر ذلك في ديانته؛ فلم تتسم آلهته بصفات العنف أو حب سفك الدماء كما هو الحال بين آلهة الممالك الأخرى.

نشأة الأساطير

نشأة الأساطير مدخل ... نشأة الأساطير: سبقت الإشارة إلى أن المصري قد تأثر في ديانته بمظاهر البيئة التي عاش فيها واتخذ من عناصر هذه البيئة آلهة تميزت بصفات معينة، وكان يتخذ لهذه الآلهة نموذجًا من الحيوان أو الجماد أو يقيم له التماثيل التي تقرب المعبود لإدراكه، أما في حالة التفكير في المعبودات التي يصعب عليه إدراكها؛ فإنه كثيرًا ما كان يلجأ إلى الخيال؛ فحينما قدس السماء مثلًا تصورها على هيئة بطن بقرة عظيمة، أو امرأة ترتكز بزوج "شكل 14". "شكل 14": إلهة السماء في هيئة بقرة من طرفيها على الأفق الشرقي؛ بينما ترتكز بالزوج الآخر على الأفق الغربي، كما كان يتصور أحيانًا أن أركانها قائمة فوق أربعة جبال أو محمولة على أربعة أعمدة؛ كذلك تصور الأرض في هيئة رجل مستلقٍ على ظهره "شكل 15"، وهكذا ذهب به الخيال بعيدًا؛ ولكنه في خياله هذا كان يحاول تفسير الظاهرات الطبيعية بتفسيرات تتمشى مع ما يلمسه ويقع تحت حسه في بيئته، ولذا فإنه حينما أراد تفسير ظهور الشمس يوميًّا ثم اختفائها تصور إله الشمس في هيئة جعل "جعران" يدفع

"شكل 15": إلهة السماء في هيئة امرأة وإله الأرض كرجل مستلقٍ على ظهره. أمامه بيضته؛ حيث ظن أن الجعل حيوان خنثى يضع بيضه بنفسه، أي أنه كإله الشمس خالق نفسه بنفسه، وعلى هذا تصور إله الشمس كجعل كبير يخلق نفسه بنفسه؛ لأنه يولد يوميًّا كل صباح في الأفق الشرقي ويختفي مساء في الأفق الغربي. ولم يترك المصري مظهرًا من مظاهر الطبيعة التي أحاطت به؛ دون أن يفكر فيه ويحاول تفسيره فلعب خياله دورا خطيرًا في تفسير ما عجز عن إدراكه وتعقدت الصور التي نتجت عن هذا الخيال وتعددت التفسيرات واختلفت باختلاف المذاهب أو المفكرين ونشأت أساطير مشوهة عن كثير من الآلهة مما زاد في صعوبة إدراك كنه الديانة المصرية. كذلك أشرنا إلى أن المصري قد اعتقد بأن من الآلهة ما هو مذكر ومنها ما هو مؤنث؛ فأدى ذلك إلى إدماج الآلهة في أسر إلهية بتزاوج بعض تلك الآلهة التي ترتبط معًا ببعض الروابط وهداه تفكيره إلى إيجاد مجموعات أسرية تمثل الإله الرب والإلهة الزوجة والإله الابن؛ كذلك ربط هذه الآلهة بعضها بالبعض بعلاقات حسب الدور الذي يقوم

به الإله أو حسب وظيفته أو خصائصه؛ فمثلًا كان الإله أوزريس إلهًا خيرًا تزوج من أختة إيزيس وكان شقيقه ست إلهًا شريرًا، وكان زوجًا لشقيقتهما نفتيس، وقد كاد لأخيه أوزريس وقتله واستطاعت شقيقتاه إيزيس ونفتيس "زوجة ست" أن تجمعا أشلاء أزوريس كما أمكن أن تعيد إيزيس الحياة إلى زوجها أزوريس فأنجب منها ولدًا هو حورس؛ ولكنه فضل أن يترك هذا العالم ويعيش في العالم الآخر ويحكمه؛ بينما طالب ابنه حورس بحقه في ملك مصر الذي اغتصبه عمه ست؛ فكان الإله تحوت خير معين له على استرجاع حقه المسلوب منه. ومن الآلهة من كانوا يعتبرون حماة لطوائف معينة من الناس اعتمادًا على الخصائص التي امتازوا بها ولشهرتهم في نواحٍ معينة؛ فمثلًا كان الإله تحوت يعتبر حاميًا لطائفة الكتاب لما له من شهرة في العلم والحكمة، كما أن بتاح كان يعد حاميًا للفنانين، أما الأطباء فكانت الإلهة سخمت إلهة منف التي في شكل اللبؤة راعية لهم ثم في العصور المتأخرة حينما أله "أمحتب" أصبح هذا إلهًا للأطباء وكانت سخمت في نظرهم أمًّا له كذلك؛ كانت الإلهة ماعت التي تمثل الحق والصدق والعدالة تعد راعية للوزراء والقضاء؛ وهكذا اتخذت كل طائفة من الطوائف المهنية حاميًا أو راعيًا من الآلهة، كما كان عامة الشعب يتخذون في الغالب معبودهم المحلي راعيًا لهم. ولا شكَّ أن طائفة من العقلاء -على الأقل- اعتقدوا في وجود إلهٍ خالقٍ يسيطر على الكون بدليل أن بعض النصوص تشير إلى أن الإلهَ كتعبيرٍ عامٍّ أو كإله واحد، ومن ذلك مثلًا ماجاء في بعضها بأن "ما يحدث هو أمر الله" ولكن كان لا بد من تقريبِ صفاتِ هذا الإلهِ

للعامة فاتَّخذت له صورةً ترمز إلى أكثر صفاته وضوحًا، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، وعلى هذا لم تكُنْ الحيوانات أو التماثيل التي قدست لِتُقَدَّس على أنها المعبود نفسه؛ وإنما كانت كرمزٍ لصفة معينة في المعبود؛ إلا أن العامة قد أخطئوا فهم المقصود من تلك الرموز وتعبدوا لها. والواقع أنه لا توجد عقليةٌ مهما كانت بدائية تعتبر الحيوان أو الجماد أو حتى الإنسان؛ إلا صورةً أو موضعًا للقوة المقدسة أو الظاهرة المقدسة التي تمثِّلُها، والمصري شأنه في ذلك شأن الشعوب الأخرى؛ أراد أن يتقرب إلى تلك القوى المقدسة، ووجد أن أحسن وسيلة هي اختيار ما يمثل تلك القوة في عالمه المادي، ولكن مع الأسف حدث -كما يحدث في كل العصور- أن اتَّخذَت الطوائف الدنيا من الشعب تلك التشبيهات بحرفيتها فعبدت الصورةَ المختارةَ نفسهَا من هذا العالم المادي. وبالطبع كان كل إقليم يحاول جاهدًا أن يجعل لإلهه المحلي دورًا مهمًّا فحاك حوله الأساطير التي تبرز هذه الأهمية وعوملت الآلهة في هذه الأساطير كالإنسان؛ فصارت محببة لدى الشعب، وخضع الدين الرسمي لهذه الأساطير لما لها من سيطرة على النفوس. ولا ريب في أن المصري كان يتساءل عن كنه المخلوقات والظواهر الطبيعية التي من حوله وعن كيفية نشأتها ووجودها وبهذا تدرج إلى التفكير في مشكلة الخلق، ثم تساءل عن المشكلة الكبرى وهي مشكلة نشأة العالم المحيط به، ولم يطل به التفكير كثيرًا حتى اهتدى بخياله إلى تكوين فكرة اتخذ عناصرها من البيئة المحيطة به فتمثل في الفيضان ماء أزليًّا أطلق عليه اسم "نون"، وقد دعاه إلى هذا التفكير أن الفيضان تستمر مياهه

فترة من الوقت ثم تبرز من تحتها الأرض تدريجيًا وفي هذه ينبت الزرع وتدب الحياة، وعلى ذلك ظن بأن العالم في بدء تكوينه نشأ من ماء أزلي برزت فيه قمة تل مزدهر، ثم ظهرت المعالم الأولى للحياة فوق هذا التل، أو أن زهرة من اللوتس ظهرت فوق سطح هذا الماء وعلى هذه برز الكائن الأول في هيئة طائر أو كائن هو الذي خلق السموات والأرض والآلهة الأخرى، وقد اختلفت الأساطير المتصلة بنشاة الخليقة. وبالطبع كان كل إقليم يحاول أن يجعل من إلهه المحلي الإله المهم في نشأة هذه الخليقة أو خالقها، وكانت أشهر المدراس التي اتجهت إلى ذلك هي مدرسة هليوبوليس ومنف والأشمونين.

مدرسة هليوبوليس

مدرسة هليوبوليس: تذكر هذه المدرسة أن الإله آتوم يكون في المياة الأزلية نون قبل أن تتكون السماء والأرض أو الدودة والعلقة ولم يحد مكانًا يقف فيه؛ فوقف فوق تل ثم صعد فوق حجر "بن بن" في هليوبوليس ووجد نفسه وحيدًا؛ ففكر في خلق زملاء له وحمل من نفسه ثم تفل أو أمنى وأنجب شو وتفنوت اللذان أنجبا جب ونوت وأنجب هذان الأخيران بدورهما أزوريس وست ونفتيس وإيزيس، وقد عرف هؤلاء الآلهة التسعة باسم التاسوع الكبير، وعلى حسب هذه النظرية لم يكن حوريس وتحوت ومعات وأنوبيس ضمن هذا التاسوع وإن كان لهم دور مهم في الأساطير المتعلقة به. وقد تغالت المدن الكبيرة في محاكاتها لهليوبوليس وكونت مجموعة إلهية على رأسها إلهها المحلي؛ فكانت هذه المجاميع تتجاوز التسعة في

كثير من الأحيان فمثلًا كانت مجموعة طيبة الإلهية تتألف من "15" إلهًا، كما أن بعض المدن الأخرى لم تجد من الألهة ما يناسبها؛ فجعلت مجموعاتها تتكون من آلهة تتكرر أسماؤها؛ فمثلًا كانت مجموعة أبيدوس تتألف من إلهين باسم خنوم وإله باسم تحوت وإلهين باسم أوب وات وهكذا. والغريب أن كل مجموعة من هذه المجاميع كانت تعامل كإله واحد.

مدرسة منف

مدرسة منف: اعتبرت منف إلهًا بتاح أجدر من آتوم كما أنها ذكرت أن بتاح خلق من نفسه ثمانية آلهة أخرى سميت كلها باسم بتاح، وإن كان البشر أطلقوا عليها أسماء أخرى؛ وذلك لتكون مع بتاح الأصلي تاسوعًا يعادل تاسوع هليوبوليس وقد أرجعت هذه المدرسة كل آلهة مصر إلى بتاح والإله الثاني بتاح نون والإلهة الثالثة بتاح نونيت في هذا التاسوع هما اللذان أنجبا آتوم أي أن آتوم وهو أعظم آلهة هليوبوليس قد اعتبر في هذه المدرسة أقل شأنًا من الإله بتاح كما أن شفتي آتوم وأسنانه التي تفل بها شو وتفنوت قد استعارهما من بتاح؛ كذلك اعتبر القلب واللسان من أطياف بتاح وهذان كانا يمثلان تحوت وحورس وقد خلق اللسان، أي تحوت، كل شيء بواسطة الكلمة. وقد تأثرت المعابد المختلفة بتعاليم منف فاعتبرت الآلهة التي قدست فيها أعضاء للإله الرئيس في المعبد. ولما كان لأوزير مركز خطير في اللاهوت المصري؛ فإن تعاليم منف جعلت منه تابعًا من أتباع بتاح وجعلت منف الميدان الذي جرت فيه

أهم الأحداث التي تعرض لها هذا الإله؛ ففيها توجه أوزريس إلى العالم السفلي بعد أن انتشله إيزيس ونفتيس وفيها حاول جب "والد أوزوريس" أن يصلح بين حورس وست وهكذا.

مدرسة الاشمولين

مدرسة الأشمولين: سميت هذه المدينة كذلك لأن مجموعة الآلهة فيها تتكون من ثمانية لا تسعة كالمعتاد، وتعتبر هذه المدرسة من تخريج منف لأن أول الكائنات فيها هو الإله تاتنن خالق الآلهة الثمانية وخالق البيضة التي خرج منها إله الشمس فهو جد "والد آباء" الآلهة جميعًا، أما الآلهة الثمانية؛ فكانوا عبارة عن آلهة تمثل أربعة ذكور في هيئة ضفادع وأربع إناث في هيئة الحيات، وكل زوج منها يمثل مظهرًا من المظاهر التي كانت تسود العالم في البداية؛ فالزوج الأول نون ونونيت يمثل الفراغ اللانهائي والزوج الثاني وهو حوح وحوحيت ويمثل الماء الأزلي والزوج الثالث كوك وكوكيت يمثل الظلمة والزوج الرابع نياو وزوجته نيات أو آمون وأمونيت ويمثل الخفاء. ولا نعرف الكثير عن دقائق تعاليم الأشمونين لقلة ما تخلف عنها؛ ولكننا نعلم الكثير عن أثر هذه التعاليم في مدينة أخرى نقلت عنها في عصور تالية، وهذه المدينة هي طيبة التي تشير الأساطير إلى أن بعض آلهة الأشمونين تسربت إليها، ومن هذه الآلهة آمون، كما استقرت تعاليم كثيرة من تعاليم الأشمونين في هذه المدينة أيضًا؛ إلا أن طيبة لم تكتفِ بآلهة ثمانية؛ بل إن محاكاتها لمدرسة منف جعلتها تضع إلها قبل هؤلاء الثمانية، ولم يكن هناك بد من أن يكون آمون هو ذلك الإله الذي خلق

بقية التاسوع مع أنه أحد الآلهة الثمانية في الأصل؛ وعلى ذلك تخيلوا إلهًا في هيئة ثعبان أطلقوا عليه إسم "كم ات اف" أي ذلك الذي أكمل زمانهن أو بمعنى آخر هو الذي انتهى أمره، وهذا الإله أنجب إلهًا آخر اسمه "إير- تا" أي "خلق الأرض"، وهذا بدوره خلق الثمانية آلهة الأولى التي منها نشأت الخليقة، ومع كل فقد كان "كم ات اف" في نظرهم هو "آمون العظيم" معبود الأقصر وخالق الأرض وإله التناسل.

طبيعة الألهة

طبيعة الآلهة: نظر المصري لآلهته على أنها كائنات أعلى قدرًا من الإنسان ولا تختلف عنه كثيرًا. والواقع أن المصري قسَّم سكان العالم إلى ثلاثة أقسام هي الناس والآلهة والموتى؛ فالأسطورة التي قيلت عن نشأة الخليقة تبعًا لتعاليم طيبة أي التي تأثرت بمدرسة الأشمونين تذكر أن الدنيا كانت حينما خلقت الآلهة الثمانية لا تزال في ظلام وأن هذه الآلهة الثمانية اندفعت مع تيار الماء الأزلي إلى الأشمونين أو وصلت إلى منف أو إلى هليوبوليس وهناك خلقت الشمس ثم رجعت إلى طيبة ولما أتمت صنعها بخلق العالم انتهى أمرها ولحقت بالثعبان "كم ات اف" في عالم الموتى بطيبة حيث استراحوا في مكان معبد صغير بمدينة هابو، وكان آمون يزورهم كل عشرة أيام؛ فلم تكن فكرة موت الإله غريبة لدى المصري؛ بل كانت شيئًا مألوفًا في تفكيره وعلى ذلك اختلط أزوريس "بكم ات اف" كما أصبح آمون هو روح أوزوريس أي أن آمون في الدنيا السفلى، كان أوزوريس وكان آمون هو الروح الذي يزور هذا الجسد، أي أنه كان كإله الشمس عند تجواله في الدنيا السفلى أثناء الليل حيث يزور جسده أوزوريس.

واعتبار آمون روح أزوريس يجعلنا نتعرض لعقيدة المصري بأن الإنسان كانت له روح "با" وقرين "كا". وبالطبع كان للإله ما كان للبشر، وكانت روح الإله تسكن تمثاله الذي في معبده؛ ولكنها كانت كذلك طليقة تتجول في أماكن أخرى وخاصة في السماء، كما أنها كانت تسكن الحيوان المقدس في معبده؛ فكان أبيس مثلًا روح بتاح، كذلك كان في عصر متأخر روح أزوريس أيضًا، وكان الطائر الخرافي "فينكس" روح "سبك" أما "تيس منديس" فكان يمثل أرواح أربعة آلهة هي: رع وأزوريس وحب وشو، ثم تطور الأمر فأصبح للإله الواحد أرواح مختلفة وقرائن متعددة فللإله رع مثلًا سبعة أرواح و "14" قرين ولم يمكن التعرف على هذه الأرواح السبعة؛ وإنما عرفت الأربعة عشر "14" قرينًا التي كانت من الذكور ولها ما يماثلها من الإناث وهذه القرائن هي التي تتمثل في قوى السحر والبهاء والنصر والقوة والنمو والطعام والاستمرار والنظر والسمع والشبع ... إلخ. كذلك تشير بعض الأساطير إلى أن إله الشمس كانت له أربعة رءوس على هيئة رأس الكبش وتقوم كلها على عنق واحد وكانت له "777" أذن ومئات الألوف من القرون، ورءوس الكباش الأربعة كانت تمثل آلهة الرياح الأربعة إِلَى آخِرِ مَا جَاءَ فِي تِلْكَ الخَرَافَاتِ؛ كذلك كانت القرائن الأربعة عشر مع إناثها تنشر الخير مثل النيل والحقل ... إلخ. وبما أن الملك كان ذو صفات إلهية؛ فقد كانت له أرواح كثيرة، كذلك كانت له قرائن مختلفة، وبعض الأفراد كانت لهم أيضًا أكثر من قرين في حالات خاصة، وكان يكنى عن عزيمة الملك أو سلطته القوية بتعبير "أرواح الملك" إذا ما ترجمنا هذا التعبير حرفيًّا، كما كان يكنى عن آلهة المدينة بأرواح المدينة.

ولما كثر الخلط وأصبح عددًا من الآلهة يسمى باسم واحد؛ فقد حاول المصري أن يميز بينها فمثلًا كانت هناك سخمت محبوبة بتاح وسخمت سيدة الصحراء العربية وسخمت في بيت باستت، ولم يتسنَّ ذلك في كثير من الحالات؛ إذ إننا نطالع في النصوص ما يفيد وجود مئات من الآلهات حتحور كما أن الآلهة ذات الاسم الواحد كثيرًا ما اختلطت بعضها ببعض فمثلًا حدث الخلط بين حورس وإدفو "قرص الشمس المجنح" وبين حورس ابن إيزيس. ويستدل من أُسطورة حورس إدفو على أنه كان يصحب الإله رع هو وتحوت في سفره من الحدود النوبية إلى مصر وقد انتصر على أعداء رع، وكان تحوت يسمي الأماكن والبلدان التي مروا بها؛ كذلك تدل الأساطير على أن الآلهة كانوا ملوكًا على مصر العليا والسفلى وعرف الناس مدة حكمهم، وقد ذكرتهم بردية تورين مبتدئة بالإله جب ثم أوزير وست وحورس ثم تحوت ومعات ومن بعدهم آلهة أقل شأنًا وفي آخر القائمة ذكر "خدم حورس" وكانوا عشرة وهم الملوك الذين حكموا في العصور الأولى.

الحوادث التاريخية وأثرها

الحوادث التاريخية وأثرها: لا شك في أن الأحداث التاريخية كانت ذات أثر كبير في تطور الديانة المصرية؛ فإذا ما نظرنا إلى ألقاب الملوك وإلى القصص الديني والأساطير المختلفة فإننا نجد ما يشير إلى ذلك إذ يذكر مانيثون بأن مصر كان يحكمها قبل العصور التاريخية حكام من الآلهة أي أسرة إلهية "بتاح ورع وشو وجب وأوزير وست وحوريس" وبعد ذلك حكمت أسرة من أشباه الآلهة ثم عشرة ملوك من الأرواح أو من أتباع حوريس حكموا قبل

مينا، وتشير بردية تورين إلى نفس الترتيب تقريبًا. وتدل الشواهد الأثرية على أن أتباع حوريس وصلوا إلى وادي النيل عن طريق وادي الحمامات واستقروا بالقرب من قفط حيث كان إلهها المحلي مين، وكان المعبود الوطني في مصر كلها هو الإله ست. وكان حوريس وأتباعه محاربين متفوقين بما لديهم من أسلحة؛ فلم يمكثوا طويلًا في قفط أو ما جاورها؛ فتحركوا شمالًا حتى استقروا في غرب الدلتا، ثم وفدت عليهم أقوام من شرق الدلتا يدينون بنفس الدين ويعرفون الأسلحة المعدنية وقد أطلق عليهم أصحاب الرماح فاتصلوا بأتباع الإله حوريس الذين كانوا في غرب الدلتا حتى أصبح هذا الإله إلهًا لغرب الدلتا كله. ثم جاءت بعد ذلك هجرة من غرب آسيا تحت قيادة أوزير الذي كان على ما يحتمل ملكًا عبد ثم أله فيما بعد وقد استقر هؤلاء في شرق الدلتا، ولم يكونوا من المحاربين؛ بل كانوا رعاة ورجال سلم وسرعان ما اندمجوا في أهل البلاد الذين رأوا في أوزيريس صورة للإله الطيب وأخًا لإلههم ست، كما أن أوزيريس وقومه كانوا يميلون إلى أهل شمال الدلتا وإلهته إيزيس، وفي نفس الوقت جاءت كذلك مجموعة أخرى من المهاجرين اخترقت الدلتا واستقرت عند رأسها في هليوبوليس، وكان رع هو قائدهم وإلههم ويحتمل أنهم جاءوا من الشمال الشرقي للبحر المتوسط أو من جزره وكانوا على جانب من الثقافة والفهم ومعظمهم من التجار وأصحاب الحرف. وقد وجد حوريس وأتباعه أمورًا مشتركة بينهم وبين أوزير وأتباعه وقد نتج عن ذلك أن غرب الدلتا تحت قيادة حوريس وشمال الدلتا تحت قيادة إيزيس ارتبطوا برباط ودٍّ وسلام مع أوزير وأتباعه وكذلك مع

ست، ورأى المتعبدون في إيزيس زوجة لأوزير وحوريس ابن لهما وست شقيق لأوزير: وبما أن حوريس الذي اعتبر إلها للسماء كان يعترف بالإله ست؛ فإن أتباع رع كذلك اعترفوا بالإله الوطني ست؛ ولكنهم لم يعترفوا لأوزير في أول الأمر، وبعد أن استقرت الأمور بين رع وأوزير وأخذت وحدتهما في الظهور بدأ يظهر لون من التنافس بين ست وأوزير، فبفضل النشاط الحربي لحوريس وطرق أوزير السلمية وثقافة رع؛ تكونت مملكة في مصر السفلى بقيادة حوريس وكانت عاصمتها بوتو، وكان طابع هذه المملكة سلميًّا وفقًا لما تميز به أوزير الذي نشط أتباعه في التبشير له حتى امتدت نفوذه إلى أبيدوس أو ما بعدها ويعد هذا أول اتحاد بين الدلتا والصعيد. ولكن سرعان ما غضب ست وأتباعه ولم يكن أوزير قائدًا حربيًا فتراجع إلى بوزيريس موطنه في الدلتا وذبح هناك؛ ولكن أتباعه اعتقدوا أنه بعث ليحكم العالم السفلي وأصبحت إيزيس وحيدة، أما رع فقد وقف موقف المحايد؛ إلا أن هذه الأمور استثارت حوريس الذي كان قائدًا وملكًا على مصر السفلى؛ فأراد أن ينتقم لأبيه ونشب صراع جديد بين حوريس وست وفي هذه المرة تغلب حوريس، وغزا الصعيد؛ فاضطر ست وأتباعه إلى التراجع أعلى النهر ثم إلى الواحات والصحاري. وقد يدل هذا على التوحيد الثاني الذي حدث من الدلتا أيضًا قبل التوحيد الذي قام به مينا ويعد بداية الأسرات. وفي نفس الوقت جاء وافدون جدد من الصعيد شقوا طريقهم إلى الدلتا وكانوا يحملون أفكارا جديدة؛ ولم يكن رع ليعنى كثيرًا بالصعيد أو بأعمال

حوريس؛ ولكنه كان يميل إلى ست ويفضله وسرعان ما حدث احتكاك بين الصعيد والدلتا، وظل أتباع حوريس الأوفياء على ارتباطهم به، وكان معظمهم من الجنوبيين، وأصبحت العداوة صريحة بين أتباع حوريس في الصعيد وأتباعه الشماليين الذين تأثروا بالأفكار الجديدة؛ ولكن أهل الجنوب انتصروا آخر الأمر تحت قيادة أحد أتباع حوريس وهو الملك مينا الذي أعاد توحيد مصر، وهذا هو التوحيد الثالث الذي بدأت على إثره العصور التاريخية، وقد أصبح اتخاذ اللقب الحوريسي لدى الملوك تقليدًا طوال العصور الفرعونية باستثناء الملك "بر- اب- سن" الذي اتخذ لقب ست بدلًا منه، وربما كان ذلك؛ لأنه كان يدين بهذا المعبود ولا ينتمي لأتباع حوريس. ومنذ عهد الأسرة الرابعة يبدأ نفوذ رع في الازدياد حتى إن ملوكها اتخذوا أسماء تتضمن اسم رع في نهايتها، وبعد ذلك انتقل الملك إلى بيت ينتمي إلى كهنة هذا الإله مؤسسًا الأسرة الخامسة، وعلى ذلك يمكننا أن نستنتج أن نفوذ هليوبوليس وكهنتها قد أصبح مسيطرًا وازداد هذا النفوذ قوة فتقربت الآلهة الأخرى إلى الإله رع ووحدت معه ولم يستثنَ من ذلك إلا الإله بتاح. ولما عظم شأن طيبة في الأسرة الحادية عشر ازداد مركز آمون الذي يحتمل أنه كان إله الأسرة الحاكمة لأننا نعلم بأن الإلهين "مين ومنتو" كانا يعبدان في طيبة قبل ذلك، ولكن آمون صارت له الصدارة منذ عهد تلك الأسرة. ولما جاء الهكسوس إلى مصر واستوطنوا شرق الدلتا؛ وجدوا أن

الإله ست الذي كان يعبد في ذلك المكان قريب الشبه من إلههم سوتخ فعبدوه واتخذوه إلهًا رسميًّا. ولما طردت الأسرة السابعة عشر الطيبية الهكسوس من مصر عاد آمون إلى سابق سيطرته وأصبح الإله الرسمي للدولة في عهد الإمبراطورية الحديثة، وقد أصبح عظيم الخطر؛ لأنه إله الأسرة التي أسست هذه الإمبراطورية وإليه يعزى انتصارها، وقد وحدت معه آلهة كثيرة؛ حتى إن رع وحور وحدا معه أيضًا، وظلت الهبات والأوقاف تتوالى على هذا المعبود من ملوك الإمبراطورية حتى أصبح ذهب بلاد النوبة وقفًا عليه وسميت بلاد النوبة تبعًا لذلك باسم بلاد الذهب الخاص لآمون، وصيغت في مدحه الأناشيد، ومنها أناشيد أطلقت عليه اسم رع وأخرى أطلقت عليه اسم آتون وذلك في عصر إخناتون. ومنذ عهد أمنحتب الثالث أو قبله بقليل يبدأ اسم آتون في الظهور، وربما كان ذلك لأن الملوك وجدوا في نفوذ آمون خطرًا يهدد الملكية؛ فأرادوا أن يضعفوا من مركز هذا الإله بإيجاد منافسين له ممن يحظون بتأييد عام فعبدوا آتون كصورة لرع الذي ظل طوال العصور الفرعونية ذو مكانة مرموقة؛ كذلك لجأ أمنحتب الثالث إلى إدخال عبادة الملك الحي أو صورته الحية على الأرض؛ ولكنه لم يشأ أن يبدأ هذه الخطوة في مصر بل بدأها بعيدًا في السودان حيث بنى معابد لعبادته هو وزوجته هناك كما أنه في نهايه عهده بنى معبد للشمس في الكرنك. ولما جاء إخناتون أحدث ثورة عامة وقد صور إله الشمس في شكل

يقرب إلى أذهان العامة "قرص الشمس تخرج منه الأشعة وهذه تنتهي بأيدٍ تتدلى منها علامة الحياة" بخلاف التصوير القديم الذي كان يغلق على أفهام العامة؛ إذ إنه كان يصور إله الشمس في هيئة إنسان برأس صقر، وربما كان إخناتون لا يعتقد بأنه ارتكب إثمًا نحو معبود أجداده آمون؛ لأن هذا الأخير كان موحدًا مع إله الشمس في صورة "آمون رع"؛ إلا أن كهنة آمون وجدوا في فكرته الجديدة هرطقة حاولوا القضاء عليها فحدثت الثورة المعروفة، وتغالى إخناتون في صب جام غضبه على آمون ونقل هذا الغضب إلى كل المعبودات الأخرى وخرج إخناتون على كل التقاليد وظهر أثر ذلك في الفن خاصة، ولم تذكر ديانة إخناتون مملكة الموتى كما أن التوريات المعهودة عن الوفاة مثل "الطيران إلى السماء" أو "الرسو" لم تذكر كذلك؛ بل ذكر الموت والدفن ببساطة، ويظهر أن أتباع إخناتون أحبوا الحياة؛ ففضلوا التفكير فيها بدلًا من الموت، ومع ذلك ظلت العقيدة القديمة التي تذكر بأن الموتى يسكنون العالم السفلي وأن الروح تستطيع الخروج من المقبرة والعودة إليها كما كانت ولم تتغير وظلت الروح كذلك تمثل في هيئة طائر يجثم فوق الجثة، كما ظل الاعتقادُ بأن الميت يتقبل القرابين سائدًا، أما محاكمة أوزير؛ فلم تذكر؛ ولكن كلمة "مبرر" أو "مرحوم" كانت تذكر أحيانًا، وكان الجعل يوضع على المومياء؛ ولكن كان ينقش عليه دعاء لآتون كما أن تماثيل الأوشابتي "المجيبين" ظلت تستعمل كذلك؛ ولكن الدعاء عليها كان لآتون أيضًا؛ وبدلًا من تمثيل الآلهة إيزيس ونفتيس وغيرها من الآلهات مجتمعة على أركان التابوت مثلت الملكة بدلًا منها.

ويرى بعض الأثريين أن عدم وجود الناحية التصوفية وناحية ماوراء الطبيعة هو سبب فشل هذه الديانة؛ ولذلك فضل الشعب العقيدة القديمة؛ ولكن يبدو أن محافظة المصريين على التقاليد وضعف القوة المملكة في الخارج ووفاة الملك سريعًا دون أن تستقر هذه الديانة الجديدة وعدم وجود خلف له من الذكور؛ كل ذلك أدى إلى التحول ثانية إلى الديانة القديمة بل والرجوع إلى العاصمة القديمة أيضًا، وكانت النقمة شديدة على إخناتون إذ أطلق عليه بعد وفاته اسم مجرم أخيتاتون. وبعودة الحياة الطبيعية بعد هذه الثورة عادت عقيدة آمون بصورة لا تماثل قوتها من قبل فقد استعادت آلهة المدن المختلفة حقوقها مثل رع وبتاح، ومن جهة أخرى لما كان لطيبة شرف القضاء على الهرطقة؛ فإنها صارت أعظم الأماكن قداسة. وقد ازدادت ثروة آمون زيادة لا مثيل لها فحقوله أصبحت خمسة أضعاف حقول رع وتسعين ضعفًًا لحقول بتاح وقد شيدت له المعابد الفخمة في الأسرة التاسعة عشر، ولما عظمت فخامة هذه المعابد؛ لم يكن يسمح لعامة الشعب بدخولها فأصبح دين آمون دين الخاصة وأصبح غريبًا على أبناء الشعب الذين فكروا في آلهة أكثر شعبية ومنها إله الشمس، كما عادت الحياة إلى كثير من الآلهة القديمة التي حاول الملوك إرضاءها ببناء معابد لها؛ فمثلًا بنى رعمسيس الرابع معبدًا في أبيدوس للإله أزوريس الذي كان يعد في نظر الملك من أكثر الآلهة غموضًا وخفاء، وأنه هو القمر وهو النيل وهو الذي يحكم العالم الآخر؛ كذلك احتل الإله ست مركزًا ضخمًا في عصر الأسرة التاسعة عشر. ورغم أن عامة الشعب لم يكن من الميسور دخولهم إلى المعابد الفخمة

التي بناها ملوكهم؛ إلا أن ذلك لم يحل دون تقواهم وقد نقشوا الصلوات تعبدًا لآلهتهم ولجئوا في حالات كثيرة إلى آلهة تكون أقرب منالًا؛ بل وتطور الأمر حتى أصبح كل فرد يقدس من الكائنات ما يقع تحت نظره وما يصادفه فمثلًا عبدوا الآثار القديمة وعبدوا بعض الحيوانات والجمادات في بيئتهم المحلية كما تصوروا آلهة أخرى خرافية تجمع في صفاتها وتكوينها مميزات كائنات متعددة مثل: تويرس وبس1 وبعل وغيرهم وكذلك صور لهم الوهم عبادة بعض المعالم الجغرافية مثل قمم الجبل في البر الغربي لطيبة، وازدادت عبادة العامة والسذج للحيوان وانتشرت حتى أصبحت شائعة، وقد تغالى الرومان في هذا بعد ذلك إلى درجة أن أحد شعرائهم واسمه جوفنال2 تهكم من ذلك بقوله مخاطبًا رجال عصره: "أيها الأطهار الذين تولد لهم تلك الآلهة في الحدائق". ويبدو أن الآلهة التي تمثل النواحي الأخلاقية كانت آخر العبادات ظهورًا ومن أمثلة ذلك: ماعت وبس وغيرها. ولأهمية المعايير الأخلاقية توقف مصير الميت على ملكه في الحياة وأصبح الموت من أهم المشاكل التي شغل المصريون أنفسهم بها؛ ولذلك أصبحت أسطورة أزوريس من أوسع الأساطير انتشارًا وصارت عبادته أقرب العبادات إلى القلوب.

_ 1 تويرس: معبودة تجمع بين رأس التمساح وأنثى فرس النهر، بس: معبود يجمع في شكله رأس الهر وجسم القزم. 2 شاعر روماني عاش حوالي "42- 120 م" وقد اشتهر بسخريته اللاذعة من معاصريه.

العقائد الجنزية

العقائد الجنزية: لا نعرف كثيرًا عن العقائد الجنزية في أقدم العصور الفرعونية، وأول ما يطالعنا عن تلك العقائد هو ما ورد في متون الأهرام التي دونت في الأهرام ابتداء من عهد أوناس آخر ملوك الأسرة الخامسة، وهي لا شك ترجع إلى أصول قديمة؛ لأننا نعلم بأن المصري منذ أقدم العصور كان يعنى بموتاه عناية فائقة ولا يدخر وسعًا في سبيل المحافظة عليهم، كما أن الميت كان يزود في مقبرته بما يلزمه من متاع يحمل على الظن بأن اعتقاد المصري في حياة ثانية كان اعتقادًا راسخًا وأن هذه الحياة تشبه حياته الأولى. ومع أن متون الأهرام تدور في معظمها حول الملك وواجب الآلهة نحو العناية بشخصه المقدس؛ فقد وجدت بها أوراد تدل على أن الميت لم يذنب في حق الملك مما يدل على أن هذه الأوراد في أصلها كانت تستخدم لعامة الشعب أيضًا أو أنها كانت شائعة، ومن الأوراد ما يدل كذلك على مصير متواضع إذ تشير إلى الرقاد في التراب أو الرمل. ومما نلاحظه في نصوص الأهرام أن الإله أزوريس الذي كان يعد إله الموتى اتخذ في بعض الأوراد مكان إله الشمس أو مكان إلهة السماء. ومما تجدر الإشارة إليه أن المصري كان يعتقد بأن الإنسان يتألف من ثلاثة عناصر: هي الجسم والكا "القرين" والبا "الروح"، وكان يفسر الموت بأنه هجر الكا للموتى علمًا بأن الكا كان يستقبلها عند ولادته بأمر رع وهي تشبه صاحبها تمامًا، كما اعتبر القبر دارًا للكا وأن القرابين تقدم إليها؛ كذلك كانت الكا في نظر المصري هي الملاك الحارس

الذي يهتم بالإنسان وهي التي تنجب له الأبناء؛ ولكنها ظلت مع ذلك كائنًا إلهيا غامضًا بالنسبة له كما يفهم ذلك من النصوص المختلفة التي تشير إليها، أما البا فهي الروح التي تترك الجسد عند الموت وقد صورها المصري في أشكال مختلفة فهي أحيانًا كطير ولذلك كان من المحتمل في نظره أن تكون روح الميت طائرًا بين طيور الأشجار التي غرسها بنفسه، وأحيانًا تكون في هيئة زهرة اللوتس أو في هيئة الثعبان الذي يندفع من جحره أو التمساح الذي يزحف من الماء إلى الأرض. وقد تساءل المصري كذلك عن مقدرة الروح وظن أنها تستطيع اتخاذ تلك الأشكال جميعًا وغيرها من أشكال كثيرة لا حصر لها كما أنها كانت في نظره تستطيع الاستقرار في أي مكان تشاء. ولما رأى الشمس تغرب يوميًّا في الغرب وتعود إلى الشروق في الشرق اعتقد بأنها كانت تجوب ليلًا عالَمًا سفليًّا، وهذا العالم لا يدخله الأحياء بل هو عالم الموتى الذين يهبطون إليه في الغرب ويعيشون في عالم مظلم؛ إلا إذا مضت من فوقهم الشمس في رحلتها بالليل، ولذا أطلق على عالم الموتى اسم "عالم الغرب" كما أن الموتى يسمون أهل الغرب واعتبر "سكر" إله الموتى في منف أول أهل الغرب. وكما يختلف الناس في حياتهم؛ كذلك لا يمكن أن تكون هناك مساواة بعد الموت أي لا بد من وجود أماكن أفضل ومقر أحسن للأرواح الممتازة، هذا المقر كان في السماء، أي أصبح هناك عالم ثانٍ للموتى وقد أطلق عليه اسم "دوات" ثم تطور هذا الاسم؛ فأصبح يطلق فيما بعد على عالم الموتى السفلى كذلك، وقد ظن المصري بأن نجوم الليل

هم موتى أو أرواح سعيدة ظلت في سناء دائم مع الآلهة؛ إذ مد إليهم رع يده أو أخذتهم إليها آلهة السماء ونظمتهم بين ما لا يفنى من نجوم جسدها. وقد ظهر أثر التضارب في التفكير الديني في متون الأهرام نفسها إذ نجد فيها ما يشير إلى أن الميت يطير في شكل طائر إلى السماء إلى جانب إخوته الآلهة حيث تمد إليه إلهة السماء يديها وتقيمه عليها نجمًا لا يفنى، وهو يولد منها في الصباح وينتسب إلى الذين يقفون من وراء رع والذين يقفون أمام نجمة الصباح، يبحر إلى الجانب الشرقي من السماء حيث تولد الآلهة فيولد معهم، متجدد القوة والشباب. ومن أمثلة التضارب في النصوص أن الملك ليس إنسانًا وليس آباءه من البشر. إنه تحوت أقوى الآلهة أعظم من رع وهو ابنه. كما تصور النصوص الميت كصائد يتصيد نجوم السماء ويلتهم الآلهة يعيش على آبائه ويتغذى بأمهاته. أما مقر الأبرار فقد تخيلة المصري كمجموعة من الجزر تمثل: حقل الأطعمة، وحقل يارو أو مقر الممجدين، هاتان الجنتان تخيلهما المصري على شكل البلاد المصرية يغمرها الفيضان ويزدهر فيها الزرع وتقوم آلهة السماء فيها بإطعام الميت طعامًا طاهرًا بريئًا، ترضعه نوت أو الحية التي تحمي الشمس ولا تفطمانه أبدًا أو يلتقي نصيبه من شونة الإله العظيم ويلبس ما لا يفنى وله من الخبر والجعة ما يبقى أبدًا، طعامه بين الآلهة وشرابه النبيذ على نحو شرب رع، ويعطيه رع مما يأكل ويشرب. وكان الوصول إلى حقول الأبرار هذه صعبًا عسيرًا فكان الميت

يرجو عطف حورس "الصقر" وتحوت "أبو منجل" لينقلانه إلى هذه الحقول أو يرجو إله الشمس ليعبر به في سفينته أو يرجو ملاح "نوتي" حقول يارو الذي لا ينقل غير الرجل القويم الذي لا قارب له. وتبدو مبادئ الأخلاق في نصوص الأهرام من كثير من العبارات التي منها: "ما من شر ارتكبه" و"لم يتقول السوء على الملك" و "لم يحقر الآلهة" و "طاهر الجسد". ومن ذلك يتبين أن معاملة الفرد مع الناس والآلهة كانت تعتمد على مكارم الأخلاق واحترام الملك والآلهة. وبانتشار عقيدة أوزيريس تأثر الأدب الجنزي وأصبح خليطًا مشوهًا أكثر من ذي قبل. ولا نجد إلا القليل من السحر في متون الأهرام. ولما تطورت الحياة الاجتماعية في مصر الفرعونية؛ أصبح للأفراد حق كتابة نصوص جنزية على توابيتهم منذ عهد الدولة الوسطى تقريبًا وهذه النصوص عرفت باسم نصوص توابيت، وهي عبارة عن مختارات من نصوص الأهرام التي كانت وقفًا على الملوك، صيغت في صورة جديدة وأضيفت إليها مواد أخرى، وقد تطورت هذه في عهد الدولة الحديثة إلى ما يعرف باسم كتاب الموتى، وهو عبارة عن النصوص الحنزية التي دونت في المقابر أو في البرديات ابتداء من عهد الدولة الحديثة حتى العصر الروماني، وكتاب الموتى هذا يرجع في تكوينه إلى مجموعتي متون الأهرام ونصوص التوابيت وقد أطلق المصريون عليه اسم تعريفات للخروج نهارًا، أي أن الغرض من كتاب الموتى هو تمكين المتوفى من الخروج من ظلمة القبر إلى ضوء الشمس وتمكينه من الحركة بعد الموت، وكثير من تعزيمات هذا الكتاب يفهم منها توفير

السعادة في العالم الآخر والتهرب من الأخطار التي تصادف الميت، وهذه كانت تتمثل في هيئة آلهة شريرة أو شياطين أو ما ينتاب المرء من جوع وعطش ... إلخ. وابتداء من عهد الأسرة الثامنة عشر ظهر كتابان آخران لأول مرة وهما: "ايم دوات" "مافي العالم السفلي" و "كتاب الأبواب" وهذان الكتابان يدوران حول موضوع واحد هو رحلة الشمس ليلًا إلى العالم السفلي، وكان المعتقد أن إله الشمس يواصل السفر ليلًا من الغرب إلى الشرق في أسفل الأرض وفي هذه الرحلة يزور ممالك الأموات ويضفي عليهم من ضوئه وكان عليه أثناءها أن يناضل أنواعًا من المردة تسعى لوقف تسياره ولمنعه من الشروق على الأرض ثانية، وكان العالم السفلي في نظر المصري مقسمًا إلى اثنى عشر قسمًا طبقًا لساعات الليل يجتاز إله الشمس كلًا منها في ساعة معينة وفي صورة تختلف عن صورته في النهار، وكان المتوفى يأمل أن يلحق بموكب إله الشمس؛ فاستعان على ذلك بالنصوص التي أطلق عليها "كتاب ما في العالم السفلى" حتى يتمكن من تخطي الأخطار التي تكتنف طريقه ليلًا. أما كتاب الأبواب فيتحدث عن نفس الموضوع أي رحلة الشمس خلال أقسام العالم السفلي الاثني عشر؛ ولكنه يقتصر على وصف الأبواب والبوابات التي تؤدي إلى هذه الأقسام والكائنات التي تحرسها. وكان الميت دائمًا يأمل أن تكون روحه ضيفًا يرحب به في بيته عند زيارتها للدنيا؛ لا ضيفًا غير مرغوب فيه، كما اعتقد المصري بأن روح المتوفى في إمكانها أن تتدخل في شئون الأحياء، وقد وردت إلينا نصوص

كثيرة تبين هذه العقيدة، ومن ذلك مثلًا أن أحد الناس كتب خطابًا إلى روح زوجته المتوفاة يرجوها فيه أن تكفَّ عن أذاه ويذكرها بما كان يبذله من أجلها أثناء حياتها؛ كذلك اعتقد المصري بأن الميت كان يبرر موقفه أمام أزوريس الذي كان قاضيًا وحاكمًا في العالم السفلي فيتقدم بسلسلة من الاعترافات الإنكارية أو السلبية حتى يقبله في مملكته التي يعيش فيها المبرئون والمرحومون، ومن هذه الاعترافات مثلًا: أنا لم أسرق ولم امتهن أرملة ولم أكذب ... إلخ. وكانت قاعة المحكمة يمثل فيها أزوريس كرئيس للمحكمة ومن حوله اثنان وأربعون قاضيًا وفيها يشرف تحوت على الميزان الذي يوزن فيه قلب المتوفى في مقابل ريشة العدل التي توضع في الكفة الأخرى من الميزان؛ فمن كان قلبه أثقل منها ثبتت براءته واعتبر في عداد الأبرار الذين لهم الحق في الوصول إلى حقول يارو، أما من تثبت إدانته؛ فيلقى قلبه إلى حيوان خرافي متوحش مخيف ليلتهمه ويلقى الميت جزاءه في النار ولا يصحب إله الشمس في رحلته ولا ينتظم بين الأرواح السعيدة التي تتلألأ في السماء. ومن ذلك يتبين أن الدين كان يحض على مكارم الأخلاق وأن تلك المعايير الأخلاقية لا شك في أنها في أول الأمر عادات اجتماعية فرضها المجتمع وأصبح لها من القوة ما جعلها من التعاليم الدينية. ولما كان المصري لا يشك إطلاقًا في البعث؛ فإنه حرص على المحافظة على جسده حتى تتعرف عليه الروح وتعود إليه بسهولة كما كان يحرص على بقاء هذا الجسد سليمًا حتى لا يبعث في حالة غير التي كان عليها،

وقد احتاط كذلك بعمل تماثيل له حتى إذا ما أصيب الجسد أمكن للروح أن تحل في تمثال له؛ ولكن نلاحظ في هذه الحالة أن التمثال كان يمثله وهو في ريعان شبابه طمعًا في أن يبعث وهو في خير هيئة له. وبالطبع كانت المحافظة على الجثة تتطلب أن يكون الدفن في مكان أمين بعيد عن المؤثرات الجوية والحيوانات الضارية. وكانت المقبرة في أول أمرها عبارة عن حفرة بسيطة يوضع فيها الميت ثم يهال عليه الرديم، ثم أمكن تسقيف هذه الحفرة بالبوص ثم بالخشب، ولا شك في أن أهل المتوفى كانوا يميزون مقبرته من غيرها بكومة من الرمال أو الحصى. وهذا الجزء الذي يعلو سطح الأرض أصبح جزءًا متممًا للمقبرة وخضع لتيار التطور. ومنذ عصر ما قبل الأُسَرِ؛ أصبح الجزء الذي تحت سطح الأرض مستطيل الشكل؛ لأن تسقيف حفرة الدفن واختراع اللبن الذي استخدم في تبطين هذه الحفرة؛ كان يحتم ذلك أو ييسره على الأقل. وفي أواخر هذا العصر تقريبًا قسمت حفرة الدفن إلى حجرات كما أن الجزء الذي يعلو سطح الأرض فوق هذه الحفرة "Super- Strucure" أصبح عبارة عن بناء من اللبن مستطيل الشكل مائل الجوانب إلى الداخل قليلًا وهو الذي عرف باسم "المصطبة". وكثيرًا ما أصبحت كلمة المصطبة تطلق على المقبرة بأكملها، أي على الجزئين معًا, وكانت جدران المصاطب تبنى بحيث تكون ذات تعرجات -مداخل ومخارج- أشبه بأسوار الحصون ثم اقتصر على فجوتين فقط في جدارها الشرقي منذ عهد الأسرة الثانية، وكانت الفجوة الجنوبية منهما أكبر من الشمالية، وقد وضعت لوحة جنزية لصاحب المقبرة

في الفجوة الجنوبية، وهذه اللوحة هي التي تطورت فيما بعد إلى ما يعرف باسم الباب الوهمي. ومنذ عهد زوسر أمكن بناء مقبرة بأكملها من الحجر وفي عهد الدولة القديمة ظل الجزء الذي تحت الأرض ينحت في الصخر في هيئة حجرة للدفن يؤدي إليها طريق منحدر أو بئر عمودي مع اختلافات بسيطة في أهرام الملوك. أما الجزء الذي يعلو سطح الأرض؛ فقد ظل الأشراف والشعب يبنون في هيئة المصاطب ولكن الحجر استعمل في هذا البناء؛ بينما تدرج الملوك ابتداء من عهد زوسر من الهرم المدرج إلى الشكل الهرمي في بناء هذا الجزء الظاهر من المقبرة، وقد ظل هذا الشكل محببًا لدى الملوك إلى عهد الدولة الوسطى وإن كان بعض هؤلاء لم يستطيعوا إلا بناء أهرام صغيرة من اللبن. وكانت القرابين تقدم إلى روح المتوفى أمام اللوحة الجنزية ولما عظم اتساع الفجوة التي بها اللوحة حولت إلى حجرة لتقديم القرابين والقيام بالطقوس الدينية نحو المتوفى، أما بالنسبة للأهرام؛ فكان كل ملك يبني في الجهة الشرقية من هرمه معبدًا جنزيًّا يصله بالوادي طريق منحدر ينتهي إلى بناء صغير للاستقبال على حافة الوادي. وحينما عظم نفوذ الأشراف في عهد الإقطاع الأول والدولة الوسطى نحتوا مقابرهم في الصخر في مناطق أقاليمهم. ومنذ عهد الدولة الحديثة أخذ الملوك والأشراف في نحت مقابرهم في الصخر خشية سطو اللصوص عليها وفصل الملوك بين مقابرهم وبين المعابد الجنزية التي شيدوها بعيدًا عنها حتى لا يهتدي اللصوص إلى مكان دفنهم، أما الأشراف؛ فكانت حجرات تقديم القرابين من صميم المقبرة نفسها.

وقد تبين المصري منذ أقدم العصور أن الدفن وحده لا يكفي للمحافظة على الجثة فلجأ إلى التحنيط ولا نعرف على وجه الدقة متى بدأ؟ رغم العثور على جثث من الأسرة الثانية كفنت بعناية ودقة وكان كل عضو فيها ملتف على حدة مما يشعر بوجود نوع من التحنيط. ومنذ عصر الأسرة الرابعة عثر على جثث محنطة تحنيطًا تامًّا وما زال صندوق حتب حرس يحوي صرة كانت بها الأحشاء محفوظة في النطرون؛ غير أن الجثة لم يعثر عليها، وأقدم مومياء معروفة ترجع للأسرة الخامسة في المتحف الملكي لكلية الجراحة بلندن، وقد استمر التحنيط مستخدمًا حتى أوائل العهد المسيحي. ومعظم مواد التحنيط وطرقة أصبحت معروفة إلا من بعض التفاصيل وأقدم وصف للتحنيط وصل إلينا من هيرودوت ثم ديودور. وقد روى هيرودوت بأن المصري كان يستعمل ثلاثة طرق مختلفة: 1- وهي تكلف وزنة من الفضة ذات قيمة كبيرة، وفيها يستخرج نخاع المخ من الخياشيم بآلة خاصة وما يتبقى منه يزال بعقاقير لم يذكر اسمها كما كانت محتويات الجوف والصدر -ما عدا القلب والكليتين- تستخرج عن طريق فتحة في الجانب الأيسر ثم ينظف مكانها بنبيذ البلح والتوابل ويملؤ بعد ذلك بالمر وبعض المواد العطرية والكتان والراتنج والنشارة والنطرون وقشر البصل وغير ذلك. ثم تخاط الفتحة ويعالج كل الجسم بالنطرون لمدة 70 يومًا ثم يغسل ويلف في لفائف من الكتان تلصق بالصمغ. 2- كان زيت خشب الأرز يستخدم في هذه الطريقة حيث كان الجسم

يحقن به ولا يسمح بتسربه؛ إلا بعد أن يعالج الجسم بالنطرون. 3- أرخص الطرق وكانت للفقراء وتتلخص في تنظيف الأحشاء بأنواع من السوائل: ماء أو شربة، ثم يعالج الجسم بعد ذلك بالنطرون لمدة 70 يومًا. ويعطينا ديودور بعض التفاصيل لم يذكرها هيرودوت إلا أنه لم يذكر سوى طريقة واحدة للتحنيط تتلخص في إزالة الأحشاء ما عدا القلب والكليتين وتنظيفهما بنبيذ البلح وتوابل مختلفة لم يعين أسماءها، ويُدلَّك الجسم بزيت خشب الأرز ثم يمسح بالمر والقرفة ومواد مماثلة؛ بالإضافة إلى قار البحر الميت؛ حيث أشار في إحدى المناسبات عند وصف قار "البحر الميت" أنه كان يحمل إلى مصر ليباع فيها لتحنيط الموتى؛ لأن الأجسام لا يمكن أن تحفظ مدة طويلة دون تعفن؛ إلا إذا خلطت بالتوابل العطرية المستعملة لهذه المناسبة. وربما كان الاختلاف بين الطريقة التي ذكرها ديودور وطرق هيرودوت راجع إلى أن فن التحنيط قد تطور في الأربعة قرون التي تفصل بين هذين المؤرخين. وبعض الجثث لم تنزع منها الأحشاء مثل مومياء "عاشيت" من الدولة الوسطى، أما الأحشاء التي تنزع؛ فكانت تعالج بمخلوط من الرمل والقار وتدفن في صندوق خاص قد يكون مقسمًا إلى أربعة أقسام ثم أصبحت توضع في أربعة أواني إلى جوار الجثة، وهذه الأواني تعرف باسم أواني الأحشاء. وأحدها كانت توضع به الأمعاء الغليظة والمعدة والثاني توضع به

الأمعاء الدقيقة والثالث توضع به الرئتان والرابع يوضع به الكبد، وأغطية هذه الأواني على هيئة أحد أبناء حورس الأربعة التي كانت تعتبر حامية للأحشاء. والظاهر أن التحنيط اكتشف مصادفة حينما تبين المصري أن بعض الأجساد التي دفنت في تربة ملحية كانت تحفظ من التعفن، ويذكر هيرودوت أن الأثيوبيين كانوا يجففون الأجسام لتحنيطها ويدلكونها بالحصى ثم يضعونها في أوعية شفافة. هذا وقد كانت عملية التحنيط تجريها فئة خاصة يبدو أنها كانت فئة غير محبوبة.

القضاء

القضاء كان الوزير في أقدم العصور على رأس القضاء بحكم وظيفته كبيرًا للقضاة، ومنذ عهد الأسرة الخامسة؛ أصبحت هذه الوظيفة وراثية في أسرة نبيلة، وقد وجدت في الوجه القبلي ست محاكم كبيرة يحتمل أن كلًا منها كانت تختص بقسم من أقسام ستة رئيسية يرجح أن العرف جرى على تقسيم الوجه القبلي إليها في بعض الشئون العامة، وكان كل من عظماء الوجة القبلي العشرة يعتبر مستشارًا في إحدى هذه المحاكم، أما رئيس هؤلاء العظماء فكان يعتبر مستشارًا فيها جميعًا، وبالطبع كان لكل محكمة قضاتها، وإلى جانب هؤلاء كان هناك قضاة لا ينتمون إلى أي محكمة، وهؤلاء كانوا يعملون كمساعدين لكبير القضاة عندما تعقد جلسات ذات سرية أو ذات أهمية خاصة، ومثل هؤلاء القاضي الذي كان

يلقب بلقب "فم نخن" ولما كانت الإلهة "ماعت" تعد إلهة للعدالة؛ فإن القضاة كانوا يعدون من كهنتها. ويبدو أن هذا النظام قد تعرض للتبديل؛ ففي عصر الدولة الوسطى؛ تغير تشكيل هذه المحاكم وأصبح منصب كبير القضاة -وإن ظل مرتبطًا بمنصب الوزير- لقبًا تقليديًّا، ولم تعد له نفس الاختصاصات السابقة كما أن لقب "فم نخن" أصبح هو الآخر لقبًا شرفيًّا يمنح لبعض أمراء الأقاليم، أما في الدولة الحديثة؛ فإن ما ورد من إشارات يدل على أن أعضاء المحاكم كانوا عرضة للتغيير والتنقلات، وكانوا عادة من الموظفين والكهنة الضالعين في القانون؛ غير أن كاتب المحكمة كان غالبًا ثابتًا في وظيفته، ولهذا الأمر أهميته بالطبع؛ لأنه كان يكلف بحفظ محاضر الجلسات باعتبارها الوثائق الحاسمة في المحاكمات. ولم تصل إلينا القوانين التي كانت المحاكم تسترشد بها؛ ولكن هناك ما يشير إلى وجود مجموعة للقوانين الرسمية كانت مدونة على ملفات من الرق وجدت ضمن مناظر المحكمة التي كانت تعقد في قاعة الوزير "رخ مي رع" "من عهد الأسرة الثامنة عشرة كما تظهرها نقوش مقبرته في البر الغربي للأقصر، ومعظم هذه القوانين ترجع في أصولها إلى عصور سحيقة؛ إلا أن الحاجة كانت تدعو بعض الملوك إلى سنِّ المزيد من سن القوانين كما حدث في عهد سنوسرت الأول "الأسرة الثانية عشر" وحور محب "مستهل الأسرة التاسعة عشر". وكانت ظروف بعض القضايا توجب الخروج على الإجراءات القضائية المعتادة فمن ذلك القضية التي اتهمت فيها زوجة الملك بيبي الأول حيث جرت

المحاكمة فيها بسرية ولم يشترك فيها سوى عدد محدود من القضاة وعلى رأسهم أوني الذي كان مقربًا للملك، كما أن قضية المؤامرة التي دبرت لاغتيال رمسيس الثالث لم تنظر أمام محكمة عادية؛ بل شكلت لها هيئة محاكمة خاصة منحت سلطات مطلقة وقد جرت المحاكمة في سرية وسرعة؛ إذ إن غالبية المشتركين في المؤامرة كانوا من حريم الملك ومن كبار موظفي البلاط والضباط. وكانت الدعاوي المدنية تقدم أمام المحاكم الدائمة وكان على الشاكي أن يثبت حقه بما لدية من وثائق رسمية أو شهادة الشهود أو بهما معًا، وكان على المدعى عليه أن يقسم بأن ينفذ قرار المحكمة، كما كان على الشهود أن يقسموا على قول الصدق. أما أهم الوثائق التي كان يعتد بها في الوصايا التي يوصي فيها السلف إلى المدعي بما يدعي ملكيته، وقوائم الضرائب الرسمية التي تثبت حقه فيما يدعي أنه حقه، وعقود الشراء إلى جانب الوثائق التي تنص على الهبات والأوقاف والإعفاء من الضرائب وغيرها.

العسكرية

العسكرية لم يكن في مصر في أقدم عصورها جيشًا موحدًا؛ بل لكل مقاطعة قوتها العسكرية الخاصة ولكل من المعابد الكبيرة ولإدارة بيت المال فرقها الخاصة، وهذه كلها كانت تجمع عند الحاجة كما حدث عندما هاجم الآسيويون مصر في عهد الأسرة السادسة، -وقد ظل الحال كذلك إلى عهد الدولة الوسطى حيث ظل كل أمير يحتفظ في إقليمه بجيشه الصغير الخاص به. ولم يكن هذا الجيش يستخدم في الحروب؛ بل كان يقوم بأعمال أخرى وقت السلم؛ فإلى جانب حماية البعثات التجارية وبعثات استغلال المناجم والمحاجر في الصحراء كان الكثيرون من الجنود يستخدمون كعمال؛ وخاصة في هذه البعثات الأخيرة لجر ونقل الأحجار، وقد تنبه ملوك الدولة الوسطى إلى أن فِرَقًا كهذه لا يمكن أن تكون لها فاعلية الجيوش الموحدة المنظمة فأنشئوا لهم حرسًا خاصًّا ثابتًا استخدموه في حروبهم، وقد عرف هذا الحرس باسم "أتباع الحاكم". أما في عهد الدولة الحديثة؛ فقد أخذ الطابع الحربي يسود البلاد بعد أن نجحت في طرد الهكسوس وذاقت طعم النصر في القتال وأقبل المصريون على الانخراط في سلك الجندية لما كانوا ينالونه فيها من شرف وفخار فضلًا عن المكاسب المادية التي يحصلون عليها في انتصاراتهم، وأصبح الجيش المصري ثابتًا يتألف من عدد من الفيالق أو الوحدات التي كانت على الأرجح تختلف في ملابسها وأسلحتها، ويغلب على الظن أن الجيش المصري لم يخلُ في أي وقت من المرتزقة وخاصة من النوبيين الذين استمر استخدامهم منذ أقدم العصور؛ ففي الدولة القديمة عملوا

كحرس للجبانات والمناطق الصحراوية، وفي عهد الفوضى الأول كانوا يعملون في جيوش المقاطعات وظلوا كذلك يستخدمون في الجيش في عهد الدولة الوسطى، أما في الدولة الحديثة؛ فكانوا يؤلفون فرقًا حربية تعمل في حفظ الأمن إلى جانب بعض النواحي الإدارية الأخرى، وقد زادت العناصر الأجنبية في الجيش ابتداء من عصر الأسرة التاسعة عشر حتى أصبحوا في العصر المتأخر يشكلون غالبية الجيش المصري، وكان يرأسهم رؤساء من بني جلدتهم. ومما يلاحظ في هذا الصدد أن جماعات الشردان والليبين أخذت تسود في أواخر عصر الدولة الحديثة بينما أفسحت مكانها في عصر النهضة "الأسرة 26" وما بعدها للعناصر اليونانية. وكما تطور الجيش في تكوينه تطورت كذلك الأسلحة التي استخدمها؛ ففي فجر التاريخ كان السلاح الشائع الاستعمال هو الهراوة "دبوس القتال" ذات الرأس الحجري التي ظلت تبين في النقوش حتى أواخر العصور الفرعونية كسلاح تقليدي يستخدمه الفرعون في تحطيم رءوس أعدائه. وفي عصر الدولة القديمة كان الجنود يسلحون بفئوس للقتال وبالقسي والسهام. وفي عهد الفوضى الأولى ظل استخدام القسي والسهام إلى جانب استخدام الحراب الطويلة والتروس في حالة الالتحام عن قرب، ولم يزد تسليح الجنود في عهد الدولة الوسطى عن ذلك كثيرًا؛ غير أن بعض الجنود كانوا يكتفون بالتسلح بمجرد مقلاع فقط. ومن المحتمل أن الخنجر استعمل في مختلف العصور؛ ولكنه لم يمثل مع الجنود في صورهم إلا نادرًا. وقد تغير شكل الفأس النحاسية في الدولة الوسطى حتى أصبحت تبدو كأنها السلاح الذي تطور إلى السيف المنحني

الذي كان يحمله ملوك الدولة الحديثة، وهو على شكل المنجل. وفي عهد الدولة الحديثة كان الجنود يتسلحون بالحراب مع الخناجر أو السيوف التي على شكل المنجل وترس ثقيل، وقد يتسلح بعضهم بحربة خفيفة وترس أو رماح طويلة وسيوف أو القسي والسهام، وكان بعض الجنود يلبسون الدرع "قميص الحرب" هذا إلى جانب استحداث العجلات الحربية كأداة فعالة في الحروب منذ طرد الهكسوس من مصر، وهذه كان يركب فيها عادة محاربان أحدهما لقيادة الخيل والآخر يرمي بالسهام من قوسه أو يقذف بمزارق كانت توضع في جعبتين عند حافة المركبة في متناول يده، وقد أصبح هؤلاء الفرسان يشكلون قسمًا مهمًّا في الجيش المصري. وفي بلد كمصر عرضة للإغارة عليها من بدو الصحاري المتاخمة ومن النوبيين في الجنوب كان لا بد من وجود عدد من الحصون والثكنات عند المناطق الخطر، وتدل البقايا الأثرية على وجود مثل هذه الحصون عند الحدود الجنوبية في عهد الدولة القديمة، وفي عهد الدولة الوسطى وجدت حصون على حدود الدلتا الشرقية وفي جنوب مصر كما بنيت سلسلة من القلاع في النوبة السفلى للسيطرة عليها وحماية الممتلكات المصرية بها؛ أما في عهد الدولة الحديثة فلم تكن الحاجة تدعو في أول الأمر لإنشاء مثل هذه الحصون وربما استعاضوا عنها بإنشاء مدن عسكرية في الدلتا. ويبدو أن المصريين لخبرتهم بمثل هذه التحصينات قد اكتسبوا مهارة في طرق حصارها وتحطيمها منذ عصر الدولة القديمة على الأقل حيث يبدو ذلك واضحًا من منظر يمثل اغتصابهم لحصن آسيوي بالمراقي وقضبان الهدم

جاء في نقش بإحدى مقابر دشاشة1، وفي إحدى مقابر بني حسن مناظر حصار أحد الحصون؛ حيث يتقدم إليه المهاجمون تحت مظلة واقية وهم يدفعون في جداره قضيبًا طويلًا للهدم ويرمون المدافعين عنه بوابل من السهام2.

_ 1 Petrie, Deshasheh, pp.5; pl. 4 2 Newberry, Beni Hassan I, 14:II. 15

الحياة الاقتصادية

الحياة الاقتصادية: الزراعة وتربية الحيوان: لا بد عند الكلام عن الزراعة أن نتخيل البيئة المصرية في بداية العصور الفرعونية؛ فالمعروف أن النهر كان متسع المجرى قليل الغور؛ لأنه لم يكن قد عمق هذا المجرى تمامًا فكانت مياه الفيضان تغمر الجانبين إلى مسافات بعيدة ونتج عن ذلك أن المستنقعات والغابات كانت شائعة وخاصة في الدلتا؛ أي: أن هذه البيئة المصرية كانت في أول الأمر بيئة صياد بطبيعتها، ثم عرف الإنسان استئناس الحيوان، وحينما تعددت مطالبه وعجز عن الاكتفاء بهاتين الحرفتين وتوصل إلى الزراعة بدأ حياة الاستقرار فأخذ يقتلع الغابات ويزرع مكانها، وقد أدى ذلك إلى الإفادة من مياه النيل وأخذ ينظم جهوده المشتركة ليستطيع التغلب على مياه النهر والتحكم فيها لفائدته؛ ولذا كان النيل من أهم البواعث التي أدت إلى ظهور المجتمعات المنظمة، وكان ظهور المجتمعات الصغيرة إلى جوار بعض سببًا في اشتداد المنافسة بينها ومجالًا لنشأة الصراع في سبيل فرض النفوذ ونشر

السلطان فكان الإقليم الأقوى يحاول بسط سيادته على الأقاليم المجاورة. ولا يكاد يوجد في العالم نهر اعتمد سكان واديه عليه في حياتهم مثل اعتماد المصري على نهر النيل، بل وإلى هذا النهر يرجع الفضل في وجود الإنسان في هذه البقعة من العالم، وعلى ذلك ليس من المستغرب أن اعتبره المصريون إلهًا وتخيلوه في هيئة إنسان عظيم الثديين كبير البطن ممتلئ الجسم كناية عن الخير والبركة ويقوم بحزم وربط رمزي الوجه القبلي والوجه البحري "شكل 16" وكثيرًا ما وجد مع غيره "شكل 16": إله النيل يمثل رجلًا ممتلئ الجسم، وهنا تمثيل لرمزين للنيل يوحدان رمزي الوجهين القبلي والبحري

من الآلهة مثل أوزوريس، كما أطلق على هذا الإله الموحد اسم أوزر- أبيس في العصر اليوناني. وقد يصبح النيل خطيرًا أحيانًا، ولا يتمثل هذا الخطر في شدة الفيضان فقط؛ وإنما يتمثل أيضًا في قلة ما يجيء به من مياه في بعض السنوات؛ مما يؤدي إلى هلاك الزرع وانتشار المجاعات، وإذا ما انخفض منسوب المياه؛ فإن الفلاح يلجأ إلى وسائل تعينه على رفع الماء إلى حقله، وقد توصل إلى هذه الوسائل منذ أقدم العصور وظل يستعملها حتى يومنا هذا، ومن أهم هذه الوسائل: الشادوف؛ كذلك ما زال الفلاح يمهد أرضه بالمحراث أو الفأس لإعدادها للزراعة. وكان الجو المصري يساعد على أعمال الزراعة المختلفة؛ فالجو صحو في معظم أيام السنة وأتاح ذلك للمصري أن يؤدي أعماله بنظام ونشاط، وكان المحراث الذي استعمله المصري القديم عبارة عن سكين خشبي تثبت إليها يدان أو مقبضان وعريش طويل ينتهي بنير "ناف" وكانت الثيران هي التي تجر المحراث في الدولة القديمة أما في الدولة الحديثة؛ فقد استعملت البغال أيضًا. وطريقة بذر البذور هي نفسها التي ما زالت مستعملة حتى اليوم إذ يمسك الفلاح بسلة مصنوعة من البوص أو القش أو البردي ويلقي بيده البذور ثم يسير الخراف في الحقل لتغرز هذه البذور في التربة، وقد تمرر الخراف عدة مرات مرات لكي يضمن الفلاح تغريز معظم الحبوب. أما الحصاد فكان يتم بمنجل قصير ويستعين الفلاح على العمل في الحقل بعازف للناي أو أحد المنشدين الذي يشجي العمال بألحانه، وكثيرًا

ما نرى في النقوش مناظر الحقول أثناء فترة الحصاد وفيها نشاهد مناظر تمثل العمال أحيانًا في راحتهم يتناولون طعامهم بالقرب من مكان جمع المحصول؛ حيث نرى حزم النبات مكومة في قطعة أرض فضاء في أحد أركان الحقل أو بالقرب منه، ثم تنقل هذه الحزم إلى مكان الدرس، وكان الحمار هو المستعمل في النقل أما الدَّرْسُ؛ فكان يتم بواسطة إمرار الحيوانات ذوات الحوافر على تلك الحزم مثل الحمير والثيران، ثم أصبح الأمر قاصرًا على استعمال الثيران فقط. وكانت التذرية بمذراة ذات ثلاث أسنان أو كانت الحبوب وما يختلط بها ترفع على لوحات خشب قليلة النقوش "شكل 17" وهذه الطريقة الأخيرة كانت تستعملها نساء معصوبات الرءوس، وربما كان الغرض من ذلك حفظ شعورهن من الأتربة المتصاعدة عن هذه العملية؛ إذ كانت الحبوب ترفع على اللوحات الخشبية إلى أعلى ثم تترك لتسقط فتهبط الحبوب في مكانها بينما تتطاير الأتربة والقش بعيدًا في الهواء. "شكل 17": يمثل نساء يقمن بتذرية القمح

وتقدم من باكورة الحصاد قرابين مختلفة كما أن صاحب المزرعة كان يأخذ شيئًا من هذا المحصول المبكر، أي تقدم له؛ كذلك باكورة الحصاد الجديد لتجربتها والاطمئنان على نوع المحصول، وكثيرًا ما نجد في مناظر الدولة القديمة منظرًا يمثل المذبح المعد لتقديم القرابين بين أكوام القمح، وكانت إلهة الحصاد التي تقدم لها القرابين عادة هي "رننوت". أما حفظ المحصول؛ فكان يتم بعد أن يقوم كاتب الصوامع والكيال بعملها حيث كان الكيال يكيل المحصول؛ بينما الكاتب يسجل عدد الكيل، وبعد ذلك كان ينقل إلى أهرام كبيرة لحفظه، وكانت الصوامع على أنواع: فبعضها من الفخار وبعضها من الخشب وبعضها كبير إلى درجة أنه كان يكفي لاستعمال مدينة أو قرية بأكملها، وهي عمومًا ذات شكل مخروطي وبها فتحة في القمة وباب من أسفل، وكان التخزين يتم عن طريق الفتحة العليا، أما الاستهلاك؛ فكان عن طريق الباب السفلي. وقد عرف المصري من الحبوب القمح ونوعًا من الشوفان، وكان كل منها يختلف في نوعه في مصر العليا عنه في مصر السفلى، وهناك بعض أنواع الحبوب لم يمكن تحديدها؛ فمثلًا كان هناك نوع اسمه "سخت"، كذلك كان من الحبوب ما هو أبيض ومنها ما هو أخضر، وربما كان هذا الأخير نوعًا من البازلاء. أو ما شابهها من البقول، أما الخَضْرَاوَات فكانت متعددة. وكان المصري يحب حيواناته الأليفة ويتعلق بها وخاصة تلك التي تساعده في أعماله، واشتدت عنايته بالأنواع الحسنة من الثيران فكان يتفنن

في تزيينها بأغطية جميلة وجلاجل، وقد وصل به الأمر إلى تقديس الثور والبقرة، وكذلك قدس الكبش. وقد نقش كثيرًا من المناظر التي تمثل تلك الحيوانات، ومن بينها مناظر تمثل قيام الثيران بالعمل في الحقول، كما أحب مناظر مناطحة الثيران وغيرها. وكانت ثروة المصري من الثيران ضخمة وهي تنقسم عمومًا من ناحية خصائصها الحيوانية إلى ثلاثة أنواع: الأول ذو قرون طويلة تشبه القيثارة أو هلالية الشكل، والثاني قصير القرون، والثالث بدون قرون. وكثيرًا ما كان يتحكم في شكل قرون ثيرانه بأن يجعلها تنمو في اتجاهات خاصة، وما زالت هذه العادة معروفة في أواسط أفريقيا، وتتبين العناية بغذاء الحيوان من كثير من المناظر ومن بعض مخلفات الأدب المصري. كذلك كان يعنى بتربية السلالات الأصيلة والإكثار منها، وعند جمع الجزية من بلاد النوبة -مثلًا- كانت الأصناف الممتازة من هذا الحيوان تزين وترسل إلى بيت الملك، أما الحيوانات الأخرى في الجزية فكان الموظفون المصريون في تلك البلاد يحتفظون بها للاستهلاك المحلي. وكان غذاء التسمين المفضل عبارة عن عجين الخبز يصنع في خيوط ويطعم للحيوان، وكانت عملية حلب البقر من الأمور الصعبة؛ فلم تقم بها النساء بل كان يقوم بها الرجال. وكان الرعاة خشنو المظهر يظهرون وكأنهم أنصاف متوحشين لبعدهم عن المدينة، وكانوا يمثلون عراة أو بنقبة غريبة الشكل من النوع القديم المصنوع من القش المضغوط، وكانوا معروفين بالمهارة في أعمال خاصة بالفلاحة ومتعلقة بها مثل: صنع القوارب والحصر من الخوص وصيد

الطيور والأسماك، ولم يكن متاع الراعي ليتعدى قدر كبير من الفخار وسلة تحوي أواني صغيرة وبضع حصر من البردي يصنعها بيده وهي في نفس الوقت الغطاء الذي يلتحف به ليقيه الرياح العاتية والجو البارد. وكانوا ينتقلون بالقطعان من مكان إلى آخر في مهارة غريبة؛ وكثيرًا ما كانوا يلجئون إلى حمل الحيوان الرضيع فتتبعه الأم ويتبع هذه بقية القطيع، وكان أصحاب الضياع يمتلكون قطعانًا كبيرة؛ ولكنهم لم يفخروا إلا بالحيوانات الكبيرة فقط. ولم يعنوا كثيرًا بغيرها كالماعز والحمير والخراف، ولا تجد في نقوش العصور القديمة مناظر تمثل قطعان الخنازير ولم تذكر هذه الحيوانات في النصوص إلا نادرًا ولا نعرف هل كان هذا الحيوان كثير الوجود في مصر أم لا؟ ولا ندري هل وجد منذ أقدم العصور أو أن وجوده لم يتعدَ الأنواع البرية منه فقط. وإلى جانب الحيوانات المستأنسة كانت تكثر بمصر الحيوانات البرية مثل: الظباء والتباتل والوعول والغزلان، وكان الظبي السمين يعتبر من الأطعمة الشهية ويمثل كقربان دائمًا؛ أما الطيور فكانت عديدة ولكن لم تعرف الدواجن، وقد احترف صيد الطيور صيادون مهرة وكانوا يسمنونها بخيوط العجين مثل الماشية إلى جانب بعض الحبوب التي تنثر لها. وللتمييز بين حيوانات القطعان المختلفة كثيرًا ما كان يعمد أصحابها إلى وشمها بعلامات مميزة، وكانت الحيوانات تحفظ في حظائر نظيفة، وقد وجدت آثار للأحجار المثقوبة التي كانت تربط إليها هذه الحيوانات، ويستدل منها على أن الحيوانات كانت تربط في الحظيرة في صفين متقابلين

بحيث تكون رءوسها إلى الخارج مواجهة للجدار؛ بينما تكون مؤخرة كل حيوان أمام مؤخرة الحيوان المقابل له. وكان للأوز مكانه خاصة واعتبر حيوانًا مدللا في كثير من الأحيان؛ حتى إن زوجة أحد موظفي معبد آمون اتخذت أوزة كحيوان مدلل تتبعها أينما ذهبت. ورغم ما كان يبذله الفلاح من جهد، ورغم أنه كان عماد الثروة في مصر القديمة؛ إلا أنه كان يعتبر مخلوقًا بائسًا يستحق الرحمة والرثاء، ويبين لنا خطاب أحد الكتاب لتلميذه مقدار ما كان يعانيه الفلاح من مرارة العيش؛ فقد جاء فيه أن المحصول كانت تأكله الدود، وإذا ما وضع في الأَجْرَانِ؛ فإن الفئران والعصافير تأتي على معظمه وعند تسليم المحصول لا يجد الفلاح لديه ما يكفي لما هو مطلوب منه فيضرب ويعذب.

الصناعة

الصناعة مدخل ... الصناعة: كان الاعتقاد السائد عند المصري المثقف بأن الصانع كالفلاح كلاهما مخلوق بائس وأن حالة الصناع تدعو إلى السخرية؛ فمن ذلك قول أحد شعراء الدولة الوسطى عن صناع المعادن بأن الحداد لا يوفد كسفير لبلاده ولا يؤدي الصانع رسالة؛ كذلك وصف الحداد بأنه يقف بجانب موقده وأصابعه مثل جلد التمساح ورائحته أنتن من بيض السمك، أما النجار فهو مرهق في عمله دائم العناء؛ ولكن هذه النظرة لا يمكن أن تكون عادلة؛ لأن الصناع المصريين أخرجوا من آيات صناعاتهم ما لا يمكن أن ينتجه إلا كل شغوف بعمله أي أن إنتاجهم لم يكن مفروضًا عليهم في جميع الحالات وإن كانت بعض التقاليد

قد حتمت عليه قواعد خاصة؛ إلا أن التفاوت في الإتقان ووجود بعض النماذج التي يعجز عنها الصانع الحديث بإمكانياته الضخمة يجعلنا نعتقد أن الصانع المصري كان يؤدي عمله برغبة واهتمام، وكثيرًا ما كانت له فرصة للحرية في اختيار بعض النماذج وابتكار ما يراه مناسبًا عند إخراج قطعة فنية. أما المواد الخام التي كان يتناولها الصانع في صناعته؛ فكانت مما تنتجه البيئة المحلية أو مما يستورده من البيئات المجاورة، وكانت العلاقاتُ بين وادي النيل الأدنى ووادي النيل الأعلى -أي بين مصر والسودان- وبين وادي النيل وآسيا الغربية نشيطةً منذ فجر التاريخ، وقد تمثل التبادل التجاري بينها أو ما يدل على هذا التبادل في مقابر عصر ما قبل الأُسَرِ إذ وجد بها العاج وبعض المنتجات الصناعية التي تماثل ما وجد في جنوب غربي آسيا، ورغم أن الفيل كان يعيش في غربي آسيا، كما كان يعيش على حدود الصحراء الغربية لمصر نفسها؛ فإن من المسلم به أن العاج كان يأتي من النوبة؛ وإن كان من الممكن الحصول عليه من هذه المصادر الثلاثة جميعًا أي أن التبادل التجاري بين مصر وجيرانها في عصور ما قبل الأُسَرِ لا يمكن إنكاره. وإذا ما تأملنا البيئة المصرية نجد أن أهم المواد الخام فيها هي:

البردي

1- البردي كان هذا النبات يمثل عنصرًا مهمًّا للغاية إذ إنه دخل في صناعات كثيرة، وأول ما تبادر إلى الذهن في هذا الشأن أن سيقان البردي استخدمت في بناء الأكواخ وعمل القوارب "شكل 18" والحصر والسلال والحبال ثم النعال، كذلك كانت سيقان البردي تجمع في حزم لتقوم مقام الأعمدة عند تسقيف المنازل أو عند رفع تعريشاتها الخفيفة

"شكل 18": زورق من البردي يجلس به صائد بالشص أو لتقويه الجدران، وكان من أثر استخدام البردي في المباني القديمة أن ظل المصري يمثل سيقانه في المباني الحجرية حتى نهاية العصور الفرعونية، كذلك مثلت زهوره أيضًا في العمارة المصرية، ومما يدل على أثر هذا النبات في حياة المصري أن زهرة البردي كانت تعتبر رمزًا للوجه البحري، بينما كانت زهرة اللوتس ترمز للوجه القبلي، ثم استخدم البردي كذلك في عمل صحف الكتابة وبالطبع كانت الكلمة اليونانية "Papyrus" الدالة على هذا النبات هي الكلمة التي اشتقت منها الكلمة الدالة على الورق أو الصحف في معظم اللغات الحديثة حيث تسمى بالإنجليزية "Paper" وبالفرنسية "Papier" ... إلخ. وكانت طريقة عمل الصحف منه تتلخص في قطع سيقان البردي إلى شرائح تلصق بعضها إلى جوار بعض طولا وعرضًا وتطرق بشدة ثم تجفف ويقوى طرفها وإذا ما أريد عمل قرطاس للكتابة فإن طرفي هذا القرطاس يقويان، وكان القرطاس لايستعمل مرة واحدة فقط بل كان من الجائز استعماله عدة مرات بعد أن تمحى الكتابة السابقة منه في كل مرة، وكان البردي سلعة رئيسية في الصادرات المصرية في العهد اليوناني الروماني.

الكتان

2- الكتان: وهو يلي البردي في الأهمية وقد وجد في مصر منذ أقدم العصور بالنسبة لكثرة وجود المستنقعات بها. وجادت زراعته لوفرة المياه، وقد استعمل في أنواع مختلفة من النسيج منها: الخشن والرقيق والشفاف حيث نهضت صناعة الغزل والنسيج منذ أقدم العصور، وكان يحترفها الرجال في معظم الأحوال، وكانت الأنوال المستعملة تتطور بتطور الزمن: ففي الدولة الوسطى كانت ساذجة والعمل عليها مرهقًا لأنها كانت تحتم على النَّساج الجلوس في هيئة القرفصاء، أما في الدولة الحديثة فكانت الأنوال من النوع المركب التي أباحت شيئًا من الراحة للصانع الذي يقوم بالعمل عليها، وقد أشرنا فيما سبق إلى دهشة هيرودوت حينما وجد أن النساج المصري كان يدفع بلحمة النسيج إلى الاتجاه المضاد للاتجاه المستعمل في النسيج عند الشعوب الأخرى. وكانت الطريقة التي يتبعها المصري في صناعة الكتان تبدأ بجمع سيقان هذا النبات ثم تمشيطها بعد التجفيف ثم تغلى السيقان لِيَلِينَ لحاؤها وتطرق بعد ذلك لإزالة هذا اللحاء وبعدئذٍ تندى الألياف بالماء ثم تفتل بمغزل، وقد اشتهرت الغزالات في الدولة الوسطى بالبراعة، وكان فتل الحبال من الصناعات المشهورة التي لقيت رواجًا كبيرًا، وبعد غزل الكتان كان تؤخذ خيوطه للأنوال لنسجه حسب الطلب.

الجلود

3- الجلود: استخدمت الجلود في الصناعة منذ أقدم العصور وكانت الجلود المستعملة لاينزع عنها شعرها الجميل مثل جلود الفهود أو الحيوانات التي كان جلدها أقرب إلى الفراء واستخدمت هذه الجلود في عمل الملابس وظل استعمالها تقليديًّا بالنسبة لجلد الفهد، إذ ظل مستعملا

كزي للكهنة في كل العصور الفرعونية تقريبًا، كذلك استخدم الجلد في الصناعات المختلفة مثل: صناعة التروس والجعاب وعلب المرايا وفي صناعة أغطية الرأس وفي النعال والأحزمة، وقد ظلت النقبة المصنوعة من الجلد لباسًا للصيادين والرعاة، والجلد كمادة خام كان له تقديره الخاص في نظر المصري فاستخدم في الكتابة ليدل على مدلولات خاصة: فالرمز الذي يصور عنزة بدون رأس أو جلد الحيوان بأكمله استعمل في كلمات كثيرة وبمعانٍ مختلفة، كما استخدم الرمز الدال على جزء من جلد الحيوان كمخصص في كثير من الحالات وقد استعمل الرِّق الأبيض في ملفات الكتابة كذلك.

الأخشاب

4- الأخشاب: لم تعرف مصر الأنواع الجيدة من الأخشاب حتى إن بعض الأنواع المتوسطة كان يحافظ عليها بشدة، ولعل هذا قد انتقل إلى المعاصرين في الوقت الحاضر إذ كثيرًا ما نجد أن الفلاح يتشاءم من قطع بعض الأشجار مثل التوت والجميز. وأهم الأنواع التي كانت شائعة في مصر هي الجميز والنخيل والدوم والأثل والسنط وكلها أنواع جيدة، أما الأخشاب الجيدة فكانت تستورد من الخارج مثل الأرز الذي كان يجلب من لبنان، وكثيرًا ما كان المصري يلجأ إلى محاكاة الخشب الثمين بتغطية الأخشاب المحلية بطبقة من الألوان أو بطبقة من الجص الملون. وكان النجار وهو من أهم الصناع في مصر يستعمل أدوات بسيطة من النُّحاس أو البرنز يستعين في تثبيت أجزائها بسيور من الجلد، وبهذه الآلات -رغم بساطتها- أمكن للنجار أن ينتج كثيرًا من روائع فنه وصناعاته الدقيقة

والضخمة فقد تمكن من عمل المراكب والمركبات وأجزاء المنازل والأثاث والأسلحة والتوابيت وغيرها. وبالطبع لم يكن في استطاعة المصري الحصول على ألواح كبيرة عظيمة الطول سواء من بيئته المحلية أو من الأخشاب المستوردة فكان يتحايل على ذلك بلصق الألواح الصغيرة جنبًا إلى جنب، وكثيرًا ما كان يزخرف صناعته فيحفر الخشب ويطعمه بالعاج أو بالأبنوس أو أن يملأ الحفر بمادة ملونة. وإذا ما تأملنا المراكب المصرية فإننا نجد أنها تتقوس من الطرفين وقد توصل المصري إلى تقويس الخشب بطريقة بسيطة للغاية تتلخص في أنه كان يضع عامودًا أُسطوانيًّا في وسط القارب ينتهي من أعلى بفرعين يثبت بينهما حبل ويوصل طرف كل فرع بطرف القارب المقابل له ثم توضع عصا في الحبل الموصل بين الطرفين وبإدارة العصا تضيق المسافة بين الفرعين وبالتالي يشد طرفاهما طرفي القارب نحو الداخل "شكل 19" "شكل 19": طريقة بناء السفن وكان العاج والآبنوس من المواد التي كثر استخدامها في صناعة الأثاث ولكنهما كانا يعتبران من المواد الثمينة وفي العصور المتأخرة وخاصة في العصر اليوناني الروماني كان نوع من الكارتون يستخدم في صناعة الأقنعة التي كانت توضع على وجه المومياء وتزود بعيون صناعية من الأحجار

الثمينة فكانت تحاكي وجه الميت تمامًا، بعد أن كانت هذه الأقنعة تصنع أولا من قطع الكتان وتلصق بعضها فوق بعض ثم تغطى هذه بطبقة من الجص.

الفخار

5- الفخار: عرفت خامات الفخار في مصر منذ أقدم العصور وكان لهذه الصناعات أثر بالغ في الحضارة المصرية إذ إن حياة الاستقرار تطلبت أن يقوم الإنسان بحفظ حاجياته، وكان المصري محظوظًا في بيئته لأن النيل كان يجلب الطمي في كل عام، فصنع منه الأواني اللازمة لحفظ أطعمته، ولا بد أنه في أول الأمر كان يصنع تلك الأواني من الطمي دون حرقه، أي أنه لم يعرف الفخار دفعة واحدة، وربما كان الجفاف الذي تتعرض له تلك الأواني سببا في معرفة المصري بأنها تزداد صلابة وتماسكًا كلما تعرضت لارتفاع درجة الحرارة، إلى أن توصل إلى أن الحَرْقَ يزيد من صلابتها وتماسكها، وما زالت صناعة الفخار حتى الآن تجد سوقًا رائجة في البلاد. ويبدو أن صناعة الفخار في مصر لم تتأثر بمؤثرات خارجية كثيرة في أوائل الأمر بل ولم تستخدم آلات لصناعتها إذ لم تكن هذه معروفة بعد، ومع أنها كانت تصنع باليد فإن الفخار الذي وجد من حضارة البداري وهو يمثل تلك الصناعة اليدوية يعد من أعظم الأواني التي عرفت في تاريخ مصر بأكلمه من حيث الجودة والإتقان. وبعد ذلك عرفت العجلة وكثر إنتاج الفخار فأصبح تجاريًّا وبدأ يفقد الدرجة الرفيعة التي وصل إليها من قبل في الدقة واللإتقان. وقد نشأت تبعًا لهذه الصناعة صناعات بسيطة فمثلا وجدت قواعد خشبية لهذه الأواني أو كانت تصنع حلقات من الفخار لترتكز عليها،

كما أن تلوين الأواني الفخارية وزخرفتها قد أوجدت مجالا لصناعة فنية، فمن الأواني ما كان يكتفى فيها برسم خطوط محفورة تجعلها تحاكي السلال ومنها ما كان يلون بألوان تجعلها تحاكي الأواني الحجرية، ومن الأواني الفخارية كذلك ما صنع في هيئة الحيوانات أو في أشكال خيالية، كما كانت صناعة التزجيح أو القاشاني معروفة منذ فجر التاريخ، وقد نشأت هذه الصناعة في مصر ولكن لايعرف كيف توصل إليها المصري بل ولا نعرف المواد التي بدأ بها المصري هذه الصناعة، ونجد أمثلة لصناعة الزجاج نفسها في العصور التاريخية، وكان هذا الزجاج ينفخ بأنابيب من الفخار يحمي طرفَها من الاحتراق غشاءٌ من طمي النيل.

صهر المعادن

6- صهر المعادن: لم يعثر على نماذج للكور في الدولة القديمة أو الوسطى ولكنه وجد في الدولة الحديثة، وقد عرف النُّحاس والبرنز منذ أقدم العصور، وكانت سيناء هي المورد الذي جاء منه النحاس الذي استخدم بكثرة منذ أقدم العصور، وكان البرونز أكثر استعمالا منه بالطبع فلصلابته استغل في صناعة كثير من الآلات، أي أن المصري عرف خلط المعادن منذ أقدم العصور وكان أغلى ما يستخدمه منها هو مزيج من الذهب والفضة بنسبه 2: 3 يعرف باسم الألكترون، وكان الذهب مستعملا في الحلي منذ الدولة القديمة وكانت قيمته كبيرة وبلغ الصانع في صناعته درجة كبيرة من المهارة، ولقيمة هؤلاء الصناع في الأوساط المصرية اعتبر المشرف على الصياغ مشرفًا على الفنانين في مصر العليا والسفلى، ولقب كذلك بأنه هو الذي يعرف الأسرار في بيوت الذهب، كذلك عرف المصري صناعة الميناء، أي خيوط الذهب المغطاة بطبقة زجاجية كما عرف التمويه بالذهب، ومع هذا كانت الفضة أغلى من الذهب وذلك لندرتها

نسبيًّا مع أنها عرفت قبل الذهب وكان المصري يقسم الذهب إلى أنواع حسب المورد الذي يؤخذ منه: فهناك ذهب مياه وذهب جبال وذهب بلاد النوبة، وكان غسيل الذهب والعمل في المناجم من أشق الأعمال، ولذا كان الأسرى أو العبيد يقومون بها ويشرف عليهم الجنود ورؤساء البعثات، وقد لاقى المعدِّنون الكثير من الأهوال دون شك، وأخطر هذه كانت ندرة المياه في الطرق المؤدية إلى المناجم، وكثيرًا ما كانوا يستنفدون الجزء الأكبر من طاقة الحمل عند الدواب في حمل المياه اللازمة لهم، ولذلك نجد رمسيس الثاني يفتخر بأنه نجح في حفر بئر في الصحراء حيث أخفق والده سيتي الأول في مثل هذا العمل، كذلك بلغ الاهتمام بالذهب أن عملت التخطيطات والرسوم التي تبين موقع مناجمه فقد عثر على بردية من عهد سيتي الأول رسم بها تخطيط لموقع مناجم الذهب في وادي مياه، وتعد هذه أقدم خريطة في العالم. وقد عرف الحديد منذ العصر الباكر ولكنه لم يستعمل في الصناعة إلا في عهد الدولة الحديثة وربما كانت صعوبة الحصول عليه هي السبب التي جعلت استخدامه عسيرًا، وقد قصر استعماله على رءوس السهام وبعض أدوات القتال.

الأحجار

7- الأحجار: كانت الأحجار التي استخدمها المصري كثيرة متعددة، ويعد الحجر الجيري الحجر الخالد في حياة المصري إذ بنيت منه المعابد والمقابر والهياكل المختلفة كما نحتت منه التماثيل وصنعت منه الأواني واللوحات وغيرها، واستخدم الصوان منذ أقدم العصور في صنع الأدوات والأسلحة، أما المرمر فقد استخدم في البناء وصناعة الأواني واستخدم الحجر

الرملي في البناء، ولشدة صلابته استخدم كذلك في صناعة التماثيل، وكان الجرانيت من الأحجار عظيمة الأهمية لأنه كان الحجر الفخم الذي زينت به المعابد وعملت منه المسلات والتماثيل والأواني، وكثيرًا ما كان يستخدم في تكسية الجدران في المباني المهمة. وقد استغلت المحاجر الموجودة في أماكن متعددة من القطر مثل: طره وسلسلة وحمامات وأسوان وحتنوب، وكان نقل الأحجار من هذه المحاجر، يتطلب جهدًا وعناية فائقتين، وكان الموظفون المنوط بهم نقل هذه الأحجار يصلون إلى مراتب رفيعة ويعتبرون الإشراف على نقل الأحجار من ألقاب الشرف الكبيرة التي يعتزون بها، وكانت البعثات المكلفة بنقل الأحجار ضخمة العدد، فمثلا نعلم أن بعثة قامت لهذا الغرض في عهد رعمسيس الرابع كانت تتألف من "110" ضابطًا من مختلف الرتب و"50" من الموظفين المدنين و"130" من البنائين ومصورين و"4" نقاشين و"3" رؤساء مبانٍ ومشرف على الفنانين و "500" جندي عادي و"200" جندي من صيادي السمك للبلاط و"800" رجل من الفرق المساعدة السورية و"2000" من عبيد المعابد ويراقب سلوك هؤلاء "50" من رجال الشرطة أي أن البعثة كانت "8000" رجل، وكان الأسرى الأجانب يقومون بعملية النقل وهي عملية شاقة عسيرة وخاصة عند نقل الأحجار الضخمة، وقد وضحتها بعض النقوش وخير مثال لذلك نقش في إحدى مقابر من الدولة الوسطى يبين كيفية نقل تمثال تحوت حتب أمير البرشة "شكل 20". وقد تفنن المصري في صناعة الأواني من الحجر واستخدم في ذلك الأحجار الصلبة جميلة التكوينات، وكثيرًا ما كان المصري يقوم بقطع

"شكل 20": منظر في مقبرة بالبرشة يمثل نقل تمثال ضخم. الأحجار الثمينة، الكريمة ونصف الكريمة، مثل الزمرد والأماتيست وغيرها من محاجر خاصة.

المواصلات والتجارة

المواصلات والتجارة: أشرنا فيما سبق إلى أن النيل هو أهم مظهر في الحياة المصرية؛ فهو الذي يسَّر الاتصال بين أجزاء البلاد المختلفة وقد استخدم المصريون للتنقل فيه زَوَارِقَ صغيرة من سيقان البردي تدفعها مرادي ذات شوكتين،

وهذه الزوارق عبارة عن حزم من البردي شد بعضها إلى بعض توضع في وسطها كتلة من الخشب أو تفرش بالحصير؛ أما السفن الكبيرة فكانت تصنع من الخشب وتزود بمجاديف، وقد وجدت صورها منذ أقدم العصور على الأواني الفخارية وعلى جدران إحدى المقابر في هيراكونبوليس من عصر ما قبل الأُسَر، وكانت تزود بشراع مربع الشكل أو مستطيل يثبت إلى الساري بعوارض مستقيمة، وقد تقدمت صناعة السفن واختلفت أشكالها؛ ولكنها كانت على العموم تزود بقمرتين، وكان ارتفاعها في مؤخرتها كارتفاعها في مقدمتها؛ وذلك لكي يسهل تزويد من يدفعها بالمرادي بسند جيد يدفعها منه أو ليكون كدعامة لتدعيم مكان المجداف الطويل الذي يقوم مكان السكان. وإذا ما تأملنا خريطة القطر المصري؛ لوجدنا أن النيل يمتد من الجنوب إلى الشمال في اتجاه مستقيم، وكان المصريون يلازمون النهر، أي أنهم كانوا موزعين على جانبيه باستثناء الدلتا التي كثرت بها المستنقعات؛ فكانت الحركة في النهر من الشمال إلى الجنوب تتطلب استخدام الشراع الذي تدفعه الرياح التجارية الشمالية الشرقية السائدة؛ بينما كان تيار النهر كافيًا لدفع السفن من الجنوب إلى الشمال، وفي هذه الحالة كان من الممكن إناخة الصاري ونزع العوارض التي يثبت بها الشراع ثم يلف الشراع ويطوى. وفي الدولة القديمة كانت السفن تختلف في الأشكال والغرض التي تستعمل من أجله؛ فمنها: السفن العريضة وسفن تجر غيرها أو سفن يجرها غيرها، وكانت للسفن الفاخرة قمرة كبيرة لا يسمح معها بوجود الشراع؛ كذلك لم تكن سفن الشحن مزودة بقمرات إذ كان كل فراغ يستغل

فيها للمنقولات، وكانت هناك قوارب خفيفة للشحن يديرها ملاح واحد وهي لنقل الأثقال الخفيفة، وكانت غالبًا تتبع سفينة الشريف وحاشيته كقوارب الزاد مثلًا، ومن الشائع جر السفن باللبان "الحبل" الذي كان يربط إلى قائم في مقدمة المركب، وكانت مراكب الشحن الكبيرة التي تنقل الأثقال الضخمة لا تستعمل الشراع أو المجاديف؛ بل كان يجرها الرجال أو تجرها سفن أخرى ومثل هذه السفن المعدة للنقل كانت تنقل الأحجار في كافة عصور التاريخ. وقد تطورت السفن في أشكالها تطورًا عظيمًا في عهد الدولتين الوسطى والحديثة وزخرفت بكثير من الزخارف وخاصة سفن الرحلات والحملات البحرية التي تميزت عن سفن النيل في بنائها؛ نظرًا لما كانت تتعرض له في أسفارها الطويلة، وقد أشارت بعض الأساطير والقصص إلى ما كان يتعرض له المسافرون في البحر من المخاطر ومن أمثلة ذلك قصة الملاح الغريق. أما المواصلات البرية؛ فكانت أقل شأنًا من مواصلات النهر؛ وذلك لأنها لم تكن وسيلة مجدية أو اقتصادية في نقل البضائع كبيرة الحجم والعظيمة الوزن؛ ولهذا ظلت دون تطور يذكر، وقد استخدم الأشراف في تنقلاتهم محفات هي عبارة عن مقاعد يمكن حملها والشريف جالس فيها. وكانت تزود أحيانًا بمظلة، وكثيرًا ما نجد أن المحفة كانت توضع فوق حمارين متجاورين "شكل 21"، أو يحملها بعض الرجال، وكان الحمار أحسن وسائل النقل الشعبية، ومع هذا لم يمثل المصري وهو يركب الحمار؛ ولكننا نشاهد هذا الحيوان في النقوش وهو ينقل الحاصلات الزراعية وما شابهها، ولضخامة الدور الذي يقوم به هذا الحيوان في مصر القديمة قال بعض العلماء: إن الحضارة المصرية بأكملها قامت على ظهر الحمار

فهو الذي ساهم بجهوده في كافة الأعمال التي هيأت هذه الحضارة. وفي الدولة الحديثة أبطلت المحفة والحمار وإن ظلت المحفة تستخدم في الحفلات فقط أو في مناسبات خاصة، وقد استعيض عن ذلك باستخدام المركبات، "شكل رقم 21": نبيل على محفة يحملها حماران ولم يستعمل الحصان وحده إلا في بعض الحالات الضرورية الملحة؛ لأننا لم نعثر إلا على أمثلة نادرة لنقوش تصور إنسانًا وهو يركب حصانًا، وربما كان ذلك في حالة قهرية كفرار من معركة حربية أو لمهمة سريعة كطلب نجدة أو غيرها. ويغلب على الظن أن عربات ضخمة تجرها الثيران كانت تستخدم لنقل الزاد والأمتعة لعمال المناجم، أما المركبات فكانت غالبًا للسفر والصيد والحرب. ولا ينبغي أن يتبادر إلى الذهن بأن الاتصال كان ميسرًا دائمًا، ولا يصح أن نفهم بأن المصري كان كثير التنقل؛ إذ يبدو أن الرحلات كانت قاصرة على نطاق ضيق؛ فكان كل إقليم يتصل بجيرانه مباشرة ولكن إلى جانب

ذلك كان البيت المالك يعمل على تيسير الاتصال بالأقطار المجاورة ويشجع هذا الاتصال؛ كما أن الحاجة الملحة إلى بعض المواد الخام كانت تضطر فئات خاصة من السكان إلى القيام بدور الوسيط التجاري بين البيت المالك وبين الأقطار المجاورة لمصر؛ وخاصة في الجنوب، ومن أمثلة ذلك أمراء اليفانتين الذين قاموا برحلات محفوفة بالمخاطر لكي يتبادلوا التجارة مع أهل البلاد الجنوبية، وليحصلوا للفراعنة على الحاصلات التي يرغبونها ويقدرونها، وكان من أثر هذا أن عظُم شأن هؤلاء الأمراء وأصبحوا يتمتعون بنفوذ كبير؛ فلم يخضعوا إلا للملك مباشرة، وكانوا يذهبون إلى منف للاستماع إلى أوامر الملك قبل القيام بأية رحلة أي أنهم كانوا يتلقون تعليماتهم منه مباشرة؛ كذلك كان أرز لبنان من العوامل التي شجعت المصريين على المخاطرة بالذهاب إلى شرق البحر المتوسط، وقد شجع هذا على غزو تلك الأقطار في الدولة الحديثة. وإذا كنا قد ذكرنا بأن الاتصال لم يكن نشيطًا إلا بين الأقاليم المتجاورة وأن المصري لم يتصل بالأقطار الأجنبية إلا للحصول على سلعها المختلفة، أي أن هذا الاتصال حددته عوامل سياسية واقتصادية مختلفة؛ فإننا من جهة أخرى نرى بأن الاتصال بالرسائل والمكاتبات كان أكثر نشاطًا. ويبدو أنه لبعد المسافات وجدت طائفة من الرسل الذين كانوا في خدمة الخاصة من الشعب حيث يشير أحدهم في رده لأحد زملائه بأن غلامه لم يصل بعد، وتشير إحدى المكاتبات إلى أن الغلام اضطر لتخفيف حمله؛ فألقى ببعض الحاجيات أو تخلص منها أي أنه كان هناك اتصال ثابت مستمر ورسل منتظمون، ولا ندري هل كان هؤلاء الرسل

موظفين، أو أن مثل هذه الوظيفة لم يكن لها وجود. وعلى أي حال إذا كانت هذه قد وجدت ضمن وظائف الدولة؛ فإن ذلك لم يحدث إلا في عصر متأخر، وكان الرسل عادة يحملون بعض الهدايا والسلع الخفيفة ولما كانت البيئة المصرية تتشابه في معظم جهاتها فإن الفرصة للتبادل التجاري على نطاق واسع لم تكن ميسورة، وعلى هذا كانت التجارة الداخلية ضعيفة لتشابه الحاصلات بين إقليم وآخر وليس كما يظن بعض الأثريين أن صعوبة المواصلات هي التي حالت دون ازدياد النشاط التجاري.

التجارة والتجار

التجارة والتجار: أخطأ بعض الأثريين ومن بينهم إرمان "Erman" في الزعم بعدم وجود ذكر للتجار في النصوص المصرية لأننا نعلم بأن الرحالة في الدولة القديمة كانوا يذهبون إلى النوبة للتبادل التجاري ولا يغير قيامهم بهذا العمل لحساب الملك من حقيقة أنهم كانوا تجارًا؛ كذلك تشير قصة الملاح الغريق إلى أنه كان هو الآخر يقوم برحلته للتجارة، وقصة الفلاح الفصيح تدل هي الأخرى على أنه كان يتاجر في بعض سلع وادي النطرون، ولا تخرج رحلة بونت التي حدثت في عهد حتشبسوت عن كونها رحلة تجارية قامت بها بعثة ملكية؛ ولكن رغم هذا لم يكن للتجار كيان واضح في النصوص المصرية. والغريب أن التبادل التجاري في الأسواق المحلية كان يتم عن طريق المقايضة، وقد ظهرت له صور في عهد الدولة القديمة؛ أما في الدولة الوسطى؛ فلم توجد أمثال تلك الصور، وفي الدولة الحديثة تعود صور المقايضات إلى الظهور؛ ولكنها كانت تحدث في الموانئ الكبيرة بجوار مكان رسو السفن.

ومن الطبيعي أن المقايضة لم تحدث دون الاصطلاح على أساس وحدة للقيمة، وهذه الوحدة؛ وإن لم تكن موجودة من الناحية العملية؛ فإن الأشياء كانت تقدر بالنسبة لها من الناحية النظرية، وعلى هذا يمكن القول بأن أساس سعر المقايضة كان ثابتًا، والوحدة التي شاع استعمالها عرفت باسم "دبن" وهي تساوي "91" جرامًا من النحاس؛ فكان الثور مثلًا يقدر بنحو "120" دبنًا والحمار بنحو "40" دبنًا، أي أنه كان من الممكن مقايضة الثور نظير ثلاثة حمير. وكانت الحاصلات التي يرغب فيها المصري من الأقطار الأجنبية هي القردة وخشب الآبنوس والعاج وجلود الفهود وهي تأتي من النوبة، وهنا نلاحظ أن البفانتين -التي كانت تمثل إحدى مدينتي الحدود بين مصر والنوبة- كان يطلق عليها اسم: آبو، أي: العاج، أما المدينة الثانية فهي سونت أي: السوق، وهي أسوان الحالية. ومن موارد النوبة الأخرى: العبيد والذهب والحيوانات والخشب وريش النعام، وكان المصري يأتي بالنحاس من مناجم سيناء كما يجلب الأحجار من محاجر وادي حمامات والأحجار الثمينة ونصف الكريمة من الصحراء الشرقية، أما بلاد بونت؛ فكان يأتي منها البخور، ويأتي من البلاد الشمالية -مثل لبنان- بالأرز والأسلحة، وكان بدو فلسطين يجلبون الكحل والعطور إلى مصر، وكذلك الوعول، ومنذ عهد الدولة الحديثة وردت المنتجات السورية إلى مصر بكثرة كما كانت مصر ترسل الذهب إلى الملوك الموالين لها.

العلوم والآداب

العلوم والآداب عُرِف المصري بحبه للعلوم وتقديره لها، وكان ينظر إلى مركز العالم أو الكاتب نظرته إلى الشخص المحترم الذي يحكم بنفسه، أما من عداه من الطبقات الأخرى فكان يحكمه غيره، وربما كان هذا التقدير راجعًا إلى عظم شأن الكتاب حيث كانوا يرتفعون سريعًا ويتقلدون أعظم المناصب وأرفعها، ويقول أحد الكتاب في ذلك: إن الرجل المحظوظ هو الذي يضع العلم في قلبه، وعند مناقشته لمهنة الكتابة فضلها عن كل ما عداها من المهن، وذكر بأن الكاتب قد يصبح أميرًا حكيمًا، وكان المصري يعتقد بأن الكاتب يصل إلى الإله تحوت الذي يهبه العلم وينير له السبيل، ولذا كان الكاتب إذا ما وصل إلى مرحلة حاسمة في حياته يقوم بعمل تمثال لنفسه وهو يكتب أمام تمثال لهذا الإله. وإذا ما أردنا أن نتعرف السبيل الذي كان يسلكه المصري في التعلم؛ فإننا نلاحظ أن بيوت التعليم أو المدارس كانت في أول الأمر تلحق بالبلاط، وكان يتعلم فيها الأمراء والنبلاء ويندمج معهم بعض أفراد عامة الشعب أيضًا، أما في الدولة الحديثة؛ فكانت المدارس تلحق بمختلف أقسام الحكومة، وعلى ذلك كان التلاميذ في هذه الأقسام يتمثلون في طائفتين: طائفة الصبية وطائفة المرءوسين، وقد يغير التلميذ اتجاهه بعد أداء الخدمة العسكرية؛ فمثلًا كان "باك أن خنسو" رئيسًا للإسطبلات الملكية قبل أن يصبح كبيرًا للكهنة؛ أي أنه في سن الخامسة عشر أو السادسة عشر كان رئيسًا للإسطبلات ثم تحول بعد ذلك لدراسة اللاهوت.

وكان النظام المدرسي عنيفًا قاسيًا ينتهي في منتصف النهار تقريبًا وكان من المعتاد أن تذهب الأم بطعام ولدها إلى المدرسة، وهو يتألف غالبًا من إنائين من الجعة تحضرها الأم من المنزل، ومن مبادئ التربية في ذلك العهد أن "أذني الطفل على ظهره لا يسمع إلا إذا قرع عليهما"، ومن هذه المبادئ أيضًا أن "الإنسان استطاع أن يستأنس الحيوان ويخضعه فحيوان "كاروى" الذي استقدم من النوبة تعلم فهم اللغة والأسود أمكن تعليمها وترويضها، والخيول استؤنست وذللت والصقور تعلمت؛ فلماذا لا يتعلم الكاتب الشاب بنفس هذه الطريقة؟ أي أن العنف والشدة كانا يستخدمان في التعليم. وكثيرًا ما نجد في البرديات المختلفة تكرارًا للتنبيهات التي يجب على الشباب مراعاتها في مهنته ككاتب، وفي الكراسات التي عثر عليها والتي كان يكتب فيها التلاميذ نسخت قواعد الحكمة والسلوك من نماذج قديمة وهي في صورة توجيهات من حكيم قديم أو خطابات من أستاذ إلى تلميذه. أما الأدوات المستعملة في الكتابة؛ فكانت عبارة عن أقلام من البوص تبرى أطرافها، وكان لا بد للكاتب من أقلام احتياطية يضعها خلف أذنه، أما الألواح فكانت عبارة عن ألواح من الخشب تغطى بطبقة رقيقة مصقولة من الجص يسهل محو الكتابة منها، ولم يستعمل البردي إلا الكتبة المتمرنين، هذا وكان الكتاب يستعملون لوحة بها قدحان صغيران للحبر الأسود والأحمر وبقية اللوحة عبارة عن صندوق أنبوبي لوضع الأقلام ويضاف إلى ذلك قدح للماء، وكان الكاتب المتدين يصب بعض هذا الماء كقربان للإله تحوت قبل البدء في الكتابة

وكان التلاميذ يهتمون اهتمامًا بالغًا بكراساتهم، وكانت تدفن معهم، وقد احترم المصري الكتابة وقدسها واعتبرها أساس كل تعليم وثقافة وأنها من اختراع الإله تحوت الذي علمها للمصريين. وكانت الكتابة في بداية أمرها تصويرية بحتة؛ أي أن المصري كان يعبر عن الأشياء المرئية بصورتها؛ ولهذا كان من الصعب التعبير عن الأشياء غير المرئية أو عن الأفعال أو الحروف والظروف، ثم أمكن التعبير عن المعنى المراد برسم الرمز الذي يتفق في النطق مع المعنى المقصود مع إضافة مخصص يبين نوع المعنى المراد، وتلى ذلك تطور آخر وهو استعمال الرمز كجزء من الكلمة؛ وبذلك ظهرت الكتابة المقطعية، وهذا يدل على أن الكتابة بدأت تتخذ شكلًا يقرب الكمال؛ حيث توصلوا من هذه الخطوة إلى اختراع الهجائية، ومع ذلك لم يستعمل المصريون الهجائية وحدها؛ بل كانوا يكتبون بالرموز في كل وظائفها السابقة؛ بل وكان شكل الكتابة نفسها يختلف على حسب الحاجة وعلى حسب المادة التي كتبت عليها؛ فكانت الهيروغليفية وهي أول صورة للكتابة تكتب على جدران المعابد والمقابر وفي اللوحات أي أنها كانت كتابة زخرفية وتتفق مع طابع الفن المصري القديم الذي ظل مرتبطًا بها حتى نهاية العصور الفرعونية؛ فكانت أشكال الأشخاص والمخلوقات الأخرى يعبر عنها في النقوش والتماثيل بصورة مماثلة لما تظهر به في هذه الكتابة. ومنذ الدولة القديمة وجد المصري أن كتابة الهيروغليفية تستغرق وقتًا وجهدًا كبيرين، كما أنها تشغل حيزًا لا يستهان به فلجأ إلى استعمال كتابة مختصرة، أي أنه اختصر الرموز الهيروغليفية إلى أشكال أكثر بساطة ليوفر

الجهد والمساحة اللازمين. واستعملت هذه الكتابة الجديدة المختصرة في كتابة الأدبيات وفي الدواوين وفي المعاملات وما أشبه ذلك، وتعرف هذه باسم الهيراطيقية، ولما تعقدت مطالب الحياة وانتشرت المعاملات التجارية وغيرها وازدهرت الحضارة وتطورت في عهد الدولة الحديثة وما بعدها؛ ظهرت كتابة أخرى مختصرة عن الهيراطيقية وهي شديدة الاختزال، استعملها العامة في معاملاتهم وكتبت بها بعض البرديات القانونية والأدبية، وهذه هي الكتابة الديموطيقية التي ظهرت على الأرجح في بداية العصر المتأخر من مصر الفرعونية، وفي نفس الوقت تقريبًا أو بعده بقليل استعمل المصري كتابة جديدة أخرى هي الكتابة القبطية؛ وربما كان ذلك للرغبة في التيسير على الجنود المرتزقة اليونانيين الذين وفدوا بكثرة على البلاد؛ فقد كتبت هذه الكتابة بحروف يونانية مع إضافة سبعة أحرف لاستكمال الهجائية اليونانية بما يفي بنطق سائر الأصوات السامية، وبالطبع يعتبر إطلاق لفظ اللغة القبطية على هذه الكتابة تجاوزًا، فهي لغة مصرية كتبت بحروف يونانية وحروف أخرى أضيفت إليها مع إدخال بعض ألفاظ قليلة من اليونانية. وعلى إثر ظهور الكتابة تقدمت العلوم والفنون -بالطبع- وظهرت النظريات الفلسفية العميقة في اللاهوت وفي الديانة، كما أن من المرجح أن الكتابة ساعدت أيضًا على اختراع التقويم وإن كان من المحتمل جدًّا بأن المصري قد توصل إلى تقسيم السنة إلى فصول قبل معرفته بالكتابة؛ ولكنه لم يضع الأسس الثابتة لهذا التقسيم إلا بعد أن عرفها، وكانت السنة المصرية تبدأ في التاسع عشر من شهر يوليو أي أن هذا اليوم

كان يمثل رأس السنة بالنسبة للمصريين، وقد عرف هذا بحلول الفيضان في مثل هذا الموعد من كل عام وهو ما كان يتفق كثيرًا مع ظهور نجم الشعرى اليمانية الذي يعاود ظهوره كل "365" يومًا؛ فقسم المصري السنة إلى اثني عشر شهرًا كل منها ثلاثون يومًا، وأضاف إليها خمسة أيام أطلق عليها اسم الشهر الصغير، كما قسم السنة إلى ثلاثة فصول هي: فصل الفيضان وفصل الزرع وفصل الحصاد أو الجفاف، وقسم اليوم إلى ساعات الليل وساعات النهار، وتوصل إلى معرفة ساعات النهار بقياس الظل على أسطح مستوية أي عرف ما يشبه المزولة، كما وجدت لديه ساعات مائية لقياس الزمن في الليل غالبًا، وهذه كانت عبارة عن أواني مملوءة بالماء الذي ينظم تصريفه منها بحيث تفرغ محتويات الإناء في اثنتي عشرة ساعة؛ كذلك قسم الليل إلى اثنتي عشرة ساعة، ورصد الكواكب التي تظهر في تلك الساعات وسمى بعض النجوم بأسمائها أو على العكس سمى الساعات بأسماء النجوم التي تظهر فيها. وقد اعتقد المصري بوجود أيام سعيدة وأخرى منحوسة وأشار إلى ذلك كثيرا من النصوص، كما أنه كان يعتقد بأن من يولد في أيام معينه يصاب بأمراض معينة؛ وهكذا لجأ إلى السحر واعتقد في قوته ونفعه، وكان من أثر هذا أيضًا أن اختلط السحر بالطب؛ فلم يخل الطب من السحر في معظم الأحيان حتى أصبح في واقع الأمر مزيجًا من التعاويذ والطب العملي. وقد وردت لنا أسماء بعض مشاهير الأطباء؛ ولكن إذا ما تأملنا وظائف هؤلاء نجد أنهم كانوا يجمعون بين البيطريين والبشريين والسحرة في نفس الوقت، ومع كل كان الطب يسير على أساس سليم لأن المصري اهتم كل الاهتمام بتشخيص المرض حيث كان يرى أن العلاج الناجح لا يمكن وصفه إلا بمعرفة الداء تمامًا، وقد وصل إلى درجة رفيعة في علم التشريح وربما كانت معرفته للتحنيط

السبب في نجاحه الذي أحرزه في هذا المضمار، أما العقاقير فكانت غالبيتها نباتية والقليل منها من أصل حيواني، وكثيرًا ما نجد من بين هذه العقاقير ما تعافه النفس وتشمئز منه. ولا ندري سببًا لاختيار المواد التي كانت تركب منها العقاقير وربما كان معظم هذا الاختيار مبني على أصل خرافي إذ كثيرًا ما نجد أن من بين هذه المواد ما لا يمكن أن نتخيل استعماله لبشاعته. أما في الرياضيات؛ فقد وصل المصري إلى نتائج عظيمة في المقاييس والمساحة والحساب وإن كان قد توصل إلى هذه النتائج بطريقة ساذجة فمثلًا في عمليات الضرب والقسمة كان يسير خطوة خطوة بطريقة بدائية؛ فمثلًا عند ضرب "5×8" يصل إلى النتيجة باحتساب تكرار العدد ثمانية من مرة واحدة إلى خمس مرات. أما في حالة القسمة؛ فإنه كان يتساءل عن المقدار الذي إذا ضرب في المقسوم عليه ينتج العدد المقسوم، أي أنهم يصلون إلى خارج القسمة بضرب المقسوم عليه في أعداد صغيرة محاولين الوصول إلى خارج القسمة من جمع الأرقام الصغيرة التي تقابل في المجموع العدد المقسوم. أما في الأدب فإن من الممكن القول بأن الكثير من أدبنا الشعبي الحديث يرجع في أصله إلى الأدب المصري القديم. وكثيرًا ما نجد أن التشابه شديد بين قصصنا الشعبي الحديث وبين القصص في الدولة الوسطى؛ فمثلًا قصة الملاح الغريق التي تذكر بأن ملاحًا كان راحلًا في بعثة تجارية، كسر قاربه وتعلق بقطعة من الخشب ووصل إلى جزيرة خالية من السكان كانت تسكنها حية ضخمة حملته إلى المكان الذي تعيش فيه، وقد ذكر بأن

هذه الحية كانت إلهة الجزيرة وقد أخبرته بأنها هي الأخرى قد نجت وحدها من شهاب سقط على الجزيرة فأغرق كل أقاربها وإخوتها، ويسترسل في قصته فيذكر بأنه عاش فترة على هذه الجزيرة إلى أن جاء قارب حمله إلى مصر وهو محمل بهدايا كثيرة من الجزيرة، وبعد أن صعد إلى القارب الذي أخذه إلى مصر اختفت الجزيرة؛ فهذه القصة إذن تشبه إحدى قصص السندباد البحري. ومن القصص في الأدب المصري القديم ما يشير إلى سوء الحالة السياسية في بعض الأوقات أو إلى حدوث بعض أحداث تاريخية هامة مثل قصة الفلاح الفصيح التي تبين كيف أن بعض الحكام كانوا طغاة مستبدين وأن بعض الأمراء والملك نفسه كانوا يميلون إلى الأدب الجيد؛ حتى إنهم تعمدوا إهمال هذا الفلاح ليكثر من شكواه فيتمتعوا بسماع الجيد من الكلام، وبعد هذا جازاه الملك وأكرمه ورد إليه حقوقه. وتشير قصة سنوحي إلى فراره من مصر لكنها لا تبين السبب الذي من أجله ترك البلاد، إلا أنه يبدو من سياق القصة بأنه من عصر مناوئ لسنوسرت الأول حينما كان وليًّا للعهد فلما تولى هذا على العرش خشي سنوحي على نفسه وفر إلى فلسطين، ويبين ذلك مقدار ما كان يحدث في البلاط من مؤامرات ودسائس، كما أن إكرام بدو فلسطين لسنوحي يدل على أن البدو كانوا يكنون الاحترام للمصريين، وفي الدولة الحديثة نجد بعض القصص التي يظهر فيها الخيال بشكل واضح ويعكس صورة من أحداث التاريخ في العصور القديمة؛ فمثلًا قصة خوفو والساحر ددي التي تشير إلى أن ملوكًا من سلالة رع سيعتلون العرش بعد أن يحكم خوفو وولده وحفيده، وهذه القصة تدل على أن الملك قد انتقل من الأسرة الرابعة إلى ملوك الأسرة الخامسة الذين كانوا من أصل ينتمي إلى الإله رع أو من الكهنة، ومن بين القصص المشهورة

أيضًا قصة الأمير ذو المصير المحتوم التي تذكر بأن ملكًا كان لا ينجب أبناء فطلب إلى الآلهة أن تمنحه ولدًا فاستجابت هذه لدعائه؛ ولكن كان مقدرًا لهذا الأمير أن يموت بلدغة ثعبان أو يأكله تمساح أو يقضي عليه كلب وتبين القصة كيف أنه نجا من التمساح؛ ولكن القصة مع الأسف لم تكمل فلا ندري هل لدغه ثعبان أو قضى عليه كلب، وفي قصة أخرى يتمثل إخلاص شقيق لشقيقه وإفساد زوجة الشقيق الأكبر للعلاقة بين الشقيقين؛ وهذه القصة المعروفة بقصة الأخوين وهي قصة من النوع الخرافي العميق ربما كانت قد تأثرت بقصة أوزوريس. ولم يتناول الأدب المصري القصص والأساطير فحسب؛ وإنما نجد فيه الكثير من المتنوعات ففيه النقد وفيه الحكم وفيه الأغاني والأناشيد الدينية وغير الدينية وأناشيد النصر والملاحم وأغاني الشراب والحب وغير ذلك.

الفنون

الفنون وإذا ما تحدثنا عن الفن عند المصري القديم فإن أبرز الفنون التي أبدعها تتمثل في الرسم والنقش والتصوير والنحت. وهذه كلها خضعت لقانون الاتجاهات المستقيمة التي سبقت الإشارة إليه عند الحديث في المقدمة عن أثر البيئة المصرية. هذا وقد خضع الفن المصري في هذه الأمور إلى أصول وقواعد لم يحد عنها إلا قليلًا طوال عصوره الفرعونية، ومهما قيل عن اختلاف المدارس الفنية في مصر؛ فإننا نلاحظ أنها جميعا خضعت لتلك القواعد والتقاليد المرعية، ففي النقش والرسم والتصوير نجد أن صور الإنسان

تتميز بأنها تجعل الرأس ينظر من الجانب والكتفين من الأمام أما بقية أجزاء الجسم فتنظر من الجانب كذلك "انظر أشكال الأشخاص التي وردت في هذا الكتاب". وفي المناظر التي تركها الفنان المصري أخطاء كثيرة يبدو أنه تعمدها محافظة منه على التقاليد الموروثة أو لغرض ديني خاص؛ إذ نجد أن الوجه وإن كان يرسم من الجانب فإن العين ترسم من الأمام؛ كذلك كان الكتفان يرسمان من الأمام بينما يرسم الصدر من الجانب، أما الأيدي فترسم بعرضها الكامل من سطحها الخارجي فتبدو في أمثلة كثيرة وكأن الكفين يمثلان كف اليد اليمنى أو اليسرى فقط. كذلك نجد أن الأقدام ترسم من الجانب بحيث يظهر إبهام أصابع القدم في كل منهما دون بقية الأصابع؛ فكأن للشخص قدمين يسريين أو يمنيين مع أن الفنان كثيرًا ما كان ينجح في بيان اختلاف الساقين. ومن القواعد التي اتبعها الفنان المصري كذلك أنه كان يرسم الشخص الذي يمد ساقه اليسرى إلى الأمام مثلًا؛ بحيث تظهر ذراعه اليسرى ممتدة كذلك، وعلى العكس إذا ما أريد تمثيل شخص مادًّا ساقه اليمنى؛ فإنه يمد الذراع اليمنى معها أيضًا انظر "شكل 11" وهذا الوضع غير الطبيعي الذي يتنافى مع الحركة الإنسانية قصد منه الفنان بالطبع أن يبرز أعضاء الجسم واضحة، وقد اعتاد المصري كذلك أن يمثل الأشخاص وهم يتجهون إلى اليمين أي أن القدم اليسرى والذراع اليسرى إلى الأمام فإذا ما اضطرته الظروف إلى رسم شخص يتجه إلى اليسار؛ فإنه يقع في بعض الارتباكات الفنية كأن يقلب جانب الإزار الذي يلبسه الشخص أو أن يجعل اليد اليمنى تقبض على العصا الطويلة بينما تقبض اليد اليسرى على العصا القصيرة "شكل 22". كذلك كان

"شكل 22": يبين خطأ الفنان "إلى اليمين" عند خروجه على الوضع التقليدي للرسم الفنان يحرص على إبراز الأشكال من أخص مظاهرها المميزة، وبذلك كان الشكل الواحد في الصورة يرسم بحيث يبدو وكأنه أخذ من جهات نظر مختلفة لا كما تقتضي قواعد الرسم المنظور، فرائد الفنان في هذا أن تكون الصورة واضحة تعطي فكرة تامة عن الشكل المراد رسمه، أي يرسم الشخص -كما قلنا- ورأسه من الجانب والكتفان من الأمام وهكذا، وإذا أريد رسم سمكة فإنها ترسم وكأنها واقفة على جانبها، كما أن الفنان كان يعتني بتنظيم أجزاء مناظره ومفرداتها بحيث يرى كل شكل من الأشكال وكأنه مستقل عن غيره فلا يخفي أحد تلك الأشكال شكلًا آخر أو جزءًا كبيرًا منه. وإذا ما أريد ترتيب عدد من المناظر؛ فإنها كانت تنظم في صفوف متتالية بعضها فوق بعض وتفصلها خطوط مستقيمة سميكة يمثل كل منها مستوى الأرض، ورغم أن المصري لم يتقيد في صوره ونقوشه بقواعد المنظور؛ إلا أنه بلغ الذروة في طريقته الخاصة وأن الفنان رغم إدراكه بوضع الأشياء معًا يجعل بعضها يخفي ما وراءه

كما أن الأشياء البعيدة تبدو أصغر حجمًا؛ إلا أنه راعى في نقوشه وصوره أن يمثل الأشياء على حقيقتها وعلى أوضح ما تكون دون اعتبار لما يظهر أو يختفي منها لعين الرائي، وربما كان مرجع هذا إلى اهتمام المصري بعقيدة البعث وبأن تلك الأشياء المرسومة تتحول إلى أشياء حقيقية عند تلاوة التعاويذ أو عند البعث؛ ولذلك حتمت التقاليد أن تكون هذه الصور أقرب إلى أصلها الحقيقي؛ فإذا أراد المصري أن يرسم مثلًا مائدة قرابين وعليها بعض المأكولات؛ فإنه كان يمثل تلك المأكولات كاملة على المائدة، وإذا ما كانت مما يوضع في أواني؛ فإن الآنية كانت ترسم بحيث تظهر محتوياتها فوقها أو في داخلها دون مراعاة لعدم شفافية الإناء ودون مراعاة لقواعد الرسم؛ كذلك كان من الأصول المرعية أن يكون أهم الأشكال في المنظر أكبرها حجمًا ويتمثل هذا بصفة خاصة في رسوم الأفراد؛ إذ كان الشخص المهم يبين في حجم أكبر ممن عداه من أشخاص آخرين في نفس المنظر كصورة الملك أو النبيل مع أفراد عائلته أو بعض رجال حاشيته "شكل 23". وقد تنوعت موضوعات النقوش والرسوم، وتناولت أغراضًا شتى؛ فرسم المصري كل ما تمثله في حياته وكان لكل عصر طراز فني خاص رغم أن الفنانين التزموا قواعد الفن التي سبقت الإشارة إليها في كل العصور. وكانت طريقة العمل في النقش تماثل ذلك إلى حد كبير ففي الرسوم كانوا يبدءون برسم الأشكال بتفاصيلها ثم يلونونها بالألوان المختلفة ولكن النقش كان يتميز عن الرسم بمرحلة متوسطة إذ كانت الأشكال المرسومة تحفر غائرة أو بارزة قبل تلوينها أي أن النقش كان

"شكل 23": منظر يمثل أحد النبلاء وحوله أشخاص أصغر حجمًا على نوعين، النقش البارز: وهو الذي تزال فيه الأجزاء الخلفية أو المحيطة بالرسم بحيث تبرز الأشكال عن السطح الخلفي بضعة مليمترات، والنقش الغائر: الذي كان يكتفى فيه بحفر السطح الداخلي للشكل ونحته بتفاصيله. ولا يختلف الغرض الذي توخاه المصري من التماثيل عن الغرض من الصور والنقوش فكلاهما كان يهدف إلى أن تنقلب هذه التماثيل وتلك الصور إلى أشكال حقيقية عند البعث، وعلى ذلك حرص الفنان على أن يجعل منها صورًا صادقة لما تمثلها؛ حتى إنه لجأ إلى توضيح عيون التماثيل والنقوش بحيث تحاكي الطبيعة، فبياض العين كان من حجر أبيض "مرو أو مرمر"والقرنية من حجر البلور الشفاف وفي وسطه تحفر

بؤرة صغيرة تملأ بمادة سوداء لتمثيل إنسان العين ولم تختلف التماثيل عن النقوش في خضوعها لقانون الاتجاهات المستقيمة؛ أي أن التماثيل والنقوش المصرية كانت تعوزها الحركة؛ بينما كانت التماثيل اليونانية كأنها صورة أخذت من فيلم سينمائي، ورغم هذا فإن المتأمل في كلا الفنين المصري واليوناني يجد أن الأول يشعر بالوقار والعظمة والخلود، أما الثاني فيشعر الإنسان بالحياة كما هي، ويمكن تلخيص هذا في أن الفنان المصري أراد تمثيل الحياة كما ينبغي أن تكون بينما أراد الفنان اليوناني أن يصور الحياة الطبيعية كما هي. ولا شك أن الفنان في مصر لم يصل إلى غاية فنه دفعة واحدة أي أن صناعة التماثيل مثلًا لم تكتمل منذ بداية العصور؛ فالمحاولات الأولى تبين أن الفنان حتى عصر الأسرة الأولى لم يستطع أن يصور إنسانًا خاصًّا؛ بل صور مجرد إنسان يمكن تمييزه عن الكائنات الأخرى، وفي عصر الأسرة الثانية تقدمت صناعة التماثيل؛ ولكن إذا ما نظرنا إلى أي تمثال فإننا نجد أن المادة المصنوع منها التمثال تسترعي انتباهنا أكثر من الانتباه الذي نوجهه إلى الإنسان المصنوع له التمثال، أي أن المادة نفسها التي صنع منها التمثال كانت تتغلب على الفكرة، وفي آخر عهد هذه الأسرة قربت الفكرة أكثر من ذي قبل أي: بدأ التمثال يسترعي انتباهنا كممثل لشخص معين، ومنذ ذلك الحين ارتقت صناعة التماثيل واكتملت الأصول الفنية؛ ولكن كان لكل عصر مميزاته الخاصة كما سبقت الإشارة إلى ذلك، فإذا ما أخذنا تماثيل الملوك فإننا نجدها في الدولة القديمة تتميز بالوقار والعظمة وتشعر الرائي بأنه أمام قطعة تمثل شخصية لها

مجدها، أما تماثيل الدولة الوسطى فنتبين فيها دلائل الصرامة والقوة ومضاء العزيمة، وكان الجزء الأسفل منها لا يعتنى به عناية تامة وخاصة في أوائل ذلك العهد، أما تماثيل الدولة الحديثة فتمتاز بالرشاقة وإبراز تقاطيع الجسم في شيء من الليونة كما تمتاز باستطالة الوجه، ومما تجدر ملاحظته كذلك أن نسبة الرأس إلى الجسم كانت تختلف فهي في الدولة القديمة "1- 9" وفي الوسطى "1- 8" وفي الحديثة "1- 7" تقريبًا؛ كذلك من الممكن الإشارة إلى بعض المميزات العامة التي تبين الاختلافات بين تماثيل كل عصر عن تماثيل العصور الأخرى، ففي الدولة القديمة: امتازت التماثيل باستقامة الخطوط وكان التمثال الواقف تمثل يداه مستقرة على الجانبين، أما في التماثيل الجالسة فكانت إحدى اليدين تستقر على الصدر والأخرى على الركبة ثم أصبحت اليدان تستقران على الركبة منذ عهد خفرع، أما تماثيل الدولة الوسطى فأهم ما يميزها ضخامة الجزء الأسفل وعدم مطابقته للواقع وخشونة المظهر وعدم تناسق الأعضاء تناسقًا تامًّا، أما تماثيل الدولة الحديثة فقد امتازت برشاقتها -كما سبقت الإشارة- ورقبة التمثال في الدولة الوسطى عادة أكبر منها في تماثيل الدولة القديمة والرأس أكبر وقمتها أقل تسطحًا؛ كذلك يمكن ملاحظة بعض مميزات خاصة في زي التماثيل وطريقة تصفيف الشعر وغير ذلك مما يلاحظ المتخصصون. وإذا ما تحدثنا عن الفن يجب ألا يفوتنا ذكر ما وصل إليه المصري في فن المعمار حيث ارتبطت به الفنون السابقة ارتباطًا وثيقًا، ومن المعروف أن المادة الطبيعية كانت في أول الأمر تتمثل في سيقان البردي وطمي النيل، وقد بدأ البناء أولًا بشكل دورة بسيطة من البردي أو البوص

أو ما شاكلهما من المواد الخفيفة ثم استعمل الطمي في هيئة كتل غير منتظمة، وكان مما يساعد على تدعيم هذه الكتل واستقامتها حزمًا من البردي تثبت إلى الجدران وتحدد أشكالها، وكان المصري في أول عهده بالبناء يضطر إلى جعل قواعد الجدران التي يبنيها بالطمي أضخم وأسمك من أطرافها العليا ويدعم أركانها بحزم البردي أو بقوائم خشبية مستديرة، وكذلك يقوي الأطراف العليا للجدران بمثل هذه القوائم لتتحمل ثقل السقف؛ وعلى ذلك يمكن أن نتصور بأن الجدران كانت تميل إلى الداخل وقد ظل هذا الشكل يحافظ عليه حتى بعد اختراع اللَّبِن الذي كان يصنع عادة من الطمي المخلوط ببعض التبن، وأحجامه في معظم الأحيان "38× 18× 12" سنتيمترات، ولما بدأ الإنسان يستعمل الحجر لم يتخل عن محاكاة المباني القديمة في الشكل والهيئة العامة؛ إذ كثيرًا ما كانت جدران المقابر والمعابد تميل إلى الداخل كما مثل شكل حزم البردي في أركان هذه المباني ومثل أسطوانات الخشب كذلك في السقف. ولم يستعمل الإنسان الحجر في بناء المنازل فيما عدا الأجزاء المحيطة بالأبواب والنوافذ أي أن إطارات هذه صنعت من الحجر؛ بينما كانت بقية المنزل من اللبن. وقد استعمل الحجر في المباني الجنزية وفي المعابد لأنها كانت هي المباني الخالدة في نظر المصري القديم. فإذا ما أخذنا المقابر؛ فإننا نجد أنها كانت في أول الأمر عبارة عن حفرة يوضع فيها الميت ثم تهال عليه الرمال، ثم أمكن تسقيف المقبرة بالبوص وبعدئذٍ استعمل الخشب في هذا التسقيف؛ وكنتيجة لذلك ولاختراع اللبن أصبحت المقبرة مستطيلة الشكل، وابتداء من أواخر عصر ما قبل الأُسَر عمق الجزء المحفور في باطن الأرض وقسم إلى عدة

حجرات بني فوقها بناء مستطيل مائل الجوانب من اللَّبِن يشبه المصطبة؛ جدرانه تشبه جدران الحصون ذات المداخل والمخارج ثم في عهد الأسرة الثانية خلت الجدران إلا من فجوتين في الناحية الشرقية والجنوبية من هاتين الفجوتين كانت أكبرهما، وفيها كانت توضع لوحة جنزية. ومع أن الحجر استعمل في بناء بعض أجزاء أو تبليط بعض الحجرات من المقابر في نطاق ضيق جدًّا في عهد الأسرتين الأولى والثانية؛ إلا أن بناء مقبرة بأكملها من الحجر لم يتم إلا في عهد الأسرة الثالثة، وأول المقابر الملكية التي بنيت من الحجر هي هرم زوسر المدرج، ثم أصبح من المعتاد أن يتخذ الملوك أهرامًا كمقابر لهم، أما الأفراد؛ فقد بنوا مصاطب حجرية ونحت أمراء الأقاليم في عهد الإقطاع الأول مقابرهم في الصخور، وبنوا بعض أجزاء منها بالحجر في عهد الدولة الوسطى بنى الملوك أهرامًا صغيرة الحجم من اللَّبِن، أما في الدولة الحديثة؛ فقد نحتت المقابر في الصخور لإخفائها عن العيون خشية السرقة. ولما كان من المعتاد في الدولة القديمة أن تلحق بالأهرام معابد جنزية "شكل 24"، وكذلك كان الحال في الدولة الوسطى فإن ملوك الدولة الحديثة استعاضوا عن ذلك ببناء معابدهم الجنزية في أماكن منفصلة بعيدة عن مقابرهم. أما معابد الآلهة؛ فكانت في أول الأمر عبارة عن تعريشة أو دروة من البوص أمامها العلم الخاص بالمعبد، ولا نعرف على وجه التحديد شكل هذه المعابد في الأسرتين الأولى والثانية وأغلب الظن أنها بنيت من اللبن كذلك، وأقدم ما وصلنا من المعابد المعروفة باسم معابد الشمس

"شكل 24": منظر هرمي خفرع ومنقرع أمامهما معابدهما الجنزية. وتتمثل في بناء على حافة النيل أشبه بمكان للاستقبال يخرج منه طريق صاعد إلى الهضبة، وهذا الطريق مسقوف إلا من فتحة ضيقة تمتد بطول السقف وفي وسطه، وهذا الطريق ينتهي إلى المعبد بالمعنى الصحيح ويبدأ بمدخل ثم حجرة للبواب أو حجرتين وبَهْوٍ صغير يتفرع منه فرعان أحدهما يتجه إلى اليمين حيث المخازن والحجرات الخاصة بالكهنة، والآخر يتجه إلى اليسار وهو عبارة عن دهليز طويل مظلم ينتهي إلى سلَّم يصعد داخل قاعدة ضخمة تقوم عليها المسلة التي تقع في فناء مكشوف، وأمام المسلة مائدة ضخمة للقرابين ومجارٍ طويلة تنتهي إلى أواني تتجمع فيها دماء

"شكل 25 أ": معبد الشمس القرابين التي تقدم لإله الشمس؛ كذلك توجد مجموعة أخرى من المجاري أصغر عددًا من السابقة في الجانب الآخر من قاعدة المسلة المقابل للجانب الذي به بداية السلم، وهذه المجموعة تنتهي بدورها إلى مجموعة من الأواني "شكل 25أ". أما معابد الدولة الوسطى فكانت تشبه الشرفة المرتفعة أو المنصة التي تحيطها جدران قليلة الارتفاع؛ بينما تتخلل هذه الجدران أعمدة مربعة مرتفعة يقوم عليها السقف، ويؤدي إلى المنصة سُلَّمَان في جانبين متقابلين كما يتوسطها مذبح كبير الحجم "شكل 25ب"، أما معابد الدولة الحديثة فكانت لا تخرج في تصميمها عن بوابة ضخمة تؤدي إلى فناء مكشوف إلا من جوانبه حيث توجد بوائك مسقوفة، وهذا الفناء يؤدي إلى صالة للأعمدة تنتهي إلى قدس الأقداس أو الهيكل، ويلاحظ أن البوابة والفناء وسائر أجزاء المعبد كلها تقع على محور مستقيم، كما أن

"شكل 25ب": معبد من الدولة الوسطى. البوابة يحيط بجانبيها برجان عظيمان بواجهتهما تجاويف أعدت لوضع ساريات الأعلام وتثبيتها، وقد يسبق البوابة أحيانًا طريق للكباش، كما أن بعض المسلات توضع أمام المعبد وفي بعض أفنيته. ومما تجدر ملاحظته هنا أن التأثير على المتعبدين في معابد الدولة القديمة يأتي على أثر المسير في الطريق الصاعد شبه المظلم ثم الدخول في الممر الطويل المظلم وبعد ذلك يفاجأ المتعبد بسطوع الشمس على قمة المسلة أو بالخروج إلى النور التام في وضح النهار، أما في معابد الدولة الحديثة؛ فإننا نلاحظ أن التأثير يتم بدخول المتعبد من البوابة إلى الفناء المكشوف ثم صالة الأعمدة ثم قدس الأقداس الذي يكاد يكون مظلمًا إظلامًا تامًّا مما يوحي بالرهبة في النفس. وإذا ما تحدثنا عن المسلات فإننا نجد أنها عبارة عن كتلة ضخمة

من الحجر تميل جوانبها تدريجيًّا إلى قرب نهايتها؛ حيث نجد قمة مدببة تميل بزاوية "60" درجة مئوية تقريبًا، وكانت المسلة عادة توضع على قواعد مكعبة من درجة أو درجتين والشائع أنها كانت توضع في أزواج أمام مداخل المعابد؛ ولكن وجدت كذلك مسلات صغيرة في مقابر الدولة القديمة وأقدم مسلة لمعبد مازالت قائمة في موضعها هي تلك التي أقامها سنوسرت الأول في هليوبوليس وارتفاعها "68" قدمًا، وكانت أمام معبد الأقصر مسلتان إحداهما ما زالت في مكانها، والأخرى نقلت إلى باريس سنة: 1831، وتوجد بعض المسلات الأخرى في مصر ومن أمثلة ذلك مسلة لتحتمس الأول ومسلة لحتشبسوت وكلاهما بالكرنك، وقد أعجب الرومان بالمسلات المصرية ونقلوا كثيرًا منها حتى إن روما وحدها بها "12" مسلة، وواحدة بالقسطنطينية، ومن المسلات التي أقامها تحتمس الثالث مسلتان كانتا في هليوبوليس نقلهما الإمبراطور أغسطس إلى الإسكندرية ثم نقلت إحداهما سنة: 1877 إلى لندن والأخرى نقلت سنة 1879 إلى نيويورك، وأكبر مسلة معروفة كانت هي الأخرى من عمل تحتمس الثالث وكان قد أقامها في هليوبوليس أيضًا وهي الآن موجودة في ميدان القديس جون لاتيران في روما، وقد أقامها هناك البابا سكستوس الخامس. ولا شك في أن نحت المسلات وإقامتها كان يتطلب عملًا ووقتًا كبيرين كما يتبين ذلك من النص الموجود على قاعدة مسلة حتشبسوت في الكرنك والذي يفخر فيه مهندسها بأنه أتم قطع هذه المسلة في سبعة شهور فقط وأن هذه كانت أقصر مدة عمل فيها مثل هذا العمل. ويحتمل أن أصل المسلات هو الأحجار المقدسة أو الشواهد

التي كانت تقام تمجيدًا للموتى والآلهة؛ لأننا نعرف بأن لوحات منقوشة بأسماء الملوك كانت توضع في أزواج في مقابرهم بأبيدوس، ويقال بأن أزواجًا من المسلات الصغيرة كانت توجد في مقابر الأشراف من الأسرة الرابعة. ولم تكن هذه المسلات لمجرد الزينة أو لتسجيل بعض ذكريات الملوك وأعمالهم فحسب؛ بل كانت بعض المسلات تغطى في قمتها بمعدن الألكترون -مزيج من الذهب والفضة- لتعكس أشعة الشمس؛ إذ إن المسلة كانت ترمز لإله الشمس؛ ولذلك نجد أنها كانت كثيرة في هليوبوليس مقر عبادة هذا الإله، وقد رمز في الكتابة الهيروغليفية لبعض معابد الشمس بقرص الشمس فوق قمة المسلة.

ثانيا: بلاد العرب

ثانيًا: بلاد العرب من المعروف أن بلاد العرب ظلت بيئة مقفلة أمام العالم المتحضر؛ فلم تقم بها بحوث أثرية ولم يصل إليها من الرحالة الذين تركوا وصفًا لمشاهدتهم فيها إلا في القليل النادر. وكان اهتمام أقدم من عرفناهم من هؤلاء منصبًّا بصفة خاصة على التعرف على ما يجري في داخل الحجاز وخاصة فيما يتعلق بمراسيم الحج، ومما زاد في إثارة الرغبة عند هؤلاء تحريم دخول غير المسلمين إلى مدينتي مكة والمدينة. وأقدم الرحلات التي سمعنا بها كانت في أوائل القرن السادس عشر؛ ولكن الرحلات التي جاءت عنها تفاصيل أكثر إسهابًا ودقة هي تلك التي بدأت منذ أوائل القرن التاسع عشر. ورغم أن مثل هذه الرحلات لم يكن الغرض منها وصف المعالم الأثرية؛ إلا أن هناك رحلات أخرى تهدف إلى مشاهدة بقايا ما كتب في التوراة عن مملكة سبأ وغيرها من أماكن متعددة من بلاد العرب وما حوته من كنوز ونفائس. كما أن بعض المؤرخين اليونانيين والرومانيين وبعض كتاب العرب ذكروا قصصًا عن بلاد اليمن وما فيها من قصور وحصون ألهبت خيال بعض الرحالة وحملتهم على التفكير في السفر إليها.

وبالفعل قامت بعثة دنمركية أوفدها ملكها سنة 1761 مكونة من خمسة أعضاء مات رئيسها عند وصوله إلى المخا ميناء اليمن ومات أخصائي النبات بين المخا وصنعاء، واستمر الثلاثة الباقون حتى عادوا إلى المخا متجهين إلى الهند؛ فمات اثنان منهم، ولم يرجع بعد إتمام الرحلة سوى واحد هو نبؤور الذي كان مكلفًا بعمل الخرائط فقط؛ ولكنه أعد جميع الأبحاث والرسوم للنشر. وكانت نتائج هذه البعثة من أحسن النتائج العلمية التي أمكن الوصول إليها. وفي سنة 1843 قام شاب فرنسي برحلة إلى مأرب ونقل كثيرًا من النقوش السبئية، نشرها القنصل الفرنسي في جدة في سنة 1845. ثم قامت رحلات أخرى بعد ذلك في فترات متباعدة؛ ولكنها جميعًا لا تلقى ضوءًا كافيًا على ما كان في هذه المناطق من حضارة. ومهما كان الأمر فإن شبه جزيرة العرب لم يكن فيها من التيسيرات التي تسمح للرحالة والعلماء بالتجوال فيها أو الكتابة عنها، واقتصرت الجهود على مناطق محدودة منها، وإذا ما نظرنا إلى الظروف المناخية وما نشاهده من أحوال الطبيعة في الوقت الحاضر يمكننا أن نستنتج أن أهل شبه الجزيرة وإن اتحدوا في صفاتهم الجنسية؛ فإنهم كانوا يختلفون في ظروف معيشتهم بين بقعة وأخرى، ويمكن القول إجمالًا بأن المناطق التي سبقت إلى ميدان الحضارة هي تلك التي جعلت الاستقرار فيها ممكنًا، وبعبارة أخرى؛ فإن مناطق الحضارات القديمة يمكن تتبعها في الأطراف الجنوبية والشمالية لشبه الجزيرة.

ومع كل فإن مخلفات هذه الحضارات التي ظلت قائمة والتي أمكن الكشف عنها قليلة للغاية ولا تكفي لأن تكون فكرة كاملة عن مظاهر الحضارة المختلفة التي سادت في تلك البقاع. ومما يلاحظ على حضارات شبه الجزيرة بصفة عامة عدم وجود سلسلة متكاملة من المظاهر الحضارية؛ فهناك فجوات كثيرة في هذه السلسلة؛ فالآثار التي كشف عنها في مناطق محدودة من جنوب شبه الجزيرة والتي تمثل حضارات العصور قبل التاريخية لا تخرج عن كونها بعض آلات الصوان التي تشبه ما وجد في شرق أفريقيا من العصر الحجري القديم؛ مما أدى إلى افتراض نظريتين: إحداهما تشير إلى أن الحضارة انتقلت من شبه الجزيرة إلى الساحل الأفريقي؛ بينما تشير النظرية الأخرى إلى العكس من ذلك حيث تفترض وجود مركز إشعاع حضاري في شرق أفريقيا انتقلت منه ثقافة صناعة الصوان إلى جنوب شبه الجزيرة وغيرها. ولا نكاد نجد من المخلفات الأثرية ما يبين مظاهر حضارات تالية للعصر الحجري القديم؛ بل إن كل ما عثر عليه من مخلفات غير صناعات هذا العصر تشير إلى حضارات عصور تاريخية متأخرة. وربما كانت أعظم المناطق الأثرية في جنوب شبه الجزيرة هي مأرب التي ذكرت في الكتب المقدسة؛ ففيها بقايا مباني ما زالت جدرانها قائمة وإن كان الكثير ما زال مطمورًا تحت الأكوام الأثرية، وهذه الجدران تدل على مبانٍ مختلفة، وإلى جوار تلك الجدران توجد أحجار كثيرة منقوشة ببعض الكتابات وبعض التماثيل وبقاياها. ويمكن أن يتتبع المرء في أطلال هذه المدينة مكان السوق القديم والسور، ويتضح منها

حسب رأي بعض الرحالة أن المدينة كانت مستديرة وأن سورها كانت به ثمانية أبواب، ومن هذه البقايا أيضًا يمكننا أن نستنتج أن أهل سبأ الذين اتخذوا مأرب عاصمة لهم1 وصلوا إلى مرحلة متقدمة في فن المعمار، وفي فن نحت التماثيل؛ كما أن من بين النصوص ما يشير إلى أن أحد الملوك بنى حائطًا حول مأرب بناءً على أمر ومعونة الإله عشتر2. ومن المخلفات الأثرية في هذه المناطق وما جاورها من مناطق أثرية أخرى بعض اللوحات المزخرفة المنقوشة وبعض التوابيت الحجرية مما يدل على أن أهل سبأ استخدموا التوابيت في دفن موتاهم، ولا بد أنهم اعتقدوا بالبعث؛ لأن بعض المقابر التي كشفت بفعل السيول وغيرها كانت تحتوي على كثير من الأثاث الجنزي إلى درجة أن أهل المنطقة اعتقدوا بأن الموتى كانوا من التجار الذين دفنوا ومعهم بضائعهم؛ ولذا يطلقون على هذه القبور اسم مقابر البياعين3. ومن الواضح في فنون البناء والنقش في تلك المنطقة أن هناك تأثيرات توحي بوجود اتصالات بينها وبين بلاد النهرين وسوريا واليونان

_ 1 كانت العاصمة أولًا صرواح، انظر كتاب المؤلف: "معالم تاريخ الشرق الأدنى القديم" "الإسكندرية، سنة: 1968" "ص258". 2 كانت الديانة الرئيسية لدى شعوب جنوب بلاد العرب تعتمد أساسًا على ثالوث من الكواكب يتمثل في الإله الأب وهو القمر "الموقاه" والإلهة الأم وهي تسمى "ذات حميم أو ذات بعدان" والإله الابن وهو نجم الزهراء "عشتر"، انظر: أحمد فخري: اليمن ماضيها وحاضرها "القاهرة: 1957"، "ص56". 3 المرجع السابق "ص122".

كما أن هناك ما يوحي بتأثيرات من الفن المصري وخاصة في التماثيل وزخارف بعض النصب. والظاهر أن بعض النقوش تشير إلى تصريح بقطعة من الأرض منحها الملك إلى قبيلة في نظير الخدمة العسكرية، كما أن هناك نقوشًا أخرى تحرم نهب الأراضي المزروعة أو تركها وقت الحصاد، ونقوشًا غيرها تحدد امتلاك بعض القبائل لبعض الأراضي وتحدد الضرائب الواجب دفعها عنها. وهكذا يمكن أن نستنتج بأن استقرار بعض القبائل البدوية كان يتم بشروط معينة، وربما كان الكيان السياسي للدولة غير كامل أو أنه كان عرضة للتغير بسبب دخول بعض العناصر الجديدة بين حين وآخر. ويتمثل فن السبئيين في سد مأرب الذي بلغ من شهرته أن ذكر في القرآن الكريم، وقد نسب إلى ملكة سبأ كما نسب إلى غيرها من الملوك الذين سبقوها، وهو يعد أعظم عمل هندسي قديم في الجزيرة العربية. وتروي الأساطير أوصافه بشيء من الخيال كما تنسب تحطمه إلى أسباب مختلفة منها ما هو خيالي، وقد أقيم هذا السد في حوالي منتصف القرن السابع قبل الميلاد، وتهدم في حوالي أواخر القرن السادس الميلادي، وكان الغرض من بنائه ينحصر في السيطرة على مياه السيول وتخزينها والصرف منها بالمقدار اللازم فتتوفر المياه اللازمة للري إلى أن يحين موعد قدوم السيول التالية وهكذا. ونظرًا لما تمتعت به بلقيس من شهرة في التاريخ فإن كثيرًا من الأماكن الأثرية تنسب إليها ولا يقتصر وجودها على منطقة مأرب

وحدها؛ بل يطلق اسم بلقيس على مناطق أثرية في أماكن مختلفة أخرى من اليمن. ومن أهم الآثار التي تنسب إليها في منطقة مأرب محرم بلقيس وهو أهم المعابد وأشهرها ويقع على بعد نحو أربعة كيلو مترات جنوب شرق مأرب الحالية، وأقدم النقوش على جداره الخارجي يدل على أن ثاني ملك حكم سبأ هو الذي بنى سور هذا المعبد وأنه شيده لإله القمر، وقد عاش هذا الملك في القرن الثامن قبل الميلاد، وهو نفسه الذي شيد المعبد الكبير في صرواح، وقد وجدت نقوش من تواريخ تالية تصل إلى القرنين الثالث والرابع الميلاديين، أي أن هذا المعبد ظل قائمًا وعبادة القمر ظلت تقام في هذا المكان ألف سنة على الأقل. ومن كتابات المؤرخين القدامى نعلم بأن مأرب كانت بها ثلاثة قصور على الأقل، قرن أحدها بقصر الملكة بلقيس، وقد ورد في كثير من أقوال الشعراء وكتاب العرب؛ ولكن من العسير تحديد مكان هذا القصر أو التعرف عليه. أما في منطقة صرواح وهي تتمثل في وادٍ مستدير محاط بالجبال؛ فقد وجد بها آثار تدل على وجود سد قديم ما زالت عليها بعض الكتابات القديمة، كما وجدت آثار تدل على وجود معابد قديمة أحدها يطلق عليه الآن "دار بلقيس"، ويبدو أنه ما زال سليمًا لأن سقفه الحجري ما زال في مكانه؛ ولكنه مطمور بالرديم. وأهم الآثار جميعًا في تلك المنطقة معبد إله القمر أو المعبد الكبير الذي يبدو كأنه بناء نصف بيضي لاستدارة إحدى نواحيه مما جعله يبدو بهذا الشكل، وقد بنى هذا المعبد أيضًا الملك الثاني من ملوك سبأ الذي سبقت الإشارة إليه

على أنه باني سور المعبد في مأرب، وربما كان هو الذي وحَّد جنوب شبه الجزيرة بأكملها بما في ذلك حضر موت ونجران والمحميات، ومن الجدير بالذكر أن هذا الملك يشير في نقوشه إلى خزانات المياه والجسور والقنوات التي أمر بإنشائها. وليس من اليسير تتبع الآثار المختلفة في مناطق جنوب شبه الجزيرة، وكل ما يمكن قوله في هذا الصدد: إن هذه الآثار؛ وإن كانت قليلة ولم تدرس دراسة وافية بعد؛ إلا أنها تعطي فكرة واضحة بعض الشيء عن الديانة في هذه المنطقة وعن توصل أهلها إلى أعمال هندسية رائعة سواء في المعمار أو في التحكم في مياه السيول، وبلوغهم درجة لا بأس بها في القوانين والعلاقات العامة؛ وخاصة فيما يتعلق بتحديد الملكية وتحديد الحدود بين الأملاك المختلفة كما يبدو من هذه الآثار أيضًا أنهم نعموا بالرفاهية وأن الرقص والموسيقى كان لهما نصيب في حياتهم؛ إذ توجد على بعض الأحجار مناظر تمثل راقصات تحيطها زخارف مختلفة. ولا شك في أن موقع جنوب شبه الجزيرة كان له أثره في اتصال بعض الأقطار ذات الحضارات القديمة بسكانه. ومن المرجح أن وجود هؤلاء السكان عند مخرج البحر الأحمر جعلهم يغامرون بالخروج إلى البحر وأصبحوا من الملاحين الممتازين؛ بل ويتغالى بعض المؤرخين فيذكر أنهم وصلوا بسفنهم إلى بلاد الهند وبلاد النهرين ومصر، كما أن إقبال بعض القبائل على الاستقرار في بعض أماكن شبه الجزيرة لم يجعلهم يتخلون نهائيًا عن صفاتهم البدوية بما فيها من حب التجوال والترحال؛ ولذا نجد أن سكان هذه المناطق إلى جانب مهارتهم في الملاحة قاموا

بنقل المتاجر عبر شبه الجزيرة، ووصلوا بتجارتهم إلى الشام، كما أنهم كانوا أحيانًا يجمعون في الانتقال بالمتاجر بين اتخاذ طريق بحري وآخر بري؛ إذ كانوا يعبرون البحر إلى الشاطئ الأفريقي ثم يسيرون بحذاء الشاطئ تتبعهم سفنهم من مكان إلى آخر. ويبدو أن ملوك "أكد" ببلاد النهرين اتصلوا بالمناطق الواقعة في جنوب شرق الجزيرة، كما يبدو ذلك من نصوص "نارام سن" و"جوديا" كبير كهنة "لجش"، والظاهر أن بعض القبائل الجنوبية وقفت إلى جانب ملك دمشق في حربه ضد الملك الأشوري "شلنصر الثالث"، وبعد ذلك نجد في النصوص الآشورية ما يشير إلى وصول جزية وهدايا من السبئين إلى ملوك آشور؛ إلا أنه من المستبعد أن يكون الأشوريون قد وصلوا إلى جنوب شبه الجزيرة وفرضوا الجزية على سبأ، والأرجح أن بعض الجاليات السبئية كانت مستقرة على طول الطريق التجاري بين شمال الجزيرة وسوريا وهذه هي التي تعرضت لإغارات الأشوريين، كما أنه من الجائز أيضًا أن يكون ما ذكره الأشوريون عن جزية السبئين لا يدل إلا على هدايا أرسلها السبئيون لتوطيد صلات الصداقة معهم والمحافظة على نشاطهم التجاري في شمال شبه الجزيرة. ولا بد من الإشارة هنا إلى ما تذكره الأساطير المصرية من أن المصريين كانوا ينتمون إلى أتباع حور، وأن هؤلاء هم الذين جاءوا من الجنوب والشرق وعلموا المصريين الحضارة وأخضعوا البلاد لسلطانهم. ويرى كثير من الباحثين بأن في هذا إشارة إلى أن أتباع حور قد جاءوا من شبه الجزيرة وعبروا البحر الأحمر وتجولوا على طول الساحل الأفريقي ثم تقدموا شمالًا حتى وصلوا إلى مصر؛ كما أن الاتصال المستمر بين مصر

وبلاد بونت، وهذه الأخيرة قد دعا كثير من المؤرخين إلى الربط بينها وبين جنوب شبه الجزيرة؛ بل ويرجحون أن بونت هي نفسها بلاد اليمن الجنوبية وليس كما يقول بعض المؤرخين بأنها هي شاطئ أفريقيا في منطقتي إرتريا والصومال1. أما على الحدود الشمالية لشبه الجزيرة فقد استقرت بعض القبائل وتكونت بعض الدويلات كانت أهمها: البتراء وتدمر. ولا نكاد نعرف من أمر هذه الدويلات شيئًا سوى ما ذكرته بعض النصوص التي جاءت من الأقطار المجاورة. وشأن الدويلات الشمالية شأن الدول الجنوبية لشبه الجزيرة من حيث إن تاريخها المعروف به فجوات كثيرة، فخطابات "ماري" تدل على أن منطقة تدمر كانت آهلة بالسكان حوالي سنة: 170. ق. م. ولا نجد وثائق مستمرة عنها بعد ذلك التاريخ؛ غير أن تدمر تأخذ في الظهور حوالي القرن الأول قبل الميلاد؛ أما البتراء فقد أخذت في الظهور منذ القرن الثاني قبل الميلاد، وإذا كان أهل البتراء هم الأنباط فإن أقدم ذكر لهؤلاء يرجع إلى القرن السابع قبل الميلاد؛ حيث حارب ملكهم "آشور بانيبال"، وقد اعتبرهم هذا الملك ثوارًا، وتذكر حولياته بأن جيوشه تقدمت في الصحراء وهزمتهم، ويبدو أن التضارب في وصف هؤلاء الأنباط بين الكتاب القدامى؛ فمنهم من يرى بأنهم كانوا يعيشون في منطقة صحراوية تقوم حياتهم على الغزو ويحرمون الزراعة وشرب الخمر وبناء المنازل؛ بينما يصفهم آخرون بأنهم

_ 1 أحمد فخري، المرجع السابق "ص: 66- 68".

يشتغلون بنقل التجارة الآتية من الجنوب. أما التدمريون؛ فكانت عاصمتهم تدمر، ويبدو أن سكانها كانوا من القبائل التي استقرت في هذه المنطقة على طول الطريق التجاري الرئيسي بين شبه الجزيرة وشرق البحر المتوسط، ويبدو اختلاف أصول السكان وإرجاعهم إلى قبائل مختلفة- من النقوش التي خلفوها؛ إذ نجد نقشًا على تمثال يسجل الصلح بين قبيلتين متنازعتين، كما أن بعض النقوش وإن كانت تسجل اشتراك السكان في بعض الطقوس الدينية؛ إلا أن هذه النقوش تسجل أسماء تلك القبائل، وقد أقاموا تماثيل لآلهتهم المختلفة. ومهما كان الأمر فإنه نظرًا إلى أن هذه الدويلات الشمالية تقع في الطريق بين بلاد النهرين والشام؛ فقد تعرضت لهجمات الأشوريين والكلدانيين كما تعرضت الدويلات الأخرى المتاخمة لها من الجنوب، ومن ذلك مثلًا ما نعلمه من أن "تجلات بلسر الثالث" يتقبل خضوع أميرتين عربيتين إحداهما تدعى زبيبة والثانية تدعى سمسى، كما أن "سنحريب" يذكر بأنه توغل في الصحراء متعقبًا العرب الذين كانوا قد تقدموا إلى بابل واضطرهم إلى الاعتصام في مكان ما في قلب الصحراء، وعلى أي حال فإن خصائص ومميزات حضارات تلك الدويلات الشمالية ينبغي أن تكون موضوع الحضارات المعاصرة لليونان والرومان؛ لأن التواريخ المؤكدة لظهورها هي القرنين الثاني والأول قبل الميلاد كما سبق أن أشرنا، وقد سقطت البتراء سنة" 16م، وتدمر سنة: 273م.

ثالثا: الاقليم السورى

ثالثا: الاقليم السورى مدخل مدخل مدخل ... ثالثًا: الإقليم السوري من المعروف أن موقع هذا الإقليم جعله يستقبل الكثير من العناصر البشرية في مختلف الأدوار التاريخية1، كما أن انقسام هذا الإقليم من ناحية التضاريس جعله يشتمل على وحدات سياسية مختلفة، ومهما كان بينها من تشابه في بعض مظاهر الحضارة فيها؛ فإنه من العسير أن نتناولها جميعًا بالبحث كوحدة حضارية ظهرت في الإقليم بأكمله، ولذا فإننا سنتناول حضارته على أساس الحضارات التي انتشرت بين العناصر البشرية الرئيسية التي أثرت فيه. وقد اصطلح المؤرخون على أن أهم العناصر التي لعبت دورًا فعالًا في تاريخه القديم هي تلك العناصر السامية التي وفدت إليه في هجرات مختلفة.

_ 1 انظر كتاب المؤلف: معالم تاريخ الشرق الأدنى القديم "ص273".

الأموريون: اقدم العناصر السامية

أ- الأموريون: أقدم العناصر السامية ويرجح بأن سكان بلاد النهرين هم الذين أطلقوا عليهم هذا الاسم؛ فقد أطلق السومريون كلمة "مارتو" على أهل الغرب، ومنها جاءت الكلمة الأكدية "أمورو" التي أصبحت بعد ذلك تطلق على الإقليم السوري بأكمله، وهي في هذا تشبه استخدام العرب لكلمة الشام التي كانت تعني أصلًا اليسار أو الشمال. وحينما وفد الأموريون إلى الإقليم السوري كانوا عبارة عن جماعات بدوية

لا تعرف سكنى المدن ولا الزراعة؛ ولكن بعد أن استقروا في هذا الإقليم أخذوا عن أهله مظاهر الحضارة المختلفة وعرفوا الزراعة، وأسسوا دويلات قوية من أهمها تلك التي كانت في حوض الفرات الأوسط، وكانت عاصمتها "ماري"، وبلغ من قوة هذه الدويلات أن حاولت التوسع في بلاد النهرين؛ ولذا نجد أن أحد ملوك أسرة أور الثالثة قام بتشييد سور في "أور" أطلق عليه اسم: الجدار الذي يصد الأموريين، كما أن آخر ملوك هذه الأسرة افتخر بانتصاره عليهم بقوله: لقد اخضعت مارتو الذين في قوة العاصفة. ومع أن الأموريين اقتبسوا الكثير من مظاهر حضارتهم من حضارات أهل المنطقة السابقين ومن جيرانهم إلا أن هؤلاء الجيران تأثروا بدورهم بمؤثرات أمورية؛ فمثلًا نجد أن البابليين والأشوريين أخذوا في قوانينهم مبدأ "العين بالعين والسن بالسن" الذي انتشر بين الجماعات السامية ومن بينها الأموريون، كما أنهم كذلك عبدوا بعض الآلهة الأمورية. وقد وصلوا إلى مرتبة حضارية عظيمة، كما يستدل على ذلك من الآثار التي عثر عليها في عاصمتهم ماري؛ فقد أمكن الكشف عن بقايا قصر ملكي كان يشغل مساحة تزيد على خمسة أفدنة ويحتوي على أكثر من "300" حجرة زينت جدران الكثير منها بصور ملونة بألوان زاهية ويشمل عددًا من الساحات والحمامات، وألحقت به بعض الدوائر الحكومية، كما عثر على أكثر من "20000" لوح من الألواح الطينية المكتوبة بالخط المسماري وهي تتضمن وثائق تتناول مختلف الشئون وتلقي كثيرًا من الضوء على النواحي السياسية والإدارية والاقتصادية والدينية التي سادت

في هذه المنطقة وفي مناطق أخرى من العالم القديم؛ فمثلًا نعلم من هذه الوثائق أن مملكة أمورية اسمها "يمخاد" كانت عاصمتها حلب، وأن "جبيل" كانت مركزًا صناعيًّا مهمًّا للنسيج، و"قطنة" كانت مركزًا تجاريًّا؛ كذلك عرفنا أن "زمري ليم" كان يعاصر الملك البابلي حمورابي، وأنه كان آخر ملوك ماري. ورغم هذه الحضارة فإن الأموريين لم يتركوا كتابات مهمة بِلُغَتهم؛ بل اقتصروا في تدوينهم بها على أسماء ملوكهم وحكامهم وبعض الأماكن في الإقليم السوري، أما أهم مدوناتهم؛ فقد كتبت بالأكدية التي شاع استخدامها كلغة تدوين رسمية. ويبدو أن وقوع الأموريين بين آسيا الصغرى في الشمال، ومصر في الجنوب وبلاد النهرين في الشرق قد أكسبتهم مهارة سياسية في بعض الظروف؛ وخاصة عندما أخذ الحيثيون في آسيا الصغرى في القوة، وبدأت مصر في الضعف؛ فقد أخذ بعض الحكام الأموريين الذين كانوا يخضعون لمصر فيما سبق يستغلون الظروف ويعلنون استقلالهم، ومنهم من تظاهر بالولاء للمصريين وفي نفس الوقت كان يتعاون مع الحيثيين في غزوهم لبعض المناطق؛ بينما يستولى لنفسه على بعض المناطق الأخرى، ويبدو ذلك واضحًا في أواخر عهد الأسرة الثامنة عشرة المصرية. أما عن ديانة الأموريين؛ فقد وجدت لديهم معبودات مختلفة منها الإله أمورو "مارتو" الذي عرفت عبادته في بلاد النهرين وكانت زوجته الإله عشتار إلهة الحب والقوة، التي يرجح أنها مقتبسة من الإلهة البابلية عشتار، وقد وجدت في أنقاض قصر ماري الذي أشرنا إليه

فيما سبق صورة كانت تزين أحد الجدران وفيها يرى الملك الذي يرجح أنه "زمري لم" وهو يتسلم شارات الملك من هذه الإلهة ومن الإله "حدد" الذي عرف في بابل باسم "أدد" إله المطر والزوابع وكان يطلق عليه أحيانًا اسم آخر هو: رمان "رمانو" أي إله الرعد، ويحتمل أنه هو الذي عرف بعد ذلك في بعض جهات سوريا باسم "بعل"، ومن آلهتهم أيضًا الإله "رشف" وقد عبده الفينقيون وعرفه المصريون في عهد الدولة الحديثة. ومن معبوداتهم التي انتقلت إلى بلاد النهرين "داجون" أو "داجان" وكان من آلهة الخصب، ومن المحتمل أيضًا أنهم هم الذين أدخلوا إلى الإقليم السوري عادة تقديم الابن الأكبر كقربان للآلهة، وعادة تضحية أطفال في أسس المباني، وهذه الأخيرة ظلت إلى زمن العبرانيين.

الكنعانيون والفينيقيون

ب- الكنعانيون والفينيقيون: وصل هؤلاء في هجرة واحدة مع الأموريين. وقد اختلف الباحثون في أصل اسمهم؛ فمنهم من يرى بأنه سامٍ "كنع" أو "خنع" بمعنى المنخفض؛ أي الأرض المنخفضة التي سكنوها وخاصة على الساحل للتمييز بينها وبين الأراضي الجبلية المحاذية لها، ومنهم من يرى أن أصله هندو أوربي من كلمة حورية "كناجي" بمعنى صبغة حمراء، ومنها أخذت الكلمة الكلدانية "كناخي" أو "كنخني" التي حرفت إلى كنعان أي بلاد الأرجوان لشهرتها بهذه الصباغة؛ ولذا عرفها اليونان باسم فينيقيا كمرادف لهذه التسمية، وكانت تدل في أول الأمر على الساحل السوري وغرب فلسطين ثم أصبحت تدل على فلسطين وجزء كبير من سوريا. ونظرًا لطبيعة الإقليم الذي عاشوا فيه ولتعرضه بين حين وآخر لتوسع الدول الكبرى المجاورة لم ينجح الكنعانيون في تأسيس دولة

قوية موحدة؛ بل انتظموا في جماعات صغيرة يرأس كل منها ملك ويستقرون حول مدن محصنة تحيط بها مناطق زراعية تابعة لها، وكانت هذه المدن هي العواصم التي يلجأ إليها أهل المناطق الزراعية ويحتمون داخل أسوارها عند الخطر، وكثيرًا ما كان يحدث النزاع بين تلك المدن فكان أكثرها تفوقًا تلك التي كانت وسائلها الدفاعية أكثر فاعلية، وبعضها كان يشغل موقعين أحدهما على الساحل والآخر يمثل جزرًا صغيرة في مواجهته يلجئون إليها عند اشتداد الخطر، وبالطبع كانت المدن المنيعة أقدر من غيرها على البقاء والازدهار، ومن جهة أخرى كثيرًا ما كانت هذه المدن تتفق فيما بينها لتحقيق مصالح مشتركة أو للتحالف ضد أخطار خارجية. ومع أن الكنعانيين لم يتمكنوا من إنشاء دول كبيرة -كما أشرنا- إلا أنهم فرضوا شهرتهم في التاريخ لما امتازوا به من نشاط في الميدان الاقتصادي؛ فقد عملوا على تنمية زراعتهم وصناعتهم ونشطوا في الاتِّجار خارج وطنهم وأسسوا مستعمرات تجارية في مناطق بعيدة؛ ففي ميدان الزراعة لم يتركوا بقعة صالحة دون استغلال؛ حتى إنهم زرعوا السفوح الجبلية حيث حولوها إلى مسطحات متفاوتة الارتفاع يفصل بين كل منها والآخر جدار يمنع التربة من التآكل ويزيد في المساحة المنزرعة، وإلى جانب الزراعة كانوا يربون الأغنام والخنازير ومهروا في صناعة الفخار كما برعوا في صناعة النسيج والزجاج، وقد عرفت لديهم الأقمشة الصوفية منذ منتصف الألف الثاني قبل الميلاد على الأقل، ونقلوا زراعة القطن من آشور وعرفوا نسيج الكتان كما عرفوا الحرير منذ القرن السادس قبل الميلاد تقريبًا، وقد ارتبطت حرفة صيد الأسماك بطريق غير مباشر بشهرة

منسوجاتهم؛ لأن الصبغة باللون الأحمر التي اشتهروا بها كانوا يستخرجون سائلها من أصداف تكثر على سواحل البحر، وكانوا لا يتاجرون في هذا السائل؛ بل في المنسوجات المصبوغة، ولم يقتصر استخراجهم لهذه المادة على الأصداف الموجودة على سواحلهم؛ بل كانوا يجلبونها أيضًا من المواني البعيدة، وبلغ من شهرة أقمشتهم المصبوغة بها والتي أصبحت تعرف باسم الأرجوان، أن ارتفعت أثمانها حتى أصبحت رمزا للملوك فيقال عنهم: مولود في الأرجوان. كما أنها كانت تستعمل في أزياء بعض ذوي المكانة مثل رؤساء الكهنة في بعض الجهات، وإلى جانب الصبغة بهذا اللون عرف الفينيقيون صبغة أخرى لونها قرمزي استخرجوا مادتها من حشرات كانت تعيش على أشجار السنديان حول الساحل؛ وذلك بوضع هذه الحشرات بعد تجفيفها في بعض الأحماض. ومع أن الفينيقيين نشطوا في التنقل بين مختلف الأقطار وقاموا بدور عظيم في نقل مختلف السلع والثقافات؛ إلا أن ما خلفوه من مدونات لا يتناسب مع الدور الذي قاموا به؛ وربما يرجع ذلك إلى فناء أوراق البردي التي كانوا يدونون عليها وكانوا يجلبونها من مصر، ومع هذا فإن القليل الذي عثر عليه من نقوشهم ومدوناتهم يدل على علو شأنهم في كثير من المعارف. ومن ذلك أيضًا نستطيع أن نستنتج أن المدن الفينيقية كان يحكمها ملوك يتم اختيارهم من بعض الأسر النبيلة أو التي تنتمي إلى أصل مقدس؛ ولكن سلطان الملك كان يحدده مجلس الشيوخ، مؤلف من تجار المدينة. ومن الملاحظ أن أصحاب الحرف كانوا يدينون بالولاء لرؤساء يمثلون طوائفهم المختلفة ويطلق على رئيس كل حرفة لقب "رب"

الذي يدير أمور أهل الحرفة ويتولى رعاية شئونهم، ومع أن شهرة الفينيقيين الرئيسية كانت لمهارتهم في الملاحة؛ إلا أنهم تفننوا في استغلال كل ما يمكن أن تجود به بلادهم من موارد، وقد اشتهرت أخشاب أشجارهم بالجودة وخاصة شجر الأرز والصنوبر؛ ولذا فرض على جيرانهم الاتصال بهم والاتِّجار معهم للحصول على هذا الخشب الثمين، كما أنه من المرجح أن زيت الصنوبر ونشاراته كانا يستخدمان في التحنيط، كذلك استخدمت أخشاب الصنوبر في بناء قصر ومعبد سليمان، كما استخدمها الأشوريون أيضًا في بعض قصورهم وخاصة من عهد سرجون الثاني. أما في مجال الزراعة: فقد وصلوا إلى مرحلة راقية واستخدموا المحراث؛ بل وكانوا أحيانًا يستغلون الفيل كحيوان لجر المحراث في الزراعات الكبيرة، وأكثر وسائل النقل استعمالًا عندهم كانت عربات ذات عجلتين تجرها أربعة خيول "شكل 26"، وربما كان الحمار يستعمل في الخدمات بدل الخيل قبل دخول الحصان أيام الهكسوس، وكان استخلاص الحب من سنابله يتم إما بأن تمرر على السنابل لوحة خشبية بأسفلها شظايا "شكل 26": نموذج من الخزف لعربة يجرها الخيل

صوانية أو أن تستعمل مركبة من خشب لها عجل بأسنان من حديد أو أن يداس المحصول بأرجل الحيوانات1، وتطحن الحبوب بالرحى. وقد عرف الفينيقيون صناعة الأنبذة واستخراج الزيوت، وغير ذلك من الصناعات الزراعية. ويعد الفينيقيون أقدم أمة بَحَريَّة في التاريخ، ونبوغهم في الملاحة هو سبب شهرتهم الحقيقية، وقد وصل نشاطهم إلى أسبانيا وبريطانيا، وبلغ من حذقهم أنهم كانوا يصنعون السفن لحساب الدول والشعوب الأخرى؛ فقد أمدوا "سنحريب" ملك آشور بالسفن التي غزا بها دويلات جنوب العراق، كما أمدوا سليمان بالسفن واستخدمهم "نخاو" "الأسرة 26" في الدوران حول أفريقيا وقد أتموا رحلتهم في ثلاث سنوات، وقد أخذوا يكونون في الأماكن التي وصلوا إليها للتجارة مراكز تجارية سرعان ما تحولت إلى مستعمرات تجارية كانت أعظمها قرطاجة، التي سرعان ما ازدهرت بعد تأسيسها ثم أصبحت لها سيادة تجارية وسياسية؛ فكونت إمبراطورية تمتد من حدود ليبيا إلى جبل طارق وضمت بعض جزر البحر المتوسط إليها، ثم تنافست مع روما من أجل السيادة على البحر المتوسط ونشبت بينهما حروب دامت أكثر من مائة عام انتهت بأن أحرقها الرومان وحولوها إلى كومة من الرماد. ويبدو أن الكنعانيين نشطوا في صناعة المعادن حيث ينسب إليهم أنهم وصلوا إلى صناعة الفولاذ واشتهروا بالصياغة ولذا كانوا

_ 1 كونتنو: الحضارة الفينيقية، مُتَرْجَم، ص306.

"شكل 27" نحت في العاج يمثل الفن الفينيقي وفيه مزج بالفن المصري يقومون برحلات عديدة لجلب المعادن؛ حتى إن هوميروس" أشار إلى حذق أهل صيدا بصفة خاصة في الصياغة. ومع أن الفينيقيين في فنونهم اقتبسوا من فنون الشعوب المجاورة؛ إلا أنهم مزجوا في كثير من الحالات بين هذه الفنون جميعًا حتى جعلوا منها فنًّا فينيقيًّا متميزًا "شكل 27"؛ غير أنهم في بعض الحالات كانوا يقتبسون اقتباسًا كليًّا "شكل 28"، ولا يمكننا أن نقتصر في دراسة الفن الفينيقي على ما وجد من آثاره على الساحل السوري وحده؛ ولكن لا بد من دراسة كل آثارهم في المناطق الأخرى، وكمثال للاقتباس الكلي نلاحظ في بعض أختامهم وتوابيتهم طابعا مصريًا صرفًا. وينسب إلى الفينيقيين اختراع الحروف الأبجدية التي نقلها عنهم اليونان ثم شاع استعمالها وإن كان من الممكن أن نعتبر أن الهجائية

"شكل 28": تطعيم بالعاج يرى فيه الطابع المصري واضحًا وجدت أولًا في الهيروغليفية؛ حيث كانت هناك رموز تدل على حروف إلى جانب الرموز المستعملة ككلمات أو مقاطع وكل ما قام به الفينيقيون هو أنهم طوروا الفكرة واستخدموا الرموز للدلالة على حروف فقط، ومع هذا فإن اللغة الفينيقية لم تصبح لغة دولية؛ وإنما كانت الأكدية هي التي تعد لغة دولية رسمية. ومن التراث الأدبي الذي تركه الفينيقيون اقتبس العبرانيون كثيرًا من تراثهم وأدخلوه في كتاباتهم المقدسة وخاصة بعض الأساطير التي تدور حول الصراع بين الخصب والجفاف أو بين الإنبات والموت ثم البعث أو عودة الحياة، وإن كنا نعتقد بأن هذه كلها أصلًا يمكن إرجاعها إلى أسطورة أوزير التي انتشرت في مصر. أما ديانة الكنعانيين فشأنها شأن معظم الديانات القديمة تدور حول تقديس مظاهر الكون وعبادة الطبيعة، فالجو كان يمثل في نظرهم الإله الأب؛ بينما تمثل الأرض الإلهة الأم، أما الإله الأعلى فكان يعرف باسم "ايل" أو "عليان" وهو الذي يوجد مع الإله "بعل" وكان يعد إله

المطر والمحاصيل، وزوجته كانت الإلهة عاشرة أو عاثرة أو عشترت، التي عبدت أحيانًا كالإلهة الأم، ومن ألقابها "بعلة" أي سيدة، وهنا تعد حامية لمكان أو مدينة معينة، ولقب ملكة السماء ولقب "عنات"، وهذه كانت تعد إلهة للحب والحرب، وقد وحدها اليونان مع إلههم افروديت، والرومان مع إلههم فينوس، وقد عبد المصريون إلهتهم "رشف"، كما أنهم أخذوا عن المصريين عبادة الإله "بس"، وقد وجدت آثار معابدهم في أماكن مختلفة وهي لا تخرج عن مذبح صخري، ونصب مقدس قائم إلى جوار عمود أو شجرة مقدسة وغرف تحت سطح الأرض ومصاطب يغسل عليها المتعبدون أقدامهم قبل تأدية الطقوس، وفي بعض الأحيان كان يوجد مكان مرتفع في مؤخرة المعبد، أما قدس الأقداس فيوضع فوقه رمز أو تمثال الإله، وكانوا يستخدمون تماثيل صغيرة كتمائم لها قدرة سحرية، كما أنهم أحيانًا كانوا يجعلون أماكن للعبادة في الهواء الطلق على رءوس "شكل 29": تابوت في هيئة آدمية لأحد ملوك صيدا

التلال أو الأماكن المرتفعة وهذه لا يوجد بها سوى مذبح وعمود أو حجر مقدس، وكانت غالبًا لعبادة الآلهة المحلية، واعتقدوا بالبعث؛ إذ عثر على بعض أواني الطعام والشراب وأدوات الزينة والأسلحة مع الموتى، ويظهر أنهم تأثروا بما كان متبعًا في مصر؛ بل وكانت بعض توابيتهم في الهيئة الآدمية كالتوابيت المصرية "شكل 29"، وقد زينت بنقوش وكتابات دينية ومنها نقوش تمثل الموكب الجنزي بما فيه من نائحات وحملة للقرابين "شكل 30" ومنها نقوش تصب اللعنات على من يحاول الاعتداء على التوابيت أو إزعاج الميت، وقد ظلوا يمارسون عادة التضحية بالأطفال عند تأسيس المباني الجديدة وهؤلاء كانوا يدفنون في أواني فخارية كانت توضع تحت أرضية المنزل. "شكل 30": تابوت لملك من ببلوس مبينًا عليه الموكب الجنزي

الآراميون

ج- الآراميون: هم الجماعة السامية التي هاجرت من شبه جزيرة العرب حوالي منتصف الألف الثاني قبل الميلاد. وقد استقروا في أواسط الفرات واقتبسوا من جيرانهم بعض المظاهر الحضارية، والظاهر أنهم كانوا من بين أولئك

الذين عرفهم الأموريون باسم "أخلامو" ومعناها الرفاق، وهي التي أطلقوها على عدد من القبائل المتحدة، وقد سادت العناصر الآرامية في قسم كبير من بلاد النهرين وشمال سوريا ووسطها خلال القرنين الرابع عشر والثالث عشر قبل الميلاد؛ غير أنه كانت توجد بينهم بعض الجيوب الحيثية، ولم يتمكنوا من التوسع غربًا لوقوف جبال لبنان حائلًا دون توغلهم عبرها، ومع أنهم اقتبسوا من حضارات جيرانهم؛ إلا أنهم احتفظوا بلغتهم؛ بل وانتشرت هذه اللغة في الأقطار المجاورة ولعبت دورًا مهمًّا في ثقافتها. ويبدو تأثر الآراميين بحضارة الشعوب المجاورة واضحًا في شمال سوريا؛ إذ تأثر الآراميون هناك بمظاهر الحضارة الحيثية وكانت عاصمتهم في مظهرها لا تختلف كثيرًا عن المدن الحيثية، وقد ذكر أحد ملوكها على تمثال أقامه للإله "حدد" بأنه يحرص أن يوفر السعادة لشعبه، وأن بلاده أزدهرت فيها زراعة الشعير والقمح والثوم والكروم ويفتخر ابن هذا الملك في نص له بأن والده زاد في فخامة البلاط الملكي، كما أن هذا الابن نفسه عاش في أبهة لا تقل عن أبهة ملك آشور الذي خضع له. وكما اشتهر الفينيقيون بالتجارة البحرية اشتهر الآراميون بالتجارة البرية وأرسلوا قوافلهم إلى جميع الأقطار المجاورة وتاجروا في الأرجوان من فينيقيا والمطرزات والكتان والنحاس والأبنوس والعاج من أفريقيا واللؤلؤ من الخليج العربي، وكان نتيجة هذا التوسع التجاري أن نشروا لغتهم في مختلف البلدان فأصبحت لغة رسمية إلى جانب كونها اللغة العامة

للتجارة؛ بل واستعملت كلغة رسمية في الإمبراطورية الفارسية وكان انتشارها سببًا في انتشار الأبجدية الفينيقية التي استخدموها؛ فكانت هي لغة المسيح وأتباعه وكتبت بها بعض الصلوات ثم تفرعت إلى مجموعتين: شرقية: في وادي الفرات ومنها السريانية، وغربية: ومنها التورائية والتدمرية وغيرها. أما عن ديانتهم؛ فقد كان الإله "حدد" أهم معبوداتهم وهو إله الزوابع والرعد وكان محبوبًا بصفة خاصة بين المزارعين؛ لأنه كان يرسل المطر، وقد امتزجت عبادته بعد ذلك بعبادة الشمس وكانت رفيقته الإلهة "أتارجاتس" تعد الإلهة الأم وكان يرمز لها بالهلال وقرص الشمس وانتشرت عبادتها في فلسطين ثم انتقلت إلى الرومان بعد ذلك، وإلى جانب هؤلاء كان هناك عدد من الآلهة الثانوية بعضها محلي والبعض الآخر انتقلت عبادته من الأقطار المجاورة مثل الإله "شمش" وهو من أشور والإله "رشف" وهو من فينيقيا، وغيرهما.

العبرائيون

العبرائيون ... د- العبرانيون: هم الجماعات السامية التي جاءت مع الآراميين في نفس الوقت تقريبًا وقد وصلوا إلى فلسطين بعد أن ذهبوا إلى جنوب بلاد النهرين ثم إلى وسطها، وقد هاجرت جماعة منهم إلى مصر ثم خرجت منها بقيادة موسى، وبعدئذٍ أخذ كيانهم يبدو في فلسطين بوضوح، وعند قدومهم كان سكان فلسطين عبارة عن جماعات كنعانية وجماعات غير سامية إلى جانب قدامى العبرانيين الذين لم يكونوا قد هاجروا إلى مصر وقد اندمج هؤلاء الأخيرون معهم، وأصبح القادمون الجدد يكيفون حياتهم حسب مقتضيات ظروف بيئتهم الجديدة وأرادوا

محاكاة جيرانهم الذين كانوا يعيشون في ممالك خاصة، -وأتيحت لهم فرصة ذلك عند اشتداد الحرب بينهم وبين الفلسطينيين فأنشئوا ملكية لهم يمكن اعتبار تأسيسها بداية تاريخ الأمة العبرية، وإن كنا نعتقد بأنهم لم يحرصوا على قوميتهم؛ بل ولم يخلصوا تمامًا لملكيتهم؛ فقد تركوا لغتهم السامية القديمة واتخذوا لغة الشعب الذي عاشوا بين ظهرانيه؛ فاستعملوا لغة الكنعانيين وأبجديتهم، ولم يكن لهم أدب؛ إلا بعد أن تعلموا فن الكتابة من جيرانهم، كما أنهم ظلوا محتفظين بنظامهم القبلي فيما يختص بالشئون الإدارية ولم يحكم الملك بينهم إلا حسب أوامر يهوا "الرب" كما يعلنها الصالحون منهم، ومهما كان الأمر؛ فإنهم كانوا أصلًا من البدو ولم يحترفوا الزراعة إلا بعد استقرارهم في الأراضي الخصيبة، ومع هذا ظل سكان المناطق المرتفعة منهم يعتمدون على الرعي كمورد أساسي لهم، وقد ارتبطت حياتهم الزراعية بكثير من الأفكار والقصائد التي لم يكن لهم بها عهد، ومارسوا الأعمال والطقوس التي اعتبرت ضرورية للخصب وضمان محصول طيب؛ فكانوا يضحون بأحد الحيوانات ويقدمون قرابين للمعبد من المحاصيل والماشية ويرقص ملكهم أمام تابوت العهد، واعترفوا بالآلهة المحلية التي تتعلق بالخصب والنماء بصفة خاصة إلى جانب معبودهم يهوا؛ ولذا كانت بعض العبادات والطقوس الكنعانية القديمة منتشرة بينهم؛ بل وأصبح الإله الكنعاني بعل في بعض الفترات منافسًا قويًّا للمعبود يهوا، وكانت فكرتهم عن الحياة الأخرى شبيهة بالفكرة لدى الكنعانيين ومعظم الأمم القديمة في المنطقة؛ إذ كانوا يدفنون مع موتاهم بعض الأدوات التي كانوا يستخدمونها في حياتهم اليومية.

ولم يقتصر تأثر العبرانيين بالكنعانيين على المظاهر الدينية فحسب؛ بل تأثروا كذلك بالكثير من المظاهر الحضارية الأخرى؛ ففي العمارة نجد أن أقدم أثر ديني لهم هو هيكل سليمان قد خطط على نمط معبد كنعاني وزخرف بزخارف كنعانية ولم يشيده معماريون من العبرانيين أنفسهم بل من الصوريين، وكان القصر الملكي في أورشليم من عمل صناع فينيقيين أيضًا وزخرف بزخارف تمثل رموز الحماية المأخوذة فكرتها مما وجد لدى الأشوريين والسوريين القدماء؛ فهي تمثل حيوانات لها رءوس بشرية تحرس شجرة الحياة. وقد تعددت آلات الموسيقى التي استخدموها في طقوسهم الدينية وفي حياتهم العادية ومعظمها من آلات كانت مستعملة في سوريا قبل وصولهم إليها، كما يرجح أن التوازي والمطابقة في الشعر العبري كان معروفًا عند الكنعانيين أيضًا؛ ونظرًا لما عرف عنهم من حرص بصفة عامة؛ فإنهم برعوا في قطع الأحجار الكريمة، ومع هذا فإن من المرجح أنهم اتبعوا في حليهم؛ بل وفي ثيابهم وخزفهم النماذج والأساليب الكنعانية، ومن صفاتهم المأثورة حبهم للإفادة وجمع الثروة ولذا عملوا على رقي الزراعة والصناعات المتعلقة بها؛ بغية ازدياد التبادل التجاري بينهم وبين جيرانهم. ويعد الدين المظهر الوحيد الذي أسهموا به في مضمار الحضارة، ومع هذا يمكن أن يدرس العهد القديم على أنه مؤلف أدبي ويمكن مقارنة الشريعة الموسوية بقانون حمورابي في كثير من المواد غير أنها تمتاز بما فيها من عناصر أخلاقية لم يرد مثلها في الشرائع السابقة، وكان كهنتهم

يقومون بالطقوس الدينية ويعدون وسطاء بين الإنسان وربه، ومن هؤلاء من امتازوا بالحكمة وبلغوا مرتبة عالية في التفكير وقد عرفوا باسم الأنبياء، وكانوا يهدفون إلى رقي الفرد وسلامة المجتمع؛ فربطوا بين الدين والأخلاق ونادوا بعبادة إله واحد، واعتبروا قواعد السلوك كأوامر إلهية، وقد مرت التوراة بمراحل متعددة بدأت بالرواية التي يتناقلها الخلف عن السلف، ثم انتقلت إلى مرحلة التدوين وفيها جمعت من مدونات تاريخية قبل السبي وبعده، وقد تعرضت للتنقيح وحذفت منها بعض الأمور كما ضاعت أثناء الجمع بعض الأسفار التي اكتفي بالإشارة إليها أثناء النسخ، وإلى جانب التوراة وجدت مجموعة من القواعد والأحكام والوصايا والشروح والتعاليم ظلت تنتقل مشافهة عن طريق الرواية ثم دونها علماؤهم لتكون دستورًا لهم، وقد عرفت هذه باسم التلمود، وقد انقسم العبرانيون تجاه التلمود فمنهم من لم يعترف بغير التوراة وأنكروه وهؤلاء هم القراءون، ومنهم من اعترف بالتلمود واعتبر أنه موحى به إلى من كتبوه وهؤلاء هم الربانيون. وينبغي أن نلاحظ بأن هناك تلمودين: أورشليمي وبابلي، والأورشليمي هو ما وضعه أحبار أورشليم ويحتوي على "39" بحثًا بالعبرانية، وقد كتب ابتداء من القرن الثاني إلى القرن الرابع الميلادي، أما التلمود البابلي؛ فقد بدئ في بغداد في أواخر القرن الخامس ويشمل "36" بحثًا بالآرامية وبه بعض الشروح العبرانية؛ ولكنه أربعة أضعاف الأورشليمي وهو المتداول بين اليهود، ويتألف التلمود من "المشنة" أي المتن أو الشريعة وهي التي تشتمل على الأحكام الدينية المكملة لشريعة موسى وتفسر ما يلتبس فهمه منه "والجمارا" وهي الشرح والتعليق.

رابعا: آسيا الصغرى

رابعا: آسيا الصغرى مدخل ... رابعًا: آسيا الصغرى بالرغم مما روي في أشعار هومر عن طروادة وفي الكتاب المقدس عن الحيثيين؛ فإن العالم المتحضر ظل لا يعلم شيئًا عن تاريخ وحضارة آسيا الصغرى، ومع أن الرحلات الاستكشافية إليها بدأت منذ عام: 1764؛ إلا أن الجهود الأثرية فيها لم تبدأ إلا حوالي سنة 1870، حينما أخذ سليمان يبحث عن آثار طروادة، ولو أن هذه الآثار كانت تمثل مظاهر حضارية أقرب لتلك التي سادت في اليونان منها إلى تلك التي سادت في بقية أنحاء آسيا الصغرى التي أخذت أنظار الباحثين تتجه إليها بعد ذلك، وقد أمكن التوصل إلى أن النقوش التي كانت على بعض الأحجار التي عثر عليها في حلب وتلك التي كانت على الصخور في جهات مختلفة من آسيا الصغرى ترجع إلى الحيثيين الذين عرفوا في النصوص المصرية، وفي الكتاب المقدس باسم "خاتي" كما أمكن التوصل إلى معرفة الكثير عن الحضارات التي سادت في شبه الجزيرة قبل عصرها التاريخي. وقد تبين للباحثين أن موكب الحضارة في آسيا الصغرى لا يمثل سلسلة متكاملة وأن هذه الحضارة لم تتدرج في تطورها منذ أقدم العصور، دون أن تنتابها تأثيرات مفاجئة؛ غير أنه من الممكن إجمالًا القول بأن العصر التاريخي؛ يبدأ فيها بظهور الكتابة التي انتشرت بين طائفة من التجار الأشوريين الذين وفدوا إلى الأناضول حوالي سنة: 1900 ق. م، ومن رسائلهم ويومياتهم عرفنا أن البلاد كانت تنقسم إلى إمارات يحكمها أمراء محليون، وكان بعض هؤلاء يحملون أسماء هندو أوروبية ويدعو

هذا إلى الظن بأن الحيثيين جاءوا غزاة إلى شبه الجزيرة واستقروا بها؛ وخاصة لأن النصوص الحيثية المسمارية كانت تختلف في لغتها عن النصوص المسمارية التي سبقتها والتي أدخلها التجار الآشوريون؛ كذلك يبدو واضحًا أن مظاهر حضارية متشابهة بصفة عامة سادت في أنحاء شبه الجزيرة منذ أن سيطر عليها الحيثيون، وعلى هذا فإن مظاهر الحضارة الحيثية تمثل بشيء من التجاوز المظاهرَ التي سادت في شبه الجزيرة، وبما أن الحيثيين ينتمون إلى عناصر هندو أوروبية؛ فإن حضارتهم وإن تأثرت بحضارات جيرانهم يغلب عليها طابع يختلف عن طابع حضارات الشعوب السامية المجاورة، ومن دراسة مخلفاتهم الحضارية يتضح لنا أن الحيثيين كانوا من أكثر الشعوب القديمة تقدمًا في النواحي التي تتميز بها الطبقات الحاكمة؛ فقد امتازوا في الشئون الحربية والسياسية والقانونية؛ ولكنهم لم يصلوا إلى مرتبة عالية في النواحي الدينية والأدبية، أما فنونهم فقد بلغت مرحلة متقدمة وإن كانت لم تصل إلى حد التفوق والعبقرية. ومع أن هناك بعض الصعوبات التي تعترض الباحثين في دراسة الحضارة الحيثية كنشأة الهيروغليفية الحيثية وتفسيرها؛ فإن من الممكن تتبع المظاهر العامة لتلك الحضارة.

الأسرة

الأسرة يبدو أن عادات الزواج عند الحيثيين لا تختلف عن عادات الزواج في بلاد النهرين؛ فمع أن الخطبة المصحوبة بهدية من الزوج المنتظر كانت خطوة أولية للزواج؛ إلا أنها لم تكن إلزامية فكانت للفتاة حرية الزواج

من رجل آخر بموافقة والديها أو بدونها بشرط أن يعوض الخطيب الأول. وكان الزواج يتم بعد حصول الفتاة على هدية من رجلها كما كانت تأخذ صداقًا من والدها، وإذا حدث عدم إتمام الزواج بعد ذلك كان الطرف المذنب يعاقب بدفع تعويض مناسب، وفي حالة الوفاة كان يتحتم زواج الأرملة بأقرب المقربين للزوج المتوفى، وربما كان الغرض من ذلك هو تخليد عائلة المتوفى، وقد انتقلت هذه العادة إلى العبرانيين. ولم يكن الزواج من الرقيق غريبًا بل معترف بشرعيته، وكانت القوانين الحيثية تجعل من رب الأسرة سيدها وراعيها وسلطته على زوجته واضحة وله حق تقرير مصيرها إذا ارتكبت خيانة زوجية. ومع هذا فإن المرأة في بعض أجزاء آسيا الصغرى كانت تتمتع ببعض الامتيازات الخاصة التي كانت على الأرجح من بقايا نظام أموي -لم تكن التبعية فيه للأب- ساد تلك الأنحاء في أقدم العصور. ويبدو أن هذا النظام الأخير كان أكثر وضوحًا في البيت المالك؛ إذ إن الملكة كانت تتمتع بدرجة كبيرة من الاستقلال، وكانت الملكة الوالدة بالذات ذات مكانة خاصة ولها من الألقاب ما تحتفظ به طوال حياتها ولا ينتقل إلى زوجة الملك الحاكم؛ إلا بعد وفاتها، وكثيرًا ما كانت بشخصيتها القوية تسبب متاعب لابنها الحاكم؛ أما في حالة وجود زوجها على قيد الحياة؛ فإنها تلعب دورًا كبيرًا في شئون الدولة، فتذكر مع زوجها في كل الوثائق الرسمية، وقد تشترك في القيام بالطقوس الدينية الرسمية أيضًا.

الملك

الملك من المرجح أن الملكية الحيثية كانت انتخابية في الأصل؛ فرغم أن تعيين وريث العرش كان يتم أمام النبلاء؛ إلا أنه كان لا يعد شرعيًّا إلا بعد إتمام هذا الإجراء الذي يفترض فيه أن يكون طلبًا من الملك توافق عليه جماعة النبلاء، ومما يدل على ذلك أن تاريخ الدولة الحيثية كان مليئًا بالفتن والثورات التي قام بها أقرباء الملك وكان تعيينه لخليفته علنًا مدعاة للتخلص من بعض هذه الفتن، وفي النهاية وضع أحد الملوك "تيليبينوس"1 قانونًا لوراثة العرش استقرت بعده الأمور؛ فلم يحدث نزاع بين النبلاء في هذا الصدد. وقد تمتع ملوك الحيثيين بمكانة ممتازة، وتدل ألقابهم على اعتقادهم أنهم أصحاب سلطان ونفوذ على غيرهم من الملوك الذين كانوا في نظرهم أقل شأنًا كما اعتبروا بأنهم يتمتعون بقوى خارقة وإن لم يؤلهوا في حياتهم على الإطلاق أي أنهم لم يصلوا إلى مرحلة التقديس إلا بعد وفاتهم. وكان الملك يعد القائد الأعلى للجيش والكاهن الأعظم والقاضي الأعلى في الدولة، وهو المسئول عن جميع المعاملات السياسية مع الدول الأجنبية، وكان من الممكن أن ينيب عنه في هذه الشئون من يقوم بدوره فيها إلا في المسائل الدينية وحدها؛ إذ كان الاعتقاد السائد بأن إهماله لمثل هذه المسائل كان يسبب نقمة الآلهة على الشعب.

_ 1 آخر ملوك الدولة القديمة الحيثية.

الإدارة

الإدارة كان الحيثيون في أول الأمر يعتمدون في إدارة مجتمعاتهم الأولى التي نشأت في بقاع مختلفة على مجالس تتألف من الشيوخ التي تتولى الإشراف على كافة الشئون الإدارية المحلية. أما في المراكز المقدسة فإن المعبد هو الذي يشرف على تلك الإدارة فكان الكاهن الأعظم يعد الحاكم المدني في نفس الوقت. وقد احتفظ ملوك الحيثيين بهذا الحق فكانوا يشرفون على الأقاليم التي يستولون عليها وبعدئذ عهدوا بإدارتها لأبنائهم، ولما ازدادت رقعة المملكة أنعموا بمثل هذه المناصب على بعض القواد الذين كانوا عادة من أقربائهم؛ غير أن هذا التعيين كان مؤقتًا في الغالب لأن أمثال هؤلاء كانوا لا يستطيعون النهوض بكافة الأعباء الملقاة عليهم، وأخيرًا دعت الضرورة إلى تعيين حكام دائمين يقيمون في الأماكن التي يعهد لهم بها ويدينون بالولاء للسلطة الملكية، والظاهر أن هذا النظام قد استهوى بعض الدويلات الصغيرة المجاورة فأخذت تنضم إلى الإمبراطورية الحيثية رغبة منها في المحافظة على كيانها من جهة، ومن ناحية أخرى كان حكامها يتمتعون بالكثير من الاستقلال في ظل الإمبراطورية؛ فالملك التابع لها هو الحاكم ذو السيادة داخل إقليمه، ولم يكن مفروضًا عليه أن يمد الجيش الحيثي بجنود في كل وقت يخرج فيه للحرب؛ ولكنه كان ملزمًا برد اللاجئين من الحيثيين إلى وطنهم كما كان عليه أن يقدم إتاوة سنوية وفي نظير ذلك كان الملك الحيثي يضمن تولية الوارث الشرعي للحاكم على عرش البلد التي يحكمها ذلك الحاكم.

ولم تكن القوانين في المملكة الحيثية ثابتة دائمًا؛ بل كانت عرضة للتعديل والإضافات مما يدل على أن الحيثيين لم يترددوا في إصلاح قوانينهم كلما دعت الحاجة لذلك؛ كذلك يبدو أنها كانت تختلف باختلاف أنحاء الإمبراطورية، فما كان يطبق في جهة من الجهات لا يؤخذ به في جهة أخرى. ومما يلاحظ على النصوص القانونية التي عثر عليها أنها كانت في غالبيتها ترد على هيئة قضايا افتراضية يتبعها الحكم المناسب مما يدعو إلى الظن بأنها كانت مأخوذة من أحكام المحاكم. والظاهر أن هذه القوانين كانت في بداية الأمر تأخذ بمبدأ "العين بالعين والسن بالسن"؛ ولكن كانت الأحكام في كثير من القضايا تقتصر في حالة الأحرار المذنبين على تكليفهم برد الشيء إلى أصله أو بالتعويض، أما إذا كان الجاني من العبيد؛ فقد تشمل الأحكام عقوبات جسدية تصل أحيانًا إلى الإعدام؛ كذلك كانت القوانين الحيثية تفرق بين حدوث الذنب عن عمد وبين حدوثه عن غير عمد؛ ولكنها كانت تعتبر حدوث جريمة في مكان ما، واختفاء المجرم به أمر يعاقب عليه أهل المكان الذين يعتبرون مسئولين عن حدوث الجرم في مكانهم، ويعتبر القانون الحيثي صارمًا في الأخذ بمبدأ المسئولية الجماعية في حالات عصيان أمر الملك؛ لأن العقوبة تنفذ على بيت الجاني، أي على أهل بيته وكل من فيه. أما المحاكمات فكانت بسيطة الإجراءات؛ إذ إن المنازعات كانت تنظر أمام الشيوخ الذين كانوا يشرفون على الإدارة المحلية، وفي هذه الحالة كانوا يمثلون محكمة شعبية، وإلى جانب هؤلاء يمثل الدولة أحد ضباط

الملك الذي يتعاون مع السلطات المحلية في إقامة العدل دون تحيز، وفي حالات القضايا الكبرى التي تتطلب حكم الإعدام والقضايا التي يعجزون عن البت فيها لغموضها أو تلفيقها كانت القضية ترفع إلى الملك للبت فيها.

العسكرية

العسكرية وصلت الجيوش الحيثية إلى درجة كبيرة من الخبرة في التاريخ القديم، ومع ذلك فإننا نجهل الكثير عن تكوينها ووسائلها غير أنه من المرجح أن مُشاة الجيش الحيثي كانوا أكثر عددًا من جنود مركباته، ومع هذا فإنهم كانوا يقومون بدور ثانوي نسبيًّا في الميادين المفتوحة. أما المركبات الحيثية فكانت تختلف في شكلها اختلافًا بسيطًا عن المركبات المصرية؛ إذ إنها كانت تتسع لثلاثة رجال بدلًا من اثنين أحدهما للهجوم والآخر للدفاع والثالث للقيادة "شكل 31"، وسلاح الهجوم فيها هو الرمح والقوس، وسلاح الدفاع هو الدرع، وإلى جانب المشاة والمركبات كانت هناك فرق خفيفة للمساعدة، مهمتها الهجوم المفاجئ الذي يتطلب سرعة الحركة، وكانت تسلح بالقسي والسهام، ومن النقوش المصرية يتبين لنا أن الجيوش الحيثية كانت تشمل أيضًا فرقًا للمهمات وهذه تتمثل في عربات ثقيلة ذات أربع عجلات تجرها الثيران وعدد من الحمير المحملة بالأثقال وقد ورد في النصوص الحيثية ما يدل على وجود جنود للمعمار، وكان الأمر لا يخلو دائمًا من وجود عدد من الجنود المرتزقة. ويتسلح الجندي الحيثي العادي بسيف قصير وفأس للقتال ويرتدي خوذة لها غطاء للأذن.

"شكل 31": عربة مصرية تهاجم عربة حيثية "من نقش مصري" وقد أثبتت الجيوش الحيثية كفاءة ومهارة حربية؛ إلا أنها كانت تعتمد غالبًا على مباغتة العدو واستغلال قدرة العربات الحيثية إلى أقصى حد، وخير دليل على ذلك نجاحهم في موقعة قادش ضد المصريين في عهد "رمسيس الثاني"، وعند حصارهم لمدينة ما كانوا يلجئون إلى وسائل فعالة كضربها بالمنجنيق وإقامة روابي مرتفعة يحملون إلى أعلاها معدات الحصار. أما عن وسائلهم الدفاعية؛ فقد أمدتهم الطبيعة بأماكن منيعة لا تحتاج إلا إلى تقوية بسيطة وخاصة عند سفوح الجبال والتلال؛ حيث كان يكتفي بجدران سميكة مزدوجة تبنى أمام الجزء المكشوف من التل والجدار الأمامي يكون عادة منخفضًا عن الجدار الخلفي.

الديانة

الديانة يبدو أن المجتمعات المحلية الأولى التي نشأت في آسيا الصغرى كانت تحتفظ باستقلالها الديني واستمرت أماكن العبادة فيها دون مساس بمعبوداتها، وكانت سياسة الملوك تدعو إلى رفع شأن تلك المعبودات كما انتحلوا لأنفسهم وظيفة الكاهن الأعظم لها؛ حيث يقوم الملك بموكب سنوي يزور فيه أهم مراكز العبادات التي يحتفل فيها شخصيًّا بأعيادها الرئيسية. وقد جعل صيانة المعابد إحدى المهام الرئيسية التي يكلف بها حكام الأقاليم والقواد المحليون، واستفادت أماكن العبادة بالطبع من وراء ذلك وزاد استقرارها وعظمت ثروتها، ومما يذكر أن كل المراسيم والأوامر العليا للدولة كانت تصدر باعتبار أن الآلهة والإلهات جميعًا تضمن نفاذها ومفعوليتها؛ ولذا كان الكتاب يجمعون قوائم بجميع أسماء الآلهة المحلية تعامل فيها الآلهة المتشابهة معاملة واحدة وبذلت محاولات لترتيب هذه الآلهة على حسب أهميتها وعلى ذلك كانت الدولة والملكية تحت حماية مجموعة خاصة من الآلهة الشعبية العظمى التي كانت تقام لها طقوس خاصة بالعاصمة نفسها, وقد وجدت نصوص بالتعليمات التي كانت تصدر إلى الكهنة وخدم المعابد ونصوص تبين ما كان يقوم به أعضاء البيت المالك من مراسيم العبادة، وكلها تدل على أن الطقوس المتبعة كانت دقيقة للغاية؛ مع أن بعض الأساطير التي وردت إلينا تشير إلى الأدوار التي كانت تقوم بها الآلهة؛ إلا أن معظم هذه لم تكن من المعبودات الرئيسية للدولة،

وحتى في حالة وجود بعض تلك الآلهة بين معبودات الدولة الرئيسية؛ فإن أدوارها التي تنسب إليها كانت تختلف باختلاف النصوص، ومن المعبودات وخاصة الشعبية منها ما لا نعرف عنها أو عن مراكز عبادتها إلا القليل. وتتميز معبودات الحيثيين ببعض المظاهر حيث يحمل الإله سلاحًا أو آلة أخرى في اليد اليسرى ورمز في اليد اليمنى وقد يزود بأجنحة أو زوائد أخرى أو يقف غالبًا فوق حيوان مقدس "شكل 32". "شكل 32": إله يقبض بيسراه على سلاح أو آلة وبيمناه على رمز وهو يقف على ظهر حيوان. وليس من الغريب في بيئة مثل آسيا الصغرى أن يكون إله الطقس إلهًا رئيسيًّا؛ إذ انتشرت عبادته في عدد كبير من المدن وهو يمثل غالبًا راكبًا مركبة بدائية تجرها الثيران على رءوس الجبال التي مثلت في هيئة البشر، وقد يرمز إليه بالثور الذي يصور واقفًا وحيدًا على مذبح، انظر "شكل 33"، وقد عبد في الجزء الجنوبي من آسيا الصغرى، "أي في منطقة

طوروس والسهول الشمالية من سوريا، الذي كان يسوده الحوريون باسم "تيشوب" وكانت له زوجة تعرف باسم "خيبات" وهذه كانت لا تقل مكانة عن زوجها وقد مثلت في هيئة سيدة تقف على أسد أحيانًا، وكان "شكل 33": ملك يتعبد إلى إله في هيئة الثور لهما ولد يدعى شاروما، وإلى جانب هذه الآلهة وجدت آلهة أخرى في هذه المنطقة منها الإلهة "شاوشكا" أي عشتار الحورية، وبعض هذه الآلهة لم يعترف بها بين الآلهة الحيثية. وفي قلب المملكة الحيثية أي منطقة الحيثيين الأصليين كان المعبود الرئيسي في أغلب الظن هو إلهة الشمس؛ بينما كان إله الطقس زوجًا لها ويأتي في المرتبة الثانية، ولهما ابنتان وحفيدة، أما إله الزراعة فقد اعتبر ابنًا لإله الطقس وهو في الأساطير الحيثية يشبه الإله أوزير في الأساطير المصرية؛ إذ بانسحابه تتوقف الحياة وبعودته تعود الحياة من جديد، والمقصود من ذلك أن الشلل الذي يصيب الحياة الزراعية أثناء الشتاء

في آسيا الصغرى ترجعه الأساطير إلى انسحاب هذا الإله وعند عودته في الربيع تعود مظاهر الحياة من جديد. وقد وجدت أسماء عدد كبير من الآلهة التي لا نعرف عنها شيئًا، وربما كانت هذه أصلًا من الآلهة المحلية، عبدت في المجتمعات المحلية الأولى التي كانت منفصلة بعضها عن بعض. أما الدين الرسمي للدولة؛ فقد شمل مجموعة من الآلهة؛ فكانت إلهة الشمس تعبد على أنها "ملكة بلاد حاتي والسماء والأرض"، "سيدة ملوك وملكات بلاد حاتي ومرشدة الحكومة"، أي أنها كانت الحامية الرئيسية للدولة والملكية، ومع هذا فقد صورت الأساطير إله الشمس على أنه ملك الآلهة، وهو يأتي على رأس قوائم الآلهة التي تذكر في المعاهدات فهو يعد إله الحق والعدل، ومن الغريب أن موقف إلهة الشمس غير محدد بالنسبة لهذا الإله الذي يرى البعض بأنه لم يكن أصليًّا في الأناضول؛ بل جلب إليها من الخارج حيث تصفه أحد النصوص بوجود أسماك على رأسه؛ كما أن أحد آلهة الشمس ذكر على أنه "إله الشمس في الماء"، وقد اعتقد الحيثيون كما اعتقد المصريون بأن إله الشمس يمر في العالم السفلي من الغرب إلى الشرق أثناء الليل، ومما يثير الدهشة؛ كذلك أن إله الشمس لم يكن زوجًا لإلهة الشمس؛ بل كان زوجها هو إله الطقس؛ لأن هذا الأخير كانت عبادته واسعة الانتشار وقد اعتبر "ملك السماء ورب بلاد حاتي" أي أنه كان هو الآخر حاميًا للمملكة وإليه يعزى النصر في المعارك. وكانت أماكن العبادة الحيثية تتخذ أشكالًا عديدة: فمنها ما كان مكشوفًا

به هيكل حجري، ومنها ما كان مبنيًّا بالأحجار الضخمة، وتتكون من عدة غرف حول فناء مرصوف، ويفصل قدس الأقداس عن هذا الفناء حجرة بها فتحة تسمح للذين في الفناء برؤية تمثال الإله في محرابه الذي يقع في الجدار البعيد لقدس الأقداس، وإن كان الوصول إلى هذا الأخير عن طريق باب في أحد الجدران الجانبية، ومن المعابد ما لا يمكن رؤية تمثال المعبود فيها من الفناء حيث إن الهيكل كان يقوم في أحد جوانب المبنى، ومعنى هذا أن التعبد لإله المعبد كان قاصرًا على أقلية مختارة، ولا يوجد أي نظام ثابت للاتجاهات في هذه المعابد، وكانت معابد بعض البلدان تعد مقر الحكومة المدنية في نفس الوقت؛ ولذلك كانت تضم عددًا كبيرًا من الموظفين المدنيين إلى جانب الموظفين الدينيين، ومن جهة أخرى كانت هناك معابد صغيرة الحجم قليلة الأهمية بحيث يشرف كاهن واحد على عدد من هذه المعابد. وكان المعبد هو بيت الإله والكهنة خدم الذين يقومون يوميًّا بواجباتهم نحوه طبقًا لنظام ثابت يختص كل منهم بطقوس معينة، وعلى العموم كان يفترض في كل منهم الطهارة التامة ولا يسمح لهم بقضاء الليل في المدينة؛ وإلا تعرضوا إلى عقوبات تصل إلى الموت. وبما أن الإله لم يكن مجرد رب للمعبد بل رب الشعب وسيده كذلك كان لا بد من تقديم قرابين وهدايا مختلفة رمزًا لاحترامه يقدمها الجميع استعطافًا له، ويجب أن تكون ممتازة لا عيب بها، وهناك من الإشارات ما يدل على وجود عادة الضحايا البشرية. وعندما يقوم الملك شخصيًّا بالاحتفال بعيد من الأعياد في أحد

المعابد تدون التعليمات التي تصف هذا الاحتفال وصفًا دقيقًا من بدء تزين الملك واستعداده للخروج إلى هذا الاحتفال والسير في الموكب إلى المعبد ودخول زوجة الملك والحاشية إلى أماكنهم الخاصة وجلوس الملك والملكة على العرش وهكذا إلى أن تنتهي الطقوس. ومن الطبيعي أن الظواهر الطبيعية وغيرها من الأمور التي تفوق طاقة البشر كانت في نظر المجتمعات البدائية تخضع لقوى عظمى -آلهة- تسيطر عليها، وهي غير مرئية وخالدة، ومع هذا كان من الصعب تصورها في هيئة تختلف عن البشر أو على الأقل لها مشاعر البشر. وكان الحيثيون بالذات ينسبون إلى آلهتهم من السلوك ما يشابه سلوك السيد بالنسبة لأتباعه؛ فمع أنه يجب رعايته وترضيته ومدحه؛ إلا أنه لا يمكن الاعتماد عليه دائمًا في رعاية مصالح أتباعه فقد يقضي بعض الوقت في النوم أو التسلية أو الرحيل أو الانشغال بمسائل أخرى تجعل الابتهال إليه للمساعدة عبثًا؛ بل وقد تكون له تصرفات خاطئة غير حكيمة؛ ولذا تفسر المصائب التي تحل بالإنسان أحيانًا -لا على أنها عقاب عن ذنب جناه- وإنما على اعتبار أنها نتجت عن إهمال الإله؛ لأن الأرواح والشياطين الشريرة تعمل دائمًا على الإفادة من عدم تيقظ الإله الحامي للإنسان؛ ولذا كان من صلوات بعض الملوك للآلهة في مثل هذه الحالة ما ينحي باللائمة على الآلهة بل والتهديد بالعجز أو التقصير في خدمتها وتقديم القرابين لها، أما إذا كانت المصائب كعقاب عن ذنوب فلا بد من الاعتراف بها والتكفير عنها، وفي هذه الحالة كانوا يلجئون إلى العرافة والتنجيم واستشارة الوحي في خير الطرق لإرضاء الآلهة.

وكانت العادة عند الدفن أن يحرق جسد المتوفى ثم تطفأ النار بالجعة والنبيذ ثم تحضر بعض النساء لجمع العظام ويغمسنها في شراب خاص ثم يضعنها في زيت طيب في جرة فضية، وبعد ذلك يخرجنها ثم تلف في الكتان وتوضع على كرسي ويقدم الطعام لمن جمع العظام كما يقدم الشراب لهم ولروح المتوفى ثلاث مرات، وتصحب ذلك التضحية ببعض الماشية، ولا شك في أنه كان هناك فرق بين ما يتبع في دفن الملوك وما يتبع في دفن الأفراد كما أن من المرجح أن ملوك الدولة القديمة لم يمارسوا حرق الجثث. أما الأساطير الحيثية فتنقسم إلى قسمين: أحدهما يتعلق بالقضاء على قوى الشر ويتلخص في أسطورة تسمى: ذبح التنين؛ ومؤداها أن التنين انتصر في أول الأمر على إله الطقس حسب رواية من الروايات وأنه لم يكتف بذلك بل أعجز إله الطقس بالاستيلاء على قلبه وعينيه حسب رواية أخرى، ولكن بمعاونة آلهة أخرى وبالحيلة استطاع إله الطقس أن ينتصر في النهاية، وربما كانت هذه الأسطورة تتلى في الاحتفال السنوي بالربيع وهي تشبه إلى حد كبير أساطير أخرى انتشرت في أجزاء أخرى من الشرق الأدنى القديم كانت تتلى أيضًا في احتفالات موسمية، أما القسم الثاني: فيتعلق بعودة الحياة إلى الأرض وهو يتمثل في أسطورة تعرف باسم: أسطورة الإله المفقود، وهي تتلخص في أن الحياة تتوقف على الأرض بسبب اختفاء إله الخصب ثم البحث عنه، وبإعادته إلى بيته تعود الحياة إلى الأرض، وتمثل الأسطورة إله الخصب على

أنه ابن إله الطقس، وأن هذا الأخير قد افتقده في وليمة دعا إليها إله الشمس العظيم الآلهة الأخرى، ولكن هؤلاء لم يشبعوا ولم يشعروا بالارتواء، فأرسل إله الشمس رسولًا لكي يحضره ولكنه لم يجده، وقد أمر إله الطقس بالذهاب بنفسه للبحث عنه وإحضاره، ولكنه عجز عن ذلك وفشل في إخراج ابنه من مدينته؛ وأخيرًا عاد هذا الإله غاضبًا ثائرًا إلا أن أحد الآلهة هدأه بسلسلة من التعاويذ السحرية حتى عاد إلى مكانه في معبده وأبعد كل ما من شأنه إيقاف الخصب. وإلى جانب هذه الأساطير توجد أساطير أخرى ولكنها من أصل أجنبي غالبًا وتقل أهمية عن تلك التي أشرنا إليها.

الحياة الاقتصادية

الحياة الاقتصادية تتنوع مظاهر البيئة في آسيا الصغرى، فالهضبة الوسطى يصعب الاستقرار فيها إلا في أودية الأنهار، أما على الجبال فالمجال للاستقرار محدود للغاية لخلوها من الأشجار وشدة البرودة وقسوة المناخ فيها، وعلى هذا فإن الموطن الذي استقر فيه الحيثيون كانت تكثر به القنوات والأودية، اعتمد في حياته الاقتصادية على الزراعة قبل كل شيء، ومما يؤيد ذلك أن القوانين الحيثية حفلت بالكثير من المواد المتعلقة بالزراعة وما يرتبط بها؛ غير أن سلاسل الجبال الضخمة سرعان ما ظهرت مواردها وكان غناها بالمعادن سببًا في استغلالها، فالتجار الأشوريون الذين عاشوا في

منطقة "كبدوشيا" كانوا يصدرون النحاس، كما أن الفضة كانت متوفرة إلى درجة سمحت باستخدامها كعملة، ومع أن الحديد كان متوفرًا أيضًا إلا أن العجز عن صهره وتنقيته لم يجعله شائع الاستعمال فكان يستعاض عنه في صناعة الأسلحة بالنحاس والبرونز، ولهذا عد الحديد من المعادن الثمينة، ورغم أن النصوص تشير إلى سيوف وألواح كتابة وتماثيل حديدية؛ إلا أن ما عثر عليه من هذه كان نادرًا، ومن المحتمل أن تلك المصنوعات كانت تقدم كهدايا ملكية ولم يتقنها إلا عدد قليل من الصناع. وكان وجود مثل هذه المعادن سببًا في نشاط التبادل التجاري بين آسيا الصغرى وغيرها من الأقطار؛ فبعض النصوص تشير إلى انتقال التجار الحيثيين إلى خارج بلادهم كما أن بعض المعادن وخاصة النحاس كانت تصدر إلى بلاد النهرين في مقابل المنسوجات والصفيح.

العلوم والفنون

العلوم والفنون مما لا شك فيه أن اللغة الحيثية كانت مثار جدل كثير ولم تعرف صلتها باللغات الهندو أوروبية؛ إلا بعد فترة طويلة من البحث، وقد تبين أنها فعلًا من اللغات الهندو أوروبية بصفة مؤكدة منذ عهد قريب وإن كانت تحتوي على بعض الألفاظ الأجنبية، ويبدو أن هذه اللغة لم تستخدم في المكاتبات الرسمية إلا قليلًا واستخدمت بدلًا منها لغات أخرى، ومع هذا فإن بعض الكتابات وخاصة تلك التي تعرف باسم الهيروغليفية

الحيثية لم يمكن تفسيرها تفسيرًا مرضيًا حتى الآن؛ بل وهناك من الدلائل ما يشير إلى أن أمثال هذه الكتابات كانت عسيرة الفهم بالنسبة للحيثيين أنفسهم؛ حتى إنهم أضافوا بعض الفقرات كترجمة حيثية بين السطور لمساعدة الموظفين على تفهم هذه الكتابات، وبالطبع فإن لغةً هذا شأنها واختلافها الواضح عن لغة الكلام كانت لا تيسر رقي العلوم والمعارف. والظاهر أن قيام الدولة على أساس مجدها العسكري لم يتحِ الفرصة لوجود نهضة أدبية كبيرة؛ فقد عثر على قصص بسيطة بدائية، كما أن بعض الروايات والأساطير والقصص القصيرة أيضًا ترجع إلى أصول بابلية وحورية، ولم يترك الحيثيون -مع الأسف- ما يعطينا فكرة عما توصلوا إلية في المعارف المختلفة كالهندسة والفلك والطب وغيرها. أما في الفنون؛ فإن أقدم ما عثر عليه لا يستحق الذكر وخاصة؛ لأنه من إنتاج مستوطنين يرجح أنهم كانوا قبل مجيء الحيثيين، ولا يمكن أن نعتبر المنتجات الفنية حيثية إلا بابتداء عهد الإمبراطورية تقريبًا؛ ففن النحت لم يبدأ إلا مع الإمبراطورية ومع ذلك فإنه لم ينته بزوالها، ومن المرجح أن الحيثيين تأثروا في بعض أساليبهم الفنية بما كان متبعًا في شمال بلاد النهرين وسوريا. وقد بلغ النقش مرتبة عالية من التطور، ومع هذا فإن الأختام الأسطوانية التي كانت تستخدم في حفر الرسوم على الألواح الطينية كانت من اختراع بلاد النهرين. وعند بداية المملكة الحيثية ظهرت نقوش غائرة على الحجر يصاحبها خط هيروغليفي. ومما يلاحظ أن الفنان كثيرًا ما يلجأ إلى تمثيل الأشخاص متجهين سواء في موكب أو موكبين نحو نقطة واحدة "شكل 34"، وقد اتبع الفنان طريقة الرسم التي

"شكل 34": اتجاه المواكب نحو مركز واحد. كانت سائدة لدى معظم الشعوب البدائية؛ إذ كان يصور الأشخاص بحيث يبدو الجذع من الأمام والرأس والأقدام من الجانب، وربما كان هذا الوضع أيسر طريقة للتعبير عن أقرب الأشكال تمثيلًا لصاحبه -وعند تصوير مجموعة من الاشكال؛ كانت القاعدة التقليدية تظهرهم وكأنهم يسيرون قدمًا إلى الأمام نحو مركز معين- وقد أخطأ الفنان الحيثي كما أخطأ الفنان المصري في تصوير حركة الأشخاص بأن جعل الذراع اليسرى تمتد مع القدم اليسرى في حالة جعل هذه الأخيرة تمتد إلى الأمام تمثيلًا للبدء بها في السير وهو وضع غير طبيعي "لاحظ حركة الأشخاص في السابق" ومن الملاحظ عمومًا أن أشكال الأشخاص والحيوانات والكائنات الأخرى تبدو غالبًا كأنها مضغوطة الأعضاء أو بعبارة أخرى تتميز بالقصر والامتلاء أو عدم التناسق "شكل 35"، وربما يوحي ذلك أن الفنان الحيثي القديم كان خاضعًا لتقاليد لم يستطع التحرر منها، ومن المرجح أن هذه التقاليد ترتبط ببعض النواحي

"شكل 35": موكب يرى فيه أشخاص يغلب عليهم القصر وعدم تناسق الأعضاء. الدينية، ومما يؤيد ذلك أن كثيرًا من الأشكال التي صورها كانت تبين أشكالًا خرافية، ومن هذه تمثال كائن يمثل قرصًا مغطى برسوم هندسية تعلوه رقبة طويلة أو رقبتان أو ثلاثة تنتهي كل منها برأس "شكل 36": تمثال غريب اختصرت رأساه فلا تبدو منهما سوى العينين.

وقد تختزل الرأس فتصبح في هيئة عينين فقط "شكل رقم: 36"، وربما كان الحيثيون يتصورون أن نقوش وتماثيل الكائنات الحقيقية والخرافات التي خلفوها تهيئ لهم تحقيق أغراض سحرية، ومن هذه تماثيل في هيئة أسود وأخرى في هيئة أبي الهول بوجوه آدمية "شكل 37"؛ كذلك منها أشكال مجنحة "شكل 37": تمثال مجنح لأبي الهول. قد يكون لها أكثر من رأس أحيانًا "شكل 38" وبعضها كان يفترض فيها أنها كانت قائمة عند مداخل المعابد أو القصور للحماية والبعض الآخر يفترض أنها تمثل بعض الآلهة.

"شكل 38": نقش حيثي من قرقميش

خامسا: بلاد النهرين

خامسا: بلاد النهرين مدخل ... خامسًا: بلاد النهرين مع أن بلاد النهرين حظيت باهتمام الأثريين والباحثين منذ فتره طويلة نسبيًّا؛ إلا أن ما كتب عنها حتى عهد قريب لم يخرج عن كتابات بعض الرحالة الذين شاهدوا أطلالها ووصفوها، وقد بدأ بعض هؤلاء الرحالة فضلًا عن ذلك في نسخ بعض الكتابات التي شاهدوها على اللوحات في بعض الأماكن الأثرية، ومن أهم هؤلاء عالم النباتات "ميشو Michaud" الذي زار العراق وفارس في 1872م، وحمل معه أثرًا بابليًّا منقوشًا عثر عليه جنوب بغداد حاول بعض الباحثين قراءته دون جدوى، وتوالى بعد ذلك الاهتمام بآثار بلاد النهرين، وبذلت جهود كثيرة في دراسة أماكنها وجمع التحف منها، وقد حاول بعضهم مقارنة ما كتبه هيرودوت وغيره من اليونان بما شاهدوه من أطلال بابل. وفي عام 1827م، قام أحد الإنجليز بأول حفائر وعثر على بعض اللوحات الفخارية والأختام الأسطوانية والنقود، وبعدئذٍ تتابعت الجهود ولكنها كانت في أول الأمر لا تتم بطريقة علمية؛ بل كان الهدف منها الحصول على ما يمكن الحصول عليه من آثار وتحف، وكان معظم المنقِّبين من قناصل الدول الأجنبية أو ممثليهم. ومن نهاية القرن التاسع عشر بدأت التنقيبات المنتظمة تأخذ دورها حتى عصرنا الحالي وقد بدأها الألمان في بابل حوالي عام1899م، والأمريكيون في نفر "نيبور" حوالي 1888م. وحسب ما وصل إلينا من معلومات حتى الآن عن الحضارات

التي انتشرت في العراق تبين لنا أنها في نشأتها تماثل الحضارة المصرية من حيث كونها حضارة زراعية في أساسها؛ غير أننا نلاحظ أنها لم تكن في كل أجزاء بلاد النهرين ذات طابع واحد؛ فقد وجدت اختلافات ميزت بين تلك التي سادت في بقعة عن تلك التي سادت في بقعة أخرى؛ وذلك نظرًا لأن بيئة بلاد النهرين ليست على وتيرة واحدة إذ تختلف في الشمال عنها في الوسط، عنها في الجنوب وهكذا، وبالطبع ما دامت الحضارات تنتج عن تفاعل الإنسان ببيئته كما أشرنا في مقدمة الكتاب؛ فإنه لا بد من حدوث اختلافات بين حضارات هذه الأجزاء المختلفة من بلاد النهرين وإن كانت جميعها تشترك في خصائص عامة، كما أن بعض مظاهرها قد انتقلت من جهة لأخرى وانتشرت فيها. ومع كلٍ يمكننا أن نذكر بأن حضارة بلاد النهرين تمثل حضارة بيئة اتسمت بالعنف في مظاهرها الطبيعية وقد أثر ذلك في كل إنتاجها الحضاري، كما أن فترات النهوض والازدهار فيها لا تدل بالضرورة على وجود وحدة سياسية عامة انضوت تحت لوائها سائر أنحاء بلاد النهرين؛ بل ولا حتى سائر أنحاء قسم من أقسامها الرئيسية؛ ففي أقدم العصور كان الجزء الجنوبي من العراق تسوده حكومات المدن المتنازعة ومع ذلك فقد انتشرت فيها حضارة راقية يكفي للدلالة عليها ما عثر عليه من آثار في مدينة "أور" وغيرها من المدن التي كانت قائمة في عهد السومريين. ولا يمكننا أن نتناول بالتفصيل تلك الحضارات التي نشأت في الأجزاء المختلفة وأن ندرس مقوماتها ومظاهرها، ومع ما أشرنا إليه من انتقال بعض المظاهر من قسم إلى آخر يمكننا مع التجاوز أن نتناول حضارات بلاد النهرين بصورة عامة، وسنكتفي ببيان أهم ما تتميز به في نواحيها المختلفة.

الأسرة

الأسرة كان الأساس في الزواج عند البابليين يقوم على مبدأ الزوجة الواحدة في معظم العصور وإن كان القانون يسمح للزوج أن يتزوج بزوجة أخرى في حالة مرض الزوجة الأولى أو إذا ما ثبت أنها عاقر، ولم يكن ذلك قاصرًا على العهد البابلي فحسب؛ بل هناك من الدلائل ما يشير إلى أنه وجد في العصور السابقة والعهود المتأخرة أيضًا، ولم يكن الزواج يعد صحيحًا أو شرعيًّا إلا إذا ثبت أنه تم بعقد مدون مصدق عليه بالشهود وكذلك الحال بالنسبة للطلاق. وكانت الخطبة تسبق الزواج وعلى الخاطب أن يقدم هدايا لخطيبته وفي حالة وفاته يحق لأحد أقاربه أن يحل محله في الزواج؛ فإذا رفض والد المخطوبة كان عليه أن يعيد لعائلة المتوفى هداياه التي قدمت منه وفي حالة موت المخطوبة كان للخاطب أن يتزوج إحدى أخواتها وإن لم يتم ذلك كان يسترجع هداياه، وبالإضافة إلى ذلك كان على العريس عند الزواج أن يدفع لعائلة العروس مهرًا يصبح ملكًا خاصًّا للزوجة، يرثه أبناؤها كما تقدم عائلة الزوجة مبلغًا آخر يكون ملكًا للزوجة أيضًا؛ ولكنه يحفظ وديعة عند الزوج يجوز له أن يتصرف فيه؛ ولكنه يعيده إليها في حالة الطلاق، كذلك كان هذا المبلغ يورث إلى أبنائها أو أهلها إن لم يكن لها أبناء في حالة وفاتها، وهناك مبلغ ثالث يدفعه الزوج هدية لزوجته وهو هبة أو منحة منه. وكان الزوج صاحب اليد العليا في العائلة ومن حقه أن يطلق زوجته

على أن يدفع لها تعويضًا، أما إذا رفضت المرأة زوجها فكانت تعاقب عقابًا شديدًا يصل إلى الموت أحيانًا، ومن المسلم به أن الزواج لم يكن ليتم إلا برضاء عائلتي الطرفين، وعندما يتم الاتفاق يرسل الخاطب مقدمة المهر إلى والد زوجته المنتظرة ثم يدفع بقية المهر بعد ذلك؛ وإذا عدل الخاطب عن الزواج لا يكون له الحق في استرجاع المهر؛ أما إذا كان الرفض من جانب عائلة الزوجة؛ فعليها أن تعيد جميع ما وصلها من الزوج. ومما يلاحظ أنه بالرغم من حفظ كثير من حقوق المرأة وحريتها وخاصة في الشئون الاقتصادية أي أن الزوج كان يمكنه أن يتصرف حيالها كأنه المتصرف في حياتها؛ إذ كان يمكنه أن يجعل منها رقيقًا بيد دائنه إلى أن يستوفى دينه، كما أنه في حالة ضبطها متلبسة بخيانته يستطيع أن يعفو عنها فيحول دون إعدامها كما ينص القانون على ذلك. وإذا ما تزوج الرجل من أَمَة فإن هذه تصبح حرة بعد أن تنجب أطفالًا كما أن المرأة إذا أصيبت أثناء زواجها بمرض أو عاهة تعوقها عن أداء واجباتها؛ فإن الزوج لا يحق له أن يطلقها ولكن يترك لها الخيار في البقاء في بيت الزوج أو أن تعود إلى بيت ذويها وتسترجع ما أحضرته من أموال عند الزواج، كما أن الزوج كان يستطيع الزواج من زوجة أخرى، ومن جهة أخرى كان من حق الزوج أحيانًا أن يطلق زوجته دون أن تقترف إثمًا وفي هذه الحالة تسترجع الزوجة كل أموالها كما يحكم لها بالانتفاع ببعض ممتلكات زوجها ويضم إليها أولادها أيضًا. وقد نصت القوانين البابلية على كثير من شئون الأحوال الشخصية

ومنها يتضح أن مبادئ تدعيم الأسرة وحفظ حق الأبناء في أن ينشئوا في أسر مستقرة وكفالة حقوقهم في الميراث والهبات وغيرها قد بلغت مرتبة عالية من التنظيم، كما أن أبناء الإماء والأبناء بالتبني قد تمتعوا بحقوق، وإن لم تصل إلى درجة حقوق الأبناء الشرعيين، كانت تكفل لهم حياة لا بأس بها؛ ولكن القانون كان من جهة أخرى قاسيًا في عقوبة أبناء التبني الذين يستنكرون لمن يتبناهم. ومن الغريب أن نجد أن بعض النساء كن يكرسن أنفسهن للدعارة في المعابد. والظاهر أن هذه الطائفة وجدت منذ أقدم العصور وكانت تعتبر من الكاهنات ولكل منهن حقوق شرعية في أموال أبيها وفي استطاعتهن أن يتزوجن شرعًا ولهن حق التصرف في أملاكهن، وربما كانت وجهة نظر البابليين بصدد هذه العادة أن المرأة كانت تتعبد إلى الآلهة بتقديم جسدها كتضحية حقيقية من جانبها. وكان شأن الزواج في أشور شأنه في بابل يقتصر في العادة على زوجة واحدة؛ ولكن يلاحظ أن الرابطة العائلية كانت أقل تماسكًا، ومع هذا فإن الفتاة تصبح مرتبطة ببيت حميها منذ إتمام الخطبة، وكان الزواج يتم أحيانًا بالشراء، وفيما عدا هذا نجد تشابهًا كبيرًا بين القوانين الأشورية وبين القوانين البابلية المتعلقة بالأحوال الشخصية، وكانت الأسرة كما هو الحال في بابل تحت ولاية وسلطة الأب أو أكبر الأبناء.

الملك

الملك من المرجح أن بلاد النهرين انتظمت في وحدات سياسية صغيرة منذ عصور سحيقة كانت كل منها تتمثل في مدينة من المدن تحيط بها ممتلكاتها الخاصة من المساحات الزراعية وغير الزراعية، وكان حكام هذه الدويلات يلقبون أنفسهم بلقب يعني "وكيل الإله" مما يشير إلى أن سلطة الحاكم كانت مستمدة من سلطة إله المدينة أو أنه يعتبر ممثلًا لهذا الإله؛ حيث يبدو أن المعابد كانت أهم المباني التي وجدت في العصور قبل التاريخية، وربما كانت حينئذ تمثل المراكز التي تدور حولها الحياة الاجتماعية في تلك المدن وربما كان كهنتها كذلك هم الذين يقومون بالإدارة في مثل هذه المجتمعات ومما يؤيد هذا أن الملوك في العصور التاريخية كانوا يعتبرون كهنة الآلهة الرئيسية ونوابها في حكم البشر. وقد ظل نفوذ رجال الدين سائدًا إلى أن أخذت هذه المدن أو المجتمعات تتصارع فيما بينها حتى ظهر فيها أفراد يمتازون بالقوة والدراية في الشئون الحربية فاكتسب هؤلاء صفات الزعامة وتولوا الحكم؛ وبالتالي أصبحت لهم الزعامة الدينية أيضًا وصار كل منهم كاهنًا أعلى لإله مدينته وأصبح رأس الدولة وصاحب السلطان المطلق فيها، ومع هذا يبدو أنهم لم يصلوا إلى هذه المكانة تلقائيًّا؛ إذ كانت كل مدينة تختار زعيمها وكان ذلك يتطلب وجود مندوبين عن المدينة في عملية هذا الاختيار، ولا شك أن المسنين والأعيان والرجال القادرين على حمل السلاح كانت لهم كلمتهم المسموعة في هذا الشأن فأصبح هؤلاء يشكلون مجلسين أحدهما من الشيوخ والأعيان والآخر

من رجال الحرب، ثم تطور اختصاص هذين المجلسين فأصبحا يهيمنان على كل الشئون المهمة في الدولة؛ بل وكان من حقها التحكم في انتخاب الملك، وعلى هذا يمكن اعتبار أن نظام الحكم في هذه المرحلة كان ديموقراطيًّا. وما أن أخذت هذه الدويلات في الاتحاد تحت سلطان واحد حتى أصبح هذا النظام غير عملي للبت في الأمور وحسمها؛ فتركزت السلطات جميعها بأيدي الملوك ومعاونيهم، أو بمعنى آخر بيد الملك وحكومته، أي أصبح نظامًا أوتوقراطيا، وقد استند هؤلاء إلى الحق الإلهي للملك؛ إذ تشير الأساطير إلى أن شارات الملك كانت في السماء عند الإله "آنو" قبل أن تبدأ الملكية في الأرض، ثم هبطت الملكية وشارات الملك من السماء إلى الأرض، وانتخبت الآلهة حكام البشر؛ وعلى هذا أصبح لهؤلاء مكانة مقدسة؛ بل ربما اتخذوا صفات الآلهة نفسها ولكنهم لم يعبدوا كآلهة حقيقيين أثناء حياتهم وإنما عبدوا بعد وفاتهم. وكان على الملوك بصفتهم مفوضين من الآلهة في حكم الناس أعباءُ كثيرة؛ إذ كان عليهم حماية الناس والبلاد وقيادة الجيش ونشر العدل وتوفير أسباب الرفاهية لرعاياهم بإقامة المشاريع العامة كما أنهم كانوا يقيمون المعابد لآلهتهم "شكل 39"، ويحيون الشعائر فيها؛ ومع هذا لم تحل قدسيتهم دون الاعتداء عليهم والثورة ضدهم واغتصاب عروشهم. وكان البلاط يسير على قواعد صارمة حيث يحظى بشرف المثول بين يدي الملك رجال الدولة على حسب مناصبهم ومراكزهم، وكان هؤلاء جميعًا يتخلون عن ألقابهم ومناصبهم وأوسمتهم عند اعتلاء ملك جديد

"شكل 39": الملك أورنمو يحمل سلة البناء لإقامة المعبد. على العرش ولا يحق لهم استعادتها إلا بعد أن يأذن لهم هذا الملك بذلك. وكان بلاط الملك بالطبع يضم الزوجة التي كانت تشترك في تصريف شئون الدولة ولها قصرها الخاص وأملاكها التي تديرها بنفسها كما كان لأولادهما بيتهم الذي يختص بخدمه وسقاته وزرَّاعه ونسَّاجه وغير ذلك من أصحاب الحرف المختلفة، وكان أهم موظفي البلاط ناظر القصر وأمين خزانة الملك، وإلى جانب هذين يوجد عدد من الكهنة والموظفين

والحرفيين الذين يقومون بالأعمال المختلفة، وقد أحاط ملوك الأشوريين أنفسهم بحاشية ضخمة من الأخصاء والمقربين كحامل الْخِتم وأمين القصر ورئيس الحرس وحامل السيف ومدير الموسيقى ورئيس النساجين وغيرهم؛ فضلًا عن عدد كبير من الكتبة ورؤساء الكتبة، كذلك كان لكل من الملكة الوالدة والملكة وولي العهد هيئة من الموظفين على نسق حاشية الملك؛ ولكنها أصغر منها كثيرًا بالطبع.

المنازل

المنازل كانت المساكن في أول أمرها عبارة عن أكواخ من البوص الذي كان متوافرًا كما هو الحال في المناطق الجنوبية من العراق الآن، وكانت سيقانها تربط في حزم وتثنى بحيث يصبح شكل السقف مقوسًا "شكل 40"، وكانت هذه المنازل تغطى بطبقة من الطين، وبعدئذ استخدم اللَّبِن في بناء منازل صغيرة الحجم سقوفها من البوص المغطى بالطين وقد يدعم هذه ركائز أو تعريشات من أخشاب النخيل، وبعد ذلك عرف الآجر؛ ولكنه لم يتخذ شكلًا موحدًا؛ بل كان مختلف الأحجام والأشكال؛ فمنه المستطيل والمربع والمقوس والمثلث الأركان، ولم يستعمل الحجر إلا في إطارات الأبواب في المعابد والمنشآت العامة ثم استخدم بعد ذلك على نطاق أوسع في عصور متأخرة، كما أن القاشاني الذي عرف أيام الأشوريين وشاع استعماله بعد ذلك، استخدم في تكسية جدران القصور.

"شكل 40": منزل من منازل جنوب العراق. ومن المعتاد أن المباني كانت تبنى فوق مرتفع يعد لها حتى تكون بمنأىً عن الفيضان، وهذا المرتفع كان عبارة عن أربعة جدران غالبًا ما تكون من الآجر يملأ ما بينها الرديم وتتخلله ميازيب لتصريف المياه، وكان من النادر أن تبنى فوق الدور الأرضي غرف علوية وكانت البيوت متجاورة لا تترك بينها ممرات أو حارات؛ ومع هذا كانت المدن تخضع لتصميم معين يحدد شوارعها الطولية والعرضية. وبالرغم من عدم العثور على سقوف للمباني التي كشف عنها؛ إلا أنه لا بد وأنها كانت من أفلاق النخيل أو جذوع الأرز التي يؤتى بها من لبنان، وكان

من النادر وجود نوافذ بالمنازل غير الأبواب سوى بعض الفتحات الصغيرة في أعلى الجدران. وفي أشور لم تكن المرتفعات التي تعد لإقامة المباني عليها ضرورية لأن البيئة هنا غير معرضة لخطر الفيضان كما هو الحال في الجنوب، ومع ذلك كانت تستخدم لكي تزيد من روعة المبنى، وكان اللَّبِن يستعمل في بناء الجدران قبل أن يجفَّ حتى تتماسك طبقاته دون استعمال المونة، أما بالنسبة للقباب؛ فإن اللَّبِن تام الجفاف كان يستعمل في بنائها وكانت الفجوات فيها تملأ بالطين. والتصميم العام للمنازل كان لا يخرج عن فناء أو ساحة مكشوفة يحيط بها عدد من الحجرات تستمد الضوء والهواء منها كما كان يستعان في تهوية هذه الحجرات، كذلك بآنابيب فخارية مثقوبة، وكانت جدران البيوت تطلى عادة من الخارج والداخل. وقد عثر على نماذج مختلفة لأثاث المنازل وخاصة من الأواني الفخارية والمعدنية والمسارج، وتذكر النصوص كثيرًا من أنواع الأسِرَّة والكراسي وآلات الموسيقى وغيرها، وفي عصر الأشوريين خاصة ازدادت فخامة الأثاث وتنوعت أشكاله، وكثيرًا ما كان يصنع من أخشاب ثمينة كما كان يحلى بمنحوتات تمثل كائنات مختلفة.

الملبس والزينه

الْمَلْبَس والزينة يبدو أن أول زي عرفه السومريون والأكديون كان يشبه إلى حد بعيد ما ساد في مصر في أقدم العصور؛ إذ إنه كان عبارة عن نقبة من لون واحد تمتد إلى الركبتين؛ ولكنها كانت تحلى بخيوط أو شبكة تنتهي بأهداب في صفوف منتظمة، وهذا الزي هو الذي يظهر به الآلهة والملوك في أقدم النقوش والتماثيل "شكل 41"، وقد ظل الأفراد "شكل 41": نقبة يلبسها الرجال وتنتهي بصفوف منظمة من الأهداب

العاديون يستعملون زيًّا مماثلًا له وإن كان أبسط منه، وهو أيضًا من لون واحد وله أهداب عادة. وقد أضيفت إلى هذه النقبة قطعة أخرى حول الكتف اليسرى، وبمرور الزمن زاد حجم النقبة حتى أصبحت تصل إلى قرب القدمين وتجمع بين النقبة والقطعة التي تغطي الكتف اليسرى القديمتين؛ إذ إنها كانت تمتد إلى أعلى بحيث تربط تحت الإبطين وتدور حول الذراع اليسرى؛ بينما تظل الذراع اليمنى عارية "شكل 42". وقد أضيف إلى هذا الزي شال "ملفعة" مزركشة أو منسوجة بألوان متعددة متناسقة ثم أخذت تظهر فيها زخارف متأثرة بالفن الحيثي وهذه تمثل الزهور والأشجار والحيوانات والمردة وغيرها، وكانت تلك الملفعة تثبت بحزام أو خيوط مجدولة وحمالة ولها أهداب في نواحيها الأربعة، وقد تختلف أشكالها تبعًا لاختلاف مكانة صاحبها. أما غطاء الرأس فلا يظهر إلا في نقوش الآلهة والملوك؛ حيث كان الآلهة يميزون بقلنسوة مزينة بقرون تتقابل أطرافها الأمامية كل اثنين معًا "شكل 43"، كما أنهم كانوا يميزون أحيانًا برموز أخرى كالأسلحة التي يمسكون بها أو برموز أخرى، أما الملوك فقد يلبسون تاجًا أو عمامة، وهذا التاج كان على شكل قمع مخروطي أضاف إليه الآشوريون سن مدبب كما كان يحيط به إكليل مدبب أعلاه أحيانًا "شكل 44"، وقد يظهر الملوك أحيانًا عراة الرءوس حيث تكون حليقة غالبًا وأحيانًا يكون الشعر طويلًا معقودًا على القفا، ولم يستعمل عامة الناس غطاء للرأس عادة؛ ولكنهم كانوا يربطون شعرهم أحيانًا بعصابة بينما

"شكل 42": تمثال يرى فيه الزي السابغ الذى يكشف أحد الذراعين. يستعمل الكهنة شعرًا مستعارًا يثبته إكليل، أما النساء فكانت عنايتهن بشعورهن ملحوظة حيث يصففنها في أشكال مختلفة ويربطونها بشرائط وشباك كما يستعملن عصابة ذات أهداب أيضًا. وكان الرجال والنساء يضعون عقودًا أو تمائم حول رقابهم من

"شكل 43": حمورابي أمام الإله الذي يلبس تاجًا به قرون يتلاقى كل اثنين منهما معًا. الأصداف أو الأحجار شبه الكريمة، وفي عصر الأشوريين انتشر استعمال الذهب والنحاس المذهب وكانت الخرزات كبيرة الحجم نسبيًّا وهي إما بيضيَّة أو أسطوانية الشكل تصنع أحيانًا من رقائق الذهب وتحليها بعض الزخارف وأحيانًا أخرى تصنع من أحجار ثمينة أو من البلور الصخري التي تحليها حلقات أو خيوط من الذهب "شكل 45"؛ كذلك استعمل أهل بلاد النهرين الخواتم والحلقان والأساور التي تلبس حول المعصم أو في أعلى الساعد، هذه الأخيرة كانت غالبًا

"شكل 44": شلنصر الثالث يصافح ملك بابل وهو يلبس تاجًا مخروطيًّا يعلوه سن مدبب. مفتوحة وثقيلة ينتهي كل من طرفيها بشكل رأس حيوان، وهذه كانت تصنع غالبًا من البرونز، وكان عامة الشعب بالطبع يكتفون بعقود "شكل 45": عقود من الذهب.

وأساور تصنع غالبًا من موادَّ أقل قيمة؛ ولكنهم اجتهدوا في أن يجعلوا منها محاكاة لنظائرها الثمينة، هذا وقد استعمل أهل بلاد النهرين الزيوت والدهون العطرية بصفة دائمة.

الادارة

الإدارة أشرنا فيما سبق إلى أن الملكية في دولة المدينة -كما تتمثل في أقدم عصور بلاد النهرين- كانت تسير وفق نظام ديموقراطي، ثم أصبحت -بعد أن تطورت هذه إلى دولة الملكية- تسير وفق نظام أوتوقراطي "انظر أعلاه ص: 200"؛ فصارت السلطات جميعها بيد الملك وحكومته استنادًا إلى ما أشارت إليه الأساطير من حق إلهي للملوك والحكام، ولا يسري هذا بالطبع؛ إلا على من يتولى الحكم فلا تشير هذه الأساطير إلى ألوهية الملوك والحكام بخلاف ما اصطلح عليه المصريون من أن فراعنتهم كانوا من نسل الآلهة أو من الآلهة نفسها؛ غير أننا نلاحظ بأن التعاليم الدينية في بلاد النهرين كانت توحي بأن الآلهة هي التي تنتخب الحكام الذين يمثلون وكلاءهم في الأرض، وقد تطور الحال بعد ذلك فأصبح هؤلاء يتمتعون بقدسية جعلتهم ينتحلون بعض صفات الآلهة نفسها، وسبقوا أسماءهم بعلامة التأليه؛ ولكنهم لم يصلوا إلى مرتبة الآلهة الحقيقيين. ومع أن بعض الملوك ادعوا أنهم أبناء بالتبني للآلهة؛ فإن كل ملك جديد يدعي أن الآلهة قد اختارته لكي يكون ملكًا على البلاد1. وكان على الملك

_ 1 طه باقر، مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة، بغداد: 1955، "ج1، ص385.

بصفته مفوضًا من الآلهة واجباتٌ متعددة، ولذا كان بالطبع يحتاج إلى جمهور كبير من المعاونين؛ إذ كان له جملة وزراء يرأسهم وزير وهذا الرئيس يختص غالبًا بشئون السياسة الخارجية، ومن أخطر الوزراء منصبًا وزير المالية؛ إذ إنه كان مسئولًا عن الشئون الاقتصادية المختلفة، ويلي هؤلاء الوزراء أهمية قواد الجيش الذين علت مكانتهم بعد أن زادت جيوش الملوك قوة وعددًا. وكان الملك يعين حكامًا وولاة للأقاليم، وكان هؤلاء في أقدم العصور أشبه بأمراء الإقطاع؛ إذ كانوا يرثون مناصبهم؛ ولكن زال عنهم هذا الحق فيما بعد حيث أصبح الحكم المركزي قويًّا، كما أن الملوك كانوا يعينون قضاة مدنيين بدرجات متفاوتة إلى جانب قيام الكهنة بتطبيق أحكام الشرائع وتفسير نصوصها في المعابد. ويمكننا أن نعتبر طائفة من موظفي الخاصة أو البلاط كموظفين عموميين في نفس الوقت؛ حيث كان هؤلاء يقومون بمهام رسمية إلى جانب مراكزهم في البلاط، ومن هؤلاء مندوبون للملك يرسلهم كسفراء خصوصيين ليمثلوه لدى الدول الأجنبية ويصحبهم عادة مترجمون وكتبة وقضاة. ومع وجود هذه الطوائف من الموظفين كان نشاط الملوك في الاضطلاع بمهام الدولة المختلفة غير محدود ونتبين في آثارهم مدى تنوع الأعمال التي قاموا بها كما نتبين مدى وقوفهم على مختلف شئون الدولة حتى في بعض الأمور التافهة؛ فكثيرًا مانجد أنهم كانوا ينظرون في بعض شكاوى الأفراد ويعيدون الدعاوى إلى المحاكم لإعادة النظر فيها استيفاءً لبعض الأصول المتبعة، كذلك كانت بعض القضايا لا يبت فيها إلا بقرار من

الملك شخصيًّا، وكان على الملوك أيضًا أن يقوموا بمشروعات عمرانية مختلفة مثل تطهير الأنهار وشق القنوات وبناء المعابد، وهم الذين يفسرون ما تريده الآلهة وفي نفس الوقت يمثلون الرعية لدى الآلهة وهم الذين يرأسون الطائفة الدينية ويعينون رؤساء الكهنة، وإلى جانب هؤلاء الأخيرين كانوا يعينون بعض الكهنة والعرافين الذين كانوا يرسلون إلى جهات مختلفة لرصد النجوم ويرسلون إلى الملك بتقاريرهم.

العسكرية

العَسْكَرِيَّةُ تدل النقوش الأثرية من مختلف العصور على أن الملوك كانوا دائمًا على رأس جيوشهم، وهذه الجيوش لم تبدأ كهيئات نظامية في أغلب الظن؛ إلا من أواخر العصور التاريخية؛ إذ ربما كانت حاجة المدن إلى الدفاع عن نفسها هي التي أدت إلى ظهور الجيوش المدربة المستديمة، وكانت الخدمة العسكرية تعتبر خدمة الملك، فكانت بعض الأراضي تخصص للداخلين فيها؛ ولكن مع جواز إعطاء الأراضي إلى الأبناء -على شرط القيام بخدمة الملك- فإن مثل هذه الأراضي لم يكن من الجائز بيعها أو رهنها، والظاهر أن ضباط الجيش كانوا يعتبرون من ضرورات الأمن في المدينة؛ حيث كان المعبد يقوم بدفع الفدية عنهم في حالة أسرهم إذا لم يتمكنوا من دفعها بأنفسهم بل كانت المدينة كذلك ملزمة بدفعها إذا لم يوجد في المعبد المال اللازم لذلك. وكان الملك يسير إلى الحرب على رأس جيشه ويلبس خوذة شبه مخروطية يتدلى منها ما يستر العنق من الخلف ويتسلح بحربة وسلاح آخر

عبارة عن مقبض خشبي ربط إليه نصل مقوس بسيور من الجلد أو حلقات، ومن الأسلحة التي شاع استخدامها منذ أقدم العصور فأس القتال، وتبين لنا أقدم النقوش أن الجيش ينقسم إلى فريقين من المحاربين: أحدهما مسلح بأسلحة ثقيلة يحمل أفرادها حِرابًا كبيرة ويقبض كل منهم حربته بكلتا يديه، وهؤلاء يتقدمهم صف من حملة الدروع، والثاني: مسلح بأسلحة خفيفة عبارة عن فأس ورمح، ويبدو أن مهمة الفريق الأول هي الهجوم عند الالتحام مع الأعداء أما مهمة الفريق الثاني فكانت المطاردة. وفي العصر البابلي القديم كان الملوك يتسلحون ببلطة سلاحها ضيق وقوس مزدوج وسهام، أما قواده فقد يتسلح الواحد منهم بحربة وبلطة ذات نصل محدب أو بلطة فقط بينما يحمل فريق المحاربين حرابًا أو قسيًّا أبسط من قوس الملك، أو أن يحمل الواحد منهم بلطة وحربة أو بلطة وعلم، ويغلب على الظن أن الخوذات التي كان يلبسها الجنود كانت تصنع من الجلد أو البرونز، أما الجعاب فكانت تصنع من الجلد والصوف. وقد وجدت عربات حربية تجرها الحمير والخيول الوحشية، ولم تستعمل الخيول المستأنسة؛ إلا من عصر متأخر نسبيًّا، وكانت هذه العربات ثقيلة عجلاتها صماء، ولم تظهر العجلات الخفيفة إلا في حوالي الألف الثاني ق. م. وكان رؤساء الجيش إلى جانب قيادتهم للجند مسئولين عن الإشراف على السخرة التي تتطلبها المشاريع العامة، ويبدو أن طائفة من الناس كانوا ملزمين بمثل هذه الأعمال وبالخدمة العسكرية الإجبارية، وكان لهؤلاء قوادهم ورؤساؤهم. ولا يستطيع أحد الملزمين التهرب من أداء الالتزام "خدمة الملك" وإن كان الأمر قد تطور فيما بعد فأصبح في الإمكان أن يحصل على الإعفاء في نظير دفع ضريبة سنوية.

المرجح أن طائفتين من القواد أو المشرفين كان أفرادها يكلفون باستدعاء الرجال للخدمة؛ فبعضهم يختص بجمع المجندين لوظائف الجيش، والبعض الآخر كانوا مكلفين بأعمال البوليس، ويمنح المكلفون للجيش أملاكًا من أموال الدولة في هيئة معاش مدى الحياة كما أن المكلفين بأعمال البوليس كانت لهم امتيازات شخصية وامتيازات بالنسبة لأملاكهم لا يمكن للحاكم أن يتعرض لهم؛ وإلا كان مصيره الإعدام، وإذا ما تغيب أحد هؤلاء المكلفين سواء من الجيش أو البوليس فإن أبناءه يديرون أملاكه، وإذا كان هؤلاء صغارًا فإن الزوجة تدير هذه الأملاك في نظير ثلث الإيراد، ومن جهة أخرى كان من الواجب أن تحفظ هذه الأملاك في حالة جيدة وإن تعمد مالكها -الذي منحت له في نظير التكليف- إهمالها أو احتلها آخر لمدى ثلاث سنوات فلا يجوز إعادة تملكه لها ويصبح واضع اليد عليها هو المنتفع الشرعي. وكان ملوك أشور قواد حرب أكثر منهم رجال دولة؛ ولكنهم كانوا لا يخرجون في حملاتهم دون استشارة الآلهة عن طريق العرافين والمنجمين وبعد أن يتلقوا تقارير عن الجهات التي يزمعون مهاجمتها ومدى النجاح المتوقع لحملاتهم، كما أنهم كثيرًا ما قاموا بحملاتهم بناء على أمر إلهي يتراءى لهم في أحلامهم، وحينما لا يكون الملك على رأس جيشه كان أكبر موظفي البلاط هو الذي ينوب عنه في قيادة الجيش. ومن الملاحظ أن الجيوش الأشورية أدخلت نظام الفرسان الذين كانوا يركبون الخيل دون سرج في أول الأمر ويصحب كل منهم خادم راكب أيضًا ثم تقدمت الفروسية فوضعت السروج فوق الخيل واستغنى

عن الخدم، وفضلًا عن ذلك وجدت عربات حربية يجر كل منها زوج من الخيل ويركبها ثلاثة رجال -كالعربات الحيثية- أحدهم للقيادة والثاني مسلح بحربة أو قوس والثالث يحميها بدرع، أما مشاة الجيش؛ فمنهم من يتسلح بالأقواس ومنهم من يحمل الرماح والدروع ويلبسون خوذات مخروطية ذات زوائد جانبية لحماية الأذنين، كما أنهم يتدثرون بزرد يغطي الصدر والجزء العلوي من الساعدين ويلبسون أحذية طويلة، وكل منهم مزود بسيف قصير لاستخدامه عند الالتحام مع العدو عن قرب، وإلى جانب هؤلاء كان الجيش يضم عمالًا من الجنود يحمل كل منهم بلطة ومعول لكي يقوموا بعمليات الهدم. هذا ويلاحظ أن بعض النقوش المتعلقة بحصار بعض المدن تبين أن الأشوريين استخدموا آلات للهدم تحميها سقوف من أغصان متشابكة كما استعملوا أبراج عالية تسير على عجلات إلى أن تصل إلى قرب السور المحاصر، ويعتلي هذه الأبراج رماة السهام الذين يرمون بسهامهم الجند الذين يعتلون الأسوار للدفاع عن المدينة المحاصرة. وقد اشتهر الأشوريون بالقسوة في حروبهم وفي معاملة أعدائهم والمدن التي تسقط في أيديهم، وكانوا بعد انتصاراتهم يبيحون لجنودهم البلاد المفتوحة فيعملون فيها النهب والتدمير كما أنهم كانوا يبثون الإرهاب بين الجهات التي يريدون إخضاعها لسيطرتهم، وكثيرًا ما كانوا يقومون بتخريب المحاصيل وحرق القرى، وهم أول من استن سنة نفي سكان البلاد التي تخضع لهم وإحلال سكان آخرين في مكانهم ليمزجوا بين الشعوب الخاضعة لهم حتى تفقد صفاتها القومية؛ فهم الذين نفوا سكان إسرائيل إلى ميديا وأحلوا في مكانهم مواطنين آخرين من جهات مختلفة.

الديانة

الديانة ليس من السهل أن نحدد العناصر الأصلية في ديانات بلاد النهرين القديمة؛ إلا أنه لا شك في أن عناصر الكون كانت تشكل معبودات رئيسية في اللاهوت، وقد نسب أهل بلاد النهرين القدامى إلى معبوداتهم بعض الصفات والعواطف الإنسانية؛ ولكنهم ميزوهم عن البشر بالخلود وبأنهم كانوا خيرين دائمًا، ولم يكن الشر من عملهم بل من أرواح خبيثة تفوق البشر ولكنها دون الآلهة. وقد تخيل هؤلاء القوم أن العالم قبل نشأته يمثل فراغًا تميز بعنصرين مختلفين من الرطوبة: أحدهما الماء العذب والآخر يمثل الماء الملح وقد ولدت منهما كل الكائنات التي بدأت بمعبودين لم يلعبا دورًا ملحوظًا، ثم بعد فترة أنجبا كذلك معبودين آخرين يمثلان السماء والأرض ومن هذين الأخيرين جاء ثلاثة آلهة آخرين هم الثالوث الأعظم لمجموعة الآلهة البابلية "أنو- إنليل- إيا" وقد اعتبر الإله "أنو" الإله الأعظم من أقدم العصور، وكان يحكم في السماء؛ ولكنه لم يحتفظ بسلطته العليا كأسمى الآلهة حينما انتقلت السيادة من سومر إلى بابل؛ إذ أصبح إله هذه الأخيرة "مردوك" على رأس الآلهة فحل محل الإله أنو، وقد اعتبر الإله "أنليل" سيد الأرض إذ استطاع أن يصل إلى مكانة "أنو" بل وأصبح أيضًا أبًا للآلهة، وهو مستشارها الذي أحدث الطوفان كما كان يعد سيد الكائنات الإنسانية الذي عهد بهم إلى أمراء يقودنهم ويحكمونهم، أما الإله الثالث وهو "إيا" فكان يعد سيد الأرض يحكم في مسكن المعرفة أي المياه التي تحمل الأرض وتحيط

بها، كما كان إلهًا للحكمة، خلق الإنسان من كتلة من الطمي نفخ فيها نسمة الحياة، وهو الذي أنقذ البشر من الفناء في زمن الطوفان وعلمهم مختلف الصناعات ومنح الذكاء للملوك. ويلي هذا الثالوث ثالوث آخر يتألف من إله القمر وإله الشمس وإلهة هي الزهرة عشتار، وكان إله القمر يقيس الزمن ويعاقب المذنبين من الملوك بقضاء حياتهم في التأوهات والدموع، وكان إله الشمس هو القاضي الأعظم الذي أملى قوانين العدالة على الملوك، أما عشتار فكانت إلهة الحرب وإلهة اللذة تسعى لغواية البشر، كما أنها تعد أخت إله الشمس وفي نفس الوقت أخت إلهة العالم السفلي. وإلى جانب هؤلاء جميعًا كانت كل قوى الطبيعة وكل قوى الخير تؤله عند السومريين والبابليين كما كان لكل مدينة معبودها حتى أصبح عدد المعبودات كبيرًا جدًّا، وبالطبع كان تفوق معبود على الآخرين يجعل من هذه المعبودات الأخرى معبودات مظاهر له، وينسبون إليه قدرة لا توجد لدى الآخرين كما أنه يصبح المتحكم في تقرير المصير؛ كذلك عبد السومريون والبابليون عددًا من الأبطال الخرافيين تظهر أسماء بعضهم في القوائم الملكية كملوك في العصور السابقة للتاريخ، كما أن بعض الأمراء انتحلوا الصفات الإلهية أثناء حياتهم، ولم يختلف الدين الأشوري عن البابلي في روحه ولكنه تأثر بعض الشيء بالمظاهر الحربية التي سادت عهد الآشوريين، وبالطبع احتل إلههم أشور "شكل 46" مكانة أعظم إله في بلاد النهرين ونسب إليه الخلق، وهو من جهة أخرى كان يعد إلهًا حربيًّا أخضع الناس جميعًا لسلطانه وكانت زوجته عشتار الأشورية تحتل المكانة التالية لمكانته كما أنها كانت تعد بطلة المعارك وحامية أشور.

"شكل 46": الإله أشور. ومن الجدير بالذكر أن بعض الطقوس كانت تحوي أناشيد تنص على الاعتراف بكثرة الذنوب كما تنص على أن هذه الذنوب ربما كانت غير مقصودة بالنسبة لآلهة قد لا يعرفها من يتلو هذه الأناشيد وكانت التقوى الدينية تكافأ بالعمر الطويل في الحياة الدنيا، ومن الغريب أن الجزاء في الآخرة لم يكن واضحًا؛ بل كان يظهر في النصوص الدينية ما يشير إلى أن المرء يلقى جزاءه من ثواب وعقاب في حياته الدنيا، ومع هذا فقد كان الاعتقاد سائدًا بأن ظل الميت يفترق عن جسده عقب الموت مباشرة ويتحول إلى روح شريرة ما لم تدفن الجثة، وعلى هذا فإن الحرمان من الدفن كان يعد عقوبة قاسية، وبالرغم من ذلك فإن مصير الموتى لم يكن واحدًا وكان أقصى ما يطمعون فيه أن يستريحوا في العالم السفلي فوق أَسِرةٍ ويشربون ماءً نقيًّا أو أن ينالوا عون آبائهم وأزواجهم إن كانوا ممن سقطوا في المعارك، أما ما عداهم فإن مصيرهم

كان محزنًا تأكلهم الديدان ويملؤهم الغبار، وهذا بخلاف ما اعتقده المصريون من أن الأبرار كانوا ينعمون بصحبة الآلهة ويعيشون في حقول "يارو" أما سواهم فإنهم يلقون جزاءهم من العذاب "انظر أعلاه ص: 85، 86". وقد أدى التفكير في نشأة الوجود إلى ظهور أساطير مختلفة وصلت إلينا منها بعض النماذج، وتعد الأسطورة البابلية أقدم نموذج وصل إلينا كأسطورة طويلة، وهى مدونة على سبعة ألواح طينية تعرف لدى علماء الأشوريات باسم ألواح الخليقة السبعة، وهي تحتوى على نحو ألف بيت تقريبًا وتشير إلى أنه لم يكن في البدء سوى الماء العذب الإله "أبسو" والماء الملح "الإلهة تيامة" وكانا مختلطين ثم ولدت منهما الآلهة الأخرى متعاقبين، وفى ذلك ما يشير إلى أن المادة "المياه" أزلية، وهي في نفس الوقت الإلهين اللذين جاءت منهما الآلهة ومن أعقابهما أعظم الآلهة لدى البابليين وهو مردوخ، وقد أشرنا إلى ما تضمنته هذه الأسطورة عند الكلام على ما تخيله القوم عن نشأة الآلهة "انظر أعلاه ص216". ويرى بعض المؤرخين أن هناك تشابه واضح بين هذه الأسطورة وبين ما جاء في سفر التكوين من أنه في البداية لم يكن سوى هيولي مظلم من الماء؛ ولكن الأسطورة تختلف عن الكتب السماوية عمومًا في أنها جعلت المادة أزلية سبقت أي شيء آخر، ومع كل فإن الأسطورة تعكس صورة لما يدور في بيئة بلاد النهرين من صراع بين عناصر الطبيعة وبين الإنسان وبيئته.

ومن الأساطير التي اشتهرت في تاريخ العراق القديم الأسطورة المعروفة باسم "ملحمة جلجامش أو الطوفان، ومع أن جلجامش قد ورد ذكره كأحد ملوك الأسرة الأولى في الوركاء؛ إلا أنه صار موضوعًا لعدة ملاحم وقصص كلها تصف أعماله ومغامراته وبطولته الخارقة. وأشهر هذه القصص تلك التي تتصل بالطوفان وهي أطول ملحمة في الشعر البابلي حيث كتبت على "12" لوحًا من الطين تحوي نحوًا من "3500" سطرًا وهي تتلخص في وصف جلجامش بالحكمة ومعرفة أخبار الأزمنة السابقة للطوفان وأنه سافر أسفارًا بعيدة، وهو بطل الآلهة الذي خلقته في أحسن صورة وقوة، ثلثاه إله والثلث الباقي بشر، وقد تعسف مع أهل الوركاء الذين استغاثوا بالآلهة، وهذه خلقت بطلًا قويًّا هو "أنكيدو" ليكون منافسًا لجلجامش، وتحدث بين الاثنين معركة ينتصر فيها جلجامش ثم يصبحان بعد ذلك صديقين، ثم يذهبان معًا في سفر طويل للحصول على الشهرة والمجد وينجحان في ذلك أولًا ثم يعودان إلى الوركاء، وهنا تحاول الإلهة عشتار إغواء جلجامش؛ ولكنه يحيد عنها فطلبت إلى والدها "آنو" إله السماء عقاب جلجامش فخلق هذا "ثور السماء" الذي أخذ يفتك بأهل الوركاء، وانبرى له الصديقان "جلجامش وأنكيدو" يصارعانه حتى قضيا عليه واحتفلا بنصرهما. ثم تدور الدوائر عليهما وقد غضبت عليهما الآلهة فيمرض "أنكيدو" ويموت وهو في ريعان الشباب ويحزن عليه جلجامش ثم يمتلكه الخوف من الموت ويفكر في التخلص منه لكي ينال حياة خالدة، وهنا يذكر جده الخالد "أوتو نبشتم" فيذهب إليه ليسأله عن سر الخلود، ويصل

إليه بعد أهوال وبعد أن تنصحه إحدى الإلهات بالانصراف عن فكرة الخلود لأنه من البشر وأن نصيبه الموت، وما أن يصل إلى جده حتى يسرد هذا الأخير قصة الطوفان ويشير فيها إلى أن الآلهة عزمت على إحداث الطوفان، وقد حاباه الإله "إيا" فأخبره بذلك قبل حدوثه ونصحه بعمل سفينة من سبع طبقات قسم كلا منها إلى تسعة أقسام وجهزها بما تحتاجها من مؤن ... إلخ وبعد أن نجا من الطوفان قدم قربانًا إلى الآلهة، وصعد الإله "أنليل" إلى السفينة وأخذ بيد "أوتو- نبشتم" وأخرجه من السفينة هو وزوجته ثم أمر بأن يصبحا إلهين، وبعد أن يصل "أوتو- نبشتم" إلى هذا الحد من قصته يوجه كلامه إلى جلجامش قائلًا: من ذا الذي سيجمع الآلهة من أجلك حتى تحصل على نعمة الخلود، وبعد أن يفشل جلجامش في الاختبار الذي أختبره به "أوتو- نبشتم" تشفق زوجة هذا الأخير على جلجامش وتشفع له فيصف له زوجها نبات الخلود ومكان وجوده، وبعد أن يحصل جلجامش فعلًا على هذا النبات ويسر به يتخذ طريق للعودة به إلى مدينته "لينميه" ويستفيد به الناس؛ إلا أنه يصادف في طريق عودته بركة ماء نزل إليها للاستحمام وإزالة عناء السفر، وفي أثناء ذلك اجتذبت رائحة النبات الحية فاختطفته وبذلك حصلت على قوة تجديد الشباب؛ لأنها كلما شاخت تنزع جلدها فيعود إليها الشباب. وتذكر رواية أخرى من هذه الأسطورة أن جلجامش قام بأسفار بعيدة ليخلد له اسمًا مع أسماء الآلهة في أرض الحياة، كما أن جزءًا من نصوص هذه الأسطورة يبدو أن لا علاقة له بسياق المغامرة التي قام بها

جلجامش حيث إنه يأمر "أنكيدو" بأن ينزل إلى العالم السفلي كي يحضر له آلتين من الخشب كان قد صنعهما وسقطتا منه فيه، وبعد أن ينزل أنكيدو يتضرع جلجامش إلى الآلهة كي تبعثه من عالم الأرواح لينبئه عن أحوال العالم السفلي، فتصعد روح أنكيدو وتعطيه صورة قاتمة عن حالة أرواح الموتى؛ إذ إن غالبيتها سجينة، طعامها التراب والطين بينما تتمتع القلة منها وخاصة من مات أصحابها في الحرب ميتة الأبطال ومن تركوا ذرية لهم، بمعاملة خاصة حيث يجدون الماء والقوت. ومن الأساطير ما يعكس صورة عن أفكار القوم فيما يتعلق بأصل الشر وطبيعة الإنسان وعجزه عن إدراك الخلود، ومن هذه أسطورة "آدابا" يرى بعض المؤرخين أنه يشبه آدم1 وإن كان لا يبدو من هذا التشابه إلا مخالفة آدابا لأمر الإله "آنو" بأن يأكل من الطعام طعام الخلود الذي قدمه إليه بناء على نصيحة الإله "إيا" له، أما فيما عدا هذا فهي تبين ميل الإنسان إلي الانتقام وأن نصيبه الموت. وهناك أسطورة أخرى تعرف باسم أسطورة "إيتانا"، وهي تتلخص في أن الملكية نزلت من السماء وبعد أن استقرت فيها لم يكن لأحد الملوك ولد فتضرع إلى الآلهة كي تهبه ولدًا يرثه، وتمضي الأسطورة في وصف تكليفه بعمل خير، لقاء حصوله على بغيته وكيف أنه طار إلى السماء للحصول على نبات الولادة بمساعدة نسر كان قد سبق أن أنقذه

_ 1 طه باقر، المرجع السابق، ص472.

من مأزق كاد أن يموت فيه، وفيها وصف لما شاهده "إيتانا" عند طيرانه من معالم الأرض، ومع أن بقية الأسطورة مفقودة؛ إلا أنه يبدو أنه نال بغيته وعاد إلى الأرض سالِمًا.

القضاء

القضاء اشتهرت بلاد النهرين بما عثر عليه فيها من قوانين تعد أقدم ما عرف حتى الآن؛ إذ لم تصلنا أية مجموعة قانونية تسبقها في التاريخ، ومع أن بعض الإشارات والمواد القانونية وردت إلينا في بعض النصوص المصرية وهي توحي بوجود قوانين كانت متبعة؛ إلا أن هذه القوانين لم تصلنا نصوصها في أي مجموعة تشريعية حتى الآن، وتدل الدلائل الأثرية على أن بلاد النهرين ظهرت بها شرائع مدونة منذ أقدم عصورها، وربما يرجع بعضها إلى أصول كانت موجودة في عصور ما قبل الأُسَرِ، ويتبين ذلك من الأصول القانونية التي كانت متبعة منذ النصف الثاني لعصر الوركاء على الأرجح؛ حيث نجد أن بعض الألواح الطينية التي تنتمي لتلك الفترة تحتوي على كثير من المعاملات التجارية والإدارية، كما أن من بينها ما يدل على سجلات الأراضي الزراعية وتثبيت ملكية الأراضي ومنها ما يتعلق بمستندات تجارية وغيرها. ومن الجائز -حسب ما وصلنا حتى الآن- أن نعتبر "أوركاجينا" ملك "لجش" أول مشرِّع في تاريخ البشر حيث وردت بعض الإشارات من عصر فجر الأُسَرِ ومن العهد الأكدي تشير إلى إصلاحاته الاجتماعية وتنظيمه للإدارة وإزالته للظلم عن الطبقات الفقيرة، كما وجدت بعض النماذج لوثائقه القانونية.

وفي عهد الأكديين بالذات يمكننا أن نتتبع وجود طبقة خاصة من القضاة المدنيين وكان هؤلاء يتمتعون بمكانة سامية، كما نتبين أن "سرجون" الأكدي أدخل نظام القسم باسم الملك بين المتعاقدين عند تثبيت نصوص العقود. ومن عهد أسرة "أور" الثالثة وجدت وثائق قانونية متنوعة كما عثر على مجموعة قانونية من عهد مؤسسها "أورنمو" وهي وإن كانت غير كاملة من الناحية التشريعية؛ إذ لم يرد منها إلا المقدمة وبعض المواد القانونية إلا أنها تسبق شريعة "حمورابي" بنحو "300" سنة كما أنها تختلف عنها من حيث إنها تأخذ بمبدأ التعويض لا بمبدأ القصاص أو الجزاء الذي يتبين في شريعة حمورابي، وهي تنقسم كأي شريعة أخرى إلى مقدمة ومواد تنص على الأحكام وخاتمة، وتتلخص المقدمة في أنها تفويض من الآلهة بمزاولة السلطة ونشر الشريعة. ومن العهد البابلي القديم عثر على لوحين من الطين كتبًا باللغة البابلية وتدل نصوصهما على أنهما جزء من مجموعة لم يعثر على بقيتها، وهذه النصوص تحوي "61" مادة وتبدأ بمقدمة قصيرة غير واضحة تليها "12" مادة عن الأسعار والأجور، وبالإضافة إلى ذلك نجد بعض المواد التي تنص على الأحكام المختلفة المتعلقة بالسرقات والاعتداءات والأضرار والديون والبيع والشراء والأحوال الشخصية وغيرها. وإلى "لبت عشتار" خامس ملوك "أيسين" ينسب قانون يشبه قانون حمواربي في تأليفه وفي بعض مواده وقد عثر عليه مدونًا على كسر من الألواح الطينية فيها من الإشارات ما يدل على أن هذا القانون

كان منقوشًا على نصب أو مسلة من الحجر مثل مسلة قانون حمورابي، ومع أن هذا القانون كان يشمل أكثر من مائة مادة على الأرجح؛ إلا أن وصلنا منه ما يبلغ نحو "35" مادة فقط. وقانون حمورابي الشهير يبدو أن مواده جمعت في السنوات الأخيرة من حكم هذا الملك وقد رتب ترتيبًا فنيًّا ونقش على مسلة من الديوريت الأسود يبلغ ارتفاعها نحو ثمانية أقدام نقشت في أعلاها بنحت بارز يمثل الإله شمش إله العدل على عرشه وأمامه حمورابي يتسلم منه مجموعة من القوانين، وقد عثر على هذه المسلة سنة 1901م في مدينة سوسة، ويحتمل أنها نقلت هناك في أواخر عهد الكاشيين؛ إذ ربما كان العيلاميون قد نقلوها إلى هناك ضمن ما استولوا عليه من غنائم كثيرة بعد قضائهم على الكاشيين، ونقوش القانون تتمثل في "44" عمودًا من الكتابة تبدأ بمقدمة دينية كتبت بلغة شعرية ثم تليها المواد القانونية وعددها "282" مادة ربما كانت في الأصل "300" مادة، وتنتهي بخاتمة يبين فيها حمورابي أنه أصدر هذه الأحكام العادلة؛ فازدهر العدل والحكم الصالح في البلاد، ويختتم ذلك بسرد ألقابه وحب الآلهة له، ويحض من أصابه ظلم على المثول أمام صورته وقراءة قانونه، كما أنه يصب اللعنة على كل من يحرف في هذا القانون، ويمكن تبويب موضوعات هذا القانون في: 1- القضاء والتقاضي: أي أصول المرافعات، وهو يشمل المواد من "1" إلى "5". 2- قانون الأموال، أي المعاملات، ويشمل المواد من "6" إلى "126"

3- الأحوال الشخصية "قانون الأسرة": ويشمل المواد من "127" إلي "282". أما عن القوانين الأشورية فلم ترد منها مجموعة كاملة؛ فمن العهد الأشوري القديم وجدت بعض المواد التي ربما كانت تمثل أجزاء من قانون لا يتعلق بأشور نفسها؛ بل بمستعمرة أشورية تجارية تكونت في آسيا الصغرى، ومع أن ترجمتها لم تستقر تمامًا حتى الآن إلا أنه من الواضح أن أكثرها يتعلق بنظام المحاكم وأصول المرافعات وتنظيم المعاملات التجارية. ومن العصر الأشوري الوسيط عثر على مجموعة قانونية مدونة على جملة ألواح طينية؛ ولكنها لا تؤلف تشريعًا كاملًا ولا تظهر فيها الوحدة القانونية ويختص جزء كبير منها بالأحوال الشخصية وبالجنايات وعقوباتها، ويبدو منها أن القوانين الأشورية عمومًا امتازت بقسوة عقوباتها. أما عن نظام التقاضي فإن المحاكم الابتدائية كانت إما مدنية أو كهنوتية؛ إذ كان من حق المعبد أن يكون مقرًا للعدالة وبالتالي كان الكهنة يستطيعون إصدار الأحكام، وكان القضاة في المحاكم المدنية لا يقلون عادة عن ستة أعضاء يحمل كل منهم لقب قاض، وكان من المعتاد تدوين الأحكام القضائية بمعرفة كاتب مختص بصورة موجزة تتلخص في إثبات وقائع القضية باختصار والشهود والتاريخ كما يضاف عادة اسم الكاتب وبعدئذ تختم وتودع النسخة الأصلية داخل غلاف تكتب عليه تفصيلات الوثيقة، وكان من حق المتقاضين الحصول علي نسخ منها. وفي عصر الكلدانيين كانت القضية تبدأ بشكوى تقدم إلى المحكمة

ويستدعى المدعى عليه للإدلاء بأقواله ثم ينطق بالحكم وإذا تعذر وجود نسخة منه كان يكتفى عند الضرورة بالقسم الذي يقسمه محرر القضية أو أحد الشهود فيها. ومنذ أقدم العصور كان شيوخ المدينة يمثلون محكمة لا تعرف اختصاصاتها؛ ولكن من الواضح أن اختيار أعضائها يتم بإرادة ملكية وقد تكون بعض النساء وخاصة الكاهنات من بين أعضائها ولكن هذه المحاكم لم تكن دائمة؛ بل كانت لفترات معينة فقط. وكان الشهود ضروريين عند تحرير عقود غير رسمية؛ وإلا يسقط حق المتخاصمين في الاحتكام إلى القضاء، وإذا لم يمكن فض النزاع بطريق ودِّي فإن أحد الطرفين يقدم شكواه فيستدعى المشكو في حقه أمام المحكمة وتفحص المستندات المقدمة وتسمع شهادة الشهود، وإذا لم تكن المستندات وافية أو لم توجد على الإطلاق؛ كان القاضي يطلب إلى الطرفين وإلى الشهود أحيانًا أداء اليمين، وكان اليمين يتم في المعبد عادة حتى وإن كانت القضية منظورة أمام محكمة مدنية؛ لأن القسم في أقدم العصور كان يؤدى باسم الآلهة، ثم أصبح فيما بعد يؤدى باسم الملك باعتباره أصبح مؤلهًا هو الآخر؛ كذلك كان القسم ضروريًّا بعد النطق بالحكم حيث يتعهد الخصوم أمام الآلهة باحترام الحكم واعتباره أمرًا نهائيًّا لا يقبل التعديل وقد تضاف فقرة إلى الحكم تنص على عدم استئناف الدعوى من جديد وعلى عقاب من يخالف هذا الحكم. ولم يكن هناك اختصاص معين لمثل هذه المحاكم بل كانت تحكم في كل شيء ويعتبر بعض أعضائها شهودًا وإن كانوا في واقع الأمر من

المحلفين فأسماؤهم تتردد في الأحكام المختلفة، ولكنهم مع ذلك هم الذين يحضرون تنفيذ العقوبات ويصدقون عليها. ولم تصلنا حتى الآن من آثار الأشوريين مجموعة من القوانين يمكن مقارنتها بقانون حمورابي من حيث التنوع في الموضوعات والأحكام؛ ولكن عثر على لوحات تتصل كل منها بقوانين تتعلق بموضوعات معينة ومن بين الوثائق التي عثر عليها وثيقة تنص على نحو "50" مادة تتعلق بالعقوبات التي تطبق في بعض الجرائم، كما وجدت وثيقة أخرى تختص بالقانون الذي يطبق في الريف؛ ولكنها لم تصل سليمة لسوء الحظ، كذلك وجدت وثيقة في حالة سيئة أيضًا؛ ولكن يفهم منها أنها كانت تتعلق بالمعاملات التجارية، هذا إلى جانب عدد من الوثائق الأخرى التي تعطينا فكرة عن التقاضي في عهد الأشوريين، ويتبين من هذه أن الحكم كان يصدره قاضٍ واحدٌ يقيم في المحكمة وفي بعض الحالات كان صاحب الحق يتولى تطبيق القانون بنفسه أو يتجاوز عنه أو يخففه دون الحاجة إلى الالتجاء إلى القضاء، وكان القانون الجنائي يتطلب إثبات الذنب ويحدد العقوبة؛ ولكن بعض الحالات الأخرى لم ترد فيها أحكام قضائية، مثال ذلك أن وثيقة تشير إلى أن الجاني قد منح مهلة لاستحضار شهود لتبرئة نفسه؛ وإلا يعد مذنبًا، كما أن وثيقة أخرى تدل على أن المختصمين قد وصلوا إلى اتفاق فلم يعد هناك مجال للنزاع.

الحياة الاقتصادية

الحياة الاقتصادية مدخل ... الحياة الاقتصادية أدرك سكان بلاد النهرين منذ أقدم العصور ما تمتاز به طبيعة بلادهم من خصب؛ فالسهول الفيضية لنهري الدجلة والفرات تجود فيها الزراعة متى بذلت فيها العناية بشئون الري والصرف؛ ولذا نجد أن عمليات القنوات والجداول وصيانتها كانت من أهم المشاريع التي عني بها الملوك منذ عصور ما قبل الأُسَرِ؛ فهي إلى جانب إمدادها الأراضي البعيدة بالمياه أو استخدامها للصرف بقصد إصلاح الأرض كانت ممرات مائية تيسر المواصلات وعمليات النقل؛ ولذا كان من المحتم صيانتها والعناية بها؛ ونظرًا لأن الأراضي التي كانت تسير فيها رخوة في كثير من الأماكن، وجوانبها هشة؛ فإن المحافظة عليها كانت تتطلب مجهودات كبيرة، وقد نصت القوانين على معاقبة كل من يهمل أمر هذه المحافظة ويعد مسئولًا عن الأضرار التي تحدث لغيره بسبب ذلك الإهمال، هذا وقد استعان المزارعون عند انخفاض منسوب المياه في المجاري المائية بالشادوف أو أدوات رافعة "سواقي" تديرها الثيران. وكانت المحاريث المستخدمة تجرها الثيران وهي شبيهة بالمحاريث الحالية وبعضها كان يزوَّد بما يشبه القمع لبذر البذور أثناء الحرث، وكان إيجار ثيران الحراثة محددًا، كما حدد القانون أيضًا مقدار التعويضات عن الحوادث التي تصيب هذه الماشية وعما تسببه من أضرار أيضًا، وبعد تمام الحصاد يؤخذ المحصول إلى أماكن الدرس حيث تقوم بهذه المهمة الثيران أو الحمير أو عربات تجرها الحيوانات، وقد حددت أجور كل منها كما حدد أجر

العامل الزراعي وإن كانت أجرة هذا الأخير تختلف باختلاف الفصول. وقد نظمت القوانينُ العلاقةَ بين ملاك الأرض والمستأجرين لها، كما نظمت العلاقة بين المنتفعين بهذه الأراضي وبين من يستأجرونهم من مزارعين ورعاة، وفي غالب الأحيان كان القانون يحمي صغار المزارعين وإذا أخرج مستأجر من الأرض قبل انتهاء مدة العقد كان المالك ملزمًا بدفع تعويض له. ويبدو أنه لم تحدث تغييرات كبيرة في الحياة النباتية أو الحيوانية التي عرفت في بلاد النهرين منذ أقدم العصور؛ حيث إن القمح والشعير قد وجدا بها كما وجدت بعض الحبوب الأخرى مثل: الدخن والسمسم، وما زالت هذه من الحاصلات المعروفة في بلاد النهرين حتى الآن، أما الأرز فيبدو أنه لم يعرف إلا من أواخر العصر الأشوري، ومع هذا فما زال الأرز يستورد إلى العراق من بلاد عديدة. وقد عرفت بلاد النهرين نوعين من الأراضي، أحدهما: يتمثل في أراضي الحقول التي كانت تزرع الحبوب وما شابهها والثاني: أراضي البساتين التي اشتهرت بزراعة الأشجار وقد نشأ فن زراعة البساتين منذ عصور سحيقة وكانت هذه تزرع بالخضراوات فيما بين الأشجار التي كان من أهمها: التين والرمَّان والتفاح والكُمَّثْرَى وغيرها. وقد جلب الأشوريون إلى العراق الزيتون كما جلبوا القطن؛ على أن أقدم شجرة عرفت هي النخلة وما زالت النخيل تحتل المكانة الأولى بين أشجار العراق ويعد البلح محصولها الرئيسي، والظاهر أن هذه النخيل كانت تنتشر في مساحات أوسع من المساحات التي تنتشر فيها الآن.

ومن الجدير بالذكر أن الأرض البُور كانت حقًّا لأول من يشغلها وتصبح ملكًا لمن يصلحها؛ ولكنها كانت في الواقع تخضع لحقوق الجيران فيما يختص بالري؛ أي أنه كان لا يجوز لمالكها أن يمنع وصول المياه إلى جيرانه أو أن يتسبب في الإضرار بمصلحتهم حتى ولو كان في ذلك مصلحته الشخصية، وكان للحاكم الحق في المرعى وباكورة الحصاد والهشيم واستخدام الرجال والحيوانات والعجلات في أعمال السُّخرة وخاصة في صيانة القنوات والطرق، كما أن المالك كان ملزمًا بأداء واجبه نحو المنافع العامة التي لا يعفى منها إلا بقرار يصدره الملك؛ كذلك كان الملك أحيانًا يمنح بعض الملاك بعض الامتيازات مثل عدم تحصيل الضريبة عن الأرض، وعدم استدعاء رجال الإقطاعية للسخرة، ومن جهة أخرى كان الحاكم لا يستطيع أن يخرج من إقطاعيته مزارعًا أو أن يستولي على أخشاب أو حشائش أو محاصيل أو حيوانات أو عمال مالك آخر، كما لا يجوز أن يسحب ماء من قناة الري إذا كانت مياهها غير كافية. وكانت القبائل التي حلت في مناطق مختلفة قد استقرت فيها وأقامت لها مدنًا وقرى، وبالطبع امتلكت جزءًا من الأراضي التي كانت مقسمة إلى قطع يستغلها الأفراد، وقد أمكن بالطبع لبعض الأفراد والهيئات أن يكونوا ملكيات كبيرة كما أن المعابد كانت تمتلك حقولًا وأراضي واسعة، وكثيرًا ما كان الفقير عرضة لجشع الغني الذي كان يطمع في زيادة رقعة أملاكه، وغالبًا ما كان الأغنياء يتمكنون من ذلك عن طريق الشراء، وحينما أصبحت المقاطعات خاضعة للمملكة انتقلت ملكيتها إلى الملوك وكان رؤساؤها هم الذين يوافقون على البيع وتدفع لهم التعويضات وهذه

الإقطاعيات التي كونها الملوك كانت تمنح للمقربين من رجاله بصفة نهائية ويمكن توارثها. ومن المعروف أن بلاد النهرين لم تقتصر على الزراعة وحدها؛ بل وجدت بها مراعٍ كثيرة، وهذه لم تكن في حاجة إلى عناية أكثر من إمدادها بالماء وقطع كَلَئِهَا أحيانًا، وكان الملاك يستأجرون رعاة لرعي حيواناتهم وهؤلاء كانوا يحصلون على أجور ثابتة وإن ضاعت من أحدهم بعض تلك الحيوانات كان لزامًا عليه أن يأتي بغيرها على حسابه، وكثيرًا ما نصت الاتفاقيات على أن يزيد الراعي عدد الحيوانات، وإن باع منها لمصلحته أو سرق شيئًا منها كان مكلفًا بدفع تعويض قد تصل قيمته إلى عشرة أمثال ما تصرف فيه، أما إذا حلت بالقطيع كارثة خارجة عن إرادته؛ فعليه أن يثبت ذلك وإلا كان عليه أن يعوض الخسارة على حسابه. وكانت الإقطاعيات لا تقتصر على الأرض الصالحة للزراعة والمراعي فحسب؛ بل كانت تشمل كذلك ما فيها من حدائق ومبانٍ وعبيد أيضًا فكانت ملكيتها تنتقل بما حوت من مالك إلى آخر كما أنها أيضًا كانت تقدم بأكملها كرهن لضمان القروض، ولم يكن غريبًا أن يملك المزرعة أحيانًا عدة أشخاص على المشاع، وكان من الممكن أن يعارض بعض الأشخاص في حيازة مالك من الملاك وفي هذه الحالة كان لا بد من أن يحتكم أمام هيئة مكونة من ممثل للملك وكاتب المدينة وبعض الحكام والشيوخ والأعيان، وكان لا بد أيضًا لكل فريق من المتنازعين أن يدلي بحججه ويقدم الإثباتات أو المستندات الدالة على صحة دعواه وكان تخلف المدعي عن حضور هذه الجلسات يفقده حقوقه، فيعرض منادي المدينة العقار في المزاد.

وكان توسيع رقعة الإقطاعية على حساب الجار يعرض القائم بذلك لعقوبة شديدة كما أن تعديل الحدود الصغيرة كان يعرض للعقوبات أيضًا، وكذلك كان الحال بالنسبة لحفر جدول في أرض الغير أو استغلالها أو بدء البناء عليها.

الصناعة

الصناعة أمدت البيئة بلاد النهرين ببعض المواد الأولية التي استغلت في الصناعة، وأول هذه المواد بالطبع كان الطمي الذي صنعت منه الأواني وكانت هذه في أول أمرها تصنع باليد ثم أصبحت تصنع بعد ذلك بالعجلة وقد تنوعت أشكالها على حسب الأغراض التي استخدمت فيها فمنها: أواني الشرب وكانت مخروطية الشكل، والصحاف لوضع الطعام، والأوعية المخصصة لحفظ ونقل السوائل، ونظرًا لصعوبة الحصول على الأحجار وصعوبة حفرها كانت الأواني الحجرية رمزًا للترف وكانت تحفظ عادة في المعابد وكثيرًا ماكانت تزين بنقوش دينية. وقد استخدم الطمي كذلك في عمل لوحات الكتابة حيث كان يكتب عليها قبل أن تجف، وفي بعض الأحيان كانوا يجعلون لكل لوح غلافًا من الطمي أيضًا- وكثيرًا ما كانوا يقومون بحرقها لتصبح أشد صلابة بتحولها إلى فخار. ومن الجدير بالذكر أن معرفة الحفر على الحجر منذ أقدم العصور أدى إلى نشاط صناعة الأختام الأسطوانية وقد ظلت هذه تستخدم في معظم العصور القديمة وتنوعت موضوعاتها والأساليب الفنية فيها حتى أمكن

التمييز بين الأنواع السائدة في الفترات التاريخية المختلفة. ونظرًا لعدم وجود الأحجار الثمينة من جهة والصلبة من جهة أخرى؛ لَجَأَ أهل بلاد النهرين إلى استعمال الخزف في كثير من الأغراض حتى إنهم استعملوا الطوب الخزفي في تكسية جدران بعض المباني العامة وتزيينها، كذلك نجد أنهم كانوا يستعملون أحيانًا بعض الأواني المعدنية؛ وخاصة من النُّحاس والفضة، وقد برعوا في الصياغة واستخدموا في ذلك الذهب والفضة والأحجار الثمينة كما امتازت بعض مصنوعاتهم الخشبية بما كان فيها من تطعيم بالذهب والفضة والبرونز والأحجار الكريمة، كما أنها كانت تكسى أحيانًا في بعض المواضع بصفائح من الذهب. والظاهر أن خام البترول "الأسفلت" قد عرف من أقدم العصور وكان يستخدم مختلطًا بالطين أو القش كنوع من الملاط، وكان أحيانًا يستعمل وحده دون أن يكون مخلوطًا، وليس معنى هذا أنهم لم يعرفوا سواه؛ بل توصلوا إلى ملاط من الجير أيضًا. وكانت الحرف والصناعات المختلفة تخضع لنظم معينة وبعضها على الأقل كانت تحت رقابة دقيقة؛ فعملية النسيج كانت تتم تحت رقابة رؤساء عمال يعينهم الملك، وقد حدد حمورابي الأجور اليومية للعمال كما حدد أتعاب عامل المعمار والمبيض ونص على العقوبات التي تفرض على من يخطئ في تنفيذ المطلوب منه. ويفهم من قانون حمورابي أيضًا أن تعليم الصناعة كان يخضع لنظم معينة؛ فإذا ما أخذ رجل صبيًّا إلى بيته لتربيته وتعليمه حرفة

ليجعل منه صانعًا جيدًا؛ فإنه لا يجوز لوالدي الصبي أن يطالبا برده؛ إلا إذا كان الصبي لم يتعلم شيئًا، وكان من الممكن كذلك أن يعهد إنسان بعبده إلى رجل آخر ليتعلم منه حرفته، وإن أهمل المعلمُ تعليمَ صبيٍ حرفتَه على الوجه المرضي؛ فإنه يلزم بدفع تعويض ولا يستحق أجرًا على ما بذله في تعليمه من جهد على اعتبار أنه أفاد من عمل الصبي. وكثيرًا ما كانت النتيجة أن يجد المعلم نفسه مضطرًا لدفع التعويض، وكان يفعل ذلك عن رضًا؛ لأنه كان ينتفع بخدمات الصبي.

المواصلات والتجارة

المواصلات والتجارة اشتهر أهل بلاد النهرين منذ القدم بنشاطهم التجاري مع الشعوب المجاورة، وقد أثروا بطرقهم ومعاملتهم التجارية في تلك الشعوب؛ حتى أخذت عنهم كثيرًا من أساليب التجارة ومصطلحاتها وبعض أسماء المكاييل والموازين التي استخدموها. وربما كانت الحاجة إلى المواد الخام الضرورية وتصريف الفائض من منتجات الزراعة والصناعة هي التي دعت إلى هذا النشاط؛ خصوصًا بعد أن نشطت الفتوح الخارجية، وحاول الملوك تكوين إمبراطوريات لهم، ويمكننا أن نتتبع بعض الشئون المتعلقة بالتجارة من دراستنا للقوانين والشرائع المتعلقة بها حيث يظهر أن جزءًا كبيرًا من المواد القانونية قد خصص لتنظيم التجارة وأنواع المعاملات المختلفة؛ ففي قانون حمورابي نجد "120" مادة تتعلق بالمعاملات والشئون التجارية من مجموع مواد هذا القانون التي يبلغ عددها "282" مادة، ومثل ذلك يقال أيضًا عن شرائع أخرى غير

قانون حمورابي، ومما نلاحظه في هذا الصدد أن تلك المواد عنيت بتحديد الأسعار وأجور المهنيين وأجور السفن والأجور التي تستحق على الأعمال المختلفة، ومن الغريب أن هذه المواد لم تهمل شأن الشركات؛ بل تناول بعضها كل ما يتعلق بتلك الشركات من نقل البضائع وإيداع الأموال والعمولة والمتاجرة لحساب الغير التي لم تكن قاصرة على المتاجرة لأصحاب رءوس أموال في داخلية البلاد فحسب؛ بل كثيرًا ما كان العملاء يقومون بهذه المتاجرة لأصحاب رءوس أموال في الخارج، ولم تكن التجارة قاصرة على الرجال وحدهم؛ بل كان للمرأة نصيب فيها حيث نصت القوانين على تمتعها بحرية التجارة. ومن البديهي أن طرق المواصلات ووسائلها أهم دعامات التجارة وهي خير وسيلة لازدهارها، وقد اهتم ملوك بلاد النهرين بتأمين هذه الطرق؛ وخاصة في المناطق التي تقطنها قبائل مثيرة للمتاعب؛ حيث إنهم كانوا يشنون الحملات الحربية لإخضاع تلك القبائل ويشيدون الحصون والقلاع لضمان المحافظة على الأمن فيها وأنشئوا نظامًا للبريد، وأقدم ما وصلنا عن هذه المواصلات نموذج لقارب يرجع إلى عهد ما قبل الأُسَرِ، وبالطبع كان وجود البحر بالقرب من سكان جنوب بلاد النهرين سببًا في مهارتهم في الملاحة. ولو أن وجود النهرين والقنوات العديدة التي شقت لتسهيل الري والصرف كان سببًا كذلك في استخدام أنواع مختلفة من المراكب، ومنها أنواع ما زالت تستخدم إلى الآن -ويجدر بنا هنا أن نذكر بأن المواد التي استخدمت في صنع هذه المراكب كانت مما تجود به البيئة؛ فالجلود

المنفوخة والقفة1 كانتا تستخدمان لعبور النهر والمجاري المائية الداخلية. وتشير بعض النصوص إلى طريقة صنع السفن كما تشير إلى أنواعها وحمولتها وسعتها وأسمائها المختلفة. أما عن النقل بالبر فقد عرفت العربات من عصور ما قبل التاريخ "شكل 47" وكانت هذه تستخدم في نقل المواد الأولية التي كانت تأتي من جهات بعيدة حيث إننا نجد أن الكثير من مخلفات حضارة بلاد النهرين "شكل 47": نموذج من البرونز لمركبة تجرها أربعة حمير.

_ 1 أسطوانة من البردي أو سعف النخيل المجدول مغطاة من الخارج بالقار وما زالت تستعمل إلى الآن في بعض أنحاء العراق.

تتضمن مصنوعات من أحجار ومعادن ثمينة لا توجد في بلاد النهرين نفسها؛ فقد استورد النُّحاس من جزيرة العرب "عمان والبحرين" التي جلب منها كذلك بعض الأحجار المستخدمة في المباني وصناعة التماثيل، وكان القصدير المستخدم في صناعة البرونز يجلب من شرق إيران ومن سورية ومن آسيا الصغرى، كما كانت الفضة والرَّصاص تجلبا من طوروس والأخشاب من سورية وبعض الأحجار الكريمة من أفغانستان والأصداف من الخليج العربي. ومما يدل على أن أهل بلاد النهرين وصلوا في تجارتهم إلى أماكن بعيدة ما عثر عليه من آثار في آسيا الصغرى تدل على وجود جالية أشورية في منطقة كبادوكيا حيث عثر على عدد كبير من الألواح الطينية والأختام الأسطوانية التي استعملت في المعاملات التجارية، ويتبين منها أن مراكز أخرى في الأناضول كانت تتبع هذه الجالية التي كانت ترتبط بمدينة أشور، وقسم كبير من هذه اللوحات عبارة عن الرسائل المتبادلة بين تجار هذه الجالية وبين أشور، ومنها ما يعطينا بعض المعلومات عن تنظيم القوافل التجارية وتمويلها وتسلم البضائع وطرق السفر وخطابات الاعتماد للمندوبين، ومن المرجح أن هذه الجالية الأشورية قد خلفت مستعمرة تجارية أكدية قديمة، وقد استمرت بعض الشركات التجارية في أماكن أخرى خارج العراق بضعة أجيال متعاقبة، ومن المحتمل جدًّا أن سرجون الأكدي قد قام بحملة حربية إلى الأناضول لحماية المستعمرة التجارية الأكدية التي نشأت هناك للاتِّجار في الصوف والفضة. وربما كان أول قانون تجاري صرف هو الذي ظهر في المستعمرة

التجارية التي أسسها الأشوريون في وسط الأناضول وقد سبق أن أشرنا إلى هذا القانون عند الكلام على القوانين الأشورية "انظر أعلاه ص226"، هذا إلى جانب العديد من العقود والوثائق والمستندات التجارية التي عثر عليها في مختلف الأماكن الأثرية ببلاد النهرين، وهي تدل على أن المعاملات التجارية لم تكن لتعد قانونية ملزمة؛ إلا إذا كتبت بأسلوب قانوني، والظاهر أن العناية بضبط الأوزان والمكاييل كانت سائدة إلى درجة أن دائرة خاصة كانت تشرف عليها لأن نماذج من هذه الأوزان عثر عليها وقد سجل على كل منها بكتابة رسمية مقدار وزنها. ومن المرجح أن وحدة للقيمة كانت تتخذ أساسًا للتبادل وقد حددت هذه الوحدة بوزن معين من الفضة؛ ولكن لم يعثر على مثل هذه الوحدة إلى الآن، وكان تقسيم المقاييس والموازين مبنيًّا على أساس ستيني "أي أجزاء من العدد ستين ومضاعفاته"، وفي عصر متأخر نسبيًّا وجدت بعض القطع المعدنية من النُّحاس والفضة والذهب في هيئة صفائح صغيرة أو حلقات أو أقراص مثقوبة لها أوزان معلومة سجلت عليها هذه الأوزان، وربما كان ذلك هو بدء فكرة النقود التي يحتمل أنها أخذت تسود العالم القديم في نفس الوقت تقريبًا1. وكان التبادل هو الأصل السائد في التجارة، وبمقتضاه تنتقل ملكية سلعة من شخص إلى آخر مقابل سلعة أخرى يتسلمها الطرف الأول من الطرف الثاني، وكثيرًا ما كانت قيم الأشياء المستبدلة غير متكافئة وفي هذه الحالة كان على صاحب الكفة الراجحة أن يدفع ما يعادل تعويض الفرق، وفي حالة

_ 1 من المرجح أن فكرة النقود نشأت عند قيام الإمبراطورية الفارسية.

نقض الاتفاق كان المتسبب فيه قد يدفع تعويضًا عن ذلك، وبعد أن اتخذت وحدة للقيمة كأساس للتعامل أصبح من الممكن إتمام عمليات البيع والشراء بمقتضاها دون الحاجة إلى تبادل سلعة بأخرى. وفي حالة التعامل التجاري فكما سبق أن قلنا أنه لا يصبح ملزمًا؛ إلا إذا كتب بأسلوب قانوني، وكان المعتاد في هذه الحالة أن يحرر عقد تثبت فيه ثلاثة عناصر رئيسية هي: بيان بالشيء المباع وأسماء الطرفين والثمن الذي يدفع أو إيصال بالدفع الفوري. وكثيرًا ما كان المشتري يأخذ ضمانًا من البائع على عدم وجود عيب فيما اشتراه من شأنه إلغاء العقد؛ وخاصة فيما يتعلق بالعبيد وكانت مدة الضمان تحدد برضا الطرفين؛ كذلك كان من المألوف أن يحرر العقد بحضور شهود من أسرة البائع أو من أسرة الطرفين معًا، ومن الخبراء والكتاب ورجال الأعمال والموظفين المختلفين وهؤلاء كانوا عادة يتسلمون بعض الهدايا بعد إتمام الصفقة التي كانت توثق بعقد يختم بخاتم يعمل لهذا الغرض. وإذا كان المباع عقارًا؛ كان على البائع أن يسلم مستند ملكية العقار إلى المشتري وأن يبين ما أدخل عليه من تعديلات منعًا لحدوث الخطأ. ولم تهمل القوانين ما يرتبط بالتجارة من نواحٍ اقتصادية أخرى؛ فقد نظمت عمليات استئجار العقارات والحيوانات والعربات والقوارب والعمال الزراعيين والقروض والرهون والضمانات والودائع وغيرها. وفي العهد الأشوري كانت الاتفاقيات الخاصة تبدأ ببيان أختام المتعاقدين، ولم يكن من المعتاد وضع أختام الشهود على هذه الأختام، وإذا لم يكن لدى المتعاقد ختم كان يبصم بإبهامه ويغرس ظفره في الطمي، وكان نص

الوثيقة يحرر في أسلوب غير شخصي ثم تنتهي بقائمة الشهود والتاريخ. وإذا ما أراد الكاتب أن يذكر اسمه؛ فإنه يضعه في نهاية قائمة الشهود، وكان البيع يتم مقابل فضة أو رَصاص أو برونز ويدفع الثمن فورًا وإن لم يتسلمه المشتري؛ فإنه كان يأخذ صكًّا يعترف فيه البائع بالدين، وكانت الجزاءات تحدد على من يقيم أي نزاع بشأن هذا التعاقد، وقد ينص على أجر مقابل توثيق العقد "ختمة" إلى جانب المبلغ الأصلي للبيع. ولم تكن قيمة الأراضي الزراعية تقدر حسب مساحتها؛ وإنما حسب كمية الحبوب اللازمة لزراعتها وكانت القيمة تتضمن أيضًا كل ما يرتبط بالأرض من عبيد وطيور ومبانٍ وحدائق، ومن الطريف أن تمالك القوى العقلية كان أساسًا في عملية البيع حيث نص القانون على أن الصرع عيب يلغي البيع، وكان على المشتري أن يتبين وجوده لدى البائع خلال مائة يوم -عصر حمورابي يعطي شهرًا- وفي هذه الحالة يحق له أن يلغي العقد، أما إذا تبينت الإصابة بهذا المرض عقب تلك الفترة؛ فإنها تعد حديثة ولا يترتب عليها إلغاء العقد، وقد وجدت عقوبات محددة على البائع عند رجوعه عن الصفقة؛ لأن ذلك كان يعد خطيئة في نظر الآلهة حيث إن العقد كان يتضمن نوعًا من القَسَم ولو ضمنيًّا على الأقل. وقد جرت التقاليد في كثير من الأحيان أن يذيل الكاتب عقود البيع بعبارة تقليدية هي دفع المبلغ بالتمام. ولا تختلف القوانين الأشورية فيما يتعلق بالشئون الأخرى المتعلقة بالتجارة عن القوانين البابلية؛ حيث إنها كانت تنص على إجراءات مماثلة فيما يتعلق بالتبادل والقروض والرهون والضمانات.

العلوم والآداب

العلوم والآداب بدأت الكتابة في بلاد النهرين كما بدأت في جهات أخرى من الشرق الأدنى بالتعبير عن الشيء بصورته، وقد استمرت هذه المرحلة التصويرية في الكتابة فترة ثم أخذت بعد ذلك أشكالها تختصر ويقل عدد المستعمل منها تدريجيًّا إذا أصبحت الصورة تعبر لا عن الشكل المرسوم فحسب؛ بل عن كل ما يرتبط به من معانٍ أيضًا؛ إلا أن ذلك أدى إلى صعوبة تأويل ما تدل عليه هذه العلامات، وقد أمكن تذليل هذه الصعوبة بالاصطلاح على معانٍ محددة لتلك الصور، ثم استعملت هذه الصور في كتابة ما تدل عليه من أصوات للتعبير عن الأفعال والأمور المعنوية فأصبحت كل منها ترمز إلى نطق معين يدل على كلمة، ومن هذه المرحلة الرمزية أمكن التوصل إلى جعل معظم الرموز تعبر عن مقاطع لفظية، أي أن التعبير بالكتابة في بلاد النهرين سار في نفس الطريق الذي سار فيه التعبير بالكتابة لدى المصريين؛ إلا أن هؤلاء الأخيرين توصلوا -فضلًا عن ذلك- إلى استخدام حروف هجائية بينما لم تصل الكتابة في بلاد النهرين إلى مثل هذه المرحلة. ونظرًا لأن أهل بلاد النهرين قد استعملوا ألواحًا من الطمي للكتابة عليها بقلم مثلث؛ فإنه كان من العسير رسم الخطوط المنحنية واستعيض عنها بما يقاربها من خطوط مستقيمة، كما أن الخطوط التي كانت ترسم بذلك القلم تتخذ في نهايتها شكلًا يشبه رءوس المسامير؛ ولذا أصبح يطلق على كتابة بلاد النهرين اسم: الكتابة المسمارية، وقد انتشرت هذه الكتابة في أنحاء كثيرة من بلاد الشرق الأدنى القديم؛ فقد استعملها الحيثيون والعيلاميون والحوريون

والميتاينون في كتابة لغتهم وظلت هذه الكتابة مستعملة إلى العصر المسيحي. وقد ظلت العلامات المستخدمة كرموز تدل على كلمات جنبًا إلى جنب مع العلامات المستخدمة كمقاطع صوتية؛ فكان عدد العلامات المستخدمة لا يقل عن "600" علامة تقريبًا، منها نحو "150" علامة فقط هي التي كانت تستخدم استخدامًا صوتيًّا بحتًا، وعلى ذلك لم يكن من السهل معرفة هذه الكتابة؛ إلا بدراستها وتحديد المقصود من علاماتها المختلفة، وقد بُدئت محاولات في ذلك منذ أقدم العصور حيث عثر على قوائم ترجع إلى عصر فجر الأُسَرِ، بها العلامات المسمارية وقيمتها الصوتية ومعانيها، وربما كانت هذه أقدم المعاجم التي عملها الإنسان. وكان لنجاح هذه الخطوة أثره؛ إذ تنوعت المعاجم فيما بعد حيث وصلتنا معاجم لغوية تتناول مفردات ومصطلحات وجمل سومرية وما يقابلها في البابلية؛ كذلك وجدت معاجم تتناول أسماء الحيوان والنبات والأدوات المصنوعة من مواد مختلفة وأسماء الأشجار وأجزائها وثمارها وأسماء المنشآت المعمارية وغيرها. وتدل شواهد الأحوال على أنه -إلى جانب المدارس الخاصة بالمعابد- كانت هناك مدارس خاصة للتعليم، وأول ما كان يتعلم الطالب فيها هو الخط أو الكتابة المسمارية ثم يتدرج بعد ذلك إلى تعلم اللغة وقواعدها. وفي العهد البابلي وما بعده كان على الطالب أن يتعلم لغتين السومرية والبابلية؛ ولذا كان التعليم يستغرق وقتًا طويلًا وخاصة إذا أراد الطالب أن يكون

كاتبًا ممتازًا وإلى جانب هذا التعليم العام كان بعضهم يتخصص في مختلف فروع الثقافة العليا: كالطب والفلك والقانون والموسيقى والعلوم الرياضية في معاهد خاصة. وفضلًا عن ذلك كانت هناك مؤسسات خاصة أشبه بالمكتبات ودور السجلات لحفظ الكتب والوثائق، وبعضها كانت تلحق بالمعابد الشهيرة والقصور الملكية، ومثل هذه عثر عليها في أنقاض قصر الملك آشور بانيبال، وكانت تحوي مئات الألوف من ألواح الطين المدونة بمختلف نواحي المعرفة والعديد من السجلات والوثائق التاريخية وهي تلقي ضوءًا كبيرًا على حضارة بلاد النهرين وتاريخها، والظاهر أن هذا الملك كان قد جمعها من مختلف المدن إلى جانب ما نسخه عن أصول قديمة. كذلك عثر في "تل حرمل" بالقرب من بغداد على أكثر من "300" لوح كتبت في مختلف أنواع المعرفة ويظهر أنها كانت موضعًا لحفظ السجلات والوثائق أو مكان مدرسة. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن مادة الكتابة في بلاد النهرين -ألواح الطين- لم تكن مادة يسيرة الحفظ؛ بل كانت سريعة التعرض للتلف؛ ولذا كان من المعتاد وضع الألواح بعد كتابتها في أغلفة من الطين؛ كما أنه لم يكن من الميسور أيضًا عمل ألواح كبيرة الحجم منه؛ ولذا كانت معظمها صغيرة الحجم، وكثيرًا ما كانت تتعرض للكسر عند إخراجها من أغلفتها، ولذا تبعثرت هذه الألواح وتشتت أجزاؤها؛ فقد يعثر على جزء من لوح في مكان؛ بينما يوجد ما يكمله في أماكن أخرى حتى إنه أصبح من المألوف أن توجد أجزاء من هذه الوثائق في بعض المتاحف ويوجد ما يكملها في متاحف أخرى.

ومما يسترعي النظر أن الخط المسماري مر بمراحل تشبه إلى حد ما المراحل التي مر بها الخط الهيروغليفي؛ إذ إنه إلى جانب هذا الخط وجد الخط الآرامي الذي كتبت بحروف هجائية قبل الميلاد ببضعة قرون، ونظرًا لسهولة هذا الخط الأخير نسبيًّا ولانتشار الآرامية بسبب نشاط الآراميين التجاري؛ فإن هذا الخط أخذ يحل محل الكتابة المسمارية؛ ومع هذا فقد ظلت هذه الكتابة منتشرة إلى بداية التاريخ الميلادي ولكنها هجرت بعد ذلك ولم يعد أحد يعرفها وظل الحال كذلك إلى القرن التاسع عشر؛ فقبل بداية هذا القرن بدأ كثير من السياح يفدون إلى الشرق ونقل بعضهم عددًا من ألواح حجرية مكتوبة وبعض الألواح الطينية، وعكف بعض الباحثين على محاولة تفهمها وحل رموزها، وكما أمكن حل الهيروغليفية من حجر رشيد إذ كان مكتوبًا بثلاث لغات كذلك وجدت آثار في "برسيبوليس" عاصمة الفرس الإخمينيين بثلاث لغات هي الفارسية القديمة والعيلامية والبابلية مع فارق واحد أن اليونانية التي كتبت على حجر رشيد كانت معروفة للباحثين؛ بينما لم تكن أي من اللغات المدونة في برسيبوليس معروفة في ذلك الوقت؛ ولكن نظرًا لأن الكتابة الفارسية كانت أقل الكتابات عددًا في علاماتها وأقل تعقيدًا في شكلها فقد ركزت الجهود على حلها وأمكن التوصل فيها إلى اسمي ملكين من ملوك فارس ثم عرفت مفردات أخرى من هذه اللغة، وبعد ذلك تمكن العلماء بالاستعانة بما أمكن معرفته من هذه اللغة في حل رموز اللغة البابلية، وأمكن التوصل فعلًا إلى معرفة مفردات منها وجزء من علاماتها، ثم تتابعت جهود العلماء؛ فازدادت المعرفة باللغة البابلية، وبلغ من دقة ما توصلوا إليه أنه أجرى للعلماء في مختلف الأقطار شبه امتحان حيث قدمت لكل منهم نسخة من نص

لم يكن معروفًا من قبل وعندما فحصت ترجماتهم له وجدت متطابقة في معناها مما بعث الاطمئنان إلى صحة المعلومات التي عرفت عن هذه اللغة ومن ثم أخذ علم الآشوريات يزداد توسعًا وانتشارًا، ومما ساعد على سرعة فهمها أنها كلغة سامية تتشابه في نحوها وفي بعض مفرداتها مع اللغات السامية الأخرى المعروفة مثل العربية والعبرية، وعن طريق حل رموز اللغة البابلية أمكن التعرف على اللغة السومرية؛ إذ وجدت بعض الكتابات المسمارية التي كانت أشبه بمعاجم لشرح الكتابات السومرية باللغة البابلية كما سبق أن أشرنا. وقد ساعد حل رموز اللغة على التعرف على تاريخ بلاد النهرين من مصادره الأصلية؛ ولكن صادفت المؤرخين صعوبات كثيرة في هذا السبيل لعل من أهمها عدم وجود حادث أساسي تؤرخ الحوادث بالنسبة إلية كما هو الحال بالنسبة للتواريخ المعمول بها الآن مثل: ميلاد المسيح والهجرة؛ إلا أن ملوك بلاد النهرين كانوا يعمدون إلى اتخاذ حادثة معينة شهيرة أساسًا لتأريخ الحوادث في سنة وقوع هذه الحادثة الشهيرة، وظل الحال كذلك إلى نهاية عهد الأسرة البابلية الأولى تقريبًا ثم عدلوا عن ذلك إلى تأريخ الحوادث بالنسبة إلى عهد الملوك، وظل الحال كذلك إلى العهد السلوقي؛ وإن كان الأشوريون قد استخدموا طريقة أخرى في التأريخ حيث كانوا ينسبون السنين إلى عظماء رجال الدولة الذين عاشوا فيها ابتداء من الملك نفسه؛ فكانوا يجمعون حوادث كل ملك في ثبت خاص متسلسل ابتداء من اعتلائه العرش، وقد أضافوا إلى ذلك بعض الملاحظات التاريخية والتعليقات الخاصة بها في نظام أشبه بنظام الحوليات، ومن ذلك

مثلًا أنهم ذكروا كسوفًا للشمس أمكن بالحساب الفلكي تحديد وقت حدوثه بدقة في 15 يونيو 763 قبل الميلاد، وكان هذا من الأمثلة التي ساعدت على ضبط تاريخ الأشوريين بالنسبة للتاريخ الميلادي، كما ساعد على ضبط تاريخ بلاد النهرين عامة، ومما ساعد على التعرف على تاريخ بلاد النهرين أن بعض الكتاب والمؤرخين القدامى تركوا قوائم بأسماء الملوك السابقين وتتابعهم وقسموها إلى أُسَرٍ حاكمة1، وإلى جانب هذه ترك البابليون والأكديون كتابات أخرى تاريخية تشيد بأعمال الملوك والأمراء، كما أن ملوك الأشوريين اعتادوا أن يدونوا أخبار حروبهم بهيئة رسائل يرسلونها إلى كبير الآلهة؛ فمثلًا يبدأ الملك سرجون الثاني رسالةَ إلى الإله أشور بتحية هذا الإله وتحية الآلهة الآخرين، كما يحيي المدينة وسكانها ثم يسرد أخبار حملته بالتفصيل كتلك التي قام فيها بغزو أرمينيا وهكذا. وقد عني مؤرخو الأشوريين بتدوين الحوليات الخاصة بالملوك مرتبة حسب سني حكمهم أو على حسب العهود الدورية التي كانت تنسب إلى عظماء رجال الدولة، ومن هذه الحوليات أمكن جمع تاريخ وافٍ لأشور، ولم تقتصر المصادر التاريخية على ذلك؛ بل نجد أن البابليين في عهد الدولة البابلية الجديدة قد عنوا بكتابة تاريخ العصور السابقة حتى تناولوا حوادث سبقت زمنهم بنحو ألفي عام، وهكذا نجد أن التدوين التاريخي في بلاد النهرين كان موضع عناية في مختلف عصورها. ولم يقتصر اهتمام أهل البلاد على المعارف التاريخية وحدها بل

_ 1 انظر كتاب: معالم الشرق الأدنى القديم، للمؤلف "ص347" وما بعدها.

فكروا في مختلف النواحي العلمية، ومن أهم ما عنوا به محاولة التعرف على الكون ومكان بلادهم منه وما حواه من بلاد أخرى، وقد اعتقدوا أن الأرض شبيهة بالسماء؛ فهي كنصف كرة مقلوبة تعلوها السماء التي تتكون من ثلاث طبقات أو سبع طبقات ويحيط بالسماء البحر أو المحيط السماوي؛ كذلك قسموا الأرض إلى ثلاث طبقات أو سبع أهمها الطبقة العليا التي يسكن فيها البشر والطبقة الوسطى وهي منطقة المياه والطبقة السفلى وتسكنها أرواح الموتى، كما جعلوا لها أركان في الجهات الأربعة الأصلية. وبازدياد النشاط التجاري والفتوح الخارجية تعرفوا إلى مناطق مختلفة ووصلوا إلى أماكن بعيدة فعرفوا قوائم مطولة بأسماء المدن والبلدان والأنهار وغيرها من المعالم الجغرافية في بلادهم وفي الأقطار المجاورة؛ بل وتحوي بعض مؤلفاتهم في هذا المضمار إضافات لتفسير أسماء بعض الأقاليم والمدن وأسماء المعابد كما تحوي بعضها كذلك معلومات أخرى مفيدة مثل: تعداد المدن وتعريف المسافات فيما بينها، ومما يدل على تقدمهم في النواحي الجغرافية ما عثر عليه من نصوص تبين طرق مسح الأراضي وتخطيطها ورسم الخرائط لبعض المدن، وتعد الخريطة التي عثر عليها لمدينة "نفر" من أقدم الخرائط المعروفة وهي من الدقة بحيث ساعدت المنقبين على التعرف على الأماكن المهمة التي كانت في تلك المدينة، وقد وجدت كذلك خرائط لمدن أخرى؛ كذلك عثر على محاولة لرسم خريطة للعالم المعروف لديهم وهي تصور الأرض في هيئة دائرة يخترقها نهر الفرات في الوسط وهو يأتي من الجبال الشمالية ويصب في

منطقة الأهوار في الجنوب، وقد حدد مكان بابل بالقرب من مركز هذه الدائرة كما عينت أماكن بعض البلدان الأخرى في هيئة دوائر صغيرة بالنسبة لبلاد النهرين وفي هيئة مثلثات خارج الدائرة بالنسبة للأقطار الأجنبية، ويحيط باليابسة في هذه الخريطة البحر المالح الذي تخرج منة ثماني جزر بينت المسافات بينها بالساعات البابلية "انظر شكل 48". "شكل 48": خريطة للعالم يبين بها موقع بابل كنقطة قريبة من مركز الدائرة. ولا بد أن العلوم والمعارف قد نشأت في بلاد النهرين كما نشأت في غيرها من بلاد العالم القديم لتحقيق أغراض عملية، ولعل الحاجة لضبط حسابات المعابد وغيرها من الأمور الاقتصادية هي التي حتمت معرفة

الأعداد ثم تدوينها، ومن ذلك نشأت الرياضيات، وقد بدأت بالعمليات الحسابية البسيطة دون شك، ومما ساعد على تقدم الرياضيات في بلاد النهرين نشاطها التجاري مع البلدان المجاورة من جهة ومن جهة أخرى حاجتها للأعمال المتعلقة بتنظيم شئون الري وشق الطرق لتيسير التجارة؛ إذ إن هذه الأمور دعت إلى ظهور الموازين والمكاييل والمقاييس المختلفة وحساب المعاملات التجارية وأرباحها والتعرف على خواص الأشكال الهندسية، وقد وجدت بعض المصنفات الرياضية كجداول الضرب وجداول معكوس الأعداد ورفعها إلى قوى مختلفة "الأس" وجذورها، كما وجدت بعض المسائل والقواعد الرياضية التي تحل على أساسها؛ كذلك عرفوا بعض النظريات الهندسية التي تتعلق بتشابه المثلثات ومساحاتها "شكل 49"، وعرفوا الكسور -وإن كانوا قد استخدموا الطريقة الستينية- بدلًا من الطريقة العشرية، وتوصلوا إلى حساب مساحات وحجوم بعض الأشكال وعرفوا خواص الدوائر وغير ذلك من الرياضيات الراقية. ومن الأمور التي اهتم بها أهل الحضارات القديمة عامة وأهل بلاد النهرين بصفة خاصة علم الفلك، وقد بلغ من شهرتهم فيه أن كثيرًا من المؤرخين أصبحوا يعتقدون بأن البابليين هم الذين أسسوا هذا العلم، وقد حظي علم الفلك بين البابليين بشهرة عظيمة لدى الإغريق حتى أخذوا عنه؛ إذ إن أهل بلاد النهرين عنوا منذ أقدم العصور بتدوين ملاحظاتهم عن الأجرام السماوية، وربما كانت حاجتهم إلى ضبط الفصول والتقويم هي السبب في نشأة هذا العلم لديهم وإن كان البعض يظن بأنه نشأ من التنجيم الذي بدأ بمعرفة تأثير النجوم في طبائع البشر والتكهن بمصائرهم،

"شكل 49": لوح عليه نظرية هندسية. ومهما كان الأمر؛ فقد تطور علم الفلك وأصبح يبنى على أسس رياضية وأمكن التوصل فيه إلى نتائج مهمة، ومن ذلك اعتبار الشمس مركز الكون وأن المد والْجَزْر يرجعان إلى تأثير القمر، وقد استخدموا في أرصادهم بعض الآلات كما يظن أن الزاقورات كانت تستخدم لرصد الأجرام السماوية إلى جانب وظيفتها الدينية. وقد قسم البابليون اليوم الفلكي إلى "12" قسمًا كل منها يتكون من "30" جزءًا وقسموا السنة إلى "12" شهرًا قمريًّا يضاف إليها شهر آخر كلما دعت الحاجة لضبط فصول السنة، كما قسموا دائرة السماء بواسطة النجوم الثوابت إلى "12" قسمًا ورصدوا بعض الكواكب مثل الزهرة وحسبوا

أبعادها بالدرجات، وغير ذلك من الأمور الفلكية الدقيقة، ولقياس الزمن استعملوا ساعات مائية لقياس أجزاء الليل وساعات شمسية أو مزاول لقياس أجزاء النهار. هذا وقد سبق أن أشرنا إلى أن أهل بلاد النهرين وضعوا قوائم عن الحيوانات والنباتات التي عرفوها، وهذه؛ وإن كانت قد وضعت لخدمة أغراض لغوية؛ إلا أنها في الواقع كانت تحوي معلومات قيمة عن الحيوانات والنباتات التي ألفوها، وقد قسموها إلى أنواع أو أجناس متشابهة أي أنهم اتبعوا نظام التصنيف العلمي؛ ولكنهم أخطئوا في ذلك أحيانًا حيث نجد أنهم وضعوا تحت جنس الكلب الذئب والضبع والأسد كما جعلوا كل ما يعيش في الماء تحت صنف السمك بما في ذلك الأصداف والسلاحف، وربما كانت مصنفاتهم في النبات أكثر دقة؛ حيث إنهم جعلوها في مجاميع متشابهة من حيث أشكالها وثمارها وميزوا في بعض أنواع الأشجار بين الذكر والأنثى. ونظرًا لأنهم عرفوا صناعة الفخار منذ أقدم العصور؛ فإنهم عرفوا الكثير من خواص الطين وتأثره بالحرارة، والأصباغ المختلفة كما توصلوا إلى طريقة التزجيج وعرفوا العجائن واللدائن الكيماوية، ومن إقبالهم على بعض المصنوعات المعدنية أتقنوا التعدين وصهر المعادن ومزجها وتوصلوا إلى معرفة أنواع مختلفة من السبائك كما حاولوا التوصل إلى تحويل بعض المعادن الخسيسة إلى معادن ثمينة وقلدوا الأشياء المصنوعة من مواد ثمينة بالاستعانة ببعض الأصباغ والعقاقير واستخدموا الأدوية والصابون والعطور أي أنهم تقدموا في الصناعات الكيماوية وخاصة تلك التي تخدم أغراضهم

العملية، وقد عثر على بعض مؤلفاتهم في هذا المضمار وإن كنا نجهل أسماء بعض المواد التي ذكروها، كما أن بعض عملياتهم الكيماوية كانت تتضمن بعض الرقى السحرية والدينية ومع ذلك فقد تمكنوا من استخلاص الكثير من المواد المفيدة مثل الزئبق وعرفوا الماء الملكي الذي يذيب الذهب ونجحوا في استخراج عدد كبير من الأدوية المعدنية، وصلنا منها أسماء ما لا يقل عن "120" نوعًا. وفي مجال الطب توصلوا إلى الكثير من المعلومات المهمة عن الأمراض وتشخيصها وعن تشريح الجسم والعقاقير النافعة، وإن كان العلاج قد ظل مختلطًا بالسحر؛ لأنهم كانوا يعتقدون أن الأمراض كانت تسببها أرواح وشياطين شريرة، وأن الآلهة التي تساعد على التخلص منها، وقد اعتبروا أن الإله "إيا" إله الماء هو إله الطب أيضًا، ونظرًا لاستخدام المياه كثيرًا في العلاج؛ فإن الطبيب كان يطلق عليه كلمة معناها: العارف بالماء؛ كذلك كان من آلهة الطب عندهم الإله "ننازو" أي سيد الأطباء، وكان ابنه "ننجشزيدا" أيضًا من آلهة الطب، ومن رموزه المقدسة عصا تلتف عليها حية أو حيتان وهذه هي التي يتخذها الأطباء حديثًا شارةً لهم حيث تعتبر الحية قادرة على تجديد شبابها؛ لأنها تخلع جلدها فيعود إليها الشباب. ونظرًا لأن العلاج كان كثيرًا ما يتضمن الرقى والتعاويذ لاسترضاء الآلهة والحصول على مساعدتها في شفاء المرضى فإن الأطباء كانوا غالبًا من الكهنة، ومع هذا لم يهمل هؤلاء في علاجهم فن تشخيص الأمراض ووصف العلاج إلى جانب ما يلجئون إليه من العرافة والسحر. ويستدل من النصوص التي خلفها أهل بلاد النهرين على أن عدد

الأطباء لم يكن قليلًا، ومنهم من كانوا يؤدون عملهم كموظفين رسميين وخاصة لدى الملوك ومنهم من كانوا يعملون لحسابهم، وقد يرسل بعض الأطباء الرسميين إلى ملوك بعض الأقطار الأخرى لعلاجهم؛ كذلك كان الأطباء ينقسمون حسب تخصصهم إلى جراحين ومعالجين بالعقاقير، وقد عرفوا كثيرًا من الأمراض وصنفوها ووصفوا أعراضها وعلاجها وكيفية استعمال الأدوية المختلفة التي قسموها حسب مصادرها إلى أدوية نباتية وأخرى حيوانية وثالثة معدنية، كما قسموها من حيث استعمالها إلى أدوية تستعمل من الظاهر أي: دهون وأخرى للتناول، واستعانوا ببعض الأدوات لوضع الأدوية في أماكن دقيقة من الجسم مثل العين والأذن إلى جانب استعمال بعض الأدوات الجراحية، ورغم كثرة ما خلفه أهل بلاد النهرين من النصوص لا نجد تنوعًا كبيرًا في آدابهم؛ إذ إن معظم ما تناولته كان متعلقًا بالأساطير الدينية إلى جانب التدوين التاريخي وبعض الرسائل وكلها تتضمن بعض الأمثال والحكم، وبالطبع ليس من السهل فهم كل هذه الأمثال؛ لأن البعض منها يتناول ما كان سائدًا من عادات وتقاليد وظروف مختلفة ما زلنا نجهل الكثير منها.

الفنون

الفنون1 ظهرت أقدم محاولات الإنسان في الرسم والنقش في العصور قبل التاريخية حيث بدأها على الفخار بتزيينها بزخارف هندسية وأشكال حيوانية ونباتية انتشرت بعض طرازها إلى إيران شرقًا وإلى البحر المتوسط غربًا. ومن فترة التمهيد للكتابة ظهر النقش البارز وشاع استخدام الأختام الأسطوانية، ويبدو تأثر الفنان في هذه المرحلة بمظاهر البيئة التي عاش فيها؛ إذ تغلب على الأشكال والزخارف التي رسمها ظاهرة التداخل حتى إنه تصرف في أشكال الحيوانات فجعل رقابها أو ذيولها تتداخل أو تتقاطع بحيث تبدو كأنها كائنات خيالية. وفي عصر فجر الأُسَر استبدل هذا الطراز الزخرفي بأسلوب تصويري وتعددت الموضوعات التي تناولها الفنان وتنوعت وسائله للتعبير عنها؛ فقد يلجأ إلى تمثيل المناظر التي يبدعها بقطع مختلفة الألوان من الأصداف المسطحة تكملها خطوط محفورة في ألواح ارتوازية تثبت في الجدران. وقد وجدت نماذج جميلة للنحت منذ أقدم العصور، ومن خير الأمثلة على ذلك القيثارة الممثل بها رأس ثور "شكل 50"، وفي حالة النحت البارز على السطوح كانت الحيوانات تمثل من الجانب؛ بينما تبرز رءوسها إلى مواجهة الناظر "شكل 51"، أما الأشخاص فكانوا يمثلون

_ 1 انظر مقال المؤلف "بين الفنون والبيئة" في مجلة كلية الآداب، جامعة الإسكندرية، سنة 1967 ص225 وما بعدها.

"شكل 50": قيثارة مثل بها رأس ثور وهي من القطع الفنية الممتازة. من الجانب في معظم الأحيان مع إظهار الشخص الرئيسي، كما هو الحال في المناظر التي تركها الفراعنة، في حجم أكبر من بقية الأشخاص الممثلين معه؛ كذلك كانت ملامح الأشخاص قوية التعبير ثم ما لبثت هذه الملامح

"شكل 51": إبريق من الحجر نحتت عليه حيوانات تواجه الناظر. أن لطفت في عهد البابليين وزاد تنوع موضوعات النحت؛ إلا أن ذلك لم يدُمْ طويلًا حيث تدهورت الفنون بصفة عامة أثناء حكم الكاشيين بعد أن تخلى الفنانون عن كثير من تقاليدهم القديمة. أما في عصر الأشوريين؛ فإن التقاليد القديمة قد عادت إلى الظهور كما ظهرت تأثيرات خارجية لم تكن معتادة في بلاد النهرين؛ فمثلًا شاع تمثيل الإله بهيئة آدمية داخل قرص الشمس وهو يسحب قوسه؛ ليعاون الملك ضد أعدائه "شكل 46" كما شاع تزجيج قطع كبيرة من المنحوتات وهذه مظاهر كانت مألوفة من قبل في مصر، وقد تقيد الفنان بتقاليد فنية -ربما كانت ترجع إلى تأثير ديني- التزم بها ولم يخرج عنها إلا نادرًا.

وعلى العموم يمكن القول إجمالًا بأن الفنان في بلاد النهرين كان كزميله المصري يعرف قواعد المنظور وفن الكاريكاتير، وقد ترك كل منهما أمثلة قليلة تدل على ذلك؛ ولكنهما آثرا أن يكون فنهما تأثيريًّا أكثر منه إخباريًّا. وسار نحت كتل الأجسام "التماثيل" هو الآخر وفق تقاليد معينة، ويبدو في تلك التماثيل ما تعكسه البيئة من أثر؛ إذ إن بيئة بلاد النهرين يغلب عليها طابع الانفصال في وحدات صغيرة تتمثل في أماكن متناثرة تعلو في مستواها عن منسوب المجاري والمسطحات المائية كأنها مخاريط أو أساطين قائمة بذاتها، وقد استوحى الفنان هذه الأشكال في نحت تماثيله فجاءت في هيئة كتل مخروطية أو اسطوانية "شكل 52". "شكل 52": تمثال مغنية يبدو كأنه من مخاريط وأسطوانات.

"شكل 53": تمثالان تبدو فيهما ضخامة الساقين. ونظرًا لأن التماثيل كانت تقام من أجل غرض ديني؛ فقد غالى الفنان في إبراز الاهتمام الشديد في ملامح التمثال وبالغ في حجم العيون؛ ولذا اضطر إلى جعل نسبة الوجه إلى الرأس أكبر مما ينبغي ولم يلجأ فنان بلاد النهرين إلى ما لجأ إليه الفنان المصري من عمل دعامة يستند إليها التمثال أو عدم تفريغ ما بين الساقين حتى تحتملا ثقله ولا تتعرض للكسر؛ بل لجأ إلى جعل هذين الساقين على درجة من الضخامة لا تتناسب مع حجم التمثال وخاصة عند العقبين "شكل 53"؛ كذلك لم يوفق في إبراز تقاطيع الجسم كما وفق زميله المصري في ذلك بل ويبدو أيضًا أنه لم يهتم كثيرًا بالزِّي الذي يلبسه لتمثاله؛ غير أنه بلغ مرتبة عالية في إتقان تماثيل الحيوانات وأبدع فيها غاية الإبداع.

وفي مجال العمارة سبق أن أشرنا إلى ما كانت عليه مساكن أهل بلاد النهرين "انظر أعلاه "ص202- 204" وبينَّا أهم ما تميزت به. أما المباني العامة مثل المعابد فكانت تقام في أول الأمر من الطين، وبعد أن عرف اللَّبِن استخدم هذا في بنائها وظل الحال كذلك فترة طويلة حتى بعد أن عرف الآجر "اللبن المحروق". وقد حرمت البيئة في جنوب العراق من موارد كافية للأحجار الصالحة للبناء؛ فاستعيض عن ذلك بجعل الجدران سميكة ضخمة حتى تكون لها متانة الجدران الحجرية، كما كان من الضروري تعريج هذه الجدران بجعلها ذات نتوءات وتجاويف "كجدران الحصون" على أبعاد متساوية وربما كان هذا الشكل قد نشأ عن ضرورة حربية وليس لمجرد تقوية الجدران أو للزينة؛ إذ إن المعبد كان يعد أقدس مكان للجماعة وهو مقر معبودها؛ ونظرًا لأن الأسلحة بعيدة المدى لم تكن معروفة عند نشأة هذه المعابد فمن المرجح أن التجاويف التي كانت بالجدران كانت تتيح للمدافعين فرصة الاحتماء فيها ومباغتة العدو، ثم ظهر طراز آخر للمعابد يتمثل في بناء طبقات في هيئة مصاطب تتدرج في صغرها إلى أعلى وهو الأصل الذي تطور إلى الزاقورة أو البرج المدرج2، ويعتقد المؤرخون بأن أهل بلاد النهرين قاموا ببناء هذه المعابد المرتفعة؛ لاعتقادهم بأن الإله يهبط إليها ويشرف منها على شئون البشر، ولكن من جهة أخرى يمكن تفسير ظهور هذا

_ 1 انظر مقال المؤلف "بين الفنون والبيئة في كل العراق ومصر" مجلة كلية الآداب، 1967، ص266 وما بعدها. 2 انظر نفس المقال السابق، شكل "2ب".

الطراز لما له من ميزة دفاعية إزاء ما استحدث من أسلحة أبعد مدى من أسلحة العصور السابقة، ومما يؤيد ذلك أنه على الرغم من بناء معابد أرضية إلى جوار هذه المعابد المرتفعة؛ فإن كلًا من هذه المعابد كان يحاط بسور خاص إلى جانب السور العام الذي يحيط بمجموعة المعابد. وكانت المعابد عمومًا تخضع في تصميمها لتقاليد موروثة؛ إلا أن المعماريين كثيرًا ما كانوا يتصرفون في ترتيب أجزائها المختلفة، والتصميم الغالب فيها أن يكون بجدارها الخارجي مدخل أو أكثر لها بوابات مزدوجة وتؤدي إلى فناء أوسط وهو بدوره يؤدي إلى بَهْوٍ عن طريق بوابة رئيسية، وهذا البهو ينتهي في طرفه البعيد بالهيكل الذي تقع أمامه غرفة يلحق بها كما يلحق بالهيكل مخازن للأمتعة المقدسة، وكان من المعتاد أن يوضع في أساس كل معبد رمز للوقاية يكون أحيانًا عند البوابة في إحدى المشكاوات وأحيانًا تحت أرضية قدس الأقداس وقد يوجد مذبح أمام قدس الأقداس؛ إلا أن الغرض منه يكون رمزيًّا فحسب لأن مذابح أخرى كانت تقام في أماكن أخرى من المعبد، ومنها ما كان كبير الحجم بحيث يصلح لذبح الماشية. ومن الجدير بالذكر أن قدس الأقداس في المعابد المرتفعة "الزاقورات" كان يتمثل في أعلى طبقة منه حيث يوجد هيكل كبير روى هيرودوت أنه كان يحوي سريرًا مزخرفًا زخرفة فخمة، وتقوم إلى جانبه مائدة من الذهب، كما يروي هيرودوت أن الإله كان يختار امرأة من الريف

لتمضي الليل في هذا الهيكل1. وفي العهد البابلي ظهر طراز جديد من المعابد يبدو أنه كان مشيدًا لعبادة الملك الحاكم وهو مربع الشكل أضيفت إليه ركائز أو دعامات، وفي مدخله برجان مزينان بالتجاويف، وهذا المدخل يؤدي إلى ممر ضيق في يساره غرفة للتخزين، وفي نهايته بناء مربع يؤدي إلى صومعة بها كوة لتمثال الإله، أمامها مجرى من الفخار لتصريف سوائل القرابين وإلى يسار الصومعة غرفة للاجتماعات أو للصلاة، وإلى يسار المعبد قصر الحاكم الذي يقع إلى غربه معبد آخر بنفس نظام المعبد السابق؛ ولكنه يتميز بما ألحق به من مبانٍ خصصت للكهنة، ومن هذا يبدو واضحًا أن قصر الملك كان يحتمي بهذين المعبدين حيث كان من المحتم أن يمر من يذهب إلى القصر بأحد المعبدين وكان عليه بعد ذلك أن يمر في غرفتين طويلتين ضيقتين شددت عليهما الحراسة، وبين الغرفة الأخيرة والقصر ساحة مربعة تؤدي إلى الديوان، وهو عبارة عن حجرة كبيرة للأعمال الإدارية والاحتفالات تحيط بها دوائر، ويلي هذه الحجرة قاعة للعرش تفصل الديوان عن الغرفة الخاصة للملك. ولم يحدث تطور يذكر في طراز المعابد أو القصور الملكية إلا في زيادة عدد الأفنية والحجرات وإضافة أبراج قوية عند الزوايا كما زينت الفجوات التي بجدران المعابد بمنحوتات بارزة من الآجر، وفي عهد الأشوريين استعملت ألواح حجرية لحماية الأجزاء السفلى من الجدران

_ 1 Herodouts, The Histories "penguin 1954",p.86

المعابد والقصور، كما أن المناظر المنقوشة على الجدران كانت تزجج، أما أسوار المدن فكان في كل ضلع لها مدخلان، وهذه المداخل تحميها أبراج قوية، ومحلى أبواب القصور وضعت تماثيل لثيران مجنحة ذات رءوس بشرية ربما كان القصد منها أن تكون رمزًا للحماية، أما في العصر البابلي الحديث؛ فقد اختفت هذه التماثيل وحلت محلها نقوش لحيوانات وأزهار على آجر أزرق مزجج، وكان قصر الملك يقع في إحدى نهايتي الشارع الرئيسي للمدينة وفي النهاية الأخرى يوجد المعبد الرئيسي وإلى جواره برج بابل أو زاقورة الإله مردوخ "شكل 54".

شكل "54": منظر عام لمدينة بابل وقصورها وزاقورة الإله مردوخ.

سادسا: ايران

سادسا: ايران مدخل ... سادسًا: إيران تدل الأبحاث الجيولوجية على أن إيران أثناء العصور الجليدية في أوربا تكثر بها السطوح المائية لتعرضها لكمية وفيرة من التساقط حتى إن كثيرًا من جهاتها بما في ذلك بعض الوديان العليا كانت تحت سطح الماء، وأن صحراء الملح التي تتوسط الهضبة كانت بحيرة عظيمة أو بحرًا داخليًَّا، وفيما بين الألفين الخامس عشر والعاشر قبل الميلاد أخذ المناخ يتدرج نحو الجفاف وحدثت بعض التطورات التي أدت إلى تراكم رواسب الأنهار عند مصباتها مكونة مدرجات مرتفعة تمثل منطقة انتقال بين الجبال وبين السهول الفيضية التي كانت في سبيل التكوين. ولا بد أن إنسان العصور قبل التاريخية الذي عاش في الهضبة1 كان ينتقل إلى حافة السطوح المائية كلما أخذت في الانكماش والتراجع، وكان حينئذ يعيش في جماعات متفرقة متباعدة في معظم الأحيان، وقد تعرضت هذه الجماعات إلى مؤثرات خارجية؛ لقربها من مناطق حضارية مثل بلاد النهرين من جهة ولوقوعها في طريق الهجرات البشرية الآتية من المناطق الرعوية والجبلية من جهة أخرى. وفضلًا عن ذلك فإن وقوع الهضبة الإيرانية بين بلاد النهرين وبين أرمينيا ورغبة ملوك الأولى في الحصول على بعض الموارد من الأخيرة مثل الرصاص قد أدى إلى أن

_ 1 عن حضارات العصور قبل التاريخية في إيران، انظر كتاب المؤلف "معالم تاريخ مصر والشرق الأدنى القديم" ص398 وما بعدها.

تصبح إيران أو جزء منها على الأقل منطقة عبور لمثل هذه الموارد. ولا يعرف على وجه التحديد متى وصل الإيرانيون الذين ينتمون إلى العناصر الهندو أوربية التي كونت إمبراطوريات عظيمة فما بعد؛ ولكن من المرجح أنه في خلال الألف الثانية قبل الميلاد قامت هجرة عظيمة من الشعوب الهندو أوربية من مواطنها التي كانت على الأرجح في السهول الأوراسية جنوب روسيا، وقد تفرعت هذه الهجرة إلى شعبتين: غربية دارت حول البحر الأسود وعبرت البسفور ثم وصلت إلى آسيا الصغرى "وفي أثناء دورانها تقدمت بعض جماعاتها إلى شبه جزيرة البلقان" ويطلق على هؤلاء اسم الهندو أوربيين، وشرقية دارت حول بحر قزوين وعبرت القوقاز ثم وصلت إلى منحنى الفرات واختلطت بالحوريين الأصليين الذين كانوا أيضًا من أصل آسيوي، ونشأ عن ذلك الاختلاط قيام مملكة ميتاني، وقد خرجت من هذه الجماعات بعض العناصر المحاربة التي تستخدم الجياد إلى امتداد جبال زاجروس واخترقتها جنوبًا إلى منطقة اشتهرت فيما بعد كمركز لتربية الخيول، وقد بدأت هذه الجماعة في تلك المنطقة كأقلية نشيطة سرعان ما طغى نفوذها على سكانها الأصليين الذين كانوا يعرفون باسم الكاشيين وامتصتهم، وهذه المجموعة الشرقية كلها عرفت باسم الهندو إيرانيين. ويمكننا أن نتخيل بأن الإيرانيين وصلوا إلى الهضبة بزوجاتهم وأولادهم وحيواناتهم، وقد انتهزوا فرصة انقسامها إلى عدد من الدويلات فدخلوا في خدمة أمرائها كمحاربين مرتزقة وتمكنوا في النهاية من أن يستأثروا بالسلطة وأجبروا السكان الأصليين على الخضوع لهم.

ومن العسير أن نتتبع هذه التطورات؛ إذ لا توجد وثائق تدل عليها؛ ولكن يمكن أن نستنتج بعض مظاهر حضارتهم من الآثار التي خلفوها إلى جانب الآثار الدالة على حضارة السكان الأصليين، وتدل البقايا البشرية التي عثر عليها لهؤلاء القادمين الجدد على أن معظمهم كانوا من ذوي الرءوس العريضة أي أنهم كانوا يشبهون العناصر التي انتشرت في إيطاليا وغرب أوربا، وكانوا ينقسمون إلى جماعات قبلية حلت كل منها في جزء من أجزاء الهضبة، وكان الميديون والفرس "الإخمينيون" أهم هذه الجماعات وقد نزل الميديون غرب الهضبة ثم كونوا دولة قصيرة الأجل عرفت باسم الدولة الميدية، ونزل الفرس في الجزء الجنوبي الغربي، وأصبح اسمهم يطلق على هذه المنطقة التي استقروا فيها ثم صار علمًا على الدولة التي شملت الهضبة كلها وبلغت من الاتساع في وقت ما درجة جعلتها أعظم الإمبراطوريات في الشرق الأدنى. والخلاصة أن ظهور هذه الشعوب في هضبة إيران واندماجها مع سكانها الأصليين قد بعث فيها حيوية فائقة ونهضة حضارية عظيمة؛ إذ بعد أن كانت الهضبة تسودها دويلات مدن أو دويلات حول المعابد سرعان ما تحولت هذه إلى اتحادات قوية ما لبثت أن كونت إمبراطوريات من أقوى الإمبراطوريات التي ظهرت في التاريخ وأبعدها أثرًا في ميدان الحضارة. ومهما قيل عن اختلاف هذه الجماعات عن السكان الأصليين من جهة واختلاف قبائلهم ومكان استقرارهم من جهة أخرى فإنه من الممكن مع التغاضي عن قصر أجل دولة الميديين، أن نعتبر أن الحضارة التي

وصلت إليها هذه الجماعات -مع شيء من التجاوز- كانت استمرارًا لمظاهر حضارية كانت قائمة في الهضبة وتطورًا لها؛ سواء كانت هذه أصيلة أو متأثرة بمؤثرات خارجية.

الحياة الاجتماعية

الحياة الاجتماعية بالرغم من أن حضارة الإيرانيين كانت -مثل حضارة الحيثيين- مبنية على مجدها العسكري؛ إلا أنها تميزت ببعض المظاهر التي تدل على رقيهم في مضمار الحياة المدنية؛ وإن كان الكثير من أصول هذه المظاهر قد اقتبس من غيرهم، ومع هذا فقد فاقوا كثيرًا من الأمم في تطوير هذه المظاهر الحضارية واستحداث مظاهر أخرى. ولا شك في أن المرأة في العصور السحيقة قامت بدور حاسم في الحياة الاجتماعية وتعرفت على الكثير من الأشياء التي كان لها أكبر الأثر في حياة الإنسان؛ فإليها يعزى التعرف على بعض الثمار الصالحة للطعام وملاحظة بعض النباتات في نموها، وقد تكون جهودها هي التي أسفرت عن معرفة الزراعة واختراع الأواني الفخارية. وربما كانت ضخامة الدور الذي قامت به بالقياس إلى دور الرجل هو السبب في اتباع النظام الأموي في كثير من المجتمعات البدائية، ولا بد أن هذا النظام كان سائدًا بين سكان الهضبة القدامى ثم انتقل منهم إلى الآريين فيما بعد، ومن المرجح أن المرأة استطاعت أن تتحكم في شئون الجماعة وتمتعت بمكانة جعلتها تصل إلى أقوى المراكز فقامت في بعض القبائل بقيادة

الجيوش1 كذلك كانت تصل إلى الكهانة. وكانت الوراثة تنتقل في فرع المرأة باعتبارها ممثلة لنقاوة العنصر؛ إذ يغلب على الظن أن تعدد أزواج المرأة كان شائعًا كما كان زواج الأخ من أخته مألوفًا، وقد ظل هذا النظام الأخير إلى عصور متأخرة وكان منتشرًا في مختلف أقطار الشرق الأدنى، ومن الغريب أن زواج الأم بالابن كان معروفًا في الهضبة ولكنه كان نادرًا. وكان المجتمع الإيراني ينقسم إلى طبقات: الأمير والنبلاء ويليهم الرجال الأحرار الذين يملكون ضياعًا ثم الأحرار المعدمين، وأخيرًا العبيد، وكان الملك على رأس الدولة ويلقب بلقب "خشاثرا" أي: المحارب، مما يبين الصفة العسكرية للملكية الفارسية، وكان سلطان الملك مطلقًا يملك ويحكم وأوامره مطاعة نافذة؛ غير أنه كان يتقيد بتقاليد وعادات موروثة؛ إذ إنه كان يهب الأعيان والنبلاء بعض الإقطاعات ويجعل منهم مجلسًا للشورى يصدر أوامره بعد الرجوع إليه، وكان أعضاء هذا المجلس هم الوسطاء بينه وبين الشعب، وكان الناس يعتقدون بأن الملك ملهم يستمد أحكامه من إله الخير "أهورا مزدا" أي أن المشيئة الإلهية كانت أساس الحكم في الدولة. ومن يخالف أوامر الملك كان يعد آثمًا في حق الإله الأعظم، وبمرور الزمن انصرف الملوك عن بعض شئون الحكم وعهدوا بها إلى أشرافهم ورجال قصورهم وتفرغوا لملاذهم؛ مما أدى إلى ضعفهم في النهاية، وكان من المألوف أن يبني الأمير مقرَّه فوق تل

_ 1 ChirShman, "Iran", "Palican A 239", P. 44

صناعي بينما تكون مساكن المدينة عند أسفل هذا التل ويحيط بالجميع سور ضخم يدعم على الجوانب بأبراج قوية "انظر شكل 55" وكانت بيوت هؤلاء الأمراء والسادة العظام تضم عددًا من الخدم والرقيق من النساء والرجال كما تضم عددًا من ذوي المهن المختلفة ينتجون لسادتهم كل شيء، ولم يكن الفنانون الأحرار يستخدمون إلا قليلًا. "شكل 55": مدينة إيرانية قديمة. وكان الأعيان والنبلاء أصحاب سلطة تكاد تكون مطلقة في عواصمهم، يسنون القوانين وينفذون الأحكام القضائية ويجبون الضرائب ولهم قواتهم المسلحة الخاصة بهم، وفي مقابل هذا كان عليهم أن يمدوا الملك بالمال والعتاد وقت القتال. وكان القرويون يتمتعون بقسط أوفر من الحرية مما كان يتمتع به

أقرانهم في بلاد النهرين أو مصر؛ إذ كانت الملكيات الصغيرة توجد إلى جانب الإقطاعيات الكبيرة، وقد أخذ نظام الملكيات الصغيرة في الانتشار؛ إذ كان يشجعه الميل الغريزي نحو الانفرادية. ومع أن الميديين كانوا يعيشون حياة زراعية في قرى إلا أن الحكومات المركزية لم تكن موجودة في أول الأمر؛ وكان كل أمير يعتمد إلى جانب مزارعه ومراعيه على مناجمه وغنائمه في الحروب وما يتقاضاه نظير حمايته للتجار الذين كانوا في بداية الأمر من غير الإيرانيين، وبالطبع كان الأمراء يشجعون النشاط التجاري للعمل على زيادة دخلهم. وكان الفرس يميلون إلى التزين فأكثروا من استعمال أدوات التجميل والمساحيق والزيوت العطرية والأصباغ حتى إن الملوك كانوا لا يخرجون إلى الحرب دون أن يحملوا معهم زيوتهم العطرية واستخدموا أنواعًا مختلفة من الحلي مثل الأقراط والخلاخيل والتمائم والأساور وغيرها، كما كانوا يستعملون التيجان والأحذية.

الدولة

الدولة سبق أن أشرنا إلى الدويلات التي كانت منتشرة في الهضبة، كما أشرنا إلى اعتماد كل أمير في موارده على منتجات أراضيه ومراعيه إلى جانب الغنائم التي كان يحصل عليها من حروبه والمكوس التي كان يفرضها على التجار، وحينما اتسعت رقعة الإمبراطورية نجح ملوكها في تنظيم إدارتها نجاحًا كبيرًا وقد وضعوا أسسًا ثابتة لتنظيمها؛ إذ إنهم قسموها إلى عشرين ولاية تشمل مختلف الأقطار والجهات التي أخضعوها، وكان الملك يعين لكل ولاية حاكمًا هو الوالي الذي كان بمثابة الملك فيها؛ لأن الولاية كان لها كيانها السياسي الخاص بها، ولذا كان الملك الفارسي يلقب بملك الملوك. ومع أن الولاة كانوا أعوان الملك في إدارته لإمبراطوريته؛ إلا أنهم كانوا أحيانًا مصدر خطر على الإمبراطورية وخاصة إذا ما أرادوا الاستقلال أو أصبحت وظائفهم وراثية، ولتجنب هذا الخطر عمد الملك إلى تعيين قائد لجيوش الولاية مستقل في اختصاصه عن الوالي، ويتبع الملك مباشرة، كما كان يعين سكرتيرًا للولاية ورئيسًا لموظفيها الماليين ويرسل إليها عددًا من المفتشين الذين يحملون ألقابًا مختلفة توحي بمهامهم مثل: عين الملك، ورسول الملك، وأذن الملك، وهؤلاء جميعًا كانوا يتبعون الملك مباشرة ومعظمهم كان من الأسر النبيلة. ومما ساعد على نجاح الإمبراطورية في إدارة ممتلكاتها أن الأباطرة أنشئوا بها كثيرًا من الطرق ونظموا البريد؛ لتيسير الاتصال بينهم وبين

مختلف أنحاء إمبراطوريتهم، ومن أهم هذه الطرق طريقان كبيران أنشأهما "دارا": أحدهما يصل بين ليديا والعواصم الفارسية، والثاني يبدأ من مصر إلى فارس ويمتد شرقًا حتى حدود الصين، كما أنشئوا المراكز التجارية والخانات لتأمين المسافرين ومدهم بما يحتاجون إليه من زاد ومؤن؛ فكانت هذه الطرق والوسائل سببًا في تثبيت الحكم المركزي وعاملًا من عوامل نقل المظاهر الحضارية بين مختلف أنحاء الشرق الأدنى القديم، ولم تقف عقبة في سبيل الانتقال من مكان إلى آخر؛ إذ اشتهر الفرس بإقامة القناطر على الأنهار بحيث تتحمل عبور مئات الأفيال فوقها. وقد تمتعت الولايات التابعة للإمبراطورية بشيء من الحرية؛ إذ سمح لها باستعمال لغتها الخاصة وعاداتها وتقاليدها وديانتها وعملتها، بل وبقاء أسرتها الحاكمة أحيانًا مما جعل بعض الولايات تحس بأنها أحسن حالًا في تبعيتها لفارس من خضوعها لقادتها أنفسهم؛ لأن هؤلاء الأخيرين كانوا يرهقونها بالضرائب؛ بينما كان ملوك فارس وخاصة "دارا" الأول يحدد الضرائب التي تجيء من كل ولاية على حسب إمكانياتها الطبيعية. وقد اهتم معظم الملوك بتحسين إنتاج الأراضي الزراعية؛ فلجئوا إلى حفر القنوات كما نقلوا بعض النباتات والأشجار والحيوانات والطيور من بيئة إلى أخرى بقصد تعميمها وتنميتها في غير مواطنها التي جلبت منها، كما حاولوا استنبات أنواع جديدة من النباتات في مختلف أنحاء الإمبراطورية، ومع أن الفلاحين كانوا مرتبطين بالأرض في الملكيات الكبيرة بحيث يكونون ما يشبه الرقيق؛ إلا أن بعض الفلاحين كانت لهم ملكياتهم

الصغيرة التي يتمتعون فيها بقسط من الحرية. وكان اتساع رقعة الإمبراطورية وانضواء كثير من الولايات الغنية مختلفة الموارد تحت لوائها سببًا في جعلها قادرة على الاكتفاء الذاتي من الناحية الاقتصادية؛ إذ لم تعوزها الموارد التي تحتاج إليها؛ فالأخشاب الجيدة التي تستخدم في البناء وصنع السفن والعربات والأسلحة والمعدات الحربية وغيرها كانت موجودة على الساحل الفينيقي وآسيا الصغرى وكريت وقبرص، والفضة والنُّحاس والحديد كانت تأتي من قبرص؛ كذلك ومن آسيا الصغرى يأتي النحاس والفضة، ومن إقليم كرمان كان يأتي الذهب والفضة، وإلى جانب هذه المعادن كانت أحجار البناء الجيدة تجلب من عيلام وتجلب الأحجار الكريمة وشبه الكريمة من جهات أخرى مختلفة، ومما زاد الحالة الاقتصادية إنعاشًا أن موارد الثروة السمكية في دجلة والفرات والخليج العربي كانت من الوفرة بحيث كان من الممكن تصدير الفائض منها بعد أن تملح وتقدد. وقد عمدت الدولة إلى تيسير التعامل؛ فاستخدمت النقود المسكوكة ابتداء من عهد دارا الأول "شكل 56"، وربما كان استعمالها مقتبسًا عن الليديين، ولو أن أوزانها وأقسامها مأخوذة عن النظام البابلي في تقسيم الوحدات القياسية؛ كذلك شجعت مصارف المعابد والمصارف الخاصة التي كانت تقوم بإقراض المحتاجين، كما أن مبدأ الائتمان أو أوراق الاعتماد والسندات كانت معروفة؛ وإن كان من الممكن أن نرجع هذه النظم جميعها إلى أصول بابليلة، ومع أن الفرس استحدثوا كتابة مسمارية اقتبسوها من الخط البابلي؛ إلا أن اتساع رقعة الإمبراطورية ومحافظة الشعوب التي

"شكل 56": نماذج من العملة الفارسية. دخلت تحت سلطانها على تراثها القديم لم ييسر انتشار هذه الكتابة، وعلى ذلك ظلت هذه الأمم تستعمل لغاتها وكتاباتها الخاصة؛ إلا أن الفرس استعملوا في معاملاتهم التجارية والمعاملات المشتركة الأخرى الكتابة الآرامية في كتابة مدوناتهم إلى جانب الخط الفارسي المسماري، كما استعملوا اللغة الآرامية ذاتها أحيانًا مما ساعد على نشاط التعامل التجاري؛ إذ إن الخط الآرامي كان واسع الانتشار في الشرق الأدنى القديم "انظر أعلاه: ص167، 168". وقد استتب النظام في أنحاء المملكة في أوقات نهضتها بفضل سيادة القانون وعدم التهاون في تطبيقه. ويبدو أن القضاء في فارس كان يشبه القضاء في بابل إلى حد بعيد، وكان الاهتمام منصبًّا على تطبيق العدالة في مختلف النواحي. ومن المرجح أن القضاة كانوا يستبقون في مراكزهم مدى الحياة ما لم ينسب إليهم ما يدعو إلى فصلهم بسبب بعدهم عن العدالة، وكان الملك هو مصدر القوانين والشرائع وأحكامه تعتبر مستوحاة من الإله نفسه؛ ولذا اشتهر الفرس بالتمسك بالقانون، وكان الملك نفسه

يعتبر المحكمة العليا التي تستأنف إليها الأحكام وإن كانت تليه محكمة عليا خاصة مكونة من سبعة قضاة، ويلي هذه المحكمة المحاكم الأخرى التي تنتشر في أنحاء المملكة، وقد نشأت جماعة خاصة متضلعة في الشئون القضائية كانت أشبه بالمحلفين، وكانت الرشوة من الجرائم الكبرى ولم يتهاون الملوك إطلاقًا في معاقبة القضاة الذين لا يلتزمون العدالة؛ حتى إنه ينسب إلى قمبيز بأنه سلخ أحد القضاة وهو حي وجعل من جلده منصة في مكان القاضي وعين ابنه في مكانه، هذا ويلاحظ أن العقوبات كانت في معظمها قاسية تشمل الجلد والتشويه وقطع الأعضاء وسمل العيون إلى جانب الإعدام بوسائل مختلفة.

العسكرية

العسكرية تدل أقدم النقوش على أن المحاربين كانوا ينقسمون إلى مشاة وفرسان يركبون الجياد وفرسان يستخدمون العربات التي يجر كل منها زوج من الخيل، ويتميز الخيالة بما يلبسونه من أحذية تنحني في مقدمتها إلى أعلى، وقد عثر في بعض المقابر على أسلحة مختلفة منها السيوف والخناجر والدروع ورءوس السهام وكلها كانت من البرونز أو الحديد؛ كذلك عثر على أعنة للخيول وحلي لرءوسها وصدورها. وكانت الخدمة العسكرية إجبارية لكل ذكر سليم بين سن الخامسة عشرة والخمسين، ويبدو أن الجندية كانت محبوبة؛ إذ كان الجند يخرجون إلى القتال بموسيقاهم بين تهليل الأهالي، وكان الجيش يخضع لإشراف الحرس الملكي الذي يضم عددًا من النبلاء والأشراف ومهمته حراسة

الملك والمحافظة على حياته وكان غالبًا يتألف من ألفين من الفرسان ومثلهم من المشاة، أما الجيش نفسه كان يتألف من وحدات أساسية نظامية، ووحدات أخرى عامة، وكانت الوحدات الأساسية تتكون من الفرس فحسب وهي التي يعتمد عليها في صيانة الأمن في أنحاء الإمبراطورية أما الوحدات العامة فتضم فرقًا من شعوب مختلفة ترسل إلى الأقطار الخاضعة للإمبراطورية، وكل فرقة منها كانت تتبع أساليبها الحربية وتحتفظ بتقاليدها وأسلحتها ولغتها القومية؛ ولهذا فإنه على الرغم من الضخامة التي كان يصل إليها عدد الجيش فإن نقطة الضعف فيه كانت تتلخص في انعدام الوحدة والتناسق بين مجموعاته المختلفة لاختلاف عتادها وتنظيمها. أما عن الأسطول فلا شك أن تجربة الفرس في ركوب البحر كانت في بداية الأمر أقل منها لدى غيرهم؛ ولذا كانوا يستعينون بالفينيقيين، ومع هذا لم يدخر الفرس وسعًا في إنشاء أسطول قوي كان يضم سفنًا فينيقية ويونانية، واستخدموا المصريين والقبارصة والسوريين وغيرهم إلى جانب الفينيقيين ويونان آسيا الصغرى، واستطاعوا أن يسيطروا على البحر المتوسط والمحيط الأطلنطي وكانت سفنهم التي صنعها الفينيقيون بأمر ملوك فارس على ثلاثة أنواع: سفن الهجوم وناقلات الجنود والخيول وناقلات الأمتعة والذخائر، وكانت هذه الأخيرة صغيرة الحجم نسبيًّا، وقد أدى هذا التفوق البحري إلى عنايتهم بالتجارة البحرية والعمل على حمايتها ونشاطها وقد أرسلوا بعثات استكشافية من الهند إلى البحر الأحمر ومن الجزائر إلى اليونان وإيطاليا كما شقوا القناة التي توصل بين النيل والبحر الأحمر.

الديانة

الديانة كان الآريون كغيرهم من شعوب العالم القديم يعبدون معبودات ترتبط بظروف بيئتهم؛ ونظرًا لأنهم كانوا يعيشون في مناطق جبلية؛ فإن أهم معبوداتهم كان زوجًا من الآلهة: أحدهما إله العواصف والمطر والثاني: إلهة الشمس أحيانًا والأرض أحيانًا أخرى، إلى جانب ما عبدوه من الحيوانات والأجداد، وكان الفرس كغيرهم من الشعوب الأخرى يعبدون قوى الطبيعة المختلفة فعبدوا الشمس كإله باسم "مثرا" والأرض باسم "زام" والريح باسم "وهيو" كما عبدوا الماء والنار أيضًا، وكانوا يقسمون الموجودات إلى قسمين: موجودات خيرة تصدر عن قوى الخير وتبعث على السعادة، ومن مظاهرها: النهار والخصب والصحة والجمال والاستقامة وما شابهها، وموجودات شريرة تصدر عن قوى الشر وتبعث على البؤس والشقاء ومن مظاهرها: الليل والقحط والقبح والخداع وغيرها، كما أنهم كانوا يعتقدون بأن قوى الخير والشر في صراع دائم وربما كان هذا هو السبب في عبادتهم لآلهة مختلفة. ويبدو أن عددًا من الآلهة كانت تتطلب تضحيات دموية ربما كانت ترجع طقوسها إلى أصول سحيقة، وهذه الطقوس كان يقوم بها طائفة من رجال الدين يطلق عليهم اسم "ماجي" أي المجوس، وكانت هذه الطائفة تلعب دورًا كبيرًا في الحياة الدينية والاجتماعية رغم أنها كانت تعيش في عزلة ويتزاوجون داخليًّا فيما بينهم فهم الذين يقومون بتفسير الأحلام، ويلعبون دورًا في تتويج الملك الجديد كما كانوا يصبحون الجيش للقيام بطقوس التضحية، وكانوا مسئولين

عن تعليم الشبان حراسة المقابر الملكية، وكان يعهد لهم بصنع الشراب المسكر الذي يستخدم أثناء الطقوس الدينية. وكان بيعه قاصرًا عليهم كذلك، ومع أن أصلهم وأصل ديانتهم غير معروفين؛ إلا أنه يبدو أن هذه الديانة لم تكن فارسية النشأة؛ لأنهم كانوا لا يدفنون جثث موتاهم بل يتركونها فريسة للوحوش والطيور الجارحة. ومع أن هيرودوت ينسب إلى الفرس عدم وجود معابد أو تماثيل للآلهة لديهم؛ إلا أن الآثار تثبت غير ذلك فقد عثر على بقايا ثلاثة معابد من عصر الإخمنيين وكل منها في هيئة برج مربع يشمل حجرة واحدة يمكن الوصول إليها بدرج، وفيها كان المجوس يرعون النار المقدسة "شكل 57"، ويبدو أن الاحتفالات الدينية كانت تقام في الهواء الطلق؛ حيث عثر على المذابح "وكانت عادة أزواجًا" في العراء بعيدة عن المعابد، وإلى هذه المذابح كانت تساق حيوانات التضحية في موكب حافل بالعربات التي تجرها خيول مقدسة، وكانت التضحية تتم في حضور الملك من أجل إله الشمس؛ كذلك صنع الفرس تماثيل لآلهتهم، وتبين نقوش المقابر الملكية الأمراء وهم يقومون بالتضحية أمام مذبح من فوقه قرص مجنح يبرز منه رأس وكتفا الإله "أهورا مزدا" "شكل 58" الذي كان يعتبر الإله الحكيم الذي يحكم السماء ويشمل الأرض ويحميها بجناحيه كما يحمي الملك الذي يعد نائبًا عنه على الأرض. وقد نشأت هذه الديانة على يد حكيم يعرف باسم "زرادشت" كان يعيش في ميديا؛ ولكنه غادرها ليبشر بدينه الجديد في شرق إيران، ومع أن تاريخه ما زال موضع جدل إلا أن من المعتقد بأنه كان يعاصر

"شكل 57": معبد النار في نقش رستم. "هيستاسبس" والد "دارا" الذي كان واليًا على إقليمي "بارثيا" و "هركانيا" أيام قمبيز وأن هذا الوالي كان من بين الذين استهوتهم الديانة الجديدة، ثم أخذت هذه الديانة بعد ذلك في الانتشار تدريجيًّا في أنحاء فارس، وكانت فكرتها تتلخص في أن العالم يحكمه عاملان: الخير ويمثله الإله "أهورامزدا" والشر وتمثله روح شريرة هى "أهريمان" وتذهب الروايات إلى أن مولد زرادشت قد اقترن بالمعجزات وأنه نشأ محبًّا للحكمة ولحياة العزلة والاعتكاف وآمن بأهورامزدا كإله قدير للنور وأن هذا الإله ظهر له، ووضع "الأفستا" بين يديه، وهو كتاب مملوء

"شكل 58": الإله أهورامزدا. بالمعرفة والحكمة وأمره بنشر تعاليمه بين الناس جميعًا، وقد قاسى في سبيل ذلك كثيرًا حتى اضطر إلى الهجرة إلى شرق إيران على نحو ما بينَّا، وما أن تمكن "دارا الأول" من اعتلاء العرش؛ حتى رأى أن ما يدعو إليه زرادشت يوحي بعناصر الخير في نفوس شعبه فجعله الدين الرسمي للدولة، وبذلك تحول الفرس من عبادة آلهة متعددين إلى عبادة معبود واحد؛ غير أنهم كانوا يعتقدون بوجود مجموعة من الملائكة الحارسين والكائنات المقدسة التي تعين على الخير وإلى جانبها يوجد سبعة من الشياطين، وهي تسبح دائمًا في الهواء وتسعى لإغراء البشر لارتكاب الآثام والشرور ورئيس هذه الشياطين "أهريمان" أمير الظلمة وحاكم العالم السفلي، خالق المعاصي والآثام والثعابين والديدان والآفات وبلايا الحياة ليحطم الجنة التي أسكنها "أهورامزدا" للسلف. الخلاصة أن في هذه الديانة ما يشبه الأديان السماوية؛ إذ تعترف بإله واحد إلى جانبه ملائكة وتشير إلى شياطين أو أرواح شريرة رئيسها يشبه إبليس في الأديان السماوية، وقد صورت العقيدة العالم في صورة مسرح يتصارع فيه الخير والشر وأن النفس

البشرية ميدان لمثل هذا النزاع؛ إلا أن لكل إنسان قوة خارقة تحصنه على الأخلاق الفاضلة؛ أي أن الإنسان حر الإرادة يختار بين النور والظلمة وهو مسئول عن أعماله؛ كذلك كانت تحض على فعل الخير وتبين أن طبيعة الإنسان الخيرة تدعوه إلى ذلك، كما حددت واجبات الإنسان في أمور ثلاثة: أن يعمل على جعل العدو صديقًا والشرير صالحًا والجاهل عالمًا، كما بينت أن أعظم الفضائل هي الصلاح والشرف والأمانة في الأقوال والأفعال؛ كذلك نصت على التقرب إلى الإله بالتطهر والتضحية والصلاة، ومع أنها نهت عن إقامة الهياكل والأصنام؛ إلا أن معتنقيها أقاموا المعابد على سفوح التلال وفي ساحات القصور وأواسط المدن وأشعلوا فيها النيران المقدسة قربانًا للإله أهورامزدا ثم بالغوا في تقديس هذه النيران؛ حتى وصلت إلى درجة العبادة كما قدسوا الشمس باعتبارها نار السماء الخالدة. وقد أصبح الدين الزرادشتي المصدر الروحي للفرس منذ عهد "دارا الأول" واكتسب رجاله قوة وتأثيرًا في الناس إلى درجة أن أصبح ملوك الفرس لا يقبلون على شيء؛ إلا بعد استشارتهم، وتشير "الأفستا" إلى قرب نهاية العالم حيث تبين أن زرادشت ولد قبل نهاية العالم بثلاثة آلاف سنة وسيظهر من بعده ثلاثة أنبياء من نسله ينشرون دينه في فترات متباينة ويبعث الأخير منهم حينما تكون الدنيا خرابًا فتصلح الأحوال ببعثه ثم تنتهي الدنيا وتقوم القيامة ويخلو الكون من أعراض الشيخوخة والهزال والموت إلى الأبد.

الفنون

الفنون لم يعثر على آثار كافية توضح ما كانت عليه الفنون المختلفة التي سادت بين الإيرانيين القدامى؛ كما أن دولة الميديين كانت قصيرة الأجل؛ فلم تساهم بنصيب وافر في حضارة الشرق الأدني القديم؛ غير أنه يستدل من أقدم الآثار على أن سكان الهضبة في أقدم العصور كانوا يدفنون موتاهم أسفل المنازل ثم تحولوا عن ذلك إلى الدفن في جبانات بعيدة عن المدن، وكان الميت يدفن ومعه أثاث جنزي يتبين منه أنهم استعملوا الحلي وخاصة من الفضة والبرونز؛ إذ عثر على دبابيس تنتهي بأشكال تمثل رءوس الحيوان "شكل 59" وأساور وحلقان وأحزمة يلبسها الرجال والنساء وخلاخيل من البرونز ومن الحديد أحيانًا؛ كذلك ظهرت في رسوم أواني الفخار عناصر جديدة غير تلك التي كانت شائعة فبدلًا من الشمس وأبو منجل التي كانت تمثل في تلك الرسوم "شكل 59": دبابيس من البرونز.

إلى جانب الزخارف الهندسية المألوفة كانت الشمس والحصان هي العناصر السائدة. ومع أن الفرس هم الذين كانوا أقوى الإمبراطوريات القديمة في الهضبة وبلغوا أرقى مراحل حضارية وصل إليها؛ إلا أنهم لا شك ورثوا الكثير عن الميديين؛ فقد ورثوا عاداتهم وتقاليدهم كما ورثوا طريقة كتاباتهم ومغالاتهم في إقامة الأعمدة فضلًا عما ورثوه عنهم من قوانين مختلفة، أما من ناحية الفنون والآداب؛ فلم يعثر من الأدلة ما يكفي لإعطاء فكرة واضحة عنها لدى الميديين. ومع أن الفرس ظهروا كدولة عسكرية صرفت أغلب أوقاتها في الحروب؛ إلا أنهم لم يهملوا شأن الفنون وإن كانوا قد اعتمدوا في ذلك على أقوام أخرى واعتمدوا على الفنانين الأجانب في صناعة آياتهم الفنية؛ ومع هذا فقد تميزوا بحس مرهف جعلهم يقدرون الفنون فعشقوا الأشعار والقصص الخيالية وأحبوا الغناء والرقص والعزف على مختلف الآلات الموسيقية؛ غير أنهم كانوا يأنفون الاشتغال بها؛ إذ كانت في نظرهم من حرف المأجورين والمستضعفين. ورغم قلة الجهود الأثرية في هضبة إيران؛ فإن ما عثر عليه من الآثار حتي الآن يدل بوضوح على مهارتهم في فن العمارة والبناء، وقد اشتهرت بقاياها التي اكتشفت بروعتها الفنية؛ فمقبرة كورش في "بازارجادة" ما زالت رغم تهدمها تعد آية في الروعة والجمال، كما أن مقبرة "دارا الأول" في "نقش رستم" القريبة من "برسيبوليس" ما زالت تعد

من آيات الفن في العالم القديم، ومن أروع الآثار كذلك ما عثر عليه، ومن بقايا قصر إكزركسيس في "برسيبوليس"؛ إذ تعد مجموعة المدرجات الحجرية والساحة الفسيحة وما بها من عمد شامخة من آيات الفن الفارسي القديم، ومما يلاحظ أن القصر كان يقام على ساحة مرتفعة يرتقى إليها من أسفل الوادي بدرج خارجي يمتاز بالجمال إلى درجة أن بعض علماء الآثار يعتبرونها أبدع الدرجات الموجودة في أية بقعة من بقاع العالم، ويبلغ ارتفاع الساحة ما بين عشرين وخمسين قدمًا، طولها نحو "1500" قدم وعرضها ألف قدم، وفي أعلى الدرجات يوجد المدخل وهو واسع تحف به تماثيل هائلة الثيران مجنحة برءوس بشرية "شكل60" مما يذكر بالتماثيل "شكل 60": ثور مجنح من مدخل قصر إجزر كسيس.

التي كانت تزيِّن مداخل القصور في بلاد النهرين، وبعد المدخل بقليل نجد مجموعة أخرى من الدرجات على جانبها جدران قصيرة نقشت بنقوش بارزة تعد من أجمل ما عثر عليه في إيران، وهي توصل إلى قاعة تلحق بها بعض الحجرات تشغل ساحة تزيد على مائة ألف قدم. هذا وقد أقيم قصر إكزركسيس الأول على "72" عمودًا لم يبق منها إلا "13" فقط ما زالت قائمة بين حطام القصر، وتمتاز هذه الأعمدة المصنوعة من الرخام بأنها من قطع متصلة وكلها نحيلة دقيقة ويبلغ ارتفاع الواحد منها "64" قدمًا وتشبه قواعدها الأجراس التي تغطيها أوراق الأشجار مقلوبة الوضع، وكان كل عمود ينتهي في أعلاه بشكل صدري ورأسي ثورين أو حصانين يتصلان من الخلف "شكل 61" وكانت جوانب الأبواب والنوافذ من حجر أسود لامع "شكل 61": أعمدة تنتهي في أعلاها بزخارف ورءوس حيوانية.

أما الجدران والحوائط؛ فكانت مغطاة بآجُرّ مصقول رسمت عليه صور زاهية تمثل حيوانات وأزهار وإلى خلف هذه القاعة وشرقها قاعة عرفت باسم قاعة المائة عمود لم يبق منها إلا عمود واحد. ومن الملاحظ أن الفن الفارسي قد اقتبس بصورة واضحة من فنون الدول التي خضعت لسلطان الإمبراطورية؛ ولكنه قد طورها حتى بلغت درجة الكمال؛ فمن المرجح أن الشكل الخارجي لمقبرة كورش متأثر بفن ليديا أما أعمدتها الحجرية الدقيقة فيمكن مقارنتها بالأعمدة الأشورية؛ بينما كان بَهْوُ الأعمدة الضخمة والنقوش قليلة البروز من الأمور المألوفة لدى المصريين وربما استعار الفرس فكرتهم منهم، أما تيجان الأعمدة التي على شكل الحيوان فيمكن أن تكون مستوحاة مما رأوه في نينوي وبابل. ولم يكن التصوير والنحت مستقلين عن العمارة بل كانا تابعين لها وربما كانت الكثرة الغالبة من منتجاتها من عمل فنانين أجانب وفدوا على إيران من مختلف الأقطار التي أخضعوها، وقد حاكى اليونانيون الفرس واقتبسوا منهم إلى درجة أن العناصر الفارسية تبدو واضحة في فن العمارة اليوناني؛ ولذا يمكن أن يقال أن الفرس كانوا وسطاء في نقل مظاهر الحضارة من الشرق إلى الغرب.

خاتمة

خاتمة إذا كان الإنسان في عصرنا الحاضر في أي بقعة من بقاع العالم ينعم بنتاج وخبرات إخوانه من بني الإنسان في بقاع العالم الأخرى مهما اختلفت المشارب؛ فإنه قد استفاد كذلك من خبرات أسلافه في العصور السابقة حتى إن من الممكن أن يقال بأن الحضارة في العصر الحديث لا تخرج في مظاهرها عن كونها استمرارًا وتطورًا لمظاهر الحضارات السابقة التي ظهرت في أجزاء مختلفة من العالم، وقد تنبَّه الإنسان إلى فضل الحضارات السابقة واعتبرها التراث الآدمي الذي يجب المحافظة عليه ودراسته دراسة مستفيضة حتى يمكن الوصول إلى معرفة أصول وأسس حضاراته الراهنة؛ ولذا نجد أن أمم العالم جميعها تتعاون بصورة أو بأخرى في الحفاظ على هذا التراث ومحاولة إحيائه بشتى الوسائل، وعلى ذلك؛ فليس من المستغرب أن نجد الأمم المتحضرة تساهم بنصيب فعال في إنقاذ الآثار المعرضة للخطر، كما أن كثيرًا من الدول ترسل بعثاتها للتنقيب عن الآثار أو ترميمها أو نشر معلومات وافية عنها في مختلف الأقطار لا فرق في ذلك بين جنسية وأخرى؛ لأن التراث الحضاري ملك للإنسانية جميعها1. وكثيرًا ما نجد بعض الدول تأخذها العزة بوجود بعض مظاهر حضارية قديمة فتحاول جاهدة أن تثبت أنها أقدم الأمم حضارة وأن

_ 1 انظر مقدمة الكتاب

أصول الحضارة الأولى قد وجدت فيها؛ ولكن ما دمنا قد ذكرنا بأن التراث الحضاري ملك للإنسانية جميعها؛ فليس المهم إثبات أسبقية دولة ما في ميدان الحضارة؛ ولكن المهم أن يكون لهذه الدولة فضل نقل هذه المظاهر الحضارية إلى غيرها من الدول، والأهم من ذلك كله أن يقوم شعب ما بدور فعال في نقل وتطور المظاهر الحضارية المختلفة، وأن يعطي منها لغيره، كما يتقبل من غيره بعض المظاهر الأخرى وهكذا. ومن الجدير بالذكر أن الحضارات القديمة التي لعبت دورًا مهمًّا في حياة الناس هي تلك التي نشأت في منطقة الشرق الأدنى؛ لأن هذه المنطقة بحكم موقعها كانت تتوسط العالم القديم فهي البؤرة التي أشعت المظاهر الحضارية إلى كافة أنحائه، وكان تناوب مختلف أجزاء هذه المنطقة في الوصول إلى القوة والمجد سببًا في المحافظة على التراث الحضاري القديم والأخذ بأساليب جديدة دعمت تطوره وانتشاره. ولا شك في أن الإنسان لم يجد متسعًا من الوقت للتفكير في الإنتاج المثمر الذي يؤدي به إلى النهوض الحضاري؛ إلا إذا استقر وشعر بالأمن في بيئته، وقد يرى البعض أن الحضارة تنشأ وترتقي على أساس قاعدة التحدي والاستجابة، بين الإنسان وبيئته؛ ولكن لا شك في أن كل إنتاج إنما يبدأ من أجل الكفاح في سبيل العيش أولًا ثم من أجل الرغبة في الرفاهية ثانيًا، والأرجح أن ميل الإنسان الطبيعي للترفُّه هو العامل الأول في نهضة الحضارات ورقيها. وإذا ما نظرنا إلى إقليم الشرق الأدنى القديم بصفة عامة لوجدنا أن استقرار الإنسان يتوفر في بيئاته الزراعية الكبرى التي تبدو في مصر وبلاد

النهرين بصفة خاصة ووديان الأنهار في مختلف بقاعه بصفة عامة؛ ولذا نجد أن أقدم الحضارات في هذا الإقليم هي التي نشأت في هذه الجهات الزراعية، وبقدر ما نعم سكان تلك الجهات بالأمن؛ بقدر ما تطورت حضارتهم وتدرجوا في مراتب النهوض والرقي، وخير دليل على ذلك ما نشاهده من استمرار الحضارة المصرية ودوامها وتطورها؛ فبحكم بيئتها السهلة المنعزلة عن جيرانها أمكن اتحادها تحت لواء ملك أو أسرة حاكمة من جهة، كما أنها لم تتعرض لكثير من الغزوات من جهة أخرى، وتلي بلاد النهرين مصر في هذا المضمار، ولو أن الحضارة فيها لم تتخذ صفة الثبوت والاستمرار في كل جزء من أجزائها في وقت واحد؛ بل كانت تنتقل بين أجزائها المختلفة. ومع ذلك فإن اتصال هذه الأجزاء بعضها ببعض قد أوجد نوعًا من الاستقرار لحضارتها بصفة عامة، كما عملت الأجزاء التي تنتقل إليها هذه الحضارة على تطويرها والنهوض بها، ولا شك في أن سهولة اتصال بلاد النهرين نسبيًّا بالأقطار المجاورة لها قد جعلها ذات أثر فعال في نقل مظاهر الحضارة من تلك الأقطار وإليها. ومن الغريب أن كلا من مصر وبلاد النهرين قد اتصلتا ببيئات مغايرة؛ إلا أن أثر ذلك عليهما لم يكن واحدًا، فمن المعروف أن مصر اتصلت منذ أقدم العصور ببلاد النوبة والساحل السوري وكان من أثر ذلك أن أعطت إلى كل من هاتين المنطقتين من حضارتها أكثر مما أخذت منهما؛ بل ويمكن القول بشيء من التجاوز أنها أعطت إليهما ولم تأخذ عنهما، أما بلاد النهرين؛ فقد اتصلت هي الأخرى بالساحل السوري بل وبساحل آسيا الصغرى كما اتصلت بهضبتي إيران وأرمينيا وقد أعطت من مظاهرها

الحضارية إلى هذه الجهات كما أخذت القليل من مظاهر بعضها الحضارية؛ غير أن هذا القليل يمكن ملاحظته على أي حال. ولا بد من أن نشير هنا إلى أن حضارة السهول التي انتشرت في كل من مصر وبلاد النهرين كانت حضارة سمحة بصفة عامة لا تتسم بالعنف أو القسوة، كما هو الحال في حضارات المناطق الجبلية أو الرعوية؛ وإن كان أهل بلاد النهرين قد اتجهوا في بعض مظاهر حضارتهم إلى شيء من هذا؛ فإنما يرجع ذلك إلى ما ينتاب بيئتهم أحيانًا من مظاهر كونية عنيفة كالعواصف وغيرها كما أن الجزء الشمالي منها تكثر به المرتفعات مما يوحي بأن الأشوريين الذين سكنوا في هذه المنطقة كانوا أصلب وأعنف من البابليين الذين نشئوا في جنوب ووسط بلاد النهرين. ومن دراسة تاريخ المنطقة يتبين لنا أن المناطق الجبلية حينما أخذت بأسباب الحضارة كانت تدين في أكثرها إلى حضارات سكان السهول، ومع أن الدول التي نشأت في المناطق الجبلية مثل الدولة الحيثية في آسيا الصغرى والدولة الفارسية في إيران قد انتزعت السيادة من دول السهول التي نشأت في بلاد النهرين ومصر كما انتقلت إليها مظاهر الحضارات السابقة ونشأت فيها مظاهر أخرى جديدة؛ إلا أن تلك السيادة وهذه الحضارة لم يقدر لهما البقاء بل سرعان ما انتقلا من إقليم الشرق الأدنى بسقوط هذه الدول، وعلى هذا يمكن القول بأن الحضارة في إقليم الشرق الأدنى شهدت دورين عظيمين: أولهما ظل مستمرًا في مناطق السهول، والثاني في مناطق الجبال

ومع هذا ظلت المظاهر الحضارية قائمة في مناطق السهول فترة طويلة بعد أن زالت عنها سيادتها وخضعت لأهل المناطق الجبلية من إقليم الشرق الأدنى الذين سرعان ما قضى على سيادتهم أهل المناطق الجبلية الأخرى من خارج نطاق الإقليم. وبعبارة أخرى كانت السيادة والحضارة في أيدي الساميين بصفة عامة ثم انتقلتا إلى أيدي الهندو أوروبيين.

المختار من المراجع العامة

المختار من المراجع العامة باللغة العربية ... المختار من المراجع العربية أ- باللغة العربية: 1- إبراهيم رزقانة وآخرون: حضارة مصر والشرق القديم، القاهرة، "الألف كتاب رقم: 59". 2- أحمد فخري: اليمن ماضيها وحاضرها، القاهرة 1957. 3- إرمان- رانكه: مصر والحياة المصرية، مترجم، القاهرة 1952. 4- جرني: الحيثيون، مُتَرْجَمٌ، القاهرة، "الألف كتاب رقم: 154". 5- ديلابورت: بلاد ما بين النهرين، مترجم، القاهرة، "الألف كتاب رقم: 35". 6- طه باقر: مقدمة في تأريخ الحضارات القديمة، جزءان، بغداد 1955، 1956. 7- فرانكفورت وآخرون: ماقبل الفلسفة، مترجم، بغداد 1960. 8- فيليب حتى: تاريخ سوريا ولبنان وفلسطين، مترجم، بيروت 1958. 9- كونتنو: الحضارة الفينيقية، مترجم، القاهرة، "سلسلة المراجع الجامعية رقم: 12". 10- محمد عبد القادر محمد: تاريخ الشرق القديم، القاهرة 1965. 11- محمد عبد القادر محمد: الساميون في العصور القديمة، القاهرة 1968. 12- مري: مصر ومجدها الغابر، مترجم، القاهرة. 13- موسكاني: الحضارات السامية القديمةن مترجم، القاهرة 1968. 14- نجيب ميخائيل: مصر والشرق الأدنى القديم، الإسكندرية.

باللغات الأوروبية

باللغات الأوروبية ... ب- باللغات الأوربية: 1- Albright, "the archaeology of Palestine " (pellcan, a 199) . 2- Atiyah, "the arabs', (pelican, a 350) . 3- Cap0art, "egyptina art". (London) 1932) . 4- Capart, "primitive art in Egypt " (London) 1905) . 5- Capart, & contenay, "histoire de l'orient ancien' (paris 1946) . 6- Chilled, 'what happened in history" (Middlesex 1943". 7- Contenay "la civilization des Hittites et des hurrites du mitani" (paris 1948) . 8- Ed burgh, "the legacy of tha ancient world" (pelican, a 284) . 9- Edwards, "the pyramids of Egypt ", (pelican a 168) . 10- Frankfort , "the legacy of the ancient world" (near east" (1951) . 11- Ghirshman, " iran " (pelican, a 239) . 12- Glanvill, "the legacy of Egypt " (oxford 1942) . 13- Hayes, "the sceprta of Egypt " vol. I, (new york 1953) . 14- Kees, "deas alte aegypten" (berlin 1955) . 15- Lioyd, "early Anatolia " (pelican a 354) .

16- Maspero, "art in Egypt " (London 1921) . 17- Murra, "the splendor that was Egypt " (new york 1949) . 18- Pertie "social life in ancient Egypt " (London 1923) . 19- Roux, "ancient lraq" (pellcan a 828) . 20- Sags, "the greatness that was Babylon " (London 1962) . 21- Schatff & mortgaat, "aegyten und vorderasien in altertum" (munich 1950) . 22- Steindorff & seele, "when Egypt ruled the east" (1942) . 23- Wilson , "the burden of Egypt " (Chicago 1951) . 24- Wilson , "The Cultures of Ancient Egypt " " Chicago 1956". 25- Woolley, "the beginnings of civilization" history of mankind, Vol II new York 1965) .

فهرس الأعلام

فهرس الأعلام "أ" آبو "إليفنتين" 123. آتون 48، 80. آدابا 222. آدم 222. آمون 29، 65، 73- 75- 79- 82، 107. آنو 200، 216، 220، 222. الآراميون 166- 168، 245. الآريون 278. الأشمونيون 71، 73، 74. الأشوريون 202، 204، 206، 208، 215، 228، 230، 239، 246، 247، 262، 292. الأكديون 205، 224. الأموريون 155، 156، 158. الأناضول 172، 238، 239. الأنباط 153. الإيرانيون 266، 283. البابليون 196، 217، 247، 250، 251، 292.

البتراء 153، 154. البحر الأبيض المتوسط 12، 77، 154، 162. البحر الأحمر 151، 277. البحرين 238. البرشة 116. التلمود 171. التوراة 145، 171. الجيزة 8. الحجاز 145. الحوريون 242، 266. الحيثيون 172، 173، 175، 176، 242. الخليج العربي 238، 274. الدلتا 10، 77، 78، 99، 118. الدير البحري 29. أبسو 219. أبيدوس 72، 78، 82، 144. أبيس 75. أتارجاتس 168. أتوم 72. إخناتون 48، 80- 82. إدد 158.

إدفو 76. إرتريا 153. إرمان 122. أرمينيا 247، 265، 291. أسبانيا 162. إسرائيل 215. أسوان 12، 123. أشور 152، 159، 162، 168، 198، 204، 214، 217، 226، 238. أشور بانيبال 153، 244. أغسطس 143. أفروديت 165. إفريقيا 153، 162، 168. أفغانستان 238. أكد 152. إجزر كسيس 285. الأسرة الأولى 44، 53، 136، 139. الأسرة الثانية 90، 136، 139. الأسرة الرابعة 79، 130، 144. الأسرة الخامسة 44، 60، 79، 92، 130. الأسرة السادسة 44، 97.

الأسرة الحادية عشرة 79. الأسرة الثانية عشرة 62، 95. الأسرة السابعة عشرة 80. الأسرة الثامنة عشرة 46- 48، 50، 52، 54، 88، 95، 157. الأسرة التاسعة عشرة 47، 50، 56، 82، 95، 98. الأسرة العشرون 50، 53، 54. الأسرة الثالثة والعشرون 139. الأسرة السادسة والعشرون 98، 162. الرومان 143، 145، 154، 162، 168. السودان 55، 80، 108. السومريون 205، 217. الشام 152، 154. الصعيد 78، 79. الصومال 153. الصين 273. العبرانيون 164، 168، 170، 171، 174. العراق 162، 195، 202، 220، 230، 238. العرب 145، 154. العيلاميون 225، 242. الفرات 196، 229، 248، 274.

الفرس 267، 273- 275، 277، 281، 282، 284، 387. الفلسطينيون 169. الفينيقيون 158، 160، 161- 164، 167، 170، 217. القرآن الكريم 149. القسطنطينية 143. الكاشيون 225، 257، 266. الكرنك 80، 143. الكلدانيون 226. الكنعانيون 158، 159، 162، 164، 169، 170. المخا 146. المسيح 168. المدينة 145. الميتانيون 243. الميديون 267، 284. النوبة 80، 115، 122، 123، 125، 289، 291. النيل 10، 11، 12، 75. الهكسوس 62، 79، 80، 99، 161. الهند 151، 277. الوركاء 220، 223.

اليمن 145، 146، 150، 153. اليونان 5، 6، 11، 145، 148، 154، 161، 165، 172، 194، 277، 287. إمحتب 69. إمنحتب الثالث 29، 80. أنكيدو 210، 222. إنليل 216، 221. أوب وات 72. أوتو نبشم 220، 221. أور 156، 224. أورشليم 170، 171. أوركاجينا 223. أورنمو 224. أوزوريس 69- 78، 81، 84، 86، 89، 102، 103، 164. أوناس 84. أوني 96. أهور رامزدا 269، 281، 282. إيا 216، 221، 222. إيبو- ور 52. إيتانا 222، 223. إيزيس 69، 71، 73، 77، 78، 81.

إيسين 224. إيطاليا 277. إيل 164. "ب" بابل 154، 158، 194، 198، 216، 275، 286. بارثيا 280. باريس 143. بازارجادة 284. باستت 76. بي الأول 95. بتاح 72، 76، 79، 82. بحر قزوين 266. بحيرة المنزلة 43. برسيبوليس 245، 284، 285. برايب سن 79. بردية تورين 77. بريطانيا 162. بس 83، 165. بعل 158، 164، 169. بلقيس 149، 150.

بوتو 78. بونت 123، 153. بلاد العرب 145. بلاد النهرين 148، 151، 152، 154، 157، 167، 173، 194- 195، 199، 208، 210، 216، 219، 223، 229، 230، 233، 235- 236. "ت" تجلاث باسر الثالث 154. تحوت 66، 69، 71-72، 76، 86-78، 124-125، 126. تحوت حتب 116. تحوتمس الأول 143. تحوتمس الثالث 143. تدمر 153-154. تل العمرانة 8، 38، 39، 41. تليبلينوس 175. تيامة 219. "ج" جب 71، 73، 75-76.

جبل طارق 162. جبيل 157. جلجامش 220، 221، 222. جوديا 152. جوفنال 83. "ح" حتحور 66، 76. حتشبسوت 26، 46، 122، 143. حجر رشيد 245. حدد 167- 168. حضر موت 151. حلب 157، 172. حمورابي 157، 170، 224، 225، 234، 235، 241. حورس 69، 71- 73، 76- 80، 87، 94، 152. حور محب 95. "خ" خاتي 172. خفرع 44. خنوم 66، 72. خوفو 130.

"د" دار الأول 273، 274، 280- 282. دجلة 229، 274. دشاشة 100. دمشق 152. ديدور 92، 93. "ر" رخ مي رع 95. رشف 158، 165، 168. رع 76، 78- 80، 82، 84، 86، 130. رعمسيس الثانى 29، 115. رعمسيس الثالث 64، 96. رعمسيس الرابع 116. روما 143، 162. "ز" زاجروس 296. زام 278. زبيبة 154. زمري ليم 157، 158. زوسر 90.

"س" سبأ 145، 148- 150، 152. سبك 75. ست 69، 71، 73، 77- 80، 82. سخمت 69، 76. سرجون الأول 224. سرجون الثاني 161، 247. سقارة 8. سنوسرت الأول 95، 130، 143. سكر 84. سليمان 161، 162، 170. سمسي 154. سنحريب 154، 162. سنوحي 130. سوريا 148، 152، 158، 167، 170، 238. سوسة 225. سومر 216. سيتي الأول 115. سيناء 114، 123.

"ش" شبه جزيرة العرب 238. شبه جزيرة البلقان 266. شمبليون 6. شلنصر الثالث 152. شليمان 172. شمشي 168، 225. شو 71- 72، 75- 76. "ص" صروح 148، 150. صنعاء 146. صيدا 163. "ط" طروادة 172. طوروس 238. طيبة 73- 74، 143. "ع" عاثرة "عشترت" أو عشتار أو عشتر 148، 157، 165، 217، 220.

عمان 238. عين شمس 61. "ف" فارس 245، 273، 275، 280. فلسطين 130، 158، 168. فينوس 165. "ق" قبرص 274. قطنة 157. قمبيز 280. "ك" كاروى 125. كاهون 8، 38، 40. كبادوكيا 238. كريت 274. كورش 284، 286. "ل" لبنان 111، 203. لجش 152، 223.

لندن 92، 143. ليبيا 162. ليديا 273. "م" مأرب 146- 151. مارتو 157. ماري 153، 156- 157. ماعت 69، 71، 76، 83، 95. مانيثون 76. مثرا 78. مدينة هابو 74. مردوك 216، 219. مصر 5، 8، 10، 11، 12- 17، 29، 22، 46، 55، 59، 76، 77، 79، 80، 93، 97، 99، 108، 110، 111، 122، 130، 131، 136، 151، 152، 157، 160، 164، 166، 168، 205، 257، 271، 273، 290، 291، 292. مكة 145. منف 69، 71- 74. موت 74.

موسى 168. مونتو 79. ميتاني 266. ميديا 215. مين 79. مينا 77، 79. ميشو 194. "ن" نارام سن 152. نبؤور 146. نجران 151. نخاو 162. نخن "هيراقونبوليس" 95، 118. نفتيس 69، 71، 73، 81. ننازوا 253. ننجشزيدا 253. نوت 71. نون 70، 71. نيبور 194. نينوي 286. نيويورك 143.

"هـ" هركانيا 280. هليوبوليس 71- 72، 74، 77، 79، 143، 144. هوميروس 163، 172. هيرودوت 5، 92- 94، 110، 194، 261. "و" وادي الحمامات 123. وادي النطرون 122. وادي النيل 5، 12، 14، 15. وادي مياه 115. وهيو 278. "ي" يمخاد 157. ينج 6، 7. يهوا 169.

§1/1