معالم تاريخ الشرق الأدني القديم

محمد أبو المحاسن عصفور

المقدمة

المقدمة مقدمة الطبعة الثانية ... بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة الطبعة الثانية: نفدت الطبعة الأولى منذ سنوات, ظهر فيها عدد لا بأس به من المؤلفات العربية والأجنبية التي تعالج بعض أو جل موضوعات هذا الكتاب؛ غير أنها جميعًا لم تغير شيئًا من الحقائق الواردة فيه، وما زلت أعتقد أنه -في منهجه ومحتواه- يمثل الإطار العام الذي ينبغي أن يلم به كل من يريد التعرف على التاريخ القديم لإقليم الشرق الأدنى بصفة عامة, وفي سهولة ويسر دون التعرض لتفصيلات لا جدوى منها لغير المتخصصين تخصصًا دقيقًا. وما أن شرعت في إعادة طبعه؛ حتى أخذت في إعادة النظر فيه؛ لأن من المألوف ألا يرضى الإنسان عما ينتجه إذا ما أتيحت له فرصة التأمل فيه؛ لذا وجدت أن أجري فيه بعض التعديلات كي يصبح -من وجهة نظري على الأقل- أكثر ملاءمةً للغرض الذي وضع من أجله. وقد يؤخذ على هذا الكتاب أنه خصص جزءًا لا بأس به عن العصور قبل التاريخية مع أن موضوعها -في نظر الكثيرين- حضاري في جملته ولكن

دراسة هذه العصور ما زالت هي الوسيلة الوحيدة للتعرف على تاريخ الإنسان قبل معرفته للكتابة؛ ولذا كان لا بد من التعرض لها. كذلك قد يرى البعض أنه لم يأخذ بالاتجاه الجديد في نطق أسماء الملوك والحكام, وخاصة فراعنة مصر وملوك فارس؛ إلا أن هذا الاتجاه لم يستقر بعد وما زال الكثيرون يفضلون التمسك بالنطق المألوف لديهم؛ ولذا فقد التزمته حتى لا يلتبس الأمر على بعض القراء. وأرجو أن يكون في هذا الكتاب ما يفي بالغرض, والله ولي التوفيق. د/ محمد أبو المحاسن عصفور.

مقدمة الطبعة الاولى

مقدمة الطبعة الأولى: لست أزعم أن هذا الكتاب يخرج في صورة مرضية حتى لنفسي؛ ولكنني أعتقد أنه كان ضرورة أوجبتها ظروف عملي؛ فرغم وجود عدد لا بأس به من المطبوعات العربية التي تتناول بعض موضوعه أو معظمه بالدراسة "سواء كانت تأليفًا أو ترجمة"؛ إلا أنني أرى أننا ما زلنا في حاجة إلى الكثير من المطبوعات العربية التي تعرض لدراسة تاريخ الشرق الأدنى القديم دراسة عامة؛ ليتسنى لقارئ العربية أن يجد بين يديه ما يوضح له تاريخ هذا الجزء الذي نعيش فيه من العالم. ومع أن إتقان اللغات الأجنبية أمر توجبه نهضتنا الحديثة وفي مؤلفاتها ما يمكن أن يجد فيه القارئ بغيته للتعرف على هذا التاريخ؛ إلا أن ما يتوخاه عالمنا الحديث من السرعة في إنجاز كل الأمور يستدعي أن يكون بين يدي طلابنا -بل وقرائنا العاديين- مؤلفات بلغتهم يسهل عليهم الرجوع إليها للبحث في مختلف العلوم أو خطوطها العريضة على الأقل دون التعرض لما دار وما يدور حولها من مناقشات وجدل، وقد أردت لكتابي هذا ألا يخرج عن هذا الحيز العام, وإنني لعلى يقين من أنه يفي بهذا الغرض؛ ولكنه لا يغني دارس التاريخ عن قراءة غيره من الكتب الأخرى. ودراسة التاريخ في مفهومها الحديث لا تعني سرد الأحداث التاريخية ذات الصبغة السياسية فحسب؛ بل يجب أن يتناول دارس التاريخ بالبحث كل ما يمر

على مسرح الحياة من مظاهر حضارية مختلفة, وأن يجعل من المكان الذي يدرس تاريخه مسرحًا يتعرض لكل ما فيه وما يدور به من أحداث بالدراسة والبحث خلال فترة أو فترات معينة؛ غير أنني أرى -من تجاربي الخاصة- أن تشعب هذه الدراسة يؤدي إلى تعقيدها أمام الطالب المبتدئ ويشتت أفكاره, وقد يعجز أو يزهد في دراسة التاريخ في كثير من الأحيان، كما أن الجمع بين هذه النواحي المختلفة في مؤلف واحد يكاد يكون أمرًا مستحيلًا؛ ولذا ما زلت أعتقد -وقد أكون مخطئا- أن دراسة التاريخ السياسي دراسة مستقلة عما عداها, تتيح للطلاب فرصة فهم المعالم الرئيسة للتاريخ الذي يدرسونة, وتهيئهم للجمع في دراستهم بين نواحيه المختلفة. وأرجو أن يكون واضحًا أن هذا الكتاب يعد تنقيحًا للكتاب الذي سبق أن قدمته لطلاب جامعة البصرة "موجز تاريخ الشرق الأدنى البصرة 1966" وقد أضفت إليه بعض الإضافات التي تراءت لي ضرورتها حاليًا, والله ولي التوفيق. د. محمد أبو المحاسن عصفور

محتويات الكتاب

محتويات الكتاب الموضوع الصفحة مقدمة 7 قائمة بالأشكال والجداول والخرائط 16 أهم الاختصارات 19 الفصل الأول منهج التأريخ 21 الفصل الثاني نشأة الحضارة وتطورها 31 الدور الحجري القديم الأسفل 34 الدور الحجري القديم الأوسط 38 بدء الاختلاف الحضاري 39 التطور الحضاري والشرق الأدنى 42 الفصل الثالث مصر أولًا- العصور قبل التاريخية 52 أ- الدور الحجري القديم 52 ب- الدور الحجري المتوسط 58 جـ- الدور الحجري الحديث 59 د- عصر ما قبل الأسرات 71

الموضوع الصفحة ثانيًا- العصر التاريخي 84 1- الدولة القديمة 96 2- عصر الاضمحلال الأول 123 3- الدولة الوسطى 133 4- عصر الاضمحلال الثاني 148 5- الدولة الحديثة 157 6- عصر الاضمحلال الثالث 202 7- عصر النهضة المؤقتة 225 8- عصر الفوضى الأخير 230 الفصل الرابع شبة جزيرة العرب 238 العصر قبل التاريخي 240 العصر التاريخي 249 أولًا: القسم الجنوبي 249 ثانيًا: القسم الشرقي 260 الفصل الخامس الإقليم السوري 264 أولًا- العصور قبل التاريخية 265 أ- العصر الحجري القديم 265 ب- العصر الحجري المتوسط 267 ج- العصر الحجري الحديث 268 د- دور بداية استخدام المعادن 268

الموضوع الصفحة ثانيًا- العصور التاريخية 270 أ- الدول التي أثرت في تاريخ سورية 270 ب- الشعوب التي أثرت في تاريخ سورية 274 أولًا- العناصر السامية 274 أ- الأموريون 276 ب- الكنعانيون أو الفينيقيون 278 ج- الآراميون 282 د- الشعب العبراني 283 ثانيًا- العناصر غير السامية 292 الحوريون والميتانيون 292 الفصل السادس آسيا الصغرى 294 العصور قبل التاريخية 297 الدور الحجري القديم 297 الدور الحجري الحديث 298 دور بداية استخدام المعادن 299 العصر التاريخي 304 الدولة القديمة 307 عصر الإمبراطورية 310 الممالك الحيثية الجديدة 318 سكان غرب وجنوب هضبة الأناضول "الآخيون والطرواديون" 322 الحيثيون في فلسطين 327

الموضوع الصفحة الفصل السابع العراق 329 العصور قبل التاريخية 331 1- العصر الحجري القديم 331 2- العصر الحجري الحديث 332 عصر بداية استخدام المعادن 335 العصر التاريخي 341 1- السومريون 346 2- الساميون 355 3- عودة نفوذ السومريين "النهضة السومرية" 359 4- التنافس بين الأموريين والعيلاميين 362 5- مملكة أشنونا 364 6- البابليون 366 7- الأشوريون 372 1- العهد الأشوري القديم 374 2- العهد الأشوري الوسيط 376 3- العهد الأشوري الحديث 378 أ- الإمبراطورية الأشورية الأولى 378 ب- الإمبراطورية الأشورية الثانية 379 8- العهد البابلي الأخير "المملكة الكلدانية" 383

الموضوع الصفحة الفصل الثامن إيران 387 العصور قبل التاريخية 390 العصر الحجري القديم 390 العصر الحجري المتوسط 390 العصر الحجري الحديث 391 عصر بداية استخدام المعادن 392 فترة التمهيد للعصر التاريخي في عيلام 396 العصر التاريخي 399 1- عيلام 401 2- الإيرانيون: الميديون والفرس 406 المبديون 408 لإخمينيون 410 مراجع مختارة 413 فهرس أبجدي 425

قائمة بالأشكال والرسوم

قائمة بالأشكال والرسوم: الصفحة 1- تطور الكائنات والعائلة البشرية 23 2- فأس يدوية أبفيلية "شيلية" 35 3- فئوس يدوية أشولية 36 4- آلة موستيرية 38 5- مدرجات النيل 45 6- آلات أبفيلية "شيلية" من مصر 52 7- آلات أشولية من مصر 54 8- أسلحة موستيرية مصرية "ما قبل السبيلية" 55 9- أدوات سبيلية 58 10- أدوات وأوانٍ فخارية من تاسا 62 11- أوانٍ وأدوات من البداري 64 12- أوانٍ من العمري 66 3- منظر لما كان عليه مسكن من مرمدة 67 14- أدوات وأوانٍ من مرمدة 68 15- أدوات وأوانٍ من الفيوم 71 16- أدوات وأوانٍ من العمرة 75 17- أوانٍ وأدوات من جزرة 76 8- أوانٍ وأدوات من سماينة 78 19- أوانٍ من حلوان ب 79 20- أدوات وأوانٍ من المعادي 81

الصفحة 21- جزء من قائمة سقارة 90 22- جزء من بردية تورين 91 23- هرم زوسر المدرج بسقارة وملحقاته 103 24- الهرم الكاذب "أو المنحنى" في دهشور 106 25- هرم ميدوم 107 26- مجموعة منتوحتب الأول الجنزية 134 27- دمية فخارية دونت عليها نصوص سحرية للقضاء على عدو 147 28- أوانٍ وأدوات من مرسين 298 29- أوانٍ وأدوات من جرمو 333 30- أوانٍ من حسونة 335 31- إناء من الأربجية 336 32- أوانٍ فخارية من أريدو 338 33- أعمدة مغطاة بالموازييك المخروطي الشكل في أوروك 340 34- زاقورات أور 361 35- آنية سيالك3 394 36- أختام بها زخارف هندسية الشكل 395

الجداول: الصفحة 1- مخطط تقسيم تاريخ البشر 26 2- جدول يبين معاصرة الأسرات 22-25 المصرية بعضها للبعض 216-217 3- جدول تاريخي عام 414-423 الخرائط 1- أهم المواقع الأثرية في الشرق الأدنى القديم 48 2- أهم المواقع الأثرية في مصر 53 3- الإمبراطورية المصرية في عهد تحتمس الثالث 170 4- انتشار الساميين في سورية 275 5- آسيا الصغرى 296 6- أهم المواقع الأثرية في بلاد النهرين 330 7- إيران 389

الاختصارات الواردة بالكتاب

الاختصارات الواردة بالكتاب: ASA Annales du Service des Antiqnt6s de I'Egypte, Le Caire, 1900 ff. BIFAO Bulletin de L"nstltut francais d'archeoiogie orientals, Le Caire, 1901 ff. Breasted, AR. J. E. Breasted, Ancient Records of Egypt, Historical Documents from the Earliest Times to the Persian conquest (4 vols. + 1 index) , Chicago, 1906-7. Chr, d'Eg. Chronique d'Egypte, Bruxelles, 1928 ff. Drioton & Vandier, L'Egypte = E. Drioton and J. Vandier, L'Egypte (Les Peuples de L'Orient Mediterranean II) , (4e ed) , Paris, 1962. JEA Journal of Egyptian Archaeology, London, 1914 ff. Luckenbil! , ARAB, D.D. Luckenbill, Ancient Records of Assyria and Babylonia, (2 Vols.) Chicago, 1926-7. Macadam, Kawa, M.F.L. Macadam, The Temples of Kawa, {2 Vols.) , Oxford, 1949, 1955.

Mem Inst, Fr. Memoires Publies par, les membres des L.htm'lnstitut Francais d'Archeolegie Orientale, Le Caire, 1902 ff. PSBA proceedings of the Society of Biblical Archaeology. London, 1879 ff. Rec. de Trav. Recueil de Travaux relatifs a la philologie et a I'archelogie egyptienne et assyrienne, Paris, 1870 — 1923 Sethe, Urkunden (or Urk.) K. Sethe, Urkunden des Aegypti-schen Altertums, Leipzig, 1906 — 9 & 1913 — 33.

الفصل الأول: منهج التاريخ

الفصل الأول: منهج التاريخ: يقدر عمر الأرض بنحو ألفي مليون عام, اصطلح الجيولوجيون على تقسيمه إلى أزمنة أو دهور طويلة, وهذه قسموها بدورها إلى أقسام فرعية1، وقد أخذت الأرض منذ نشأتها تتجه نحو البرودة التدريجية بوجه عام؛ ولكنها تعرضت لذبذبات طويلة الأجل, تناوبت فيها فترات اشتدت برودتها؛ فتقدم غطاء الجليد فيها نحو العروض ذات الحرارة المعتدلة حاليًا, وفترات مال المناخ فيها إلى الدفء نسبيًّا فتراجع الجليد إلى العروض الباردة، وكانت آخر هذه الذبذبات هي تلك

_ 1 هذه الأزمنة هى: أ- أقدم الأزمنة "الدهر الأقدم" ويعرف باسم الزمن الأركى أو الأيوزوي. ب- الزمن الأول أو الباليوزوي, وينقسم إلى عصور: الكامبري، الأردفيشي، السيلوري، الديفوني، الفحمي، البرمي. جـ- الزمن الثاني أو الميزوي, وينقسم إلى عصور: الترياسي، الجوراسي، الكريتاسي. د- الزمن الثالث أو الكاينوزوي أو الترياسي, وينقسم إلى عصور: الأيوسين، الأوليجوسين، الميوسين، البليوسين. هـ- الزمن الرابع أو البليوستوسين, وهو أحدث الأزمنة.

التي حدثت في آخر الأزمنة الجيولوجية, وتعرف لدى الباحثين باسم العصور الجليدية1. ولم تبدأ الحياة على سطح الأرض منذ نشأتها، وحين بدأت كانت عبارة عن كائنات بسيطة التكوين ثم أخذت الكائنات المعقدة في الظهور، وبعد ذلك وجدت كائنات شبيهة بالإنسان؛ ولكنها كانت أقرب إلى القردة العليا2, ثم ظهرت كائنات تعد أسلافًا للإنسان الحديث3؛ إلا أن تلك المخلوقات الشبيهة

_ 1 حدثت هذه الذبذبات في الزمن الرابع, وسُمِّي كل دور تقدم فيه الجليد باسم أحد وديان الألب؛ حيث عثر على الركامات الجليدية في تلك الوديان, وهذه العصور الجليدية هي: جنتزا Guntz، مندل Mindel، رس Riss، فرم Wurm على التوالي. 2 يمكن تقسيم هذه الكائنات إلى: أ- سلالات أشبه بالقردة العليا, وقد وجدت بقايا هياكلها العظمية في جاوة "إنسان جاوة" وفي الصين "إنسان الصين" وغيرهما. ب- سلالات أقل شبهًا بالقردة العليا من السلالات السابقة, وقد وجدت بقايا هياكلها العظمية في نياندرثال "إنسان نياندرثال" وفي هيدلبرج "إنسان هيدلبرج" بألمانيا, وفي روديسيا "إنسان روديسيا" وصولو في جاوة. ويعرف إنسان هاتين المجموعتين من السلالات أو إنسان المجموعة "ب" على الأقل باسم الإنسان العامل Homo Faber. 3 هذه السلالات قريبة الشبه بالإنسان الحديث, وحجم المخ لديها أكبر منه لدى السلالات السابقة, وقد عثر على بقايا هياكلها العظمية في أماكن مختلفة من العالم مثل: جالي هل وسوانسكومب في إنجلترا وشتاينهايم في ألمانيا وجبل الكرمل في فلسطين وكرومانيون في فرنسا وجريمالدي في إيطاليا وغيرها. ويعرف الإنسان في هذه السلالات والإنسان الحالي بأنه الإنسان العاقل Homo Sapiens. وقد يرى البعض تقسيم هذه السلالات الأخيرة إلى قسمين: أ- أسلاف الإنسان الحالي الأقدم الذين يتمثلون في جالي هل وسوانسكومب وشتاينهايم وجبل الكرمل. ب- أسلاف الإنسان الحالي الأحدث, وهم في كرومانيون, كومب كابل, برن, وجريمالدي.

بالإنسان، وهذه الأسلاف انقرضت قبل الإنسان الحديث ولا يوجد من الأدلة القاطعة ما يؤكد صلتها به, وقد حاول الباحثون -وما زالوا يحاولون- العثور على ما يعتبرونه الحلقة المفقودة بينها وبين الإنسان؛ ولكن لم يتحقق ذلك حتى الآن "شكل1". ولا شك في أن تاريخ الإنسان يبدأ منذ اللحظة التي ظهر فيها على سطح الأرض, وأخذ يتفاعل مع بيئته؛ فبدأ في إنتاج مظاهر حضاراته المختلفة وتدرج شكل "1" تطور الكائنات والعائلة البشرية في العصور الجيولوجية

فيها وبالطبع لم يتوصل إلى ما نشاهده من حضارات راقية إلا بعد آلاف عديدة من السنين، ومن البديهي أنه لم يتدرج في مراحل الرقي بسرعة واحدة في مختلف أنحاء العالم، كذلك لم يمر في منطقة ما بالمراحل الحضارية التي مرت بها المناطق الأخرى, كما أنه لم ينتقل من مرحلة حضارية إلى مرحلة حضارية أخرى بنفس الترتيب الذي مرت به غيرها, كذلك لم تكن الفترة التي قضاها في إحدى المراحل الحضارية مساوية للفترة التي قضاها في نفس المرحلة في أماكن أخرى. وقد تدرج الباحثون على تقسيم تاريخ الإنسان على أساس تطوره الحضاري إلى قسمين رئيسيين: القسم الذي سبق معرفته للكتابة والقسم الذي عرف فيه الكتابة، وأطلقوا على الأول اسم "ما قبل التاريخ" وأطلقوا على الثاني اسم "العصر التاريخي" على اعتبار أن الإنسان في هذا القسم من حياته توصل إلى التدوين؛ وبذلك وجد التاريخ، إلا أن تسمية القسم الأول باسم "ما قبل التاريخ" لا تتفق مع ما يعرف من أن تاريخ الإنسان يبدأ منذ لحظة ظهوره على الأرض, ومن الأفضل أن يطلق عليه اسم "عصر ما قبل الكتابة أو التدوين" أو "العصر قبل التاريخي" للتفرقة بينه وبين "العصر التاريخي" أو "عصر الكتابة أو التدوين" ومع كلٍّ فإن اصطلاح "ما قبل التاريخ" أصبح من الشيوع؛ بحيث لا يشك أحد في المقصود به. ومن الطبيعي -وقد مر الإنسان بمراحل حضارية مختلفة- أن يختلف أسلوب حياته في هذه المراحل، وعلى هذا تعددت تقسيمات الباحثين في تاريخ الإنسان وحضاراته واختلفت وجهات نظرهم في هذا الشأن. على أن أشهر هذه التقسيمات تلك التي قسمت تاريخ الإنسان حسب المادة التي صنع منها أدواته, إلى دورين: "دور استعمال الحجر"، "دور استعمال المعادن" وهذا الأخير ما زلنا نعيش فيه إلى اليوم، وتلك التي تقسمه على أساس اقتصادي إلى مرحلتين:

مرحلة جمع الطعام"، "مرحلة إنتاج الطعام"، وقد نضيف إلى ذلك فنعتبر أول إنتاج للطعام ثورة صناعية يطلق عليها "مرحلة الثورة الصناعية الأولى" لما صاحب هذا الإنتاج من صناعات جديدة كالفخار؛ تمييزًا لها عن النهضة الصناعية التي حدثت في القرن الثامن عشر الميلادي التي يمكن اعتبارها الثورة الصناعية الثانية، وفيها بدأت "حركة التصنيع". ومع كل, فما زال مختلف الباحثين يقسمون تاريخ البشر حسب أسس متباينة وفق اختصاصاتهم والدراسات التي يهتمون بها، وهذه التقسيمات جميعها تهدف إلى تيسير دراسة تاريخ الإنسان والأدوار الحضارية التي مر بها؛ إلا أنه ينبغي أن ندرك أنه لا توجد حدود زمنية فاصلة بين قسم وآخر في كل من هذه التقسيمات التي لا يخلو أي منها من نقائص؛ ولكنها على كل حال تتيح لنا تتبع المراحل التي مر بها الإنسان في تاريخه الطويل، وهي -وإن اختلفت في الأسس التي بنيت عليها- تتفق فيما بينها إلى حد كبير؛ بحيث يمكن مطابقة أحد الأقسام في أي من هذه التقسيمات على مراحل واضحة المعالم في التقسيمات الأخرى؛ إذ من الممكن مثلًا التوفيق بين "مرحلة جمع الطعام" والجزء الأول من "دور استعمال الحجر" الذي يعرف باسم "الدور الحجري القديم", وبين "مرحلة إنتاج الطعام" و"الجزء الأخير من عصر استعمال الحجر" و"دور استخدام المعادن" أي: أنها تبدأ بأوائل الدور الحجري الحديث وتستمر إلى وقتنا الحالي؛ وذلك إذا ما تغاضينا عن فترة الانتقال بين "الدور الحجري القديم" و"الدور الحجري الحديث" وهي التي يطلق عليها اسم "الدور الحجري المتوسط"، وإن كان البعض يجعل "مرحلة إنتاج الطعام" قاصرة على الفترة التي مرت على الإنسان ابتداءً من "الدور الحجري الحديث" إلى بداية " العصر التاريخي". ويبين المخطط التالي تقسيم تاريخ البشر إلى الأقسام الرئيسية العامة: وإذا كان في مقدورنا الآن أن نؤرخ الأحداث حسب وقت حدوثها بالنسبة

وإذا كان في مقدورنا الآن أن نؤرخ الأحداث حسب وقت حدوثها بالنسبة لحادث مهم له أثره في الحياة البشرية مثل ميلاد المسيح وهجرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- حيث اتخذ كل منهما أساسًا للتأريخ، فإن الأمر لم يكن كذلك في العالم القديم؛ إذ اتخذ سكان بلاد النهرين من كل حادثة مهمة أساسًا يؤرخون به ما حدث في سنتها أو السنوات اللاحقة لحدوثها, وبالطبع اختلفت هذه الأسس باختلاف المدن ثم جعلوا من حكم كل ملك تقويمًا مستقلًّا أو أطلقوا على السنين أسماء كبار رجال الدولة الذين عاشوا فيها واتخذوها أساسا يؤرخون بالنسبة له، أما المصريون القدماء فقد جعلوا من حكم كل فرعون تأريخًا تنسب إليه أحداث عهده. وقد توصل معظم أهل الحضارات القديمة إلى التوقيت وتقسيم الزمن بصورة أو بأخرى؛ إذ عرف أهل العراق الشهور القمرية وكانوا يضبطون تقويمهم بإضافة بضعة أشهر كل عدة سنوات1, أما المصريون فقد عرفوا السنة على أساس 365 يومًا أي بفارق 1/ 4 يوم في السنة عن تقويمنا الحالي، وعلى هذا لا تكاد تعترض المؤرخ صعوبة في تأريخ الأحداث التي أشارت إليها الوثائق والنصوص القديمة إذا ما أمكن ربطها بعهد ملك من الملوك؛ حيث أصبح في الإمكان تأريخ حكم معظم ملوك الشرق الأدنى القديم وتقدير عمر كل مرحلة تاريخية في أى قطر من الأقطار بتتبع قوائم الملوك الذين حكموا فيه وتسلسلهم ومدة بقاء كل منهم على عرش بلاده إذا ما توفرت لدينا وثائق ونصوص تشير إلى ذلك، أما إذا أردنا تأريخ أحداث ترتبط بحلقات مفقودة في قوائم الملوك وتسلسلهم ووجدت لها آثار لا تعززها وثائق مكتوبة من ذلك القطر؛ فإن المؤرخ يستعين بمعاصرة

_ 1 بما أن السنة القمرية تنقص عن السنة الشمسية 11 يومًا؛ فمن المرجح أنهم كانوا يضيفون ثلاثة أشهر كل ثمانية أعوام, أحدها من 30 يومًا والشهران الآخران كل منهما 29 يومًا.

تلك الأحداث لأحداث أخرى معروفة التاريخ من أقطار أخرى كما يمكن التوصل إلى تأريخها من إشارات عن حدوث ظاهرات معينة يمكن احتساب تاريخ وقوعها بالاستعانة بعلم الفلك؛ فمثلًا لم يكن من اليسير تحديد تأريخ عهد حمورابي ولكن كان من المعروف أنه عاصر الملك الأشوري "شمشي- أدد الأول" وقد أشار أحد النصوص الأشورية إلى حدوث كسوف للشمس في عهد أحد خلفاء هذا الأخير ويدعى "آشور دان الثالث". وعند تأريخ حدوث هذه الظاهرة فلكيًّا وجد أنها ترجع إلى عام 763 ق. م، ومن تتبع قوائم ملوك آشور وتسلسلهم فيما بين "أشور دان الثالث", و"شمشي- أدد الأول" واحتساب مدة حكم كل منهم؛ أمكن تأريخ عهد هذا الملك الأخير وبالتالي أمكن تقدير عهد حمورابي بالفترة ما بين عامي 1728، 1676 ق. م. أما في العصور السابقة للكتابة أو في حالة عدم وجود وثائق مكتوبة وعند العثور على مخلفات حضارية لا ترتبط بالعصر التاريخي؛ فيمكن الالتجاء إلى طرق المقارنة والنسبية، وأهم هذه ما يلي: 1- دراسة الطبقات التي توجد بها المخلفات الحضارية وتقدير عمرها جيولوجيًّا؛ وبالتالي يمكن تأريخ الآثار التي توجد في هذه الطبقات، ومن أهم ما يعتمد عليه الجيولوجيون في تقدير عمر الطبقات احتساب معدل الإرساب في حالة الطبقات الرسوبية أو تقدير عمر الحفريات الموجودة في الطبقة المراد تأريخها, ويمكن الاستعانة بعلم النبات القديم وبعلم الحيوان الوصفي، ومن ذلك يمكن أيضًا استنتاج الظروف المناخية التي كانت تسود فترة قيام الحضارات التي تدرس آثارها ومخلفاتها؛ بل ومن الممكن عند وجود آثار مصنوعة من الأشجار تقدير الزمن الذي استغرقته الحضارة التي أنتجت هذه الآثار بدراسة حلقات نمو تلك الأشجار وتقدير عمرها. 2- دراسة الطرز ومقارنتها "التيبولوجيا" "Typology": من المسلم به

أن تشابه آثار جهة من الجهات مع آثار جهة أخرى يوحي بأن الحضارات المنتجة لها كانت متعاصرة, أما اختلافها فيدل على أن إحداها كانت أسبق من الأخرى؛ وعلى هذا يمكن استنتاج تأريخ آثار مختلف المناطق بالنسبة إلى بعضها البعض, وأن نحدد على أساس ما نشاهده من تطور في صناعة آثار معينة أي الحضارات المنتجة لهذه الآثار كانت أسبق من غيرها, كما يمكن ترتيب الحضارات التي توجد آثارها في منطقة من المناطق على حسب التطور الذي يحدث في طراز وصناعة هذه الآثار، وأول من استعمل هذه الطريقة الأثري الإنجليزي سير فلندرز بتري "Sir Flinders Pertrie"؛ حيث اتخذ من الفخار الذي عثر عليه عند التنقيب على الآثار في منطقة نقادة بجنوب مصر أساسًا لتأريخ هذه الآثار, وذلك بترتب الفخار الذي وجد معها على حسب ما شاهده من تطور في أشكاله وصناعته؛ وبذلك تمكن من ترتيب الحضارات المنتجة لهذه الآثار وتأريخها بالنسبة إلى بعضها البعض. 3- طريقة الكربون 14: 1 هي أحدث طريقة، ولكن لا يمكن إجراؤها إلا على المواد العضوية وخاصة المواد النباتية، وهي مبنية على أساس أن كل مادة عضوية بها كربون 14 المشع وكربون 12 غير المشع بنسبة ثابتة، ويكتسب النبات كربون 14 المشع من تفاعله مع الأشعة الكونية التي بالغلاف الجوي المحيط به وحينما تنتهي حياة النبات يأخذ في فقد كربون 14 الموجود به؛ لأنه يتحول بسرعة ثابتة, بهيئة متوالية هندسية إلى كربون 12 غير المشع؛ فتنخفض كميته في هذا النبات إلى النصف بعد فترة تقدر بنحو 5568 مع احتمال زيادتها أو نقصها عن ذلك بمقدار 30 سنة، وبعد فترة مماثلة يفقد النصف من النصف الباقي من كميته أي: يصبح كربون 14 في النبات ربع كميته الأصلية

_ 1."W.F. Libby, Radiocarbon Dating "Chicago 1952

وبعد نحو 33408 سنة يصبح 1/ 64 من كميته الأصلية وهكذا، وبذلك يمكن تأريخ الآثار التي تدخل في صناعتها مواد عضوية على أساس قياس كمية الكربون 14 المتخلفة فيها؛ وبالتالي يمكن تأريخ الحضارات التي أنتجتها. وقد أدخلت تحسينات متوالية على التأريخ بهذه الطريقة منذ اكتشافها, وأصبح في الإمكان تقدير عمر البقايا التي تعامل بهذه الطريقة حتى 44.000 سنة مع احتمال زيادة أو نقص يقدر بنحو 37 سنة فقط.

الفصل الثاني: نشأة الحضارة وتطورها

الفصل الثاني: نشأة الحضارة وتطورها مدخل ... الفصل الثاني: نشأة الحضارة وتطورها: أشرنا إلى أن أقدم السلالات البشرية ظهرت بقاياها في جهات متفرقة من العالم1, وكانت هذه الجهات لا تكاد تختلف في ظروفها الطبيعية أو المناخية بعضها عن البعض الآخر؛ ولذا لم تختلف المراحل الأولى لحياة الإنسان في أي جهة عنها في الجهات الأخرى، ثم أخذت الظروف الجغرافية في التغير كما اختلفت السلالات البشرية عن سابقاتها, وأخذت الجماعات البشرية تتفاعل وبيئاتها التي عاشت فيها وظلت تعمل من أجل بقائها ورفاهيتها, وتطورت أساليب حياتها ومظاهر حضارتها إلى أن وصلت إلى ما وصلت إليه في وقتنا هذا, وقد سبق أن أوضحنا ما درج عليه الباحثون من تقسيم تاريخ البشر2؛ حتى أصبح في الإمكان تتبع المراحل الحضارية والتاريخية التى مر بها الإنسان. ولا شك في أن دراستنا للعصور قبل التاريخية "قبل ظهور الكتابة" تعتمد على دراسة الآثار التي خلفها الإنسان, وما توحي به من مظاهر حضارية, وعلى

_ 1 انظر أعلاه صفحة 21. 2 انظر أعلاه صفحة 26.

ما يتضح فيها من تطور يدل على أن الانسان مر بأدوار حضارية مختلفة قبل دخوله في عصره التاريخي, ويعني هذا بالطبع أن دراسة العصر قبل التاريخي تعد دراسة حضارية في صميمها. ومن اليسير أن نتصور أن الانسان بدأ حياته؛ إما هاربًا من وجه عدو من الإنسان والحيوان أو مطاردًا لفريسة منهما, وقد استمر كذلك فترة طويلة لم يتوصل فيها إلى شيء من الأسس الحضارية، وكان الكل سواءً في أنهم كرسوا حياتهم لجمع القوت الضروري لطعامهم وأخذوا ببعض قطع ملائمة من الأحجار أو فروع الأشجار يلتقطونها من الطبيعة ويستخدمونها كما هي دون تهذيب في أغراضهم المحدودة لجمع القوت والدفاع عن النفس والصيد. ويميل بعض الباحثين إلى جعل هذه المرحلة من حياة الإنسان مرحلة حضارية قائمة بذاتها, ويطلقون عليها اسم "فجر الدور الحجري" أو "العصر الأيوليثي"؛ ولكن غالبية العلماء لا يرون مبررًا لذلك بل يدمجون هذه المرحلة من حياة الإنسان في أولى مراحل العصر الحجري. ومن مخطط تقسيم البشر "ص26 أعلاه" يتبين لنا أن عصر استعمال الحجر ينقسم إلى دورين رئيسيين: "الدور الحجري القديم" و"الدور الحجري الحديث" وقد يكون بينهما "دور حجري متوسط"؛ ولكن كثيرًا ما لا يعثر على آثار لهذا الدور في جهات مختلفة من العالم. وينقسم "الدور الحجري القديم" بدوره إلى ثلاثة أقسام حسب الترتيب الطبيعي للطبقات التي عثر على آثاره المتباينة فيها، وهذه الأقسام هي: الدور الحجري القديم الأسفل, والدور الحجري القديم الأوسط, والدور الحجري القديم الأعلى. وقد ظل الإنسان ينعم بمناخ ملائم تتشابه ظروفه في أنحاء العالم التي عاش فيها أثناء الدور الحجري القديم الأسفل؛ حيث يرجح أنه يتفق وفترة تراجع الجليد الثانية التي حدثت بين عصر تقدم الجليد الثاني "مندل Mindel" وعصر الجليد الثالث "رس Riss"؛ ولذا تشابهت الحضارات خلاله، وفي الدور الحجري القديم الأوسط انقسم العالم القديم إلى قسمين كبيرين: أوراسي وإفريقي

إذا أخذت الظروف المناخية تتغير لتقدم الجليد خلال عصر الجليد الثالث إلى العروض الوسطى؛ واختلفت تبعًا لذلك مظاهر الحضارة في كل منهما, واستمر الحال كذلك طول عصر الجليد الثالث وفترة الانحسار التي تلته وعصر الجليد الرابع "فرم Wurm". وازدادت الاختلافات المناخية بعد هذا العصر الأخير؛ حيث تراجع الجليد فكانت لكل إقليم ظروفه الخاصة وتباينت تبعًا لذلك الحضارات التي سادت خلال الدور الحجري القديم الأعلى. ثم أخذ الجفاف يتزايد في العروض الوسطى والمدارية؛ فاشتد تباين الظروف الطبيعية حتى تميزت البيئات المحلية بعضها عن بعض, وأصبحت لكل منها ظروفها الخاصة في العصور التالية؛ ولذا فإن ما يشاهد من مظاهر حضارية في بيئة ما لا يمكن العثور على نظائر لها في بيئات أخرى إلا إذا تشابهت الظروف أو عند انتقال هذه المظاهر من بيئاتها الأصلية إلى تلك البيئات، وعلى ذلك فمن المستحسن أن تدرس الحضارات البشرية ابتداءً من ذلك الدور في كل بيئة على حدة. ولما كانت المراحل الأولى لحياة البشر لا تكاد تختلف في جهة من العالم عنها في الجهات الأخرى كما أشرنا1؛ فقد اشتركت أقدم الحضارات الإنسانية في مظاهرها الرئيسية في الجزء الأكبر من العصر الحجري القديم أي: إن العالم القديم سادته في أنحائه المعمورة مظاهر حضارية متشابهة خلال الدورين الحجري القديم الأسفل والحجري القديم الأوسط، ولم يبدأ الاختلاف الحضاري إلا في الدور الحجري القديم الأعلى تقريبًا. ويمكن تلخيص المظاهر الحضارية التي سادت خلال الدورين: الحجري القديم الأسفل, والحجري القديم الأوسط على النحو التالي:

_ 1 انظر أعلاه ص31.

أولا في الدور الحجري القديم الأسفل

أولاً في الدور الحجري القديم الأسفل مدخل ... أولًا: في الدور الحجري القديم الأسفل: سادت خلال هذا الدور حضارتان هما: الأبفيلية والأشولية على التوالي:

الحضارة الأبفيلية

أ- الحضارة الأبفيلية: 1 هي على العموم أقدم الحضارات الإنسانية، وكانت تسمى قبل ذلك بالحضارة الشيلية نسبةً إلى بلدة "Chelles" على نهر المارن؛ ولكن نظرًا لأن الموقع الشيلي وجدت به آلات خليطة من الحضارتين الشيلية والأشولية فقد تركت هذه التسمية واستعيض عنها باسم الأبفيلية؛ حيث تمثل حضارة الموقع "أبفيل" الذي وجدت به أقدم حضارة قبل الأشولية، وفي أثنائها أخذ الإنسان يحاول الإفادة بما يلتقطه من قطع حجرية وفروع أشجار في الدفاع عن نفسه وفي الصيد وجمع القوت، وقد أخذ يهذب القطع الحجرية كي تصبح مناسبة لقبضة اليد ولتصبح ذات حافة حادة في نفس الوقت؛ فكان يتخذ كتلة كروية من الحجر الصلب بمثابة مطرقة يهذب بها قطعة صوانية يريد تهذيبها؛ ويبدأ بطرق حافات هذه القطعة الصوانية من أحد وجهيها بعناية ثم يقلبها على الوجه الآخر ويطرقها على النحو السابق؛ بحيث تصبح كمثرية الشكل, ويكون حوالي ثلثي محيط القطعة حادًّا كالمبراة؛ بينما يبقى الثلث الباقي بقشرته الأصلية دون تهذيب وذا شكل مستدير في الغالب؛ لكي تتمكن اليد من القبض عليه، وقد عرفت هذه الآلة باسم الفأس اليدوية "Hand Axe" "Conp de poing" "شكل 2" ومن هذا يتضح أن الآلة كانت تتخذ من النواة نفسها.

_ 1 اسم يطلق على أقدم حضارة قبل الأشولية في أوروبا نسبة إلى موقع في مدرج لنهر السوم على ارتفاع 43 مترًا ويحتمل أنه من عصر مندل الجليدى.

ومن المحتمل أن المكاشط "Serapers" وجدت في هذه الحضارة إلى جانب الفئوس اليدوية, وهذه كانت عبارة عن قطع من الصوان تمتاز بحافة حادة مستقيمة, وكانت تستخدم في قطع اللحم وكشط الجلد، وربما وجد الإنسان نفسه في أواخر هذه الفترة في حاجة إلى ثقب الجلد؛ فجعل بعض فئوسه اليدوية تدق وتستطيل بحيث أصبحت مثقابًا "borer". وعلى العموم لا نجد تنوعًا كبيرًا في شكل الآلات إذا كانت مطالب الإنسان شكل "2" فأس يدوية أبفيلية "شيلية" قليلة وكان يستعمل الآلة الواحدة في عدد من أغراضه؛ إلا أنه كان لا بد من أن يستعمل عددًا كبيرًا من هذه الآلات؛ لأنه كثيرًا ما كان يضطر إلى إلقائها على عدوه أو على فريسته.

وقد عاش الإنسان في هذه الفترة في العراء صيادًا متجولًا ينتقل من مكان لآخر؛ إذ كان المناخ دافئًا فلم يلجأ إلى الكهوف إلا حيث يشتد البرد، وكانت قدرته على التفكير محدودة؛ لأنه كان من تلك الأجناس قريبة الشبه بالقردة العليا, ولم يعثر على آثار له إلا في أماكن قليلة من العالم، وربما كان ذلك لقلة أعداده نسبيًّا، ومن المرجح أنه وصل في هذا الدور إلى أوروبا قادما من شمال إفريقية عن طريق جبل طارق ويستدل على ذلك من أن آثاره لم تكتشف في وسط أوروبا وشرقها ولم توجد إلا محطة شيلية واحدة في شمال إيطاليا, أما معظم آثاره فقد وجدت في غرب أوروبا وأسبانيا.

الحضارة الأشولية

ب- الحضارة الأشولية: لا نكاد نجد فارقا كبيرا بين هذه الحضارة وسابقاتها، فقد ظل الإنسان يستعمل الفأس اليدوية ولكنها كانت أكثر إتقانًا من الفأس الشيلية وأصغر منها حجمًا, إذ إن الإنسان الأشولي لم يكتفِ بتهذيب حافة الآلة بل كان يهذب سطحها كله تاركًا أقل مساحة ممكنة من القشرة الأصلية في أسفل الأداة؛ لكي يجعل شكلها متناسقًا "شكل 3". ولم يكتف باستعمال الفأس اليدوية المأخوذة من النواة وحدها بل بدأ يستغل كذلك بعض الشظايا فاتخذ منها بعض أدواته، كما استعمل بعض الآلات الخشبية والعظمية وكثر عدد المكاشط والمثاقيب التى استخدمها. شكل "3" فئوس يدوية أشولية

ويبدو أن المناخ ظل على حالته السابقة من الدفء وكثرة التساقط؛ ولكنه أخذ بعد ذلك في البرودة والجفاف؛ ولذا نجد أن آلات الإنسان التي عثر عليها من ذلك العصر كانت مختلطة أحيانًا ببقايا حيوانات من التي تعيش في أجواء دفيئة, وفي أحيان أخرى كانت مختلطة ببقايا حيوانات من ذات الفراء، ولكن مع ذلك لم يكن المناخ عمومًا من القسوة؛ بحيث يضطر الإنسان الالتجاء إلى الكهوف؛ ولذا ظل يعيش في العراء صيادًا وكان يفضل القرب من مجاري المياه بدليل وجود معظم آثاره عندها، وربما كان اشتداد البرودة أحيانًا هو الذي أدى به إلى اختراع النار واستعمالها؛ فقد وجدت بين أدواته مخلفات المواقد ولكنها كانت قليلة. ويرى البعض تسمية صناعات هذه الحضارة بأسماء مختلفة على حسب الأماكن التي عثر فيها على مخلفاتها في بعض جهات أوروبا نظرًا لوجود اختلافات طفيفة فيها1 ولكنها على العموم لا تخرج عن كونها صناعات أشولية. وقد ظلت السلالات البشرية البدائية تعيش خلال هذه الفترة ويمثلها في أوروبا إنسان هيدلبرج وفي إفريقيا إنسان روديسيا، أما في الشرق فلم يوجد من البقايا العظمية ما يبين نوع إنسان هذا العصر بصفة مؤكدة وإن كان من المرجح أنه من السلالات التي تعد سلفًا للإنسان الحديث وإليها تنسب بقايا عظمية وجدت في فلسطين "في جبل الكرمل"2 وفي بلاد النهرين "في كهف

_ 1 مثل الصناعة الكلاكتونية في إنجلترا والصناعة المسفينية في بلجيكار الليفالوازية في فرنسا. 2 Dorothy A. F. Garrod, The Stone Age of Mount Garmel "Oxford 1937".

شاندر"1 وفي السودان "في سد نجا"2؛ ولكن هذه كلها ما زالت في حاجة إلى المزيد من الدراسة.

_ 1 مجلة سومر سنة 1951. 2 A. J. Arkell, Bate, Wells, & Lacailles, "The Fossil Mammal of Africa II. The PleistoceneFauna Of Two Blue Nile Sites" "London 1951".

ثانيا في الدور الحجرى القديم الأوسط

ثانيًا: في الدور الحجري القديم الأوسط: الحضارة الموستيرية: تتميز هذه الحضارة عن سابقاتها بأن معظم أدواتها من الشظايا, وهذه كانت تشكل على كتلة من الصخر ثم تفصل عنها بطرقة واحدة، وبعد ذلك تهذب حافتها كي تكون أداة فعالة، ولا يوجد في هذه الحضارة إلا أدوات قليلة من النواة "شكل4". وقد تعددت أشكال الشظايا الموستيرية وبدأت تظهر فيها المكاشط الجانبية التي شظيت من أحد جانبيها فقط, ورءوس الحراب؛ مما أدى إلى تضاؤل شأن الفأس اليدوية، ونظرًا لاشتداد البرودة فإن الإنسان لجأ إلى الكهوف في أوروبا، وربما اضطرته هذه الظروف إلى التكدس فيها؛ فأتاحت له هذه الحياة الجماعية فرصة لرقيه الاجتماعي وتقدمه في التفكير, وفرضت عليه قسوة المناخ مطالب جديدة كصنع الملابس من الجلود اتقاءَ البرد. شكل "4" آلة موستيرية

ويُستدل من البقايا البشرية التي عثر عليها في جهات كثيرة من غرب أوروبا على أن إنسان هذا العصر كان وما زال من السلالات التي تنتمي إلى إنسان نياندرثال، ويعتقد البعض أن أعدادًا كبيرة منه هاجرت إلى أفريقيا -لاشتداد البرد- عن طريق جبل طارق ومالطة وصقلية، وانتشر هذا الإنسان إلى وادي النيل أيضًا1؛ ولكن مع هذا يبدو أنه قد انقرض تمامًا بعد هذا العصر وظهر الإنسان الحديث "أى: الإنسان العاقل Homo Sapiens" في العصر التالي أي: في العصر الحجري القديم الأعلى، ومنذ ذلك الحين أخذت الحضارة الإنسانية في التطور والتشعب إلى وقتنا هذا.

_ 1 د. إبراهيم رزقانة "الحضارة المصرية في فجر التاريخ" "القاهرة سنة 1948" ص41.

بدء الاختلاف الحضاري

بدء الاختلاف الحضاري: أخذت ملكات الإنسان العقلية والفنية تنمو ابتداءً من أواخر الدور الحجري القديم؛ ولكنه ظل كغيره من الكائنات التي عاشت معه يعتمد كلية على ما تجود به الطبيعة من مأوى ولباس وطعام، ونظرًا لأنه كان لا يضمن الحصول عليها بصفة دائمة فقد ظل في حركة دائبة وكان كل ما يقتنيه وما يمتلكه عائقًَا له, ولا يستثنى من ذلك ابناؤه؛ إذ لا شك في أنه كان يحدد من يتبعه منهم؛ ولذا فإن أهم تغيير طرأ على الإنسانية بدأ عندما أخذ الإنسان يتحكم في بيئته الطبيعية، وبعد أن تمكن من الاستقرار فيها حيث أصبح في الإمكان اقتناء الكثير من الأشياء والمنشآت وأصبحت الآثار الثابتة تستحق التجديد في البناء, وأمكن للأطفال أن يعيشوا في الأماكن التي يعيش فيها آباؤهم ويرثونهم ولا يحول حائل دون زيادة عددهم. ومن العلامات المميزة لأولى مراحل الاقتصاد الزراعي: إقامة القرى المستقرة

كما أن فكرتي بذر البذور بقصد إنتاج المحاصيل وتربية صغار الحيوانات التي من أصل بري لا بد وأنهما تحققتا في أوقات مختلفة في الأماكن المختلفة خلال التاريخ، ويرجح كثير من الباحثين أن المشاريع والاكتشافات التي أدت إلى جعل الزراعة موردًا لمعيشة جماعة قروية مستقرة تعتمد عليها اعتمادًا كليًا قد نشأت في منطقة معينة من العالم القديم ومن ثم انتقلت هذه الأفكار الجديدة وهي بذر البذور الصالحة للزراعة والحيوانات الداجنة إلى مناطق أخرى1 عن طريق الاقتباس وانتقال الثقافة وعن طريق التحركات البشرية, وما زال الباحثون يحاولون التعرف على هذه المنطقة؛ ولكنهم لم يتوصلوا بعد إلى رأي قاطع فيما يختص بذلك, وربما كانت هذه الاكتشافات قد أخذت في الظهور في جهات مختلفة, وفي وقت واحد أو أوقات متقاربة. ويبدو أن هذه الثورة الجديدة التي تعرف باسم ثورة الدور الحجري الحديث قد استمرت فترة طويلة، كما أنها لم تصل من موطنها أو مواطنها إلى الأماكن البعيدة في غرب أوروبا وفي شرق آسيا؛ إلا بعد فترة تقرب من ثلاثة أو أربعة آلاف سنة. والواقع أن غرب أوروبا شهد عصر البرونز ونشأة المدن الصغيرة قبل أن تصل إليه هذه الأفكار الجديدة، ولا يقصد بهذا الدور فترة زمنية محددة تقع بين تواريخ ثابتة؛ وإنما يقصد به الفترة التي تقع بين الوقت الذي كان الأفراد فيه يعتمدون على حياة الصيد والوقت الذي بدأ فيه اقتصاد يقوم على استخدام كامل للمعادن, أي: إنه يدل على الفترة التي نشأت فيها الزراعة وانتشرت ببطء في كثير من جهات أوروبا وآسيا وشمال أفريقيا. واقتصاد الدور الحجري الحديث يعتمد بصفة عامة على زراعة مختلطة بالرعي؛ فأقدم المواقع الأثرية التي عثر عليها من هذا العصر كانت تعتمد على كل من استئناس الحيوان وزراعة الحبوب ولم يعثر على موقع يستدل منه على

_ 1 انظر ص38.

وجود أيهما مستقلًّا عن الآخر, أو أن أهل هذا الموقع اعتمدوا في حياتهم على أحدهما فقط. ومع أن الجماعات التي تعتمد على الرعي وحده تنتشر في العالم الآن؛ إلا أنه لا شك في أن حياة الرعي لم تستقر كنظام يتبع إلا في فترة متأخرة نسبيًّا، أي: بعد مرور بضعة آلاف من السنين على وجود أول مجتمع اعتمد في حياته على الزراعة المختلطة بالرعي. ومع أن ممارسة الزراعة والمعيشة في قرى مستقرة تعد أولى علامات ثورة الدور الحجري الحديث إلا أن مظاهر حضارية أخرى غالبًا ما تشترك معها ولا بد من الإشارة إليها كمميزات عامة لحضارة الدور الحجري الحديث، ومن هذه: الفئوس المصقولة المصنوعة من الصخور النارية أو الصوان والمنجل المستقيم أحيانًا؛ على أن صناعة الفخار والنسيج سرعان ما برزت أهميتها، وأصبحت أهم ما أوجدته حضارة الدور الحجري الحديث؛ ولكنها مع ذلك من المميزات الثانوية التي تعد من مقتضيات حياة الزراعة بما فيها من جديد. وكان لا بد لإنسان الدور الحجري الحديث بعد أن يبذر بذوره من أن تتعلق آماله بما تجود به الطبيعة؛ ولذا كان من السهل أن يعتقد أن الأرض ما هي إلا إلهة للخصب والنماء، وتطلع إلى ما حوله من كائنات بحثًا عمن يحاكي هذه الأرض الطيبة؛ فلم يجد خيرًا من الأم الرءوم تحنو على أبنائها، وهكذا شبه الأرض بالأم وتعبد إليها؛ حيث رمز إليها بتماثيل في هيئة آدمية على شكل امرأة في غالب الأحيان, أو في هيئة الحمام أحيانًا1. وبالطبع لم يقف التطور الحضاري عند الدور الحجري الحديث؛ بل أخذ الإنسان ابتداء من هذا الدور يسرع الخطا نسبيًّا في تطوره الحضاري؛ لأن حياة الزراعة هيأت للإنسان الطمأنينة والأمن أكثر من ذي قبل, إذ كفلت له الرزق

_ 1 كما حدث في سورية في دور بداية استخدام المعادن.

بصورة أكثر دوامًا وانتظامًا؛ فأتاح له ذلك فرصة التأمل والتفكير والترقي, وهكذا انتقل الإنسان إلى دور بدء استخدام المعادن ثم إلى الدور الكتابي أو العصر التاريخي.

التطور الحضاري والشرق الأدني

التطور الحضاري والشرق الأدنى: من العسير تحديد مكان وزمان نشأة القرى المستقرة التي اعتمدت في حياتها على الزراعة واستئناس الحيوان "أى: ثورة الدور الحجري الحديث" التي تعد الجذور الأولى التي اعتمدت عليها الحضارات الإنسانية في تطورها إلى وقتنا الحاضر؛ وذلك لأن هذه النشأة كانت حقيرة غير واضحة المعالم، كما يتعذر تحديد موطنها الأصلي بدقة تامة؛ لأن أفكارًا مثل بذر البذور وتربية الحيوان يمكن انتشارها بسهولة ويسر إلى درجة يصعب معها تحديد مصدرها؛ إذ إنها في الواقع أيسر انتشارًا من انتشار المظاهر الحضارية الأخرى وخاصة المادية منها, مثل الأخذ باستخدام نوع من الآلات أو تغيير الأدوات المألوفة فسرعان ما تتقبل الشعوب -وإن اختلفت تقاليدها- ثورة مثل هذه "ثورة الدور الحجري الحديث" إذا ما كانت البيئة التي تعيش فيها ملائمة والمناخ مناسبًا، ويصبح من اليسير عليها أن تكيف حضارتها تبعًا لذلك. وعلى هذا فقد اختلف الباحثون في أي الأماكن تعد أقدم مراكز الزراعة المصحوبة باستئناس الحيوان، ومنهم من ذهب إلى أنها الحبشة، ومنهم من رأى أنها جنوب غربي آسيا، وتحمست غالبيتها لهذا الرأي الأخير؛ حيث اكتشفت في هذه المنطقة آثار أنواع برية من النباتات والحيوانات التي تعد أسلافًا للحبوب والحيوانات التي تعيش فيها الآن؛ بينما لم يعثر في أفريقيا على ما يناظر هذه الأنواع البرية؛ غير أن العثور على هذه الآثار في منطقة دون غيرها لا يكفي لحل المشكلة؛ إذ إن الأبحاث الأثرية ما زالت غير كافية في كثير من بقاع العالم بصفة عامة.

ومع هذا فإننا إذا ما تأملنا ظروف العالم القديم في الأزمان السحيقة؛ لوجدنا أن العروض المدارية كانت أحسن جهاته ملاءمةً في مناخها وبيئاتها لنمو هذه الحبوب والحيوانات وخاصة في الأدوار الحجرية؛ حيث إنها لم تتعرض لذبذبات مناخية شديدة التطرف؛ ولذا فإن أقدم مراكز ثورة الدور الحجري الحديث لا تخرج عن نطاق هذه العروض, ولا تتمثل جنوب خط الاستواء في العالم القديم إلا في بعض جهات أفريقيا وأستراليا؛ لأن هذه الجهات بحكم تضاريسها وموقعها أبعد من أن تكون أقدم مراكز تلك الثورة، كما أن توصل هذه الجهات إلى أي مظهر حضاري لا يحتم انتقاله منها إلى غيرها أو أن يؤثر فيها بالضرورة. أما في شمال خط الاستواء فإن الجهات التي تقع في العروض المدارية أكثر احتمالًا لأن تكون أقدم مراكز هذه الثورة، وهذه الجهات تتمثل في النطاق الممتد عبر شمال أفريقيا وشبه جزيرة العرب وشمال الهند والهند الصينية أي: بين المحيط الأطلنطي غربًا والمحيط الهادي شرقًا بما في ذلك من صحارَى واسعة ووديان أنهار؛ إذ إن هذا النطاق لم يكن على حالته الراهنة من الجفاف والجدب؛ بل كان ينعم في العصور السحيقة بكمية من الرطوبة والتساقط هيأت للجماعات البشرية التي انتشرت فيه حياة نباتية وحيوانية ملائمة؛ لأن عصور تقدم الجليد إلى العروض المعتدلة والفترات الدفيئة التي تخللتها كانت تقابلها أدوار مطيرة في العروض المدارية, وأن فترات تراجع الجليد الباردة كانت تقابلها قلة في التساقط في هذه العروض كما سبق أن أشرنا1. ومع أن بوادر الجفاف أخذت تحل فيه ابتداء من نهاية الدور الحجري القديم؛ إلا أن هذا الجفاف لم يصل إلى ذروته من الشدة إلا في العصر الروماني، وعلى هذا يمكن القول بأن صحارَى هذا النطاق ظلت تنعم بمناخ ملائم إلى أوائل العصر التاريخي على الأقل، وبالرغم من انتشار الإنسان في أرجاء هذا النطاق الواسعة إلا أنه كان يحرص على أن

_ 1 انظر أعلاه ص21.

يظل قريبًا من مجاري المياه التي كانت تتمثل في الأنهار العظيمة الحالية وكثير من أودية الصحراء التي أصبحت جافة الآن، وحينما أخذ التساقط في القلة وبدأ الإنسان يشعر بوطأة الجفاف صار لا يبعد كثيرًا في إقامته عن المجاري المائية الدائمة والأنهار العظيمة مثل نهر النيل ونهري دجلة والفرات وأنهار سورية وآسيا الصغرى وغيرها. ونظرًا لأن تلك الأنهار لم تعمق مجاريها إلا بعد وقت طويل, ولأن كمية التساقط كانت أكبر منها الآن؛ فإن السهول الفيضية لتلك الأنهار كانت أكثر ارتفاعًا وأكثر امتدادًا على الجانبين، وكلما عمق النهر مجراه وقل التساقط كلما أخذت سهوله الفيضية تنخفض ويقل امتدادها أي: أن مياهه كانت تنحسر عن جانبيه تدريجيًا, وكان الإنسان بالطبع يتتبعها دائمًا؛ حيث يظل يهبط من الأماكن المرتفعة أو الهضاب التي عاش فيها ليقيم على جانبي النهر تاركًا وراءه مخلفاته وبعض آثاره. وهكذا نجد أن أقدم ما عثر عليه من الآثار في مثل هذه الحالة وجدت في مناطق أبعد في قلب الصحراء ومنسوب طبقاتها أكثر ارتفاعًا من تلك التي وجدت بها الآثار الأحدث منها، أي: أن أقرب الآثار في تاريخها إلى عصرنا الحالي تكون في طبقات أقرب إلى الوادي وهي في منسوبها أقل ارتفاعًا من تلك التي ترجع إلى عهود أقدم، وعلى ذلك تكون آثار الحضارات المختلفة في مدرجات على جانبي النهر، ويكون ترتيبها عكسيًا بالنسبة لترتيب الطبقات التي توجد بها آثار في أماكن بعيدة عن وديان الأنهار؛ إذ إن أقدم الآثار في هذه الأماكن توجد في أسفل الطبقات وتعلوها الأحدث منها, وهكذا وفق ترتيبها الزمني، ومن خير الأمثلة للمدرجات النهرية التي توجد بها آثار الحضارات المختلفة في ترتيبها العكسي مدرجات النيل "شكل 5". ومن البديهي أن مناطق العروض المدارية شمال خط الاستواء في العالم القديم لم تتطور في حضارتها بسرعة واحدة ولم تؤثر جميعها في حضارت غيرها أو تتأثر

بها بدرجة واحدة؛ بل كان بعضها أسرع في تطورها وأكثر تأثيرًا في غيرها وتأثرًا بهم من البعض الآخر، ولا شك في أن المناطق المتطرفة والبعيدة مثل الهند الصينية والهند وشمال غرب أفريقيا كانت أقل شأنًا من بقية المناطق في هذه الميادين. شكل "5" رسم يبين مدرجات النيل ولو نظرنا إلى إقليم الشرق الأدنى بصفة عامة؛ لوجدناه يتميز بعوامل هيأت له سرعة التطور, وجعلته أسبق مناطق ذلك النطاق المداري وأبعدها أثرًا في مضمار الحضارة والرقي, وهذه العوامل تتلخص فيما يلى: 1- وقوعه في مركز متوسط من العالم القديم؛ مما سهل اتصاله بغيره من الأقاليم؛ فأمكن انتقال المؤثرات الحضارية منه وإليه بسهولة. 2- وجود أنهار عظيمة ومجارٍ مائية دائمة في مختلف أقطاره؛ مما أدى إلى استقرار الجماعات البشرية التي سكنت قريبًا منها, وأتاح لها ذلك فرصة النهوض والرقي "انظر خريطة رقم1".

3- سهولة اتصال أجزاء هذا الإقليم فيما بينها؛ لعدم وجود فواصل طبيعية مانعة تحول دون ذلك؛ حيث أتيحت لها فرصة الاحتكاك بعضها بالبعض, فانتشرت مظاهر حضارية مختلفة فيما بين دجلة والبحر المتوسط1، ووصلت بعض العناصر الحضارية إلى وسط آسيا الصغرى من مواطن لا يقل بعدها عن 300 ميل تقريبًا2، كما جلب أهل حضارة سيالك في إيران أنواعًا من الأصداف من أماكن تبعد عنهم نحو 600 ميل تقريبًا, إلى غير ذلك من المظاهر التي تدل على نشاط احتكاك أهل المناطق المختلفة في هذا الإقليم بعضهم بالبعض الآخر. 4- بالرغم من وجود التشابه بين البيئات في أحواض الأنهار التي تجرى في هذا الإقليم؛ فإن كلًّا من أقطاره تميز بأنواع معينة من الموارد التي لا تتوافر في بقية أقطار هذا الإقليم؛ مما أدى إلى تشابك مصالحها ودعم الاتصال فيما بينها، والواقع أن هذا الإقليم في مجموعه وجدت به كل الاحتياجات الضرورية لنشأة الحضارة وتطورها، وكانت كل دولة تحصل على ما تريد من موارد طبيعية لدى الدول الأخرى عن طريق التجارة أو عن طريق الحرب إن وجدت لديها القوة الكافية لذلك. وكثيرًا ما يذهب الباحثون إلى أن قطرًا من بين أقطار إقليم الشرق الأدنى كان أسبق من غيره في الوصول إلى ثورة حضارية معينة وخاصة تلك التي حدثت ابتداءً من عصره الحجري الحديث أو إلى مقدمات العصر التاريخي, ويستندون في ذلك إلى احتمال انتقال بعض المظاهر الحضارية من هذا الجزء إلى غيره من أجزاء هذا الإقليم، وكثر الجدل حول أسبقية كل من العراق ومصر في هذا المضمار؛ إلا أن انتقال بعض المظاهر الحضارية -بفرض ثبوته- لا يكفى لتأكيد أسبقية القطر الذي انتقلت منه إلى القطر الآخر ما دامت هناك عناصر حضارية

_ 1 مثل فخار حضارة حسونة "بالعراق" الذي وجد ما يماثله في سورية. 2 انظر Seton Lioyd "Early Anatolia" "Pelican 1956" P. 53.

أخرى أصيلة قد تطورت داخليًّا وتلقائيًّا في القطر الذي وجدت به المظاهر الحضارية التي يفترض أنها منقولة إليه1، وكل ما يمكن قوله بأنه لا يمكن تأكيد أسبقية أحد أقطار إقليم الشرق الأدنى إلى ثورة الدور الحجري الحديث بصفة قاطعة؛ فكلها تنعم بمناخ ملائم وكانت تسكنها شعوب من أصل واحد أو من أجناس متشابهة, ومن المعروف جغرافيًّا أن البيئات المتشابهة التي تسكنها أجناس متشابهة تنتج حضارات متشابهة. وكان من الطبيعي أن يتجه إنسان الدور الحجري الحديث إلى تحسين إنتاجه, وأن يبحث عما يهيئ له شيئًا من الرفاهية واقتصاد بعض الجهد في عمله، وسواء كان توصله إلى استخدام المعادن قد حدث عن طريق الصدفة البحتة أو عن طريق التجربة؛ فإنه أخذ يستغلها في أغراضه وانتقل إلى دور بدء استخدام المعادن. وكان استقراره في القرى لا شك داعيًا إلى تشابك مصالحه مع غيره وتعقد علاقاته الإنسانية؛ فاضطرته الحاجة إلى إيجاد وسيلة يتذكر بها بعض ما يتعلق بشئونه وبعلاقاته مع الآخرين خشية أن تخونه الذاكرة، وعلى هذا حاول تدوين ذلك برسم أو نقش يصور به ما يريد أن يتذكره بقدر الإمكان فابتدع الكتابة التصويرية التي يكاد يكون وقت التوصل إليها واحدًا في كل من العراق ومصر؛ مما دعا الظن بأنها من اختراع جنس جديد دخل إلى كل منهما في نفس الوقت؛ إلا أنه لا شك في خطأ هذا الرأي نظرًا لأن هذه الكتابة لم توجد في أي قطر آخر في تاريخ أسبق لحدوثها في هذين القطرين -وقد بدأ العصر التاريخي في كل منهما بعد فترة وجيزة من التوصل للكتابة- أو قبلها بقليل.

_ 1 كانت الدكتورة باو مجار تل على رأس المتشيعين إلى أن زراعة الحبوب واستئناس الحيوان في الدور الحجري الحديث في مصر ترجع إلى تأثير حضاري من غرب آسيا انظر "E. Baumgartel, "The Culturs of Prehistoric Egypt" I, P. 22-3" ولكنها عادت؛ فأرجعت ذلك التأثير إلى أصل أفريقي في الجزء الثاني من كتابها السابق، انظر "E. Baumgartel, op. Cit., I1 "1960" p.140".

خريطة رقم "1"

وبالرغم مما أشرنا إليه من جدل الباحثين حول أسبقية العراق ومصر في مضمار الحضارة ينبغي ألا يتبادر إلى الذهن أن أقطار الشرق الأدنى القديم الأخرى كانت قليلة الأهمية في المضمار الحضاري، أو لم تكن ذات أثر على التراث الإنساني؛ فربما كانت قلة المعلومات عنها نظرًا لقلة الأبحاث الأثرية التي أجريت فيها نسبيًّا, هي السبب الذي من أجله درج العلماء على تكريس القسط الأكبر من اهتمامهم نحو العراق ومصر؛ نظرًا لزيادة النشاط الأثري فيهما عنه في غيرهما من أقطار الشرق الأدنى القديم؛ فبرزت أهميتهما. ومع كل فإننا سنتتبع حضارات العصور قبل التاريخية والعصر التاريخي في هذا الإقليم حسب ما وصلت إليه معلوماتنا الحالية من الغرب إلى الشرق قدر الإمكان وإن خرجنا على ذلك أحيانًا لتيسير ترابط الموضوع ودراسته على القارئ؛ على أنه يجب ألا يفهم من تقديمنا دراسة قطر على آخر أنه يفوقه أهميةً أو أنه أسبق منه في ميدان الحضارة.

الفصل الثالث: مصر

الفصل الثالث: مصر مدخل ... الفصل الثالث: مصر: تحتل مصر الركن الشمالي الشرقي لأفريقيا وتشغل الحوض الأدنى لنهر النيل، وهي عمومًا عبارة عن وادٍ منبسط تحف به الصحارى من الجانبين: الشرقي والغربي, ولولا وجود النهر لأصبحت هي الأخرى جزءًا من الصحارى المحيطة بها؛ ولذا وصفها هيرودوت بعبارته الشهيرة: "مصر هبة النيل". وقد هيأت ظروفها الطبيعية للجماعات التي استقرت بها فرصة للنهوض والرقي؛ ففي الشمال يوجد البحر المتوسط الذي لم يكن من اليسير عبوره إلا بعد أن تمكن الإنسان من ركوب البحر إلى مسافات بعيدة، وفي الشرق والغرب صحاري واسعة يصعب اجتيازها، وفي الجنوب توجد منطقة صحراوية صخرية تعد من أجدب بقاع العالم, وتعترض النهر فيها جنادل وصخور تجعل الملاحة فيه متعذرة غير يسيرة، وهكذا كفلت البيئة المصرية الأمن والهدوء لأهلها، وإذا ما حدث أن وصلت إليها جماعات جديدة فإن هؤلاء الوافدين الجدد لا يغامرون بالخروج منها مرة أخرى, ويندمجون في محيط السكان الأصليين, ويتأقلمون تأقلمًا تامًّا. ومن جهة أخرى تتمتع البيئة المصرية بمناخ معتدل وسماء صحو دائمًا ونادرًا ما تتعرض للأعاصير وتسودها الرياح الشمالية "التجارية"؛ بينما يجري

النهر المنتظم الفيضان كل عام من الجنوب إلى الشمال، وهذه الظروف جميعها أتاحت للجماعات التي عاشت على جانبي النهر سهولة التجوال فيه، شمالًا بمساعدة تياره وجنوبًا بمساعدة الرياح السائدة؛ فاحتكمت بعضها بالبعض ونشأت بينها مصالح مشتركة؛ وخاصة لأن فيضان النهر السنوي المعتاد غالبًا ما كان خيرًا مشتركًا يتعاون الجميع في الإفادة منه, ونادرًا ما كان خطرًا مشتركًا يعمل الجميع على مجابهته سواء في حال انخفاضه أو ارتفاعه عن المستوى الملائم لسد حاجياتهم، وقد يحدث النزاع بين تلك الجماعات أحيانًا فتعمل القوية منها على السيطرة على غيرها من الجماعات, وهكذا إلى أن انتهى الأمر بتوحيدها في مملكتين: إحداهما في الدلتا, والأخرى في الوجه القبلي, ما لبثتا في النهاية أن توحدتا في مملكة واحدة، ومع أن كلًّا من قسمي مصر الجنوبي "الوجه القبلي" والشمالي "الدلتا" انفرد ببعض مظاهر خاصة في حضارات ما قبل العصر التاريخي إلا أن هذه الحضارات كانت تشترك في طابعها العام ومميزاتها الرئيسية. ومن المرجح أن توحيد مصر في مملكة واحدة سبق أي قطر آخر من إقليم الشرق الأدنى, وأنه لم يتم بمساعدة أية قوى خارجية, وقد أدى ذلك لأن تصبح مصر في أقدم عصورها التاريخية أقوى أقطار الشرق الأدنى ومن أكثرها نهوضًا ورقيًّا, وسنتناول فيما يلي تاريخها وحضارتها بصفة عامة.

العصور قبل التاريخية

العصور قبل التاريخية الدور الحجرى القديم الدور الحجرى القديم الأسفل ... أولًا- العصور قبل التاريخية: أ- الدور الحجري القديم: 1- الدور الحجري القديم الأسفل: أ- الحضارة الأبفيلية "الشيلية": وجدت آثار هذه الحضارة في مناطق مختلفة من القطر المصري1 ومعظمها مناطق بعيدة في الصحارى أو في التلال التي تحف بالوادي، وهذه الآثار لا تخرج عن كونها آلات حجرية تشبه تلك التي عثر عليها في أوروبا أي: فئوس حجرية "شكل 6" وإن كان بعضها يهذب بحيث تصبح الآلة ذات أوجه ثلاثة "كمنشور ثلاثي في جزئها المشغول" بدلًا من أن تكون ذات وجهين كما في الفئوس الشيلية الأخرى، وربما كان اختيار النواة من الحصا المربع هو السبب في إنتاج هذا الشكل؛ لأن الإنسان كان يكتفي بتشظيتها من أعلاها بضربة واحدة أو ببعض الضربات؛ فتصبح ذات شكل هرمي؛ على أنه يجب ألا يعتبر هذا النوع من الأدوات مميزًا للصناعة الشيلية في مصر؛ إذ إن الفئوس اليدوية الأخرى شكل "6" آلات أيفيلية "شيلية" من مصر.

_ 1 عن مواقع معظم الآثار وأهم المناطق الأثرية في مصر انظر الخريطة رقم "2".

خريطة "2" أهم المواقع الأثرية في مصر

لا تختلف عن زميلاتها في سائر أنحاء العالم القديم، وقد وجدت فئوس أقل إتقانًا من تلك التي سادت في هذه الحضارة يرد البعض إرجاعها إلى ما قبل الحضارة الشيلية ويطلقون عليها اسم الصناعة الشالوسية؛ ولكنها لا تخرج عن كونها صناعة شيلية بدائية ولا داعي لاعتبارها صناعة مستقلة. ب- الحضارة الأشولية: ازدادت العناية بالفئوس الهرمية فهذبت حافتها وصغرت في الحجم واستطالت فأصبحت رفيعة خفيفة ولها حد مستقيم مشطوف, كما وجدت فئوس أخرى من الشكل المعتاد في الصناعة الأشولية في أوروبا "شكل 7" وظهرت بعض الأدوات الأخرى مثل المخارز المدببة الأطراف, والأسلحة الحجرية ذات الحدود المتعرجة أو المستقيمة, وبعض مكاشط قليلة العدد. ولم يكتف بصناعة هذه الآلات من الصوان؛ بل استعملت بعض أنواع أخرى من الأحجار في صناعتها كذلك. شكل "7" آلات أشولية من مصر هذا ولم يعثر على بقايا عظمية يستدل منها على السلالات التي عاشت

في وادي النيل خلال الدور الحجري القديم الأسفل؛ ولكن وجدت بقايا حيوانية في بعض المناطق يستدل منها؛ على أن المناخ كان يشبه ما كان سائدًا في أوروبا, وإن كان من المرجح أنه كان أكثر ميلًا إلى الدفء وكثرة الرطوبة, بدليل العثور على بقايا تماسيح وفيلة وأفراس النهر.

الدور الحجري القديم الأوسط

2- الدور الحجري القديم الأوسط: سبق أن بينا أن تغير الظروف المناخية قد أدى إلى تنوع الحضارات1؛ فانقسم العالم خلال هذا الدور إلى قسمين كبيرين: أوراسي وأفريقي، وأن الإنسان في أوراسيا آوى إلى الكهوف؛ بينما ظل في أفريقيا يعيش في العراء. ومع كل فإن الأدوات التي اتخذها الإنسان في مصر في أوائل هذا الدور لم تختلف عن مثيلاتها في أوروبا, أي: إنها كانت تمثل الصناعة الموستيرية ومعظمها من الشظايا وهي عبارة عن رقائق من الحجر تمثل نصالًا مدببة ومحتات "Scrapers" وغيرها "شكل 8". شكل "8" أسلحة موستيرية مصرية "ماقبل السبيلية"

_ 1 انظر ص32.

ومن المرجح أن هذه الصناعة استمرت في مصر فترة أطول من استمرارها في أوروبا؛ ولكنها أخذت تتطور وتنوعت أدواتها لتفي بأغراض الإنسان المتزايدة وصغرت في حجمها واتخذت أشكالًا هندسية أي: إن الصناعة في مصر في أواخر هذا العهد تميزت بمميزات خاصة؛ ولذا أطلق عليها اسم الصناعة الموستيرية المصرية أو "ما قبل السبيلية"1. والواقع أن هذه الحضارة تمثل مرحلة مبكرة من حضارة الدور الحجري القديم الأعلى في مصر، ويرى البعض أن الحضارة العاطرية "التي ظهرت صناعاتها في الواحات الخارجية والفيوم خلال هذا الدور" ما هي إلا مظهر من مظاهر الحضارة الموستيرية المصرية؛ بينما يرى فريق آخر من الباحثين أن الحضارة السبيلية هي التي تعد مظهرًا من مظاهر الحضارة العاطرية وأنها ظهرت بعدها؛ ولكن لا يمكن تأكيد أي الرأيين بصفة قاطعة. ولم يعثر على بقايا يستدل منها على جنس الإنسان الذي عاش في مصر خلال هذه الفترة وإن كان من المرجح أن الإنسان الحديث كان قد أخذ يعيش في وادي النيل بالفعل، كما يستدل على ذلك من أدواته المتقدمة التي تركها خلافًا لما عرف في أوروبا؛ حيث ظل إنسان نياندرثال يعيش في كهوفها طوال هذا العصر, ولكنه انقرض بعد ذلك وحل محله الإنسان الحديث في العصر التالي أي: الدور الحجري القديم الأعلى.

_ 1 الحضارة السبيلية نسبة إلى قرية السبيل قرب كوم أمبو وسنشير إلى هذه الحضارة فيما بعد، انظر ص57-59.

الدور الحجري القديم الأعلى

3- الدور الحجري القديم الأعلى: ازداد التباين بين أوروبا وأفريقيا؛ فبينما أخذت البرودة تشتد في أوروبا ظل المناخ في إفريقيا ملائمًا لأن يعيش الإنسان في الهواء الطلق؛ ولكنه أصبح أقل

أمطارًا وأكثر جفافًا من فترة الحضارة الموستيرية؛ فانخفض مستوى الماء في الأنهار والمجاري المائية وقلت الحياة النباتية وتبدلت أنواع الحيوانات في مساحات واسعة من العالم القديم وأخذ الإنسان في هجرها؛ إذ رأى أنها تتحول إلى صحارى مجدبة فحصر إقامته في الأماكن القريبة من مجاري المياه، ولم يترك إنسان إفريقيا في هذا الدور آثارًا تعادل في مستواها من الناحية الفنية تلك التي تركها زميله المعاصر له في أوروبا, ولم تتعدد مظاهر حضاراته في المناطق المختلفة التي وجدت بها كما حدث في أوروبا؛ بل سادت كل شمال أفريقيا حضارة واحدة هي الحضارة القفصية "نسبة إلى قفصة في شمال تونس" التي استمرت إلى ما بعد الدور الحجري القديم الأعلى, أي: إلى ما يقابل الدور الحجري المتوسط؛ إلا أن مصر -نظرًا لظروف بيئتها الخاصة- انفردت في حضارتها بمظاهر مميزة؛ مما دعا إلى تسميتها باسم "الحضارة السبيلية" وإن كانت في واقع الأمر متفرعة عن الحضارة القفصية. ويرى البعض أن الحضارة القفصية قد مرت بأربع مراحل تتفق الثلاثة الأولى منها وأقسام الدور الحجري القديم الأعلى, أما المرحلة الرابعة والأخيرة؛ فقد عبروا عنها باسم مرحلة الانتقال إلى الدور الحجري الحديث, أي: أنها تتفق والدور الحجري المتوسط. كما يرى البعض تقسيم الحضارة السبيلية في مصر إلى ثلاث مراحل تقابل حضارات الدور الحجري القديم الأعلى والدور الحجري المتوسط في أوروبا, أي: أن المرحلة الأخيرة منها تمتد إلى ما يقابل الدور الحجري المتوسط، ومهما كان الأمر فإن الآلات التي اتخذت في هذه الحضارة كانت صغيرة على العموم, وتغلب فيها الأشكال الهندسية "شكل9"، ولدقة هذه الآلات أطلق عليها اسم الآلات الميكروليثية "Microlithie", وقد كشف عن عدة مواقع تنتمي إلى هذه الحضارة في مصر, ومن أهمها قرية السبيل التي نسبت إليها هذه الحضارة كما سبقت الإشارة إلى ذلك1.

_ 1 انظر أعلاه ص55.

الدور الحجرى المتوسط

ب- الدور الحجري المتوسط: يعد هذا الدور مرحلة الانتقال بين حضارات الدور الحجري القديم الأعلى, والدور الحجري الحديث في أوروبا، ولم تستغرق هذه المرحلة زمنًا طويلًا؛ بل وكثيرًا من نجدها تختفي في كثير من المناطق، ولا نكاد نلمسها في شمال أفريقيا ومصر؛ فالقفصية في الأولى والسبيلية في الثانية تمتدان إلى ما يقابل هذه المرحلة؛ ولذا لا يشار إليها في دراسة الأدوار الحجرية لتلك المناطق. هذا وقد درجت غالبية العلماء على تقسيم الفترة التي تقع بين الحضارة السبيلية شكل "9" أدوات سبيلية

وبداية العصر الفرعوني "عصر الأسرات" في مصر إلى: دور حجري حديث وعصر ما قبل الأسرات؛ ولكن نظرًا لأن الحضارات التي ترجع إلى ما بعد السبيلية لم تدرس بدقة تامة كما أنها جميعًا عرفت المعادن؛ فإن فريقًا من العلماء يفضل إعادة النظر في دراستها حتى يمكن تأكيد ترتيبها الزمني، وهم يرون كذلك أنها جميعًا تدخل ضمن عصر ما قبل الأسرات؛ لأن وجود المعادن فيها يجعل انتساب بعضها إلى الدور الحجري الحديث غير صحيح، ومع هذا فسوف نتبع في دراستها التقسيم الذي ما زال مألوفًا لدى معظم الباحثين.

العصر الحجرى الحديث

العصر الحجرى الحديث مدخل ... ج- العصر الحجري الحديث: ازداد تغير المناخ في العالم القديم فأصبحت الاختلافات بين البيئات المحلية أكثر وضوحًا وازداد الجفاف في الشرق الأدنى؛ وبذلك اضطر الإنسان أن يقترب من الوديان أكثر من ذي قبل، ولم يغامر بالابتعاد عن الأنهار؛ فاستقر في جماعات بالقرب منها وألجأته الحاجة لضمان غذائه إلى استئناس الحيوان ومعرفة الزراعة، وكان من الضروري -وقد عرف الزراعة- أن يختزن محصوله؛ فعرف صناعة الأواني وبذلك أقام حياته على أسس اقتصادية ثابتة. وانتقل أهل مصر من حياة البداوة إلى حياة الاستقرار وأتاحت لهم ظروف بيئتهم الطبيعية فرصة الاتحاد في مملكتين: إحداهما في الوجه القبلي, والأخرى في الوجه البحري كما أشرنا1. ويختلف الوجه القبلي والوجه البحري, كل عن الآخر: فالأول "الوجه القبلي" عبارة عن شريط ضيق من الأراضي الزراعية على جانبي النهر, تحف به هضبتان صخريتان من الشرق والغرب، أما الثاني "الوجه البحري" فتتسع أراضيه الزراعية إلى درجة كبيرة

_ 1 انظر ص51.

وتكثر بها المستنقعات وتتخللها البحيرات والقنوات، وهذه المساحات الواسعة من الأراضي الزراعية بعيدة في معظمها عن الصحارى. وكذلك يتميز الوجه البحري عن الوجه القبلي بأنه أقرب منه نسبيًّا إلى آسيا وأوروبا؛ ولذا كانت الحضارات التي نشأت في كل من هذين الإقليمين تتسم بمظاهر خاصة تجعلنا نميز فيما بينهما، وتعد الفيوم أشبه بواحة في الصحراء بين هذين القسمين من مصر؛ ولكن نظرًا لأنها أقرب إلى الوجه البحري فقد اشتركت حضارتها "في صفاتها" مع حضاراته أكثر من اشتراكها مع حضارات الوجه القبلي؛ ولذا ألحقناها به وإن كنا نميل إلى جعلها حضارة قائمة بذاتها. وتمثل هذا الدور "العصر الحجري الحديث" في الوجه القبلي حضارتا ديرتاسا "التاسية" والبداري، وفي الوجه البحري حضارات حلوان الأولى "العمري" ومرمدة بني سلامة, ومع أن كلًّا منها تنفرد بمميزات خاصة إلا أنها جميعًا تشترك في تقدم صناعة الفخار وصقل الآلات الحجرية، ومن المخلفات التي عثر عليها أمكن التوصل إلى أن المستنقعات كانت تسود الدلتا والأحراش كانت منتشرة في الوجه القبلي, وأن الحيوانات الكبيرة الحجم كالزراف والضباع وأفراس النهر كانت مألوفة لدى المصريين, وسنتكلم بإيجاز عن كل حضارة على حدة.

حضارات الوجه القبلى

حضارات الوجه القبلي: 1- الحضارة التاسية: 1 هي أفدم حضارات العصر الحجري الحديث في الصعيد، وتنسب إلى

_ 1 يرى أولئك الذين يجعلون الحضارات التالية للسبيلية وتسبق عصر الأسرات جميعها تدخل في عصر واحد هو ما قبل الأسرات, بأن الحضارة التاسية تعد من صميم حضارة البداري انظر: "E. Baumgartel, op, cit, 20 ff".

ديرتاسا التي تقع إلى شمال البداري، ويستدل من آثارها على أن أهل هذه الحضارة عرفوا زراعة الحبوب؛ ولكنهم لم يعيشوا معيشة استقرار تامة؛ فكانوا يمارسون الصيد إلى جانب الزراعة البدائية, وعرفوا النسيج واتخذوا الحلي من أصداف البحر المثقوبة والخرز الأسطواني المصنوع من العظم أو العاج تحليه خطوط متقاطعة واستعملوا الأساور، وفي مخلفاتهم عُثِر على صلايات من المرمر والحجر الجيري والأردواز لصحن الدهنج والمغرة وعلى مراخٍ وبعض الحبوب وعدد من السنانير " الشصوص" وطبق من الخوص ودبابيس وإبر من العظام، ومن المرجح أنهم استعملوا الوسائد؛ إذ وجد تحت رءوس عدد من الموتى بعض التبن أو القش الذي كان لا ريب داخل كيس "جلد أو كتان"؛ ولكنه فني مع الزمن, كما يرجح أن الأشجار الكبيرة والمستنقعات كانت منتشرة في ذلك العهد؛ إذ وجدت فئوس من أحجار مختلفة لا بد وأنها استخدمت من أجلها، أما فخار ديرتاسا فيمكن تقسيمه إلى نوعين: أولًا: بني ذو سطح خشن عادة, وهو خالٍ من التموجات إلا في بعض القدور النادرة التي نجد بها تموجات مائلة أو عمودية. ثانيًا: أسود رمادي أملس عادة, ذو تموجات عمودية والبعض القليل مصقول، ومن أواني هذا النوع أقداح ذات شفة مقلوبة على شكل البوق, وهي سوداء مصقولة تحلي سطحها الخارجي وشفاهها من الداخل خطوط محفورة مليئة بعجينة بيضاء تمثل خطوطًا أفقية, بينها مثلثات مخططة لتثبيت المادة البيضاء فيها. وفخار هذه الحضارة خلو من علامة الصانع أو صاحب الإناء، ومن بين هذا الفخار بعض المغارف غير العميقة, ذوات لسان مسطح بارز من الحافة بمثابة مقبض "شكل10".

"شكل10" أدوات وأوانٍ فخارية من تاسا وكانت مقابر القوم عبارة عن حفر كبيرة بيضية في الغالب والقليل منها ذو جوانب مستقيمة بزوايا مستديرة وفي جانبها الغربي دخلة "طاقة" تتسع لآنية، وكان الميت يدفن في وضع مقرفص أشبه بالجنين ورأسه إلى الجنوب ووجهه إلى الغرب, ويوضع معه بعض الفخار إلى جانب يديه أو ركبتيه, وجثته تغطى بجلد حيوان؛ بحيث يكون الشعر أو الصوف إلى الداخل، ويلف بعد ذلك في حصير وتوضع الرأس فوق ما يشبه الوسادة من القش, ثم يحاط الميت بتقفيصة من الأغصان. وهذه المقابر كانت بعيدة عن المساكن وقد وجد بعضها مختلطًا بمقابر البداريين؛ ولذا يمكن القول بأن التاسيين كانوا أقرباء أو أسلاف البداريين, وهذا هو ما دعا بعض الأثريين إلى أن يلحقوا هذه الحضارة بحضارة البداريين ويعتبرونها جزءًا منها1. 2- البداري: كان البداريون أرقى من أي جماعة عاشت في الدور الحجري الحديث؛ إذ استقروا في قرى منتظمة يزرعون الحبوب ويستأنسون الماشية وأنواعًا من الأغنام والماعز فضلًا عن صيد البر والبحر, وكانوا مهرة في كل صناعات هذا

_ 1 انظر هامش ص60.

الدور، ومع أن بعض حيواناتهم يظن أنها تنتمي إلى غربي آسيا؛ إلا أن من المرجح أنهم وفدوا إلى مصر من منطقة تبعد عن البداري كثيرًا إلى الجنوب. واستعمل البداريون طريقة التشظية بالضغط في صناعة آلاتهم الحجرية، وقد امتازوا عن أسلافهم بمعرفة النحاس, فاستعاضوا الفأس النحاسية عن الفأس الحجرية التي سادت في الحضارات السابقة, كذلك يتمثل رقيهم عمن سبقهم في أنهم استخدموا السهام والقسي وعصي الرماية "Boomerang" "شكل 11" ودبابيس القتال ذات الرءوس التي على شكل القرص, وعرفوا السنانير وتفوقوا في صناعة اللوحات الاردوازية وبعض لوحات من المرمر، وقد عثر بين آثارهم على ثلاثة تماثيل صغيرة لسيدات؛ أحدها من الطين والثاني من الطين المحروق والثالث من العاج وليست هذه التماثيل دقيقة الصنع وبعض أجزائها مفقود. واتخذوا حليًّا من أحجار مختلفة ومن الأصداف والنحاس, كان أهمها الخرز والأساور والأحزمة والأمشاط الطويلة الأسنان من العاج، ومن المرجح أنهم عرفوا صناعة السلال والحصر؛ حيث عثر على أجزاء منها في مقابرهم، كما يبدو أنهم كانوا على دراية بنسيج الكتان؛ لأن بعضًا من الإبر المصنوعة من العظام وجدت بين آثارهم ومن بينها مجموعة وجدت في جعبة صغيرة صنعت من ساق فرس النهر، ولم يقتصر البداريون في صناعة أوانيهم على الفخار؛ بل كانت لديهم أوانٍ عاجية منها إناء على شكل فرس النهر وأوانٍ حجرية من البازلت أيضًا. وفخار البداري أرقى من فخار الحضارات السابقة إن لم يكن أرقى أنواع الفخار في مصر القديمة على الإطلاق، وهو يمتاز بما يحلي جدرانه من تموجات تشغل السطح الخارجي بأكمله أو نصفه الأعلى أو تكون شريطًا يحيط بحافة الإناء، كذلك قد توجد هذه التموجات بالسطوح الداخلية لبعض الأواني الواسعة ومع أنه مصنوع باليد -إذ لم تكن عجلة الفخار قد عرفت بعد-

إلا أنه يمتاز برقة الجدران, وهو على سبعة أنواع يمكن حصرها بصفة عامة فيما يلي: 1- أوانٍ ذات لون بني أو أحمر مصقول ولها حافة سوداء غالبًا. 2- أوانٍ ذات سطح أملس مصقول, لونها بني أو أسود. 3- أوانٍ ذات سطح خشن, لونها بني أو أسود كذلك. وأشكال هذا الفخار متشابهة ومحدودة وذلك باستثناء عدد قليل من الأواني ذات الأشكال العجيبة كانت تُغطَّى أحيانًا بقطع من الخوص المضفور، وقد عثر على قدح ملفوف بقماش الكتان. وفخار البداري على العموم خلو من علامة الصانع أو المالك وكان يوضع غالبا عند رأس الميت أو قرب يديه أو مرفقيه أو عند ركبتيه، وفي أحيان نادرة كان يوضع خلف الميت. شكل "11" أوانٍ وأدوات من البداري عصا رماية من البداري ومقابر البداري تقع في شرق منطقة المساكن في جهة يسهل حفرها بالآلات البسيطة، وهي غالبًا بيضية الشكل أو مستديرة ونادرًا ما تكون جوانبها مستقيمة وأركانها مستديرة وكانت تغطى بالحصير كما استعملت العصي في تسقيفها

أحيانًا، وكان الميت يوضع على ما يشبه الأريكة أو "تقفيصة" ويحيط بالجثة حصير يعتمد على عصا على شكل خيمة تحمي الميت من انهيار الرمال عليه, وكان يدفن عادة على جانبه الأيسر, ورأسه إلى الجنوب, وهو متجه إلى الغرب, ويداه بالقرب من رأسه وتوضع إلى جانبه الأدوات التي كان يستعملها في حياته الدنيا وأدوات زينته وبعض التمائم، وقد عني بدفن الثور والكلب والشاة وغيرها؛ مما يدل على تقديس تلك الحيوانات, والاعتقاد بوجود حياة أخرى وبالبعث.

حضارات الوجه البحرى

حضارات الوجه البحري: 1- العمري "حلوان أ": عثر على آثار هذه الحضارة في منطقة تقع في شمال حلوان, وقد سميت كذلك؛ لأن شخصًا يدعى أمين العمري هو الذي أرشد إلى موقعها الأثري، وفيها تم الكشف عن آثار مساكن مستديرة في وسط كل منها موقد ووجدت بها مقابر مستقلة عن المساكن؛ فهي في هذا تشبه حضارة ديرتاسا؛ ولكنها تتميز بما وضع فوقها من أحجار وهي ظاهرة لم تتمثل في الحضارات الأخرى التي ترجع إلى هذا الدور، وكان الميت يوضع في وضع الجنين وإلى جانبه توضع قرابين قليلة لا تعدو إناءً من الفخار عبارة عن قدر أو طاجن. وفخار العمري على العموم يشبه فخار مرمدة في أنه من لون واحد أسود "شكل 12"، وقد عثر على ما يشبهه في طرة وقرب الأهرام؛ مما يوحي بأنه انتشر في الدلتا؛ إلا أن مدى انتشاره ليس واضحًا. 2- مرمدة بني سلامة: تقع مرمدة بني سلامة على بعد نحو 50كم إلى شمال غربي القاهرة، وقد عثر فيها على آثار ترجع إلى أواخر الدور الحجري الحديث وجدت نظائر لها عند

"شكل 12" أوانٍ من العمري الحافة الشمالية للفيوم وخاصة في منطقة قصر الصاغة، وهي التي عرفت باسم حضارة الفيوم "ب"، وكان المعتقد أنها ترجع إلى أواخر الحجري الحديث وأوائل ما قبل الأسرات؛ ولكن يبدو أنها ترجع إلى عهد أحدث من ذلك كثيرًا1. وفي مرمدة بني سلامة وجدت آثار ثقوب محفورة في الأرض في مجموعات غير منتظمة, يستدل منها على أنها كانت موضع أعمدة لأشجار تقام عليها أكواخ من البوص أو ستائر من الحصير تحمي من الرياح الشديدة، كما عثر على آثار مساكن بيضاوية يعلو نصفها سطح الأرض، ولكل منها مدخل خاص به وهو عبارة عن قطعة من ساق فرس النهر مثبتة داخل الجدار لتساعد على الهبوط إلى داخل المسكن "شكل13" الذي تنحدر أرضيته إلى مكان منخفض ثبت فيه إناء ليتسرب فيه ما يدخله من ماء، وبأسفل الإناء ثقب لتصريفه في باطن الأرض

_ 1 E. Baumgartel, op., cit, pp, 17f and 43.

أما الجدران فكانت تبنى من كتل من الطين يوضع بعضها فوق بعض، كما كشف عن أهراء للحبوب في هيئة حفر قليلة الغور, مسورة بسور من الطين, تختزن الحبوب فيها بوضعها في سلال تطمر في داخلها. شكل "13" منظر لما كان عليه مسكن بيضاوي من مرمدة وطريقة الهبوط إليه ومن الآثار التي عثر عليها يمكن استنتاج أن أهل مرمدة كانوا يربون الماشية والخنازير ويطحنون الغلال على الرحى, وفخارهم كان أسود غالبًا والقليل منه بني أحمر، وهو إما مصقول أو ناعم أو خشن, وأوانيهم منها القدور الكبيرة التي يحتمل أنها كانت للطبخ ولبعضها بروزات لإمساكها بها أو تعليقها، ولبعضها ثقوب، ولبعضها قواعد تستقر عليها ومنها ما يشبه القارب, ومنها المغارف ذات المقابض العريضة أو السميكة المستديرة، وهذا الفخار خال من النقوش والرسوم على العموم؛ ولو أن بعض الأواني تحليها خطوط بارزة أو عدد من البروزات عند الحافة، وإلى جانب الأواني الفخارية صنع أهل مرمدة أواني حجرية من البازلت. وقد اتخذوا رءوسًا للسهام مثلثة الشكل أو مقوسة القاعدة, بعضها له سنخ ودبابيس قتال كمثرية الشكل "طراز البحر الأبيض" أو شبه كروية، واستعملوا

في الصيد نوعًا من الشص المصنوع من قرن الحيوان وهو أكثر استواء من خطاطيف الفيوم، ويبدو أنهم اتخذوا الملابس؛ إذ وجدت لديهم فلكات مغازل ومسلات وإبر، وكانوا يتزينون بحلي في هيئة أساور من العاج وخواتم وخرز حلقي أو أسطواني من الأصداف وبلط صغيرة تعلق على شكل تمائم واستعملوا صلايات من المرمر والبازلت لصحن المساحيق "انظر شكل 14". وكان الميت يدفن على جنبه بين المساكن، مقرفصًا في وضع يشبه الجنين ووجهه إلى الشرق ومعظم الهياكل العظمية التي عثر عليها كانت لنساء وكُنَّ أطول قامةً من نساء الوجه القبلي، ولم توضع مع الموتى قرابين في العادة، وربما كان ذلك لاعتقادهم أنه كان يشارك أهله طعامهم؛ إلا أن بعض الحبوب وجدت في أحوال قليلة ملقاة أمام فم الميت؛ ولكن ربما كان ذلك شيئًا رمزيًّا فقط. ومع أن مظاهر قليلة من حضارة مرمدة كانت تشبه بعض نواحى حضارتي شكل "14" أدوات وأوانٍ من مرمدة الفيوم والبداري إلا أن من المرجح أن مرمدة قد ورثت هذه المظاهر؛ لأنها في أغلب الظن متأخرة عنهما في الزمن.

الفيوم: يستدل من الآثار التي اكتشفت فيها على وجود مرحلتين حضاريتين؛ الفيوم "أ" والفيوم "ب" ويؤرخهما غالبية الأثريين بـ"الدور الحجري الحديث" وعصر ما قبل الأسرات على التوالي؛ ولكن الفروق بينهما ليست من الضخامة؛ بحيث توحي بأن الفارق الزمني بينهما كان كبيرًا، وبإعادة النظر في آثار الفيوم ودراسة الصناعات التي سادت فيها أصبح الاعتقاد سائدًا بأنها لا تسبق حضارة نقادة الثانية "التي ترجع إلى ما قبل الأسرات" كثيرًا في الزمن1, وعلى ذلك يمكن أن ندخل حضارتي الفيوم ضمن عصر ما قبل الأسرات وأن ندرسهما كوحدة قائمة بذاتها, وخاصة لأنها تأثرت بكل من حضارات الوجه القبلي والوجه البحري وإن كان تأثرها بحضارات الأخير أكثر منه بحضارات الوجه القبلي. ولم يكشف في منطقة الفيوم إلا عن منطقة السكن؛ إذ لم يعثر على قبر واحد فيها, وتدل الآثار المكتشفة على أن أهلها عرفوا الزراعة؛ غير أن جل اعتمادهم كان على الصيد, أي: إنهم كانوا في ظروف تشبه ظروف الزراع البدائيين، وكانت لديهم مجموعتان من المطامير لخزن الحبوب بالقرب من المساكن، وهذه كانت عبارة عن حفر قطر معظمها من قدم إلى أربعة أقدام وعمقها من قدم إلى ثلاثة, ومعظمها مكسوٌّ من الداخل بغشاء من قش القمح المضفور يكسو جوانبها وقاعها، واستخدموا مناجل من الصوان ورحى لطحن الحبوب من أحجار مختلفة؛ ولكن يبدو أن تربية الحيوان لم تلعب دورًا كبيرًا في حياتهم. وفي هذه المنطقة عثر على رءوس سهام مثلثة ذات قاعدة مستقيمة أو مستديرة

_ 1 Baumgartel, op. eit. 20 ff.

أو ذات سنخ "مثل سهام مرمدة" كما وجدت سكاكين من الصوان وهي طويلة مقوسة من طرفها الأعلى وبعضها محزز عند القاعدة, أما رءوس دبابيس القتال؛ فمنها المخروطي ومنها القرصي والبعض الآخر كروي الشكل تقريبًا؛ غير أن هذه الأخيرة صغيرة الحجم إلى درجة تدعو إلى الظن بأنها كانت فلكات مغازل, ولم يعثر على شص من النوع الذي عرف في مرمدة؛ ولذا يحتمل أن الأسماك كانت تصاد بخطاف من العظام. وفخار الفيوم كان يصنع باليد، من صلصال خشن مخلوط بنسبة كبيرة من التبن؛ ولذا كان من النادر إخراجه في شكل متناسق, وهو إما أحمر مصقول أو أسود مصقول أو بني أملس أو خشن وهذا الأخير هو الشائع. ولا يخرج فخار الفيوم عن كونه طواجن وقدورًا كبيرة للطبخ أو طواجن وأقداحًا صغيرة ذات قاعدة بارزة للخارج قليلًا أو مفصصة، ومنه كذلك ما هو في هيئة صحاف مستطيلة حوافها مرتفعة عند الأركان، وبعض أواني الفخار مثقوبة عند الحافة وجميعه خالٍ من الرسوم أو النقش, أي: أنه يخلو من علامة الصانع أو المالك, وقد تميزت آنية واحدة ببروزات قرب حافتها. ولا شك في أن أهل الفيوم عرفوا صناعة السلال والنسيج؛ حيث عثر في آثارهم على بعض سلال "على شكل قارب أو على شكل برميل" وعلى بعض أطباق مسطحة من الحشائش المضفورة، كما وجدت قطعة من قماش الكتان داخل قدر من الفخار, وعثر على دبابيس ومخارز من العظام. أما فيما يختص بأدوات الزينة؛ فقد تحلى القوم بدلايات من الخرز الذي كان على شكل القرص أو على شكل برميل أو من الأصداف التي تعلق مفردة أو تنظم في عقود؛ كذلك عثر على سوار صغير وتميمة على شكل بلطة صغيرة من الصدف، وكانت لديهم صلايات بسيطة بيضية الشكل لصحن المغرة "شكل15".

هذا وقد عثر على آلات صوانية تشبه آلات الفيوم والبداري في الواحات 0 "شكل 15" أدوات وأوانٍ من الفيوم وفي غرب وادي النيل وخاصة بالواحة الخارجة وجنوب تونس؛ مما يوحي بأن الفيوم والمناطق الجنوبية من مصر كانت منبعًا استمد منه شمال غربي أفريقيا بعض مظاهر حضارته وإن كانت هناك بعض الآراء التي تناقض ذلك.

عصر ما قبل الاسرات

عصر ما قبل الاسرات مدخل ... د- عصر ما قبل الأسرات: يطلق اسم "عصر الأسرات" أو "عصر السلالات" على العصر التاريخي لكل من مصر والعراق ابتداءً من الزمن الذي نشأت فيه أول سلالة حاكمة في كل منهما إلى وقت انهيار الإمبراطورية الفارسية على يد الإسكندر الأكبر تقريبًا؛ وذلك لأن كلًّا منهما حكمتها أسرات أو سلالات حاكمة خلال هذه الفترة, وقد اصطلح الباحثون على تسمية الفترة التي سبقت قيام الأسرات الحاكمة في مصر -وتقابل عصر بداية استخدام المعادن في الأقطار الأخرى- باسم عصر ما قبل الأسرات نظرًا لما تميزت به من مظاهر حضارية مهدت لقيام الحضارات العظيمة التي شهدتها مصر في عصورها الفرعونية؛ ففي هذه الفترة ترقى صناعة الفخار وتتأصل المعتقدات الدينية ويكثر استعمال المعادن نسبيًا ويأخذ فن الرسم والنقش طابعه الذي تميز به طوال العصور الفرعونية ومنه نشأت الكتابة،

وفي هذه الفترة أيضًا نشأت وحدة سياسية في كل من الوجه القبلي والدلتا مهدت لاتحادهما الطويل الذي بدأه مينا مؤسس الأسرة الأولى. وتمثل حضارات هذا العصر في الوجه القبلي: العمرة، جرزة، سماينة, أما في الوجه البحري فتمثلها: حلوان "ب" والمعادي. وقد وجدت آثار هذا العصر في نقادة, وهي تمثل حضارات الوجه القبلي في مراتبها المختلفة؛ ونظرًا لأنها خلت من الكتابة "إذ إن هذه لم تكن قد عرفت بعد"؛ فقد اتبع في ترتيب آثار هذه الحضارات طريقة المقارنة والنسبية, أي: أنها أرخت بالنسبة إلى بعضها البعض، وقد عرفت هذه الطريقة باسم "التوقيت المتتابع" أو "التأريخ التتابعي".

التوقيت المتتابع أو التاريخ التتابعي

التوقيت المتتابع أو التأريخ التتابعي: كان الأثري الإنجليزي السير فلندرز بترى "Sir Flindrs Petrie" يشترك في التنقيب عن الآثار فيما بين بلاص ونقادة؛ حيث وجدت منطقة غنية بالآثار التي تنتمي إلى عصر ما قبل الأسرات فأطلق على الحضارة التي تمثلها هذه الآثار اسم حضارة نقادة، ولما شاهد أن هذه الآثار تختلف فيما بينها؛ بحيث يبدو أنها لا تنتمي إلى فترة قصيرة محدودة, رتب الأواني الفخارية والآثار التي كانت موجودة معها حسب تدرج التطور في صناعة هذه الأواني الفخارية؛ فتمكن بذلك من ترتيب الآثار حسب ترتيب ظهورها محاولًا إيجاد علاقة تاريخية بينها. وقد لجأ أولًا إلى تقسيم الأواني الفخارية إلى أنواع يمثل كل منها مرحلة حضارية خاصة عاشت في مرحلة زمنية من عصر ما قبل الأسرات الذي رمز لمدته بأرقام تشمل الأعداد من 1 إلى 100, وبدأ أقدم أنواع الفخار والآثار التي اكتشفها معه بالرقم 30 تاركًا الأرقام من 1 إلى 29 خاليًا عساه يجد من الاكتشافات، كما ترك أيضا الأرقام من 80 إلى 100 لنفس الغرض، وقد أعد بتري بطاقة

خاصة لكل مقبرة وقسم كل بطاقة إلى تسعة أنهر أو أقسام خصص كلًّا منها لنوع معين من الفخار. وحينما أدرج الآثار التي اكتشفها مع الفخار المصاحب لها في الأقسام الخاصة به أمكنه أن يقسم تلك الآثار في أول الأمر إلى قسمين, يمثل كل منهما مرحلة حضارية نقادة "1" ونقادة "2" على الترتيب، ثم وجد أن حضارة نقادة "2" بدورها تمثل حضارتين هما: نقادة 2أ، نقادة 2ب, أي: أنه انتهى إلى تقسيم الحضارات التي تمثلها هذه الآثار إلى ثلاث مراحل هي نقادة "1" ونقادة "2أ" ونقادة "2ب" على التوالي. وقد كشف الأثريون عن ثلاث حضارات بالصعيد تماثل آثارها تلك التي وجدها بتري أي: أنها تتفق والأقسام التي توصل إليها؛ فالأولى وهي حضارة العمرة تمثل المرحلة من 30 إلى 37 والثانية وهي جزرة تمثل المرحلة من 38 إلى 60 أما الثالثة وهي سماينة فتمثل المرحلة من 61 إلى 75+. ويجب ألا يفهم من هذا التوقيت المتتابع أن الأرقام أو الفترات التي اتبعها بتري تدل على تاريخ محدد أو أن المدة بين فترة وأخرى تعدل في الزمن المدة بين فترتين أخريين؛ حيث لا يدل الرقم الواحد على قدر ثابت من السنين, وكل ما في الأمر أن هذا التقسيم يسمح بترتيب كل من هذه الحضارات بعضها بالنسبة إلى البعض الآخر.

حضارات ما قبل الأسرات في الوجه القبلي

حضارات ما قبل الأسرات في الوجه القبلي: 1- حضارة العمرة 30-37 "نقادة1": تقع العمرة جنوب شرقي أبيدوس, وقد عثر فيها على آثار تشبه أقدم ما وجد في نقادة؛ إلا أن هذه الحضارة تمثل عهدين مختلفين: أوائل العمرة وأواخر العمرة

وفي الفترة الأولى ظهر الفخار الأحمر المصقول المحلى برسوم باللون الأبيض أو الأصفر، وهذه الرسوم عبارة عن أشكال تحددها خطوط مستقيمة وتعلوها خطوط متقاطعة تمثل في مجموعها أشكالًا هندسية مختلفة كالمثلث والمعين والنجوم, أو تمثل أشكالًا مختلفة من النبات والحيوان ومناظر الصيد والقتال رسمت باختصار وفي أسلوب بسيط, وإلى جانب هذا النوع من الفخار عُثِر على فخار أحمر مصقول أو أحمر مصقول ذي شفة سوداء خلت سطوحه الخارجية من التموجات التي تميز فخار البداري؛ كذلك بدأت علامة الصانع أو علامة الملكية تميز أواني هذه الفترة في هيئة صور حيوانات أو نباتات أو خطوط, وقد وجدت بعض الأواني الحجرية من البازلت والحجر الجيري، وكانت الصلايات من الاردواز على شكل معين أو في أشكال حيوانات مختلفة كفرس النهر والسلحفاة، أما رءوس الدبابيس؛ فكانت مخروطية الشكل, مقوسة قليلًا إلى الداخل. وفي الفترة الثانية من هذه الحضارة اختفى الفخار المحلى برسوم باللون الأبيض واستمر الأحمر المصقول ذو الشفة السوداء, كما عثر على أوانٍ محلاة برسوم باللون الأحمر تشبه فخار جرزة، ومن بين العلامات المميزة لفخار تلك الفترة علامة تمثل تاج الوجه البحري وعلامة تمثل صورة صقر -وهو الطائر الذي اعتبره المصري رمزًا للإله حورس- على واجهة قصر, وهذه العلامة كانت تتخذ كخانة يكتب فيها اسم الملك في زمن الفراعنة. ومن هذا يتضح أن علامات الملك أخذت تستقر, وقد تطورت صناعة الأواني الحجرية التي من البازلت كثيرًا وأصبحت أشكال الصلايات أقل تعددًا؛ إذ انحصرت تلك الأشكال في الشكل المعين الذي ينتهي عند أحد طرفيه بما يشبه الهلال أو شكل السمكة، ومن الصلايات أيضًا ما كانت تنتهي في أعلاها بشكل يمثل رأسي طائرين, أما دبابيس القتال فكانت تشبه نظائرها في الفترة الأولى لهذه الحضارة, وقد أتقنت

صناعة الظران، ومن الأدوات المصنوعة منه وجدت سكاكين طويلة ذات حدين وسهام ذات شوكتين "شكل 16". وقد اعتقد أهل هذه الحضارة في الحياة بعد الموت بدليل ما عثر عليه من أدوات وضعت إلى جوار الموتى، ولم يكشف حتى الآن عن حضارة من هذا العهد في الدلتا. "شكل 16" أدوات وأوانٍ من العمرة 2- حضارة جرزة 38-60 "نقادة 2أ": تقع جرزة شمال ميدوم التي تبعد نحوًا من 40 ميلًا إلى جنوب سقارة, وتمثل آثارها حضارة مستقلة تمامًا عن حضارة العمرة؛ إذ وجدت في همامية قرب البداري آثار تمثل حضارة جرزة في طبقات منفصلة تمامًا عن الطبقات التي وجدت بها آثار حضارة العمرة، وآثار هذه الحضارة أوسع انتشارًا من آثار سابقتها في مصر الوسطى. وتتميز هذه الحضارة بفخار ذي لون أصفر برتقالي وعليه رسوم وأشكال باللون الأحمر، وهذه الرسوم عبارة عن خطوط منحنية غالبًا ما تكون حلزونية وصور مثلثات متتالية وبعض المراكب والحيوانات التي تظهر بصورة منفردة وهذه الصور لا تملؤها خطوط متقاطعة, كما تتميز بالفخار ذي الأيدي المتموجة،

وكل من هذين النوعين من الفخار على صلة بالآخر؛ إذ قد يحلى ذو الأيدي المتموجة برسوم حمراء. هذا وقد استمر الفخار الأحمر المصقول وذو الشفة السوداء "وهما من فخار العمرة" في هذه الحضارة أيضًا، وفي بدء هذه الحضارة بدأ ظهور الفخار المتأخر ويمتاز بصلابته وملاسته وهو رمادي فاتح أو بني أحمر أو أصفر يخلو من أية حلية؛ إلا أنه لم ينتشر إلا في أواخر عهد ما قبل الأسرات وفي الأسرتين الأولى والثانية. وتكثر في هذه الحضارة الأواني الحجرية المختلفة ذات الألوان الجميلة التي كانت بعض أواني الفخار تصنع على غرارها، وقد أخذ دبوس القتال الذي كان شائعًا في العمرة "ذو الرأس المخروطي المضغوط الجوانب" يقل تدريجيًّا ابتداء "شكل 17" أوانٍ وأدوات من جرزة

من عهد جرزة؛ حيث أخذ الدبوس ذو الرأس الكمثري يحل محله، ومع هذا فقد بطل استعمال هذين النوعين من الدبابيس في القتال منذ الأسرة الأولى؛ ولكنهما ظلا يستعملان في العصور التاريخية لأغراض دينية وجنائزية. وأخذت الصلايات التي على شكل معين في الاختفاء لتحل مكانها صلايات ذات أشكال هندسية أخرى كالمستطيل والبيضي والمربع, واستمرت بعض الصلايات في شكل بعض الحيوانات كالفيل والسمك والطيور, وبعض الصلايات البيضاوية كانت تعلوها صورة طائرين أيضًا, وقد أخذت هذه الصلايات تدق في سمكها وكسيت سطوحها بالنقوش وصنع بعضها من مواد لا تصلح للصحن منذ أواخر ما قبل الأسرات؛ ولذا يمكن القول بأنها أصبحت شيئًا رمزيًَا يوضع في المقبرة لتذكر بتقليد قديم متوارث. هذا وقد ظهرت في عهد جرزة بعض التمائم على شكل حورس وبعضها على شكل ثور وهي رموز تدل على مقاطعات بالوجه البحري "شكل 17"؛ مما دعا إلى الظن بأن حضارة جرزة ترجع أصلًا إلى الوجه البحري وإن لم يعثر على حصارة تماثلها فيه، كما يستدل من ذلك أيضًا على حدوث توحيد لشطري الوادي قبل عهد مينا مؤسس الأسرة الأولى. 3- حضارة سمانية 60-75+: "نقادة 2ب": تمثل آخر الحضارات المصرية في عهد ما قبل الأسرات, وأهم الآثار التي تمثلها وجدت في سمانية وهي إحدى القرى القريبة من نجع حمادي. وتتميز هذه الحضارة بزيادة استخدام النحاس وقلة الفخار ذي الشفة السوداء والفخار الأحمر المصقول تدريجيًا إلى أن اختفيا، أما الفخار ذو الرسوم الحمراء؛ فقد اختفت منه الأشكال التي كانت سائدة في عهد جرزة وحلت محلها أشكال جديدة عليها رسوم مختلفة، ومن هذه الأشكال أوانٍ على شكل البرميل لها حافة داخلية يستقر عليها الغطاء وقدور عالية رسمت عليها خطوط قصيرة

في أشكال ومجموعات مختلفة, أما الأواني المتموجة الأيدي؛ فقد أخذت تضيق في السعة ويتلاشى مقبضها حتى أصبح كشريط على حافة الإناء بالقرب من الشفة، وأكثر فخار هذه الحضارة من النوع المتأخر وقد ظهر فيه المصب "البزبوز"، وله أحيانًا رقبة واضحة، وأهم ما صنعت منه أواني التخزين "قدور عالية ذات فوهات واسعة" "شكل18". ومع كلٍّ, فإن الفخار في عهد سمانية على اختلاف أنواعه كان أقل إتقانًا وجودةً منه في العصور السابقة، وربما كان سبب ذلك أن الأغنياء أقبلوا على صناعة الأواني من النحاس والأحجار كما أن زيادة الإقبال على حياة المدن التي اتسعت وانتشرت هي التي جعلت صانع الفخار يتوخى سرعة الإنتاج وكثرته فبعد عن الإتقان. وقد استمرت صناعة الأواني من الأحجار، وكثيرًا ما استخدم المرمر "Alabaster" في صنعها وينتشر استخدامه بعد ذلك في العصور التاريخية. أما الصلايات؛ فمنها ما كان على شكل الحيوان ومنها ما كان يحلي جزأه العلوي رأسا طائرين ومنها ما كان بيضي الشكل تحلي حافته خطوط متقاطعة ومنها ما كان على شكل مستطيل تحلي حوافيه خطوط مستقيمة أو متقاطعة وبعض هذه الصلايات كان فاخرًا تحليه نقوش مختلفة. "شكل18" أدوات وأوانٍ من سمانية

حضارات ما قبل الأسرات في الوجه البحرى

حضارات ما قبل الأسرات في الوجه البحري: 1- حضارة حلوان "ب": تضم منطقة العمري1 مجموعتين من المقابر ومجموعة من المساكن وهي على بعد 3كم شرق حلوان، ومن التنقيب في منطقة المساكن؛ تبين أن مساحة القرية كانت كبيرة مثل مدن الدلتا التي عثر عليها في مرمدة والمعادي بعكس مدن الوجه القبلي المحدودة المساحة، وكانت مساكنها إما أن تبنى؛ بحيث يكون جزء منها تحت مستوى سطح الأرض وهي بيضية الشكل تحيطها جدران من الحصير المغطى بالطين, أو أن تقوم بأكملها فوق سطح الأرض، كما يستدل على ذلك من وجود بقايا أعمدة خشبية مغروسة في الأرض, وربما كان النوع الأول من المساكن يستخدم كمخازن أما النوع الثاني؛ فكان للسكنى، وقد حفرت بعض مساكن النوع الأول في الأرض الصخرية؛ مما دعا إلى الظن بأن أهل حلوان عرفوا استغلال المحاجر في ذلك الوقت إلا أن هذا بعيد الاحتمال. والأواني الفخارية في هذه الحضارة إما رقيقة الجدران مصقولة حمراء وسوداء وسمراء أو خشنة ذات جدران سميكة، وكان لبعضها مقابض، ومنها ما يشبه أواني مرمدة ومنها ما يشبه أواني المعادي، كما وجدت أشكال جديدة اختصت بها هذه الحضارة "شكل19". "شكل19" أوانٍ من حلوان "ب"

_ 1 انظر ص65.

أما السهام التي عثر عليها في حلوان؛ فإنها كانت إما مقعرة القاعدة كسهام الفيوم أو على شكل مثلث متساوي الضلعين، وقد عثر على بعض السكاكين والمناجل والمناشير من الصوان وأحجار للرحى وأوعية من قشر بيض النعام وآلات من العظام من بينها شص من قرن الحيوان، كما عثر على جلود وحصير وحبال وسلال تدل على معرفة النساجة، واستخدم أهل حلوان أصداف البحر وعظام السمك وأنواعًا من الأحجار البراقة في الحلي وعرفوا صناعة العقود والدلايات وزراعة الحبوب كالقمح والشعير، وكانوا على علاقات مع الخارج؛ حيث وجدت في آثارهم أصداف من البحر وبعض المواد الأخرى التي لا توجد في وادي النيل. وقد دفنوا موتاهم في أماكن السكنى في وضع مقرفص, ومعظم رءوسهم إلى الجنوب والوجه متجه إلى الغرب، وفي أغلب الأحيان كانت توضع آنية فخارية بجانب الميت، وكانت الجثة تكفن بجلد حيوان أو حصير أو قماش، وعثر مع إحدى الجثث على صولجان من الخشب. وربما كانت هذه الحضارة تتوسط في الزمن بين حضارتي مرمدة والمعادي؛ إذ إنها تشبه حضارة مرمدة في طقوسها الجنزية وفي بعض صناعاتها الحجرية وبعض أوانيها الفخارية كما تشبه حضارة المعادي في نصالها الحجرية وبعض أوانيها الفخارية أيضًا. 2- حضارة المعادي: عثر على آثار هذه الحضارة في شرق المعادي الحالية, وهي ذات موقع فريد؛ إذ إنها تتوسط بين الصعيد والدلتا وتربطهما بشبه جزيرة سيناء وغرب آسيا؛ مما أثر في حضارتها وجعلها ذات صفات خاصة تميزها عن الحضارات السابقة,

وكان يظن أنها أقدم من حضارة نقادة الثانية؛ ولكنها ما زالت تحتاج إلى كثير من الدراسة وخاصة؛ لأن الشك بدأ يساورنا في أنها ترجع إلى عصر بداية الأسرات1. وفخار المعادي "شكل20" متعدد الأشكال والألوان؛ إلا أن أهمه نوعان: أحمر اللون غير مصقول؛ لكنه أملس وقاعدته حلقية وجسمة بيضي مستطيل، "شكل 20" أدوات وأوانٍ من المعادي وأسود مصقول ذو جسم كروي، ومن بين الأواني التي عثر عليها آنية كبيرة أسطوانية وبحافتها العليا مقابض عدة، كما وجدت بعض الأواني التي يميل لونها إلى البياض وبسطحها بروزات كالحبوب أو مزودة بمقابض تشبه الأواني السورية، كذلك وجدت أيضًا بعض أوانٍ تشبه أواني العمرة "ذات حافة سوداء"، وأوانٍ تشبه أواني مرمدة "توءمية" أما الأواني المزدانة بالرسوم؛ فقد أصبحت قليلة. ومن هذا نتبين صلة المعادي بحضارات كل من الوجه البحري "مرمدة" وسوريا والوجه القبلي "العمرة" ويرجع هذا إلى مركزها الجغرافي؛ حيث يسهل الاتصال بينها وبين تلك الجهات.

_ 1 Cambridge, Ancient History, "2nd ed," VoI, I chapt. x "MMS".

وقد عثر في المعادي على عدة أوانٍ حجرية كبيرة متقنة الصنع ولوحات من الاردواز والحجر الجيري وفلكات مغازل ودبابيس ومصاحن، وعلى الكثير من المكاشط ورءوس السهام والحراب والمناشير الصوانية وبعض الآلات من الصخر البلّوري والكوارتز والجرانيت، كما وجدت فيها مجموعة من الأدوات الخشبية مثل عصا الرماية "Boomeranga" وعصا قصيرة وبعض المثاقيب والأطباق والجفنات والملاعق يندر وجود مثلها في الحضارات المصرية المعاصرة، إلى جانب آلات كثيرة من العظام وخاصة المثاقيب، أما فيما يختص بأدوات الزينة؛ فإن أهل المعادي عرفوا صناعة الخرز من الأحجار المختلفة وقد عثر على عقد كامل من 54 حبة من الخرز كلها بيضاء ما عدا 8 منها سوداء، كما وجدت أصداف مثقوبة وأمشاط من عظام الحيوان ومواد التلوين من المغرة والملاخيت والمنجنيز الأسود. وعرف أهل المعادي استغلال المعادن؛ حيث عثر على عدد من الأدوات المعدنية كالسنانير والمثاقيب والأزاميل ورأسي فاس وكلها من النحاس الذي عثر على سبائك منه أيضًا كما وجدت بعض مقادير من المنجنيز ومن القار الذي كان يجلب من منطقة البحر الميت. وأخذت النزعة الفنية ترقى، كما يستدل على ذلك من وجود قطعة من الصلصال المحروق يظن أنها تمثل رأس جمل1, وقطعة أخرى تمثل رأس

_ 1 يظن أن الجمل وجد في مصر لفترة وجيزة قبل عصر الأسرات أو في بدايته, ثم انقرض منها ولم يصبح استخدامه شائعًا إلا لأسباب اقتصادية في العهد اليوناني - انظر: J. Capart, "Primitive Art in Egypt", 1905, pp. 189, 202; H. Keess "Ancient Egypt", Translated by Morrow "London 1961", p. 53.

حيوان غير واضح، وعثر على بيضة نعام ازدان سطحها بأشكال هندسية محفورة بإتقان وملونة باللون الأسود، كذلك عثر على هيكل قارب من الفخار ورأس تمثال صغير من الفخار الأحمر يمثل شخصًا من غرب آسيا ويتضح ذلك من شكل رأسه وذقنه. أما مساكن المعادي؛ فإنها تركزت حول وسط القرية وكانت متعددة الأشكال؛ فمنها ما كان يبنى من قوائم من جذوع أشجار تلف حولها أغصان رفيعة ثم تطلى بالطين وأبوابها نحو الجنوب للحماية من الرياح الشمالية السائدة, ومنها ما كان على شكل كلمة pr الهيروغليفية التي تعني "منزل"؛ مما يدل على أن رسم هذه الكلمة منقول عن الشكل الغالب في مساكن عصر ما قبل الأسرات، وقد وجدت عدة كهوف عثر فيها على آثار تدل على أنها كانت للسكنى. وكانت المواقد إما صغيرة تقام داخل المنازل أو كبيرة تقام أمام المنازل، وكان الموقد عبارة عن أحجار متراصة تحصر بينها الوقود. أما المخازن؛ فكانت على شكل حفر يتراوح عمقها بين متر أو مترين وكان بعضها يزود بسياج يحيط بالحفرة وله سقف يقوم على قوائم من الخشب، وإلى جانب هذه المخازن كان القوم يخزنون المؤن أحيانًا في قدور كبيرة أو سلال. وكان البالغون من أهل المعادي يدفنون في جبانة تقع في بقعة منخفضة إلى جنوب القرية, أما الأجنة؛ فكانت تدفن في قدور كبيرة أو حفر غير عميقة في المساكن نفسها، وكان الميت يوضع مقرفصًا إلا في حالات قليلة وجدت فيها الهياكل ممددة، ولم يكن للرأس أو الوجه اتجاه ثابت. كما لم يعثر على شئ سوى بقايا حصير أو جلد أو قماش مما كانت تغطى به، وفي بعض المقابر عثر بجوار المتوفى على إناء واحد من الفخار, وكان لكل عائلة قسم خاص من الجبانة، كما عثر على حيوان يشبه ابن آوى, مدفون بعناية مما يوحي بعبادة هذا الحيوان

الذي عبده فراعنة العصور التاريخية كإله حارس للجبانة، ويدل وجود آنية الفخار على اعتقادهم بالحياة الثانية، كما يدل وجود الجبانة بعيدة عن المساكن على أنهم كانوا في مرتبة حضارية أرقى من مرتبة أهل مرمدة وحلوان الثانية. ومن كل ما سبق يتبين لنا أن أهل هذه الحضارة عرفوا الزراعة والرعي والنسيج, وكانوا على علاقات تجارية وثقافية مع الحضارات الشرقية والجنوبية, ولا شك في أنهم وصلوا إلى مرتبة حضارية لا بأس بها.

العصر التاريخى

العصر التاريخى مدخل ... ثانيًا- العصر التاريخي: كانت معلومات العالم المتحضر عن تاريخ مصر الفرعونية ضئيلة, مشوهة, تعتمد في أساسها على ما دونه كتاب اليونان وغيرهم من الرحالة والمغامرين, الذين اعتمدوا في كتاباتهم على ما قصه عليهم الرواة من أنباء فيها الطرافة, ولا تخلو من الخطأ والخرافة أحيانًا. وقد حاول كثير من العلماء التعرف على تاريخ مصر الفرعونية من مصادره الأصلية أي: من الكتابات والنقوش التي تركها الفراعنة؛ وذلك عن طريق حل رموز اللغة المصرية التي شاهدوها على الآثار ولكنهم ذهبوا في ذلك مذاهب خيالية ولم تسفر جهودهم عن نجاح يستحق الذكر. وكان مجيء الحملة الفرنسية إلى مصر "1798-1801م" بقيادة نابليون بونابرت فاتحة عهد جديد؛ إذ عثر أحد ضباط الحملة على حجر بالقرب من رشيد نُقِشت عليه نقوش ثلاثة: أحدها باليونانية, والآخران باللغة المصرية, كتبت بخطين مختلفين -الهيروغليفي والديموطيقي- وقد انكب العالم الفرنسي شامبليون على محاولة حل رموز الخط الهيروغليفي وكللت جهوده بالنجاح بعد عمل مضنٍ ومقارنة كثير من النقوش المختلفة، ومما يسر له السبيل أن الفراعنة اعتادوا كتابة

أسماء الملوك والملكات داخل إهليج "إطار" بيضي مستطيل الشكل يعرف بالخرطوش، وقد بدأ شامبليون بقراءة أسماء الملوك في النقش اليوناني بحجر رشيد وعرف أنها لبطليموس وكليوباترا واتضح له اشتراك الاسمين في بعض الحروف كما هي مدونة بالهجائية اليونانية في خراطيشهما بالنص اليوناني؛ فطبق ذلك على ما شاهده من تشابه في الرموز الدالة عليهما في الخراطيش الموجودة في النص الهيروغليفي وأمكنه التوصل إلى معرفة بعض الحروف والعلامات الهيروغليفية1، وبمحاولة كل خرطوش ملكي يقع تحت بصره على أساس ما يعرفه من أسماء الملوك التي وردت في كتابات اليونان وغيرهم استطاع معرفة حروف ورموز أخرى وتوصل إلى الأصوات والمعاني التي تدل عليها وهكذا، ثم توالت بعدئذٍ جهود العلماء؛ إلى أن أصبح في الإمكان قراءة اللغة المصرية ووضع معاجم وقواعد لها. اللغة المصرية: ما زال الاختلاف قائمًا بين العلماء حول أصل اللغة المصرية؛ إذ إن صلتها باللغات الحامية واضحة، كما أن علاقاتها باللغات السامية لا يمكن إنكارها أو تجاهلها. وإذا ما تتبعنا كتابتها نجد أن أقدم المحاولات في كتابتها تتمثل في زخارف الأواني والأدوات المستعملة؛ حيث صورت فيها أشكال أشخاص وحيوانات وسفن وما أشبه؛ فالكتابة بدأت حينما بدأت الرغبة في التعبير بالرسم عن أشياء يمكن للرائي معرفة ما تدل عليه، وهذه الأشكال كان لا بد للرائي

_ 1 انظر الرموز المتشابهة في خرطوشي بطليموس وكليوباترا على التوالي, وهي كما يلي:

من ترجمتها إلى أصوات معبرة في اللغة، وقد حدث ذلك في مصر حينما تمكن المصري من رسم صور مصغرة ومختصرة للأشياء المادية والكائنات يمكن أن تعبر عن الصور الكاملة التي تدل على نفس هذه الأشياء والكائنات المعروفة مثل الأسلحة والنباتات والحيوانات والبشر بل والآلهة كذلك، ويمكن القول أيضًا بأن الظروف اقتضت ظهور الكتابة وتطورها حينما وجدت الرغبة لدى الناس للتعبير عما لا يمكن التعبير عنه بكيانه مثل الأعداد وأسماء الأشخاص والكائنات وغير ذلك, وأخذت في النمو كلما وجد أن الرسوم والمناظر في حاجة للتفسير، وقد ظل هذا الاتجاه طوال العصور الفرعونية؛ حيث ظل الفراعنة يدونون على المناظر التي يمثلونها ما يوضحها بعبارات مكتوبة، وهكذا حتى أصبح في الإمكان التعبير بالكتابة عن كل ما يرغب الإنسان التعبير عنه. واللغة المصرية كانت تكتب في أول الأمر برموز تمثل كائنات أو أجزاءً من كائنات في صورة قريبة من الواقع, وقد أطلق عليها اليونانيون اسم الهيروغليفية أي: الكتابة المقدسة؛ وذلك لأنهم شاهدوها مدونة على جدران المعابد والنصب التذكارية المختلفة؛ فهي في الواقع كتابة إعلام أو كتابة زخرفية، وقد ظلت مستعملة في النصب المختلفة حتى نهاية العصور الفرعونية وإن كانت رموزها قد اختلفت في مدلولاتها أحيانًا، ولم تستعمل هذه الكتابة وحدها؛ بل صاحبتها منذ نشأتها تقريبًا كتابة أخرى مختصرة عنها عرفها اليونانيون باسم الهيراطيقية أي: الكتابة الكهنوتية نظرًا لأنهم اعتقدوا أن الكهنة وحدهم هم الذين كانوا يعرفونها، وربما كان سبب ذلك أن المدارس في مصر القديمة كانت عادة تلحق بالمعابد، ويرجع أقدم ما عثر عليه من نصوص كتبت بالهيراطيقية إلى عهد الأسرة الثانية تقريبًا. ولما تعددت مطالب الحياة وازداد نشاط التعامل بين الأفراد ظهرت كتابة ثالثة أشد اختصارًا هي الكتابة الديموطيقية "أي: الكتابة الشعبية".

ويمكننا أن نشبه -مع الفارق- هذه الكتابة بخطوط اللغة العربية فالهيروغليفية تقابل الخط المثلث، وغيره من خطوط الزخرفة والأعلام والهيراطيقية تقابل خط النسخ والديموطيقية تقابل خط الرقعة. وحوالي الوقت الذي طغت فيه المسيحية على الديانة المصرية الوثنية في مصر استعملت الحروف الهجائية اليونانية في كتابة اللغة المصرية؛ ولكن نظرًا لأن هذه تميزت بأصوات ليست لها مقابل أو شبيه في اللغة اليونانية -وخاصة الأصوات الحلقية "مثل: الحاء والعين وغيرهما"- فقد أضيفت إلى هذه الهجائية سبعة أحرف من أصل مصرى لاستكمال هذه الكتابة الجديدة التي عرفت خطأ باسم اللغة القبطية, والأحرى أن يطلق عليها الكتابة المسيحية للغة المصرية؛ لأنها وإن استعملت فيها بعض ألفاظ غير مصرية؛ إلا أنها في مجموعها لا تخرج عن كونها اللغة المصرية كتبت في هيئة جديدة. ومما سبق يتضح لنا أن الكتابة المصرية في نشأتها تشبه نشأة الكتابة في بلاد النهرين ولا يستبعد وجود علاقة فعلية بينهما، وربما يؤيد ذلك اشتراكهما في بعض مدلولات الصور التي تعبر عن كائنات واحدة في كل من الكتابتين؛ إلا أن الفرق شاسع بينهما في مراحل تطورهما؛ فالكتابة في بلاد النهرين -نظرًا لاستخدام قلم مدبب في كتابتها- أخذت تبتعد سريعًا عن أن تبين صورًا يمكن التعرف عليها؛ بينما ظلت الكتابة المصرية في هيئة صور لكائنات معروفة ولم تفقد هذه الخاصية إلا جزئيًا في الخطين الهيراطيقي والديموطيقي؛ ولهذا ظلت رموز كثيرة تستخدم في الدلالة على ما تمثله، أي: أن بعض الرموز ظلت مستعملة للدلالة على معانٍ قائمة بذاتها. المصادر التي اعتمد عليها المؤرخون: كانت عقيدة المصري في البعث والتمتع في العالم الآخر بحياة مماثلة للحياة

الدنيا خير معين للمؤرخين؛ لأن هؤلاء أفادوا من النقوش التي تركها المصريون في مقابرهم وعلى نصبهم وآثارهم المختلفة حرصًا منهم على تسجيل أعمالهم الجيدة ومظاهر نشاطهم في حياتهم العادية أملًا في أن يقوموا في آخرتهم بنفس الأدوار التي قاموا بها في حياتهم الدنيا؛ فجاءت هذه تراجم لأصحابها، وقد استقى منها المؤرخون معظم معلوماتهم التي ألقت كثيرًا من الضوء على مختلف نواحي الحياة المصرية من حربية واقتصادية واجتماعية ودينية وسياسية, وأوضحت صلات القربى بين بعض الأفراد ممن كانت لهم أهمية تاريخية خاصة, وغير ذلك من المعلومات التي لا غنى عنها لكل مؤرخ. ومن المصادر المهمة التي استقى منها المؤرخون بعض معلوماتهم التاريخية أيضًا ما سجله بعض الموظفين في نقوش على صخور المناطق التي ارتادوها في بعثات للتعدين أو في حملات عسكرية أو جولات تفتيشية وغيرها؛ مما يعد سجلًا حافلًا يفيد منه كل باحث؛ هذا فضلًا عما عثر عليه من وثائق ومحفوظات مختلفة كالبرديات التي دون عليها ما يشير إلى بعض الأحداث التاريخية أو بعض القضايا والمنازعات أو فصول في الأدب والعلوم والفنون المختلفة؛ مما أفاد في التعرف على نواحٍ أخرى من نواحي الحياة المصرية. أضف إلى ذلك ما عثر عليه من محفوظات كتبت بلغات أجنبية مثل الألواح التي عثر عليها في تل العمارنة والتي كتبت بالخط المسماري وكان لها أكبر الفضل في إماطة اللثام عن كثير من الشئون الخارجية والعلاقات الدولية في عهد الدولة الحديثة. وقد سبق أن أشرنا إلى أن ما كتبه اليونان عن مصر كان يعتمد على ما ذكره الرواة لهؤلاء؛ فجاءت كتاباتهم مليئة بالأخطاء، ومع ذلك فقد أفاد منها الباحثون قدر الإمكان وخاصة فيما يتعلق بالشطر الأخير من تاريخ الفراعنة؛ إذ إنه كان أقرب العهود لهؤلاء الكتاب ولم تكن روايات الرواة قد تناولته بكثير

من التشويه. وفي عهد بطليموس الثاني دون كاهن مصري يدعى مانيثون تاريخًا لمصر قسم فيه الملوك الفراعنة إلى 31 أسرة حاكمة؛ إلا أن ما وصلنا من هذا التاريخ لا يزيد على بعض الفقرات التي نقلها عنه بعض مؤرخي اليونان. ولا شك في أن تسلسل الملوك وتتابعهم كان من أكبر العقبات التي صادفت الباحثين؛ وذلك نظرًا لأن المصري كان يؤرخ الأحداث المهمة على حسب السنين التي حكمها الملك المعاصر ولا يشير إلى من سبقه أو لحقه من الملوك إلا في أحوال نادرة، ولم يشذ عن ذلك إلا ملوك الأسرة الثانية عشرة والملوك القلائل الذين أشركوا معهم أولياء عهودهم في الحكم؛ ولكن لحسن الحظ ترك لنا المصري بعض الآثار المهمة التي بينت لنا ترتيب حكم الملوك في كثير من العهود. وهذه الآثار عبارة عن قوائم كتبت في عهد بعض الملوك وهي تروي أسماء الملوك الذين سبقوهم على عرش مصر على حسب ترتيبهم المعروف وقتئذٍ وبعض الأحداث المهمة التي حدثت في عهودهم, وهذه القوائم هي: 1- حجر بارمو: عرف بهذا الاسم نسبة إلى متحف بارمو المحفوظ فيه، وهو عبارة عن جزء من قطعة الديوريت دُوِّنت عليها حوليات الملوك من أقدم العصور حتى منتصف الأسرة الخامسة تقريبًا, ويشير هذا الأثر كذلك إلى بعض ملوك سبقوا مينا ممن كانوا يحكمون في الدلتا وأطلق عليهم اسم أتباع الإله حور, وقد وجدت بعض القطع المماثلة لهذا الأثر؛ ولكن ليس من المؤكد أنها تنتمي لنفس الأثر الأصلي الذي منه القطعة السابقة، ومن بين هذه القطع الأخيرة قطعة دونت عليها أسماء خمسة ملوك من أتباع حور "السابقين للملك مينا" حكموا في جنوب مصر. ويذكر حجر بارمو والقطع المماثلة اسم كل ملك والحوادث المهمة في كل سنة من سنوات حكمه وارتفاع الفيضان فيها.

2- قائمة الكرنك: وترجع إلى عهد تحتمس الثالث "الأسرة الثامنة عشرة" وكانت في حجرة من معبد أقامه في منطقة الكرنك، وهي تذكر أسماء بعض الملوك الذين لم يذكروا في قوائم أخرى, وقد نقلت هذه القائمة إلى متحف اللوفر. 3- قائمة أبيدوس: وهي عبارة عن نقش يشكل معظم جدار إحدى حجرات معبد سيتي الأول في أبيدوس "العرابة المدفونة" وتعرف باسم لوحة الأجداد؛ لأنها تمثل سيتي الأول يقدم ولده رعمسيس الثاني "الأسرة 19" إلى أسماء أجداده ملوك مصر وهي تشمل ستة وسبعين اسمًا تبدأ بالملك مينا؛ فهي تغفل ذكر أسماء بعض الملوك وربما كان ذلك لعدم الاعتراف بشرعية حكمهم لمصر. 4 قائمة سقارة: وجدت في إحدى مقابر عهد رعمسيس الثاني "شكل 21" وتختلف فيها الأسماء في بعض المواضع عن الأسماء التي وردت في لوحة أبيدوس؛ ولكنها تتفق كثيرا مع الأسماء التي وردت في بردية تورين الآتي ذكرها: شكل "21" جزء من قائمة سقارة

5- بردية تورين: يحتمل أنها من عهد رعمسيس الثاني أيضًا وهي محفوظة الآن في متحف تورين وتذكر أسماء حكام مصر في العصور السحيقة التي سبقت قيام الأسرة الأولى وقد نسبتهم إلى السماء، أي: اعتبرتهم من الآلهة ثم ذكرت أسماء الملوك الآدميين "عهد الأسرات" وهي تذكر مدة حكم هؤلاء الملوك بالسنين والشهور والأيام, وقد وجدت هذه مطابقة تقريبًا لما ورد في الآثار في بعض الحالات, ومن أمثلة ذلك أنها ذكرت أن الأسرة الثانية عشرة ظلت تحكم مصر 315 سنة ولا تختلف آثار هذه الأسرة كثيرًا عن ذلك؛ حيث تدل على أنها حكمت نحو 213 سنة، ومع هذا فإن هذه البردية لا تخلو أيضًا من بعض أخطاء طفيفة "شكل22". شكل "22" جزء من بردية تورين التأريخ والتقويم: كان المصري في بداية الأمر -كغيره من الشعوب البدائية- يؤرخ الأحداث حسب وقوعها بالنسبة لحدث مهم، ثم ميز كل سنة من سنوات حكم أي ملك

بحادث مهم، ونظرًا لأن تعداد الماشية الذي كان يتم كل عامين كان من الأمور المهمة في حياة المصري؛ فقد أرخ الأحداث ابتداء من منتصف الأسرة الثانية بالنسبة لرقم التعداد في حياة الملك الحاكم، ومن الأسرة الحادية عشرة استعاض عن ذلك بذكر رقم سنة الحكم في عهد الملك الجالس على العرش وإن كان قد التزم باحتساب سنوات عهد كل ملك ابتداءً من بداية السنة المتفق عليها "أي: ابتداء من اليوم الأول من الشهر الأول من فصل الفيضان"؛ ولذا كان يضيف السنة التي يتوفى فيها الملك إلى عهد الملك الجديد. وأخيرًا أصبحت العادة أن تحتسب سنوات حكم الملك منذ توليه العرش بغض النظر عن وقت السنة الذي يعتلي فيه العرش وتؤرخ الحوادث تبعًا لذلك على حسب الزمن الذي وقعت فيه بالنسبة لحكم الملك المعاصر أي أن مدة حكم كل ملك اعتبرت تقويمًا قائمًا بذاته؛ فمثلًا يخبرنا سنوهي في قصته بأن الملك أمنمحات الأول توفي في السنة الثلاثين من حكمه في عبارة ترجمتها كما يلي: "السنة الثلاثون فصل الفيضان الشهر الثالث اليوم التاسع دخل الإله "أي الملك" أفقه "أي توفي" وطار أمنمحات إلى السماء واتحد مع الشمس ... إلخ". وقد استطاع المصري أن يتوصل إلى حساب الزمن حسابًا لا يكاد يختلف عن حسابنا له إلا بقدر طفيف؛ فقد لاحظ منذ أقدم العصور أن الفيضان يأتيه منتظمًا في كل عام وفي موعد معين، وحدث أن صادف أول يوم في الفيضان ظهور نجم الشعرى اليمانية في المجال الشمسي وقت الشروق مع الشمس في الأفق الشرقي تجاه منفيس، وربط المصري بين هذه الظاهرة وظاهرة الفيضان واعتبرها بداية السنة، وراقب ظهور نجم الشعرى اليمانية وجعل دورته السنوية وحدته الزمنية ثم قسمها على أساس الظواهر المتعلقة بنهر النيل وفيضانه إلى ثلاثة فصول: فصل الفيضان، فصل الزرع، فصل الحصاد، وكل من هذه الفصول قسمه إلى أربعة شهور متساوية كل منها ثلاثين يومًا، ولما كان نجم الشعرى اليمانية يظهر في الأفق الشرقي كل 365 يومًا؛ فإن المصري أضاف خمسة أيام في نهاية

فصوله الثلاثة وسماها الشهر الصغير, احتفل فيها بأعياد مختلفة أي: أنه اعتبر السنة 365 يومًا، وحيث إن الشمس لا تظهر في نفس موضعها السابق إلا كل 365.25 يومًا وربع يوم تقريبًا، أي: أن السنة الشمسية تزيد على دورة نجم الشعرى اليمانية بمقدار 1/ 4 يوم؛ فإن ذلك قد أدى إلى اختلاط الأمر على المصري وأحس به؛ لأن السنة التي يعرفها كانت تنقص يوما عن السنة الشمسية في كل أربع سنوات, ومعنى هذا أن النجم الشعرى اليمانية لا يعاود الظهور مع الشمس في الأفق الشرقى في نفس اللحظة إلا كل "4×365=" 1460 سنة، وقد ورد في كراسة تلميذ من عهد الأسرة التاسعة عشرة ما يدل على الحيرة من التباين بين التقويمين الشمسي والمصري المبني على دورة الشعرى اليمانية؛ حيث جاء فيها "خلصني "يا إلهي" من السنة المضطربة, إن الشمس لم تعد تشرق؛ فالشتاء يحل محل الصيف, وتسير الشهور القهقرى". وقد لاحظ المؤرخون أن المؤرخ سانسريون "Censerion" سجل ظاهرة اجتماع الشعرى اليمانية والشمس وقت الشروق سنة 140م. ومعنى هذا أن تلك الظاهرة حدثت قبل ذلك سنة 1320ق. م، سنة 2280 ق. م. وهكذا، وقد قدر هؤلاء المؤرخون أن المصريين توصلوا إلى معرفة السنة على أساس 365 يومًا "دورة الشعرى اليمانية" منذ أن اجتمع هذا النجم مع الشمس في الأفق الشرقي في المرة السابقة لبدء العصر التاريخي على الأقل "حوالي سنة 4240 ق. م" أي: أن المصري بدأ تقويمه منذ المرة التي حدثت فيها هذه الظاهرة قبل معرفة الكتابة وقبل العصر التاريخي؛ ولكن ليس لدينا ما يؤكد هذه الفكرة وإنما هي مرجحة على أي حال.

ومما هو جدير بالذكر أن المؤرخين اصطلحوا على أن الأسرة الأولى بدأت حوالي سنة 3200 ق. م. وظلوا متفقين على هذا التأريخ كبداية للعصر التاريخي في مصر مدة طويلة؛ ولكن هذا الرأي تعرض للتعديل أكثر من مرة، وآخر الآراء وأحدثها تميل إلى جعل بداية هذه الأسرة ترجع إلى عام 3100 تزيد أو تنقص 150 ق. م. تقريبًا على أساس مقارنة بعض تواريخ ملوك بلاد النهرين بالنسبة لتواريخ معاصريهم من ملوك مصر، ومع ذلك فما زال هذا التاريخ موضعًا للبحث وخاصة بعد الاستعانة ببعض التجارب العلمية المبنية على الإشعاع الذري وأثره في المواد العضوية, واستخدام ذلك في تقدير عمر الآثار من مختلف البقاع ومن مختلف العصور, وعلى هذا يعاد النظر في بداية عهد الأسرات المصرية ولم يستقر الأمر بعد بصفة قاطعة. تقسيم العصر التاريخي إلى الأدوار التي مرت بها مصر الفرعونية: سبق أن أشرنا إلى أن مانيثون "Manethon" قسم تاريخ الفراعنة حسب حكم الملوك إلى إحدى وثلاثين أسرة, وقد تبعه معظم المؤرخين في هذا التقسيم؛ ولكن تيسيرًا لدراسة هذا التاريخ يمكننا أن نقسمه حسب ما أصاب البلاد من قوة وضعف إلى أربعة أدوار رئيسية من النهوض, أعقب كلًّا منها دور من أدوار الفوضى أو الاضمحلال كما يلي: 1- عهد الدولة القديمة, وهو حكم الأسرات ابتداء من الأسرة الأولى حتى الأسرة السادسة "3100-2181 ق. م". 2- عهد الاضمحلال الأول, وهو يشمل حكم الأسرات السابعة إلى الحادية عشرة "2181-2134 ق. م". 3- عهد الدولة الوسطى, وهو يشمل حكم الأسرات من الحادية عشرة

إلى الثالثة عشرة "2134-1786 ق. م". 4- عهد الاضمحلال الثاني, وهو يشمل الأسرات الثالثة عشرة إلى السابعة عشرة, وخلاله حكم الهكسوس في مصر "1786-1580 ق. م". 5- عهد الدولة الحديثة أو عصر الإمبراطورية, وهو يشمل الأسرات الثامنة عشرة إلى العشرين "1580-1087 ق. م". 6- عصر الاضمحلال الثالث وحكم الكهنة والليبيين والنبتاويين, وهو يشمل حكم الأسرات الحادية والعشرين إلى الخامسة والعشرين "1080-664 ق. م". 7- عهد النهضة, وهو يشمل حكم الأسرة السادسة والعشرين "664-525 ق. م". 8- عهد الفوضى الأخير, وهو يشمل حكم الأسرات السابعة والعشرين إلى الحادية والثلاثين؛ حيث بسط الفرس سلطانهم على مصر في معظم هذه الفترة "525-332 ق. م". ومما تجدر ملاحظته أن وجهات نظر المؤرخين تختلف في تحديد بداية ونهاية بعض هذه الأدوار، كما أن بدء الأدوار لا يتطلب -بالضرورة وفي كل حالة- انتهاء حكم الأسرة التي كانت قائمة في الدور السابق، وفي تتبعنا لهذه الأدوار إنما نأخذ برأي غالبية العلماء؛ على أنه من الممكن أن نقسم التاريخ المصري -قبل مجيء الإسكندر إلى مصر- بأكمله إلى قسمين كبيرين: الأول قامت فيه مصر بدور إيحابي وهو يبدأ من أقدم العصور وينتهي بنهاية الدولة الحديثة, والثاني قامت فيه بدور سلبي على العموم وهو يبدأ من نهاية الدولة الحديثة حتى وصول الإسكندر، فتاريخ الفراعنة

على هذا الأساس يشمل القسم الأول الذي قامت فيه مصر بدورها الإيجابي في معظمه، ثم عاشت في معظم القسم الثاني من تاريخها في دورها السلبي, وهذا التاريخ هو الذي سنقوم بدراسته وفق أدوار القوة والضعف التي سبقت الإشارة إليها.

عهد الدولة القديمة

عهد الدولة القديمة مدخل ... 1- عهد الدولة القديمة: في عصر ما قبل الأسرات اتحدت أقاليم مصر المختلفة في إقليمين كبيرين: أحدهما في الوجه القبلي والآخر في الوجه البحري -وتشير بعض المصادر التي تحدثنا عنها فيما سبق1 إلى حكم ملوك من الآلهة وأنصاف الآلهة لهاتين المملكتين- وقد اختلفت الآراء بشأن التوحيد الذي قامت على أساسه الأسرة الأولى؛ ولكن ما زلنا نأخذ بالرأي القائل بأن مملكة الوجه البحري -قبل بداية العصر التاريخي- استطاعت أن تخضع مملكة الوجه القبلي، ثم انفصلت هذه عنها؛ إلا أن مملكة الوجه البحري عادت إلى القوة من جديد ووحدت البلاد للمرة الثانية؛ ولكن الوجه القبلي انفصل مرة أخرى ثم استطاع أن يظفر بالقوة وأن يقوم هو بإخضاع الوجه البحري, وأن يوحد البلاد التوحيد الثالث والأخير الذي قامت على أثره الأسرة الأولى. ويبدو أن ملكًا قبل مينا أو نعرمر "الذي اصطلح المؤرخون على جعله مؤسس الأسرة الأولى وتضعه بعض القوائم على رأس الأسرات الفرعونية" حاول توحيد المملكتين وربما نجح في ذلك بعض النجاح ويعرف هذا الملك باسم الملك العقرب؛ إذ كتب اسمه برمز يبين صورة هذا الحيوان إلا أن مينا أو نعرمر

_ 1 انظر أعلاه ص89-91.

كان صاحب الفضل في أول توحيد قام على دعائم ثابتة, ظهرت آثارها في عهد الأسرتين الأولى والثانية. فالآثار التي اكتشفت من ذلك العهد تدل على أن المصري ظل يستعمل كل ما صادفه من أحجار مناسبة في صنع الأدوات والأواني اللازمة له وطور فيها, كما استعمل النحاس وإن كان ذلك بدرجة محدودة، واستخدم العاج والأصداف في تطعيم مصنوعاته الخشبية, وارتقى بفن النسيج فتوصل إلى صناعة منسوجات دقيقة راقية, وتدل آثارهم كذلك على أنهم تأنقوا في زينتهم وفي طعامهم إلى درجة الترف. ومع أن مصر ظلت طوال عهودها الفرعونية تنقسم من الناحية الإدارية إلى شطريها القبلي والبحري "إشارة إلى المملكتين اللتين تكونتا في عصر ما قبل الأسرات"؛ فإن الملك خلال عهد هاتين الأسرتين صار مطلق السلطة وله صفة الألوهية؛ إذ كان يعتبر صورة الإله الحية على الأرض وعليه يقع عبء الدفاع عن مصر ورفاهية شعبها فيأمر بحفر الترع وإقامة الجسور وبنشر العدالة بين الناس، يعاونه في ذلك عدد كبير من الموظفين على رأسهم وزير ربما كان أصل اختصاصه أن يكون حلقة الاتصال بين الملك وبين موظفيه الذين كانوا ينقسمون من حيث الاختصاص إلى موظفين مختصين بمملكة الجنوب وآخرين مختصين بمملكة الشمال؛ فمثلًا كان هناك حامل أختام ملك الجنوب وآخر يحمل لقب حامل أختام ملك الشمال وكانا يرأسان بيت المال المزدوج أي: بيت مال الجنوب وبيت مال الشمال. وفضلًا عن ذلك كانت مصر تنقسم إلى عدة مقاطعات يرأسها حكام أو أمراء، يعاونهم على تصريف الأمور فيها عدد من الموظفين الذين كانوا يعنون بتدوين ارتفاع الفيضان لتقدير الضرائب على الزراعة المحتملة, ويقومون بعمل التعداد الذي كان يعمل كل سنتين، وكانت بكل مقاطعة هيئة تشرف على القضاء وعلى سائر الأعمال الإدارية وتشرف على عملية الإحصاء وتراقب

الفيضان؛ فكانت على الأرجح تجمع بين اختصاص المحلفين واختصاص أعضاء مجالس المدن أو المحافظات. ولا شك أن المصري عرف طريقه إلى بعض البلدان المجاورة منذ أقدم العصور وتبادل معها التجارة، وقد زاد نشاطه في هذا المضمار خلال عصر هاتين الأسرتين, ولم يكن هذا التبادل ليتم طوعًا في كل الأحيان؛ بل ربما كان الحصول على سلع الجيران يتم أحيانًا عن طريق الإغارة عليهم أيضًا. ويصف بعض المؤرخين الأسرتين الأولى والثانية بأنهما ثينيتان ويضعهما في عهد قائم بذاته أطلقوا عليه اسم "العصر الثيني أو الطيني" نسبة إلى طينه "Thinis" القريبة من أبيدوس؛ وذلك لأنهم شاهدوا اختلافًا واضحًا بين حضارة هاتين الأسرتين وحضارة الأسرة الثالثة, ولأن الاعتقاد كان سائدًا بأن ملوك هاتين الأسرتين قد دفنوا في أبيدوس واحتمال أن عاصمتهم كانت طينه؛ ولكن نظرًا لأن التطور الذي حدث في الأسرة الثالثة وإن كان عظيمًا؛ بحيث يبدو الفرق واضحا بين حضارتها وحضارة الأسرتين السابقتين فإن هذا التطور يعد نتيجة حتمية لحياة الاستقرار التي سادت عصر هاتين الأسرتين ولا داعي لتمييزهما عن العهد التالي الذي يرتبط بهما ارتباطًا وثيقًا. كذلك أصبح من المشكوك فيه الآن أن ملوك الأسرتين الأولى والثانية قد دفنوا في أبيدوس، وعلى هذا فإن وصفهما بالأسرتين الثينيتين أصبح لا مبرر له, أما إذا دعت الحاجة إلى تمييز عهد هاتين الأسرتين عن العهد التالي له لما شهده هذا الأخير من تطور ضخم في ميدان الحضارة؛ فلا بأس من أن نطلق عليه الاسم الذي اختاره نفر قليل من المؤرخين وهو اسم "عصر الأسرات الباكر" أو "باكورة عصر الأسرات". ومهما يكن من أمر؛ فإننا سنعتبر عهد الدولة القديمة يبدأ من عهد الأسرة الأولى وينتهي بعهد الأسرة السادسة, وسنتناوله بالدراسة على حسب الأسرات كما يلي:

الأسرة الأولي

الأسرة الأولى: مينا: اختلف المؤرخون كثيرًا حول شخصية هذا الملك, ومهما كان أمر هذا الاختلاف فإن غالبية الباحثين تنسب إليه توحيد مصر, وأنه حول مجرى النيل وأنشأ في المكان المتخلف عن مجراه الأصلي عاصمة جديدة عرفت باسم منف أي: الحائط الأبيض. ومن المرجح أنه قام بحروب ضد الليبيين والنوبيين واحتفل ببعض الاحتفالات الدينية وخاصة تلك التي تتعلق بمراسيم التتويج، وينسب إليه كذلك تشييد بعض المعابد, ومن المحتمل أنه تزوج أميرة من الوجه البحري تدعى "نيت حتب". وربما كانت الإشارة إلى بناء العاصمة الجديدة منف؛ مما يؤيد أن ملوك الأسرتين الأولى والثانية قد حكموا في هذه العاصمة وليس في طينه كما كان الاعتقاد سائدًا من قبل؛ وبالتالي يؤيد ما ذهبنا إليه من عدم وجود ما يبرر تسمية عهد هاتين الأسرتين باسم العهد الطيني1. جر: لم يكن هذا الملك أقل نشاطًا من سلفه؛ فقد عثر على اسمه منقوشًا على صخور جبل الشيخ سليمان2 بالقرب من وادي حلفا, ويبدو أنه انتصر على أهل النوبة مما يوحي بأن ملوك الأسرة الأولى بدءوا فعلًا في الاحتكاك ببلاد النوبة بقصد تأمين حدودهم الجنوبية أو رغبة في الاستيلاء على بعض حاصلات الجنوب.

_ 1 انظر أعلاه ص98. 2 Arkell, JEA 36, pp. 28-9.

جيت "وادجيت": وصلت مصر في عهد هذا الملك إلى درجة لا بأس بها من الرقي؛ فقد عثر على آثار من عهده يتجلى فيها الإتقان والروح الفنية العالية, كما وجد اسمه مكتوبًا على صخور أحد الوديان التي تربط بين إدفو وساحل البحر الأحمر؛ مما يدل على النشاط في إرسال البعثات التجارية أو بعثات استغلال المحاجر والمناجم من منطقة الصحراء الشرقية. دن: ظل هذا الملك يعرف باسم "دن" أو "أودمو"؛ ولكن النطق الأول لاسمه يفضل على النطق الثاني1، وقد استدل من الآثار التي ترجع إلى عهد هذا الملك على أنه كان عظيم النشاط؛ إذ حارب البدو في شرق مصر, واحتفل بعيد جلوسه على العرش، وقد اتخذ لقبًا يرمز إلى اتحاد الوجهين برمزين جديدين هما نبات البوص "الغاب" للدلالة على الصعيد والنحلة "اليعسوب" للدلالة على الدلتا، وربما كان في ذلك ما يدل على حدوث اضطرابات تهدف إلى انفصال المملكتين؛ فاستطاع أن يقضي عليها واتخذ هذا اللقب الجديد لتأكيد تمكنه من حكم البلاد بأجمعها وإعادة الوحدة إليها. عدج إيب: يبدو أنه حارب البدو كما يشير إلى ذلك حجر بارمو، وقد قام برحلة إلى مكان لم يتمكن المؤرخون من تحديده بعدُ, وانتصر على سكان هذا المكان. كذلك احتفل بعيد جلوسه على العرش وأمر بعمل أول إحصاء معروف

_ 1 Sir A. Gardiner, Egypt Of the Pharaoahs "Oxford 1961", pp. 401-2.

في التاريخ كما قام ببعض الاحتفالات الدينية وتأسيس بعض المدن. وقد تبع هذا الملك ملكان لا تشير آثارهما إلى ما يستحق الذكر وإن كانت الدلائل تشير إلى حدوث نزاع بين أفراد الأسرة المالكة انتهى بالإطاحة بها.

الأسرة الثانية

الأسرة الثانية: لا ندري هل كانت هذه الأسرة تمت بصلة القرابة إلى الأسرة السابقة أم لا؟ والمهم أن مانيثون بدأ أسرة جديدة يحتمل أنها نشأت على إثر حدوث نزاع عائلي في الأسرة الأولى أدى إلى زوال حكمها, وما زال تاريخ الأسرة الثانية يشوبه بعض الغموض؛ فجداول الملوك تشير إلى ثمانية ملوك على الأقل حكموا في هذه الأسرة. ومما تجدر ملاحظته أن ملوك هذه الأسرة لم ينتسبوا جميعًا إلى إله رئيسي واحد؛ فبعض الملوك لم ينتسب للإله حور الذي اعتاد الملوك أن ينسبوا إليه؛ مما يوحي بحدوث بعض المتاعب أو الثورة على المعبود الرسمي أثناء حكم هذه الأسرة؛ فمن المعروف أن الإله حور كان صاحب النفوذ في المملكة الموحدة, وأن الإله ست كان صاحب النفوذ الأول في الصعيد، وقد درج الملوك على عادة انتمائهم للإله حور إذ كانوا ينقشون رمز هذا الإله قبل أسمائهم للدلالة على أنهم ينتسبون إليه, وبدءوا يهتمون بالعاصمة الشمالية منف ويستقرون فيها، وربما كان ذلك سببًا في إثارة كهنة الإله ست الذين شعروا بتضاؤل نفوذهم القديم فبذروا بذور الفتنة وأشعلوا نيران الثورة ضد هذه الاتجاهات الجديدة؛ مما جعل أحد ملوكها وهو "بر إيب سن" يحذف رمز الإله حور قبل اسمه ويضع رمز الإله ست في مكانه أي: أنه أعلنها صريحة بأنه ينتمي إلى الإله ست وليس للإله حور، وربما كان هذا هو السبب الذي من أجله حذف اسم هذا الملك من بعض قوائم الملوك

باعتباره خارجًا على عبادة حور وهو المعبود التقليدي الذي ظل الفراعنة في غالبية العهود يدينون له بالولاء. ومع أن عهد الأسرة الثانية قد حفل بالاختلافات السياسية، وربما بحدوث منافسات على العرش أيضًا؛ إلا أن التقدم في مرافق الدولة لم يقف عند حد؛ فقد استقرت جذور الحضارة المصرية منذ عصر ما قبل الأسرات وأخذ الصناع والفنانون ينهضون بما تخصصوا فيه وبلغوا في ذلك درجة كبيرة من الإتقان والرقي، وقد بدأت صناعة التماثيل الملكية في عهد أحد ملوكها ويدعى خع سخم.

الأسرة الثالثة

الأسرة الثالثة: يعد عصر الأسرة الثالثة بداية عصر بناة الأهرام, ومن المحتمل أن زوسر وضع على رأس هذه الأسرة الجديدة "مع أنه كان ابنًا لآخر ملوك الأسرة الثانية"؛ نظرًا لما اشتهر به من همة ونشاط من جهة، ولأن عصره يعد بداية تطور حضاري ضخم وخاصة في فن المعمار الذي تمثل في بناء أول هرم مدرج في التاريخ من جهة أخرى، وكان الفضل في هذا البناء لوزيره إيمحتب الذي يحتمل أنه بدأ تقلده للوظائف منذ أواخر الأسرة الثانية، وقد خلد اسمه في التاريخ إلى درجة أنه أُلِّه ابتداء من القرن السادس قبل الميلاد على الأقل إلى نهاية عهد البطالمة؛ فقد كان إلى جانب شهرته في ميدان الهندسة كبيرًا لكهنة الشمس ورئيسًا للمثالين ومشرفًا على القصر ونابغة في الطب, حتى إن اليونان وحدوه مع إله الطب عندهم "إسكاليبوس". وتتجلى عبقرية إيمحتب في إشرافه على بناء هرم سقارة المدرج الذي شيده لمليكه زوسر, وهو يعد عملًا فريدًا من حيث إنه أول بناء ضخم من الحجر، ويكفي للتدليل على عظمة مهندسه وعلو كعبه في فنه أن نتصور الوسائل البدائية التي كانت تستخدم في البناء وقطع الأحجار ونقلها في هذا العهد السحيق؛ فلا شك أن قدرة إيمحتب على حشد العدد الهائل

من العمال اللازمين للعمل وتنظيمهم قد بلغت أقصى حد، والهرم عبارة عن ست مصاطب بعضها فوق بعض, وارتفاعه ستون مترًا تقريبًا والسور المحيط به وبالمباني الملحقة به يبلغ طوله 544 مترًا وعرضه 270 مترًا، وقد عثر في دهاليزه على أوانٍ من الأحجار مختلفة, معظمها مهشم عن قصد وقد قدر عددها بنحو 30.000 آنية. شكل "23" منظر تخيلي لما كان عليه هرم زوسر المدرج بسقارة وملحقاته ولا يقتصر نشاط زوسر المعماري على سقارة؛ بل وجدت له آثار في جهات أخرى، كما يبدو أنه عمل على تأمين البلاد من غارات البدو وأرسل حملة لتأديب بدو سيناء, ومما ينسب إلى عهده أن مجاعة حدثت في البلاد بسبب توقف الفيضان عن الوصول إلى منسوبه المعتاد، وبعد استشارة حاكم الإقليم الجنوبي من مصر أمر زوسر بأن توقف الأراضي الواقعة على جانبي النيل من جزيرة سهيل إلى قرب الدكة في بلاد النوبة للإله خنوم؛ وبذلك عاد الفيضان -كما تشير القصة التي تحدثنا عن هذه المجاعة- إلى سابق عهده, ولكننا لا نستطيع أن نؤكد ما جاء في هذه القصة التي نقشت على صخور جزيرة سهيل؛ لأن كهنة

خنوم هم الذين دونوها في عهد البطالمة1, وربما كان للإشادة بفضل إلههم والدعاية له. سخم خت "زوسر الثاني": وجدت لهذا الملك ثلاثة نقوش في وادي مغارة بسيناء, ظل الأثريون إلى عهد قريب ينسبونها خطأً إلى ملك من الأسرة الأولى هو "سمرخت" كما أن اسم سخم خت كان ينطق سانخت؛ ولكن بعد اكتشاف الهرم المدرج لهذا الأخير في سقارة "بالقرب من هرم زوسر" سنة 1954 تمكن الباحثون من قراءة اسمه على سدادات أوانٍ فخارية عثر عليها بالهرم, وعرف أن صحة قراءة اسمه هي "سخم خت"2. وتاريخ هذه الأسرة يشوبه بعض الغموض, وما زال عدد ملوكها موضع خلاف، وقد قام حوني وهو آخر ملوك الأسرة بتحصين إليفانتين؛ إذ يبدو أن الحالة على الحدود الجنوبية لم تكن مطمئنة في عهده. ومن الشخصيات المهمة التي عاشت في أيام الأسرة الثالثة أحد كبار الموظفين ويدعى "متن" تدرج في عدد كبير من الوظائف, وكان من المعمرين؛ حيث بدأ حياته الوظيفية في عهد زوسر وامتد به العمر إلى أوائل الأسرة الرابعة، وقد نقلت مقبرته بأكملها إلى متحف برلين ومن نقوشها عرف الشيء الكثير عن التنظيم الإداري للبلاد في ذلك العهد.

_ 1 كان النص الذي يشير إلى قصة هذه المجاعة والذي نقش على صخور جزيرة سهيل ينسب إلى عهد بطليموس العاشر؛ ولكن أحدث الآراء تنسبه إلى عهد بطليموس الخامس "إبفان" انظر: Baraguet, "La Stéle du Famine a sehel" "Bibl. D.htm' Etudes, T 24" Le Caire 1953. P, 33 n. 1. 2 Edwards, "The Pyramids of Egypt" "Pelican A. 168," P. 80.

الأسرة الرابعة

الأسرة الرابعة: تكاد المصادر التاريخية تتفق جميعها على عدد ملوك هذه الأسرة, ويبدو أن العرش انتقل إليها من الأسرة الثالثة عن طريق المصاهرة؛ فمؤسسها "سنفرو" تزوج على الأرجح من ابنة حوني؛ وبذلك أصبح صاحب حق شرعي في اعتلاء العرش. سنفرو: امتاز هذا الملك بالنشاط؛ إذ إنه قام بحملة إلى النوبة وأخرى إلى ليبيا جلب منهما عددًا كبيرًا من الأسرى والماشية, كما قام بحملة أو بضع حملات على سيناء؛ إذ تمثله النقوش الصخرية في وادي مغارة وهو يقضي على أحد البدو -وربما كان الغرض من الإغارة على سيناء هو استغلال مناجم النحاس فيها- ويشير حجر بارمو إلى أنه أرسل، كذلك أربعين سفينة لإحضار كل من خشب الأرز من لبنان. ومما يؤيد ذلك أن كثيرًا من تلك الأخشاب قد عثر عليها في هرمه القبلي في دهشور، ومن المرجح أن أعماله الحربية وإرساله السفن إلى لبنان قد جعله حاكمًا مرهوب الجانب، ومع هذا فقد كان ملكًا عطوفًا رحيمًا، كما يستدل على ذلك من كثير من النصوص التي أشارت إليه؛ ولذلك أله بعد موته بنحو ستمائة عام. وقد جرت العادة على أن ينسب إلى هذا الملك هرمان في دهشور: أحدهما الهرم المنحنى الذي يعرف لدى العامة باسم الهرم الكاذب "شكل 24"، كما ينسب إليه هرم ثالث هو الهرم الناقص في ميدوم "شكل 25" الذي كان

شكل "24" الهرم الكاذب أو المنحنى في دهشور ينسب أصلًا إلى حوني آخر ملوك الأسرة الثالثة1. وقد اشتهر عهد الأسرة الرابعة عامة وعهد سنفرو خاصة بتقدم الفن، ومن بين القطع الرائعة المجردة في المتحف المصري، وتنتمي إلى هذا العهد تمثال "رع نفرت" وزوجها "رع حتب" الذي يرجح أنه أحد أبناء سنفرو, كما تدل رسوم مقبرة الأميرة "نفر معات" وخاصة رسم مجموعة الإوز المعروفة باسم أوزميدوم على مبلغ ما وصل إليه الفن من رقي؛ كذلك كان الأثاث الجنزي للملكة حتب حرس "زوجة سنفرو" الذي وجد مكدسًا في بئر قريبة من هرم ولدها خوفو من أروع ما عثر عليه من آثار الفراعنة, ومن المحتمل أن هذه الملكة كانت قد دفنت أولًا في دهشور بالقرب من زوجها سنفرو؛ ولكن لصوصًا سطوا على مقبرتها واكتشف أمر هذه السرقة فنقلت المحتويات الباقية في المقبرة إلى تلك البئر المشار إليها بما في ذلك تابوتها الذي عثر عليه الأثريون خاليًا رغم أن غطاءه كان محكمًا فوقه؛ ولذا يرجح أن أمر سرقة جثة الملكة قد أُخْفِيَ عن ولدها خوفو.

_ 1 قارن أحمد فخري "مصر الفرعونية" "القاهرة 1957 ص67-69". Sir, A, Gardiner, op. cit., p. 78 ; Edwards. Op. cit., pp. 114-115.

شكل 25- هرم ميدوم

وحكم سنفرو نحو أربعة وعشرين عامًا سادت البلاد فيها مظاهر الغنى والرفاهية, وأصبحت مملكة وطيدة الأركان يديرها موظفون مدربون، ومن بين هؤلاء "متن" الموظف الذي سبقت الإشارة إلى أنه تدرج في وظائف الدولة في عهد الأسرة الثالثة؛ فقد عاصر هذا الموظف ملوكها ابتداء من عهد زوسر ولم يمت إلا في عهد سنفرو. خوفو: تلا والده سنفرو على العرش وأفاد من الاستقرار والنظام اللذين وضع أسسهما والده؛ فنعم بحكم وطيد هيأ له الفرصة للقيام بأعمال ضخمة؛ حيث عثر على اسمه في كثير من الجهات بسيناء. ويبدو أن التجارة بين مصر وفينيقيا كانت مزدهرة منذ عهد الأسرة الثانية؛ ولكنها نشطت في عهد الأسرة الرابعة؛ حيث وجدت أحجار من معبد أقيم في ببلوس "جبيل" تحمل اسم خوفو؛ مما يوحي بوجود جالية مصرية أقامت في هذه المدينة للتجارة. ويشتهر خوفو ببناء هرم الجيزة الأكبر الذي خلد اسمه في التاريخ؛ إذ إنه كان إحدى عجائب الدنيا1، وقد فاق هذه العجائب جميعًا في أنه الوحيد الذي ظل قائمًا حتى الآن، ومن ضخامة هذا الهرم يتضح لنا أن تشييده تطلب عددًا هائلًا من العمال والمهندسين، وأنه استغرق عدة سنوات، ويذكر هيرودوت أنه سمع من الكهنة أن العمال الذين استخدموا في البناء كانوا مائة ألف عامل يعملون ثلاثة

_ 1 عجائب الدنيا السبع التي اشتهرت في العالم القديم هي: أهرام مصر، حدائق بابل المعلقة، معبد أرتيميس "إلهة الصيد لدى اليونان" في إفيسوس، تمثال زيوس الذي أقامه فيدياس، الموزيليوم "مقبرة موزولوس ملك الكاريين في هاليكارناسوس"، وتمثال هليوس إله الشمس في رودس، منارة الإسكندرية على جزيرة فاروس.

أشهر في العام, وأن عملية البناء استغرقت نحو ثلاثين عامًا، وهو يصف خوفو بالقسوة ونسب إليه أنه سخَّر شعبه في بناء مقبرته، وقد وجدت هذه الفكرة صداها لدى الكثيرين من المحدثين؛ ولكننا لو تأملنا ظروف مصر في ذلك العهد؛ لوجدنا أن بناء الهرم بهذا الوصف كان -على النقيض مما ذكره هؤلاء- عملًا إنسانيًّا؛ حيث إن الزراعة في مصر كانت تتعطل مدة الفيضان، وفي هذه الفترة من كل عام كان الفلاح يعيش في شظف من العيش، ويتعذر عليه الحصول على القوت؛ فكان قيامه بالعمل في بناء مقبرة الفرعون لقاء غذائه وكسائه مما يساعده على تحمل أعباء الحياة في تلك الفترة من السنة، كما أنه لا شك كان يرحب باشتراكه في عمل من أجل مليكه الذي يعتبره إلهًا ويغتبط لذلك مهما كلفه من جهد ووقت، وما زلنا نرى حتى الآن أن المصري المعاصر يتحمس لدينه ويتفانى في العمل من أجل رفعته. والهرم الأكبر وقت بنائه كان يرتفع 146 مترًا؛ ولكن جزءًا منه تهدم فأصبح ارتفاعه الآن حوالي 137مترًا وهو يشغل مساحة قدرها 12 فدانًا تقريبًا واستعملت في بنائه نحو 2.300.000 كتلة من الحجر متفاوتة الوزن، ولقد قدر بعض الرياضيين أن هذه الأحجار لو قطعت إلى قطع صغيرة حجم كل منها قدم مكعب ووضعت متلاصقة لأمكن أن تغطي خطًّا يبلغ طوله نحو ثلثي محيط الكرة الأرضية عند خط الاستواء، هذا ولم يتم بناء الهرم على أساس تصميم واحد؛ بل غير التصميم الأصلي أثناء العمل, ولفرط ضخامته ودقة بنائه والإحساس بإعجازه كثيرًا ما يربط بعض الناس بين الأحداث العالمية التي حدثت فيما سبق والتي يتكهنون بأنها ستحل بالعالم وبين أطوال الهرم وزواياه ويؤكدون وجود علاقة وثيقة فيما بينها وأن هذا الهرم مستودع عجيب للأسرار؛ ولكن كل ما يذكر في هذا الصدد عبارة عن وهم خاطئ مبني على الخرافة وليس له أي أساس علمي صحيح.

ولا شك أن خوفو قد وفق إلى أبعد حد في المحافظة على هيبة الملكية ومراعاة النظام؛ إذ لم يعثر من عهده على تماثيل للأفراد؛ بل ولم يعثر له هو شخصيًّا إلا على تمثال صغير لا يتجاوز ارتفاعه عشرة سنتيمترات تقريبًا، وربما كانت إقامة التماثيل في نظره قاصرة على الآلهة فقط وعلى الملوك باعتبارهم ممثلين لهم في الأرض أو أكبر كهنتهم. وتتجلى مراعاة النظام والدقة في عهده فيما نراه من انتظام مقابر المقربين من أهله ورجال بلاطه وكبار الموظفين حول هرمه في صفوف متراصة تفصلها طرقات مستقيمة, وكلما كان صاحب المقبرة أقرب إلى الملك كلما كانت هذه المقبرة أقرب إلى الهرم وهكذا، وقد عثر على مقابر كثيرة لم يتم بناؤها ولم تنقش جدرانها، كما أن بعضها محيت من نقوشها أسماء أصحابها؛ مما يوحي بأن خوفو تزوج بأكثر من زوجة, وأن الأبناء اختلفوا فيما بينهم وحدثت مؤامرات حول العرش. ولا بد أن عنصرًا من دم شمالي أو ليبي وفد إلى مصر في ذلك الحين أو أن البيت المالك المصري تصاهر مع أفراد من هذا العنصر على الأقل؛ لأننا نجد مقبرة من مقابر جبانة الجيزة في عهد خوفو حوت رسومًا وتماثيل لصاحبتها "مرسعنخ" ووالدتها, وهما تلبسان ملابس تختلف عن ملابس المصريات ولون شعرهما أشقر مشوب بالحمرة كما أن عيونهما زرقاء. كذلك لا بد وأن نفوذ كهنة رع أخذ يزداد ابتداء من عهد خوفو على الأقل، كما يستدل على ذلك من دخول اسم رع في تركيب أسماء أبناء خوفو ومن الإشارة في القصة المعروفة في الأدب المصري باسم قصة خوفو والساحر "ددي" إلى زيادة نفوذ الكهنة؛ حيث تذكر القصة أن الساحر أخبره بأن أبناء أحد كهنة رع سيتولون العرش بعد أن يحكم ابنه ثم حفيده من بعده, وهذه القصة وردت في بردية تعرف باسم بردية تعرف باسم بردية وستكار. ولا شك أن خوفو قد وفق إلى أبعد حد في المحافظة على هيبة الملكية ومراعاة النظام؛ إذ لم يعثر من عهده على تماثيل للأفراد بل ولم يعثر له هو شخصيًّا؛ إلا على تمثال صغير لا يتجاوز ارتفاعه عشرة سنتيمترات تقريبًا، وربما كانت إقامة التماثيل في نظره قاصرة على الآلهة فقط وعلى الملوك باعتبارهم ممثلين لهم في الأرض أو أكبر كهنتهم. وتتجلى مراعاة النظام والدقة في عهده فيما نراه من انتظام مقابر المقربين من أهله ورجال بلاطه وكبار الموظفين حول هرمه في صفوف متراصة تفصلها طرقات مستقيمة, وكلما كان صاحب المقبرة أقرب إلى الملك كلما كانت هذه المقبرة أقرب إلى الهرم وهكذا، وقد عثر على مقابر كثيرة لم يتم بناؤها، ولم تنقش جدرانها كما أن بعضها محيت من نقوشها أسماء أصحابها؛ مما يوحي بأن خوفو تزوج بأكثر من زوجة, وأن الأبناء اختلفوا فيما بينهم وحدثت مؤامرات حول العرش. ولا بد أن عنصرًا من دم شمالي أو ليبي وفد إلى مصر في ذلك الحين، أو أن البيت المالك المصري تصاهر مع أفراد من هذا العنصر على الأقل؛ لأننا نجد مقبرة من مقابر جبانة الجيزة في عهد خوفو حوت رسومًا وتماثيل لصاحبتها "مرسعنخ" ووالدتها, وهما تلبسان ملابس تختلف عن ملابس المصريات ولون شعرهما أشقر مشوب بالحمرة كما أن عيونهما زرقاء. كذلك لا بد وأن نفوذ كهنة رع أخذ يزداد ابتداء من عهد خوفو على الأقل، كما يستدل على ذلك من دخول اسم رع في تركيب أسماء أبناء خوفو ومن الإشارة في القصة المعروفة في الأدب المصري باسم قصة خوفو والساحر "ددي" إلى زيادة نفوذ الكهنة؛ حيث تذكر القصة أن الساحر أخبره بأن أبناء أحد كهنة رع سيتولون العرش بعد أن يحكم ابنه ثم حفيده من بعده, وهذه القصة وردت في بردية تعرف باسم بردية تعرف باسم بردية وستكار.

ددف رع: يبدو أن ولي العهد الشرعي مات في عهد والده خوفو؛ فتولي ددف رع الذي يحتمل أنه كان ضحية لمؤامرة من المؤامرات؛ إذ إنه لم يستمر في الحكم أكثر من ثمانية أعوام, ويبدو أنه خرج على بعض التقاليد المألوفة؛ لأنه لم يشيد هرمه بالقرب من هرم والده وخلفائه بل بناه في أبو رواش. خفرع: تولى العرش بعد أخيه ددف رع وبنى هرمه خلف هرم أبيه في الجيزة, وهو يبدو أعلى من الهرم الأكبر؛ ولكنه في الواقع مشيد على ربوة أكثر ارتفاعًا من تلك التي بني عليها هرم خوفو، ويعد هذا الهرم ومجموعة المباني الجنزية المحيطة به أكمل ما عثر عليه من مجموعات جنزية, كما أن التماثيل التي عثر عليها وخاصة تمثاله المصنوع من حجر الديوريت تعد آية من آيات الفن المصري التي وصل فيها فن النحت إلى القمة. وينسب تمثال "أبو الهول" إلى خفرع, ويرجح أنه كان عبارة عن صخرة كبيرة كانت تعترض الطريق الموصل بين المعبد الجنزي القائم في شرق الهرم وبين معبد الوادي المقام على حافة الهضبة؛ فاستغلت هذه الصخرة في تجميل المنطقة ونحتت في شكل تمثال هائل على هيئة أسد رابض رأسه في صورة رأس خفرع، وقد عبد هذا التمثال فيما بعد على اعتبار أنه رمز لمعبود آسيوي كان يدعى "حورون" وعرف المكان الذي أقيم فيه باسم "بوحول"، وهو الذي حرف إلى الاسم الحالي "أبو الهول" ومن بين الأسماء التي عرف بها "شسب عنخ" أي "الصورة الحية" أو "التمثال الحي" وهذا الاسم هو الذي حرفه اليونان إلى كلمة "إسفنكس" "Sphinix" التي ما زالت تستعمل في اللغات الأجنبية إلى الآن.

منقرع "منكاورع": ما زال الاختلاف قائمًا بين المؤرخين حول تتابع ملوك الأسرة الرابعة؛ فمنهم من يرى وضع "ددف رع" سالف الذكر في نهاية الأسرة بدلًا من أن يكون تاليًا لخوفو، وبالمثل يظن فريق من المؤرخين أن منكاورع لم يخلف والده خفرع في اعتلاء العرش مباشرة؛ وإنما سبقته مدة لم يستقر فيها الحكم تمكن فيها واحد أو اثنان من إخوة خفرع من تولي العرش فيها. ومهما كان الأمر فإن منكاورع حكم نحو 21 عامًا أو أكثر ومع هذا لم يتمكن من إتمام هرمه الصغير ومجموعته الجنزية, فأتمها ابنه شبسكاف، ويبدو أن مباني أسلافه كانت عبئًا كبيرًا على الخزانة، وكذلك كانت المنازعات الداخلية؛ ولذا تأثرت حالة البلاد الاقتصادية في عهده. وحينما فتح هرمه سنة 1839 عثر فيه على تابوت الملك، ومنه نقل إلى سفينة تسمى أوريجون لتحمله إلى إنجلترا ولكن هذه السفينة غرقت بما فيها أمام شواطئ إسبانيا. شبسكاف: تولى بعد والده منكاورع؛ ولكنه لم يعش بعد ذلك أكثر من أربع سنوات، ويظهر أنه واجه خلال حكمه القصير نفوذ كهنة رع الذي أخذ يشتد منذ عهد خوفو على الأرجح1، وربما أراد شبسكاف أن يتخلص من نفوذ هؤلاء الكهنة بدليل عدم تشييده لمقبرته "التي بناها في سقارة" على هيئة هرم؛ لأنه الشكل الذي يرتبط بعبادة الشمس "رع" بل جعل مقبرته في هيئة تابوت كبير

_ 1 انظر أعلاه ص110.

وهي تعرف حاليًا باسم مصطبة فرعون، ومن المرجح أن محاولته هذه لم يكن لها نتيجة سوى التعجيل بنهاية الأسرة. خنت كاو إس: يحتمل أنها كانت زوجة شبسكاف وشهدت محاولته في الحد من نفوذ الكهنة؛ ولكن من المرجح أنها كانت ذات أثر كبير في نهاية حكم الأسرة الرابعة؛ لأنها بعد وفاة شبسكاف لم تستطع القبض على زمام الأمور؛ حيث يبدو أن نزاعًا حدث حول العرش، وتمكن أحد أفراد الأسرة المالكة ويدعى "بتاح ددف" من الاستيلاء على الحكم؛ ولكنه لم يستمر سوى عامين تمكن بعدها "وسر كاف" من اعتلاء العرش مؤسسًا الأسرة الخامسة، وهذا الأخير يرجح أنه لم يكن من البيت المالك، وتشير قصة "خوفو" والساحر "ددي" إلى أنه كان رئيسًا لكهنة رع "إله الشمس" قبل أن يعتلي العرش، وقد تزوج "خنت كاو إس" التي أنجبت منه "ساحورع"، "نفر إير كارع" اللذين خلفاه على العرش ولو أن القصة المشار إليها تذكر أنهما أخواه وليسا ولديه.

الأسرة الخامسة

الأسرة الخامسة: تمتاز هذه الأسرة بأن ملوكها كانوا من أتباع "رع" وقد نشروا نفوذ هذا الإله إلى درجة جعلت ديانته ذات أهمية كبرى طوال العصور الفرعونية التالية, بعد أن كانت عبادته قاصرة على منطقة هليوبوليس فقط، وقد سبقت الإشارة1 إلى بردية وستكار التي كتبت في عهد الدولة الوسطى, والتي تذكر قصة الملك خوفو والساحر ددي وهي تشير إلى أن هذا الساحر أخبر الملك بأن كاهنًا لإله الشمس في هليوبوليس واسمه "وسررع" سينجب ثلاثة أبناء, سيكون أكبرهم

_ 1 انظر أعلاه ص110.

رئيسًا لكهنة الشمس ثم يعتلي العرش ويتلوه بعد ذلك أخواه, وأن الملك قد انزعج لذلك؛ ولكن الساحر طمأنه بأنه سيستمر على عرشه وسيتلوه ابنه في الحكم ثم ابن ابنه كذلك, وبعدئذٍ يأتي هؤلاء الذين أشار إليهم الساحر من قبل "أي: أبناء كاهن إله الشمس الثلاثة"، ومن المرجح أن هذه القصة من قبيل الدعاية لكهنة الشمس؛ لأننا لا نجد أي دليل على أن وسر كاف كان قبل اعتلائه للعرش يشغل وظيفة كبير كهنة عين شمس. وسر كاف: كان لورع هذا الملك أثره في نشاطه الديني؛ فقد قام بتشييد المعابد في مختلف أنحاء مصر وبنى هرمًا في سقارة عثر في معبده على تمثال ضخم من الجرانيت لهذا الملك، ومن المرجح أنه أول من بنى معبدًا للشمس في أبو صير، وقد حكم نحو سبعة أعوام ثم تلاه على العرش أخوه ساحورع. ساحورع: هو أول ملوك الأسرة الخامسة الذين بنوا أهرامهم في أبو صير, وكان هرمه صغير الحجم غير متقن البناء نسبيًا؛ بينما كان معبده فخمًا زينه بأعمدة من الجرانيت, تاج كل منها يمثل حزمة من سعف النخيل، وقد صور على جدران هذا المعبد لوحات بها مناظر تمثل انتصاره على الليبيين وعلى الآسيويين ومن بينها ما يشير إلى رحلة بحرية إلى فينيقيا، ومناظر سفر الأسطول وعودته لا تدل على أن هذه الرحلة كانت حملة حربية؛ ولذا لا نستطيع أن نتبين الغرض الذي من أجله أرسل الأسطول في هذه المهمة. ويشير حجر بارمو إلى أن هذا الملك أرسل حملة إلى بونت, وأن هذه الحملة عادت ومعها مقادير كبيرة من البخور والذهب "وأعواد الخشب" التي ربما

كانت عبارة عن قطع من الأبنوس، ومن نقش صخري قرب بلدة توماس "ببلاد النوبة" يمكن أن نستنتج أنه أرسل كذلك حملة إلى الجنوب. وهكذا نجد أن عهد هذا الملك امتاز بنشاط خارجي عظيم خرجت فيه مصر عن عزلتها واحتكت بجيرانها، ومن الأدلة على ذلك ما نشاهده في مقبرة أحد أشراف عهده في دشاشة من مناظر حربية منها ما يمثل كيفية استيلاء المصريين على أحد الحصون في آسيا. نفر إير كارع: بدأ هذا الملك بتشييد هرم له أكبر من هرم أخيه؛ ولكنه مات قبل أن يتم جميع أجزاء المجموعة الجنزية المحيطة به، ويعرف عن هذا الملك أنه كان متدينًا طيب القلب؛ إذ يسجل جحر بارمو الأوقاف التي منحها للآلهة في السنة الأولى من حكمه، كذلك نعلم أنه أصدر مرسومًا يحمي حقوق المعابد ويرعى مصالح رجال الدين؛ مما يوحي بأن سلطان الكهنة أخذ في الازدياد, وربما كان هؤلاء قد استغلوا طيبته وتدينه؛ فعملوا على زيادة نفوذهم وسلطانهم. ومما يدل على شدة عطفه على موظفيه ورجال حاشيته أن وزيره "واش بتاح" كان يشرف على بناء إحدى المنشآت الملكية وسقط مغشيًّا عليه أثناء زيارة الملك للمكان؛ فأمر بنقله حالًا إلى القصر وحاول أن يجد له علاجًا؛ ولكنه مات؛ فأمر بأن يصنع له تابوت من خشب الأبنوس المطعم, كما أمر بأن يحنط أمامه، ولم يقتصر على ذلك بل عين ولده الأكبر في بعض الوظائف الكبرى. كذلك يتبين دماثة خلق هذا الملك وشدة عطفه؛ مما أظهره نحو أحد رجال حاشيته ويدعى "رع ور"؛ ففي أحد الاحتفالات كان "رع ور" هذا يقف إلى جوار الفرعون, وحدث أن لطمت عصا الفرعون ساق "رع ور" دون قصد فذعر الملك لذلك, واعتذر عما بدر منه وأمر بتدوين الحادث ليكون ذلك

"شهيدًا على مكانة هذا الشريف عنده"، وقد تولى بعد هذا الملك ملكان لم يتركا آثارًا مهمة, ومن بعدهما تولى الملك التالي: ني أو سررع: حكم هذا الملك أكثر من ثلاثين عامًا وبنى هرمًا ومعبدًا للشمس في أبو صير تدل نقوشه على أنه قام بحروب في سورية وضد الليبيين وإن كان بعض الأثريين يميل إلى أن هذه المناظر مستوحاة من مناظر معبد ساحورع سالف الذكر. وقد عثر في سقارة على مقابر مهمة كثيرة من عهد هذا الملك, تعطي نقوشها فكرة واضحة عن الحياة الاجتماعية في ذلك العهد. من كاو حور: اعتلى العرش بعد "ني أو سررع" وقد حكم نحو ثمانية أعوام, وتشير بعض النقوش في وادي مغارة إلى أنه أرسل حملة إلى سيناء، وقد شيد هرمًا لنفسه ولكن لم يعثر عليه حتى الآن1. إسيسي "زدكارع": لا يقل حكم هذا الملك عن ثمانية وعشرين عامًا, ويبدو أنه كان نشطًا قويًّا أمن حدود بلاده؛ إذ إن نقوشًا تحمل اسمه وجدت في توماس بالنوبة وفي وادي مغارة بسيناء وفي وادي الحمامات، وتدل نصوص الرحالة حرخوف الذي عاش في عهد الأسرة السادسة على أن أحد رجال هذا الملك ويدعى "باأوردد" استطاع أن يجلب له قزمًا من بلاد بونت فكافأه من أجل إحضاره، وهذا مما يؤيد وجود نشاط مصري تجاري على الأقل مع الأقطار الجنوبية، وقد كشف

_ 1 أحمد فخري "المرجع السابق" ص10 هامش.

عن هرم هذا الملك ومعبده وأهرام بعض أفراد أسرته, ومما عثر عليه في هذا المعبد تماثيل لبعض الحيوانات ولبعض الأسرى الأجانب، ويبدو أن الدولة في عهده حفلت بالكثيرين من مشاهير الرجال ومن بين هؤلاء الحكيم "بتاح حتب" الذي أشرف على تربية هذا الملك, وكان من بين كبار الموظفين في عهده، وحين تقدمت به السن استأذن الملك في اعتزال الخدمة؛ فلما أُجيب إلى طلبه كتب تعاليمه لولده الذي خلفه في وظيفته، وقد أصبحت هذه التعاليم فيما بعد ثروة أدبية عظيمة القيمة, وخاصة لما تحويه من مثل أخلاقية عليا. أوناس: آخر ملوك الأسرة الخامسة وإن كان بعض المؤرخين يرى اعتباره أول ملوك الأسرة السادسة؛ لأن بعض التغيرات الجوهرية قد حدثت في عهده, وكان "تيتي" الذي خلفه على العرش وفيًّا له فأتم ما لم يستطع إتمامه من مبانيه, مما يوحي بوجود صلة قوية بينهما. ومن أهم ما حدث في عهد أوناس ذلك التجديد الذي حدث في نقوش الأهرامات؛ فبعد أن كانت النصوص الدينية لا تكتب على جدران الحجرات الداخلية بدأت هذه النصوص منذ عهد أوناس تكتب على جدران الحجرات الداخلية وحجرة الدفن, وأصبحت هذه النصوص تعرف لدى الأثريين باسم نصوص الأهرام. وقد كشف عن جزء كبير من الطريق الذي كان يصل بين المعبد الجنزي ومعبد الوادي لهرم أوناس, ومنه أمكن أن نستنتج أن هذا الطريق كان مسقوفًا بالأحجار وينفذ إليه الضوء خلال كوات بالسقف الذي زُيِّن؛ بحيث كان يبدو في هيئة السماء المرصعة بالنجوم، أي: إنه طلي بلون أزرق ومثلت فيه أشكال النجوم بلون أبيض، أما الجدران فقد نقشت بمناظر دينية ومدنية مختلفة،

فمن النقوش الدينية مناظر تمثل الملك وهو يؤدي بعض الطقوس, وبعض المناظر الأخرى التي تمثل الزراعة والحصاد والصيد في البر وفي الماء، والبعض يبين بعض خطوات العمل في بناء المعبد ونقل الجرانيت إليه في سفن تسير في النيل، كذلك نجد بعض المناظر التي تشير إلى حدوث مجاعة وإلى وفود بعض الأجانب إلى مصر. وقد حكم أوناس ما يقرب من ثلاثين عامًا؛ مما يوحى باستقرار الأمور؛ ولكن يبدو أن نفوذ ملوك الأسرة الخامسة كان قد أخذ في الاضمحلال، وأدى ذلك إلى انتقال الحكم إلى أسرة جديدة؛ فمن المعروف أن الأسرة الخامسة جاءت من نسل كهنة هليوبوليس أو بإيحائهم؛ ولذا كان من الطبيعي أن يغدقوا الهبات وأن يكثروا من الأوقاف على المعابد، وازداد ثراء الكهنة وسلطانهم؛ وبالتالي أخذت سلطة الملوك المطلقة تقل وبدأت قبضتهم تتراخى عن الشئون الإدارية وخاصة في الأقاليم؛ حيث تمكن أمراؤها من الحصول على كثير من الامتيازات وتطورت أفكار الشعب عامة؛ مما كان له أكبر الأثر في عصر الأسرة السادسة التي لا ندري كيف انتقل الملك إليها, ولا الأسباب التي أدت إلى ذلك.

الأسرة السادسة

الأسرة السادسة: سبق أن أشرنا إلى غموض بداية هذه الأسرة، ولا نعرف صلة "تيتي" الذي يعده غالبية المؤرخين مؤسس الأسرة السادسة بملوك الأسرة الخامسة, وإن كان من المرجح أنه كان يمت لبعض أفرادها بصلة القرابة أو على الأقل تزوج بأميرة تنتمي إلى هذه الأسرة، ويبدو أن ملوك الأسرة الجديدة أرادوا التخلص من نفوذ الإله رع, فانصرفوا إلى "بتاح" إله منف.

تيتي: يظهر أن هذا الملك أسرف في عدائه للإله رع أو أنه كان مغتصبًا للعرش؛ حيث يذكر مانيثون أنه لم يمت ميتة طبيعية بل قتله حراسه بعد حكم دام نحو ستة أعوام على الأرجح, وقد دفن في هرمه الذي شيده في سقارة. وسر كارع: تولى بعد تيتي؛ ولكنه لم يستمر في الحكم إلا مدة قليلة، ويبدو أنه كان مغتصبًا للعرش كذلك؛ لأنه لم يذكر في قائمة سقارة ولم يعترف به مانيثون ومع أنه "كما يتضح من اسمه" كان في الغالب من أتباع "رع"؛ إلا أنه مالأ كهنة بتاح؛ إذ بني هرمه في منف مركز عبادة هذا الإله، ولا بد أن كهنة بتاح استطاعوا أن يثبتوا في الميدان أمام كهنة رع وأخذ نفوذهم يزداد إلى درجة كبيرة؛ فانتشرت الأسطورة التي تنسب إلى بتاح خلق الكون. بيبي الأول: يبدو أن المتاعب التي تعرض لها البيت المالك منذ نهاية عهد الأسرة الخامسة ظلت مستمرة في عهد هذا الملك أيضًا؛ فمع أنه حكم نحو خمسة وعشرين عامًا نعمت فيها مصر بشيء من الرخاء والازدهار وارتفعت فيها الفنون؛ فإن حياته العائلية تعرضت لبعض المؤامرات؛ حيث يشير "أوني" الذي كان من أكبر موظفي الدولة في عهد الأسرة السادسة إلى أن الملك عينه بين المحققين الذين أسند إليهم التحقيق مع زوجة الملك قيما نسب إليها1. وقد سبقت الإشارة إلى أن سلطان الملوك المطلق أخذ يتزعزع وربما شعر

_ 1 Sethe, Urkurden I, pp. 100-101.

بذلك بيبي الأول، وأراد أن يعمل على توطيد مركزه؛ إذ رأى زيادة نفوذ أمراء الأقاليم وحكام المقاطعات؛ فصاهر إحدى عائلات الصعيد القوية؛ حيث تزوج من ابنة أمير منطقة أبيدوس التي أنجب منها ولده وخليفته على العرش "مري إن رع" ومن المحتمل أن والدة هذا الأمير توفيت وهو صغير فتزوج والده من شقيقتها, وهذه أنجبت ولدًا آخر تولى العرش بعد أخيه. ويبدو أن عهد بيبي الأول شهد نشاطًا من بعض العناصر المجاورة لمصر وخاصة في الشمال, وربما كانت هذه العناصر من بدو سيناء وجنوب فلسطين قد استطاعت أن تهدد الحدود المصرية1، واستطاع بيبي الأول أن يتخلص من تهديد هذه العناصر حيث تمكن قائده "أوني" من جمع جيش كبير من الوجه القبلي ومن النوبة قضى به على المتاعب التي تهددت مصر في الشمال. ولا بد أنه أكثر من تشييد العمائر ونشط في إرسال البعثات لاستغلال المحاجر والمناجم؛ حيث عثر على كثير من نقوشها في مختلف الجهات، ولما مات بيبي الأول كان ولده "مري إن رع" في السابعة من عمره تقريبًا وولده الآخر "بيبي الثاني" في الثانية من عمره تقريبًا. مري إن رع: اعتلى العرش وهو صغير؛ إذ كان في نحو الثامنة عند وفاة والده، ومات بعد أن حكم فترة وجيزة تكاد لا تزيد على أربع سنوات، وأهم ما نعلمه من عهده جاءنا عن طريق نصوص الوزير أوني، ومنها نتبين أن هذا الملك أمره بحفر خمس قنوات في منطقة الشلال الأول لتسهيل مرور السفن، كذلك يشير أوني إلى أنه استغل أخشاب الأشجار في النوبة لعمل سفن كبيرة استغلها

_ 1 Sir A. Gardiner, op. cit., pp. 95-98.

في شحن أحجار الجرانيت اللازمة لبناء هرم الملك، وإلى أنه أحضر تابوت الملك غطاءه من محاجر حاتنوب، وتوحي هذه النصوص بأن الملك أو بالأحرى ديوانه شعر بخطر حكام الأقاليم؛ فعين هذا الموظف النشيط حاكمًا عامًّا على الوجه القبلي، ولم يكن لهذه الوظيفة مثل هذا الدور العملي في مراقبة حكام الأقاليم إلا في عهد هذا الملك؛ لأن لقب حاكم الجنوب أصبح بعد ذلك لقبًا شرفيًا ولم تكن له قيمة عملية. ويدل نصان في منطقة الشلال الأول على أن الملك ذهب إلى هناك بنفسه؛ حيث تقبل خضوع زعماء بعض القبائل النوبية. ولا بد أن الاهتمام بالاتجار مع النوبة قد ازداد في عهد الأسرة السادسة؛ إذ لا شك في أن مصر كانت تحصل على منتجات النوبة في أول الأمر عن طريق الرحالة والمغامرين, ثم بدأت هذه التجارة تنتظم وأخذ ملوك الأسرة السادسة يعهدون بها إلى بعثات تجارية يرأسها أحد كبار الموظفين أو يكلف بها أمير الإقليم الجنوبي من مصر1, وهؤلاء كان الواحد منهم يلقب عادة بلقب يدل على رئاسة فرق من المرتزقة2؛ حيث يبدو أن عددًا من هؤلاء، ومن الجنود النظاميين كانوا يرافقون تلك البعثات لحمايتها. ومن أشهر رؤساء البعثات في ذلك العهد "حرخوف" الذي يعد أعظم رحالة الدولة القديمة؛ حيث وصل في أسفاره إلى منطقة بعيدة تدعى يام3، وقد بدأ أولى رحلاته في عهد هذا الملك, وكان فيها يصاحب والده "إري".

_ 1 انظر كتاب المؤلف "علاقات مصر بالشرق الأدنى القديم" الإسكندرية 1962 ص29-32. 2 H. Geodicke, J E A 46 pp. 50-54. 3 ما زال موقع هذه البلاد موضع بحث, وإن كان من المتفق عليه أنها تبعد جنوبًا عن الشلال الثالث, انظر D. M. Dixon, J E A 44, pp 40 ff.

بيبي الثاني: تولى العرش وهو في السادسة من عمره وكانت والدته أشبه بوصية على العرش في أثناء السنوات الأولى من حكمه، ومن المرجح أن قوة الأمير "جعو" "خال الملك" وعظم مركزه هما السبب في رعاية مصالحه كملك طفل ومصالح أمه الملكة الوالدة، وقد عاش هذا الملك إلى أن بلغ من العمر أرذله ويكاد يجمع المؤرخون على أنه ظل يحكم نحو أربعة وتسعين عامًا. وأهم ما حدث في عهده توالي الرحلات التي كان يقوم بها أمراء الإقليم الجنوبي إلى النوبة ووصلوا فيها إلى مناطق لم يسبق للمصريين أن وصلوها من قبل, ورغم النجاح الباهر الذي صادفوه في أول الأمر؛ فإن بعض الرحالة قد لقوا حتفهم في تلك البلاد فيما بعد؛ مما يدل على أن هيبة مصر في أواخر عهد هذا الملك تعرضت إلى الاستهانة بها؛ لأن ما أصاب البلاد من ضعف كان النوبيون يشعرون به دون ريب؛ فبعض النصوص المتأخرة من عهده تشير إلى ذلك؛ إذ يفهم منها أن النوبيين بدءوا يظهرون روح العداء نحو مصر, ولذا أخذ قواد القوافل يستميلونهم بالهدايا1. وربما كان وصول هذا الملك إلى سن الشيخوخة واستمراره مدة طويلة كحاكم ضعيف واهن؛ مما أدى إلى ضعف سلطان الملك وانهيار الإدارة المركزية، ولم يقدر لمصر أن يجلس على عرشها ملك قوي إلا بعد نحو مائتي عام حينما تأسست الدولة الوسطى؛ إذ لم يتبع هذا الملك في الحكم من ملوك الأسرة السادسة إلا "مري إن رع الثاني" الذي لم يحكم إلا سنة واحدة ثم تبعته على العرش "نيت إقرت" التي ذكرها مانيثون باسم "نيتوكريس" ولم تبقَ هي الأخرى

_ 1 يمكن تتبع ضعف مصر في هذه الفترة من نصوص الرحالة الذين ذهبوا إلى النوبة في عهد بيبي الثاني, انظر كتاب المؤلف السابق ذكره ص31.

إلا نحو عامين ثم اندلعت نيران الثورة في البلاد، وانتهت بذلك الدولة القديمة. ولم يكن النوبيون وحدهم هم الذين يشعرون بما ينتاب مصر من ضعف؛ بل إن بعض العناصر الآسيوية المجاورة كانت هي الأخرى تشعر بالحالة الداخلية في مصر، ومن المرجح أنها كانت ترقبها دائمًا وتتحين الفرص للإغارة على الدلتا أو على الأقل تحاول الهبوط إلى أراضي الوادي الغنية للاستقرار فيها.

عصر الاضمحلال الأول

عصر الاضمحلال الأول مدخل ... 2- عصر الاضمحلال الأول: ما إن دبت عوامل الضعف في كيان الدولة المصرية في عهد الأسرة السادسة حتى أخذت بعض العناصر الآسيوية المجاورة تنشر نفوذها في بعض أجزاء الدلتا، وما أن وافى عصر هيراكليوبوليس "الأسرتان التاسعة والعاشرة"؛ إلا وأصبحت الدلتا خارج نطاق النفوذ المصري وخاضعة للآسيويين. وقد سبق أن أشرنا إلى الثورة التي نشبت في عهد الأسرة السادسة، فما أن انتهت هذه الأسرة حتى عمت الفوضى، وبدأ العصر الذي يعرف باسم "عصر الاضمحلال الأول" أو "عهد الفوضى الأول"؛ وذلك لما أصاب مصر أثناء ذلك العهد من فوضى واضطراب؛ حيث يبدو ذلك واضحًا في نصوص بعض البرديات التي تصف ذلك العصر، ومن هذه بردية ترجع إلى بداية هذه الفترة عرفت لدى الأثريين باسم "تحذيرات حكيم1" وهي على لسان شخص يدعى "إيبوور" وفيها يصف ما آلت إليه حالة البلاد من قلب في الأوضاع الاجتماعية؛ ومما ورد فيها: إن أغنيات العازفين تحولت إلى أناشيد حزن, وقتل الرجل أخاه, وسلب اللصوص المارة, وصار الفقراء يروحون ويغدون في القصور دون

_ 1 Sir A. Gardiner, "The Admonitions of an Egyptian sage" "Leipzig 1909".

استحياء أو خجل بعد أن ذبحوا الموظفين. وهكذا تشرد الأغنياء, وساد الفقراء, وأصبح الناس في ذعر, ولم يعد هناك راعٍ مسئول ... إلخ" وتشير بردية أخرى -من عهد الأسرة العاشرة وتعرف باسم قصة الفلاح الفصيح1- إلى ظلم صغار الموظفين للناس؛ ولكنها من جهة أخرى تدل على تطور اجتماعي كبير؛ إذ نجد فيها أن الفلاح في شكواه لرئيس الديوان يحذره من عدم العدالة مذكرًا إياه بأنه سيحاسب على ذلك في آخرته، ولم يعثر في وثائق الدولة القديمة على ما يدل على أن أحدًا من العامة كان يجرؤ على مخاطبة نبيل أو عظيم بمثل هذا الأسلوب والوعي، ولا بد أن ذلك قد نتج عن الثورة التي حدثت في أعقاب الأسرة السادسة. ولا شك أن أثر هذه الثورة كان عميقًا من الناحية الفكرية؛ فقد حفل الأدب بموضوعات شتى تبدو فيها النزعة الفلسفية من جهة وروح القلق التي سادت في أعقابها من جهة أخرى, ونتبين من هذه الموضوعات أن المجتمع نفسه لم يكن غافلًا عما كان يسوده من مساوئ؛ بل كان هناك شعور عام بها، ومن المرجح أن أهل هذا العصر أو عقلاءهم على الأقل كانوا يحاولون التخلص من تلك المساوئ ويعملون على إصلاح ما فسد من الأمور؛ إذ تصور لنا إحدى البرديات2 حوارًا شيقًا دار بين شخص كان يرغب في الانتحار وبين روحه التي كانت تحاول إقناعه بالتخلي عن هذه الفكرة؛ بينما يرد عليها بما يفيد أنه ضاق بحياته وبرم بها، ويمكن أن نستشف من هذا الحوار صورة ما أحاط

_ 1 Vogelsang, Kommentar zu den klagen des Bauern, "Leipzig 1913". 2 Berliner Papyrus der Mittleren Reiches 1879., Erman "Die Literatur des Aegypter" "Leipzig 1923", pp. 122 ff; J E A 42, pp 21 ff

هذا الشخص من ظروف فاسدة جعلته لا يقبل على الحياة بالرضا والتفاؤل، كذلك نجد في مقبرة أحد ملوك الأسرة الثانية عشرة منظرًا1 لحفل يغني فيه ضارب العود للمدعوين أغنية تحض على الاستمتاع بالحياة قدر الإمكان، ولا بد أن هذه الأغنية ترجع إلى عصر سبق للأسرة الحادية عشرة أي أنها من صميم الفترة التي نحن بصددها وخاصة لأنها تشترك مع البردية التي تصور حوار الشخص "الذي سئم الحياة" مع روحه في التعريض بما وراء الموت, كما أنهما يثيران الشك فيما سيلقاه الموتى من مصير. ولم يقتصر التطور الفكري على الناحية الأدبية؛ وإنما نلاحظ أثر ذلك في المعتقدات الدينية أيضًا؛ فقد كان الملك المتوفى يمثل الإله أوزير الذي جعلت منه الأساطير حاكمًا على عالم الموتى، وكانت النصوص الدينية والتعاويذ التي تيسر للمتوفى مصاحبة إله الشمس في رحلته في العالم السفلي وتهيئ له حياة خالدة مع الآلهة في العالم الآخر قاصرة على الملوك وحدهم وقد أخذوا يدونونها في أهرامهم ابتداء من نهاية الأسرة الخامسة، ولكن هذا الحق انتقل بعد ذلك إلى النبلاء والأشراف، ثم أصبح كل ميت في عهد الدولة الوسطى يوحد مع الإله أوزير وأصبحت التعاويذ الدينية تنقش على توابيت الأفراد وعرفت هذه باسم نصوص التوابيت، ولا بد أن هذا التطور قد حدث نتيجة للثورة الاجتماعية؛ حيث أخذت الفوارق الاجتماعية بين الطبقات تخف حدتها، وكل طائفة كانت تحاول الحصول على المزيد من الحقوق التي اكتسبتها؛ ولذلك لا يدهشنا أن نجد مقابر أفراد الطبقة الوسطى بل ومقابر الفقراء أيضًا تفوق مثيلاتها في عهد الدولة القديمة من حيث الفخامة والتجهيز؛ إذ إنها حوت من الأشياء الثمينة وخاصة من المصنوعات الذهبية نسبة أعلى بكثير مما كان مألوفًا قبل ذلك، أي: إن توزيع الثروة أصبح يختلف عن ذي قبل, ولم تعد الحياة كلها تتركز حول البيت المالك كما كان الشأن قديمًا.

_ 1 Pap. Harris 500, Erman, op. cit., pp. 177 f.

ومن نصوص الأسرة العاشرة تطالعنا نصائح الملك "خيتي" لولده "مري كارع"1, بما يشعرنا بأن الظلم والمحاباة كانا متفشيين وأن المجتمع كان سقيمًا فاسدًا، وتذكر بردية تعرف ببردية "نفرتي"2 أن الملك سنفرو مؤسس الأسرة الرابعة طلب إلى أحد الكهنة أن يخبره عما سيحدث في المستقبل؛ فعرفه بسوء حالة ما تصير إليه مصر وأن الذي سينقذها من هذه الحالة بعدئذٍ ملك يأتي من الجنوب أمه نوبية وهو يدعى "إميني"، ولكن من المرجح أن هذه البردية كتبت في أوائل عهد الأسرة الثانية عشرة وأنها كانت من قبيل الدعاية السياسية؛ إذ إن اختصار اسم "أمنمحات الأول" مؤسس هذه الأسرة هو "إميني". ولا شك في أن أمراء الأقاليم أخذوا في زيادة نفوذهم منذ عهد الأسرة الخامسة, وقد أحس ملوك الأسرة السادسة بهذا الخطر وحاول بعضهم العمل على تلافيه ولكن دون جدوى، وقد تغالى حكام الأقاليم في إظهار سلطانهم ونزعتهم الانفصالية عن البيت المالك حتى أصبح حاكم كل إقليم يؤرخ الحوادث بالنسبة لتاريخ توليه زمام السلطة في إقليمه أو مقاطعته، ويبدو أن البيت المالك نفسه أصبح عاجزًا إزاء هؤلاء الحكام إلى درجة أنه لم يستطع عزلهم أو نقلهم، كما أن معظم هؤلاء كانوا يتولون حكم أقاليمهم عن طريق الوراثة؛ مما زاد من تمكنهم من السلطة، وفي أغلب الأحيان كان الملوك يعملون على مرضاتهم بإغداق الهبات عليهم, كما كانوا يضطرون إلى معاملة كبار الموظفين بالمثل حتى يضمنوا ولاءهم جميعًا، وقد أدى ذلك بالطبع إلى زيادة ضعف الملوك وأصبح

_ 1 A. Volten, "Zwei altàgyptische politsche Schriften" "analecta aegyptiaca IV" "Copenhagen 1943". 2 Erman, op. cit., pp. 151 ff.

حاكم كل إقليم هو صاحب السلطان المطلق فيه وله جيشه الخاص وكذلك أسطوله أحيانًا، وكثيرًا ما كانوا يستعينون بالمرتزقة وخاصة من النوبيين, وتتمثل في نقوش مقابرهم مظاهر الترف والبذخ التي كانوا ينعمون بها، ورغم أن كلًّا منهم كان يدعي بأنه أقام العدل وأصلح من شأن إقليمه؛ بحيث كفل لمواطنيه السعادة والرفاهية وينفي وجود شيء من سوء النظام أو الاضطراب؛ إلا أن شواهد الأحوال لا توحي باستتباب الأمور؛ حيث إنه لا شك في أن هؤلاء الحكام -وقد بهرهم السلطان- تنافسوا فيما بينهم وأصبح كل منهم يحاول أن يوسع من رقعة إقليمه على حساب الآخرين, وأخذ هذا التنافس يشتدُّ وتحالف بعضهم ضد البعض الآخر, وقد رأى البعض أن أسرة شبه ملكية في قفط عاصرت الأسرة الثامنة المنفية1؛ ولكن أصبح هذا الرأي لا يؤخذ به إلى أن انحصر النزاع بين بيتين كبيرين "بيت إهناسيا"، "بيت طيبة" وقد انتهى النزاع آخر الأمر بتفوق بيت طيبة وبدأ عصر جديد من النهوض هو عصر الدولة الوسطى، كما سنشير إلى ذلك فيما بعد.

_ 1 JEA 32, 19-23, 34, 115-6; Stock, "Die Erste Zwisehenzeit Aegypt." 32-50. وهو يرفض كذلك فكرة الأسرة القفطية ويخترع بدلًا منها أسرة أبيدوس وهي نظرية يصعب إثباتها.

الأسرة السابعة

الأسرة السابعة: يغلب على الظن أن هذه الأسرة أسطورية أي: لم تكن هناك أسرة حاكمة على الإطلاق؛ فقد ذكر مانيثون أن عدد ملوكها سبعين ملكًا حكموا سبعين يومًا فقط, وربما كان يقصد أن سبعين حاكمًا من الحكام في الأقاليم المختلفة كانوا يتقاسمون السلطة وكونوا ما يشبه هيئة حاكمة ولكنهم اختلفوا فيما بينهم فزال

سلطانهم وانفضت هيئتهم الحاكمة سريعًا، وقد يرجع زوال سلطانهم إلى عدم تقبل المصريين هذا النظام من الحكم؛ فقاوموه بشدة إلى أن قضي عليه.

الأسرة الثامنة

الأسرة الثامنة: معلوماتنا عن هذه الأسرة ضئيلة تختلف المصادر القديمة في عدد ملوكها، وعلى أي حال فإن أرجح الآراء تدل على أن الأسرة الثامنة لم تحكم أكثر من ثمانية وثلاثين عامًا وكان مقرها منف, ولا نعرف عن حكمها إلا أسماء بعض ملوكها وبعض الإشارات العابرة عن إرسال بعثات لاستغلال المحاجر أو إلى شمال بلاد النوبة. وبداية الأسرة الثامنة ونهايتها غير معروفتين, ومن المرجح أن ملوكها أخذوا في الضعف إلى درجة أن سلطانهم لم يكن ليتجاوز حدود إقليم عاصمتهم إلا اسميًّا، وقد نازعتهم في نهاية الأمر أسرة قوية في إهناسيا وأسرة أخرى في طيبة، وقدر لأمراء إهناسيا أن يدعوا الملكية واعتبرهم المؤرخون مكونين للأسرة التاسعة ثم للأسرة العاشرة وكان يعاصرهم حكام طيبة الذين أسسوا الأسرة الحادية عشرة فيما بعد. ملوك إهناسيا "الأسرتان التاسعة والعاشرة"

ملوك إهناسيا الأسرتان التاسعة والعاشرة

ملوك إهناسيا "الأسرتان التاسعة والعاشرة": أ- الأسرة التاسعة: من المرجح أن أمراء إهناسيا كانوا على صلة بالبيت المالك في منف أي: بملوك الأسرة الثامنة؛ فلما وجدوا أن ملوك هذه الأسرة قد ازدادوا ضعفًا؛ في حين أنهم أصبحوا من القوة بحيث يمكنهم الوقوف أمامهم نازعهم هؤلاء سلطانهم, ولما استفحل الأمر بين هذين البيتين الكبيرين انتهز الفرصة "خيتي الأول" وأعلن نفسه ملكًا في إهناسيا مؤسسًا بذلك الأسرة التاسعة، ويروي مانيثون عن هذا

الملك أنه كان ظالمًا طاغية, أصيب في أواخر أيامه بالجنون, وانتثت حياته بأن فتك به أحد التماسيح. ولا نعرف شيئًا عن ملوك الأسرة التاسعة ولا كيف بدأ النزاع بينها وبين الأسرة الثامنة في منف، وكل ما يمكن أن نذكره هو أن عدد ملوك الأسرة التاسعة -كما ورد في بردية تورين- هو ثلاثة عشر ملكًا حكموا ما يقرب من 109 سنة. والظاهر أن هؤلاء الملوك استعانوا بحكام بعض الأقاليم لمؤازرتهم ولا شك في أنهم كانوا يخطبون ودهم ويزيدون في امتيازاتهم؛ ولذلك نجد أن الحالة تظل كما كانت في عهد الأسرة الثامنة، أي أن حكام الأقاليم كانوا شبه مستقلين يعتمدون على أنفسهم في حماية أقاليمهم، وظلت الدلتا خارج النفوذ المصري, ولم يتمتع الملوك في واقع الأمر بسلطان خارج عاصمتهم إهناسيا؛ اللهم إلا مجرد نفوذ اسمي فقط، وظل الملوك على هذا الضعف إلى أن زال حكم هذه الأسرة وتلتها الأسرة العاشرة. ب- الأسرة العاشرة: من المرجح أن ملوك هذه الأسرة كانوا خمسة فقط حكموا ما يقرب من 81 سنة, وأنها وجدت -منذ ظهورها- منافسة قوية من أمراء طيبة, ودارت بينهم وبين هؤلاء الأمراء حروب طاحنة أطاحت بسلطانهم وانفرد أمراء طيبة بالملك. ومما تجدر الإشارة إليه أن المؤرخين ما زالو يختلفون في عدد وترتيب الملوك الذين كانوا يحملون اسم خيتي؛ بل ولم يجمعوا على ترتيب الملك "خيتي" الذي أسدى نصائحه المعروفة "باسم تعليمات الملك خيتي" لولده

"مري كارع"1؛ ولكن يبدو أنه كان مؤسس الأسرة العاشرة، وكان ملكًا نشيطًا أخذ يطهر الدلتا من عصابات البدو ومن النفوذ الآسيوي إلى أن استتبَّ له الأمر ثم أراد أن يتخلص من أمراء طيبة في الجنوب ونشبت الحرب بين الفريقين، وكان أمراء أسيوط يعاونونه فانتصر على الطيبيين في موقعة بالقرب من أبيدوس؛ إلا أن هؤلاء تمكنوا من أن يسترجعوا ما فقدوه وتقدموا شمالًا حتى بلغوا حدود أسيوط. وفي عهد "مري كارع" خليفة "خيتي" كان يحكم في طيبة حاكم قوي هو "منتوحتب الأول", استأنف الحرب وقضى على أمراء أسيوط ثم تقدم شمالًا واستولى على الأشمونين. وفي عهد آخر ملوك الأسرة، وكان يدعى خيتي أيضًا، عاودت طيبة هجومها على مملكة إهناسيا إلى أن قضت عليها وأخضعت مصر كلها لسلطانها؛ فعادت الوحدة القديمة إلى البلاد، وقد تم ذلك في عهد منتوحتب الأول ملك طيبة؛ ولذا يمكن اعتباره المؤسس الحقيقي للدولة الوسطى. ومن الملاحظ أنه لم يعثر على مقابر لملوك الأسرتين التاسعة والعاشرة في إهناسيا, ومن المرجح أن "منف" ظلت العاصمة الإدارية للبلاد؛ بينما كانت إهناسيا تمثل مقر الملك فقط؛ ولذلك دفن كثير من الملوك ورجال البلاط في جبانة منف، أما أمراء الأقاليم فقد ظلوا يدفنون بالقرب من عواصم أقاليمهم في مقابر منحوتة في الصخر.

_ 1 انظر أعلاه ص126.

وظائفهم تورث لأبنائهم, وقد اشتهرت من بيوت هؤلاء الحكام أسر في مناطق مختلفة, منها أسرة نشأت في طيبة كان مؤسسها يدعى أنتف. أنتف الأول1: لا يعرف الكثير عن هذا الملك قبل أن يعلن نفسه ملكًا ويتخذ الألقاب الملكية؛ ولكن من المرجح أنه حينما كان مجرد حاكم لإقليم طيبة على صلات طيبة مع ملوك الشمال، وكان إلى جانب إمارته للإقليم كبيرًا للكهنة كما كان مسئولًا عن حماية الحدود الجنوبية لمصر؛ لأنه كان يلقب "حارس الحدود الجنوبية"؛ حيث يبدو أن الأقاليم الجنوبية من مصر كانت تكوِّن اتحادًا فيما بينها بزعامة طيبة، وربما كان هذا هو السبب الذي من أجله منح هذا اللقب، ولا شك في أن انتقال الملك من الأسرة التاسعة إلى الأسرة العاشرة وضعف هذه الأخيرة جعلا أنتف يرى أنه لا يقل قوة وأحقية في الملك عن ملوك الشمال؛ فادعى الملك ووضع اسمه في خانة ملكية وأحاط نفسه بحاشية ملكية ودفن في مقبرة كبيرة نحتت في الصخر بجهة الطارف في البر الغربي للأقصر، ولا بد أنه حظي بمكانة عظيمة بين معاصريه؛ مما كان له أثر كبير في تبجيله وتقديس ذكراه فيما بعد؛ حتى إن سنوسرت الأول2 أقام تمثالًا لتخليده في معبد الكرنك ونسب نفسه إليه على اعتبار أنه سلفه العظيم، ومع أنه أصبح يعرف في التاريخ باسم "أنتف الأول" فإن اسمه ورد في قائمة الكرنك دون أن يوضع في خانة ملكية؛ ولكن أشير إلى أنه "الحاكم والأمير الوراثي أنتف المبجل" أي: إنه في هذه الحالة ذكر على اعتبار أنه مؤسس الأسرة الحادية عشرة فحسب.

_ 1 في الاتجاه الجديد في نطق الأسماء أصبح هذا الاسم يقرأ Iniotef. 2 ثاني ملوك الأسرة الثانية عشرة.

أنتف الثاني: تولى الحكم بعد والده، وكانت الأقاليم الخمسة الجنوبية من مصر خاضعة لسلطانه، وظل في الحكم نحو خمسين عامًا حاول خلالها أن يتوسع شمالًا؛ ولكن بيت إهناسيا استطاع أن يحدَّ من جهوده وخاصة لأن أمراء أسيوط كانوا حلفاء لهذا البيت, ولا شك أنهم اشتركوا فيما نشب من حروب بين الفريقين كما نستدل على ذلك من نقوش أمير أسيوط "خيتي" الذي افتخر في مقبرته بأنه جمع الجنود وأعد فرق الرماة وأشاد بالأسطول, ومع هذا لا نجد في العبارات المنقوشة بالمقبرة؛ ما يدل على حرب صريحة أو وقائع معينة بين صاحبها "خيتي" والطيبيين. ويمكن تلخيص الحالة في مصر في تلك الأثناء بأن السيادة فيها كانت تتنازعها مملكتان: شمالية يحكمها بيت إهناسيا وجنوبية يحكمها بيت طيبة؛ بينما كان بعض الأمراء الذين يحكمون أقاليم داخل نطاق المملكة "وقد أحسوا بضعف ملوك إهناسيا" يؤرخون الحوادث بتاريخ حكمهم لأقاليمهم أي: إنهم كانوا يعتبرون أنفسهم مستقلين في أقاليمهم, ومن هؤلاء أمراء بني حسن وأمراء البرشة. ويبدو أن أطماع بيت طيبة في التوسع شمالًا ظلت قائمة وتوالت محاولاتها في هذا السبيل؛ حيث نجد أن "تف إيب" الذي أعقب والده "خيتي" في إمارة أسيوط قد نقش في مقبرته؛ ما يدل على حروبه مع الطيبيين أعداء الملك بالقرب من أبيدوس, وادعى بأن زعيم الطيبيين وقع في الماء وتفرقت سفنه؛ إلا أن معلوماتنا من مصادر أخرى كثيرة تدل على أن طيبة قد انتصرت في هذه الحرب واستولت على الإقليم السادس1؛ وبذلك وسعت رقعتها شمالًا.

_ 1 الإقليم السادس في الوجه القبلي كانت عاصمته دندرة غربي النيل أمام قنا.

ومن المرجح أن أنتف الثاني كان من الحكام الذين امتازوا بالدراية وحسن الإدارة, نشيطًا؛ إذ أقام بعض المباني ورمم بعض الهياكل المتداعية وبنى لنفسه قبرًا كان يعلوه هرم من الطوب وأقام أمامه لوحة نقش عليها منظر يمثله وأمامه خمسة من كلابه, وهي الآن بالمتحف المصري. أنتف الثالث: طال حكم أنتف الثاني إلى خمسين عامًا كما ذكرنا فيما سبق1؛ فلما تبعه ابنه "أنتف الثالث" كان هذا قد تقدم في السن فلم يبق إلا زمنًا قصيرًا, ولا نعلم عن عهده شيئًا يذكر وربما كان تقدمه في السن سببًا في عدم إقباله على الكفاح؛ فلم تتجدد المناوشات بين بيتي إهناسيا وطيبة في عهده.

_ 1 انظر أعلاه ص132.

الدولة الوسطى

3- الدولة الوسطى: منتوحتب الأول: اختلف المؤرخون كثيرًا في شأن هذا الملك؛ ولكن لا شك في أنه كان صاحب النصر النهائي على بيت إهناسيا وتوحيد البلاد وبدء عهد الدولة الوسطى. فمن المرجح أن بيت إهناسيا أراد الاستيلاء على إقليم أبيدوس وإعادة تبعيته لمملكتهم، وكان ذلك في عهد مليكهم "خيتي الرابع"؛ ولكن الموقعة التي نشبت بين هذا الأخير وبين "منتوحتب الأول" بالقرب من أبيدوس لم تكن في صالح إهناسيا؛ إذ قتل "هرونفر" أحد أبناء "خيتي الرابع" وانتصر منتوحتب، وربما كان في انتصاره هذا إغراء كافٍ للتقدم شمالًا ومواصلة

الكفاح حتى تمكن في النهاية من القضاء على بيت إهناسيا وتوحيد البلاد تحت سلطانه, ولا بد أنه قد بذل مجهودًا ضخمًا لإخضاع سائر أنحاء مصر، كما يرجح أنه حارب في الدلتا وفي الصحارى المتاخمة لمصر شرقًا وغربًا ضد البدو المقيمين فيها, وأرسل بعض البعثات أو الحملات إلى النوبة وبعثات أخرى إلى وادي حمامات لاستغلال المحاجر أو للقيام منه إلى بونت. وبعد أن استقرت الأمور واستتب الأمن في البلاد تفرغ "منتوحتب الأول" للأعمال العمرانية؛ فبنى معبده الجنزي ومقبرته التي نحتها من تحته في الصخر بمنطقة الدير البحري في البر الغربي للأقصر "شكل 26" وهذه المجموعة الجنزية تعد فريدة في تصميمها، وقد اقتبست عنها حتشبسوت "في الأسرة الثامنة عشرة" فيما بعد؛ حيث شيدت معبدها المعروف باسم "معبد الدير البحري" بجوار هذه المجموعة وهو يشبه في كثير من الوجوه معبد منتوحتب الجنزي, شكل "26" منظر تخيلي لما كانت عليه مجموعة منتوحتب الأول الجنزية

كذلك أصلح هذا الملك بعض الهياكل القديمة، وأقام أخرى جديدة في جهات مختلفة من القطر. ويستدل من الآثار التي اكتشفت من هذا العصر وخاصة مقابر الأشراف وكبار الموظفين وزوجات الملك ومحظياته أن مصر قد تمتعت في عهده بالأمن والرخاء والرفاهية, وارتقت فيها الفنون والآداب, ومن أهم ما اكتشف من هذا العهد رسائل كان قد كتبها أحد الأفراد ويدعى "حقانخت" لولده الأكبر واسمه "مرسو" يفهم منها أن الأب كان كاهنًا لمقبرة الوزير "إيبي" وكان من طبيعة عمله أن يدير الأوقاف التي أوقفها الوزير للإنفاق على مقبرته, ومن بينها ضيعتان بالقرب من منف؛ ولذا كان يضطر للسفر إلى هاتين الضيعتين تاركًا لولده مهمة الإشراف على بيته وأملاكه, وكان يرسل إليه تعليماته عن كل ما يتعلق بهذه الشئون1، وقد ألقت رسائله هذه كثيرًا من الضوء على الحياة الاجتماعية والاقتصادية في هذا العهد. ومن المرجح أن ولي عهد منتوحتب الأول الذي كان يدعى "أنتف" قد توفي في حياة والده؛ فتولى من بعده ولده الثاني "منتوحتب الثاني".

_ 1 Winlock, Bulletin of the Metropolitan Museum of Art "1921-2", pp 38 ff.

منتوحتب الثاني

منتوحتب الثاني: اتبع سياسة والده في التعمير؛ فنشطت حركة البناء في الدلتا والصعيد وتقدمت الفنون في عهده، وقد أرسل بعثة إلى وادي حمامات برئاسة مدير البيت الملكي "رئيس الديوان" وكان تعدادها ثلاثة آلاف شخص؛ فلما وصلوا إلى شاطئ البحر الأحمر صنعوا سفنًا ذهبوا بها إلى بونت، وعند عودتهم

أحضروا معهم بعض الأحجار الممتازة في صناعة التماثيل اللازمة للمعابد1. ويبدو أنه لم يعمر طويلًا؛ إذ إنه حينما أراد أن يبني مقبرته ومعبده على غرار ما شيده سلفه لنفسه لم يتمكن إلا من إعداد الأرض للبناء وتمهيد الطريق إليها، والظاهر أن المنية وافته حينما بدأ حفر القبر وبعد أن وضعت بعض الودائع في الأساس، وعلى ذلك دفن في مقبرة بسيطة أعدت على عجل. وقد عثر على مقابر بعض العظماء من عهده, وهي تلقي -بما حوت- كثيرًا من الضوء على نواحي الحياة المختلفة في هذا العصر, ومن أهمها مقبرة "مكتي رع" التي حوت نماذج لسفن ومنازل ومصانع وفرق من الجيش وغير ذلك.

_ 1 j. Couyant & Montet, Les Inscrtiptions hieroglyphiques et hieratiques du quadi Hmmamat "Mem. Inst. Fr, 34-Le Caire 1912-3", No. 114.

منتوحب الثالث

منتوحب الثالث ... منتوحتب الثالث: يبدو أن فترة من عدم الاستقرار حدثت بعد منتوحتب الثاني؛ حيث تمكن بعض الحكام من اغتصاب العرش لمدة سبع سنوات تقريبًا، ثم تولى بعد ذلك منتوحتب الثالث الذي يحتمل أنه كان هو الآخر مغتصبًا للعرش، ولم يعش هذا الأخير طويلًا بعد اعتلائه العرش؛ بل يحتمل أن حكمه لم يزد كثيرًا على عامين، ومع ذلك فقد أرسل خلاله بعثتين, إحداهما إلى وادي حمامات بقيادة وزيره "أمنمحات" "وهو الذي تولى العرش من بعده, وعرف في التاريخ باسم "أمنمحات الأول" مؤسس الأسرة الثانية عشرة"، وكان تعداد رجال هذه البعثة يفوق ثلاثة أمثال عدد أفراد البعثة التي أرسلت إلى تلك الجهة في عهد منتوحتب الثاني, وقد عادت هذه البعثة بعد أن أحضرت الأحجار اللازمة في تشييد بعض المعابد ولصنع تابوت الملك، أما البعثة الثانية فقد أرسلها

منتوحتب الثالث إلى وادي "الهودي" "جنوب شرقي أسوان" لجلب كتل من الأماتيست "وهو حجر نصف كريم"1.

_ 1 Dr. Ahmed Fakhry, "The Inscriptions of The Aniethyst Quarries at wadi – el – Hudi", Nos 1 ff, pp, 19-25.

الأسرة الثانية عشر

الأسرة الثانية عشرة: أشرنا إلى عدم الاستقرار الذي حدث قبل اعتلاء "منتوحتب الثالث" على العرش؛ ولكن يظهر أن هذا الأخير تمكن من إعادة الأمن والهدوء إلى البلاد خلال حكمه القصير؛ فلما انتهت الأسرة الحادية عشرة بموت هذا الملك لم تتأثر وحدة البلاد التي وضع أسسها "منتوحتب الأول" وعلى ذلك أتيحت الفرصة لمصر كي تقوم بنهضة شاملة جنت ثمارها في عهد الأسرة الثانية عشرة، وربما كانت تلك القلاقل التي ظهرت في أواخر عهد الأسرة السابقة من الأسباب التي أدت إلى ظهور طائفة من الرجال الأقوياء الذين تفانوا في العمل على استتباب الأمن وتهيئة الظروف المواتية للرقي والنهوض, وكان على رأس هؤلاء "أمنمحات الأول" مؤسس الأسرة الثانية عشرة الذي كان وزيرًا في عهد الأسرة السابقة.

امنمحات الأول

أمنمحات الأول: سبق أن أشرنا إلى نبوءة "نفرتي" "انظر ص126"، وهي لا شك تدل على سوء الحالة في أواخر عهد الأسرة الحادية عشرة، وربما بلغت الحالة من السوء حدًّا جعل بعض العناصر الآسيوية تهدد شرق الدلتا، وكان تنظيم الأمور الداخلية في البلاد هو أول ما وجه أمنمحات عنايته إليه؛ فقام بتحديد الحدود بين الأقاليم المختلفة وأبقى كل أمير موالٍ له في منصبه، أما من حاول الوقوف

في سبيله من أمراء؛ فكان ينحيه عن منصبه ويولي بدلًا منه أميرًا آخر ممن يثق بهم، ويبدو أن أمراء الأقاليم قد ارتضوا الوضع الجديد وقبلوا ما فرضه عليهم أمنمحات الأول من شروط؛ فأتيحت الفرصة للحكومة المركزية لأن تشرف على الشئون الداخلية في الأقاليم المختلفة. وما إن استقر الأمر لأمنمحات الأول حتى قام بتحصين شرق الدلتا وغربها بعد أن حارب جماعات البدو التي كانت تغير عليها، ونقل العاصمة من طيبة إلى عاصمة أخرى في مركز متوسط وأطلق عليها اسم "إيثت تاوي" "أو القابضة على الأرضين أي: المهيمنة عليها" وهي قرب اللشت الحالية في شمال الفيوم، ومع ذلك فقد ظل يهتم بطيبة وأقام بها المعابد تمجيدًا للإله آمون إلهها المحلي وهو الذي أصبح الإله الرسمي للإمبراطورية المصرية في عهد الدولة الحديثة، ولم يقتصر نشاطه المعماري على العاصمة وعلى طيبة؛ بل انتشرت آثاره في كثير من جهات مصر وخاصة في الفيوم وشرق الدلتا وسيناء، وقد بنى لنفسه هرما ومجموعة جنزية في اللشت ولكنه -مع الأسف- استعمل في بناء هرمه كثيرًا من الأحجار التي جاء بها من معابد ومقابر قديمة, ومن بينها أحجار منقوشة لمعابد بعض ملوك الأسرتين الرابعة والخامسة1, رغم أنه نشط في استغلال المحاجر وأرسل البعوث لجلب الأحجار من وادي حمامات2. هذا وقد أرسل بعض الحملات إلى النوبة, واستطاع أن يخضع جزأها الشمالي لسلطانه3، أما سياسته تجاه أمراء الأقاليم فكانت تختلف باختلاف الأحوال

_ 1 أحمد فخري "مصر الفرعونية" القاهرة 1957 ص172. 2 Couyant & Montet, op. cit., No. 199. 3 Breasted, A R. I, 472-3.

لأننا نجد أنه من جهة كان يخطب ود الكثيرين من الأمراء "الذين كانوا على الأرجح من الأقوياء" حتى لا يثيروا المتاعب إذا ما غفلت الحكومة المركزية عن نشاطهم بعض الوقت؛ فأبقى على ثرواتهم ونفوذهم بل وربما منحهم بعض الهبات أو المزيد من الامتيازات؛ حيث يبدو أثر هذا واضحًا في المقابر العظيمة التي بنوها لأنفسهم في أقاليمهم, ويتمثل ذلك بصفة خاصة في إقليم بني حسن، ومن جهة أخرى كان لا يتوانى عن استعمال الشدة مع بعض الأمراء الآخرين، والظاهر أن عهده كان لا يخلو من المتاعب وخاصة في الجزء الأخير منه، وربما كان ذلك هو الذي دعا إلى إشراكه ولده "سنوسرت الأول" معه في الحكم ابتداءً من السنة العشرين من عهده بعد أن تقدمت به السن وعجز عن مواصلة نشاطه في الخارج والداخل؛ ولذلك كان ولده هو الذي يتولى أمر الحملات الحربية؛ بينما ظل معظم النفوذ في يد هذا الملك الشيخ، وكان البيت المالك نفسه لا يخلو من وجود بعض الحاقدين على الملك أو الحاسدين لولي العهد كما يستدل على ذلك من النصوص المعروفة باسم "نصائح أمنمحات إلى ولده"؛ إذ إنه يوصيه فيها بما يجب عليه اتباعه في إدارة شئون المملكة ويحذره ممن حوله وألا يثق في أخٍ ولا يعتمد على صديق ويذكره بما تعرض له هو شخصيًّا، ويوضح له كيف أنه على الرغم من عطفه على المحتاجين واليتامى والمساكين لم يسلم من أذى أولئك الذين أحسن إليهم, إذ يقول في هذا الصدد: "الذي أكل طعامي بيده هو نفسه الذي استطاع أن يحدث بواسطتها الفزع"، وتسترسل هذه النصائح في بيان كيفية تدبير مؤامرة اغتياله وهو مستلقٍ على فراشه بعد أن تناول طعام العشاء وكيف تمكن من الدفاع عن نفسه، ولكن يُشْتَمُّ مما ورد في هذه النصوص أن المتآمرين نجحوا في إصابته إصابة قاتلة وإن كان من المرجح أنه لم يمت إلا بعد أن أملى هذه النصائح لكي تبلغ إلى ولده، وفيها نتبين ما كان يساوره من الأسى والألم لعدم تمكنه من القضاء على المتآمرين وهو يعدد ما قام به من جلائل الأعمال التي تتصف

بالشجاعة والإقدام ثم يختتمها بتحية ولده وتمنياته له بالتوفيق, ويناشده عمل الخير والنشاط في إقامة المعابد الضخمة. ومما يؤكد ما ورد في هذه النصائح تلك النصوص المعروفة باسم "قصة سنوهي"1؛ لأنها تروي أن سنوهي كان مع ولي العهد "سنوسرت" "الملك سنوسرت الأول فيما بعد" في حملة على ليبيا حينما وصل رسول من القصر وأبلغ الأمير برسالة سرية عاجلة بأن الملك أمنمحات الأول قد مات، وقد أتيحت الفرصة لسنوهي كي ينصت إلى الرسالة "ومن المحتمل أنه كان على علاقة بالمتآمرين" فخشي على حياته وفرَّ هاربًا إلى فلسطين؛ حيث أقام هناك وتزعم إحدى القبائل إلى أن وصل إلى سن الشيخوخة وحينئذٍ صدر أمر من السراي بالعفو عنه فعاد إلى وطنه، ويغلب على الظن أنه كان يمت بصلة القرابة لزوجة الملك أو ينتمي إلى أحد أفراد البيت المالك؛ ولذا صدر أمر العفو عنه بعد أن زال أثر المؤامرة من النفوس وخاصة لأنها لم تنجح تماما؛ حيث يبدو أن المتآمرين كانوا يهدفون إلى القضاء على "أمنمحات الأول" وإجلاس شخص آخر غير ولده سنوسرت على العرش أثناء قيام هذا الأخير بحملة على ليبيا, ولكن أمنمحات رغم إصابته البالغة ظل فترة على قيد الحياة تمكن فيها أعوانه من أن يمهدوا السبيل لعودة سنوسرت وجلوسه على العرش.

_ 1 تناول كثير من الباحثين هذه القصة بالترجمة والتعليق ويمكن الرجوع في ذلك إلى: Wilson ed. By Pritchard, "Ancient Near Eastern Texts" "Princeton 1950" pp. 18-23.

سنوسرت الأول

سنوسرت الأول: تابع "سنوسرت الأول" سياسة والده وتمكن من أن يحكم البلاد بخبرة ودراية

إذ لم يكن حديث عهد بإدارة شئون البلاد؛ حيث إن والده أشركه معه في الحكم في العشرة الأعوام الأخيرة من عهده. وكان سنوسرت نشيطًا طوال مدة حكمه التي بلغت نحو 45 عامًا؛ فقد أرسل عددًا من البعثات إلى المحاجر والمناجم في الصحارى المصرية والنوبة جلبت الفيروز والنحاس من سيناء والمرمر من حاتنوب والأحجار الصلبة والجرانيت من وادي حمامات وأسوان والذهب من وادي علاقي "في صحراء النوبة السفلى الشرقية"1 والديوريت من محاجر صحراء النوبة الغربية على بعد نحو 50 ميلًا إلى الشمال الغربي من توشكى2 والأماتيست "الجمشت" من وادي هودي3, كما أنه شيد كثيرًا من المباني في جهات مختلفة من الدلتا والصعيد وفي الفيوم والنوبة التي كان جزء كبير منها قد خضع للنفوذ المصري حينئذٍ؛ لأن الدولة الوسطى اتبعت تجاه النوبة سياسة تختلف عن تلك التي اتبعتها الدولة القديمة بشأنها؛ فبينما كانت هذه تكتفي بإرسال بعثات تجارية للاتجار مع النوبيين وتعمل على حماية بعثاتها بإرسال بعض القوات العسكرية معها؛ نجد أن الدولة الوسطى بدأت سياسة احتلال فعلي للنوبة حتى تتمكن من استغلال مواردها وفق مشيئتها من جهة, ولكي تؤمن حدودها الجنوبية تأمينًا مؤكدًا من جهة أخرى؛ وذلك لأن مجموعة من العناصر قوية الشكيمة الخليطة بالدماء الزنجية أخذت تتوغل في النوبة شمالًا, وأصبح يخشى من تقدمها نحو مصر نفسها.

_ 1 ربما كان هذا هو أول ذهب يأتي من النوبة إلى مصر؛ حيث لم تشر النصوص إلى وروده منها في عهود سابقة. 2 عثر في هذه المحاجر على أسماء الملوك: خوفو وددف رع وساحورع وإسيسي من عهد الدولة القديمة, انظر كذلك ASA 33, pp. 65 ff. 3 A.Fakhry, op. cit., 20 ff Nos. 6 ff.

ويعد "سنوسرت الأول" بحق أول من اتبع سياسة حاسمة مع النوبة؛ لأنه مد الحدود المصرية إلى وادي حلفا على الأقل, وإليه ينسب تشييد ما لا يقل عن ثلاث قلاع في هذه الجهات. وفي آخر حكمه أشرك معه ولده "أمنمحات الثاني" لمدة ثلاثة أعوام, انفرد بعدها هذا الأخير بالحكم.

امنمحات الثاني

أمنمحات الثاني: كان للنشاط الذي بذله "سنوسرت الأول" أثره في استتباب الأمور، وأصبحت الحالة الداخلية في البلاد تمتاز بالأمن والهدوء، كما أن جهوده في بلاد النوبة قد أوقفت المتاعب على الحدود المصرية؛ فأفاد من كل ذلك "أمنمحات" ووطد صلاته بجيران مصر حيث أرسل الهدايا إلى أمراء سورية وتلقى بعض الهدايا في مقابل ذلك, ورغم أنه لم يكن في نشاط والده أو جده فقد أرسل البعثات إلى جهات مختلفة لاستغلال المناجم والمحاجر أو لجلب بعض الحاصلات التي تحتاجها مصر, وفي هذا السبيل وصل رجاله إلى سيناء والنوبة وبلاد بونت. واتبع نفس السياسة التي نهج عليها والده وجده فيما يختص بإشراك ولي العهد في الحكم, فأشرك معه ولده "سنوسرت الثاني" في نهاية حكمه، ومن المرجح أن مدة هذا الحكم المشترك قد طالت إلى نحو ستة أعوام.

سنوسرت الثاني

سنوسرت الثاني: أفاد "سنوسرت الثاني"، كما أفاد والده من قبل من الهدوء والسكينة التي نعمت بها البلاد, واتبع نفس السياسة الداخلية التي اتبعها والده؛ ولكنه بذَّه في قيامه بمشروعات ري كبيرة في الفيوم، والظاهر أنه اهتم بهذه المنطقة اهتمامًا بالغًا فبنى هرمه قرب مدخلها، وعثر في جوار هذا الهرم على مجموعة من مقابر

الأميرات, من أهم ما عثر عليه في إحداها مجموعة كاملة من الحلي داخل صندوق موضوع في فجوة بأحد جدران المقبرة, وبذلك غاب عن أعين اللصوص1. ومن الكشوف المهمة التي عثر عليها في عهده تلك القرية التي أقيمت للعمال والموظفين الذين كانوا مكلفين ببناء هرمه؛ حيث إنها تعطينا فكرة واضحة عن تخطيط القرى في عهد الدولة الوسطى وعن عمارة المباني المعدة للسكن. ومما تميز به هذا العهد كذلك وفود بعض الساميين إلى مصر؛ فمن نقوش مقبرة "خنوم حتب" في إقليم "بني حسن" نتبين أن جماعة من الرجال والنساء والأطفال الساميين قدموا إلى مصر بزعامة شخص يدعى إبشا "ى" للاستقرار في شرق الدلتا أو بقصد الاتجار مع المصريين، وربما كان وفود هؤلاء الساميين مقدمة لتغلغل النفوذ السامي في مصر الذي بدا بوضوح في عهد الهكسوس. هذا ولم يستمر سنوسرت الثاني طويلًا في الحكم وتبعه "سنوسرت الثالث".

_ 1 أحمد فخري "مصر الفرعونية" "القاهرة 1957" 177-8.

سنوسرت الثالث

سنوسرت الثالث: ظفر هذا الفرعون بشهرة كبيرة في التاريخ؛ لأن نشاطه الكبير من جهة وطول مدة حكمه من جهة أخرى أتاحا له فرصة تشييد كثير من الآثار التي خلدت ذكراه، وكان اهتمامه البالغ ببلاد النوبة سببًا في تشييده لعدد كبير من العمائر بها؛ فإليه تنسب أهم المعابد والحصون الحربية التي ترجع إلى عهد الدولة الوسطى ببلاد النوبة.

والظاهر أن بعض العناصر المناوئة كانت قد أخذت تثير المتاعب في تلك الجهات, فما كان منه إلا أن كال لها ضربات متتالية حتى أخضعها خضوعًا تامًّا, وشيد سلسلة من الحصون في مناطقها المختلفة ليضمن استمرارها في قبضته. ولم تقتصر جهوده الحربية على النوبة وحدها؛ بل نجده كذلك يوجه حملة إلى فلسطين، وربما كانت هذه الحملة بسبب إغارة بعض القبائل الآسيوية أو بدو الصحراء المتاخمين لفلسطين إغارة مفاجئة على مصر؛ فوجه إليهم هذه الحملة التي كسرت شوكتهم، ويحتمل أنه وجه كذلك حملة إلى ليبيا، وأصبح سنوسرت بعد هذه الحملات بطلًا أسطوريًّا في نظر الأجيال التالية. أما في داخلية البلاد فيبدو أنه لم يرضَ بالوضع القائم بالنسبة لامتيازات أمراء الأقاليم؛ ولذلك جردهم من الألقاب التقليدية التي كانوا يورثونها لأبنائهم, كما جردهم من الكثير من امتيازاتهم وأصبحوا في عهده كموظفين عاديين. ومع أنه اهتم بالفيوم كأسلافه؛ إلا أنه لم يشيد هرمه هناك بل شيده في منطقة دهشور، وقد عثر على بعض مقابر لأميرات بيته بالقرب من هذا الهرم, عثر فيها على مجموعات عظيمة من الحلي. وقد أشرك معه ابنه أمنمحات الثالث فترة قصيرة توفي بعدها, فانفرد هذا الأخير وحده بالحكم.

امنمحات الثالث

أمنمحات الثالث: كان عهده أطول من عهد أي ملك آخر في هذه الأسرة؛ حيث ظل جالسًا على العرش نحو ثمانية وأربعين عامًا, ومع هذا كان عهده عهد رخاء وطمأنينة؛ لأن حروب والده وإصلاحاته قد هيأت له تلك الظروف الملائمة, فانصرف إلى الأعمال الداخلية ونهض بالكثير من المشروعات العمرانية؛ حيث شيد كثيرًا من المباني في مختلف البلاد ونظم شئون الري؛ ولذا وجه عنايته إلى منطقة الفيوم،

وأرسل بعثات متتالية إلى مناطق المناجم في سيناء وإلى المحاجر في وادي حمامات وطره, كما كان يستحضر الذهب من بلاد النوبة. وبلغ من اهتمامه بشئون الزراعة أن سجل ارتفاع الفيضان في معظم سنوات حكمه في قلعتي سمنة وقمة؛ بقصد التصرف في مياه النهر حسب ظروف الفيضان, ووفقًا لما تقتضيه مشروعاته في إصلاح بعض الأراضي وخاصة في منطقة الفيوم. وقد أقام هرمه بالقرب من هوارة وشيد إلى الشرق منه معبده الشهير الذي عرف فيما بعد باسم اللابيرانث1، وقد عثر في سنة 1956 على مقبرة لإحدى بناته وتدعى "نفروبتاح" وجد فيها ثلاث أوانٍ كبيرة من الفضة نقش عليها اسمها واسم والدها كما وجدت تابوتها سليمًا, ولكن المومياء تحللت بفعل مياه الرشح وكانت الحلي التي عثر عليها معها قليلة، ويبدو أنها دفنت على عجل, والظاهر أن الأحوال الداخلية أخذت في الاضطراب والتدهور.

_ 1 سمي كذلك؛ لأنه كان يشبه قصر الملك مينوس في كريت "الذي بناه دبدالوس" من حيث إنه كان في تعدد حجراته يشبه التيه, يضل الإنسان طريقه فيه.

امنمحات الرابع

أمنمحات الرابع: اشترك مع والده في العام الأخير من حكمه ثم انفرد بعد ذلك بالعرش؛ ولكنه لم يستمر إلا نحو تسعة أعوام، والظاهر أنه لم يكن في نشاط أسلافه أو في مهارتهم السياسية والإدارية. ومعلوماتنا عن عهده قليلة وإن كانت آثاره تدل على أنه أرسل بعثات إلى المحاجر والمناجم في وادي الهودى وسيناء, وأنه شيد بعض العمائر في الفيوم وطيبة وغيرهما. ويبدو أن نجم الأسرة الثانية عشرة قد أخذ في الأفول، ومع هذا ظلت

بلاد النوبة في قبضة مصر كما يتضح ذلك من وجود نقوش في قلعة قمة تسجل ارتفاع الفيضان في عهده، والظاهر أنه لم يترك وريثًا حيث خلفته ملكة تدعى "سبك نفروع". سبك نفروع: لا ندري هل كانت هذه الملكة شقيقة لأمنمحات الثالث وزوجة له في نفس الوقت أم أنها كانت أخته فقط؟ وكل ما نعلمه عن هذه الملكة أن حكمها كان قصيرًا لم يزد عن ثلاثة أعوام إلا قليلًا, وأنها شيدت هرمها بالقرب من هرم أمنمحات الثالث في هوارة، وقد عثر على بعض آثار أخرى لها بالقرب منه أيضًا. وبانتهاء عهد هذه الملكة انتقل الملك إلى الأسرة الثالثة عشرة ولا ندري شيئًا عن الأسباب التي أدت إلى ذلك، وربما كان هذا الانتقال نتيجة لحدوث اضطرابات داخلية أو منازعات بين أفراد البيت المالك, أو أن آخر ملك في الأسرة الثانية عشرة لم يترك وريثًا للعرش كما لم تترك "سبك نفروع" التي تلته في حكم البلاد وريثًا هي الأخرى. وكانت الفترة التي أعقبت عهد الأسرة الثانية عشرة فترة ضعف, حكمت فيها الأسرتان الثالثة عشرة والرابعة عشرة, وبعدئذٍ تولى حكم مصر ملوك أجانب يعرفون باسم الهكسوس تعاقبوا في أسرات ثلاث هي: الخامسة عشرة والسادسة عشرة والسابعة عشرة، وهذه الأخيرة كانت تعاصرها أسرة سابعة عشرة أخرى مصرية مقرها في طيبة. ومع كل فقد ظلت أصول الحضارة التي تميزت بها الدولة الوسطى ثابتة خلال تلك الفترة ولم يتناولها تغيير يذكر؛ مما مكن الدولة الحديثة أن تبلغ القمة في مضمار المدنية والرقي.

شكل "27" دمية فخارية دونت عليها نصوص سحرية معينة واسم أحد أعداء الملك حطمت بقصد القضاء عليه

عصر الاضمحلال الثاني

عصر الاضمحلال الثاني مدخل ... 4- عصر الاضمحلال الثاني: سبق أن أشرنا إلى احتمال حدوث بعض الاضطرابات الداخلية أو المنازعات بين أفراد البيت المالك في نهاية عهد الأسرة الثانية عشرة, ويبدو أن هذه الحالة ظلت سيئة بعد ذلك ولم يكن الملوك من القوة؛ بحيث يستطيعون القضاء على أعدائهم والتفرغ للنهوض بالبلاد؛ إذ عثر على كثير من الدمى والأواني كتبت عليها أسماء بعض الذين يريد الملك أن يقضي عليهم بواسطة السحر "شكل 27". ومما تجدر ملاحظته أن هذه الأسماء تضمنت أسماء لأمراء ساميين ونوبيين إلى جانب أسماء الأمراء المصريين؛ مما يدل على أن أعداء الملك الذين لم يكن ليستطيع القضاء عليهم بالقوة كانوا ينتمون إلى طوائف مختلفة، ومما لا شك فيه أن الحالة كانت سيئة بالنسبة لهؤلاء الملوك في داخل وخارج البلاد على السواء1.

_ 1 Posener. "Princes et Pays d.htm' Asie et de Nubie", "Bruxelles 1940".

الأسرة الثالثة عشرة

الأسرة الثالثة عشرة: ربما كانت هذه الأسرة تمتُّ إلى الأسرة الثانية عشرة بصلة، وقد حكمت فترة لا تزيد كثيرًا على خمس وخمسين سنة، ولم نعثر على آثار لبعض ملوكها؛ ولكننا عرفنا أسماء الكثيرين من هؤلاء من بردية تورين، ومما ذكره مانيثون؛ إلا أن هذين المصدرين فيما يبدو لم تكن لهما دراية كافية عن هذا العصر. ومن المحتمل أن ملوك هذه الأسرة كانوا يحكمون في منف, وقد ترك بعضهم آثارًا في مناطق أخرى بل وامتد نفوذهم إلى بلاد النوبة, ووجدت آثار لهم في خارج حدود المملكة منها بعض جهات لبنان؛ إلا أن غالبية ملوك هذه الأسرة كانوا ضعافًا، ومما يؤيد ذلك أن بردية من هذا العهد تبين

أن حاكم إقليم الكاب تنازل عن منصبه إلى أحد أقاربه في نظير مبلغ معين1, ويدلنا هذا بالطبع على أن الأحوال كانت سيئة بصفة عامة وعلى أن الملوك لم يكن في مقدورهم الاحتفاظ بسلطانهم على أمراء الأقاليم؛ حتى أصبح في إمكان هؤلاء أن يبيعوا مناصبهم. كذلك ينسب إلى الأسرة الثالثة عشرة ملك يدعى نحسى وصف في بعض النصوص بأنه "حبيب الإله ست معبود أواريس"، ولما كان ست هو المعبود الرسمي للهكسوس وأواريس عاصمة ملكهم؛ فإنه لا شك في أن نفوذ هؤلاء قد أخذ في الظهور منذ عهد هذا الملك على الأقل، كما يوحي اسم هذا الملك أيضًا بأنه كان في نفس الوقت يمت بصلة إلى النوبة وربما كانت أمه نوبية2. ومن المرجح أن أسرة قوية في غرب الدلتا ادعت الملك أثناء حكم الأسرة الثالثة عشرة، وهذه الأسرة القوية هي الأسرة الرابعة عشرة التي كانت عاصمتها سخا. ومما تجدر ملاحظته أن بعضًا من الأسماء الغريبة غير المصرية وردت بين الأسماء الكثيرة التي ذكرت كملوك حكموا في هذه الفترة، ومن هذه ما هو ذو طابع سامي مما يؤيد فكرة أن حكم الهكسوس جاء نتيجة لغلبة هذه العناصر في مصر وتغلغل نفوذها, أي أنه كان على الأرجح نتيجة لتغير الحكام أو القادة وليس نتيجة لغزوة ساحقة3. هذا وما زال ترتيب ملوك الأسرة الثالثة عشرة ومدى نفوذهم موضع خلاف حتى الآن.

_ 1 لوحة رقم 52453 بمتحف القاهرة. 2 Rec, de Trav. 15, pp. 97-101. 3 JEA 37, pp. 56-61.

الأسرة الرابعة عشرة

الأسرة الرابعة عشرة: تعطينا بردية تورين قائمة طويلة بأسماء ملوك هذه الأسرة, كما يذكر مانيثون عددًا ضخمًا لهؤلاء الملوك ويذكر مدة حكم لهم عددًا كبيرًا من السنين؛ ولكن يبدو أن هذه الأعداد جميعها مبالغ فيها كثيرًا؛ بل ومن المرجح كذلك أن هؤلاء الملوك لم يتمتعوا بنفوذ يذكر خارج حدود إقليمهم الذي كانت عاصمته سخا، وكانت الأسرة الثالثة عشرة تتدهور هي الأخرى إلى أن اضمحلت قوتها؛ مما أدى في النهاية إلى خضوع مصر للحكام الأجانب المعروفين باسم الهكسوس. الهكسوس بالرغم من أن حدود الدلتا الشرقية كانت محصنة في عهد الدولة الوسطى, فإن بعض العناصر السامية كانت تدخل إلى مصر من حين إلى حين, إما للتجارة وإما للاستقرار, ويبدو أن الأمر لم يكن ليثير ريبة المصريين ما دام هؤلاء القادمون مسالمين, وقد سبق أن أشرنا إلى الجماعة الآسيوية التي قدمت إلى مصر في عهد سنوسرت الثاني ومثلت على جدران مقبرة "خنوم حتب"1، والجدير بالذكر أن إبشا "ي" زعيم هذه الجماعة كان يلقب بلقب "حقا خاسوت" أي "حاكم البلاد الأجنبية" وهذا اللقب هو الذي أصبح بعد تحريفه اسمًا يدل على الهكسوس. وتدل ظواهر الأحوال على أن منطقة الشرق الأدنى القديم تعرضت لأحداث كثيرة متتالية في الوقت الذي أشرفت فيه الدولة الوسطى على النهاية، فقد قضت بابل على الممالك المجاورة لها كما أن المملكة "الكاشية" قد أخذت هي الأخرى

_ 1 انظر ص143.

تتطلع إلى غزو الأقطار المجاورة لها؛ بينما أخذ "الحوريون" أو "الميتانيون" يستولون على بعض البلاد السورية. ولا شك في أن هذه التحركات كانت ذات أثر في هجرة وتسلل الكثير من العناصر الآسيوية إلى مصر التي استقرت جموعها في المنطقة الأقرب إلى مواطنها الأصلية، أي: في شرق الدلتا على الأرجح، ولم يمض على استقرارهم وقت طويل إلا وأصبحوا قوة يخشاها المصريون واستفحل خطرهم وزاد إلى أن تمكنوا من فرض سلطانهم على مصر وجعلوا عاصمتهم أواريس. ومع أن عهدهم كان موضع أبحاث كثيرة إلا أن الغموض ما زال يكتنفه، وما زلنا لا نستطيع أن نجزم بأصلهم أو أن نؤكد كيفية إخضاعهم مصر لسلطانهم, وخاصة لأن النصوص المصرية تحاشت ذكرهم إلا في أحوال نادرة كانت تنعتهم فيها بصفات تدل على كراهية المصريين لهم ولعهدهم، ومن ذلك مثلًا ما تذكره حتشبسوت عنهم في نقوش معبدها المنحوت في الصخر بالقرب من بني حسن وهو المعروف باسم "إصطبل عنتر Speos Artemidos"؛ حيث تقول: "إن الآسيويين كانوا يحكمون في أواريس في الشمال وكانوا بجحافلهم المتجولة يعيثون بين الناس فسادًا, محطمين ما كان قائمًا. إنهم كانوا يحكمون دون اعتراف بسلطان "رع" بل ولم تكن إرادته الإلهية تنفذ إلى أن جاء عهدي العظيم"1. أما مانيثون فيقول في هذا الصدد: "في عهد الملك توتيمايوس أصابتنا ضربة من الإله -ولا أدري سبب ذلك- دون أن نتوقع ذلك؛ حيث جاءنا غزاة من الشرق من أصل مجهول, ساروا تملؤهم الثقة في النصر ضد بلادنا, وتمكنوا بقوتهم من الاستيلاء عليها بسهولة دون ضربة واحدة, وبعد أن تغلبوا على البلاد حرقوا مدننا دون رأفة وهدموا معابد الآلهة من أساسها وعاملوا جميع الأهالي بعداء قاسٍ, فذبحوا البعض وأخذوا نساء وأطفال البعض الآخر

_ 1 JEA 32, pp. 45 ff..

ليكونوا إماءً وعبيدًا لهم، وأخيرًا عينوا واحدًا منهم يدعى ساليتيس "Salitis" ملكًا عليهم؛ فأقام في منف وفرض الضرائب شمال مصر وجنوبها, وكان يترك حاميات في المواقع المناسبة, وبنى حصنًا في أواريس في شرق الدلتا ترك فيه حامية من 340.000 رجل مزودين بالأسلحة, وكان يذهب لزيارة هذا الحصن ويتفقد رجاله في شهور الصيف من كل عام"1. ومن هذه النصوص نتبين أن هؤلاء جاءوا من آسيا وأنهم كانوا يسيئون إلى المصريين؛ فكرههم هؤلاء وعملوا على التخلص منهم، ومن المرجح أن جاليات كبيرة من الهكسوس كانت تستقر في أماكن مختلفة من سورية وفلسطين وربما كانت أقرب مراكز استقرارهم هذه في بلدة "شاروهن"؛ حيث إننا نعلم أنهم حينما طردوا من مصر لجئوا إلى هذه البلدة وتحصنوا فيها ثلاث سنوات2. ويقسم حكام الهكسوس عادة إلى ثلاث مجموعات على النحو الآتي: الأولى: وتشمل ستة ملوك ويعتبرهم المؤرخون الأسرة الخامسة عشرة, وقد حكموا نحو 108 سنوات. والثانية: وهي أقل أهمية, وتكون الأسرة السادسة عشرة. أما الثالثة: فهي الأسرة السابعة عشرة, وكانت معاصرة للأسرة السابعة عشرة المصرية في طيبة. ويبدو أن الثلاثة الملوك الأخيرين في المجموعة الأولى وهم أبو فيس، خيان، شيشي أو إسيسي قد حكموا مصر كلها والنوبة السفلى؛ لأن آثارهم وجدت

_ 1 W, G, Waddel "Manlto" "1940" pp, 79 ff. 2 انظر بعد: مطاردة أحمس للهكسوس ص158.

موزعة فيها إلا أنهم لم يستطيعوا الاحتفاظ بنفوذهم طويلًا في الجنوب, وإن كان من المرجح أنهم ظلوا على صلة بأمراء النوبة، كما يستدل على ذلك من لوحة عثر عليها بالكرنك سنة "1954"1 تصف كفاح كاموزا2 ضد الهكسوس في أواخر عهدهم؛ إذ نتبين منها أن ملك الهكسوس كان على صلة بأمير النوبة، والظاهر أن تجارة الهكسوس ظلت رائجة في النوبة ونفوذهم ظل قائمًا في الصعيد إلى أن بدأ الأمراء المحليون في الصعيد يعارضون هذا النفوذ, وازدادت مقاومتهم له في عهد الأسرة السابعة عشرة. ولا شك أن بعض ملوك الهكسوس وصلوا إلى درجة عظيمة من القوة والسلطان وخاصة ملوك المجموعة الأولى, ومن أشهرهم "خيان" سالف الذكر؛ حيث عثر له على آثار في كثير من جهات مصر وسورية وفلسطين؛ بل ووجد جزء من تمثال في هيئة أسد يحمل اسمه عند أحد التجار في بغداد، وفي حفائر أجريت في كريت عثر على غطاء إناء من المرمر نقش عليه اسمه كذلك، ولا بد أن النشاط التجاري في عهده كان عظيمًا وأن مصر كانت على صلة بمختلف تلك الجهات التي عثر على آثاره فيها. ولا نعرف إلا القليل عن حكم الملوك الذين تلوا ملوك المجموعة الأولى "الأسرة الخامسة عشرة"، كذلك لا نعرف كيف انكمش ملكهم، وأصبح المصريون يتطلعون إلى طردهم، ومن المؤكد على أي حال أن المصريين برموا بهم وضاقوا بوجودهم بينهم؛ حيث يبدو أن ظهورهم كان يصحبه اضطراب في أحوال الشرق الأدنى بصفة عامة, وأدى إلى مرور مصر بفترة عصيبة فنزح بعض المصريين عنها إلى النوبة؛ حيث عملوا في خدمة بعض أمرائها

_ 1 Chr, d'Eg. 30, PP, 198 ff. 2 آخر ملوك الأسرة السابعة عشرة المصرية، انظر ص155-159.

المحليين1؛ إذ إن النوبة حينئذٍ كانت قد تخلصت من النفوذ المصري، وأخذ يحكمها بعض أمرائها الذين استقلوا بأقاليمهم؛ بينما أخذ الأمراء المصريون الذين أجبرتهم الظروف على مجابهة بعض الأخطار في أقاليمهم يستعينون بالكثيرين من أبناء النوبة الذين قدموا إلى مصر كجنود مرتزقة, واستقرت غالبيتهم فيها في جاليات كبيرة؛ إذ عثر على جباناتهم ومقابرهم منتشرة في مصر العليا ووصل انتشارها شمالًا إلى مصر الوسطى، وتتميز هذه المقابر بأنها على هيئة الجرس وقد عرفت لدى الأثريين باسم "Pan Greves"، وقد ظل هؤلاء المرتزقة النوبيون يؤدون خدماتهم في مصر, واستمر المصريون يستعينون بهم حتى في حرب الاستقلال التي طردوا فيها الهكسوس بل وبعد ذلك أيضًا. ولا بد أن مصر والنوبة في نهاية عهد الهكسوس كانتا تنقسمان إلى الأقسام التالية2: 1- مملكة طيبة "الأسرة السابعة عشرة المصرية" التي كانت تمتد من اليفانتين "إقليم الشلال الأول" جنوبًا إلى القوصية شمالًا. 2- مملكة الهكسوس, وكانت تحكم الدلتا ومصر الوسطى. 3- مملكة النوبة التي يحكمها أمير نوبي, وكانت تمتد شمالًا إلى اليفانتين. ومع أن الهكسوس تأثروا بالحضارة المصرية واندمجوا في الحياة المصرية على العموم؛ حيث اتخذوا الألقاب الفرعونية وعبدوا الآلهة المصرية وتركوا آثارًا مصرية الطابع؛ إلا أن حكمهم لم يكن مقبولًا، ولا ندري كيف بدأ كفاح المصريين ضدهم لأن معلوماتنا مستقاة من مصادر متأخرة ولا تمدنا بتفاصيل

_ 1 JEA 35, pp, 50 ff. 2 PSBA 35, p, 117; JEA3 , pp, 99-110.

كافية عن هذا الكفاح؛ ففي بردية ترجع إلى عصر الرعامسة تعرف باسم بردية سالييه رقم "1" "Sallier 1"1 قصة بها الشيء الكثير من الخيال عن بدء حدوث المناوشات بين المصريين والهكسوس، ومما جاء فيها أن الطاعون قد اجتاح البلاد "كناية عن استيلاء الهكسوس على الحكم فيها"، وأن البلاد قد خضعت لهم، وقد جعل ملكهم أبو فيس من الإله سوتخ "ست" معبودًا لمصر ولم يقدم قربانًا لإله غيره ... وكان سقنن رع في ذلك الوقت حاكمًا على طيبة ولم يقبل أن يعبد إلهًا غير الإله "آمون رع". ثم تشير البردية بعد ذلك إلى أن رسولًا من الملك "أبو فيس" جاء من أواريس إلى طيبة ليبلغ سقنن رع أن "أفراس النهر في مياه طيبة تقلق نوم "أبو فيس" وهو في قصره في الدلتا" وهو يطلب إسكاتها أو أن تهجر ذلك المكان كما أبلغه كذلك بأن "أبو فيس" يحتم أن يعبد الإله سوتخ، ومن الواضح أن هذه الرسالة الملتوية تدل على ما كان يشعر به ملك الهكسوس من تفشي روح التمرد والثورة ضده في جنوب مصر, وأنه أراد أن يجبر أمير طيبة على إعلان خضوعه له. وقد فقدنا بقية هذه القصة عن كفاح مصر ضد الهكسوس؛ لأن البردية تهشمت ولم يسلم منها سوى الجزء المدونة فيه هذه الرسالة؛ ولكن مما لا شك فيه أن هذه البردية إنما كتبت لتبين أن "سقنن رع" بدأ الكفاح فعلًا ضد الهكسوس ولتبين الدور المجيد الذي قام به خلال هذا الكفاح، ويؤيد ذلك أن مومياءه تدل على أنه مات متأثرًا بجراح أصيب بها في رأسه وصدره؛ مما يرجح أنه قتل أثناء حربه مع الهكسوس. ولا بد من أن ملوك طيبة السابقين كانوا أشبه بولاة من قبل الهكسوس, وقد وردت أسماء ثمانية ملوك قبل "سقنن رع" ويظهر أن آخرهم بدأ بإعلان عصيانه عليهم وربما امتنع عن دفع الضرائب المطلوبة لهم, وبدأ يستنهض الهمم للوقوف في وجههم؛ ولكن أجله لم يمهله حتى يبدأ النضال وقدر لخلفه "سقنن رع"

_ 1 Gardiner, Late Egyptian Stories, pp. 87 ff.

أن يقوم بذلك ثم تبعه في تحمل أعباء هذه المهمة كلٌّ من ولديه "كاموزا" و"أحمس" على التوالي. طرد الهكسوس: يبدأ طرد الهكسوس في الوصول إلى مرحلة حاسمة في عهد كاموزا خليفة "سقنن رع"، كما يتبين ذلك من لوحة خشبية مؤرخة بالسنة الثالثة من عهده1, وهي وإن كانت غير كاملة؛ إلا أن ما دون عليها يدل على مواصلة كاموزا للكفاح ضد الهكسوس، وقد عثر على جزء من لوحة من الحجر الجيري بالكرنك2 لا شك في أنها كانت الأصل الذي نقلت عنه اللوحة السابقة, وهي تذكر أن كاموزا جمع رجاله لاستشارتهم في الكفاح ضد الهكسوس، محاولًا أن يستنهض هممهم؛ إذ يذكر لهم أنه يجد نفسه محصورًا بين عدوين "الهكسوس في الشمال والنوبيين في الجنوب"؛ ولكن هؤلاء المستشارين كانوا متقاعسين راغبين عن القتال في بداية الأمر, إذ إنهم أجابوه بما يفيد أنهم لا يرون مبررا للقتال ضدهم ما دامت حدود المملكة المصرية "من اليفانتين إلى القوصية" لم تمس وما دامت أراضيهم وأملاكهم سليمة لم يغتصب أحد منها شيئًا أو تنقطع عنهم إيراداتها ولم يعتدَ على جزء من المملكة؛ إلا أن كاموزا لم يقتنع بإجاباتهم وصمم على طرد هؤلاء الذين يشاركونه في حكم مصر في الشمال "أي: الهكسوس". ولا شك في أن ما ورد في لوحة الكرنك التي كشف عنها سنة "1954"3

_ 1 تعرف باسم لوح "كارنارفون" انظر: Carnarvon & Carter, "Five Years' Exploration at Thebes", p. 3; JEA 3, pp. 95-110, pls. XII, XIII 7, pp. 36-56. 2 ASA 5, p. III & 39 pp. 145 ff. 3 انظر أعلاه ص153.

يعد مكملًا لما جاء في اللوحة التي أسلفت الإشارة إلى أنها الأصل الذي نسخت منه لوحة كارنارفون؛ فمن نصوص هذه اللوحة الأخيرة يتبين لنا أن كاموزا انتصر انتصارًا حاسمًا على الهكسوس في معركة نيلية, كما تشير أيضا إلى حملة على النوبة سبق أن قام بها كاموزا، كذلك توضح لنا كيف أن ملك الهكسوس أراد الاتصال بملك النوبة ليفاجئ هذا الأخير الملك كاموزا من الخلف أثناء انشغاله في حربه ضد الهكسوس؛ إلا أن رسول ملك الهكسوس إلى النوبة قبض عليه وهو في طريقه إليها؛ فلم تنجح المؤامرة التي أريد تدبيرها ضد المصريين. ولا ندري إلى أي مدى وصل كاموزا في كفاحه, ولكن لا شك في أنه نجح في كسر شوكة الهكسوس, وأنه مهد السبيل للانتصار الأخير الذي انتهى بطردهم من مصر على يد خلفه وأخيه أحمس الأول.

عهد الدولة الحديثة

5- عهد الدولة الحديثة: إجلاء الأجانب وتكوين الإمبراطورية: سبق أن أشرنا إلى أن كاموزا نجح في كسر شوكة الهكسوس، ومع ذلك فقد ظلت الأوضاع في وادي النيل على ما هي عليه؛ إلا فيما يختص بإقدام المصريين على مناوأة النفوذ الأجنبي وإعلاء شأن مملكتهم في الجنوب؛ حتى أصبحت المملكة الطيبية دولة ذات سيادة بعد أن كانت تعترف بنفوذ الهكسوس، أي أنه من الممكن القول بأن عهد "كاموزا" وسلفه "سقنن رع" كان تمهيدًا للنهضة التي بدأت بعدئذٍ والتي يوضع على رأسها "أحمس الأول" خليفة "كاموزا" ومؤسس الأسرة الثامنة عشرة، وقد تمكنت مصر في نهضتها هذه من أن تكون إمبراطورية مترامية الأطراف بعد أن تمكنت من إجلاء الأجانب عن أراضيها, وأصبحت أقوى أمم الشرق الأدنى القديم نفوذًا وسلطانًا.

الأسرة الثامنة عشرة

الأسرة الثامنة عشرة: أحمس الأول: لا ندري كيف انتهت حياة "كاموزا" وهل لقي مصرعه أثناء كفاحه ضد الهكسوس كما حدث لسلفه من قبل أم أنه مات ميتة طبيعية قبل أن يتمكن من إخراج الهكسوس من مصر؟ ومهما يكن من أمر فقد برز اسم أحمس الأول فجأة في النصوص المصرية على أنه هو الذي طرد الهكسوس نهائيًّا من مصر. وأحمس وإن كان من نسل ملوك الأسرة السابعة عشرة؛ إلا أنه يعتبر مؤسسًا للأسرة الثامنة عشرة، وقد استأنف الجهاد بعد سلفه "كاموزا" ومضى في حربه ضد الهكسوس إلى أن سقطت عاصمتهم "أواريس" في يده، ثم طاردهم إلى فلسطين؛ حيث تحصنوا في "شاروهن" ولكن حاصرهم فيها ثلاثة أعوام إلى أن سقطت هي الأخرى في يده, وبهذا تم انتصاره عليهم وقضى على قواتهم نهائيًّا. ومن المصادر المهمة عن الأسرة الثامنة عشرة في شطرها الأول بصفة عامة وعن عهد أحمس بصفة خاصة نصوص مقبرتين لضابطين معمرين اشتركا مع أحمس في حروبه ضد الهكسوس واستمرا في الخدمة العسكرية في عهد خلفائه, وكان كل منهما يدعى أحمس كذلك؛ ولكن أحدهما كان يعرف باسم "أحمس بن نخب" أما الآخر فكان اسمه "أحمس بن أبانا"1، وهذه النصوص تصف لنا بعض تفصيلات المعارك التي خاضها الملك أحمس في كفاحه ضد الهكسوس كما تشير إلى حروبه في النوبة، وقد وجدت آثار أخرى

_ 1 Urk.IV, pp. I ff & 36 ff.

من عهده تثبت أنه أخضع شمال النوبة وشيد هناك إحدى القلاع وبدأ وضع سياسة لإدارة هذه البلاد بتعيين حاكم عسكري عليها وإسناد شئونها المالية والإدارية إلى أمير نخن "إقليم الكاب". ويبدو من نصوص خلفها أحمس أن ثلاث سيدات كان لهن أكبر الأثر في حياته بصفة خاصة وفي تاريخ مصر في تلك الآونة بصفة عامة. وأولى هذه السيدات هي "تتي شري" جدة أحمس التي ظل وفيًّا لذكراها وبنى لها قبرًا رمزيًّا في أبيدوس وضع به وضع به لوحة تذكارية، وثانيتهن هي والدته "إعح حتب" التي لعبت دورًا خطيرا في الكفاح ضد الهكسوس يشير إليه ولدها أحمس في لوحة أقامها بالكرنك بقوله: "امدحوا سيدة البلاد وسيدة جزر البحر المتوسط, فاسمها مبجل في جميع البلاد الأجنبية, وهي التي تضع الخطط للناس، زوجة ملك وأخت ملك وأم ملك وهي العظيمة القديرة، وهي التي تهتم بشئون مصر ... جمعت جيشها وهيأت الحماية للناس وأعادت الهاربين وجمعت شتات المهاجرين, وهدأت ما حل بالصعيد من خوف, وأخضعت من كان فيه من العصاة ز.. إلخ"1. ونظرًا لما يبدو من تأثر بعض حلي هذه الملكة وخنجرها ببعض المظاهر الفنية التي سادت جزر بحر إيجة؛ فإن نفرا من المؤرخين يميل إلى الاعتقاد بأن هذه الملكة تنتمي أصلًا إلى جزيرة كريت؛ ولكن لا يوجد ما يؤيد ذلك؛ وإنما يحتمل أن تلك المؤثرات كانت ترجع إلى وجود علاقات بين مصر وكريت في ذلك الوقت؛ بل ولا يستبعد أنهما كانا متحالفين، وبمقتضى هذا التحالف قدم أهل كريت بعض المعاونة للمصريين في كفاحهم ضد الهكسوس وأن "إعح حتب" لعبت دورًا هامًّا في هذا التحالف. أما السيدة الثالثة فهي "أحمس نفرتاري" التي كانت زوجة لكل من أخويها "كاموزا" و"أحمس" على التوالي وقد عبدت منذ أواخر الأسرة

_ 1 Breasted, AR II, - 29; Urk. IV 14-24.

الحادية والعشرين؛ حيث أقيم لها معبد في طيبة واعتبرت هي وولدها "أمنحتب الأول" الإلهين الحارسين للجبانة. أمنحتب الأول: تولى العرش وهو صغير؛ ولكنه كان خبيرًا بالملك ومقدامًا كأسلافه, فنصوص الضابطين المشار إليهما فيما سبق "أحمس بن أبانا وأحمس بن نخب1" تشير إلى أنه ذهب في حملة إلى النوبة وتوغل فيها إلى سمنة "جنوب الشلال الثاني" على الأقل حيث ترك "ثوري" الحاكم المصري على النوبة في عهده نصين أحدهما في سمنة والثاني في أورونارتي "جزيرة الملك"، وهما مؤرخان بالسنة السابعة والسنة الثامنة من عهد أمنحتب على التوالي، ومن المرجح أن السبب في قيام الملك بهذه الحملة يرجع إلى حدوث ثورة في النوبة. ويبدو أنه تعقب زعيم الثورة إلى الصحراء أو أن الثائرين كانوا من القبائل التي تعيش على حافتها؛ لأن "أحمس بن أبانا" يشير في نصوص مقبرته إلى أنه قاد الملك في عودته إلى مصر من منطقة "البئر العلوي" في يومين فقط؛ فالإشارة إلى "البئر العلوي" تجعل من المحتمل وصول هذا الملك إلى منطقة صحراوية حينما قام بحملته هذه، ويذكر أحد كهنة آمون أن نفوذ الملك وصل إلى منطقة "كاروي" أي: إلى قرب "نبتة" عند الشلال الرابع؛ ولكن لا يوجد لدينا من الأدلة ما يؤيد وصول نفوذه إلى مثل هذا المكان البعيد، ولا تقتصر جهوده الحربية على النوبة وحدها فقد أشارت نصوص "أحمس بن نخب" إلى قيامه بغزوة ليبية؛ ولكنه لم يذكر سبب هذه الحملة أو المكان التي وصلت إليه. والظاهر أن الأمن كان مستتبًّا في داخلية البلاد كما أن الحالة هدأت فيها؛ فلم يعد الملك في حاجة إلى مزاولة النشاط العسكري وتفرغ للأعمال

_ 1 انظر هامش ص158.

السليمة؛ حيث قام بتشييد بعض المباني وعم الرخاء في عهده، ويعد معبده الجنزي من أشهر مبانيه وقد شيده على الضفة الغربية للنيل أمام الأقصر، كذلك ترك هيكلًا من المرمر عثر على أحجاره ملقاة في أنقاض مباني الكرنك فجمعت وأعيد تركيبها، وهو يعد من أجمل ما عثر عليه من هياكل الدولة الحديثة. وقد مات دون أن يترك من يخلفه على العرش فخلفه "تحتمس الأول" الذي يرجح أنه كان من الأمراء, وإنه اكتسب حق ولاية العرش عن طريق زواجه بابنة "أمنحتب الأول" وكان اسمها "أحمس". تحتمس الأول: بدأ حكمه بإصدار مرسوم ينبئ عن اعتلائه للعرش، وقد أرسل هذا المرسوم إلى "ثوري" حاكم النوبة ليعلنه على الملأ، ونكاد نلمس في هذا المرسوم ما يشير إلى حدوث بعض النزاع على العرش قبل أن تستقر الأمور لتحتمس الأول الذي ما كاد ينتهي من ذلك حتى قام في السنة الثانية من حكمه بحملة إلى شمال السودان مد حدوده فيها إلى "كورجوس" "Kurugus"1 "جنوب أبو أحمد" أو إلى "مروي" أي أنه توغل إلى أبعد من الأماكن التي وصل إليها أسلافه، ولا بد أنه كان يهدف إلى ضمان بقاء النوبة تحت سيطرة مصر وخضوعها تمامًا لسيادتها وأراد أن يتصل اتصالًا مباشرًا بالمناطق الغنية التي كانت تمد مصر بكثير من الحاصلات, وأن يضمن بقاء الطريق التجاري إليها في يده سواء كان ذلك عن طريق النيل أو الطريق البري، ولهذا استولى على تلك الأماكن التي إلى جنوب الشلال الثالث وأمر بتطهير مجرى النيل عند الشلال الأول. وقد اهتم تحتمس الأول كذلك بالجهات الواقعة في شمال مصر, وتوغل

_ 1 JEA 36, PP. 36-8.

في فتوحاته كثيرًا؛ حيث يرجح أنه وصل إلى منحنى الفرات الذي عرفه المصريون بأنه النهر ذو المياه المعكوسة "أي: الذي يجري في عكس الاتجاه الذي يسير فيه نهر النيل"، وفي هذه البقعة التي وصل إليها انصرف إلى الصيد بعض الوقت وترك هناك لوحة لبيان حدود مملكته، ومن ذلك يتضح أنه كان يحكم إمبراطورية تمتد من منطقة الشلال الرابع إلى شمال سورية عند منحنى نهر الفرات، وقد درج بعض فراعنة الدولة الحديثة فيما بعد على الذهاب لصيد الفيلة في منطقة منحنى الفرات؛ مما يدل على أن هذه المنطقة كانت حافلة بالأحراش في تلك العصور. ويحدثنا المهندس إنيني الذي عاش ابتداء من عهد أمنحتب الأول بأن سيده تحتمس الأول كلفه ببناء مقبرته وأن هذه المقبرة نحتت في الصخر في بقعة لا يعلمها غيره1، والظاهر أن تحتمس الأول كان أول فرعون يقرر عدم وجود بناء هرمي أو غير هرمي يعلو سطح الأرض فوق مقبرته حتى يخفي مكانها؛ فلا تمتد إليها أيدي اللصوص، وهذه البقعة التي نحتت فيها مقبرة تحتمس الأول أصبحت جبانة لملوك الدولة الحديثة, وهي المعروفة حاليًا باسم "وادي الملوك"، وتقع على الضفة الغربية للنيل أمام مدينة الأقصر، ومن المباني التي شيدها تحتمس كذلك معبده الجنزي الذي بناه على حافة الوادي بالقرب من مقبرته، كما شيد معبدًا كبيرًا في منطقة الكرنك أقام أمامه مسلتين كبيرتين وبنى بهوا عظيمًا به أعمدة مربعة على واجهاتها تماثيل أوزيرية2. وقد حكم هذا الملك نحو ثلاثين عامًا كانت البلاد فيها قوية يمتد نفوذها

_ 1 Breasted, A R II, 90-98. 2 أي: تماثيل بهيئة الإله أوزير الذي اعتقد الفراعنة أنه إله الموتى الحاكم في العالم الآخر, وكانوا يمثلونه بهيئة إنسان ملتف بالأكفان ويمسك صولجانًا في إحدى يديه وسوطًا في يده الأخرى, وقد يقبض على عصا الراعي بالإضافة إلى ذلك.

في الجنوب والشمال؛ ولكن أحوال القصر الداخلية كان يسودها الغموض؛ مما دعا إلى الظن بأن أفراد البيت المالك قد انقسموا بعضهم على البعض الآخر، وربما كان سبب ذلك أن الملكة "أحمس" التي تزوجها تحتمس الأول -واكتسب بذلك حق اعتلاء العرش- لم تنجب ولدًا؛ بل أنجبت ابنتين كبراهما حتشبسوت أي: إنها لم تنجب وليًّا للعهد، في حين أن زوجات أخريات قد أنجبن له أبناء من الذكور كان أكبرهم "تحتمس الثاني" الذي يرجح أنه كان ضعيفًا إزاء أخته حتشبسوت ابنة الزوجة الشرعية لتحتمس الأول؛ ولذا بدأت سلسلة من المؤامرات فانقسم موظفو القصر وكبار موظفي الدولة ورجالاتها إلى طوائف تؤيد كل منها أحد الطرفين, ثم انتقل هذا النزاع بين حتشبسوت وبين تحتمس الثالث؛ مما أدى إلى اختلاف المؤرخين في شأنهم وخرجوا بعدة آراء ونظريات عن صلة القرابة بين هؤلاء الملوك وترتيب حكمهم وخلقوا من ذلك مشكلة تعرضوا لها بالبحث بعض الوقت؛ نظرًا لأن اسم حتشبسوت أزيل من بعض الآثار وكتب بدلًا منه اسم تحتمس الأول أو الثاني أو الثالث، ومهما كان الأمر؛ فقد أصبح من المتفق عليه أن تحتمس الأول كان والد كل من حتشبسوت وهي من الزوجة الشرعية وتحتمس الثاني وهو من زوجة غير شرعية، وأن تحتمس الثالث كان بالمثل ابنًا لتحتمس الثاني من زوجة غير شرعية أيضًا1, وأنه تزوج من أميرة من البيت المالك كانت تدعى حتشبسوت "مريت رع" هي الأخرى، وقد بدأ حكمه تحت وصاية عمته "حتشبسوت الكبرى" ثم انفرد بالحكم بعد ذلك. تحتمس الثاني: تزوج من أخته حتشبسوت واعتلى العرش؛ ولكن سرعان ما دَبَّ الخلاف

_ 1 والدة تحتمس الثاني كانت ملكة أقل أهمية من الملكة الشرعية, وكانت تدعى موت نفرت، أما والدة تحتمس الثالث؛ فكانت محظية لتحتمس الثاني وتدعى إيزيس، انظر Sir A. Gardiner, "Egypt of the Pharaoahs", pp, 180-181.

بينهما واضطربت الأمور، وربما كان لذلك أثره الملموس في مستعمرات مصر الجنوبية؛ فأراد الأمراء المحليون أن ينفضوا عنهم سلطان مصر, وقامت الثورة في السودان؛ إلا أن تحتمس الثاني أرسل حملة إلى هناك قامت بإخضاع الثورة وأحضرت بعض الرهائن ومن بينهم أحد الزعماء، وقد ذهب بعض المؤرخين إلى أن جيوش تحتمس الثاني وصلت إلى جبل البرقل عند الشلال الرابع ولكن من العسير تأكيد ذلك، كذلك يحتمل أن ثورة أخرى قامت أثناء حكمه في شرق مصر فأدبها الجيش المصري. ورغم قصر المدة التي حكمها؛ فإننا نجد اسمه منقوشًا على كثير من الآثار؛ مما يدل على أنه كان شديد الاهتمام بالمباني، وقد نعمت البلاد بشيء من الاستقرار في جزء من عهده على الأقل. حتشبسوت: بموت تحتمس الثاني بدأت فترة صراع بين حتشبسوت وأنصارها من جهة وبين تحتمس الثالث وأنصاره من جهة أخرى؛ إذ ترك المهندس "إنيني"1 المشار إليه نقوشًا يفهم منها أن تحتمس الثالث تولى الملك بعد والده تحتمس الثاني؛ ولكن حتشبسوت هي التي تدير شئون البلاد وصاحبة الأمر "لأنها البذرة الممتازة التي خرجت من الإله"، ويبدو أن تحتمس الثالث الذي يرجح أنه كان ابنًا لتحتمس الثاني من زوجة أخرى غير حتشبسوت, كان صبيًّا يشغل وظيفة كهنوتية صغيرة في معبد الكرنك حينما توفي والده، واشتد النزاع بين أنصاره وبين أنصار حتشبسوت؛ فاستعان أنصاره بكبار كهنة آمون, الذين أعلنوا أن الإله آمون "المعبود الرسمي للإمبراطورية" قد اختاره ليجلس

_ 1 انظر ص162.

على العرش، وتم اختياره فعلًا ولكنه كان طوال حياة عمته حتشبسوت "وزوجة أبيه" مجرد شريك لا نفوذ له في الحكم؛ بينما وضعت حتشبسوت كل مقاليد الأمور في يدها ثم أصبحت هي كل شيء, ولم يرد له ذكر إلى أن ماتت وانفرد هو بالحكم. والظاهر أن الحرب كانت عنيفة بين حتشبسوت وزوجها تحتمس الثاني ثم بينها وبين ابن زوجها تحتمس الثالث؛ حتى إنها لجأت إلى اختراع القصص التي تشير إلى حقها المقدس في الملك, مع أن حكم الملكات في مصر والشرق القديم لم يكن مستساغًا بصفة عامة، ووصلت في ذلك إلى أبعد مدى فنقشت مناظر تفصيلية على جدران معبد الدير البحري الذي شيدته في البر الغربي لطيبة "الأقصر" تمثل فيها قصة مولدها التي ادعت فيها بأنها ليست ابنه تحتمس الأول بل ابنة الإله آمون نفسه الذي تشكل في صورة أبيها وأنجبها من صلبه, كما بينت في بعض هذه المناظر أن أباها تحتمس الأول بايعها بالملك في حياته, وأن كبار الكهنة وكبار رجال الدولة قد وافقوه على ذلك, أي أن كلًّا من تحتمس الثاني وتحتمس الثالث كانا طبقًا لتلك النقوش مغتصبين لحقها المشروع, أو على الأقل لم يكن حكمهما شرعيًّا كحكمها. ومن المرجح أن هذه الفكرة كانت بإيحاء من أنصارها؛ حيث يبدو أنها تمكنت من أن تحيط نفسها بحاشية من الرجال الأقوياء الذين تمكنت بفضلهم من الاستمرار صاحبة السلطة في البلاد، ومن أهم هؤلاء المهندس "سنموت" الذي أشرف على تربية ابنتها "نفرورع" التي كانت تعدها لأن تخلفها على العرش؛ ولكنها ماتت وهي صغيرة. ومهما كان الأمر فإن عهدها كان عهد رخاء وطمأنينة، ولا جدال في أنها كانت قديرة في الحكم استطاعت أن توجه نشاط الدولة إلى التجارة والأعمال الإنشائية؛ إذ أرسلت حملة إلى بلاد بونت جلبت البخور وأشجار المر

وبعض حاصلات المناطق الاستوائية وكميات كبيرة من الذهب من أجل معابد الإله آمون، وقد صورت مناظر هذه البعثة على جدران معبدها في الدير البحري المشار إليه، كذلك شيدت كثيرًا من المباني أهمها معبد من الجرانيت في الكرنك وصالة كبيرة أمامها حسلتان عظيمتان في نفس المنطقة, كما أنها أصلحت كثيرًا من المباني المتهدمة. ويبدو أنها كانت من قوة العزيمة والنفوذ طوال مدة حكمها التي بلغت نحو ثمانية عشر عامًا؛ بحيث أصبح تحتمس الثالث في عهدها منزويًا ويكاد يكون منسيًّا، ولذا ينسب إليه أنه بعد وفاتها صب جام غضبه على ذكراها فمحا اسمها من معظم آثارها, وحطم الكثير من تلك الآثار ومن آثار أنصارها ومعاونيها. تحتمس الثالث: يبدو أن العهد السلمي الطويل الذي نعمت به مصر في ظل حكم حتشبسوت قد أطمع البلاد الأجنبية الخاضعة لمصر في أن تتخلص من سيادتها؛ لأن عدم رؤية تلك البلاد للجيوش المصرية خلال هذه الفترة جعلها تتوهم أن مصر ضعيفة تعجز عن المحافظة على مستعمراتها؛ ولذا أخذت تميل إلى الثورة بغية التحرر ولكن -لحسن حظ مصر- شاءت الأقدار أن يكون على عرشها تحتمس الثالث الذي لم يتوانَ عن توطيد سلطانها, ولم يدخر في سبيل ذلك جهدًا على الإطلاق؛ فما أن انفرد بالحكم حتى خرج في حملة إلى فلسطين؛ حيث كانت جيوش بعض الإمارات بزعامة أمير "قادش" قد تجمعت عند مدينة "مجدو"، وبعد أن سار حوالي 11 يومًا وصل إلى بلدة "يحم Yehem"، وهناك كانت أمامه ثلاثة طرق ليصل إلى مجدو حيث تجمع هؤلاء الأعداء؛ وأحد هذه الطرق قصير ضيق محصور بين سلسلة من التلال ولا يتسع لأكثر من عربة حربية واحدة, أما الطريقان الآخران فطويلان يدوران حول سفح جبال الكرمل، عندئذٍ

جمع تحتمس الثالث مجلسًا حربيًّا مع قواده الذين نصحوه بعدم تعريض الجيش للخطر باتخاذ الطريق القصير؛ ولكنه أصر على أن يفاجئ عدوه بالمسير في ذلك الطريق؛ حيث لا يتوقع العدو إقدامه على مثل هذه المخاطرة، وفي فجر اليوم التالي كان على رأس جيشه مسرعًا باختراق هذا الممر، ثم انتظر إلى أن تم تجمع الجيش, وهناك عسكر بجيشه عند مدخل وادي قينا، وفي فجر اليوم التالي هجم المصريون على مجدو؛ حيث انتصروا على المدافعين عنها؛ ولكنهم شغلوا بنهب معسكر الأعداء فأتاحوا لهؤلاء فرصة الهرب إلى داخل المدينة والتحصن وراء أسوارها, وظل المصريون يحاصرون المدينة سبعة أشهر إلى أن استسلمت لهم؛ ولكن زعيم قادش تمكن من الفرار، أما بقية الزعماء فقد قدموا ولاءهم لتحتمس الثالث الذي تقدم بعد ذلك شمالا واستولى على كل ما صادفه من بلاد دون عناء إلا ثلاث مدن يبدو أنها قاومته بعض المقاومة، ومن الغنائم التي وقعت في أيدي المصريين يمكن أن نتصور مقدار الثراء الفاحش الذي كان يسود تلك البلاد؛ حيث نجد أن من بين هذه الغنائم عربات حربية مصفحة بالذهب والفضة, وأواني ذهبية, وخشب ثمين مصفح بالفضة. وكانت هذه الحملة بداية طيبة؛ إذ إن نجاحه الساحق فيها جعله يوالي نشاطه العسكري في تلك البلاد؛ فكان يخرج إليها كل عام تقريبًا حيث كان يذهب إليها في أوائل الصيف ويعود منها عند إقبال الشتاء، وقد بلغ عدد هذه الحملات التي خرج فيها إلى آسيا ست عشرة حملة كان ينظم خلالها شئون البلاد, ويشرف على تنفيذ ما كان يأمر به من معابد ومبانٍ. ومن خلال حملاته الخمسة الأولى كان يستولي على بعض البقاع الجديدة وأعد بعض الموانئ السورية لكي تكون قواعد لأسطوله ولضمان عدم الانقضاض على قواته من الخلف عند توغلها في الأراضي السورية نحو الفرات؛ إذ إنه كان يهدف إلى الوصول إلى ذلك النهر؛ ولكن عدم استيلائه على قادش كان يحول

دون ذلك، وما إن وافت السنة الحادية والثلاثون من حكمه حتى قام بحملته السادسة, وفيها تعاون الأسطول مع جيشه البري؛ إذ قام الأسطول بتموين الجيش ونقل المدد إليه, وبذلك تمكن من الاستيلاء على قادش وأصبح من اليسير أن يصل إلى الفرات بعد ذلك، وفي حملته الثامنة تمكن من الاستيلاء على مدينة قمرقميش وأقام لوحة إلى جوار لوحة جده تحتمس الأول. ومن المرجح أن هذه الحملة الأخيرة كانت ذات أثر كبير في الممالك القوية المجاورة؛ حيث بدأت تخطب وده، فقدمت مملكة ميتاني ولاءها وهداياها إلى العاهل المصري, كما قدمت مملكة الحيثيين الهدايا الثمينة إليه طلبًا لصداقته, وكذلك فعلت مملكتا أشور وبابل؛ فأصبحت مصر الدولة الأولى وصاحبة النفوذ الأعلى في غرب آسيا، وكان أسطولها القوي يهيمن على ثغور فلسطين وسورية ويجعلها تحت رحمته. وكانت آخر حملات تحتمس الثالث في آسيا في السنة الثانية والأربعين من حكمه1؛ لأن مدينة قادش أعلنت العصيان من جديد، وفي هذه المرة كان يعاونها ملك ميتاني وأمير تونيب؛ إلا أن تحتمس الثالث استطاع أن يحطمها للمرة الثانية؛ وبذلك قضى على كل معارضة للنفوذ المصري في تلك الجهات, حيث إننا نعلم أنه عاش بعد ذلك نحو اثني عشر عامًا لم يحدث خلالها أن اضطر للذهاب إلى هناك. ويبدو أن الهدوء كان يسود أملاك مصر في جنوب الوادي؛ حيث تشير حوليات تحتمس الثالث بالكرنك إلى ورود جزيتها بانتظام ابتداء من السنة الخامسة والعشرين من حكمه على الأقل إلى السنة التاسعة والثلاثين

_ 1 عن حملات تحتمس الثالث جميعها، انظر: Urk. IV, pp. 647 ff, Breasted, A R II, 408 ff.

فلم يكن هناك ما يدعو لتوجيه حملات إليها خلال هذه الفترة؛ غير أن لوحة عثر عليها في جبل البرقل تدل على أن مصر قامت ببعض النشاط العسكري في السودان في السنة السابعة والأربعين من حكمه، ومن المرجح أنه لم يشترك شخصيًّا في هذا النشاط بل كلف بعض قواده بالقيام به, ولكنه قام بنفسه على رأس حملة إلى السودان في السنة الخمسين من حكمه. ولا شك في أن تحتمس الثالث كان قائدًا ممتازًا لشعبه لم تقتصر مميزاته على كفاءته الحربية فحسب؛ بل كانت له نواح عظمته الأخرى التي مكنته من أن يحكم إمبراطورية واسعة "خريطة رقم3" ويدير شئونها وبشرف على كل ما يتعلق بتصريف الأمور فيها ويعرف ما يحدث في مختلف أنحائها، وقد اتبع من الوسائل ما يمكن أن نعده آخر صيحة في الدبلوماسية الحديثة؛ إذ إنه كان يحضر أبناء أمراء البلاد التي أخضعها لكي ينشئهم في مصر مع أبناء كبار رجال الدولة حتى يشبوا على حب مصر وصداقتها1, كما أنه حاول الإصلاح في كافة النواحي وحاول الانتفاع بكل ما يمر به, ومن ذلك مثلًا أنه أدخل إلى مصر كل ما وجده صالحًا من نباتات وحيوانات غريبة، وربما كان يدخل كذلك إلى البلاد الأخرى ما كان يلائمها من نباتات وحيوانات مصرية، ومن المحتمل أنه كان يشجع بعض الأجانب على القدوم إلى مصر ولم يمانع في بقائهم بها؛ لأن مظاهر الفن والحضارة التي كانت سائدة في سورية وبلاد النهرين أخذت تظهر في مصر بصورة واضحة. وكان تحتمس الثالث حاكمًا منصفًا يكافئ الممتازين من رجاله ويقدر ذوي المواهب ويحسن اختيار الأكفاء, فقد كافأ أحد ضباطه ويدعى

_ 1 Urk. IV, p. 690: Breasted, A R. III 467; T. Sâve Soederbergh, Aegypten & Nubien, "Lund 1941", pp. 185, 228- & 231.

خريطة رقم "3" الإمبراطورية المصرية في عهد تحتمس الثالث

"أمن إم حب"؛ لأنه أنقذ حياته حينما كان يصطاد في سهل الفرات وهاجمة أحد الفيلة, وكان ذلك أثناء حملته الثامنة. كما أنه أنصف سلفه العظيم سنوسرت الثالث1 بتخليد ذكراه وخاصة في بلاد السودان؛ حيث اعتبره إلهًا حاميًا للنوبة، وكان حين يختار رجاله الأكفاء لشغل الوظائف المهمة يوجههم ويزودهم بنصائحه وتعليماته كما يتمثل ذلك عندما أسند منصب الوزارة إلى "رخ مي رع"، وقد ظهر في عهد هذا الملك عدد من كبار الشخصيات ذوي الكفاءات الممتازة، ومن المناظر التي نقشت على جدران مقابرهم يمكن أن نتبين مظاهر الرقي في الحياة الاجتماعية التي سادت عصره ومقدار الثراء الذي أخذ يتدفق على مصر فيه، ومما لا شك فيه أن قبرص وكريت وغيرهما من أقطار ومنطقة حوض البحر المتوسط الشرقي التي لم تكن خاضعة له كانت تخطب ود مصر وتحرص على علاقات الصداقة معها. ومع أن تحتمس الثالث بذل جهودًا ضخمة في حروبه؛ فإنه لم يهمل في المشروعات العمرانية وشيد كثيرًا من المباني في مصر والنوبة, من أهمها المعبد الكبير الذي بناه في الكرنك وكانت بإحدى حجراته قائمة الكرنك التي أشير إليها في المصادر التاريخية2، كذلك كان من أهم مبانيه في تلك البقعة صالة كبيرة للاحتفالات وأحد الصروح الكبيرة يعرف في الكرنك بالصرح السابع، وقد أقام عددًا كبيرًا من المسلات في مختلف أنحاء القطر وخاصة في منطقة الكرنك, وبعض هذه المسلات نقل إلى جهات مختلفة من العالم مثل: القسطنطينية وروما ولندن ونيويورك. أمنحتب الثاني: نشأ هذا الملك في عهد وصلت فيه مصر غاية مجدها العسكري، وقد عني

_ 1 خامس ملوك الأسرة الثانية عشرة, انظر أعلاه ص143-144. 2 انظر أعلاه ص90.

والده بتدريبه على الرماية منذ الحداثة, كما عني بتثقيفه؛ فأنشأ مدرسة في القصر ليعلمه فيها مع أبناء كبار رجال الدولة وأمراء آسيا والنوبة, وبذلك حقق والده هدفًا هامًّا إذ ارتبط هؤلاء جميعًا برباط الصداقة والود، وقد عثر على لوحة بالقرب من "أبو الهول" تصف فروسية أمنحتب الثاني وحبه للرياضة ومهارته فيهما. ولما تولى العرش لم يكد يسمع برغبة بعض الولايات السورية الشمالية في الانفصال عن مصر حتى تقدم نحوها على رأس جيشه؛ حيث هزم الثائرين، وفي عودته إلى طيبة أحضر سبعة من أمراء المدن السورية الثائرة، قتل ستة منهم في طيبة وأرسل السابع إلى نباتا مقر الحكم المصري في السودان ليشنق هناك؛ حتى يكون عبرة لمن تحدثه نفسه من أمراء السودان بالثورة على مصر، وبهذا احتفظ بهيبة مصر فتابعت البلاد الأجنبية إرسال هداياها وجزيتها. وفي السنة التاسعة من حكمه علم بفتنة صغيرة في فلسطين؛ فانتهز الفرصة وقام بجولة تفتيشية بعد أن أخمد الثورة، وقد دون أخبار هاتين الحملتين على لوحتين إحداهما بالكرنك والثانية عثر عليها في ميت رهينة قرب سقارة1, كما وصف في هاتين اللوحتين بطولته وقوته البدنية. ويغلب على الظن أنه استطاع أن يمد النفوذ المصري في جنوب الوادي إلى أبعد من الحدود التي وصل إليها أسلافه؛ حيث عثر على آثار له في جهات كثيرة هناك, وبعد أن حكم ستة وعشرين عامًا مات وخلفه تحتمس الرابع. تحتمس الرابع: يحتمل أنه لم يكن ولي العهد الشرعي كما يمكن أن يستنتج ذلك من اللوحة

_ 1 ASA. XLII "1943", pp, 1-13.

التي أقامها بين قدمي "أبو الهول"؛ إذ يذكر فيها أن الإله حور آختي "الذي يمثله أبو الهول" جاءه في المنام وبشره بأنه سيصبح ملكًا وطلب منه إذا تحقق ذلك أن يزيل الرمال التي تجمعت من حوله، ويذهب بعض المؤرخين إلى أن هذا يدل على أن تحتمس الرابع دبر مؤامرة مكنته من إبعاد أخيه ولي العهد عن العرش، وأن هذه المؤامرة قد أغضبت عليه كهنة آمون وحدثت بينه وبينهم جفوة جعلته يتجه إلى كهنة الشمس ويحاول إحياء عبادة "رع" حور آختي كما شجع عبادة قرص الشمس "آتون"، وهو أول من أمر برسم هذا الإله وهو يعطى الحياة, وهذا الرمز الجديد هو الذي اتخذه فيما بعد حفيده إخناتون. ومع كل فقد أثبت تحتمس الرابع أنه كان جديرًا بالحكم؛ حيث إنه أقام في بداية عهده بإخماد الثورة التي نشبت في بعض المدن السورية, كما أنه ذهب بنفسه إلى السودان؛ حيث قضى على ثورة نشبت هناك. وفي عهده كانت ممالك ميتاني وبابل وآشور وخيتا "الحيثيون" تتنافس فيما بينها على السيادة, ولما شعرت مملكة ميتاني بخطر الحيثيين ازدادت تقربًا لمصر، وقد شجع تحتمس الرابع هذا التقارب ودعمه بالزواج من ابنة ملك ميتاني، ويرى بعض المؤرخين أن ازدياد الصلات بين مصر وآسيا واختلاط دم الفراعنة بالدماء الآسيوية كان من الأسباب التي أدت إلى إدخال الليونة أو النعومة وحب الملذات في دماء الملوك, هذا ولم يحكم تحتمس الرابع أكثر من تسع سنوات كان فيها نشطًا للغاية سواء من الناحية العسكرية أو من ناحية تنظيم شئون البلاد الداخلية وترك آثارًا في كثير من الجهات. أمنحتب الثالث: الظاهر أن أمنحتب الثالث لم يجد ما يعكر صفو مملكته؛ إذ إنها عاشت طوال عهده تقريبًا وهي تنعم بالسلم والرخاء، ولا نكاد نجد ما يدل على خروجه في حملة

حربية إلا في السنة الخامسة من عهده؛ حيث ذهب إلى النوبة وتوغل فيها كثيرًا حتى ليظن أنه وصل إلى العطيرة1؛ ولكن مما لا شك فيه أن ملكه قد امتد إلى "كاروى" عند الشلال الرابع تقريبًا، ولم يجد بعد ذلك ما يضطره إلى الخروج في أية حملة حربية في عهده الطويل، ومع أنه أغرم بالصيد وقتًا ما إلا أنه لم يكن محبًّا للحرب. ولما كان الأمن قد استتبَّ في أنحاء الدولة؛ فإن الجزية والهدايا تدفقت إلى مصر بانتظام، وأصبحت خزائن فرعون مليئة بالذهب والفضة، وكان الملك الشاب محبًّا لحياة الترف والبذخ فانغمس فيها, وأدت هذه الحياة به طبعًا إلى الانصراف عن نشاطه العسكري والرياضي أيضًا, كذلك أقبل رجال الحاشية على نفس الاتجاهات التي أقبل عليها مليكهم, فنعموا بحياة كلها ترف وبذخ مما أضعف شأن مصر وأثر في سمعتها في الخارج, وكان لذلك أثره السيئ فيما بعد. ومع أن أمنحتب الثالث كان ميالًا إلى الاستمتاع في حياته وتغالى في ذلك إلى أبعد حد؛ إلا أنه كان على درجة كبيرة من الذكاء والمهارة السياسية؛ فحينما تولى الملك أراد أن يبرر جلوسه على العرش -لأن أمه كانت آسيوية وزوجته "تي" كانت من عامة الشعب, وهما أمران لم يعتدهما المصري في فراعنته- عمد إلى بناء معبد الأقصر وصور على جدرانه قصة تحاكي القصة التي سبق لحتشبسوت وأعوانها أن يخترعونها للتدليل على شرعية اعتلائها للعرش؛ حيث إنه بالمثل ادعى أن الإله آمون اتصل بوالدته وأنجبه، فأصبح بذلك من سلالة آمون "الإله الرسمي للدولة" نفسه أي: إنه لم يكتسب حقًّا شرعيًّا في الملك فحسب بل ومقدسًا أيضا. هذا وقد أقبل على مصاهرة ملوك الممالك المجاورة وعمت صلاته بهم

_ 1 ما زال أمر وصول أمنحتب الثالث إلى العطيرة مشكوك فيه, قارن T, Save Soderbergh, op. cit., pp. 160 ff & 'Breasted, A R II, 846.

إلا أن ميله الغريزي نحو النساء لم يكن ليقف عند حد, وتزوج من أميرات من ميتاني وبابل وأشور فضلًا عما كان يرسله إليه حكام بعض المدن السورية من فتيات جميلات مع الجزية. ولا شك في أن علاقات الود التي أوجدها مع الملوك لم تكن خالصة؛ لأن هؤلاء كانوا يأملون دائمًا في الحصول على بعض الخيرات التي كانت تتدفق إلى مصر وخاصة من الذهب؛ فمثلًا كان ملك ميتاني كثيرًا ما أرسل إلى صهره "أمنحتب الثالث" طالبًا المزيد من هذا المعدن, مشيرًا في خطاباته إلى كثرته في مصر إلى درجة أنه كان "كالتراب في وفرته". ومن المعروف أن ملوك الأسرة الثامنة عشرة كانوا ينسبون أنفسهم للإله آمون، وقد اتبعوا سنة تقديم الهدايا لهذا المعبود عقب كل نصر يحرزونه, وشيدوا له معابد هائلة أوقفوا عليها أوقافًا ضخمة؛ فزاد ذلك من ثراء كهنته وعظم نفوذهم إلى درجة أن بعض الملوك كانوا يدينون لهم باكتسابهم حق اعتلاء العرش، وبالطبع وجد هؤلاء أنفسهم مضطرين للإسراف في مكافأتهم حتى شعر فريق من الملوك بأن نفوذ كهنة آمون قد أصبح من الخطورة؛ بحيث يهدد سلطان الملك، وقد رأى أمنحتب الثالث بثاقب فكره أن هذا الأمر أصبح يتطلب علاجًا فعالًا وخاصة لأن سلفه تحتمس الرابع قد بدأ يشجع بعض العبادات القديمة، وربما كان لتغلغل النفوذ الآسيوي في البلاط أثره في محاولة التخلص من سيطرة كهنة آمون والإقلال من شأن معبودهم، كما أن اتساع رقعة الإمبراطورية كان مما يدعو إلى التفكير في إيجاد معبود يقبله الجميع ويدينون له عن رضًا وارتياح, وهذا لا يتسنى في حالة الإله آمون؛ إذ كانت عبادته يكتنفها الغموض والإبهام، وعلى ذلك اتجهت الأنظار إلى تشجيع عبادة إله الشمس؛ لأن نعمه وأفضاله كانت ظاهرة واضحة لجميع الشعوب التي شملتها الإمبراطورية. وبالفعل بدأت هذه المحاولات منذ عهد تحتمس الرابع على الأقل؛ إذ إنه أعاد الاهتمام بشأن الإله رع حور آختي، وحاول أن يوحد بين عبادة آمون وعبادة قرص

الشمس؛ حيث يشير في أحد النصوص إلى قرص الشمس على أنه هو الإله آمون، وحينما تولى أمنحتب الثالث كان كهنة الإله آمون ما زالوا يتمتعون بالنفوذ الأعلى؛ ولذا أخذ يشجع الديانات الأخرى وخاصة عبادة الشمس التي كانت ذات مركز عظيم لا من عهد تحتمس الرابع فحسب بل من عهد الدولة القديمة أيضًا. ولم يكتف أمنحتب الثالث بمجرد تشجيع المعبودات القديمة؛ بل أخذ يعلي من شأنها وحاول إيجاد بعض العبادات الجديدة رغبة منه في الإقلال من شأن آمون؛ فأطلق على زورق كان يتنزه فيه اسم "إشراق آتون" وعين أكبر أبنائه، "وكان يدعى تحتمس" كبيرًا لكهنة الإله بتاح في منف، ومع كل فقد ظل نفوذ آمون وكهنته على شدته؛ غير أن مقاومة هذا النفوذ لم تكن لتجد تشجيعًا أو قبولًا لدى عامة المصريين، وعلى ذلك نجد أن أمنحتب الثالث حينما استحدث عبادة شخصه الحي وعبادة زوجته "تي" لم يجرؤ على البدء بهما علانية في مصر؛ بل بدأهما بعيدًا في السودان, وخاصة لأن عبادة الملك الحي لم يسبق لها وجود في مصر. وكان أمنحتب الثالث ميالًا إلى تشييد العمائر التذكارية والمعابد والمباني الفخمة, ومن أهمها تلك المعابد التي شيدها في طيبة سواء في الشاطئ الشرقي أو الغربي للنيل والقصر الذي بناه لزوجته "تي" على الضفة الغربية للنيل قرب معبده الجنازي، وقد ألحق بهذا القصر بحيرة كبيرة كان يخرج للتنزه فيها مع زوجته في قاربه الذي سماه "إشراق آتون" وهو الذي أشرنا إليه فيما سبق. وفي أواخر عهده أشرك معه في الحكم ولده الثاني "أمنحتب الرابع" الذي عرف فيما بعد باسم "إخناتون" لأن أكبر أبنائه الذي أشرنا إلى تعيينه كبيرًا لكهنة بتاح توفي دون أن يعتلي العرش، وفي تلك الأثناء كانت مملكة الحيثيين تقوى وتشتد وأخذت تستولي على بعض الإمارات التي كانت خاضعة

لمصر أو حليفة لها، وكان الأمر يتطلب وجود ملك قوي من طراز تحتمس الثالث أو أمنحتب الثاني لكي يحافظ على الإمبراطورية؛ لكن أمنحتب الثالث كان قد أصبح شيخًا محطمًا ولم يلبث أن مات وترك ولده الضعيف يحكم البلاد. أمنحتب الرابع: تدل شواهد الأحوال على أن أمنحتب الرابع حينما اشترك مع والده في الحكم كان متأثرًا بفكرة إحياء عبادة الشمس في صورة "آتون"؛ ولكنه كان يفهم هذا المعبود لا على أنه "قرص الشمس" بل على أنه القوة الكامنة فيه، وقد أقام لهذه الديانة معبدًا في طيبة التي كانت تعد مقر عبادة الإله آمون، ولا بد أن كهنة آمون لم يشعروا بالارتياح لهذا الاتجاه ونظروا إليه كخطر يتهدد نفوذهم؛ فأخذوا يثيرون المتاعب في وجه الملك حتى لا يتمادى فيه؛ ولكن الملك كان عنيدًا فاشتط في مسلكه وبدأت الحرب العوان بين الفريقين. والواقع أن أمنحتب الرابع لم يكن في أول أمره متعصبًا كل التعصب للإله "آتون" بل كان يحترم كافة المعبودات؛ ولكنه كان يميل بصفة خاصة إلى تلك التي تتصل بعبادة الشمس مثل "رع" و"آتوم" و"حور آختي" أي أنه لم يكن مخترعًا لهذه الديانة؛ حيث إنها عرفت من قبل ولكنه رمز إلى معبودها بصورة جديدة جعلته في هيئة قرص الشمس الذي تتدلى منه أشعة تنتهي بأيدٍ تهب رمز الحياة، وفي ذلك إشارة إلى أن القوة الكامنة في الشمس تعطي الحياة للكائنات جميعها. وعبادة الشمس هذه كانت تختلف عن عبادة آمون من حيث إنها عبادة عامة يمكن أن يشترك فيها العالم؛ لأنها تتعلق بظاهرة طبيعية يدركها البشر جميعًا، وقد جعل إخناتون من نفسه كبيرًا لكهنتها ولم يكن يدخل النساء في خدمتها، ولما بلغ النزاع أشده بين كهنة آمون وبين الملك اشتط هذا الأخير في محاربته

لدين "آمون" متجهًا بكليته نحو "آتون" حتى إنه لم يكن يعترف بآلهة غيره، ولكي يبتعد عن طيبة -مقر الإله آمون- أنشأ عاصمة جديدة توخى أن تكون في بقعة لم يعرف لها إله محلي من قبل, وهذه العاصمة هي تل العمارنة الحالية وقد أطلق عليها اسم "أخيتاتون" كما غير اسمه إلى "إخناتون". وبلغ من حقده على آمون أن أمر عماله بإزالة اسمه من كل ما يقع تحت أيديهم من الآثار، ولا شك في أن هؤلاء قد بذلوا قصارى جهدهم في تتبع اسم هذا الإله حتى إنهم محوه من أسماء الملوك إن كان يدخل في تركيبها. وكانت الأناشيد التي وضعت لمدح الإله آتون تشبه بعض مزامير التوراة؛ مما جعل بعض المؤرخين يقارنها بها، ويرى البعض أن إخناتون كان أول مبشر بالتوحيد؛ ولذا اعتبروه عبقريًّا وأنه يمثل أعظم فلاسفة العالم القديم؛ إلا أن هذا غير صحيح؛ إذ إن "إخناتون" كان في أول عهده يحترم كل العبادات، ومع أنه لم يعترف بغير آتون فيما بعد؛ فإنه لم يحارب غير دين آمون وظل يسمح بمباشرة العبادات القديمة الأخرى، ولا شك في أنه أساء التصرف؛ لأنه لم ينل من السياسة التي اتبعها سوى سخط الكهنة والعسكريين حتى إن أهل عصره لقبوه بعد وفاته بلقب "مجرم آتون". ومهما اختلفت الآراء بشأن هذه الثورة الدينية وفي الحكم على شخصية "إخناتون" فإن أحوال مصر الداخلية وظروفها الخارجية لم تكن لتتفق وقيام مثل هذه الثورة، ولم يكن "إخناتون" بالشخصية المناسبة لتولي عرش البلاد في تلك الآونة على الإطلاق؛ إذ إنه في أغلب الظن كان شخصية ضعيفة مهزوزة وألعوبة في يد أهل بيته، نشأ محرومًا من الصفات التي جعلت من أسلافه ملوكًا ممتازين فلم يؤت من الكفاءة الحربية أو المهارة السياسية ما يمكنه من مجابهة الأحداث والظروف التي تعرضت لها البلاد؛ ولذا حاول أن يغطي ضعفه بالتفرغ

كلية للشئون الدينية ولم يلتفت لأي أمر من أمور الدولة وأهمل الأعباء الملقاة على عاتقه كملك لمصر؛ فأخذت الأحوال في المستعمرات المصرية في جنوب غربي آسيا تزداد سوءًا وخاصة لأن الحيثيين كانوا قد كونوا مملكة قوية عملت على ضم الولايات السورية إلى ممتلكاتها ونجحت في إخضاعها لسلطانها الواحدة تلو الأخرى، كما أن مدنًا كثيرة في فينيقيا وفلسطين أخذت تستقل عن مصر ونشبت الحروب والمنازعات فيما بينها ولم يبق على الولاء لمصر إلا بعض الولايات الضعيفة التي أخذت تستنجد بفرعون وأرسلت له عديدًا من الرسائل ليعمل على حمايتها؛ ولكنه أصم أذنيه ولم يحرك ساكنًا. ولا شك في أن طائفة من المخلصين وذوي المطامع وجدوا أن الظروف السائدة كانت تدعو إلى التخلص من هذا الملك سواء كان ذلك بغية إصلاح الأمور أو تحقيقًا لأهداف ومطامع خاصة؛ فقد دبر هؤلاء مؤامرات لاغتياله؛ ولكن حراسه كانوا دائمي اليقظة والحذر، ومن المرجح أن إخناتون قد أغضب الكثيرين من المحيطين به؛ بل ويحتمل أن زوجته نفرتيتي قد غضبت منه هي الأخرى حتى إنه في نهاية عهده عزف عن الاتصال بالناس وانتحى بعيدًا عنهم في قصره؛ بينما أقامت نفرتيتي في طرف آخر من المدينة، ولا يعرف حتى الآن كيف انتهت حياته؛ ولكن مما لا شك فيه أنه لم يترك وريثًا للعرش؛ إذ كانت كل ذريته من البنات. ويرى بعض المؤرخين أن الملكة "تي" والدة إخناتون قد ذهبت إليه في أخيتاتون وحاولت إقناعه بمهادنة كهنة آمون, ولكن من المرجح أن جهودها في هذا السبيل لم تكن موفقة كل التوفيق، وقبل وفاته بقليل أشرك معه في الحكم زوج كبرى بناته المدعو "سمنخ كارع". ولئن كان عهد إخناتون يمثل فترة من فترات الضعف والفوضى؛ إلا أنه كان من جهة أخرى يمثل عهدًا من العهود التي تميزت بظهور نوع من الفن لم يعرف في مصر من قبل, وهو الذي اصطلح على تسميته باسم فن مطابقة الحقيقة

"Realism" حيث أصبح الفنانون يمثلون الأشخاص على حقيقتهم؛ فمثلوا إخناتون بعيوبه الجسمانية ولم يكن هذا متبعًا من قبل وخاصة في تماثيل ونقوش الملوك الذين كانوا يمثلون في صورة أقرب إلى الكمال الجسماني؛ فمهما بلغوا من الكبر كانوا يمثلون في شرخ الشباب، كما أقبل الفنانون على تزيين القصور والمباني بالرسوم والنقوش التي تمثل مناظر الطبيعة في أجمل صورها، ولكن ما أن انتهى عهد العمارنة حتى رجع الفنانون إلى صرامة التقاليد القديمة, وانتهى عهد هذا الفن الجديد. سمنخ كارع: ما زلنا نجهل أحداث عهده, ولكن من المتفق عليه أنه رجع إلى طيبة1, وأنه لم يعمر طويلًا وتبعه في الحكم "توت عنخ آمون". توت عنخ آمون: كان اسمه "توت عنخ آمون" وهو الصهر الثاني لإخناتون؛ حيث إنه كان متزوجًا من ابنته الثالثة، ويبدو أنه عاش مع نفرتيتي أثناء انفصالها عن زوجها إخناتون، وقد أسرع هو وزوجته بالعودة إلى طيبة بعد وفاة إخناتون وغير اسمه إلى "توت عنخ آمون" واعتلى العرش وهو حديث السن؛ ولكنه لم يعمر طويلًا, إذ إنه مات بعد أن حكم نحو ثمانية أعوام وكان حينئذٍ في الثامنة عشرة من عمره تقريبًا، ومع هذا فقد حظي بشهرة عظيمة وخلد اسمه في التاريخ؛ إذ كان لاكتشاف مقبرته2 دوي هائل في جميع أنحاء العالم نظرًا لما حوته من أثاث وكنوز تعد أثمن عاديات المتحف المصري بالقاهرة.

_ 1 JEA XIV; pp. 3-9. 2 اكتشفت هذه المقبرة في نوفمبر سنة 1922، انظر: H, Carter, "The Tomb of Tut – Ankh - Amen" "London 1923-33".

والظاهر أن ديانة آتون كانت في طريقها إلى الزوال منذ أواخر عهد إخناتون, وأصبحت أضعف من أن تقف على قدميها بعد وفاته؛ لأن أحدًا من خلفائه لم يحاول على الإطلاق أن يهتم بشأنها بل عادوا إلى ديانة آمون الذي أصبح نفوذه أقوى مما كان1، ولا شك في أن ضعف إخناتون وخلفائه كان من أهم العوامل التي أدت إلى ضعف سلطان البيت المالك, وإلى القضاء على ديانة آتون؛ فاستطاع بعض رجال ذلك العهد الوصول إلى مركز الصدارة، ومن أهم هؤلاء "آي" الذي تولى العرش بعد موت توت عنخ آمون وخليفته "حور محب" الذي يعد مؤسسًا للأسرة التاسعة عشرة. وكان "آي" في بداية الأمر من رجال الحرب ثم تحول إلى الكهنوت قبل أن يعتلي العرش, أما حور محب؛ فكان قائدًا ومشرفًا على بيت الملك وشئون القصر. ويبدو أن البلاد أخذت تحاول النهوض من جديد منذ أن عاد البيت المالك إلى طيبة, وبدأ توت عنخ آمون بإصلاح بعض المعابد وإنشاء معابد أخرى في مصر والنوبة وإعادة اسم آمون على الآثار التي محي منها، ومن المرجح أن قائد جيشه حور محب استطاع أن يقضي على بعض الثورات التي نشبت في فلسطين, كما يحتمل أنه أعاد ضم بعض الولايات التي كانت مصر قد فقدتها.

_ 1 لا شك في أن الأساليب التي اتبعت في عبادة "آتون" كانت لا تصادف هوًى في نفس المصري القديم, الذي تعود أن يرى صورة مجسمة للإله في هيئة إنسانية أو حيوانية, كذلك كانت معابد آتون مكشوفة وتقام الطقوس فيها أمام الملأ ولا يكتنفها الغموض ولا الإبهام الذي يحيط عبادة الآلهة الأخرى التي كانت معابدها في أجزاء منها على الأقل بعيدة عن رؤية العامة؛ مما يبعث في نفوسهم الرهبة وينسبون إليها الأسرار العميقة؛ ولذا كان من المتوقع أن تختفي ديانة آتون ويعود المصريون إلى الديانة التي ألفوها وهي ديانة آمون.

وقد أشارت بعض المصادر التاريخية إلى أن أميرة مصرية أرسلت إلى ملك الحيثيين رسالة تذكر له فيها أنها ترملت ولم يترك زوجها وريثًا للعرش, وأبدت رغبتها في أن يرسل إليها أحد أبنائه؛ لكي تتزوجه ويعتلي معها العرش1؛ ولكن حور محب استطاع مقابلة الأمير الذي أرسل إليها قبل وصوله إلى مصر وقتله. آي: كان كبيرًا للكهنة ومن الألقاب التي أطلقت عليه لقب "الأب المقدس"، وقد تبع توت عنخ آمون على العرش رغم ما يبدو من تفوق نفوذ حور محب عليه، والظاهر أنه كان يمت بصلة للملكة "تي"2 زوجة أمنحتب الثالث, و"نفرتيتي" زوجة إخناتون أي أنه كان أقرب الأشخاص لسلفه الملك الشاب. ولم يحكم آي أكثر من ثلاث سنوات أقام فيها بعض المباني، ولا نعرف كثيرًا عن حكمه، ومن المرجح أنه تزوج إحدى أميرات البيت المالك التي يرى بعض المؤرخين أنها أرملة توت عنخ آمون؛ ولكن هذا غير مؤكد، ولعل زواجه بالملكة "تي" أكثر احتمالًا، وربما كانت المقبرة التي هيئت على عجل لكي يدفن فيها "توت عنخ آمون" هي التي كانت أصلًا معده للملك "آي" الذي شيد لنفسه مقبرة أخرى.

_ 1 ظن بعض المؤرخين أن هذه الأميرة هي نفرتيتي زوجة إخناتون, ولكن أصبح من المرجح الآن أنها زوجة توت عنخ آمون "عنخ - س - إن - آمون" انظر: O, R Gurney, "The Hittites", "Pelican A 259", PP, 31-2. 2 يرى البعض أنه كان أخًا غير شقيق للملكة "تي", انظر: "JEA 43, P. 35".

الأسرة التاسعة عشرة

الأسرة التاسعة عشرة: حور محب: سبق أن أشرنا إلى أنه كان قائد الجيش وأنه وصل إلى مكانة ممتازة، وكانت تؤهله لأن يكون أنسب رجال عصره لاعتلاء العرش بعد "توت عنخ آمون" لولا أن "آي" كان فيما يبدو ممن يمتون بصلة القرابة للبيت المالك. والظاهر أن حور محب قضى معظم حياته قبل اعتلاء العرش في مدينة منف, وفي أثناء الفترة التي كان فيها قائدًا للجيش بنى لنفسه مقبرة فيها، ولم يعثر من هذه المقبرة إلا على بعض أحجار قليلة. وقد شاهد الفوضى التي سادت عهد إخناتون وظلت آثارها عقب وفاته؛ ولكنه أظهر ولاءه وإخلاصه للعرش في أكثر من مناسبة, وخاصة في عهد "توت عنخ آمون" ونال لديه حظوة كبيرة، وحينما مات الملك "آي" لم يكن هناك من هو أكفأ منه، وأراد أن يكتسب شرعية اعتلائه للعرش, فتزوج من الأميرة "موت نزم" التي يظن أنها كانت أخت نفرتيتي. ولما تولى الملك كانت الفوضى ما زالت ضاربة أطنابها والفساد منتشرًا في كافة الشئون؛ ولذا حرص كل الحرص على إزالة أسبابها؛ فسَنَّ القوانين ووضع من التشريعات ما ينص على محاربة الرشوة ومنع الظلم والقسوة وخاصة فيما يتعلق بمعاملة الرقيق وصغار المواطنين, وحرم تعطيل أي أمر من الأمور التي تتعلق باقتصاديات الدولة, كما حرم السرقة واستغلال العمال أو الفلاحين في العمل دون موافقة سادتهم، وقد فرض أقسى أنواع العقوبات على كل من يرتكب إحدى الجرائم، كذلك أصدر أمره بعمل كثير من الإصلاحات الإدارية وأصلح المحاكم وتشدد في عقوبة القضاة الذين يحيدون عن العدالة ونظم أمور الجيش ووضع نظامًا دقيقًا للبروتوكول.

وربما كان في استطاعته أن يوجه نشاطه نحو الشئون العسكرية وأن يقوم ببعض الحملات الحربية؛ ولكنه آثر أن يتفرغ للإصلاح الداخلي؛ فعقد معاهدة بينه وبين ملك الحيثيين حتى يتجه بكليته إلى محاربة الفساد الداخلي الذي كان منتشرًا في كافة الميادين, حتى إن بعض السرقات حدثت في المقابر الملكية ولذا أمر بالتفتيش عليها، وكان من نتيجة ذلك أن أعيدت محتويات مقبرة "توت عنخ آمون" بعد اكتشاف سرقتها, وكدست محتويات المقبرة فيها على عجل, ثم ختمت بختم الجبانة بعد إغلاقها للمرة الأخيرة إلى أن تم الكشف عنها, كذلك أمر حور محب بإصلاح المعابد وترميمها، وبنى لنفسه مقبرة في وادي الملوك تعد من أكبر مقابر طيبة. ولا بد أنه نجح فيما كان يهدف إليه من استتباب الأمن والقضاء على الفساد؛ لأن مصر تمكنت بعد ذلك من العودة إلى نشاطها الخارجي, واستطاعت أن تحصل على انتصارات باهرة. وقد حكم حور محب نحوًا من ثلاثين عامًا ولم يترك وريثًا للعرش، والظاهر أن رجال الجيش كانوا قد سيطروا على البلاد؛ لأننا نجد أن الذي يخلفه على العرش وهو رعمسيس الأول كان هو الآخر من قواد الجيش قبل أن يتولى الملك. رعمسيس الأول: كان هذا الملك من مدينة صان الحجر التي كانت مقرًّا لعباده الإله "ست" وكان قائدًا من قواد الجيش كما سبق أن أشرنا، وكذلك كان ولده الذي تلاه في الحكم من القواد أيضًا, وكان كل منهما يشغل مركز الوزير. ومع أن حكم رعمسيس الأول لم يتجاوز العامين؛ إلا أنه امتاز بالنشاط في تشييد المباني وبالحزم في إدارة البلاد, وقد بنى معبدًا في بوهن, ويحتمل

أن ذلك كان على إثر حملة قام بها إلى السودان في السنة الثانية من حكمه. سيتي الأول: كان سيتي عند موت أبيه قد تجاوز سن الشباب، وقد تقلد عدة وظائف في عهد حور محب كما أصبح ساعد والده الأيمن في أثناء حكمه؛ ولذا سار في سياسته على نهجه وأمر بإتمام ما لم يتمه من المباني وبإصلاح الآثار المخربة التي لم يتم إصلاحها. وقد حدثت ثورة في بداية عهده على حدود مصر الشرقية استطاع أن يخمدها ونقش تفاصيل انتصاراته على جدران معبد الكرنك؛ حيث بين فيها أنه هزم بدو سيناء وجنوب فلسطين، والظاهر أن بعض الولايات قد أصابتها عدوى الثورة بعد ذلك بتحريض من مملكة الحيثيين، وتجمعت جموع الثائرين في مدن مختلفة تمهيدًا للاجتماع في مكان سري يقومون منه بثورتهم الجماعية؛ إلا أن سيتي أحبط محاولتهم, إذ أرسل لكل مدينة فرقة من فرق الجيش وتم له النصر؛ فخضعت له فلسطين وفينيقيا وجنوب سورية، ثم حدثت ثورة في ليبيا أسرع بتأديبها على حدود مصر الغربية، ومن المرجح أن ذلك كان في السنة الثانية من حكمه. والظاهر أن سيتي تكهن بأن الحالة ستظل سيئة في آسيا طالما استمرت دولة الحيثيين في دسائسها ضد مصر؛ ولذا سار للقاء الجيوش الحيثية ودارت بينه وبينهم معركة في شمال قادش عاد منها إلى مصر منتصرًا؛ ولكن يبدو أن هذا الانتصار لم يكن حاسمًا ولم يقضِ على قوة الحيثيين وإن كان قد أوقف مؤامراتهم ضد مصر في الولايات السورية.

وتشير النقوش التي نقشت على بعض آثاره إلى أنه أخضع نارهارينا "أي: أعالي الفرات" والمملكة الحيثية وألاسيا "قبرص"؛ ولكن يبدو أنه نقل هذه الأسماء من النقوش القديمة وخاصة تلك التي تبين انتصارات تحتمس الثالث وعلاقاته مع تلك الجهات. ويشير نص مؤرخ بالسنة الرابعة أو الثامنة إلى أنه قام بحملة إلى النوبة أخضع فيها بعض أجزائها ولكن يشك في ذلك أيضًا1، وحتى مع فرض قيامه بهذه الحملة إلى النوبة؛ فإنها كانت قليلة الأهمية بالنسبة لحملاته الأولى في آسيا, ولتلك التي وجهها ضد الليبيين. ومن المحتمل أنه عقد معاهدة مع ملك الحيثيين احترم فيها كل فريق حدود الفريق الآخر, وساد السلام بينهما, وبذلك تمكن سيتي من التفرغ للإصلاحات الداخلية, فشيد الكثير من المباني2 التي امتازت بالروعة وجمال النقوش وبعضها يعد من أجمل ما تركه الفراعنة من آثار، وقد اهتم سيتي باستغلال المناجم والمحاجر وخاصة مناجم الذهب، وإلى عهده ترجع أقدم وثيقة جغرافية في التاريخ؛ حيث توجد بردية في متحف تورين مبين عليها موقع منجم الذهب القريب من معبد الراديسية, وقد بينت في هذه الخريطة الطرق المختلفة وبعض المعلومات التي تساعد على التعرف على الطريق المؤدية إلى تلك المناجم، كذلك أمر سيتي بحفر كثير من الآبار في الصحراء لمساعدة المسافرين إلى مناطق استغلال المعادن والمحاجر. هذا وقد حكم سيتي الأول سبعة عشر عامًا مات في أثنائها ولي عهده؛ ولذا اعتلى العرش من بعده ولده الثاني رعمسيس الثاني.

_ 1 JEA. 25, p. 142. 2 من هذه مقبرته ومعبده في البر الغربي للأقصر ومعبد أبيدوس وغيرها.

رعمسيس الثاني: حظي رعمسيس الثاني بشهرة لم يحظ بمثلها أي فرعون آخر؛ نظرًا لأن حكمه الطويل -الذي بلغ نحوًا من 67عامًا- هيأ له الفرصة لتشييد عدد ضخم من المباني التي خلدت اسمه في التاريخ. وفي أول عهده أمر بإتمام المباني التي كان والده قد بدأها، ومن أهم هذه معبد أبيدوس الذي نقشت به لوحة الأجداد المشار إليها عند الكلام على المصادر التاريخية1 ومعبد القرنة2, كذلك أقام بعض المباني المختلفة مثل الرامسيوم ومعبده في الأقصر فضلًا عما شيده في الكرنك وفي جهات أخرى من مصر والنوبة, كما نجح في حفر بئر في الطريق المؤدية إلى مناجم الذهب بالنوبة. ومن المحتمل أن مملكة الحيثيين عملت على نقض المعاهدة التي سبق أن أبرمتها مع مصر في عهد والده, حيث أخذت هذه المملكة في تشجيع أمراء سورية على الثورة؛ مما جعل رعمسيس الثاني يذهب إلى آسيا في السنة الرابعة3 من حكمه ويوطد مركزه هناك ويطمئن على خطوط مواصلاته وعلى حاميات الموانئ, ثم رجع مصر؛ حيث أخذ يعد العدة لمقابلة الجيوش الحيثية التي توقع الاصطدام بها في سورية. وبالمثل أخد ماتيلا -ملك الحيثيين- يستعد لملاقاته فضم إلى قواته كثيرًا من قوات أمراء وملوك المنطقة, الذين أرادوا التخلص من سلطان

_ 1 انظر أعلاه ص90. 2 هو المعبد الجنزي الذي بناه على الضفة الغربية للنيل أمام الأقصر. 3 يشير رعمسيس الثاني في لوحة عثر عليها في أسوان إلى أنه في السنة الثانية من حكمه قضى على الآسيويين والحيثيين وبابل وأجانب الشمال التمحو والنوبيين؛ ولكن يبدو أنه لم يقم في هذه السنة بأي حملة إلا إلى النوبة فقط انظر: "Breasted, A R III, 45, 478-479".

مصر، كما استعان بكثير من الجنود المرتزقة, وجمع كل هذه القوات في قادش استعدادًا للقاء رعمسيس الثاني الذي استعان هو الآخر بالجنود المرتزقة، وتقدم في السنة الخامسة من عهده نحو عدوه وكان يجهل الموقع الذي تجمعت فيه الجنود الآسيوية؛ فلما وصل إلى وادي نهر العاصي قبض رجاله على جاسوسين زعما أن ملك الحيثيين قد تقهقر بجيوشه نحو حلب, وكان جيش رعمسيس الثاني مقسمًا إلى أربع فرق يقود إحداها بنفسه؛ فلما علم رعمسيس بما زعمه الجاسوسان أسرع في تقدمه خلف عدوه إلى الموقع المزعوم دون أن ينتظر أن تلحق به بقية الفرق؛ فلما عبر نهر الأورنت "العاصي" عسكر بجيشه أمام قادش بينما كان ملك الحيثيين وحلفاؤه يختفون وراء التلال المجاورة لها, وسرعان ما علم هؤلاء بوصول رعمسيس الثاني فقاموا بحركة التفاف حول المدينة إلى الجهة الأخرى من النهر، وما إن أخذت الفرقة الثانية من فرق الجيش المصري في عبور النهر إلا وعبر من خلفها هؤلاء المتحالفون وهاجموها على غرة؛ فأصاب الذعر رجالها وجعلوا يفرون إلى المعسكر المصري طلبًا للنجاة وتتبعهم رجال الحيثيين؛ حيث أذهلت المفاجأة رجال الفرقة المصرية المعسكرة التي كان يقودها رعمسيس بنفسه، ولم يجد رعمسيس بدًّا من الاندفاع في الهجوم بفلول فرقتيه دفاعًا عن نفسه، ومع أن كثيرًا من رجال الفرقتين تخلوا عن الدفاع عنه إلا أن البقية الباقية التفت حوله كحرس خاص حينما شاهدوا شجاعته الفائقة وثبتت قلوبهم والتحموا مع العدو، وفي تلك الأثناء وصلت نجدة من شباب فلسطين المجندين تحت إمرة بعض الضباط المصريين, وبذلك أنقذ الملك ورجاله من كارثة محققة وخاصة لأن جيوش المتحالفين كانت قد أخذت في الانشغال عن القتال الصحيح, واتجهت للسلب والنهب في معسكر المصريين. ومع أن القتال انتهى في ذلك اليوم بنجاة الفرعون ورجاله إلا أن النصر

لم يكن حاسمًا لأي من الفريقين, وقد وصلت الفرقتان الأخيرتان من جيش رعمسيس بعدئذٍ إلى ميدان المعركة وتحفز الجميع لمعركة فاصلة في اليوم التالي؛ ولكن ملك الحيثيين عرض الصلح واتفق الطرفان على عقد معاهدة يحترم فيها كل منهما حدود الآخر, ولا يتدخل في شئون رعاياه. وقد عاد رعمسيس بجيوشه إلى مصر ولم يستول على قادش كما كان يأمل، أي أن الإمبراطورية المصرية أصبحت قاصرة على فلسطين ولبنان والجزء الجنوبي من سورية وبعض الموانئ، ومع ذلك فقد أذاع في طول البلاد وعرضها بأنه انتصر على أعدائه وأباد منهم عشرات الألوف, ووضعت قصيدة نقشت على كثير من آثاره وهي تصف معركة قادش وشجاعة رعمسيس في قتاله وحيدًا ضد جيش المتحالفين وانتصاره عليهم بفضل مساعدة الإله آمون له. ويجب ألا يغيب عن الذهن أن ادعاء رعمسيس الثاني الانتصار يتنافى مع الواقع، ومن المعقول أنه إذا كان هناك انتصار مصري على الإطلاق؛ فإنما يتمثل ذلك في نجاة الملك فحسب, ومما يؤيد ذلك أن المصادر الحيثية تشير -على العكس من ذلك- إلى انتصار خاتوسيل "ملك الحيثيين" وإلى هزيمة المصريين, ولا شك في أن شواهد الأحوال تدل على أن المصادر الحيثية أصدق من المصادر المصرية فيما يختص بهذه الموقعة, وخاصة لأن الحيثيين كانوا يحاولون السيطرة على مملكة الأموريين؛ ولكن ملكها بنتشينا وقف إلى جانب مصر ولم يخضع لتهديد الحيثيين وحلفائهم؛ فلما نشبت المعركة اختفى اسم بنتشينا كملك على الأموريين وحل محله سابيلي الذي اعترف بسيادة الحيثيين, وهذا يؤكد أن النصر كان حليفهم. ولا بد أن هذه المعركة كانت ذات أثر كبير؛ لأنها هزت النفوذ المصري في آسيا هزًّا عنيفًا؛ فلم يكد يمضي عامان حتى كانت فلسطين قد ثارت على مصر, وامتدت الثورة حتى وصلت الحدود المصرية نفسها؛ فسارع رعمسيس إلى إخماد

الثورة وأخضع فلسطين كلها من جديد, كما أخضع بلاد الأموريين لسلطانه واستولى على حصن دابور وعلى مدينة تونيب وامتد سلطان مصر إلى فينيقيا، وربما فرض رعمسيس سيادته كذلك على جزر البحر المتوسط حيث أشار إليها على جدران معبد الرامسيوم ضمن البلاد التي أخضعها, وإن كان يبدو أنه تغالى كثيرًا؛ إذ دون أسماء بعض الأقطار التي يحتمل أنها خطبت وده بالهدايا, على أنها أصبحت خاضعة له. وقد استقرت الأمور في آسيا بعض الوقت؛ ولكن حدث أن نشب نزاع عائلي على العرش في البيت المالك الحيثي, وكان هذا النزاع حافزًا لرعمسيس على التدخل لمصلحة أحد المتنازعين؛ ولكن منافسه فاز بالعرش, وفي نفس الوقت أخذت مملكة آشور تظهر على مسرح السياسة الدولية في هذا الجزء من آسيا, وبدأت تبسط سلطانها على مسرح السياسة الدولية في هذا الجزء من آسيا, وبدأت تبسط سلطانها على ما جاورها؛ وعندئذٍ رأى خاتوسيل "الملك الحيثي الذي تمكن من الوصول إلى العرش" أن يكتسب صداقة مصر حتى يتفرغ للصراع ضد آشور؛ فعقد معاهدة صلح مع رعمسيس الثاني في السنة الحادية والعشرين من حكم هذا الأخير، وقد كتبت هذه المعاهدة على لوح من الفضة بالخط المسماري، وترجمت إلى اللغة المصرية في نسختين وجدت إحداهما بالكرنك والثانية بالرامسيوم، كما عثر على الأصل الحيثي في بوغاز كوى، وهي تنص على تأكيد الصداقة بين مصر وخيتا وألا تعتدي إحداهما على الأخرى وأن تسلمها المجرمين الفارين من بلادها, واستشهدت كل من المملكتين على التمسك بنصوص هذه المعاهدة بآلهة بلادها العظمى، وقد ظلت تلك المعاهدة قائمة يحترمها الجانبان وزاد من توثيقها فيما بعد أن رعمسيس تزوج في السنة الرابعة والثلاثين من حكمه بابنة ملك الحيثيين التي جاءت إلى مصر في حاشية ضخمة من الوصيفات الآسيويات، وانتهز والدها والكثيرون من رجاله فرصة هذه المناسبة وقدموا لزيارة مصر, وبذلك حل السلام بين البلدين إلا أنهما تعرضا لمتاعب أخرى فيما بعد

حيث نشب النزاع العائلي من جديد في البيت المالك الحيثي, ثم انهارت دولتهم أمام ضغط عناصر هندو أوروبية تدفقت من أواسط آسيا في عربات ضخمة تجرها الثيران، وقد توفي رعمسيس الثاني قبل أن تهدد هذه العناصر مصر تهديدًا مباشرًا؛ فكان الدفاع عنها من نصيب ولي عهده مرنبتاح, على أن خطرها على مصر لم ينتهِ بعد ذلك تمامًا بل تجدد في عهد رعمسيس الثالث الذي تمكن من كفاحهم ودحرهم. ومما تجدر ملاحظته أن رعمسيس الثاني مات بعد أن بلغ من العمر أكثر من تسعين عامًا، ولما كان مولعًا بتخليد أعماله؛ فقد أتاح له حكمه الطويل فرصة تشييد عدد من الآثار المعمارية يفوق ما شيده أي فرعون آخر, وكان بعض المؤرخين يرى أنه لم يكن صاحب الفضل في إقامة كل هذه العمائر؛ إلا أننا نلاحظ أنه رغم اغتصابه لآثار بعض من سبقه من الملوك، قد أقام من الآثار عددًا أكبر مما أقامه أي فرعون آخر, وكان نشاطه في ذلك لا يقف عند حد؛ فلا نكاد نجد منطقة أثرية في مصر دون أن يرد فيها اسمه كما أنه أكثر الملوك نشاطًا في إقامة المعابد في النوبة, التي تميزت في معظمها بالموقع الفريد وروعة التصميم وتتجلى عظمتها بصفة خاصة في معبدي "أبو سمبل". والظاهر أن كثرة مشاغله في آسيا قد جعلته يؤمن بأن طيبة كعاصمة ذات موقع لا يتناسب مع الظروف الدولية القائمة فهي شاسعة البعد عن مجريات الأحداث العالمية؛ ولذا أنشأ عاصمة جديدة في شرق الدلتا أطلق عليها اسم "بررعمسيس" وما زال المؤرخون مختلفين في تحديد موقعها على وجه الدقة، كذلك نجد أنه أنشأ مدينة عسكرية في هربيط أدخل فيها عبادة شخصه وهو حي. وكان رعمسيس الثاني مزواجًا تزوج بالكثيرات, ومنهن بعض بناته

وقد أنجب كثيرًا من الذكور والإناث لم يجمع المؤرخون على عددهم، وقد مات كثير من أبنائه الذكور أثناء حياته ومنهم أكبر أبنائه؛ فلم يخلفه على العرش إلا ولده الخامس عشر وهو مرنبتاح الذي كان -مع ذلك- يقرب من الستين من عمره حينما تولى العرش. ولا شك في أن رعمسيس الثاني يعد مسئولًا إلى حد كبير عن كثير من عوامل الضعف التي انتابت البلاد وكانت لها آثارها فيما بعد؛ فتورطه في الاستعانة بالجنود المرتزقة الأجانب كان ذا أثر بعيد؛ إذ إن خلفاءه تغالوا في استخدامهم فضعفت الروح العسكرية لدى المصريين, حتى إن فرقة من الجيش المصري في نهاية الدولة الحديثة كانت لا تضم سوى خمسمائة من المصريين من مجموع أفرادها الذين يبلغون الألفين, في حين أن بقية أفرادها كانوا من الليبيين والنوبيين ومن شعوب البحر المتوسط, وقد زاد زواجه بابنة ملك الحيثيين التي جاءت إلى مصر في حاشية ضخمة من امتزاج الدماء المصرية بالدماء الآسيوية وخاصة في القصر الملكي بين كبار رجالات الدولة وأضعف الروح المصرية الخالصة، كذلك كان لتشييده عاصمة جديدة في الدلتا -مع بقاء طيبة متمتعة بالسيادة الدينية كمقر للإله الرسمي في الإمبراطورية- أثره في ابتعاد السلطة الدينية عن الإشراف الفعلي للسلطة الزمنية؛ مما أتاح الفرصة للكهنة كي يستغلوا نفوذهم بعيدين عن الرقابة الإدارية، كما كان في قرب بررعمسيس -العاصمة السياسية- من مواطن الصراع في الشرق الأدنى "مع ظهور قوة فتية في غربي آسيا" تهديد دائم لأمن الدولة وسلامتها، ومما زاد الحالة سوءًا شدة ولع رعمسيس الثاني بإقامة المباني الضخمة ومغالاته في الإكثار منها؛ حيث أدى هذا إلى إنهاك موارد الدولة واستنفادها، وفوق ذلك كله كان امتداد أجل رعمسيس الثاني نفسه إلى أن أصبح شخصًا مسنًّا للغابة سببًا في عجزه عن القيام بأعباء دولته على الوجه الأكمل؛ ولذا يمكن أن يقال: إن رعمسيس الثاني ترك لخلفائه إمبراطورية قد أصابها الوهن وأصبحت في طريقها إلى الانهيار.

مرنبتاح: سبق أن ذكرنا أن مرنبتاح كان يقرب من الستين من عمره حينما اعتلى العرش ومع هذا فقد كان ملكًا عالي الهمة, لم تحل شيخوخته دون قيامه بجهود مشكورة في سبل المحافظة على إمبراطوريته؛ فلما قامت ثورة في آسيا في السنة الثالثة من حكمه لم يتوانَ في إخمادها وسجل ذلك على لوحة ورد بها اسم إسرائيل لأول مرة؛ مما دعا إلى الزعم بأنه هو الفرعون المقصود في قصة موسى الواردة في الكتب السماوية, ولكن لا يمكن تأييد هذا الزعم لعدم وجود وثائق تاريخية كافية لتأكيده1, وسواء قام بإخماد هذه الثورة بنفسه أو أرسل أحد قواده فإن اهتمامه بالقضاء عليها يدلنا على أنه لم يشأ التهاون في حق مصر أو التفريط فيه. وقد أنقذ مرنبتاح مصر من الهجوم الشامل الذي شنه عليها الليبيون وحلفاؤهم في السنة الخامسة من حكمه، وكان الهجوم على ما يبدو نتيجةً لهجرات

_ 1 ما زالت الاختلافات كبيرة بين المؤرخين بشأن تاريخ خروج الإسرائيليين من مصر؛ فبعضهم يرى أنه تم في عهد الهكسوس, وبعضهم يرى أنه تم في عهد الأسرة الثامنة عشرة، وحتى في هذا يختلفون؛ فمنهم من يعتقد أنه حدث في عهد تحتمس الثالث، ومنهم من يظن أنهم أخرجوا من مصر في عهد أمنحتب الثاني أو الثالث، ومنهم من يرى أنهم خرجوا على إثر ثورة إخناتون الدينية، كما أن منهم من يرى أنهم خرجوا في عهد مرنبتاح؛ حيث يرجح أنهم أخذوا يتذمرون في أواخر عهد رعمسيس الثاني "فرعون في الكتاب المقدس"؛ لأنهم كانوا طائفة لا تميل إلى الأعمال الشاقة التي تطلبتها مبانيه العديدة, وسخر لها العديد من أفراد الشعب ولم يستثنهم من ذلك, كما أنهم لم ينجحوا في الخروج من مصر إلا في عهد مرنبتاح كما أشرنا.

بعض الشعوب الهندو أوروبية التي تجمعت على ساحل إفريقيا الشمالي، ثم اتجهت مع القبائل الليبية إلى أن وصلوا إلى منطقة في غرب الدلتا وتوغلوا فيها حتى اقتربوا من كفر الزيات؛ إلا أن مرنبتاح تمكن من هزيمتهم هزيمة ساحقة حتى فروا على أثرها, ووقع منهم آلاف الأسرى في أيدي المصريين، والظاهر أن فلول الليبيين اتجهت نحو الجنوب بغية الوصول إلى وادي النيل في منطقة النوبة؛ ولكن المصريين استطاعوا أن يردوهم كذلك. ولم يطل حكم مرنبتاح أكثر من ثماني سنوات مات بعدها, وترك العرش فريسة للاختلافات العائلية التي نشبت بسبب كثرة عدد الأمراء الذين أنجبهم رعمسيس الثاني، وقد أدى هذا إلى اغتصاب البعض للعرش ولم يحدث في عهدهم ما يستحق الذكر سوى أن أحدهم وهو مرنبتاح سابتاح ذهب في حملة إلى النوبة لتثبيت حاكمها في منصبه عندما قامت هناك ثورة ضده، ومن هذا نستنتج أن النوبة ظلت على صلتها بمصر, وأنها كانت من الأهمية؛ بحيث انتقل إليها الفرعون بنفسه لكي يثبت حاكمها في منصبه، كما يدل ذلك من جهة أخرى على أن الحكم المصري لم يكن ليقابل فيها دائمًا بالرضا؛ وإنما كان أحيانًا يجد معارضة شديدة إما من النوبيين أنفسهم أو من رجال الإدارة المصريين الذين كان يرأسهم ذلك الحاكم. وأواخر عهد هذه الأسرة يمثل فترة غامضة لا نعلم عنها إلا أسماء بعض الملوك ومدة حكم كل منهم, ومنها نتبين أن غالبيتهم لم يحكموا سوى فترة قصيرة جدًّا وما زال ترتيب حكمهم مشكوكًا فيه، بل ولا نعرف كذلك كيف انتهت هذه الأسرة؛ وإنما يبدو أن الفساد قد عم أنحاء البلاد وتفاقمت الحالة بسبب وجود عدد كبير من المرتزقة الذين كانوا يتقاضون أجورا باهظة ويتطلعون دائمًا إلى الاشتراك في الحروب جريًا وراء الأسلاب والغنائم، ولما فقدت مصر مستعمراتها في آسيا نقصت إيراداتها وعجزت عن إرضائهم, وخاصة بعد أن زال

خطر غزو مصر وهدأت الحالة على الحدود؛ فلم تجد الدولة بدًّا من أن تقطع بعض هؤلاء المرتزقة شيئًا من الإقطاعيات، وتركت الباقين وشأنهم؛ حيث أخذوا يعيثون في الأرض فسادًا باغتصاب ما وقع تحت أيديهم من أموال وممتلكات ونشروا الذعر بين الناس، ولم تنتهِ الأسرة التاسعة عشرة؛ إلا وكانت الثورة قد نشبت في طول البلاد وعرضها, وتمكن شخص من أصل سوري يدعى "إرسو" من أن يعتلي العرش1 واستبدَّ بالبلاد كما تشير إلى ذاك بردية "هاريس" التي تصف على لسان رعمسيس الثالث "ثاني ملوك الأسرة العشرين" سوء حالة البلاد, وتبين أن والده "ست نخت" تمكن من اعتلاء العرش بعد أن طرد الغاصب السوري ونجح في إعادة الاستقرار وبدأ عهدًا جديدًا؛ حيث أصلح الإدارة الحكومية وأعاد تنظيم الجيش2؛ ولذا يعد "ست نخت" في نظر المحدثين من المؤرخين مؤسس الأسرة العشرين.

_ 1 يحتمل أنه كان رئيسًا للديوان في أواخر عصر الأسرة 19 وكان اسمه "باي" ثم غير اسمه بعد اعتلائه للعرش إلى "إرسو"، وقد أجبر الملكة "تاوسرت" على قبول اعتلاء ابنها الصغير "سبتاح" على العرش تحت وصياتها بدلًا من انفرادها بالحكم, ثم اغتصب العرش لنفسه بعد ذلك، انظر: JEA 44, pp 12 ff. 2 Breasted, A R IV, 397 ff.

الأسرة العشرون

الأسرة العشرون: ست نخت: أحدث سوء الحالة في نهاية عهد الأسرة السابقة واغتصاب "إرسو" السوري للعرش استياءً عامًّا, وخاصة لانتشار المرتزقة من الأجانب والتدهور الاقتصادي الذي منيت به البلاد، ولا بد أن رجال الدين تعرضوا للمتاعب ولم يأمنوا على أملاكهم ونفوذهم؛ فساهموا بنصيب وافر في تمكين "ست نخت" من اعتلاء

العرش وطرد الغاصب، كما يفهم ذلك من بردية هاريس المشار إليها فيما سبق وإن لم تذكر ذلك صراحة. وبالرغم من أن "ست نخت" بدأ عهدًا جديدًا؛ فإن مانيثون لا يعتبره مؤسس الأسرة العشرين بل يعتبر أن ولده "رعمسيس الثالث" هو المؤسس لها. ومهما كان الأمر فإن "ست نخت" قد أعاد الاستقرار للبلاد بإصلاح الإدارة الحكومية وتنظيم الجيش؛ وبذلك هيأ البلاد لأن تدافع عن نفسها ضد أعدائها وجيرانها الأقوياء الذين كانوا يتربصون بها ويطمعون فيها، وربما كان بعض الغزاة الآسيويين قد تمكنوا من الاستيلاء على الدلتا في عهد "إرسو" فتمكن "ست نخت" من إجلائهم عنها، ومع أنه لم يحكم أكثر من عامين؛ إلا أن حكمه كان بعيد الأثر في الإبقاء على كيان الدولة وتأجيل انهيارها، وقد أشرك معه في الحكم ولده وولي عهده رعمسيس الثالث الذي كان يدير وينفذ الإصلاحات المطلوبة, وبذلك تعود إدارة شئون البلاد وتجلت كفاءته عند اعتلائه العرش. رعمسيس الثالث: ما إن تولى العرش بعد وفاة والده حتى وجد أن الأخطار تحيق بالبلاد من كل جانب؛ فعمل على تقوية جيشه سريعًا بإدخال فرق من المرتزقة من العناصر الليبية والسردينية؛ إذ إن الآسيويين كانوا يهددون الحدود الشمالية الشرقية, والليبيين الذين سبق أن هزمهم مرنبتاح كانوا يتحينون الفرص للإغارة على مصر والاستيطان في وادي النيل. وهكذا كان على رعمسيس الثالث أن يواجه أخطارًا في الشرق والغرب ومع ذلك فقد استطاع في أوائل عهده أن يخمد ثورة في آمور، وفي السنة الخامسة من حكمه استطاع أن يصد هجومًا كبيرًا شنه الليبيون على مصر

وكان يعاونهم فيه حلفاؤهم من شعوب البحر، وقد هزمهم رعمسيس الثالث على حدود الدلتا الغربية, وأسر منهم عددًا كبيرًا من الأسرى. وفي السنة الثامنة من عهده كانت الشعوب الهندو أوروبية التي تمكنت من إسقاط دولة الحيثيين1، واجتاحت آسيا الصغرى قد أصبحت عظيمة الخطر على مصر؛ لأن موجة كبيرة من هجرتهم أخذت تتجه بطريق البر نحو منطقة شرق البحر المتوسط وتؤيدها في نفس الوقت سفنها الحربية؛ فاستعد رعمسيس الثالث لدفع خطرهم وجمع أسطولًا كبيرًا ثم تقدم بجيشه في البر والبحر لملاقاتهم قبل أن يصلوا إلى مصر، وحدثت بين الفريقين معركة فاصلة هزمهم فيها برًّا وبحرًا، ولا نعرف مكان حدوث المعركة؛ ولكن تفصيلاتها منقوشة على جدران معبد مدينة هايو الذي شيده في البر الغربي لطيبة. والظاهر أن هذه المعركة قد قضت على قوة شعوب البحر في آسيا قضاء تامًا وكانت سببًا في نجاة مصر وغربي آسيا من خطرهم؛ ولكن خطرًا جديدًا تهدد مصر مرة أخرى من ناحية الغرب؛ حيث إن الليبيين تحالفوا مع شعوب البحر وكرروا هجومهم عليها في السنة الحادية عشرة من عهد رعمسيس الثالث؛ إلا أنه تمكن من هزيمتهم على حدود الدلتا، وحينما ارتدوا إلى الصحراء تعقبهم مسافة قصيرة وأفنى منهم عددًا كبيرًا وأسر الكثيرين من بينهم قائدهم نفسه، وهكذا استطاع أن يتخلص من الخطر في الشرق والغرب على السواء. ومن المرجح أنه لم يمانع بعد ذلك في هجرة الليبيين إلى مصر؛ فدخلوها مسالمين؛ حيث استقروا في بعض جهاتها وخاصة في الجهات القريبة من موطنهم الأصلي, وانخرط الكثيرون منهم في سلك الجندية كجنود مرتزقة،

_ 1 انظر ص191.

وكان هؤلاء الليبيون يتحلون بريشة فوق الرأس, وعرفوا باسم "الماشواش" وكان هذا الاسم يختصر أحيانًا إلى كلمة "الما" فقط. ولما اطمأن رعمسيس الثالث إلى زوال الخطر أراد أن يعيد إلى مصر ممتلكاتها في آسيا؛ فاتجه إليها على رأس جيشه حيث قام بحملة موفقة يغلب على الظن أنه وصل فيها إلى أعالي الفرات، وقد دونت في نقوش هذه الحملة بعض التفصيلات؛ ولكننا نشك كثيرًا في قائمة البلاد التي ذكر بأنه أخضعها؛ إذ يرجح أنه نقل معظمها عن مصادر قديمة، ومع هذا فمما لا شك فيه أنه نجح في إعادة جزء كبير من أملاك مصر السابقة، ويكفي أن الأمن قد استتب في عهده واستقر له الأمر إلى أن مات بعد أن قضى في الحكم أكثر من ثلاثين عامًا لم يصادف خلالها ما يعكر الصفو بعد الحروب والحملات التي أشرنا إليها إلا ثورة صغيرة قام بها بدو منطقة صير, ولكنها أخمدت بسهولة. سقوط الإمبراطورية حاول رعمسيس الثالث أن يتشبه بسلفه العظيم رعمسيس الثاني في كل الأمور؛ ولكنه ارتكب خطأ كبيرًا؛ إذ منح كهنة آمون ومعابده كثيرًا من الثروات الضخمة حتى أصبح الإله آمون رع يملك مناجم الذهب في النوبة وتسعًا من المدن في سورية ونحو العشر من مجموع مساحة الأراضي المزروعة, فضلًا عن الأرقاء والماشية والحدائق مما جعل كهنة هذه الإله هم أصحاب النفوذ الفعلي في البلاد. ولم يتوانَ هؤلاء في استغلال الفرصة, بل تغالوا في إظهار قوة آمون ونسبوا إليه القدرة على حل المعضلات حتى أصبح الملوك وكبار الشخصيات يستلهمون وحيه في معظم شئون الدولة, ويأخذون بما يشير به في تعيين الموظفين ومعاقبة المذنبين، ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل استلهموا وحيه كذلك في شئونهم الشخصية؛ ولهذا أصبحت طوائف الكهنة تستغل سذاجة العامة

استغلالًا فاحشًا فتدهورت النواحي الأخلاقية والاجتماعية. هذا وقد جمع رعمسيس الثالث حوله عددًا من الأجانب وخاصة من الفتيات الجميلات والمستشارين الذين تقلدوا أرقى المناصب وتحكموا في شئون القصر والبلاط؛ فأخذوا ينافسون الكهنة في الاستثارة بالسلطة, وأوحوا إلى الفرعون بالإكثار من الجنود المرتزقة؛ مما أرهق الميزانية حتى عجز القصر عن دفع مرتبات عمال المقابر في طيبة، ولم يجد هؤلاء بدًّا من الإضراب عن العمل, وكان الكثيرون من الفقراء يتهالكون جوعًا؛ بينما كانت أكداس الحبوب والذهب تتجمع في مخازن آمون, ولم يرحم رجال الدين هؤلاء الفقراء أو يمدوا لهم يد العون, ومع ذلك فقد ظل رعمسيس الثالث لاهيًا عن شئون الدولة, منغمسًا في ملذاته ولا يدري شيئا عما يجري من حوله؛ حتى قامت في الدلتا ثورة أخرى ضده كانت أتريب "قرب بنها الحالية" مركزها، ومع أن هذه الثورة لم تنجح إلا أن الأحوال الداخلية في القصر توحي بضرورة التخلص من الملك؛ ولذا نجد إحدى زوجاته تنجح في نهاية عهده في الحصول على تأييد بعض موظفي القصر لتدبير مؤامرة لقتل الملك كي تتاح لها الفرصة لإعلان ابنها ملكًا على مصر1؛ ولكن هذه المؤامرة لم تنته بالقضاء على الملك واكتشف أمر الجناة الذين أحيلوا إلى المحاكمة أمام هيئة مكونة من أربعة عشر عضوًا من بينهم أربعة من الأجانب، ومما يدل على انتشار الفساد في البلاد وتفشي الانحلال أن بعض النساء وبعض الضباط استطاعوا إغراء ثلاثة من القضاة لكي يؤثروا في سير التحقيق؛ ولكن هذا الأمر اكتشف كذلك وقدم هؤلاء الثلاثة إلى المحاكمة فبرئ أحدهم وانتحر الثاني, أما الثالث فقد حكم عليه هو ورجال الشرطة بجدع الأنف وصلم الأذنين.

_ 1 Breasted, A R IV, 416 ff; JEA 33, pp. 152 ff & 24 qq. 8-9.

ومع أن خاتمة رعمسيس الثالث لم تكن مشرفة إلا أنه لا شك في أنه أنقذ البلاد -بل وأنقذ بلادًا أخرى كذلك- من خطر العناصر الهندو أوروبية التي كانت تقضي على مدنيات البلاد التي تجتاحها، وقد ظل نشيطًا عاليَ الهمة في الجزء الأكبر من حياته وأعاد لمصر شيئًا من مجدها السابق, ولم يخلد إلى حياة اللهو والكسل إلا في أواخر عهده, بل يمكن القول بأن مجد الإمبراطورية المصرية انتهى بعد وفاته ولم تقم لها قائمة بعد ذلك إلا لفترة قصيرة في عهد الأسرة السادسة والعشرين. وتوالى من بعده ملوك ضعاف لم يحكموا إلا نحو خمسة وسبعين عامًا انتهى بعدها حكم الأسرة العشرين، وفي خلال تلك الفترة الأخيرة من حكم هذه الأسرة ظلت الأمور تسير من سيئ إلى أسوأ وأخذ سلطان الملوك يتضاءل "ابتداء من عهد رعمسيس الرابع إلى عهد رعمسيس الحادي عشر آخر ملوك الأسرة"؛ حتى أصبحوا ألعوبة في يد كهنة آمون الذين استطاعوا أن يستأثروا بالسلطة. أما نفوذ مصر خارج حدودها فقد أخذ يزول تدريجيًّا إلى أن صار قاصرًا على بلاد النوبة فقط، ومع كل فإن هذه لم تستمر على اتصالها بمصر طويلًا؛ بل انفصلت بعدئذٍ وتكونت فيها مملكة مستقلة. وقد كثرت في عهد خلفاء رعمسيس الثالث حوادث السرقة والرشوة، ولم يكن لأحد منهم نشاط يذكر، وإن كنا نعرف أن رعمسيس السادس ترك نقوشًا على كثير من الآثار في مصر والسودان, وأن كثيرًا من مقابر الفراعنة قد سرقت واكتشف أمر سرقتها في عهد رعمسيس التاسع وبدأ التحقيق مع اللصوص, ولكن يظهر أن تلك السرقات كانت مستمرة من عهود سابقة، كما يبدو أن الجناة كانوا يطمئنون إلى الموظفين الذين يكشفون أمثال تلك السرقات على أساس إرضائهم بالرشوة, مما يدل على تدهور الحياة الاجتماعية وانحلال الأخلاق عامة,

ولما لم يستطع ولاة الأمور القضاء على حوادث السرقة أمر الملوك بنقل مومياوات أسلافهم خفية من مكان إلى آخر خشية تكرار سرقتها، ومن التحقيقات التي أجريت عن سرقة المقابر في عهد رعمسيس التاسع يتبين لنا أن العداء الشخصي بين رئيس البوليس في طيبة الشرقية وبين محافظ الجبانة "أي: محافظ طيبة الغربية" كان سببًا في اتهام بعض الأبرياء وتبرئة المجرمين, ومن هذا يبدو أن التأثير على المحققين كان أمرًا شائعًا. وما أن تراخت قبضة الملوك حتى استفحل شر أمراء الأقاليم, وأصبح كهنة آمون أصحاب النفوذ الفعلي في مصر العليا، وما لبثت أسرة قوية في الدلتا أن زادت من نفوذها منذ عهد رعمسيس التاسع ثم حدثت ثورة لم يمكن إخمادها إلا بعد أن جاء "بانحسي" حاكم النوبة وقضى عليها؛ إلا أن الثورة تجددت في عهد رعمسيس الحادي عشر1 الذي لم يجد بدًّا من الفرار إلى طيبة؛ حيث استقبله "حريحور" كبير كهنة آمون استقبالًا حسنًا, وبذلك خلا الجو في الدلتا أمام الأسرة القوية التي ظهرت فيها وتمتعت بسلطة فاقت سلطة الملك الشرعي؛ حتى تمكن أحد أفرادها ويدعى "نسوبانبدد" أو "سمندس" من اغتصاب العرش وتكوين أسرة جديدة. ومما سبق نستطيع أن نتبين سرعة تدهور الأحوال في مصر؛ فبينما نجد أحد ملوك الأسرة التاسعة عشرة2 يذهب لتهدئة الأحوال في النوبة وتثبيت حاكمها في منصبه, نجد أن حاكم النوبة "بانحسي" يأتي في الأسرة العشرين للقضاء على الثورة التي قامت ضد الملك رعمسيس التاسع ولا ينتهي الأمر عند هذا الحد

_ 1 Gardiner, op. cit., p. 301. 2 انظر ص194.

فقد اضطر آخر ملوك هذه الأسرة -رعمسيس الحادي عشر- إلى الفرار من مقر مملكته في الشمال والالتجاء إلى كبير الكهنة في طيبة, كما سبق أن ذكرنا.

عصر الاضمحلال الثالث

6- عصر الاضمحلال الثالث: الأسرة الحادية والعشرون ونفوذ الكهنة: سبقت الإشارة إلى أن رعمسيس الحادي عشر -آخر ملوك الأسرة العشرين- اضطر إلى الفرار إلى طيبة؛ لظهور أسرة قوية في الدلتا تمكن أحد أفرادها ويدعى "نسوبانبدد" "سمندس" من اغتصاب العرش, ومن المحتمل أن زوجة هذا الأخير كانت من أصل ملكي مما يسر له الاستيلاء على الملك؛ بينما رحب حريحور كبير كهنة آمون في طيبة برعمسيس الحادي عشر وأبقاه إلى جانبه, وبذلك أصبح مطلق النفوذ في مصر العليا؛ لأنه كان -حتى قبل أن يلجأ إليه رعمسيس- يجمع السلطات الروحية والزمنية في يده؛ حيث إنه كان يجمع بين وظائف رئيس الكهنة وقائد عام الجيش وحاكم النوبة، أي أنه كان يتحكم في شئون الدولة الروحية والزمنية؛ فلما أصبح الملك الشرعي إلى جانبه لم ينازع سلطانه أحد في الجزء الجنوبي من مصر، ومنذ ذلك الوقت أصبح رؤساء كهنة آمون يهيمون على السلطات الزمنية والروحية في جنوب مصر, وخاصة لأنهم توارثوا في نفس الوقت قيادة الجيش وحكم النوبة، ورغم هذا فإن حالة البلاد الداخلية كانت سيئة على العموم. ولم يعمر "حريحور" طويلًا كما أن ولده "بي عنخ" لم يعمر طويلًا هو الآخر حيث عاصرهما "سمندس"، وحينما توفي هذا الأخير تبعه في الحكم "بسوسنس الأول" الذي لا نعلم عن حكمه شيئًا يذكر، أما في طيبة

فإن "باي نجم" قد خلف والده "بي عنخ" في رئاسة الكهنوت وتزوج من ابنة "بسوسنس الأول". وقد سارت البلاد من سيئ إلى أسوأ وتقلصت مملكة الشمال كما بدأ نفوذ الكهنة في الاضمحلال أيضًا، وكانت مصر قد فقدت مستعمراتها في آسيا ولم يعد لها أي نفوذ فيها منذ زمن، ولعل أصدق ما يصور لنا حالة التدهور التي وصلت إليها البلاد وزوال كل أثر للنفوذ المصري في الأقطار الآسيوية, قصة المبعوث "وينامون" الذي أرسله "حريحور" إلى لبنان لإحضار خشب الأرز اللازم لصنع سفينة آمون المقدسة؛ إذ يبين لنا هذا المبعوث كيف أنه ذهب إلى الملك في الشمال كي يساعده بالمال اللازم ولم يحظَ منه إلا بقدر يسير, كما يبين لما مدى ما تعرض له من صعوبات وكيف نهبت أمواله وأمتعته, وأنه لم يقابل من حكام سورية ولبنان إلا بالازدراء والاحتقار مع أنه كان يذكر لهم بأنه مبعوث من قِبَل فرعون مصر ورئيس كهنتها بعد أن كان مجرد ذكر اسم الفرعون فيما مضى كفيل بأن يبث الرعب في نفوس ملوك آسيا, ويجعل أمراء سورية ولبنان يسارعون بتقديم كل فروض الطاعة والولاء. ومما زاد حالة البلاد المصرية سوءًا وخاصة في الجنوب أن رئيس الكهنة كان يحكم الناس باستلهام وحي آمون الذي كان يستشيره في كل أمر وتسلط السحر والشعوذة على أفهام الناس حتى توهم السذج والبسطاء أن الإرادة الإلهية التي يصدرها آمون كافية لتصريف الأمور كلها، ولم يقم رؤساء الكهنة أو حكام طيبة بأي عمل جليل يذكر سوى مساهمتهم في نقل جثث الملوك السابقين من مخبأ إلى آخر خشية السرقة بعد أن عجزوا تمامًا عن حفظ الأمن، ومع هذا فقد تمتعوا بسلطة روحية كبيرة مكنتهم من التدخل في كثير

من الشئون المدنية بل وأتاحت لهم سلطة زمنية كبيرة؛ إذ كانوا يستطيعون أحيانًا -عن طريق وحي آمون- أن يحدوا من سلطة الملك نفسه. وحينما توفي الملك بسوسنس الأول أصبح "باي نجم" الحاكم الوحيد في مصر كلها, وتولى العرش باسم "باي نجم الأول"؛ لأنه كان صاحب النفوذ المطلق في جنوب مصر, كما أنه اكتسب حق اعتلاء العرش عن طريق زواجه بابنة الملك الراحل، أي: جمع بين شرعية ولايته على العرش وسلطة صاحب النفوذ الأقوى في البلاد, وقد أنجب ولدين هما: "ماحسارتي"، "من خبر رع"، وقد عين أولهما رئيسًا للكهنة؛ ولكنه لم يعمر طويلًا؛ إذ مات في حياه والده وتبعه شقيقه في رئاسة الكهنة حيث ظل يشغل هذه الوظيفة إلى أن توفي والده فتبعه على العرش. وتدل شواهد الأحوال على أن ثورة نشبت في مصر العليا أثناء تولي "ماحسارتي" لرئاسة الكهنوت نفى على أثرها عددًا من الثائرين إلى الواحات؛ ولكن -حينما وصل "من خبر رع" إلى طيبة وتقلد منصب رئيس الكهنة على أثر وفاة أخيه- استصدر وحي آمون بالعفو عن الثائرين؛ مما يوحي بأن مركزه كان حرجًا وأن الحالة كانت سيئة رغم ما تذكره النصوص عن حفاوة استقباله والترحيب به؛ فأغلب الظن أن ذلك لم يكن إلا ستارًا اختفت وراءه مظاهر مناوأة السلطة الحاكمة التي أخذت في الظهور في مختلف المناسبات، ومع كل فقد ظل "من خبر رع" متمتعًا بالسلطان سواء كرئيس للكهنة أو كحاكم مطلق بعد اعتلائه للعرش فترة تقرب من نصف قرن، ثم ظهر بعدئذ حاكم يدعى "امن – ام – اوبت" لا نعرف صلته بالبيت المالك، وربما كان مغتصبًا اعتلى العرش في الشمال ثم بسط سلطانه بعد ذلك على الجنوب، ومن المحتمل أن نوعًا من الصراع نشب بينه وبين "من خبر رع" انتهى بانتصار

هذا المغتصب الذي تلاه في الحكم بضعة ملوك ضعاف؛ بينما ظلت عائلة "من خبر رع" تتولى رئاسة الكهنوت. وفي غمرة هذا الضعف الظاهر فقدت مصر هيبتها نهائيًّا في سورية وفلسطين؛ بينما ظلت النوبة على ولائها لها ولكنها أخذت في الانفصال عنها من الناحية الإدارية حتى استقلت عنها تمامًا. وفي تلك الأثناء كانت مملكة العبرانيين قد ازدهرت وعظم شأنها, وإن كنا لا ندري هل تكونت هذه الدولة نتيجة لظهور بعض الأسرات المحلية القوية التي استطاعت أن تستقل بالبلاد أم أنها بدأت أصلًا بمساعدة المصريين -عند ظهور خطر شعوب البحر المتوسط- لكي تسهم في محاربة هذه الشعوب ودرء خطرها؟. ومع ذلك يبدو أن "بسوسنس الثاني" آخر ملوك الأسرة الحادية والعشرين وجد الفرصة للتدخل في شئون فلسطين والاحتكاك بأمرائها؛ إذ يحدثنا الكتاب المقدس بأن أميرًا من إيدوم ويدعى "حداد"1 فر خوفًا من بطش داود الذي كان قد أنشأ دولة قوية في فلسطين، وقد وصل هذا الأمير هو وبعض أخصائه إلى مصر؛ حيث أحسن ملكها استقباله وزوجه من أخت الملكة. وبعد مضي بعض الوقت قام الفرعون إلى كنعان في ظروف لا تعرف على وجه الدقة, واستولى على جزر وخربها وقدمها كصداق لابنته التي زوجها من سليمان2.

_ 1 سفر الملوك, الإصحاح 11 آية 14 وما بعدها. 2 سفر الملوك 1, الإصحاح 14 آية 25-26، الإصحاح 9 آية 16.

مصر تحت حكم الأجانب

مصر تحت حكم الأجانب: الأسرة الثانية والعشرون: سبق أن أشرنا إلى أن الليبيين كانوا يهددون الحدود المصرية في عهد الدولة الحديثة

وأن آخر من انتصر عليهم كان رعمسيس الثالث الذي سمح لهم بعد ذلك بالهجرة إلى مصر مسالمين1، وقد وفد منهم عدد كبير ودخلوا في خدمة الجيش المصري كجنود مرتزقة، ومن بين هؤلاء الوافدين أسرة قوية كان يتزعمها "يويوواوا" وقد استقرت هذه الأسرة في إهناسيا "هرقليوبوليس" ونعمت بشيء كبير من النفوذ والسلطان؛ إذ تولى بعض أفرادها مناصب مختلفة ومنهم من تولى وظيفة كاهن معبد إهناسيا وقائد حرس المدينة في نفس الوقت, ثم أصبحت هاتان الوظيفتان وراثيتين في أسرته من بعده. وتطور أمر هذه الأسرة وأصبحت من القوة والنفوذ؛ بحيث كانت تتصل بالملك رأسًا2، وبينما كانت الأسرة الحادية والعشرون تتداعى وفي طريقها إلى الانهيار أخذت هذه الأسرة الليبية تقوى وتشتد حتى تمكن أحدها ويدعى شيشنق من أن يستولي على العرش وجعل مقر ملكه في بوبسطة "تل بسطة الحالية قرب الزقازيق" ومن المرجح أنه لم يجد الفرصة المواتية لاتخاذ هذه الخطوة إلا بعد وفاة آخر ملوك الأسرة الحادية والعشرين وانقراض ذريته, كما يحتمل أنه كان قد زوج ولده من ابنة هذا الملك فاكتسب بذلك شيئًا من الحق في اعتلاء العرش بعد وفاة صهره، ويبدو أن كهنة آمون في طيبة كانوا أقل قبولًا لحكمه من أهل الدلتا وإن لم يستطيعوا إنكار حقه في العرش؛ إذ إنهم لم يعلنوا عن رضاهم ولم يعترفوا له بالملكية مباشرة ودارت بينه وبينهم مفاوضات

_ 1 انظر أعلاه ص197. 2 كان رئيس الأسرة الليبية القوية التي استقرت في إهناسيا يدعى شيشنق, وقد توفي ولده نمرود فدفنه في أبيدوس، وحينما اعتدي على قبر هذا الأخير لم يذهب الأب ليشكو لرئيس الكهنة في طيبة؛ بل ذهب إلى الملك الذي صحبه رأسًا إلى طيبة ليستفتي وحي آمون، ولما صدر حكم آمون على الجناة أرسل الملك تمثالًا لنمرود؛ ليوضع في أبيدوس على سبيل التعويض.

حول اعترافهم به، ويخيل إلينا أن هذه المفاوضات تعثرت في أول الأمر؛ لأنهم على الأرجح رغبوا في الحصول على المزيد من السلطة وتجريد الملك من بعض الحقوق التي كان يحتفظ بها، ومما يؤكد هذا الرأي أن لوحة في الكرنك عليها نص مؤرخ في السنة الثانية من عهد رئيس الماشواش1 الأكبر "شيشنق" بينما نجد على نفس اللوحة نصًّا آخر مؤرخًا بالسنة الثالثة عشرة من عهد الملك شيشنق, أي أنه في النص الأول كان يعتبر رئيسًا لليبيين فحسب؛ بينما اعترف به في النص الثاني كملك. ومن المؤرخين من يرى أن طائفة من كهنة آمون لم تقبل الاعتراف بحكمه وفرت إلى بلاد النوبة؛ حيث احتمت في منطقة نباتا وجعلت منها عاصمة للمملكة التي أقاموها هناك؛ ولذا يرجح هؤلاء المؤرخون أن أصل الأسرة النباتية2 يرجع إلى هؤلاء الكهنة ويستندون في ذلك إلى شدة ورع ملوك نباتا وإخلاصهم وتفانيهم في عبادة آمون وإلى أن بعض هؤلاء الملوك كانوا يحملون أسماء مصرية، كما يستنتجون عدم قبول حكم شيشنق أيضًا من قيام ثورة بالواحات الخارجية في السنة التاسعة عشرة من عهده؛ ولكن لا يمكن الأخذ بهذه الآراء؛ إذ ليس هناك ما يؤكد زيادة سلطان أولئك الكهنة في نباتا أو أنهم تمكنوا من الوصول إلى الحكم وتكوين أسرة مالكة فيها، كما أن تشابه أسماء بعض الملوك في نباتا مع الأسماء المصرية قد يرجع إلى أن بلاد النوبة كانت قد تأثرت بالحضارة المصرية منذ وقت طويل واصطبغت بها، كذلك يغلب على الظن أن ثورة الواحات الخارجية ترجع إلى كثرة وجود العناصر الثائرة بها؛ لأنها كانت تعتبر منفى للمجرمين وهؤلاء كثيرًا ما كانوا يرغبون في التخلص من منفاهم.

_ 1 الماشواش هم المرتزقة الليبيون, انظر 198. 2 نسبة إلى نبتة أو نباتا بالقرب من جبل البرقل عند الشلال الرابع في إقليم مروى بالسودان الشمالي.

ورغم ما يبدو -لأول وهلة- من عدم تحسن الأمور في مصر؛ فإن سياسة شيشنق الأول الخارجية تدل على أنه كان موفقًا إلى حد كبير؛ فحينما تولى العرش كان سليمان ما زال يحكم في فلسطين وكان النبي أشعيا قد تنبأ ليريعام وهو أحد أمراء إسرائيل المناوئين لسليمان بأنه سيحكم إسرائيل، ولما حاول سليمان القضاء على يريعام هرب هذا إلى مصر؛ حيث لجأ إلى شيشنق1، وبالرغم من أن المصريين كانوا يحرصون على علاقات الود مع ملوك العبرانيين الأقوياء؛ إلا أنهم لم يضيعوا أية فرصة تسنح لهم يتمكنون فيها من إضعافهم وأمعنوا في التدخل في شئون فلسطين أملًا في إعادة نفوذهم إليها، وعلى هذا نجد شيشنق يعمل بما نصح له به يريعام -الذي يرجح أنه تزوج بابنة شيشنق- من إعداد العدة لمهاجمة فلسطين، وكان العبرانيون قد ضاقوا ذرعًا بحكم سليمان الذي طعن في السن وأثقل كاهلهم بالضرائب الفادحة؛ فلما مات انقسموا على أنفسهم وانتهز شيشنق فرصة انقسامهم إلى مملكتين2 متنافستين وتقدم بجيشه حوالي سنة 920 ق. م. إلى مملكة يهودا التي كان يحكمها رحبعام بن سليمان, واستولى على خزائن الرب في أورشليم، وربما كان سبب عدم مقاومة رحبعام لشيشنق وحليفه يريعام "ملك إسرائيل" يرجع إلى أن النبي أشعيا كان قد تنبأ بتمزق مملكة العبرانيين, وأن يريعام سيحكم على عشر قبائل من قبائلها الاثنتي عشرة. واستمر شيشنق في غزواته؛ حيث امتلك بعض المدائن في فلسطين لمدة قصيرة ثم رجع إلى مصر، وقد نقش شيشنق أخبار الجزية التي وصلته من فلسطين ومن النوبة على جدران معبد الكرنك، وربما كان الباعث الذي دفع شيشنق

_ 1 سفر الملوك, الإصحاح 11 آية 40. 2 بعد موت سليمان لم يقبل ولده رحبعام تخفيف الضرائب على العبرانيين؛ فلم تعترف عشر قبائل من قبائلهم الاثنتي عشرة به ملكًا, ونادت بيريعام الذي عاد من مصر ملكًا عليها مكونة مملكة إسرائيل, أما القبيلتان الباقيتان؛ فقد بقيتا تحت حكم رحبعام وكونتا مملكة يهودا.

إلى هذا النشاط هو رغبته في البحث عن مورد للثروة؛ لأن البلاد كانت في حالة اقتصادية سيئة, ووجد أنه من المتعذر فرض ضرائب جديدة؛ لأن حكمه لم يكن مقبولًا تمامًا، وعلى ذلك اتبع سياسة ملوك مصر التقليدية في القيام بحملات خارجية لزيادة دخلهم، ولا شك في أنه أفاد من ذلك أيضًا في شغل أذهان الناس عن ولايته للعرش والشئون الداخلية؛ ليتمكن من تثبيت أقدامه في الحكم. وقد تفرغ شيشنق بعد عودته من حروبه في فلسطين للشئون العمرانية في داخل البلاد؛ حيث شيد وأصلح كثيرًا من المباني، ولما مات خلفه ولده "أسركون الأول" الذي كان والده قد زوجه من ابنة بسوسنس الثاني في حين كان ابنه الثاني "يوبت" كاهنًا في طيبة، ولم ينجب هذا الأخير أبناء فاتفق مع شقيقه "أسركون الأول"؛ على أن يكون ابن هذا الأخير خليفة لعمه في رئاسة كهنوت طيبة؛ إلا أن هذا الابن مات وخلفه ابنه "حرسا إيسي" حفيد "أسركون"، وقد مات هذا الأخير أيضًا فتبعه ولدان من أبناء أسركون ثم تبعهما الابن الرابع لأسركون ويدعى شيشنق، وفي تلك الأثناء توفي أسركون وتبعه على العرش "تكلوت الأول" "ثكرتي" ومن ذلك نتبين أن أربعة من أبناء أسركون الأول تتابعوا في رئاسة كهنوت طيبة واعتلى ابنه الخامس العرش من بعده. والظاهر أن طول مدة حكم أسركون الأول نسبيًّا وتتابع أفراد أسرته في رئاسة الكهنوت في طيبة مما زاد الحالة تعقيدًا في البلاد؛ إذ من المحتمل أن ما تمتع به هؤلاء من نفوذ وسلطان كان يدفعهم دائمًا إلى إثارة المتاعب أو محاولة الاستحواذ على مزيد من السلطة، وربما دأب أسركون على تغييرهم

من أجل ذلك؛ لأننا لا ندري كيف انتهت خدمات بعض أبنائه في رئاسة الكهنة. ومهما يكن من أمر؛ فقد بدأ الصراع واضحًا بين الشمال والجنوب في نهاية عصر أسركون الأول وبداية عصر "تكلوت الأول" ثم اشتد النزاع بين هذا الأخير وشقيقه الكاهن شيشنق؛ لأن هذا الأخير حينما شعر بقوة نفوذه في طيبة انتحل الألقاب الملكية، وحينما تولى أسركون الثاني بعد والده تكلوت الأول وجد أن نفوذ عمه يهدد سلطانه وخاصة في أجزاء مصر الجنوبية؛ ولذا عمد إلى الاحتفاظ بهيبة الملكية في تلك الجهات وقام بإصلاح بعض التلف الذي أصاب معابد طيبة باسمه وخاصة في معبد الأقصر الذي أثر فيه الفيضان، ومع هذا يبدو أن الخطر ظل يتهدد نفوذ الملك من نواحٍ متعددة كما يتبين ذلك من تمثال للملك "أسركون الثاني" عثر عليه في تانيس؛ إذ نقشت عليه دعوات يطلب فيها الملك من المعبود أن يخلد أبناءه في الحكم, وأن يمنحهم السلطة على رؤساء الكهنة وعلى رؤساء "ماشواش" العظام وعلى كهنة هرقليوبوليس، ومما جاء في هذه الدعوات أيضًا: "اجعل أولادي في الوظائف التي عينتهم بها, ولا تجعل قلب أحدهم يكبر أو يعظم على قلب أخيه"1. فمن هذه الدعوات يمكن أن نتبين سوء الحالة في البلاد في عهد هذه الأسرة بصفة عامة؛ إذ كانت هناك بضع قوى متنافرة كل منها تعارض سلطان الملك, وهذه القوى تتمثل في الكهنة ورؤساء الماشواش "المرتزقة الليبيين" الذين أصبحت لهم سطوة كبيرة باعتبارهم يمتون بصلة للبيت المالك، وربما أصبح معظم أمراء الأقاليم من هؤلاء الليبيين، ولا شك أن كل طائفة من هذه الطوائف

_ 1 JEA 46, pp. 12 ff "especially p. 17".

كانت تعمل لمصلحتها الخاصة؛ مما أضعف سلطان الملوك وتراخت قبضتهم عن الأقاليم؛ فحظي أمراؤها بشيء من الاستقلال والسيادة وإن لم يتعد نفوذهم عواصم أقاليمهم إلا قليلًا. والخلاصة التي يمكن أن نستنتجها هي أن البلاد كانت سائرة في طريقها إلى الانحلال, وأن تنازع السلطات بلغ من الخطورة حدًّا جعل الملوك لا يأمنون على عروشهم؛ فهناك ما يشير إلى أن "أسركون الثاني" قبل أن يعتلي العرش كان مشتركًا في الحكم مع والده الذي اتخذ هذه الخطوة لكي يضمن لولده ولاية العهد، وقد اتبع "أسركون الثاني" نفس هذه السياسة مع ولده "شيشنق الثاني" الذي مات في حياته, فأشرك معه ابنه الآخر "تكلوت الثاني" الذي استمر معه في الحكم سبعة أعوام ثم انفرد بالعرش بعد وفاته. وأخذت هذه بعد ذلك تنحدر نحو الاضمحلال حتى إن ابن تكلوت الثاني -وكان يدعى أسركون- قد جرؤ في السنة الحادية عشرة من حكم والده على تقديم بعض الهدايا إلى معبد آمون باسمه الخاص مع أنه لم يكن إلا رئيسًا للكهنة، وبالرغم من تقديمه لتلك الهدايا فإن رئاسته للكهنة كانت في أغلب الظن غير مقبولة؛ إذ إن أهالي طيبة قاموا بثورة ضده فاضطر إلى الهرب، وبعد نحو عشرة أعوام عاد إلى طيبة بمعاونة بعض أعوان والده، ويبدو أنه استلهم وحي الإله آمون حينئذٍ فأصدر هذا عفوه عن الثائرين؛ ولكن ذلك العفو كان مؤقتًا في نظر أهل طيبة على الأقل؛ لأنهم أعادوا الثورة فاضطر أسركون للهرب ثانية بعد نحو ستة أعوام من عودته، وظل مختفيًا في هذه المرة نحو ثلاثة عشر عامًا، وفي كل مرة كان يختفي فيها تولى رئاسة الكهنوت في مكانه أحد أفراد الأسرة ويدعى "حرسا إيسي".

ومن النقوش التي ترجع إلى أواخر عصر هذه الأسرة يتبين لنا أن عهود آخر ثلاثة ملوك فيها كانت تسودها الاضطرابات وقد تلفت فيها آثار كثيرة ولم تنجُ عاصمتهم "بوبسطة" من التخريب, كما أنها تعرضت بعد ذلك للنهب والتدمير؛ ولذلك كانت معلوماتنا عن هذه الأسرة بصفة عامة ضئيلة للغاية، ولا نجد فيما لدينا من نصوص بعد عهد مؤسسها شيشنق ما يشير إلى فلسطين؛ مما يدل على أن نفوذ مصر قد انعدم فيها من بعده. ويحتمل أن ظهور مملكة آشور في ذلك الحين جعل بعض الدويلات الآسيوية في شرق حوض البحر المتوسط تتجمع في شكل اتحاد ضدها، ووجد "تكلوت الثاني" أن في ظهور هذه المملكة الفتية خطرًا يهدد مصر؛ فأرسل عددًا من المقاتلين كمدد لذلك الاتحاد الذي هزمه شلمنصر الثالث ملك أشور حينئذ، وأثار ذلك انتباه هذه الدولة الفتية إلى الدور الذي تقوم به مصر فتحفزت للاصطدام معها. وفي أواخر عهد "شيشنق الثالث" أي: في أثناء تولي "حرسا إيسي" لرئاسة الكهنوت من جديد, نشأت أسرة ملكية "بدأها "بادي باست"" في طيبة هي الأسرة الثالثة والعشرون، أي أنها كانت تعاصر الأسرة الثانية والعشرين وخاصة في الفترة الأخيرة منها؛ ولكننا لا نعرف كيف نشأت هذه الأسرة؟ وما هي العلاقة بينها وبين الأسرة السابقة؟ بل ولا نعرف شيئًا عن الدور الذي قام به "حرسا إيسي" عند تعاصر الأسرتين، وكل ما يمكن أن نقوله هو أن الأحوال الخارجية والداخلية بصفة عامة لم تكن واضحة تمامًا. ومما تجدر ملاحظته أن الأسرة الثالثة والعشرين قد مرت في نهايتها بنفس التجربة؛ إذ ظهرت في الشمال أسرة جديدة "وإن لم تعمر هذه الأسرة طويلًا" كما شاهدت كذلك دخول النبتاويين إلى مصر؛ حيث أسسوا الأسرة الخامسة والعشرين.

الأسرة الثالثة والعشرون: تمكن ثلاثة الملوك الأخيرون في الأسرة الثانية والعشرين من الاحتفاظ بسلطتهم على قسمي المملكة الشمالي والجنوبي فيما عدا الفترة التي حكم فيها "يادي باست" في طيبة "كما أشرنا" حيث انتزع السلطة من ملوك بوبسطة، ويرى مانيثون أنه مؤسس الأسرة الثالثة والعشرين؛ ولكن يبدو -حسب ما يفهم من بردية في فينا- أن بعض الاضطرابات حدثت في السنة الرابعة عشرة من حكمه, وأنه اضطر إلى أن يقتسم السلطة مع أحد أمراء شرق الدلتا. ولا ندري على وجه التحديد هل كان "بادي باست" من سلالة كهنة طيبة وتمكن من أن ينتزع السلطان من أمراء بوبسطة ثم تمكن أحد هؤلاء من أن يقتسم معه السلطة على أثر ثورة قام بها، أم أن "بادي باست" كان مغتصبًا لا علاقة له ببيت الكهنة ولا بالبيت المالك في الشمال، وحينما سنحت الفرصة ثار عليه أحد أمراء الشمال واضطره إلى اقتسام السلطة معه؟. وعندما اعتلى العرش شيشنق الرابع خليفة بادي باست نجح في توحيد البلاد من جديد؛ ولكن يبدو أن ذلك لم يكن إلا ظاهريًّا فقط؛ لأن منافسات شديدة قامت بين أمراء الأقاليم الذين كانوا يشعرون بأنهم من القوة بحيث يستطيعون الخروج على سلطان الملك وعلى ذلك حدثت اضطرابات مختلفة؛ فمن ذلك مثلًا ما حدث عند اشتداد المنافسات بين أمير تمي الأمديد وأمير عين شمس إذ انضم إلى كل منهما فريق من الأمراء ونشبت بسبب ذلك حروب عجز فيها "بادي باست" وخليفته "شيشنق الرابع" عن حقن الدماء. وما أن تولى "أسركون الثالث" بن "شيشنق الرابع" حتى كانت البلاد قد انقسمت إلى إمارات صغيرة تتشاحن فيما بينها، وكانت الإمارات

التي تمتد من الوجه البحري إلى الأشمونين تتقاتل فيما بينها بصورة تشبه إلى حد كبير ما كان يحدث في عصور ما قبل الأسرات، وقد وصلنا نحو ثمانية عشر اسمًا لأمراء من هؤلاء المتنازعين، وفي خضم هذه الاضطرابات التي كانت تعاني منها البلاد والتي جعلت من ملكها أشبه بحاكم على إقليم العاصمة "بوبسطة" ولا يتعدى نفوذه كثيرًا حدود هذا الإقليم, كانت إسرائيل في صراع مع دولة أشور؛ فلم تتمكن مصر من تقديم المساعدة لها، بل كانت مصر بالنسبة لظروفها الخاصة تعد فريسة سهلة لكل من يطمع فيها من جيرانها, ولكن لم يغامر أحد بالإغارة عليها في ذلك الوقت، واستمر بعض خلفاء "أسركون الثالث" يحكمون فترة وجيزة إلى أن ظهر أمير قوي في "سايس" "في غرب الدلتا" هو "تفنخت" الذي حاول أن يخضع كل أمراء الدلتا لسلطانه. وفي نفس الوقت كانت أسرة حاكمة قد تكونت في نباتا, واستطاعت أن تبسط سلطانها على كل السودان الشمالي وبلاد النوبة ومصر العليا حتى طيبة. وأول من سمعنا عنه من ملوك هذه الأسرة النبتاوية في النصوص المصرية هو "كاشتا" ثم تلاه "بمنخى" الذي أخضع البلاد كلها لسلطانه؛ ولذا يعتبره بعض المؤرخين مؤسس الأسرة الخامسة والعشرين، كما يطلق فريق من المؤرخين على هؤلاء النبتاويين اسم "الأسرة الأثيوبية"؛ لكن نظرًا لاختلاف مدلولات أثيوبيا والنوبة باختلاف العصور، وعدم دلالة أيهما على كل الأجزاء التي ارتبطت بمصر أيام الفراعنة، ولعدم تأكدنا من أصل هذه الأسرة حتى الآن؛ فإننا نفضل الإشارة إلى هذه بالاسم المشتق من اسم عاصمتها نبتة أو نباتا أي: "الأسرة النبتاوية". الأسرتان الرابعة والعشرون والخامسة والعشرون: ما زال المؤرخون يختلفون في أصل الأسرة النباتية, وما زلنا نجهل كيف استطاع أحد ملوك هذه الأسرة وهو "كاشتا" أن يفرض سلطانه على مصر العليا

حتى طيبة، وبذلك أصبح يحكم مملكة تمتد -على الأقل- من الشلال الرابع جنوبًا إلى طيبة شمالًا أي: إنه يحكم في إقليم النوبة الغنية فضلًا عما كانت مملكته تنعم به من وحدة متماسكة، على عكس الحال في مصر التي فقدت أملاكها في آسيا كما تنازع فيها الأمراء ورجال الدين على السلطة؛ إذ وجدوا في ضعف الملوك خير مشجع لهم على التمادي في محاولة الاستئثار بها، وقد تطورت الأمور بعد ذلك سريعًا في مصر لأن "تفنخت" أخذ يمد نفوذه على بقية الأمراء في الدلتا محاولًا أن يعيد الوحدة إلى البلاد؛ فبعد أن قهر أمراء غرب الدلتا سار جنوبًا حيث استولى على شمال الوجه القبلي ثم عاد فبسط نفوذه على شرق الدلتا ووسطها أي أنه أصبح ملكًا بالفعل على الوجه البحري وشمال الوجه القبلي إلى بني حسن ولم تقاومه إلا إهناسيا عاصمة إقليم الأشمونين، وفي تلك الأثناء كان "بعنخي" قد تولى الملك في النوبة بعد "كاشتا"، ولم يهتم بادئ الأمر لنجاح تفنخت في بسط نفوذه على بقية أمراء الدلتا؛ ولكنه شعر بالخطر الذي يهدد نفوذه عندما عاد تفنخت إلى التقدم في الصعيد وانزعج حينما علم بأن "نمرود" أمير الأشمونيين استسلم له في النهاية بل وانضم إليه أيضًا، وعلى ذلك أمر بعنخي قواته بالتقدم شمالًا نحو تفنخت لوقف تقدمه إلى الجنوب، ومن المحتمل أن القوات النبتاوية لم تصادف نجاحًا كبيرًا في أول الأمر فاضطر بعنخي أن يتقدم بنفسه نحو الشمال، وما أن وصل إلى طيبة حتى استراح بها وقدم الهدايا لآمون, ثم واصل سيره شمالًا مخضعًا كل الأقاليم التي كانت في طريقه إلى أن وصل الأشمونين حيث دارت معركة بين أسطوله وبين الأسطول المصري هزم فيها هذا الأخير، وفر تفنخت شمالًا ليعيد تنظيم قواته ويقوي من تحصيناته. أما نمرود فقد تحصن في الأشمونين ودافع عنها, ولكنه -إزاء حصار بعنخي- أجبر على التسليم وأرسل زوجته للتوسط له عند حريم بعنخي،

جدول يبين معاصرة الأسرات 25,23,22 بعضها البعض

وقد استولى بعنخي على كثير من نفائس المدينة ثم تقدم شمالًا نحو منف التي احتمى بها تفنخت، وفي أثناء حصار بعنخي لها فر تفنخت قبل أن تسقط في يده، وما أن استولى عليها حتى ذهب إلى معبد عين شمس حيث اعترف به ملكًا على مصر، وهنا وفد عليه "أوسركون الثالث" الذي كان يحكم في بوبسطة وقدم له الخضوع والولاء، وبعدئذٍ توجه يعنخي إلى "أتريب"؛ حيث أقبل عليه أمراء الدلتا معلنين ولاءهم كذلك، وفي تلك الأثناء كانت تفنخت قد وصل في فراره إلى بلدة صغيرة مجهولة تعرف باسم "مسد"؛ فأرسل بعنخي قوة فتكت بحاميتها واضطر تفنخت أن يلجأ إلى جزيرة صغيرة في شمال الدلتا تحيط بها المستنقعات, ومن هناك أرسل الهدايا إلى بعنخي راجيًا منه أن يرسل من قبله رسولًا إلى معبد مجاور كي يقسم أمامه يمين الطاعة والولاء له، وقد تم ذلك فعلًا، وعندئذ قدم بقية الأمراء ولاءهم له أيضًا؛ فأصبح بعنخي حاكم مصر المطلق، أي: إن ملكه امتد من نباتا "أو أبعد منها قليلًا إلى الجنوب" إلى أقصى شمال الدلتا، ومعنى هذا أنه كان يحكم مملكة لا تقل عن الإمبراطورية المصرية في أوج عظمتها باستثناء الأجزاء الشمالية الشرقية في سورية وفلسطين. وٍيدهشنا أن بعنخي لم يستمر طويلًا في مصر؛ بل عاد مسرعًا إلى نباتا وما زلنا نجهل الأسباب التي دعته إلى ذلك؛ إذ إن عودته السريعة جعلت بعض المؤرخين يشبهون حملته بمغامرة ليس لها غد إذ لم تكن ذات نتائج حاسمة، ومما هو جدير بالذكر أيضًا أن الفترة التي غزا فيها بعنخي مصر هي الفترة الوحيدة التي أمسك فيها تفنخت عن ادعاء حكم مصر؛ حيث يبدو أنه ما أن رجع بعنخي إلى عاصمة ملكه في النوبة إلا وعاد نفنخت إلى ادعاء حكمه لمصر بأكملها، وإن كنا نرجح أن ملكه لم يكن ليتجاوز "منف" جنوبًا؛ بل وكانت بقايا الأسرة الثالثة والعشرين تحكم في بوبسطة في نفس الوقت أيضًا، ويبين الجدول بالصفحة التالية كيف حكم مصر ملوك يمثلون أسرات مختلفة في نفس العصر.

فإذا اعتبرنا أن ملوك نباتا هم ملوك الأسرة الخامسة والعشرين في مصر؛ فإننا في هذه الفترة نجد مثالًا آخر لمعاصرة بعض الأسرات المصرية1 للبعض الآخر؛ فبينما تحكم الأسرة الثالثة والعشرون في بوبسطة يسيطر ملوك الأسرة الخامسة والعشرين على مصر بالفعل أو على الأقل يتحكمون في الصعيد ويسيطر تفنخت الذي يعتبر مؤسسًا للأسرة الرابعة والعشرين على معظم الدلتا وكانت عاصمته سايس؛ هذا وقد ظلت نبتة تسيطر على الصعيد حتى بعد أن عاد تفنخت إلى اتخاذ الألقاب الملكية وربما كان السبب في خروج أمراء الوجه البحري على نفوذ نبتة يرجع إلى أنهم كانوا أقرب إلى الاتفاق مع تفنخت من أمراء الصعيد، وفي نفس الوقت كان نفوذ "كبيرة محظيات آمون في طيبة"2 عاملًا أساسيًّا في نفوذ مملكة نباتا في الصعيد؛ لأننا نعرف أن ابنة أسركون الثالث التي كانت كبيرة محظيات هذا الإله قد تبنت شقيقة بعنخي. ولما توفي تفنخت تبعه ولده "بخورس" في الحكم في سايس، وقد رأى

_ 1 انظر الأسرات 8 و9 و10 و11 و13 و14 و17 الهكسوسية و17 المصرية 128-133، 148-150، 154-156. 2 يبدو أن الملوك حينما شعروا بضعفهم أسندوا وظيفة كبيرة محظيات آمون إلى سيدات من البيت المالك؛ ولكن لا توجد إلا إشارات ضئيلة من هؤلاء في الأسرتين 21 و22 ولا تعرف سلسلة المحظيات إلا ابتداء من عهد أوسركون الثالث "ثالث ملوك الأسرة 22" الذي عين ابنته في هذه الوظيفة ليحد من نفوذ كهنة آمون على الأرجح، ولما وصل نفوذ كاشتا إلى مصر العليا أجبر شبن وبت الأولى ابنة أوسركون على أن تتبنى ابنته، ومن ذلك الوقت ظهرت سلسلة من التبني حيث كانت كبيرة المحظيات تتبنى ابنة الملك الحاكم أو أخته, انظر: Jean Leclant, Enquétes sur les Sacerdoces et les Sanctuaires Egyptiens, "Le Caire 198".

هذا الأخير أن نفوذ أشور قد ازداد إلى درجة كبيرة؛ فلم يجد بدًّا من إرسال هدية إلى "سرجون الثاني" ملك أشور "721-705 ق. م"، وربما كان بخورس يرمي من وراء ذلك إلى توطيد علاقاته مع ملك أشور أو أنه كان يهدف إلى اكتساب عطفه إذا ما أراد أن يعارض نفوذ نباتا، وقد اعتبر سرجون الثاني هذه الهدية بمثابة الجزية وادعى خضوع مصر لسلطانه.

الصراع الأشوري النبتاوي على مصر

الصراع الأشوري النبتاوي على مصر: كان لما وصلت إليه مصر من ضعف ولوجود قوتين عظيمتين في أشور ونبتة واتساع ملكهما وزيادة أطماعهما أكبر الأثر على الحالة الدولية؛ إذ كان لا بد لهاتين القوتين من أن تصطدم إحداهما بالأخرى، وقد تعود ملوك مصر منذ بداية الأسرة الثالثة والعشرين على إرسال الهدايا إلى ملوك أشور حتى يصرفوهم عن غزو مصر، ولا نكاد نعلم شيئًا عن الحالة في نبتة بعد عودة بعنخي سوى أنه توفي بعد نحو عشرة أعوام "حوالي سنة730 ق. م" وتبعه "شبكا" على العرش. وقد بسط شبكا سلطانه على مصر ونقل عاصمته إلى الدلتا؛ ولكننا لا ندري هل تم له ذلك عن طريق الاستيلاء على مصر عنوة أم أنه وفق إلى فرض سلطانه عليها دون حاجة إلى جهد عسكري؟ وما ينسب مانيثون إلى هذا الملك أنه أحرق بخورس حيًّا كما يعتبره مؤسس الأسرة الخامسة والعشرين، كذلك يذكر بعض المؤرخين أنه لم يحكم في النوبة؛ وإنما حكم في مصر فقط. وبما أن بعنخي أخضع البلاد كلها لسلطانه بل وكان كاشتا يحكم الصعيد من قبل؛ فإنه لا يمكن اعتبار شبكا مؤسسًا للأسرة الخامسة والعشرين؛ وخاصة أنه ثبت بالدليل القاطع أن شبكا حكم مملكة مترامية الأطراف, كانت تمتد جنوبًا إلى ما وراء الشلال الرابع, كما كانت الواحات تخضع له أيضًا1.

_ 1 BIFAO. 51, p. 9 n.4

ولما وقفت القوتان "أشور ونباتا" وجهًا لوجه بدأ ملوك نبتة سياسة جس النبض، بل ومن المرجح أنهم أرادوا أن تكون علاقتهم بآشور ودية بدليل وجود أختام من الصلصال في أرشيف نينوى تحمل اسمي شبكا وسرجون الثاني جنبًا إلى جنب، كذلك وجد ختم لشبكا في كيونجك يحتمل أنه كان ختمًا لرسالة أرسلت منه إلى الملك الأشوري؛ فلما أرسل الأخير رده إلى شبكا اعتبره هذا دليلًا على خضوع الملك الأشوري له؛ إذ إننا نجد أحد نقوش شبكا يمثله وهو يخضع الشعوب الآسيوية والإفريقية بالطريقة التقليدية المعروفة في مصر الفرعونية. وحينما أخضع سرجون الثاني سماريا ونقل أهل إسرائيل إلى بلاد النهرين لم يبق من فاصل بين أشور ومصر "منطقة نفوذ نبتة" إلا مملكة يهودا الصغيرة التي كانت تتأرجح بين الخضوع للملك الأشوري أو لملك مصر، ثم ما لبثت كل الممالك الصغيرة في فلسطين ومن بينها يهودا أن خضعت لأشور. وقد ذاقت هذه الممالك الأمرين من حكمها؛ فثارت ضدها وبعدئذٍ لم يكن هناك بد من غزو الأشوريين مصر؛ لأن شبكا كان يثير قواتها المتحالفة ويشجعها؛ إلا أن سرجون استطاع أن يقضي على تلك القوات وأن يوطد مركزه في هذه الإمارات. وبعد أن حكم شبكا اثني عشر عامًا مات وتبعه في الحكم "شبتكو" الذي لم يحكم إلا فترة وجيزة, حدث خلالها أن توفي سرجون الثاني هو الآخر وتولى بعده "سنخريب" الذي ضاق ذرعًا بمؤامرات مصر وثورات الدويلات الصغيرة في غرب آسيا، فحاصر أورشليم إلى أن أخضعها واضطر ملكها "حزقيا" إلى دفع ضريبة ضخمة كان من جرائها أن جردت المعابد من كنوزها ونفائسها, وبعدئذ عاد الأشوريون إلى بلادهم؛ حيث يبدو أن وباء انتشر في صفوف جيشهم، كما أن الأحوال الداخلية في بلادهم لم تكن لتشجع على التقدم إلى مصر. ويشير الكتاب المقدس إلى ذلك فيذكر أن الأشوريين رجعوا من فلسطين

"نتيجة لوصول طهرقة, ولوصول ملاك الرب"1. ولا يعرف إلا القليل عن حكم شبتكو؛ إلا أنه في الغالب لم يهتم بالشئون الخارجية أو على الأرجح لم يجد في نفسه القدرة على المغامرة فيها فكرس جهوده للبناء، وقد ذكر مانيثون أن "طهرقة" قتل شبتكو واعتلى العرش من بعده واتخذ تانيس عاصمة له, ولكن هذه الرواية لا يمكن مقابلتها إلا بالشك2. وكان طهرقة قائد الجيش منذ عهد شبكا, وما أن اعتلى العرش حتى أخذ ينظم المقاومة ضد الأشوريين؛ ولكنه أهمل في السياسة الداخلية بل ولم ينجح في سياسته الخارجية أيضًا؛ لأنه لم يقدر الظروف حق قدرها؛ إذ إنه لم يقم بأي جهد في سبيل تنظيم الإدارة الداخلية التي ساءت إلى أبعد حد, كما أنه لم يستعد الاستعداد الحربي الكافي لمواجهة خطر أشور بالرغم من أنه كان يدبر المؤامرات ضدها, ويتعاون مع الولاة الذين كانوا يناوئونها وخاصة أمراء صور وصيدا. ويبدو أن نهاية سنخريب لم تكن سارة؛ إذ اغتاله أحد أبنائه3 وتولى بعده "أسرحدون" الذي أخضع الولايات التي ناوأته بمنتهى العنف، فما أن امتنع والي صيدا عن دفع الجزية حتى دفع حياته ثمنًا لذلك، وحينما أصغى ملك صور إلى رسالة طهرقة التي كانت تدعوه لمناوأة أشور, وجه أسرحدون

_ 1 سفر الملوك الثاني, الإصحاح 19 الآيات 8-35, والمعروف أن طهرقة كان قائدًا للجيوش المصرية في ذلك الوقت قبل أن يعتلي العرش بعد وفاة شبكتو. 2 كان نظام توارث العرش في الأسرة النباتاوية يجعل طهرقة وريثًا لأخيه شبتكو, فلم يوجد ما يدعو لأن يقتل طهرقة أخاه, انظر: Macadam, Kaw I, pp. 22ff. 3 سفر الملوك الثاني, الإصحاح 19 الآية 47.

ضرباته للقوتين معًا فحاصر صور وأرسل في نفس الوقت حملة إلى طهرقة في مصر؛ لكن حصار صور استمر خمسة أعوام واضطر الجيش الذي أرسله إلى مصر أن يتقهقر؛ مما أحنق أسرحدون وأثار غضبه على طهرقة، فتقدم بجيشه نحو مصر وهزم النبتاويين عند الحدود المصرية، وحينما تراجع طهرقة إلى منف تبعه الأشوريون واستولوا عليها وخربوها ولكن طهرقة فَرَّ إلى الجنوب. أما أمراء الدلتا فقد قدموا ولاءهم لآشور وأبقاهم أسرحدون في مناصبهم كولاة من قبل الآشوريين، وما إن ترك أسرحدون مصر عائدًا إلى بلاده حتى رجع طهرقة إلى الدلتا بجيش آخر جمعه من مصر العليا ومن السودان, واحتل منف ثانية وقام ببعض الإصلاحات فيها, كما استأنف علاقاته مع ملك صور. وإذا ما نظرنا إلى حالة الدلتا في ذلك الوقت نجد أن معظم أمرائها كانوا موالين لملوك نبتة الذين كانوا ينتمون إلى أصل مماثل لأصلهم بينما كان الأشوريون يمثلون عنصرًا آخر، ولم يكن المصريون ليرتاحوا كثيرًا إلى العناصر الآسيوية وخاصة إذا دخلت هذه العناصر إلى البلاد غازية أو ذات نفوذ، ومع هذا فلا شك في أن بعض الأمراء كانوا يترددون بين الولاء لملوك نباتا والخضوع لأمراء أشور, ومن المؤكد أن طهرقة لم يعد إلى الدلتا إلا بعد أن وجد تشجيعًا من معظم أمرائها؛ حيث كتب له هؤلاء على أثر عودة أسرحدون إلى بلاده يطلبون إليه القدوم إلى مصر, واقتسام السلطة فيما بينهم1. وقد علم الأشوريون بأمر هذه الرسائل وكان أسرحدون يستعد لإعادة فتح مصر ولكنه توفي وتبعه "أشور بانيبال" وقد تقدم هذا الأخير على رأس جيش كبير وأعاد فتح مصر؛ ففر طهرقة إلى منف ومنها إلى طيبة إلا أن جيش آشور تبعه إليها وخربها, ففر طهرقة إلى نباتا؛ بينما قبض على المتآمرين من أمراء

_ 1 H. Zeissl, Aethiopen und Assyrer iu Aegypten, "Hamburg 1944". P. 15.

الدلتا وأرسلوا إلى نينوى لمحاكمتهم، وكان من بين هؤلاء "نكاو" أمير صالحجر الذي -بدلًا من معاقبته- أعيد إلى وظيفته مكرمًا كما عين ولده "بسماتيك"1 أميرًا في أتريب, ولا ندري سببًا لذلك كما لا ندري كيف استطاع "منتوام حات" أمير طيبة ورئيس كهنتها أن يقنع الأشوريين بالرجوع عن طيبة بعد تدمير طفيف لها؟ ومع أن طهرقة فر إلى نباتا وبقي بها حتى وفاته؛ إلا أنه ظل يتمتع بسلطة اسمية على مصر؛ حيث اعترف به كملك في طيبة إلى ما بعد هذه الغزوة الآشورية، ورغم كثرة حروبه فإن ما خلفه من آثار يجعلنا نعتقد أنه كان من أكثر ملوك نبتة ثراءً. ولما توفي طهرقة تبعه في الحكم "تانويت أماني" الذي ادعى في لوحة له تعرف باسم لوحة الرؤيا بأن الإله آمون جاءه في المنام وأمره بالتقدم إلى مصر والاستيلاء عليها، ومع أنه يشير إلى ترحاب المصريين به؛ إلا أننا نفهم من بين سطور هذه اللوحة أن الظروف لم تكن مواتية له تمامًا، كذلك لم يستمر في مصر طويلًا؛ لأن آشور بانيبال عاد إليها ثانية وأخضعها من جديد ودمر طيبة للمرة الثانية, ففر تانويت أماني إلى نباتا، ومنذ ذلك الحين لم تشاهد مصر بعد ذلك أحدًا من ملوك النوبة كما أن الأشوريين رجعوا إلى نينوى، ولم تبق مملكتهم بعد ذلك طويلًا بل تحطمت عاصمتها نينوى بعد غزوة أشور بانيبال الأخيرة بنحو خمسين عامًا. ومهما كان من أمر الأحداث التي مرت بمصر بعد الغزوة المشار إليها؛ فإن السلطة الفعلية فيها كانت في يد "بسماتيك" الذي أشرنا إلى تعيينه أميرًا لأتريب؛ فقد تولى إمارة سايس بعد والده، ويبدو أنه أعلن نفسه ملكًا

_ 1 لم يكتفِ بهذا, بل أعطى بسماتيك اسمًا أشوريًّا كذلك, انظر: Luckenbill, ABAR, II., 770

على البلاد على أثر عودة أشور بانيبال من حملته الأولى1, أي: قبل غزوة أشور الثانية لطيبة, وفي نفس الوقت كانت سلطة تانويت أماني معترفًا بها في مصر العليا لمدة تزيد على ستة أعوام بعد فراره من مصر2, ومن الغريب أننا لا نجد نصًا واحدًا من النصوص المصرية يشير إلى خروج الأشوريين من مصر؛ وعلى ذلك لم يستطع المؤرخون أن يجدوا سببًا مباشرًا لتركهم للبلاد. ويعد عصر بسماتيك بداية عهد جديد؛ فقد استطاع أن يؤسس أسرة جديدة, هي الأسرة السادسة والعشرون, ولا نعلم كيف تخلص من النفوذ الأشوري؟ وكيف زال النفوذ الاسمي لملوك نبتة نهائيًا من طيبة؟.

_ 1 انظر أعلاه ص224. 2 F. R. Kienitz "die Politische Geschichte Aegyptens vom 7 bis Zum 4 jahrhundert vor des zeitwende", "Berliu 1952", pp. 14-15.

عصر النهضة المؤقتة

عصر النهضة المؤقتة الأسرة السادسة والعشرون ... 7- عصر النهضة المؤقتة في مصر: الأسرة السادسة والعشرون: تمتعت مصر خلال عهد الأسرة السادسة والعشرين بشيء من الرخاء والنهوض كانت قد حرمت منهما منذ وقت طويل، كما أنها بدأت عهدًا جديدًا في علاقاتها الخارجية وإن كانت هذه العلاقات قد سلكت اتجاهًا مغايرًا لما اعتادته مصر من قبل؛ حيث أخذت تستعين بالمرتزقة اليونانيين، وبدأت توطد علاقاتها مع جزر البحر المتوسط، ومن المحتمل أن بسماتيك الأول طلب المعونة من ملك ليديا لتدعيم سلطانه؛ فأرسل هذا جنودًا من الأيونيين والكاريين. وهكذا نجد أن بسماتيك يقع في نفس الخطأ الذي وقع فيه الرعامسة مع فارق بسيط هو أن المرتزقة في عهد الرعامسة كانوا من عناصر ليبية ونوبية ومن شعوب البحر؛ بينما كانت العناصر

الإغريقية وعناصر جزر البحر المتوسط تمثل الغالبية في عهد بسماتيك، ومن ثم بدأ النفوذ اليوناني يدخل إلى مصر وتأثرت الثقافة المصرية بتأثيرات يونانية مختلفة، وقد عمل المصريون من جانبهم على تيسير إقامة اليونانيين في بلادهم فبنوا لهم بعض المدن الخاصة, وشيدوا لهم مستعمرات أقاموا فيها وتزايد عددهم حتى دب الحسد في نفوس الجنود الآخرين من مصريين وليبيين وغيرهم، وفر بعضهم إلى النوبة؛ لأن هؤلاء لم ينظروا بعين الارتياح لتشجيع بسماتيك للمرتزقة اليونانيين، وقد أطلق هيرودوت على هؤلاء الفارين اسم "أسماخ"1؛ ولكن وجود المرتزقة اليونانيين في أعداد كبيرة كان من جهة أخرى سببًا في إنعاش الأحوال الاقتصادية نوعًا ما؛ لأن بسماتيك وجد أنه لا بد من الإنفاق على هذا الجيش الكبير؛ فشجع التجارة مع الدول المجاورة وفي نفس الوقت فرض الضرائب على البضائع الواردة إلى مصر ونظم الإدارة وعاد بها إلى التقاليد القديمة؛ حيث أخذ المصريون في ذلك الوقت يشعرون بأن عظمة مصر في عهد الدولة القديمة كانت أعلى ما وصلت إليه في تاريخها؛ ولذلك اصطبغ عهد الأسرة السادسة والعشرين بصبغة الدولة القديمة في كل شيء, وعاد الناس إلى أسلوب الكتابة القديمة وإلى المعبودات القديمة والفنون القديمة مع شيء بسيط من التحرر, وربما كان هذا من الأسباب التي تحبذ إطلاق اسم عصر النهضة على هذه الفترة من تاريخ مصر القديم. وتتميز هذه الفترة من تاريخ مصر أيضًا بنهج جديد في السياسة المصرية؛ إذ إن مصر -مع تركيز اهتمامها في علاقاتها الخارجية بالأقطار الشمالية- كانت أكثر ارتباطًا باليونان منها بأي قطر آخر، وفي نفس الوقت لم تحاول مملكة نباتا من جانبها أن تعيد علاقاتها بمصر؛ بل اتجهت بدورها إلى الأقطار التي تقع

_ 1 Herodotus II, 30.

إلى الجنوب منها حيث وجدت أن لا فائدة ترجى لها من الاتجاه شمالًا. وهكذا نجد أن الوضع السياسي في مصر أصبح يتركز في الوجه البحري؛ حيث أدى هذا إلى ظهور مدن جديدة، ونظرًا لكثرة وجود اليونانيين في مصر بدأ اهتمام العالم اليوناني بأحوال مصر وحضارتها؛ فإلى ذلك العهد ترجع معظم الكتابات اليونانية عنها, ومنها نتبين أن اليونانيين ذهلوا حينما وجدوا أن أمة أخرى غيرهم لها حضارة لا تقل عن حضارتهم إن لم تكن أرقى منها, واعتبروا المصريين شعبًا غاية في الغرابة, ووصفوا أحوالهم وأطوارهم بكل دقة وإن كانوا قد أخطئوا في تفسير بعض مشاهداتهم عن مظاهر الحضارة المصرية. وقد وجد بسماتيك أن في مقدوره محاولة إعادة السيطرة المصرية على فلسطين وسورية؛ ولكنه اضطر لوقف أعماله لظهور السيثيين1 على المسرح الدولي؛ إذ استطاع هؤلاء الزحف على أشور وأصبح خطرهم يتهدد مصر؛ ولكن بسماتيك تمكن من إرجاعهم عنها ولا نعرف كيف تم له ذلك؟ وهل لجأ إلى رشوتهم أم أنه استطاع التغلب عليهم؟ هذا وقد حكم بسماتيك حوالي أربعة وخمسين عامًا عادت البلاد أثناءها إلى حالة من النهوض والرخاء, لم تشهدها منذ أيام رعمسيس الثاني وتولى بعده ولده "نكاو". وفي تلك الأثناء وصلت أشور إلى منتهى الضعف وكانت سورية وفلسطين أضعف من أن تقفا أمام أي غزو أجنبي, وعلى ذلك تقدم نكاو نحوهما للاستيلاء عليهما، ولما تأهب اليهود لمقاومته أسرع بإخضاعهم كما أخضع سورية, وتقدم إلى الفرات خشية أن تسترد آشور ملكها مفضلًا أن يبدأ بمهاجمتها، ولما لم يجدها مستعدة لذلك عاد إلى مصر مفضلًا عدم الاستيلاء على نينوى، وقد نسب نكاو

_ 1 السيثيون "Scythians": قبائل بربرية كانت تتكلم لغة هندو أوروبية, وكانت تعيش في جنوب روسيا شرق بحر آرال, وكانوا حلفاء للأشوريين في أول الأمر ولكنهم خانوهم وانضموا إلى أعدائهم ملك بابل وملك ميديا؛ حيث اشتركوا في إسقاط نينوى 613 ق. م.

نصره إلى الجنود الميليزيين وهذه هي المرة الأولى التي ينسب فيها الفرعون نصره لغير الإله، ومع أنه كون إمبراطورية على إثر الحملة التي قام بها إلا أن هذه كانت مؤقتة ولم تدم طويلًا؛ لأن الأحداث في غربي آسيا تطورت سريعًا؛ فلم تكد تمضي سنتان حتى اتحد ملك ميديا مع ملك بابل, واستطاعا معًا أن يحطما أشور وأن يقتسما ملكها، وقد وقعت سورية ضمن نصيب بابل, وبذلك أصبحت بابل خطرًا جديدًا يتهدد مصر. ولما تولى "نبوخذ نصر" -الذي كان وليًّا للعهد في مملكة بابل الجديدة "أي: الإمبراطورية الكلدانية"- قيادة جيوشها ذهب نكاو لملاقاته؛ ولكن نبوخذ نصر انتصر عليه وتعقبه بعض الوقت؛ غير أنه رجع إلى بابل بعد أن اتفق مع نكاو؛ لأن والده كان توفي في ذلك الوقت. ولم تطمع مصر بعد ذلك في آسيا؛ حتى إنها لم تتدخل حينما حاصرت بابل بيت المقدس, واكتفى نكاو بترقية التجارة وتشجيع الملاحة وقد أمر بعثة فينيقية بالدوران حول إفريقيا فأتمت ذلك في ثلاث سنوات "وربما كانت هذه أول رحلة من نوعها في التاريخ" كما أمر بشق القناة التي تربط بين النيل والبحر الأحمر؛ ولكنه تخلى عن إتمامها لوفاة عدد كبير من العمال؛ ولأن الكهنة تنبئوا بأن فائدتها سوف لا تعود إلا على الأجانب. ولما توفي تبعه "بسماتيك الثاني" الذي ذهب إلى ببلوس لزيارة معبد آمون هناك وربما كان ينوي الاحتكاك مع بابل, ولكنه اضطر للعودة إلى مصر لعلمه بوجود تكتلات في جنوبها؛ ولذا أرسل حملة إلى الجنوب توغلت إلى الشلال الخامس والسادس1، وقد ظلت علاقة بسماتيك طيبة مع اليونانيين وزاد

_ 1 كان بعض المؤرخين فيما سبق يظنون أن هذه الحملة لم تصل إلا إلى الشلال الثاني فقط، انظر: BIFAO 50, p. 203.

من تشجيعهم واستعان بهم في تكوين أسطول ضخم. وعندما توفي بسماتيك الثاني تبعه "أبريس" على العرش، وقد استغل هذا الأخير الأسطول الذي كونه سلفه في غزو فينيقيا ونجح في ذلك بسبب انشغال نبوخذ نصر في حروبه مع ميديا وانسلاخ بعض المدن السورية والفلسطينية عن حكمه وثورة بعض المدن الأخرى عليه, وفي أثناء ذلك هاجر كثير من اليهود إلى مصر وكونوا بها جاليات كبيرة، وهكذا نجد أن القلاقل عادت من جديد إلى شرق البحر المتوسط، ووجد أبريس الفرصة؛ فتقدم بجيشه شمالًا واستولى على صيدا؛ ولكن هذه قاومت طويلًا, ولم ينجح أبريس في الاستيلاء على جنوب فلسطين, وأقبلت الجيوش الآسيوية لطرده, فاتجه بأسطوله نحو قبرص واستولى عليها، ومع أن بعض قوى غربي آسيا تحالفت مع مصر ضد نبوخذ نصر إلا أن هذا الأخير هزم هذا التحالف الذي تكون ضده في ربلة وحاصر أورشليم, وبعد عام أسر ملكها صدقيا وقتل أولاده ونهب المعبد وحرق المدينة، ومع ذلك لم تدم مملكة بابل فقد تمزقت بعد موت نبوخذ نصر. ولم تكن الحالة سيئة في منطقة غرب آسيا وحدها؛ وإنما ساءت الحالة كذلك في مصر؛ حيث حدثت ثورة في صفوف الجيش في عهد أبريس فرت بعض الوحدات على إثرها إلى النوبة؛ ولكن حاكم الشلال استطاع أن يعيد بعض أفرادها، كما حدث عصيان آخر في صفوف الجيش أيضًا؛ لأن أبريس أرسل قوة معظم أفرادها من المصريين إلى قرطاجة, وقد منيت هذه القوة بالهزيمة وبخسائر فادحة؛ فاعتقد هؤلاء أن الملك أرسلهم إلى هناك للتخلص منهم محاباة منه لليونانيين الذين لم يشركهم في هذه الحرب، وحينما ثاروا ضده أرسل أحد أقربائه ويدعى "أمازيس" لتهدئتهم, ولكن هذا الأخير استمال إليه الجنود العاصون فنصبوه ملكًا عليهم مما أحنق أبريس عليه ودارت الحرب بينهما, ولكن النصر كان حليف أمازيس، ورغم ذلك أشركه في الحكم إلا أن أبريس ما لبث أن ثار فقتله أمازيس وانفرد بالحكم.

وظل أمازيس على تشجيع اليونانيين؛ بينما تظاهر بإيقاظ الشعور الوطني، وقد تغالى في تشجيع اليونانيين ومنحهم كثيرًا من الامتيازات, بل وتبرع للمعابد في اليونان نفسها وأهدى لبعض حكامها الهدايا، ومع أن مظاهر النهضة كانت واضحة في عهده؛ إلا أن زيادة عدد الجيش وقوة الأسطول تطلبت كثيرًا من النفقات التي اضطرته إلى الاستيلاء على بعض دخل المعابد فأفادت من ذلك السلطة المركزية بطريق غير مباشر؛ لأنه أضعف نفوذ الكهنة, ومع أنه تمكن من بسط نفوذه على بعض سواحل البحر المتوسط؛ فإنه لم يكن أكبر قوة في الشرق واستمر خطر بابل يتهدده، كما ظهرت قوة جديدة هي مملكة فارس التي تحركت جيوشها وعبرت الفرات لتهاجم ليديا في غربي آسيا الصغرى, وكانت مصر وبابل وإسبرطة قد وعدت بمساعدة هذه المملكة, ولكن مصر كانت هي الوحيدة التي احترمت كلمتها، وبعد أن هزم الفرس مملكة ليديا أخضعوا كلًّا من سورية وفينيقيا أيضًا ولم يبق أمامهم سوى بابل ومصر، وما لبثت بابل أن هزمت وسقطت عاصمتها نينوى على يد كورش ملك الفرس, وبذلك ازداد الخطر على مصر؛ حيث أصبحت وحدها أمام قوة الفرس الهائلة.

عهد الفوضي الأخير

عهد الفوضي الأخير الأسرات السابعة والعشرون إلى الحادية والثلاثون ... 8- عهد الفوضى الأخير: "سيادة الفرس وحكمهم في مصر": الأسرات السابعة والعشرون إلى الحادية والثلاثون: توفي أمازيس فتبعه "بسماتيك الثالث" على عرش مصر, كما توفي "كورش" وتبعه "قمبيز" على عرش فارس، ولما أراد هذا الأخير الاستيلاء على مصر خان أحد القواد اليونانيين بسماتيك الثالث وأرشد الفرس بنفسه إلى الطريق المؤدية إليها, وبذلك تمكنوا من الاستيلاء على الفرما ووصلوا إلى منف,

وفي تلك الأثناء أقبل رسل من الإغريق الذين يعيشون في ليبيا وأحضروا معهم الهدايا إلى قمبيز، ولما تم لهذا الأخير الاستيلاء على مصر عامل بسماتيك معاملة حسنة في أول الأمر؛ ولكن هذا الأخير حاول إثارة المصريين ضد قمبيز؛ فاشتط هذا في معاملته حتى أدى به إلى الانتحار، وقد غزا قمبيز مصر العليا وأرسل حملة إلى النوبة, ويقال: إنه جن في آخر أيامه بسبب فشل حملته على النوبة. ويعد قمبيز مؤسس الأسرة السابعة والعشرين في مصر، ومع أنه تمكن من إقامة إمبراطورية واسعة؛ إلا أن الأحوال ساءت في فارس نفسها بعد وفاته؛ إذ حدثت ثورة في سورية وكاد خليفته "دارا" -الذي تولى العرش في فارس من بعده- أن يفقد ملكه؛ ولكنه استطاع أن يثبته بعد أن خاض تسع عشرة معركة, وأسر تسعة من الأمراء, ووصل إلى مصر حوالي سنة 517 ق. م.، وحينما قامت ثورة ليبية ولم ينجح الوالي الفارسي في إخمادها قتله دارا, ومع ظاهر هذه القسوة؛ إلا أنه كان معروفًا بالعدل وقد احترم ديانة المصريين وشجع التجارة؛ إذ المعروف أنه كان يهودي عصره, تاجر في كل شيء ومع كل الأقطار، وقد نجح في حفر قناة وادي الطميلات التي تربط بين النيل والبحر الأحمر1 ولكن سلطانه أخذ يضعف في فارس, فانصرف عن شئون مصر وخاصة بعد أن هزمه اليونانيون في معركة ماراثون حيث ركز كل اهتمامه في الانتقام من الأثينيين حتى إنه كلف شخصًا ليذكره بذلك كل صباح بقوله: "مولاي لا تنسَ الأثينيين" وبعد تلك المعركة بأربع سنوات حدثت ثورة في مصر بقيادة "خباش"2 الذي احتل منف وسايس؛ فبدأ دارا يعد العدة للانتقام من مصر واليونان

_ 1 G. Posener, "La Premiére domination perse en Egypte", "Bibl. De Etudes XI", pp. 48-879 180-189. 2 Herodotus VII I.

على السواء؛ ولكنه مات وتبعه "أكزركسيس" الذي استطاع القضاء على ثورة خباش وعين أخاه واليًا على مصر، وقد تغالى هذا الوالي في قسوته وشدته حتى أذل المصريين. ولم يحكم أكزركسيس طويلًا؛ حيث اغتِيلَ بعد فترة وجيزة وتولى بعده "أرتكزركسيس" الذي وجد إمبراطورية واسعة أرهقتها كثرة الحروب والثورات في مختلف الميادين, ومن بينها ثورة قامت في مصر بقيادة "إناروس" الليبي الذي كان في مريوط, و"أميرتايوس" الذي كان مركزه سايس؛ فلما التقى إناروس بالوالي الفارسي كانت الحرب سجالًا بينهما وتراجع الوالي إلى برقة، وطلب كل من الفريقين المدد واتجه إناروس في ذلك إلى أثينا, ولكن النجدة التي أرسلها أرتكزركسيس إلى واليه وصلت قبل النجدة التي طلبها إناروس؛ مما كان له أثره في انتصار الفرس وأسر إناروس وأرسل إلى سوسة حيث قتل هناك؛ وبذلك ظل أميرتايوس الزعيم الوطني الوحيد فعاود العصيان محاولًا الاستنجاد بالأثينيين ولكن النجدة لم تصل إليه، وفي نفس الوقت تهادن الفرس واليونان فلم تجد الثورات المصرية تأييدًا من اليونانيين بل اكتفى هؤلاء بإقناع الفرس بتعيين ولدي إناروس وأميرتايوس ولاة على مصر1, وفي هذه الأثناء زار مصر كثير من أعلام اليونان ومن بينهم هيرودوت. ولما توفي أرتكزركسيس تبعه "دارا الثاني" الذي استبد هو وولاته في حكم البلاد, وحاولوا فرض عقائد الفرس على المصريين؛ فثار هؤلاء ضدهم كما ثاروا على اليهود في اليفانتين2؛ لأنهم كانوا يعاونون الفرس.

_ 1 Kienitz, op - cit., pp. 69-73. 2 Kienity, op - cit., p. 39 n, 2.

ونجحت الثورة مؤقتًا؛ لأن دارا الثاني توفي وخلفه أرتكزركيس الثاني, ولم يكن حكم هذا الأخير مقبولًا تمامًا في أنحاء الإمبراطورية؛ ولذا هزمت فارس في ميادين مختلفة ونجحت حركة التحرير التي قادها "إمرتي" حفيد "أميرتايوس" السابق1 الذي يعتبر مؤسس الأسرة الثامنة والعشرين والملك الوحيد فيها. وبعد أن حكم هذا الأخير نحو ستة أعوام قتل على إثر ثورة قام بها "نفريتس" أمير منديس مكونًا أسرة جديدة هي الأسرة التاسعة والعشرون التي لم تستمر طويلًا هي الأخرى؛ لأن الفرس بدءوا يهتمون بمصر من جديد، وقد حاول نفريتس جهده أن يتلافى خطرهم فتودد إلى الإغريق للاستعانة بهم عند الحاجة, وتحالف مع الإسبرطيين؛ حيث أرسل إليهم مددًا في حربهم ضد الفرس، وفي نفس الوقت تقدمت القوات المصرية إلى الحدود السورية واحتلت بها بعض المواقع؛ ولكن نظرًا لهزيمة أسطول إسبرطة في حربها ضد أثينا انسحبت قوات إسبرطة من الأقاليم الآسيوية، كذلك اضطرت القوات المصرية إلى التراجع نظرًا لحلول الشتاء. ويمكن أن يقال: إن الأسرة التاسعة والعشرين بدأت بداية طيبة ولكن سوء الحالة الداخلية ظل على ما هو عليه, ولم يقدر لانتفاضة مصر في عهدها طول البقاء؛ فحينما توفي نفريتس وتبعه "أخورس" على العرش تحالف هذا الأخير مع أمراء ليبيا واليونان وقبرص ضد فارس, ومع أن مصر لم تكن لديها فرصة لتدعيم قواها فإن أخورس أرسل إلى ملك قبرص الذي كان يحارب الفرس مددًا من السفن الحربية والمؤن والمال، واستمر هذا الصراع ثلاثة أعوام؛ ولكنه لم يؤدِّ إلى نتيجة, وبعدئذ رأى قائد الأسطول الفارسي أن يتحالف مع أخورس فاستطاع هذا الأخير أن يتفرغ للإصلاحات الداخلية, ولم تلبث الحال أن تبدلت

_ 1 انظر أعلاه ص232.

في نهاية عهده؛ حيث حدثت ثورة في سمنود بزعامة أميرها "نختنبو" الذي استطاع أن يؤسس الأسرة الثلاثين بعد أن توفي أخورس وخليفته "بساموتس" و"نفريتس الثاني"1. ولا تذكر النصوص المصرية الكثير عن حكم "نختنبو الأول"؛ ولكن بعض مؤرخي اليونان وخاصة ديودور يسيرون إلى أن نختنبو الأول حارب الفرس وهزمهم، ولكن حروبه هذه لم تكن خارج مصر بل داخل الحدود المصرية, رغم أن نختنبو ذكر في نقوشه التذكارية قائمة ببلدان أجنبية أخضعها؛ غير أن هذه النقوش لا يمكن الأخذ بها؛ وخاصة لأننا نعلم أن الفرس بعد أن هزموا ملك قبرص وجدوا الفرصة سانحة للانتقام من مصر فتقدموا إليها, وعمد نختنبو إلى إقفال مصبات النيل السبعة وحصن كلًّا منها, كما حصن بلوزيوم إلى أقصى حد، ومع ذلك تمكن الفرس من الانتصار على المصريين في الفرع المنديسي؛ ولكنهم أرجئوا الهجوم على منف، وفي هذا الوقت حل الفيضان فساعد المصريين على المقاومة وانتصروا على الفرس الذين تراجعوا إلى بلادهم, وقد أوجد هذا الانتصار حالة من الاستقرار مكنت نختنبو من القيام ببعض الإصلاحات, وأشرك ولده "تيوس" في الحكم. وحينما اعتلى هذا الأخير على العرش حاول تجديد التحالف مع اليونان؛ فأرسل نقودا إلى ملك إسبرطة وإلى ملك أثينا ليرسلا له جنودًا مرتزقة وتمكن بذلك من تجهيز جيش ضخم يعد أعظم ما عرفته مصر منذ أيام الدولة الحديثة، وسار على رأس جيشه إلى آسيا محرزًا انتصارات ساحقة في سورية حتى ظن أنه سيعيد الإمبراطورية إلى ما كانت عليه في عهد "نكاو", ولكن أخاه الذي تركه في مصر خانه, وألب عليه المصريين وخاصة الكهنة الذين أحنقهم

_ 1 Herodolus 111, 15.

استيلاء تيوس على أموالهم باستمرار لكي يدفع نفقات جيشه, ثم تمكن هذا الأخ من اغتصاب العرش، ولم يكتفِ بهذا بل استدعى ولده الذي كان يحارب مع عمه؛ فعاد إلى مصر بمعظم الجيش, كما استدعت أثينا قائدها اليوناني "كابريوس" "الذي كان معه" فوجد تيوس نفسه وحيدًا واضطر إلى الفرار إلى صيدا حيث احتمى بملك الفرس. ولما اعتلى العرش في مصر "نختنبو الثاني" الذي كان يحارب مع عمه تيوس في سورية, لم يلبث طويلًا في الحكم حتى حدثت ثورة في منديس "التي كانت مقرًّا للأسرة التاسعة والعشرين" ولولا مقدرة المرتزقة اليونانيين لضاعت الفرصة من نختنبو الثاني، ومع هذا لم يكد يبدأ تنظيم مملكته حتى تولى عرش فارس "أرتكزركسيس الثالث" الذي أراد الاستيلاء على مصر؛ ولكنه فشل في محاولاته الأولى؛ لأن نختنبو الثاني استعان بمرتزقة من الأثينيين والإسبرطيين، وقد أثر هذا النصر على سلطان أرتكزركسيس وحدثت سلسلة من الثورات في فينيقيا ربما كان يشجعها "نختنبو الثاني" مما أثار أرتكزركسيس وجعله -بعد أن يقضي على الثورات- ينظم هجومًا مخيفًا على مصر من البر والبحر، وتقدم في الدلتا سريعا ووصل أسطوله عبر مصب النيل إلى منف؛ ففر نختنبو إلى مصر العليا حيث احتفظ بملكه هناك عامين. ولا ندري كيف انتهى عهده ولا كيف بسط الفرس سلطانهم على مصر كلها؟ وإن كان من المرجح أن إتمام فتح مصر كان عن طريق حملة ثانوية متممة للحملة السابقة، وعلى أي حال يعد أرتكزركسيس الثالث أول ملوك الأسرة الحادية والثلاثين. وحينما توفي هذا الأخير تبعه في الملك "أرسيس" الذي استطاع أن يحكم

مصر بأكملها؛ ولكنه لم يستمر سوى ثلاثة أعوام, ثم تبعه "دارا الثالث" الذي كان تاريخه غامضًا لا يعلم عن تاريخ مصر في عهده شيئًا يستحق الذكر، ولكن من المؤكد أن المصريين كانوا في أشد الاستياء من حكم الفرس, كما نتبين ذلك من بردية كتبت في عهد البطالمة, تعرف باسم أخبار الأيام الديمقوطيقية1. وقد حدثت ثورة في الدلتا بقيادة أحد أمرائها ويدعى "خباش" أو "خباباش" اعترف به كهنة منف ملكًا، وقد وجد في السرابيوم لوحة مؤرخة بالسنة الثانية من حكمه, كما وجدت باسمه بعض الآثار الأخرى من بينها تمثال الوالي2 وكلها تشير إلى جهوده في سبيل تحرير البلاد، ومع هذا يمكننا القول: إن تلك الجهود ذهبت عبثًا؛ لأن مصر -بالرغم من أن الإمبراطورية الفارسية كانت في طريقها إلى الزوال- لم تستقل طويلًا؛ فبعد أن هزم "دارا الثالث" في إسوس على يد الإسكندر الأكبر فقدت فارس معظم قوتها ولم تحاول الدفاع عن مصر حينما جاء إليها هذا الأخير غازيًا. وكان الإسكندر الأكبر لبقًا؛ إذ تظاهر بمظهر المخلص لمصر من نير الفرس؛ لأن المصريين أنفسهم كانوا يتطلعون إلى ذلك؛ حيث إننا نعلم أن مصريًّا يدعى "تفنخت" من مدينة إهناسيا ذهب إلى ملك مقدونيا واستنجد

_ 1 هذه البردية محفوظة بالمكتبة الأهلية في باريس برقم 215, وقد نشرت هي وترجمتها في مراجع مختلفة, عن هذه المراجع انظر: Drioton & Vandier. L' Egyqte "40. ed.", P. 616. 2 Sethe, Urk II, pp. 11-22.

بالإسكندر بعد أن شاهد معركة إسوس ليخلص بلاده من الفرس، وقد أحسن هذا معاملة المصريين وأكرم آلهتهم وزار المعابد المختلفة واعترف به الكهنة ملكًا بمعبد آمون بسيوة، ومنذ ذلك الحين أصبحت مصر جزءًا من العالم الشرقي الذي تأثر بالنفوذ الإغريقي, وإن ظلت تحتفظ ببعض مظاهر حضارتها القديمة التي استهوت في بعض نواحيها كل من وفد إليها من كتاب اليونان فكتبوا عنها الكثير, وإن كانوا قد شوهوا بعض الحقائق عنها؛ لعجزهم عن إدراك بعض مظاهرها وفهمها فهمًا تامًّا.

الفصل الرابع: بلاد العرب

الفصل الرابع: بلاد العرب مدخل ... الفصل الرابع: بلاد العرب: تقع بلاد العرب فيما بين خطي عرض 30ْ، 40ْ شمالًا, وخطي طول 60o، 35o شرقًا، وهي أشبه ما تكون بشبه جزيرة تنتهي إليها آسيا في طرفها الغربي. وتبلغ مساحتها نحو ربع مساحة أوروبا أو ثلث مساحة أمريكا الشمالية تقريبًا، وهي أبعد ما تكون عن وحدة التضاريس؛ إذ تشمل وحدات إقليمية تفصلها حدود طبيعية؛ مما جعلها تنقسم في العصور القديمة إلى وحدات سياسية, كان لكل منها كيان مستقل في أغلب الأحوال, ولم تنشأ بها وحدة سياسية شاملة ذات تاريخ مشترك إلا بعد انتشار الإسلام. وعلى هذا يمكن القول -قياسًا على أن الدولة لا تدخل في عصرها التاريخي إلا بمعرفة الكتابة وتكوين وحدة سياسية شاملة- بأن بلاد العرب -ككل- لم تدخل عصرها التاريخي إلا بعد انتشار الإسلام, ومن جهة أخرى يمكن القول بأن أجزاء منها دخلت في عصرها التاريخي؛ بينما ظلت جهات أخرى منها في عصورها قبل التاريخية. وربما كان ذلك من الأسباب التي دعت جمهرة الباحثين إلى تقسيم تاريخ بلاد العرب

إلى قسمين شاملين: ما قبل الإسلام أو "العصر الجاهلي" والتاريخ الإسلامي، وبما أن عصر ما قبل الإسلام يمتد إلى العصور الوسطى؛ فإن تاريخ بلاد العرب القديم سواء كان في العصور قبل التاريخية أو في العصور التاريخية لبعض أجزائها يدخل ضمنًا في عصر ما قبل الإسلام حتى يصعب على البعض التفرقة بينهما؛ غير أنني أفضل عدم تجاوز نهاية الفترة التي حددتها مجالًا للدراسة في هذا الكتاب، أي: إننا سنكتفي بالتوقف عند التاريخ الذي يعادل ظهور الإسكندر بقدر الإمكان. ولا شك في أن قسوة الظروف الطبيعية في شبه الجزيرة قد جعلت منها بيئة غير مرغوب فيها, لا يعرف العالم المتحضر من تاريخها إلا القليل؛ إذ إن هذه الظروف كانت سببًا في عدم نشاط الارتحال إليها, وجعلت القيام ببحوث علمية وأثرية فيها أمرًا يكاد يكون مستحيلًا إلا في بعض مناطق محدودة للغاية، وقد يجيء الوقت الذي يمكن للإنسان فيه أن يستعين بوسائل المدنية الحديثة على البقاء في أقسى جهاتها ظروفًا, وأن يقوم بما يريد من أبحاث تزيد معلوماتنا عنها. رغم قلة ما توصلنا إليه من معلومات عنها, تدل شواهد الأحوال على أن شبه الجزيرة كانت تنعم بظروف مناخية ملائمة لسكنى الإنسان؛ فهي في هذا تماثل نظيراتها في العالم القديم -أي: الصحراء الليبية وصحراء مصر الشرقية- ولذا يرجح أنها ظلت كذلك إلى نهاية العصور الحجرية على الأقل؛ فقد وجد أحد الأمريكيين في الربع الخالي بقايا نهر واسع هو السهل المنخفض المسمى "أبو بحر" كما وجدت آثار أنهار في جنوبي شبه الجزيرة يستدل عليها من وديانها الجافة الآن، وفي هذه الأماكن وبالقرب منها بقايا حيوانات من تلك التي تعيش في مناخ شبيه بما كان سائدًا في شمال إفريقيا في تلك العصور, كذلك عثر على آثار تدل على أن بعض المدن كانت توجد في مناطق مختلفة من جنوب شبه الجزيرة على الأقل.

العصر قبل التاريخي

العصر قبل التاريخي مدخل ... العصر قبل التاريخي: لم يتمكن البحاثة مع الأسف من الوصول إلى المناطق شديدة الجدب والقيام فيها بأبحاث تنير لنا السبيل عن عصورها القديمة, ولكن بعثات قليلة قامت ببعض الأبحاث في جنوب شبه الجزيرة كشفت عن وجود آلات من الصوان في حضرموت تشبه كثيرًا آلات العصر الحجري القديم في شرق إفريقيا, ومع هذا فإن الاختلافات القليلة التي تبدو في آلات كل من المنطقتين قد أدت إلى اختلاف وجهات النظر بين الباحثين؛ فمنهم من يرى أن التقدم الذي طرأ على الآلات الحجرية في أفريقيا يوحي بأن الحضارة التي أنتجت هذه الآلات نشأت في شبه الجزيرة ثم انتقلت منها إلى أفريقيا؛ بينما يرى البعض الآخر أن آلات شبه الجزيرة لا تكاد تختلف عن آلات شرق إفريقيا في أقدم صورها؛ ولذا فإنهم يذهبون إلى أن شرق أفريقيا كان مهدًا لثقافة مركزية تفرعت منها ثقافات متعددة إلى جهات مختلفة من أفريقيا وآسيا, وأن من المحتمل أن الحضارات الآسيوية بصفة خاصة "ومن بينها حضارات شبه الجزيرة" قد انفصلت عن حضارات شرق إفريقيا بعد فترة, وهؤلاء الباحثون جميعًا يستدلون على نشأة هذه الحضارات في مكان ما "من تلك التي أشرنا إليها" تم انتقالها إلى الأماكن الأخرى بما لاحظوه من عدم استقرار تشابه آلاتها بعد تطورها. ولا يمكن أن نحدد الزمن الذي استمر فيه استعمال آلات العصر الحجري القديم في شبه الجزيرة, بل ولم يعثر حتى الآن على آثار من العصر الحجري الحديث فيها؛ كذلك لا يمكن في حالة معلوماتنا الراهنة أن نحدد الزمن الذي بدأ فيه العصر التاريخي في شبه الجزيرة، وكل ما يمكن أن يقال في هذا الصدد هو أن أجزاءها المختلفة لم تبدأ عصرها التاريخي في وقت واحد, وأن من المرجح أن الركن الجنوبي الغربي منها "اليمن" وإقليم عمان ومنطقة حضرموت كانت أسبق هذه الأجزاء في الوصول إلى عصورها التاريخية.

ومن المسلم به أن شبه الجزيرة تعد بيئة طرد لا يرغب الإنسان في البقاء بها إذا ما ساءت الظروف -وكثيرًا ما كان يحدث ذلك- فهناك من الأدلة ما يشير إلى خروج عدة هجرات منها إلى المناطق المجاورة في العراق وسورية وغيرهما، وهي المسئولة عن تحركات العناصر السامية التي كان لها أكبر الأثر في تاريخ إقليم الشرق الأدنى من أقدم العصور؛ فمن المرجح أن هجرة سامية خرجت منها في منتصف الألف الرابع قبل الميلاد إلى الشمال الشرقي واختلطت بالسومريين ونشأت عن ذلك الدولة الأكدية التي أسسها سرجون الأكدي في بلاد النهرين "حوالي سنة 2371 ق. م" بعد زوال سلالة أور الثالثة التي كانت آخر دولة للسومريين في العراق؛ حيث انفرد الساميون بالزعامة السياسية فيه، وفي منتصف الألف الثالثة ق. م. خرجت منها هجرة أخرى جاءت بالأموريين إلى سهول سورية الشمالية وبالكنعانيين إلى السهل الساحلي فيها، وقد أطلق اليونان على هؤلاء اسم الفينيقيين. وفيما بين عامي 1500، و1200 ق. م. خرجت منها جماعات الآراميين الذين انتشروا في الجزء الشمالي من سورية والعبرانيين الذين استقروا في جنوبها، وفي حوالي سنة 500 ق. م. خرج منها الأنباط إلي شمال شرقي شبه جزيرة سيناء وأسسوا دولة كانت تدمر عاصمتها في أيام الرومان. ورغم صعوبة التعرف على تاريخ شبه الجزيرة قبل الكتابة؛ فإن وجود بعض مصنوعات في العراق وبعض الجهات الأخرى من المواد التي جلبت من شبه الجزيرة, يدل على وجود صلات بينها وبين تلك الجهات من أقدم العصور، ومن أمثلة ذلك أن سكان بلاد النهرين جلبوا من بعض أجزاء الجزيرة أحجارًا ومعادن منذ عصور ما قبل التاريخ؛ فقد جلبوا النحاس الخام من عمان وحجر الأبسديان من شرق شبه الجزيرة، ومن المحتمل كذلك أن المصريين في عصورهم

التاريخية قد اتصلوا بجنوب شبه الجزيرة وجلبوا منها العطور1.

_ 1 يشك بعض الباحثين في أن هذه المنطقة هي التي عرفها المصريون باسم بلاد بونت, وإن كنا لا نميل إلى هذا الرأي

مصادر تاريخ بلاد العرب

مصادر تاريخ بلاد العرب مدخل ... مصادر تاريخ بلاد العرب اعتمد المؤرخون فيما توصلوا إليه من تاريخ بلاد العرب قبل الإسلام بصفة عامة على المصادر الآتية: 1- القرآن الكريم: فمع أنه نُزِّل للعظة والعبرة إلا أنه أشار إلى حياة العرب قبل الإسلام, وذكر بعض الشعوب العربية القديمة وما تعرضت لها من أحداث مثل: عاد وثمود وأصحاب الفيل "الغزو الحبشي" وأصحاب الأخدود "أهل نجران الذين أبادهم ذو نواس الحميري" وسيل العرم "سد مأرب" وغير ذلك, ولكنه لم يلتزم في سردها نفس الترتيب دائما, بل ذكرها حسب المناسبات التي يوردها بقصد العظة والعبرة. 2- الحديث الشريف, وهو المصدر الثاني للشريعة الإسلامية: فقد تعرض لذكر بعض ما كان قائمًا قبل الإسلام من نظم دينية وفكرية وسياسية واجتماعية. 3- كتب المفسرين: تناول المفسرون ما ورد في القرآن من أخبار مختصرة أو تشبيهات واستعارات أغلق فهمها بالشرح والإيضاح, وكان النبي -عليه الصلاة والسلام- أول من قام بذلك وتبعه الصحابة ثم التابعون وتابعو التابعين, ومن أشهرهم: الطبري والرازي وابن كثير والبيضاوي وغيرهم. 4- كتب السير والمغازي: التي تعرضت لأخبار الجاهلية قبيل الإسلام

أو المتصلة بحياة الرسول, ومن أهم كتَّابها: عبد الملك بن هشام وعروة بن الزبير وأبان بن عثمان بن عفان وشرحبيل بن سعد وغيرهم. 5- كتب أخبار الجاهلية: التي كتبها المسلمون بعد انتشار الإسلام, وهذه لم يبدأ الاهتمام بتدوينها إلا في العصر الأموي, وكان أهم ما يُعنى به كتابها رواية أنساب القبائل العربية, والرجوع بأصولها إلى عدنان وقحطان وإسماعيل وأبناء نوح, والخروج من ذلك إلى تقسيم العرب إلى طبقات، وقد تأثروا في ذلك بما جاء في التوراة وما ورد في الأساطير والقصص الشعبية الحافلة بالخرافات, وخاصة عن أزمان الجاهلية التي تسبق الإسلام بزمن بعيد, ومن أهم الكتاب في هذا المضمار: عبيد بن شرية الجرهمي اليمني ووهب بن منبه وهشام بن محمد السائب الكلبي وولده أبو المنذر والهمداني المعروف بابن الحائك وغيرهم. 6- الشعر الجاهلي: وهو من المصادر المهمة لما تضمنه من إشارات عن أحوال العرب في الجاهلية وتقاليدهم وعاداتهم وأنسابهم وحروبهم, ومن أشهر شعرائهم: امرؤ القيس وعبيد بن الأبرص وطرفة بن العبد وعمرو بن كلثوم والنابغة الذبياني وعنترة بن شداد وغيرهم. 7- الأمثال العربية: ومن أهمها كتاب مجمع الأمثال للميداني.

المصادر غير العربية

د- المصادر غير العربية: 1- التوراة: وهي أقدم المصادر وبها إشارات متعددة عن العرب, قصد منها تفسير الصلات بين العبرانيين والعرب. 2- التلمود: المكمل للتوراة وشارح أسفارها, ويشير إلى العرب في مواضع مختلفة. 3- ما كتبه العبريون: ومن أهم كتابهم يوسيفوس فلافيوس "37-100م".

وقد ألف كتابًا في تاريخ حروب اليهود فيما بين استيلاء أنطيوخس أبيفانوس على القدس سنة 170 ق. م. واستيلاء الإمبراطور تيتوس سنة 70م, عليها وهو يتضمن أنباء مهمة عن العرب وخاصة عن الأنباط. 4- ما كتبه اليونان والرومان والسريان: كتب هؤلاء بعض المعلومات التاريخية والجغرافية المهمة عن بلاد العرب, وإن كانت لا تخلو من أخطاء أحيانًا؛ نظرًا لأنهم اعتمدوا على ما زودهم به المحاربون اليونان والرومان والرحالة والتجار من أخبار, ومن أقدم الكتاب اليونان أخيلس أو أيسكيلوس"525-546 ق. م" وهيرودوت "480-425 ق. م." وتيوفراست"371-287 ق. م." وإيراتوستينس "276-194 ق. م" وديودور الصقلي "توفي 40 ق. م." وسترابو "توفي 79 ق. م" وأحد الكتاب المجهولين الذي كتب عن رحلة "الطواف في بحر أريتريا" ويعرف باسم "صاحب الطواف" ويرجح أنه "توفي 80 ق. م" ويوزيبيوس "265-340م" وأثناسيوس "توفي 273م" وزينوفون "توفي 356م" وبروكوبيوس "توفي 565م" وغيرهم.

أهم الجهود الأثرية

جـ- أهم الجهود الأثرية: أولًا- في جنوب بلاد العرب: بدأ الاهتمام منذ أواسط القرن الثامن عشر, ويرجع سبب ذلك إلى أن الأوروبيين في أسفارهم إلى الهند سمعوا ما يتناقله أهل شواطئ اليمن، وحضرموت عن آثار الأبنية المدفونة في رمال تلك البقاع, وما عليها من كتابات عجز العرب واليهود عن قراءتها؛ فخطر لعالم ألماني اسمه "مخايلس" أن يبحث في تلك الآثار وقراءتها واقترح على فريدريك الخامس

ملك الدانمارك تشكيل لجنة تذهب لارتياد تلك البقاع؛ فأجابه لطلبه وأمر بتشكيل لجنة من خمسة أعضاء1, من بينهم "كارستن نيبور" وجعل تحقيق بعض ما ورد في التوراة عن جغرافية وعادات وحاصلات الشرق؛ ولكن أعضاء الرحلة ماتوا جميعًا فيما عدا نيبور الذي أصدر كتابًا بعد عودته لم يأت بنتائج مهمة، ومع كل فإن هذه الرحلة كانت تمهيدًا لرحلات أوروبية أخرى كما أن الكتاب الذي صدر عنها يعد أول كتاب علمي عن اليمن, حوى نقوشًا مكتوبة بخط المسند وخرائط لأماكن يمنية كانت مجهولة للأوروبين من قبل. وفي سنة 1810 تمكن العالم الألماني "سيتزن" من الاهتداء إلى نقوش في ظفار "جنوبي صنعاء" كان نيبور قد أشار إليها في كتابه، كما استطاع أن ينسخ بعض النقوش التي أرسلها إلى أوروبا, ثم اختفى داخل اليمن في ظروف غامضة واختلفت الآراء حول مصيره. وفي سنة 1836 تمكن جروتفند الألماني من نشر خمسة نقوش سبئية عثر عليها في صنعاء, كما تمكن الضابط الإنجليزي ولستد 1838 من اكتشاف حصن الغراب ونسخ نقشًا على جدرانه يرجع تاريخه إلى 525م ثم قام برحلة في غرب وادي ميفعة؛ حيث عثر على آثار حصن كان في منطقة خصبة تعرف حاليًا باسم نقب الهجر. ويعتبر عام 1843 من الأعوام التي شهدت نشاطًا ملحوظًا في ارتياد اليمن؛ حيث ارتاد الرحالة الألماني أدولف فون فريده صحراء الأحقاف شمال حضرموت واكتشف آثار سور قديم في وادي أوبنة بسهل ميفعة الشرقي نقش عليه بكتابة حضرمية. وفي نفس العام قام الصيدلي الفرنسي توماس أرنو

_ 1 تألفت هذه البعثة سنة 1761 من بيتر فورسكال طبيب سويدي متخصص نبات، كريستان شارلز كرامر جراح وعالم حيوان، فريدريك كريستيان فون هافن عالم لغات ومستشرق، وليم نورتفيد فنان، كارستن نيبور مهندس وعالم رياضيات.

برحلة إلى اليمن أدت إلى اكتشاف سد مأرب وآثار أخرى من عصر سبأ, منها معبد ألمقه "إله القمر" الذي أطلق عليه العرب اسم محرم بلقيس, وتمكن في عودته أن ينسخ عددًا من النقوش السبئية في صنعاء ومأرب وصرواح بلغ عددها 56 نقشًا, قام بترجمتها قنصل فرنسا في جدة وكان مهتما بدراسة اللهجات العربية الجنوبية. وفي سنة 1870 أرسلت أكاديمية النقوش والفنون الجميلة في باريس بعثة إلى اليمن برئاسة المستشرق اليهودي جوزيف هاليفي, الذي تمكن من اختراق الجوف اليمني والوصول إلى نجران وطاف حول مأرب وصرواح, وعاد إلى فرنسا بعد أن جمع 686 نقشًا جديدًا, وهو أول من اكتشف آثارًا معينية ومن أهمها خرائب "قرناو" عاصمة الدولة المعينية. وفي سنة 1882 قام المستشرق النمسوي "لانجر" برحلة إلى اليمن وتنكر في زي الأعراب؛ حيث اخترق بلاد حمير القديمة وعثر على نقش حميري مهم بالقرب من ظران, كما نسخ عددًا من النقوش في صنعاء وعدن, ثم حاول التوغل إلى داخل البلاد ولكنه قتل. وتبعه في الذهاب إلى اليمن المستشرق النمسوي إدوارد جلازر الذي قام بأربع رحلات إليها, استطاع أن يقنع المسئولين الأتراك في صنعاء بمساعدته وتذليل الصعاب له, وكانت أولى رحلاته فيما بين عامي 1882 وفيها درس الآثار السبئية بالمنطقة المحيطة بهمدان، ورحلته الثانية كانت 1885 وفيها زار "ظفار" العاصمة القديمة للدولة الحميرية, ونسخ عددًا كبيرًا من النقوش المعينية، أما رحلته الثالثة؛ فكانت فيما بين عامي 1887، 1888 وفيها درس آثار مأرب, وتمكن من رسم تخطيطات لآثار القنوات والسدود, ونسخ الكتابات المسجلة على السدود, وتعتبر هذه الرحلة أهم رحلاته فقد قضى بعدها أربع سنوات في أوروبا؛ حيث عكف على دراسة النقوش التي عثر عليها في مأرب وهي أهم نقوش

عثر عليها, كما رسم خرائط للبقاع التي زارها ووصف آثارها، وحينما عاد إلى اليمن للمرة الرابعة 1892 نسخ نقوشًا بعضها قتبانية وبعضها الآخر سبئية من مناطق الجوف, واستعان في ذلك ببعض الأعراب بأخذ طبعات لهذه النقوش على ورق من نوع معين, كذلك حصل جلازر على بعض العملات العربية القديمة. ومع أن الإمام يحيى أغلق اليمن في وجه الرواد والرحالة لشدة الصراع بينه وبين الإنجليز بشأن عدن والمحميات؛ إلا أنه كان حريصًا على الكشف عن آثار بلاده؛ حيث قام بالتنقيب في قرية حجة شمال صنعاء ورحب ببعثة أوروبية كان على رأسها كارل راتجنز "Rath jens" وفون فيسمان 1928 اللذان قاما برحلات إلى الحبشة وحضرموت واليمن في عامي 1931، 1932. وفي سنة 1936 قامت بعثة أثرية من جامعة القاهرة برئاسة الدكتور سليمان حزين إلى ناعط بالقرب من صنعاء, ونسخ الدكتور خليل يحيى تامي أحد أعضاء البعثة بعض النقوش السبئية, وفي أثناء ذلك كان الصحفي السوري نزيه مؤيد العظم يزور اليمن وأقام في صرواح ومأرب ونشر نتائج رحلته في كتاب "رحلة في البلاد العربية السعيدة من مصر إلى صنعاء" وطبع في القاهرة سنة 1938, وفي سنة 1937 قامت ثلاث رحالات أوروبيات برحلة إلى حضرموت وكشفْنَ عن معبد لإله القمر وعثرن على عدد من النقوش, وقد نشر كاتون تومسون نتائج هذه الرحلة في كتاب طبع في أكسفورد 1942, وفي نفس الوقت قام بعض العلماء الأوروبيين برحلات أخرى إلى اليمن أهمهم فيلبي الذي ارتاد "عسير" و"نجران" و"شبوة" و"تريم" على أن هذه الرحلات وجهت اهتمامًا خاصًّا إلى جغرافية حضرموت، وفي سنة 1945 قام الأستاذ محمد توفيق برحلة إلى اليمن لدراسة هجرات الجراد وانتهز فرصة وجوده هناك فزار الجوف تمكن من تصوير عدد كبير من الآثار ونسخ كثيرًا من النقوش ونشر جزءًا من أبحاثه 1951 كما نشر "نقوش خربة معين" سنة 1952، كذلك قام الدكتور خليل يحيى تامي بنشر نقوش خربة براقش على ضوء مجموعة الأستاذ محمد توفيق، وقام الأثري المرحوم

الدكتور أحمد فخري بزيارة مناطق كثيرة لم يزرها رحالة آخر بعد جوزيف هاليفي, ونشر تفصيلات رحلته في كتاب أصدره 1952 وعدة مقالات وبحوث علمية. وفي سنة 1952 قامت بعثة أثرية أمريكية برئاسة "وندل فيلبس" بالتنقيب في تمنع عاصمة الدولة القتبانية, كما نقبت في الساحة الأمامية لمحرم بلقيس وفي سد مأرب, وكشف عن الكثير من الآثار البرونزية والرخامية وبعض النقوش السبئية ولكن توقفت أعمال هذه البعثة سريعًا لخلاف نشب بينها وبين الحكومة اليمنية؛ إلا أن النتائج التي أسفرت عنها تنقيباتها مهمة للغاية. ثانيًا- في شمال بلاد العرب ووسطها: اهتم عدد كبير من العلماء والمستشرقين الأوروبيين بآثار البتراء وجنوب سورية, وكان في طليعة الرواد الذين زاروها لودفيج بورخاردت السويسري الذي تنكر في زي عربي وأطلق على نفسه اسم إبراهيم بن عبد الله, وبهذه الوسيلة تمكن من أداء فريضة الحج وزيارة مسجد الرسول كأحد الحجاج ووصف موسم الحج وصفا دقيقا, ثم زار آثار الأنباط في البتراء وسورية الجنوبية. وفي سنة 1845 زار المستشرق جورج والين بلاد نجد كما زار "سير ريتشارد بيرتون" بلاد الحجاز متنكرًا باسم الحاج عبد الله في منتصف القرن 19. وتوالت بعد ذلك رحلات العلماء أمثال جراهام ويلجراف ورنكير وغيرهم، ويرجع الفضل في الكشف عن النقوش العربية الشمالية إلى داوتي وهوبر وأوتينج الذين ارتادوا المنطقة الشمالية الغربية والوسطى من بلاد العرب فيما بين عامي 1876، 1884, ومن المستشرقين الذين وصلوا إلى أطلال مدينة الحجر "مدينة صالح" وتيماء والعلا جيوسن وسافنياك, بينما اهتم آخرون أمثال برينوف ودوماسفسكي وموسل ودلمان بدراسة آثار الأنباط في بلاد العربية الصخرية وتدمر في بادية الشام، ومن أهم العلماء الذين قاموا برحلات في باديتي

الشام والعراق المستشرق الفرنسي رينيه دوسو والمستشرقان الألمانيان تيودور نلدكه الذي كتب عن تاريخ أمراء الغساسنة, وروتشتاين الذي نشر بحثًا عن تاريخ اللخميين في الحيرة. وبالرغم من كل ما سبق من دراسات وبحوث؛ فإن نتائجها أبعد من أن تعطي صورة تاريخية تامة شاملة لكل أجزاء شبه الجزيرة, وهي أبعد ما تكون أيضًا عن إعطاء سلسلة تاريخية لها متصلة الحلقات؛ إذ توجد فجوات كثيرة لم يمكن معرفتها حتى الآن، ولا بد من مضاعفة الجهود الأثرية في شتى أنحاء شبه الجزيرة حتى يمكن إكمال الصورة التاريخية لها, ومع كل فإننا سنحاول فيما يلي دراسة تاريخ أجزاء شبه الجزيرة حسب أرجح الآراء.

العصر التاريخى

العصر التاريخى مدخل ... العصر التاريخي: يكاد تاريخ بلاد العرب القديم المعروف قبل ظهور الإسكندر ينحصر في القسمين الجنوبي والشرقي، أما شمال بلاد العرب فلا يعرف عنه شيء قبل اليونان باستثناء بعض إشارات طفيفة وردت في نصوص الأشوريين.

أولا القسم الجنوبي

أولًا: القسم الجنوبي: بلاد اليمن: من المرجح أن اسمها مشتق من كلمة "يمنات" الواردة في نصوص سبئية قديمة كاسم لهذه البلاد وربما يكنى بها عن اليمن والخير؛ لأن بلاد اليمن قديمًا كانت وفيرة الخيرات حتى عرفت باسم اليمن الخضراء لكثرة ما بها من أشجار ونباتات, ومما يؤيد ذلك أن اليونان قديمًا سموها بلاد العرب السعيدة "Arabia felix" على احتمال أنهم ترجموا كلمة "يمنت أو يمنات" بالبلاد السعيدة.

وقد عرفت اليمن قديمًا بتجارة العطور والبخور والمر والصمغ والكافور والورس "وهو نبات كان يستخدم في الصباغة" وكانت مصر تستهلك كميات كبيرة من اللبان اليمني والبخور في المعابد وفي تحنيط الموتى، ولم يكتف اليمنيون بالاتجار في حاصلات بلادهم بل عملوا كوسطاء للتجارة أيضًا بين الهند والعراق والشام ومصر, فكانت التوابل والسيوف الهندية والحرير الصيني والعاج والأبنوس والذهب من أثيوبيا تنقل بوساطة تجار اليمن إلى مصر والعراق. وقد أشار كتاب اليونان والرومان إلى ثروات اليمن, ومن أمثلة هؤلاء هيرودوت وثيوفراست "تلميذ أرسطو" الذي وصف السبئيين بأنهم محاربون وزراع وتجار مهرة وديودور الصقلي وإسترابو وبلينوس ... أما كتاب العرب الذين أشاروا إلى ثروة اليمن؛ فمن أشهرهم الهمذاني والألوسي والمقدسي ونظرًا لما حظيت به اليمن من الثروة فإنها كانت أكثر بلاد العرب تحضرًا وكانت كثيرة الحصون والقصور التي كانت تعرف بالمحافد, ومن أشهرها غمدان وناعط وصرواح وظفار وبراقش ومعين وعمران وغيرها، وينسب إلى هذه المحافد والقصور أصحاب فيقال: ذو غمدان، ذو صرواح, وهكذا، وإذا تجمع عدد من المحافد والقصور في مقاطعة كبيرة سميت مخلافًا, ويتولى شئون المخلاف أمير يقال له: قيل "والجمع: أقيال" وقد بلغ عدد هذه المخاليف 84 مخلافًا, كان من أهمها مخلاف صنعاء ومخلاف همدان ومخلاف خولان وغيرها. ولا شك في أن عصور ما قبل الكتابة أو العصور قبل التاريخية لا يعرف عنها إلا القليل, وقد سبق أن أشرنا إليها "ص240". أما عن العصر التاريخي في بلاد اليمن فإن أهم أحداثه يمكن أن تنحصر في تاريخ الدول التي قامت بها, وهذه الدول هي: الدولة المعينية والدولة السبئية والدولة الحميرية، وتاريخ هذه الأخيرة يخرج عن مجال العصر التاريخي

الذي يعالجه هذا الكتاب، وهناك دولتان أخريان لم يكن لهما إلا دور ضئيل في تاريخ العرب, وهما دولتا قتبان ودولة حضرموت. أ- الدولة المعينية "1300-650 ق. م.." تعد أقدم دولة معروفة في شبه جزيرة العرب وهي أقدم دولة كذلك ظهرت في بلاد اليمن, ومن الغريب أنها لم تذكر في المصادر العربية بل ذكرت بلدة معين, وكانت تقرن غالبًا ببلدة براقش؛ حيث أشير إليهما كمحفدين من محافد أو قصور اليمن القديمة وموقعهما في الجوف فيما بين نجران وحضرموت؛ بينما أشارت المصادر اليونانية والرومانية إلى المعينيين وذكرت عاصمتهم "معن" باسم "قرتاو". ومن المحتمل أن الكتابة عرفت في معين قبل قيام دولتها ببضعة قرون وقد ظلت حضارة المعينيين غير معروفة إلى أن تمكن هاليفي من الكشف عن آثار عاصمتهم معين ونسخ كثيرًا من نقوشهم ونشر نتائج كشفه سنة 1874، وقد زاد عدد النقوش المعينية التي نسخت بفضل جهود جلازر وجوسن, ومن دراسة هذه النقوش عرفنا الكثير عن هذه الدولة وملوكها وكان عدد هؤلاء 26 ملكًا موزعين على خمس أسرات, وإن كان بعض الباحثين يرى أن هؤلاء الملوك ينتمون إلى ثلاث طبقات؛ ولكن فيلبي يؤيد أنهم في خمس أسرات إلا أنه لم يذكر إلا 22 اسمًا من أسماء هؤلاء الملوك؛ كذلك أمكن عن طريق هذه النقوش أن نتعرف على بعض الألقاب الملكية مثل لقب "يطوع": المخلص، صدوق أي: العادل, وريام أي: المضيء, وكان الملوك يخاطبون بلقب "مزود" أي: مقدس أو "كبر" أي: العظيم أو الكبير. وقد ظهرت دولة المعينيين في المنطقة السهلة "أي: الجوف" بين نجران وحضرموت حيث كان المعينيون يشتغلون بالتجارة ويسيطرون على الطرق التجارية بين الشمال والجنوب, ثم ازداد نفوذهم السياسي حتى بلغ شمال الحجاز فدخلت معان وديدان "العلا" في نطاق نفوذهم كما تشير إلى ذلك النصوص المعينية والكشوف الأثرية التي عثر عليها

في هاتين المنطقتين1, ويبدو أنهم كانوا هم والسبئيون الذين ينتمون إلى نفس جنسهم يسيطرون خلال الألف الأول قبل الميلاد على الجزء الأعظم من التجارة العالمية في بلاد العرب, وامتد التنافس على السيادة فيما بينهم إلى الواحات التي كانت تمر بها طرق التجارة؛ فكانت بكل من تلك الواحات جالية من أبناء العرب الجنوبيين يتولى أمرهم مقيم من بلادهم ويشرف على ملوك ورؤساء الواحة ويراقبهم حتى لا يضروا بمصالح سيده السبئي أو المعيني حسب تبعيته؛ حيث كان الطريق التجاري العظيم الذي يوصل برًّا بين اليمن والشام ومصر يقع أحيانًا تحت سيطرة المعينيين وأحيانًا في أيدي السبئيين الذين عاصروهم في أواخر عهدهم، وفي كل واحة من الواحات التي يمر بها الطريق كان يقيم حكام من معين أو سبأ تؤيدهم حاميات عسكرية لحماية جالياتهم التجارية, وفي بعض الأحيان كانت توجد جاليات تجارية إفريقية أيضًا وأثناء توسع المعينيين في الواحات شمالًا احتكوا بأشور وفينيقيا ومصر, وكان حكام أشور يتفاوضون مع الحكام المعينيين في الواحات؛ على أنهم الملوك المعينيون الجنوبيون لا على أنهم الممثلون لهم, كما أن الوثائق السريانية والعبرية تشير إلى أن بلاد هؤلاء الملوك الجنوبيين تقع جنوب شرق البحر الميت, ويدل ذلك من جهة أخرى على أن المعينيين والأدوميين "سكان سعير" خضعوا لسلطان ملوك بلاد العرب الجنوبيين. وأدى اشتغالهم بالتجارة إلى معرفتهم تدوين الحسابات التجارية, فاقتبسوا الأبجدية بالفينيقية واستخدموها في كتاباتهم وظل المعينيون يستخدمونها حتى بعد زوال مملكتهم؛ حيث عثر على كتابات معينية في الجيزة بمصر وفي جزيرة ديلوس باليونان ترجع تاريخها إلى القرن الثاني قبل الميلاد, كذلك عثر على كتابات لهم في أور والوركاء بالعراق.

_ 1عبد العزيز سالم "تاريخ العرب قبل الإسلام" "إسكندرية سنة 1973" ص38-39.

ومن المحتمل أن أول الملوك المعينيين كان "اليفع وقه" وقد عثر على اسمه مكتوبًا في النقوش المعينية في مدينة "نشان" وفي براقش "إيثيل" وقد خلفه في حكم اليمن ابنه "وقه إيل صدق" الذي ذكر اسمه مع اسم والده، كذلك ذكر مع "اليفع وقه" اسم ابن آخر له هو "أبو كرب يشع". ومن الملوك الذين وردت أسماؤهم في نقوش معينية الملك "أب يدع يشع" الذي قام بعض أشراف قرناو "معين" بترميم خنادقها وإصلاح أسوارها في عهده, وتشير النقوش التي من عهده أيضًا إلى حروب نشبت بين اليمن وبين إحدى الدويلات الشمالية, كما تشير كذلك إلى حروب حدثت بين عدن وموصر في وسط مصر وقد اختلفت الآراء بشأنهما؛ إنما يرجح أنهما كانا شعبين يعيشان بالقرب من سيناء. ومن ملوك المعينيين أيضًا "وقة إيل روام" و"يشع إيل صدق" وقد بنى هذا الأخير حصن "يشبوم" وقد أشارت بعض النقوش إلى أن الحالة السياسية أصبحت سيئة في عهدي "يشع إيل ريم" وابنه "تبع كرب" وهما من الملوك المتأخرين, وربما أصبحت معين خاضعة لسبأ؛ حيث إن هذه النقوش تشير إلى اعتراف معين بسلطان آلهة وملوك وشعب سبأ. ويبدو أن انتقال السيادة إلى سبأ قد أخذ في الظهور حينما عجزت معين عن حماية قوافلها التجارية وضعف حكامها المقيمون في المراكز التجارية التي تمر بها طرق القوافل عن مجابهة قطاع الطرق والقبائل المعادية التي كانت تعترض طرق القوافل، وربما عمت الفوضى بعد ذلك؛ حيث إننا نجد في النقوش المعينية ما يشير إلى وجود اثنين أو أكثر كل منهما يلقب بلقب ملك في وقت واحد, وتعددت الضرائب؛ فكان هناك ثلاثة أنواع منها على الأقل: نوع يجيء لخزانة الملك ونوع يجيء للمعابد ونوع ثالث يجيء للمشايخ والحكام المحليين. والجدير بالذكر أن ضرائب المعابد كانت نوعين أحدهما كان يدفع تقربًا للإلهة "أكرب" والثاني كان يفرض فرضًا على الأشخاص ويقال له العشر، ومع أن "معين" كان يحكمها ملوك؛ إلا أن كل مدينة كان لها مجلس يدير شئونها في السلم والحرب

ويعرف باسم "مسود". ب- دولة قتبان: من القرن الحادي عشر ق. م - 25 ق. م." كان القتبانيون يقطنون في الطرف الجنوبي من بلاد اليمن إلى جنوب سبأ ويتاخمون حضرموت، وكانت عاصمتهم تقع في وادي بيجان قرب باب المندب أي: كحلان الحالية, ولم تشر المصادر إلى أخبار ذات قيمة عن قتبان, وقد شهدت الدولة القتبانية نهاية الدولة المعينية وعاصرت دولة سبأ والدولة الحميرية, وقد اندمجت فيما بعد في الدولة الأخيرة. ويرجع الفضل فيما عرفناه من أخبار هذه الدولة إلى النقوش الكثيرة التي جمعها "جلازر" ومع هذا فقد اختلف المؤرخون في تحديد بداية ونهاية هذه الدولة، ومع كل فإن البعض يحاول أن يقسم تاريخ قتبان إلى ثلاث مراحل مختلفة: المرحلة الأولى: امتدت إلى حوالي منتصف القرن الرابع ق. م. وكانت أهم فتراتها هي تلك التي كانت بين القرنين السابع والخامس قبل الميلاد؛ حيث كان يحكم المكربون "أي: المقربون أو من جمعوا بين الكهانة والملك" وكان من أشهرهم "يدع أب ذبيان" الذي قام بمهاجمة سبأ والاستيلاء على بعض ممتلكاتها, وينسب إليه أنه هو الذي شيد المدخل الجنوبي لمدينة "تمنع" وإنشاء طريق يخترق الجبل وبعض الأعمال العمرانية الأخرى، ومن المرجح أن قبائل غير قتبان اشتركت في إنشاء طريق الجبل لما له من فائدة مشتركة, ومن بعض نقوش هذا الملك يتبين لنا أن مجالس المدن كانت تقترح مشروعات للقوانين؛ ولكن الملك وحده هو الذي كان يملك حق إصدارها. والمرحلة الثانية: كانت تمتد من 350 إلى 250 ق. م. وأول ملوكها

"أب شيم" الذي تلاه ولده "شهر غيلان" وهذا الأخير ترك نقوشًا مختلفة تدل على إنشائه أحد الأبراج وبنائه لإحدى العمارات, كما تشير إلى أن رؤساء القبائل كانوا مسئولين عن جمع الضرائب التي تورد لخزينة الدولة في نهاية كل عام, وتذكر النصوص أيضًا ضرائب أخرى كانت تورد للمعابد، وقد انتصر "شهر غيلان" على حضرموت وخلد هذا الانتصار بتشييد معبد للإله "عشتر" في ذبحان "بيحان القصب الحالية" كما يشير إلى ذلك أحد النقوش. ومن ملوك هذه المرحلة أيضًا "شهر يجيل" الذي تغلب على دولة معين ثم خلفه أخوه "شهر هلال ينعم" الذي انتهت بوفاته الأسرة القتبانية الثانية, وانتهت أيضًا المرحلة الثانية من عهد الدولة القتبانية. والمرحلة الثالثة: تمثل عصرًا تناوب فيه عدد من الملوك عرش البلاد, كان آخرهم "يدع أب غيلان" ثم تتولى قتبان أسرة ملكية أخرى وكانت ضعيفة, انهارت في عهدها دولتهم حتى آلت إلى الزوال. وكانت المرحلة الثانية من تاريخ قتبان هي العصر الذهبي لها؛ حيث أخضعت فيه كلًّا من معين وسبأ وربما ترجع أسباب قوة قتبان إلى موقعها الجغرافي بجوار باب المندب وحضرموت, كما كانت تنتج أفضل أنواع الطيب والبخور وجنوا من الأشجار فيها أرباحا طائلة، وقد عثر على كثير من آثارها ومن بينها عملات هلينية ورومانية؛ مما يوحي بتأثر القتبانيين بالحضارتين الهلينية والرومانية. جـ- دولة حضرموت "1020-300 ق. م." تقع على شرق اليمن على ساحل بحر العرب, وتنسبها التوراة إلى حضرموت

ابن يقطن بن عامر بن شالخ1, ولم يكن الباحثون على علم بشيء من أخبار الدولة التي قامت في حضرموت؛ ولكن بعد أن عثر على عدد من النقوش فيها أمكن التعرف على بعض تاريخها, ومن ذلك نعلم أنه قامت في حضرموت دولة كانت تعاصر كلًّا من حمير وسبأ وقتبان, وأنها صارت تابعة للدولة الحميرية الثانية منذ حوالي 115 ق. م إذ كان ملوك حمير يلقبون أنفسهم بلقب "ملوك سبأ وريدان وحضرموت ويمنات". ومن المعتقد حسب ما ورد في النقوش أن أول ملوك حضرموت هو "شهرم علام بن صدق إيل" وكان حفيده "معدي كرب" الذي يرجح أن حضرموت اندمجت في مملكة معين في عهده أو بعد وفاته؛ إذ يعتقد أنه بينما كان "معدي كرب" يحكم في حضرموت كان أخوه يحكم في معين. ويبدو من بعض النقوش أن علاقات ودية أو تجارية كانت قائمة بين حضرموت وتدمر والأراميين في عهد ملك يدعى "العزيلط الثاني" كما تشير النقوش كذلك إلى أن ملكًا آخر يدعى "يدع ال بين" بن "رب شمص" أعاد بناء مدينة شبوة وأقام بها وبنى معبدها بالحجارة بعد ما حل بها من تخريب، ولا يعرف سبب هذا التخريب؛ ولكنه يعزى إلى نشوب قتال بين سبأ وبين حضرموت أو إلى حدوث ثورة داخلية ربما أدت إلى القضاء على الأسرة الحاكمة وحلول أسرة أخرى محلها, ومن المرجح أن حضرموت فقدت استقلالها واندمجت نهائيًّا في مملكة سبأ وريدان في عهد "شمريهرعش" الذي حمل لقب "ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنات". وكانت العاصمة القديمة لحضرموت هي "ميفعة" ثم انتقلت العاصمة بعد ذلك إلى "شبوة" التي يحتمل أنها أسست في القرن الثاني قبل الميلاد, وقد كشف فيلبي عن آثارها التي شملت أطلال كثير من المعابد والقصور وبقايا السدود التي أقيمت على وادي

_ 1 سفر التكوين 10/26، أخبار الأيام 1/20.

شبوة لحصر مياه الأمطار وكانت الحاصلات تنقل إلى "قن" وهي ميناء حضرمية إلى الشرق من عدن, وهي على الأرجح حصن الغراب الحالي, ومنها تصدر حاصلات حضرموت برًّا وبحرًا. د- دولة سبأ 800-115 ق. م: ورد في نصوص تجلات بلاسر الثالث وسرجون الثاني الأشوريين وسنحريب الكلداني ما يشير إلى أنهم فرضوا الجزية على ملكي سبأ "يثعمر" و"كرب إيلو" اللذين يحتمل أنهما كانا من حكام سبأ المقيمين في الواحات التي على طريق التجارة إلى الشام, لا ملوكًا في سبأ نفسها, كذلك ورد اسم سبأ بضع مرات في التوراة، كما ورد ذكرها في القرآن الكريم. وقد اختلف الباحثون في أصل السبئيين ونسبهم؛ ولكن يغلب على الظن أنهم كانوا شعبًا بدويًّا يتنقل بين شمال وجنوب شبه الجزيرة العربية إلى أن استقر بهم المقام في اليمن حوالي 800 ق. م. وقد اضطرتهم الظروف إلى ذلك إذ يحتمل أن الأشوريين ازدادوا ضغطًا عليهم في الشمال, وفي نفس الوقت وجدوا الفرصة سانحة؛ لكي يستغلوا الضعف الذي منيت به الدولة المعينية, وأخذوا في التوسع جنوبًا على حساب المعينيين, وقوي نفوذهم تدريجيًا إلى أن قضوا على دولة معين وأقاموا دولتهم على أنقاضها, وورثوا لغتها وحضارتها, وحلوا محلهم في نقل التجارة بين الهند والعراق والحبشة ومصر والشام, وأصبحوا أعظم الوسطاء التجاريين بين هذه الأقطار, ويرى البعض من الباحثين أنهم تركوا مواطنهم التي أطلق عليها الأشوريون اسم عربي أو أريبي "ووردت في التوراة باسم بارب أو يعرب" وارتحلوا إلى جنوب شبه الجزيرة في القرن الثامن قبل الميلاد, واتخذوا صرواح ثم مأرب عاصمة لهم, وهذه الأخيرة يحتمل أنها سميت كذلك نسبة إلى موطنهم الأصلي "بارب".

واستطاعت دولة سبأ أن تزدهر وأن ينعم شعبها بالثراء لاشتغالهم بالزراعة والتجارة؛ حيث سيطروا على الطريق البري الذي يربط الجنوب بالشمال, وازداد نفوذها فأقامت حكامًا لها في الواحات الواقعة على هذا الطريق التجاري, تعاونهم حاميات عسكرية وكانت واحة ديدان "العلا" هي مركز نفوذها على شمال بلاد العرب. ويمكن حسب ما ورد في النقوش السبئية، أن نقسم عصر الدولة السبئية إلى مرحلتين تاريخيتين متتاليتين: مرحلة المكارب 800-650 ق. م. أي: المقربون من الآلهة والناس أو الذين كانت لهم مكانة دينية إلى جانب حكمهم كملوك, وقد اتخذوا صرواح عاصمة لهم في أول الأمر ثم نقلوا العاصمة بعد ذلك إلى مأرب، ومرحلة ملوك سبأ وتمتد إلى 115 ق. م. مكارب سبأ وتمتد إلى 115 ق. م. أسس "سمة على" دولة سبأ ثم خلفه على العرش ابنه "يدع إيل ذريح" "حوالي 780 ق. م." وقد شيد معبدًا للإله ألمقه في صرواح ومعبدًا آخر لنفس الإله في مأرب وقدم القرابين إلى الإله عشتر, ثم تبعه ولده "يثع أمر" الذي ينسب إليه بناء معبد في بلدة دابر الواقعة في الجوف بين مأرب ومعين؛ مما يوحي بأن السبئيين اصطدموا بالمعينيين في عهده, وقد قام ولده "يدع إيل بين" الذي خلفه في الحكم بتحصين أبراج مدينة نشق المعينية. ومنذ بداية القرن السابع قبل الميلاد اهتم مكارب سبأ بالإصلاحات الزراعية؛ فقد وزع "كرب إيل بين" الأراضي المحيطة بنشق على الفلاحين لاستصلاحها وزراعتها وسار ولده "دمر على ذريح" على نفس السياسة, أما ابن هذا الأخير "سنة على ينف" فقد شيد سدًّا على مدخل وادي "زنة" بمأرب يعرف باسم سد "رحب"

سنة 650 ق. م. فساعد على تنظيم ري المناطق المجاورة طوال العام؛ ولكنه لم يفِ بحاجة كل الأراضي الزراعية؛ مما جعل "يثعمر أمر بين" ولده وخليفته يزيد في حجم السد "طولًا وعرضًا وارتفاعًا"، كما شيد سدًّا أعظم منه يعرف باسم "سد حبايض"، وكان لهذين السدين بمأرب أعظم الأثر في زيادة الرقعة الزراعية وزيادة ثروة البلاد. وقد رمم سد "زنة" وأصلح في العصور التالية؛ ولكن اضطراب أحوال الدولة الحميرية فيما بعد وإهمالها له عجل بتصدعه ثم انهياره فتحولت الأراضي الزراعية إلى الجدب؛ وأدى ذلك إلى هجرة بعض القبائل إلى مشارف الشام والبحرين والعراق. وآخر مكارب اليمن هو "كرب إيل وتر" الذي تخلى عن سياسة التعمير واتجه إلى التوسع العسكري؛ فهاجم الدولة المعينية وقضى عليها, كما انتصر على القتبانيين وسجل انتصاراته على جدران معبد صرواح, ولقب نفسه بلقب "ملك سبأ" فأصبح أول حكام سبأ الذين تلقبوا بهذا اللقب. ملوك سبأ: اتسعت مملكة سبأ واشتد بأسها وأصبح لها أسطول تجاري ضخم ينتقل بين ثغورها والثغور الأجنبية, وقد أخذت تظهر فيها أسرات قوية وخاصة منذ سنة 500 ق. م. ومن بين هذه الأسرات أسرة همدانية تمكنت من اغتصاب العرش، وحدثت تغيرات سياسية وفكرية مهمة؛ فبدأت تظهر فيها أسماء آلهة جديدة لم يكن يسمع عنها من قبل ثم بدأت المتاعب تحيط بملوك سبأ منذ سنة 350 ق. م؛ إذ إن الهمدانيين وبعض أمراء القبائل الأخرى طمعوا في العرش أو الاستقلال بإماراتهم وحاولت المملكة أن تقضي على استقلال هذه الإمارات وأن تدمجها في المملكة؛ ولكن عَزَّ على هذه الإمارات أن تتنازل عن استقلالها وضعف مركز ملوك سبأ, وخاصة بعد أن أخذ البطالمة في مصر يحتكرون التجارة الشرقية, وقامت اضطرابات وثورات عنيفة أدت إلى تدهور الأوضاع الاقتصادية

والسياسية, وتدخلت الدول الأجنبية في شئون المملكة وخاصة بعد أن فقدت سيطرتها على البحر الأحمر وسواحل أفريقيا؛ حيث إنتقلت التجارة البحرية إلى أيدي اليونان ثم إلى أيدي الرومان من بعدهم. وفي أواخر عهد ملوك سبأ قام نزاع خطير حول العرش تسبب في تدمير البلاد وتحول الكثير من الأراضي الزراعية إلى صحارى، وقد أفاد الريدانيون "وهم شعب عربي جنوبي كان ينزل قرب ساحل شبه الجزيرة الجنوبية إلى الشمال من حضرموت" والحميريون من ذلك النزاع, وتمكنوا من انتزاع العرش السبئي وأسسوا في 115 ق. م. الدولة الحميرية التي حكم ملوكها باسم "ملوك سبأ وذي ريدان".

ثانيا القسم الشرقي

ثانياً القسم الشرقي مجان ... ثانيًا: القسم الشرقي: أ- مجان: ذكر سرجون الأكدي أنه غزاها وجلب منها ومن ملوخا ودلمون سفنًا1؛ ولذا يعتقد أغلب الباحثين أنها تقع في شرق شبه جزيرة العرب؛ بينما يرى البعض أنها عمان الحالية وأنها اشتهرت بالتجارة والملاحة، وتشير نصوص "نرام سين" "حفيد سرجون ملك أكاد" إلى أنه غزا مجان وأخضع ملكها مانيؤم, وهو اسم يبدو أنه سامي مما يوحي بوجود مملكة حكامها من العرب الساميين. ومع أن اسم مجان قد يكون مشتقًّا من كلمة سومرية بمعنى ميناء أو أرض السفن

_ 1 من المرجح أن منطقة "ميجان" الحالية التي تقع على ساحل الخليج العربي عند مصب وادي شهبة هي البقعة التي نشأت فيها مملكة مجان القديمة، ولا يمكن تعيين موقع ملوخا بالتحديد حتى الآن؛ ولكن لا شك في أنها كانت قريبة من ميجان, أما دلمون فمن المرجح أنها كانت تضم جزر البحرين وجزءًا من الأحساء.

إلا أن النصوص المسمارية تصف "مجان" بأنها "جبل النحاس"، وقد اشتهر نحاسها بوجود نسبة من القصدير, كذلك اشتهرت "مجان" بحجر الديوريت الأسود الذي صنع منه قدامى ملوك العراق تماثيلهم ونصبهم.

دلمون أو تلمون "البحرين"

ب- دلمون أو تلمون "البحرين": ذكر اسم دلمون أو تلمون في المصادر المسمارية، وكانت على علاقات مختلفة مع السومريين والبابليين والأشوريين منذ أقدم العصور، وقد وردت عنها إشارات في النصوص المسمارية منذ منتصف الألف الثالث إلى نحو سنة 500 ق. م. وهذه النصوص تدل على أن دلمون تقع في منطقة البحرين وأنها أرض أسطورية غريبة؛ حيث يذكر سرجون الثاني "ملك أشور" أن ملك دلمون يعيش في وسط البحر الذي تشرق منه الشمس، كما يذكر الملك أشور بانيبال أن دلمون تقع وسط البحر الأسفل والمقصود بـ"البحر الذي تشرق منه الشمس" و"الأسفل" في النصوص الآأشورية هو الخليج العربي، ويستدل من نصوص سرجون المشار إليها على أن الوصول إلى دلمون كان يتطلب نحو 60 ساعة ملاحة من مصب الفرات, أي أنها كانت تبعد نحو 300 ميل وهي نفس المسافة إلى جزر البحرين. وفي سنة 1879م عثر على كتابة مسمارية في البحرين ترجع إلى العهد البابلي القديم في النصف الثاني من الألف الثاني ق. م. وبها إشارة إلى "قصر رموم عبد الإله أنزاك رئيس قبيلة أجاروم" ومن المحتمل أن أجاروم القديمة هي قبيلة عربية بقي اسمها مستعملًا وحرف إلى بني هجر التي تقيم الآن في بقعة تجاور البحرين، كما يرجح أن هذا الاسم المحرف "هجر"، كان يستعمل في العصور الوسطى للدلالة على منطقة الأحساء.

وقد اشتهرت دلمون بتمرها منذ أقدم العصور، ويغلب على الظن أن الساحل الشرقي لشبه جزيرة العرب كان ضمن مملكة دلمون, التي ازدهرت في الألف الثاني قبل الميلاد وكانت تضم الأحساء والبحرين. وما زالت الآراء تختلف في أصل الدلمونيين؛ إذ يرى البعض أنهم جاءوا من الجزء الجنوبي الغربي من شبه الجزيرة، وكانت لهم صلات مع العراقيين منذ عصر فجر الأسرات السومرية؛ بينما يرى البعض الآخر أن من المحتمل أن يكون السومريون القدماء قد جاءوا أصلًا من دلمون. وقد تعرضت دلمون لغزوات كثيرة من ملوك بلاد النهرين؛ فقد غزاها سرجون الأكدي هي ومجان وملوخا وجلب منها سفنًا كثيرة، كما أشرنا إلى ذلك من قبل، كذلك حاول بعض الأشوريين ضمها إلى ملكهم. ومما يذكر في هذا الصدد أن سنحريب بعد أن دمر بابل سنة 689 ق. م. أرسل إلى دلمون أمرًا بالخضوع ومعه بعض رماد حريق بابل كتهديد لها بنفس المصير؛ فبادر ملك دلمون بإرسال جزية وهدايا لسنحريب رمزًا لخضوعه له. ويود بعض الباحثين أن يربط جنة عدن المذكورة في الكتب السماوية بمنطقة دلمون, ويستندون في هذا إلى ما تذكره الأساطير المسمارية التي تصفها بأنها أرض غريبة وإلى الأساطير العربية الشائعة في شبه الجزيرة التي تصفها كجنة ليس فيها إلا الخير والطهر، وإلى أن أسطورة سومرية عن الطوفان تشبه أسطورة جلجاميش تشير إلى دلمون كأرض مقدسة؛ ولكننا بالطبع لا نستطيع تأكيد ذلك.

باصو أو بازو "نجد" وحاسو "الاحساء"

جـ- باصو أوبازو "نجد" وحاسو "الأحساء": تقع هذه البلاد في شرق وجنوب شرقي شبه جزيرة العرب, وقد اتصل بها غير واحد من ملوك الأشوريين وكان أهمهم أسرحدون الذي توغل في بلاد العرب في أماكن بعيدة وصفها وصفًا ينطبق على نجد والأحساء، وقد ذكر اسميهما باصو "أوبازو" وحاسو على الترتيب، ومع أن بعض البحوث الأثرية قد تمت حديثًا في الأحساء وفي جزيرة البحرين؛ إلا أنها لا تلقي كثيرًا من الضوء على تاريخ هذه الجهات قبل خروج الإسكندر في حملاته إلى الشرق.

الفصل الخامس: الاقليم السوري

الفصل الخامس: الاقليم السوري مدخل ... الفصل الخامس: الإقليم السوري: ويقصد بالإقليم السوري هنا تلك المساحة التي عرفها اليونان بهذا الاسم، أي المساحة الواقعة بين جبال طوروس شمالًا وسيناء جنوبًا وبين البحر المتوسط غربًا والبادية وبلاد النهرين شرقًا. ولو تأملنا هذا الإقليم لوجدناه ينقسم من ناحية التضاريس إلى أقسام طولية يغلب فيها بوجه عام تناوب الأراضي المنخفضة والمرتفعات؛ حيث نجد أن السهل الساحلي تتلوه سلسلة الجبال الغربية, ويلي هذه سهل البقاع ثم السلسلة التي تنتهي إلى بادية الشام, مع ملاحظة أن كلًّا من هذه الأقسام يختلف في اتساعه بين بقعة وأخرى. وقد تأثر هذا الإقليم في تاريخه وحضاراته ببضعة عوامل يمكن تلخيصها فيما يلي: 1- الموقع الجغرافي: تقع سورية بين القارات الثلاثة الرئيسية للعالم القديم؛ فهي لهذا تعد حلقة الاتصال فيما بينها، ومع أن هذا الموقع أتاح لها أن تلعب دورًا مهمًّا في التبادل التجاري وفي انتشار كثير من المظاهر الحضارية بين أقطار

الشرق الأدنى؛ إلا أنه من جهة أخرى جعلها عرضة للهجرات والغزوات المختلفة, وكانت مجاورتها لأقدم مراكز الحضارة الفعالة في العراق ومصر وآسيا الصغرى من العوامل المهمة التي جعلتها تتأثر بتلك الدول وحضاراتها. 2- التضاريس: أشرنا إلى أنها تنقسم إلى أقسام طولية مختلفة الاتساع والمظهر, وقد أدى ذلك إلى قيام وحدات منفصلة فيها، ولم تكن إحدى هذه الوحدات من الاتساع؛ بحيث تنشأ فيها دولة قوية يمكنها أن توحد سورية بأكملها تحت سلطانها؛ ولذا كان توحيدها غالبًا ما يتم بإرادة سلطة خارجية. 3- وجود المناطق الصحراوية في شرق سورية وجنوبها جعلها المطمع الدائم للبدو من سكان هذه الأقاليم؛ فكان في صراع مع تلك العناصر. ونظرًا لأن هذه العوامل مرتبطة بالظروف الطبيعية للإقليم السوري, فإن أثرها الحضاري والتاريخي ظل مستمرًّا في معظم أدواره التاريخية، وفيما يلي موجز للأدوار التي مر بها:

أولا العصور قبل التاريخية

أولاً العصور قبل التاريخية العصر الحجرى القديم العصر الحجري القديم الأسفل ... أولًا- العصور قبل التاريخية: أ- العصر الحجري القديم: العصر الحجري القديم الأسفل: وجدت آثار حضاراته "التي تشبه مثيلاتها في جهات العالم الأخرى" في كهوف عدلون "بين صيدا وصور" وفي الكرمل وأم قطفة "شمال غرب البحر الميت" والزطية "شمال غرب بحيرة طبرية" ورأس شمرا "أوجاريت" ولم يعثر على بقايا بشرية تمثل سكان هذا العصر1.

_ 1 انظر مع ذلك فيليب حتي "تاريخ سورية ولبنان وفلسطين" ترجمة جورج حداد وعبد الكريم رافق ص9؛ حيث يميل إلى أن سكان سورية في هذا العصر كانوا "نوعًا بدائيًّا غير متميز عن الإنسان الأبيض".

العصر الحجري القديم الأوسط

العصر الحجري القديم الأوسط: عثر على آثاره في كهوف في جبل الكرمل وفي جنوب الناصرة وفي شمال غرب طبرية، وقد عثر في بعض هذه الكهوف على بقايا بشرية تبين أن إنسان هذا العصر كان خليطًا من السلالات التي تمثل إنسان نياندرنال وأنواعًا أخرى أرقى منه تكاد تشبه الإنسان الحديث، ومن المحتمل أنه كان يأكل اللحوم البشرية، كما يستدل على ذلك من بقايا العظام البشرية التي وجدت وقد استخرجت مادتها النخاعية1.

_ 1 انظر نفس المرجع السابق ص11.

العصر الحجري القديم الأعلى

العصر الحجري القديم الأعلى: وجدت آثاره في كهوف أنطلياس وفي حوض نهر الكلب وفي كهف بالقرب من طبرية؛ حيث عثر فيها -فضلًا عن الأدوات الميكروليثية- على بقايا هياكل عظمية لأنواع مختلفة من الحيوانات مثل: الكركدن والضبع والثعلب والماعز والغزلان "وهذه الأخيرة كانت أكثرها" كما عثر على بعض بقايا إنسانية، ومن المحتمل أن الإنسان توصل -في هذه المرحلة- إلى معرفة النار واستخدامها في الطهي.

العصر الحجري المتوسط

ب- العصر الحجري المتوسط: تمثل هذا العصر حضارة تعرف باسم الحضارة الناطوفية1 "نسبة إلى وادي النطوف شمال غربي القدس"، وفيها ظلت الأدوات الميكروليثية مستعملة؛ بينما أخذت بعض الحيوانات التي كانت تعيش في تلك الجهات في الاختفاء؛ نظرًا لتغير الظروف المناخية. ويستدل من بقايا إنسان هذا العصر على أنه كان قصير القامة مستدير الرأس، ويرجح أنه عرف استئناس الحيوان والمرحلة البدائية في الزراعة وإن كان هذا لا يستند إلى دليل قوي حتى الآن، واتخذ منازل عبارة عن أكواخ من الطين أو اللبن عثر على أقدم آثارها في أريحا وتل الجديدة "شمال سورية" ورأس شمرا، ويتغالى بعض المؤرخين فيعتبر سورية أول من عرف بعض أسس الحضارة التي انتقلت منها إلى جهات أخرى من الشرق الأدنى2, وهو ما لا يتفق مع نشأة الحضارات العظيمة في مصر والعراق. ومن المرجح أن الإنسان -ابتداء من هذا العصر- اهتدى إلى نوع من العقيدة بدليل ما عثر عليه من أواني الطعام والتقدمات في أماكن الدفن، كما أنه أخذ ينمي ملكته الفنية؛ حيث أصبح يحاول محاكاة ما حوله من الكائنات يحفرها على العظم أو الحجر؛ إذ عثر على قطعة من العظم في هيئة غزال وعلى تماثيل طينية لبعض الحيوانات الداجنة كانت في مزار مقبرة في أريحا.

_ 1 dorothy A. E Garrod & D. M. A. Rates, "The Stone Age of Mount Carmel" Vol. 1 "Oxford 1937", pp. 145, 153, 175-7; D. A. E. Garrod "A New Mesolithic Industry: The Natufian of Palestine", In the Journal of Royal Institute of Great Britain, Vol L X 11 "1932", pp. 267 ff. 2 فيليب حتي "المرجع السابق" ص17 وما بعدها.

العصر الحجري الحديث

جـ- العصر الحجري الحديث: يمثل العصر الحجري الحديث والعصر التالي له "بداية استخدام المعادن" في عدة مواقع في سورية وفلسطين، وقد اصطلح كثير من الأثريين على اتخاذ منطقة العمق في سورية نموذجًا للحضارات التي شاعت في هذا العصر وما تلاه؛ نظرًا لأن تلالها الكثيرة بطبقاتها المختلفة تحوي آثارًا لكل من هذه الحضارات, ويقابل هذه المنطقة في فلسطين منطقتا جريكو وتل الغسول. وقد وجدت آثار حضارة العصر الحجري الحديث في تل الجديدة وساكجي جوزي "في أقصى الشمال" ومرسين في قيليقيا وهذه يمكن وضعها ضمن آسيا الصغرى؛ ولكنها أقرب إلى الإقليم السوري؛ ولذلك تلحق به، وقد وجدت نظائر لهذه الآثار في طبقتي العمق أ، ب بسورية وطبقتي 10، 9 في جريكو بفلسطين، ويمكن أن نعدها نظائر لحضارات حسونة بالعراق وسيالك الأولى في إيران, وهي تمثل مرحلة استقرار بالمعنى الصحيح؛ إذ عثر فيها على بعض الفئوس والمناجل الحجرية لا شك في أنها استخدمت في الزراعة، كما عثر فيها على أجران ومخازن. أما الأواني الفخارية التي عثر عليها فربما كانت متأثرة في صناعتها بما كان سائدًا في العراق؛ حيث يرى البعض أنها متأثرة بحضارة سامراء التي تنتمي إلى أواخر الدور الحجري الحديث؛ بينما يرى البعض الآخر أنها متأثرة بحضارة حلف1 التي تنتمي إلى أوائل دور بداية استخدام المعادن.

_ 1 انظر مع ذلك فيليب حتي: تاريخ سورية.. "الترجمة" ص22، 23 استخدام المعادن.

دور بداية استخدام المعادن"عصر النحاس والحجر"

د- دور بداية استخدام المعادن "عصر النحاس والحجر": تتمثل حضارات أوائل هذا الدور في أوجاريت "قرقميش" وفي جزر

وتل الغسول وفي الطبقة جـ بمنطقة العمق والطبقة 8 بمنطقة جريكو "وهي تقابل تقريبًا حضارة حلف بالعراق، وقد عثر فيها على منازل من اللبن أساساتها من الحجر الغشيم "غير المهذب"، وكان الأطفال يدفنون عادة في جرار تحت أرضيتها, أما البالغون فكان بعضهم يحرق والبعض يدفن في جرار على هيئة الجنين1، ومن المحتمل أن تحصينات المدن بدأت من هذا العصر، وكانت الزراعة مقترنة بالرعي واستئناس الحيوان كالثور "الذي يرجح أنه قدس" والماعز والغنم، وكان الحمام يرمز عادة للإلهة الأم، وفي هذا العهد كانت تغلب على السكان صفات جنس البحر الأبيض المتوسط في الجنوب, أما في الشمال فيغلب على الظن أنهم كانوا من الأرمنيين. وتتمثل حضارات أواخر هذا الدور في أريحا ومجدل "تل المتسلم" والعفولة وبيت شان "بيسان" وأوجاريت وبيبلوس وهي تقابل طبقات العمق د، هـ، وفي سورية والحضارة الغسولية وعصر البرونز الأول في فلسطين، ويبدو أن سورية خلال هذه المرحلة كانت في حضارتها تساير حضارات العراق ومصر المناظرة لها؛ وخاصة في الجزء الأخير من عصر التمهيد للكتابة في العراق وعصر ما قبل السلالات الحاكمة في مصر أي: حضارتي جمدة نصر وسماينة، ويبدو التطور واضحا في هذه الحضارة؛ إذ نجد أن الفخار أصبح يصنع بالعجلة وأن اللبن أصبح يستخدم في البناء وطليت الجدران بلون أبيض وزينت برسوم تمثل بعض الأشخاص والآلهة، وقد توصل أهل هذه المرحلة إلى صب المعادن؛ حيث عثر على تماثيل نحاسية صغيرة مصبوبة, كما تطورت الفنون عامة ويتجلى ذلك بوضوح في زخرفة الأواني بطلاء زجاجي.

_ 1 C. Leonard Woolley, "Hittite Burial Customs" in, The Annals of Archaeology and Anthropology, "University of Liverpool", Vi "1914" p. 88.

ثانيا العصور التاريخية

ثانياً العصور التاريخية الدول التي أثرت في تاريخ سوريا ... ثانيًا- العصور التاريخية: أ- الدول التي أثرت في تاريخ سورية: سبق أن أشرنا1 إلى أن ظروف الإقليم السوري الجغرافية لم تيسر قيام دولة قوية فيه, وأن الوحدات التي نشأت به لم تتحد إلا بإدارة سلطة خارجية، والواقع أن كل ما وصلنا من معلومات عن طريق البحوث التاريخية والأثرية يوحي بأن سورية ظلت في معظم فترات تاريخها ميدانًا لصراع القوى المجاورة، وإن ظهرت بعض دويلات المدن المستقلة التي تظل مستعصية على الغزاة بعض الوقت؛ إلا أنها كانت تستسلم في النهاية تحت ضغط القوى الفتية التي تغزوها. ومن الممكن القول إجمالًا بأن الإقليم السوري كان في أقدم عصوره التاريخية على علاقات تجارية مع مصر التي كثيرًا ما كانت تنشر نفوذها فيه، وليس من المستبعد أن تكون جالية مصرية قد أقامت في جبيل "ببلوس" بلبنان في زمن الأسرة الرابعة المصرية2 لملاحظة التبادل التجاري بينها وبين مصر, كما أن نصوص الأسرة الخامسة تدل على قيام حملات حربية مصرية إلى تلك الجهات أو على الأقل بعثات تجارية مسلحة، ومن المحتمل أن بعض عناصر الإقليم السوري استطاعت أن تهدد الحدود المصرية؛ بل ويرجح أنها في نهاية الأسرة السادسة تمكنت من بسط نفوذها على الدلتا3، وما لبث أن حدث رد فعل في عهد الأسرة الثانية عشرة؛ إذ يبدو أن ملوكها كان لديهم شيء من النفوذ في جنوب الإقليم السوري كما أنهم استأنفوا النشاط التجاري

_ 1 انظر أعلاه ص265. 2 انظر أعلاه ص108. 3 انظر أعلاه ص123.

مع سواحله الشمالية وكانت لهم علاقات ودية مع بعض الإمارات الأخرى. والظاهر أن ظروفًا سيئة حلت بالإقليم السوري خلال هذه الفترة؛ إذ إن بعض القبائل السورية جاءت في عهد سنوسرت الثاني1 تطلب السماح لها بالاستقرار في مصر, ويرجع سبب ذلك إما لحدوث قحط في هذه الجهات أو لتعرضها لغزوات بعض الدويلات المجاورة, وخاصة لأن الأموريين أخذوا ينتشرون في أواسط سورية وجنوبها خلال هذه الفترة تقريبًا بعد أن كانوا قد تركزوا فترة في سورية الشمالية أو لتدفق بعض سكان شمال ووسط سورية عليها من جراء ضغط هجرات بعض العناصر الهندو أوروبية الرعوية التي جاءت بالإيرانيين والحوريين وغيرهم ممن انتشروا في أعالي دجلة والفرات، ثم زحفوا إلى سورية الشمالية. والظاهر أن ازدياد هذا الضغط قد أدى إلى زيادة تسلل العناصر الآسيوية إلى مصر وانتشارها وازدياد نفوذها تدريجيًّا حتى استطاعت أن تستولي على السلطة فيها وحكمتها في أعقاب الدولة الوسطى، وقد عرف هؤلاء في التاريخ باسم الهكسوس, وهم الذين تمكن ملوك الأسرة الثامنة عشرة من طردهم وتعقبهم في فلسطين إلى أن قضوا على سلطانهم. وظل الإقليم السوري خاضعًا للسلطان المصري معظم عهد الأسرة الثامنة عشرة ولو أن مملكة قوية عرفت باسم مملكة ميتاني نشأت في شماله الشرقي "1400-1200 ق. م."؛ إلا أن نفوذها لم يتعد ذلك إلى مناطق النفوذ المصري, بل وكانت علاقاتها طيبة مع مصر وارتبط ملوكها بروابط المصاهرة مع الفرعنة. وفي عهد الأسرة التاسعة عشرة تقاسم الحيثيون والمصريون النفوذ في سورية؛ إذ أصبحت الأجزاء الشمالية منها في قبضة الحيثيين بينما اقتصر النفوذ المصري على جنوبها، ولم يستمر الحال كذلك إذ انتهت الأسرة التاسعة عشرة في مصر نهاية سيئة

_ 1 انظر أعلاه ص143.

فأعلن حكام الأقاليم استقلالهم واغتصب أحد كبار موظفي البلاط السوريين العرش فترة إلى أن تمكن مؤسس الأسرة العشرين "ست نخت" من اعتلاء العرش بعد طرد الغاصب السوري وعاد الأمن والاستقرار في البلاد1، وفي عهد هذه الأسرة الأخيرة حدثت إغارات مفاجئة من شعوب هندو أوروبية عرفت باسم "شعوب البحر" على آسيا الصغرى؛ فأسقطت دولة الحيثيين وواصلت تقدمها في شمال سورية وزحفت جنوبًا حتى أصبحت تهدد مصر؛ ولكن رعمسيس الثالث -ثاني ملوك هذه الأسرة- تصدى لهم وهزمهم برًا وبحرًا في معركة فاصلة، وبذلك احتفظ بشيء من النفوذ المصري في سورية، كذلك ظلت بعض الولايات الحيثية قائمة فترة بعد ذلك في شمال سورية إلى أن قضى عليها نهائيًا سرجون الثاني ملك أشور في أواخر القرن الثامن قبل الميلاد، وبعد عهد رعمسيس الثالث أخذ نفوذ مصر يزول تدريجيًا من سورية إلى أن انتهى تمامًا في أواخر الأسرة العشرين ولم تقم له قائمة بعد ذلك إلا في فترات متباعدة ولمدد قصيرة من عهدي الأسرتين الثانية والعشرين والسادسة والعشرين, ثم أصبحت سورية ومصر نفسها بعد ذلك جزءًا من الإمبراطورية الفارسية. ولا شك في أن ظروف الإقليم السوري الجغرافية التي أشرنا إليها من قبل2 لا تجعل من مصر الدولة الوحيدة التي كان على علاقات معها؛ بل وربما كانت بعض المناطق الأخرى أيسر اتصالًا به وعلاقاته معها أبعد مدى؛ فمن المعروف أن المنطقة بين سهول سورية الشمالية وحوض نهر دجلة الأعلى كانت كثيفة السكان منذ أقدم العصور، يسهل الانتقال عبرها بين بلاد النهرين والإقليم السوري؛ ولذا كانت بمثابة حلقة الاتصال بينهما؛ مما أدى إلى نشابه بعض حضارتهما في العصر قبل التاريخي وإلى توسع الدول القوية التي تنشأ في أي منهما في أراضي

_ 1 انظر أعلاه ص195-196. 2 انظر أعلاه ص264-265.

الآخر، وهكذا نجد أن "لوجال زاجيري"1 يدعي أنه غزا سورية ووصل "سرجون" الأكدي في فتوحاته إلى لبنان، وما إن تحررت أرض الجزيرة وشمال سورية من الأكديين؛ حتى خضع الجزء الشمالي من سورية للحوريين، وبعدئذٍ تمكن "نارام سن" من السير في فتوحاته شمالًا؛ حتى أخضع حلب ولم يقتصر نشاط العلاقات بين القطرين على سياسة التوسع؛ فقد قامت بينهما علاقات تجارية من أقدم العصور, وخير مثال لذلك ما قام به "جوديا" حاكم لجش من إحضار خشب الأرز من لبنان. وعندما ازدادت قوة الساميين الغربيين "الأموريين" الذين كانوا يقطنون في الإقليم السوري, زحفوا على طول نهر الفرات، وأصبحوا حكامًا لكثير من بقاع بلاد النهرين, ولكن لم يلبث "حامورابي" أن أخضعهم لسلطان بابل ولو أنه هو نفسه كان أصلًا من الأموريين. وما إن انتقلت السيادة في بلاد النهرين إلى الأشوريين حتى وجدوا أن الآراميين أصبحوا يتركزون على الجانب الأيمن للفرات؛ ولذا عمد ملوكهم الأقوياء إلى فرض سلطانهم على هؤلاء الآراميين؛ بل وتوسعوا غربًا حتى وصلوا إلى البحر المتوسط، ولم تكد بضع الدويلات السورية القائمة أن تفيق من ضربات الأشوريين المتلاحقة بعد سقوط آشور حتى تعرضت من جديد لغزوات الكلدانيين. ولم تكن آسيا الصغرى في علاقاتها بالإقليم السوري أقل شأنًا من غيرها؛ بل ويمكن أن نعد الجزء الجنوبي منها -وهو الواقع خلف جبال طوروس- امتدادًا للإقليم السوري؛ ولذلك نجد تشابها في حضارتهما منذ العصر الحجري الحديث، وقد وجدت دولة الحيثيين "سكان آسيا الصغرى" فرصة للتوسع في الإقليم السوري؛ حيث بدءوا بالقضاء على مملكة يامخاد الأمورية ودمروا

_ 1 انظر فيما بعد ص354.

عاصمتها حلب في أواخر القرن السادس عشر ق. م، ثم اشتد التنافس بينها وبين المصريين من أجل السيطرة عليه ابتداء من أواخر القرن الرابع عشر قبل الميلاد1, ثم تكونت فيه عدة ممالك حيثية صغيرة خلال القرن الحادي عشر ق. م.2. وهكذا نجد أن الإقليم السوري كان ميدانًا لصراع دول وشعوب مختلفة أثرت في تاريخه أيما تأثير.

_ 1 انظر فيما بعد ص278، 312-316. 2 انظر فيما بعد ص318-320.

الشعوب التي أثرت في تاريخ سورية

الشعوب التي أثرت في تاريخ سورية مدخل ... ب- الشعوب التي أثرت في تاريخ سورية: أشرنا إلى أن موقع الإقليم السوري كان عظيم الأثر في تاريخه وحضارته؛ إذ إنه جعله عرضة لوفود بعض العناصر التي لعبت في تاريخه دورًا مهمًّا، وأهم هذه العناصر هي:

أولا العناصر السامية

أولًا- العناصر السامية: وفدت هذه العناصر إلى الإقليم السوري في موجات متتابعة, واستقرت في أنحاء مختلفة منه "خريطة رقم 4" وظلت تسود فيه خلال الجزء الأكبر من تاريخه القديم. وقد تركت هذه الشعوب بصماتها في التاريخ؛ حيث احتكت بالشعوب المجاورة، وتأثرت بها وأثرت فيها من الناحية الحضارية، ومع أن بعض هذه

خريطة رقم 4

الشعوب لم يستدل عليها إلا من التوراة؛ إلا أن لغاتها انتشرت في الشرق الأدنى حتى أصبحت دولية, كما أن الكتابة التي توصل إليها البعض الآخر استخدمتها الشعوب غير السامية التي عاشت في الشرق الأدنى، بل وينسب إلى الفينيقيين أنهم أول من عرفوا الهجائية التي انتقلت منهم إلى اليونان الذين نقلوها بدورهم إلى أوروبا؛ فهي تعد إذًا أساس الهجائيات الأوروبية الحديثة1. ولم يكن انتشار هذه الشعوب في الإقليم السوري بدرجة واحدة ولم يسيطر أحدها على الإقليم بأكمله؛ على أنه يمكن القول إجمالًا أن الأموريين ظلوا يشكلون غالبية السكان "فيما عدا السواحل" من منتصف الألف الثالث ق. م. إلى منتصف الألف الثاني ق. م. تقريبًا؛ بينما سكن الكنعانيون "الفينيقيون" الذين جاءوا مع الأموريين في هجرة واحدة على السواحل, وظل نشاطهم بها حتى منتصف الألف الأول ق. م. تقريبًا، ومن منتصف الألف الثاني ق. م. توغلت العناصر الآرامية في شمال ووسط سورية، وفي نفس الوقت تقريبًا كان العبريون يحاولون دخول جنوب الإقليم السوري والتركز حول البحر الميت تقريبًا. وعلى العموم يمكن إجمال المعالم الرئيسية لتاريخهم على النحو التالي: 1- الأموريون: هم أول شعب سامي عاش في سورية، وقد جاءوا من بلاد العرب في هجرة واحدة مع الكنعانيين حوالي منتصف الألف الثالث ق. م. وأخذوا يتجولون في شمال سورية قبل أن يستقر بهم المقام في أواسط حوض الفرات، وكانت هذه المنطقة تسكنها جماعات سومرية عند وفود الأموريين ثم ما لبث

_ 1 انظر ص280.

هؤلاء أن أصبحوا يمثلون غالبية السكان، وبعد انتصار سرجون الأول "ملك أكد" على لوجال زاجيري1 حوالي سنة 2371 ق. م. اجتاح بلاد الأموريين؛ ولكن هؤلاء نجحوا في بداية الألف الثاني قبل الميلاد في تأسيس سلسلة من الدول في فلسطين وسورية وبلاد النهرين؛ فما إن حل القرن العشرون قبل الميلاد حتى أصبحت منطقة الفرات الأوسط أمورية في سكانها وحضارتها وحكومتها؛ حيث أسسوا دولة عاصمتها ماري جنوب مصب الخابور، وانتشرت إماراتها من أشور شمالًا إلى لارسا جنوبًا، ومن البحر المتوسط غربًا إلى مرتفعات عيلام شرقًا، والظاهر أن بعض الجهات التي قطنوها في أول الأمر تعرضت لحملة مصرية في عهد ساحورع أحد ملوك الأسرة الخامسة2؛ حيث إن النقوش التي تركها على جدران معبده تبين انتصاره على آسيويين مثلوا بملامح تغلب فيها الصفات الأرمينية "رأس مستديرة وأنف ضخم" وهي صفات كانت سائدة بين الأموريين أيضًا، ومن المرجح أن بعض مواطنهم تعرضت لبعض المتاعب؛ فجاءت جماعات منهم تطلب الاستقرار في مصر، ويتضح هذا من نقوش مقبرة "خنوم حتب" أحد أشراف مصر الوسطى في عهد سنوسرت الثاني من السلالة الثانية عشرة؛ حيث مثلت إحدى القبائل التي لها نفس الملامح وقد جاءت تطلب السماح لها بالإقامة في مصر3، وربما كان الأموريون يمثلون الغالبية بين الشعوب التي اجتاحت سورية وتسللت إلى مصر وسيطرت عليها وهي التي عرفت باسم الهكسوس4. وقد شهد مطلع النصف الثاني من الألف الثاني قبل الميلاد تحولًا في النشاط

_ 1 ملك مدينة أوما، انظر فيما بعد "عصر فجر الأسرات السومري" بالعراق. 2 انظر أعلاه ص114-115. 3 انظر أعلاه ص143. 4 انظر أعلاه ص150 وما بعدها.

الدولي إلى سورية الوسطى التي كان الأموريون يلعبون الدور الرئيسي فيها؛ لأن الدولة الحيثية أصبحت من القوة بحيث أخضعت الجزء الشمالي من سورية لسلطانها بعد أن كانت تسيطر عليه مملكة يامخاد الأمورية التي كانت عاصمتها حلب, وفي تلك الأثناء كانت مصر قد أخذت تبني إمبراطوريتها في عهد الدولة الحديثة، ووقع جزء من سورية تحت سيطرتها، وهكذا انحصرت بقية الإمارات الأمورية في سورية الوسطى وخاصة في الجزء الشمالي من لبنان والإقليم الداخلي حول دمشق، وظلت هذه الإمارات تتأرجح بين الخضوع للحيثيين أو الولاء لمصر، وظل الحيثيون في تقدمهم؛ بينما أخذت المستعمرات المصرية تزداد سوءًا في أواخر عهد الأسرة الثامنة عشرة وانكمشت الممتلكات المصرية حتى أصبحت قاصرة على الجزء الجنوبي من سورية, وأخذ الحيثيون يسيطرون على شمال سورية ووسطها إلى أن انتهى نشاط الأموريين منها واقتصر على جنوبها؛ حيث تأرجحت بعض الولايات الأمورية بين الولاء لمصر وبين الولاء للحيثيين, كما أن الولايات استقلت لفترات قصيرة ساد الصراع خلالها فيما بينهم إلى أن قضى الأشوريون والبابليون ثم الفرس على كيانهم ودخلوا الإقليم السوري بعد ذلك تحت سيادة الإسكندر، ومن الجدير بالذكر أنهم لم يتركوا وثائق مهمة بلغتهم الخاصة؛ بل استعملوا البابلية القديمة, ويكاد لا يظهر في وثائقهم من لغتهم سوى أسماء الملوك والحكام وبعض أسماء الأماكن السورية، ويبدو أن لغتهم كانت اللهجة الكنعانية التي انتشرت في شرق الإقليم السوري، كما يبدو أن الفينيقية كانت هي الأخرى اللهجة الكنعانية التي انتشرت في غرب هذا الإقليم. ب- الكنعانيون أو الفينيقيون: أشرنا إلى أن هؤلاء وفدوا مع الأموريين في هجرة واحدة؛ ولكن هؤلاء الكنعانيين استقروا على الساحل؛ حيث أطلق عليهم اليونان اسم "الفينيقيين"، ولم تمكنهم طبيعة المنطقة التي عاشوا فيها من تأسيس دولة قوية موحدة

بل انتظموا في جماعات صغيرة يحكم كلًّا منها ملك ويتركزون حول مدن محصنة، تحميها أسوار وأبراج قوية تلجأ إليها تلك الجماعات عند مهاجمتها، وبعض هذه الجماعات كانت تحتل -إلى جانب أماكن استقرارها على الساحل- جزرًا صغيرة في مواجهتها, حتى إذا ما اشتد الهجوم عليها التجأت إلى تلك الجزر التي كانت محصنة هي الأخرى، أي أن هذه الجماعات كانت تتبع وسائل دفاع مزدوجة استطاعت بفضلها بعض مدنهم أن تقاوم طويلًا هجمات كثيرة تعرضت لها, ووقفت صامدة أمام الغزاة رغم حصارهم لها سنوات متتالية. وكثيرًا ما كان يكثر التطاحن بين هذه المدن وتنشب بينها الحروب, ومع ذلك فإنها كثيرًا ما كانت تتحد أمام المهاجمين من الشعوب الأخرى، وقد تحصل إحداها على الزعامة وتتمتع بنوع من السيادة على الآخرين1؛ ولكن هذه الأحلاف كانت لا تستمر طويلًا وخاصة لأن بعض المدن كانت تحاول الانتفاع على حساب البعض الآخر. وكان الفينيقيون أول أمة بحرية في التاريخ، أخذوا يجوبون البحار ويؤسسون الطرق البحرية بين الشرق والغرب وأنشئوا المستعمرات ونشروا حضاراتهم وحضارات غيرهم بين مختلف الجهات، وكانوا تجارًا نموذجيين ألفت الشعوب القديمة رؤية سفنهم؛ ولذا نجدها ممثلة في نقوش المصريين والأشوريين. ومن أهم ما قاموا به الدوران حول إفريقيا في عهد نخاو "ثاني ملوك الأسرة السادسة والعشرين المصرية"2، كما ينسب إليهم أنهم وصلوا إلى بريطانيا وكانوا يتاجرون معها؛ إذ كانوا يحصلون منها على القصدير في نظير الخزف والملح والأواني النحاسية، وأهم المستعمرات التي أسسوها كانت في قبرص وصقلية وسردينيا وأسبانيا وأوتيكا "تونس" وقرطاجة وبلاد اليونان،

_ 1 مثل الحلف الذي تكون بزعامة قادش أيام تحتمس الثالث، انظر ص166. 2 انظر ص228.

وكانت قرطاجة أكثر هذه المستعمرات نجاحًا؛ فقد تطورت حتى أصبحت تنافس الوطن الأم في القرن الثامن قبل الميلاد، وكونت منذ القرن السادس ق. م إمبراطورية واسعة امتدت من حدود ليبيا إلى جبل طارق وشملت بعض جزر البحر المتوسط حتى نازعت روما السيادة على هذا البحر، وبلغ من تسلطها عليه أن تردد القول بأن الرومان لم يكونوا يستطيعون غسل أيديهم في مياهه دون إذن من قرطاجة، وتطورت الحرب بين روما وقرطاجة إلى أن دمرت هذه الأخيرة على يد الرومان, وأشعلوا فيها النيران لمدة سبعة عشر يومًا حتى أتت عليها في سنة 146 ق. م. ويبدو أن الفينيقيين كانوا أول من استعمل الأبجدية الراقية1 التي لا شك في أنهم اقتبسوها من الكتابة المصرية, كما أنهم تأثروا بالمصريين في كثير من أمورهم كالآداب والعقائد وفن العمارة وعادات الفن وغير ذلك؛ إذ إن من المرجح أن النفوذ المصري كان سائدًا في الساحل الفينيقي من حوالي 2400-1200 ق. م. وكانت أول مدينة تحتل مركزًا رئيسيًا في العلاقات المصرية الفينيقية هي جبيل "ببلوس" حيث كانت مصر تستورد منها خشب الأرز والخمور والزيوت في نظير الذهب والمصنوعات المعدنية وورق البردي، وقد دخلت سورية تحت سلطان فراعنة الدولة الحديثة على العموم؛ ولكنها خرجت عن سيادتها بعد ذلك. ولم يكن التأثير الحضاري لبلاد النهرين على سورية أقل من التأثير المصري، وكان ملوك بلاد النهرين الأقوياء يحصلون على خشب الأرز من هذا الإقليم، كما حدث في عهد جوديا ملك لجش، بل ويحتمل أن سورية الشمالية خضعت لسرجون الأول ملك أكد وإلى نارام - سن "ثالث خلفائه حوالي 2238 ق. م."،

_ 1 عثر في أوجاريت على ألواح طينية كتبت بهجائية مسمارية في لهجة كنعانية, وتتشابه في بعض موادها مع بعض نصوص الآداب العبرية, انظر أيضًا ص282.

على أن خضوعها بصفة حاسمة لدول بلاد النهرين لم يحدث إلا في عهد الأشوريين حينما انهارت الدولة الحيثية؛ فقد استطاع تجلات بلاسر الأول ملك أشور أن يفرض سلطانه عليها، وما لبث الآراميون أن غزوا ممتلكاته فيها ولكن أشور ناصر بال "أحد خلفائه" تمكن من استرجاعها، وفي عهد وريثه شلمناصر الثالث تكون حلف ضده من المدن السورية ومن ملك دمشق "853 ق. م"؛ ولكنه انتصر عليه, إلا أن انتصاره لم يكن حاسمًا. وحينما اعتلى تجلات بلاسر الثالث عرش أشور قام بعدة حملات لفتح سورية, ثم استطاع ولده شلمناصر الخامس أن يجتاح المدن الفينيقية فيما عدا صور؛ ولكن في عهد سنحريب تمكنت أشور من الاستيلاء على معظم الإقليم السوري بما في ذلك صور نفسها، وفي عهد خلفه أسرحدون قامت صيدا بالثورة؛ ولكنه خربها وقتل ملكها وأخضع بعض مدن فينيقية أخرى كانت صور تتزعمها, وبعدئذ استطاعت صور أن تتخلص من السيادة الأشورية فترة قصيرة؛ إلا أن أسرحدون وخلفه آشور بانيبال تمكنا في النهاية من مد إمبراطوريتهما إلى البحر المتوسط, بل وإلى مصر أيضًا. وحينما أصبح الكلدانيون حكام بابل بعد أشور أدعوا أنهم ورثوا السيطرة على سورية, أما مصر فقد تخلصت من سيادة بلاد النهرين وأرادت أن تفرض سيادتها على سورية، وكانت المدن الفينيقية أميل للاعتراف بسلطان مصر منها إلى الاعتراف بالسيادة البابلية. وفي عام 587 ق. م. وصل نبوخذ نصر ملك بابل إلى سورية وأعاد فتح البلاد الفينيقية وفلسطين, وحاصر صور ثلاثة عشر عامًا حتى خضعت له. وبعدئذ أخضع الفرس الإقليم السوري ومصر لسلطانهم، وقد ازدهرت بعض المدن الفينيقية في عهدهم؛ حيث سمحوا لكل منها بالاستقلال الذاتي ثم كونت هذه المدن اتحادًا مركزه طرابلس، وفي عهد أرتكزركسيس الثاني ثارت المملكة

الفينيقية التي تكونت من هذا الاتحاد؛ ولكن الملك الفارسي استطاع القضاء عليها. هذا ولم يترك الفينيقيون إلا وثائق قليلة بالهجائية الفينيقية رغم أن اختراع الهجائية ينسب إليهم, ولعل السبب في ذلك أنها كتبت على البردي أو مواد قابلة للتلف, وإلى جانب هذه وجدت وثائق كتبت بالخط المسماري البابلي. ج- الآراميون: كان هؤلاء من الرُّحَّل الذين عاشوا في شمال شبه جزيرة العرب ثم هاجروا إلى سورية، وما إن حل منتصف الألف الثاني قبل الميلاد إلا ووصلوا إليها، وفي خلال القرنين الرابع عشر والثالث عشر ق. م. اجتاحت جماعات منهم سورية الشمالية والوسطى ووقفت جبال لبنان حائلًا دون طغيانهم على السهل الساحلي في الغرب. ومنذ حوالي سنة 1200 ق. م أصبحت دمشق مركزًا لدولة آرامية تأثرت بحضارة الأموريين والكنعانيين، كذلك تأسست عدة مدن ودويلات آرامية في أجزاء أخرى من الإقليم السوري وبلاد النهرين. وكانت دمشق أهم هذه الدويلات, عاصرت تأسيس المملكة العبرانية؛ فكانت محصورة بين هذه المملكة جنوبا وبين مملكة أشور شمالًا, وقد استمر عداء الآراميين للعبرانيين نحو قرنين من الزمان. ومن الدويلات الآرامية التي كانت تنازع العبرانيين مملكة صوبة التي كانت إلى جنوب زحلة في سهل البقاع، وقد انتصر داود ملك العبرانيين على هذه المملكة كما احتل دمشق، ثم تناوبت دمشق وصوبة السيادة بعد ذلك؛ فبعد أن كان ملك دمشق تابعًا لصوبة قام بمحاربة العبرانيين طوال عهد سليمان1 وانتقلت السيادة بعدئذ

_ 1 سفر الملوك الأول 11: 25.

إلى دمشق التي حالفها الحظ بانقسام مملكة العبرانيين إلى مملكتين "إسرائيل ويهودا" سنة 922 ق. م؛ حيث أخذت تؤلب إحدى هاتين المملكتين ضد الأخرى، وتمكن ملك دمشق بنحدد الأول "789-843 ق. م." من أن يأخذ من ملك يهودا كنوزًا ثمينة من المعبد ومن القصر الملكي في أورشليم ثم هاجم إسرائيل وأخضعها "اسميًّا على الأقل" لسلطانه، وحينما تحالفت المدن السورية ضد شلمناصر الثالث1 كان ملك دمشق يرأس الحلف الذي لم يتمكن الأشوريون من الانتصار عليه انتصارًا حاسمًا، وبعد نحو سبعين عامًا أصبحت دمشق من الضعف بحيث هاجمها يربعام الثاني ملك إسرائيل؛ وذلك لأن هجمات أشور ضعضعت قوتها، وفي عهد تيجلات بلاسر الثالث اجتاح الأشوريون معظم المدن السورية وحاصروا دمشق وأسقطوها في سنة 732 ق. م. وقتل ملكها, وبذلك انتهت السيادة الآرامية. وحينما سيطر الفرس على سورية ومصر ازدهرت دمشق وأصبحت أهم المدن السورية, كما اتخذت الإمبراطورية الفارسية اللغة الآرامية إلى جانب الفارسية, واستخدمت الهجائية الآرامية شعوب أخرى حتى أصبحت واسعة الانتشار وتشعبت إلى لهجات يمكن ضمها في فرعين للآرامية, أحدهما يضم اللهجات الشرقية, والآخر يضم اللهجات الغربية، وما زالت بعض الجماعات في سورية وبلاد النهرين وأرمينية تستعمل الآرامية. د- الشعب العبراني: نزح العبرانيون من شبه جزيرة العرب إلى سورية عن طريق كنعان في نفس الوقت الذي وصلها فيه الآراميون تقريبًا، فتسلسل العناصر السامية التي وصلت

_ 1 انظر أعلاه ص281.

إلى الإقليم السوري كان على النحو التالي: الأموريون تركزوا بادئ الأمر في الشمال, والكنعانيون في الساحل, والآراميون في المنطقة الداخلية, والعبرانيون في الجنوب. ولا يوجد من الوثائق والنصوص ما يشير إلى تاريخ العبرانيين سوى نذر يسير أو إشارات عابرة في كتابات الأقوام الذين احتكوا بهم وما روته التوراة عن تاريخهم، ورغم ما يبدو فيها من اضطراب وزيف؛ فإنها تعد أوفى ما كتب عنهم حتى إن المؤرخين يعتبرونها المصدر الرئيسي لتاريخهم؛ ولذا اعتمدوا عليها في كتابة هذا التاريخ. وإذا ما أخذنا لما ترويه التوراة عنهم نجد أنها تذكر أن هؤلاء العبرانيين أتموا هجرتهم إلى فلسطين على ثلاث مراحل، أقدمها كانت إلى الصحارى القريبة من شمال بلاد النهرين، ويرجح أنها كانت في نفس الوقت الذي حدثت فيه تحركات الهكسوس في شرق البحر المتوسط أي: في القرن الثامن عشر ق. م. والثانية توافق هجرة الآراميين أي: حوالي القرن الرابع عشر ق. م. والثالثة كانت في أواخر القرن الثالث عشر ق. م. وفيها خرجوا من مصر إلى جنوب شرق فلسطين بعد جولة ليست بالقصيرة في شبه جزيرة سيناء. وحينما وصلت هجرتهم الأولى إلى الإقليم السوري كان السواد الأعظم فيه من الأموريين والكنعانيين بالإضافة إلى بعض العناصر غير السامية كالحوريين والحيثيين وغيرهم، وقد استطاع هؤلاء العبرانيون أن يختلطوا بهؤلاء جميعًا وأن يتعلموا حياة الاستقرار بعد أن كانوا من المتجولين المغامرين، واتخذوا اللغة الكنعانية بدلًا من لغتهم الأصلية, كما تأثروا بكثير من مظاهر الحضارة والثقافة الكنعانية؛ ولذا يمكن اعتبارهم ورثة للكنعانيين أو أخلافًا لهم حيث تذكر

الأساطير العبرانية أن جدهم الأكبر إبراهيم "أو قبيلتهم الأصلية" أتى من أور الكلدانيين عن طريق حران واستقر مؤقتًا قرب حبرون "الخليل" الأمر الذي يعتقد المؤرخون أنه يتفق مع الهجرة الأولى، وأن حفيده يعقوب "ابن إسحاق" عاش عدة سنوات في فدان آرام ثم انتقل إلى مصر، ويحتمل أن هذا هو ما يتفق مع هجرتهم الثانية، وحينما وقع الاختيار على إسحاق ليكون صاحب الشأن بينهم غيَّر اسمه إلى إسرائيل كما غير أخوه عيسو اسمه هو الآخر إلى أدوم وسمى ورثته بالأدوميين، ومن أبناء يعقوب كان يوسف الذي وصل إلى مكانة مرموقة في مصر1، وبعد أن عاش أحفاد يعقوب فيها عدة أجيال أخرجوا منها وكان يقودهم موسى، وهذه هي هجرتهم الثالثة التي تعد بداية التاريخ الحقيقي للإسرائيليين. ولا يعرف تاريخ هذه الهجرة الأخيرة بالضبط رغم أن كلمة إسرائيل وردت على لوح حجري من عهد مرنبتاح2 بن رعمسيس الثاني, وقد ظل أفرادها يتجولون طويلًا في سيناء؛ حيث قاسوا كثيرًا، وتزوج موسى من ابنة كاهن مدين "في جنوب سيناء" الذي كان يدين بوحدانية يعبد فيها يهوه وهو أحد آلهة العرب الشماليين، ثم اتخذت هذه الجماعة الإسرائيلية مكانًا لها في جنوب شرقي الأردن استعدادًا لدخول فلسطين، وكان عددها يقدر بحوالي 6000 أو 7000 نفس ومرت في طريقها بدويلات صغيرة في جنوب وشرق وشمال شرقي البحر الميت، ولم تحاول مهاجمة هذه الدويلات؛ ولكنها حاربت إمارة سيحون الأمورية "في شرق الأردن" وانتصرت عليها, كما انتصرت على إمارة باشان التي كان ملكها عوج بن عنق المشهور في التوراة على أنه كان من العمالقة،

_ 1 يحتمل أن أحد ملوك الهكسوس هو الذي قرب يوسف إليه باعتباره من أصل سوري مثله. 2 انظر ص193.

واستولوا على بعض المدن الكنعانية المحصنة في فلسطين وأحرقوها وقتلوا أهلها حتى الأطفال؛ ولكن بعض المدن الأخرى استعصت عليهم مثل جزر وأورشليم وبيت شأن، وهذه الأخيرة لم تسقط في أيديهم إلا حوالي سنة 1000 ق. م. أو بعد ذلك بقليل. وبعد أن استقروا في الجهات التي وصلوا إليها اختلطوا بسكانها ومن بينهم أقرباؤهم الذين كانوا قد فضلوا البقاء فيها من قبل ولم يهاجروا إلى مصر، ثم تغلغلوا في أماكن أخرى، وبعدئذ قسموا الجهات التي سيطروا عليها بين إحدى عشرة قبيلة من القبائل الاثنتي عشرة التي تضمهم، أما القبيلة الباقية وهي قبيلة "لاوي الكهنوتية"؛ فقد تفرغت للشئون الدينية ووزعت على القبائل الأخرى، وهذا هو ما يعرف بعصر القضاة. وهؤلاء القضاة كانوا أبطالًا وحكامًا قادرين قادوا قبائلهم في حروبهم ضد أعدائهم واشتهر منهم كثيرون, من بينهم شمشون الجبار؛ حيث روت عنه الأساطير العبرانية الشيء الكثير فيما يتعلق بحروبه مع الفلسطينيين الذين كانوا أشد أعداء العبرانيين، وهم من شعوب البحر التي جاءت من منطقة إيجة في أواخر القرن الثالث عشر ووصلوا إلى سواحل سورية الجنوبية واستقروا بها "ومن اسمهم اشتق اسم فلسطين" وقد حاولوا الدخول إلى مصر في عهد رعمسيس الثالث1؛ ولكنه هزمهم وحال دون توغلهم إليها، ومن مدنهم الخمسة الرئيسية كونوا اتحادًا بزعامة أشدود، وفي حوالي سنة 1050 ق. م. حاربوا العبرانيين وانتصروا عليهم وأخذوا منهم تابوت العهد2 ونقلوه إلى أشدود.

_ 1 انظر ص200. 2 تروي الأساطير أن تابوت العهد صندوق طويل من الخشب صنعه موسى -عليه السلام- "كان يوضع في أقدس مكان من المعبد العبراني بعد بنائه" وكان به لوحان من الحجر منقوشان بالوصايا العشر, وقبل أن يشيد المعبد كان العبرانيون يحملون هذا التابوت معهم في ترحالهم.

ويبدو أن العبرانيين حينما وجدوا أن جيرانهم كان يحكمهم ملوك طلبوا إلى زعيمهم الديني "صموئيل" أن يعين عليهم ملكًا فاختار "شاءول"؛ ولكن هذا كان ضعيفًا مسنًّا، ازداد نفوذ الفلسطينيين في عهده وتسلطوا على مدن داخلية بعيدة مثل بيت شان، وحينما حارب الفلسطينيون العبرانيين انتصروا عليهم وقتلوا ثلاثة من أبناء شاءول وأصيب هو نفسه بجراح خطيرة فانتحر. وتشير التوراة إلى أن داود كان حاملًا لدرع شاءول وأنه اختير ملكًا من بعده وهو يعد المؤسس الحقيقي للمملكة العبرانية؛ فمع أنه بدأ حكمه تحت سيادة الفلسطينيين؛ إلا أنه نجح في التخلص من سلطانهم وتمكن من توسيع مملكته إلى حد لم تبلغه في أي وقت آخر1, واختار حصن أورشليم ليكون عاصمة له، وفي عهده ظهر الأدب العبري الذي يعتبر من أرفع الآداب التي خلفها الشرق القديم, ودونت في عهده الحوادث والحوليات الملكية في أسلوب حيوي لم يكتب مثله من قبل. وورث سليمان ملك أبيه داود، وفي عهده وصلت المملكة إلى غاية المجد والأبهة, وتنسب إليه التوراة أنه عاش2 بين مظاهر الترف كملك شهواني3 مستبد فحذا حذوه العبرانيون، وأن أعماله العمرانية كانت عظيمة للغاية ومنها هيكله الشهير الذي كان عبارة عن معبد ملكي ملحق بالقصر

_ 1 من بين الإمارات التي أخضعها "إيدوم" وقد أسرف قائده في ذبح الذكور من أبنائها؛ ولكن أمير إيدوميا حديث السن يدعى "حداد" هرب إلى مصر؛ حيث أكرم فرعونها وفادته, ومع ذلك عاد إلى فلسطين على غير إرادة الفرعون وأصبح عدوًّا مدى الحياة لسليمان، انظر: سفر الملوك1, الإصحاح 11 الآيات 14 وما بعدها. 2 سفر الملوك الإصحاح العاشر 14-29, وأخبار الأيام الثاني إصحاح 9. 3 سفر الملوك, الإصحاح الحادي عشر 1-5.

تم إنشاؤه في سبع سنوات1 ثم أصبح بعد ذلك مركزًا عامًّا لعبادة العبرانيين، وقد نشطت التجارة في عهده وعم الرخاء حتى أجمعت الأساطير والقصص على إعلاء شأنه؛ وإن كانت بعض الوثائق التاريخية توحي بأن فلسطين كانت تعترف بالسيادة المصرية في ذلك العهد، وقد تزوج سليمان من ابنة فرعون "الذي يرجح أنه بسونس الثاني آخر ملوك السلالة الحادية والعشرين"، وحينما استولى الفرعون على حصن جزر الكنعاني أعطاه مهرًا لابنته زوجة سليمان2, وتذهب التوراة إلى أن نفقات هذا الأخير وتبذيره وسوء إدارته كانت سببًا في انقسام المملكة من بعده؛ حيث اجتمع ممثلو القبائل العبرانية الاثنا عشر بعد وفاته لتنصيب ولده رحبعام ملكًا وأبدوا له رغبتهم في أن يخفف عنهم عبء الضرائب التي فرضها عليهم والده, فرفض ذلك بقسوة وتهور. وعلى ذلك رفضت عشر قبائل أن تعترف به ملكًا وانتخبت "يربعام" بدلًا منه وعرفت مملكتهم باسم إسرائيل، أما القبيلتان الباقيتان فخضعتا لرحبعام وعرفت المملكة التي تكونت منهما باسم "يهودا" وقد تنافست المملكتان واستحكم العداء بينهما وكان الصراع بينهما سجالًا؛ فكانت كل منهما تتفوق على الأخرى أحيانًا حتى انتهى الأمر بانهيارهما. إسرائيل: كان "عمري" من أشهر ملوك إسرائيل "ويدل اسمه على أنه كان من أصل عربي أو نبطي" بنى السامرة وحصنها واتخذها عاصمته الجديدة وبني فيها قصرًا.

_ 1 سفر الملوك, الإصحاح السادس 1-38. 2 سفر الملوك1, الإصحاح 3 الآية 1, والإصحاح 8 الآية 16.

وحينما تولى العرش "آحاب" بن عمري وسع في قصر أبيه وزخرفه، وقد عرف هذا القصر باسم بيت العاج؛ حيث عثر فيه على أثاث منزل من العاج يبدو أن كثيرًا منه كسي بالذهب، وكانت علاقة آحاب بن عمري مع جيرانه ودية فقد حالف مملكة دمشق في معركتها ضد أشور وتزوج من ابنة ملك صور وصيدا، وهذه كانت قوية الشخصية فرضت سيطرتها على زوجها كما أرادت فرض عبادة يهوه على إسرائيل. وبعد فترة وجيزة قام أحد الضباط واسمه ياهو بالثورة, وتمكن من الاستئثار بالملك وجعل عبادة يهوه العبادة الوحيدة في إسرائيل؛ ولكن هذا الملك لم يكن موفقًا في سياسته الخارجية؛ حيث خضع لشلمناصر الثالث ملك آشور وقدم له الجزية، ولفرط ضعف كل من إسرائيل ويهودا في ذلك العهد قامت إمارة من الإمارات بالثورة ضد إسرائيل، وفي نفس الوقت قامت ثورة أخرى ناجحة ضد مملكة يهودا؛ ولكن ما لبثت قوة إسرائيل أن تجددت في عهد يربعام الثاني وهو ثالث ملك من سلالة ياهو؛ حيث أمكنها أن توسع حدودها الشمالية على حساب الآراميين. وظلت إسرائيل تنعم بالهدوء إلى أن اعتلى تجلات بلاسر الثالث عرش أشور الذي ما لبث أن أخضع سورية وحولها إلى مقاطعات أشورية, وفرض الجزية على إسرائيل التي انكمشت مساحتها حينئذٍ، وبعد بضع سنوات رفض هوشع ملك إسرائيل الاستمرار في دفع الجزية؛ فهاجمه شلمناصر الخامس وريث تجلات بلاسر المذكور وحاصر السامرة ثلاث سنوات؛ ولكنها لم تسقط إلا في يد خلفه سرجون الثاني الذي سبى أحسن رجال إسرائيل وعددهم 27080 ونقلهم إلى ميديا؛ فتلاشت مملكة إسرائيل إلى الأبد "720 ق. م."؛ حيث إن الباقين من الرجال لم يكونوا إلا قسمًا صغيرًا من سكان المملكة يقع غرب نهر الأردن،

أما المسبيون فقد اندمجوا مع غيرهم في المناطق التي نقلوا إليها، ولم يكتفِ سرجون وخلفاؤه بذلك بل نقلوا قبائل من بابل وعيلام وسورية وبلاد العرب محل الإسرائيليين وأسكنوهم في السامرة وما حولها؛ فامتزج هؤلاء بالسكان واتحدت معتقداتهم الدينية مع عبادة يهوه، وأصبح يطلق على الجميع اسم السامريين؛ ولكن ما لبث النزاع أن نشب بين اليهود والسامريين بعد عودة بعض أنبيائهم من السبي؛ حيث إن هؤلاء دافعوا عن فكرة النقاوة العنصرية. يهودا: اعتلى العرش فيها عددٌ من الملوك مساوٍ لعدد ملوك إسرائيل "أي: 19 ملكًا" إلا أن هذه المملكة استمرت مدة أطول من المدة التي عاشتها إسرائيل بنحو قرن وثلث من الزمان, وفي عهد ملكها رحبعام تعرضت لغزو مصر على يد فرعونها شيشنق الذي كان قد زوج ابنته من يربعام ملك إسرائيل، ولم يتمكن رحبعام من صد هذا الغزو؛ فاستطاع شيشنق أن يخرب المدن وأن ينهب أورشليم1، وحينما توقف نشاط كل من أشور ومصر أفادت كل من إسرائيل ويهودا من استقرار الأمور وعمدت يهودا إلى تنظيم جيشها كما أصلحت حصونها ووسعت حدودها ونظمت شئونها الداخلية؛ إلا أنها بعد زوال مملكة إسرائيل أصبحت عرضة للهجمات المباشرة من آشور، وبالرغم من تزايد الخطر على يهودا لم يتبع ملوكها سياسة حكيمة؛ فعندما اعتلى العرش ملكها حزقيا استجاب لتشجيع مصر رغم تحذير النبي أشعيا له وتحدى أشور بالتحالف مع المدن الفلسطينية وغيرها من المدن المجاورة ضدها فتوالت على يهودا حملات سرجون وخلفه سنخريب الذي حاصر أورشليم ولكنها لم تسقط في يده، ومع ذلك فقد أجبرت يهودا على دفع الجزية بعد أن خضعت كلها فيما عدا أورشليم لسلطان أشور

_ 1 انظر أعلاه ص208.

واستمرت أشور في توسعها فخضعت لها مصر في عهد آسرحدون وأشور بانيبال1, وتقلصت مملكة يهودا وظلت تدفع لها الجزية بانتظام. وما إن دب الضعف في أشور حتى استقلت مصر وحاولت يهودا أن تعيد وحدتها مع إسرائيل، وبعد أن سقطت نينوى على يد الدولة البابلية الجديدة وميديا سعت مصر إلى إعادة إمبراطوريتها ثانية في سورية, وقام ملكها نخاو بحملة وصل فيها قرب أعالي الفرات، وقد قاومه يوشع ملك يهودا؛ حيث اعتبر نفسه تابعًا لبابل الجديدة وريثة آشور ولكنة قتل في مجدو، وبعدئذ ترددت يهودا بين الخضوع لبابل وبين التحالف مع مصر، واختار يواقيم ملكها حينئذ التحالف مع مصر، وكان جزاؤه أن دخل نبوخذ نصر أورشليم وقيده بالسلاسل ليحمله معه إلى بابل, ولكنه قضى نحبه وتبعه في الحكم ولده الذي لم يمكث سوى ثلاثة شهور ثار فيها على بابل؛ فجاء نبوخذ نصر إلى أورشليم وسبى الملك ونساءه وموظفيه وسبعة آلاف من الجنود وألفًا من مهرة الصناع ونقلهم إلى بابل وعين صدقيا وهو عم الملك السابق ملكًا على يهودا، وظل هذا الأخير يتظاهر بالولاء لبابل بضع سنين ثم حاول الاستقلال فجاءت الجيوش البابلية وخربت أورشليم وهرب الملك؛ ولكنه أدرك في أريحا وجيء به إلى معسكر نبوخذ في ربلة؛ حيث قُتِل أبناؤه أمامه ثم سملت عيناه وحمل إلى بابل، وسبى الأشوريون عظماء المدينة وغيرها من البلاد "وكان عددهم خمسين ألفًا تقريبًا؛ فلم يبق في يهودا إلا جماعة من البائسين"، ودمروا كل مدينة مهمة ما عدا صور التي قاومت الحصار نحو عشر سنوات ثم خضعت بعد ذلك، ولما حاولت الثورة أخمدت ثورتها بسهولة, وعلى ذلك أصبحت سورية كلها في يد الكلدانيين. ولما صارت الإمبراطورية الفارسية تتحكم في معظم أقطار الشرق الأدنى

_ 1 انظر أعلاه ص223 وما بعدها.

عاملوا اليهود المسبيين في بابل معاملة حسنة وأعادوا من رغب منهم إلى أوطانهم في فلسطين, وتكونت الدولة اليهودية التابعة للفرس متمتعة باستقلال ذاتي, ونعم اليهود في ظل العرش بالهدوء والاستقرار وظلت علاقات الوئام قائمة بينهما.

ثانيا العناصر غير السامية

ثانيًا- العناصر غير السامية: الحوريون والميتانيون: ظهر الحوريون في التاريخ من منتصف الألف الثالث ق. م. "أي: منذ العهد الأكدي"؛ حيث كانوا ممثلين بأعداد قليلة في شمال بلاد النهرين, شرقي نهر دجلة ثم زاد عددهم منذ عهد سلالة أور الثالثة1، وزادت مساحة الأراضي التي شغلوها في منتصف الألف الثاني ق. م. وأصبح لهم كيان سياسي في شمال بلاد النهرين وسورية وبعض جهات الأناضول، وفي ذلك الحين كان الساميون أكثرية في وسط الفرات وجنوب سورية وفلسطين، ويحتمل أنهم هم الذين غزوا أشور بعد شمش أدد الأول2 وحمورابي، وبلغ نفوذُهُمْ أَوْجَهُ عندما أسسوا دولة قوية في شمال سورية بالإضافة إلى مكانتهم في العراق ولعبوا دورًا مهما في سياسة المنطقة. ومن بعد سنة 1500 ق. م. تقلص نفوذهم في المنطقة؛ ولكنهم مع هذا كونوا في الإقليم الذي تركزوا فيه في شمال بلاد النهرين دولة قوية عرفت باسم مملكة ميتاني, يستدل من أسماء ملوكها على أن الطبقة الحاكمة فيها كانت من العناصر الهندو أوروبية؛ غير أننا لا نستطيع الجزم بالأصل الجنسي لعامة الحوريين. وقد بلغ من قوة هذه الدولة أنها كانت تحكم المساحة الممتدة من البحر المتوسط ومرتفعات ميديا بما في ذلك أشور التي خضعت لنفوذها نحو قرن من الزمان, حتى تحررت في عهد ملكها آشور أوبلط الأول "حوالي 1365-1330 ق. م.".

_ 1 انظر عودة الدولة السومرية في بلاد النهرين. 2 ملك أشور الذي يعاصر حمورابي, وقد حكم حوالي 1814-1872 ق. م.

وكانت شوكاني "التي يرجح أنها الفخارية الواقعة على نهر الخابور في شرقي تل حلف" عاصمة لميتاني، ومن أهم مراكزها نوزي ويوزغان تبة وأربخا جنوب كركوك الحالية، وقد عرفت هذه المملكة في النصوص المصرية باسم نهارينا، ومن أشهر حكامها هاني جلبات ثم توشرانا الذي كان صهرًا لأمنحتب الثالث1 وأمنحتب الرابع، وبعد أن نجحت المملكة الحورية في الاعتداء على الأراضي الحيثية على أثر ما أصاب الحيثيين من ضعف عقب موت تليبينوس استعاد الحيثيون قوتهم بعد ذلك في عهد ملكهم سوبيلوليوما وهاجموا المملكة الميتانية في عهد ملكها توشراتا, واستمرت حملاتهم عليها في عهد خلفه أيضًا وانتهت هذه الحملات باستيلاء الحيثيين2 على القسم الشمالي من سورية، الذي يحدُّه الفرات في الشرق ولبنان في الجنوب, ثم ما لبث الأشوريون أن استولوا على القسم الباقي منها في عهد ملكهم أددنيرارى؛ وهكذا زالت دولة ميتاني من الوجود.

_ 1 انظر ص175. 2 انظر عهد سوبيلوليوما في الإمبراطورية الحيثية وخاصة ص312، 313.

الفصل السادس: آسيا الصغرى

الفصل السادس: آسيا الصغرى مدخل ... الفصل السادس: آسيا الصغرى: يرى البعض أن المناخ في هضبة الأناضول تتعدد أنواعه إلى درجة تدعو إلى الاعتقاد بأن من الممكن أن يجد في أجزائها المختلفة كل من الإنجليزي والإفريقي والسويسري والروسي وغيرهم نوع المناخ الملائم له؛ فهضبة أرمينيا التي تعد امتدادًا لسلسلة جبال البرز المطلة على بحر قزوين يصل ارتفاع بعض قممها في أرارات إلى 17 ألف قدم وتنتهي إلى خطوط تقسيم مياه الفرات التي تعتبر الحدود الطبيعية لهضبة الأناضول بالمعنى الصحيح، ومن هذه الهضبة تخرج سلسلتان جبليتان تسير إحداهما في محاذاة ساحل البحر الأسود، وتمتد الثانية إلى الجنوب الغربي حتى تصل إلى البحر المتوسط, وهما تحصران الهضبة الوسطى؛ حيث تمتد السلسلة الشمالية إلى ما يعرف باسم القوس البونتي "Pontic Arc" الذي لا يتخلله إلا بعض الأخاديد العميقة تمر فيها مياه الأنهار إلى البحر الأسود؛ بينما تنتهي السلسلة المقابلة لها جنوبا إلى سهول قيليقيا "خريطة رقم5" فالهضبة فيما بين هاتين السلسلتين أشبه بحوض متوسط وفي غربها توجد عدة بحيرات وأنهار تنحدر بشدة إلى بحر إيجة؛ حيث تنتهي شبه الجزيرة بسلاسل جبلية متوازية تمتد نحو هذا البحر، وهي تعد امتدادًا للسلاسل الموجودة في بلاد اليونان, وهكذا تنوعت التضاريس وأدى ذلك إلى اختلاف المناخ وتباينه في أجزاء هضبة الأناضول المختلفة، ومع كلٍّ فإنها تتميز بشتاء قاسٍ طويل ولم تكن مغرية

بالسكنى في الألف الرابع قبل الميلاد، وعلى هذا لا شك في أن القرويين الذين عرفوا الزراعة والاستقرار لم يكونوا هم أول من غامر بسكنى الهضبة، وكانت لديهم الشجاعة على تحمل شتائها الطويل؛ ولذا ينبغي أن نستنتج أن الهضبة سكنتها أقوام سبقت أولئك الذين عاشوا فيها معيشة استقرار بعد أن عرفوا الزراعة, وأن هؤلاء الأخيرين لا بد وأنهم وفدوا إلى الهضبة من الخارج، وإذا ما حاولنا أن نتعرف على الموطن الأصلي الذي جاء منه هؤلاء؛ لوجدنا أن الأدلة الأثرية تعوزنا في هذا السبيل، وإذا ما درسنا الظروف المحيطة بالهضبة بدقة؛ فإننا نستبعد قدومهم من المناطق الجنوبية البعيدة في الهلال الخصيب؛ لأن سكان هذه الجهات كانوا قد تحولوا من البداوة إلى حياة الزراعة والاستقرار، وليس من اليسير أن يتركوا أوطانهم إلى داخل هضبة الأناضول؛ إنما المعقول أن يكون هؤلاء الوافدون قد جاءوا من القوقاز أو من منطقة بحر قزوين؛ حيث وصلت في نفس الوقت هجرة أخرى من عنصر جنسي مخالف "ولكنه كان يعيش في ظروف مشابهة تقريبًا" إلى المناطق التي تحف ببحر إيجة من الغرب, وقد عاش هؤلاء الأخيرون مع السكان الأصليين -الذين سبقوهم إلى تلك الجهات- في وئام تام فترة طويلة. ويجب أن نلاحظ أن آثار أماكن الإقامة أثناء الدور الحجري القديم في آسيا الصغرى وجدت -كما في الجهات الجبلية الأخرى التي تحف بالهلال الخصيب "فلسطين وكردستان العراقية وإيران"- في كل من الكهوف والعراء. أما الحجري الحديث الذي يرجح أنه كان في الألف الخامس قبل الميلاد فتتمثل آثاره في أعمق الطبقات في بعض البقاع مثل: مرسين وطرطوس وساكجي جوزي التي تحتل مواقع جغرافية تجعل ظروفها مشابهة لظروف الأماكن التي وجدت بها آثار الحجري الحديث في الهلال الخصيب؛ ولذا فهي تعد

خريطة رقم "5"

الامتداد الشمالي لهذه الأماكن؛ فعند دراسة الحجري الحديث في الإقليم السوري تلحق به؛ لأنه أقرب إليها من داخل الهضبة1.

_ 1 انظر 268.

العصور قبل التاريخية

العصور قبل التاريخية: الدور الحجري القديم: ظل البحث عن آثار هذا الدور فترة طويلة بطريقة غير منظمة وعلى أسس غير علمية؛ وعلى ذلك فإن أي خريطة لتوزيع ما عثر عليه في تلك الفترة من آثار هذا الدور تعطي نتائج خاطئة؛ لأنها مركزة في المناطق التي يكثر ارتيادها لسبب أو لآخر، ومع كل فمن بين الجهات التي وجدت فيها تلك الآثار قرقميش وملاطيا وحول العاصمة الحديثة أنقرة. ومن الممكن تبعًا لذلك أن نستنتج أن الإنسان وجد في الأناضول منذ بداية الدور الحجري القديم، ومن المناطق التي لها أهمية خاصة منطقة آديامان "Adiyamau" التي تقع في حوض الفرات الأعلى بالقرب من ملاطيا "Malatya"؛ لأن الآثار التي وجدت بها تبين تعاقب معيشة الجماعات البشرية بها, كما أنها تعد بمثابة حلقة الاتصال الأولى بين حضارات الإقليم السوري من جهة وبين تلك التي وجدت في كردستان والقوقاز من جهة أخرى، ويجب ألا يغيب عن الذهن أن الدلائل الأثرية التي اعتمد عليها الباحثون حتى الآن تتكون في معظمها من مجموعات متفرقة من المخلفات السطحية ومن الآثار التي اكتشفت غير منتظمة في طبقات، أما النتائج التي أمكن التوصل إليها على أسس سليمة؛ فهي تلك المترتبة على الاكتشافات التي تمت في كهف كارين "Karain" بالقرب من أنطاليا "Antaly" حيث وجدت آثار حضارات

آشولية وموستيرية وأورنياسية متتابعة في طبقات، كما عثر على آثار لبعض حفريات حيوانية فقرية أهمها دب الكهوف "ursus spelaeue" وأسد الكهوف "felis leo spelaeus"، كما عثر على سنة من أسنان طفل من جنس نياندرثال.

الدور الحجري الحديث

الدور الحجري الحديث: بدأ سلوك الإنسان في الهضبة كما في غيرها يتغير خلال هذا العصر؛ حيث أخذ في استئناس الحيوان وعرف الزراعة المنظمة وكان هذان كافيين لأن يغيرا من نظام حياته تغييرًا شاملًا، وقد عرف الأواني الفخارية وعُنِي بتشكيلها وزخرفتها مع احتفاظه فيها بأشكال ورسوم تقليدية "انظر شكل 27"، كما استحدث أنواعًا من الآلات الحجرية لتقابل مطالب الحياة الجديدة، وكانت الأسلحة الصوانية -ومن بينها السكاكين وأسنان المناشير ومخارز ثقب الجلود- أكثر هذه الآلات شيوعًا في آسيا الصغرى؛ حيث عثر على نماذج كثيرة منها بجوار البحيرة الملحة في الهضبة الوسطى، وهذه يعتقد البعض أنها جلبت مع التجار شكل "28" أوانٍ وأدوات من مرسين "عصر حجري حديث" الذين كانوا يفدون للبحث عن الملح, وإذا كان الأمر كذلك فلا بد أن هؤلاء جاءوا من أماكن بعيده؛ لأن أقرب مراكز الاستقرار -مرسين وساكجي جوزي- تبعد نحو 300 إلى الجنوب وراء منطقة الجبال.

ويبدو أن ثورة الدور الحجري الحديث كانت قاصرة على منطقة تحدها سلاسل طوروس والسفوح المطلة على سهول سورية؛ لأن هذه كانت موطن نمو الحبوب التي كان يعتمد عليها الاقتصاد الزراعي في هذه الحضارة؛ ولكن نظرًا لأن هذه الحبوب كانت تنمو أيضًا في مناطق أخرى مثل القوقاز فلا بد أن انعدامها في داخل هضبة الأناضول كان يرجع إلى الظروف التي أوجدت حاجزًا مناخيًّا جعل إنسان الدور الحجري الحديث يقف وراء حدود معينة فتمثلت حضاراته خارجها؛ ولذا لا نجدها في الهضبة الداخلية بل على حافتها في بقاع مثل مرسين وساكجي جوزي التي أشرنا إليها عند دراستنا لسورية1.

_ 1 انظر ص268. 2 انظر أعلاه.

دور بداية استخدام المعادن

دور بداية استخدام المعادن: تتضح بداية استخدام المعادن من الناحية الأثرية بواسطة عدد من المستحدثات التي كان لها أثرها بالطبع في زيادة وتنويع أساليب الحياة التي كانت قائمة بالفعل؛ ولكنها لم تحدث تطورًا ثوريًّا، أي أن الإنسان ظل يتدرج في استعمال الحجر إلى جانب بدء استخدامه للمعدن فترة طويلة يحتمل أنها استغرقت الجزء الأعظم من الألفين الخامس والرابع قبل الميلاد؛ ولذا لا تمثل هذه الفترة مرحلة واحدة بل عددًا من مراحل التطور الحضاري، وحينما بلغت الحضارة في هذا الدور منتهاها كان الإنسان يعيش في مدن محصنة بها معابد وقصور ويشرع قوانينه ويكيف حياته حسب حاجياته، ونظرًا لأن هذه المظاهر لم يعثر على ما يماثلها داخل هضبة الأناضول خلال هذا الدور؛ فإن من المرجح أن الحاجز المناخي الذي أشرنا إلى أنه كان قائمًا خلال الدور الحجري الحديث2, ظل قائمًا كذلك

إلى أواسط دور استخدام المعادن على الأقل؛ فظلت الجهات الداخلية من الأناضول مجهولة بالنسبة لأهل حضارة بدء استخدام المعادن ولم ينتبهوا إليها إلا في أواخر هذه الفترة، وهذا الحاجز المشار إليه يكاد ينطبق على خط كنتور المرتفعات الجنوبية الذي يصل إلى ارتفاع ألفي قدم أو أكثر ويمتد من المشرق إلى المغرب؛ ولكن تتخلله فجوات عميقة تخترقها وديان بعض الأنهار, وتصل شمالًا إلى سهل قيليقيا. وعلى أي حال ففي وقت ما من القرون الأخيرة للألف الرابع قبل الميلاد تمكنت الجماعات التي تعتمد على الزراعة من أن تعيش في بعض الجهات الواقعة شمال هذا الحاجز المناخي, وبدأت المحلات الزراعية تظهر في الهضبة نفسها وفي الإقليم الإيجي في الغرب؛ ولكننا لا نستطيع الجزم بالمكان الذي جاءت منه هذه الجماعة؛ فما زالت المعلومات التي أمكن الوصول إليها عن هؤلاء الأناضوليين الأوائل ضئيلة للغاية وغير كافية؛ لأنها جاءت عن طريق الاكتشافات التي تمت في مواقع قليلة ومعظمها لا تخرج عن كونها نتجت عن مجسات طبقية في بعض الأماكن أو أشياء وجدت على سطح الأرض في أماكن أخرى، ومع هذا يمكن القول بأنها تغطي مساحة جغرافية لا بأس بها؛ إذ إنها تمتد من أقصى الغرب إلى حدود إيران، ولو أنها في أول الأمر كانت عبارة عن سلسلة من الاكتشافات المتفرقة التي أمدتنا بمخلفات تتميز في كل موقع أو مجموعة من المواقع المتجاورة عما عداها, ولم يمكن معرفة أنها ترجع إلى دور بداية استخدام المعادن إلا عن طريق أدلة الطبقات فقط. ومن أمثلة الاختلاف في آثار الجهات المختلفة ما يشاهد من فوارق بين المخلفات التي عثر عليها في كل من عليشار وأزجوق "بالقرب من سمسون ودنداراتبة" وبيوق جلوجك "بالقرب من ألاجا" وطروادة وكوم تبة وغيرها، ومع أن كلًّا من هذه تتميز عن الآخرين في صفات معينة إلا أن هذه الصفات الخاصة

ترجع -دون شك- إلى اختلاف المظاهر الجغرافية التي كانت تميز تلك البيئات المختلفة، ويرى البعض أن من المحتمل وجود صلة بين الأناضول والبلاد التي تحف ببحر إيجة وامتدادها شمالًا حتى حوض بحر الدانوب. ويؤكد وجهة نظرهم هذه ما يرى من تشابه بين أشكال الفخار التي اكتشفت حديثًا في بقعة تعرف باسم فكيرتبه "Fikirtepe" "على الشاطئ الآسيوي للبسفور" مع فخار جلوجك؛ مما يساعد على معرفة اتجاه حركة الاستيطان الأولى في الهضبة. ومن الغريب أن المخلفات الأثرية في الأناضول لا تدل على أي نوع من الصلات التي تربطها بمخلفات الحضارة التي تطورت عن حضارة العصر الحجري الحديث فيما وراء الحاجز الجنوبي. وعلى هذا نستبعد كلية احتمال استيطان هضبة الأناضول عن طريق انتشار سكان تلك الجهات الجنوبية إلى الشمال. والواقع أن أول الاتصالات الملحوظة بين هؤلاء وبين جيرانهم في الأناضول على الساحل الغربي لآسيا الصغرى يرجع إلى وقت تكوين أول محلة في طروادة1, أي: في عصر البرونز القديم الذي استغرق الجزء الأكبر من الألف الثالث ق. م. مع أن استخدام النحاس لم يعرف في داخل الهضبة إلا في وقت متأخر عن ذلك، ويبدو أن المجتمعات التي عاشت في داخل الهضبة -في فترة لا يمكن تحديدها من القرون الأولى في الألف الثالث قبل الميلاد- امتزجت مع بعضها البعض وانصهرت في وحدة بشرية جديدة لا تحمل إلا شبهًا بسيطًا لأي عنصر من العناصر الأولى التي دخلت في تكوينها, ولم يحدث ما يحول دون تطور تلك الجماعات في هدوء وبطء؛ إذ إنهم ظلوا ممثلين لمدة سبعة أو ثمانية قرون في كل قرية أو مدينة تجارية "من سقارية إلى الفرات ومن البحر الأسود إلى سلاسل طوروس التي تكون حافة الهضبة" وكانوا يعيشون في نفس المنازل مستعملين لنفس الأدوات ومفضلين لنفس الأشكال في فخارهم، وكانت ظروف ومعدات حياتهم

_ 1 Seton LIoyd, Early Anatolia "Pelican A 354", pp. 95 ff.

الزراعية معروفة من بضع المحلات التي تم اكتشافها فلم يلاحظ في معظمها إلا تغير طفيف في حالات شاذة، وربما كانت هذه التغيرات الضئيلة في الصناعات التقليدية نتيجة هجرة قوية، ومع ذلك فإن المظهر العام لحياتهم ظل كما هو إلى ما بعد الألف الثالث قبل الميلاد؛ فانعدام مظاهر التقدم في مخلفاتهم يكاد يكون عامًّا؛ بينما عاصرت حضارات عصر استخدام النحاس في الأناضول حضارات بالغة الرقي في بقية أقطار الشرق الأدنى: فمصر مثلًا كانت تعيش في عهد الدولة القديمة وهو من أزهى عهودها التاريخية؛ ولذا لا يمكن أن نقارن بين حضارات الأناضول وتلك التي كانت في الأقطار الأخرى خلال هذه الفترة؛ بل يمكن القول بأن منطقة طروادة المطلة على بحر إيجة كانت منفصلة حضاريًا عن داخل الهضبة، والواقع أن قليلًا من الأدلة الأثرية هي التي تربط بين المنطقتين في هذا العصر السحيق؛ بحيث يصعب إيجاد صلة بينهما, أما الأدلة على ارتباط طروادة "خلال هذا العصر" بإقليم بحر إيجة فهي متعددة وكافية لأن تؤيد وجود صلة بينهما. ومع أن مخلفات الحضارات التالية من عصر النحاس في طروادة التي تتمثل في طبقاتها الأثرية ابتداء من الطبقة الثانية إلى الطبقة الخامسة -وهي التي تعد نموذجًا لكل المنطقة المحيطة ببحر إيجة- تشير إلى اقتصاد زراعي متواضع؛ إلا أن بعض آثار فيها تدل على غنى عظيم يوحي بوجود مستوى أعلى للحياة بين الطبقات العليا، وهذه تتمثل في وجود بعض حلي من الذهب والفضة عثر عليها شليمان "Shliemann" في الطبقة الثانية من حفائره في طروادة؛ ولكن شواهد أخرى تدل على حدوث تغيرات واضحة فيما بعد حيث توجد آثار حريق عظيم في هذه الطبقة الثانية يرجع تاريخه إلى نهاية القرن 24 ق. م. تقريبًا. ولا يوجد من التشابه بين الحضارة التي سادت منطقة إيجة وتلك التي كانت

داخل الهضبة إلا مظاهر ضئيلة أخذت تختفي بعد ذلك؛ فقد وجدت في الصناعات المعدنية أثناء عصر النحاس طرز مشتركة في الأدوات وفي بعض المظاهر الزخرفية الصغيرة بكل من المنطقتين تكاد تكون من الكثرة؛ بحيث توحي باحتمال الوصول إلى مراحل متشابهة في تطور نوع معين من الصناعة في الشرق الأدنى؛ بينما لا يتمثل ذلك التشابه في الفخار إلا في أشكال فردية يمكن أن تستخدم في المقارنة التاريخية، كما أن اختلاف بقية المظاهر الأخرى لا التشابه فيما بينها هو الذي يستحق الدراسة لكي نتبين مدى اختلاف الحضارة في كل من المنطقتين، ولا بد من الإشارة هنا إلى منطقة قيليقيا؛ حيث إنها بالمثل تترك الهضبة من خلفها وتتجه نحو سورية؛ ولذا لا نتبين هنا إلا آثارًا طفيفة للاحتكاك بين مرسين وطرسوس من جهة وبين أهل طروادة من جهة أخرى خلال عصر البرونز القديم، أما في عصر النحاس فإن علامات هذا الاحتكاك وفيرة تدل على نشاط تبادل التجارة مع الهضبة عن طريق ممرات طوروس, وعلى تغلغل الذوق السوري؛ بل والفلسطيني أيضًا، ومن المنطق أن نستنتج أن التيار الحضاري كان يتخذ طريقه عبر قيليقيا إلى وديان الأنهار والبلاد الواقعة في جنوب "حاجز الحجري الحديث" ومن ثَمَّ إلى الأراضي المرتفعة في شرق الفرات ثم إلى ساحل البحر الأسود في الشمال، ونظرًا لأن هذه المساحات لم تدرس دراسة وافية بعد فإن أي شيء يقال عن تاريخها في عصر النحاس يكون في معظمه مجرد تخمين، والواقع أن المثال الوحيد لمخلفات هذا العصر يوجد في موقع يعرف باسم كاراز "Karaz" بالقرب من أرزروم "Erzurum" حيث عثر في طبقة أثرية تنتمي إلى عصر النحاس على طرز جديدة من الفخار يوجد ما يشبه لها في القوقاز. والخلاصة أن جيران الأناضول في الشمال والشرق والجنوب الشرقي ما زالوا غامضين نسبيًّا إذا ما قُورنوا بساحل المتوسط في غرب قيليقيا, وقد يدل عدم وجود آثار في تلك الجهات على أنها لم تكن مسكونة بالفعل خلال هذا العصر،

وهكذا فالهيكل الأساسي لما نعرفه عن عصر النحاس يمكن تلخيصه في سطور قليلة؛ ففي حوالي سنة 2300 ق. م. تغيرت مميزات الحضارة في الأناضول نظرًا لدخول طائفة من الناس تميل إلى الفخار الملون الأجنبي الذي ينتمي إلى كبادوشيا, وهنا نصل إلى نهاية العصر قبل التاريخي في هضبة الأناضول.

العصر التاريخي

العصر التاريخي مدخل ... العصر التاريخي: أشارت التوراة إلى الحيثيين في عدد من أسفارها1، كما أشارت النصوص المصرية إلى علاقاتهم مع ملوك الدولة الحديثة -الذين أطلقوا على بلادهم اسم "خيتا" كذلك ذكرها الأشوريون "من عهد تجلات بلاسر الأول" باسم خاتي- وظل أمرهم مجهولًا إلى أن أخذ الرحالة والمبشرون يجوبون شمال سورية وآسيا الصغرى؛ حيث عثر على أحجار وتماثيل منقوشة برموز غريبة لا تشبه الهيروغليفية المصرية, أطلق عليها الهيروغليفية الحيثية. وفي سنة 1880 ألقى "A. H. Syce" محاضرة أمام جمعية الآثار الإنجيلية بلندن قرر فيها أن هذه من آثار الحيثيين، وحينما قامت بعثة من المتحف البريطاني بالتنقيب في قرقميش كشفت عن نقوش عدة بهذه الكتابة، كذلك عثرت بعثة تنقيب ألمانية على نقوش مماثلة في سنجرلي فيما بين 1888، 1892. ولما عثر على خطابات "تل العمارنة" المكتوبة بالخط المسماري في مصر سنة 1887 أمكن التعرف على قدر لا بأس به من تاريخ الحيثيين, وكان من بينها خطابان مكتوبان بلغة مغايرة اتضح أنها ذات صلة باللغات الهندو أوروبية. وفي سنة 1906 بدأت بعثة ألمانية بإشراف هوجوفنكلر بالتنقيب في بوغاز كوي

_ 1 التكوين، يشوع، حزقيال، الأعداد، الملوك الأول، الملوك الثاني، أخبار الأيام الثاني.

وكشفت عن آلاف من الألواح المسمارية الكتابة, بعضها باللغة الأكدية التي كانت قد عرفت, والغالبية بنفس لغة الخطابين اللذين عثر عليهما في تل العمارنة, وأمكن استنتاج أن هذه الألواح سجلات ملكية وأن بوغاز كوي كانت عاصمة الحيثيين؛ ومما أيد ذلك العثور على الأصل الحيثي للمعاهدة التي أبرمت بين شوبيلوليوما وبين رعمسيس الثاني1. وقد عكف الألمان على دراسة النصوص المسمارية الحيثية ونجحت محاولاتهم إلى حد كبير في تفسيرها؛ وخاصة بعد العثور على نصوص أشورية تشير إلى عدد من الأماكن والشخصيات الحيثية أمكن مطابقتها في النصوص الحيثية, كما عثر على أجزاء من معاجم لغوية دونت فيها كلمات سومرية وأكدية وحيثية في جداول متوازية، كذلك وجدت كلمات سومرية وأكدية في بعض النصوص الحيثية؛ مما ساعد كثيرًا على نجاح المحاولات التي بذلت في تقسيم المسمارية الحيثية. ومن جهة أخرى بذل الإنجليز وغيرهم محاولات وجهودًا مضنية في سبيل تفسير الهيروغليفية الحيثية؛ ولكن يمكن القول: إن النجاح في تفسيرها ما زال محدودًا وإن كان قد ثبت أنها تمت إلى الكتابة المسمارية بصلة. ومما هو جدير بالذكر أن النصوص المسمارية التي عثر عليها في الأناضول شملت تسع لغات مختلفة, منها أربع تمثل كل منها لغة مستقلة وهي: الأكدية والسومرية والحورية والآرية, وأربع أخرى حوت عناصر متشابهة ولكن كلًّا منها استعمل في إقليم مختلف من آسيا الصغرى, أما اللغة الباقية فكانت تنفرد بمميزات تختلف عن سائر اللغات الأخرى, وهي تعرف حاليا باسم "ما قبل الحيثية" أو "الحاتية".

_ 1 انظر أعلاه ص189.

ومهما كان الأمر؛ فإن الكتابات المسمارية كانت أهم ما اعتمد عليه المؤرخون في التعرف على تاريخ الحيثيين من مصادره الأصلية. وقد اصطلح المؤرخون على أن العصر التاريخي في هضبة الأناضول يبدأ بوصول تجار أشوريين إليها، وكان هؤلاء يتراسلون مع أوطانهم الأصلية باللغة البابلية؛ حيث عثر على ألواح رسائلهم الطينية في كول تبة وغيرها, وهي لا تمدنا إلا بالقليل من المعلومات عن السكان الأصليين وتاريخهم؛ غير أننا نتبين فيها كثيرًا من الأسماء الهندو أوروبية مما يوحي بأن الهندو أوروبيين كانوا قد استقروا في المنطقة قبل ذلك، كما تحدثنا هذه الألواح عن الأمراء المحليين وقصورهم، ومن ذلك نستنتج أن البلاد كانت مقسمة إلى عشر مقاطعات صغيرة على الأقل, من بينها مدينة بوروش خاندا التي تمتعت بالسلطان في بادئ الأمر؛ لأن حاكمها كان مميزًا عن حكام المدن الأخرى بلقب الأمير العظيم، ومدينة كوسارا1 التي ترك أميرها أنيتا بن بتخانا نصًّا يشير إلى كفاحه وكفاح أبيه من أجل السلطان ضد بعض المدن المنافسة ومن بينها حاتي, كما يذكر أنه قد تم إخضاع هذه المدن بنجاح وأن حاتوساس دمرت تدميرًا تامًا, وبعد أن تم له قهر جميع الأعداء نقل مقر حكمه إلى نيسا "Nesa". ويظهر أن هذا الملك قد تمكن في أواخر عهده من الاستيلاء على الجزء الأكبر من هضبة كبادوشيا. ولا يعرف متى أدخلت الكتابة الحيثية بالخط المسماري؛ إذ إنها تختلف اختلافًا بينًا عن الأسلوب الذي استعمله التجار الأشوريون في كتابة لغتهم, وخاصة لأن النصوص الحيثية المتأخرة تشير إلى أن الأمراء المحليين في العصور المبكرة كانوا يستعملون اللغة الأكدية في كتاباتهم.

_ 1 يحتمل أن كوسارا كانت إلى جنوب حاتوساس "بوغاز كوي الحالية" عاصمة دولة حاتي, التي كانت تتركز في منطقة كبادوشيا.

ويبدو أن النشاط التجاري للأشوريين في كبادوشيا ظل مزدهرًا حوالي ثلاثة أجيال؛ ولكنه انتهى فجأة في حكم الملك أنيتا، ولا ندري هل كان ذلك نتيجة لانتصارات هذا الملك أم أن كارثة حلت بمدينة آشور نفسها في ذلك الوقت؟ وليس هناك ما يبرر الاعتقاد بأن السكان المحليين لم يكونوا على علاقات ودية مع التجار الأشوريين؛ بل على العكس من ذلك ربما كان هؤلاء يرحبون بمثل أولئك الذين كانوا يحملون لهم ثمار الحضارات المتقدمة من بلاد النهرين. وإذا ما أردنا تتبع علاقة الملك أنيتا المشار إليه بمملكة حاتي؛ فإننا نجد أنه كان يحكم في مدينة كوسارا أي: إن هذه المدينة كانت مقره في العصور الحيثية المبكرة إن لم تكن هي عاصمته الإدارية كذلك؛ ولذا يعتقد بعض العلماء أن الأسرة المالكة الحيثية كانت من سلالة أنيتا؛ إلا أن هذا الاعتقاد فيما يبدو لا يتفق مع ما نعرفه عن تدمير حاتوساس والعداء الذي أظهره أنيتا لها؛ مما يدل على أنه كان ينتمي إلى تقاليد تختلف عن تقاليد الملوك الذين اتخذوا حاتوساس عاصمة لهم فيما بعد، كذلك لم نعثر في نصوص ملوك الحيثيين على ما يثبت أن أحدًا منهم ادعى بأن أنيتا كان أحد أسلافه.

الدولة القديمة

الدولة القديمة: كان الملوك الحيثيون في العصور المتأخرة يميلون إلى انتسابهم إلى ملك يدعى لابارناس، أي أن التاريخ الحيثي يبدأ به على الرغم من أنه لم يكن فيما يبدو أول ملوك أسرته؛ بل ولم يوجد لهذا الملك أي نص؛ وإنما ذكرت أعماله في نص لأحد خلفائه نتبين منه أن لابارناس كان يتزعم أولاده وأقاربه في بقعة صغيرة "وكلما خرج إلى القتال أخضع أعداءه بالقوة وجعل بلادهم مغلوبة على أمرها ومد حدوده إلى البحار"، والظاهر أنه وصل بحدود بلاده إلى أقصى اتساع بلغته

المملكة حتى في أزهى عصور الإمبراطورية المتأخرة, كما يرجح أن عاصمته لم تكن حاتوساس بل كوسارا القديمة. وخلف لابارناس على العرش حاتوسيليس الذي كان يتولى الحكم في كوسارا، وقد ألقى فيها خطابًا يعد مصدرنا الرئيسي عن الحالة السياسية في ذلك العهد، ومنه نتبين أن العاصمة في نهاية حكمه كانت حاتوساس وأن اسمه الأصلي لم يكن حاتوسيليس الأول بل كان لابارناس مثل أبيه، أي: إنه نقل عاصمة ملكه وغير اسمه، ولا بد أن تغيير العاصمة كان يرجع إلى أسباب إستراتيجية؛ إذ بدأت المملكة الحيثية في الاتساع جنوبًا وشرقًا في عهده والعهود التالية، أي أن الجيوش الحيثية قد خرجت من خلف حواجزها الجبلية واخترقت سلاسل جبال طوروس المنيعة التي لا يوجد بها إلا عدد قليل من الممرات، وربما كان الدافع إلى ذلك هو ثراء السهول الجنوبية وازدهارها وقدم حضارتها، وربما كانت أول مملكة اصطدم بها حاتوسيليس هي مملكة يامخاد الأمورية1 التي كانت عاصمتها حلب وكانت تسيطر على شمال سورية، ولا شك في أن هذه المملكة قد خضعت للحيثيين؛ ولكنها ثارت وخرجت عن سلطانهم بعد ذلك. ولما تولى العرش مورسيليس الأول خلفًا لحاتوسيليس دمر يامخاد ولم يكتف بفتح سورية الشمالية؛ بل تتبع الفرات جنوبًا وقضى على المملكة الأمورية الكبرى في بابل حوالي سنة 1600 ق. م. وبذلك انتهت الأسرة البابلية الأولى التي كان حامورابي أعظم ملوكها. ويبدو أن النظام الداخلي في المملكة الحيثية لم يكن قد وصل إلى درجة من الاستقرار تهيئ لها الصمود, فقد ظهرت فيها علامات الاضطرابات منذ عصر الملك حاتوسيليس؛ إذ إن أفراد البيت المالك ثاروا عليه بقيادة ولي عهده ولكنه

_ 1 انظر أعلاه ص273-274، 278.

استطاع أن يسحق الثورة وأنكر ولي عهده ونفاه وعين مكانه مورسيليس الذي كان أصغر منه، وخلفه بالفعل على العرش؛ ولكن كثرة تغيب هذا الملك الشاب في حملاته الحربية شجعت على حدوث المؤامرات ضده؛ حيث قتله صهره حانتيليس -الذي كان متزوجًا بأخته- بعد عودته من بابل, وبدأ عهد مليء بحوادث القتل والدسائس استمر أجيالًا عدة حتى آلت المملكة إلى حالة قريبة من الفوضى. وقد توالت الأزمات وحلت الكوارث الخارجية في عهد حانتيليس؛ فالحوريون المقيمون بالجبال المحيطة ببحيرة وان "wan" والذين كان مورسيليس قد غزاهم من قبل, هاجموا الجزء الشرقي من المملكة الحيثية وتقدموا فيه حتى وصلوا إلى قرب العاصمة من الناحية الشمالية، ودمروا في طريقهم بعض المدن؛ مما جعل الملك يضطر إلى تقوية حصون حاتوساس نفسها. وقد فقد حانتيليس وخلفاؤه معظم الأراضي التي كان أسلافهم قد استولوا عليها في الجنوب، ولم يتحسن الحال نوعًا إلا عندما اعتلى العرش تليبينوس الذي كان مغتصبًا؛ ولكنه كان على عكس أسلافه يمتاز بالمهارة؛ إذ نجح في تقوية مركزه بالتخلص من الذين نافسوه على السلطة ونجح في إنهاء حالة الفوضى التي استمرت حوالي خمسين عامًا, وذلك بسن قانون لاعتلاء العرش وتقوية الدولة الحيثية من الداخل ويعد هذا أعظم أعمال تليبينوس، ومن المحتمل أن القانون الذي أصدره عن كيفية اعتلاء العرش والتعليمات الخاصة بسلوك الملوك والأمراء هو الذي اتبع فيما بعد حتى آخر أيام الإمبراطورية. أما سياسته الخارجية فتتلخص في أنه اكتفى بتأمين حدوده الدفاعية وتقويتها وطرد الغزاة البرابرة من شمال العاصمة وشرقها, كما يحتمل أنه أعاد غزو بعض الأراضي التي خرجت عن سلطان الحيثيين، وقد عقد معاهدة مع مملكة كيزواتنا "Kizzuwatna" وهو أول من ذكر أنه عقد معاهدة مع دولة أجنبية, وهذه

المملكة هي التي كانت تحتل في ذلك الوقت الجزء الشرقي من سهول قيليقيا, ويبدو أنها كانت دولة قوية إذ اعترف بملكها على قدم المساواة معه. ويعتبر تليبينوس عادة آخر ملوك الدولة القديمة، ورغم عدم العثور على وثائق تاريخية يمكن بواسطتها التعرف على أسماء خلفائه الذين تبعوه في السنوات الأربعين التالية لحكمه؛ إلا أننا نجد أن قليلًا من النصوص تحدثنا عنها؛ إذ يرجح أن القانون الذي عثر على نصوصه في بوغاز كوي -وهو أحد الوثائق التاريخية المهمة- يرجع إلى عهد أحد خلفائه, كما أن كثيرًا من عقود الأرض والمواثيق تنتمي إلى هذه الفترة أيضًا.

عصر الامبراطورية

عصر الإمبراطورية: يعد تود هالياس الثاني مؤسس الأسرة التي كان لها الفضل في تشييد الإمبراطورية الحيثية شخصية غامضة ولم يسجل التاريخ له إلا حادثًا واحدًا وهو غزو حلب وتدميرها وهذا لا يكفي للدلالة على أن المملكة الحيثية قد استعادت استقرارها الداخلي، وأصبحت قادرة على فرض سلطانها مرة أخرى على جيرانها، ومع أن تاريخ تدمير حلب وظروفه غير مؤكدة؛ إلا أنه يجب وضع هذا الحادث حسب تاريخ سورية المعروف في القرن الخامس عشر قبل الميلاد، فبعد موت مورسيليس الأول ضعف الحيثيون فترة طويلة تمكنت خلالها هاني جلبات وهي إحدى الوحدات السياسية التي انتظم فيها الحوريون من السيطرة على شمال سورية حوالي 1500 ق. م. ومما يدل على ضعف حاتي في ذلك الوقت أن أحد موالي المملكة الحورية نجح في الاعتداء على حدود البلاد الحيثية ولم يلق جزاء على ذلك، وفي سنة 1450 ق. م. انتهت السيطرة الحورية بفضل انتصارات تحتمس الثالث في حملته الثامنة وأصبح المصريون هم أصحاب السلطة العليا في سورية لمدة ثلاثين عامًا تقريبًا؛ ولكن سيطرتهم على شمال سورية تراخت قليلًا

بعد وفاته لظهور قوة حورية جديدة هي مملكة ميتاني التي أصبحت القوة الفعالة في غرب آسيا فترة من الوقت. وربما كان غزو الحيثيين لحلب يرجع إلى أنهم أرادوا عقاب هذه المدينة على عودتها للخضوع إلى هاني جالبات؛ ولذا يرجح أن غزوها لا يمكن أن يكون متأخرًا عن هزيمة هاني جالبات على يد تحتمس الثالث في سنة 1457 ق. م. وليس من المستبعد أن يكون الحيثيون قد قاموا بهذا الغزو بالاتفاق مع الملك المصري تحتمس الثالث؛ إذ إننا نعلم أنه قد تسلم هدايا من خيتا العظمى, وهذا ما يفسر لنا سبب عدم وجود أي إشارة في النصوص المصرية إلى الاستيلاء على حلب في هذه الحملة. وقد سببت نهضة ميتاني أزمة جديدة للمملكة الحيثية؛ فبعض المقاطعات التي كانت فيما مضى تسير في فلك الحيثيين انضمت إلى القوة المنافسة "ميتاني" أو أعلنت استقلالها وبدأت علامات الضعف تبدو في المملكة ابتداء من عهد أرنووانداس الأول خليفة تود هالياس الثاني. وفي عهد خلفاء هذا الأخير وهم حاتوسيليس الثاني وتود هالياس الثالث وأرنووانداس الثاني وصلت المملكة إلى حافة الهاوية، كما يشير إلى ذلك نص تركه أحد الملوك المتأخرين، ومما جاء فيه: "في الأيام الخوالي كانت البلاد الحيثية تغزو البلاد التي تقع خارج حدودها. ثم جاء العدو من كاسكا ونهب الأراضي الحيثية واتخذ نيناسا حدودًا له, كما جاء العدو من آرزاواوا خلف الأراضي السفلى ونهب البلاد الحيثية أيضًا واتخذ تووانودا وأودا حدودًا له. كذلك جاء العدو من بعيد من أونا ونهب أرض جاسيبا ... إلخ".

وليس من المعقول أن تكون الهجمات العديدة التي ذكرها هذا النص قد حدثت دفعة واحدة؛ ولكن يبدو أن القصة تتفق مع حقيقة الحال في ذلك الوقت؛ إذ لا بد أن الأقطار المجاورة لمملكة الحيثيين من الشرق كانت تلقى تأييدًا من جانب ميتاني، ويستدل على ذلك من الخطابات التي وجهها الفرعون إلى ملك آرزاواوا التي عثر عليها في محفوظات تل العمارنة. وتنتهي فترة الضعف هذه باعتلاء سوبيلوليوما على العرش حوالي سنة 1380 ق. م. وظروف ارتقائه غامضة رغم أنه كان ابن تود هالياس الثالث وعرف عنه أنه صاحب والده في حملاته؛ ولكنه كافح بضع سنين في أول حكمه حتى دعم سلطانه في وطنه, وأغلب الظن أنه هو الذي شيد الحائط الضخم في جنوب العاصمة حاتوساس وأقام تحصينات أخرى للدفاع عنها, وبعد ذلك تفرغ لتسوية حسابه مع مملكة ميتاني التي يمكن أن تعد مسئولة عن سوء الحالة التي وصلت إليها المملكة في الجيل السابق. وقد باءت غزوته الأولى التي عبر فيها جبال طوروس إلى سورية بالفشل وتكبد خسائر فادحة, وتمكن ملك ميتاني توشراتا من أن يقدم جزءًا من الغنيمة التي حصل عليها إلى حليفه ملك مصر، وقد استفاد ملك الحيثيين من هذه التجربة فأعد غزوته الثانية بدقة كبيرة, ومن المحتمل أنه استطاع أن يكتشف أن خطوط الدفاع الرئيسية لمملكة ميتاني كانت في شمال سورية؛ ولذلك عبر الفرات عند مالاطيا وهاجم مملكة ميتاني من الخلف بعد أن مهد لذلك بحملة أولية؛ لأن الطريق المؤدي إليها كان شديد الخطورة لوجود القبائل المتوحشة في منطقة الجبال التي تحف به, وقد استطاع أن يخضع هذه القبائل في تلك الحملة الأولية وعقد معاهدة معهم توثقت بزواج أخت الملك من زعيم هذه القبائل، ثم استطاع سوبيلوليوما أن يعبر الفرات وأن ينقضَّ فجأة على عاصمة ميتاني التي كان اسمها

وشوجاني فدخلها ودمرها، وعاد سوبيلوليوما بعد ذلك إلى اجتياز الفرات وتقدم إلى سورية؛ حيث سارع أمراؤها المحليون إلى التسليم بعد أن حرموا من مساعدة ميتاني, واكتفى سوبيلوليوما بأن جعل نهر الأورنت حدًّا له ولم يتقدم نحو مصر؛ ولكن ملك قادش التي كانت تعتبر نقطة أمامية للنفوذ المصري خرج لقتاله؛ إلا أن العربات الحيثية اكتسحته, وتقدم الجيش الحيثي جنوبًا إلى "أبينا" بالقرب من دمشق وادعى سوبيلوليوما أنه اتخذ لبنان حدودًا له، ومن حسن حظه أن مصر في ذلك الوقت لم يحكمها من الفراعنة من يهتم بالدفاع عن إمبراطوريتها؛ إذ كان إخناتون منهمكًا في الإصلاح الديني الداخلي1، وهذه الحملة يجب تأريخها حوالي سنة 1370 ق. م. وكان من نتيجتها أن أصبحت حلب وعلالق "Alalakh" "عطشانة الحالية" حيثيتان2, ومن المحتم أن المعاهدات بين ممالك أواسط سورية وآمور التي تشمل منطقة لبنان وجزءًا كبيرًا من ساحل البحر المتوسط قد عقدت في ذلك الوقت، وعلى أي حال فإن بعض البلاد وخاصة قرقميش كانت تنتظر مساعدة من قوات توشراتا ملك الميتانيين التي لم تنهزم, وإن كانت الثقة فيها قد أصبحت مفقودة. وقد اضطر سوبيلوليوما في ذلك الوقت أن يعود إلى وطنه؛ نظرًا لظروف طارئة عاجلة وترك مهمة المحافظة على سورية لأحد أولاده، وكان يدعى تليبينوس؛ ولكن هذه المهمة لم تكن سهلة إذ انقسمت المقاطعات السورية إلى فريقين: فريق كان يناصر الحيثيين والآخر يناصر الميتانيين, وأخذ كل منهما يترقب نتيجة الصراع الدائر بين الكتلتين الكبيرتين، ولحسن حظ الحيثيين فرقت الفتنة مملكة ميتاني؛ لأن ملكها توشراتا كان يحالف المصريين وتوطدت الصلة بين الأسرتين المالكتين فيهما بالزواج؛ ولكن مصر كانت في ذلك الوقت قد أصبحت

_ 1 انظر أعلاه ص177-178. 2 انظر أعلاه ص179.

عاجزة عن أن تمد يد المساعدة لحليفتها، وقد رأى في ذلك فرع منافس للبيت المالك الميتاني فرصة للخروج على الحكم وطلبوا مساعدة آشور أو بالط الذي كان ملكًا على أشور في ذلك الوقت, وتمكن هذا من مساعدة الحزب الذي لجأ إليه، وقتل توشراتا فاعترف أرتاتاما ملك ميتاني بأشور كما اعترف بها كذلك ابنه شوتارتا وقدما إلى ملك أشور الهدايا الفاخرة بعد أن كان ملوكها يقدمون الولاء لمملكة ميتاني. وكان ظهور هذه الدولة الفتية "أشور" المفاجئ؛ مما ساعد دون شك على سقوط ميتاني, وأدى هذا بدوره إلى سهولة غزو الحيثيين لسورية واستطاع سوبيلوليوما أن يجتاح سورية، وأصبحت الأراضي الممتدة من الفرات حتى البحر بما في ذلك حصن قرقميش ولاية حيثية, وعين ولده تليبيوس المشار إليه ملكًا على حلب كما عين ابنًا آخر ملكًا على قرقميش. ولم يمضِ وقت طويل حتى لجأ ابن توشراتا إلى سوبيلوليونا "وقد فر بحياته بعد مقتل أبيه"؛ وبذلك وجد سوبيلوليوما فرصة سانحة لإنشاء دولة محايدة بينه وبين المملكة الفتية أشور؛ فأرسل ابن توشراتا إلى ولده ملك قرقميش وتقدم الاثنان بعد عبور الفرات على رأس قوات كبيرة ودخلوا "وشوجاني" عاصمة ميتاني, وهكذا ظهر إلى الوجود ملك جديد موالٍ للحيثيين. ويبدو أن سوبيلوليوما نال شهرة كبيرة؛ لأنه حينما كان يحاصر قرقميس وصله رسول من مصر يحمل خطابًا من ملكتها تذكر فيه أن زوجها توفي وليس لها ولد وطلبت منه أن يرسل أحد أبنائه لكي تتزوج منه؛ لأنها لا ترغب زوجًا من رعيتها؛ فدهش سوبيلوليوما وأرسل رسوله الخاص إلى مصر ليتأكد بأن ليس في الأمر خدعة، وقد عاد هذا الرسول سريعًا يحمل رسالة ثانية من الملكة تذكر له فيها بأنه لو كان لها ولد لما كتبت إلى أجنبي تستدعيه

إذ ليس من المعقول أن تعلن مصيبتها ومصيبة شعبها على الملأ, كما أن كرامتها تأبى عليها أن تتزوج بأحد من رعيتها, ونظرًا لأن له أبناء كثيرين؛ فقد لجأت إليه ليرسل إليها أحدهم، ومن المرجح أن هذه الملكة هي زوجة توت عنخ آمون الابنة الثالثة للملك إخناتون، ولم يضع سوبيلوليوما الفرصة؛ فأرسل أحد أبنائه على الفور؛ ولكن هذا الأمير الحيثي لقي حتفه عند وصوله إلى مصر بإيعاز من "آي" أو "حور محب"1. وبعد وفاة سوبيلوليوما هاجم أشور أو بالط مملكة ميتاني "التي كان ملكها ابن توشرانا الموالي للحيثيين" وضمها إلى ملكه، ومع ذلك فإن سلطان الحيثيين على سورية لم يتزعزع؛ فبعد وفاه سوبيلوليوما وولده الأكبر أرنوانداس الثالث ظل أمراء حلب وقرقميش على ولائهم لوارث العرش الشاب مورسيليس الثاني مع قله خبرته، وقد أثبت هذا جدارته بإخضاع أمراء المقاطعات الثائرة التي خرجت عن طاعة الحيثيين وعين بدلهم ولاة حيثيين, كما أنه ظل ينظم الإمبراطورية طوال حياته؛ ولكن الثورات كانت دائمًا تتجدد كلما اعتلى العرش ملك جديد كما أن الحدود الشمالية كانت مصدر قلق دائم؛ ولذلك وزعت القوة الحيثية على مناطق متباعدة؛ فكان من الصعب على المملكة أن تحتفظ بحدودها وخاصة لأن القبائل البعيدة كانت تتلقى مساعدات خارجية. وقد قامت ثورة في سورية بتحريض من مصر في عهد حور محب على الأرجح, وكان "شاركوشورخ" ملك قرقميش قد توفي واستطاع أحد الغزاة أن يستولي عليها؛ ولكن ملك الحيثيين "وهو شقيق ملك قرقميش" تدل شخصيًّا في السنة التاسعة من حكمه، وكان مجرد ظهور الجيش الإمبراطوري كافيًا لإخضاع الأمراء السوريين وعين ابن شاركوشورخ ملكًا على قرقميش، وفي نفس السنة تقدم ملك الحيثيين شمالًا؛ حيث استطاع إخضاع بعض المناطق هناك.

_ 1 انظر أعلاه ص183 هامش.

وقد ترك مورسيليس لابنه وخليفته موواتاليس إمبراطورية وطيدة الدعائم تحوطها شبكة من الممالك الموالية؛ فلم تحدث أية اضطرابات عند اعتلائه للعرش، ومع ذلك كان لا بد من استعراض قوته في الغرب. وبعد أن أمن الملك سلطانه في هذه الجهات أصبح قادرًا على تركيز مجهوداته ضد الخطر الآتي من الجنوب؛ حيث تحرك المصريون أخيرًا؛ لأن ملوك الأسرة التاسعة عشرة طمعوا في استرجاع أقاليم سورية التي سبق أن غزاها تحتمس الثالث وضاعت أثناء حكم إخناتون، وفي حوالي سنة 1300 ق. م. قاد سيتي الأول ملك مصر جيوشه إلى كنعان وتقدم إلى قادش؛ ولكن يبدو أن الحيثيين قاوموه بشدة، ومع ذلك فقد أعاد الملك المصري القانون والنظام في أرض كنعان وظل السلام قائمًا بقية عهده؛ ولكن عندما تولى خليفته رعمسيس الثاني حكم بلاده, كان من الواضح أن من المستحيل تجنب الصدام بين الإمبراطوريتين المتنافستين؛ ولهذا جمع "موواتاليس" فرقًا من كل حلفائه الذين ذكرتهم القوائم المصرية؛ بينما لم تشر إليهم القوائم الحيثية التي من ذلك العهد، وكان الدردانيون من بين هؤلاء الحلفاء "وهم الذين عرفوا في إلياذة هوميروس أيضًا" والفلسطينيون والشرادانيون الذين ذكرتهم النصوص المصرية مرارًا، وتقابلت جيوش الإمبراطوريتين في قادش في السنة الخامسة من حكم رعمسيس، ويبدو أن "موواتاليس" قد تمكن من التقدم والاستيلاء على "آبا" أو "أبينا" بالقرب من دمشق. ورغم أن الفرعون ملأ الدنيا تفاخرًا ببسالته ونقش أخبار انتصاره على المعابد المصرية؛ ولكن ليس هناك أدنى شك في أن معركة قادش قد انتهت بانتصار الحيثيين الحاسم. وفي عهد موواتاليس أعيد تنظيم المقاطعات الشمالية الشرقية من المملكة, ووحدت في إمارة عاصمتها "حاكبيس" تحت إشراف "حاتوسيليس" شقيق الملك؛ بينما أقام الملك نفسه في الجنوب في مدينته المنيعة "داتاسا" ليبقى بمقربة من العمليات الحربية في سورية.

وعندما توفي موواتاليس تولى ابنه "أورهى تشوب" الملك وأراد أن يخفض من أملاك عمه الطموح لاعتقاده أنه يريد العرش لنفسه, وظل "حاتوسيليس" يعاني اتهامات ابن أخيه نحو سبع سنوات وأخيرًا أعلن الحرب عليه وعزله، ويدعونا هذا إلى الظن بأن حكومة "أورهى تشوب" لم تكن محبوبة على الاطلاق، وقد أسر "أورهى تشوب" في سموحا بالقرب من مالاطيا؛ ولكنه عومل بالحسنى ونفي إلى المقاطعة السورية البعيدة نوهاس. وعندما اعتلى "حاتوسيليس" العرش كان يبلغ من العمر نحو 50 سنة, وكان قائدًا محنكًا نعمت الإمبراطورية الحيثية في عهده بشيء من السلام والازدهار النسبي وإن كانت قد حدثت في بداية عهده بعض الاحتكاكات بينها وبين مصر وبابل "الدولة الكاشية"، وربما كان ظهور قوة أشور في ذلك الحين؛ مما ساعد على التقارب بين الإمبراطوريتين الحيثية والمصرية, وأصبحت العلاقات بينهما ودية للغاية، وفي سنة 1269 ق. م. عقدت المعاهدة المشهورة بين "رعمسيس الثاني" وبين "حاتوسيليس". وبعد 13 سنة توطدت المعاهدة بزواج رعمسيس من أميرة حيثية، وفي عهد حاتوسيليس كذلك عادت العاصمة إلى "حاتوساس" التي كانت قبائل "الكاسكا" قد نهبتها في عهد "موواتاليس" عندما كان متغيبًا في حملة في الجنوب، وأعيد بناء المدينة وتدوين الأرشيف وساد الاستقرار والازدهار وصدر عدد كبير من المراسيم الدينية والإدارية، ومع هذا فإن ما وصلنا من حوليات حاتوسيليس يدل على أن الحالة لم تكن في الغرب على ما يرام, وربما وجهت بعض العمليات الحربية ضد العدو القديم في آرزواوا كما تدهورت العلاقات مع بابل بعد وفاة ملكها كادشمان تورجو، وربما كان لأورهي تيشوب الأمير المنفي يد في ذلك حينما كان يقيم في نوهاس؛ إذ إن حاتوسيليس يقص علينا أنه "أي: أورهي تيشوب" ضبط وهو يتآمر

مع البابليين وأنه نقل بسبب ذلك إلى البحر، وربما كان المقصود أنه نقل إلى قبرص أو إلى قطر أجنبي بحري, ولم يقف نشاطه عند هذا الحد؛ بل إنه اتصل بملك مصر، ومن المحتمل أنه كان يسعى للحصول على مساعدة دولة أجنبية لاسترداد عرشه؛ ولكنه باء بالفشل، وقد اخترع حاتوسيليس قصة مؤداها أنه طرد الملك الشرعي واستأثر بالعرش نظرًا لما لقيه من استفزاز شديد وبناء على أمر من الإلهة "آشتار" إلهة "ساموحا". وقد توفي حاتوسيليس بعد فترة قصيرة من زواج ابنته من ملك مصر وتولى من بعده ابنه "تود هالياس الرابع" الذي وجه اهتمامه نحو الشئون الدينية، ويمثل الجزء الأول من حكمه عصر سلام وإن كانت بعض الحملات الناجحة في غرب المملكة قد مكنت الحيثيين من ضم إقليم أسووا إلى مملكتهم؛ ولكن لم تلبث أن ساءت الحالة هناك قبل نهاية حكمه، ومع أن الملك كان في حالة من القوة تسمح له بالقضاء على أي عدوان على أجزاء من مملكته؛ إلا أن أيام الإمبراطورية الحيثية أصبحت معدودة؛ ففي عهد الملك التالي وهو "أرنووانداس الثالث" تدهورت الحالة في غرب هضبة الأناضول وحدثت تحركات ضخمة من شعوب هذه المناطق حيث تقدمت واجتاحت الأقاليم الواقعة في شرق البحر الأبيض المتوسط, واضطرت الحيثيين وشعوب هذه الجهات إلى سورية، ثم اتحدت بعد ذلك مع شعوب البحر في هجوم كبير كان من نتائجه استقرار الفلسطينيين على ساحل فلسطين وحل الفريجيون محل الحيثيين كقوة حاكمة, وأصبح خطر هذه الشعوب يهدد مصر لولا أن "رعمسيس الثالث" نجح في الانتصار عليهم برًّا وبحرًا وأبعد خطرهم.

الممالك الحيثية الجديدة

الممالك الحيثية الجديدة: استمر الأثر الثقافي للحيثيين في الأجزاء الجنوبية الشرقية من إمبراطوريتهم

بعد سقوطها نحوًا من خمسة قرون, وظلت السجلات الأشورية تشير إلى سورية ومنطقة طوروس على أنهما أرض حاثي وتتحدث عن ملوك يحملون أسماء حيثية، كذلك يشير الكتاب المقدس إلى ملوك المقاطعات السورية كملوك للحيثيين واهتم الكثيرون منهم بإقامة آثار تحمل نقوشًا دونت بخط هيروغليفي لم يمكن تفسيره تمامًا حتى الآن، أي أن تقاليد الثقافة الحيثية ظلت منتشرة في المناطق الممتدة من ملاطيا إلى حدود فلسطين؛ حتى بعد أن تحولت هذه المنطقة إلى جزء من الإمبراطورية الأشورية، ولم تكن لغة تلك النقوش الحيثية الجديدة ولا الديانة التي نصت عليها هي التي استعملت في "حاتوساس"، وليست هي التي استعملها عامة الشعب الذين استوطنوا سورية في عهد الإمبراطورية الحيثية "لأنهم كانوا حوريين". وعلى هذا يبدو أن سورية قد اجتاحها شعب آخر جاء من إحدى المقاطعات الحيثية وكان يتخذ الحضارة الحيثية، ويحتمل أن المقاطعة هي "كزوواتنا" ويرجح أن ذلك لم يكن نتيجة غزو منظم؛ لأنه أدى إلى ظهور عدد كبير من الممالك الصغيرة في القرن 12 ق. م. تدل أسماؤها على أنها لم تكن على الإطلاق مجرد استمرار للممالك الحيثية القديمة التي كانت خاضعة للإمبراطورية في سورية, وأن معظم هذه الأسماء نشأ حديثًا، ونظرًا لأن الخط الهيروغليفي الحيثي يصعب تفسيره حتى الآن؛ فلا يمكن تتبع تاريخ هذه الممالك في إيجاز إلا عن طريق سجلات الدول المجاورة مثل: أشور وأورارتو "آرارات" وإسرائيل. وأول ملك أشوري يصل إلى غرب الفرات بعد سقوط "حاتوساس" هو "تيجلات بلاسر الأول" الذي ذكر بأنه حارب حاتي العظمى ووصل إلى البحر المتوسط, ولا شك أنه كان يقصد مملكة "ميليد" ويدهشنا أن يذكر أن مملكة أخرى لحاتي العظمى قدمت له عند عودته فروض الطاعة والولاء وربما كان يقصد

بهذه مملكة "قرقيمش" أي أن هاتين المدينتين كونتا مملكتين حيثيتين عند معبر الفرات. وقد انسحبت الجيوش الأشورية على أي حال ومضت عدة سنوات قبل أن يصل أي ملك أشوري آخر إلى غرب الفرات أو أن يعبره، وفي خلال فترة الضعف الأشوري هذه جاء الآراميون البدو من الشرق وأسسوا بدورهم ممالك في سورية كانت أولها وأقواها دمشق1 التي تقع جنوب خط الغزو الحيثي، ولا بد أن الآراميين قد اصطدموا في الشمال مع الإمارات الحيثية الحديثة العهد وهزموا الحيثيين في أماكن متعددة وحل محلهم الآراميون؛ حيث كونوا أسرات حاكمة في عواصم الممالك الحيثية التي استولوا عليها ونقشوا نقوشهم بالكتابة الفينيقية أو بلغتهم الآرامية؛ بينما ظلت الأسر الحيثية الباقية تحافظ على كيانها واستمرت في تدوين نقوشها بالهيروغليفية الحيثية. ولا نعرف شيئًا عن تاريخ قيليقيا في هذه الفترة؛ لأن نقوش "كاراتيب" لم يمكن تفسيرها بصفة مؤكدة حتى الآن؛ ولكن يستدل من النقوش التي تركها والي "أضنة" أن أضنة كانت العاصمة ولم يكن حاكمها هو الملك؛ بل كان واليًا من قِبَل الملك، وربما كان "الدانيونا" الذين ذكرتهم النصوص المصرية بين شعوب البحر هم سكان هذه البلاد، كما يحتمل أنهم كانوا من جنس يغاير الشعوب المجاورة لهم، وقد عرف الآشوريون قيليقيا منذ عهد شلمناصر الثالث ولكنهم كانوا يطلقون عليها اسم "قوا" ولا يعرف تفسير لهذا الاسم حتى الآن. وتمتعت الممالك الحيثية الحديثة وجيرانها الآراميون بشيء من الاستقرار والازدهار لمدة يسيرة, وانتشرت الثقافة الحيثية جنوبًا إلى فلسطين, وخدم الجنود المرتزقة الحيثيون في الجيوش اليهودية, وأدخل سليمان الحيثيات في حريمه.

_ 1 انظر أعلاه ص282.

وقد بدأت أشور تستعيد مجدها في عهد "أدادنيراري الثاني" وفي عهد خلفه "توكولتي نينورتا الثاني" ولم تنتبه الممالك السورية لهذا الخطر فاستطاع خليفتهما "أشور ناصر بال" أن يدعم فتوحات أسلافه سريعًا، وفي السنوات السبع الأولى من حكمه استولى على الإقليم الواقع شرق الفرات ولم تقاومه قرقميش عندما فرض عليها الجزية, وحينما عبر الجيش الأشوري الفرات واخترق سورية إلى الساحل لم تقاومه الممالك الحيثية الأخرى؛ حيث فشلت في الاتحاد ضد الغازي، ومع أنها حاولت الاتحاد بعد ذلك بنحو 18 سنة حينما عبر "شلمنصر الثالث" نهر الفرات؛ إلا أنها لم تنجح في المقاومة ووقع شمال سورية مرة أخرى في يد الأشوريين؛ غير أنهم اضطروا للانسحاب أمام المقاومة التي أبداها ملوك حماة ودمشق, التي كان يعاونهم فيها 12 أميرًا من أنصارهم وخاصة من الساحل الفينيقي رغم أن المتحالفين قد تكبدوا خسائر فادحة، ومع هذا فقد عاد "شلمنصر الثالث" إلى الهجوم على دمشق في السنوات التالية حتى ضعفت وتمكن "أدادنيراري الثالث" بمساعدة زاكير الآرامي "الذي كان قد استولى قبل بضع سنوات على حماة الحيثية" من إخضاعها, وبذلك ادعى أدادنيراري السيادة على حاتي وأمورو وبالاشتو جميعها. وقد ضعفت سلطة الآشوريين بعد ذلك فترة لا تقل عن نصف قرن بسبب ظهور منافس جديد في الجبال الشمالية يتمثل في مملكة أورارتو التي استنفدت الجزء الأكبر من جهود ملوك أشور، ومن المحتمل أن الدولة الحيثية في شمال سورية كانت تشعر بشيء من التقارب الجنسي أو الثقافي مع هذه المملكة الجديدة، أما جنوب سورية فقد أصبح كله آراميًّا، وهكذا انقسمت سورية إلى قسمين: حيثي وآرامي, ثم انتهت هذه الحالة فجأة بنهضة أشور مرة ثانية بقيادة "تيجلات بلاسر الثالث" فقد نجح هذا الملك في السنة الثالثة من حكمه في التقدم غربًا

والانتهاء من مشاكل سورية بصفة نهائية؛ إذ استطاع أن يهزم السوريين وكان يعاونهم ملك أورارتو الذي حضر بنفسه على رأس قواته؛ ولكنه اضطر إلى الهرب هربًا مشينًا بعد هزيمة جيشه، وبعد ثلاثة أعوام تمكن ملك أشور من إخضاع بقية سورية وعادت جميع ممالكها إلى ولائها السابق لأشور؛ إلا أن ذلك لم يستمر سوى عامين؛ حيث قامت ثورة جديدة اضطر ملك أشور إزاءها إلى السير لإخمادها وضم سورية إلى أشور ضمًا مباشرًا، وقد اتبع خلفاء تيجلات بلاسر الثالث سياسته التي سار عليها؛ إذ نجد أن "شلمنصر الخامس" و"سرجون الثاني" يستعملان القوة والعنف في ضم بقية الممالك السورية حتى انتهى أمرها في سنة 709 ق. م. وبذلك انتهى تاريخ الممالك الحيثية في شمال سورية حتى إن الرحالة الإغريق عندما زاروا هذه البقاع لم يجدوا إلا مقاطعات الإمبراطورية الأشورية وأصبح اسم حاتي نفسه منسيًّا.

سكان غرب وجنوب هضبة الأناضول "الآخيون والطرواديون"

سكان غرب وجنوب هضبة الأناضول "الآخيون والطرواديون": يظن أن بلاد الآخيين أو اليونان الميسينية هي التي عرفت في النصوص الحيثية باسم أهياوا "Ahhiyawa" أو أهيا "Ahhiya" وقد ظهر هذا الاسم لأول مرة في عهد سوبيلوليوما، ومن المحتمل أن المقصود في هذه الحالة جزيرة قبرص التي نفي إليها "أورهي تشوب"1، كذلك ذكرت هذه البلاد في حوليات "مورسيليس الثاني" في السنتين الثالثة والرابعة من حكمه, ومنها عرفنا أن تلك البلاد كانت عبر البحر.

_ 1 انظر أعلاه ص317-318.

وحينما مرض الملك مورسيليس؛ بحث الكهنة عن مصدر الغضب الإلهي الذي سبب هذا المرض، ودونت الأسئلة والإجابات المتعلقة بذلك على لوحة كبيرة يفهم منها أن إله أهياوا وإله لازباس قد جلبا على أمل إيجاد علاج له، ويفهم منها كذلك أن علاقات الود كانت قائمة بين حاتي وأهياوا ولازباس التي يحتمل أنها ليزبوس "Lesbos". ومن الرسائل المهمة في ذلك العهد رسالة تعرف باسم خطاب تاواجالاواس "Tawagalawas"، وقد دونت في ثلاث لوحات، ومنها عرفنا أن شخصًا كان واليًا حيثيًّا أو من الطبقة العليا "واسمه بياما رادوس كان يقيم في ميلاواندا" أصبح قاطع طريق وسبب اضطرابات في بلاد لوكا "ويحتمل أنها ليقيا" التي كانت تكوِّن مقاطعة من الإمبراطورية الحيثية, وكانت مركز عملياته مدينة مجاورة في منطقة خارج ممتلكات الحيثيين وتحت الحكم غير المباشر لملك أهياوا، ولما كانت هذه الرسالة موجهة من أحد ملوك الحيثيين1 إلى ملك أهياوا؛ فإن من المرجح أن الغرض المقصود منها هو تسليم ذلك الثائر وإراحة مقاطعة لوكا من متاعبه، ويبدو أن تاواجالاواس كان قريبًا لملك أهياوا وقد قصده أهالي المقاطعة لمساعدتهم, وبعد أن دعم تاواجالاواس مركزه في بلاد لوكا بعث برسالة إلى الملك الحيثي يطالبه فيها بالاعتراف به كوالٍ من قبله, كما يبدو أن الملك الحيثي وافق على ذلك وأرسل ولده ليصاحب تاواجالاواس إلى حضرته؛ فاستاء هذا الأخير لأن مرافقه لم يكن القائد العام للجيش بنفسه وعلى ذلك انسحب غاضبًا فسار ملك الحيثيين إلى لوكا وقضى على الثورة فيها، وبعدئذ تسلم رسالة من ملك أهيا يخبره فيها بأنه أمر عامله في ميلاواندا بأن يسلمه

_ 1 إما أن يكون هذا الملك هو مورسيليس الثاني أو خلفه موواتاليس.

قاطع الطريق, ولما تقدم الملك نحوها وجد أن ذلك الثائر "ببامارادوس" قد أبيح له الهرب على ظهر سفينة؛ فأرسل ملك الحيثيين رسولًا خاصًّا إلى ملك أهياوا لإقناعه بتسليم الثائر واعدًا إياه بالإبقاء على حياته, ومعلنًا له بأن يترك رسوله الخاص كرهينة من أجل ذلك، ويتبين من سياق النصوص أن العلاقات بين حاتي وأهياوا كانت ودية ومتينة، وبعد مضي بعض الوقت أصبح حاكم ميلاوندا من موالي الملك الحيثي، ومن الرسائل التي تُبُودلت بينهما نتبين أن خلافات عديدة نشبت بينهما وأن ملك أهياوا رضخ في النهاية لطلب الملك الحيثي وسلمه قاطع الطريق. ولدينا خطاب من عهد حاتوسيليس يبين أن ملك أهياوا أرسل إلى ملك حاتي يطلب نصيبه من الهدايا التي أرسلت إليه، ولا تعرف طبيعة هذه الهدايا، وهناك نص آخر يشير إلى الوقائع الخاصة بانقلاب "حاتوسيليس"1 ولكنه مهشم وإن كان البعض يرى أن هناك ما يدعو إلى ربط اسم "أورهي تشوب" مع أهياوا؛ ولكن لا يوجد ما يؤيد ذلك. وفي إحدى فقرات معاهدة أبرمت بين "تود هالياس الرابع2" وبين ملك أمورو نتبين أن ملك أهياوا ذكر على قدم المساواة مع ملوك مصر وبابل وأشور, أي: إنه كان يمثل إحدى القوى الكبرى في ذلك الوقت وإن كان القصر الحيثي لم يعترف بهذه الحقيقة رسميًّا بدليل إزالة اسم أهياوا من النص؛ ولكن العلامات المتخلفة تدل على وجود اسمها فيه من قبل، وهناك نص مهشم ربما كان

_ 1 انظر أعلاه ص317. 2 انظر أعلاه ص318.

من عصر "تود هالياس الرابع"، كذلك يشير إلى أن ملك أهياوا قد انسحب؛ مما يوحي بأنه كان موجودًا في آسيا الصغرى وأن بلاده كانت ولاية على حدود الإمبراطورية الحيثية وأنه كان قد استولى على بعض أراضيها ثم انسحب بعد ذلك. والخلاصة التي يمكن أن نستنتجها أن العلاقات بين حاتي وبين أهياوا كانت طيبة في أول الأمر حتى إن أقارب ملك أهياوا كانوا يرسلون إلى حاتي لدراسة فن قيادة العربات، كما كانت ترسل آلهة أهياوا إلى حاتي لعلاج الملك في مرضه, ثم نسمع بعد ذلك بازدياد الأعمال العدوانية التي يرتكبها عمال أهياوا على حدود الممتلكات الحيثية, وقد بلغت هذه أشدها أثناء حكم "تود هالياس الرابع" و"أرنووانداس الثالث"، ورغم أن هذا النشاط بدأ في عهد مورسيليس؛ فقد ظلت العلاقات الرسمية بين الملوك ودية في الظاهر على الأقل حتى نهاية عهد مورسيليس، ثم ترد بعض الإشارات عن تدخل ملك أهياوا بصورة عدائية في إقليم موالٍ للحيثيين ولا يوجد بعدئذٍ ما يدل على وجود علاقات رسمية ودية. ومن الواضح أن أهل أهياوا كانوا بحارة ممتازين وصلت سفنهم حتى ساحل سورية "أمورو" وقد اعتدوا على الإمبراطورية الحيثية في أربع مناطق على الأقل، ولا شك في أن الحيثيين قد أخطئوا في نطق اسمهم وحرفوه إلى أهياوا بعد أن عرفوهم واتصلوا بهم، ولا بد أن هؤلاء كانوا يعيشون في أقصى غرب شبه الجزيرة وسيطروا مثل المقدونيين على البحار؛ فابتداء من سقوط كنوسس حوالي سنة 1400 ق. م. إلى الغزو الدوري في القرن الثاني عشر كانت السيادة العليا في البحار متركزة في أيدي الإغريق الميسينيين وقد وجدت منتجاتهم بكثرة في مختلف الجزر, وخاصة قبرص وكريت ورودس التي لا بد أن كان

في كل منها مستعمرة مهمة للآخيين, كما وجدت مستعمراتهم بكثرة في بعض الأماكن السورية وفي قيليقيا وفي أماكن مختلفة من السواحل الجنوبية الغربية لآسيا الصغرى. وبما أن الحيثيين لم يعرفوا إلا مملكة واحدة باسم أهياوا، وبما أن العالم الميسيني لم يشمل وحدة سياسية واحدة؛ فإننا لا ندري هل كانت أهياوا تدل على ميسينا بأكملها أم أنها كانت إحدى الممالك التي تنقسم إليها بلاد ميسينا, سواء في شبه الجزيرة الإغريقية نفسها أم مملكة في إحدى الجزر مثل كريت وقبرص وغيرهما؟. أما طروادة فقد ذكرت في النصوص الحيثية بأسماء كثيرة وذكرت في إحدى المرات ضمن مناطق بلاد آسووا؛ ومعنى ذلك أن هذه الأخيرة تقع على الساحل الغربي لآسيا الصغرى, ويرى البعض أن اسمها هو الذي حرف فيما بعد إلى آسيا، ويبدو أن أول ملك حيثي زار هذه الأنحاء هو "تود هالياس الرابع". ويحاول الكثيرون أن يقربوا بين الأسماء التي وردت في النصوص الحيثية وبين الأسماء التي ذكرت في أشعار هومر والأساطير اليونانية التي يمكن ربطها بطروادة؛ ولكن هذه المحاولات ما زالت مبنية على أسس غير مؤكدة؛ ومن ذلك مثلًا محاولة استنتاج أن مملكة تسمى في النصوص الحيثية إلوسينا أو "ولوسيا" وكانت موالية للحيثيين هي نفسها التي تعرف في شعر هومر باسم وليوس التي يظن أنها طروادة, وكان ملكها يدعى "الكساندوس" في عهد موواتاليس الحيثي "حوالي سنة 1300 ق. م.". ويرى البعض أن هذا الملك ليس إلا "Alaxandres Aliaé Paris" بارس أمير طروادة، وتشير أسطورة بيزنطية إلى أن موتيلوس "Motylos" هو الذي استقبل هيلين وبارس "في رحلتهما من إسبرطة إلى طروادة" ويظن بعض المؤرخين أن هذه الأسطورة تشير

إلى المعاهدة التي أبرمت بين موواتاليس وألكساندروس. ويكاد يكون اسم دردني الذي أطلق في النصوص المصرية على جماعة كانوا يحاربونهم كحلفاء للحيثيين في معركة قادش هو اللفظ الوحيد القريب من اسم الطرواديين، وهكذا لا يمكن أن نجد ما يؤكد وجود صلة بين الأسماء التي ذكرت في النصوص الحيثية وبين طروادة.

الحيثيون في فلسطين

الحيثيون في فلسطين: مع أن الكتاب المقدس يشير إلى الحيثيين كقبيلة فلسطينية؛ إلا أن معلوماتنا عن تاريخ أهل حاتي تقودنا في البحث عن موطنهم الأصلي بعيدًا عن فلسطين, وتذهب بنا إلى قلب هضبة الأناضول وخاصة لأنه لم توجد دولة حيثية جنوب جبال طوروس قبل عهد سوبيلوليوما, وأن الدول السورية الموالية للإمبراطورية الحيثية اقتصرت على المنطقة الواقعة شمال قادش على نهر الأورنت. ورغم أن الجيوش الحيثية وصلت إلى دمشق؛ إلا أنها لم تدخل فلسطين على الإطلاق ولم توجد دولة حيثية من الدول الجديدة جنوب حماة؛ إذ كان يفصل هذه الأخيرة عن فلسطين المملكة الآرامية في دمشق. وعندما حل الطاعون بأرض حاتي في بداية عهد الملك "مورسيليس الثاني"، وبحث الملك في الأرشيف عن سبب غضب الإله عثر على لوحتين أوضحتا له أن أهمل عيدًا خاصًّا, وأن أهل حاتي قد نكثوا عهد إلههم "جوحاتي" بعد أن أقسموا به في معاهدة لهم مع مصر؛ إذ إنهم أغاروا على أملاكها السورية ثانية وتقدموا إلى العمق ونجحت الحملة؛ فحينما تفشى وباء الطاعون بينهم بدا ذلك لمورسيليس كعقاب واضح.

ومن المحتمل أن فئة من الحيثيين استوطنوا تلال فلسطين أو أنهم ممن جاءوا من بلاد تحت حكم الحيثيين، كذلك ربما كان هؤلاء المستوطنون من أقرب الأقاليم الحيثية في سورية التي استولى عليها سوبيلوليوما باسم آخر كأنها غير حيثية؛ لأن هجرة الحيثيين من الأناضول إلى فلسطين لم تكن كثيرة الحدوث، كذلك يحتمل أن هؤلاء المستوطنين الحيثيين لم يكونوا في الواقع إلا من الأقوام التي كانت تتكلم اللغة الحيثية, وعاشت منعزلة في تلال فلسطين حتى بعد أن ساد فيها الساميون والحوريون؛ لأن هذه اللغة كانت واسعة الانتشار في جنوب غربي آسيا.

الفصل السابع: العراق

الفصل السابع: العراق مدخل ... الفصل السابع: العراق: يقع العراق في جنوب غربي آسيا ويحتل القسم الشمالي الشرقي من الوطن العربي، وهو يبدو لأول وهلة شبيهًا بمصر من حيث ظروفه الطبيعية؛ إذ يعتمد سكانه في صميم حياتهم على نهري دجلة والفرات، كما يعتمد المصريون على نهر النيل، وقد استرعى التشابه بين الفرات وبين النيل أنظار قدماء المصريين؛ فأطلقوا عليه اسم النهر المنعكس, أي الذي يسير على غير ما ألفوه في النيل. ولا يقتصر الفرق بين مصر والعراق على اتجاه الأنهار فحسب؛ وإنما تبدو الاختلافات بينهما واضحة عند دراسة بقية الظروف الجغرافية في كل منهما؛ فبمقارنة ما عرفناه من طبيعة مصر1 بما نجده في العراق نجد أن هذا الأخير ينقسم إلى قسمين رئيسيين: أ- القسم الشمالي: وتغلب عليه الطبيعة الجبلية؛ إذ تكثر به المرتفعات وخاصة في قسمه الشمالي

_ 1 انظر أعلاه ص50-51.

خريطة رقم 5

الشرقي الذي تتخلله وديان نهر دجلة وفروعه, ويفصله عن الجهات التي تقع أبعد من ذلك شمالًا سلسلة جبال طوروس وهضبة أرمينيا. ب- القسم الجنوبي: وهو حديث التكوين من الناحية الجيولوجية؛ لأنه كان جزءًا من الخليج العربي ثم غمرته الرواسب التي جاء بها نهرا دجلة والفرات من المناطق الجبلية في الشمال1. ونظرًا لوقوع العراق في طريق الهجرات البشرية التي حدثت في أزمنة مختلفة من تاريخ الإنسان؛ فقد استقرت به عناصر سامية وغير سامية، وإن كانت العناصر السامية قد سادت فيه في معظم أدواره التاريخية؛ إلا أن العناصر غير السامية كانت تتوغل فيه أحيانًا, وخاصة من الشمال والجنوب الشرقي، وكان لهذه العوامل بالطبع أثرها في تاريخ العراق وحضارته.

_ 1 يرى البعض خلافًا لذلك أن هذا القسم من العراق كان مرتفعًا ثم انخفض فغمرت مياه البحر بعض أجزائه التي انخفضت عن مستواه؛ ولكن هذا الرأي ما زال لا يجد قبولًا لدى الكثيرين.

العصور قبل التاريخية

العصور قبل التاريخية: 1- العصر الحجري القديم: لم يعثر إلا على آثار ضئيلة جدًّا من حضارات العصر الحجري القديم، وهي تتمثل على الخصوص في هضبة كردستان؛ إذ وجدت آثار الحضارتين الشيلية والأشولية في بردابلكا "شرق جمجمال"، كما وجدت آثار الحضارة الموستيرية

في كهف شاندر وكهف هزارمرد، ومن المحتمل أن هيكل الطفل الذي عثر عليه في كهف شاندر من نوع إنسان نياندرثال، أما آثار أواخر العصر الحجري القديم؛ فقد وجدت في كهوف زرزي وبالي جورا وكريم شهر, وإن كان البعض يميل إلى تأريخ آثار كريم شهر بأول العصر الحجري الحديث.

العصر الحجري الحديث

العصر الحجري الحديث مدخل ... 2- العصر الحجري الحديث: تتمثل آثار هذا العصر في حضارات: جرمو في "لواء كركوك" وحسونة في "لواء الموصل" وسامراء في "لواء بغداد".

حضارة جرمو

حضارة جرمو: عثر في منطقة جرمو على حوالي 12 طبقة حضارية، وتتميز الآثار التي وجدت فيها بالطبقات التي تنتمي إلى العصر الحجري الحديث, بأن بقاياها المعمارية تمثل منازل بسيطة تتألف جدرانها من الطين وهي مقامة على أساس من الحجر، وقد عثر في هذه الطبقات على بعض التماثيل الصلصالية التي تمثل بعض الحيوانات وآلهة الأمومة، كذلك عثر فيها على مناجل فخارية وبقايا بعض الحبوب؛ مما يوحي بتوصل أهل هذه الحضارة للزراعة، كما وجدت لديهم بعض الأدوات والأواني الحجرية "شكل 28". وتدل بقايا الحيوانات التي عثر عليها على أنهم استأنسوا الأغنام والماعز والبقر والخنازير وأنواعًا صغيرة من الخيول, ومن المحتمل أن تكون حضارة جرمو حضارة قائمة بذاتها حيث يظن أن بينها وبين كريم شهر فجوة حضارية أخرى، وقد يرى البعض أن حضارة جرمو تعاصر حضارة الفيوم؛ ولكن نظرًا لأن الفيوم أصبح يشك في أنها معاصرة

شكل "29" أدوات وأوانٍ من حضارة جرمو

لحضارة نقادة الأولى1 التي تعد من عصر بداية استعمال المعادن؛ بينما ترجع حضارة جرمو إلى العصر الحجري الحديث؛ فإن من العسير الأخذ بهذا الرأي.

_ 1 انظر أعلاه ص69.

حضارة حسونة

حضارة حسونة: يبدو أن حياة الاستقرار بالمعنى الصحيح أخذت تثبت دعائمها ابتداء من عصر هذه الحضارة التي ترجع إلى الألف السادس قبل الميلاد تقريبًا. ومع أن أهلها كانوا يعيشون في بداية الأمر في بيوت من الشعر1؛ إلا أنهم اتخذوا بيوتًا بسيطة من الطين فيما بعد، وقد وصلوا إلى مرحلة لا بأس بها من التقدم والرقي؛ إذ تتميز حضارتهم بنوع من الفخار المزين بالنقوش والأصباغ "شكل 29", انتشر استعماله في المناطق الممتدة إلى البحر المتوسط. وتدل آثار حضارة حسونة على أن أهلها كانوا زراعًا وأنهم استأنسوا الأغنام والماعز، ولم يمكن التوصل حتى الآن إلى الجنس الذي كان مسئولًا عن هذه الحضارة رغم العثور على جثث أطفال دفنت في أوانٍ فخارية كبيرة.

_ 1 طه باقر "مقدمة في تأريخ الحضارات القديمة" ج1 "بغداد سنة 1955" ص60.

حضارة سامراء

حضارة سامراء: عثر في هذه الحضارة على أوانٍ فخارية مزينة بنقوش هندسية وحيوانات وأشخاص، وهي تؤرخ بأواخر الألف السادس قبل الميلاد، وتدل الآثار التي وجدت بها على وجود علاقات بينها وبين أرمينيا وبلاد العرب بدليل وجود بعض المصنوعات التي استُخْدِمت فيها موادُّ تنتمي أصلًا إلى هذه الجهات.

شكل "30" أوانٍ من حسونة

عصر بداية استخدام المعادن

عصر بداية استخدام المعادن: 1 حضارة حلف: يختلف المؤرخون في أصل هذه الحضارة التي تعد أول عهود ما قبل الأسرات في العراق، وقد وجدت آثارها في جهات مختلفة تمتد غربًا إلى منطقة العمق في سورية, كما وجدت شمالًا في الأريجية قرب الموصل. وتتميز هذه الحضارة بأوانٍ فخارية مصقولة رقيقة الجدران، كان الواحد

_ 1 أطلق على هذا العصر في العراق أيضًا اسم ما قبل الأسرات, شأنه في ذلك شأن مصر, انظر أعلاه ص71.

منها يلون بعدة ألوان زاهية جميلة "شكل رقم 30"، وتعد الزخارف التي زينت بها هذه الأواني من أحسن ما خلفه الإنسان القديم على الفخار، كما تتميز هذه الحضارة أيضًا ببدء استخدام النحاس وزيادة القرى عنها في العصر السابق. وتدل الآثار التي اكتشفت في الأريجية على أن القرية كانت شوارعها مبلطة بالحجارة, وأنها كانت محاطة بسور, ووجدت بها بعض المباني العامة والمعابد كانت بين آثارها تماثيل صغيرة تمثل آلهة الأمومة؛ مما يدل على تقدم الحياة الاجتماعية والدينية. وليس من الغريب أن تنسب هذه الحضارة إلى حلف التي تقع في الإقليم السوري وتخرج عن نطاق العراق؛ فقد وجدت آثارها في أماكن متفرقة من سورية مثل رأس شمرة "أوجاريت القديمة" إلى جانب وجودها في بعض الجهات في العراق. يوجد صورة يراد سحبها على الاسكانر شكل "31" إناء من الأريجية

هذا ويلاحظ أن كل الحضارات من أقدم العصور إلى عصر حضارة حلف ليست ممثلة في جنوب العراق؛ مما يرجح أن هذا الإقليم لم يكن صالحًا للسكنى حتى قيام هذه الحضارة.

حضارة العبيد

حضارة العبيد: يبدو أن الإقليم الجنوبي من العراق أخذ يصلح للسكنى ابتداء من عصر هذه الحضارة، وكان اختلاف ظروف البيئة في الجنوب والشمال خلال هذا العصر سببًا في وجود بعض الاختلافات في مظاهر الحضارة التي سادت في هذين القسمين، ويذكرنا ذلك بما حدث من تخصصإقليمي أثناء العصر الحجري الحديث في مصر, وهو يدعونا إلى التمييز بين حضارة العبيد الشمالية وحضارة العبيد الجنوبية. فحضارة العبيد الشمالية تتميز بالفخار الملون والتماثيل الطينية الصغيرة والأواني الحجرية والأدوات العظمية، كما عثر في إحدى المناطق التي تنتمي لهذه الحضارة "وهي تبة جورا" على مجموعة من المباني المهمة "معابد ومنازل" استخدم الآجر في بعض أبنيتها ولم يستعمل الحجر في ذلك إلا نادرًا، وقد عثر على مقابر للأطفال في طبقات المنطقة؛ بينما كان البالغون يدفنون في جبانات أخرى على السفح عند أسفل التل, وكانت المقابر أحيانًا تغطى بالحصير. أما حضارة العبيد الجنوبية فتعتبر أقدم حضارة ظهرت في هذا الجزء من العراق؛ حيث إن مخلفاتها تستقر على الأرض البكر، ومن أهم مواقعها تل أبو شهرين "أريدو" وأور وقلعة الحاج محمد "قرب الوركاء". ومن أهم ما يميزها الفخار الملون بلون يميل إلى الخضرة والحمرة أو اللون البني والرسوم التي تزينه ملونة بألوان مائية سوداء وهي تمثل أشكالًا هندسية "شكل 30"؛ مما يذكرنا بحضارة نقادة الأولى في مصر، وقد عثر كذلك على تماثيل طينية

وأدوات وأوانٍ حجرية وبعض المناجل التي على شكل الهلال. شكل "32" أوانٍ فخارية من أريدو "حضارات العبيد" هذا وقد عثر على آثار مجموعة من المعابد يتضح منها أن عمارة المباني ذات المداخل والمخارج التي على أبعاد منتظمة تأخذ في الظهور منذ هذا العصر، وهذا الطراز يبدو بصورة واضحة في مقابر عهد الأسرتين الأولى والثانية في مصر. ويبدو أن حضارة العبيد على العموم جاءت عن طريق إيران إلى جنوب العراق ومنه انتشرت في الشمال، ومنذ ذلك الحين أحرز جنوب العراق قصب السبق في ميدان الحضارة؛ فبينما توصل أهل الجنوب في حضارة الوركاء التالية إلى بداية الكتابة ظل أهل الشمال يجهلونها, وعندما بدأ هؤلاء يستخدمونها كان أهل الجنوب "سومر" قد دخلوا عصرهم التاريخي1.

_ 1 Georges Roux, Ancient Iraq. "Pelican A 828", p.81

حضارة الوركاء

حضارة الوركاء: تتمثل هذه الحضارة في بضعة مواقع لم يعثر فيها على مقابر إلا في موقعي أور وخفاجة شرق بغداد؛ حيث عثر على بضع مقابر صغيرة، وقد عثر في الوركاء على برج مدرج من اللبن عرف باسم الزاقورات1 على جانبي درجه معبد أو معبدان يعرفان باسم المعبد الأرضي أو السفلي, ويحيط بالزاقورة والمعبد الأرضي ساحة كبيرة بها حجر متعددة ويحيط بالجميع سور ضخم, كما وجدت بالمدينة معابد أخرى منها معبد إي – أنا "إلهة السماء التي عرفت فيما بعد باسم الإلهة عشتار" وهو يتوسط القسم الشرقي من المدينة, ومعبد جميل شيد لعبادة الإله آنو "إله السماء" في القسم الغربي من المدينة, وقد عرف باسم المعبد الأبيض لوجود طلاء في الجصعلى جدرانه. وتتميز هذه الحضارة بوجود أقدم أمثلة النحت في السطوح المستوية ونحت كتل الأجسام "نحت التماثيل أو النحت المستدير". هذا فضلًا عما عثر عليه من آثار تدل على تطور في الصناعة مثل: الأواني الحجرية والأختام الأسطوانية وأدوات الزينة, وتتمثل في هذه الحضارة كذلك أقدم محاولات الكتابة، وهي كتابة بدائية استعملت فيها الصورة لتدل على معانٍ وكانت تكتب بقلم معدني ذي طرف مدبب على لوحة من الطمي قبل أن تجف، وامتازت هذه الحضارة أيضًا بنوع من الفخار الأملس المصبوغ بالأحمر والبرتقالي, كما أن المباني كانت تزخرف بقطع صغيرة من الفخار أو الحجر الملون, وهذه القطع كانت مخروطية الشكل وتثبت في الجدران المبنية باللبن في صفوف بحيث تبدو كأنها فسيفساء "شكل 33".

_ 1 عن الزقورات انظر: Andre' , Parrot, "Ziggurats et Tour de Babel" Pars 1949

شكل "33" أعمدة مغطاة بالموزاييك المخروطي الشكل في أوروك "الوركاء"

حضارة جمدة نصر

حضارة جمدة نصر: آخر مرحلة سابقة للعصر التاريخي, وقد استطاع الإنسان فيها أن يصل إلى مرحلة متقدمة في الفن والكتابة؛ حيث نجد أمثلة متفوقة في العمارة ذات الفجوات التي على أبعاد منتظمة, وتطورت فيها صناعة الأواني الحجرية والفخارية وزخرفتها, كما أن الرموز التي استعملت للتعبير بالكتابة تعددت وبسطت حتى أصبح من الميسور أن يعبر بها عن أغراض أكثر من ذي قبل؛ على أن أهم موضوعات الكتابة التي عثر عليها في هذه المرحلة كانت تتصل بحسابات مختلفة منها ما يتعلق بالمعابد، وهذا يدل على مدى ارتباط النواحي الاقتصادية بتطور الكتابة, كما أنه يعتبر تمهيدًا للعصر التاريخي, ويمكن القول بأن التوصل للكتابة قد ساعد على تنظيم النواحي الاقتصادية بل والسياسية والاجتماعية كذلك، على أنه يجب ألا يغيب عن الذهن ما نلاحظه من اختلاف في ظروف البيئة بين مصر وبلاد النهرين؛ حيث إنها في الأولى قد ساعدت على توحيد كل من مصر

السفلى والعليا قبل ظهور الكتابة بزمن طويل, أي إن سهولة الاتصال بين الجماعات التي عاشت فيها قد مكنت من تعاونهم واتحادهم فانضموا تحت لواء هاتين الوحدتين الكبيرتين، أما في الحالة الثانية "بيئة بلاد النهرين"؛ فقد كانت صعوبة الاتصال نسبيًّا سببًا في تكوين عدد من المدن تحكم كلًّا منها حكومة معينة، ويرى البعض أن بلاد النهرين توصلت منذ نهاية عصر التمهيد للكتابة إلى إيجاد نوع من الحكم الديمقراطي؛ إذ فرضت ظروف البيئة "التي كانت عرضة للكثير من الفيضانات والأعاصير وإغارات الشعوب المجاورة" نوعًا من التنظيم الاجتماعي؛ وذلك لمواجهة خطر مشترك أو للرغبة في نفع مشترك؛ كالتحكم في مياه الأنهار واستغلالها وتحالف بعض المدن ضد القوى المعادية التي تهدد كيانها. وكان التوصل إلى بعض مظاهر الحضارة في كل من مصر والعراق: إحداهما قبل الأخرى؛ مما جعل الأثريين والمؤرخين يختلفون فيما بينهم على أي الدولتين كانت أسبق من الأخرى في ميدان الحضارة؛ ولكن لم يمكن حتى الآن إثبات أسبقية حضارة إحداهما بصفة مؤكدة، كما أنه لا يوجد من الأدلة القاطعة ما يكفي لإثبات أن الحضارة قد انتقلت من إحداهما إلى الأخرى, وخاصة في تلك المرحلة السحيقة في القدم.

العصر التاريخى

العصر التاريخى مدخل ... العصر التاريخي: زار هيرودوت بابل في منتصف القرن الرابع قبل الميلاد؛ ولكنه أهمل زيارة نينوى؛ لأنها كانت قد دمرت قبل ذلك بقرن ونصف تقريبًا, كما تحدث عن بابل كذلك إسترابو الذي وصفها كمدينة مخربة كادت أن تكون مهجورة، وبمرور الزمن طمرها الرديم بعد ذلك بنحو 1000 سنة, ولم يعد العالم يذكر عن ماضي العراق إلا قدرًا ضئيلًا كان يذكره المؤرخون والجغرافيون العرب.

ولم يهتم الغربي بعاديات وحضارة بلاد النهرين القديمة بصفة عامة إلا في القرن السابع عشر على أثر عودة النبيل الإيطالي بيترو ديللافال "Pietro della Valle" سنة 1625 من رحلته إليها, وإحضاره أحجارًا منها منقوشة برموز غير معروفة. وفي سنة أرسل ملك الدانمارك بعثته العلمية الشهيرة إلى الشرق1 لجمع كل ما يمكن من معلومات عن الشرق في كافة فروع المعرفة، وقد تمكن رئيسها كارستن نيبور من نسخ نقوش جديدة من برسبوليس أثارت اهتمام علماء اللغات؛ فبذلوا جهودهم في محاولة تفسيرها، ومنذ ذلك الحين أخد كل من ذهب إلى الشرق يحاول البحث والتنقيب في أطلاله ويجمع ما يمكن الحصول عليه من عادياته وينسخ ما يمكنه نسخه من النقوش من الآثار الثابتة التي يراها، ومن أشهر هؤلاء: القس الفرنسي جوزيف دي بوشام "Joseph de Beaichamp" سنة 1786, والقنصل البريطاني في بغداد جيمس ريتش "James Rich" سنة 1807, والسير هنري كريزوك رولنسون "Sir Henry Creswick Rawlinson" "سنة 1835 وما بعدها" وبول إميل بوتا "Boul Emile Botta" القنصل الفرنسي في الموصل سنة 1843, والسير هنري لارياد "Sir Henry Layard" وغيرهم. ومن مطلع القرن الحالي أخذت بعثات أجنبية من مختلف الجنسيات تنقب في أنحاء مختلفة من العراق. وكما كان حجر رشيد مكتوبًا بثلاث لغات مختلفة؛ مما ساعد على تفسير رموز الكتابة المصرية, وجدت نقوش في إيران كتبت بثلاث لغات مختلفة أيضًا؛ ولكنها تختلف عن حالة حجر رشيد في أن لغات هذه النقوش كانت كلها غير معروفة, ومن أهمها نقش بهستون2 ونقوش برسبوليس "إصطخر" إلى الشمال الشرقي

_ 1 انظر أعلاه ص244-245. 2 عبارة عن نصواحد نقشه دارا الأول بثلاث لغات مختلفة هي: الفارسية القديمة والعيلامية المتأخرة والبابلية, على صخرة بهستون بالقرب من كرمنشاه.

من شيراز. وبالرغم من عدم معرفة أي من هذه اللغات؛ فقد استطاع جورج فردريك جروتفند "Georg Friedrich Grotefend" أن يستنتج في سنة 1802 من نقشين في برسبوليس قراءة أسماء ثلاثة ملوك, وأن يعرف القيمة الصوتية لثلاثة عشر رمزًا من الفارسية القديمة1, كما استطاع العالم الفرنسي بوجين برنوف "Eugene Burnouf" والعالم الألماني كريستيان لاسين "Christian Lassen" أن يحددا سنة 1836 القيمة الصوتية لعلامات الكتابة الفارسية القديمة؛ غير أن معرفة المعاني ظلت محدودة؛ لقلة النقوش التي كانت معروفة في ذلك الوقت. وكان لاكتشاف رولنسون نقش بهستون الطويل أبلغ الأثر في حل رموز الكتابة المسمارية بصفة عامة, وقد بدأ نسخه سنة 1835 ثم نشره مترجمًا ابتداء من سنة 1846 2, وأصبح في الإمكان تفسير النقش المدون بالفارسية القديمة, وقد ساعد ذلك على التوصل لحل رموز النقشين العيلامي والبابلي؛ وبالتالي أمكن التوصل لقراءة النصوص المسمارية وتفسيرها. وقد استطاع جروتفند أن يلقي بعض الضوء على العيلامية, واكتشف أن الأسماء المذكرة يوضع لها مخصص قبل الاسم وليس بعده كما في المصرية، وبمقارنة النقش العيلامي بالنقش البابلي اتضح له أن العيلامي حوى 111 رمزًا؛ بينما كان عدد رموز البابلي هائلًا؛ مما أدى إلى استنتاج أن العيلامية كتابتها مقطعية, أي ليست بها هجائية ولا رموز معانٍ. وحينما انكب إدوين نورس "Ednwin Norris" الذي كان سكرتيرًا لجمعية الدراسات الآسيوية الملكية بلندن ابتداء من سنة 1938 على حل رموز العيلامية, بدأ كالمعتاد بالتعرف على الأسماء فتوصل إلى 40 اسمًا سنة 1853 زادت

_ 1 انظر فيما بعد ص400. 2 انظر فيما بعد ص401.

بعد ذلك إلى 90 اسمًا، كما أنه اكتشف أن رولنسون عند نشره لنقش بهستون سها عن أحد الأسطر, ولما راجعه في ذلك رجع هذا إلى نسخته الأصلية وثبتت صحة ما أخبره به نورس، وهكذا كان نقش بهستون خير معين للعلماء في تحديد معظم رموز المقاطع ومعاني الكلمات وقواعد اللغة العيلامية. أما عن البابلية؛ فقد وجد علماء أوروبا أن النقش المدون بالبابلية في بهستون يشبه الكتابة المدونة على الآثار العراقية التي وصلت أوروبا، ومن الذين أسهموا في حل رموز البابلية لوفن إسترن "Lowen Stern" السويدي؛ إذ توصل إلى معرفة بعض الرموز وبعض معاني الكلمات من مقارنة النص البابلي بالنص الفارسي القديم في ذلك النقش. وفي سنة 1850 قدم رولنسون بحثًا لجمعية الدراسات الآسيوية الملكية, بحثًا أوضح فيه توصله إلى رموز 80 اسمًا والقيمة الصوتية لنحو 150 رمزًا و500 كلمة بابلية, وفي نفس السنة أعلن هينكس "Hincks" الأيرلندي أن البابلية ليست هجائية بل تتألف من رموز, ويمثل كل منها مقطعًا أو كلمة ذات معنى أو مخصص أي أن الرمز كانت له قيم مختلفة, كما تعرف على عدد كبير من المخصصات؛ كذلك توصل بوتا عند تنقيبه عن قصر سرجون الثاني من مقارنة النقوش التي عثر عليها بأن الكلمة الواحدة قد تكتب برمز واحد "معنوي" أو برموز مقطعية، وفي سنة 1851 نشر رولنسون النصالبابلي في نقش بهستون، وأعلن أن الرمز المقطعي قد تكون له قيم مختلفة النطق, وأورد أكثر من 200 رمز كأمثلة لذلك، وكانت النهاية المؤيدة لكل ذلك العثور في نينوى على قوائم بكلمات سومرية "رموزها معنوية" وما يقابلها بالكتابة الأشورية البابلية؛ ونظرًا لما أثير من شك حول صحة قراءات وتفسير البابلية أرادت جمعية الدراسات الآسيوية الملكية التحقق من صحة ما توصل إليه علماء الأشوريات الأربعة البارزون في ذلك الوقت "وهم رولنسون, وتالبوت الذي كان يعمل بالمتحف البريطاني, وأوبرت "Oppert"

الذي كان أستاذًا للأشوريات في "College de france"؛ فأرسلت إلى كل منهم نسخة من نص مسماري لم يكن أحدهم يعرف عنه شيئا؛ لأنه كان حديث الاكتشاف وهو على ثلاثة أختام صلصالية من عهد تيجلات بلاسر الأول وطلبت إليهم أن يرسل كل منهم ترجمته على حدة للجمعية التي شكلت هيئة للتحكيم؛ فجاءت ترجماتهم متطابقة إلا من اختلافات تافهة، وعلى ذلك أصدرت لجنة التحكيم قرارها بأن النصوص المسمارية البابلية الأشورية أمكن تفسيرها, وأصبح في الإمكان قراءتها وفهمها. ومن معالجة مختلف النصوص التي عثر عليها في بلاد النهرين يتبين لنا أن عصرها التاريخي "على خلاف تاريخ العصر التاريخي في مصر" أبعد من أن يمثل تاريخ وحدة سياسية؛ لأنه لم يبدأ في جميع أرجائها في وقت واحد؛ نظرًا لاختلاف ظروف البيئة في أقسامها المختلفة ولاختلاف الأقوام التي عاشت فيها، ولذا ينقسم هذا العصر إلى أقسام يتميز كل منها بتغيرات سياسية مهمة تصاحبها أحيانًا تغيرات اجتماعية واقتصادية وثقافية. وأول هذه الأقسام هو الذي يطلق عليه اسم العصر قبل السرجوني1 أو عصر فجر السلالات؛ إذ إنه يشمل جزءًا من الألف الثالث وينتهي بغزو الملك السامي سرجون الأول ملك أكد لبلاد سومر حوالي سنة 2400 ق. م. وقد سبق أن أشرنا إلى أن القسم الجنوبي من بلاد النهرين بدأ عصره التاريخي قبل قسمها الشمالي2، ولما كان ذلك القسم قد عرف باسم سومر3؛ فإن من الممكن القول بأن السومريين هم الذين بدءوا العصر التاريخي في بلاد النهرين.

_ 1 نسبة إلى سرجون الأول ملك أكد, وهو سادس ملوك الأسرة السامية "الأمورية" التي تأسست في وسط العراق. 2 انظر أعلاه ص338-339. 3 طه باقر "مقدمة في تأريخ الحضارات القديمة" جزء "1" "بغداد 1955" ص89 وما بعدها.

السومريون

السومريون مدخل ... 1- السومريون: اختلف المؤرخون في أصل هؤلاء السومريين؛ إذ لم يمكن إرجاع لغتهم إلى عائلة اللغات السامية أو إلى عائلة اللغات الهندو أوروبية؛ ولذا فإن فريقًا من الباحثين يرى أنهم جاءوا أصلًًا من مكان في شرق بلاد النهرين أو جنوبها الشرقي، ويرى فريق آخر أنهم جاءوا عن طريق البحر وأنهم من نفس الجنس الذي وصل إلى مصر في عصر ما قبل الأسرات؛ بينما يرى فريق ثالث أنهم نشئوا نشأة محلية وتطورت حضارتهم محليًّا أي: إنهم لم يكونوا من الأجانب. وإذا ما تتبعنا الأساطير السومرية وجدنا أن السومريين اعتقدوا أن الآلهة خلقت البشر ليقوموا على خدمتهم, وأن الإنسان في حاجة إلى من يرعاه من الحكام الذين يختارهم الآلهة لتدعيم قوانينها المقدسة؛ "ففي عصر سحيق أنزل التاج وعرش الملكية من السماء", ومنذ ذلك الوقت سيطرت سلسلة من الحكام على مصائر أهل سومر نيابة عن الآلهة وهم يعملون لصالحها في نفس الوقت؛ فالملوك على هذا النحو كانوا يتمتعون بالقدسية منذ أقدم العصور وإن كان بعض الباحثين يعتقد بأن نظام الحكم في سومر كان يمثل ديمقراطية بدائية؛ حيث كانت طائفة من المدنيين تختار -عند الأزمات- زعيمًا للمحاربين "لوجال" لتولي شئون الدولة, ويستدلون على ذلك بما يتمثل في أسطورة الخلق؛ حيث تشير إلى أن الآلهة اختارت "مردوخ" كي يقضي على "تياما"1، ورغم أن تاريخ السومريين غير واضح في معظمه؛ إلا أن ما وصلنا من نصوص تاريخية وما أسفرت عنه البحوث الأثرية تدل على أنهم كانوا في عصر فجر السلالات يعيشون في عدد من المدن المستقلة تحاول كل منها فرض سيادتها على المدن

_ 1 "مردوخ" هو أبو الآلهة عند البابليين ويمثله لدى السومريين "إنليل" إله الجو والهواء, أما "تياما" أو "تيامات" فهي إلهة الماء الملح وكانت تريد إهلاك أبنائها.

الأخرى ولكن لا يوجد من النصوص التاريخية ما يدل دلالة قاطعة على أن دويلات المدن كانت تحكمها هيئات جماعية؛ بل ولا نجد في تاريخ هذه المدن إلا حكامًا أو ملوكًا كانوا يتلون الآلهة في المرتبة. وقد وصلتنا بضع وثائق تحتوي على أسماء الملوك الذين حكموا في هذه المدن ومدة حكمهم، وقد وردت السلالات الحاكمة في المدن المختلفة متتالية الواحدة بعد الأخرى رغم أن بعضها على الأقل كان يعاصر البعض الآخر، وقد اتفقت هذه الوثائق في الإشارة إلى حدوث فيضان كبير أو طوفان "أهلك الحرث والنسل" يحاول كثير من الباحثين الربط بينه وبين الطوفان المشار إليه في الكتب السماوية, كذلك تفصل هذه الوثائق بين الملوك الذين حكموا قبل الطوفان وأولئك الذين حكموا من بعده، وقد أمكن التوصل إلى قائمة بملوك سومر جمعت من 15 وثيقة مختلفة من تلك الوثائق1, وهي تمدنا بهيكل تاريخي لسومر منذ أقدم العصور إلى القرن "18 ق. م." وقت كتابة هذه الوثائق. وهذه القائمة تشير إلى الأبطال الذين عاشوا في العصر الأسطوري لسومر؛ فتذكر أن الملكية هبطت من السماء إلى مدينة أريدو أولًا؛ حيث حكم فيها ملكان لمدة لا تقل عن 64.800 سنة، وانتقلت بعد ذلك إلى بادتبيرا "تل المداين قرب تللو"؛ حيث حكم ثلاثة ملوك منهم الإله تموز "إله النبات" لمدة 108.000 سنة, ومنها إلى لارك "قرب كوت العمارة"؛ حيث حكم ملك واحد لمدة 28.800 سنة, ثم إلى سيبار "أبو حبة"؛ حيث حكم ملك واحد لمدة 21.000 سنة, ثم إلى شوروباك "تل فرا" حيث حكم ملك واحد لمدة 18.600 سنة, وبعدئذٍ جاء الفيضان. وبعد زوال الفيضان هبطت الملكية ثانية من السماء إلى كيش "شرق بابل"؛ حيث تكونت فيها السلالة الأولى من 22 ملكًا, حكموا بمعدل 1000 سنة

_ 1 Th. Jacobsen, The Sumerian King List. 1999.

للواحد منهم، ومن الملاحظ أن من بين هؤلاء الملوك 12 ملكًا أسماؤهم سامية، 6 أسماؤهم سومرية, ويرى بعض المؤرخين أن ما ورد عن هذه الأسرة ليس بأكمله أسطوريًّا بل بعضه تاريخي، كذلك تذكر هذه القائمة أن آخر ملوك كيش "أجا" هُزِمَ على يد أول ملوك أسرة الوركاء؛ ولكن مصادر أخرى تدلنا على أن الأسرتين كانتا متعاصرتين فترة طويلة, وأن "أجا" المشار إليه كان يعاصر خامس ملوك الوركاء "جلجامش" الذي قضى على مملكة كيش، كذلك يستدل من هذه المصادر على أن الوركاء كانت على علاقة مع آراتا "التي يحتمل أنها كانت غرب إيران أو في عيلام" وأن جماعات مارتو "الأموريين" في سورية حاصروها واستولوا على الحكم في بلاد النهرين. ومن العسير التوصل إلى بداية العصر التاريخي؛ نظرًا لأن قائمة ملوك سومر تذكر أرقامًا خيالية لمدة حكم الملوك؛ فلا نعرف منها متى انتهى العصر الأسطوري ومتى بدأ العصر التاريخي، ومما يزيد الأمر صعوبة أن بعض البحوث الأثرية أسفرت عن الكشف عن أسماء عدد من الملوك الذين حكموا في مدينة لجش ولم يذكروا في القائمة, وقد أمكن وضع مجمل تاريخي لهذه المدينة في الألف الثالث ق. م. إلى سنة 2000 ق. م. تقريبًا ولكن ربما كان ذلك؛ لأنهم لم يحكموا سومر كلها، ومهما كان الأمر فإن العثور على نصوص تاريخية لملوك من الذين ذكروا في قائمة ملوك سومر يدل دلالة قاطعة على أن هؤلاء الملوك عاشوا بالفعل, وأن أقدم النصوص يرجع على أسبق الملوك في ترتيبه الزمني. ففي المتحف العراقي قطعة من المرمر مجهولة المصدر, كتب عليها "مي - براج - سي" ملك كيش, وأمكن إثبات أن هذا الملك هو "إن - مي - براج - سي"1

_ 1 لفظ "إن" يدل على أداة يمكن حذفها, انظر: G. Roux., op. cit., p. 119.

الملك الثاني والعشرون من أسرة كيش الأولى الذي كان يعتبر أسطوريًّا, وهو والد "أجا" الذي حارب ضد "جلجامش" خامس ملوك الوركاء، كما أن قطعة رخامية أخرى عثر عليها في أور كتب عليها أن الملك "إي - أني - بدا" بن "مس - أني - بدا" بنى معبدًا للإلهة "نن – هورساج" "وهي الإلهة الأم وتقابل إبنانا التي عرفت باسم عشتار لدى الساميين"، ولم يكن "إي - أني - بدا" معروفا؛ ولكن والده يعد في قائمة ملوك سومر مؤسس الأسرة الأولى في أور التي تلت أسرة الوركاء الأولى في هذه القائمة، وقد أمكن إثبات أن هذا الملك الأخير كان يعاصر جلجامش، ومن كل ذلك نستنتج أن أقدم حاكم سومري معروف لنا هو "إن - مي - براج - سي" وإذا ما اعتبرنا أن سرجون الأكدي عاش في الفترة 2371-2316 ق. م. فإن من الممكن تقدير تاريخ حكم "إن - مي - براج - سي" بحوالي سنة 2700 ق. م. كما يمكن اعتبار ذلك التاريخ بداية للعصر التاريخي في بلاد النهرين1. ومع أن أحد الكهنة البابليين ويدعى برعوشو "Berossus" وكان يعيش في عهد أنتبوخوس الأول "سوتير 280-261 ق. م." وضع تاريخًا لبابل في ثلاثة أجزاء؛ فإن ما وصلنا من تاريخه عن طريق مؤرخي اليونان لا يعدو جزءًا ضئيلًا لا يلقي كثيرًا من الضوء عن تاريخ هؤلاء السومريين، كذلك لا تذكر النصوص الأدبية التي ترجع إلى عصر فجر الأسرات إلا 13 مدينة هي من الشمال إلى الجنوب: سيبار، كيش، أكشاك, لاراك، آداب، أوما، لجش، بادتيبرا، أورك، لارسا، أور، أريدو بينما أسفرت البحوث الأثرية عن وجود مدن

_ 1 G. Roux, op. cit., pp. 119-120.

مهمة أخرى في أجزاء بعيدة من بلاد النهرين كانت تحت تأثير سومري قوي, ومن هذه أشور "قلعة شرقاط" على نهر دجلة وماري "تل الحريري" على نهر الفرات، ومع أن هذه الأسماء المدونة في نقوشهما المحلية تدل على أنهما في قلب منطقة سامية إلا أن الآثار التي عثر عليها كانت سومرية الطابع, وقد وجدت آثار شبيهة بها كذلك في أشنونا "تل أسمر" في وادي ديالة. وقد عثر في بعض مقابر الجبانة الملكية في أور على ما يثبت دفن الضحايا البشرية مع المتوفى، والظاهر أن ذلك يرجع إلى الاعتقاد بأن هؤلاء المتوفين كانوا من الآلهة سواء في ذلك الملك أو الملكة؛ فلم يكن هناك من فاصل بين الملك ورئاسة الكهنة، ثم أخذت هذه العادة في الاختفاء بعد أن تم الفصل بين العرش والمعبد، كما يستدل على ذلك من أن "أينتمينا" حاكم لجش "2500 ق. م." لم يكن كاهنها الأعظم؛ إذ إن آنية فضية عثر عليها دونت عليها عبارة تفيد أن "دودو" كان كاهن "ننجرسو" إله لجش، ويبدو أن النزاع قد اشتد بعد ذلك بنحو مائة عام بين الملك والكهنة؛ حيث ظهر ذلك في عهد أوركاجينا آخر ملوك لجش، ولم يستمر هذا النزاع طويلًا؛ لأن لجش وسومر كلها خضعت لغير السومريين بعد ذلك.

عصر فجرات الأسرات

عصر فجرات الأسرات ... عصر فجر الأسرات: مما سبق يتبين لنا أن عددًا من الحكام المحليين كانوا متعاصرين، وأن أسرة كيش الأولى كانت صاحبة السيادة؛ إذ تشير قائمة الملوك السومرية إلى أن الملكية هبطت إليها بعد الفيضان, وعلى ذلك أصبح لقب "ملك كيش" يعادل على الأرجح لقب "ملك سومر" وقد أشرنا إلى أن ملكها "إن - مي - براج - سي" حكم حوالي سنة 2700 ق. م.، وتدل الشواهد الأثرية على أنه بنى معبدًا

للإله إنليل في نيبور؛ مما جعلها تعتبر عاصمة سومر الدينية وأصبح ملوك وحكام مختلف المدن يتبارون في إرسال الهدايا لمعبدها، ونتيجة لهذا أصبح من الضروري أن يتم اختيار الحكام بواسطة الإله إنليل في نيبور إذا ما أرادوا أن يعترف بهم الأمراء الآخرون كسلاطينهم, وأصبح امتلاك نيبور لا مناصمنه للسيادة على سومر، وأصحاب نظرية الديمقراطية البدائية يميلون إلى أن السومريين في عصر الأسرات الباكر كانوا يرسلون إلى نيبور "عندما يهدد سومر غزو أجنبي" مندوبين من كل دويلات المدن لاختيار قائد عام للحرب؛ فاختيار إنليل لمن يصبح صاحب السلطان المطلق في البلاد هو المظهر الباقي لهذا الإجراء القديم؛ ولكن وجود مثل هذا التعصب لنيبور أمر افتراضي بحت, وربما كان للعوامل الاقتصادية أثرها كذلك؛ حيث كانت كيش ونيبور تقعان فيما بين دجلة والفرات وتتحكمان في طريق البرونز الذي يصل من الأناضول وأرمينيا وأذربيجان إلى جنوب العراق، وربما لم تصبح نيبور عاصمة سياسية اكتفاء بمركزها الديني مثل هليوبوليس في مصر. وتشير الأساطير السومرية والبابلية إلى جلجامش وتصف أعماله الخارقة وحكمته البالغة وأسفاره البعيدة جريًا وراء الخلود, وإلى أنه بنى أسوار الوركاء ومعبدها المقدس, كما أنها تذكر ما حدث في عهده من طوفان عظيم يحاول الباحثون توحيده بطوفان نوح في الكتب السماوية، وقد سبق أن ذكرنا أنه هو الذي قضى على مملكة كيش1. ومن المرجح أن أسرة أور الأولى خلفت أسرة كيش في السيادة؛ لأن مؤسسها

_ 1 انظر أعلاه ص348.

"مس - أني - بدا" ذكر على ختم عثر عليه في أور باعتباره "ملك كيش"، كما أن ولديه من بعده امتلكا نيبور لأنهما قاما بترميم معبدها، ومن الآثار التي عثر عليها في جبانة أور نتبين مقدار ثراء هذه المدينة وعظمة أسرتها الحاكمة؛ حيث عثر على بعض مقابرها الغنية التي حوت كثيرًا من الأثاث الثمين والتحف النادرة, ومن أهم هذه المقابر مقبرة "بو - آبي" التي كانت تعرف فيما سبق باسم "شب - عاد"1 التي حوت بالإضافة إلى حلي هذه السيدة كأسًا ذهبية وغطاء للرأس في حالة جيدة وقيثارة ذهبية تعد من آيات الفن القديم، وقد دفن مع صاحبة المقبرة عدد من الأتباع أحياء. ومن بين الآثار التي عثر عليها في إحدى مقابر أور لوحة خشبية مطعمة بالصدف, نقوشها تمثل الحاكم "أو الملك" وهو يستعرض عددًا من الجنود والأسرى، وفضلًا عن ذلك فإن آثار هذه المدينة تؤيد ما ذهبنا إليه من أنها كانت تنعم بالرخاء والرفاهية؛ إلا أن هذه الحال فيما يبدو لم تدم طويلًا؛ فبعد نحو قرن فقدت أهميتها؛ لأن القبائل العيلامية التي كانت تسكن الجبال الشرقية من بلاد النهرين كانت تغير عليها إلى أن تمكنت أسرتا أوان وحمازى الأجنبيتان "وهما من عيلام" أن تفرضا سلطانهما عليها وعلى جزء من سومر على الأقل، ولم يكن هذا هو أول دور في سلسلة الحروب الطويلة بين بلاد النهرين وعيلام التي استمرت منذ ذلك التاريخ لمدة ألفي سنة. ومن أهم مدن عصر فجر السلالات مدينة لجش، وليس هذا لأن آثارها أمدتنا بنصوص تاريخية أكثر من أي مدينة أخرى فقط؛ بل لأن أحد حكامها سيلعب دورًا مهمًّا أيضًا في بلاد سادتها الفوضى بعد الغزو الأجنبي؛ إذ إن "إياناتم" "حوالي 2550 ق. م." كان مثل جده "أورتانشة" حاكم لجش بنَّاءً عظيمًا للمعابد وشق القنوات، وقد جعلته الظروف أيضًا محاربًا عظيمًا فخلص السومريين من قبضة العيلاميين

_ 1 G. Roux, op. cit., p. 127.

وأمَّن الحدود الشرقية بإخضاع عدة مدن عيلامية على الحدود إن لم يكن كلها كما ادعى، وقهر أور وأورك "وأضاف مملكة كيش إلى إمارة لجش" ولكن الحرب التي جاءتنا عنها معلومات مهمة هي الحرب المحلية ضد أوما على بعد 18 ميلًا شمال غربي لجش؛ حيث كان التنافس بينهما على أشده من أجل منطقة زراعية تدعى "جو إيدين" تقع على الحدود بين المدينتين وكل منهما كانت تدعي ملكيتها، فقبل "إياناتم" بعدة أجيال توسط ملك في كيش يدعى "ميسيلم"1 بين الدولتين ووضع لوحة له كحدود فاصلة بينهما وانتهى القتال بمعاهدة سلمية, وثبت ملك لجش حدوده مع "إينا كالي" أمير أوما وأعاد لوحة ميسيلم إلى مكانها وفرض ضريبة ضخمة من الشعير على أوما. وقد بين إياناتم انتصاره على أوما في لوحة تعرف باسم لوحة النسور, وفي نهاية عهده حارب ضد ائتلاف من رجال كيش وماري يقوده "زوزو" "أو أنزو" ملك أكشاك2, ومع أنه أعلن انتصاره؛ إلا أنه لا شك في أن هذه الحرب قد تسببت في إنهاء إمبراطوريته الصغيرة التي كونها. والقرن الذي تلا إياناتم كان مضطربًا، ويبدو أن "إن - شاكوش - أنا" ملك أورك و"لوجال أنا موندا" ملك أداب "بسمايا الحالية على بعد 16 ميلًا شمال تل فرا" احتلا على التوالي كيش ونيبور واعترف بهما ملكينِ على سومر؛ ولكن ملوك ماري كانوا يتحدون سيادتهما، وتذكر قائمة ملوك سومر أن ستة من ملوك ماري حكموا في سومر لمدة 136 سنة وهذا الرقم مبالغ فيه، كما أن حكم ملوك من هذه المدينة التي تبعد كثيرًا في الشمال الغربي لمنطقة جنوب العراق يدل على أن الفوضى سادت هذه المنطقة في ذلك العهد، وفي لجش اندلعت

_ 1 ويحتمل توحيده مع "مس - أني - بدا" حاكم أور. 2 لم تحدد بالدقة بعد, ويحتمل أنها تل عمر "سلوقيا" أمام طيسفون.

الحرب ثانية بين "أنتمينا" ابن أخي "إياناتم" وبين أوما التي كان ملكها يعاونه "ملوك أجانب" يحتمل أنهم ملوك ماري، وعلى ختمين أسطوانيين يوجد نصطويل يشير فيه "أنتمينا" إلى ما حدث في الماضي من أنه قضى على قوات أوما وقاوم حاكمها "مخرب الحقول والزراعات، الناطق بالسوء" وحفر خندقًا كحدود دائمة بين المدينتين المنافستين، كذلك نعلم من مصادر أخرى أن "أنتمينا" أبرم معاهدة سلمية مع جاره القوي "لوجال- كينيش- دودو" ملك أورك الذي وحد أورك وأور في مملكة واحدة, وانتهى حكمه في سلام ورفاهية؛ ولكن بعد سنوات قلائل تدهور الموقف ثانية في لجش واستولى كهنة "ننجرسو"1 على الحكم نحو عشرين عامًا وزادوا في ممتلكاتهم على حساب الآلهة, وبعد ذلك أطاح بهم "أوروكاجينا"2 الذي عرف بإصلاحاته الاجتماعية؛ ولكنه لم يحكم سوى 8 سنوات, ثم استطاع "لوجال زاجيزي" حاكم أوما أن يستولي على لجش وأن يدمرها وبعدئذ استولى على أورك ونصب نفسه ملكًا عليها ثم تقدم لغزو بقية سومر, ونجح على ما يبدو في ذلك حيث دون على إناء مذري لإنليل عثر عليه في نيبور, أن غزواته شملت كل بلاد النهرين وسورية. ومن العسير الاعتقاد بأنه امتلك هذه الإمبراطورية، ويحتمل أن ملك الوركاء تمكن من الحصول على اعتراف الساميين في ماري بخضوعهم له أو الاتحاد معه وكان هؤلاء بدورهم لهم نفوذ على الساميين في سورية. وعلى أي حال لم تستمر إمبراطورية لوجال زاجيزي أكثر من حكمه الذي استمر 25 سنة؛ حيث قضى عليه وعلى إمبراطوريته الأمير السامي سرجون ملك أكاد.

_ 1 معبود مدينة لجش. 2 يعد أول مشرع في تاريخ البشر, وعن تشريعاته أخذ حمورابي قانونه.

الساميون

الساميون مدخل ... 2- الساميون: في عصر الأسرات الباكر تنافس حكام سومر على السيادة على نحو 12 مدينة وبضعة أميال مربعة من الأرض القابلة للزراعة, التي يحدها البحر جنوبًا وتنتهي عند كيش شمالًا, وكانت كل من ماري وأشور أجنبية بالنسبة لهم مثل عيلام؛ ولكن بعد سنة 1400 ق. م. بقليل تمكن الأمراء الساميون في وسط العراق من تغيير مجريات الأحداث؛ فلم يكتفِ سرجون وخلفاؤه بإخضاع دويلات المدن السومرية لسلطانهم؛ بل غزوا كل حوض دجلة - الفرات وأجزاء أخرى من البلاد المجاورة, كما أرسلوا بعثات في الخليج العربي وكونوا أول إمبراطورية عظيمة لبلاد النهرين. وقد استمرت هذه الإمبراطورية نحو قرنين ثم قضت عليها قبائل جبال زاجروس والثورات الداخلية, ولكنها ضربت مثلًا لا يُمْحَى عن إمكان وحدة بلاد النهرين ووصولها إلى حدودها الطبيعية التي أصبحت حلم كل الملوك بعد ذلك؛ فمن منتصف الألف الثالث ق. م. إلى سقوط بابل سنة 539 ق. م. يتمثل تاريخ العراق في محاولات هؤلاء الملوك لتحقيق هذا الغرض ومدى نجاحهم وفشلهم فيه. ويختلف المؤرخون بشأن نشأة المملكة الأكدية؛ فمنهم من يرى أن وجود العنصر السامي في جنوب ووسط العراق يرجع إلى غزوة سامية حدثت في أوائل القرن الثامن والعشرين قبل الميلاد وكانت مدينة كيش أهم مسرح لها، وما إن استقر الأمر لهؤلاء الساميين حتى عملوا على توسيع رقعة سلطانهم ونجحوا في ذلك حتى استطاعوا أن يغيروا مجرى التاريخ في العراق القديم، ومن المؤرخين من يرى أن الساميين كانوا بالعراق منذ أقدم العصور وقد عاشوا جنبًا إلى جنب مع السومريين بدليل وجود أسماء سامية لملوك سلالة كيش الأولى؛ ولكنهم كانوا دون شك يكونون غالبية السكان في شمال العراق. ومهما كان الأمر فإن هذا العنصر السامي قد نجح إلى أبعد الحدود وتركز نشاطه في المنطقة الوسطى من بلاد النهرين, وقد عرفت هذه المنطقة باسم أكد؛ ولذا يطلق على الدولة التي أسسها سرجون فيها اسم الدولة الأكدية.

سرجون الأول

سرجون الأول: يرجع بعض المؤرخين حكمه إلى الفترة ما بين 2371-2316 ق. م؛ بينما يرى البعض الآخر أنه أنشأ مملكة موحدة حوالي سنة 2350 ق. م؛ ولكنهم جميعًا يتفقون في أنه حكم نحوًا من 55 عامًا على أي حال، ونظرًا لنجاحه الساحق فقد حِيكت حول نشأته الأساطير وخاصة لأنه لم يكن في طفولته شخصية معروفة، ومن المحتمل أنه كان من غلمان قصر ملك كيش ثم تدرج في سلك الوظائف حتى أصبح ساقيًا للملك "أور - زبابا" "ثالث ملوك أسرة كيش الرابع". وبفضل ذكائه استطاع أن يصل إلى مركز سامٍ جعله يستحوذ على السلطة, وما لبث أن قضى على سيده وأعلن نفسه ملكًا على كيش، ثم بدأ في الكفاح ضد لوجال زاجيزي ملك أوما الذي سبقت الإشارة إليه1 وتمكن من الانتصار عليه ثم شيد مدينة أكد وأخذ في تدعيم ملكه حتى أنشأ الإمبراطورية السامية الأولى؛ إذ إنه بعد أن نجح في ثورته على سيده وانتصاره على لوجال زاجيزي اتجه نحو الشمال واستولى على مدينة ماري "تل الحريري" ومنها اتجه نحو الشمال الشرقي إلى هضبة كركوك وأربيل, وبعد ذلك عاد إلى جنوب العراق حيث نشر نفوذه على مدينة أور السومرية, واستطاع أن يوحد العراق لأول مرة توحيدًا ظل مستمرًّا فترة طويلة نسبيًّا، وبعد أن وطد نفوذه في الداخل استولى على منطقة عيلام الواقعة في جنوب غرب إيران "أي: جنوب شرق العراق"

_ 1 انظر ص354.

وكانت عاصمتها سوسة، وتذكر وثيقة من تل العمارنة "وهي مكتوبة في عصر متأخر عن عصر سرجون" أنه عبر جبال طوروس إلى بلاد الأناضول وسيطر على جزء كبير منها، ويؤكد ذلك ما ورد في بعض الوثائق التي عثر عليها في أطلال بوغاز كوي, كما يحتمل أنه وصل إلى جزيرة قبرص. وهكذا نجد أنه حكم إمبراطورية مترامية الأطراف ظل يحكمها نحو 55 عامًا حتى حيكت حوله الأساطير، وأصبح في نظر الأجيال المتأخرة إلهًا، ومع هذا فقد أخذت نيران الثورة تشتعل ضده في جميع أنحاء الإمبراطورية قبل وفاته. ومنذ عهد سرجون أخذت العناصر السامية تسيطر من الناحيتين السياسية والحضارية, وقد بدأت اللغة الأكدية المكتوبة بالخط المسماري تحتل مكانة رفيعة, حتى أصبحت اللغة الدولية في الشرق الأدنى القديم.

خلفاء سرجون

خلفاء سرجون: خلف سرجون ابنه "ريموش" الذي اضطر للكفاح من أجل إعادة السلم في مختلف أنحاء مملكته؛ فقام بغزوات متلاحقة على كثير من أطرافها لكي يخمد الثورات فيها، ولم يستمر في الحكم طويلًا بل ذهب ضحية مؤامرة في السنة التاسعة من حكمه, وخلفه أخوه "مانيشتوسو" الذي استمر في كفاحه من أجل الإبقاء على الإمبراطورية التي شيدها أبوه, ولم يقتصر في ذلك على سياسة الغزو بل قام بتحسين الأحوال الاقتصادية والشئون الداخلية في البلاد، وقد حكم خمسة عشر عامًا ثم تبعه ابنه "نرام - سن Naram – sin" الذي تمكن من إعادة الاستقرار إلى إمبراطوريته الواسعة على الرغم من محاولة السومريين تفكيك وحدتها، وقد حكم "نرام - سن" نحوًا من أربعين عاما بذل فيها جهده في رفع شأن أمته؛ حيث شجع الفنون على اختلافها وحرص على تشييد دور العبادة وتعميرها، ومن أهم آثاره لوحه النصر, وهي تمثله على رأس جيشه منتصرًا على بعض القبائل الجبلية المعروفة باسم لولوبي "Lulubi" ومن آثاره كذلك

لوحة حفرت في جبل عالٍ في منطقة ديار بكر شمال العراق, جاء فيها أنه هزم بلاد "ماجان" التي تحوي محاجر الديوربت، وقد استورد منها هذا الحجر ليصنع تمثالًا لنفسه. وكان بعض المؤرخين يشك في أن "ماجان" هي مصر؛ حيث إن النصوص البابلية كانت تشير إلى مصر باسم "مالوخا" الغنية بالذهب, كما يشكون في أن "نرام - سن" هاجم مصر في أوائل عهد الأسرة السادسة, ويستدلون على ذلك بأن ببي الأول كلف وزيره أوني بالدفاع عن مصر ضد غزوات قوية وجهت إليها في شمالها الشرقي؛ ولكن أوني استطاع أن يهزم العدو عند الحدود الشمالية الشرقية لمصر؛ إلا أن هذا الرأي بعيد عن الصواب؛ لأن ماجان كانت تطلق على منطقة عمان الواقعة جنوب شبه جزيرة العرب, وهي غنية بالحجر والنحاس. وكان نرام سن آخر ملك قوي من الأكديين؛ حيث تبعه في الحكم ولده "شاركار شري" "وشار بالأكدية تعني: ملك" الذي كان ضعيفًا لم يستطع مجابهة الظروف؛ حيث اندلعت الثورات في أنحاء الإمبراطورية, وقامت الشعوب التي خضعت للأكديين تبغي إعادة استقلالها، كما انتهزت قبائل الجوتيين التي كانت تسكن في الجبال الشمالية الشرقية فرصة الضعف الذي مُنِيت به الإمبراطورية وزحفت على السهول الخصبة في بلاد النهرين, وقضت على حكم الإمبراطورية، وكان من قسوتها في حروبها أن ظل الناس في الأجيال التالية يذكرون فظائعهم لمدة طويلة، وقد وصف أحد الكتاب القدامى ذلك بقوله: "وحوش الجبال, الذين فتكوا بالناس, وسلبوا النساء من أزواجهن والأطفال من أمهاتهم, والذين اغتصبوا الحكم وقضوا على "سومر" بعد أن حملوا كنوزها معهم إلى الجبال". وبعد أن استقر الأمر لهؤلاء الغزاة فضلوا العودة إلى وطنهم في الشمال

مكتفين بفرض الجزية على أهل المدن السومرية، وقد اتبعوا في حكمهم الأساليب التي استعملها الأكديون, ولم يغيروا شيئًا من النظم الحضارية فاستعملوا اللغة السومرية في رسائلهم ومكاتباتهم, وقد تفاخروا بتلقيب أنفسهم بلقب "ملوك الجوتي وأركان العالم الأربعة". ولم يصلنا عن حكمهم شيئًا اللهم إلا أسماء ملوكهم؛ فقد ذكرت لهم قائمة الملوك السومرية أسماء 21 ملكًا؛ ولكن خمسة فقط من هؤلاء هم الذين تركوا بعض النقوش ولم نعرف من النصوص التاريخية اللاحقة لعهدهم شيئًا عن الأحداث التاريخية في زمنهم, ولكنها مع ذلك تصفهم بالتعسف الشديد. وكان لبعدهم في الشمال وتركهم تصريف الأمور لأبناء البلاد الأصليين أثر في إتاحة الفرصة لهؤلاء كي يعيدوا مجد الحضارة السومرية وأن ينهضوا من جديد؛ فظهرت في ميدان القوة بعض المدن السومرية وخاصة أور ولجش وغيرهما، ولم يستمر حكم الجوتيين أكثر من 110 أعوام تقريبًا.

عودة نفوذ السومريين "النهضة السومرية"

3- عودة نفوذ السومريين "النهضة السومرية": ظلت معظم المدن السومرية تحت حكم أسراتها الحاكمة وإن خضعت لسلطان الأكديين أو غيرهم، وانتقل الحكم من أسرة إلى أخرى في المدن المختلفة, وظهر فيها بعض الحكام الأقوياء بين حين وآخر. ومن أشهر هؤلاء الحكام "أوتو حيجال" مؤسس أسرة الوركاء الخامسة الذي أعلن الحرب على الجوتيين، وما أن بدأ كفاحه ضدهم حتى انضم إليه عدد من أمراء جنوب العراق فهزموا الجوتيين المكروهين لدى الجميع, وحاول ملكهم "تيرقان" الهرب؛ ولكن قبض عليه وسلم لقائد السومريين، ونهضت نيبور من جديد وأصبحت الوركاء على رأس دويلات المدن السومرية؛ إلا أن ذلك

لم يستمر طويلًا؛ لأن "أورنمو" مؤسس الأسرة الثالثة في أور سرعان ما أعلن الثورة على "أوتو حيجال" وانتزع منه السيادة, وأعلن نفسه ملكًا على دولة سومر. وكان أورنمو "Ur - Nummo" من قواده في أول الأمر؛ ولكنه استطاع أن يبرز في أور, وأن يمد نفوذه إلى ما وراء حدودها؛ فضم عددًا من المدن تحت سلطانه وأعلن نفسه ملكًا في أور على دولة سومر, وبذلك أسس أسرة أور الثالثة التي يعد عصرها "عصر أور الذهبي" لما ظهر فيه من تقدم ورخاء. وقد قام أورنمو بإصلاحات كبيرة؛ فأعاد بناء ما تهدم من المعابد وأعاد حفر شبكة القنوات التي كانت تعتمد عليها ثروة البلاد، وقد عثر على نسخة من القانون الذي وضعه قبل قانون حمورابي بثلاثة قرون تقريبًا, ومن أهم الآثار التي تركها معبد أور المدرج المعروف باسم زقورات أور"Ziggorat" 1 شكل وكان مبنيًّا باللبن في درجات يعلو بعضها البعض, تؤدي إلى الأماكن التي تعلو البناء, وقد ترك لنا أورنمو نقوشًا تبينه وهو يتعبد في المعبد كما تبين بعض مناظر عملية بنائه, وكان جوديا رابع أمير في أسرة لجش الثانية يعاصر "أورنمو" أو خلفه "شولجي"، وقد اشتهر هذا الأمير بأعماله العمرانية وتشجيع التجارة مع كثير من أقطار الشرق الأدنى مثل عيلام وسورية والأناضول, وقد عمل على رفاهية رعيته طوال مدة حكمه التي بلغت ثلاثين عامًا وكان تفانيه في خدمة الدين من الأسباب التي جعلته يترك آثارًا تفوق آثار غيره من أمراء المدن السومرية.

_ 1 أراد البعض مقارنته بالهرم المدرج وبمباني الهنود الحمر في المكسيك؛ إلا أن الوظائف المخصصة لكل من هذه المباني تختلف عن وظائف الأخرى، فالهرم المدرج عبارة عن مقبرة ملكية, أما زاقورات أور ومباني الهنود الحمر المدرجة في المكسيك فهي عبارة عن معابد، والجزء الأساسي من الهرم المدرج هو حجرة الدفن التي تقع تحت سطح الأرض بأسفل الهرم, أما في زقورات أور ومعابد المكسيك فإن الجزء الأساسي هو الذي في أعلى البناء وهو الهيكل نفسه، وربما كانت الدرجات التي تؤدي إلى أعلى البناء في زقورات أور تغطى بالطمي لزراعة بعض النباتات.

شكل "33" زاقورات أور

ولما مات أورنمو خلفه ولده "شولجي Chulgi" الذي سار على نهج والده في سياسة التعمير؛ ولكنه اهتم بمدينة "أريدو" التي كانت على شاطئ البحر وكانت تعتبر مقرًّا للإله "إنكي" إله الماء والبحار. وقد عثر على بعض اللوحات في مدينة لجش أمكن منها معرفة الكثير عن النظام الإداري في عهده وتبين أن الحكومة المركزية في أور كانت تشرف إشرافًا تامًّا على سائر شئون الدولة وفي مختلف أرجائها، وقد وصل نفوذه السياسي والحضاري إلى أمد بعيد حتى ليرى البعض أنه وصل إلى آسيا الصغرى وحوض البحر المتوسط؛ ولكن لا يوجد من الأدلة ما يكفي لإثبات ذلك. ولما مات شولجي كان الرخاء والأمن سائدين؛ ولذا لم يجد خلفاؤه ما يوجب بذل جهود ضخمة، وكان هذا الرخاء في الواقع يحمل بين طياته نذير الاضمحلال.

تنافس الأموريين والعيلاميين "سيادة مدينتي ايسين ولارسا"

4- تنافس الأموريين والعيلاميين "سيادة مدينتي أيسين ولارسا": يعد عهد سلالة أور الثالثة الذي دام أكثر من مائة عام نهاية حياة السومريين السياسة؛ لأن هؤلاء اندمجوا بعد ذلك بالساميين ولم تحكم في أور بعدها أسرة سومرية خالصة، وقد أقام آخر ملوكها "أبي- سين" -وهو خامسهم- ببناء سد لصد هجوم الأموريين وهم الشعوب السامية التي عاشت واستفحل خطرها في منطقة ماري في حوض الفرات الأوسط. ومن المعروف -حسب آخر ما كشف من الوثائق التاريخية- أن المدن التي كانت تحكمها أور أخذت تخرج عن سلطانها حتى السنة الحادية عشرة من حكم "أبي- سين" وحينما رأى حاكم ماري من قبل ملك أور "وهو المدعو أشبي- إيرا" أن الأموريين يهددون مدينتي "أيسين ونفر" استنجد أول الأمر

بسيده للدفاع ضد الأموريين؛ ولكنه وجد بعد ذلك أن تدهور الأحوال داخل المملكة يشجعه على أن يستغل الفرصة لنفسه؛ فقام بالدفاع عن مدينة أيسين لصالحه الشخصي ونجح في تكوين سلالة خاصة في هذه المدينة ابتداءً من السنة الثانية عشرة من حكم أبي سين. وفي نفس الوقت تقريبًا نجح العيلاميون في غزو العراق ودمروا أور، ويرى بعض الباحثين أن أبي - سين لم يؤخذ أسيرًا إلى عيلام بعد هذه الغزوة؛ لأنه كان متحالفًا مع العيلاميين ضد الأموريين عندما اشتد ضغطهم على بلاده, ومهما كان الأمر فإن سيادة أور انتهت بذلك الغزو المزدوج الذي قام به الأموريون والعيلاميون، وقد نتج عن هذا وجود أسرتين حاكمتين في العراق؛ إحداهما في أيسين وهي التي أسسها "أشبي إيرا" والأخرى في "لارسا" وهذه يرجح أنها كانت خاضعة لنفوذ العيلاميين، وفي نفس الوقت كان الأشوريون في الشمال قد بدءوا يكونون دولة مستقلة, كما وجدت بعد فترة مملكة في بابل ينتمي ملوكها إلى أصل أموري ومملكة أخرى عرفت باسم مملكة أشنونا "نسبة إلى العاصمة أشنونا, وموقعها الآن تل أسمر" في حوض نهر ديالي، وهكذا نجد أن بابل عادت بعد سيادة أور إلى نظام دويلات المدن، وقد اصطلح المؤرخون على تسمية هذا العهد باسم العهد البابلي القديم، وفي أثنائه كانت سلالة من الساميين الغربيين تحكم في مدينة ماري, وكان بعض ملوكها يعاصرون الملك حمورابي. وقد استمر النزاع بين أسرتي أيسين ولارسا ولا نعرف عن حكمهما سوى أن ملوك الأسرة الحاكمة في أيسين قاموا بأعمال عمرانية في أنحاء البلاد الخاضعة لهم, ورمموا كثيرًا مما خرب على إثر سقوط أسرة أور الثالثة، ومن أشهر ملوكهم "لبت عشتار" خامس ملوك الأسرة الذي عثر له على قانون مكتوب باللغة السومرية يعد من أحسن شرائع العالم القديم، وقد حكم في أيسين 15 ملكًا

لمدة تقرب من 225 سنة, أما في لارسا فقد حكم 14 ملكًا مدة تقدر بنحو 260 سنة، وكان ملوك أيسين من الأموريين أما ملوك لارسا فمن البابليين الذين خضعوا لنفوذ العيلاميين, وقد تدخل هؤلاء في شئون البلاد وقضوا على آخر ملك فيها وعينوا بدلًا منه ابن ملك عيلام في مكانه، ولما مات هذا الأخير عُيِّن أخوه "ريم سين" من بعده، وقد قضى هذا الأخير على الأسرة المنافسة في أيسين وحكمها بنفسه، وفي هذه الأثناء كان حامورابي سادس ملوك الأسرة البابلية الأولى يحكم في بابل، وقد تمكن هذا الملك من أن يقضي على العيلاميين بعد حروب طاحنة، كذلك قضى على مملكة أشنونا وتم له ذلك في السنة الثانية والثلاثين من حكمه, كما استطاع أن يقضي على استقلال المملكة التي تكونت في أشور وكان من أشهر ملوكها سرجون الأول "الأشوري".

مملكة أشنونا

5- مملكة أشنونا: تعد مملكة أشنونا من دويلات المدن التي لعبت دورًا مهمًّا في تاريخ العراق؛ فقد نشأت هذه الدولة التي كانت عاصمتها أشنونا "تل أسمر الحالية" منذ عصر فجر الأسرات، ثم قضى على استقلالها سرجون الأكدي1 وبعدئذ خضعت لأسرة أور الثالثة2؛ ولكنها استقلت بعد ذلك فترة طويلة دامت إلى السنة الثانية والثلاثين من حكم حمورابي الذي قضى على استقلالها في تلك السنة وضمها إلى إمبراطوريته بعد أن ظلت قائمة نحو قرنين ونصف من الزمان, وتوالى في حكمها نحو من عشرة ملوك ترك أحدهم "وهو على الأرجح "بلالاما"" قانونًا

_ 1 انظر ص356 وما بعدها. 2 انظر ص360، 363.

يعد من أقدم قوانين العراق القديم؛ إذ إنه يسبق قانون "ليت عشتار" بنحو نصف قرن وقد عثر على هذا القانون في تل حرمل1 وليس في أشنونا نفسها. وقد تدهورت مملكة أشنونا بعد "بلالاما" فترة بسبب إغارة ملك "دير"2 عليها وهزيمتها أمام ملك كيش الذي حرمها من كثير من ممتلكاتها؛ ولكنها عادت إلى التوسع في عهد ملكها "إيبق- أدد الثاني" الذي يبدو أنه أراد الاستيلاء على حوض دجلة وأرض الجزيرة العليا حتى سفوح كردستان وإنشاء جسر له على نهر الفرات حتى يتحكم في طرق التجارة الآتية من الشمال والغرب؛ ولكن هذا التوسع كان وقتيًّا وذهبت محاولات الملوك الأخيرين في المملكة من أجل الإبقاء على الأراضي التي امتلكوها سدى؛ لأن الممالك القوية التي نشأت في بابل ولارسا في الجنوب وأشور في الشمال وماري في الغرب أحاطت بأشنونا، ووقفت سدًا منيعًا أمام أطماعها ثم استولى عليها الأشوريون في عهد ملكهم "شمش- أدد"، ولم يبق الحال على ذلك طويلًا؛ لأن ملك أشنونا الذي يرجح أنه كان "دادوشا" ظل يثير المتاعب ويحيك المؤامرات لجيرانه ولمملكة أشور، وقد تمكن الأشوريون من التوغل في أراضي أشنونا إلى مسافة بعيدة؛ ولكن تعاونت قوات "توروكو" في كردستان مع قوات أشنونا وظهرت جميعها في كركوك بل وهددت ماري أيضا، وقد أثار تقدم الأعداء على طول الفرات خوف العاصمة الغربية؛ فاستنجد ملكها الأشوري "يسمح- أداد" بأخيه "أشمى- داجان" ملك أشور وأوقف تقدم قوات أشنونا, ثم قضى حمورابي ملك بابل بعد ذلك على كل من مملكتي أشنونا وماري.

_ 1 تل صغير بالقرب من بغداد وهو موقع "شادويوم" التي كانت المركز الإداري لمنطقة زراعية في مملكة أشنونا. 2 في مكان "بدرة" الحالية على بعد نحو 65 ميلًا شرق تل أسمر.

البابليون

6- البابليون: الدولة البابلية الأولى: أسس هذه الدولة الملك "سمو- أبوم" الذي كان يحكم رقعة صغيره في جنوب العراق، وقد بدأ توطيد سلطانه بالقضاء على أمراء المدن الجنوبية وأعلن نفسه ملكًا على بابل بعد أن بسط نفوذه على سومر وأكاد، وظل في الحكم ما يقرب من خمسة عشر عامًا ثم خلفه أربعة ملوك حافظوا على حدود المملكة وإصلاح شئونها. ولما استولى العيلاميون "في عهد زابوم ثالث ملوك الأسرة البابلية" على مدينة أيسين عاصمة الأموريين واستقروا فيها أخذ النزاع يشتد بين ملوك بابل والعيلاميين؛ حيث بدأ ملوك بابل يشعرون بالخطر يهدد كيانهم نظرًا لسرعة انتشار نفوذ العيلاميين. وحينما تولى حامورابي سادس ملوك الأسرة البابلية عرش بلاده "1728-1686 ق. م." لم يغفل خطورة الموقف، وكان رجلًا فذًّا في شئون السياسة والحرب؛ فلم يحاول الخروج إلى الحرب في السنوات الأولى من عهده, بل شغلها بالإصلاحات الداخلية وتقوية وسائل الدفاع حول مدنه المهمة استعدادًا لكفاحهم المرتقب؛ فقد وجد في بداية عهده أن دولة لارسا أصبحت تتحكم في الأجزاء التي تقع إلى جنوب بابل بعد أن أخضع ملكها "ريم سن" مملكة أيسين لسلطانه، وأن مملكة أشنونا تحكم المنطقة التي تقع إلى شمال بابل مباشرة؛ بينما كانت مملكة أشور تتحكم في الأجزاء التي تلي ذلك شمالًا.

وقد بدأ حمورابي في السنة الخامسة من حكمه بالاستيلاء على أيسين؛ ولكنه وجد أن قوته لا تسمح له بملاقاة "ريم سن" ملك لارسا ففضل الانتظار نحو ثلاثة وعشرين عامًا قضاها في الاستعداد, وفي السنة التاسعة والعشرين تقابل مع الملك العيلامي ريم سن في حرب قاسية استطاع الانتصار فيها، وكان هذا الانتصار حدثًا في تاريخ العراق أرخ به المؤرخون, ومن جرائه تغنى شعراء بابل بعظمة حامورابي ورتلوا الأناشيد من أجله في المعابد. ولما زال خطر العيلاميين تمكن حامورابي من مد سلطانه شمالًا إلى أعالي نهر دجلة؛ فاستولى على مملكة أشنونا وضمها إلى إمبراطوريته كما ضم إليه بلاد الأشوريون؛ إذ تمكن في السنة الثانية والثلاثين من حكمه من الاستيلاء على عاصمتهم الغربية ماري، وحين اكتشف أرشيف قصر هذه المدينة عثر فيه على أكثر من 20 ألف لوحة طينية, من بينها مجموعة من الرسائل المتبادلة بين ملوك المدينة وغيرهم من حكام المدن الأخرى وملوكها، ومن أهمها رسائل تبودلت بين الملك "زمرى ليم" "Zamrilim" وبين حمورابي, كما أن إحدى هذه الوثائق تثبت معاصرة الملك حمورابي للممك "شمسي أدد الأول" ملك أشور, كذلك تمكن حمورابي من الوصول بحدوده جنوبًا إلى الخليج العربي، ويعد عصره العصر الذهبي لبلاد العراق القديم من حيث الرخاء، ومن حيث الرفاهية التي كانت تنعم بها. وتعد مجموعة التشريعات التي سنها وهي المشهورة باسم "قانون حمورابي" أهم ما قام به من إصلاحات، وقد وجدت نسخة من هذا القانون على كتلة من الديوريت عثر عليها في أطلال "سوسة" وتبلغ مواده نحو 250 مادة، وقد حدد العقوبات التي يستطيع القضاة توقيعها في حالات معينة، أما إذا لم يرد نص يختص بجريمة ما فإنه أشار إلى أن الحكم يجب أن يكون حسب العرف السائد في المنطقة، ومن الملاحظ في هذا القانون أنه كان قاسيًا

في توقيع العقوبات على كل من يخرج على العرف أو يقترف ما يتنافى مع مبادئ الأخلاق, كما أنه تعرض لمشاكل الوراثة والتبني وغيرهما، وفي معظم أحكام هذا القانون نجد اتجاهًا للأخذ بمبدأ "العين بالعين والسن بالسن" أو "المعاملة بالمثل" الشائع بين الشعوب السامية. وقد حكم حمورابي نحو ثلاثة وأربعين عامًا تمثل أزهى عصور العراق؛ ولكن خلفاءه لم يتمكنوا من الدفاع عن دولتهم المترامية الأطراف حيث أخذت الثورات تشتعل في أكثر من مكان، ورغم أن ولده "سامسو إبلونا" قام بجهود متواصلة لإخماد هذه الثورات فإن جهوده ذهبت عبثًا؛ حيث أخذت أجزاء من الإمبراطورية التي كونها والده في الانفصال وأعلنت استقلالها, ودب الضعف في كيان ما تبقى من الدولة حتى تمكن الحيثيون في نهاية عهد الأسرة البابلية من القضاء نهائيا على دولتهم, بعد أن حكم فيها 11 ملكًا نحو 215 سنة.

مملكة بابل الثانية "دولة أرض البحر"

مملكة بابل الثانية "دولة أرض البحر": أشرنا فيما سبق إلى أن "سامسو - إيلونا" قام بجهود متواصلة للإبقاء على الإمبراطورية التي تركها والده، وأن هذه الجهود ذهبت هباء حيث فقدت الإمبراطورية مساحة كبيرة من أراضيها. ومع أن الثورة التي قام بها أحد الثائرين1 في الأجزاء المتاخمة لعيلام أخمدت وقتل القائم بها بعد عامين من نشوبها؛ فإن "إيلومو إيلو" الذي يحتمل أنه كان من سلالة "دامق - إبلوشو" آخر ملوك أيسين قد أعلن استقلاله في سومر وأصبح سيدًا على البلاد الواقعة في جنوب نيبور جميعها, وأسس ما يعرف باسم مملكة بابل الثانية أو "دولة أرض البحر" ونتج عن ذلك تدمير وتخريب عدد من المدن السومرية -ومن بينها أور- في الحروب الطويلة الطاحنة؛ حيث كانت مسرحًا لعمليات الفريقين المتنازعين

_ 1 كان يدعى "ريم - سين" مثل آخر ملوك لارسا.

وقد حاول خلفاء سامسو إيلونا إعادة خضوع هذه البلاد لسلطانهم دون جدوى؛ فظلت دولة أرض البحر قائمة تتبادل النصر والهزيمة مع بابل التي قنع ملوكها في النهاية بتحصين بعض مدنهم والتفرغ للأعمال العمرانية والدينية. وبعد أن قضى الحيثيون على مملكة بابل الأولى وجد الكاشيون الذين كانوا يستوطنون في أقدم عصورهم منطقة لورستان1 الفرصة سانحة لإخضاع بابل لسلطانهم وخاصة بعد انسحاب الحيثيين المفاجئ منها، وأصبح ملوكهم يتربعون على عرشها بعد أن احتلوها. وفي حوالي سنة 1500 ق. م. "أي بعد نحو 80 سنة من الغزوة الحيثية" استطاع ملكهم "أولام - بورياش" أن يهزم ملك أرض البحر "إيا جميل"؛ فقضى على مملكة بابل الثانية, وأعاد خضوع بلاد سومر بأكملها لسلطان بابل من جديد.

_ 1 في الجزء الأوسط من سلسلة جبال زاجررس.

مملكة بابل الثالثة "الدولة الكاشية"

مملكة بابل الثالثة "الدولة الكاشية": في نفس الوقت الذي سقطت فيه أسرة بابل الأولى تقريبًا, أخذت جموع متتالية من رجال القبائل الجبلية الواقعة في شرق نهر دجلة تهبط إلى السهول لمهاجمة بلاد بابل، وقد استطاعت "بعد انسحاب الحيثيين" أن تكون دولة قوية عرفت باسم الدولة الكاشية "kassites" أو دولة بابل الثالثة ومع أن حكمها يعد أطول احتلال شهدته أي دولة قديمة؛ إذ استمر نحوًا من 430 سنة "1595-1162 ق. م." إلا أن معلوماتنا عنه قليلة نظرًا لضآلة الوثائق التاريخية عنه. ويتميز عصر هذه الدولة بحدوث الكثير من الغزوات والقلاقل في منطقة الشرق الأدنى القديم، وقد كثرت السلطات المتنازعة على السيادة الدولية

في أثنائه وكانت بعض القوى الجديدة تظهر ثم لا تلبث أن تختفي لتحل محلها قوى أخرى، وهكذا نجد دولة البحر في جنوب العراق والكاشيين في الوسط والأشوريون في الشمال والشمال الشرقي؛ وبينما كان الأشوريون يجاهدون في الانفصال عن الكاشيين نجدهم لا يلبثون أن يخضعوا للميتانيين. ومن جهة أخرى كان الميتانيون ينافسون الحيثيين الذين استطاعوا القضاء على دولة بابل الأولى والسيطرة على شمال العراق وسورية واتسعت إمبراطوريتهم تدريجيًا حتى اصطدموا بالمصريين في عهد الدولة الحديثة, التي كانت حينئذٍ تسيطر على أكثر مناطق العالم القديم المعروفة، أما عيلام فإنها لم تتمكن من أن تعيد قوتها مباشرة بعد أن قضى عليها حمورابي، وفي نهاية هذا العهد تعقدت العلاقات الدولية وتبادل الملوك الرسائل وقامت بينهم المعاهدات والمصاهرات الدولية. وقد اختلف المؤرخون في أصل الكاشيين ولم يصلوا إلى رأي في هذا الصدد، وكل ما نعرفه عنهم هو أنهم جاءوا من منطقة في وسط جبال زاجروس كما أشرنا، وما أن احتلوا بابل حتى تأثروا بالحضارة البابلية ووحدوا بين آلهتها وبين آلهتهم، وقد حكم منهم في بابل 36 ملكًا كان أولهم الملك جنداش "Gendach". وقد نجح الكاشيون في القضاء على مملكة البحر في جنوب العراق1؛ وبذلك ثبت نفوذهم في بابل، وتشير وثائق وخطابات تل العمارنة2 إلى وجود علاقات ود وصداقة بين أمنحتب الثالث والملك الكاشي المعاصر له3، ولم يستمر عهد الكاشيين طويلًا بعد ذلك؛ لأن الأشوريون في الشمال أخذوا يحتكون بهم حينما أرادوا توسيع مملكتهم لأن دولة ميتاني ودولة الحيثيين كانتا تقفان لهم بالمرصاد

_ 1 انظر أعلاه 368 وما بعدها. 2 عاصمة إخناتون, انظر ص178. 3 الملك "كادشمان خاربي" على الأرجح.

من الغرب ومن الشمال، ولذا لم يكن أمامهم سوى الاتجاه في توسعهم إلى الجنوب؛ فهجموا على دولة بابل الكاشية وتمكنوا من ضمها إليهم؛ إلا أن الانتصار الأشوري لم يستمر طويلًا؛ لأن العيلاميين كانوا قد استعادوا قوتهم الخاصة في عهد ملكهم "شيلاق - أنشو شناق" الذي استطاع أن يخضع كثيرًا من الأقطار المجاورة لسلطانه1، وقد أخضع بابل وأنهى حكم الأسرة الكاشية ولكن ذلك لم يدم طويلًا, إذ انتقل الحكم فيها إلى أسرة قوية من أمراء أيسين تعرف باسم "الأسرة البابلية الرابعة" أو "أسرة أيسين الثانية" وبلغ من قوتها أنها كانت تتدخل في شئون أشور الداخلية، وفي نفس الوقت أخذت عيلام في التدهور فانتهز "نبوخذ نصر الأول" ملك بابل فرصة ضعفها وهاجمها بمساعدة أحد أمرائها وانتصر عليها؛ إلا أن هذا الانتصار لم يكن هزيمة حقيقية لعيلام ولم يحقق نتائج بعيدة المدى. وما لبثت الأوضاع أن تغيرت بعد ذلك لظهور قوة أشور؛ فكان على خلفاء نبوخذ نصر أن يكافحوا لا من أجل المحافظة على الأراضي الأجنبية التي امتلكوها فحسب, بل ومن أجل حماية أنفسهم أيضًا، ومع كل فقد انتصر الملك الأشوري "أشوردان" على بابل وجعل على عرشها أحد الآراميين2، ولم تنعم بلاد النهرين عامة وبابل بصفة خاصة بالهدوء والاستقرار بعد ذلك؛ إذ عمت الفوضى والحروب في أرجائها فترة طويلة؛ ففي بابل حكم سبعة ملوك كونوا بها ثلاث أسرات: أسس الأولى منها "أسرة بابل الخامسة" أحد الكاشيين من مواليد مملكة أرض البحر, وأسس الثانية "السادسة البابلية" آرامي، أما الثالثة "السابعة البابلية"؛ فقد أسسها عيلامي, وما أن تولت العرش أسرتها الثامنة إلا وانحدرت إلى الهاوية وجرد الآراميون عاصمتها من كل نفوذ خارج حدودها, حتى إنها لم تتمكن من إقامة الاحتفالات الدينية التي كانت تنتقل فيها تماثيل

_ 1 Ghirshman, Iran, "Pelican A 239". Pp, 66-67. 2 ثالث خلفاء نبوخذ نصر.

الآلهة بين العاصمة وأمهات المدن البابلية في بداية كل عام وأصبح ملوكها مجرد أسماء في قائمة، ومن المحتمل أن بعض القبائل الآرامية استقرت بين حوض نهر دجلة الأدنى وحدود عيلام, وكان من بين هؤلاء الكلدانيون الذين تمكنوا من الإغارة على سومر, ثم قدر لهم أن يبعثوا النهضة إلى بابل من جديد بعد نحو 300 سنة. ويمكن اعتبار سقوط الأسرة الكاشية الحاكمة في بابل نقطة مهمة في تاريخ بلاد النهرين؛ ولكن أهميتها لا تقاس بالنسبة لما جرى من أحداث في الشرق الأدنى خلال القرن الثاني عشر ق. م.؛ فقد اختفت مملكة الحيثيين في آسيا الصغرى وتضعضعت قوة مصر وأصبحت فريسة للانقسامات الداخلية, واستقر الفلسطينيون في كنعان؛ بينما كان موسى يقود شعبه إلى الأرض الموعودة, والرحل الآراميون يهددون الأمراء السوريين وملوك أشور, وفي الغرب البعيد كان اليونان الدوريون يغيرون على شبه الجزيرة الهللينية، وهكذا تحرك الهندو أوروبيين ثانية إلى غربي آسيا؛ حيث نشروا استعمال الحديد وبدءوا صفحة جديدة في تاريخ الإنسانية وأحدثوا سلسلة من الحركات الجنسية والسياسية كان لها أثرها السريع في تغيير معالم الشرق الأدنى.

الأشوريون

الأشوريون مدخل ... 7- الأشوريون: كان الأشوريون من الساميين الذين سكنوا في شمال بلاد النهرين منذ الألف الثالث ق. م. وكانت المدينة "أشور" التي أعطت اسمها لهم1 تقع في بقعة استراتيجية مهمة وتتحكم في الطريق بين سومر وأكد من جهة, وبين كردستان وأرض الجزيرة العليا من جهة أخرى؛ فكانت دائمًا مطمعًا للملوك الأقوياء الذين

_ 1 كان اسم "أشور" يطلق في النصوص القديمة على كل من المدينة وإلهها والدولة نفسها, انظر: G. Roux, op. cit., 171 n.

ظهروا في الجنوب أمثال: سرجون ونارام سن وملوك أور. ومع أن الأمراء الأشوريين جاهدوا طويلًا في الاستقلال بمدنهم عن حكم الدول التي كانت تخضعهم سواء من الجنوب أو من الغرب؛ إلا أنهم لم ينجحوا في تأسيس دولة إلا في عصر متأخر نسبيًّا، بل وليس لدينا أي دليل على أن هذه الدولة تمكنت من الاستقلال قبل الألف الثاني ق. م. ثم قدر لهذه الدولة أن تصل إلى مركز الصدارة, وأن تلعب دورًا خطيرًا في السياسة الدولية في ذلك الحين. ويقسم بعض المؤرخين تاريخ الأشوريين إلى فترتين: 1- الفترة الأولى من 2100 إلى 900 ق. م. تقريبًا، وفيها كانوا يناضلون في سبيل النهوض سياسيا وعسكريا. 2- الفترة الثانية وتمتد بعد الفترة الأولى إلى 633 ق. م. تقريبًا, وهي التي تمكنوا فيها من تكوين إمبراطورية. غير أن غالبية المؤرخين الآن تميل إلى تقسيم التاريخ الأشوري إلى ثلاث مراحل هي: 1- مرحلة التكوين أو "العهد الأشوري القديم" ويبدأ من فجر التاريخ الأشوري إلى نهاية حكم أسرة بابل الأولى. 2- عصر المملكة الأشورية أو "العهد الأشوري الوسيط" ويبدأ من نهاية مملكة بابل الأولى وينتهي في بداية القرن التاسع ق. م. 3 عصر الإمبراطورية أو "العهد الأشوري الحديث" ويمكن أن نقسمه بدوره إلى قسمين: "أ" الإمبراطورية الأشورية الأولى من 911 إلى 745 ق. م تقريبًا، "ب" الإمبراطورية الأشورية الثانية من 745 إلى 612 ق. م. تقريبًا.

العهد الأشورى القديم

1- العهد الأشوري القديم: عثر في خورسباد على قائمة بأسماء ملوك أشور يمكن أن نعدها مناظرة لقائمة الملوك السومرية1، وهي تعطينا أسماء 17 ملكًا تذكر أنهم كانوا يعيشون في الخيام؛ مما يدعو إلى الاعتقاد بأن هؤلاء كانوا يمثلون ملوك فجر التاريخ الأشوري، ومع أنها تورد السلالات التي تضمنت أسماء هؤلاء الملوك متتابعة؛ إلا أن من المرجح أن بعضًا منها على الأقل كانت تعاصر بعضًا آخر. ومن الملاحظ أن عددًا من الأسماء القديمة في هذه القائمة مثل: "توديا"، "أوشبيا"، "سولولي"، "كيكيا" لا تدل على أصل سامي أو سومري؛ بل هي أسماء هندو أوروبية ربما كانت حورية2 أو سوبارية3. وقد خضع الأشوريون لحكم ملوك أسرة أور الثالثة4، وبعد سقوط الإمبراطورية السومرية أصبحت أشور مثل كثير من المدن الأخرى مستقلة وبدأ "بوزور - أشور الأول" الذي حكم حوالي سنة 2000 ق. م. سلسلة جديدة من الملوك الذين يحملون أسماء أكدية بحتة. وقد ترك لنا اثنان من هؤلاء "إيلوشوما، إيروشوم الأول" نصوصًا تدل على بناء معابد للآلهة أشور وأداد وعشتار في المدينة، كما أن من المعروف أن "إيلوشوما" توغل في جنوب بلاد النهرين أثناء حكم "شمشي - داجان" ملك أيسين "1953-1935ق. م.". ومن المحتمل أنه وسع في مملكته حتى شملت نينوى على بعد 60 ميلًا شمال أشور؛ ولكن المؤسسين الحقيقيين لقوة أشور كانوا من الساميين الغربيين الذين تدفقوا

_ 1 انظر أعلاه ص347. 2 انظر أعلاه ص292. 3 السوباريون: قوم سكنوا في شمال شرق بلاد النهرين في أقدم العصور, ثم اختلط بهم الساميون الذين أصبحوا أغلبية وكونوا الشعب الأشوري. 4 انظر أعلاه ص260-262.

على شمال وجنوب بلاد النهرين في القرون الأولى من الألف الثاني ق. م. حيث بدأ أحد زعماء الأموريين في الاستقرار في المنطقة ما بين نهري الخابور والدجلة وحكمها خلفاؤه كأتباع للأشوريين, ثم تمكن أحدهم1 من الاستيلاء على "أشور" واعتلاء العرش، وفي نفس الوقت تقريبًا تمكن أموري آخر من أن يصبح ملكًا في ماري، ومنذ ذلك الحين ارتبط مصير المملكتين الشماليتين العظيمتين, كل منهما بالأخرى؛ فقد بدأت بينهما علاقات حسن الجوار أولًا ولكنها سرعان ما انفصمت وتمكن الأشوريون من وضع يدهم على ماري بعد أن اغتيل ملكها "ياهدون - ليم". وكان الملك "شمشي أدد" الذي استولى على ماري في بدء حياته خارجًا على القانون؛ فبعد أن أصبح أخوه خليفة لوالده على عرش أشور فَرَّ إلى الجنوب وجمع قوة من المرتزقة, استولى بها على مدينة إيكالاتوم في وسط دجلة "لم يمكن التعرف عليها بعد" التي كانت خاضعة لمملكة أشنونا, ثم تقدم إلى أشور ونجح في اغتصاب العرش من أخيه، وبعدئذٍ توسع غربًا حتى وصل إلى ساحل البحر المتوسط وعين أحد ولديه "يسمح - أدد" حاكمًا في ماري وعين الابن الآخر "إشمي - داجان" حاكمًا في إيكالاتوم, وهكذا خضع حوضا دجلة والفرات لسلطان الأشوريين، ولكن لم يدم ذلك طويلًا فقد دأبت القبائل الرعوية التي يحكمها زعماؤها على إحداث القلاقل وتهديد الممتلكات الأشورية, وخاصة بالنسبة لمملكة ماري, كما كانت مملكة أشنونا تحيك الدسائس لمملكة إيكالاتوم, واستطاعت أن تهدد مملكة ماري2، وأخيرًا تمكنت مملكة بابل في السنة الثلاثين من حكم ملكها حمورابي من أن تستولي على ماري وأن تدمرها.

_ 1 الملك "إيلا - كابكابو". 2 انظر أعلاه ص365-366.

العهد الأشوري الوسيط

2- العهد الأشوري الوسيط: ظلت أشور خاضعة لسلطان بابل إلى أن سقطت هذه الأخيرة على يد الحيثيين وبعد أن تراجعوا عنها احتلها الكاشيون، أما أشور فقد ظهر فيها أمراء أقوياء كافحوا طويلًا في جبهات مختلفة: فقد كان الآراميون في الغرب والحوريون "الذين كونوا المملكة الميتانية" في وسط بلاد النهرين1 والحيثيون في الفرات الأعلى والخابور والكاشيون في الجنوب، وقد خرج هؤلاء الأمراء من الأزمات والصعاب التي تعرضوا لها ما يقرب من خمسة قرون, وتمكنوا من تأسيس دولة قوية ساعدها الحظ في عهد ملكها "أشور أوبلط" بحدوث انقسام في البيت المالك الميتاني إلى فريقين؛ حيث استعان أحد الفريقين المتنازعين بأشور رغم أنها كانت لا تزال خاضعة لسلطان الميتانيين، وكنتيجة للمؤامرات والدسائس بين الفريقين قتل الملك توشراتا المعارض للفريق الموالي للأشوريين وفر ولده إلى بابل؛ ولكن ملكها "بورتا بورياش" تمسكًا بمبدأ الحياد رفض منحه حق اللجوء السياسي؛ فاضطر إلى الذهاب إلى البلاط الحيثي؛ بينما اقتسمت أشور ودولة صغيرة في حوض دجلة الأعلى تدعى "آلشي" بلاد ميتاني، وهكذا لم يتمكن "أشور أوبلط" من أن يحرر بلاده من سيطرة الميتانيين فحسب؛ بل وتمكن من أن يتسبب في القضاء على الدولة التي كان آباؤه يدفعون لها الجزية "دون أن يطلق سهمًا واحدًا"، وقد اتبع سياسة حكيمة مع جيرانه فتصاهر مع ملك الكاشيين "الذي تزوج بابنته" أملًا في أن يصبح حفيده يومًا ملكًا على بابل. وتلا أشور أوبلط ثلاثة ملوك بجهود مشكورة في تأمين حدود بلادهم، بل وتمكن آخرهم "أدد نيراري" الأول من أن يضم مساحات أخرى من أرض الجزيرة إلى مملكته، على أن أعظم ملوك هذه الأسرة كان دون شك "شلمنصر الأول" رابع خلفاء أشور أوبلط؛ إذ استولى على منطقة أرمينيا

_ 1 انظر أعلاه ص282 وما بعدها، 292- 293.

الجبلية "أورارتو" وبلاد الجوتيين وهزم ملك "هاني جلبات"1 وجنودها المرتزقة من الحيثيين وغيرهم. وعندما اعتلى "توكلتي ننورتا" خليفة "شلمنصر الأول" على عرش أشور تمكن من الاستيلاء على بابل بعد أن هزم ملكها الكاشي "كاشتلياش"؛ ولكن مع هذا حدثت فتنة في أشور قتل فيها الملك وسادت بعد عهده الاضطرابات وتدهورت أحوال الدولة، وتوالى على حكم بابل ثلاثة أمراء ضعاف من الموالين لأشور, وبعد ذلك تمكن العيلاميون الذين عادوا إلى القوة بعد ضعف استمر نحو أربعة قرون من الاستيلاء على بابل، ولم يدم حكم العيلاميين لبابل طويلًا؛ لأن قواهم قد أنهكت في فتح المساحات الواسعة من إيران الغربية من جهة وتوالي تهديد الميديين والفرس لهم من جهة أخرى، وسرعان ما أصبح أمراء الأسرة البابلية الرابعة في أيسين على درجة من القوة؛ بحيث أمكنهم التدخل في شئون أشور، وانتهز "نبوخذ نصر الأول" ملك بابل فرصة الانهيار الذي حدث في مملكة العيلاميين بعد عهد ملكها "شيلاق - أنشوشناق" وهاجمها؛ ولكنه هُزم في أول حملة ثم انضم إليه أحد أمراء عيلام2 فانتصر عليها انتصارًا حاسمًا، كما سبق أن أشرنا. وقد تعرضت أشور لسلسلة من الأزمات بسبب التنازع على العرش وضياع بعض الممتلكات الشرقية من بلادهم, ثم تجمعت حولها المتاعب من جميع الاتجاهات وكادت تقضي عليها لولا نشاط وكفاءة بعض الملوك من خلفاء "أشور - دان الأول"، وما إن اعتلى "تجلات بلاسر الأول" عرش أشور حتى قام بغزوات ناجحة في الشمال الشرقي والشمال ووصل إلى البحر الأسود, ثم اتجه غربًا نحو سواحل

_ 1 كان يدعى "رتي مردوخ". 2 انظر أعلاه ص371.

آسيا الصغرى وفينيقية, وبعد ذلك أخضع بابل فأصبح يحكم معظم أنحاء الشرق الأدنى من البحر الجنوبي إلى البحر الشمالي وسواحل البحر المتوسط. وتوالى بعده على الحكم ملوك ضعاف تدهورت في أيامهم أحوال المملكة, وأصبح الآراميون يهددون حدودها في الغرب, إلى أن قدر لها بعد ذلك أن تنهض من جديد.

العهد الأشورى الحديث

3- العهد الأشوري الحديث: يقسم هذا العهد إلى دوري نهوض تخللتهما فترة من الضعف, وهذان الدوران هما: أ- الإمبراطورية الأشورية الأولى: حينما تسلم الحكم "أدد نيراري الثاني" عمل على تقوية جيشه وبدأ في إخضاع بعض الأقاليم المجاورة, ثم تحالف مع مملكة بابل ونظم شئون الدولة، ولما تبعه "توكلتي ننورتا الثاني" زاد من تأمين طرق مواصلاته التجارية والعسكرية مع أطراف مملكته وشيد بعض القلاع والحصون. ويعد خلفه "أشور ناصريال الثاني" رغم شهرته بالقسوة من أعظم ملوك الأشوريين؛ فقد وصلت فتوحاته إلى الجبال الشرقية والشمالية, وأدخل تحسينات كثيرة في الجيش والإدارة؛ حيث استخدم الخيالة على نطاق واسع, وقسم بلاده إلى ولايات يحكم كل منها أحد الولاة, وجدد بناء مدينة كالح "نمرود" وبنى فيها قصرًا فخمًا زينه بألواح كبيرة من الرخام نقشت عليها مناظر تمثله في حروبه وصيده وقدوم الأمراء الخاضعين له ومعهم الهدايا والجزية، ومن آثاره كذلك مسلة ضخمة عثر عليها في نمرود, وهي تحمل نقوشًا تبين أعماله خلال السنوات الخمس الأولى من حكمه.

ولم يكتفِ ولده وخليفته "شلمنصر الثالث" بالإمبراطورية الواسعة التي خلفها له والده؛ بل أضاف إليها مستعمرات جديدة وصلت إلى منابع دجلة والفرات، وقد قام بسلسلة من الحملات الحربية في سورية وفلسطين على أحلاف الآراميين واليهود1, كما قام بحملات في الأناضول وهضبة إيران الشمالية وهاجم بعض القبائل العربية. وفي أواخر حكمه ثار عليه أحد أبنائه وأحدث بعض الاضطرابات التي أدت إلى فقدان هيبة الدولة في الداخل والخارج، ومع أن ولي عهده "شمشي أدد الخامس" تغلب على أخيه الثائر؛ إلا أن تلك الاضطرابات كانت سببًا في فقدان أشور لبعض مستعمراتها البعيدة. وفي تلك الأثناء ظلت بابل على ولائها لأشور وتحسنت العلاقات بينهما بزواج ملك أشور من أميرة بابلية تدعى "شمورامات" حظت بشهرة كبيرة حتى عرفها اليونان باسم "سميراميس"، وقد صارت وصية على ولدها "أدد نراري الثالث" الذي اعتلى العرش وهو صغير السن بعد وفاة والده. وقد توالى على حكم أشور ملوك ضعاف, بعد ذلك حدث في عهد أحدهم "أشور دان الثالث" كسوف للشمس2 وتفشى في زمنه وباء الطاعون، واستمر تدهور الدولة حتى حدثت في العاصمة "نمرود" ثورة داخلية, تولى الملك على أثرها "تجلات بلاسر الثالث" الذي أعاد إلى المملكة مجدها, وبدأ عهد الإمبراطورية الثانية. ب- الإمبراطورية الأشورية الثانية: بعد أن توفي "أدد نراري الثالث" تتابع على العرش أولاده الأربعة

_ 1 انظر أعلاه ص281. 2 بالحساب الفلكي أمكن اتخاذ هذه الظاهرة أساسًا لضبط التاريخ الأشوري، انظر ص28.

الذين كان أصغرهم "تجلات بلاسر الثالث"، وقد جاء هذا على العرش بعد مقتل أخيه "ثالث أبناء أدد نراري" في الثورة الداخلية التي نشبت في نمرود، وقد أثبت هذا أنه كان جديرًا بالحكم؛ إذ عرف مواطن الضعف في الدولة وعمل على علاجها ثم أخذ يعد العدة لإعادة مجد أشور, واستطاع أن يبلغ بإمبراطوريته إلى حدود لم تصلها من قبل؛ حيث أخضع الدولة البابلية وضمها إلى إمبراطوريته وأعلن نفسه ملكًا عليها، كذلك تمكن هذا الملك من اجتياح معظم المدن السورية وحاصر دمشق إلى أن أسقطها وقتل ملكها1، كما تمكن أيضًا من أن يؤمن حدوده الشمالية ضد غزوات بعض القبائل الأرمينية، وهكذا قضى "تجلات بلاسر الثالث" معظم حكمه في الحروب ولكنه ترك إمبراطورية واسعة. وفي عهد ولده "شلمنصر الخامس" قام ملك إسرائيل "هوشع" بتحريض من المصريين بمحاولة التخلص من السيطرة الأشورية؛ فأسرع شلمنصر وحاصر السامرة لمدة ثلاثة أعوام؛ ولكنها لم تسقط إلا في يد خلفه "سرجون الثاني"؛ لأنه اضطر إلى العودة إلى أشور لحدوث بعض المؤامرات فيها، وقد انتهت هذه بقتله بعد حكم دام أقل من خمس سنوات. وفي بداية عهد خليفته "سرجون الثاني" قامت الثورات في أنحاء كثيرة من الإمبراطورية رغبة في الانفصال عن سيطرتها؛ فاضطر أن يقوم بحملات متتالية تمكن على أثرها من أن يعيد الوحدة إليها وأسرعت بعض المناطق المجاورة لاكتساب عطفه بالهدايا مثل قبرص، ولما شعر بأن مصر تبذل جهدها في إقامة بعض الأحلاف مع أمراء سورية وفلسطين؛ لكي تحمي نفسها من غزوات أشور المتوقعة, قضى على تلك المحاولات؛ حيث أخضع معظم الإمارات السورية والفينيقية وفتح السامرة وسبى أحسن رجالها ونقلهم إلى ميديا2.

_ 1 انظر أعلاه ص381. 2 انظر أعلاه ص221، 289.

ولما مات سرجون تبعه ولده سناحريب الذي واجه في بداية حكمه خطرين, أحدهما من بابل التي كانت تحاول الاستقلال ثانية, والثاني من ولايات سورية وفلسطين، وكان ملك بابل وملك مصر يمنيان ولايات سورية وفلسطين بالمساعدة، وكانت بابل بوجه خاصتحرصعلى تشجيع هذه الولايات حتى تشغله عنها، وقد فطن سناحريب لذلك فتوجه إليها ودَكَّ حصونها وخربها وعين ابنه "أسرحدون" واليًا على جنوب العراق, ثم قضى على دويلات أهل البحر في أقصى الجنوب؛ لكثرة ثوراتهم مستعينًا في ذلك بسفن صنعها له صناع مهرة من الفينيقيين واليونانيين، وحينما علم بحدوث تحالف بين أمراء سورية وفلسطين بمساعدة مصر توجه إلى منطقة الخطر بجيش كبير وغزا المدن الساحلية في فلسطين ثم حاصر بيت المقدس وأخضعها, ولكن وباءً خطيرًا انتشر بين قواته؛ فاضطر إلى العودة إلى بلاده بفلول جيشه1, وخاصة بعد وصول الأنباء بحدوث اضطرابات فيها, ومات بأيدي أبنائه الذين طمعوا في العرش. وبعد مقتل سناحريب تنافس أبناؤه على العرش, ثم فاز به ولده "أسرحدون" الذي استطاع أن يقضي على الفتنة سريعًا, ثم وجه همه للانتقام من مصر لتدخلها في شئون مستعمراته في سورية وفلسطين، وقد استعد ملكها النوبي طهرقة لملاقاته كما أرسل بعض الإمدادات إلى حلفائه في سورية وفلسطين؛ فلما زحف الملك الأشوري نحو مصر استطاع أن يصل إلى شرق الدلتا؛ ولكن المصريين استماتوا في الدفاع حتى تمكنوا من هزيمة الأشوريين وردوهم عن بلادهم؛ ففقدت الجيوش الأشورية هيبتها واضطر الملك إلى الاستعداد لإعادة الكرة حرصًا على سمعة الإمبراطورية. أما طهرقة فقد اطمأن إلى أن الأشوريين لن يعودوا إلى مصر ولم يستعد لملاقاتهم؛ إلا أن الملك الأشوري عاد سريعًا وظهر فجأة في سورية, وعاقب ملك صور على انضمامه لمصر, ثم أسرع مخترقًا الصحراء،

_ 1 انظر ص221.

ولم يكن طهرقة متأهبًا للقائه فوصل الجيش الأشوري إلى الوجه البحري واضطر طهرقة إلى التحصن بمنف؛ ولكن الأشوريين أسرعوا وراءه وهزموا الجيش المصري وفتحوا منف؛ ففر طهرقة إلى طيبة في الجنوب واستعمر الأشوريون الدلتا، ثم عاد أسرحدون إلى بلاده حيث أصيب بمرض مات على أثره. وحدث اختلاف على العرش من جديد, وانتهى هذا الاختلاف بتعيين أشور بانيبال ملكًا؛ بينما عين أخاه الأكبر ملكًا على بابل، ولم يكد أشور بانيبال يجلس على العرش حتى وصلت أنباء ثورة المصريين ضد أشور؛ وذلك لأن بعض الأمراء اتفقوا مع طهرقة على أن يعود هذا الأخير إلى الدلتا ويقتسم السلطة معهم1، فجرد أشور بانيبال حملة كبيرة سارت إلى مصر، ولم تكتفِ هذه الحملة باحتلال الدلتا؛ بل سارت إلى طيبة وخربتها وعاد طهرقة إلى عاصمته في النوبة العليا "نباتا" وبقي بها إلى أن مات، ومع ذلك لم يبقَ الأشوريون بمصر طويلًا بل عادوا إلى بلادهم واكتفوا بأخذ الجزية؛ فلما تولى عرش نباتا "تانويت أماني" عاد إلى احتلال مصر من جديد, ولم يجد أشور بانيبال بدًّا من أن يرسل جيشًا إلى مصر؛ فاضطر تانويت أماني إلى الفرار إلى عاصمته نباتا, وخرب الجيش الأشوري طيبة للمرة الثانية. وقد استمر التعاون بين أشور بانيبال وأخيه ملك بابل نحو عشرين عامًا؛ ولكن هذا الأخ ثار بعد ذلك فجرد أشور بانيبال حملة تأديبية ضده تمكنت من القضاء عليه وفتحت بابل عنوة, وبعدئذٍ تقدم الأشوريون جنوبًا وأخضعوا القبائل العربية والآرامية التي ساعدت بابل في ثورتها, وهاجموا العيلاميين وفتحوا عاصمتهم سوسة كذلك. وبعد وفاة أشور بانيبال حدثت منازعات حول العرش, وتمكن بعدها ولده "أشور - إتل - إيلاني" من الفوز به؛ ولكنه كان ضعيفًا فانفصلت عن المملكة

_ 1 انظر أعلاه ص223.

بعض ممتلكاتها مثل مصر وكثير من المدن الساحلية في فلسطين وسورية, كما انفصلت عنها مدن أرمينية، وشن أحد ملوك الميديين هجومًا على أشور فصده الجيش الأشوري وهزم جيشه وقتله، وفي بابل تكونت أسرة جديدة تعرف باسم "الأسرة البابلية الأخيرة" أو "المملكة الكلدانية"، كما انتهز القائد الأشوري فرصة إقامة الملك في نمرود؛ فأعلن تمرده عليه في نينوى وعزله؛ ولكن أخا الملك حارب هذا القائد وقضى عليه ثم استأثر بالسلطة. وقد أثرت الحرب الداخلية على سمعة المملكة وهيبتها؛ فانفصلت أماكن أخرى كثيرة عنها, واستطاع "كي أخسار Cyaxares" ملك الميديين أن يستولي على شمال إيران وشمال بلاد النهرين, ثم توغل إلى سهول أشور حيث قامت بينه وبين الجيش الأشوري حروب طاحنة، وبعد أن اتفق مع ملك بابل هاجما العاصمة فسقطت في أيديهما بعد حروب عنيفة, واقتسما مملكة أشور؛ حيث تولى استولى الميديون على قسمها الشمالي الشرقي، واستولى البابليون على جنوبها وأرسل ملك بابل ولده "نبوخذ نصر" ليتتبع فلول الجيش الأشوري التي كانت قد هربت إلى "حران", وانتصر "نبوخذ نصر" وقضى على بقية الجيش الأشوري, ثم واصل سيره غربًا واحتل المقاطعات التي كانت تخضع للأشوريين من قبل، وقد تقابل مع الملك المصري نخاو الذي كان قد تقدم إلى سورية ودارت بين الاثنين معركة حاسمة بالقرب من قرقميش, انتصر فيها نبوخذ نصر وتراجع الجيش المصري إلى بلاده1.

_ 1 انظر أعلاه ص228، 385.

العهد البابلى الأخير "المملكة الكلدانية"

8- العهد البابلي الأخير "المملكة الكلدانية": أشرنا فيما سبق إلى القلاقل التي تعرضت لها الدولة الأشورية قبل انهيارها،

والواقع أن أكثر هذه القلاقل خطورة هي التي قامت في الجنوب؛ حيث انتهز البابليون فرصة تدهور أشور وبدءوا كفاحهم من أجل الاستقلال, وقد بدأ الحاكم البابلي "الذي عينه أشور بانيبال بعد أخيه" الثورة بمجرد تعيينه، وبعد وفاته أصبح حاكم بلاد البحر "نبوبولصر"1 زعيمًا للثورة, ولم تتمكن القوات الأشورية المرابطة في الجنوب "في نيبور" من هزيمته؛ فأعلن نفسه ملكًا على بابل؛ مؤسسًا الأسرة الحادية عشرة البابلية وهي التي تعرف باسم "الأسرة البابلية الأخيرة" أو "المملكة الكلدانية" كما أشرنا. وقد ظلت الحروب قائمة بين بابل وأشور نحو 11 عامًا استطاع بعدها "نبوبولصر" أن يستولي على نيبور وأن يحرر كل بلاد سومر وأكد, ثم استمر في فتوحاته شمالًا على طول الفرات؛ حتى وصل إلى منطقة حران، ومنها تقدم على طول دجلة إلى كركوك وأشور، وحاصر أشور؛ ولكنه لم ينجح في الاستيلاء عليها، وفي تلك الأثناء طلب الأشوريون المعونة من مصر التي كانت خاضعة لهم فيما سبق؛ ولكن هذه المعونة جاءت متأخرة؛ لأن الميديين كانوا هم أيضًا قد بدءوا غزو الأراضي الأشورية واستولوا على أربخا وأشور، وعند هذه الأخيرة تقابل "كي أخسار Cyaxares" ملك الميديين مع "نبوبولصر" ملك بابل وارتبطا برباط الصداقة والسلام, وأيدا ذلك فيما بعد بزواج "نبوخذ نصر" بن "نبوبولصر" من "أميتس" بنة "كي أخسار"، ومنذ ذلك الوقت ظل الاثنان يحاربان معًا، وتمكنا في النهاية من إسقاط نينوى كما سبق أن أشرنا. وبعد مقتل آخر ملوك أشور اعتلى العرش أحد قواده " وكان يدعى أشور أوبالط" وجمع ما بقي من فلول الجيش الأشوري والمدد المصري الضئيل الذي أرسل إلى أشور واعتصم بهم في منطقة حران؛ فتقدم البابليون والميديون نحوه وسقطت مدينة حران

_ 1 كان من قبيلة الكلدان الآرامية, انظر: Roux, op, cit., p. 340.

في أيديهم، وبعد محاولات يائسة لمدة عام تقريبًا اختفى "أشور أوبالط" بعد أن اعتلى العرش الأشوري نحو ثلاثة أعوام، ويبدو أن الميديين لم يهتموا بامتلاك أشور فقنعوا بنصيبهم من الغنائم, ثم حولوا أطماعهم إلى أرمينيا وآسيا الصغرى، أما البابليون؛ فقد امتلكوا أشور ولكنهم لم يحتلوها ولم يحاولوا إصلاح ما أتلفوه فيها؛ حيث كرسوا جهودهم لإعادة إحياء المجد الديني والثقافي لجنوب بلاد النهرين. وحينما وقعت سورية وفلسطين في أيدي المصريين كمحاولة غير ناجحة من "نخاو"1 لمساعدة حلفائه الأشوريين, تقدم البابليون للقائه بقيادة "نبوخذ نصر"؛ لأنهم كانوا يحرصون على إبقاء طريقهم إلى البحر المتوسط مفتوحًا، وانتصر البابليون وفتحوا سورية وفلسطين وتقدموا نحو مصر, ولكن موت "نبوبولصر" أثناء ذلك جعل ولده "نبوخذ نصر" يعود مسرعًا إلى بابل. وقد تولى "نبوخذ نصر" العرش بعد والده وكانت البلاد قد بدأت في الازدهار واستقرت أمورها السياسية؛ فوجه جهوده نحو تشييد العمائر وترميم المعابد وإن كان قد أرسل جيشًا لتأديب مملكة يهودا حيث احتل بيت المقدس؛ إلا أن اليهود ثاروا بعد مضي عشر سنوات فسار إليهم ودخل بيت المقدس وخربها وفتك بأهلها. وبعد أن حكم "نبوخذ نصر" نحو 43 سنة خلفه على عرش بابل ملوك ضعاف, فلم يكد ولده يحكم عامين حتى ثار عليه الكهنة لسماحه لليهود بممارسة طقوسهم الدينية بحرية وعلى نطاق واسع, وقتلوه ونصبوا مكانه أحد قواد والده وهو صهره في نفس الوقت، ولم يقم هذا الأخير بما يستحق الذكر ثم مات

_ 1 انظر أعلاه ص228، 385.

بعد أن حكم 4 سنوات, وتبعه ابنه الصغير الذي لم يحكم سوى أسابيع قليلة، ثم تدخل الكهنة ثانيًا وأبعدوه عن الحكم, وعينوا مكانه أحد أبناء طائفتهم ويدعى "نبونهيد"؛ ولكن هذا لم يستطع أن ينهض بأعباء الحكم ولم يقم إلا ببعض النشاط العمراني, وقد تحالف مع الملك الفارسي كورش ضد الميديين ثم غزاهم وغزا شمال بلاد العرب وانشغلت فارس بحروبها في جهات أخرى. وفي عهد خلفه ثار حاكم سوسة وانضم إلى الفرس وبعدئذٍ هاجم ملك الفرس "كورش" بابل ودخلها وأخذ ملكها "نبونهيد" أسيرًا، وهكذا زالت آخر سلالة بابلية وانتهى رمز الحضارة البابلية رغم بعض محاولات الفرس لإحياء مجد مدينة بابل, ومن بعدهم حاول الإسكندر أن يجعلها مركز إمبراطوريته؛ ولكنها سرعان ما أهملت بعد وفاته وتحولت إلى أطلال.

الفصل الثامن: إيران

الفصل الثامن: إيران مدخل ... الفصل الثامن: إيران: تتلو العراق شرقًا منطقة إيران وتعد النهاية الشرقية لإقليم الشرق الأدنى, وكانت ذات أثر كبير في تاريخه وحضارته؛ لأنها تقع في طريق المواصلات البرية بين الشرق الأقصى وإقليم البحر المتوسط، وكثيرًا ما كانت تستقبل هجرات بين حين وآخر من وسط آسيا، ويعد سكان سهولها من أقدم الشعوب التي توصلت إلى الزراعة والاستقرار، وقد تمكن حكامها في بعض عصورها التاريخية من أن يبسطوا نفوذهم على ما جاورهم وأسسوا إمبراطورية واسعة, ما إن أفل نجمها حتى أخذت تصبح مجالًا لتنازع القوى الكبيرة؛ لما لها من موقع إستراتيجي ممتاز, ولما لثرواتها الطبيعية من أهمية اقتصادية. وهي في شكلها العام تمثل هضبة مثلثة تنحصر بين منخفضين: الخليج العربي في الجنوب وبحر قزوين وسهل التركمان في الشمال ... وتغلب عليها الطبيعة الجبلية وكل سلاسل جبالها تمتد حول منخفض في الوسط يمثل منطقة صحراوية كانت في الأصل بحرًا داخليًّا ثم جفت مياهه، وهذه السلاسل هي: جبال زاجروس في الغرب وهي تسير في سلاسل متوازية من الشمال الغربي إلى الجنوب الشرقي ويفصل فيما بينها عددٌ من الوديان, وجبال البرز في الشمال وهي التي تكاد

تحف بالشاطئ الجنوبي لبحر قزوين وتمتد غربًا؛ بحيث تنتهي في منطقة أذربيجان، "وتعرف أيضًا باسم الخليج الميدي" التي تتوسطها بحيرة أرميا الملحة, وتكاد تكون من أكثر مناطق إيران كثافة في السكان؛ حيث يسهل الدخول إليها من الشمال الغربي والشمال والشمال الشرقي؛ مما كان له أكبر الأثر في تاريخها، وفي الشرق توجد جبال خراسان وهي قليلة الارتفاع سهلة العبور وتعد المنفذ الثاني لدخول إيران، وفي الجنوب توجد جبال مكران، أما الجزء الأوسط من إيران فهو صحراء من أجدب بقاع العالم تنقسم إلى قسمين: الشمالي منهما عبارة عن مسطحات طينية ملحة, لا يعيش فيها كائن؛ إلا حيث تقل نسبة الملوحة في جهات نادرة. أما القسم الجنوبي فعبارة عن منطقة جافة تمامًا تنعدم فيها الحياة "انظر خريطة رقم7" فالحياة في إيران منذ عصورها السحيقة محتملة في الوديان والسهول فقط؛ سواء تلك التي تحف بالهضبة من الخارج أو التي توجد بداخلها. ويمثل السهول التي تحف بالهضبة من الخارج: "أ" سهل خوزستان في الجنوب الغربي "منطقة سوسة القديمة" وهو يعد امتدادًا لسهول العراق, وكان مقرًّا لمدينة قديمة مستقرة؛ إلا أن أهله تأثروا في تاريخهم بالقبائل البدوية وشبه البدوية التي سكنت الجبال والتلال المجاورة، وحينما اتسعت رقعة الإمبراطورية الإيرانية كان مركزها في وسط هذا السهل "حول سوسة"، "ب" السهل الشمالي الذي ينتهي عند الجبال المطلة على بحر قزوين. أما السهول الداخلية في الهضبة فلم تلعب إلا دورًا ثانويًّا في حضارة إيران, وكانت الصعوبة الدائمة أمام أهلها تنحصر في عدم توفر مياه الري ومحاولتهم تدبيرها، وقد عثر على ما يشير إلى أن القنوات الصناعية استخدمت بها من أقدم العصور إلى عهد الإخمينيين1، وتقع مدن إيران القديمة وعواصمها في مواجهة

_ 1 انظر فيما بعد ص410 وما بعدها.

الصحراء على طول الطريقين الرئيسين اللذين يحفان بسلسلتي الجبال العظيمتين "البرز في الشمال ومكران في الجنوب"، وكان لهذا أثره بالطبع؛ حيث نجد أن أهم المواقع الأثرية مثل: سيالك "قرب قاشان" ودمغان ومشهد وغيرها, فهي تقع في هيئة قوس حول الصحراء الملحية سالفة الذكر. وهكذا نجد أن الهضبة الإيرانية -من الوجهة الطبيعية- تعتبر مجزَّأة إلى مناطق منفصلة غير متجانسة لا يسهل توحيدها كما أن الدفاع عنها عسير، ومع أن هذه كانت حالها في تاريخها الطويل، ومع أن أهلها عاشوا مشتتين في الواحات والسهول الزراعية الضيقة؛ فقد استطاعوا خلق مدنية تركت طابعها في كثير من المدنيات الأخرى1.

_ 1 R, Chirshman, "Iran" "Pelican 1945", P. 26.

العصور قبل التاريخية

العصور قبل التاريخية: العصر الحجري القديم: أقدم ما عثر عليه من آثار في إيران يدل على أن الإنسان كان يعيش في الكهوف، واستمر كذلك إلى العصر الحجري الحديث، ومن المواقع التي وجدت فيها آثار من العصر الحجري القديم كهف تنجى بابدا في جبال بختياري التي تحد الهضبة1 من الغرب؛ حيث عثر على فئوس حجرية تشبه نظائرها في جهات العالم الأخرى.

_ 1 Chirshman, op. cit, 27 f.

العصر الحجري المتوسط

العصر الحجري المتوسط: لم يعثر على آثار تمثله في إيران حتى الآن, وما زالت البحوث الأثرية فيها غير كافية بصفة عامة.

خريطة رقم 7

العصر الحجري الحديث

العصر الحجري الحديث: حينما اشتد الجفاف في أقاليم الشرق الأدنى؛ أخذ الإنسان يهجر المناطق التي عاش فيها إلى وديان الأنهار وبالقرب من المجاري المائية الدائمة كما سبق أن أشرنا1، ولم يشذ أهل إيران عن غيرهم من سكان بقية أقاليم الشرق الأدنى فاتجهوا إلى السهول؛ حيث أخذوا يتحولون إلى حياة الاستقرار فيها، وأقدم المحلات التي أمكن التعرف عليها في السهول توجد في سيالك "قرب قاشان" جنوب طهران التي يميز فيها بين طبقات حضارية ثلاث, تعرف بين الأثريين باسم سيالك1، سيالك2، سيالك3 على الترتيب، ولا ينتمي إلى العصر الحجري الحديث إلا سيالك1. سيالك1: تنتمي هذه الحضارة إلى نهاية العصر الحجري الحديث، وفيها لم يعرف الإنسان بناء المنازل بل كان يحتمي -في أول الأمر- في دروة من المواد الخفيفة, ثم عرف -في نهاية المرحلة- كيف يقيم جدرانًا من الطين يأوي إليها، ومع أنه استمر صيادًا إلا أنه أخذ يستأنس بعض الحيوانات مثل الماشية والأغنام "التي اكتشفت عظامها مع مخلفاته"، وبدأ مرحلة الزراعة وصنع الفخار وهو إما أسود أو أحمر, وكانت أوانيه مزخرفة بخطوط أفقية ورأسية متقاطعة يحتمل أنها كانت محاكاة للسلال، وكانت كل آلاته من الحجر، وقد عثر منها على سكاكين ومحتات وفئوس وغيرها, أما أدوات الزينة فكانت كثيرة منها دلايات من المحار وأساور وخواتم من المحار أو الحجر، ومن المرجح أن الإنسان في ذلك العصر استعمل الوشم أو طلاء الوجه على الأقل؛ حيث عثر على محصن وصلاية دقيقين، وقد أخذت النزعة الفنية في الظهور فبدأ الحفر والنقش في العظام؛ إذ نجد

_ 1 انظر أعلاه ص44.

مقابض بعض الأدوات مزينة برسوم تمثل غزلانًا أو أرانب، وأجمل ما عثر عليه من هذا العصر قطعة يحتمل أنها كانت مقبض سكين, وهي في هيئة إنسان يلبس قلنسوة ويغطي عورته إزار مثبت بحزام, وتعد من أقدم تماثيل الشرق الأدنى القديم. وكان أهل هذه الحضارة يدفنون موتاهم تحت أرضية المنازل في وضع مقرفص, ومن المرجح أنهم اعتقدوا في البعث لوجود بعض الأثاث الجنزي والتقدمات مع الموتى. ويدل وجود المحار -وهو من نوع يوجد على بعد 600 ميل من موقع سيالك- على أن إنسان سيالك "أ" كان على صلات تجارية مع مناطق بعيدة جدًّا، ويرجح بعض الأثريين أنه توصل إلى معرفة النحاس واستخدامه في بعض الأغراض البسيطة مثل عمل الدبابيس؛ فإن صح هذا فإن إيران تكون أول من استخدم النحاس في العالم القديم, ولا يمكن في هذه الحالة أن تعتبر سيالك "أ" ضمن العصر الحجري الحديث.

عصر بداية استخدام المعادن

عصر بداية استخدام المعادن: سيالك2: هذه الحضارة تعاصر تقريبًا حضارة البداري في مصر وحضارة العمق "حـ" في سورية، وهي مرحلة متقدمة يبدو أن الأمور استقرت فيها؛ مما أتاح الفرصة للنهوض؛ فقد أخذ الإنسان يستخدم اللبن بدلًا من الكتل الطينية التي كان يستعملها في بناء مأواه، ولم يكن هذا منتظمًا في شكله تماما؛ لأنه لم يصنع بقوالب بل كان يُهَيَّأ باليدين مما جعله يتخذ شكلًا بيضيًّا "أي: إنه كان في وسطه أكثر سمكًا منه في الطرفين"، وكانت المنازل متسعة وأصبحت تطلى باللون الأحمر وتزود بالأبواب أو بمنافذ تغطيها ستر، وكان الموتى يدفنون في أرضيتها كما كان الحال في الحضارة السابقة، وتقدمت

صناعة الأواني الفخارية وزادت زخرفتها حيث زينت بمناظر حيوانات وطيور رسمت بلون أسود على أرضية حمراء، وكثر استخدام النحاس وإن كان ما زال يطرق ولا يصب في قوالب ولم يتعدَّ استخدامه صناعة بعض الأواني والدبابيس، كذلك كثرت أدوات الزينة واستخدمت فيها مواد جديدة مثل العقيق وغيره من الأحجار البراقة، ومن الحيوانات التي استأنسها إنسان هذه الحضارة كلاب الصيد والخيل الصغيرة الحجم؛ بالإضافة إلى الماشية والأغنام التي عُرف استئناسها من العصر السابق. سيالك3: يظهر في هذه الحضارة تطور معماري جديد؛ إذ أصبح شكل اللبن منتظمًا بعد أن صار يصب في قوالب, وأصبحت القرى تخترقها ممرات طويلة ضيقة ومتعرجة تفصل بين الملاك المختلفين, وكانت المنازل تزود بأبواب ونوافذ صغيرة ضيقة؛ ولكن كان مما يساعد على زيادة إضاءتها أن جدرانها لم تكن مستقيمة بل كانت ذات مداخل ومخارج أو فجوات على أبعاد منتظمة, وكانت تزينها من الخارج قطع من الأواني الفخارية الكبيرة, ويرجح البعض أنها ثبتت في الجدران لحمايتها من الرطوبة، كذلك كانت تطلى باللون الأحمر كما في العصر السابق أو باللون الأبيض الذي أخذ يظهر في بيوت هذا العصر، وقد ظل الموتى يدفنون تحت أرضية المنازل وفي الوضع المقرفص أيضًا، وزادت كمية الأثاث الجنزي وكثرت التقدمات. ومن أهم الاختراعات في هذا العصر عجلة الفخار التي ساعدت على خلق كثير من الأشكال في صناعة الأواني, كذلك أدخلت أنواع عديدة من الزخارف "انظر شكل 35"، ونتبين في رسوم الفخار أنها مرت بثلاث مراحل: الأولى: كانت الكائنات فيها ترسم على حقيقتها، والثانية: رسمت فيها الكائنات

بشكل زخرفي مختصر، أما الثالثة: فقد عاد الميل فيها إلى فن الحقيقة من جديد وتميزت المناظر المختلفة فيها بالحيوية والحركة؛ حيث يبدو أن الفنان كان يريد أن يعبر بها عن أفكار يرغب في إبدائها للناظر أي: إنه كان في الواقع يمهد للكتابة, وهذه المرحلة ترجع إلى نفس الزمن الذي ظهرت فيه الكتابة في العراق؛ أي أنها عاصرت نشأة الكتابة هناك، ولم يقتصر التقدم الفني على رسوم الفخار بل كان يتمثل كذلك في أشكاله؛ حيث عملت منه تماثيل صغيرة تمثل آلهة الأمومة وأنواع عديدة من الحيوانات ولعب الأطفال. "شكل 35" آنية من سيالك3 وقد تطورت صناعة المعادن؛ فأصبح النحاس يصهر ويصب في قوالب لعمل الأدوات المختلفة ولو أن الآلات الحجرية ظلت مستعملة كذلك, وتعددت أدوات الزينة وزاد استخدام الأحجار شبه الكريمة، ومن المرجح أن اتساع نطاق التجارة جعل الصناع يميزون صناعاتهم بعلامات مميزة؛ فاستخدموا ختمًا من الحجر على مخروط كان في بداية الأمر ينقش بزخارف هندسية الشكل

ثم وضعت بعد ذلك رموز أخرى من الكائنات الحية "شكل 36" والنباتات التي كانت تستوحى من رسوم الفخار. وكان التقدم واضحًا في كل مضمار أثناء هذه المرحلة الحضارية إذ ارتقت الحياة الاجتماعية؛ حيث انتظمت الجماعات المختلفة في مدن كبيرة في مناطق السهول وخاصة في سوسة؛ فقد ظهرت أول حكومة مدنية في عيلام، أما المناطق الأخرى من الهضبة فإن قلة عدد السكان وتفرقهم في أماكن متباعدة كان سببًا في تأخر نمو هذه الجماعات وانتظامها في مدن كبيرة. "شكل 36" أختام بها زخارف هندسية الشكل ولم يعثر على ما يمثل هذه المراحل الحضارية الثلاثة سالفة الذكر مجتمعة في أي من الأماكن الأثرية بالهضبة؛ ففي جيان "قرب نهاوند" وتل باكون وسوسة مثلًا لم تستقر الحضارة فيها إلا من نهاية عصر سيالك2 وبعدها أخذت بعض المظاهر الحضارية ومن بينها الفخار الملون تنتشر في كل أنحاء الهضبة وخارجها، ثم أخذت صناعة الفخار والمعادن تخطو في تقدمها خطوات موحدة تقريبًا وإن وجدت مميزات فردية لكل منطقة, حيث أخذ كل مصنع يميل إلى أشكال معينة ويتأثر بمؤثرات خاصة، وقد مهد ذلك إلى تطور الحضارة في منطقة عيلام قبل دخولها في عصرها التاريخي.

فترة التمهيد للعصر التاريخي في عيلام

فترة التمهيد للعصر التاريخي في عيلام: أشرنا إلى أن علامات انعدام الوحدة في صناعة الفخار الملون أخذت تظهر في النصف الثاني من الألف الرابع قبل الميلاد, ثم اختفى هذا الفخار فجأة من سوسة وحل محله فخار أحمر يماثل أحد الأنواع التي ظهرت في بلاد النهرين، وربما يرجع ذلك إلى حدوث نهضة حضارية في سوسة كانت متأثرة بحضارة تلك البلاد. ولم تكن منطقة سوسة هي المنطقة الوحيدة التي تأثرت بمؤثرات غريبة؛ بل أثبتت الأبحاث الأثرية أن كل السواحل الشمالية للخليج العربي قد تأثرت بها، كما أن المناطق الجنوبية من إيران كافحت طوال العصور التالية دخول المؤثرات الثقافية التي كانت تأتي من بلاد النهرين، أما المناطق التي كانت في غرب الهضبة فلم تعانِ ضغطًا أجنبيًّا وظل الفخار الملون مستعملًا وبنفس الأساليب القديمة؛ ولكن أضيفت إلى أشكاله وزخارفه القديمة أشكال وعناصر زخرفية جديدة، كما يتبين ذلك في آثار جيان, ثم أخذ الفخار الملون في الاختفاء تدريجيًّا من غرب إيران وحل محله الفخار الأسود أو الرمادي المسودّ؛ مما يوحي بتسلل عناصر أجنبية إلى المنطقة واندماجهم مع السكان الأصليين فيها، وتدل شواهد الأحوال على أن العناصر الدخيلة جاءت من التركستان الروسية أو من سهول بعيدة وسط آسيا, واستمرت في تقدمها غربًا حتى وصلت إلى كبادوشيا "Cappadocia" بآسيا الصغرى.

ولم ينجُ وسط إيران من المؤثرات الخارجية؛ فقد وجدت في سيالك آثار تدل على حدوث حريق وتدمير لبعض المساكن التي تنتمي إلى سيالك3 وإقامة مساكن أخرى مكانها, اختفى الفخار الملون منها وحل محله فخار أحمر أو رمادي يشبه في أشكاله فخار سوسة، كما أن الختم الأسطواني أصبح يستعمل بدلًا من الختم المخروطي الذي كان معروفًا من قبل، ويدلنا هذا على إدخال الكتابة على الألواح الطينية, وبالفعل ظهرت الكتابة قبل العيلامية في ألواح وآثار وجدت مع هذه الأختام. ويبدو أن العناصر التي جلبت معها هذه الكتابة "قبل العيلامية" إلى سوسة دخلت أيضًا إلى منطقة سيالك؛ ولكن في غزوة وحشية, ومن المرجح أنها كانت أقوى وأغنى من سكان المنطقة الأصليين؛ لأن وجود مظاهر حضارية "من تلك التي أحدثوها في سوسة" بمنطقة سيالك مع ما صاحبها من آثار تدمير وحريق يشير إلى أن هذه الحضارة قد فرضت بالقوة خلافًا لما حدث في المنطقة الشمالية؛ حيث تسللت إلى هذه الأخيرة العناصر المسالمة التي أشرنا إلى احتمال مجيئها من التركستان أو من السهول البعيدة في وسط آسيا, وجلبت معها الفخار الأسود والرمادي المسود واندمجت مع السكان الأصليين1. وتتميز منازل هذا العصر بأنها بنيت بعناية ولو أن أبوابها ظلت حقيرة، وكانت تزود عند مدخلها بموقد مقسم إلى قسمين, أحدهما للطعام والآخر للخبز وإلى جانبه إناء للماء. وقد عثر فيها على أثاث متواضع خشن الصنع, كانت مفرداته والمؤن المختلفة التي معه توضع داخل فجوات مخصصة لها أو تحاط بأسوار أو حواجز حجرية لحمايتها، وكان الموتى يدفنون تحت أرضية الحجرات وتوضع معهم مهمات جنزية وتقدمات مختلفة مثل أدوات الزينة والمرايا النحاسية وأوانٍ من المرمر وغيرها، وقد زين الموتى أنفسهم

_ 1 يبدو ذلك واضحًا في آثار جيان كما أشرنا أعلاه.

بحلي كثيرة منها دلايات من الفضة المطعمة بالأصداف والذهب واللايس لازولي1, ودلايات أخرى من الفضة المطروقة, وأقراط مزينة بقطع من الذهب واللايس لازولي بالتبادل, وأساور من فضة, وعقود طويلة خرزها من أحجار بيضاء ومن الذهب والفضة واللايس لازولي والعقيق, ويوحي تعدد المواد ورقي الصناعة بأن هذه الحلي صنعت في سوسة أو في بلاد العراق؛ حيث عثر على ما يشبهها في المقابر الملكية في أور. وتنحصر أهمية تلك الحضارة التي وجدت في سوسة وتوغلت إلى وسط هضبة إيران في استخدام الكتابة التي يدل مظهرها على أنها كانت متقدمة عن الكتابة التصويرية البحتة، ومع أنها لم تقرأ بعد؛ إلا أن ما عثر عليه من نصوص كتبت بها يدل على أن هذه النصوص عبارة عن أرقام وعمليات حسابية خاصة بشئون تجارية. ومنطقة سيالك هي الموقع الوحيد الذي وجدت فيه وثائق مكتوبة قبل عصر الأخمينيين2 داخل الهضبة؛ وحيث إن هذه المنطقة قد تأثرت بحضارة عيلام3؛ فلا بد أن الكتابة والثقافة العيلامية قد انتشرنا إليها عن طريق توسع سياسي عيلامي يحتمل أنه كان لخدمة أغراض تجارية، ومما يرجح هذا الرأي أن الكتابة والثقافة العيلاميتين استمرتا فيها طوال المدة التي بقيت فيها مراكز تجارية عيلامية في وسط الهضبة, ثم اختفت بعد زوالها. ومع أن التأثيرات الحضارية التي جاءت إلى إيران لم تصل إليها من منطقة واحدة أو في وقت واحد أو بدرجة واحدة؛ فإنها استطاعت أن تمتص هذه المؤثرات, وفي نفس الوقت كانت ثقافتها تنتشر إلى ما جاورها؛ فمثلًا استعملت بلاد النهرين نوعًا من الفخار المزخرف الذي كان شائعا في سيالك وحسار أي: إنه انتقل إليها من إيران.

_ 1 كان التطعيم بتثبيت هذه المواد في الفضة بواسطة القار "Chirshman, Iran, 48". 2 منذ أوائل الألف الأول قبل الميلاد سادت إيران ثلاثة عناصر هندو أوروبية؛ فقد حكمها على التوالي الإيرانيون والميديون ثم الأخمينيون الذين كونوا إمبراطورية واسعة, تنازعت مع اليونان على السيادة على العالم القديم إلى أن قضى عليها الإسكندر الأكبر. 3 انظر أعلاه ص398 وما بعدها.

العصر التاريخي

العصر التاريخي مدخل ... العصر التاريخي: بدأ التعرف على آثار ونقوش إيران منذ القرن الخامس عشر حيث زارها بعض المبشرين والرحالة, وقد ذكر بعضهم أن النقوش التي شاهدوها لا تمتُّ للفارسية الحديثة ولا تشبه العربية أو الآرامية أو العبرية؛ ولكنهم مع ذلك أخطئوا في افتراضاتهم التي ارتضوها لتفسير هذه النقوش والأنقاض التي شاهدوها، وربما كان إنجلبرت كيمبفر "Engeldert Kaempfer" الذي رافق بعثة سويدية إلى إيران سنة 1683 أول من حاول وصفها وصفًا علميًّا, بل وهو أول من أطلق على تلك النقوش اسم "الكتابة المسمارية". وفي أثناء عودة نيبور1 من الهند مخترقًا فارس توقف أمام أنقاض برسبوليس سنة 1765 وعمل تخطيطًا ونسخ نصوصًا منها، وكان أول من تبين أن بها ثلاث كتابات مختلفة2, وافترض أن العلامات البسيطة التي توجد بعد علامتين أخريين أعقد منها هي علامات هجائية استنتج منها 42 علامة هجائية, تثبتت صحة 32 منها فيما بعد بينما أخطأ في تسع منها, أما العلامة الباقية فكانت تستخدم فاصلًا بين الكلمات وليست هجائية، كذلك افترض بأن النقوش كانت تقرأ من اليسار

_ 1 انظر أعلاه ص245. 2 هذه الكتابات تمثل اللغات الفارسية القديمة والعيلامية المتأخرة والبابلية، انظر أعلاه ص342 هامش.

إلى اليمين، وهكذا كان نيبور من أعظم الذين أسهموا في محاولة تفسير هذه النقوش أو على الأقل وضع أسسًا مهمة في هذه المحاولة. ومن أهم من جاءوا بعد نيبور المفسر الألماني جروتفند "Grotfend" الذي استطاع عن طريق الترجمة اليونانية لبعض النصوص الفارسية التي وضعها هيرودوت، وغيره من كتاب اليونان أن يتعرف في نقشين من برسبوليس باللغة الفارسية على أسماء ثلاثة من الملوك, وأن يستنتج منها القيمة الصوتية لثلاث عشرة علامة؛ ولذلك يمكن أن يقال بأنه اكتشف مفتاح اللغة الفارسية القديمة1؛ ولكن هذا لم يقابل بالتقدير من معاصريه إلا أن جهوده لم تتوقف عند هذا الحد بل تابع جهوده في محاولة كشف غموض كتابات قديمة أخرى في آسيا الصغرى وإيطاليا. وظل علماء آخرون يبذلون جهودهم في تفسير رموز الفارسية ولكن نجاحهم كان محدودًا, ومن أمثلة هؤلاء راسك "Rask" الدانماركي وبرنوف "Bernouf" الفرنسي ولاسن "Lassen" الألماني النرويجي وغيرهم، وقد أحرز هذا الأخير نجاحًا كبيرًا بالاستعانة بفقرة مما كتبه هيرودوت عن الفرس؛ حيث تعرف على أسماء مرادفة لها في النقوش الفارسية القديمة المدونة في برسبوليس بالمسمارية, ومن فحص النصوص التي نسخها نيبور تبين له أن أحدها حوى ما لا يقل عن 24 اسمًا استنتج منها هجائية, ثبت فيما بعد أن 23 حرفًا منها كانت صحيحة. ولعل أبرز المفسرين للغة الفارسية كان رولنسون الإنجليزي "Henry Creswick Rawlinson" الذي يعد بحق رائد أو "أب" الأشوريات؛ ففي سنة "1835-1836" تمكن من نسخ نقشين من النقوش الثلاثية في سلسلة جبلية جنوب همدان، وكل منهما كان مكتوبًا بثلاث لغات ولم يكن يعرف

_ 1 انظر أعلاه ص343.

أن جروتفند كان قد توصل إلى معرفة أسماء ثلاثة ملوك من قبل, وقد لاحظ أن النقشين يتشابهان في احتواء كل منهما على ثلاث مجموعات من العلامات, استنتج أنها لنفس هؤلاء الملوك ومنها توصل إلى معرفة عدد من الحروف، كذلك وجد أن هذه الأسماء وردت في الأسطر الأولى من النقش المدون بالفارسية القديمة, وتذكر سلسلة نسب أجزركسيس، كما وردت في فقرة من تاريخ هيرودوت؛ فساعد ذلك على التعرف على أسماء أكثر، وتوالى نجاحه بعد ذلك حتى تمكن من تفسير النقش بأكمله ونشره في سنة 6-1849. ومن حل رموز هذه اللغة ومن تفسير مختلف النصوص التي عثر عليها أمكن التعرف على تاريخ إيران, والتوصل إلى أنه ينحصر في مرحلتين أساسيتين هما: مرحلة تاريخ عيلام، مرحلة تاريخ الإيرانيين "الميديين والفرس".

عيلام

أولًا- عيلام: في بداية الألف الثالث قبل الميلاد لم يدخل من إيران في العصر التاريخي سوى منطقة عيلام وحدها, أما بقية المناطق فإن معلوماتنا عنها تأتي من مصادر بلاد النهرين التاريخية وعلى الأخص المصادر البابلية, وهذه لا تذكر شيئًا عن الجهات الداخلية البعيدة؛ وإنما تكتفي بالمناطق المتاخمة لها على الحدود؛ حيث كان سكانها يعيشون على التلال ويحتكون دائمًا بأهل بلاد النهرين السومريين والساميين، وسكان المناطق المرتفعة هؤلاء هم من الجنوب إلى الشمال: العيلاميون والكاشيون واللولوبي والجوتي، وكلهم ينتمون إلى جنس واحد ويتكلمون لغات متشابهة. وقد أدى الضغط المستمر الذي كانت تفرضه عليهم الممالك المتحضرة في السهول إلى اتحادهم أحيانًا وبصفة مؤقتة؛ إذ كان الكفاح مستمرًّا بين الأمم المتحضرة في السهول وبين البدو وأشباه البدو في المناطق الجبلية؛ فكلما تكونت أسرة قوية في بابل زاد الضغط على سكان المناطق الجبلية, وكلما ضعفت بابل انحدر

هؤلاء من الجبال إلى مناطق السهول الغنية يحتلونها لفترات مختلفة، وعلى ذلك ظلت الهضبة الإيرانية في معظمها على حالة من البداوة، ولم يدخل العصر التاريخي في أول الأمر إلا منطقة عيلام. فحوالي الربع الأول من الألف الثالث قبل الميلاد كانت هناك أسرة عيلامية قائمة بالفعل تحكم مساحة كبيرة من السهول والمناطق الجبلية, من بينها جزء مهم من ساحل الخليج العربي ومنطقة بوشير، وتدل شواهد الأحوال؛ على أن المملكة القائمة وإن كانت قد اتخذت كتابة خاصة؛ إلا أنها استعملت اللغة السومرية. وعندما اعتلى "سرجون" الأكدي عرش بلاده غزا عيلام التي كافحت من أجل الدفاع عن كيانها, ولكن سرجون انتصر عليها في موقعتين حاسمتين، ومن المحتمل أنه ضم سوسة نفسها إلى ممتلكاته, كذلك كان ولده "مانيشتوسو" موفقًا في حروبه ضد عيلام, واستطاعت جيوشه أن تعبر الخليج العربي لتأمين الطريق المؤدي إلى المرتفعات التي كان يجلب منها المواد اللازمة للبناء. وفي عهد خليفته "نارام سن" حدثت ثورة في أطراف مملكته ومن بينها عيلام؛ ولكن هذه الثورة أخضعت بشدة واستطاع أحد قواده أن يشيد بعض المباني المهمة في سوسة، وقد حلت اللغة الأكدية "السامية" محل العيلامية، وأوشكت الثقافة العيلامية أن تختفي لولا أنها ظلت قائمة في المناطق الجبلية الوعرة. وقد انتهز حكام عيلام الوطنيون ومن بينهم "بوزور أنشوشناق" كل فرصة للنهوض بعيلام من جديد؛ حيث نجد أن نصوصًا كتبت باللغة العيلامية وما قبل العيلامية قد عادت للظهور جنبًا إلى جنب مع نصوص كتبت بالأكدية، وانتهز "بوزور أنشوشناق" فرصة التظاهر بالدفاع عن سيده "نارام سين"1 وتوسع

_ 1 انظر أعلاه ص357- 358.

في مد سلطانه نحو الشمال حتى وصل إلى الاحتكاك بقبائل جوتي، وقد أثرى بلاده بالغنائم التي حصل عليها وشيد الكثير من المباني، ولما مات "نارام سين" أعلن استقلاله وهاجم بابل نفسها حتى وصل إلى أكد؛ ولكنه رد عنها بصعوبة, ومع ذلك فقد احتفظ باستقلاله عن بابل التي أخذت في الضعف تدريجيًّا، واتجهت إليها الأنظار وخاصة بعد نجاح "بوزور أنشوشناق" فغزتها قبائل اللولوبي والجوتي الواحدة بعد الأخرى؛ واللولوبي كانوا يعيشون في المنطقة التي تمتد من شرق بغداد الحالية إلى كرمانشاه وحمدان وطهران, أما الجوتي فكانوا يعيشون في المنطقة الممتدة بين وادي زاب الأدنى والحوض الأعلى لنهر ديالة, وقد تخلصت بابل بعد ذلك من سيادة الجوتيين بقيام أسرة جديدة في أور تمكنت فضلًا عن ذلك من إخضاع سوسة وما حولها تحت سلطانها؛ ولكن هذه المملكة الجديدة لم يقدر لها البقاء طويلًا, فبعد مرور نحو قرن من الزمان هاجمتها مملكة "سيماش" "في الجبال الغربية من أصفهان" وهزمت ملكها وحملته أسيرًا إلى الجبال, وأصبحت "سيماش" صاحبة السلطان في سوسة وعيلام، ثم حدث رد فعل جديد حيث تكونت أسرة أيسين التي طردت "سيماش" واستولت على عيلام. وهكذا نجد أن دور إيران في تاريخ غربي آسيا قد زادت أهميته في أثناء الألف الثالث قبل الميلاد، وكان ملوك بلاد النهرين يهدفون في حروبهم ضدها إلى غرضين: سياسي يتلخص في ضمان عدم قيام دولة قوية على حدودهم حتى لا تهدد كيانهم السياسي، واقتصادي يقصد من ورائه تحويل موارد الثروة من إيران إلى بابل. ولا يعرف شيء عن الأحوال السياسية في المناطق الداخلية من إيران ولا مدى توغل العيلاميين واللولوبيين والجوتيين في المناطق التي تقع إلى الشرق من تلك التي أشرنا إليها؛ ففي سيالك توجد فجوة أثرية تمثل فترة استمرت ما يقرب من ألفي عام لا نعرف ماذا حدث خلالها؛ ولكن في جيان يبدو

أن المجتمع الذي عاش فيها ظل يتبع نفس أساليب الحياة دون تغيير يذكر؛ فالفخار الملون الذي يحاكي فخار سوسة ظل مستعملًا، وقد وجدت في المقابر حلي كثيرة من البرونز والفضة، وفي حسار حل الفخار الرمادي المسود محل الفخار الملون كما حدث في غرب الهضبة، وازداد استخدام المعادن وخاصة في صنع الأشياء الصغيرة، ومن المحتمل أن البرونز كان يقدر لقلته نسبيًّا أكثر من الفضة, وبذلك دخلت إيران الداخلية في عصر البرونز. وأهم ما حدث في الألف الثاني قبل الميلاد هو ظهور العناصر الهندو أوروبية في غربي آسيا "وكان من أثرها دخول الهكسوس إلى مصر على الأرجح" ويبدو أن هؤلاء جاءوا من المناطق الرعوية في آسيا وتشعبوا إلى شعبتين: غربية دارت حول البحر الأسود "بعد أن عبرت البلقان والبوسفور"، ووصلت إلى آسيا الصغرى؛ حيث كونت المملكة الحيثية، شرقية عرفت باسم الهندو إيرانيين وقد دارت حول بحر قزوين وخرجت منها بضعة فروع, اتجه أحدها عبر القوقاز إلى أعالي الفرات؛ حيث اختلط بالحوريين أهل البلاد السابقين وكونوا مملكة ميتاني1، واتجه فرع آخر وسط جبال زاجروس إلى المنطقة الواقعة في جنوب طريق القوافل؛ حيث استقر فيها كأقلية نشيطة "اشتهرت منطقتها فيما بعد بتربية الخيول" عرفت باسم الكاشيين الذين يحتمل أنهم هم الذين تسببوا في القضاء على مدينة حسار أثناء اندفاعهم غربًا للاستقرار في تلك المنطقة, وذلك في حوالي منتصف الألف الثانية قبل الميلاد. ومن المعروف أن أحد أمراء عيلام استطاع أن يغزو بابل في بداية الألف الثانية قبل الميلاد مكونًا بعد ذلك بوقت قصير أسرة لارسا التي استطاعت أن تقضي على أسرة أيسين, وبذلك أصبحت سيدة على بابل وأورك، ولكن حينما تولى

_ 1 انظر أعلاه ص292-293.

حامورابي عرش بابل سرعان ما أوقف تقدم العيلاميين بل وتمكن بعد 31 عامًا من أن يهزم ملكهم "ريم سن". وبعد عدة محاولات فاشلة من جانب ملوك عيلام حاولوا فيها الاحتفاظ بسلطانهم على لارسا اختفت عيلام لمدة قرن من الزمان, ثم أعيد بناؤها بضع عشرات من السنين, واختفت بعد ذلك على إثر غزوات الكاشيين. وأول ما يطالعنا من النصوص عن الكاشيين في بابل هو ما يذكره خليفة حامورابي من أنه صد هجومًا لجيش من الكاشيين؛ ولكن مع ذلك يبدو أنهم تمكنوا في النهاية من التسلل إلى بابل كمهاجرين مسالمين لمدة قرن ونصف تقريبًا, ثم استطاعوا أن يستأثروا فيها بالسلطة في حوالي القرن 18 ق. م. وتعد سيطرتهم في بلاد النهرين أطول سيادة أجنبية فرضت فيها1, ومع ذلك لم يدخلوا عناصر حضارية جديدة تستحق الذكر، وتدل شواهد الأحوال على أنهم كانوا على صلات بمصر في عهد العمارنة. ويظهر أن مملكة أشور استطاعت أن تنهض وعقدت بينها وبينهم معاهدة على إثر حملة قام بها ملك أشور "أددنيراري الأول"، وقد اتفق فيها على الحدود, ثم عادت النهضة من جديد في عيلام؛ إلا أن الكاشيين ظلوا قابضين على ناصية الأمور في بابل؛ ولكنهم أصبحوا غاية في الضعف حيث إنهم وحلفاءهم الأشوريين هزموا أمام عيلام التي استطاعت أن تقضي أولًا على سلطان الكاشيين في بابل وخلعت ملكهم عن العرش ووضعت ابنه مكانه, وبعدئذٍ تقدمت جيوشها إلى الشمال واخترقت حوض ديالة ووصلت إلى منطقة كركوك ثم تقدمت نحو أشور كما حاصرت مدينة بابل، وبذلك أصبح كل حوض الفرات ومعظم ساحل الخليج العربي وسلاسل جبال زاجروس في يد علام. وما أن حلت نهاية الألف الثاني قبل الميلاد إلا وتكونت أسرة قوية جديدة في بابل, استطاع ملكها "نبوخذ نصر" أن يحطم قوة عيلام واستولى على سوسة

_ 1 انظر أعلاه ص369.

فاختفت عيلام مرة أخرى, وكان ذلك لمدة ثلاثة قرون تقريبًا اشتد فيها التنافس بين مملكتي بابل وأشور الجديدتين من أجل السيطرة على الأراضي السهلة؛ بينما ظلت الهضبة الإيرانية قليلة الأهمية إلى أن تمكنت بعد بضعة قرون من أن تغير وجه التاريخ.

الإيرانيون الميديون والفرس

ثانيًا- الإيرانيون: الميديون والفرس: الإيرانيون: في بداية الألف الأول قبل الميلاد زاد استخدام الحديد وحدثت هجرة جديدة للشعوب الهندو أوروبية, وكان لهذين الحادثين أكبر الأثر في تاريخ آسيا. ومن المحتمل أن الهجرة الهندو أوروبية الجديدة كانت تشبه الهجرة السابقة، وربما كانت من نفس المنطقة التي جاءت منها أيضًا؛ ففي سنة 1200 قبل الميلاد تقريبًا اتجهت بعض الشعوب الهندو أوروبية إلى آسيا الصغرى وحطمت إمبراطورية الحيثيين، وكان الفلسطينيون الذين استقروا في فلسطين من بين شعوب هذه الهجرة وما زالت فلسطين تحمل اسمهم إلى اليوم, وقد وصلت هذه الهجرة عبر سورية إلى فلسطين وتقدمت نحو مصر إلا أن رعمسيس الثالث صدها، أما في إيران فإن الشعوب الإيرانية قد اخترقتها في بداية الألف الأول قبل الميلاد وأثرت عليها تأثيرًا مغايرًا لتأثير الغزوة السابقة التي حدثت قبل ذلك بألف سنة تقريبًا1, حيث إنهم لم يندمجوا في السكان الأصليين مثل ما فعله الحوريون والميتانيون والكاشيون من قبل؛ فقد وضعوا أنفسهم في مركز السيادة بعد أن تسللوا تسللًا بطيئًا إلى المنطقة, ثم تمكنوا بعدئذٍ من الخروج لغزو العالم، ولم تتمكن الشعبة الشرقية من هؤلاء الإيرانيين من التوغل جنوب هندكوش فاتجهت نحو الغرب

_ 1 انظر أعلاه ص404.

إلى قلب إيران؛ إلا أنها ظلت تطمح في الوصول إلى بلاد الهند الغنية وأخذت تتحين الفرصة لذلك، أما الذين اتجهوا إلى الغرب فلم تكن السلاسل الموازية لجبال زاجروس هي التي تحول دون تقدمهم؛ بل وقفت أمامهم سدًّا منيعًا هناك ولايات قوية لها ماضٍ وحضارة مستقرة منذ آلاف السنين؛ فالقبائل الإيرانية التي أرادت الاتجاه إلى الجنوب الشرقي على امتداد زاجروس كانت تواجهها من الشمال إلى الجنوب: أشور وبابل وعيلام، وإلى الشمال الشرقي حول بحيرة "وان" توجد جبال القوقاز ومملكة أرارات التي أصبحت فيما بعد ملكة أرمينيا. وعلى هذا ظل الإيرانيون لا يستطيعون اختراق ذلك الحاجز, وأخذوا خلال الأربعة القرون التالية يمتصون السكان الأصليين, ويفرضون ثقافتهم وسلطانهم السياسي في وديان جبال زاجروس. وكان النصف الأول من الألف الأول قبل الميلاد نقطة التحول في تاريخ البشرية؛ لأن مركز السيادة العالمية أصبح لا يوجد في السهول والوديان الخصبة مثل: وادي النيل ووادي دجلة والفرات؛ بل انتقل إلى المرتفعات حيث وجدت ثلاث قوى في شرق إقليم الشرق الأدنى كانت تتصارع فيما بينها, وهؤلاء هم: الأشوريون ومملكة أرارات والإيرانيون، وبعد كفاح مرير تمكن الأخيرون من الانتصار على خصومهم وأسسوا أول إمبراطورية عالمية، ومن العسير التعرف على تفصيلات حوادث هذه الفترة إلا عن طريق الوثائق الأشورية؛ حيث لا يوجد ما ينير لنا الطريق عن هذا العصر سواها, وإن كان من المحتمل أن نعرف كثيرًا عن حضارة هؤلاء الإيرانيين بعد تقدم التنقيبات التي تجري في إيران وخاصة في منطقة سيالك التي أشير إليها فيما سبق، ومما ساعد على التحول السياسي عن السهول ازدياد استخدام الحديد وهو يوجد بكثرة في جنوب البحر الأسود عبر القوقاز التي تتحكم فيها مملكة أرارات، وهذه قد حولت اهتمامها نحو إيران التي كانت تكثر بها الخيول اللازمة للجيوش وبعض

المعادن، وحينما منعت إيران تلك الموارد عن أشور اضطرت هذه إلى اتباع سياسة الاعتداء عليها؛ ولكن ملوكها لم ينجحوا دائمًا في إخضاع تلك الجهات، وإذا ما نجحوا فإن إدارتهم لها لم تكن فعالة، وكانت هذه الاعتداءات المتكررة سببًا في تغيير بعض الأساليب الحربية, وأصبح الخيالة أهم سلاح في الجيش حيث حلوا محل العربات.

الميديون

الميديون: نجد في حوليات شلمناصر الثالث أول ذكر للإيرانيين؛ ففي سنة 844 ق. م. عرف الأشوريون الفرس وفي سنة 836 ق. م. عرفوا الميديين، وكان الفرس في غرب وجنوب غربي بحيرة أورميا، أما الميديون فكانوا في الجنوب الشرقي إلى جوار همدان، ومن المرجح أن هذه الأسماء لا تدل على اختلافات جنسية؛ وإنما تدل على أسماء القبائل التي عاشت في تلك المناطق، ويذكر الملك الأشوري "شمشي أدد الخامس" أنه هزم زعيمًا إيرانيًّا شمال بحيرة أورميا سنة 823 ق. م. ويبدو أن الفرس لم يستقروا في الشمال الغربي من إيران طويلًا إما نتيجة للغزوات الأشورية وإما نتيجة لضغط مملكة أرارات أو بعض القبائل الأخرى، وعلى ذلك اتجهوا في القرن الثامن نحو الجنوب الشرقي واستقروا في نهاية هذا الجزء من إيران غرب جبال بختياري في منطقة عرفت باسم "بارسوماش", ولما كانت المملكة الأشورية قد أخذت في الضعف منذ نهاية القرن التاسع فإن مملكة أرارات قد انتهزت الفرصة ووسعت أملاكها وفرضت سلطانها على الفرس، واستمر النضال بين أرارات وأشور إلى أن اعتلى عرش أشور "تجلات بلاسر الثالث" الذي انتصر على ملك أرارات وتوغل داخل مملكته وحاصر العاصمة نفسها؛ ولكنه لم يستطع الاستيلاء عليها, وقد قام بعدة حملات على الأمراء الإيرانيين والميديين وأخضع مدنهم ونظم إدارتها، ثم حاول ملك

أرارات الجديد أن يستنهض زعماء القبائل المجاورين له, ونجح في تكوين حلف منهم. وكان من بين هؤلاء زعيم الميديين الذي أسس المملكة الميدية؛ ولكن "سرجون الثاني" ملك أشور نجح في القضاء على الثورات التي نشبت في أجزاء مختلفة من مملكته, كما أنه جلب 30 ألف إسرائيلي وأسكنهم في المدن الميدية، وكلما تجددت الثورات ضد مملكة أشور كان سرجون يقضي عليها، أما "سناحريب" الذي جاء بعد ذلك بفترة فإن انشغاله في حروبه ضد عيلام ومصر ويهوذا جعله يخفف الضغط على الميديين، وفي تلك الأثناء دخلت عناصر جديدة هندو أوروبية التفت هي وكثير من المدن الإيرانية حول أحد زعماء ميديا؛ فبلغت هذه من القوة مبلغًا جعلها تنجح في تكوين مملكة, وتمكنت من التحكم في العناصر الهندو أوروبية الأخرى ومن بينها القبائل الفارسية. وقد استغل الميديون فرصة ضعف الإمبراطورية الأشورية واتجهوا نحو نينوى محاولين السيطرة على أشور، ولكن الملك البابلي "نبوبولصر" استطاع إيقاف هذا التوسيع الميدي ثم تحالف الميديون والبابليون وتمكنوا من إسقاط نينوى سنة 612 ق. م. وقسمت المملكة الأشورية بين الميديين والبابليين والكلدانيين؛ فاستولى الميديون على المناطق الواقعة شرق وشمال نهر دجلة, واستولى الكلدانيون على تلك التي تقع في الجنوب والغرب، ولم يكتفِ الميديون بذلك بل توسعوا نحو الغرب في آسيا الصغرى وحاولوا فرض سيطرتهم على ليديا "غربي آسيا الصغرى" وانتهى الأمر بالتحالف بينهما نتيجة لتوسط ملك بابل، ومع ذلك لم يأمن البابليون جانب الميديين فاتجهوا نحو عنصر إيراني آخر بدأ يبرز إلى ميدان القوة, وهذا العنصر حاول تأسيس مملكة بزعامة "أخيمين" "سنة 700-685 ق. م.", وحينما اعتلى العرش ولده تيسبيس أطلق على نفسه لقب "ملك أنشان" ثم قسم

مملكته بين ولديه "أريارامن" و"كورش الأول"، وقد حكم الأول في بارسا وحكم الثاني في أنشان, وبموت "أريارامن" خلفه ولده الذي لم يستمر طويلًا على العرش؛ إذ إن "قمبيز" بن "كورش الأول" وخليفته تمكن من أن يوحد المملكتين تحت سلطانه.

الإخمينيون "الفرس"

الأخمينيون "الفرس": ظل قمبيز خاضعًا للنفوذ الميدي على الرغم من أنه كان يحكم مملكة موحدة فلم يكن مستقلًّا كل الاستقلال؛ ولكن في عهد خلفه "كورش الثاني" اصطدمت القوتان الفارسية والميدية، واستطاع كورش أن يقضي على هذه المملكة الأخيرة واتخذ عاصمتها "أكباتاما" "همدان" عاصمة إيران الموحدة, وبذلك بدأ عهد جديد لإيران حيث احتلت بعد ذلك مركز السيادة في الشرق القديم. وقد تمكن كورش من توسيع مملكته فبسط سلطانه حتى حدود البحر المتوسط غربًا والهند شرقًا؛ بل وتمكن كذلك من احتلال بعض المدن والجزر اليونانية واحتل بابل, وبذلك قضى على أكبر منافس في الشرق القديم، ومنذ ذلك الحين انتهت مدينة بلاد النهرين, واستمر كورش الثاني في عملياته الحربية في الشرق والغرب موطدًا أركان إمبراطوريته، وكان سياسيًّا ماهرًا فلم يكن قاسيًا في معاملته للأعداء ولم يدمر بابل بعد إسقاطها, أما الأسرى الإسرائيليون الذين كانوا قد جلبوا إلى أشور وميديا فقد أعادهم إلى وطنهم الأول فلسطين1. ولما اعتلى ولده "قمبيز الثاني" عرش الإمبراطورية تمكن من غزو مصر؛ فأصبح الفرس يحكمونها من الأسرة السابعة والعشرين إلى الأسرة الحادية والثلاثين باستثناء فترات قصيرة ثار فيها المصريون على الحكم الفارسي، وبعد موت قمبيز

_ 1 انظر أعلاه 291-292.

انقسمت الإمبراطورية إلى عدة من الولايات التي كانت تحاول الاستقلال ولكن خليفته "دارا الأول" تمكن من إنقاذ الإمبراطورية، وأعاد الاستقرار إلى أجزائها المختلفة بعد أن خاض نحوا من 19 معركة حربية. ويعد "دارا الأول" من أهم الملوك الذين حكموا الإمبراطورية الفارسية التي كانت تتكون من عشرين ولاية؛ حيث استطاع هذا الإمبراطور بفضل جهوده أن ينعش الحركة التجارية في أجزائها المختلفة وتوسع في إنشاء الطرق وأمر بحفر القناة التي تصل بين النيل والبحر الأحمر؛ ولذلك يرى بعض المؤرخين بأن هذا الإمبراطور يعد "يهودي عصره" نظرًا لما لقيه من نجاح في ميدان التجارة، كذلك نشط هذا الملك في تشييد المباني وتجميل العاصمة واستخدم في ذلك أرز لبنان والنحاس وخشب الأبانوس الوارد عن طريق مصر واستعان بالعمال الميديين والمصريين والبابليين أيضًا كما استخدم نظام نقد ثابت استعملت فيه العملة بدل المقايضة، وفي نهاية عهده ساءت العلاقات اليونانية الفارسية؛ مما أدى إلى قيام الحرب بينهما، وقد انهزم الجيش الفارسي في الموقعة المشهورة باسم ماراثون سنة 490 ق. م.، وبعد ذلك بقليل أي في عهد "اجزر كسيس الأول" الذي تولى بعد دارا هزم الأسطول الفارسي في موقعة سلاميس سنة 480 ق. م.، وقد تلا هذا الملك ملوك ضعاف كان عهدهم مليئًا بالحروب والثورات إلى أن انتهى الأمر بانتصار الاسكندر الأكبر؛ فأصبحت إيران ضمن أملاك السلوقيين، ولم تتمكن من العودة إلى النهوض إلا في عهد الساسانيين1 الذي استمر إلى أن دخل العرب إيران سنة 651م. ولا شك أن الإمبراطورية الإيرانية كان لها أكبر الأثر في تاريخ وحضارة الشرق الأدنى القديم؛ فقد استعملت اللغة الآرامية كلغة رسمية وهذه انتشر

_ 1 بدأ حوالي سنة 266 ق. م.

استعمالها كلغة دولية في الألف الأول قبل الميلاد، كما أن العقيدة الزرادشتية نمت وترعرعت في ظل الإمبراطورية الإخمينية وكانت معاصرة للديانة البوذية, وما زالت هاتان العقيدتان منتشرتين في كل من إيران والهند، ولم يحل تمسك الإيرانيين بعقيدتهم دون تسامحهم الديني في غالب الأحيان واتجهوا في سياستهم وحكمهم للشعوب اتجاهًا إنسانيًّا؛ فلم يدمروا مثلما دمر الأشوريون، ولم يشتتوا سكان بعض المناطق كما فعل غيرهم, بل على العكس من ذلك نجد أنهم في بعض العصور كانوا يميلون إلى اتباع سياسة تهدف إلى إنعاش التجارة وتعميم الرخاء في الولايات المختلفة.

ملحق تاريخي

ملحق تاريخي ...

المختار من المراجع العامة

المختار من المراجع العامة: أ- باللغة العربية: 1- أحمد بدوي "في موكب الشمس" جزءان - القاهرة 1946، 1950. 2- أحمد فخري "مصر الفرعونية" القاهرة "طبعة ثانية" 1960. 3- إرمان - رانكه "مصر والحياة المصرية" مترجم - القاهرة. 4- برستد "تاريخ مصر السياسي من أقدم العصور إلى الفتح الفارسي" ترجمة حسن كمال - القاهرة 1929. 5- ديلابورت "بلاد ما بين النهرين" مترجم - القاهرة. 6- سليم حسن "مصر القديمة" الأجزاء الاثنا عشر الأولى. 7- طه باقر "مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة" جزءان - بغداد 1955، 1956. 8- فرانكفورت وآخرون "ما قبل الفلسفة" مترجم - بغداد 1960. 9- محمد أبو المحاسن عصفور: - الشرق الأدنى قبل عصوره التاريخية - الإسكندرية 1962. - علاقات مصر بالشرق الأدنى القديم - الإسكندرية 1962. - موجز تاريخ الشرق الأدنى - البصرة 1966, الإسكندرية 1962. 10- فيليب حتي "تاريخ سورية ولبنان وفلسطين" ترجمة جورج حداد وعبد الكريم رافق - بيروت 1958. 11- نجيب ميخائيل "مصر والشرق الأدنى القديم" 6 أجزاء - الإسكندرية.

ب- باللغة الأوربية: Arkell, A. J., A History of the Sudan from the Earliest Times to A. D. 1821, London, 1955. Baumgartel, E. J., The Cultures of Prehistoric Egypt, 2 Vols.: I (2nd. ed. London 1955) II (London 1960) . Bilabel, F. & Grohman.A., Geschichte Vorderasiens und Aegyp- tens vom 16 Jahrhundert v. Chr, Heidelberg, 1927. Breasted. J. H., Ancient Records (Hist. Documents from the Earliest Times to the Persian Conquest (I—IV, Chicago, 1906; V. Index, 1907) . Breasted. J. H., A History of Egypt from the Earliest Times to, the Persian Conquest (2nd ed.) , London 1925. أشرنا إلى ترجمته رقم 4 من المراجع العربية Budge. E. A. W., A History of Egypt from the End of the Neolithic Period to the Death of Cleopatra Vols. 13.) , London. 1902. Cambridge Ancient History. (2nd ed. II, Vols. & 4 Vols. pis.) , Cambridge 1923 — 36.

Capart & Contenau, Histoire de /'Orient ancien, Paris, 1946. Cavainac, B, Le Monde me'diterrane'en jusqu'au IVe sie"cle av, J. C. (t. II de J'Histoire de Monde) , Paris, 1929. Cavainac, E. Les Hitties, Paris, 1950. Delaporte, L, Les Hittites, Paris, 1936. Delaporte, L, Les peuples de J'Orient Mediterranean t. 1 «Le Proche Orient Asiatique» (clio 1938) . أشرنا إلى ترجمته رقم 5 من المراجع العربية. Drioton, E. & Vandier, J., Les Peuples de /'Orient Mediterranean, t. II «L'Egypte» 4e ed. Gardiner, A. H., Egypt of the Pharaohs, London 1961. Ghirshman, Iran, Pelican A. 239. Gurney, O. R, The Hittites, Pelican A 259. Hall, K, The Ancient History of the Near East. loth, ed., London 1947. Hayes, W., The Sceptre of Egypt I. New York, 1953.

Huzayyin, S. A., The Place of Egypt in Prehistory, Cairo, 1941. Kees, H., Das Alte Agypten {Eine Kleine Landeskunde) , Berlin 1941. Kienitz, F. R., Die Politische Geschichte Agyptens vom 7 bis Zum 4 Jahr hundert vor der Zeitwende, Berlin, 1953. Lloyd, S., Early Anatolia, pelican A354. Luckenbill, D, D., Ancient Records of Assyria and Babylonia (2 Vols.) , Chicago, 1926 — 7. Mercer, S.A.B., The Tel! el Amarna Tablets, 2 Vols. Toronto 1939-Petrie, W.M.F., A History of Egypt {3 Vols.) London, 1923. Pritchard, J. 8., Ancient Near Eastern Texts Relating to the Old Testament, Princeton, 1950. G. Roux, Ancient Iraq, Pelican A828. Soderbergh, T. Saeve, Aegypten und Nubien, Lund, 1941. Scharff, A. and Moortgaat, Agypten und Vorderasien in Alertum, Munich, 1950. Winlock, H. E.t The Rise and Fail of the Middle Kingdom in Thebes, New York 1947. Zeissl; H., Athiopen und Assyrer in Agypten, Beitrage Zur Geschichte der agyptischen Spatzeit (Agyptologische Forschun-gen, Heft 14) , Gluckstadt und Hamburg, 1944

فهرس أبجدي

فهرس أبجدي: "أ" آبا "أبينا" 313، 316. آتوم 177. آتون 173، 176- 178، 181. آحاب 289. آداب "انظر بسمايا" 353. آديامان 297. آراتان 348. آرال "بحر" 327 هامش. أشور- إيل - إيلاني 382. أشور أوبالط الأول "انظر أشور أوبلط". أشور أوبالط "قائد" 384، 385. أشور بانيبال 223، 234، 261، 281، 291، 382، 384. أشور دان الأول 371، 377. أشور دان الثالث 28، 379. أشور ناصر بال 281، 321. أشور ناصر بال الثاني 378. آلات ميكروليثية 57، 266. آلاشيا "انظر قبرص". آلشى 376. آمور 196. آمون "إله" يكثر وروده وخاصة ابتداء من الدولة الوسطى إلى نهاية عهد الفراعنة. آنو 339. آي 181-183، 315. أبان بن عثمان 243. أب شيم 255. إبراهيم "النبي" 285. أبريس 299. إبشا 143، 150. ابن الحائك "الهمداني" 242.

أبو الهول 111، 173. أبو بحر 239. أبو حمد 161. أبو رواش 111. أبو سمبل 191. أبو صير 114، 116. أبو فيس 152، 155. أبو كرب يشع 253. أب يدع يشع 253. أبيدوس 73، 90، 98، 120، 130، 132، 133، 159، 186 هامش، 187، 206 هامش. أبي سين 362. أبينا "انظر آبا". أتريب 218، 224. أثناسيوس 224. أثينا 233، 235. إثيوبيا 214. أجا "ملك" 348، 349. أجاروم 261. أجزركسيس "أكزركسيس" 232، 401، 411. أحمس الأول 152 هامش، 156-159. أحمس "ملكة" 161، 163. أحمس بن أبانا 158، 160. أحمس بن نخب 158، 160. أحمس نفرتاري 159. إخناتون "أمنحتب الرابع" 176- 183، 293، 313، 315، 316. أخورس 223، 234. أخيتاتون "تل العمارنة" 88، 178-180، 293، 304، 305، 312، 357، 370. أخيلس "إيسكيلوس" 244. أخيمين 409. أداد 374. أداد نيراري الأول 376, 405. أداد نيراري الثاني 321، 378. أداد نيراري الثالث 321، 379. إدفو 100. إدوم 285. أذربيجان 351، 388. أربخا 292. أربيل 356. أرتاتاما 314. أرتكزركسيس الأول 232. أرتكزركسيس الثاني 232. أرتكزركسيس الثالث 235، 249. أرتيميس 108.

أرزروم 303. أرسو 195. أرسيس 235. أرمينيا 331، 334، 351، 376، 385، 407. أرنو وانداس الأول 311. أرنو وانداس الثاني 311. أرنو وانداس الثالث 315، 318، 325. إري 121. أريارا من 410. أريبي "عريبي" 257. أريحا 267، 269، 291. أريدو "تل أبو شهرين" 337، 347، 349، 362. أزجوق 300. أزمنة جيولوجية 21. أسبانيا 36، 112، 279. إسبرطة 23، 233، 234. إسترابو 250، 341. أستراليا 43. إسترن "لوفن" 344. إسحاق 285. إسرائيل 193، 208، 214، 221، 283، 285، 288-291، 319. أسرحدون 222، 223، 263، 281، 291، 381. أسركون "كاهن أو أمير" 211. أسركون الأول 209، 216. أسركون الثاني 210، 216. أسركون الثالث 213، 216، 218. أسركون الرابع 217. إسفنكس 111. إسكاليبوس 102. أسماخ 226. أسوان 141. إسوس 236، 237. أسيسي "زد كارع" 116، 141 هامش. أسيسي "شيشي" 152. أسيوط 130، 132. أشبي إيرا 362. أشتار "عشتار" 318، 349، 374. أشدرد 286. أشعيا 208، 290. أشمى داجان 305، 375. أشنونا "تل أسمر" 350، 364-366، 375.

أشور أوبلط 292، 314، 315، 376. إصطبل عنتر 151. إصطخر "انظر برسبوليس". أصفهان 403. أضنة 320. أعج حتب 159. أقيال "ج. قيل" 250. أكاد "أكد" 277، 280، 345، 356، 366، 372، 384، 403. إكباتاما 410. أكشاك 349، 353. الآخيون 322، 326. الآراميون 273، 281، 283، 320، 371، 376، 378، 379. ألاجا 300. الأحساء "حاسو" 260 هامش، 261. الأحقاف 245. الأخمينيون 388، 398، 410. الأرمنيون 269. الأسرات التي حكمت مصر 94, 236. الإسكندر الأكبر 71، 236، 263، 286، 398 هامش، 411. الأشوريون ورد ذكرهم بكثرة في مواقع مختلفة. الألوسي 250. الإمام يحيى 247. الأموريون 190، 241، 273، 276-278، 284، 362. الأنباط 241، 248. الإنسان الحديث "أو العاقل" 37، 39، 56، 266. الأورنت "العاصي" 188، 313، 327. الإيرانيون 398 هامش، 406-408. الأيونيون 225. البابليون ورد ذكرهم في مواضع كثيرة. البتراء 248. البحرين "جزر" 260 هامش، 261. البداري 60-64، 71، 74، 75، 392. البرشة 132. البسفور 301. البطالمة 236، 259. التأريخ التتابعي "التوقيت المتتابع" 72، 73. التركستان 396. التقويم والتوقيت 27، 91، 92.

التلمود 243. التوراة 243، 255، 257. الثورة الدينية 178، 193 هامش. الجوتيون "الجوتي" 358، 359، 377، 401، 403. الجوف 247، 258. الحجر "مدينة صالح" 248. الحوريون 151، 273، 284، 291، 292، 309، 310 ، 319، 328، 376، 403، 404، 406. الحيثيون 173، 179، 182, 185-191، 197، 271-273، 278، 284، 293، 306, 331، 369-372, 376، 377. الخابور "نهر" 277، 293، 375، 376. الخليج الميدي 388. الدانوب 301. الداتيونا 320. الدردانيون 316. الدكة 103. الدير البحري 134، 165. الراديسية 186. الرامسيون 187، 190. الزاقورة "الزاقورات" 339. الزطية 265. الساسانيون 411. السامرة 288، 289، 380. السرابيوم 236. السلوقيون 411. السومريون 241، 261، 262، 345-354، 357، 359، 401. السيثيون 227. الشردانيون 326. الشعرى اليمانية 92، 93. الطارف 131. الطوفان 262. العبرانيون "العبريون" 205، 208، 241، 276، 282-288. العبير 337، 338. العزيلط 256. العصر الأسطوري بـ"العراق" 346-348. العصر التاريخي 24، 26، 71، 77، 78، 84-237، 49-263، 270-293، 304-328، 341-386، 99-412.

العصر الطيني 98، 99. العصر قبل التاريخي 24، 26، 52، 240، 241، 65-269، 297-304، 331-341، 389، 399. العصر قبل السرجوني 345. العطبرة 174. العظم "نزيه مؤيد" 247. العفولة 269. العقرب "الملك" 96. العلا "انظر ديدان" 258. العمرة 72-74. العمق 268، 269، 335، 392. الغساسنة 249. الفخارية 293. الفريجيون 318. الفلاح الفصيح 124. الفينيقيون 241، 278-282، 381. الفيوم 66، 69-71، 138، 141، 142 144، 145، 332. القبطية "لغة" 87. القدس 267. القرنة 187. القوس البونتي 294. القوصية 154، 156. الكاب 149، 159. الكاريون 108 هامش، 225. الكاشيون 369-372، 376، 401، 405، 406. الكتابة الديموطيقية 86-87. الكتابة الهيراطيقية 86-87. الكتابة الهيروغليفية 86-87. الكرمل 265. الكرنك ورد ذكره كثيرًا فيما بين صفحتي 90، 208. الكلب "نهر" 266. الكلبي 243. الكلدانيون "انظر ص273، 383 وما بعدها". ألكساندروس 326. الكنعانيون 241، 276، 278-282، 284. اللابيرانت 145. اللشت 138. اللولوبي "اللولوبيون" 403. المارن "نهر" 34. الماشواس "أولما" 198، 207، 210. المعادي 72، 79-84.

المعينيون "والدولة المعينية" 251. المقدسي 250. المكربيون 258، 259. الموزيليوم 108 هامش. الموصل 332، 335. الميتانيون 151، 292، 293، 370، 376، 406. الميديون 383، 386، 398، 406، 408-410. الميليزيون 228. النابغة "الذبياني" 243. الناصرة 266. النوبة كثيرة الورود في مواضع مختلفة. الهكسوس 143، 149-159، 193 هامش، 271، 277، 284، 404. الهمذاني 250. الوركاء 327، 339، 349، 351، 354، 359. إلوسينا "ولوسيا" 326. إليفانتين 104، 154، 156، 232. أليفع وقة 253. أماتيست 137، 141. امرؤ القيس 243. أمرتي 233. أمازيس 230. أم قطفة 265. أمن - أم - أوبت 204. أمنمحات الأول "أميني" 92، 126، 136-140. أمنمحات الثاني 142. أمنمحات الثالث 144-145. أمنمحات الرابع 145. أمنحتب الأول 160-161. أمنحتب الثاني 171، 172، 177، 193 هامش. أمنحتب الثالث 173-177، 182، 193 هامش، 293، 370. أمنحتب الرابع "انظر إخناتون". أمنرود 217. أميتس 384. أميرتايوس 232، 233. إناروس 232. أنتف الأول 131. أنتف الثاني 132-133. أنتف الثالث 133. أنتيوخس الأول 349. أنزاك 261.

أنزو "زوزو" 353. إنسان روديسيا 22، 37. إنسان نياندرنال 22، 39، 56، 266، 332. إنسان هيدلبرج 22، 37. أنشان 410. إن شاكوش أنا 353. أنطاليا 297. أنطلياس 266. أنطيوخس أبيفان 244. أنقرة 297. أنكي 362. إن - مي - براج سي 348-350. أنيتا بن بتخانا 306، 307. أنليل 346 هامش، 351، 354. إنيني 162, 164. إهناسيا "هرقليوبوليس أو هيراكليوبوليس" 123، 127، 130، 132، 133، 206، 210، 215، 236. أهيا "وا" 322-326. أواريس 149، 151، 152، 158. أوان "أسرة حاكمة" 352. وأبرت 344. أوتوحيجال 359، 360. أوتيكا "تونس" 279. أوتينج 248. أوجاريت 269. أودمو "انظر دن" 100. أور 241، 285، 292، 337، 339، 349-354، 356، 359-364، 368، 373، 374، 398، 403. أورارتو "آرارات" 319، 321، 322، 377، 407-409. أورزبابا 306. أورشليم "بيت المقدس" 208، 221، 229، 283، 286، 287، 290، 291، 381، 385. أورك 349، 353، 354، 404. أوركاجينا 353، 354. أورونارتي 160. أورنانشة 352. أورنمو 360، 362. أورهي تشوب 317، 332، 324. أوزير 125، 162 هامش. أوما 277 هامش، 349، 353، 354. أولام بورباش 369.

أوناس 117-118. أوني 119-121، 358. إي - أنا 339. إي - أنا - بدا 349. إي - أنا - تم 353، 354. إيا جميل 369. إيبق أدد الثاني 365. إيبوور 123. إيبي 135. إبتت تاوي 138. إيثيل "يثيل - انظر براقش" 253. إيجة "والإقليم الإيجي" 286، 295، 300-302. إيدوم 205، 287 هامش. إيراتوستينس 244. إيزيس 163 هامش. إيسين 362-364، 366-368، 371، 377، 403، 404. إيكالاتوم 375. إيلاكابكابو 375 هامش. إيلوشوما "إيروشوم الأول" 374. إيلومو - إيلو 368. إيمحتب 102. إينا كالي 354. إينانا 349. إينتمينا "أنتمينا" 350، 354. "ب" با أوردد 116. بادتبيرا "تل المداين" 347، 349. بادي باست 212، 213، 216. بارس 326. بارسا 410. بارسوماش 408. باسو "بازو - نجد" 263. باشان 285. بامي 195 هامش، 216. باي 105 هامش. باي نجم 203، 204. بانحس 201. ببلوس "جبيل" 108، 228، 269، 270، 280. بتاح "إله" 118، 119، 176. بتاح حتب 117. بتاح ددف 113. بحيرة أرميا 388، 408. بحيرة وان 309. بخورس 217، 220.

براقش 247، 250، 253. بر إيب سن 101. بردا بلكا 331. بررعمسيس 191، 192. برعشو 349. برقة 232. برنوف "يوجين" 343، 400. بروكوبيوس 244. برينوف 248. بساموتس 234. برسبوليس "إصطخر" 342، 343، 400. بسماتيك الأول 217، 224-227. بسماتيك الثاني 218، 229. بسماتيك الثالث 230، 231. بسمايا "انظر آداب". بسوسنس الأول 202-204. بسوسنس الثاني 205، 288. بطليموس الثاني 89. بطليموس الخامس 104 هامش. بطليموس العاشر 104 هامش. بعنخي 214-216، 218-219. بغداد 153، 332، 403. بلاص 72. بلرمو "حجر" 89، 100، 114. بلالاما 364. بلينوس 250. بنتشيتا 189. بنحدد الأول 283. بنها 199. بني حسن 132، 139, 143، 151. بني هجر 261. بهستون 342، 344. بوآبي "شب عاد" 352. بوبسطة "تل بسطة" 206، 212، 214، 219. بوتا "بول إميل" 342، 344. بوحول 111. بوزور أشور الأول 374. بوزور أنشوشناق 402، 403. بورخاردت "لودفيج - إبراهيم بن عبد الله" 248. بورنابورياش 376. بوروش خاندا 306. بوشير 402. بوغاز كوى 190، 304، 306 هامش، 310، 357. بونت 114، 116، 134، 135، 142.

بوهن 184. بيامارادوس 323، 324. بيبي الأول 119، 120، 358. بيبي الثاني 120، 122. بيت شان "بيسان" 269، 285. بيت المقدس "انظر أورشليم". بيحان القصب 255. بيرتون "سير ريتشارد - الحاج عبد الله" 248. تا أوسرت 195 هامش. تابوت العهد 285. تالبوت 344. تانويت أماني 224، 325، 382. تانيس "صالحجر" 210، 222. تاوا جالاواس 323. تبع كرب 253. تبة جورا 337. تتي شرى 159. تجلات "تيجلات" بلاسر الأول 281، 314، 319، 345، 377. تجلات "تيجلات" بلاسر الثالث 257، 281، 283، 289، 321، 322 ، 379، 380، 408. تحتمس الأول 161-163، 165، 168. تحتمس الثاني 163-165. تحتمس الثالث 90، 163-171، 177، 186، 193 هامش، 310، 311، 316. تحتمس الرابع 172-175. تدمر 241. تريم 247. تف إيب 132. تفنخت 214، 215، 217، 218، 236. تكلوت الأول "ثكرتى" 209، 210، 216. تكلوت الثاني 211، 212، 216. تكلوت الثالث 217. تل أبو شهرين "انظر أريدو". تل أسمر "انظر أشنونا". تل الجديدة 267، 268. تل الحريري 350. تل العمارنة "انظر أخيتاتون". تل الغسول 268، 269. تل المتسلم "مجدل" 269.

تل باكون 395. تل حرمل 365. تل عمر 353 هامش. تل فرا "شوروباك" 353. تليبينوس 292، 309، 310، 313، 314. تمنع 254. تموز "إله" 347. تمى الإمديد 213. توت عنخ آمون 180- 183، 315. توتيمايوس 148. توفيق "محمد" 247. توكلتي ننورتا الأول 337. توكلتي ننورتا الثاني 321، 378. تودهالياس الثاني 310، 311. تودهالياس الثالث 311، 312. تودهالياس الرابع 318، 325، 326. تورين "بردية" 91، 129، 150، 186. توشراتا 293، 312، 314، 376. توشكي 141. توماس 115. تومسون "كاتون" 247. تونس "أوتيكا" 57، 71، 279. تونيب 168، 190. تي 174، 176، 179، 182. تياما 346. تيبولوجيا 28. تيتي 118، 119. تيتوس 244. تيسبيس 409. تيماء 248. تيوس 234، 235. تيوفراست 244، 250. "ث - ج" ثورى 160، 161. جبال البرز 387. جبال بختياري 398، 417. جبال زاجروس 355، 370، 387، 404، 407. جبال طوروس 264، 273، 301، 303، 308، 312، 319، 327، 331، 357. جبال مكران 388. جبل البرقل 164، 207 هامش. جبل الشيخ سليمان 99. جبل الكرمل 22 هامش 2، 37، 166.

جبل طارق 36، 39. جر "ملك" 99. جرزة 72، 73، 75-77. جرمو 332، 334. جروتفند "جورج فردريك" 245، 343، 400، 401. جريكو 268، 269. جزر "حصن" 205، 268، 286، 288. جزيرة سهيل 103، 104 هامش. جعو 122. جلازر "إدوارد" 246، 251، 254. جلجاميش 262، 348، 349، 351. جمدة نصر 269، 340. جنداش 370. جو إيدين 353. جوحاتي 327. جوديا 273، 280. جيان 395، 396، 403. جيت "واجيت" 100. جيوسن "جوسن" 248، 251. "ح" حاتنوب 121، 141. حاتوساس 306، 308، 312، 317، 319. حاتوسيليس الأول 308. حاتوسيليس الثاني 311. حاتوسيليس الثالث 316، 317. حاسو "انظر الأحساء". حاكييس 316. حامورابي "حمورابي" 28، 273، 292، 308، 354 هامش، 364، 367، 368، 370، 375، 405. حانتيلس 309. حبابض 259. حبرون "الخليل" 285. حتشبسوت 134، 151، 163-166، 174. حجر رشيد 80، 342. حداد 205، 287 هامش. حران 285، 383، 384. حرخوف 116، 121. حرسا إيسي 209، 211، 212. حريحور 201، 203. حزقيا 221، 290. حزين "د. سليمان" 247. حصن الغراب 245، 246. حضرموت 240، 247، 254-257.

حقاخاسوت 150. حقانخت 135. حلب 273، 278، 308، 310، 313، 315. حلف "حضارة" 268، 293، 335، 336. حلوان 60، 65، 72، 79، 80. حمازى "أسرة حاكمة" 352. حماة 321، 337. حمدان 403. حمير وحميريون 246، 256، 260. حور "حورس، حور آختى" 77، 89، 101، 173، 175، 177. حور محب 181، 183، 184، 315. حورون 111. حوني 104، 106. خاتوسيل 189، 190. خباش "خباباش" 244، 249. خع سخم 102. خفاجة 339. خفرع 111. خنت كاوإس 113. خنوم "إله" 103. خنوم حتب 143، 277. خوزستان 388. خوفو 106-113، 141 هامش 2. خولان 250. خيان 153. خيتي 126، 128-130، 132، 133. "د" دابر 258. دابور "حصن" 190. داتاسا 316. دادو شا 365. دارا الأول 231، 411. دارا الثاني 232. دارا الثالث 236. دامق إيلوشو 368. داوتى 248. دد ف رع 11، 112، 141 هامش. ددي 110، 113. دردني 229. دشاشة 115. دلمون 261، 262.

دمر علي ذريح 258. دمشق 278، 281-283، 289، 313، 320، 321، 327، 380. دمغان 389. دندار تبه 300. دندرة 132 هامش. دوسو "رينيه" 249. دوماسفسكي 248. دهشور 105، 106. دودو 350. دولة "أو مملكة أو بلاد أو أرض" البحر 368-371، 384. دير 365. ديالة "ديالي" 351، 366، 403، 405. دي بوشام "جوزيف" 342. ديدالوس 145 هامش. ديدان "انظر العلا". دير تاسا 60. ديللا فال "بيترو" 342. ديلوس 252. ديودور "الصقلي" 234، 250. "ر" راتجنز "كارل" 247. راس شمرا "انظر أوجارت وكذلك قرقميش" 265، 267، 268، 336. راسك 400. ربلة 229، 291. رحب 258. رحبعام 215، 288، 290. رخ مي رع 171. رشيد "حجر" 84، 342. رع "إله" 110، 112، 113، 118، 119، 151، 173، 175 ، 177. رع حتب 106. رعمسيس الأول 184. رعمسيس الثاني 90، 91، 187-192، 194، 198، 85، 316، 317. رعمسيس الثالث 190، 195-200، 206، 272، 286، 318، 406. رعمسيس الرابع 200. رعمسيس السادس 200. رعمسيس التاسع 200، 201.

رعمسيس الحادي عشر 201، 202. رع نفرت 106. رع ور 115. رودس 108 هامش، 325. روما 280. رموم 261. رنكير 248. روتشتاين 249. رولنسون "هنري كريزويك" 342، 344، 400. ريتش "جيمس" 342. ريدان "وذو ريدان والريدانيون" 256، 260. ريم سين "ريم سن" 364، 366، 367، 405. ريموش 357. "ز" زاب "نهر" 403. زابوم 366. زاقورة "زاقورات" 339، 360. زاكير 321. زحلة 282. زمرى ليم 367. زنة 258، 259. زوسر 102-104، 108. زينيفون 244. زيوس 108 هامش. "س" سابيلي 189. ساحورع 113، 114، 116، 141 هامش، 277. سافينياك 248. ساكجي جوزي 268، 295، 292. ساليتس 152. سالييه "بردية" 155. سامراء 268، 332، 344. سامسو إيلونا 68. ساموحا 318. سانخت 104. سانسريون 93. سانخت 104. سايس "صالحجر" 214، 219، 224، 232. سبأ "مريابة" 252-256، 260. سبتاح 195 هامش 1. ست "إله" 101، 149، 184. ست نخت 195، 196، 272. سخا 149.

سخم خت "زوسر الثاني" 104. سرجون الأول "الأشوري" 364. سرجون الأول "الأكدي" 260، 264، 273، 277، 281، 45، 349، 355-357، 364، 373، 402. سرجون الثاني 220، 221، 257، 261، 272، 89، 290، 322، 344، 380، 381، 409. سردينيا 279. سعير 252. سقارة 90، 103، 112، 114، 116، 119، 172. سقارية 301. سقنن رع 155-157. سلاميس 411. سليمان 205، 208، 282، 287. سمارية 221. سماينة 72، 73، 77، 78، 369. سمرخت 104. سمسون 300. سمنخ كارع 179، 180. سمندس 201، 202. سمنة 145، 160. سمنور 234. سمور آبوم 266. سموحا "ساموحا" 317، 318. سمه علي 258. سميراميس "انظر شامورامات". سناحريب "سنخريب" 221، 222، 257، 262، 281، 290، 381، 409. سنجا 38. سنجرلي 304. سنفرو 105، 106، 126. سنموت 165. سنوسرت الأول 131، 139-142. سنوسرت الثاني 142، 143، 269، 275. سنوسرت الثالث 143، 144، 171. سنوهى 92، 140. سنة علي ينف 258. سهيل 103. سوبيلو ليوما 293، 312-315، 322، 327. سوتخ "ست" 155. سوسة 232، 357، 367، 383، 386، 388، 396، 398، 402، 404، 405.

سيالك "وسيالك 1، 2، 3": 46، 268، 389، 391، 392، 397-399، 401-405، 416. سيبار 347، 349. سيتزن 245. سيتى الأول 185، 186، 317. سيحون 285. سيماش 403. "ش" شاركار شرى 358. شاركو شورخ 315. شاروهن 152، 158. شاميليون 84، 85. شاءول 282. شبسكاف 112، 113. شبكا 220، 221. شبتكو 221، 222. شبن وبت 219 هامش. شبوة 247، 256، 257. شرحبيل بن سعد 243. شسب عنخ 111. شعوب البحر 197، 205، 225، 272، 286، 318. شلمنصر الأول 377. شلمنصر الثالث 212، 281، 283، 287، 320، 321، 379، 408. شلمنصر الخامس 281، 289، 322، 380. شليمان 302. شمر يهرعش 256. شمش "أو شمشي" أدد الأول 28، 292، 365، 367، 375. شمش "أو شمشي" أدد الخامس 379, 408. شمشون "الجبار" 286. شمورامات "سميراميس" 379. شهرم علام بن صدق إيل 256. شهر غيلان 255. شهر يجيل 255. شوتارتا 314. شوروباك "تل فرا" 347. شولجى 362. شيراز 343. شيشنق 206 هامش، 209، 210. شيشنق الأول 206-209، 212، 216، 289. شيشنق الثاني 211، 216.

شيشنق الثالث 212، 216. شيشنق الرابع 213، 216. شيلاق أنشوشناق 371، 377. "ص" صالحجر 224. صاحب الطواف 244. صان الحجر 184. صرواح أو "صروح" 246، 250، 257، 258. صقلية 39، 279. صقلية 39، 279. صدقيا 229. صموئيل 287. صنعاء 245، 246. صوبة 282. صور 222، 223، 265، 281، 289، 291، 381. صيدا 222، 229, 265، 281، 289. "ط - ظ" طبرية 265، 266. طرسوس 295، 301. طرفة بن العبد 243. طرة 65، 145. طروادة 300-302، 326. طهران 391، 403. طهرقة 222-224، 381، 382، 389. طوفان 347، 351. طيبة "الأقصر الحالية" وردت كثيرًا في مواضع مختلفة وخاصة في تاريخ مصر. طينة 98. ظفار 245، 250. "ع - غ" عبد الملك بن هشام 243. عبيد بن الأبرص 43. عبيد بن شرية الجرهمي اليمني 243. عدن "جنة عدن" 262. عروة بن الزبير 243. عسير 247. عصر القضاة 286. عصور جليدية 22، 33، 43. علالق "عطشانة الحالية" 313. عليشار 300. عمان 240، 358. عمرو بن كلثوم 243.

عمرى 288، 289. عنترة بن شداد 243. عنخ - س- إن - آمون 182 هامش. عوج بن عنق 285. عيلام وردت كثيرًا وخاصة في تاريخ سورية والعراق وإيران. عين شمس "هليوبوليس" 213، 218. غمدان 250. "ف - ق" فاروس 108 هامش. فأس يدوية 34-38، 52، 63. فخري "د. أحمد" 248. فردريك الخامس 244. فكير تبه 301. فنكلر "هوجو" 304. فورسكال 245 هامش. فون فريده "فردريك" 245. فون فيسمان 247. فون هافن "فردريك كريستيان" 245 هامش. فيدياس 108 هامش. فيلبس "وندل" 248. فيلبي 247، 251، 256. قادش 166-168، 188، 189، 313، 316، 327. قاشان 389، 391. قبرص"انظر آلاشيا" 186، 229، 234، 279، 318، 322، 326، 357، 380. قتبان 251، 254-256، 259. قرطاجة 229، 279. "ك" كابريوس 235. كادشمان تورجو 317. كادشمان خاربي 370 هامش 3. كاراتيب 320. كاراز 303. كارنافون 353 هامش. كاروى 160، 174. كارين 279. كاشتا 214-216، 228 هامش. كاشتلياش 377. كالح "نمرود" 378، 379، 383. كاموزا 153، 155-158.

كبادوشيا 304، 306، 307. كبر "لقب" 251. كحلان 254. كرامر "كريستيان شارلز" هامش 245. كرب إيل بين 258. كرب أيلو 257. كرب إيل وتر 259. كربون 12, 29. كربون 14, 29، 30. كردستان 295، 297، 331، 365، 372. كركوك 293، 332، 356، 365، 384، 405. كرمنشاه 342 هامش 2، 403. كريت 145 هامش، 159، 171، 236. كريم شهر 332. كزو واتنا "كيزو واتنا" 309، 319. كفر الزيات 194. كلاكتونية "حضارة" هامش. كليوباترا 85. كنعان 205، 316، 376. كنوسس 325. كهف بالي جورا 332. كهف تنجي بابدا 332. كهف زرزي 332. كهف شاندر 37، 38، 332. كهف هزار مرد 332. كورجوس 161. كورش الأول 410. كورش الثاني 230، 386، 410. كوسارا "كسارا" 306-308. كوم أمبو 56 هامش. كوم تبة 300. كي أخسار 383، 384. كيش 347-353، 355، 356، 365. كيمبفر "إنجلبرت" 399. كيوبخك 221. "ل" لابارناس 307، 308. لاراك 347، 349. لارسا 249، 277, 362-365، 367، 404. لازباس "ليزيوس" 323. لاسين "كريستيان" 343، 400.

لانجر 246. لاوى 286. لايارد "سير هنري" 342. ليت عشتار 363، 365. لجش 273، 280، 348-350، 352-354، 362. لوجال 346. لوجال أناموندا 353. لوجال زاجيزي 273، 277، 354، 356. أوجال كينيش "دودو" 354. لوكا أو "ليقيا" 323. لورستان 369. لولوبي 357. ليبيا 185، 233. ليديا 225، 230، 409. ليفالوازية "حضارة" 37 هامش 1. "م" ماجان "أو مجان" 260، 262، 358. ماتيلا 187. ماحسارتي 204. ماراثون 231، 411. مأرب 246، 257-259. مارتو 348. ماري 277، 350، 353-356، 362، 365-367، 375. مالاطيا 297. مالطة 97. مالوخا 260، 262، 358. مانيثون 89، 94، 119، 122، 127، 128، 150، 151، 196، 213، 220، 222. ماينشتوسو 357، 402. مانيؤم 260. مجدو 166، 167، 291. محرم بلقيس 246. محافد "ج محفد" 250. مخلاف 250. مدين 285. مدينة هابو 197. مردوخ 346. مرسعنخ 110. مرسو 135. مرسين 268، 295، 298، 303. مرمدة بني سلامة 60، 65-68، 70، 79-81.

مرنبتاح 191-194، 196، 285. مرنبتاح سابتاح 194. مروى 161، 207 هامش 2. مرى إن رع 120. مرى إن رع الثاني 122. مرى كارع 126، 130. مريت رع 163. مزود 251. مس - أني - بدا 349، 352، 353 هامش. مسد 218. مسود 254. مصطبة فرعون 113. معان "معن أو معين - انظر أيضًا قرناو" 251-253، 255، 258. مكاشط "أو محتات" 35، 36، 38، 54، 55. مكتى رع 136. مكارب "ومكربون ج مكرب" 254، 258. مالاطيا "أو ملاطيا" 297، 312، 317، 319. ملوخا 260. منارة الإسكندرية 108 هامش. منتو إم حات 224. منتوحتب الأول 130، 133-135. منتوحتب الثاني 135، 136. منتوحتب الثالث 136، 137. من خبر رع 204، 205. منديس 233، 235. من كاو حور 116. منكاورع "منقرع" 112. موت نزم 183. موت نفرت 163 هامش. مورسيليس الأول 308-310. مورسيليس الثاني 315، 316، 322، 323، 325، 327. موسى 285، 286 هامش 2، 372. مووا تاليس 316، 317، 326. ميسليم 353. ميفعة 245، 256. ميلاواندا 323، 324. ميليد 319. ميدوم 61، 105، 106. ميديا 227 هامش, 229، 289، 291، 292، 380، 410. مينا "أو عحا أو نعرمر" 72، 77، 89، 90، 96، 99. مينوس 145 هامش. "ن" نارام سن أو "نرام سن" 260، 273، 281، 357، 358، 373، 402، 403. ناعط 247، 250.

نامي "د. خليل يحيى" 247. نبوبو لصر 384، 409. نبوخذ نصر 228، 229، 281، 291، 375، 377، 383، 385، 405. نبونهيد 386. نجران 246، 247. نجع حمادي 77. نحسى "الملك" 149. نخاو "أو نكاو" 224، 227، 228، 234، 291، 385. نختنبو الأول 233، 234. نختنبو الثاني 235. نسوبانبدد 201، 202. نشان 253. نشق 258. نصوص الأهرام 117. نصوص التوابيت 125. نفر إير كارع 113، 115. نفرتي 126، 127. نفرتيتي 179، 182 هامش 1، 182، 183. نفر معات 106. نفرو بتاح 145. نفرو رع 165 نفريتس 233، 234. نقادة 29، 69، 72، 73، 327. نقب الهجر 245. نلدكه "تيودور" 249. نمرود "ابن زعيم ليبي، أمير" 206 هامش 2، 215. نمرود "مدينة: انظر كالح". ننجرسو 350، 354. نن هورساج 349. نهاوند 395. نورس "أدوين" 343. نوزي 293. نوهاس 317. ني أوسر رع 116. نيبور "كارستن" 245، 342، 351-353، 384، 399، 400. نيت إقر "نيتوكريس" 122. نيت حتب 99. نيسا 306. نينوي 221، 224، 227، 230، 291، 341، 374، 383، 384، 409. "هـ" هاريس "بردية" 195، 196. هاليفي "جوزيف" 246، 248، 251. هاليكارناسوس 108 هامش. هاني جلبات 310، 311. هجر 261.

هربيط 191 هرقليوبوليس "هيراكليوبوليس: انظر إهناسيا". هرونفر 133. هشام بن محمد السائب الكلبي 243. هليوبوليس 113، 118، 351. هليوس 108 هامش. همامية 75. همدان "وهمدانيون" 250، 259، 408، 410. هوارة 145، 146. هوشع 289، 380. هومر أو "هوميروس" 316، 326. هيرودوت 50، 108، 226، 232، 244، 250، 342. هيلين "الحروب الطروادية" 326. هينكس 344. "و" وادي أوينة 245. وادي الملوك 162، 184. وادي النطوف 267. وادي الهودى 137، 141، 145. وادي بيجان 254. وادي حمامات 116، 134، 135، 138، 141. وادي حلفا 99، 142. وادي شهبة 260 هامش. وادي قينا 167. وادي مغارة 105، 116. واش بتاح 115. والين "جورج" 248. وستكار "بردية" 110، 113. وسر رع 113. وسر كارع 119. وسر كاف 113، 114. وشوجاني "وشوكاني" 293، 313، 314. وقة إيل روام 253. وقة إيل صدق 253. ولستد 245. وهب بن منبه 243. ويلجراف "جراهام" 248. وينامون 203. "ي" يام 121. يامخاد 278، 308. ياهدون ليم 375. ياهو 289.

يثع أمر 258. يثعمر 257. يثعمر إمر بين 259. يحم 166 يدع أب ذبيان 254. يدع أب غيلان 255 يدع أل بين "بن رب شمص" 256. يدع إيل ذريح 258. يربعام الأول 208، 289، 290. يربعام الثاني 283، 289. يسمح أداد 265، 375. يشع إيل صدق 253. يطوع "لقب" 251. يعقوب 285. يمنات "أو يمنت" 249، 256. يهوه 285، 289، 290. يواقيم 291. يوبت 209. يوزغان تبة 293. يوزيبيوس 244. يوسف 285. يوسيفوس فلافيوس 243. يوشع 291. يويو واوا 206.

§1/1