معالم القربة في طلب الحسبة

ابن الأخوة

مقدمة الكتاب

[مُقَدِّمَة الْكتاب] رَبِّ يَسِّرْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَالَ الْعَبْدُ الْفَقِيرُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ عُرِفَ بِابْنِ الْأُخُوَّةِ الْقُرَشِيُّ نَسَبًا وَالشَّافِعِيُّ مَذْهَبًا الْأَشْعَرِيُّ مُعْتَقَدًا تَغَمَّدَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ وَغَفَرَ لَهُ وَلِوَالِدَيْهِ وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي بَرَأَ النَّسَمَةَ وَفَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَسَطَ بِسَاطَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ السَّمَاءَ عَلَيْهَا كَالْقُبَّةِ وَقَسَمَ أَرْزَاقَ الْخَلَائِقِ وَآجَالَهُمْ وَرَتَّبَ لِكُلٍّ مِنْهُمْ مَنْزِلَةً وَرُتْبَةً وَجَعَلَ أَجَلَّ الْمَنَاصِبِ الدِّينِيَّةِ مَنْصِبَيْ الْقَضَاءِ وَالْحِسْبَةِ أَحْمَدُهُ حَمْدًا يَخُصُّنَا مِنْهُ بِالْقُرْبَةِ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ شَهَادَةً تَمْنَحُنَا مِنْهُ الْجَنَّةَ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الَّذِي كَشَفَ اللَّهُ بِهِ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ كُلَّ كَذِبِيٍّ وَنَصَرَهُ عَلَى مَنْ عَادَاهُ وَقَاوَاهُ كَأَبِي جَهْلٍ وَعُتْبَةَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَزْوَاجِهِ صَلَاةً دَائِبَةً تَكُونُ لِقَائِلِهَا أَشْرَفَ نِسْبَةً. وَبَعْدُ: فَقَدْ رَأَيْتُ أَنْ أَجْمَعَ فِي هَذَا الْكِتَابِ مِنْ أَقَاوِيلِ الْعُلَمَاءِ مُسْتَنِدًا بِهِ إلَى الْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ مَنْ اسْتَنَدَ لِمَنْصِبِ الْحِسْبَةِ وَقُلِّدَ النَّظَرَ فِي مَصَالِحِ الرَّعِيَّةِ وَكَشَفَ أَحْوَالَ السُّوقَةِ وَأُمُورَ الْمُتَعَيِّشِينَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ لِيَكُونَ ذَلِكَ عِمَادًا لِسِيَاسَتِهِ وَقَوَامًا لِرِئَاسَتِهِ فَاسْتَخَرْتُ اللَّهَ تَعَالَى فِي ذَلِكَ وَضَمَّنْتُهُ مِنْ الْأَخْبَارِ وَطَرَّزْتُهُ بِالْحِكَايَاتِ وَالْآثَارِ وَنَبَّهْتُ فِيهِ عَلَى غِشِّ الْمَبِيعَاتِ وَتَدْلِيسِ أَرْبَابِ الصِّنَاعَاتِ مَا يَسْتَحْسِنُهُ مَنْ تَصَفَّحَهُ مِنْ ذَوِي الْأَلْبَابِ وَالْعُلُومِ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّ الْكِتَابَ عُنْوَانُ عُقُولِ الْكُتَّابِ وَجَعَلْتُهُ سَبْعِينَ بَابًا يَشْتَمِلُ كُلُّ بَابٍ مِنْهَا عَلَى فَصُولٍ شَتَّى.

الباب الأول في شرائط الحسبة وصفة المحتسب

[الْبَاب الْأَوَّل فِي شَرَائِط الْحَسَبَة وَصِفَّة الْمُحْتَسَب] الْحِسْبَةُ مِنْ قَوَاعِدِ الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ، وَقَدْ كَانَ أَئِمَّةُ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ يُبَاشِرُونَهَا بِأَنْفُسِهِمْ لِعُمُومِ صَلَاحِهَا، وَجَزِيلِ ثَوَابِهَا، وَهِيَ أَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ إذَا ظَهَرَ تَرْكُهُ، وَنَهْيٌ عَنْ الْمُنْكَرِ إذَا ظَهَرَ فِعْلُهُ، وَإِصْلَاحٌ بَيْنَ النَّاسِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء: 114] . وَالْمُحْتَسِبُ: مَنْ نَصَّبَهُ الْإِمَامُ، أَوْ نَائِبُهُ لِلنَّظَرِ فِي أَحْوَالِ الرَّعِيَّةِ، وَالْكَشْفِ عَنْ أُمُورِهِمْ، وَمَصَالِحِهِمْ. وَمِنْ شَرْطِ الْمُحْتَسِبِ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا حُرًّا بَالِغًا عَاقِلًا عَدْلًا قَادِرًا حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهُ الصَّبِيُّ، وَالْمَجْنُونُ، وَالْكَافِرُ، وَيَدْخُلَ فِيهِ آحَادُ الرَّعَايَا، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مَأْذُونِينَ، وَيَدْخُلَ فِيهِ الْفَاسِقُ، وَالرَّقِيقُ، وَالْمَرْأَةُ أَمَّا التَّكْلِيفُ، وَلَا يَخْفَى، وَجْهُ اشْتِرَاطِهِ فَإِنَّ غَيْرَ الْمُكَلَّفِ لَا يَلْزَمُهُ وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ شَرْطُ الْوُجُوبِ

فَأَمَّا إمْكَانُهُ، وَجَوَازُهُ فَلَا يَسْتَدْعِي إلَّا الْعَقْلَ حَتَّى أَنَّ الصَّبِيَّ الْمُرَاهِقَ لِلْبُلُوغِ الْمُمَيِّزَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُكَلَّفًا فَلَهُ إنْكَارُ الْمُنْكَرِ، وَلَهُ أَنْ يُرِيقَ الْخُمُورَ، وَيَكْسِرَ الْمَلَاهِيَ، وَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَإِنَّ لَهُ بِهِ ثَوَابًا، وَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مَنْعُهُ بِحَيْثُ إنَّهُ لَيْسَ بِمُكَلَّفٍ فَإِنَّ هَذِهِ قُرْبَةٌ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِهَا كَالصَّلَاةِ، وَالْإِمَامَةِ فِيهَا، وَسَائِرِ الْقُرُبَاتِ، وَلَيْسَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْوِلَايَاتِ حَتَّى نُشِيرَ هَاهُنَا لِلتَّكْلِيفِ، وَكَذَلِكَ أَثْبَتْنَا لِلْعَبْدِ، وَآحَادِ الرَّعِيَّةِ يَعْنِي فِي الْمَنْعِ بِالْفِعْلِ، وَإِبْطَالُ الْمُنْكَرِ نَوْعُ وِلَايَةٍ، وَسَلْطَنَةٍ، وَلَكِنَّهَا تُسْتَفَادُ بِمُجَرَّدِ الْإِيمَانِ كَقَتْلِ الْمُشْرِكِ، وَإِبْطَالِ أَسْبَابِهِ، وَسَلْبِ أَسْلِحَتِهِ فَإِنَّ لِلصَّبِيِّ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ حَيْثُ لَا يُشْتَرَطُ بِهِ فَالْمَنْعُ عَنْ الْفِسْقِ كَالْمَنْعِ عَنْ الْكُفْرِ الْمُنَافِي لِلْإِيمَانِ، وَلَا يَخْفَى وَجْهُ اشْتِرَاطِهِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ نُصْرَةُ الدَّيْنِ فَكَيْفِ يَكُونُ مِنْ أَهْلِهِ، وَهُوَ جَاحِدٌ لِأَصِلْ الدَّيْنِ؟ وَعُدُولُهُ مَمْنُوعٌ مِنْهُ لِمَا فِيهِ مِنْ السَّلْطَنَةِ، وَعِزِّ التَّحْكِيمِ، وَالْكَافِرُ ذَلِيلٌ لَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يَنَالَ عِزَّ التَّحْكِيمِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا} [النساء: 141] . وَأَنْ يَكُونَ ذَا رَأْيٍ، وَصَرَامَةٍ، وَخُشُونَةٍ فِي الدِّينِ عَارِفًا بِأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ لِيَعْلَمَ مَا يَأْمُرُ بِهِ، وَيَنْهَى عَنْهُ فَإِنَّ الْحَسَنَ مَا حَسَّنَهُ الشَّرْعُ، وَالْقُبْحَ مَا قَبَّحَهُ الشَّرْعُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا اسْتَحْسَنَهُ الْمُسْلِمُونَ فَهُوَ حَسَنٌ» . وَلَا مَدْخَلَ لِلْعُقُولِ فِي مَعْرِفَةِ الْمَعْرُوفِ، وَالْمُنْكَرِ إلَّا بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرُبَّ جَاهِلٍ يَسْتَحْسِنُ بِعَقْلِهِ مَا قَبَّحَهُ الشَّرْعُ، وَيَرْتَكِبُ الْمَحْذُورَ، وَهُوَ غَيْرُ مُلِمٍّ بِالْعِلْمِ بِهِ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى كَانَ طَلَبُ الْعِلْمِ فَرْضًا عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ يَكُونُ الْمُحْتَسِبُ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ

فصل الحسبة واسطة بين أحكام القضاء وأحكام المظالم

الشَّرْعِيِّ أَوْ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ الْعُرْفِيِّ عَلَى، وَجْهَيْنِ فَاَلَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ أَنَّ لَهُ أَنْ يَحْمِلَ ذَلِكَ عَلَى رَأْيِهِ، وَاجْتِهَادِهِ فَعَلَى هَذَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُحْتَسِبُ عَالِمًا مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فِي أَحْكَامِ الدِّينِ لِيَجْتَهِدَ بِرَأْيِهِ فِيمَا اُخْتُلِفَ فِيهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي - أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ الْعُرْفِيِّ دُونَ الشَّرْعِيِّ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الِاجْتِهَادَيْنِ أَنَّ الِاجْتِهَادَ الشَّرْعِيَّ رُوعِيَ فِيهِ أَصْلٌ ثَبَتَ حُكْمُهُ بِالشَّرْعِ، وَالِاجْتِهَادَ الْعُرْفِيُّ مَا ثَبَتَ حُكْمُهُ بِالْعُرْفِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} [الأعراف: 199] ، وَيُوَضَّحُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا بِتَمَيُّزِ مَا يُسَوَّغُ فِيهِ اجْتِهَادُهُ إذَا كَانَ عَارِفًا بِالْمُنْكَرَاتِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا. [فَصَلِّ الْحَسَبَة وَاسِطَة بَيْن أَحْكَام الْقَضَاء وَأَحْكَام الْمَظَالِم] (فَصَلِّ) قَالَ الْإِمَام أَبُو الْحَسَن عَلَيَّ بْن مُحَمَّد الْمَاوَرْدِيّ اعْلَمْ أَنَّ الْحِسْبَةَ وَاسِطَةٌ بَيْنَ أَحْكَامِ الْقَضَاءِ، وَأَحْكَامِ الْمَظَالِمِ، وَهِيَ مُوَافِقَةٌ لِأَحْكَامِ الْقَضَاءِ مِنْ وَجْهَيْنِ وَمُقَصِّرَةٌ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ، وَزَائِدَةٌ عَنْهُ مِنْ، وَجْهَيْنِ فَأَمَّا الْوَجْهَانِ فِي مُوَافَقَتِهَا لِأَحْكَامِ الْقَضَاءِ فَأَحَدُهُمَا جَوَازُ الِاسْتِعْدَاءِ إلَيْهِ، وَسَمَاعُهُ دَعْوَى الْمُسْتَعْدِي عَلَى الْمُسْتَعْدَى عَلَيْهِ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَى الْعُمُومِ بَلْ مِثَالُهُ أَنْ يَكُونَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِبَخْسٍ أَوْ تَطْفِيفٍ فِي كَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ أَوْ غِشٍّ أَوْ تَدْلِيسٍ فِي مَبِيعٍ أَوْ ثَمَنٍ أَوْ تَأْخِيرِ دَيْنٍ مُسْتَحَقٍّ مَعَ الْمُكْنَةِ فَإِنَّهَا مُنْكَرَاتٌ ظَاهِرَةٌ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ لِإِزَالَتِهَا.

وَاخْتِصَاصُهَا بِمَعْرُوفٍ بَيِّنٍ هُوَ مَنْدُوبٌ إلَى إقَامَتِهِ؛ لِأَنَّ مَوْضُوعَ الْحِسْبَةِ إلْزَامُ الْحُقُوقِ، وَالْمَعُونَةِ عَلَى اسْتِيفَائِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ لَهُ إلْزَامَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْخُرُوجَ مِنْ الْحَقِّ الَّذِي عَلَيْهِ إذَا، وَجَبَ بِاعْتِرَافٍ، وَإِقْرَارٍ مَعَ مُكْنَةٍ، وَيَسَارٍ؛ لِأَنَّ فِي تَأْخِيرِهِ لَهُ مُنْكَرًا، وَتَعَدِّيًا، وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ» . وَأَمَّا الْوَجْهَانِ فِي قُصُورِهَا فَأَحَدُهُمَا قُصُورُهَا عَنْ سَمَاعِ الدَّعَاوَى الْخَارِجَةِ عَنْ ظَوَاهِرِ الْمُنْكَرَاتِ كَالْعُقُودِ، وَالْفُرُوضِ، وَالْفُسُوخِ، وَالْكَسَاوَى فَلَا تُسْمَعُ الدَّعَاوَى فِيهَا إلَّا بِنَصٍّ صَرِيحٍ يَزِيدُ عَلَى إطْلَاقِ الْحِسْبَةِ فَيَجُوزُ، وَيَصِيرُ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ جَامِعًا بَيْنَ قَضَاءٍ، وَحِسْبَةٍ فَيُرَاعَى أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي - أَنَّهَا مَقْصُورَةٌ عَلَى الْحُقُوقِ الْمُعْتَرَفِ بِهَا أَمَّا مَا يَدْخُلُهُ التَّنَاكُرُ، وَالتَّجَاحُدُ فَإِنَّهُ يَقِفُ عَلَى سَمَاعِ الْبَيِّنَةِ، وَالنَّظَرِ فِي الشُّهُودِ، وَذَلِكَ رَاجِعٌ إلَى الْقُضَاةِ. وَأَمَّا الزِّيَادَةُ عَلَى أَحْكَامِ الْقَضَاءِ فَأَحَدُهَا أَنَّهُ يَجُوزُ لِلنَّاظِرِ فِيهَا أَنْ يَتَعَرَّضَ لِتَصَفُّحِ مَا يَأْمُرُ بِهِ مِنْ الْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَى عَنْهُ مِنْ الْمُنْكَرِ، وَإِنْ لَمْ يَحْضُرْهُ خَصْمٌ مُسْتَعْدٍ، وَلَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يَتَعَرَّضَ لِذَلِكَ إلَّا بِحُضُورِ خَصْمٍ يَشْتَكِي، وَلَوْ تَعَرَّضَ الْقَاضِي لِذَلِكَ خَرَجَ عَنْ مَنْصِبِ وِلَايَتِهِ، وَصَارَ مُتَجَوِّزًا فِي قَاعِدَةِ نَظَرِهِ. وَالثَّانِي: فَإِنَّ لِلنَّاظِرِ فِي الْحِسْبَةِ مِنْ سَلَاطَةِ السَّلْطَنَةِ، وَاسْتِطَالَةِ الْحُمَاةِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُنْكَرَاتِ مَا لَيْسَ لِلْقُضَاةِ؛ لِأَنَّ الْحِسْبَةَ مَوْضُوعَةٌ عَلَى الرَّهْبَةِ، وَلَا يَكُونُ خُرُوجُ الْمُحْتَسِبِ إلَيْهَا بِالسَّلَاطَةِ، وَالْغِلْظَةِ

مسألة الفرق بين المحتسب المتولي من السلطان وبين المنكر المتطوع

تَجَوُّزًا فِيهَا، وَلَا خَرْقًا فِي مَنْصِبِهِ، وَلَهُ أَنْ يَبْحَثَ عَلَى الْمُنْكَرَاتِ الظَّاهِرَةِ لِيَصِلَ إلَى إنْكَارِهَا، وَيَتَفَحَّصَ عَمَّا تُرِكَ مِنْ الْمَعْرُوفِ الظَّاهِرِ لِيَأْمُرَ بِإِقَامَتِهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَى غَيْرِهِ، وَأَمَّا مَا بَيْنَ الْحِسْبَةِ، وَالْمَظَالِمِ فَبَيْنَهُمَا شَبَهٌ مُؤْتَلِفٌ، وَفَرْقٌ مُخْتَلِفٌ، أَمَّا الشَّبَهُ الْجَامِعُ بَيْنَهُمَا مِنْ، وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَوْضُوعَهُمَا مُسْتَقِرٌّ عَلَى الرَّهْبَةِ الْمُخْتَصَّةِ بِسَلَاطَةِ السَّلْطَنَةِ، وَقُوَّةِ الصَّرَامَةِ. وَالثَّانِي: جَوَازُ التَّعَرُّضِ لِأَسْبَابِ الْمَصَالِحِ، وَالتَّطَلُّعِ إلَى إنْكَارِ الْعُدْوَانِ الظَّاهِرِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ النَّظَرَ فِي الْمَظَالِمِ مَوْضُوعٌ لِمَا عَجَزَ عَنْهُ الْقُضَاةُ، وَالْحِسْبَةَ مَوْضُوعَةٌ لِمَا رُفِعَ عَنْهُ الْقُضَاةُ. [مَسْأَلَة الْفَرَق بَيْن الْمُحْتَسَب الْمُتَوَلِّي مِنْ السُّلْطَان وَبَيْن الْمُنْكَر الْمُتَطَوِّع] وَأَمَّا مَا بَيْنَ الْمُحْتَسِبِ الْمُتَوَلِّي مِنْ السُّلْطَانِ، وَبَيْنَ الْمُنْكِرِ الْمُتَطَوِّعِ مِنْ عِدَّةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ فَرْضَهُ مُتَعَيَّنٌ عَلَى الْمُحْتَسِبِ بِحُكْمِ الْوِلَايَةِ، وَفَرْضُهُ عَلَى غَيْرِهِ دَاخِلٌ تَحْتَ فَرْضِ الْكِفَايَةِ. الثَّانِي: أَنَّ قِيَامَ الْمُحْتَسِبِ بِهِ مِنْ حُقُوقِ تَصَرُّفِهِ الَّذِي لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَشَاغَلَ عَنْهُ بِغَيْرِهِ، وَقِيَامُ الْمُتَطَوِّعِ بِهِ مِنْ نَوَافِلِ عَمَلِهِ الَّذِي يَجُوزُ أَنْ يَتَشَاغَلَ عَنْهُ بِغَيْرِهِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ مَنْصُوبٌ لِلِاسْتِعْدَاءِ إلَيْهِ فِيمَا يَجِبُ إنْكَارُهُ، وَلَيْسَ الْمُتَطَوِّعُ مَنْصُوبًا لِلِاسْتِعْدَاءِ. الرَّابِعُ: عَلَى الْمُحْتَسِبِ إجَابَةُ مَنْ اسْتَعْدَاهُ، وَلَيْسَ عَلَى الْمُتَطَوِّعِ إجَابَتُهُ. الْخَامِسُ: أَنَّ لَهُ أَنْ يَتَّخِذَ عَلَى الْإِنْكَارِ أَعْوَانًا لِأَنَّهُ عَمَلٌ هُوَ لَهُ مَنْصُوبٌ، وَإِلَيْهِ مَنْدُوبٌ، وَلِيَكُونَ لَهُ أَقْهَرَ، وَعَلَيْهِ أَقْدَرَ، وَلَيْسَ لِلْمُتَطَوِّعِ أَنْ يَتَّخِذَ لِذَلِكَ أَعْوَانًا. السَّادِسُ: أَنَّ لَهُ أَنْ يُعَزِّرَ فِي الْمُنْكَرَاتِ الظَّاهِرَةِ، وَلَا يَتَجَاوَزُ بِهَا الْحُدُودَ، وَلَيْسَ لِلْمُتَطَوِّعِ أَنْ يُعَزِّرَ. السَّابِعُ: أَنَّ لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَرْتَزِقَ عَلَى حِسْبَتِهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَلَا يَجُوزُ لِلْمُتَطَوِّعِ أَنْ يَرْتَزِقَ عَلَى إنْكَارِ مُنْكَرٍ. الثَّامِنُ: أَنَّ لَهُ اجْتِهَادَ رَأْيِهِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْعُرْفِ دُونَ الشَّرْعِ

فصل أول ما يجب على المحتسب

كَالْمَقَاعِدِ فِي الْأَسْوَاقِ، وَإِخْرَاجِ الْأَجْنِحَةِ فَيُقِرُّ مِنْ ذَلِكَ مَا أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَيْهِ، وَلَيْسَ هَذَا لِلْمُتَطَوِّعِ، فَهَذِهِ وُجُوهُ فَرْقٍ بَيْنَ مَنْ يَحْتَسِبُ بِوِلَايَةِ السُّلْطَانِ، وَبَيْنَ مَنْ يَحْتَسِبُ تَطَوُّعًا. [فَصَلِّ أَوَّل مَا يُجِبْ عَلَى الْمُحْتَسَب] (فَصَلِّ) أَوَّل مَا يَجِب عَلَى الْمُحْتَسِب أَنْ يَعْمَل بِمَا يَعْلَمُ، وَلَا يَكُونُ قَوْلُهُ مُخَالِفًا لِفِعْلِهِ فَقَدْ قَالَ تَبَارَكَ، وَتَعَالَى فِي ذَمِّ بَنْيِ إسْرَائِيل {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 44] ، وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «رَأَيْت لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي رِجَالًا تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بِالْمَقَارِيضِ فَقُلْت: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: خُطَبَاءُ أُمَّتِك الَّذِينَ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ» . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ شُعَيْبٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمَّا نَهَى قَوْمَهُ عَنْ بَخْسِ الْمَوَازِينِ، وَنَقْصِ الْمَكَايِيلِ {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} [هود: 88] ، وَلَا يَكُونُ كَمَا قِيلَ شِعْرٌ لَا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ، وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ ... عَارٌ عَلَيْك إذَا فَعَلْت عَظِيمُ. [فَصَلِّ وَيُجِبْ عَلَى الْمُحْتَسَب أَنْ يَقْصِد بِقَوْلِهِ وَفَعَلَهُ وَجْه اللَّه تَعَالَى] (فَصَلِّ) وَيَجِبُ عَلَى الْمُحْتَسِب أَنْ يَقْصِد بِقَوْلِهِ، وَفِعْله وَجْه اللَّهِ تَعَالَى وَطَلَبَ مَرْضَاتِهِ خَالِصَ النِّيَّةِ لَا يَشُوبُهُ فِي طَوِيَّتِهِ رِئَاءٌ، وَلَا مِرَاءٌ، وَيَتَجَنَّبَ فِي رِئَاسَتِهِ مُنَاقَشَةَ الْخَلْقِ، وَمُفَاخَرَةَ أَبْنَاءِ الْجِنْسِ لِيَنْشُرَ اللَّهُ عَلَيْهِ رِدَاءَ الْقَبُولِ، وَعِلْمَ التَّوْفِيقِ، وَيَقْذِفَ لَهُ فِي الْقُلُوبِ مَهَابَةً، وَجَلَالَةً، وَمُبَادَرَةً إلَى قَوْلِهِ بِالسَّمْعِ، وَالطَّاعَةِ فَقَدْ قَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ أَرْضَى اللَّهَ بِسَخَطِ النَّاسِ كَفَاهُ شَرَّهُمْ، وَمَنْ أَرْضَى النَّاسَ بِسَخَطِ اللَّهِ، وَكَلَهُ إلَيْهِمْ، وَمَنْ أَحْسَنَ فِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ اللَّهِ أَحْسَنَ اللَّهُ فِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ النَّاسِ، وَمَنْ أَصْلَحَ سَرِيرَتَهُ أَصْلَحَ اللَّهُ عَلَانِيَتَهُ، وَمَنْ عَمِلَ لِآخِرَتِهِ كَفَاهُ اللَّهُ أَمْرَ دُنْيَاهُ» . فَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ

فصل ينبغي للمحتسب أن يكون مواظبا على سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم

أَتَابِكَ سُلْطَانَ دِمَشْقَ طَلَبَ مُحْتَسِبًا فَذُكِرَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فَأَمَرَ بِإِحْضَارِهِ فَلَمَّا نَظَرَهُ قَالَ إنِّي وَلَّيْتُك أَمْرَ الْحِسْبَةِ عَلَى النَّاسِ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ قَالَ: إنْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَقُمْ عَنْ هَذِهِ الطَّرَّاحَةِ، وَارْفَعْ هَذَا الْمَسْنَدِ فَإِنَّهُمَا حَرِيرٌ، وَاخْلَعْ هَذَا الْخَاتَمَ فَإِنَّهُ ذَهَبٌ، وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هَذَانِ حَرَامَانِ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي حِلٌّ لِإِنَاثِهَا» قَالَ فَنَهَضَ السُّلْطَانُ عَنْ طَرَّاحَتِهِ، وَأَمَرَ بِرَفْعِ الْمَسْنَدِ، وَخَلَعَ الْخَاتَمَ مِنْ أُصْبُعِهِ، وَقَالَ ضَمَمْت إلَيْك النَّظَرَ فِي أُمُورِ الشُّرْطَةِ فَمَا رَأَى النَّاسُ مُحْتَسِبًا أَهَيْبَ مِنْهُ قُلْت، وَهَذَا لَمَّا قَلَّدَ الْمُحْتَسِبَ، وَوَجَدَ الْمَحَلَّ قَابِلًا لِلْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَهُوَ الْجِهَادُ الْأَكْبَرُ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ» ، وَجَبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَلَوْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ، وَمَالِهِ أَوْ مَكْرُوهًا يُصِيبُهُ سَقَطَ عَنْهُ ذَلِكَ. [فَصَلِّ يَنْبَغِي لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَكُونَ مُوَاظَبًا عَلَى سُنَن رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] (فَصَلِّ) وَيَنْبَغِي لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَكُون مُوَاظِبًا عَلَى سُنَن رَسُول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ قَصِّ الشَّارِبِ، وَنَتْفِ الْإِبْطِ، وَحَلْقِ الْعَانَةِ، وَتَقْلِيمِ الْأَظْفَارِ، وَنَظَافَةِ الثِّيَابِ، وَتَقْصِيرِهَا، وَالتَّعَطُّرِ بِالْمِسْكِ، وَنَحْوِهِ، وَجَمِيعِ سُنَنِ الشَّرْعِ، وَمُسْتَحَبَّاتِهِ هَذَا مَعَ الْقِيَامِ عَلَى الْفَرَائِضِ، وَالسُّنَنِ الرَّاتِبَةِ فَقَدْ نُقِلَ عَنْ بَعْضِ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ الْعَدْلَ إذَا أَصَرَّ عَلَى تَرْكِ السُّنَنِ الرَّاتِبَةِ كَانَ ذَلِكَ قَادِحًا فِي عَدَالَتِهِ. وَقَدْ حُكِيَ أَنَّ رَجُلًا حَضَرَ عِنْدَ السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ بِمَدِينَةِ غَزْنَةَ يَطْلُبُ الْحِسْبَةَ فَنَظَرَ السُّلْطَانُ فَرَأَى شَارِبَهُ قَدْ غَطَّى فَاهُ مِنْ طُولِهِ، وَأَذْيَالَهُ تُسْحَبُ عَلَى الْأَرْضِ فَقَالَ لَهُ: يَا شَيْخُ امْضِ، وَاحْتَسِبْ عَلَى نَفْسِك ثُمَّ عُدْ، وَاطْلُبْ الْحِسْبَةَ عَلَى النَّاسِ، وَمِنْ الشُّرُوطِ اللَّازِمَةِ لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَكُونَ عَفِيفًا عَنْ أَمْوَالِ النَّاسِ مُتَوَرِّعًا عَنْ قَبُولِ الْهَدِيَّةِ مِنْ الْمُتَعَيِّشِينَ، وَأَرْبَابِ الصِّنَاعَاتِ فَإِنَّ ذَلِكَ

فصل على المحتسب أن يكون رفيقا لين القول عند الأمر والنهي

رِشْوَةٌ. وَقَدْ قَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَعَنَ اللَّهُ الرَّاشِيَ، وَالْمُرْتَشِيَ» ؛ وَلِأَنَّ التَّعَفُّفَ عَنْ ذَلِكَ أَصْوَبُ لِعِرْضِهِ، وَأَقْوَمُ لِهَيْبَتِهِ. وَمِنْ آدَابِهِ تَقْلِيلُ الْعَلَائِقِ، رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الْمَشَايِخِ أَنَّهُ كَانَ لَهُ سِنَّوْرٌ، وَكَانَ يَأْخُذُ لَهُ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ قَصَّابٍ شَيْئًا لِغِذَائِهِ فَرَأَى عَلَى الْقَصَّابِ مُنْكَرًا فَدَخَلَ الدَّارَ، وَأَخْرَجَ السِّنَّوْرَ ثُمَّ جَاءَ، وَاحْتَسَبَ عَلَى الْقَصَّابِ فَقَالَ الْقَصَّابُ: لَا أُعْطِيك بَعْدَ الْيَوْمِ لِلسِّنَّوْرِ شَيْئًا فَقَالَ الشَّيْخُ: مَا احْتَسَبْت عَلَيْك إلَّا بَعْدَ إخْرَاجِ السِّنَّوْرِ، وَقَطْعِ الطَّمَعِ مِنْك، وَيُلْزِمُ غِلْمَانَهُ، وَأَعْوَانَهُ بِمَا الْتَزَمَهُ مِنْ هَذِهِ الشُّرُوطِ فَإِنَّ أَكْثَرَ مَا تَتَطَرَّقُ التُّهَمُ إلَى الْمُحْتَسِبِ مِنْ غِلْمَانِهِ، وَأَعْوَانِهِ فَإِنْ عَلِمَ أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ أَخَذَ رِشْوَةً أَوْ قَبِلَ هَدِيَّةً صَرَفَهُ عَنْهُ لِيَنْفِيَ عَنْهُ الظُّنُونَ، وَتَتَخَلَّى عَنْهُ الشُّبُهَاتُ فَإِنَّ ذَلِكَ أَزْيَدُ لِتَوْقِيرِهِ، وَأَتْقَى لِلْمَطْعَنِ فِي دِينِهِ. [فَصْلٌ عَلَى الْمُحْتَسَب أَنْ يَكُونَ رَفِيقًا لِين الْقَوْل عِنْد الْأَمْر وَالنَّهْي] (فَصَلِّ) وَلْيَكُنْ شِيمَته الرِّفْق، ولين الْقَوْل، وَطَلَاقَةُ الْوَجْهِ، وَسُهُولَةُ الْأَخْلَاقِ عِنْدَ أَمْرِهِ النَّاسَ، وَنَهْيِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ أَبْلَغُ فِي اسْتِمَالَةِ الْقُلُوبِ، وَحُصُولِ الْمَقْصُودِ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ، وَتَعَالَى لِنَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159] وَلِأَنَّ الْإِغْلَاظَ فِي الزَّجْرِ رُبَّمَا أَغْرَى بِالْمَعْصِيَةِ، وَالتَّعْنِيفُ بِالْمَوْعِظَةِ يُنَفِّرُ الْقُلُوبَ. حُكِيَ أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ عَلَى الْمَأْمُونِ فَأَمَرَهُ بِمَعْرُوفٍ، وَنَهَاهُ عَنْ مُنْكِرٍ، وَأَغْلَظَ لَهُ فِي الْقَوْلِ فَقَالَ لَهُ الْمَأْمُونُ: يَا هَذَا إنَّ اللَّهَ أَرْسَلَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْك لِمَنْ هُوَ شَرٌّ مِنِّي فَقَالَ لِمُوسَى، وَهَارُونَ {فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44] ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهُ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ إلَيْهِ؛ وَلِأَنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَنَالُ بِالرِّفْقِ مَا لَا يَنَالُ بِالتَّعْنِيفِ كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ كُلَّ رَفِيقٍ يُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى التَّعْنِيفِ» ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

الباب الثاني في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

[الْبَاب الثَّانِي فِي الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر] ِ أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ هُوَ الْقُطْبُ الْأَعْظَمُ فِي الدِّينِ، وَهُوَ الْمُهِمُّ الَّذِي ابْتَعَثَ اللَّهُ بِهِ النَّبِيِّينَ أَجْمَعِينَ، وَلَوْ طُوِيَ بِسَاطُهُ، وَأُهْمِلَ عَمَلُهُ، وَعِلْمُهُ لَتَعَطَّلَتْ النُّبُوَّةُ، وَاضْمَحَلَّتْ الدِّيَانَةُ، وَعَمَّتْ الْفَتْرَةُ، وَفَشَتْ الضَّلَالَةُ، وَشَاعَتْ الْجَهَالَةُ، وَانْتَشَرَ الْفَسَادُ، وَاتَّسَعَ الْخَرْقُ، وَخَرِبَتْ الْبِلَادُ، وَهَلَكَ الْعِبَادُ، وَإِنْ لَمْ يَشْعُرُوا بِالْهَلَاكِ إلَى يَوْمِ التَّنَادِي، وَقَدْ كَانَ الَّذِي خِفْنَا أَنْ يَكُونَ فَإِنَّا لِلَّهِ، وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ إذْ قَدْ انْدَرَسَ مِنْ هَذَا الْقُطْبِ عَمَلُهُ، وَعِلْمُهُ فَانْمَحَقَ بِالْكُلِّيَّةِ حَقِيقَتُهُ، وَرَسْمُهُ، وَاسْتَوْلَتْ عَلَى الْقُلُوبِ مُدَاهَنَةُ الْخَلْقِ، وَانْمَحَقَتْ عَنْهَا مُرَاقَبَةُ الْخَالِقِ فَاسْتَرْسَلَ النَّاسُ فِي اتِّبَاعِ الْهَوَى، وَالشَّهَوَاتِ اسْتِرْسَالَ الْبَهَائِمِ، وَعَزَّ عَلَى بَسِيطِ الْأَرْضِ مُؤْمِنٌ صَادِقٌ لَا تَأْخُذُهُ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ فَمَنْ سَعَى فِي تَلَافِي هَذِهِ الْفَتْرَةِ، وَسَدِّ هَذِهِ الثُّلْمَةِ إمَّا مُتَكَلِّفًا بِعِلْمِهَا أَوْ مُتَقَلِّدًا لِتَنْفِيذِهَا مُجَرِّدًا عَزِيمَتَهُ لِهَذِهِ السُّنَّةِ الدَّاثِرَةِ نَاهِضًا بِاعْتِنَائِهَا، وَمُشَمِّرًا فِي إحْيَائِهَا كَانَ مُسْتَأْثِرًا مِنْ بَيْنِ النَّاسِ بِاحْتِسَابِهِ، وَمُسْتَنِدًا بِقُرْبَةٍ يَنَالُ بِهَا دَرَجَاتِ الْقُرْبِ دُونَ أَجْنَاسِهِ. وَأَمَّا الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ فَقَدْ، وَرَدَتْ فِيهِ فَضَائِلُ كَثِيرَةٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104]

وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ} [التوبة: 71] فَقَدْ نَعَتَ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّهُمْ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110] ، قَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج: 41] ، فَقَرَنَ ذَلِكَ بِالصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ فِي نَعْتِ الصَّالِحِينَ. وَقَالَ تَعَالَى {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] ، وَهَذَا أَمْرُ جَزْمٍ، وَمَعْنَى التَّعَاوُنِ: الْبَحْثُ عَلَيْهِ، وَتَسْهِيلُ طَرِيقِ الْخَيْرِ، وَسَدُّ سَبِيلِ الشَّرِّ، وَالْعُدْوَانِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ. وَقَالَ تَعَالَى {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 114] . وَقَالَ تَعَالَى {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9] الْآيَةَ، وَالْإِصْلَاحُ نَهْيٌ عَنْ الْبَغْيِ، وَانْقِيَادٌ إلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِقِتَالِهِ فَقَالَ {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} [الحجرات: 9] ، وَذَلِكَ هُوَ النَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَأَمَّا الْأَخْبَارُ فِيهَا فَمَا رَوَاهُ الْحَسَنُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ أَمَرَ بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهَى عَنْ الْمُنْكَرِ فَهُوَ خَلِيفَةُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ، وَخَلِيفَةُ رَسُولِهِ، وَخَلِيفَةُ كِتَابِهِ» . وَعَنْ دُرَّةَ بِنْتِ أَبِي لَهَبٍ قَالَتْ «جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ مَنْ خَيْرُ النَّاسِ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: آمَرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ، وَأَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَأَتْقَاهُمْ لِلَّهِ، وَأَوْصَلُهُمْ» . وَمِنْهَا مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ: أَيُّهَا النَّاسُ إنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الْآيَةَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105]

وَإِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «مَا مِنْ قَوْمٍ عَمِلُوا بِالْمَعَاصِي، وَفِيهِمْ مَنْ يَقْدِرُ أَنْ يُنْكِرَ عَلَيْهِمْ فَلَمْ يَفْعَلْ إلَّا يُوشِكُ أَنْ يَعُمَّهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ» . وَرَوَى أَبُو ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيُّ أَنَّهُ «سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى {لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105] فَقَالَ يَا ثَعْلَبَةُ مُرْ بِالْمَعْرُوفِ، وَانْهَ عَنْ الْمُنْكَرِ فَإِذَا رَأَيْت شُحًّا مُطَاعًا، وَهَوًى مُتَّبَعًا، وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً، وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ فَعَلَيْك بِنَفْسِك، وَدَعْ الْعَوَامَّ إنَّ مِنْ، وَرَائِكُمْ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ لِلْمُتَمَسِّكِ فِيهَا بِمِثْلِ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ قِيلَ: بَلْ مِنْهُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: بَلْ مِنْكُمْ؛ لِأَنَّكُمْ تَجِدُونَ عَلَى الْخَيْرِ أَعْوَانًا، وَلَا يَجِدُونَ عَلَيْهِ أَعْوَانًا» . وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّك لَتَأْمُرُنَا بِالْمَعْرُوفِ حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْ الْمَعْرُوفِ شَيْءٌ إلَّا عَمِلْنَا بِهِ، وَتَنْهَانَا عَنْ الْمُنْكَرِ حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْ الْمُنْكَرِ شَيْءٌ إلَّا انْتَهَيْنَا عَنْهُ لِمَ نَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ؟ ، وَلِمَ نَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ؟ فَقَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُرُو بِالْمَعْرُوفِ، وَإِنْ لَمْ تَعْمَلُوا بِهِ كُلِّهِ، وَانْهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ، وَإِنْ لَمْ تَنْهَوْا عَنْهُ كُلِّهِ» . وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَفْضَلُ الْجِهَادِ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ فَمَنْ أَمَرَ بِالْمَعْرُوفِ شَدَّ ظَهْرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَنْ نَهَى عَنْ الْمُنْكَرِ أَرْغَمَ أَنْفَ الْمُنَافِقِينَ، وَمَنْ أَبْغَضَ الْفَاسِقَ، وَغَضِبَ لِلَّهِ غَضِبَ اللَّهُ لَهُ. وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَلْتَنْهَوُنَّ عَنْ الْمُنْكَرِ أَوْ لَيُسَلِّطَنَّ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا ظَالِمًا لَا يُجِلُّ كَبِيرَكُمْ، وَلَا يَرْحَمُ صَغِيرَكُمْ، وَيَدْعُو أَخْيَارُكُمْ فَلَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ، وَتَسْتَغْفِرُونَ فَلَا يُغْفَرُ لَكُمْ، وَتَسْتَنْصِرُونَ فَلَا تُنْصَرُونَ. وَقَالَ حُذَيْفَةُ: يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَأَنْ يَكُونَ جِيفَةَ حِمَارٍ أَحَبُّ إلَيْهِمْ مِنْ مُؤْمِنٍ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنْكَرِ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: سَمِعْت

مسألة من رأى منكرا فليغيره

رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «بِئْسَ الْقَوْمُ قَوْمٌ لَا يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ، وَبِئْسَ الْقَوْمُ قَوْمٌ لَا يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَا يَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ» . وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إيَّاكُمْ، وَالْجُلُوسَ عَلَى الطُّرُقَاتِ. قَالُوا: مَا لَنَا بُدٌّ إنَّمَا هِيَ مَجَالِسُنَا نَتَحَدَّثُ فِيهَا قَالَ: فَإِنْ أَبَيْتُمْ إلَّا ذَلِكَ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ، قَالُوا: وَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ، قَالَ: غَضُّ الْبَصَرِ، وَرَدُّ السَّلَامِ، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهْيٌ عَنْ الْمُنْكَرِ» . وَقَالَتْ عَائِشَةُ: «عُذِّبَ أَهْلُ قَرْيَةٍ فِيهَا ثَمَانِيَةَ عَشَرَ أَلْفًا عَمَلُهُمْ عَمَلُ الْأَنْبِيَاءِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ؟ قَالَ: لَمْ يَكُونُوا يَغْضَبُونَ لِلَّهِ، وَلَا يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَا يَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ» . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ شُعَيْبٍ لَمَّا نَهَى قَوْمَهُ {وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ} [هود: 84] {وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [هود: 85] . وَقَالَ {أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ} [الشعراء: 181] {وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ} [الشعراء: 182] {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [الشعراء: 183] . وَقَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَا يَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ إلَّا رَفِيقٌ فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ رَفِيقٌ فِيمَا يَنْهَى عَنْهُ حَكِيمٌ فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ حَكِيمٌ فِيمَا يَنْهَى عَنْهُ فَقِيهٌ فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ فَقِيهٌ فِيمَا يَنْهَى عَنْهُ» ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ فَقِيهًا مُطْلَقًا بَلْ فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ. وَأَوْصَى بَعْضُ السَّلَفِ بَنِيهِ، وَقَالَ: إذَا أَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْمُرَ بِالْمَعْرُوفِ فَلْيُوَطِّنْ نَفْسَهُ عَلَى الصَّبْرِ، وَلْيَثِقْ بِالثَّوَابِ مِنْ اللَّهِ فَمَنْ وَثِقَ بِالثَّوَابِ لَمْ يَجِدْ مَسَّ الْأَذَى فَأَدَبٌ مِنْ آدَابِ الْحِسْبَةِ تَوْطِينُ النَّفْسِ عَلَى الصَّبْرِ، وَلِذَلِكَ قَرَنَ اللَّهُ الصَّبْرَ حَاكِيًا عَنْ لُقْمَانَ {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [لقمان: 17] . [مَسْأَلَة مِنْ رَأَى مُنْكَرًا فَلِيُغَيِّرهُ] وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا مِنْ عَيْنٍ رَأَتْ مُنْكَرًا أَوْ مَعْصِيَةً لِلَّهِ فَلَمْ تُغَيِّرْهُ إلَّا أَبْكَاهَا اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِنْ كَانَ، وَلِيًّا لِلَّهِ» . وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ رَأَى مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَهُوَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ» . وَقَالَ

الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَفْضَلُ شُهَدَاءِ أُمَّتِي رَجُلٌ قَامَ إلَى إمَامٍ جَائِرٍ فَأَمَرَهُ بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهَاهُ عَنْ الْمُنْكَرِ فَقَتَلَهُ عَلَى ذَلِكَ فَذَلِكَ الشَّهِيدُ مَنْزِلَتُهُ فِي الْجَنَّةِ بَيْنَ حَمْزَةَ، وَجَعْفَرٍ» . وَعَنْ أَحْمَدَ بْنِ إبْرَاهِيمَ الْمُقْرِي قَالَ: كَانَ أَبُو الْحَسَنِ النُّورِيُّ رَجُلًا قَلِيلَ الْفُضُولِ لَا يَسْأَلُ عَمَّا لَا يَعْنِيهِ، وَلَا يُفَتِّشُ عَمَّا لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ، وَكَانَ إذَا رَأَى مُنْكَرًا غَيَّرَهُ، وَلَوْ كَانَ فِيهِ تَلَفُهُ فَنَزَلَ ذَاتَ يَوْمٍ إلَى مَشْرَعَةٍ تُعْرَفُ بِمَشْرَعَةِ الْفَحَّامِينَ يَتَطَهَّرُ لِلصَّلَاةِ إذْ رَأَى زَوْرَقًا فِيهِ ثَلَاثُونَ دَنًّا مَكْتُوبٌ عَلَيْهَا بِالْقَارِ لُطْفٌ، فَقَرَأَهُ، وَأَنْكَرَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ فِي التِّجَارَاتِ، وَلَا فِي الْبُيُوعِ شَيْئًا يُعَبِّرُ عَنْهُ لُطْفٌ فَقَالَ لِلْمَلَّاحِ: أَيُّ شَيْءٍ هَذِهِ الدِّنَانُ قَالَ: وَأَيُّ شَيْءٍ عَلَيْك امْضِ لِشُغْلِك فَلَمَّا سَمِعَ النُّورِيُّ مِنْ الْمَلَّاحِ هَذَا الْقَوْلَ ازْدَادَ تَعَطُّشًا إلَى مَعْرِفَتِهِ فَقَالَ: لَهُ أُحِبُّ أَنْ تُخْبِرَنِي أَيَّ شَيْءٍ فِي هَذِهِ الدِّنَانِ فَقَالَ الْمَلَّاحُ: أَنْتَ وَاَللَّهِ صُوفِيٌّ فُضُولِيٌّ هَذَا خَمْرٌ لِلْمُعْتَضِدِ يُرِيدُ أَنْ يُتَمِّمَ بِهِ مَجْلِسَهُ، فَقَالَ النُّورِيُّ: هَذَا خَمْرٌ قَالَ نَعَمْ فَقَالَ أُرِيدُ أَنْ تُعْطِينِي الْمُدْرَى فَاغْتَاظَ الْمَلَّاحُ عَلَيْهِ. وَقَالَ لِغُلَامِهِ أَعْطِهِ الْمُدْرَى حَتَّى أَنْظُرَ مَا يَصْنَعُ فَلَمَّا صَارَتْ الْمُدْرَى فِي يَدِهِ صَعِدَ إلَى الزَّوْرَقِ فَلَمْ يَزَلْ يُكَسِّرُهَا دَنًّا دَنًّا حَتَّى أَتَى عَلَى آخِرِهَا إلَّا دَنًّا، وَاحِدًا، وَالْمَلَّاحُ يَسْتَغِيثُ إلَى أَنْ رَكِبَ صَاحِبُ الْجِسْرِ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ مُوسَى بْنُ أَفْلَحَ فَقَبَضَ عَلَى النُّورِيِّ، وَأَشْخَصَهُ إلَى حَضْرَةِ الْمُعْتَضِدِ، وَكَانَ الْمُعْتَضِدُ سَيْفُهُ قَبْلَ كَلَامِهِ، وَلَمْ يَشُكَّ النَّاسُ أَنَّهُ سَيَقْتُلُهُ قَالَ أَبُو الْحَسَنِ فَدَخَلْت عَلَيْهِ، وَهُوَ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيٍّ حَدِيدٍ، وَبِيَدِهِ عَمُودٌ يُقَلِّبُهُ فَلَمَّا رَآنِي قَالَ: مَنْ أَنْتَ؟ قُلْت: مُحْتَسِبٌ قَالَ مَنْ وَلَّاك الْحِسْبَةَ قُلْت الَّذِي وَلَّاك الْإِمَامَةَ، وَلَّانِي الْحِسْبَةَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ فَأَطْرَقَ إلَى الْأَرْضِ سَاعَةً ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ إلَيَّ

وَقَالَ، وَمَا الَّذِي حَمَلَك عَلَى مَا صَنَعْت فَقُلْت شَفَقَةً مِنِّي عَلَيْك إذْ بَسَطْت يَدِي إلَى صَرْفِ مَكْرُوهٍ عَنْك فَقَصُرَتْ عَنْهُ قَالَ: فَأَطْرَقَ مُفَكِّرًا مِنْ كَلَامِي ثُمَّ رَفَعَ رَأْسِهِ وَقَالَ: كَيْفَ تَخَلَّصَ هَذَا الدَّنُّ الْوَاحِدُ مِنْ جُمْلَةِ الدِّنَانِ فَقُلْت فِي تَخَلُّصُهُ عِلَّةٌ أُخْبِرُ بِهَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنْ أَذِنَ لِي فَقَالَ: أَخْبِرْنِي، فَقُلْت يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنِّي أَقْدَمْت عَلَى الدِّنَانِ بِمُطَالَبَةِ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِذَلِكَ، وَعَمَّ قَلْبِي شَاهِدُ الْإِجْلَالِ لِلْحَقِّ وَخَوْفِ الْمُطَالَبَةِ فَغَابَتْ هَيْبَةُ الْخَلْقِ عَنِّي فَأَقْدَمْت عَلَيْهِ بِالْحَالِ الْأَوَّلِ إلَى أَنْ صِرْت إلَى هَذَا الدَّنِّ فَجَزِعَتْ نَفْسِي كَثِيرًا عَلَى أَنِّي قَدْ أَقْدَمْت عَلَى مِثْلِك فَمُنِعَتْ. وَلَوْ أَقْدَمْت بِالْحَالِ الْأَوَّلِ، وَكَانَتْ مِلْءُ الدُّنْيَا دِنَانًا لَكَسَّرْتهَا، وَلَمْ أُبَالِ فَقَالَ الْمُعْتَضِدُ اذْهَبْ فَقَدْ أَطْلَقْنَا يَدَك غَيِّرْ مَا أَحْبَبْت أَنْ تُغَيِّرَهُ مِنْ الْمُنْكَرِ قَالَ: أَبُو الْحَسَنِ فَقُلْت: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَبْغَضُ التَّغْيِيرَ؛ لِأَنِّي كُنْت أُغَيِّرُ عَنْ اللَّهِ، وَأَنَا الْآنَ أُغَيِّرُ شُرْطِيًّا فَقَالَ الْمُعْتَضِدُ مَا حَاجَتُك قُلْت يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ تَأْمُرُ بِإِخْرَاجِي سَالِمًا فَأَمَرَ لَهُ بِذَلِكَ، وَخَرَجَ إلَى الْبَصْرَةِ فَكَانَ أَكْثَرَ أَيَّامِهِ بِهَا خَوْفًا مِنْ أَنْ يُسْأَلَ عَنْ حَاجَةٍ يَسْأَلُهَا الْمُعْتَضِدُ فَأَقَامَ بِالْبَصْرَةِ إلَى أَنْ تُوُفِّيَ الْمُعْتَضِدُ ثُمَّ رَجَعَ إلَى بَغْدَادَ، فَهَذِهِ كَانَتْ سِيرَةُ الْعُلَمَاءِ، وَعَادَاتُهُمْ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَقِلَّةِ مُبَالَاتِهِمْ بِسَطْوَةِ الْمُلُوكِ لَكِنَّهُمْ اتَّكَلُوا عَلَى فَضْلِ اللَّهِ أَنْ يَحْرُسَهُمْ، وَرَضُوا بِحُكْمِ اللَّهِ أَنْ يَرْزُقَهُمْ الشَّهَادَةَ فَلَمَّا أَخْلَصُوا لِلَّهِ النِّيَّةَ أَثَّرَ كَلَامُهُمْ فِي الْقُلُوبِ الْقَاسِيَةِ فَلَيَّنَهَا، وَأَزَالَ قَسَاوَتَهَا، وَأَمَالَهَا لِلْخَيْرِ، وَأَمَّا الْآنَ فَقَدْ اسْتَوْلَى عَلَيْهِمْ حُبُّ الدُّنْيَا، وَمَنْ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ حُبُّ الدُّنْيَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْحِسْبَةِ

مسألة الحسبة على الولاة

عَلَى الْأَرَاذِلِ فَكَيْفَ عَلَى الْمُلُوكِ، وَالْأَكَابِرِ، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى كُلِّ حَالٍ. [مَسْأَلَة الْحَسَبَة عَلَى الْوُلَاة] وَكَانَتْ مِنْ عَادَاتِ السَّلَفِ الْحِسْبَةُ عَلَى الْوُلَاةِ قَاطِعًا بِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى الِاسْتِغْنَاءِ عَنْ التَّفْوِيضِ، وَكُلُّ مَنْ أَمَرَ بِالْمَعْرُوفِ، وَإِنْ كَانَ الْمُتَوَلَّى رَاضِيًا فَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ سَاخِطًا فَسُخْطُهُ عَلَيْهِ مُنْكَرٌ يَجِبُ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ، وَكَيْفَ يَحْتَاجُ إلَى إذْنِهِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ عَادَةُ السَّلَفِ فِي الْإِنْكَارِ عَلَى الْأَئِمَّةِ كَمَا رُوِيَ أَنَّ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ خَطَبَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فِي الْعِيدِ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: إنَّمَا الْخُطْبَةُ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَقَالَ: مَرْوَانُ تُرِكَ ذَلِكَ يَا أَبَا فُلَانٍ فَقَالَ لَهُ أَبُو سَعِيدٍ أَمَّا هَذَا فَقَدْ قَضَى مَا عَلَيْهِ قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ رَأَى مُنْكَرًا فَلْيُنْكِرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ» . وَلَقَدْ كَانُوا فَهِمُوا مِنْ هَذِهِ الْعُمُومَاتِ دُخُولَ السَّلَاطِينِ تَحْتَهُ فَكَيْفَ يُحْتَاجُ إلَى إذْنِهِمْ؛ لِأَنَّ الْحِسْبَةَ عِبَارَةٌ عَنْ الْمَنْعِ مِنْ مُنْكِرٍ لِحَقِّ اللَّهِ صِيَانَةً لِلْمَمْنُوعِ عَنْ مُقَارَنَةِ الْمُنْكَرِ، وَعَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ قَالَ: حَجَّ الْمَهْدِيُّ فِي سَنَةِ سِتٍّ، وَسِتِّينَ، وَمِائَةٍ فَرَأَيْته يَرْمِي جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ، وَالنَّاسُ مُحِيطُونَ بِهِ يَمِينًا، وَشِمَالًا يَضْرِبُونَ النَّاسَ بِالسِّيَاطِ فَوَقَفْت فَقُلْت يَا حَسَنَ الْوَجْهِ حَدَّثَنَا أَيْمَنُ بْنُ وَائِلٍ عَنْ قُدَامَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْكِلَابِيِّ قَالَ: «رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَرْمِي جَمْرَةَ يَوْمِ النَّحْرِ عَلَى جَمَلٍ لَا ضَرْبَ، وَلَا طَرْدَ، وَلَا جَلْدَ، وَلَا إلَيْكَ إلَيْكَ» . وَهَا أَنْتَ يُخْبَطُ النَّاسُ بَيْنَ يَدَيْك يَمِينًا، وَشِمَالًا فَقَالَ لِرَجُلٍ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ فَقَالَ يَا سُفْيَانُ لَوْ كَانَ الْمَنْصُورُ مَا احْتَمَلَك عَلَى هَذَا

فصل أقسام الأمر بالمعروف ثلاثة أحدها ما تعلق بحقوق الله

فَقَالَ لَوْ أَخْبَرَك الْمَنْصُورُ بِمَا لَقِيَ لَقَصَّرْتَ عَمَّا أَنْتَ عَلَيْهِ قَالَ: فَقِيلَ لَهُ، قَالَ لَك يَا حَسَنَ الْوَجْهِ، وَلَمْ يَقُلْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ اُطْلُبُوهُ فَطَلَبُوهُ فَلَمْ يَجِدُوهُ، وَاخْتَفَى. وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ إذَا كَانَ الرَّجُلُ مُحَبَّبًا فِي جِيرَانِهِ مَحْمُودًا عِنْدَ إخْوَانِهِ فَاعْلَمْ أَنَّهُ مُدَاهِنٌ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْمَعْرُوفُ كُلُّ فِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ أَوْ قَصْدٍ حَسُنَ شَرْعًا، وَالْمُنْكَرُ كُلُّ فِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ أَوْ قَصْدٍ قَبُحَ شَرْعًا، وَالْإِنْكَارُ فِي تَرْكِ الْوَاجِبِ، وَفِعْلِ الْحَرَامِ، وَاجِبٌ، وَفِي تَرْكِ الْمَنْدُوبِ، وَفِعْلِ الْمَكْرُوهِ مَنْدُوبٌ، وَالْإِنْكَارُ بِالْيَدِ أَمْكَنُ، وَإِلَّا بِاللِّسَانِ، وَإِلَّا بِالْقَلْبِ، وَعَلَى النَّاسِ، وَالْوُلَاةِ فِعْلُ ذَلِكَ، وَإِعَانَةُ مَنْ يَفْعَلُهُ، وَتَقْوِيَتُهُ فَإِنَّهُ حِفْظُ الدِّينِ، وَيَجِبُ الْإِنْكَارُ عَلَى مَنْ تَرَكَ الْإِنْكَارَ الْوَاجِبَ، وَيَبْدَأُ فِي الْإِنْكَارِ بِالْأَسْهَلِ فَإِنْ زَالَ، وَإِلَّا أَغْلَظَ فَإِنْ زَالَ، وَإِلَّا رَفَعَهُ إلَى الْإِمَامِ، وَلَا يُنْكِرُ عَلَى غَيْرِ مُكَلَّفٍ إلَّا تَأْدِيبًا، وَزَجْرًا، وَلَا عَلَى ذِمِّيٍّ لَا يَجْهَرُ بِالْمُنْكَرِ. [فَصَلِّ أَقْسَام الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ ثَلَاثَة أَحَدهَا مَا تَعَلَّقَ بِحُقُوقِ اللَّه] (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ فَيَنْقَسِمُ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا - مَا تَعَلَّقَ بِحُقُوقِ اللَّهِ. وَالثَّانِي: مَا تَعَلَّقَ بِحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ. وَالثَّالِثُ - مَا كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا، فَأَمَّا الْمُتَعَلِّقُ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى: فَضَرْبَانِ أَحَدُهُمَا - مَا يَلْزَمُ الْأَمْرُ بِهِ فِي الْجَمَاعَةِ دُونَ الِانْفِرَادِ كَتَرْكِ الْجُمُعَةِ فِي وَطَنٍ مَسْكُونٍ فَإِنْ كَانُوا عَدَدًا قَدْ اتَّفَقَ عَلَى انْعِقَادِ الْجُمُعَةِ بِهِمْ كَالْأَرْبَعِينَ فَمَا زَادَ فَوَاجِبٌ أَنْ يَأْخُذَهُمْ بِإِقَامَتِهَا، وَيَأْمُرَهُمْ بِفِعْلِهَا، وَيُؤَدِّبَ عَلَى الْإِخْلَالِ بِهَا، وَإِنْ كَانُوا عَدَدًا قَدْ اُخْتُلِفَ فِي انْعِقَادِ الْجُمُعَةِ بِهِمْ فَلَهُ، وَلَهُمْ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَتَّفِقَ رَأْيُهُ، وَرَأْيُ الْقَوْمِ عَلَى انْعِقَادِ الْجُمُعَةِ بِذَلِكَ الْعَدَدِ فَوَاجِبٌ عَلَيْهِ أَنْ

يَأْمُرَهُمْ بِإِقَامَتِهَا، وَعَلَيْهِمْ أَنْ يُسَارِعُوا إلَى أَمْرِهِ بِهَا، وَيَكُونُ عَلَى تَأْدِيبِهِمْ فِي تَرْكِهَا أَلْيَنَ مِنْ تَأْدِيبِهِ عَلَى تَرْكِ مَا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهِ. وَالْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يَتَّفِقَ رَأْيُهُ، وَرَأْيُ الْقَوْمِ عَلَى أَنَّ الْجُمُعَةَ لَا تَنْعَقِدُ بِهِمْ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِإِقَامَتِهَا، وَهُوَ بِالنَّهْيِ عَنْهَا لَوْ أُقِيمَتْ أَحَقُّ. وَالْحَالُ الثَّالِثُ: أَنْ يَرَى الْقَوْمُ انْعِقَادَ الْجُمُعَةِ، وَلَا يَرَاهُ الْمُحْتَسِبُ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُعَارِضَهُمْ فِيهَا، فَيَأْمُرَ بِإِقَامَتِهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَرَاهُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْهَاهُمْ عَنْهَا، وَيَمْنَعَهُمْ مِمَّا يَرَوْنَهُ فَرْضًا عَلَيْهِمْ. وَالْحَالُ الرَّابِعُ: أَنْ يَرَى الْمُحْتَسِبُ انْعِقَادَ الْجُمُعَةِ بِهِمْ، وَلَا يَرَاهُ الْقَوْمُ فَهَذَا مِمَّا فِي اسْتِمْرَارِهِ تَعْطِيلُ الْجُمُعَةِ مَعَ تَطَاوُلِ الزَّمَانِ، وَبُعْدِهِ، وَكَثْرَةِ الْعَدَدِ، وَزِيَادَتِهِ فَهَلْ لِلْمُحْتَسَبِ أَنْ يَأْمُرَهُمْ فِيهَا اعْتِبَارًا بِهَذَا الْمَعْنَى أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِإِقَامَتِهَا اعْتِبَارًا بِالْمَصْلَحَةِ؛ لِأَنَّ لَا يُنَشِّئُوا الصَّغِيرَ عَلَى تَرْكِهَا فَيَظُنَّ أَنَّهَا تَسْقُطُ مَعَ زِيَادَةِ الْعَدَدِ كَمَا تَسْقُطُ بِنُقْصَانِهِ فَقَدْ رَاعَى زِيَادُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ مِثْلَ هَذَا فِي صَلَاةِ النَّاسِ فِي جَامِعَيْ الْبَصْرَةِ، وَالْكُوفَةِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا إذَا صَلَّوْا فِي صَحْنِهِ، وَرَفَعُوا مِنْ السُّجُودِ مَسَحُوا جِبَاهَهُمْ مِنْ التُّرَابِ فَأَمَرَ بِإِلْقَاءِ الْحَصْبَاءِ فِي صَحْنِ الْمَسْجِدِ، وَقَالَ: لَسْت آمَنُ أَنْ يَطُولَ الزَّمَانُ فَيَظُنَّ الصَّغِيرُ إذَا نَشَأَ أَنَّ مَسْحَ الْجَبْهَةِ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ سُنَّةٌ فِي الصَّلَاةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَتَعَرَّضُ لِأَمْرِهِمْ بِهَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ حَمْلُ النَّاسِ عَلَى اعْتِقَادِهِ، وَلَا يَقُودُهُمْ إلَى مَذْهَبِهِ، وَلَا أَنْ يَأْخُذَهُمْ فِي الدِّينِ بِرَأْيِهِ مَعَ تَسْوِيغِ الِاجْتِهَادِ فِيهِ، وَأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ نُقْصَانَ الْعَدَدِ يَمْنَعُ مِنْ إجْزَاءِ الْجُمُعَةِ فَأَمَّا أَمْرُهُمْ بِصَلَاةِ الْعِيدِ فَلَهُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِهَا، وَهَلْ يَكُونُ أَمْرُهُ

مسألة اجتمع أهل بلد على ترك الآذان وتعطيل الجماعات

بِهَا مِنْ الْحُقُوقِ اللَّازِمَةِ أَوْ مِنْ الْحُقُوقِ الْجَائِزَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ مِنْ اخْتِلَافِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِيهَا هَلْ هِيَ مَسْنُونَةٌ؟ أَوْ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ؟ فَإِنْ قِيلَ: إنَّهَا مَسْنُونَةٌ كَانَ الْأَمْرُ بِهَا نَدْبًا، وَإِنْ قِيلَ: إنَّهَا مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ كَانَ الْأَمْرُ بِهَا حَتْمًا، فَأَمَّا صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسَاجِدِ، وَإِقَامَةُ الْأَذَانِ فِيهَا لِلصَّلَوَاتِ فَمِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ، وَعَلَامَاتِ مُتَعَبَّدَاتِهِ الَّتِي فَرَّقَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ دَارِ الْإِسْلَامِ، وَدَارِ الشِّرْكِ بِهَا. [مَسْأَلَة اجتمع أَهْل بَلَد عَلَى ترك الآذان وتعطيل الجماعات] فَإِذَا اجْتَمَعَ أَهْلُ مَحَلَّةٍ أَوْ بَلَدٍ عَلَى تَعْطِيلِ الْجَمَاعَاتِ فِي مَسَاجِدِهِمْ وَتَرَكَ الْأَذَانِ فِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ كَانَ الْمُحْتَسِبُ مَنْدُوبًا إلَى أَمْرِهِمْ بِالْأَذَانِ، وَالْجَمَاعَةِ فِي الصَّلَوَاتِ، وَهَلْ ذَلِكَ، وَاجِبٌ عَلَيْهِ يَأْثَمُ بِتَرْكِهِ أَوْ مُسْتَحَبٌّ لَهُ يُثَابُ عَلَى فِعْلِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ مِنْ اخْتِلَافِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِي إطْبَاقِ أَهْلِ بَلَدٍ عَلَى تَرْكِ الْأَذَانِ، وَالْإِقَامَةِ، وَالْجَمَاعَةِ، وَهَلْ يَلْزَمُ السُّلْطَانَ مُحَارَبَتُهُمْ عَلَيْهِ أَمْ لَا، فَأَمَّا مَنْ تَرَكَ صَلَاةَ الْجَمَاعَةِ مِنْ آحَادِ النَّاسِ أَوْ تَرَكَ الْأَذَانَ، وَالْإِقَامَةَ لِصَلَاتِهِ فَلَا اعْتِرَاضَ لِلْمُحْتَسِبِ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَجْعَلْهُ عَادَةً؛ لِأَنَّهَا مِنْ النَّدْبِ الَّذِي يَسْقُطُ بِالْأَعْذَارِ إلَّا أَنْ يَقْتَرِنَ بِهَا اسْتِرَابَةٌ أَوْ يَجْعَلَهُ إلْفًا، وَعَادَةً، وَيَخَافُ تَعَدِّي ذَلِكَ إلَى غَيْرِهِ فِي الِاقْتِدَاءِ فَمُرَاعَاةُ حُكْمِ الْمَصْلَحَةِ فِي زَجْرِهِ عَمَّا اسْتَهَانَ بِهِ مِنْ سُنَنِ عِبَادَتِهِ وَيَكُونُ، وَعِيدُهُ عَلَى تَرْكِ الْجَمَاعَةِ مُعْتَبَرًا بِشَوَاهِدِ حَالِهِ. كَاَلَّذِي رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَقَدْ هَمَمْت أَنْ آمُرَ أَصْحَابِي أَنْ يَجْمَعُوا حَطَبًا، وَآمُرَ بِالصَّلَاةِ فَيُؤَذَّنَ لَهَا، وَتُقَامَ ثُمَّ أُخَالِفَ إلَى مَنَازِلِ قَوْمٍ لَا يَحْضُرُونَ الصَّلَاةَ فَأُحَرِّقَهَا عَلَيْهِمْ» . وَأَمَّا مَا

مسألة الأذان والقنوت في الصلوات إذا خالف فيه رأي المحتسب

يُؤْمَرُ بِهِ آحَادُ النَّاسِ، وَأَفْرَادُهُمْ فَكَتَأْخِيرِ الصَّلَاةِ حَتَّى يَخْرُجَ، وَقْتُهَا فَيُذَكَّرُ بِهَا، وَيُؤْمَرُ بِفِعْلِهَا، وَيُرَاعَى جَوَابُهُ عَنْهَا فَإِنْ قَالَ تَرَكْتهَا لِلنِّسْيَانِ حَثَّهُ عَلَى فِعْلِهَا بَعْدَ ذِكْرِهِ، وَلَمْ يُؤَدِّبْهُ، وَإِنْ تَرَكَهَا لِتَوَانٍ، أَوْ هَوَانٍ أَدَّبَهُ زَجْرًا، وَأَخَذَهُ بِفِعْلِهَا جَبْرًا، وَلَا اعْتِرَاضَ عَلَى مَنْ أَخَّرَهَا، وَالْوَقْتُ بَاقٍ لِاخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي فَضْلِ التَّأْخِيرِ. وَلَكِنْ لَوْ كَانَتْ الْجَمَاعَاتُ فِي بَلَدٍ قَدْ اتَّفَقَ أَهْلُهُ عَلَى تَأْخِيرِ صَلَاةٍ إلَى آخِرِ وَقْتِهَا، وَالْمُحْتَسِبُ يَرَى فَضْلَ تَعْجِيلِهَا فَهَلْ لَهُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِالتَّعْجِيلِ عَلَى، وَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّ اعْتِيَادَ جَمِيعِ النَّاسِ لِتَأْخِيرِهَا يُفْضِي بِالصَّغِيرِ النَّاشِئِ عَلَى اعْتِقَادِ أَنَّ هَذَا الْوَقْتَ دُونَ مَا تَقَدَّمَ، وَلَوْ عَجَّلَهَا بَعْضُهُمْ تَرَكَ مَنْ أَخَّرَهَا مِنْهُمْ، وَمَا يَرَاهُ مِنْ التَّأْخِيرِ. [مَسْأَلَة الْأَذَان وَالْقُنُوت فِي الصَّلَوَات إذَا خَالَفَ فِيهِ رَأْي الْمُحْتَسَب] فَأَمَّا الْأَذَانُ، وَالْقُنُوتُ فِي الصَّلَوَاتِ إذَا خَالَفَ فِيهِ رَأْيَ الْمُحْتَسِبِ فَلَا اعْتِرَاضَ لَهُ فِيهِ بِأَمْرٍ، وَلَا نَهْيٍ، وَإِنْ كَانَ يَرَى خِلَافَهُ إذَا كَانَ مَا يَفْعَلُ مُسَوِّغًا فِي الِاجْتِهَادِ بِخُرُوجِهِ عَنْ مَعْنَى مَا قَدَّمْنَاهُ، وَكَذَلِكَ الطَّهَارَةُ إذَا فَعَلَهَا عَلَى وَجْهٍ سَائِغٍ يُخَالِفُ فِيهِ رَأْيَ الْمُحْتَسِبِ مِنْ إزَالَةِ النَّجَاسَةِ بِالْمَائِعَاتِ، وَالْوُضُوءِ بِمَاءٍ تَغَيَّرَ بِالْمَذْرُورَاتِ الطَّاهِرَةِ أَوْ الِاقْتِصَارِ عَلَى مَسْحِ أَقَلِّ الرَّأْسِ أَوْ الْعَفْوِ عَلَى قَدْرِ الدِّرْهَمِ مِنْ النَّجَاسَةِ فَلَا اعْتِرَاضَ لَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بِأَمْرٍ، وَلَا نَهْيٍ، وَلَكِنْ فِي اعْتِرَاضِهِ عَلَيْهِمْ فِي الْوُضُوءِ بِالنَّبِيذِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ وَجْهَانِ، لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِفْضَاءِ إلَى اسْتِبَاحَتِهِ عَلَى كُلِّ الْأَحْوَالِ، ثُمَّ عَلَى نَظَائِرِ هَذَا الْمِثَالِ تَكُونُ أَوَامِرُهُ بِالْمَعْرُوفِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى.

فصل الأمر بالمعروف في حقوق الآدميين

[فَصَلِّ الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ فِي حُقُوق الْآدَمِيِّينَ] (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ فَضَرْبَانِ: عَامٌّ، وَخَاصٌّ فَأَمَّا الْعَامُّ فَكَالْبَلَدِ إذَا تَعَطَّلَ سِرْبُهُ، وَاسْتَهْدَمَ سُورُهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَهْدَمَ مَسَاجِدُهُمْ، وَجَوَامِعُهُمْ فَأَمَّا إذَا أَعْوَزَ بَيْتُ الْمَالِ كَانَ الْأَمْرُ بِبِنَاءِ سُورِهِمْ، وَإِصْلَاحِ سَرَبِهِمْ، وَعِمَارَةِ مَسَاجِدِهِمْ، وَجَوَامِعِهِمْ مُتَوَجِّهٌ إلَى كَافَّةِ ذَوِي الْمُكْنَةِ مِنْهُمْ، وَلَا يَتَعَيَّنُ أَحَدُهُمْ فِي الْأَمْرِ بِهِ فَإِنْ شَرَعَ ذَوُو الْمُكْنَةِ فِي عَمَلِهِ، وَبَاشَرُوا الْقِيَامَ بِهِ سَقَطَ عَنْ الْمُحْتَسِبِ حَقُّ الْأَمْرِ بِهِ، وَأَمَّا الْخَاصُّ كَالْحُقُوقِ إذَا بَطَلَتْ، وَالدُّيُونِ إذَا أُخِّرَتْ فَلِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَأْمُرَ بِالْخُرُوجِ مِنْهَا مَعَ الْمُكْنَةِ إذَا اسْتَعْدَاهُ أَصْحَابُ الْحُقُوقِ، وَلَهُ أَنْ يُلَازِمَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ أَنْ يُلَازِمَ، وَلَيْسَ لَهُ الْأَخْذُ بِنَفَقَاتِ الْأَقَارِبِ لِافْتِقَارِ ذَلِكَ إلَى اجْتِهَادٍ شَرْعِيٍّ فِيمَنْ يَجِبُ لَهُ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْحَاكِمُ قَدْ فَرَضَهَا فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِأَدَائِهَا، وَكَذَلِكَ كَفَالَةُ مَنْ تَجِبُ كَفَالَتُهُ مِنْ الصِّغَارِ لَا اعْتِرَاضَ لَهُ فِيهَا حَتَّى يَحْكُمَ بِهَا الْحَاكِمُ، وَيَجُوزُ حِينَئِذٍ لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَأْمُرَ بِالْقِيَامِ بِهَا عَلَى الشُّرُوطِ الْمُسْتَحَقَّةِ فِيهَا، فَأَمَّا قَبُولُ الْوَصَايَا، وَالْوَدَائِعِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْمُرَ فِيهَا أَعْيَانَ النَّاسِ وَآحَادَهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَ بِهَا عَلَى الْعُمُومِ حَثًّا عَلَى التَّعَاوُنِ بِالْبِرِّ، وَالتَّقْوَى ثُمَّ عَلَى هَذَا الْمِثَالِ يَكُونُ أَمْرُهُ بِالْمَعْرُوفِ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ. [فَصَلِّ الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ فِيمَا كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْن حُقُوق اللَّه تَعَالَى وَحُقُوق الْآدَمِيِّينَ] (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ فِيمَا كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ فَكَأَخْذِ الْأَوْلِيَاءِ بِنِكَاحِ الْأَيَامَى مِنْ أَكْفَائِهِنَّ إذَا طَلَبْنَ، وَالْتِزَامِ النِّسَاءِ أَحْكَامَ الْعِدَدِ إذَا فُورِقْنَ، وَلَهُ تَأْدِيبُ مَنْ خَالَفَ فِي الْعِدَّةِ مِنْ النِّسَاءِ، وَلَيْسَ لَهُ تَأْدِيبُ مَنْ امْتَنَعَ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ، وَمَنْ نَفَى

فصل أقسام النهي عن المنكر ثلاثة أحدها ما كان من حقوق الله تعالى

وَلَدًا قَدْ ثَبَتَ فِرَاشُ أُمِّهِ، وَلُحُوقُ نَسَبِهِ أَخَذَهُ بِأَحْكَامِ الْآبَاءِ جَبْرًا، وَعَزَّرَهُ عَلَى النَّفْيِ أَدَبًا، وَيَأْخُذُ السَّادَةَ بِحُقُوقِ الْعَبِيدِ، وَالْإِمَاءِ نَفَقَتِهِمْ، وَكِسْوَتِهِمْ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لِلْمَمْلُوكِ طَعَامُهُ، وَكِسْوَتُهُ بِالْمَعْرُوفِ، وَأَنْ لَا يُكَلَّفُونَ مِنْ الْعَمَلِ مَا لَا يُطِيقُونَ» ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنَعَ أَنْ يُكَلَّفَ الْعَبْدُ مَا لَا يُطِيقُ، وَيُرِيحُهُ فِي وَقْتِ الْقَيْلُولَةِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ، وَمَنْ مَلَكَ بَهِيمَةً وَجَبَ عَلَيْهِ الْقِيَامُ بِعَلَفِهَا، وَلَا يَحْمِلُ عَلَيْهَا مَا يَضُرُّهَا كَمَا فِي الْعَبْدِ، وَلَا يَحْلِبُ مِنْ لَبَنِهَا إلَّا مَا فَضَلَ عَنْ وَلَدِهَا؛ لِأَنَّهُ خُلِقَ غِذَاءً لِلْوَلَدِ فَلَا يَجُوزُ مَنْعُهُ مِنْهُ، وَإِنْ امْتَنَعَ مِنْ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا أُجْبِرَ عَلَى ذَلِكَ كَمَا يُجْبَرُ عَلَى نَفَقَةِ زَوْجَتِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ أُكْرِيَ عَلَيْهِ إنْ أَمْكَنَ إكْرَاؤُهُ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ بِيعَ عَلَيْهِ كَمَا يُزَالُ مِلْكُهُ عَنْ الزَّوْجَةِ عِنْدَ الْإِعْسَارِ بِنَفَقَتِهَا فَإِنْ لَمْ يَرْغَبْ فِيهَا رَاغِبٌ فَكِفَايَتُهَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَعَلَى الْمُسْلِمِينَ كِفَايَتُهَا، وَعَلَى هَذَا الْمِثَالِ يَكُونُ أَمْرُهُ فِي الْحُقُوقِ الْمُشْتَرَكَةِ. [فَصَلِّ أَقْسَام النَّهْي عَنْ الْمُنْكَر ثَلَاثَة أَحَدهَا مَا كَانَ مِنْ حُقُوق اللَّه تَعَالَى] (فَصْلٌ) وَأَمَّا النَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرَاتِ فَيَنْقَسِمُ أَيْضًا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا - مَا كَانَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى. وَالثَّانِي: مَا كَانَ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ. وَالثَّالِثُ مَا كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْحَقَّيْنِ. فَأَمَّا النَّهْيُ عَنْهَا فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا تَعَلَّقَ بِالْعِبَادَاتِ. وَالثَّانِي: مَا تَعَلَّقَ بِالْمَحْظُورَاتِ. وَالثَّالِثُ: مَا تَعَلَّقَ بِالْمُعَامَلَاتِ فَأَمَّا الْمُتَعَلِّقُ بِالْعِبَادَاتِ فَكَالْقَاصِدِ مُخَالَفَةَ هَيْئَاتِ الصَّلَاةِ، وَالْمُتَعَمِّدِ تَغَيُّرِ أَوْصَافِهَا الْمَسْنُونَةِ، مِثْلُ: مَنْ يَقْصِدُ الْجَهْرَ فِي صَلَاةِ الْإِسْرَارِ أَوْ الْإِسْرَارَ فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ أَوْ يَزِيدُ فِي الصَّلَاةِ أَوْ فِي الْأَذَانِ أَذْكَارًا غَيْرَ مَسْنُونَةٍ فَلِلْمُحْتَسِبِ إنْكَارُهَا، وَتَأْدِيبُ الْعَامِلِ

فِيهَا إذَا لَمْ يَقُلْ بِمَا ارْتَكَبَهُ إمَامٌ مَتْبُوعٌ. وَكَذَلِكَ إذَا أَخَلَّ بِتَطْهِيرِ جَسَدِهِ أَوْ ثَوْبِهِ أَوْ مَوْضِعِ صَلَاتِهِ أَنْكَرَ عَلَيْهِ إذَا تَحَقَّقَ ذَلِكَ مِنْهُ، وَلَا يُؤَاخِذُهُ بِالتُّهَمِ، وَالظُّنُونِ، وَكَذَلِكَ لَوْ ظَنَّ بِرَجُلٍ أَنَّهُ يَتْرُكُ الْغُسْلَ مِنْ الْجَنَابَةِ أَوْ يَتْرُكُ الصَّلَاةَ أَوْ الصِّيَامَ لَمْ يُؤَاخِذْهُ بِالتُّهَمِ، وَلَمْ يُقَابِلْهُ بِالْإِنْكَارِ، لَكِنْ يَجُوزُ لَهُ بِالتُّهَمِ أَنْ يَعِظَ، وَيُحَذِّرَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى إسْقَاطِ حُقُوقِهِ، وَالْإِخْلَالِ بِمَفْرُوضَاتِهِ، فَإِنْ رَآهُ يَأْكُلُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ لَمْ يُقْدِمْ عَلَى تَأْدِيبِهِ إلَّا بَعْدَ سُؤَالِهِ عَلَى سَبَبِ أَكْلِهِ إذَا الْتَبَسَتْ عَلَيْهِ أَحْوَالُهُ فَرُبَّمَا كَانَ مَرِيضًا أَوْ مُسَافِرًا، وَيَلْزَمُهُ السُّؤَالُ إذَا ظَهَرَتْ أَمَارَاتُ الرَّيْبِ فَإِنْ ذَكَرَ فِي الْأَعْذَارِ مَا يَحْمِلُ حَالُهُ صَدَّقَهُ، وَكَفَّ عَنْ زَجْرِهِ، وَأَمَرَهُ بِإِخْفَاءِ أَكْلِهِ لِئَلَّا يُعَرِّضَ نَفْسَهُ لِتُهْمَةٍ، وَلَا يَلْزَمُهُ إحْلَافُهُ عِنْدَ الِاسْتِرَابَةِ بِقَوْلِهِ؛ لِأَنَّهُ مَوْكُولٌ إلَى أَمَانَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عُذْرٌ جَاهَرَ بِالْإِنْكَارِ عَلَيْهِ، وَرَدَعَهُ، وَأَدَّبَهُ عَلَيْهِ تَأْدِيبَ زَجْرٍ، وَهَكَذَا لَوْ عَلِمَ عُذْرَهُ فِي الْأَكْلِ أَنْكَرَ عَلَيْهِ الْمُجَاهِرَةَ بِتَعْرِيضِ نَفْسِهِ لِلتُّهْمَةِ، وَلِئَلَّا يَقْتَدِيَ بِهِ مِنْ ذَوِي الْجَهَالَةِ مَنْ لَا يُمَيِّزُ حَالَ عُذْرِهِ مِنْ غَيْرِهِ، فَأَمَّا الْمُمْتَنِعُ مِنْ إخْرَاجِ زَكَاتِهِ فَإِنْ كَانَ مِنْ الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ فَعَامِلُ الصَّدَقَةِ بِأَخْذِهَا جَبْرًا أَخَصُّ، وَهُوَ بِتَعْزِيرِهِ عَلَى الْغُلُولِ إنْ لَمْ يَجِدْ لَهُ عُذْرًا أَحَقُّ؛ لِأَنَّهَا مَعْصِيَةٌ لَا حَدَّ فِيهَا، وَلَا كَفَّارَةَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُحْتَسِبُ أَخَصَّ بِالْإِنْكَارِ عَلَيْهِ مِنْ عَامِلِ الصَّدَقَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا اعْتِرَاضَ لِلْعَامِلِ فِي الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ بِالْإِنْكَارِ عَلَيْهِ أَخَصَّ؛ لِأَنَّهُ لَوْ دَفَعَهَا إلَيْهِ أَجْزَاهُ، وَيَكُونُ تَأْدِيبُهُ مُعْتَبَرًا بِشَوَاهِدِ حَالِهِ فِي الِامْتِنَاعِ مِنْ إخْرَاجِ زَكَاتِهِ فَإِنْ ذَكَرَ أَنَّهُ يُخْرِجُهَا سِرًّا وُكِلَ إلَى أَمَانَتِهِ فِيهَا،

فَإِنْ رَأَى الْمُحْتَسِبُ رَجُلًا يَتَعَرَّضُ لِمَسْأَلَةِ النَّاسِ، وَطَلَبِ الصَّدَقَةِ، وَعَلِمَ أَنَّهُ غَنِيٌّ إمَّا بِمَالٍ أَوْ عَمَلٍ أَنْكَرَهُ عَلَيْهِ، وَأَدَّبَهُ فِيهِ، وَكَانَ الْمُحْتَسِبُ أَخَصَّ بِالْإِنْكَارِ مِنْ غَيْرِهِ فَقَدْ فَعَلَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِثْلَ ذَلِكَ فِي قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ، وَلَوْ رَأَى عَلَيْهِ آثَارَ الْغِنَى، وَهُوَ يَسْأَلُ النَّاسَ أَعْلَمَهُ تَحْرِيمَهَا عَلَيْهِ، وَعَلَى الْمُسْتَغْنِي عَنْهَا، وَلَمْ يُنْكِرْهُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ فِي الْبَاطِنِ فَقِيرًا، وَإِذَا تَعَرَّضَ لِلْمَسْأَلَةِ ذُو جَلَدٍ، وَقُوَّةٍ عَلَى الْعَمَلِ زَجَرَهُ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِلِاحْتِرَافِ بِعَمَلِهِ فَإِنْ أَقَامَ عَلَى الْمَسْأَلَةِ عَزَّرَهُ حَتَّى يُقْلِعَ عَنْهَا، وَهَكَذَا لَوْ ابْتَدَعَ بَعْضُ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْعِلْمِ قَوْلًا خَرَقَ الْإِجْمَاعَ، وَخَالَفَ فِيهِ النَّصَّ، وَرَدَّ قَوْلَهُ عُلَمَاءُ عَصْرِهِ، أَنْكَرَ عَلَيْهِ، وَزَجَرَهُ عَنْهُ فَإِنْ أَقْلَعَ، وَتَابَ، وَإِلَّا فَالسُّلْطَانُ بِتَهْذِيبِ الدِّينِ أَحَقُّ. وَإِذَا تَعَرَّضَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ لِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى بِتَأْوِيلِ عَدَلَ فِيهِ عَنْ ظَاهِرِ التَّنْزِيلِ إلَى بَاطِنِ بِدْعَةٍ يَتَكَلَّفُ لَهُ إغْمَاضَ مَعَانِيهِ أَوْ انْفَرَدَ بَعْضُ الرُّوَاةِ بِأَحَادِيثَ مَنَاكِيرَ تَنْفِرُ مِنْهَا النُّفُوسُ أَوْ يَفْسُدُ بِهَا التَّأْوِيلُ كَانَ عَلَى الْمُحْتَسِبِ إنْكَارُ ذَلِكَ، وَالْمَنْعُ مِنْهُ، وَهَذَا إنَّمَا يَصِحُّ مِنْهُ إنْكَارُهُ إذَا تَمَيَّزَ عِنْدَهُ الصَّحِيحُ مِنْ الْفَاسِدِ، وَالْحَقُّ مِنْ الْبَاطِلِ، وَذَلِكَ مِنْ أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ يَكُونَ بِقُوَّتِهِ فِي الْعِلْمِ، وَاجْتِهَادِهِ فِيهِ لَا يَخْفَى ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَإِمَّا أَنْ يَتَّفِقَ عُلَمَاءُ الْوَقْتِ عَلَى إنْكَارِهِ، وَابْتِدَاعِهِ فَيَسْتَعْدُونَهُ فِيهِ فَيُعَوِّلَ فِي الْإِنْكَارِ عَلَى أَقَاوِيلِهِمْ، وَفِي الْمَنْعِ عَلَى اتِّفَاقِهِمْ فَإِنَّ الْخَطَرَ عَظِيمٌ، وَالْمُحْتَسِبُ الْجَاهِلُ إنْ خَاضَ فِيمَا لَا يَعْلَمُهُ كَانَ مَا يُفْسِدُهُ أَكْثَرَ مِمَّا يُصْلِحُهُ، وَلِهَذَا قَالُوا الْعَامِّيُّ لَا يَحْتَسِبُ إلَّا فِي الْجَلِيَّاتِ، فَأَمَّا مَا يُعْلَمُ كَوْنُهُ مُنْكَرًا بِالْإِضَافَةِ، وَيَفْتَقِرُ

فصل النهي عن المنكر فيما تعلق بالمحظورات من حقوق الله تعالى

إلَى اجْتِهَادٍ فَلَا يَجُوزُ لِلْعَامِّيِّ الْحِسْبَةُ فِيهِ فَإِنَّهُ رُبَّمَا أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَى مُنْكَرٍ فَيُصَيِّرُهُ مَعْرُوفًا، وَمَعْرُوفًا فَيُصَيِّرُهُ مُنْكَرًا، وَرُبَّمَا أَدَّى إلَى وُجُوهٍ مِنْ الْخَلَلِ كَثِيرَةٍ. [فَصْلٌ النَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ فِيمَا تَعَلَّقَ بِالْمَحْظُورَاتِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى] (فَصْلٌ) وَأَمَّا مَا تَعَلَّقَ بِالْمَحْظُورَاتِ فَهُوَ أَنْ يَمْنَعَ النَّاسَ مِنْ مَوَاقِفِ الرِّيَبِ، وَمَظِنَّاتِ التُّهَمِ فَقَدْ قَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «دَعْ مَا يَرِيبُك إلَى مَا لَا يَرِيبُك» فَيُقَدِّمُ الْإِنْذَارَ، وَلَا يُعَجِّلُ بِالتَّأْدِيبِ قَبْلَ الْإِنْذَارِ. حَكَى إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نَهَى الرِّجَالَ أَنْ يَطُوفُوا مَعَ النِّسَاءِ فَرَأَى رَجُلًا يُصَلِّي مَعَ النِّسَاءِ فَضَرَبَهُ بِالدِّرَّةِ فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: وَاَللَّهِ لَئِنْ كُنْت أَحْسَنْت لَقَدْ ظَلَمْتَنِي، وَلَئِنْ كُنْت أَسَأْت فَمَا أَعْلَمْتنِي فَقَالَ عُمَرُ أَمَّا شَهِدْت عَزِيمَتِي قَالَ مَا شَهِدْت لَك عَزْمَةً فَأَلْقَى إلَيْهِ الدِّرَّةَ، وَقَالَ اقْتَصَّ قَالَ لَا أَقْتَصُّ الْيَوْمَ قَالَ فَاعْفُ قَالَ لَا أَعْفُو فَافْتَرَقَا عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ لَقِيَهُ مِنْ الْغَدِ فَتَغَيَّرَ لَوْنُ عُمَرَ فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ كَأَنِّي أَرَى مَا كَانَ مِنِّي قَدْ أَسْرَعَ فِيك، قَالَ: أَجَلْ، قَالَ: فَاشْهَدْ أَنِّي قَدْ عَفَوْت عَنْك. وَإِذَا رَأَى، وَقْفَةَ رَجُلٍ مَعَ امْرَأَةٍ فِي طَرِيقٍ سَابِلٍ لَمْ تَظْهَرْ مِنْهُمَا أَمَارَاتُ الرَّيْبِ لَمْ يَتَعَرَّضْ عَلَيْهِمَا بِزَجْرٍ، وَلَا إنْكَارٍ فَمَا يَجِدُ النَّاسُ بُدًّا مِنْ هَذَا، وَإِنْ كَانَتْ الْوَقْفَةُ فِي طَرِيقٍ خَالٍ فَخَلَوَا بِمَكَانِ رِيبَةٍ، فَيُنْكِرُ عَلَى هَؤُلَاءِ، وَلَا يُعَجِّلُ فِي التَّأْدِيبِ عَلَيْهِمَا حَذَرًا مِنْ أَنْ تَكُونَ ذَاتَ مَحْرَمٍ، وَلْيَقُلْ: إنْ كَانَتْ ذَاتَ مَحْرَمٍ فَصُنْهَا عَنْ مَوَاقِفِ الرِّيَبِ، وَإِنْ كَانَتْ أَجْنَبِيَّةً فَخَفْ اللَّهَ تَعَالَى مِنْ خَلْوَةٍ تُؤَدِّيكَ إلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلْيَكُنْ زَجْرُهُ بِحَسَبِ الْأَمَارَاتِ. حَكَى أَبُو الْأَزْهَرِ أَنَّ ابْنَ عَائِشَةَ رَأَى رَجُلًا

يُكَلِّمُ امْرَأَةً فِي الطَّرِيقِ فَقَالَ لَهُ لَئِنْ كَانَتْ حُرْمَتَك إنَّهُ لَقَبِيحٌ بِك أَنْ تُكَلِّمَهَا بَيْنَ النَّاسِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ حُرْمَتَك فَهُوَ أَقْبَحُ ثُمَّ، وَلَّى عَنْهُ، وَجَلَسَ لِلنَّاسِ، وَإِذَا بِرُقْعَةٍ أُلْقِيَتْ فِي حِجْرِهِ مَكْتُوبٍ فِيهَا إنَّ الَّتِي أَبْصَرْتنِي ... سَحَرًا أُكَلِّمُهَا رَسُولْ أَدَّتْ إلَيَّ رِسَالَةً ... كَادَتْ لَهَا نَفْسِي تَسِيلُ فَلَوْ أَنَّ أُذْنَك عِنْدَنَا ... حَتَّى تَسَمَّعَ مَا تَقُول لَرَأَيْت مَا اسْتَقْبَحْت مِنْ ... أَمْرِي هُوَ الْحَسَنُ الْجَمِيلُ فَقَرَأَهَا ابْنُ عَائِشَةَ، وَوَجَدَ عَلَى رَأْسِهَا مَكْتُوبًا أَبُو نُوَاسٍ فَقَالَ ابْنُ عَائِشَةَ مَا لِي، وَلِلتَّعَرُّضِ لِأَبِي نُوَاسٍ، وَهَذَا الْقَدْرُ مِنْ إنْكَارِ ابْنِ عَائِشَةَ كَافٍ لِمِثْلِهِ، وَلَا يَكُونُ لِمَنْ نُدِبَ الْإِنْكَارَ مِنْ وُلَاةِ الْحِسْبَةِ كَافِيًا، وَلَيْسَ فِيمَا قَالَهُ أَبُو نُوَاسٍ تَصْرِيحٌ بِفُجُورِهِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ إشَارَةً إلَى ذَاتِ مَحْرَمٍ، وَإِنْ كَانَتْ شَوَاهِدُ حَالِهِ، وَفَحْوَى كَلَامِهِ يَنْطِقَانِ بِفُجُورِهِ، وَرِيبَتِهِ فَيَكُونُ مِنْ مِثْلِ أَبِي نُوَاسٍ مُنْكَرًا، وَإِنْ جَازَ أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ غَيْرِهِ مُنْكَرًا، فَإِذَا رَأَى الْمُحْتَسِبُ مِنْ هَذِهِ الْحَالِ مَا يُنْكِرُهُ تَأَنَّى، وَفَحَصَ، وَرَاعَى شَوَاهِدَ الْحَالِ. وَيَلْزَمُ الْمُحْتَسِبَ أَنْ يَتَفَقَّدَ الْمَوَاضِعَ الَّتِي يَجْتَمِعُ فِيهَا النِّسْوَانِ مِثْلُ سُوقِ الْغَزْلِ، وَالْكَتَّانِ، وَشُطُوطِ الْأَنْهَارِ، وَأَبْوَابِ حَمَّامَاتِ النِّسَاءِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ

الباب الثالث في الحسبة على الآلات المحرمة والخمر

فَإِنْ رَأَى شَبَابًا مُتَعَرِّضًا بِامْرَأَةٍ، وَيُكَلِّمُهَا فِي غَيْرِ مُعَامَلَةٍ فِي الْبَيْعِ، وَالشِّرَاءِ أَوْ يَنْظُرُ إلَيْهَا عَزَّرَهُ، وَمَنَعَهُ مِنْ الْوُقُوفِ هُنَاكَ فَكَثِيرٌ مِنْ الشَّبَابِ الْمُفْسِدِينَ يَقِفُونَ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ، وَلَيْسَ لَهُمْ حَاجَةٌ غَيْرَ التَّلَاعُبِ عَلَى النِّسْوَانِ فَمَنْ، وَقَفَ مِنْ الشَّبَابِ فِي طَرِيقِهِنَّ بِغَيْرِ حَاجَةٍ عَزَّرَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْبَاب الثَّالِث فِي الْحَسَبَة عَلَى الْآلَات الْمُحْرِمَة وَالْخَمْر] وَإِذَا جَاهَرَ رَجُلٌ بِإِظْهَارِ الْخَمْرِ فَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا أَرَاقَهَا وَأَدَّبَهُ، وَإِنْ كَانَ ذِمِّيًّا أُدِّبَ عَلَى إظْهَارِهَا، وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي إرَاقَتِهَا عَلَيْهِ فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إلَى أَنَّهَا لَا تُرَاقُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا عِنْدَهُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ الْمَضْمُونَةِ فِي حُقُوقِهِمْ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إلَى أَنَّهَا تُرَاقُ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهَا لَا تُضْمَنُ عِنْدَهُ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ، وَلَا الْكَافِرِ فَأَمَّا الْمُجَاهَرَةُ بِإِظْهَارِ النَّبِيذِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ مِنْ الْأَمْوَالِ الَّتِي يُقَرُّ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهَا فَيُمْنَعُ مِنْ إرَاقَتِهِ، وَمِنْ التَّأْدِيبِ عَلَى إظْهَارِهِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ كَالْخَمْرِ، وَلَيْسَ فِي إرَاقَتِهِ غُرْمٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى تَحْرِيمِ النَّبِيذِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «حُرِّمَتْ الْخَمْرَةُ لِعَيْنِهَا، وَالْمُسْكِرُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ» . وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيُّهَا النَّاسُ إنَّهُ نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ، وَهِيَ مِنْ خَمْسٍ الْعِنَبِ، وَالتَّمْرِ، وَالْبُرِّ، وَالشَّعِيرِ، وَالزَّبِيبِ. وَالْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ أَيْ غَطَّاهُ

وَقَدْ لَعَنْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْخَمْرَةِ عَشْرَةً قَالَ الْعُلَمَاءُ أُدْخِلَ فِيهِ بَيْعُ الْعَصِيرِ مِمَّنْ يَتَّخِذُ الْخَمْرَ قَالَ الشَّافِعِيُّ أَكْرَهُ ذَلِكَ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ إعَانَةٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ يُضَاهِيهِ بَيْعُ السِّلَاحِ مِنْ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ، وَبَيْعُ السِّلَاحِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَكَذَا بَيْعُ السِّلَاحِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَيَعْتَبِرُ، وَالِي الْحِسْبَةِ شَوَاهِدَ الْحَالِ فِيهِ فَيَنْهَى عَنْ الْمُجَاهَرَةِ، وَيَزْجُرُ عَلَيْهِ، وَلَا يُرِيقُهُ إلَّا أَنْ يَأْمُرَهُ بِإِرَاقَتِهِ حَاكِمٌ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ لِئَلَّا يَتَوَجَّهَ عَلَيْهِ غُرْمٌ إنْ حُوكِمَ فِيهِ. وَمَنْ شَرِبَ الْمُسْكِرَ، وَهُوَ بَالِغٌ عَاقِلٌ مُسْلِمٌ مُخْتَارٌ، وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ فَإِنْ كَانَ حُرًّا جُلِدَ أَرْبَعِينَ لِمَا رَوَى عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَلَدَ فِي الْخَمْرِ أَرْبَعِينَ» . وَجَلَدَ أَبُو بَكْرٍ أَرْبَعِينَ، وَجَلَدَ عُمَرُ ثَمَانِينَ ، وَكُلٌّ سُنَّةٌ، وَهَذَا أَحَبُّ إلَيَّ، وَإِنْ كَانَ عَبْدًا جُلِدَ عِشْرِينَ؛ لِأَنَّهُ حَدُّ تَبْعِيضٍ فَكَانَ الْعَبْدُ فِيهِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ الْحُرِّ كَحَدِّ الزِّنَا، وَإِنْ رَأَى الْإِمَامُ أَنْ يَبْلُغَ بِالْحَدِّ ثَمَانِينَ، وَفِي الْعَبْدِ أَرْبَعِينَ جَازَ لِحَدِيثِ عُمَرَ؛ وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ كَانَ إذَا أُتِيَ بِالرَّجُلِ الْمُنْهَمِكِ فِي الشُّرْبِ جَلَدَهُ ثَمَانِينَ، وَإِذَا أُتِيَ بِالرَّجُلِ الضَّعِيفِ الَّذِي كَانَ مِنْهُ الزَّلَّةُ جَلَدَهُ أَرْبَعِينَ. وَحَكَى الْخُرَاسَانِيُّونَ وَجْهًا آخَرَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ فَعَلَى الْمَذْهَبِ إذَا جُلِدَ الثَّمَانِينَ كَانَ الزَّائِدُ عَلَى الْأَرْبَعِينَ تَعْزِيرًا فَإِنْ قِيلَ التَّعْزِيرُ لَا يَبْلُغُ عِنْدَكُمْ أَرْبَعِينَ قُلْنَا ذَلِكَ عَلَى زَلَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَهَاهُنَا زَلَّتَانِ: الْهَذَيَانُ، وَالِافْتِرَاءُ. وَحَكَى الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي كِتَابِ

الْفَوَائِدُ فِي الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ قَالَ:، وَيَجْتَمِعُ الْحَدُّ، وَالتَّعْزِيرُ فِي مَوْضِعٍ كَالزِّنَا بِذَوَاتِ الْمَحَارِمِ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ فِي رَمَضَانَ، وَهُوَ صَائِمٌ مُعْتَكِفٌ مُحْرِمٌ أَثِمَ، وَلَزِمَهُ الْعِتْقُ، وَالْبَدَنَةُ، وَيُحَدُّ لِلزِّنَا، وَيُعَزَّرُ لِقَطْعِ رَحِمِهِ، وَلِانْتِهَاكِ حُرْمَةِ الْكَعْبَةِ قَالَ: فَإِنْ جُلِدَ الْحُرُّ إحْدَى وَأَرْبَعِينَ جَلْدَةً فَمَاتَ فَفِيهِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا يَضْمَنُ نِصْفَ دِيَتِهِ؛ لِأَنَّهُ تَسَبَّبَ مِنْ مَضْمُونٍ، وَهُوَ الزَّائِدُ عَلَى الْأَرْبَعِينَ إذْ التَّعْزِيرُ مَضْمُونٌ، وَغَيْرُ مَضْمُونٍ، وَالْحَدُّ لَيْسَ بِمَضْمُونٍ. وَالثَّانِي: يَضْمَنُ جُزْءًا مِنْ أَحَدٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ دِيَتِهِ؛ لِأَنَّ الْأَسْوَاطَ قَرِيبَةُ التَّمَاثُلِ، قَالَ: وَيُضْرَبُ فِي حَدِّ الشُّرْبِ بِالْأَيْدِي، وَالنِّعَالِ، وَأَطْرَافِ الثِّيَابِ، وَقِيلَ يَجُوزُ بِالسَّوْطِ، جَلَدَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ بِالسَّوْطِ، وَالْمَنْصُوصُ هُوَ الْأَوَّلُ لِمَا رَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَزْهَرَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُتِيَ بِشَارِبِ خَمْرٍ فَقَالَ اضْرِبُوهُ فَضَرَبُوهُ بِالنِّعَالِ، وَالْأَيْدِي، وَأَطْرَافِ الثِّيَابِ، وَحَثَوْا عَلَيْهِ التُّرَابَ» . قَالَ فَإِنْ ضَرَبَهُ بِالسَّوْطِ فَمَاتَ أَيْ عَلَى الْمَنْصُوصِ فَقَدْ قِيلَ يَضْمَنُ بِقَدْرِ مَا زَادَ عَلَى أَلَمِ النِّعَالِ إذْ هُوَ الْقَدْرُ الزَّائِدُ عَلَى الْحَدِّ، وَقِيلَ يَضْمَنُ جَمِيعَ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّهُ عَدَلَ مِنْ جِنْسٍ إلَى غَيْرِهِ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ ضَرَبَهُ بِجَارِحٍ فَمَاتَ مِنْهُ، وَقِيلَ يَضْمَنُ نِصْفَ دِيَتِهِ. وَحَكَى ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي أَصْلِ الضَّمَانِ عَلَى النَّصِّ وَجْهَيْنِ بِنَاءً عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِيمَا لَوْ ضَرَبَهُ فِي حَرٍّ شَدِيدٍ أَوْ بَرْدٍ شَدِيدٍ. وَقَالَ الْخُرَاسَانِيُّونَ يَجُوزُ الضَّرْبُ بِالْعَصَا، وَهَلْ يَجُوزُ بِأَطْرَافِ الثِّيَابِ، وَالنِّعَالِ وَجْهَانِ، وَلَا يَجِبُ حَدُّ الْخَمْرِ حَتَّى يُقِرَّ أَنَّهُ شَرِبَ مُسْكِرًا أَوْ خَمْرًا أَوْ تُقَامَ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ.

فصل المجاهرة بإظهار الملاهي المحرمة

وَلَا يَفْتَقِرُ الشَّاهِدُ أَنْ يَقُولَ شَرِبَ، وَهُوَ غَيْرُ مُكْرَهٍ أَوْ مَعَ عِلْمِهِ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ ذَلِكَ فَأَمَّا إذَا وُجِدَ سَكْرَانَ، وَشُمَّ مِنْهُ رَائِحَةُ الْخَمْرِ أَوْ تَقَيَّأَ مُسْكِرًا فَلَا يُحَدُّ. وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ يُحَدُّ بِالسُّكْرِ، وَلَا يَسْقُطُ الْحَدُّ ثُمَّ اسْتَدَلَّ بِأَنَّ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ مَا يَقِيءُ إلَّا، وَقَدْ شَرِبَهَا، وَأَمَرَ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ،، وَشَمَّ ابْنُ مَسْعُودٍ مِنْ رَجُلٍ رَائِحَةَ الْخَمْرِ فَقَالَ: لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَحُدَّهُ، وَلَا حَدَّ عَلَى الْحَرْبِيِّ، وَالْمَجْنُونِ، وَالصَّبِيِّ، وَلَا يَجِبُ عَلَى الذِّمِّيِّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَهُ، وَلَا يَجِبُ عَلَى الْمُكْرَهِ، وَاخْتُلِفَ فِي حَدِّ الشُّرْبِ فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إلَى أَنَّ السُّكْرَ مَا زَالَ مَعَهُ الْعَقْلُ حَتَّى لَا يَعْرِفَ مَا بَيْنَ الْأَرْضِ، وَالسَّمَاءِ، وَلَا يَعْرِفَ أُمَّهُ مِنْ زَوْجَتِهِ، وَحَّدَهُ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ بِأَنَّهُ مَا أَفْضَى بِصَاحِبِهِ إلَى أَنْ يَتَكَلَّمَ بِلِسَانٍ مُنْكَسِرٍ، وَمَعْنًى غَيْرِ مُنْتَظِمٍ، وَيَنْصَرِفَ بِحَرَكَةِ مُخْتَبَطٍ، وَمَشْيٍ مُتَمَايِلٍ فَإِذَا أَجْمَعَ بَيْنَ اضْطِرَابِ الْكَلَامِ فَهْمًا، وَإِفْهَامًا، وَبَيْنَ اضْطِرَابِ الْحَرَكَةِ مَشْيًا، وَقِيَامًا صَارَ دَاخِلًا فِي حَدِّ السُّكْرِ، وَمَنْ شَرِبَ الْمُسْكِرَ دَفَعَاتٍ، وَلَمْ يُحَدَّ أَجْزَاهُ عَنْ ذَلِكَ حَدًّا وَاحِدًا. [فَصَلِّ الْمُجَاهَرَة بِإِظْهَارِ الْمَلَاهِي الْمُحْرِمَة] ((فَصْلٌ) فَأَمَّا الْمُجَاهَرَةُ بِإِظْهَارِ الْمَلَاهِي الْمُحَرَّمَةِ، مِثْلُ الزَّمْرِ، وَالطُّنْبُورِ، وَالْعُودِ، وَالصَّنْجِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ آلَاتِ الْمَلَاهِي فَعَلَى الْمُحْتَسِبِ أَنْ يُفَصِّلَهَا حَتَّى تَصِيرَ خَشَبًا يَصْلُحُ لِغَيْرِ الْمَلَاهِي، وَيُؤَدِّبَ عَلَى الْمُجَاهَرَةِ عَلَيْهَا، وَلَا يُكَسِّرَهَا إنْ كَانَ خَشَبُهَا يَصْلُحُ لِغَيْرِ الْمَلَاهِي فَإِنْ لَمْ يَصْلُحْ لِغَيْرِ الْمَلَاهِي كَسَّرَهَا، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا، وَالْمَنْفَعَةُ الَّتِي فِيهَا لَمَّا كَانَتْ مَحْظُورَةً شَرْعًا كَانَتْ مُلْحَقَةً بِالْمَنَافِعِ الْمَعْدُومَةِ حِسًّا، وَإِنْ كَانَ

فصل آلة اللعب التي لا يقصد بها المعاصي

الرُّضَاضُ يُعَدُّ مَالًا فَفِي جَوَازِ بَيْعِهَا قَبْلَ الرَّضِّ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: الْجَوَازُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَنْفَعَةِ الْمُتَوَقَّعَةِ، وَأَظْهَرُهُمَا الْمَنْعُ؛ لِأَنَّهَا عَلَى هَيْئَتِهَا آلَةُ الْفِسْقِ، وَلَا يُقْصَدُ بِهَا غَيْرُهُ مَا دَامَ ذَلِكَ التَّرْكِيبُ بَاقِيًا، وَيَجِيءُ الْوَجْهَانِ فِي الْأَصْنَامِ، وَالصُّوَرِ الْمُتَّخَذَةِ مِنْ الذَّهَبِ، وَالْخَشَبِ، وَغَيْرِهِمَا، وَتَوَسَّطَ الْإِمَامُ بَيْنَ الْوَجْهَيْنِ فَذَكَرَ وَجْهًا ثَالِثًا، وَهُوَ أَنَّهَا إنْ اُتُّخِذَتْ مِنْ جَوَاهِرَ نَفِيسَةٍ صَحَّ بَيْعُهَا؛ لِأَنَّهَا مَقْصُودَةٌ فِي نَفْسِهَا، وَإِنْ اُتُّخِذَتْ مِنْ خَشَبٍ، وَنَحْوِهِ فَلَا، وَهَذَا أَظْهَرُ عِنْدَهُ، وَتَابَعَهُ الْغَزَالِيُّ فِي الْوَسِيطِ لَكِنَّ جَوَابَ عَامَّةِ الْأَصْحَابِ الْمَنْعُ مُطْلَقًا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ بَيْعِ الْمَيْتَةِ، وَالْخِنْزِيرِ، وَالْخَمْرِ، وَالْأَصْنَامِ.» [فَصَلِّ آلَة اللَّعِب الَّتِي لَا يَقْصِد بِهَا الْمَعَاصِي] (فَصْلٌ) وَأَمَّا آلَةُ اللَّعِبِ الَّتِي لَيْسَ يُقْصَدُ بِهَا الْمَعَاصِي، وَإِنَّمَا يُقْصَدُ بِهَا إلْفُ الْقَيْنَاتِ لِتَرْبِيَةِ الْأَوْلَادِ فَفِيهَا وَجْهٌ مِنْ وُجُوهِ التَّدْبِيرِ تُفَارِقُهُ مَعْصِيَةٌ كَتَصْوِيرِ ذَوَاتِ الْأَرْوَاحِ، وَمُشَابَهَةِ الْأَصْنَامِ، وَالتَّمَكُّنِ مِنْهَا وَجْهٌ، وَالْمَنْعُ مِنْهَا وَجْهٌ بِحَسَبِ مَا تَقْتَضِيهِ شَوَاهِدُ الْأَحْوَالِ يَكُونُ إنْكَارُهُ، وَإِقْرَارُهُ، قَدْ «دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَهِيَ تَلْعَبُ بِالْبَنَاتِ فَأَقَرَّهَا، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهَا» . وَحُكِيَ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيَّ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ قُلِّدَ حِسْبَةَ بَغْدَادَ فِي أَيَّامِ الْمُقْتَدِرِ فَأَزَالَ سُوقَ الدَّاذِيِّ، وَمَنَعَ عَنْهَا، وَقَالَ لَا يَصْلُحُ إلَّا لِلنَّبِيذِ الْمُحَرَّمِ، وَأَقَرَّ سُوقَ اللَّعِبِ، وَلَمْ يَمْنَعْ مِنْهَا، وَقَالَ قَدْ كَانَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - تَلْعَبُ

بِالْبَنَاتِ بِمَشْهَدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا يُنْكِرُ عَلَيْهَا، وَلَيْسَ مَا ذَكَرَهُ فِي اللَّعِبِ بِبَعِيدٍ مِنْ الِاجْتِهَادِ، وَأَمَّا سُوقُ الدَّاذِيِّ فَالْأَغْلَبُ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا فِي النَّبِيذِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُسْتَعْمَلَ نَادِرًا فِي الدَّوَاءِ، وَهُوَ بَعِيدٌ فَبَيْعُهُ عِنْدَ مَنْ يَرَى إبَاحَةَ النَّبِيذِ جَائِزٌ لَا يُكْرَهُ، وَعِنْدَ مَنْ يَرَى تَحْرِيمَهُ غَيْرُ جَائِزٍ، وَيَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي غَيْرِهِ، وَمَكْرُوهٌ اعْتِبَارًا بِالْأَغْلَبِ مِنْ حَالِهِ، وَلَيْسَ مَنْعُ أَبِي سَعِيدٍ لِتَحْرِيمِ بَيْعِهِ عِنْدَهُ، وَإِنَّمَا مَنَعَ مِنْ الْمُظَاهَرَةِ بِإِفْرَادِ سُوقِهِ، وَالْمُجَاهَرَةِ بِبَيْعِهِ إلْحَاقًا بِإِبَاحَةِ مَا اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى إبَاحَةِ مَقْصُودِهِ لِيَقَعَ لِعَوَامِّ النَّاسِ الْفَرْقُ بَيْنَهُ، وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِنْ الْمُبَاحَاتِ، وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ إنْكَارُ الْمُجَاهَرَةِ بِبَعْضِ الْمُبَاحَاتِ، وَإِلَّا مَا كَمَا تُنْكَرُ الْمُجَاهَرَةُ بِالْمُبَاحِ مِنْ مُبَاشَرَةِ الْأَزْوَاجِ. فَأَمَّا مَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْ الْمَحْظُورَاتِ فَلَيْسَ لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَبْحَثَ عَنْهَا، وَلَا أَنْ يَهْتِكَ الْأَسْتَارَ حَذَرًا مِنْ الِاسْتِتَارِ بِهَا، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ أَتَى مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ شَيْئًا فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ فَإِنَّهُ مَنْ يُبْدِ لَنَا صَفْحَتَهُ يُقَمْ حَدُّ اللَّهِ عَلَيْهِ» . وَمِنْ شَرْطِ الْمُنْكَرِ الَّذِي يُنْكِرُهُ الْمُحْتَسِبُ أَنْ يَكُونَ ظَاهِرًا فَكُلُّ مَنْ سَتَرَ مَعْصِيَةً فِي دَارِهِ، وَأَغْلَقَ بَابَهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَجَسَّسَ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي انْتِهَاك حُرْمَةٍ يَفُوتُ اسْتِدْرَاكُهَا مِثْلُ مَنْ يُخْبِرُهُ مَنْ يَثِقُ بِصِدْقِهِ أَنَّ رَجُلًا خَلَا بِرَجُلٍ لِيَقْتُلَهُ أَوْ بِامْرَأَةٍ لِيَزْنِيَ بِهَا فَيَجُوزُ لَهُ مِثْلُ هَذِهِ الْحَالِ أَنْ يَتَجَسَّسَ، وَيُقْدِمَ عَلَى الْكَشْفِ، وَالْبَحْثِ حَذَرًا مِنْ فَوَاتِ مَا لَا يُسْتَدْرَكُ مِنْ انْتِهَاك الْمَحَارِمِ، وَارْتِكَابِ الْمَحْظُورَاتِ. الثَّانِي: مَا خَرَجَ عَنْ هَذَا الْحَدِّ، وَقَصَرَ عَنْ هَذِهِ الرُّتْبَةِ لَا يَجُوزُ التَّجَسُّسُ

الباب الرابع في الحسبة على أهل الذمة

عَلَيْهِ، وَلَا كَشْفُ الْأَسْتَارِ عَنْهُ، حُكِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - دَخَلَ عَلَى قَوْمٍ يَتَعَاقَرُونَ عَلَى شَرَابٍ، وَيُوقِدُونَ فِي الْأَخْصَاصِ فَقَالَ نَهَيْتُكُمْ عَنْ الْمُعَاقَرَةِ فَعَاقَرْتُمْ، وَنَهَيْتُكُمْ عَنْ الْإِيقَادِ فِي الْأَخْصَاصِ فَأَوْقَدْتُمْ فَقَالُوا نَهَاك اللَّهُ عَنْ التَّجَسُّسِ فَتَجَسَّسْت، وَعَنْ الدُّخُولِ بِغَيْرِ إذْنٍ فَدَخَلْت فَقَالَ هَاتَيْنِ بِهَاتَيْنِ، وَانْصَرَفَ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُمْ، فَإِنْ سَمِعَ الْمُحْتَسِبُ أَصْوَاتَ مَلَاهٍ مُنْكَرَةٍ مِنْ دَارٍ تَظَاهَرَ أَهْلُهَا بِأَصْوَاتِهَا أَنْكَرَهَا خَارِجَ الدَّارِ، وَلَمْ يَهْجُمْ عَلَيْهَا بِالدُّخُولِ؛ لِأَنَّ الْمُنْكَرَ ظَاهِرٌ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَكْشِفَ عَمَّا سِوَاهُ. [الْبَاب الرَّابِع فِي الْحَسَبَة عَلَى أَهْل الذِّمَّة] اعْلَمْ أَنَّ التَّسَاهُلَ مَعَ أَهْلِ الذِّمَّةِ فِي أُمُورِ الدِّينِ خَطَرٌ عَظِيمٌ، وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [الممتحنة: 1] . وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «لَأُخْرِجَنَّ الْيَهُودَ، وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ حَتَّى لَا أَدَعَ بِهَا إلَّا مُسْلِمًا، وَقَالَ لَا تُسَاكِنُوا الْيَهُودَ، وَالنَّصَارَى فِي أَمْصَارِكُمْ إلَّا أَنْ يُسْلِمُوا، وَمَنْ يَرْتَدَّ بَعْدَ إسْلَامِهِ فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ» . وَلَمَّا «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

إلَى بَدْرٍ تَبِعَهُ رَجُلٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُصِيبَ مَعَك فَقَالَ: أَتُؤْمِنُ بِاَللَّهِ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَارْجِعْ فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ، ثُمَّ لَحِقَهُ عِنْدَ الشَّجَرَةِ فَفَرِحَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ، وَكَانَ شُجَاعًا فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَقَالَتِهِ الْأُولَى، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ ارْجِعْ فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ، ثُمَّ لَحِقَهُ الثَّالِثَةَ فَأَسْلَمَ هَذَا، وَقَدْ خَرَجَ لِيُقَاتِلَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيُرَاقَ دَمُهُ» . وَلَمَّا وُلِّيَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ الْبَصْرَةَ، وَقَدِمَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَوَجَدَهُ فِي الْمَسْجِدِ فَاسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ فَأَذِنَ لَهُ، وَاسْتَأْذَنَ لِكَاتِبِهِ، وَكَانَ نَصْرَانِيًّا فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى عُمَرَ، وَرَآهُ فَقَالَ قَاتَلَكَ اللَّهُ يَا أَبَا مُوسَى، وَلَّيْت نَصْرَانِيًّا عَلَى الْمَالِ أَمَا سَمِعْت قَوْلَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51] ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لِي كِتَابَتُهُ، وَلَهُ دِينُهُ فَقَالَ عُمَرُ لَا أُكْرِمُهُمْ بَعْدَ أَنْ أَهَانَهُمْ اللَّهُ، وَلَا أُعِزُّهُمْ بَعْدَ أَنْ أَذَلَّهُمْ اللَّهُ، وَلَا أُدْنِيهِمْ بَعْدَ أَنْ أَقْصَاهُمْ اللَّهُ. وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إلَى بَعْضِ عُمَّالِهِ، وَقَدْ اتَّصَلَ بِهِ أَنَّهُ اتَّخَذَ كَاتِبًا يُقَالُ لَهُ: حَسَّانُ بَلَغَنِي أَنَّك اسْتَعْمَلَتْ حَسَّانَ، وَهُوَ عَلَى غَيْرِ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة: 1] . وَقَالَ تَعَالَى {لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 57] ، وَإِذَا أَتَاك كِتَابِي هَذَا فَادْعُ حَسَّانَ إلَى الْإِسْلَامِ فَإِنْ أَسْلَمَ فَهُوَ مِنَّا، وَنَحْنُ مِنْهُ، وَإِنْ أَبَى فَلَا تَسْتَعِنْ بِهِ، فَلَمَّا جَاءَهُ الْكِتَابُ قَرَأَهُ عَلَى حَسَّانَ فَأَسْلَمَ، وَعَلَّمَهُ الطَّهَارَةَ، وَالصَّلَاةَ ، وَهَذَا أَصْلٌ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي تَرْكِ الِاسْتِعَانَةِ بِالْكَافِرِ فَكَيْفَ اسْتِعْمَالُهُمْ عَلَى رِقَابِ الْمُسْلِمِينَ.

فَحِينَئِذٍ يَجِبُ عَلَى الْمُحْتَسِبِ النَّظَرُ فِي أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَأَنْ يُلْزِمَهُمْ بِمَا هُوَ مَشْرُوطٌ عَلَيْهِمْ، وَبِمَا الْتَزَمُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْ قَدِيمِ الزَّمَانِ، وَلَا يُرَخِّصَ لَهُمْ فِي تَرْكِ شَيْءٍ مِنْهُ قَوْلًا، وَلَا فِعْلًا، وَيُلْزِمَهُمْ بِمَا كَتَبُوهُ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهُوَ: هَذَا كِتَابٌ لِعَبْدِ اللَّه عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ نَصَارَى مَدِينَةِ كَذَا، وَمَدِينَةِ كَذَا لَمَّا قَدِمْتُمْ عَلَيْنَا، وَقَدْ سَأَلْنَاكُمْ الْأَمَانَ لِأَنْفُسِنَا، وَذَرَارِيّنَا، وَأَمْوَالِنَا عَلَى أَنْ لَا نُحْدِثَ فِي مَدَائِنِنَا، وَلَا حَوْلَهَا كَنِيسَةً، وَلَا دَيْرًا، وَلَا قِلَّايَةً، وَلَا صَوْمَعَةَ رَاهِبٍ، وَلَا نُحْدِثَ مِنْهَا مَا خَرِبَ، وَلَا مَا كَانَ مِنْهَا فِي خُطَطِ الْمُسْلِمِينَ فِي لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ، وَأَنْ نُوَسِّعَ عَلَى مَنْ مَرَّ بِنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي الضِّيَافَةِ ثَلَاثَ لَيَالٍ، وَلَا نُنْزِلَ فِي كَنَائِسِنَا، وَلَا مَنَازِلِنَا جَاسُوسًا، وَلَا نَكْتُمَ عَيْنًا لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَا نُعَلِّمَ أَوْلَادَنَا الْقُرْآنَ، وَلَا نُظْهِرَ شَرْعَنَا، وَلَا نَدْعُوَ إلَيْهِ أَحَدًا، وَلَا نَمْنَعَ أَحَدًا مِنْ ذَوِي قَرَابَتِنَا مِنْ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ إنْ رَأَوْا ذَلِكَ، وَأَنْ نُوَقِّرَ الْمُسْلِمِينَ، وَنَقُومَ لَهُمْ فِي مَجَالِسِنَا إذَا أَرَادُوا الْجُلُوسَ، وَلَا نَتَشَبَّهَ بِهِمْ فِي شَيْءٍ مِنْ لِبَاسِهِمْ فِي قَلَنْسُوَةٍ، وَلَا عِمَامَةٍ، وَلَا نَعْلٍ، وَلَا فَرْقِ شَعْرٍ، وَلَا نَتَكَلَّمَ بِكَلَامِهِمْ، وَلَا نَتَسَمَّى بِأَسْمَائِهِمْ، وَلَا نَتَكَنَّى بِكُنْيَتِهِمْ، وَلَا نَرْكَبَ بِالسُّرُوجِ، وَلَا نَتَقَلَّدَ بِالسُّيُوفِ، وَلَا نَتَّخِذَ شَيْئًا مِنْ السِّلَاحِ، وَلَا نَعْمَلَهُ، وَلَا نَحْمِلَهُ مَعَنَا، وَلَا نَنْقُشَ عَلَى خَوَاتِمِنَا بِالْعَرَبِيَّةِ، وَلَا نَبِيعَ الْخُمُورَ، وَلَا نَسْقِيَهَا أَحَدًا، وَأَنْ نَجُزَّ مَقَادِيمَ رُءُوسِنَا، وَنَجْعَلَ الزَّنَانِيرَ عَلَى أَوْسَاطِنَا، وَلَا نُظْهِرَ صُلْبَانَنَا، وَكُتُبَنَا فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا أَسْوَاقِهِمْ، وَلَا نَضْرِبَ النَّوَاقِيسَ فِي شَيْءٍ مِنْ

كَنَائِسِنَا إلَّا ضَرْبًا خَفِيفًا. وَلَا نَرْفَعَ أَصْوَاتَنَا بِالْقِرَاءَةِ فِي شَيْءٍ بِحَضْرَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا نَرْفَعَ أَصْوَاتَنَا مَعَ مَوْتَانَا، وَلَا نُظْهِرَ النِّيرَانَ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا أَسْوَاقِهِمْ، وَلَا نُظْهِرَ بَاعُوثًا، وَلَا شَعَانِينَ، وَلَا نُجَاوِرَهُمْ بِمَوْتَانَا، وَلَا نَتَّخِذَ مِنْ الرَّقِيقِ مَا جَرَى عَلَيْهِ سِهَامُ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا نَطَّلِعَ عَلَى مَنَازِلِهِمْ، فَلَمَّا جَاءَ الْكِتَابُ إلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - زَادَ فِيهِ، وَلَا نَضْرِبَ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ شَرَطْنَا ذَلِكَ عَلَى أَنْفُسِنَا، وَأَهْلِ مِلَّتِنَا، وَقَبِلْنَا عَلَيْهِ الْأَمَانَ فَإِنْ نَحْنُ خَالَفْنَا عَنْ شَيْءٍ مِمَّا شَرَطْنَاهُ لَكُمْ عَلَى أَنْفُسِنَا فَلَا ذِمَّةَ لَنَا، وَقَدْ حَلَّ مِنَّا مَا يَحِلُّ مِنْ أَهْلِ الْمُعَانَدَةِ، وَالشِّقَاقِ، فَكَتَبَ إلَيْهِ أَنْ أَمْضِ ذَلِكَ، وَأَلْحِقْ فِيهِ هَذَا، وَلَا يَشْتَرُوا شَيْئًا مِنْ سَبَايَا الْمُسْلِمِينَ، وَأَنَّ مَنْ ضَرَبَ مُسْلِمًا عَمْدًا أَوْ شَتَمَهُ فَقَدْ خَلَعَ عَهْدَهُ، وَكَتَبَ إلَيْهِ أَنْ اقْطَعْ رُكَبَهُمْ، وَإِنْ تَرَكْنَا يَرْكَبُوا عَلَى الْأَكُفِّ، وَأَنْ يَرْكَبُوا مِنْ شِقٍّ وَاحِدٍ، وَأَنْ يَلْبَسُوا خِلَافَ لِبَاسِ الْمُسْلِمِينَ لِيُعْرَفُوا بِهِ، وَاللَّوْنُ الْأَصْفَرُ أَوْلَى بِالْيَهُودِ عَلَى رُءُوسِهِمْ، وَيَشُدُّونَ النَّصَارَى الزَّنَانِيرَ أَيْ خُيُوطًا غِلَاظًا فِي أَوْسَاطِهِمْ فَوْقَ الثِّيَابِ، وَالتَّمْيِيزُ يَحْصُلُ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ، تَعُمُّ لَوْ شُرِطَ عَلَيْهِمْ الْغِيَارُ، وَالزُّنَّارُ جَمِيعًا أَخَذُوا بِهِمَا، وَيَكُونُ فِي رِقَابِهِمْ خَاتَمٌ مِنْ الرَّصَاصِ أَوْ نُحَاسٍ يَدْخُلُ مَعَهُمْ الْحَمَّامَ لِيَتَمَيَّزُوا بِهِ، وَلَهُمْ أَنْ يَلْبَسُوا الْعَمَائِمَ، وَالطَّيْلَسَانَ؛ لِأَنَّ التَّمَيُّزَ يَحْصُلْ بِغَيْرِ ذَلِكَ، وَهَلْ يُمْنَعُونَ مِنْ لُبْسِ الدِّيبَاجِ وَجْهَانِ

وَتَشُدُّ الْمَرْأَةُ الزُّنَّارَ تَحْتَ الْإِزَارِ، وَفَوْقَ الثِّيَابِ حَتَّى لَا تَصِفَ أَبْدَانَهُنَّ، وَتَكْشِفَ رُءُوسَهُنَّ، وَقِيلَ بَلْ فَوْقَ الْإِزَارِ كَالرَّجُلِ، وَيَكُونُ فِي عُنُقِهَا خَاتَمٌ يَدْخُلُ مَعَهَا الْحَمَّامَ، وَيَكُونُ أَحَدُ خُفَّيْهَا أَسْوَدَ، وَالْآخَرُ أَبْيَضَ لِيَتَمَيَّزْنَ بِهِ عَلَى غَيْرِهِنَّ، وَلَا يَرْكَبُونَ الْخَيْلَ لِشَرَفِهَا، وَقِيلَ لَا يُمْنَعُونَ، وَيَرْكَبُونَ الْبِغَالَ، وَالْحَمِيرَ بِالْأَكُفِّ عَرْضًا أَيْ مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: يَرْكَبُونَ مُسْتَوِيًا، وَلَكِنْ يَكُونُ الرِّكَابُ مِنْ خَشَبٍ، وَلَا يُصَدَّرُونَ فِي الْمَجَالِسِ، وَلَا يُبْدَءُونَ بِالسَّلَامِ، وَيُلْجَئُونَ إلَى أَضْيَقِ الطُّرُقِ، وَيُمْنَعُونَ أَنْ يَعْلُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي الْبِنَاءِ، وَلَا يُمْنَعُونَ مِنْ الْمُسَاوَاةِ، وَقِيلَ يُمْنَعُونَ، وَهَلْ يُمْنَعُونَ مِنْ الْعُلُوِّ فِي مَحَلَّة وَاحِدَةٍ يَنْفَرِدُونَ بِهَا مِنْ الْبَلْدَةِ فِيهِ وَجْهَانِ، وَإِنْ زَادُوا أَبْنِيَتَهُمْ بِإِخْرَاجِ الْأَجْنِحَةِ وَالرَّوَاشِينَ إلَى السَّابِلَةِ وَجْهَانِ، وَالْمَقْصُودُ التَّمْيِيزُ بَيْنَهُمْ، وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَكُونُ فِيهِ تَشْرِيفٌ، وَإِنْ تَمَلَّكُوا دَارًا عَالِيَةً أُقِرُّوا عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُمْ مَلَكُوهَا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ نَعَمْ لَوْ انْهَدَمَتْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يُعِيدُوهَا كَمَا كَانَتْ عَلَى الْأَصَحِّ فِي الْوَجْهَيْنِ فَلَوْ شَاهَدَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْيَهُودَ، وَالنَّصَارَى فِي زَمَانِنَا هَذَا، وَآدُرُهُمْ تَعْلُو عَلَى يُثَيْعٍ الْمُسْلِمِينَ، وَمَسَاجِدِهِمْ، وَهُمْ يُدْعَوْنَ بِالنُّعُوتِ الَّتِي كَانَتْ لِلْخُلَفَاءِ، وَيُكَنَّوْنَ بِكُنَاهُمْ فَمِنْ نُعُوتِهِمْ الرَّشِيدُ، وَهُوَ أَبُو الْخُلَفَاءِ، وَيُكَنُّونَ بِأَبِي الْحَسَنِ، وَهُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَبِأَبِي الْفَضْلِ، وَهُوَ الْعَبَّاسُ عَمُّ رَسُولِ اللَّهِ، وَقَدْ جَاوَزُوا حَدَّ أَقْدَارِهِمْ، وَتَظَاهَرُوا بِأَقْوَالِهِمْ، وَأَفْعَالِهِمْ

وَأَظْهَرَتْ مِنْهُمْ الْأَيَّامُ طَبَائِعَ شَيْطَانِيَّةً مَكَّنَتْهَا، وَعَضَّدَتْهَا يَدٌ سُلْطَانِيَّةٌ فَرَكِبُوا مَرْكُوبَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَبِسُوا أَحْسَنَ لِبَاسِهِمْ، وَاسْتَخْدَمُوهُمْ فَرَأَيْت الْيَهُودِيَّ، وَالنَّصْرَانِيَّ رَاكِبًا يَسُوقُ بِمَرْكَبِهِ، وَالْمُسْلِمَ يَجْرِي فِي رِكَابِهِ، وَرُبَّمَا تَضَرَّعُوا، وَتَذَلَّلُوا لَهُ؛ لِيَرْفَعَ عَنْهُمْ مَا أَحْدَثَهُ عَلَيْهِمْ. وَأَمَّا نِسَاؤُهُمْ إذَا خَرَجْنَ مِنْ دُورِهِنَّ، وَمَشَيْنَ فِي الطُّرُقَاتِ فَلَا يَكَدْنَ يُعْرَفْنَ، وَكَذَلِكَ فِي الْحَمَّامَاتِ، وَرُبَّمَا جَلَسَتْ النَّصْرَانِيَّةُ فِي أَعْلَى مَكَان مِنْ الْحَمَّامِ، وَالْمُسْلِمَاتُ يَجْلِسْنَ دُونَهَا، وَيَخْرُجْنَ الْأَسْوَاقَ، وَيَجْلِسْنَ عِنْدَ التُّجَّارِ فَيُكْرِمُونَهُنَّ بِمَا يُشَاهِدُونَ مِنْ حُسْنِ زِيِّهِنَّ فَلَا يَدْرُونَ أَنَّهُنَّ أَهْلُ ذِمَّةٍ فَيَجِبُ عَلَى الْمُحْتَسِبِ الِاهْتِمَامُ بِهَذَا الْأَمْرِ، وَإِنْكَارُ ذَلِكَ، وَيُعَزِّرُ مَنْ يَظْهَرُ بِهِ مِنْ هَؤُلَاءِ، وَيُمْنَعُونَ مِنْ إحْدَاثِ بِيَعٍ، وَكَنَائِسَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ أَمَرَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِهَدْمِ كُلِّ كَنِيسَةٍ اسْتَجَدَّتْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، وَلَمْ يُبْقِ إلَّا مَا كَانَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، وَأَرْسَلَ عُرْوَةُ مِنْ نَجْدٍ فَهَدَمَ الْكَنَائِسَ بِصَنْعَاءَ، وَصَانَعَ الْقِبْطَ عَلَى كَنَائِسِهِمْ بِمِصْرَ، وَهَدَمَ بَعْضَهَا، وَلَمْ يُبْقِ مِنْ الْكَنَائِسِ إلَّا مَا كَانَ قَبْلَ مَبْعَثِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. أَمَّا إذَا اسْتَهْدَمَ مِنْهَا شَيْءٌ فَلَا يُمْنَعُونَ مِنْ إعَادَتِهِ، وَقِيلَ يُمْنَعُونَ؛ لِأَنَّهُ نِسْبَةٌ لِلِاسْتِحْدَاثِ قَالَ فِي الْحَاوِي: وَعِنْدِي أَنَّهُ يُنْظَرُ فِي خَرَابِهَا فَإِنْ صَارَتْ دَارِسَةً مُسْتَطْرَقَةً مُنِعُوا مِنْ بِنَائِهَا، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ دَارِسَةٍ لَهُمْ بِنَاؤُهَا، وَعَلَى الْإِمَامِ حِفْظُ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَدَفْعُ مَنْ قَصَدَهُمْ بِالْأَذِيَّةِ أَيْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ

تَحَاكَمُوا إلَيْنَا مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَجَبَ الْحُكْمُ بَيْنَهُمْ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ حَاكِمُ الْكُفَّارِ فَإِنْ تَحَاكَمُوا إلَيْنَا، بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا يَلْزَمُهُ الْحُكْمُ بَيْنَهُمْ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَالثَّانِي لَا يَلْزَمُ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَعْتَقِدُونَ شَرِيعَتَنَا بِحَسَبِ الْحُكْمِ بَيْنَهُمْ، وَهُمْ كَالْمُعَاهِدِينَ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى نَبِيَّهُ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة: 42] فَعَلَى هَذَا إنْ تَرَاضَوْا حَكَمَ بَيْنَهُمْ، وَيُشْتَرَطُ الْتِزَامُهُمْ بَعْدَ الْحُكْمِ، هَذَا إذَا اتَّحَدَ الدِّينَانِ أَمَّا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا نَصْرَانِيًّا، وَالْآخَرُ يَهُودِيًّا فَفِيهِ طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا لَا يَلْزَمُ قِيَاسًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ؛ لِأَنَّهُمَا كَافِرَانِ فَصَارَا كَمَا لَوْ كَانَا عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ. وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الشَّيْخِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ يَجِبُ الْحُكْمُ بَيْنَهُمَا قَوْلًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ لَا يَرْضَى بِحُكْمِ مِلَّةِ الْآخَرِ، وَقِيلَ يَطَّرِدُ الْقَوْلَانِ بِنَاءً عَلَى وُجُوبِ الْحُضُورِ عَلَيْهِ إذَا طَلَبَهُ الْحَاكِمُ لِلْحُكْمِ، وَقِيلَ الْقَوْلَانِ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ فَأَمَّا مَا فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَجِبُ الْحُكْمُ بَيْنَهُمَا قَوْلًا وَاحِدًا، وَإِنْ تَبَايَعُوا بُيُوعًا فَاسِدَةً، وَتَقَابَضُوا ثُمَّ تَحَاكَمُوا إلَيْنَا لَمْ نَنْقُضْ مَا فَعَلُوا؛ لِأَنَّهُمْ تَرَاضَوْا بِهِ فَلَمْ يَتَعَرَّضْ إلَيْهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَتَقَابَضُوا نُقِضَ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ حُكْمَ الْإِسْلَامِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] ، وَإِنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ صَبِيٌّ مُمَيِّزٌ أَتَى بِالشَّهَادَتَيْنِ لَمْ يَصِحَّ إسْلَامُهُ لِلْخَبَرِ الْمَشْهُورِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ فَلَا يَصِحُّ إسْلَامُهُ

فصل مقدار الجزية على أهل الذمة وكيف تؤخذ منهم

كَالْمَجْنُونِ فَعَلَى هَذَا يُحَالُ بَيْنَهُ، وَبَيْنَهُمْ فَإِنْ بَلَغَ، وَوَصَفَ الْكُفْرَ هُدِّدَ، وَضُرِبَ فَإِنْ أَصَرَّ عَلَى الْكُفْرِ رُدَّ إلَى أَهْلِهِ، وَقِيلَ يَصِحُّ إسْلَامُهُ فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ فَعَلَى هَذَا لَوْ بَلَغَ وَوَصَفَ الْإِسْلَامَ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ مِنْ حِينِ أَتَى بِالشَّهَادَتَيْنِ، وَإِنْ، وَصَفَ الْكُفْرَ، وَلَمْ يَصِفْ الْإِسْلَامَ لَمْ يُحْكَمْ بِإِسْلَامِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُوثَقُ مِنْهُ بِمَا كَانَ مِنْهُ فِي الصِّغَرِ إلَّا بِمَا يَنْضَافُ إلَيْهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ. [فَصَلِّ مِقْدَار الْجِزْيَة عَلَى أَهْل الذِّمَّة وَكَيْف تُؤْخَذ مِنْهُمْ] (فَصَلِّ) وَيَأْخُذ مِنْهُمْ الْجِزْيَةَ عَلَى قَدْرَ طَاقَتِهِمْ عَلَى الْفَقِيرِ الْمُعِيلِ دِينَارٌ، وَعَلَى الْمُتَوَسِّطِ دِينَارَانِ، وَعَلَى الْغَنِيِّ أَرْبَعَةُ دَنَانِيرَ عِنْدَ رَأْسِ الْحَوْلِ فَإِذَا جَاءَهُ الْمُحْتَسِبُ أَوْ الْعَامِلُ لِأَخْذِ الْجِزْيَةِ أَقَامَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ ثُمَّ يَلْطِمُهُ عَلَى صَفْحَةِ عُنُقِهِ، وَيَقُولُ: أَدِّ الْجِزْيَةَ يَا كَافِرُ، وَيُخْرِجُ الذِّمِّيُّ يَدَهُ مِنْ جَيْبِهِ مَطْبُوقَةً عَلَى الْجِزْيَةِ فَيُعْطِيهَا لَهُ بِذِلَّةٍ، وَانْكِسَارٍ، وَيُشْتَرَطُ مَعَ الْجِزْيَةِ الْتِزَامُ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ، فَإِنْ امْتَنَعَ مِنْ لُزُومِ الْأَحْكَامِ أَوْ قَاتَلَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ زَنَى بِمُسْلِمَةٍ أَوْ أَصَابَهَا بِاسْمِ نِكَاحٍ أَوْ فَتَنَ مُسْلِمًا عَنْ دِينِهِ أَوْ قَطَعَ الطَّرِيقَ عَلَى مُسْلِمٍ أَوْ آوَى الْمُشْرِكِينَ أَوْ دَلَّهُمْ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ قَتَلَ مُسْلِمًا أَوْ ذَكَرَ اللَّهَ تَعَالَى أَوْ رَسُولَهُ أَوْ دِينَهُ بِمَا لَا يَجُوزُ فَقَدْ انْتَقَضَتْ ذِمَّتُهُ فِي ذَلِكَ جَمِيعِهِ فَقُتِلَ فِي الْحَالِ، وَغُنِمَ مَالُهُ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْفَارِسِيُّ: مَنْ سَبَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُتِلَ حَدًّا، وَإِنْ فَعَلَ مَا مُنِعَ مِنْهُ مِمَّا لَا ضَرَرَ فِيهِ كَتَرْكِ الْغِيَارِ، وَإِظْهَارِ الْخَمْرِ، وَمَا أَشْبَهَهُمَا عُزِّرَ عَلَيْهِ، وَلَا يُنْقَضُ عَهْدُهُ فَعَلَى الْمُحْتَسِبِ مَعْرِفَةُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَإِلْزَامُهُمْ بِجَمِيعِهَا.

الباب الخامس في الحسبة على أهل الجنائز

[الْبَاب الْخَامِس فِي الْحَسَبَة عَلَى أَهْل الْجَنَائِز] وَهُوَ مِنْ الْمُهِمَّاتِ الدِّينِيَّةِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثَلَاثٌ لَا يُؤَخَّرْنَ الصَّلَاةُ، وَالْجِنَازَةُ، وَالْأَيِّمُ إذَا وَجَدَتْ كُفْئًا» . وَأَوَّلُ مَا يَبْدَأُ بِهِ، وَلِيُّ الْمَيِّتِ مِنْ مَالَ الْمَيِّتِ مُؤْنَةُ تَجْهِيزِهِ ثُمَّ يَقْضِي دَيْنَهُ إنْ كَانَ عَلَيْهِ أَوْ يَحْتَالُ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نَفْسُ الْمُؤْمِنِ مُرْتَهَنَةٌ بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ» . ثُمَّ يُبَادِرُ إلَى غَسْلِهِ، وَهُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الَّذِي، وَقَصَتْ بِهِ نَاقَتُهُ اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ، وَسِدْرٍ، وَلَا تُقَرِّبُوهُ طِيبًا فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا، وَالْأَوْلَى أَنْ يَتَوَلَّى ذَلِكَ أَبُوهُ ثُمَّ جَدُّهُ ثُمَّ ابْنُهُ ثُمَّ ابْنُ ابْنِهِ ثُمَّ عَصَبَاتُهُ عَلَى تَرْتِيبِ الْعَصَبَاتِ ثُمَّ الرِّجَالُ الْأَجَانِبُ كَمَا فِي الصَّلَاةِ ثُمَّ الزَّوْجَةُ، وَقِيلَ: إنَّ الزَّوْجَةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْأَبِ، وَدَلِيلُنَا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَصَّى أَنْ تَغْسِلَهُ زَوْجَتُهُ، وَلَا مُخَالِفَ لَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ فَكَانَ إجْمَاعًا،، وَلَا يُمَكِّنُ الْمُحْتَسِبُ مَنْ يَتَصَدَّى لِغُسْلِ الْمَوْتَى مِنْ الرِّجَالِ، وَالنِّسَاءِ إلَّا ثِقَةً أَمِينًا صَالِحًا خَبِيرًا قَدْ قَرَأَ كِتَابَ الْجَنَائِزِ فِي الْفِقْهِ، وَعَرَفَ وَاجِبَاتِهِ، وَسُنَنَهُ، وَمُسْتَحَبَّاتِهِ، وَيَسْأَلُهُ الْمُحْتَسِبُ عَنْ ذَلِكَ فَمَنْ كَانَ قَيِّمًا بِهِ تَرَكَهُ، وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ صَرَفَهُ لِيَتَعَلَّمَ. وَإِنْ كَانَتْ امْرَأَةً غَسَّلَتْهَا النِّسَاءُ الْأَقَارِبُ ثُمَّ النِّسَاءُ الْأَجَانِبُ ثُمَّ الزَّوْجُ، وَدَلِيلُ جَوَازِ غُسْلِهِ أَنَّ عَلِيًّا كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ غَسَّلَ فَاطِمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، وَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ. وَإِنْ مَاتَ رَجُلٌ، وَلَيْسَ هُنَاكَ إلَّا امْرَأَةٌ أَجْنَبِيَّةٌ

أَوْ مَاتَتْ امْرَأَةٌ، وَلَيْسَ هُنَاكَ إلَّا رَجُلٌ أَجْنَبِيّ تُيُمِّمَ لِمَا فِي الْغُسْلِ مِنْ النَّظَرِ إلَى الْمُحَرَّمِ، وَقِيلَ يُغَسَّلُ مَعَ حَائِلٍ كَالثَّوْبِ، وَقِيلَ تُدْفَنُ مِنْ غَيْرِ غُسْلٍ، وَلَا تُتَيَمَّمُ، وَهَكَذَا الْخِلَافُ فِي غُسْلِ الْخُنْثَى، فَأَمَّا الصَّغِيرُ مِنْ الرِّجَالِ أَوْ النِّسَاءِ فَيَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ، وَالرَّجُلِ غُسْلُهُ. وَإِنْ مَاتَ كَافِرٌ فَأَقَارِبُهُ الْكُفَّارُ أَوْلَى مِنْ أَقَارِبِهِ الْمُسْلِمِينَ لِانْقِطَاعِ الْمُوَالَاةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَالْكُفَّارِ فَتَحْرُمُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ، وَالْأَصَحُّ وُجُوبُ تَكْفِينِ الذِّمِّيِّ، وَدَفْنِهِ. وَيُسْتَرُ الْمَيِّتُ فِي الْغُسْلِ عَنْ الْعُيُونِ: بِأَنْ يَكُونَ مَوْضِعٌ لَيْسَ فِيهِ إلَّا الْغَاسِلُ، وَمَنْ لَا بُدَّ مِنْهُ فِي مَعُونَتِهِ، وَلَا يَنْظُرُ الْغَاسِلُ إلَّا إلَى مَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِيهِ عَيْبٌ فَلَا يَهْتِكُهُ، وَأَوْلَى أَنْ يُغَسِّلَهُ فِي قَمِيصٍ؛ لِأَنَّهُ أَسْتَرُ، وَيُدْخِلَ الْغَاسِلُ يَدَهُ مِنْ الْكُمَّيْنِ، وَيُدَلِّكَ ظَاهِرَ بَدَنِهِ، وَيَصُبَّ الْمَاءَ مِنْ فَوْقِ الْقَمِيصِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَمِيصُ فَضْلَةٍ فَلْيَسْتُرْ عَوْرَتَهُ بِخِرْقَةٍ ثُمَّ يُجْلِسَهُ الْغَاسِلُ عَلَى الْمُغْتَسَلِ مَائِلًا إلَى وَرَائِهِ، وَيَضَعَ يَمِينَهُ عَلَى كَتِفِهِ، وَإِبْهَامَهُ فِي نُقْرَةِ قَفَاهُ، وَيُسْنِدَ ظَهْرَهُ إلَى رُكْبَتِهِ الْيُمْنَى، وَيُمِرَّ يَسَارَهُ عَلَى بَطْنِهِ إمْرَارًا بَلِيغًا لِيُخْرِجَ مَا فِيهِ ثُمَّ يُضْجِعَهُ عَلَى قَفَاهُ، وَيَغْسِلَ بِيَسَارِهِ، وَعَلَيْهَا خِرْقَةٌ سَوْأَتَيْهِ ثُمَّ يَلُفَّ أُخْرَى، وَيُدْخِلَ أُصْبُعَهُ فِي فَمِهِ، وَيُمِرَّهَا عَلَى أَسْنَانِهِ، وَيُزِيلَ مَا فِي مَنْخِرَيْهِ مِنْ أَذًى، وَيُوَضِّئَهُ وُضُوءَ الصَّلَاةِ ثُمَّ يَغْسِلَ رَأْسَهُ بِمَاءٍ، وَسِدْرٍ، وَيُسَرِّحَ شَعْرَهُ، وَيَغْسِلَ شِقَّهُ الْأَيْمَنَ ثُمَّ الْأَيْسَرَ ثُمَّ يُفِيضَ الْمَاءَ عَلَى سَائِرَ جَسَدَهُ، وَيَفْعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثًا، وَيَتَعَاهَدَ فِي كُلِّ مَرَّةٍ إمْرَارَ الْيَدِ عَلَى الْبَطْنِ فَإِنْ احْتَاجَ إلَى الزِّيَادَةِ عَلَى ذَلِكَ غَسَلَ، وَيَكُونَ وِتْرًا كَمَا فِي الْحَيِّ، وَيَجْعَلَ فِي الْغَسْلَةِ الْأَخِيرَةِ كَافُورًا، وَقَدْ، وَرَدَتْ الْأَخْبَارُ بِجَمِيعِ ذَلِكَ، وَيُقَلِّمَ أَظْفَارَهُ، وَيَحُفَّ شَارِبَهُ، وَيَحْلِقَ عَانَتَهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مُحْرِمًا، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: لَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ، وَلَكِنْ هَلْ يُكْرَهُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا يُكْرَهُ؛ لِأَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِالْمَيِّتِ

لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «افْعَلُوا بِمَيِّتِكُمْ مَا تَفْعَلُوا بِعَرُوسِكُمْ» . وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ بِأَحْيَائِكُمْ، وَالْغَرَضُ مِنْ ذَلِكَ النِّيَّةُ، وَالْغُسْلُ، فَإِنْ خَرَجَ مِنْهُ بَعْدَ الْغُسْلِ شَيْءٌ أُعِيدَ غَسْلُهُ ثُمَّ يُنَشَّفُ فِي ثَوْبٍ، وَمَنْ تَعَذَّرَ غَسْلُهُ يَتَيَمَّمُ. وَتَكْفِينُ الْمَيِّتِ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، وَيَجِبُ ذَلِكَ فِي مَالِهِ مُقَدَّمًا عَلَى الدَّيْنِ، وَالْوَصِيَّةِ، وَإِنْ كَانَتْ امْرَأَةً لَهَا زَوْجٌ فَعَلَى زَوْجِهَا؛ لِأَنَّ مَنْ وَجَبَتْ كِسْوَتُهُ عَلَى شَخْصٍ وَجَبَ كَفَنُهُ كَالْمَمْلُوكِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا مَالٌ، وَلَا زَوْجٌ فَعَلَى مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهَا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَفِي بَيْتِ الْمَالِ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُكَفَّنَ الرَّجُلُ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ إزَارٍ، وَلِفَافَتَيْنِ بِيضٍ كَمَا فُعِلَ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ كُفِّنَ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ بِيضٍ سَحُولِيَّةٍ لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ، وَلَا عِمَامَةٌ، وَقِيلَ إزَارٌ، وَرِدَاءٌ، وَقَمِيصٌ فَإِنْ كُفِّنَ فِي خَمْسَةِ أَثْوَابٍ فِيهَا قَمِيصٌ، وَعِمَامَةٌ جَازَ؛ لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَفْعَلُهُ فِي أَهْلِهِ فَلَا يَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى الْخَمْسَةِ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُكَفَّنَ الرَّجُلُ فِي الْحَرِيرِ فَإِنْ فُعِلَ ذَلِكَ فَهُوَ حَرَامٌ، وَتُكَفَّنُ الْمَرْأَةُ فِي خَمْسَةِ أَثْوَابٍ إزَارٍ، وَخِمَارٍ، وَدِرْعٍ أَيْ قَمِيصٍ، وَلِفَافَتَيْنِ بِيضٍ، رَوَتْ ذَلِكَ أُمُّ عَطِيَّةَ فِي كَفَنِ ابْنَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقِيلَ لَا يُسْتَحَبُّ الدِّرْعُ كَمَا فِي الرَّجُلِ، وَيُكْرَهُ الْحَرِيرُ لِلنِّسَاءِ لِأَجْلِ السَّرَفِ. وَأَقَلُّ الْكَفَنِ ثَوْبٌ وَاحِدٌ سَاتِرٌ لِجَمِيعِ الْبَدَنِ فَلَوْ أَوْصَى بِمَا دُونَ ذَلِكَ لَمْ يُنَفَّذْ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ الشَّرْعِ، أَمَّا الْأَكْمَلُ فِي حَقِّ الرِّجَالِ فَهُوَ ثَلَاثَةٌ، وَالزِّيَادَةُ إلَى خَمْسَةٍ جَائِزٌ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْبَابٍ، وَفِي حَقِّ النِّسَاءِ مُسْتَحَبٌّ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى الْخَمْسِ سَرَفٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ، أَمَّا كَيْفِيَّةُ الْإِدْرَاجِ فِي الْكَفَنِ أَنْ يُعَرِّشَ اللِّفَافَةَ الْعُلْيَا، وَيَذُرَّ عَلَيْهَا الْخُيُوطَ، وَيَبْسُطَ الثَّانِيَةَ، وَيُزَادُ فِي الْخُيُوطِ. الْقَوْلُ فِي الصَّلَاةِ، وَهُوَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صَلُّوا عَلَى مَنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ» . وَالسُّنَّةُ أَنْ تُفْعَلَ فِي جَمَاعَةٍ لِنَقْلِ الْخَلَفِ عَنْ

السَّلَفِ، وَقِيلَ لَا يَسْقُطُ الْفَرْض إلَّا بِأَرْبَعَةٍ صَلَّوْا فُرَادَى أَوْ جَمَاعَةً، وَقِيلَ بِثَلَاثَةٍ، وَقِيلَ بِاثْنَيْنِ، وَقِيلَ بِوَاحِدٍ. وَأَوْلَى النَّاسِ بِذَلِكَ أَبُوهُ ثُمَّ جَدُّهُ ثُمَّ ابْنُهُ ثُمَّ ابْنُ ابْنِهِ عَلَى تَرْتِيبِ الْعَصَبَاتِ، وَإِنَّمَا قُدِّمَ الْأَبُ، وَالْجَدُّ عَلَى الِابْنِ؛ لِأَنَّ شَفَقَتَهُمَا أَكْمَلُ فَيَكُونُ تَفَجُّعُهُمَا أَعْظَمُ فَيَكُونُ دُعَاؤُهُمَا أَرْجَى لِلْإِجَابَةِ، وَإِنْ اسْتَوَيَا اثْنَانِ فِي الدَّرَجَةِ قُدِّمَ أَسَنُّهُمَا إذَا الْمَقْصُودُ هَاهُنَا الدُّعَاءُ لِلْمَيِّتِ، وَدُعَاءُ الْأَسَنِّ أَرْجَى لِلْإِجَابَةِ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ يَسْتَحْيِي أَنْ يُرَدَّ لِلشَّيْخِ دَعْوَةً» . وَيَقِفُ الْإِمَامُ عِنْدَ رَأْسِ الرَّجُلِ، وَعِنْدَ عَجُزِ الْمَرْأَةِ لِمَا رَوَى أَنَسٌ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُكَبِّرُ أَرْبَعًا، وَيَقِفُ عِنْدَ رَأْسِ الرَّجُلِ، وَعِنْدَ عَجُزِ الْمَرْأَةِ» . وَيَقْرَأُ فِي الْأُولَى الْفَاتِحَةَ، وَفِي الثَّانِيَةِ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَدْعُوَ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَفِي الثَّالِثَةِ يَدْعُو لِلْمَيِّتِ، وَاَلَّذِي نُقِلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ إنَّهُ عَبْدُك، وَابْنُ عَبْدِك، وَابْنُ أَمَتِك خَرَجَ مِنْ رَوْحِ الدُّنْيَا، وَسَعَتِهَا، وَمَحْبُوبِهَا، وَأَحِبَّائِهِ فِيهَا إلَى ظُلْمَةِ الْقَبْرِ، وَمَا هُوَ لَاقِيهِ كَانَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُك، وَرَسُولُك، وَأَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ اللَّهُمَّ إنَّهُ قَدْ نَزَلَ بِك، وَأَنْتَ خَيْرُ مَنْزُولٍ بِهِ، وَأَصْبَحَ فَقِيرًا إلَى رَحْمَتِك، وَأَنْتَ غَنِيٌّ عَنْ عَذَابِهِ، وَقَدْ جِئْنَاك رَاغِبِينَ شُفَّعًا لَهُ، اللَّهُمَّ إنْ كَانَ مُحْسِنًا فَزِدْ فِي إحْسَانِهِ، وَإِنْ كَانَ مُسِيئًا فَتَجَاوَزْ عَنْ سَيِّئَاتِهِ، وَلَقِّهِ بِرَحْمَتِك رِضَاك، وَقِه فِتْنَةَ الْقَبْرِ، وَعَذَابَهُ، وَافْسَحْ لَهُ فِي قَبْرِهِ، وَجَافِ الْأَرْضَ عَنْ جَنْبَيْهِ، وَلَقِّهِ الْأَمْنَ مِنْ عَذَابِك حَتَّى تَبْعَثَهُ إلَى جَنَّتِك يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَيَقُولُ فِي الرَّابِعَةِ اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُ، وَلَا تَفْتِنَّا بَعْدَهُ، وَاغْفِرْ لَنَا، وَلَهُ إنَّك عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. الْقَوْلُ فِي الدَّفْنِ، وَأَقَلُّهُ حُفْرَةٌ تُوَارِي بَدَنَ الْمَيِّتِ، وَتَحْرُسُهُ مِنْ السِّبَاعِ، وَتَكْتُمُ رَائِحَتَهُ، وَأَكْمَلُهُ قَبْرٌ عَلَى قَدْرِ قَامَةِ رَجُلٍ رَبْعٍ، وَاللَّحْدُ أَوْلَى مِنْ

الشَّقِّ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الشَّقُّ لِغَيْرِنَا، وَاللَّحْدُ لَنَا، وَلْيَكُنْ اللَّحْدُ فِي جِهَةِ الْقِبْلَةِ ثُمَّ تُوضَعُ الْجِنَازَةُ عَلَى رَأْسِ الْقَبْرِ بِحَيْثُ يَكُونُ رَأْسُ الْمَيِّتِ عِنْدَ مُؤَخَّرِ الْقَبْرِ، وَيَسُلُّ الْوَاقِفُ دَاخِلَ الْقَبْرِ الْمَيِّتَ مِنْ جِهَةِ رَأْسِهِ، وَيَضَعُهُ فِي اللَّحْدِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُدْخِلُ الْمَيِّتَ الْقَبْرَ إلَّا رَجُلٌ؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنُ فَإِنْ كَانَتْ امْرَأَةٌ فَيَتَوَلَّى ذَلِكَ زَوْجُهَا أَوْ مَحَارِمُهَا فَإِنْ لَمْ يَكُونُوا فَعَبِيدُهَا ثُمَّ يَضَعُونَ الْمَيِّتَ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْمَنِ فِي اللَّحْدِ قُبَالَةَ الْقِبْلَةِ بِحَيْثُ لَا يَنْكَبُّ، وَلَا يُسْتَلْقَى، وَحَسَنٌ أَنْ يُفْضَى بِوَجْهِهِ إلَى تُرَابٍ أَوْ لَبِنَةٍ مَوْضُوعَةٍ تَحْتَ رَأْسِهِ ثُمَّ يُسَدُّ بَابُ اللَّحْدِ بِاللَّبِنِ ثُمَّ يُهَالُ التُّرَابُ بِالْمَسَاحِي، ثُمَّ تَسْطِيحُ الْقَبْرِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَفْضَلُ مِنْ تَسْنِيمِهَا لَكِنَّ التَّسْنِيمَ الْآنَ أَفْضَلُ مُخَالَفَةً لِشِعَارِ الرَّوَافِضِ، وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ سَفِينٍ التَّمَّارِ أَنَّهُ حَدَّثَهُ أَنَّهُ رَأَى قَبْرَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُسَنَّمًا. وَلَا يُدْفَنُ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ مَيِّتَانِ مَا أَمْكَنَ، وَإِنْ اجْتَمَعَ مَوْتَى فِي، وَبَاءٍ جَعَلْنَا الرَّجُلَيْنِ، وَالثَّلَاثَةَ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ، وَقَدَّمْنَا الْأَفْضَلَ إلَى جِدَارِ اللَّحْدِ، فَيُقَدَّمُ الْأَبُ عَلَى الِابْنِ، وَالِابْنُ عَلَى الْأُمِّ لِمَكَانِ الذُّكُورَةِ، وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ الرِّجَالِ، وَالنِّسَاء فَإِنْ دَعَتْ الضَّرُورَةُ جَعَلْنَا بَيْنَهُمَا حَاجِزًا مِنْ التُّرَابِ. وَالْقَبْرُ مُحْتَرَمٌ فَيُكْرَهُ الْجُلُوسُ، وَالْمَشْيُ، وَالِاتِّكَاءُ عَلَيْهِ، وَلْيَخْرُجْ الزَّائِرُ مِنْهُ إلَى حَدٍّ كَانَ يَقْرَبُ مِنْهُ لَوْ كَانَ حَيًّا، وَلَا يَحِلُّ نَبْشُ الْقُبُورِ إلَّا إذَا انْمَحَقَ أَثَرُ الْمَيِّتِ بِطُولِ الزَّمَانِ أَوْ دُفِنَ فِي أَرْضٍ مَغْصُوبَةٍ، وَطَلَبَ الْمَالِكُ إخْرَاجَهُ فَإِنَّ حَقَّ الْحَيِّ أَوْلَى بِالْمُرَاعَاةِ، وَلَوْ دُفِنَ قَبْلَ الصَّلَاةِ صُلِّيَ عَلَيْهِ فِي الْقَبْرِ، وَلَوْ دُفِنَ قَبْلَ التَّكْفِينِ فَوَجْهَانِ أَظْهَرُهُمَا أَنَّهُ لَا يُنْبَشُ؛ لِأَنَّ الْقَبْرَ يَسْتُرُهُ بِخِلَافِ الْغُسْلِ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ لَا يَحْصُلُ بِالدَّفْنِ، وَلَوْ دُفِنَ فِي كَفَنٍ

مَغْصُوبٍ فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَظْهَرُهَا أَنَّهُ يُنْبَشُ كَالْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ، وَكَمَا لَوْ ابْتَلَعَ لُؤْلُؤَةً فَإِنَّهُ يُشَقُّ بَطْنُهُ لِأَجْلِ مِلْكِ الْغَيْرِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ فِي حُكْمِ الْهَالِكِ فَيَغْرَمُ الْقِيمَةَ إنْ أَمْكَنَ، وَإِلَّا فَالنَّبْشُ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ الْقِيمَةِ لَا بُدَّ مِنْهُ. وَالثَّالِثُ أَنَّهُ إنْ تَغَيَّرَ الْمَيِّتُ، وَأَدَّى إلَى هَتْكِ حُرْمَتِهِ فَلَا يُنْبَشُ، وَهُوَ الْأَقْيَسُ، وَإِلَّا فَيُنْبَشُ، ثُمَّ يَتَفَقَّدُ الْمُحْتَسِبُ الْجَنَائِزَ، وَالْمَقَابِرَ فَإِذَا سَمِعَ نَائِحَةً أَوْ نَادِبَةً مَنَعَهَا، وَعَزَّرَهَا؛ لِأَنَّ النَّوْحَ حَرَامٌ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «النَّائِحَةُ، وَمَنْ حَوْلَهَا فِي النَّارِ» . وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «لَعَنَ النَّائِحَةَ، وَالْمُسْتَمِعَةَ، وَالْحَالِقَةَ، وَالصَّالِقَةَ، وَالْوَاشِمَةَ، وَالْمَوْشُومَةَ» . وَقَالَ «لَيْسَ لِلنِّسَاءِ فِي اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ مِنْ أَجْرٍ» ، أَمَّا الْبُكَاءُ فَجَائِزٌ مِنْ غَيْرِ نَدْبٍ، وَلَا نِيَاحَةٍ، وَلَا شِقِّ جَيْبٍ، وَلَا ضَرْبِ خَدٍّ، وَكُلُّ ذَلِكَ حَرَامٌ، وَتُمْنَعُ النِّسَاءُ مِنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَعَنَ اللَّهُ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ» . فَإِذَا خَرَجَتْ جِنَازَةٌ أَمَرَ النِّسَاءَ أَنْ يَتَأَخَّرْنَ عَنْ الرِّجَالِ، وَلَا يَخْتَلِطْنَ بِهِمْ، وَيَمْنَعُهُنَّ مِنْ كَشْفِ وُجُوهِهِنَّ، وَرُءُوسِهِنَّ خَلْفَ الْمَيِّتِ، وَيَأْمُرُ مُنَادِيًا يُنَادِي فِي الْبَلَدِ بِالْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَمْنَعَهُنَّ مِنْ تَشْيِيعِ الْجِنَازَةِ، وَمَتَى سَمِعَ بِامْرَأَةٍ نَائِحَةٍ أَوْ مُغَنِّيَةٍ أَوْ عَاهِرٍ اسْتَتَابَهُمْ عَنْ مَعْصِيَتِهِمْ فَإِنْ عَادُوا عَزَّرَهُمْ، وَنَفَاهُمْ مِنْ الْبَلَدِ، وَكَذَلِكَ يَمْنَعُ الْخُنْثَى مِنْ حَلْقِ لِحْيَتِهِ، وَدُخُولِهِ عَلَى النِّسْوَانِ، وَهَذَا حَرَامٌ كُلُّهُ.

الباب السادس في المعاملات المنكرة

[الْبَاب السَّادِس فِي الْمُعَامَلَات الْمُنْكَرَة] كَالْبُيُوعِ الْفَاسِدَةِ، وَالرِّبَا، وَالسَّلَمِ الْفَاسِدِ، وَالْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ، وَالشَّرِكَةِ الْفَاسِدَةِ، وَبَيَانِ شُرُوطِ الشَّرْعِ فِي صِحَّةِ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي هِيَ مَدَارُ الْمَكَاسِبِ، مِنْهَا تَرْكُ الْإِيجَابِ، وَالْقَبُولِ، وَالِاكْتِفَاءُ بِالْمُعَاطَاةِ لَكِنَّ ذَلِكَ فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ فَلَا يُنْكَرُ إلَّا عَلَى مَنْ اعْتَقَدَ وُجُوبَهُ، وَكَذَا فِي الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ الْمُعْتَادَةِ بَيْنَ النَّاسِ يَجِبُ الْإِنْكَارُ فِيهَا فَإِنَّهَا مُفْسِدَةٌ لِلْعُقُودِ، وَكَذَا فِي الرِّبَوِيَّاتِ كُلِّهَا، وَهِيَ غَالِبَةٌ، وَكَذَا سَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ الْفَاسِدَةِ: الْأَوَّلُ الْبَيْعُ، وَقَدْ أَحَلَّهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَهُ ثَلَاثَةُ أَرْكَانٍ: الْعَاقِدُ، وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ، وَصِيغَةُ الْعَقْدِ، فَيَنْبَغِي لِلتَّاجِرِ أَلَّا يُعَامِلَ فِي الْبَيْعِ أَرْبَعَةً: الصَّبِيُّ، وَالْمَجْنُونُ، وَالْعَبْدُ، وَالْأَعْمَى؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ غَيْرُ مُكَلَّفٍ، وَكَذَا الْمَجْنُونُ، وَبَيْعُهُمَا بَاطِلٌ فَلَا يَصِحُّ بَيْعُ الصَّبِيِّ، وَإِنْ أَذِنَ فِيهِ الْوَلِيُّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَمَا أُخِذَ مِنْهُمَا مَضْمُونٌ عَلَيْهِ لَهُمَا، وَمَا سَلَّمَهُ إلَيْهِمَا فِي الْمُعَامَلَةِ فَضَاعَ فِي أَيْدِيهِمَا فَهُوَ الْمُضَيِّعُ لَهُ. وَأَمَّا الْعَبْدُ الْبَالِغُ الْعَاقِلُ فَلَا يَصِحُّ بَيْعُهُ، وَشِرَاؤُهُ إلَّا بِإِذْنِ سَيِّدِهِ فَعَلَى الْبَقَّالِ، وَالْخَبَّازِ، وَالْقَصَّابِ، وَغَيْرِهِمْ أَلَا يُعَامِلُوا الْعَبِيدَ مَا لَمْ يَأْذَنْ لَهُمْ السَّيِّدُ فِي مُعَامَلَتِهِمْ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُسْمِعَهُ صَرِيحًا، أَوْ يَنْتَشِرَ فِي الْبَلَدِ أَنَّهُ مَأْذُونٌ فِي الشِّرَاء لِسَيِّدِهِ، وَالْبَيْعِ لَهُ فَيُعَوَّلُ عَلَى الِاسْتِفَاضَةِ، أَوْ عَلَى قَوْلِ عَدْلٍ يُخْبِرُهُ بِذَلِكَ فَإِنْ عَامَلَهُ بِغَيْرِ إذْنِ السَّيِّدِ فَعَقْدُهُ بَاطِلٌ مَا أَخَذَهُ مِنْهُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ لِسَيِّدِهِ، وَمَا سَلَّمَهُ

لَهُ إنْ ضَاعَ فِي يَدِ الْعَبْدِ لَا يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ، وَلَا يَضْمَنُهُ سَيِّدُهُ بَلْ لَيْسَ لَهُ إلَّا الْمُطَالَبَةُ إذَا أُعْتِقَ، وَأَمَّا الْأَعْمَى فَإِنَّهُ يَبِيعُ، وَيَشْتَرِي مَا لَا يَرَى فَلَا يَصِحُّ فَلْيَأْمُرْهُ أَنْ يُوَكِّلَ وَكِيلًا بَصِيرًا لِيَشْتَرِيَ لَهُ، أَوْ يَبِيعَ فَيَصِحُّ تَوْكِيلُهُ، وَيَصِحُّ بَيْعُ وَكِيلِهِ فَإِنْ عَامَلَهُ بِنَفْسِهِ فَالْمُعَامَلَةُ فَاسِدَةٌ، وَمَا أَخَذَهُ مِنْهُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ بِقِيمَتِهِ إنْ كَانَ مُتَقَوِّمًا، أَوْ بِمِثْلِهِ إنْ كَانَ مِثْلِيًّا، وَمَا سَلَّمَهُ إلَيْهِ أَيْضًا مَضْمُونٌ لَهُ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَتَجُوزُ مُعَامَلَتُهُ لَكِنْ لَا يُبَاعُ مِنْهُ الْمُصْحَفُ، وَلَا كُتُبُ الْحَدِيثِ، وَلَا الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ فَإِنْ فَعَلَ بَطَلَ الْبَيْعُ، وَلَا يُبَاعُ مِنْهُ السِّلَاحُ إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ كُرِهَ، وَعَصَى رَبَّهُ. الرُّكْنُ الثَّانِي: الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ، وَلَهُ سِتَّةُ شُرُوطٍ. الْأَوَّلُ: أَلَّا يَكُونَ نَجِسَ الْعَيْنِ فَلَا يَصِحُّ بَيْعُ الْكَلْبِ، وَلَا الْخِنْزِيرِ، وَلَا الزِّبْلِ، وَلَا الْعَذِرَةِ، وَلَا بَيْعُ الْعَاجِ، وَلَا الْأَوَانِي الْمُتَّخَذَةِ مِنْهُ فَإِنَّ الْعَظْمَ يُنَجَّسُ بِالْمَوْتِ، وَلَا يُطَهَّرُ الْفِيلُ بِالذَّبْحِ، وَلَا يُطَهَّرُ عَظْمُهُ بِالتَّنْقِيَةِ. وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْخَمْرِ، وَلَا الْوَدَكِ النَّجِسِ الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ الْحَيَوَانِ الَّتِي لَا تُؤْكَلُ، وَإِنْ كَانَ يَصْلُحُ لِلِاصْطِبَاحِ، أَوْ طِلَاءِ السُّفُنِ، وَأَمَّا الزَّيْتُ النَّجِسُ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَا يَحِلُّ أَكْلُ زَيْتٍ مَاتَتْ فِيهِ فَأْرَةٌ، وَلَا بَيْعُهُ، وَيَجُوزُ الِاصْطِبَاحُ بِهِ، وَالْحُكْمُ فِي الْفَأْرَةِ، وَالْعُصْفُورِ، وَالدَّجَاجَةِ، وَسَائِرِ الْحَيَوَانِ وَاحِدٌ إلَّا أَنَّ الْخَبَرَ، وَرَدَ فِي الْفَأْرَةِ فَتَصَوُّرُ الْمَسْأَلَةَ فِيهِ. فَإِذَا وَقَعَتْ الْفَأْرَةُ فِي سَمْنٍ مَاتَتْ فِيهِ لَمْ يَخْلُ: إمَّا أَنْ يَكُونَ جَامِدًا، أَوْ مَائِعًا فَإِنْ كَانَ جَامِدًا نَجَسَ الْقَدْرُ الَّذِي تَجَاوَرَ بَدَنَ الْفَأْرَةِ فَيُلْقَى ذَلِكَ الْقَدْرُ مِنْهُ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى

هَذَا مَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ سَمْنٍ جَامِدٍ، وَقَعَتْ فِيهِ فَأْرَةٌ، وَمَاتَتْ فَقَالَ أَلْقُوهَا، وَمَا حَوْلَهَا، وَكُلُوهُ، وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَاسْتَصْبِحُوا بِهِ، وَلَا تَأْكُلُوهُ» . وَأَمَّا إذَا كَانَ السَّمْنُ مَائِعًا فَالْحُكْمُ فِيهِ، وَفِي الزَّيْتِ، وَالشَّيْرَجِ، وَسَائِرِ الْأَدْهَانِ وَاحِدٌ، وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ عَلَى أَرْبَعَةِ مَذَاهِبَ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ إلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَكْلُهُ، وَلَا بَيْعُهُ، وَيَجُوزُ الِاسْتِصْبَاحُ بِهِ. وَقَالَ قَوْمٌ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ: لَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ بِوَجْهٍ بَلْ يُرَاقُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَالِاصْطِبَاحُ بِهِ. وَقَالَ دَاوُد إنْ كَانَ سَمْنًا، وَجَبَ إرَاقَتُهُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَهُ مِنْ الْأَدْهَانِ جَازَ الِانْتِفَاعُ بِهِ بِكُلِّ وَجْهٍ، قُلْت فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الِاسْتِصْبَاحِ بِهِ فَلَوْ أُحْرِقَ فَارْتَفَعَ مِنْهُ دُخَانٌ فَهَلْ هُوَ طَاهِرٌ، أَوْ نَجِسٌ، فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ طَاهِرٌ؛ لِأَنَّ هَذَا الدُّخَانَ لَيْسَ هُوَ عَيْنُ النَّجَاسَةِ بَلْ النَّجَاسَةُ قَدْ ذَهَبَتْ، وَزَالَتْ، وَهَذَا جِسْمٌ آخَرُ أَحْدَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ الْتِقَاءِ النَّارِ، وَالزَّيْتِ فَكَانَ طَاهِرًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ نَجِسٌ؛ لِأَنَّ هَذَا الدُّخَانَ عَيْنُ النَّجَاسَةِ، وَالنَّجَاسَةُ إذَا أُحْرِقَتْ، وَتَغَيَّرَتْ لَمْ تَطْهُرْ كَالْعَذِرَةِ إذَا صَارَتْ رَمَادًا هَكَذَا الْحُكْمُ فِي السِّرْجِينِ إذَا سُجِّرَ بِهِ التَّنُّورُ فَهَلْ يَكُونُ دُخَانُهُ طَاهِرًا أَمْ يُنَجَّسُ عَلَى وَجْهَيْنِ: فَإِذَا قُلْنَا: إنَّ ذَلِكَ طَاهِرٌ فَأَيُّ مَوْضِعٍ أَصَابَهُ مِنْ ثَوْبٍ، أَوْ بَدَنٍ فَهُوَ طَاهِرٌ، وَالصَّلَاةُ مَعَهُ جَائِزَةٌ، وَإِذَا قُلْنَا: إنَّهُ نَجِسٌ فَإِذَا أَصَابَ شَيْئًا مِنْ ثَوْبِهِ، أَوْ بَدَنِهِ فَإِنَّهُ إنْ كَانَ قَلِيلًا عُفِيَ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا، وَجَبَ غَسْلُهُ، وَإِنْ سُجِّرَ بِهِ التَّنُّورُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُخْبَزَ فِيهِ حَتَّى يُمْسَحَ بِخِرْقَةٍ طَاهِرَةٍ فَيُزَالُ عَنْهُ الدُّخَانُ فَإِنْ خُبِزَ قَبْلَ أَنْ يُمْسَحَ فَالْجَانِبُ الَّذِي فِي التَّنُّورِ مِنْ الْخُبْزِ نَجِسٌ لَا يَجُوزُ أَكْلُهُ إلَّا بَعْدَ أَنْ يُغْسَلَ.

فصل غسل الأدهان التي وقعت فيها نجاسة

[فَصَلِّ غَسَلَ الْأَدْهَان الَّتِي وَقَعَتْ فِيهَا نَجَاسَة] (فَصْلٌ) : فَأَمَّا الْكَلَامُ فِي غَسْلِ هَذِهِ الْأَدْهَانِ، وَتَطْهِيرِهَا بِالْمَاءِ فَالْحُكْمُ فِي ذَلِكَ أَنَّ السَّمْنَ لَا يُمْكِنُ غَسْلُهُ، وَلَا يَتَمَيَّزُ عَنْهُ، وَأَمَّا الزَّيْتُ، وَالشَّيْرَجُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْأَدْهَانِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهَا فَأَبُو الْعَبَّاسِ يَقُولُ: إنَّهَا تَطْهُرُ بِالْغُسْلِ؛ لِأَنَّهَا لَا تُخَالِطُهُ، وَلَا تُمَازِجُهُ فَطَهُرَتْ بِالْغُسْلِ كَمَا يَطْهُرُ الثَّوْبُ النَّجِسُ. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: إنَّهَا لَا تَطْهُرُ بِالْغُسْلِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَطْهُرُ بِالْغُسْلِ مَا يُمْكِنُ عَصْرُهُ، وَإِزَالَةُ الْمَاءِ النَّجِسِ عَنْهُ، وَلَا يُمْكِنُ فِي الدُّهْنِ فَلَمْ يُمْكِنْ تَطْهِيرُهُ كَالْخَلِّ، وَالْمَاوَرْدِ، وَاللَّبَنِ، وَالْعَسَلِ، وَسَائِرِ الْمَائِعَاتِ، فَإِنْ قُلْنَا لَا يَجُوزُ غَسْلُهُ فَإِذَا غُسِلَ لَمْ يَطْهُرْ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ بَعْدَ الْغُسْلِ، وَإِذَا قُلْنَا يَجُوزُ ذَلِكَ فَإِنْ غَسَلَهُ ثُمَّ بَاعَهُ جَازَ الْبَيْعُ، وَإِنْ بَاعَهُ قَبْلَ الْغُسْلِ فَالْحُكْمُ فِي هَذَا، وَفِي الْمَاءِ النَّجِسِ إذَا بَاعَهُ قَبْلَ أَنْ يُكَاثِرَهُ بِمَاءٍ طَاهِرٍ وَاحِدٌ، وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ تَطْهِيرُهُ فَيُشَابِهُ الثَّوْبَ النَّجِسَ. وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ إذَا فُقِدَتْ مِنْهُ مَنَافِعُهُ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ، وَإِنْ أَمْكَنَ تَطْهِيرُهُ كَجِلْدِ الْمَيْتَةِ إذَا بِيعَ قَبْلَ الدِّبَاغِ، وَجُمْلَةُ هَذَا أَنَّ النَّجَاسَاتِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ: نَجَاسَةٌ عَيْنِيَّةٌ كَنَجَاسَةِ الْكَلْبِ، وَالْخِنْزِيرِ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا بِحَالٍ. وَالثَّانِي: مَا نُجِّسَ بِالْمُجَاوَرَةِ، وَلَا يَطْهُرُ بِالْمَاءِ كَالْخَلِّ، وَالْمَاوَرْدِ، وَاللَّبَنِ، وَمَا أَشْبَهَ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ بِحَالٍ. وَالثَّالِثُ: مَا نُجِّسَ بِالْمُجَاوَرَةِ، وَلَمْ يُبْطَلْ، مُعْظَمُ مَنَافِعِهِ كَالثَّوْبِ النَّجِسِ فَبَيْعُهُ جَائِزٌ. وَالرَّابِعُ: مَا نُجِّسَ بِالْمُجَاوِرَةِ، وَقَدْ زَالَ مُعْظَمُ الِانْتِفَاعِ بِهِ كَالزَّيْتِ، وَالشَّيْرَجِ، وَغَيْرِهِ فَهَلْ يَجُوزُ بَيْعُهُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ هُوَ أَنَّهُ مَائِعٌ نَجِسٌ فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ كَالْخَمْرِ. وَالثَّانِي: يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ فِي غَيْرِ الْأَكْلِ فَهُوَ فِي عَيْنِهِ لَيْسَ بِنَجِسٍ

وَكَذَا لَا أَرَى بَأْسًا بِبَيْعِ دُودِ الْقَزِّ فَإِنَّهُ أَصْلُ حَيَوَانٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، وَتَشْبِيهُهُ بِالْبَيْضِ، وَهُوَ أَصْلُ حَيَوَانٍ، أَوْلَى مِنْ تَشْبِيهِهِ بِالرَّوْثِ، وَيَجُوزُ بَيْعُ فَأْرَةِ الْمِسْكِ، وَيُقْضَى بِطَهَارَتِهَا إذَا انْفَصَلَتْ مِنْ الظَّبْيَةِ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُنْتَفَعًا بِهِ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْحَشَرَاتِ، وَالْفَأْرِ، وَالْحَيَّةِ، وَلَا الْتِفَاتَ إلَى انْتِفَاعِ الْمُشَعْوَذِ بِالْحَيَّةِ، وَكَذَلِكَ انْتِفَاعِ أَرْبَابِ الْحِلَقِ فِي إخْرَاجِهَا مِنْ السَّلَّةِ، وَعَرْضِهَا عَلَى النَّاسِ، وَيَجُوزُ بَيْعُ الْهِرَّةِ، وَالنَّحْلِ، وَبَيْعُ الْفَهْدِ، وَالْأَسَدِ، وَمَا يَصْلُحُ لِلصَّيْدِ، أَوْ يُنْتَفَعُ بِجِلْدِهِ، وَيَجُوزُ بَيْعُ الْفِيلِ لِأَجْلِ الْحَمْلِ عَلَيْهِ، وَيَجُوزُ بَيْعُ الْبَبَّغَاءِ، وَالطَّاوُوسِ، وَالطُّيُورِ الْمَسْمُوعَةِ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تُؤْكَلُ فَإِنَّ التَّفَرُّجَ بِأَصْوَاتِهَا، وَالنَّظَرَ إلَيْهَا غَرَضٌ مَقْصُودٌ مُبَاحٌ، وَإِنَّمَا الْكَلْبُ هُوَ الَّذِي لَا يَجُوزُ أَنْ يُقْتَنَى إعْجَابًا بِصُورَتِهِ لِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْهُ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْعُودِ، وَالصَّنْجِ، وَالْمَزَامِيرِ، وَالْمَلَاهِي فَإِنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ لَهَا شَرْعًا، وَكَذَلِكَ بَيْعُ الصُّوَرِ الْمَصْنُوعَةِ مِنْ الطِّينِ كَالْحَيَوَانَاتِ الَّتِي تُبَاعُ فِي الْأَعْيَادِ لِلَعِبِ الصِّبْيَانِ فَإِنَّ كَسْرَهَا وَاجِبٌ شَرْعًا، وَصُوَرِ الْأَشْجَارِ يُتَسَامَحُ بِهَا، وَأَمَّا الثِّيَابُ، وَالْأَطْبَاقُ الَّتِي عَلَيْهَا صُوَرُ الْحَيَوَانَاتِ فَيَصِحُّ بَيْعُهَا، وَكَذَا السُّتُورُ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَائِشَةَ اتَّخِذِي مِنْهَا نَمَارِقَ، وَلَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهَا مَنْصُوبَةً، وَيَجُوزُ مَوْضُوعَةً، وَإِذَا جَازَ الِانْتِفَاعُ مِنْ وَجْهٍ صَحِيحٍ صَحَّ الْبَيْعُ مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمُتَصَرَّفُ فِيهِ مَمْلُوكًا لِلْعَاقِدِ، أَوْ مَأْذُونًا فِيهِ مِنْ جِهَةِ الْمَالِكِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ الزَّوْجَةِ مَالَ الزَّوْجِ، وَلَا مِنْ الزَّوْجِ مَالَ الزَّوْجَةِ، وَلَا مِنْ الْوَلَدِ مَالَ الْوَالِدِ اعْتِمَادًا عَلَى أَنَّهُ لَوْ عَرَفَ رَضِيَ بِهِ فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ الرِّضَى مُتَقَدِّمًا لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ

مِمَّا يَجْرِي فِي الْأَسْوَاقِ فَوَاجِبٌ عَلَى الْمُحْتَسِبِ أَنْ يَمْنَعَ مِنْهُ. الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَقْدُورًا عَلَى تَسْلِيمِهِ شَرْعًا، وَحِسًّا فَمَا لَا يُقْدَرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ حِسًّا لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ كَالْآبِقِ، وَالسَّمَكِ فِي الْمَاءِ، وَالْجَنِينِ فِي الْبَطْنِ، وَعَسْبِ الْفَحْلِ، وَكَذَلِكَ بَيْعُ الصُّوفِ عَلَى ظَهْرِ الْحَيَوَانِ، وَاللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ فَإِنَّهُ يَتَعَذَّرُ تَسْلِيمُهُ لِاخْتِلَاطِ غَيْرِ الْمَبِيعِ بِالْمَبِيعِ، وَغَيْرِ الْمَقْدُورِ عَلَى تَسْلِيمِهِ شَرْعًا كَالْمَرْهُونِ، وَالْمَوْقُوفِ، وَالْمُسْتَوْلَدَة فَلَا يَصِحُّ بَيْعُهَا أَيْضًا، وَكَذَا بَيْعُ أُمٍّ دُونَ الْوَلَدِ إذَا كَانَ الْوَلَدُ صَغِيرًا، وَكَذَا بَيْعُ الْوَلَدِ دُونَ الْأُمِّ؛ لِأَنَّ تَسْلِيمَهُ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ حَرَامٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، وَلَا يَصِحُّ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا بِالْبَيْعِ دُونَ الْبُلُوغِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تُوَلَّهُ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا» . وَرُوِيَ «أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَرَّقَ بَيْنَ جَارِيَةٍ، وَوَلَدِهَا فَنَهَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ، وَرَدَّ الْبَيْعَ» ، وَأَمَّا الْوَلَدُ فَفِيهِ خِلَافٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ فِي مَعْنَاهَا، وَكَذَا الْجِدَّاتُ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَفِي سِنِّ التَّمْيِيزِ خِلَافٌ، أَوْ سَبْعُ سِنِينَ، أَوْ ثَمَانِي سِنِينَ، وَيُفَرَّقُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَإِنَّهُ يَمُدُّ التَّحْرِيمَ إلَى وَقْتِ سُقُوطِ الْأَسْنَانِ. الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ مَعْلُومَ الْعَيْنِ، وَالْقَدْرِ، وَالْوَصْفِ فَأَمَّا الْعِلْمُ بِالْعَيْنِ فَبِأَنْ يُشِيرَ إلَيْهِ بِعَيْنِهِ. فَلَوْ قَالَ: بِعْتُك شَاةً مِنْ هَذَا الْقَطِيعِ أَيَّ شَاةٍ أَرَدْت، أَوْ ثَوْبًا مِنْ هَذِهِ الثِّيَابِ الَّتِي بَيْنَ يَدَيْك، أَوْ ذِرَاعًا مِنْ هَذَا الْكِرْبَاسِ، وَخُذْهُ مِنْ أَيِّ جَانِبٍ شِئْت، أَوْ عَشْرَةَ أَذْرُعٍ مِنْ هَذِهِ الْأَرْضِ، وَخُذْ مِنْ أَيِّ طَرَفٍ شِئْت فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ، وَكُلُّ ذَلِكَ فِيمَا يَعْتَادُهُ

الْمُتَسَاهِلُونَ فِي الدِّينِ فَعَلَى الْمُحْتَسِبِ أَنْ يَمْنَعَ مِنْ ذَلِكَ، وَيُؤَدِّبَ عَلَيْهِ مَنْ خَالَفَ إلَّا أَنْ يَبِيعَ شَائِعًا مِثْلَ أَنْ يَبِيعَ نِصْفَ الشَّيْءِ، أَوْ رُبْعَهُ، أَوْ عُشْرَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ، وَأَمَّا الْعِلْمُ بِالْمِقْدَارِ فَإِنَّمَا يَحْصُلُ بِالْكَيْلِ، أَوْ الْوَزْنِ، أَوْ النَّظَرِ إلَيْهِ فَلَوْ قَالَ: بِعْتُك هَذَا الثَّوْبَ بِمَا بَاعَ بِهِ فُلَانٌ ثَوْبَهُ، وَهُمَا لَا يَدْرِيَانِ ذَلِكَ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَلَوْ قَالَ بِعْتُك هَذَا الثَّوْبَ بِزِنَةِ هَذِهِ الصَّنْجَةِ فَبَاطِلٌ إذَا لَمْ تَكُنْ الصَّنْجَةُ مَعْلُومَةً، وَلَوْ قَالَ: بِعْتُك هَذِهِ الصُّبْرَةَ مِنْ الْحِنْطَةِ، أَوْ بِعْتُك بِهَذِهِ الصُّرَّةَ مِنْ الدَّرَاهِمِ، أَوْ بِهَذِهِ الْقِطْعَةِ مِنْ الذَّهَبِ، وَهُوَ يَرَاهَا صَحَّ الْبَيْعُ، وَكَانَ تَخْمِينُهُ بِالنَّظَرِ كَافِيًا فِي مَعْرِفَةِ الْمِقْدَارِ، وَأَمَّا الْعِلْمُ بِالْوَصْفِ فَيَحْصُلُ بِالرُّؤْيَةِ فِي الْأَعْيَانِ فَلَا يَصِحُّ بَيْعُ الْغَائِبِ إلَّا إذَا سَبَقَتْ رُؤْيَتُهُ مُنْذُ مُدَّةٍ لَا يَغْلِبُ التَّغَيُّرُ فِيهَا، وَالْوَصْفُ لَا يَقُومُ مَقَامَ الْعِيَانِ، وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْأُنْمُوذَجِ، وَهِيَ الْعَيْنُ الَّتِي يَأْخُذُهَا الدَّلَّالُ، وَيَعْرِضُهَا عَلَى التُّجَّارِ فَلِلْعُلَمَاءِ فِيهَا الْخِلَافُ مِثَالُ ذَلِكَ إذَا قَالَ: بِعْتُك مِائَةَ صَاعٍ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ، وَأَشَارَ إلَى أُنْمُوذَجٍ إنْ لَمْ يُعَيِّنْ الْمَبِيعَ لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُعَيِّنْ الْمَبِيعَ، وَلَمْ يَرْعَ شَرَائِطَ السَّلَمِ فَإِنْ جَرَتْ شَرَائِطُ السَّلَمِ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إذَا تَأَمَّلَ الْأُنْمُوذَجَ، وَضَبَطَ أَوْصَافَهُ نَزَلَ مَنْزِلَةَ الصِّفَةِ، وَلَا يَكْتَفِي بِمُجَرَّدِ اللِّحَاظِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الِاعْتِمَادُ فِي السَّلَمِ عَلَى ذِكْرِ الْأَوْصَافِ لَا عَلَى مَعْرِفَةِ، أَوْصَافٍ لَمْ يَجُزْ ذِكْرُهَا، وَإِنْ عَيَّنَ نُظْرَانًا لَمْ يَدْخُلْ الْأُنْمُوذَجُ فِي الْمَبِيعِ،

قَالَ أَصْحَابُنَا: الْبَيْعُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ لَمْ يُرَ بَعْضُهُ، وَلَا كُلُّهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُخْرَجَ عَلَى اسْتِقْصَاءِ الْأَوْصَافِ لِلْمَبِيعِ فَإِنْ أُدْخِلَ الْأُنْمُوذَجُ قَالَ الْقَفَّالُ: الْعَقْدُ صَحِيحٌ، وَهُوَ كَالصُّبْرَةِ يُرَى ظَاهِرُهَا دُونَ بَاطِنِهَا. وَخَالَفَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ، وَقَالُوا: إنَّهُ غَائِبٌ، وَالْقِيَاسُ مَا قَالَهُ الْقَفَّالُ، وَلَا يَجُوزُ أَيْضًا بَيْعُ الثَّوْبِ فِي الْمَنْسَجِ اعْتِمَادًا عَلَى الرُّقُومِ، وَلَا بَيْعُ الْحِنْطَةِ فِي سُنْبُلِهَا، وَيَجُوزُ بَيْعُ الشَّعِيرِ فِي سُنْبُلِهِ، وَكَذَا بَيْعُ الْأُرْزِ فِي قِشْرِهِ الَّذِي يُدَّخَرُ فِيهِ، وَكَذَا بَيْعُ الْجَوْزِ، وَاللَّوْزِ فِي الْقِشْرَةِ السُّفْلَى، وَلَا يَجُوزُ فِي الْقِشْرَيْنِ. وَيَجُوزُ بَيْعُ الْبَاقِلَاءِ الرَّطْبِ فِي قِشْرِيّه لِلْحَاجَةِ، وَيُتَسَامَحُ بِبَيْعِ الْفُقَّاعِ لِجَرَيَانِ عَادَةِ الْأَوَّلِينَ بِهِ، وَلَكِنْ نَجْعَلُهُ إبَاحَةً بِعِوَضٍ فَلَوْ اشْتَرَاهُ لِيَبِيعَهُ فَالْقِيَاسُ بُطْلَانُهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مُسْتَتِرًا خِلْقَةً، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُتَسَامَحَ بِهِ إذْ فِي إخْرَاجِهِ إفْسَادٌ كَالرُّمَّانِ، وَمَا يَسْتَتِرُ خِلْقَةً. السَّادِسُ أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ مَقْبُوضًا إنْ كَانَ قَدْ اسْتَفَادَ مِلْكَهُ بِمُعَاوَضَةٍ، وَهَذَا شَرْطٌ خَاصٌّ فَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ، وَيَسْتَوِي فِيهِ الْعَقَارُ، وَالْمَنْقُولُ فَكُلَّمَا اشْتَرَاهُ، وَبَاعَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ فَبَيْعُهُ بَاطِلٌ، وَقَبْضُ الْمَنْقُولَ بِالنَّقْلِ، وَقَبْضُ الْعَقَارَ بِالتَّخْلِيَةِ، وَقَبْضُ مَا ابْتَاعَهُ بِشَرْطِ الْكَيْلِ لَا يَتِمُّ إلَّا بِأَنْ يَكْتَالَهُ. الرُّكْنُ الثَّالِثُ: لَفْظُ الْعَقْدِ، وَلَا بُدَّ مِنْ جَرَيَانِ إيجَابٍ، وَقَبُولٍ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: بِعْتُك، وَيَقُولَ الْمُشْتَرِي اشْتَرَيْت، وَلِهَذَا شُرِحَ فِي كُتُبِ الْفُقَهَاءِ

فَأَمَّا الْمُعَاطَاةِ لَمْ تَنْعَقِدْ بَيْعًا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَصْلًا، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ تَنْعَقِدُ إنْ كَانَتْ فِي الْمُحَقَّرَاتِ ثُمَّ ضَبْطُ الْمُحَقَّرَاتِ عَسِيرٌ فَإِنْ رُدَّ الْأَمْرُ إلَى الْعَادَاتِ فَقَدْ جَاوَزَ النَّاسُ الْمُحَقَّرَاتِ فِي الْمُعَاطَاةِ مِثْلَ حُزْمَةِ الْبَقْلِ، وَرَغِيفِ الْخُبْزِ، وَقَلِيلٍ مِنْ الْفَوَاكِهِ، وَاللَّحْمِ الَّتِي لَا يُعْتَادُ فِيهَا إلَّا الْمُعَاطَاةُ، وَقَدْ ضَبَطَ الرَّافِعِيُّ لَهَا ضَابِطًا. قَالَ: سَمِعْت، وَالِدِي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَغَيْرَهُ يَحْكُمُ ضَابِطَهَا بِمَا دُونَ نِصَابِ السَّرِقَةِ، وَالْأَشْبَهُ الرُّجُوعُ فِيهِ إلَى الْعَادَةِ فِيمَا يُعْتَادُ فِيهِ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْمُعَاطَاةِ بَيْعًا. وَأَمَّا الْأَشْيَاءُ النَّفِيسَةُ فَلَا يَجُوزُ فِيهَا الْمُعَاطَاةُ قَوْلًا وَاحِدًا، وَهُوَ أَنْ يَتَقَدَّمَ الدَّلَّالُ إلَى الْبَزَّازِ يَأْخُذُ مِنْهُ ثَوْبَ دِيبَاجٍ قِيمَتُهُ عَشْرَةُ دَنَانِيرَ مَثَلًا، وَيَحْمِلُهُ إلَى الْمُشْتَرِي، وَيَعُودُ إلَيْهِ بِأَنَّهُ ارْتَضَاهُ فَيَقُولُ لَهُ خُذْ عَشْرَةً فَيَأْخُذُ مِنْ صَاحِبِهِ الْعَشَرَةَ، وَيُسَلِّمُهَا إلَى الْبَزَّازِ فَيَأْخُذُهُ، وَيَتَصَرَّفُ فِيهَا، وَهَذَا لَيْسَ بَيْعًا أَصْلًا فَيُنْهَى عَنْ فِعْلِ مِثْلِ ذَلِكَ، وَيَجْتَمِعُ الْمُتَّجِرُونَ عَلَى حَانُوتِ الْبَيَّاعِ فَيَعْرِضُ مَتَاعًا قِيمَتُهُ مِائَةُ دِينَارٍ مَثَلًا فَمَنْ يَزِيدُ فَيَقُولُ أَحَدُهُمْ هَذَا عَلَيَّ بِتِسْعِينَ، وَيَقُولُ آخَرُ بِخَمْسَةٍ، وَتِسْعِينَ، وَيَقُولُ آخَرُ بِمِائَةٍ فَيَقُولُ لَهُ زِنْ فَيَزِنُ، وَيُسَلِّمُهُ، وَيَأْخُذُ الْمَتَاعَ مِنْ غَيْرِ إيجَابٍ، وَقَبُولٍ، وَقَدْ اسْتَمَرَّتْ بِهِ الْعَادَاتُ، وَهَذِهِ مِنْ الْمُعْضِلَاتِ الَّتِي لَيْسَتْ تَقْبَلُ الْعِلَاجَ إذْ الِاحْتِمَالَاتُ ثَلَاثَةٌ إمَّا فَتْحُ بَابِ الْمُعَاطَاةِ مُطْلَقًا فِي الْحَقِيرِ، وَالنَّفِيسِ، وَهُوَ مُحَالٌ إذْ

فِيهِ نَقْلُ الْمِلْكِ مِنْ غَيْرِ لَفْظٍ دَالٍّ عَلَيْهِ. وَقَدْ أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ، وَالْبَيْعُ اسْمٌ لِلْإِيجَابِ، وَالْقَبُولِ فَلَمْ يَجُزْ، وَلَمْ يَنْطَلِقْ اسْمُ الْبَيْعِ عَلَى مُجَرَّدِ فِعْلٍ بِتَسْلِيمٍ، وَفِيمَا ذَا يُحْكَمُ بِانْتِقَالِ الْمِلْكِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ لَا سِيَّمَا فِي الْجَوَارِي، وَالْعَبِيدِ، وَالْعَقَارَاتِ، وَالدَّوَابِّ النَّفِيسَةِ، وَمَا يَكْثُرُ التَّنَازُعُ فِيهَا. الِاحْتِمَالُ الثَّانِي: أَنْ يُسَدَّ الْبَابُ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مِنْ بُطْلَانِ الْعَقْدِ، وَفِيهِ إشْكَالٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي الْمُحَقَّرَاتِ مُعْتَادًا فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ، وَلَوْ كَانُوا يُكَلَّفُونَ الْإِيجَابَ، وَالْقَبُولَ مَعَ الْبَقَّالِ، وَالْخَبَّازِ، وَالْقَصَّابِ لَثَقُلَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فِعْلُهُ فَإِنَّ الْأَعْصَارَ فِي ذَلِكَ تَتَقَارَبُ. الثَّانِي أَنَّ النَّاسَ الْآنَ قَدْ انْهَمَكُوا فِيهِ فَلَا يَشْتَرِي الْإِنْسَانُ شَيْئًا مِنْ الْأَطْعِمَةِ، وَغَيْرِهَا إلَّا، وَيَعْلَمُ أَنَّ الْبَائِعَ قَدْ يَمْلِكُهُ بِالْمُعَاطَاةِ، وَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي تَلَفُّظِهِ بِالْعَقْدِ إذْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ. الِاحْتِمَالُ الثَّالِثُ: أَنْ يُفْصَلَ بَيْنَ الْمُحَقَّرَاتِ، وَغَيْرِهَا كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَعْسُرُ الضَّبْطُ فِي الْمُحَقَّرَاتِ، وَيَشْكُلُ. وَجْهُ نَقْلِ الْمِلْكِ مِنْ غَيْرِ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَقَدْ ذَهَبَ ابْنُ شُرَيْحٍ إلَى تَخْرِيجِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ عَلَى وَفْقِهِ، وَهُوَ أَقْرَبُ الِاحْتِمَالَاتِ إلَى الِاعْتِدَالِ فَلَا بَأْسَ لَوْ مِلْنَا إلَيْهِ لِمَسِيسِ الْحَاجَاتِ، وَلِعُمُومِ ذَلِكَ بَيْنَ الْخَلْقِ، وَلِمَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ فَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ مُعْتَادًا فِي الْأَعْصَارِ الْأُولَى، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ الْإِشْكَالَيْنِ فَهُوَ أَنْ نَقُولَ أَمَّا الضَّبْطُ فِي الْفَصْلِ بَيْنَ الْمُحَقَّرَاتِ، وَغَيْرِهَا فَلَيْسَ عَلَيْنَا تَكَلُّفُهُ بِالتَّقْدِيرِ فَإِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ بَلْ لَهُ طَرَفَانِ وَاضِحَانِ إذْ لَا يَخْفَى شِرَاءُ الْبَقْلِ، وَقَلِيلٍ مِنْ الْفَوَاكِهِ، وَاللَّحْمِ، وَالْخُبْزِ فِي الْمَعْدُودِ مِنْ

الْمُحَقَّرَاتِ الَّتِي لَا يُعْتَادُ فِيهَا إلَّا الْمُعَاطَاةُ، وَطَالِبُ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ يُعَدُّ مُسْتَقْصِيًا، وَيُسْتَبْرَدُ تَكْلِيفُهُ لِذَلِكَ، وَيُسْتَثْقَلُ، وَيُنْسَبُ إلَى أَنَّهُ يُقِيمُ الْوَزْنَ لِأَمْرٍ حَقِيرٍ لَا وَجْهَ لَهُ فَهُوَ طَرَفُ الْحَقَارَةِ. الطَّرَفُ الثَّانِي: لِلدَّوَابِّ، وَالْعَبِيدِ، وَالْعَقَارَاتِ، وَالثِّيَابِ النَّفِيسَةِ فَذَلِكَ مِمَّا لَا يُسْتَبْعَدُ تَكَلُّفُ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ فِيهَا، وَبَيْنَهُمَا، أَوْسَاطٌ مُتَشَابِهَةٌ يُشَكُّ فِيهَا هِيَ مَحَلُّ الشُّبْهَةِ فَحَقُّ ذِي الدِّينِ أَنْ يَمِيلَ فِيهَا إلَى الِاحْتِيَاطِ، وَجَمِيعِ ضَوَابِطِ الشَّرْعِ فِيمَا يُعْلَمُ بِالْعَادَةِ كَذَلِكَ يَنْقَسِمُ إلَى أَطْرَافٍ وَاضِحَةٍ، وَأَوْسَاطٍ مُشْكَلَةٍ. وَأَمَّا الثَّانِي: وَهُوَ طَلَبُ سَبَبٍ لِنَقْلِ الْمِلْكِ فَهُوَ: أَنْ يُجْعَلَ الْفِعْلُ بِالْيَدِ أَخْذًا، وَتَسْلِيمًا سَبَبًا إذْ اللَّفْظُ لَمْ يَكُنْ سَبَبًا لَعَيْنِهِ بَلْ لِدَلَالَتِهِ، وَهَذَا الْفِعْلُ قَدْ دَلَّ عَلَى مَقْصُودِ الْبَيْعِ دَلَالَةً مُسْتَمِرَّةً فِي الْعَادَةِ، وَانْضَمَّ إلَيْهِ مَسِيسُ الْحَاجَةِ، وَعَادَةُ الْأَوَّلِينَ، وَاطِّرَادُ جَمِيعِ الْعَادَاتِ بِقَبُولِ الْهَدَايَا مِنْ غَيْرِ إيجَابٍ، وَقَبُولٍ مَعَ التَّصَرُّفِ فِيهَا، وَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ عِوَضٌ، أَوْ لَا يَكُونُ إذْ الْمِلْكُ لَا بُدَّ مِنْ نَقْلِهِ فِي الْهِبَةِ أَيْضًا إلَّا أَنَّ الْعَادَةَ السَّالِفَةَ لَمْ تُفَرِّقْ فِي الْهَدَايَا بَيْنَ الْحَقِيرِ، وَالنَّفِيسِ بَلْ كَانَ طَلَبُ الْإِيجَابِ، وَالْقَبُولِ يُسْتَقْبَحُ فِيهِ كَيْفَ كَانَ، وَفِي الْبَيْعِ لَمْ يُسْتَقْبَحْ فِي غَيْرِ الْمُحَقَّرَاتِ هَذَا مَا نَرَاهُ أَعْدَلَ الِاحْتِمَالَاتِ، وَحَقُّ الْوَرِعِ الْمُتَدَيِّنِ أَلَّا يَدَعَ الْإِيجَابَ، وَالْقَبُولَ لِلْخُرُوجِ عَنْ شُبْهَةِ الْخِلَافِ فَإِنْ قُلْت فَإِنْ أَمْكَنَ هَذَا فِيمَا يَشْتَرِيهِ فَكَيْفَ يَفْعَلُ إذَا حَضَرَ فِي

ضِيَافَةٍ، أَوْ عَلَى مَائِدَةٍ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ أَصْحَابَهَا يَكْتَفُونَ بِالْمُعَاطَاةِ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، أَوْ سَمِعَ مِنْهُمْ ذَلِكَ، أَوْ رَآهُ أَيَجِبُ عَلَيْهِ الِامْتِنَاعُ مِنْ الْأَكْلِ فَأَقُولُ يَجِبُ عَلَيْهِ الِامْتِنَاعُ مِنْ الشِّرَاءِ إذَا كَانَ ذَلِكَ الشَّيْءُ الَّذِي اشْتَرَوْهُ مُقَدَّرًا نَفِيسًا، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ الْمُحَقَّرَاتِ. وَأَمَّا الْأَكْلُ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الِامْتِنَاعُ مِنْهُ فَإِنِّي أَقُولُ: إنْ تَرَدَّدْنَا فِي جَعْلِ الْفِعْلِ دَلَالَةً عَلَى نَقْلِ الْمِلْكِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا نَجْعَلَهُ دَلَالَةً عَلَى الْإِبَاحَةِ فَإِنَّ أَمْرَ الْإِبَاحَةِ، أَوْسَعُ، وَأَمْرَ نَقْلِ الْمِلْكِ أَضْيَقُ فَكُلُّ مَطْعُومٍ جَرَى فِيهِ بَيْعُ مُعَاطَاةٍ فَتَسْلِيمُ الْبَائِعِ إذْنٌ فِي الْأَكْلِ يُعْلَمُ ذَلِكَ بِقَرِينَةِ الْحَالِ كَإِذْنِ الْحَمَّامِيِّ فِي دُخُولِ الْحَمَّامِ، وَالْإِذْنِ فِي الطَّعَامِ لِمَنْ يُرِيدُهُ الْمُشْتَرِي فَيَنْزِلُ مَنْزِلَةَ مَنْ قَالَ أَبَحْت لَك أَنْ تَأْكُلَ هَذَا الطَّعَامَ، أَوْ تُطْعِمَ مَنْ أَرَدْت فَإِنَّهُ يَحِلُّ لَهُ، وَلَوْ صَرَّحَ. وَقَالَ: كُلْ هَذَا الطَّعَامُ ثُمَّ اغْرَمْ لِي عِوَضَهُ يَحِلُّ لَهُ الْأَكْلُ، وَيَلْزَمُهُ الضَّمَانُ بَعْدَ الْأَكْلِ هَذَا قِيَاسُ الْفِقْهِ عِنْدِي، وَلَكِنَّهُ بَعْدَ الْمُعَاطَاةِ آكِلٌ مِلْكَهُ، وَمُتْلِفٌ لَهُ فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ، وَذَلِكَ فِي ذِمَّتِهِ، وَالثَّمَنُ الَّذِي سَلَّمَهُ إلَيْهِ إنْ كَانَ مِثْلَ قِيمَتِهِ فَقَدْ ظَفِرَ الْمُسْتَحِقُّ بِمِثْلِ حَقِّهِ فَلَهُ أَنْ يَتَمَلَّكَهُ مَهْمَا عَجَزَ عَنْ مُطَالَبَةِ مَنْ غَلَبَهُ، وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى مُطَالَبَتِهِ فَإِنَّهُ لَا يَتَمَلَّكُ مَا ظَفِرَ بِهِ مِنْ مِلْكِهِ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا لَا يَرْضَى بِتِلْكَ الْعَيْنِ أَنْ يَصْرِفَهَا إلَى دَيْنِهِ فَعَلَيْهِ الْمُرَاجَعَةُ، وَأَمَّا هَاهُنَا قَدْ عُرِفَ رِضَاهُ بِقَرِينَةِ الْحَالِ عِنْدَ

فصل تسعير المحتسب للبضائع على أربابها

التَّسْلِيمِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُجْعَلَ الْفِعْلُ دَلَالَةً عَلَى الرِّضَى بِأَنْ يَسْتَوْفِيَ دَيْنَهُ مِمَّا سُلِّمَ إلَيْهِ فَيَأْخُذُهُ بِحَقِّهِ، لَكِنْ عَلَى كُلِّ الْأَحْوَالِ جَانِبُ الْبَائِعِ أُغْمِضَ؛ لِأَنَّ مَا أَخَذَهُ فَقَدْ يُرِيدُ الْمِلْكَ فِيهِ لِيَتَصَرَّفَ، وَلَا يُمْكِنُهُ التَّمَلُّكُ إلَّا إذَا تَلِفَ عَيْنُ الطَّعَامِ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي ثُمَّ رُبَّمَا يُفْتَقَرُ إلَى اسْتِئْنَافِ قَصْدِ التَّمَلُّكِ ثُمَّ يَكُونُ قَدْ تَمَلَّكَ بِمُجَرَّدِ رِضًى اسْتَفَادَهُ مِنْ الْفِعْلِ دُونَ الْقَوْلِ فَأَمَّا جَانِبُ الْمُشْتَرِي لِلطَّعَامِ، وَهُوَ لَا يُرِيدُ إلَّا الْأَكْلَ فَهَيِّنٌ فَإِنَّ ذَلِكَ يُبَاحُ بِالْإِبَاحَةِ الْمَفْهُومَةِ مِنْ قَرِينَةِ الْحَالِ، وَلَكِنْ رُبَّمَا يَلْزَمُ مِنْ مَسَاقِ هَذَا أَنَّ الضَّيْفَ يَضْمَنُ مَا أَتْلَفَهُ، وَإِنَّمَا يَسْقُطُ الضَّمَانُ عَنْهُ إذَا تَمَلَّكَ الْبَائِعُ مَا أَخَذَهُ مِنْ الْمُشْتَرِي فَيَكُونُ كَالْقَاضِي دَيْنَهُ، وَالْمُتَحَمِّلِ عَنْهُ، فَهَذَا مَا نَرَاهُ فِي قَاعِدَةِ الْمُعَاطَاةِ عَلَى غُمُوضِهَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّه، وَهَذِهِ احْتِمَالَاتٌ، وَظُنُونٌ رَدَدْنَاهَا، وَلَا يُمْكِنُ بِنَاءُ الْفَتْوَى إلَّا عَلَى هَذِهِ الصُّوَرِ، وَأَمَّا الْوَرِعُ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَفْتِيَ قَلْبَهُ، وَيَتَّقِيَ مَوَاضِعَ الشُّبْهَةِ. [فَصَلِّ تَسْعِير الْمُحْتَسَب لِلْبَضَائِعِ عَلَى أَرْبَابهَا] (فَصْلٌ) : وَلَا يَجُوزُ لِلْمُحْتَسِبِ تَسْعِيرُ الْبَضَائِعِ عَلَى أَرْبَابِهَا فَإِنَّ الْمُسَعِّرَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى فَلَا يَتَصَرَّفْنَ فِيهِ الْإِمَامُ، وَالْوَالِي فَإِنْ فُعِلَ ذَلِكَ إلَّا فِي سِنِينَ الْقَحْطِ كَانَ ذَلِكَ مُحَرَّمًا إذْ «غَلَا السِّعْرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ

فصل رأى المحتسب شخصا محتكرا

اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ سَعِّرْ لَنَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الْقَابِضُ، وَالْبَاسِطُ، وَالرَّازِقُ، وَالْمُسَعِّرُ، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَلْقَى اللَّهَ، وَلَيْسَ أَحَدٌ يُطَالِبُنِي بِمَظْلِمَةٍ فِي نَفْسٍ، وَلَا مَالٍ» . قَالَ الْغَزَالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَإِنْ كَانَ فِي سِنِينَ الْقَحْطِ، وَاضْطَرَبَتْ الْأَسْعَارُ، وَابْتَغِي اسْتِقَامَتُهَا فَوَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا يَحْرُمُ لِعُمُومِ النَّهْيِ. وَالثَّانِي: لَا يَحْرُمُ نَظَرًا إلَى الْمَقْصُودِ، وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا رَأَى الْإِمَامُ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةً كَانَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ، وَإِنْ قِيلَ لَهُ إنَّ ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ لِلْفَقِيرِ فِي تَيْسِيرِ الْعُسْرِ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَكُونَ يَدَ اللَّهِ ذَلِكَ فِي خَفْضِ مَا رَفَعَ، وَبَذْلِ مَا مَنَعَ، وَقِفْ أَنْتَ حَيْثُ، أَوْقَفَك حُكْمُ الْحَقِّ، وَدَعْ مَا يُعْنِي لَك مِنْ مُصْلِحَةِ الْخَلْقِ، وَلَا تَكُنْ مِمَّنْ اتَّبَعَ الرَّأْيَ، وَالنَّظَرَ، وَتَرَكَ الْآيَةَ، وَالْخَبَرَ فَحُكْمُ اللَّهِ مَنْظُومَةٌ فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ، وَلَيْسَتْ فِيمَا يَسْتَنْبِطُهُ ذُو الْعِلْمِ بِعِلْمِهِ، وَلَا يَسْتَدِلُّ عَلَيْهِ ذُو الْعَقْل بِعَقْلِهِ {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] فَإِذَا قُلْنَا التَّسْعِيرُ جَائِزٌ فَإِذَا سَعَّرَ الْإِمَامُ، وَبَاعَ النَّاسُ بِذَلِكَ السِّعْرِ فَحَسَنٌ، وَإِنْ خَالَفُوهُ فِي ذَلِكَ فَهَلْ يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ أَمْ لَا الصَّحِيحُ أَنَّهُ يَنْعَقِدُ، وَيُعَزِّرُهُمْ لِمُخَالَفَةِ ذَلِكَ. [فَصَلِّ رَأَى الْمُحْتَسَب شَخْصًا مُحْتَكَرًا] (فَصْلٌ) : وَإِذَا رَأَى الْمُحْتَسِبُ أَحَدًا قَدْ احْتَكَرَ مِنْ سَائِرِ الْأَقْوَاتِ، وَهُوَ أَنْ يَشْتَرِيَ ذَلِكَ فِي وَقْتِ الْغَلَاءِ، وَيَتَرَبَّصَ لِيَزْدَادَ فِي ثَمَنِهِ أَلْزَمهُ بَيْعَهُ إجْبَارًا؛ لِأَنَّ الِاحْتِكَارَ حَرَامٌ، وَالْمُحْتَكِرُ مَلْعُونٌ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

«مَنْ احْتَكَرَ طَعَامًا أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثُمَّ تَصَدَّقَ بِثَمَنِهِ لَمْ تَكُنْ صَدَقَتُهُ كَفَّارَةً لِاحْتِكَارِهِ» . وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ احْتَكَرَ الطَّعَامَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا فَقَدْ بَرِئَ مِنْ اللَّهِ، وَبَرِئَ اللَّهُ مِنْهُ» ، وَقِيلَ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ نَفْسًا. وَعَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ، وَجْهَهُ مَنْ احْتَكَرَ الطَّعَامَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا قَسَا قَلْبُهُ، وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ أَحْرَقَ طَعَامًا مُحْتَكَرًا بِالنَّارِ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَا حُكْرَةَ فِي سُوقِنَا لَا يَعْمِدُ رِجَالٌ بِأَيْدِيهِمْ فُضُولُ مَالٍ مِنْ أَذْهَابٍ إلَى رِزْقٍ مِنْ أَرْزَاقِ اللَّهِ يَنْزِلُ بِسَاحَتِنَا - فَيَحْتَكِرُونَهُ عَلَيْنَا، وَلَكِنْ أَيُّمَا جَالِبٍ جَلَبَ كَيَدِهِ فِي الشِّتَاءِ، وَالصَّيْفِ فَذَاكَ، وَصْفُ عُمَرَ فَلْيَبِعْ كَيْفَ شَاءَ اللَّهُ، وَلْيُمْسِكْ كَيْفَ شَاءَ اللَّهُ، وَقِيلَ فِي قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25] ، إنَّ الِاحْتِكَارَ مِنْ الظُّلْمِ، وَدَخَلَ تَحْتَهُ، وَاعْلَمْ أَنَّ النَّهْيَ مُطْلَقٌ، وَيَتَعَلَّقُ النَّظَرُ بِهِ فِي الْوَقْتِ، وَالْجِنْسِ أَمَّا الْجِنْسُ فَيَطَّرِدُ النَّهْيُ فِي أَجْنَاسِ الْأَقْوَاتِ أَمَّا مَا لَيْسَ بِقُوتٍ، وَلَا هُوَ مُعَيَّنٍ عَلَى الْقُوتِ كَالْأَدْوِيَةِ، وَالْعَقَاقِيرِ، وَالزَّعْفَرَانِ، وَأَمْثَالِهِ فَلَا يَتَعَدَّى النَّهْيُ إلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مَطْعُومًا، وَأَمَّا مَا يُعَيَّنُ عَلَى الْقُوتِ كَاللَّحْمِ، وَالْفَوَاكِهِ، وَمَا يَسُدُّ مَسَدًّا يُغْنِي عَنْ الْقُوتِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، وَإِنْ كَانَ لَا يُمْكِنُ الْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهِ فَهَذَا فِي مَحَلِّ النَّظَرِ فَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ طَرَدَ التَّحْرِيمَ فِي السَّمْنِ، وَالْعَسَلِ، وَالشَّيْرَجِ، وَالْجُبْنِ، وَالزَّيْتِ، وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ.

فصل تلقي الركبان

وَأَمَّا الْوَقْتُ، وَيُحْتَمَلُ أَيْضًا طَرْدُ النَّهْيِ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ، وَيُحْتَمَلُ أَيْضًا أَنْ يُخَصَّصَ بِوَقْتِ قِلَّةِ الْأَطْعِمَةِ، وَحَاجَةِ النَّاسِ إلَيْهِ حَتَّى يَكُونَ فِي تَأْخِيرِ بَيْعِهِ ضَرَرٌ مَا، وَأَمَّا إذَا اتَّسَعَتْ الْأَطْعِمَةُ، وَكَثُرَتْ، وَاسْتَغْنَى النَّاسُ عَنْهَا، وَلَمْ يَرْغَبُوا فِيهَا إلَّا بِقِيمَةٍ قَلِيلَةٍ، وَانْتَظَرَ صَاحِبُ الطَّعَامِ ذَلِكَ، وَلَمْ يَنْتَظِرْ قَحْطًا فَلَيْسَ فِي هَذَا إضْرَارٌ، وَإِذَا كَانَ الزَّمَانُ زَمَانَ قَحْطٍ كَانَ فِي ادِّخَارِ الْعَسَلِ، وَالشَّيْرَجِ، وَأَمْثَالِهِ إضْرَارٌ فَيَنْبَغِي أَنْ يُقْضَى بِتَحْرِيمِهِ، وَيُعَوَّلُ فِي نَفْيِ التَّحْرِيمِ، وَإِثْبَاتِهِ عَلَى الضِّرَارِ فَإِنَّهُ مَفْهُومٌ قَطْعًا مِنْ تَخْصِيصِ الطَّعَامِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ ضِرَارٌ فَلَا يَخْلُو احْتِكَارُ الْأَقْوَاتِ عَنْ كَرَاهِيَةٍ فَإِنَّهُ يُنْتَظَرُ مَبَادِئُ الضِّرَارِ، وَهُوَ ارْتِفَاعُ الْأَسْعَارِ، وَانْتِظَارُ مُبَادَى الضِّرَارِ مَحْظُورٌ كَانْتِظَارِ عَيْنِ الضِّرَارِ، وَلَكِنَّهُ دُونَهُ فَبِقَدْرِ دَرَجَاتِ الْإِضْرَارِ تَتَفَاوَتُ دَرَجَاتُ الْكَرَاهِيَةِ، وَالتَّحْرِيمِ، وَكَذَلِكَ، أَوْصَى بَعْضُ التَّابِعِينَ رَجُلًا لَا تُسَلِّمْ، وَلَدَك فِي بَيْعَتَيْنِ، وَلَا فِي صَنْعَتَيْنِ بَيْعِ الطَّعَامِ، وَبَيْعِ الْأَكْفَانِ فَإِنَّهُ يَتَمَنَّى الْغَلَاءَ، وَمَوْتَ النَّاسِ، وَالصَّنْعَتَانِ أَنْ يَكُونَ جَزَّارًا فَإِنَّهَا صَنْعَةٌ تُقَسِّي الْقُلُوبَ، وَصَوَّاغًا فَإِنَّهُ يُزَخْرِفُ الدُّنْيَا بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ فَهَذَا كُلُّهُ حَرَامٌ، وَالْمَنْعُ مِنْ فِعْلِ الْحَرَامِ، وَاجِبٌ. [فَصَلِّ تَلْقَيْ الرَّكْبَانِ] (فَصْلٌ) : وَلَا يَجُوزُ تَلَقِّي الرُّكْبَانِ، وَهُوَ أَنْ تُقْدِمَ قَافِلَةٌ فَيَلْتَقِيهِمْ الْإِنْسَانُ خَارِجَ الْبَلَدِ فَيُخْبِرُهُمْ بِكَسَادِ مَتَاعِهِمْ لِيَبْتَاعَ مِنْهُمْ رَخِيصًا فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ تَلَقِّي الرُّكْبَانِ» . وَنَهَى عَنْ بَيْعِ السِّلَعِ حَتَّى تَهْبِطَ إلَى الْأَسْوَاقِ فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَصَاحِبُ السِّلْعَةِ بِالْخِيَارِ بَعْدَ أَنْ يُقْدِمَ السُّوقَ

فصل في الربا

وَصُورَة ذَلِكَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ التُّجَّارَ، وَيَكْذِبَ فِي سِعْرِ الْبَلَدِ، وَيَشْتَرِي أَمْتِعَتَهُمْ فَالْعَقْدُ صَحِيحٌ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَالْمُتَلَقِّي آثِمٌ، وَالْخِيَارُ ثَابِتٌ لِلْبَاعَةِ لِنَصِّ الْحَدِيثِ. [فَصَلِّ فِي الرَّبَّا] (فَصْلٌ) : فِي الرِّبَا، وَقَدْ حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَشَدَّدَ الْأَمْرَ فِيهِ، وَيَجِبُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ عَلَى الصَّيَارِفَةِ الْمُتَعَامِلِينَ عَلَى النَّقْدَيْنِ، وَعَلَى الْمُتَعَامِلِينَ عَلَى، الْأَطْعِمَةِ إذْ لَا رِبًا إلَّا فِي نَقْدٍ، أَوْ فِي طَعَامٍ، وَعَلَى الصَّيْرَفِيِّ أَنْ يَحْتَرِزَ مِنْ النَّسِيئَةِ، وَالْفَضْلِ: أَمَّا النَّسِيئَةُ فَأَنْ لَا يَبِيعَ شَيْئًا مِنْ جَوَاهِرِ النَّقْدَيْنِ بِشَيْءٍ مِنْ جَوَاهِرِ النَّقْدَيْنِ إلَّا يَدًا بِيَدٍ، وَهُوَ أَنْ يَجْرِيَ التَّقَابُضُ فِي الْمَجْلِسِ، وَهَذَا احْتِرَازٌ مِنْ النَّسِيئَةِ. وَتَسْلِيمُ الصَّيَارِفَةِ الذَّهَبَ إلَى دَارِ الضَّرْبِ، وَشِرَاءُ الدَّنَانِيرِ الْمَضْرُوبَةِ بِهِ حَرَامٌ مِنْ حَيْثُ النَّسْءُ، وَمِنْ حَيْثُ إنَّ الْغَالِبَ أَنْ يَجْرِي فِيهِ تَفَاضُلٌ إذْ لَا يُرَدُّ الْمَضْرُوبُ بِمِثْلِ وَزْنِهِ، وَأَمَّا الْفَضْلُ فَيُحْتَرَزُ مِنْهُ فِي ثَلَاثَةِ أَشْيَاءِ فِي بَيْعِ الْمُكَسَّرِ بِالصَّحِيحِ فَلَا تَجُوزُ الْمُعَامَلَةُ فِيهِمَا إلَّا مَعَ الْمُمَاثَلَةِ، وَفِي بَيْعِ الْجَيِّدِ بِالرَّدِيءِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَشْتَرِيَ رَدِيئًا بِجَيِّدٍ دُونَهُ فِي الْوَزْنِ، أَوْ بَيْعُ رَدِيءٍ بِجَيِّدٍ فَوْقَهُ فِي الْوَزْنِ أَعْنِي الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةَ بِالْفِضَّةِ فَإِنْ اخْتَلَفَ الْجِنْسَانِ فَلَا حَرَجَ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ هَاءً بِهَاءٍ سَوَاءً بِسَوَاءٍ فَمَنْ زَادَ، وَاسْتَزَادَ فَقَدْ أَرْبَى فَإِذَا اخْتَلَفَ الْجِنْسَانِ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ» . الثَّالِثُ: الْمُرَكَّبَاتُ مِنْ الذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ كَالدَّنَانِيرِ الْمُخَلَّطَةِ مِنْ الذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ إنْ كَانَ مِقْدَارُ الذَّهَبِ مَجْهُولًا لَمْ تَصِحَّ الْمُعَامَلَةُ عَلَيْهِ أَصْلًا إلَّا إذَا كَانَ ذَلِكَ نَقْدًا جَارِيًا فِي الْبَلَدِ فَإِنَّا نُرَخِّصُ فِي الْمُعَامَلَةِ عَلَيْهِ إذَا

فصل المتعاملون على الأطعمة عليهم التقابض في المجلس

لَمْ يُقَابَلْ بِالنَّقْدِ، وَكَذَا الدَّرَاهِمُ الْمَغْشُوشَةُ بِالنُّحَاسِ إنْ لَمْ تَكُنْ رَائِجَةً فِي الْبَلَدِ لَمْ تَصِحَّ الْمُعَامَلَةُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا النُّقَرَةُ، وَهِيَ مَجْهُولَةٌ، وَإِنْ كَانَ نَقْدًا رَائِجًا فِي الْبَلَدِ رَخَّصْنَا فِي الْمُعَامَلَةِ بِهِ لِأَجْلِ الْحَاجَةِ، وَخُرُوجِ النُّقْرَةِ عَنْ أَنْ يُقْصَدَ اسْتِخْرَاجُهَا، وَلَكِنْ لَا يُقْبَلُ بِالنُّقْرَةِ أَصْلًا، وَكَذَلِكَ كُلُّ حُلِيٍّ مُرَكَّبٌ مِنْ ذَهَبٍ، وَفِضَّةٍ فَلَا يَجُوزُ شِرَاؤُهُ لَا بِالذَّهَبِ، وَلَا بِالْفِضَّةِ بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَشْتَرِيَ بِمَتَاعٍ آخَرَ إنْ كَانَ قَدْرُ الذَّهَبِ مِنْهُ مَعْلُومًا إلَّا إذَا كَانَ سَمَّوْهَا بِالذَّهَبِ تَمْوِيهًا لَا يَحْصُلُ مِنْهُ ذَهَبٌ مَقْصُودٌ عِنْدَ الْعَرْضِ عَلَى النَّارِ فَيَجُوزُ بَيْعُهُ بِمِثْلِهِ مِنْ النُّقْرَةِ، وَبِمَا أُرِيدَ مِنْ غَيْرِ النَّقْرَةِ، وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِلصُّيَّاغِ، وَالصَّيَارِفَةِ أَنْ يَشْتَرُوا قِلَادَةً فِيهَا خَرَزٌ، وَذَهَبٌ بِذَهَبٍ، وَلَا أَنْ يَبِيعَهُ بَلْ بِالْفِضَّةِ إنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا فِضَّةٌ لِمَا رَوَى فَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُتِيَ بِقِلَادَةٍ فِيهَا خَرَزٌ، وَذَهَبٌ تُبَاعُ، وَهِيَ مِنْ الْغَنَائِمِ فَأَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالذَّهَبِ الَّذِي فِي الْقِلَادَةِ فَنُزِعَ ثُمَّ قَالَ الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَزْنًا بِوَزْنٍ» . وَلَا يَجُوزُ شِرَاءُ ثَوْبٍ مَنْسُوجٍ بِذَهَبٍ يَحْصُلُ مِنْهُ ذَهَبٌ مَقْصُودٌ عِنْدَ الْعَرْضِ عَلَى النَّارِ بِذَهَبٍ، وَيَجُوزُ بِالْفِضَّةِ، وَغَيْرِهَا. [فَصَلِّ الْمُتَعَامَلُونَ عَلَى الْأَطْعِمَة عَلَيْهِمْ التَّقَابُض فِي الْمَجْلِس] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْمُتَعَامِلُونَ عَلَى الْأَطْعِمَةِ فَعَلَيْهِمْ التَّقَابُضُ فِي الْمَجْلِسِ اخْتَلَفَ جِنْسُ الطَّعَامِ الْمَبِيعِ بِالْمُشْتَرَى، أَوْ لَمْ يَخْتَلِفْ، وَإِنْ اتَّحَدَ الْجِنْسُ فَعَلَيْهِمْ التَّقَابُضُ، وَمُرَاعَاةُ الْمُمَاثَلَةِ، وَالْمُعْتَادُ فِي هَذَا مُعَامَلَةُ الْقَصَّابِ بِأَنْ يُسَلِّمَ إلَيْهِ الْغَنَمَ، وَيَشْتَرِيَ بِهَا اللَّحْمَ نَقْدًا، أَوْ نَسِيئَةً، وَهُوَ حَرَامٌ «لِنَهْيِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ» . وَكَذَا الْخَبَّازُ بِأَنْ يُسَلِّمَ إلَيْهِ الْحِنْطَةَ

فصل ترويج الصيارف الدراهم المزيفة على الناس

وَيَشْتَرِيَ بِهَا الْخُبْزَ نَسِيئَةً، أَوْ نَقْدًا فَهُوَ حَرَامٌ، وَكَذَا مُعَامَلَةُ الْعَصَّارُ إذَا سَلَّمَ إلَيْهِ السِّمْسِمَ، أَوْ الزَّيْتُونَ لِيَأْخُذَ مِنْهُ الْأَدْهَانَ فَهُوَ حَرَامٌ، وَكَذَا اللَّبَّانِ يُعْطَى اللَّبَنَ لِيُؤْخَذَ مِنْهُ الْجُبْنُ، وَالسَّمْنُ، وَالزُّبْدُ، وَسَائِرُ أَجْزَاءِ اللَّبَنِ فَهُوَ حَرَامٌ. وَلَا يُبَاعُ الطَّعَامُ بِغَيْرِ جِنْسِهِ إلَّا نَقْدًا، أَوْ بِجِنْسِهِ إلَّا نَقْدًا مُتَمَاثِلًا، أَوْ مُتَفَاضِلًا فَلَا يُبَاعُ بِالْحِنْطَةِ دَقِيقٌ، وَلَا خُبْزٌ، وَلَا سَوِيقٌ، وَلَا بِالْعِنَبِ دِبْسٌ، وَخَلٌّ، وَعَصِيرٌ، وَلَا بِاللَّبَنِ سَمْنٌ، وَزُبْدٌ، وَمَخِيضٌ، وَجُبْنٌ، وَالْمُمَاثَلَةُ لَا تُفِيدُ إذَا لَمْ يَكُنْ الطَّعَامُ فِي حَالِ كَمَالِ الِادِّخَارِ فَلَا يُبَاعُ الرُّطَبُ بِالرُّطَبِ، وَالْعِنَبُ بِالْعِنَبِ مُمَاثِلًا، وَمُتَفَاضِلًا، فَهَذِهِ جُمْلَةٌ مُقْنِعَةٌ فِي تَعْرِيفِ الْبَيْعِ، وَالتَّنْبِيهِ عَلَى مَا يُشْعِرُ التَّاجِرَ بِمُثَارَاتِ الْفَسَادِ حَتَّى يَسْتَفْتِيَ فِيهَا إذَا تَشَكَّكَ، وَالْتَبَسَ عَلَيْهِ، وَإِذَا لَمْ يَعْرِفْ هَذَا لَمْ يَفْتَطِنْ لِمَوَاضِعِ السُّؤَالِ، وَاقْتَحَمَ الرِّبَا، وَالْحَرَامَ، وَهُوَ لَا يَدْرِي. [فَصَلِّ تَرْوِيج الصَّيَارِف الدَّرَاهِم الْمُزَيَّفَة عَلَى النَّاس] (فَصْلٌ) : تَرْوِيجُ الصَّيَارِفِ الدَّرَاهِمَ الْمُزَيَّفَةَ عَلَى النَّاسِ ظُلْمٌ يَسْتَضِرُّ بِهِ الْمُعَامِلُونَ إذَا لَمْ يَعْرِفُوا نَقْدَ الْبَلَدِ فَعَلَى الْمُحْتَسِبِ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِقَصِّهَا، وَتَغْيِيرِهَا عَنْ هَيْئَتِهَا، وَأَنْ لَا يَغُشُّوا النَّاسَ بِهَا بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ التَّعَامُلُ بِهَا. الثَّانِي: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى التَّاجِرِ تَعَلُّمِ النَّقْدِ لَا لِيَسْتَقْصِيَ لِنَفْسِهِ، وَلَكِنْ لِئَلَّا يُسَلِّمَ إلَى مُسْلِمٍ زَائِفًا، وَهُوَ لَا يَدْرِي فَيَكُونُ آثِمًا بِتَقْصِيرِهِ فِي تَعَلُّمِ ذَلِكَ الْعِلْمِ فَكُلُّ عِلْمٍ عُمِلَ بِهِ يَتِمُّ نُصْحُ الْمُسْلِمِينَ فَيَجِبُ تَحْصِيلُهُ، وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ يَتَعَلَّمُونَ عَلَامَاتِ النَّقْدِ نَظَرًا لِدِينِهِمْ لَا لِدُنْيَاهُمْ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ

إنْ سَلَّمَ، وَعَرَّفَ الْمُعَامَلَ أَنَّهُ زَائِفٌ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ الْإِثْمِ فَإِنَّهُ لَيْسَ يَأْخُذُهُ إلَّا لِيُرَوِّجَهُ عَلَى غَيْرِهِ، وَلَا يُخْبِرُهُ، وَلَوْ لَمْ يَعْزِمْ عَلَى ذَلِكَ لَكَانَ لَا يَرْغَبُ فِي أَخْذِهِ أَصْلًا فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ وِزْرُ الْكُلِّ عَلَيْهِ، وَوَبَالُهُ رَاجِعًا إلَيْهِ فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي فَتَحَ ذَلِكَ الْبَابَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعُمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا، وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا لَا يَنْقُصُ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ» . وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنْفَاقُ دِرْهَمٍ زَائِفٍ أَشَدُّ مِنْ سَرِقَةِ مِائَةِ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّ السَّرِقَةَ مَعْصِيَةٌ وَاحِدَةٌ، وَقَدْ تَمَّتْ، وَانْقَطَعَتْ، وَإِنْفَاقُ الزَّائِفِ بِدْعَةٌ تَظْهَرُ فِي الدِّينِ، وَسُنَّةٌ سَيِّئَةٌ يُعْمَلُ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ فَيَكُونُ وِزْرُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ إلَى مِائَةِ سَنَةٍ، أَوْ إلَى مِائَتِي سَنَةٍ، إلَى أَنْ يَفْنَى ذَلِكَ الدِّرْهَمُ، وَيَكُونَ عَلَيْهِ وِزْرُ مَا فَسَدَ، وَنَقَصَ مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِذَلِكَ الزَّائِفِ. الرَّابِعُ: أَنَّ الزَّائِفَ نَعْنِي بِهِ مَا لَا نُقْرَةَ فِيهِ أَصْلًا بَلْ هُوَ مُمَوَّهٌ فَإِنْ كَانَ مَخْلُوطًا بِالنُّحَاسِ، وَهُوَ نَقُدْ الْبَلَدِ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُعَامَلَةِ بِهِ، وَقَدْ رَأَيْنَا الرُّخْصَةَ فِيهِ إذَا كَانَ ذَلِكَ نَقْدَ الْبَلَدِ سَوَاءٌ عُلِمَ مِقْدَارُ النُّقْرَةِ، أَوْ لَمْ يُعْلَمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَقْدُ الْبَلَدِ لَمْ يَجُزْ إلَّا إذَا عُلِمَ قَدْرُ النُّقْرَةِ فَإِنْ كَانَ فِي مَالِهِ قِطْعَةٌ نُقْرَتُهَا نَاقِصَةٌ عَنْ نَقْدِ الْبَلَدِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُخْبِرَ بِهِ مُعَامِلَهُ، وَأَلَّا يُعَامِلَ بِهِ مَنْ يَسْتَحِلُّ التَّرْوِيجَ فِي جُمْلَةِ النَّقْدِ بِطَرِيقِ التَّلْبِيسِ فَأَمَّا مَنْ يَسْتَحِلُّ ذَلِكَ فَتَسْلِيمُهُ إلَيْهِ تَسْلِيطٌ لَهُ عَلَى الْفَسَادِ فَهُوَ كَبَيْعِ الْعِنَبِ مِمَّنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا، وَذَلِكَ مَحْظُورٌ، وَإِعَانَتُهُ عَلَى الشَّرِّ مُشَارَكَةٌ فِيهِ، وَسُلُوكُ طَرِيقِ الْحَقِّ بِأَمْثَالِ هَذَا فِي التِّجَارَةِ أَشَدُّ مِنْ الْمُوَاظَبَةِ عَلَى نَوَافِلِ الْعِبَادَةِ.

فصل يحرم على التاجر أن يثني على السلعة ويصفها بما ليس فيها

[فَصَلِّ يُحَرِّم عَلَى التَّاجِر أَنْ يُثْنِي عَلَى السِّلْعَة وَيَصِفهَا بِمَا لَيْسَ فِيهَا] (فَصْلٌ) : وَيَحْرُمُ عَلَى التَّاجِرِ أَنْ يُثْنِيَ عَلَى السِّلْعَةِ، وَيَصِفَهَا بِمَا لَيْسَ فِيهَا فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ تَلْبِيسٌ، وَظُلْمٌ مَعَ كَوْنِهِ كَذِبًا، وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ فَهُوَ كَذِبٌ، وَإِسْقَاطُ مُرُوءَةٍ إذْ الْكَذِبُ الَّذِي يُرَوَّجُ قَدْحٌ لَا يَقْدَحُ فِي ظَاهِرِ الْمُرُوءَةِ، وَإِنْ أَثْنَى عَلَى السِّلْعَةِ بِمَا فِيهَا فَهُوَ هَذَيَانٌ، وَتَكَلُّمٌ بِكَلَامٍ لَا يَعْنِيهِ، وَهُوَ مُحَاسَبٌ عَلَى كُلِّ كَلِمَةٍ تَصْدُرُ مِنْهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18] إلَّا أَنْ يُثْنِيَ عَلَى السِّلْعَةِ بِمَا فِيهَا مِمَّا لَا يَعْرِفُهُ الْمُشْتَرِي مَا لَمْ يَذْكُرْهُ كَمَا يَصِفُهُ مِنْ خَفِيِّ أَخْلَاقِ الْعَبِيدِ، وَالْجَوَارِي، وَالدَّوَابِّ فَلَا بَأْسَ بِذَكَرِ الْقَدْرِ الْمَوْجُودِ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ مُبَالَغَةٍ، وَإِطْنَابٍ، وَلَكِنَّ قَصْدَهُ مِنْهُ أَنْ يَعْرِفَهُ أَخُوهُ الْمُسْلِمُ فَيَرْغَبُ فِيهِ، وَتَنْقَضِي بِسَبَبِهِ حَاجَتُهُ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَحْلِفَ عَلَيْهِ أَلْبَتَّةَ فَإِنَّهُ إنْ كَانَ كَاذِبًا فَقَدْ جَاءَ بِالْيَمِينِ الْغَمُوسِ، وَهِيَ مِنْ الْكَبَائِرِ الَّتِي تَذَرُ الدِّيَارَ بَلَاقِعَ، وَإِنْ كَانَ صَادِقًا فَقَدْ جَعَلَ اللَّهَ تَعَالَى عُرْضَةً لِأَيْمَانِهِ، وَقَدْ أَسَاءَ فِيهِ إذْ الدُّنْيَا أَخَسُّ مِنْ أَنْ يَقْصِدَ تَرْوِيجَهَا بِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ فَقَدْ وَرَدَ فِي الْخَبَرِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إنَّ «الْيَمِينَ الْكَاذِبَةَ مَنْفَقَةٌ لِلسِّلْعَةِ مَمْحَقَةٌ لِلْمَكْسَبِ» . وَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «ثَلَاثَةٌ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غَنِيٌّ مُسْتَكْبِرٌ، وَمَنَّانٌ بِعَطِيَّتِهِ، وَمُنْفِقٌ سِلْعَةً بِيَمِينِهِ» . وَإِذَا كَانَ الثَّنَاءُ عَلَى السِّلْعَةِ مَعَ الصِّدْقِ مَكْرُوهًا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ فُضُولٌ لَا يَزِيدُ فِي الرِّزْقِ، وَلَا يَخْفَى التَّغْلِيظُ فِي أَمْرِ الْيَمِينِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ الْأُبُلِّيِّ، وَكَانَ خَزَّازًا أَنَّهُ طُلِبَ مِنْهُ خَزٌّ لِلشِّرَاءِ فَأَخْرَجَ غُلَامُهُ سَفَطَ الْخَزِّ فَنَشَرَهُ، وَنَظَرَ إلَيْهِ، وَقَالَ اللَّهُمَّ اُرْزُقْنَا الْجَنَّةَ فَقَالَ لِغُلَامِهِ رُدَّهُ إلَى مَكَانِهِ، وَلَمْ يَبِعْهُ، وَخَافَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ تَعْرِيضًا لِلثَّنَاءِ عَلَى السِّلْعَةِ فَمِثْلُ هَؤُلَاءِ هُمْ الَّذِينَ اتَّجَرُوا فِي الدُّنْيَا، وَلَمْ يُضَيِّعُوا

فصل السلم الفاسد

دِينَهُمْ فِي تِجَارَتِهِمْ بَلْ عَلِمُوا أَنَّ رِبْحَ الْآخِرَةِ، أَوْلَى بِالطَّلَبِ مِنْ رِبْحِ الدُّنْيَا. [فَصَلِّ السَّلَم الْفَاسِد] (فَصْلٌ) : فِي السَّلَمِ الْفَاسِدِ وَلْيُرَاعِ التَّاجِرُ فِيهِ عَشْرَةَ شُرُوطٍ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَالِ مَعْلُومًا عِلْمَ مِثْلِهِ حَتَّى لَوْ تَعَذَّرَ تَسْلِيمُ الْمُسَلَّمِ فِيهِ أَمْكَنَ الرُّجُوعُ إلَى رَأْسِ الْمَالِ فَإِنْ أَسْلَمَ كَفًّا مِنْ الدَّرَاهِمِ جُزَافًا فِي كُرِّ حِنْطَةٍ لَمْ يَصِحَّ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ. الثَّانِي: أَنْ يُسَلِّمَ رَأْسَ الْمَالِ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ قَبْلَ التَّفَرُّقِ فَلَوْ تَفَرَّقَا قَبْلَ الْقَبْضِ انْفَسَخَ السَّلَمُ. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمُسَلَّمُ فِيهِ مِمَّا يُمْكِنُ تَعْرِيفُ، أَوْصَافِهِ كَالْحُبُوبِ، وَالْحَيَوَانَاتِ، وَالْمَعَادِنِ، وَالْقُطْنِ، وَالصُّوفِ، وَالْإِبْرَيْسَمِ، وَالْأَلْبَانِ، وَاللُّحُومِ، وَمَتَاعِ الْعَطَّارِ، وَأَشْبَاهِهَا، وَلَا يَجُوزُ فِي الْمَعْجُونَاتِ، وَالْمُرَكَّبَاتِ، وَمَا يَخْتَلِفُ أَجْزَاؤُهُ كَالْقِسِيِّ الْمَصْنُوعَةِ، وَالنَّبْلِ الْمَعْمُولِ، وَالْخِفَافِ، وَالنِّعَالِ الْمُخْتَلِفَةِ أَجْزَاؤُهَا، وَصَنْعَتُهَا، وَجُلُودِ الْحَيَوَانَاتِ، وَيَجُوزُ السَّلَمُ فِي الْخُبْزِ، وَمَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ مِنْ اخْتِلَافِ قَدْرِ الْمِلْحِ، وَالْمَاءِ بِكَثْرَةِ الطَّبْخِ، وَقِلَّتِهِ - يُعْفَى عَنْهُ، وَيُتَسَامَحُ فِيهِ. الرَّابِع: أَنْ يَسْتَقْصِيَ وَصْفَ هَذِهِ الْأُمُورِ الْقَابِلَةِ لِلْوَصْفِ حَتَّى لَا يَبْقَى وَصْفٌ تَتَفَاوَتُ بِهِ الْقِيمَةُ تَفَاوُتًا لَا يَتَغَابَنُ بِهِ إلَّا ذَكَرَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ الْوَصْفَ هُوَ الْقَائِمُ مَقَامَ الرُّؤْيَةِ. الْخَامِسُ: أَنْ يَجْعَلَ الْأَجَلَ مَعْلُومًا إنْ كَانَ مُؤَجَّلًا فَلَا يُؤَجِّلُ إلَى الْحَصَادِ، أَوْ إلَى إدْرَاكِ الثِّمَارِ بَلْ إلَى الْأَشْهُرِ، وَالْأَيَّامِ فَإِنَّ الْإِدْرَاكَ قَدْ يَتَقَدَّمُ، وَيَتَأَخَّرُ. السَّادِسُ: أَنْ يَكُونَ الْمُسَلَّمُ فِيهِ مِمَّا يُقْدَرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ، وَقْتَ الْمَحَلِّ يُؤْمَنُ فِيهِ وُجُودُهُ غَالِبًا فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُسَلَّمَ فِي الْعِنَبِ إلَى أَجَلٍ لَا يُدْرَكُ فِيهِ، وَكَذَا سَائِرِ الْفَوَاكِهِ فَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ وُجُودُهُ، وَجَاءَ الْمَحَلُّ، وَعَجَزَ عَنْ التَّسْلِيمِ بِسَبَبِ

فصل في الإجارة

آفَةٍ فَلَهُ أَنْ يُمْهِلَهُ إنْ شَاءَ، أَوْ يَفْسَخَ، وَيَرْجِعَ فِي رَأْسِ الْمَالِ إنْ شَاءَ. السَّابِعُ: أَنْ يَذْكُرَ مَكَانَ التَّسْلِيمِ فِيمَا يَخْتَلِفُ الْغَرَضُ فِيهِ كَيْ لَا يُنْشِئَ ذَلِكَ نِزَاعًا. الثَّامِنُ: أَنْ لَا يُعَلِّقَهُ بِمُعَيَّنٍ، فَيَقُولُ: مِنْ حِنْطَةِ هَذَا الْبَيْتِ، أَوْ ثَمَرَةِ هَذَا الْبُسْتَانِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُبْطِلُ كَوْنَهُ دَيْنًا نَعَمْ لَوْ أَضَافَ إلَى ثَمَرَةِ بَلَدٍ، أَوْ قَرْيَةٍ كَبِيرَةٍ لَمْ يَضُرَّ ذَلِكَ. التَّاسِعُ: أَنْ لَا يُسَلَّمَ فِي شَيْءٍ نَفِيسٍ عَزِيزِ الْوُجُودِ، مِثْلُ دُرَّةٍ مَوْصُوفَةٍ يَعِزُّ مِثْلُهَا، أَوْ جَارِيَةٍ حَسْنَاءَ مَعَهَا، وَلَدُهَا، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَالِبًا. الْعَاشِرُ: أَنْ لَا يُسَلَّمَ فِي طَعَامٍ مَهْمَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ طَعَامًا سَوَاءً كَانَ مِنْ جِنْسِهِ، أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَلَا سَلَمَ فِي نَقْدٍ إذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ نَقْدًا، وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا فِي فَصْلِ الرِّبَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصَلِّ فِي الْإِجَارَة] (فَصْلٌ فِي الْإِجَارَةِ) وَلَهُ ثَلَاثَةُ أَرْكَانٍ: الْأُجْرَةُ، وَالْمَنْفَعَةُ، وَالْعَمَلُ، فَأَمَّا الْعَاقِدُ، وَاللَّفْظُ فَيُعْتَبَرُ فِيهِ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْبَيْعِ، وَالْأُجْرَةِ كَالثَّمَنِ فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الْمَنْفَعَةُ الْمَقْصُودَةُ بِالْإِجَارَةِ هِيَ الْعَمَلُ وَحْدَهُ. الرُّكْنُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ مُتَقَوِّمًا بِأَنْ يَكُونَ فِيهِ كُلْفَةٌ، وَتَعَبٌ فَلَوْ اسْتَأْجَرَ بَيَّاعًا عَلَى أَنْ يَتَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ يُرَوِّجُ بِهَا سِلْعَتَهُ لَمْ يَجُزْ، وَمَا يَأْخُذُهُ الْبَيَّاعُونَ عِوَضًا عَنْ جَاهِهِمْ وَحِشْمَتِهِمْ، وَقَبُولِ قَوْلِهِمْ فِي تَرْوِيجِ السِّلْعَةِ فَهُوَ حَرَامٌ إذْ لَيْسَ يَصْدُرُ مِنْهُمْ إلَّا كَلِمَةٌ لَا تَعَبَ فِيهَا، وَلَا قِيمَةَ لَهَا، وَإِنَّمَا يَحِلُّ لَهُمْ ذَلِكَ إذَا تَعِبُوا إمَّا بِكَثْرَةِ التَّرَدُّدِ، أَوْ بِكَثْرَةِ الْكَلَامِ فِي تَأْلِيفِ أَمْرِ الْمُعَامَلَةِ ثُمَّ لَا يَسْتَحِقُّونَ إلَّا أُجْرَةَ الْمِثْلِ فَأَمَّا مَا تَوَاطَأَ عَلَيْهِ الْبَاعَةُ فَهُوَ ظُلْمٌ، وَلَيْسَ مَأْخُوذًا بِالْحَقِّ. الرُّكْنُ الثَّانِي: مَا يُحَرِّمُ الشَّرْعُ فِعْلَهُ يُمْنَعُ مِنْهُ كَالِاسْتِئْجَارِ عَلَى قَلْعِ سِنٍّ سَلِيمَةٍ، أَوْ قَطْعِ عُضْوٍ لَا يُرَخِّصُ الشَّرْعُ فِي قَطْعِهِ، أَوْ اسْتِئْجَارِ الْحَائِضِ عَلَى كَنْسِ

فصل الشركة الباطلة وأنواعها

الْمَسْجِدِ، أَوْ الْمُعَلَّمِ عَلَى تَعْلِيمِ السِّحْرِ، أَوْ الْفُحْشِ. وَلَوْ اسْتَأْجَرَ السَّلَّاخَ عَلَى السَّلْخِ، وَجَعَلَ الْإِجَارَةَ الْجِلْدَ فَهُوَ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ عَمَلَهُ صَادَفَ عَلَى اللَّحْمِ، وَالْجِلْدِ فَيَكُونُ عَامِلًا لَهُ؛ وَلِأَنَّهُ يَصِيرُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا فَيُصَادِفُ عَمَلُهُ مِلْكَ نَفْسِهِ، وَكَذَا إذَا اسْتَأْجَرَ حَامِلَ الْجِيفَةِ عَلَى حَمْلِهَا، وَيَجْعَلُ أُجْرَتَهُ جِلْدَهَا فَهُوَ بَاطِلٌ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَلِأَنَّ جِلْدَ الْمَيْتَةِ نَجِسٌ لَا يُبَاعُ، وَكَذَا إذَا اسْتَأْجَرَ عَلَى نَخْلِ الدَّقِيقِ، وَأُجْرَتُهُ النُّخَالَةُ، وَكَذَلِكَ إذَا يَسْتَأْجِرُ عَلَى الطَّحْنِ، وَأُجْرَتُهُ جُزْءٌ مِنْ الدَّقِيقِ، وَيَسْتَنِدُ الْمَذْهَبُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ إلَى «نَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ قَفِيزِ الطَّحَّانِ» ، وَهُوَ اسْتِئْجَارُهُ بِقَفِيزٍ مِنْ الدَّقِيقِ، وَيَجْرِي ذَلِكَ فِي النُّخَالَةِ، وَجِلْدِ الْمَسْلُوخَةِ. وَكَذَا لَوْ اسْتَأْجَرَ تُفَّاحَةً لِلشَّمِّ كَانَ ذَلِكَ فَاسِدًا؛ لِأَنَّهُ لَا قِيمَةَ لَهُ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَ دَرَاهِمَ لِيُزَيِّنَ بِهَا حَانُوتَهُ لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ التَّزْيِينَ مَعْنَاهُ أَنْ يَرَى أَنَّهُ مِلْكُهُ، وَهُوَ تَلْبِيسٌ لَا يُبْذَلُ الْمَالُ لِأَجْلِهِ شَرْعًا، وَهُوَ تَوْجِيهُ مَنْعِ الْإِجَارَةِ، وَكَذَا لَوْ اسْتَأْجَرَ طَعَامًا لِيُزَيِّنَ بِهِ حَانُوتَهُ لَمْ يَصِحَّ، وَاسْتُشْهِدَ بِهَا فِي تَوْجِيهِ الْإِفْسَادِ فِي الدَّرَاهِمِ، وَكَذَا اسْتِئْجَارُ الْمُصَوِّرِ عَلَى صُوَرِ الْحَيَوَانَاتِ، أَوْ اسْتِئْجَارُ الصَّائِغِ عَلَى صَنْعَةِ الْأَوَانِي مِنْ الذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ فَكُلُّ ذَلِكَ بَاطِلٌ. الثَّالِثُ: أَنْ لَا يَكُونَ الْعَمَلُ، وَاجِبًا عَلَى الْأَجِيرِ، وَلَا يَكُونُ بِحَيْثُ تَجْرِي فِيهِ النِّيَابَةُ عَنْ الْمُسْتَأْجِرِ، وَيَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى الْحَجِّ، وَغَسْلِ الْمَيِّتِ، وَحَفْرِ الْقُبُورِ، وَدَفْنِ الْمَوْتَى، وَحَمْلِ الْجَنَائِزِ، وَفِي أَخْذِ الْأُجْرَةِ عَلَى إمَامَةِ صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ، وَعَلَى الْآذَانِ، وَعَلَى التَّصَدِّي لِلتَّدْرِيسِ، أَوْ إقْرَاءِ الْقُرْآنِ خِلَافٌ، أَمَّا الِاسْتِئْجَارُ عَلَى تَعْلِيمِ مَسْأَلَةٍ بِعَيْنِهَا، أَوْ تَعْلِيمِ سُورَةٍ بِعَيْنِهَا لِشَخْصٍ مُعَيَّنٍ فَصَحِيحٌ. [فَصَلِّ الشَّرِكَة الْبَاطِلَة وَأَنْوَاعهَا] (فَصْلٌ) : وَيُمْنَعُ مِنْ الشَّرِكَةِ الْبَاطِلَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: الْأَوَّلُ: شَرِكَةُ الْمُفَاوَضَةِ، وَهُوَ أَنْ لَا يَخْلِطَا مَالَيْهِمَا، وَلَكِنْ يَقُولَا تَفَاوَضْنَا فِي

الباب السابع فيما يحرم على الرجال استعماله وما لا يحرم

الْمَغْنَمِ، وَالْمَغْرَمِ فَهَذَا بَاطِلٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هِيَ صَحِيحَةٌ بِشَرْطِ اسْتِوَاءِ حَالِ الشَّرِيكَيْنِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَا مُسْلِمَيْنِ، أَوْ كَافِرَيْنِ، أَوْ حَرْبِيَّيْنِ قَالَ الشَّافِعِيُّ: - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَوْ صَحَّتْ شَرِكَةُ الْمُفَاوَضَةِ لَمَا فَسَدَتْ مُعَاوَضَةٌ، وَذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ وُجُوهِ الْفَسَادِ ذَكَرَهَا أَئِمَّةُ الْخِلَافِ. النَّوْعُ الثَّانِي شَرِكَةُ الْأَبَدَانِ، وَهِيَ شَرِكَةُ الْحَمَّالِينَ، وَالدَّلَّالِينَ، وَهُوَ أَنْ يَتَشَارَكَا الِاشْتِرَاكَ فِي أُجْرَةِ الْعَمَلِ، وَهِيَ بَاطِلَةٌ عِنْدَنَا خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ. النَّوْعُ الثَّالِثُ: شَرِكَةُ الْوُجُوهِ، وَهِيَ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ، وَجِيهًا مَعْرُوفًا عِنْدَ التُّجَّارِ فَيَكُونُ مِنْ جِهَتِهِ التَّنْفِيذُ، وَمِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ الْعَمَلُ فَهَذَا أَيْضًا بَاطِلٌ. [الْبَاب السَّابِع فِيمَا يُحَرِّم عَلَى الرِّجَال اسْتِعْمَاله وَمَا لَا يُحَرِّم] يَحْرُمُ عَلَى الرِّجَالِ لُبْسُ الْحَرِيرِ، وَالذَّهَبِ مُطْلَقًا إلَّا فِي اتِّخَاذِ أَنْفِ مَنْ جُدِعَ أَنْفُهُ فَإِنَّهُ لَا يُصَدَّى فَقَدْ أَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا بَأْسَ بِتَمْوِيهِ الْخَاتَمِ بِذَهَبٍ لَا يَتَحَصَّلُ مِنْهُ شَيْءٌ، وَأَمَّا أَسْنَانُ الْخَاتَمِ مِنْ الذَّهَبِ فَحَرَامٌ قَالَ الْإِمَامُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يُشَبَّهَ بِضَبَّةِ الْإِنَاءِ، وَيُجَنَّبَ دِيبَاجٌ عَلَى ثَوْبٍ، وَهَذَا حُكْمُ طِرَازِ الذَّهَبِ إذَا حَصَلَ مِنْهُ شَيْءٌ، أَمَّا الْفِضَّةُ فَيَحِلُّ التَّخَتُّمُ بِهِ، وَتَحْلِيَةُ آلَاتِ الْحَرْبِ مِنْ السَّيْفِ، وَالسِّنَّانِ، وَالْمِنْطَقَةِ، وَفِي تُرْسِ السَّرْجِ، وَاللِّجَامِ، وَجْهَانِ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ آلَاتِ الْحَرْبِ. أَمَّا لُبْس الْحَرِيرِ، وَالتَّخَتُّمُ بِالذَّهَبِ لِلصَّبِيِّ، أَوْ غَيْرِ مُمَيَّزٍ فَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مُنْكَرٌ

فِي حَقِّهِ، وَيَجِبُ نَزْعُهُ مِنْهُ إنْ كَانَ مُمَيِّزًا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هَذَانِ حَرَامَانِ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي حَلَالَانِ لِإِنَاثِهَا» ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُمَيِّزٍ فَهَذَا يُضَعَّفُ مَعْنَى التَّحْرِيمِ فِي حَقِّهِ، نَعَمْ يَحِلُّ التَّزَيُّنُ بِالذَّهَبِ، وَالْحَرِيرِ لِلنِّسَاءِ مِنْ غَيْرِ إسْرَافٍ، وَهُوَ حَلَالٌ لَهُنَّ أَعْنِي الذَّهَبَ، وَالْحَرِيرَ، أَمَّا مَا لَا يَخْتَصُّ بِالرِّجَالِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْأُولَى: اتِّخَاذُ الْأَوَانِي مِنْ الذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ حَرَامٌ مُطْلَقًا، وَفِي الْمُكْحَلَةِ الصَّغِيرَةِ تَرَدُّدٌ. الثَّانِيَةُ: سَكَاكِينُ الْمِهْنَةِ إذَا حُلِّيَتْ بِالْفِضَّةِ، وَاسْتِعْمَالُ الرِّجَالِ لَهَا فِيهِ تَرَدُّدٌ، وَوَجْهُ الْجَوَازِ يُشَبَّهُ بِآلَاتِ الْحَرْبِ. الثَّالِثَةُ: تَحْلِيَةُ الْمُصْحَفِ بِالْفِضَّةِ وَجْهَانِ، وَوَجْهُ الْجَوَازِ حَمْلُهُ عَلَى الْإِكْرَامِ، وَفِي الذَّهَبِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، وَفِي الثَّالِثِ يُفَرَّقُ بَيْنَ الرِّجَالِ، وَالنِّسَاءِ فَأَمَّا غَيْرُ الْمُصْحَفِ مِنْ الْكُتُبِ فَلَمْ يَجُزْ تَحْلِيَتُهَا بِذَهَبٍ، وَلَا فِضَّةٍ كَمَا لَا يَجُوزُ تَحْلِيَةُ الدَّوَاةِ، وَالسِّكِّينِ، وَالْمِقْلَمَةِ، وَذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ فِي مُخْتَصَرِ الْمُخْتَصَرِ تَجْوِيزَ تَحْلِيَةِ الدَّوَاةِ، وَهَذَا يُوجِبُ الْجَوَازَ فِي الْمِقْلَمَةِ، وَسَائِرِ الْكُتُبِ، وَهُوَ مُنْقَدِحٌ فِي الْمَعْنَى إذْ لَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ لَمْ يَثْبُتْ فِي الْفِضَّةِ تَحْرِيمٌ إلَّا فِي الْأَوَانِي، وَأَصْلُهُ عَلَى الْإِبَاحَةِ. الرَّابِعَةُ: تَحْلِيَةِ الْكَعْبَةِ، وَالْمَسَاجِدِ بِقَنَادِيلِ الذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ، مَمْنُوعٌ. هَكَذَا نَقَلَهُ الْعِرَاقِيُّونَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، وَلَا يَبْعُدُ مُخَالَفَتُهُ حَمْلًا عَلَى الْإِكْرَامِ كَمَا فِي الْمُصْحَفِ، وَيَحْرُمُ عَلَى الرِّجَالِ فُرُشُ الْحَرِيرِ، وَكَذَا التَّبَخُّرُ فِي مِجْمَرَةِ الْفِضَّةِ، أَوْ الذَّهَبِ، أَوْ الشُّرْبُ فِي آوَانِيهِمَا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الَّذِي يَشْرَبُ فِي آوَانِي الذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ إنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي جَوْفِهِ نَارَ جَهَنَّمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ، أَوْ اشْتِعَالُ مَاءِ الْوَرْدِ فِي قَمَاقِمِ الذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ حَرَامٌ، وَكَذَا بَيْعُ ثِيَابِ الْحَرِيرِ، وَقَلَانِسِ الذَّهَبِ يَعْنِي مَا لَا يَصْلُحُ إلَّا لِلرِّجَالِ، وَيُعْلَمُ بِعَادَةِ الْبَلَدِ أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ إلَّا لِلرِّجَالِ فَمَحْظُورٌ شَرْعًا.

الباب الثامن في الحسبة على منكرات الأسواق

[الْبَاب الثَّامِن فِي الْحَسَبَة عَلَى مُنْكَرَات الْأَسْوَاق] أَمَّا الطُّرُقَاتُ الضَّيِّقَةُ فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ مِنْ السُّوقَةِ الْجُلُوسُ فِيهَا، وَلَا إخْرَاجُ مِصْطَبَةِ دُكَّانِهِ عَنْ سَمْتِ أَرْكَانِ السَّقَائِفِ إلَى الْمَمَرِّ؛ لِأَنَّهُ عُدْوَانٌ، وَيُضَيِّقُ عَلَى الْمَارَّةِ فَيَجِبُ عَلَى الْمُحْتَسِبِ إزَالَتُهُ، وَالْمَنْعُ مِنْ فِعْلِهِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ لُحُوقِ الضَّرَرِ بِالنَّاسِ ، وَكَذَا إخْرَاجُ الْفَوَاصِلِ، وَالْأَجْنِحَةِ، وَغَرْسُ الْأَشْجَارِ، وَنَصْبُ الدَّكَّةِ فِي الطُّرُقِ الضَّيِّقَةِ مُنْكَرٌ يَجِبُ الْمَنْعُ مِنْهُ أَمَّا إذَا نَصَبَ دَكَّةً عَلَى بَابِ الدَّارِ، وَغَرَسَ شَجَرَةً فَمِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ مَنْ قَالَ ذَلِكَ جَائِزٌ إذَا لَمْ يَتَضَرَّرْ بِهِ الْمَارَّةُ ثُمَّ قَالُوا لَا يَخْتَصَّ بِفِنَاءِ دَارِهِ بَلْ لَوْ تَبَاعَدَ جَازَ، وَإِلَيْهِ قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ لَا يَجُوزُ الْغِرَاسُ فِي الشَّارِعِ، وَالدَّكَّةُ الْمُرْتَفِعَةُ فِي مَعْنَاهَا، وَلَا نَظَرَ إلَى اتِّسَاعِ الطَّرِيقِ، وَتَضَايُقِهَا فَإِنَّ الرِّفَاقَ قَدْ تَصْطَدِمُ لَيْلًا، وَيَزْدَحِمُ أَسْرَابُ الْبَهَائِمِ، وَيَنْضَمُّ إلَيْهِ أَنَّهُ قَدْ يَلْتَبِسُ عَلَى طُولِ الزَّمَانِ مَحَلُّ الْبِنَاءِ، وَالْغِرَاسِ، وَيَنْقَطِعُ أَثَرُ اسْتِحْقَاقِ الطُّرُقِ، وَخَرَجَ مِنْ هَذَا أَنَّ الشَّوَارِعَ مُشْتَرَكَةٌ كَالْمَوَاتِ إلَّا أَنَّ فِيهَا اسْتِحْقَاقَ الطُّرُقِ فَلَا يَجُوزُ إحْيَاؤُهَا، وَالْبِنَاءُ فِيهَا بِخِلَافِ الْمَوَاتِ، وَكَذَا كُلُّ مَا فِيهِ أَذِيَّةٌ، وَإِضْرَارٌ عَلَى السَّالِكِينَ، وَكَذَلِكَ رَبْطُ الدَّوَابِّ عَلَى الطُّرُقِ بِحَسَبِ تَضَيُّقِ الطَّرِيقِ، وَانْحِبَاسِ الْمُجْتَازِينَ مُنْكَرٌ يَجِبُ الْمَنْعُ مِنْهُ

فصل للمحتسب أن يمنع أحمال الحطب والشوك وروايا الماء ونحوهم من دخول السوق

إلَّا بِقَدْرِ حَاجَةِ النُّزُولِ، وَالرُّكُوبِ؛ لِأَنَّ الشَّوَارِعَ مُشْتَرَكَةُ الْمَنْفَعَةِ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَخْتَصَّ بِهَا إلَّا بِقَدْرِ الْحَاجَةِ. وَكَذَا طَرْحُ الْكُنَاسَةِ عَلَى جَوَازِ الطُّرُقِ، وَتَبْدِيدِ قُشُورِ الْبِطِّيخِ، أَوْ رَشِّ الْمَاءِ بِحَيْثُ يُخْشَى مِنْهُ التَّزَلُّقُ، وَالسُّقُوطُ، وَكَذَا إرْسَالُ الْمَاءِ مِنْ الْمَزَارِيبِ الْمُخْرَجَةِ مِنْ الْحَائِطِ إلَى الطُّرُقِ الضَّيِّقَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُنَجِّسُ الثِّيَابَ، وَيُضَيِّقُ الطُّرُقَ، وَكَذَا تَرْكُ مِيَاهِ الْمَطَرِ، وَالْأَوْحَالِ فِي الطُّرُقِ مِنْ غَيْرِ كَسْحٍ فَذَلِكَ كُلُّهُ مُنْكَرٌ، وَلَيْسَ يَخْتَصُّ بِهِ شَخْصٌ مُعَيَّنٌ فَعَلَى الْمُحْتَسِبِ أَنْ يُكَلِّفَ النَّاسَ بِالْقِيَامِ بِهَا. [فَصَلِّ لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَمْنَع أحمال الحطب والشوك وروايا الْمَاء ونحوهم مِنْ دُخُول السوق] (فَصْلٌ) : وَيَنْبَغِي لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَمْنَعَ أَحْمَالَ الْحَطَبِ، وَأَعْدَالَ التِّبْنِ، وَرَوَايَا الْمَاءِ، وَشَرَائِجَ السِّرْجِينِ، وَالرَّمَادِ، وَأَحْمَالَ الْحَلْفَاءِ، وَالشَّوْكِ بِحَيْثُ يُمَزِّقُ ثِيَابَ النَّاسِ فَذَلِكَ مُنْكَرٌ يُمْكِنُ شَدُّهَا، وَضَمُّهَا بِحَيْثُ لَا تُمَزِّقُ، مِنْ الْأَثْوَابِ شَيْئًا فَإِنْ أَمْكَنَ الْعُدُولُ بِهِ إلَى مَوْضِعٍ وَاسِعٍ، وَإِلَّا فَلَا مَنْعَ إذْ حَاجَةُ أَهْلِ الْبَلَدِ إلَيْهِ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ مِنْ الدُّخُولِ إلَى الْأَسْوَاقِ لِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ بِالنَّاسِ، وَيَأْمُرُ حَامِلِي الْحَطَبِ، وَالتِّبْنِ، وَالْبَلَاطِ، وَالْكِبْرِيتِ، وَاللِّفْتِ، وَالْبِطِّيخِ، وَالْقُرْطِ إذَا، وَقَفُوا فِي الْعِرَاصِ أَنْ يَضَعُوهَا عَنْ ظُهُورِ الدَّوَابِّ؛ لِأَنَّهَا إذَا، وَقَفَتْ، وَالْأَحْمَالُ عَلَيْهَا أَضَرَّتْهَا، وَكَانَ ذَلِكَ تَعْذِيبًا لَهَا، وَقَدْ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ تَعْذِيبِ الْحَيَوَانِ لِغَيْرِ مَأْكَلِهِ» ، وَيَأْمُرُ أَهْلَ الْأَسْوَاقِ بِكَنْسِهَا، وَتَنْظِيفِهَا مِنْ الْأَوْسَاخِ الْمُجْتَمَعَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَضُرُّ النَّاسَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا ضَرَرَ، وَلَا إضْرَارَ» . وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ التَّطَلُّعُ عَلَى الْجِيرَانِ مِنْ السُّطُوحَاتِ، وَالنَّوَافِذِ، وَلَا أَنْ يَجْلِسَ الرِّجَالُ فِي طُرُقَاتِ النِّسَاءِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ فَمَنْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ عَزَّرَهُ الْمُحْتَسِبُ.

الباب التاسع في معرفة القناطير والأرطال والمثاقيل والدراهم

[الْبَاب التَّاسِع فِي مُعْرِفَة الْقَنَاطِير وَالْأَرْطَال وَالْمَثَاقِيل وَالدَّرَاهِم] لَمَّا كَانَتْ هَذِهِ أُصُولُ الْمُعَامَلَاتِ، وَبِهَا اعْتِبَارُ الْمَبِيعَاتِ لَزِمَ الْمُحْتَسِبَ مَعْرِفَتُهَا، وَتَحْقِيقُهَا لِتَقَعَ الْمُعَامَلَةُ بِهَا عَلَى الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ، وَقَدْ اصْطَلَحَ أَهْلُ كُلِّ إقْلِيمٍ عَلَى أَرْطَالٍ تَتَفَاضَلُ فِي الزِّيَادَةِ، وَالنُّقْصَانِ، وَنَحْنُ نَذْكُرُ مِنْ ذَلِكَ مَا لَا يَسَعُ الْمُحْتَسِبَ جَهْلُهُ لِيَعْلَمَ تَفَاوُتَ الْأَسْعَارِ، وَأَمَّا الْقِنْطَارُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْكَرِيمِ فَقَدْ قَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ هُوَ أَلْفٌ، وَمِائَتَا أُوقِيَّةٍ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ، وَرَوَاهُ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَعَنْ الضَّحَّاكِ أَلْفٌ، وَمِائَتَا مِثْقَالٍ، وَرَوَاهُ الْحَسَنُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَالَ أَبُو نَصْرَةَ هُوَ مِلْءُ مَسْكِ ثَوْرٍ ذَهَبًا، أَوْ فِضَّةً، وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْقِنْطَارُ أَلْفُ دِينَارٍ» ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكِ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، أَوْ أَلْفُ دِينَارٍ دِيَةُ الرَّجُلِ الْمُسْلِمِ. وَعَنْ أَبِي صَالِح مِائَةُ رِطْلٍ، وَهُوَ الْمُتَعَارَفُ بَيْنَ النَّاسِ، وَالرِّطْلُ اثْنَا عَشَرَ أُوقِيَّةً، وَالْأُوقِيَّةُ اثْنَا عَشَرَ دِرْهَمًا هَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ لَكِنَّ الرِّطْلَ فِيهِ اخْتِلَافٌ كَثِيرٌ فِي الْأَمْصَارِ، وَالْبُلْدَانِ فَالرِّطْلُ الْحِجَازِيُّ مِائَةٌ، وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا وَالرِّطْلُ الْمِصْرِيُّ مِائَةٌ، وَأَرْبَعَةٌ، وَأَرْبَعُونَ دِرْهَمًا، وَالرِّطْلُ الْبَغْدَادِيُّ مِائَةٌ، وَثَلَاثُونَ دِرْهَمًا، وَالرِّطْلُ الدِّمَشْقِيُّ سِتُّمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَالرِّطْلُ الْحَمَوِيُّ سِتُّمِائَةٍ، وَسِتُّونَ دِرْهَمًا، وَالرِّطْلُ الْحَلَبِيُّ سَبْعُمِائَةٍ، وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا، وَالرِّطْلُ الْحِمْصِيُّ سَبْعُمِائَةٍ، وَأَرْبَعٌ

فصل مقدار المثقال

وَتِسْعُونَ دِرْهَمًا، وَالرِّطْلُ اللَّيْتِيُّ مِائَتَا دِرْهَمٍ، وَالرِّطْلُ الْجَرْوِيُّ ثَلَثُمِائَةٍ، وَاثْنَا عَشَرَ دِرْهَمًا، وَالرِّطْلُ الْحَرَّانِيُّ سَبْعُمِائَةٍ، وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا، وَالْعَجْلُونِيُّ، وَالرُّومِيُّ أَلْفٌ، وَمِائَتَا دِرْهَمٍ، وَالرِّطْلُ الْغَزَّاوِيُّ سَبْعُمِائَةٍ، وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا، وَالْقُدْسِيُّ، وَالْخَلِيلِيُّ، وَالنَّابُلُسِيُّ ثَمَانُ مِائَةِ دِرْهَمٍ، وَالْكُرْكِيُّ تِسْعُمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَفِي الْمَحِلَّاتِ أَرْطَالٌ مُخْتَلِفَةٌ فَالْمُتَعَامَلُ بِهَا فِي الْأَسْوَاقِ مَا يُذْكَرُ مَدِينَةُ قُوصُ لَهَا أَحْوَالُ رِطْلُ اللَّحْمِ، وَالْخُبْزِ، وَالْخُضَرِ ثَلَثُمِائَةٍ وَخَمْسَةَ عَشَرَ بَاقِي الْحَوَائِجِ ليتي مِائَتَا دِرْهَمٍ مَدِينَةُ أَسْيُوطَ مُخْتَلِفَةُ الْأَحْوَالِ فَالْخُبْزُ، وَاللَّحْمُ أَلْفُ دِرْهَمٍ، وَسِتُّمِائَةٍ بَاقِي الْحَوَائِجِ ليتي مِائَتَا دِرْهَمٍ، مَدِينَةُ مَنْفَلُوطَ اللَّحْمُ، وَالْخُبْزُ ليتي مِائَتَا دِرْهَمٍ الْبَاقِي مِصْرِيُّ مِائَةٌ، وَأَرْبَعَةٌ، وَأَرْبَعُونَ، مُنْيَةُ بْنُ خَصِيبٍ عَلَى رِطْلِ مِصْرَ مِائَةٌ، وَأَرْبَعٌ، وَأَرْبَعُونَ مَدِينَةُ إخْمِيمَ مُخْتَلِفَةُ الْأَحْوَالِ الْخُبْزُ، وَاللَّحْمُ أَلْفُ دِرْهَمٍ، وَيُسَمَّى مَنٌّ وَالْبَاقِي ليتي مِائَتَا دِرْهَمٍ، دروت السربام عَلَى رِطْلِ مِصْرَ مَدِينَةُ الْمَحَلَّةِ رِطْلَانِ، وَثُلُثَا رِطْلٍ مِصْرِيِّ، ثَغْرُ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ رِطْلَانِ، وَأُوقِيَّتَانِ ثَلَثُمِائَةٍ، وَاثْنَا عَشَرَ دِرْهَمًا، ثَغْرُ دِمْيَاطَ رِطْلَانِ، وَرُبْعٌ، وَنِصْفُ أُوقِيَّةٍ مِصْرِيٍّ، الْبِلْبِيسِ رِطْلٌ، وَرُبْعٌ مِصْرِيٌّ مِائَةٌ، وَثَمَانُونَ دِرْهَمًا، مَدِينَةُ سَمَنُّودَ رِطْلَانِ، وَسُدُسٌ مِصْرِيٌّ، مَدِينَةُ الْفَيُّومِ مِائَةٌ، وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا، وَلَمْ أَسْمَعْ أَنَّ بَلْدَةً وَافَقَ رِطْلُهَا لِبَلْدَةٍ أُخْرَى إلَّا نَادِرًا، أَوْ قَرْيَةً لِقَرْيَةٍ لَا يُؤْبَهُ بِهِمَا، وَالْأُوقِيَّةُ مِنْ نِسْبَةِ رِطْلِهَا جُزْءٌ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ جُزْءًا. [فَصَلِّ مِقْدَار الْمِثْقَال] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْمِثْقَالُ فَاتُّفِقَ عَلَى أَنَّهُ دِرْهَمٌ، وَدَانِقَانِ، وَنِصْفٌ، وَهُوَ أَرْبَعٌ، وَعِشْرُونَ قِيرَاطًا، وَالْقِيرَاطُ ثَلَاثُ حَبَّاتٍ، وَأَرْبَعَةُ أَسْبَاعِ حَبَّةٍ، وَهُوَ خَمْسَةٌ، وَثَمَانُونَ حَبَّةٍ، وَخَمْسَةُ أَسْبَاعِ حَبَّةٍ، وَزْنُ كُلِّ حَبَّةٍ مِنْهَا مِائَتَانِ حَبَّةٍ مِنْ حُبُوبِ الْخَرْدَلِ الْبَرِّيِّ الْمُعْتَدِلِ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: كَانَ الْمِثْقَالُ بِمَكَّةَ

فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اثْنَانِ، وَسَبْعُونَ حَبَّةً مِنْ حُبُوبِ الشَّعِيرِ الْمُمْتَلِئِ غَيْرِ الْخَارِجِ عَنْ الْمَعْهُودِ، وَالدِّرْهَمُ سِتَّةُ دَوَانِقَ، وَهُوَ سِتُّونَ حَبَّةً. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الدِّرْهَمُ خَمْسُونَ حَبَّةً، وَخُمُسَا حَبَّةٍ مِنْ حَبِّ الشَّعِيرِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَوَزْنُ كُلِّ حَبَّةٍ مِنْ الدِّرْهَمِ سَبْعُونَ حَبَّةً مِنْ حُبُوبِ الْخَرْدَلِ الْبَرِّيِّ الْمُعْتَدِلِ، وَالدِّينَارُ مِثْلُ الدِّرْهَمِ، وَثَلَاثَةُ أَسْبَاعِهِ، وَالدِّرْهَمُ مِنْ الدِّينَارِ بِنِصْفِهِ، وَخُمُسِهِ، وَهَذَا الْقَيْدُ تَقْرِيبًا عَلَى مَا ضَبَطَهُ الْأَئِمَّةُ فَإِنْ عُرِفَ الدِّرْهَمُ الْإِسْلَامِيُّ بِطَرِيقٍ غَيْرِ هَذِهِ الطَّرِيقِ، وَتَحَقَّقَ قَدْرُهُ كَانَ ذَلِكَ مُعْتَمَدًا فِي مَعْرِفَةِ الْمِثْقَالِ، وَإِلَّا فَلَا ضَابِطَ إلَّا بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ حَبِّ الشَّعِيرِ. وَاخْتُلِفَ فِي سَبَبِ اسْتِقْرَارِهِ عَلَى هَذَا الْوَزْنِ فَذُكِرَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا رَأَى اخْتِلَافَ الدَّرَاهِمِ، وَأَنَّ مِنْهَا الْبَغْلِيُّ، وَهُوَ ثَمَانِيَةُ دَوَانِقَ، وَمِنْهَا الطَّبَرِيُّ، وَهُوَ أَرْبَعَةُ دَوَانِقَ، وَمِنْهَا مَا هُوَ ثَلَاثَةُ دَوَانِقَ، وَمِنْهَا الْيَمَنِيُّ، وَهُوَ دَانِقٌ قَالَ اُنْظُرُوا الْأَغْلَبَ فِيمَا يَتَعَامَلُ بِهِ النَّاسُ مِنْ أَعْلَاهَا، وَأَدْنَاهَا فَكَانَ الدِّرْهَمُ الْبَغْلِيُّ، وَالطَّبَرِيُّ فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا فَكَانَا اثْنَا عَشَرَ دَانِقًا فَأَخَذَ نِصْفَهَا فَكَانَ سِتَّةَ دَوَانِقَ فَجَعَلَ الدِّرْهَمَ الْإِسْلَامِيَّ سِتَّةَ دَوَانِقَ، وَمَتَى زِدْت عَلَيْهِ ثَلَاثَةَ أَسْبَاعِهِ كَانَ مِثْقَالًا، وَمَتَى نَقَصْت مِنْ الْمِثْقَالِ ثَلَاثَةَ أَعْشَارِهِ كَانَ دِرْهَمًا، وَكُلُّ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ سَبْعَةُ مَثَاقِيلَ، وَكُلُّ عَشْرِ مَثَاقِيلَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا، وَسُبْعَانِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَحَكَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ ضَرَبَ الدَّرَاهِمَ الْمَنْقُوشَةَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ، وَكَانَتْ الدَّنَانِيرُ تَرِدُ رُومِيَّةً، وَكَانَتْ الدَّرَاهِمُ تَرِدُ كِسْرَوِيَّةً، وَحِمْيَرِيَّةً قَلِيلَةً فَأَمَرَ عَبْدُ الْمَلِكِ الْحَجَّاجَ بِضَرْبِ الدَّرَاهِمِ بِالْعِرَاقِ فَضَرَبَ بِهَا سَنَةَ أَرْبَعٍ، وَسَبْعِينَ، وَقِيلَ: خَمْسٍ، وَسَبْعِينَ ثُمَّ أَمَرَ

الباب العاشر في معرفة الموازين والمكاييل والأذرع

بِضَرْبِهَا فِي النَّوَاحِي سَنَةَ سِتٍّ، وَسَبْعِينَ، وَكَتَبَ عَلَيْهَا اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ. وَحَكَى يَحْيَى بْنُ النُّعْمَانِ الْغِفَارِيُّ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ ضَرَبَ الدَّرَاهِمَ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ عَنْ أَمْرِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ سَنَةَ سَبْعِينَ عَلَى ضَرْبِ الْأَكَاسِرَةِ، وَعَلَيْهَا بِرْكَةٌ مِنْ جَانِبٍ، وَاَللَّهُ مِنْ جَانِبٍ ثُمَّ غَيَّرَهَا الْحَجَّاجُ بَعْدَ سَنَةٍ، وَكَتَبَ عَلَيْهَا بِسْمِ اللَّهِ الْحَجَّاجُ، وَهَذِهِ فَائِدَةٌ ذُكِرَتْ هَاهُنَا لِتَعَلُّقِهَا بِذِكْرِ الدَّرَاهِمِ فَيَجِبُ عَلَى الْمُحْتَسِبِ أَنْ لَا يُهْمِلَ أَمْرَ هَذَا الْبَابِ. [الْبَاب الْعَاشِر فِي مُعْرِفَة الْمَوَازِين وَالْمَكَايِيل وَالْأَذْرُع] أَصَحُّ الْمَوَازِينِ، وَضْعًا مَا اسْتَوَى جَانِبَاهُ، وَاعْتَدَلَتْ كِفَّتَاهُ، وَكَانَ ثُقْبُ عِلَاقَتِهِ فِي، وَسَطِ الْعَمُودِ، وَيُحَدَّدُ الثُّقْبُ، وَتُجْعَلُ الْمِسْمَارُ فُولَاذًا حَتَّى تَكُونَ سَرِيعَةَ الْجَرَيَانِ فَمَتَى لَمْ تُفْعَلْ ذَلِكَ كَانَتْ تَسْكُنُ فَتَضُرُّ بِالْمُشْتَرِي. [فَصَلِّ عَلَى الْمُحْتَسَب أَنْ يَأْمُر أَصْحَاب الْمَوَازِين بِمَسْحِهَا وَتَنْظِيفهَا فِي كُلّ سَاعَة] (فَصْلٌ) : وَيَأْمُرُ أَصْحَابَ الْمَوَازِينِ بِمَسْحِهَا، وَتَنْظِيفِهَا مِنْ الْأَدْهَانِ، وَالْأَوْسَاخِ فِي كُلِّ سَاعَةٍ فَإِنَّهُ رُبَّمَا تَحْمِلُ شَيْئًا فِي خُرْمِهَا فَيَضُرُّ كَمَا ذَكَرْنَا، وَيَنْبَغِي إذَا شَرَعَ فِي الْوَزْنِ أَنْ يُسَكِّنَ الْمِيزَانَ، وَيَضَعَ فِيهَا الْبِضَاعَةَ مِنْ يَدِهِ فِي الْكِفَّةِ قَلِيلًا قَلِيلًا، وَلَا يَهْمِزُ بِإِبْهَامِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ بَخْسٌ، فَتَكُونُ مَوَازِينُ الْبَاعَةِ مُعَلَّقَةً، وَلَا يُمَكِّنُ أَحَدًا مِنْ الْبَاعَةِ أَنْ يَزِنَ بِمِيزَانٍ الْأَرْطَالَ فِي يَدِهِ، وَمِنْ الْبَخْسِ الْخَفِيِّ فِي مِيزَانِ الذَّهَبِ

فصل للمحتسب أن يختبر القبان القبطي بعد كل حين

أَنْ يَرْفَعَهُ بِيَدِهِ تِلْقَاءَ، وَجْهِهِ ثُمَّ يَنْفُخَ عَلَى الْكِفَّةِ الَّتِي فِيهَا الْمَتَاعُ نَفْخًا خَفِيفًا فَتَرْجَحُ بِمَا فِيهَا، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْتَرِي تَكُونُ عَيْنُهُ إلَى الْمِيزَانِ لَا إلَى فَمِ صَاحِبِهِ، وَلَهُمْ فِي الْمِيزَانِ صِنَاعَةٌ يَجْعَلُ بِهَا الْبَخْسَ مِثْلَ أَنْ يُلْصِقَ شَمْعَةً تَحْتَ إحْدَى كِفَّتَيْ الْمِيزَانِ، أَوْ يُشْكِلَ رَزَّةَ الْمِيزَانِ الْعُلْيَا بِخَيْطِ شَعْرٍ رَقِيقٍ لَا يَنْظُرُهُ الْمُشْتَرِي فَيَحْصُلُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ تَفَاوُتٌ، وَلَهُمْ أَيْضًا الْعَلَّاقَةُ الَّتِي تُسَمَّى الْمُودِي، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ عَمُودُ الْمِيزَانِ فُولَاذًا، وَيُعْمَلُ لِسَانُهُ أَرْمَهَانًا، وَيُعَوِّجُ رَأْسَ اللِّسَانِ إلَى الْجَانِبِ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَأْخُذَ بِهِ فَيَحْصُلُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ الْقَدْرِ الْحَرَامِ فَيَلْزَمُ الْمُحْتَسِبَ مُرَاعَاةُ ذَلِكَ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَاعْلَمْ أَنَّك وُلِّيت مِنْ الْكَيْلِ، وَالْمِيزَانِ أَمْرَ مَنْ هَلَكَتْ فِيهَا الْأُمَمُ السَّالِفَةُ فَبَاشِرْهُمَا بِيَدِك مُبَاشَرَةَ الِاخْتِيَارِ، وَالِاخْتِبَارِ، وَلَا تُقِلْ أَهْلَهُمَا عَثْرَةً فَإِنَّ الْإِقَالَةَ لَا تَنْهَى عَنْ الْعِثَارِ، وَكُلُّ هَؤُلَاءِ مِنْ سَوَادِ النَّاسِ فَمَنْ لَمْ يُفَقِّهْ نَفْسَهُ، وَلَيْسَ هِمَّتُهُ إلَّا فَرْجُهُ، أَوْ ضِرْسُهُ فَحَدُّهُمْ التَّعْزِيرُ الَّتِي هِيَ نَزَّاعَةٌ تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ، وَتَوَلَّى. [فَصَلِّ لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يُخْتَبَر الْقَبَّان الْقِبْطِيّ بَعْد كُلِّ حِينٍ] (فَصْلٌ) : وَالْقَبَّانُ الْقِبْطِيُّ، فَيَنْبَغِي لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَخْتَبِرَهُ بَعْدَ كُلِّ حِينٍ فَإِنَّهُ يَنْفَسِدُ بِكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهِ فِي، وَزْنِ الْحَطَبِ، وَالْبَضَائِعِ الثَّقِيلَةِ، وَيُتَّخَذُ عِنْدَهُ عِيَارَاتٌ مِنْ حَصًى فِي خَرَائِطَ لِيفٍ هِنْدِيٍّ، أَوْ خَيْشٍ، وَيَضَعُهَا فِي مَوْضِعٍ لَا يَصِلُ إلَيْهَا النَّدَاوَةُ، وَلَا الْغُبَارُ، وَيُعَيِّنُ لِعِيَارِ الْقَبَّانِينَ رَجُلًا يُوثَقُ بِدِينِهِ، وَأَمَانَتِهِ لَا يَشُوبُهُ فِي ذَلِكَ رِيَاءٌ، وَلَا مُحَابَاةٌ لِأَحَدٍ مِنْ أَبْنَاءِ جِنْسِهِ، وَيَلْزَمُ الْمُحْتَسِبَ أَنْ لَا يُمَكِّنَ أَحَدًا مِنْ الْوَزْنِ بِالْقَبَّانِ إلَّا مَنْ ثَبَتَتْ أَمَانَتُهُ، وَعَدَالَتُهُ، وَمَعْرِفَتُهُ بِالْعُدُولِ مِنْ أَهْلِ الْخِيرَةِ فِي مَجْلِسِهِ فَإِنَّهَا صِنَاعَةٌ عَظِيمَةٌ

فصل ينبغي أن تتخذ الأرطال من حديد ويعيرها المحتسب ويختم عليها بختم من عنده

وَالْبَائِعُ، وَالْمُشْتَرِي وَاقِفَانِ لَا يَعْلَمَانِ صِحَّةَ ذَلِكَ مِنْ سَقَمِهِ إلَّا مِنْ لَفْظِهِ فَيُعْتَبَرُ فِيهِ مَا ذَكَرْنَاهُ. [فَصْلٌ يَنْبَغِي أَنْ تُتَّخَذَ الْأَرْطَالُ مِنْ حَدِيدٍ وَيُعِيرَهَا الْمُحْتَسِبُ وَيَخْتِمَ عَلَيْهَا بِخِتْمٍ مِنْ عِنْدِهِ] (فَصْلٌ) : وَيَنْبَغِي أَنْ تُتَّخَذَ الْأَرْطَالُ مِنْ حَدِيدٍ، وَيُعَيِّرُهَا الْمُحْتَسِبُ، وَيَخْتِمُ عَلَيْهَا بِخَتْمٍ مِنْ عِنْدِهِ، وَلَا يَتَّخِذُوهَا مِنْ الْحِجَارَةِ؛ لِأَنَّهَا إذَا قُرِعَ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ فَتُنْقَضُ فَإِذَا دَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى اتِّخَاذِهَا لِقُصُورِ يَدِهِ عَنْ اتِّخَاذِ الْحَدِيدِ أَمَرَهُ الْمُحْتَسِبُ بِتَجْلِيدِهَا ثُمَّ يَخْتِمُهَا بَعْدَ الْعِيَارِ، وَيُجَدِّدُ النَّظَرَ فِيهَا بَعْدَ كُلِّ حِينٍ لِئَلَّا يَتَّخِذُوا مِثْلَهَا مِنْ الْخَشَبِ، وَرُءُوسِ اللِّفْتِ، وَلَا يَكُونُ فِي الْحَانُوتِ الْوَاحِدِ دَسْتَانِ مِنْ أَرْطَالٍ، أَوْ صَنْجٌ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ؛ لِأَنَّهَا تُهْمَةٌ فِي حَقِّهِ، وَلَا يَتَّخِذُ عِنْدَهُ مَا لَا جَرَتْ الْعَادَةُ بِاِتِّخَاذِهِ مِثْلُ ثُلُثُ رِطْلٍ، وَثُلُثُ أُوقِيَّةٍ، وَثُلُثُ دِرْهَمٍ لِمُقَارَبَةِ النِّصْفِ، وَرُبَّمَا اشْتَبَهَ ذَلِكَ عَلَيْهِ بِالنِّصْفِ فِي حَالِ الْوَزْنِ عِنْدَ كَثْرَةِ الزَّبُونِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصَلِّ وَيَنْبَغِي لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يتفقد عيار المثاقيل والصنج والأرطال والحبات عَلَى حِينِ غفلة مِنْ أصحابها] (فَصْلٌ) : وَيَنْبَغِي لَلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَتَفَقَّدَ عِيَارَ الْمَثَاقِيلِ، وَالصَّنْجِ، وَالْأَرْطَالِ، وَالْحَبَّاتِ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَصْحَابِهَا فَإِنَّ فِي الصَّيَارِفِ مَنْ يَأْخُذُ حَبَّاتِ الْحِنْطَةِ فَيَنْقَعُهَا فِي الْمَاءِ ثُمَّ يَغْرِسُ فِيهَا رُءُوسَ إبَرِ الْفُولَاذِ ثُمَّ تُجَفَّفُ فَتَعُودُ إلَى سِيرَتِهَا الْأُولَى، وَلَا يَظْهَرُ فِيهَا شَيْءٌ، وَيَأْمُرُهُمْ أَنْ يَجْعَلُوا لَوْنَ صَنْجِ الْفِضَّةِ مُخَالِفًا لِلَوْنِ صَنْجِ الْمَثَاقِيلِ فَرُبَّمَا، وَضَعُوا صَنْجَةَ النِّصْفِ دِرْهَمٍ عِوَضًا عَنْ الرُّبَاعِيِّ، وَبَيْنَهُمَا تَفَاوُتٌ، وَكَذَا صَنْجَةَ الثُّمُنِ عِوَضًا عَنْ صَنْجَةِ الْقِيرَاطَيْنِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصَلِّ فِي الْمَكَايِيل] (فَصْلٌ فِي الْمَكَايِيلِ) : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} [المطففين: 1] {الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ} [المطففين: 2] {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} [المطففين: 3] {أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ} [المطففين: 4] {لِيَوْمٍ عَظِيمٍ} [المطففين: 5] {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين: 6] . وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْمِكْيَالُ عَلَى مِكْيَالِ الْمَدِينَةِ، وَالْوَزْنُ عَلَى، وَزْنِ مَكَّةَ» ، وَالْمِكْيَالُ الصَّحِيحُ

مَا اسْتَوَى أَعْلَاهُ، وَأَسْفَلُهُ فِي الْفَتْحِ، وَالسَّعَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مَحْصُورَ الْفَمِ، وَلَا يَكُونَ بَعْضُهُ دَاخِلًا، وَبَعْضُهُ خَارِجًا، وَيَنْبَغِي أَنْ يَشُدَّهُ بِالْمَسَامِيرِ لِئَلَّا يَصْعَدَ فَيَزِيدَ، أَوْ يَنْزِلَ، وَيَنْقُصَ، وَأَجْوَدُ مَا عُيِّرَتْ بِهِ الْمَكَايِيلُ الْحُبُوبُ الصِّغَارُ الَّتِي لَا تَخْتَلِفُ فِي الْعَادَةِ مِثْلُ الْخَرْدَلِ، وَالْبِرْسِيمِ، وَبِزْرِ قَطُونَاءَ وَالْكُسْفُرَةُ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَيَكُونُ فِي كُلِّ حَانُوتٍ مِنْ الْمَكَايِيلِ الصَّحِيحَةِ، مِكْيَالٌ، وَنِصْفُ مِكْيَالٍ، وَرُبُعُ مِكْيَالٍ، وَثُمُنُ مِكْيَالٍ مَخْتُومٍ عَلَيْهَا بِخَتْمِ الْمُحْتَسِبِ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَى اتِّخَاذِ ذَلِكَ. وَيَنْبَغِي لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يُجَدِّدَ النَّظَرَ فِي الْمَكَايِيلِ؛ لِأَنَّ مِنْ الْحِمْصَانِيِّينَ، وَالْفَوَّالِينَ، وَالْعَلَّافِينَ مَنْ يَأْخُذُ قِطْعَةَ خَشَبٍ يَحْفِرُهَا مِكْيَالًا فَيَكُونُ طُولُهَا شِبْرًا مَثَلًا، وَالْمَحْفُورُ مِنْ دَاخِلِهَا أَرْبَعَةَ أَصَابِعَ فَيَغْتَرُّ النَّاسُ بِسَعَتِهَا، وَطُولِهَا، وَلَا يَعْلَمُونَ الْمِقْدَارَ الْمَحْفُورَ، وَهَذَا تَدْلِيسٌ لَا يَخْفَى، وَيُرَاعَى أَيْضًا مَا يُلْصِقُونَهُ فِي أَسْفَلِ الْمِكْيَالِ فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ يُلْصِقُ أَسْفَلَهُ الْخُبْزَ فُجْلٍ، وَالْجِبْسَ الْأَسْوَدَ يُلْصِقُونَهُ لَصْقًا لَا يَكَادُ يُعْرَفُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْصِقُ فِي جَوَانِبِهِ الْكُسْبَ فَلَا يُعْرَفُ، وَلَهُمْ فِي مَسْكِ الْمِكْيَالِ صِنَاعَةٌ يَحْصُلُ بِهَا الْبَخْسُ فَلَا يَدَعُ الْكَشْفَ عَلَيْهِمْ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَأَمَّا الْكَيَّالُونَ فَلَا خَيْرَ فِيهِمْ لَا سِيَّمَا فِي هَذَا الزَّمَانِ فَإِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَكْتَالُ مَا يَقْبِضُهُ زَائِدًا، وَيُسَمَّى عِنْدَهُمْ الْغَزْرُ، وَالطَّرْحُ، وَعِنْدَ الصَّرْفِ يَجْعَلُهُ نَاقِصًا، وَيُسَمَّى عِنْدَهُمْ الْمُشْفَقُ، وَقَدْ ذَمَّهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِمَا ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ فَيَنْبَغِي لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يُحَذِّرَهُمْ، وَيُخَوِّفَهُمْ عُقُوبَةَ اللَّهِ تَعَالَى، وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْبَخْسِ، وَالتَّطْفِيفِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، وَمَتَى ظَهَرَ لَهُ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ خِيَانَةٌ عَزَّرَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَأَشْهَرَهُ حَتَّى يَرْتَدِعَ بِهِ غَيْرُهُ.

فصل مقدار مد النبي صلى الله عليه وسلم

[فَصَلِّ مِقْدَار مُدّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] (فَصْلٌ) : وَخَرَّجَ أَبُو دَاوُد عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ قَالَ صَاعُ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ، وَثُلُثٌ، وَأَسْنَدَ الْبُخَارِيُّ إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ ذَكَرَ لِي أَبِي أَنَّهُ عَيَّرَ مُدِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَوَجَدَهُ رِطْلًا، وَثُلُثَيْنِ، وَفِي كِتَابِ عِقْدِ الْجَوَاهِرِ أَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ لَا يَخْتَلِفُ اثْنَانِ أَنَّ مُدَّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِي يُؤَدَّى بِهِ الصَّدَقَاتُ لَيْسَ أَكْثَرَ مِنْ رِطْلٍ، وَنِصْفٍ، وَلَا أَقَلَّ مِنْ رِطْلٍ، وَرُبُعٍ، وَقَالَ: بَعْضُهُمْ رِطْلٌ، وَثُلُثٌ، وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ، وَالْوَيْبَةُ سِتَّةَ عَشَرَ قَدَحًا مِنْ نِسْبَةِ كَيْلِ الْبَلَدِ. [فَصَلِّ أَنْوَاع الْأَذْرُع] (فَصْلٌ) : وَالْأَذْرُعُ سَبْعٌ، أَقْصَرُهَا الْقَصَبَةُ ثُمَّ الْيُوسُفِيَّةُ ثُمَّ السَّوَادُ ثُمَّ الْهَاشِمِيَّةُ الصُّغْرَى ثُمَّ الْهَاشِمِيَّةُ الْكُبْرَى، وَهِيَ الزِّيَادِيَّةُ ثُمَّ الْعُمَرِيَّةُ ثُمَّ الْمِيرَاثِيَّةُ فَأَمَّا الْقَصَبَةُ، وَهِيَ تُسَمَّى ذِرَاعُ الدُّورِ، وَهِيَ أَقَلُّ مِنْ ذِرَاعِ السَّوَادِ بِأُصْبُعٍ، وَثُلُثَيْ أُصْبُعٍ، وَأَوَّلُ مَنْ، وَضَعَهَا ابْنُ أَبِي لَيْلَى الْقَاضِي، وَبِهَا يَتَعَامَلُ أَهْلُ كُلِّ، وَادٍ، وَأَمَّا الْيُوسُفِيَّةُ فَهِيَ الَّتِي يُذَرِّعُ بِهَا الْقُضَاةُ الدُّورَ بِمَدِينَةِ السَّلَامِ، وَهِيَ أَقَلُّ مِنْ ذِرَاعِ السَّوَادِ بِثُلُثَيْ أُصْبُعٍ، وَأَوَّلُ مَنْ، وَضَعَهَا الْقَاضِي أَبُو يُوسُفَ، وَأَمَّا ذِرَاعُ السَّوَادِ فَهِيَ أَطْوَلُ مِنْ ذِرَاعِ الْهَاشِمِيَّةِ الصُّغْرَى بِأُصْبُعٍ، وَثُلُثَيْ أُصْبُعٍ، وَأَوَّلُ مَنْ وَضَعَهَا الرَّشِيدُ، وَقَدَّرَهَا بِذِرَاعِ خَادِمٍ أَسْوَدَ كَانَ عَلَى رَأْسِهِ، وَهِيَ الَّتِي يَتَعَامَلُ بِهَا النَّاسُ فِي ذِرَاعِ الْبَزِّ، وَالتِّجَارَةِ، وَالْأَبْنِيَةِ، وَهِيَ قِيَاسٌ لِنِيلِ مِصْرَ، وَأَمَّا الذِّرَاعُ الْهَاشِمِيَّةُ الصُّغْرَى، وَهِيَ ثَالِثَةٌ، وَهِيَ أَطْوَلُ مِنْ الذِّرَاعِ، إنَّهَا ذِرَاعٌ حَدَّهَا أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ، وَهِيَ أَنْقَصُ مِنْ

الزِّيَادِيَّةِ بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ عُشْرٍ، وَبِهَا يَتَعَامَلُ النَّاسُ بِالْبَصْرَةِ، وَالْكُوفَةِ. وَأَمَّا الْهَاشِمِيَّةُ الْكُبْرَى فَهِيَ ذِرَاعُ الْمَلَكِ، وَأَوَّلُ مَنْ نَقَلَهَا إلَى الْهَاشِمِيَّةِ الْمَنْصُورُ، وَهِيَ أَطْوَلُ مِنْ ذِرَاعِ السَّوَادِ بِخَمْسِ أَصَابِعَ، وَثُلُثَيْ أُصْبُعٍ، وَيَكُونُ ذِرَاعًا، وَثُمُنَيْ عَشَرَ بِالسَّوَادِ، وَتَنْقُصُ عَنْهَا الْهَاشِمِيَّةُ الصُّغْرَى بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ عُشْرِهَا، وَسُمِّيَتْ زِيَادِيَّةً؛ لِأَنَّ زِيَادًا مَسَحَ بِهَا أَرْضَ السَّوَادِ، وَهِيَ الَّتِي يُذَرِّعُ بِهَا أَهْلُ الْأَهْوَازِ، وَأَمَّا الذِّرَاعُ الْعُمَرِيَّةُ، وَهِيَ ذِرَاعُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ الَّتِي مَسَحَ بِهَا أَرْضَ السَّوَادِ، وَهِيَ ذِرَاعٌ وَقَبْضَةٌ، وَإِبْهَامٌ قَائِمَةٌ قَالَ الْحَكَمُ: إنَّ عُمَرَ عَمَدَ إلَى أَطْوَلِهَا، وَأَقْصَرِهَا فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا ثَالِثَةً، وَأَخَذَ الثُّلُثَ مِنْهَا، وَزَادَ عَلَيْهَا قَبْضَةً، وَإِبْهَامًا قَائِمَةً، وَخَتَمَ طَرَفَيْهَا بِالرَّصَاصِ، وَبَعَثَ بِذَلِكَ إلَى حُذَيْفَةَ، وَعُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ حَتَّى مَسَحَا بِهَا أَرْضَ السَّوَادِ، وَكَانَ أَوَّلُ مَنْ مَسَحَ بِهَا بَعْدَ، عُمَرَ بْنُ هُبَيْرَةَ. وَأَمَّا الذِّرَاعُ الْمِيرَاثِيَّةُ فَتَكُونُ بِذِرَاعِ السَّوَادِ ذِرَاعًا، وَثُلُثَيْ ذِرَاعٍ، وَثُلُثَيْ أُصْبُعٍ، وَأَوَّلُ مَنْ، وَضَعَهَا الْمَأْمُونُ، وَهِيَ الَّتِي يَتَعَامَلُ بِهَا النَّاسُ فِي ذِرَاعِ الْبَرِيدِ، وَالسُّكُورِ، وَالسُّوقِ، وَكَذَا الْأَنْهَارِ، وَالْحَفَائِرِ، وَأَمَّا الذِّرَاعُ الْمُقَدَّرُ الشَّرْعِيُّ الَّذِي ذَكَرَهُ الْإِمَامُ الْغَزَالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَغَيْرُهُ فَهُوَ أَرْبَعَةٌ، وَعِشْرُونَ أُصْبُعًا، وَالْأُصْبُعُ سِتُّ شَعِيرَاتٍ بَطْنُ كُلِّ حَبَّةٍ لِظَهْرِ الْأُخْرَى، وَالشَّعِيرَةُ بِسِتِّ شَعَرَاتٍ مِنْ شَعْرِ الْبَغْلِ.

الباب الحادي عشر في الحسبة على العلافين والطحانين

[الْبَاب الْحَادِيَ عَشْر فِي الْحَسَبَة عَلَى الْعَلَّافِينَ وَالطَّحَّانِينَ] يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ احْتِكَارُ الْغَلَّةِ عَلَى مَا بَيَّنَاهُ، وَلَا يَخْلِطُوا رَدِيءَ الْحِنْطَةِ بِجَيِّدِهَا، وَلَا عَتِيقَهَا بِجَدِيدِهَا فَإِنَّهُ تَدْلِيسٌ عَلَى النَّاسِ، وَيَلْزَمُ الطَّحَّانِينَ بِغَرْبَلَةِ الْغَلَّةِ مِنْ التُّرَابِ، وَتَنْقِيَتِهَا مِنْ الطِّينِ، وَتَنْظِيفِهَا مِنْ الْغُبَارِ قَبْلَ طَحْنِهَا، وَلَهُمْ أَنْ يَرُشُّوا عَلَى الْحِنْطَةِ مَاءً يَسِيرًا عِنْدَ طَحْنِهَا فَإِنَّ ذَلِكَ يَزِيدُ الدَّقِيقَ بَيَاضًا، وَيُغَيِّرُ عَلَيْهِمْ مَنَاخِلَ الدَّقِيقِ فِي كُلِّ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، أَوْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ، وَرُبَّمَا يَكُونُ فِي صُوفِهِ ضَعْفٌ، وَيَعْتَبِرُ الْمُحْتَسِبُ الدَّقِيقَ فَإِنَّهُمْ رُبَّمَا يَخْلِطُوا فِيهِ دَقِيقَ الْحِمَّصِ، أَوْ الْفُولِ حَتَّى يَزِيدَهُ زَهْرَةً، وَهَذَا غِشٌّ فَمَنْ وَجَدَهُ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ أَنْكَرَ عَلَيْهِ، وَأَدَّبَهُ، وَيَمْنَعُهُمْ أَنْ لَا يَطْحَنُوا عَلَى إثْرِ نَقْرِ الْحَجَرِ فَإِنَّهُ يَضُرُّ بِالنَّاسِ إذَا نَزَلَ مَعَ الدَّقِيقِ، وَيُلْزِمُهُمْ بِنَقَاءِ الْغَلَّةِ، وَكَثْرَةِ دَوْسِهَا حَتَّى يَخْرُجَ الدَّقِيقُ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي النَّقَاءِ، وَيَنْبَغِي لِأَرْبَابِ الدَّوَابِّ أَنْ يَتَّقُوا اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي اسْتِعْمَالِهَا، وَأَنْ يُرِيحُوهَا فِي كُلِّ يَوْمٍ، وَلَيْلَةٍ لِحَاجَتِهَا إلَى الرَّاحَةِ، وَالسُّكُونِ، وَأَنْ لَا يَسْتَعْمِلَ الدَّابَّةَ فِي طَحْنِ أَكْثَرَ مِنْ رُبُعِ، وَيْبَةٍ، وَيَتَفَقَّدَ مَوَازِينَهُمْ الْمُرْصَدَةَ لِوَزْنِ الدَّقِيقِ، وَأَرْطَالَهُمْ، وَكَذَا مَوَازِينَ الْفِضَّةِ، وَصِنَجَهَا، وَأَكْيَالَهُمْ، وَبِطَطَهُمْ، وَعِيَارَاتِهَا، وَيَأْمُرَهُمْ أَنْ تَكُونَ الْفَوَارِغُ الْمُعَدَّةَ لِحَمْلِ الدَّقِيقِ صِحَاحًا؛ لِأَنَّ الْوَزْنَ يَكُونُ صَحِيحًا مِنْ الطَّاحُونِ فَمَتَى كَانَتْ الْفَوَارِغُ مُقَطَّعَةً ضَاعَ الدَّقِيقُ فِي الطُّرُقَاتِ فَيَضُرُّ بِالْمُشْتَرِي، وَأَنَّ الْبَطَّةَ خَمْسُونَ رِطْلًا فَيَكُونُ التَّلِّيسُ ثَلَاثُ

فصل الحسبة على طحانين القمح البيتوتي

بِطَطٍ فَإِنَّهُ مِائَةٌ، وَخَمْسُونَ رِطْلًا، وَيَنْبَغِي أَنْ يَجْعَلَ عَلَى الطَّحَّانِينَ، وَظَائِفَ يَرْفَعُونَهَا إلَى حَوَانِيتِ الْخَبَّازِينَ فِي كُلِّ يَوْمٍ. [فَصَلِّ الْحَسَبَة عَلَى طَحَّانِينَ الْقَمْح الْبَيْتُوتِيِّ] (فَصْلٌ) : وَيُؤْخَذُ عَلَى طَحَّانِينَ الْقَمْحِ الْبَيْتُوتِيِّ بِمَا نَذْكُرهُ لِمَنْ يَأْكُلُ فِي بَيْتِهِ فَإِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، وَلَا تَمِيلُ نَفْسُهُمْ إلَى أَكْلِ الْخُبْزِ السُّوقِيِّ لِأَجْلِ مَا يُحْتَرَزُ عَلَيْهِ فِي الْبُيُوتِ، وَيُبَاشِرُونَهُ بِأَنْفُسِهِمْ، وَيَلْزَمُ أَنَّهُمْ لَا يُمَكِّنُوا مَنْ يَتَسَلَّمُ قُمُوحَ النَّاسِ إلَّا ثِقَةً أَمِينًا عَفِيفًا عَنْ الْمَفَاسِدِ فَإِنَّهُ يَدْخُلُ بُيُوتَ النَّاسِ، وَيُخَاطِبُ، أَوْلَادَهُمْ، وَجَوَارِيَهُمْ، وَيَحْمِلُهَا بِأَمَانَةٍ إلَى طَاحُونٍ مَعْلُومَةٍ فَحِينَئِذٍ يُشْتَرَطُ فِيهِ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَأَنَّهُ لَا يَأْخُذُهَا إلَّا بِالْوَزْنِ، وَيُعْطِيهَا بِالْوَزْنِ مِنْ غَيْرِ نَقْصٍ، وَأَنْ يَكْتُبَ عَلَى كُلِّ قُفَّةٍ اسْمَ صَاحِبِهَا، وَمَكَانَهُ فِي يَقْطِينَةٍ، وَيُعَلِّقَهَا فِي أُذُنِ الْقُفَّةِ حَتَّى لَا تَخْتَلِطَ، وَأَنْ تَكُونَ نَاعِمَةَ الطَّحْنِ حَتَّى تَحْصُلَ الزَّكَاةُ لِصَاحِبِهَا، وَالْوَيْبَةُ الْمِصْرِيَّةُ زِنَتُهَا أَرْبَعُونَ رِطْلًا إلَى أَرْبَعَةٍ، وَأَرْبَعِينَ، وَمَهْمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَبِحِسَابِهِ مِنْ الْوَيْبَةِ لِيَعْلَمَ قَدْرَ الْأُجْرَةِ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا يَخْلِطُ قَمْحَ أَحَدٍ فِي قَادُوسِ الطَّحْنِ حَتَّى يُزِيلَ مَا بَقِيَ مِنْ قَمْحِ الْآخَرِ، وَكَذَلِكَ مَا حَوْل الْحَجَرِ مِنْ الدَّقِيقِ يَكْنُسُهُ بِمِكْنَسَةٍ عِنْدَهُ لِئَلَّا يَدْخُلُ مَالُ أَحَدِهِمَا فِي مَالِ الْآخَرِ مِنْ غَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ فَيَصِيرُ حَرَامًا.

الباب الثاني عشر في الحسبة على الفرانين والخبازين

[الْبَاب الثَّانِي عَشْر فِي الْحَسَبَة عَلَى الْفَرَّانِينَ وَالْخَبَّازِينَ] يَنْبَغِي أَنْ يَأْمُرَهُمْ الْمُحْتَسِبُ بِرَفْعِ سَقَائِفِ أَفْرَانِهِمْ، وَيَجْعَلَ فِي سُقُوفِهَا مَنَافِسَ، وَاسِعَةً لِلدُّخَانِ، وَيَأْمُرَهُمْ بِكَنْسِ بَيْتِ النَّارِ فِي كُلِّ تَعْمِيرَةٍ، وَغَسْلِ البسليت، وَتَنْظِيفِ مَاءَهُ، وَغَسْلِ الْمَعَاجِنِ، وَتَنْظِيفِهَا، وَيَتَّخِذَ لَهَا أَبْرَاشًا كُلُّ بُرْشٍ عَلَيْهِ عُودَانِ مُصَلَّبَانِ لِكُلِّ مِعْجَنَةٍ، وَلَا يَعْجِنُ الْعَجَّانُ بِقَدَمَيْهِ، وَلَا بِرُكْبَتَيْهِ، وَلَا بِمِرْفَقَيْهِ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ مَهَانَةٌ لِلطَّعَامِ، وَرُبَّمَا قُطِّرَ فِي الْعَجِينِ شَيْءٌ مِنْ عَرَقِ إبْطَيْهِ، أَوْ بَدَنِهِ، وَلَا يَعْجِنُ إلَّا، وَعَلَيْهِ مِلْعَبَةٌ ضَيِّقَةُ الْكُمَّيْنِ، وَيَكُونُ مُلَثَّمًا أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا عَطَسَ، أَوْ تَكَلَّمَ فَقَطَرَ شَيْءٌ مِنْ بُصَاقِهِ، أَوْ مُخَاطِهِ فِي الْعَجِينِ، وَيَشُدُّ عَلَى جَبِينِهِ عِصَابَةً بَيْضَاءَ لِئَلَّا يَعْرَقَ فَيَقْطُرُ مِنْهُ شَيْءٌ، وَيَحْلِقُ شَعْرَ ذِرَاعَيْهِ لِئَلَّا يَسْقُطَ مِنْهُ شَيْءٌ فِي الْعَجِينِ، وَإِذَا عَجَنَ فِي النَّهَارِ فَلِيَكُنْ عِنْدَهُ إنْسَانٌ عَلَى يَدِهِ مِذَبَّةٌ يَطْرُدُ عَنْهُ الذُّبَابَ، وَيَعْتَبِرُ عَلَيْهِمْ الْمُحْتَسِبُ مَا يَغُشُّونَ بِهِ الْخُبْزَ مِنْ الْكُرْكُمِ، وَالزَّعْفَرَانِ، وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ فَإِنَّهُمَا يُوَرِّدَانِ، وَجْهَ الْخُبْزِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَغُشُّهُ بِالْحِمَّصِ، وَالْفُولِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَيَلْزَمُهُمْ أَلَّا يَخْبِزُوهُ حَتَّى يَخْتَمِرَ فَإِنَّ الْفَطِيرَ يَثْقُلُ فِي الْمِيزَانِ، وَالْمَعِدَةِ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ قَلِيلَ الْمِلْحِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَنْشُرُوا عَلَى، وَجْهِهِ الْأَبَازِيرَ الطَّيِّبَةَ مِثْلَ الْكَمُّونِ الْأَبْيَضِ، وَالْكَمُّونِ الْأَسْوَدِ، وَالسِّمْسِمِ، وَالْيَانَسُونِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلَا يُخْرِجُونَ الْخُبْزَ مِنْ بَيْتِ النَّارِ حَتَّى يُنْضَجَ نَضْجًا جَيِّدًا مِنْ غَيْرِ احْتِرَاقٍ، وَالْمَصْلَحَةُ أَنْ يُجْعَلَ عَلَى كُلِّ حَانُوتٍ، وَظِيفَةً رَسْمًا يَخْبِزُونَهُ

فصل الحسبة على فرانين الخبز البيتوتي

فِي كُلِّ يَوْمٍ لِئَلَّا يَخْتَلَّ الْبَلَدُ عِنْدَ قِلَّةِ الْخُبْزِ، وَيَتَفَقَّدُ الْأَفْرَانَ فِي آخِرِ النَّهَارِ، وَلَا يُمَكِّنُ أَحَدًا مِنْ صُنَّاعِ الْخُبْزِ مِنْ الْمَبِيتِ فِي أَكْسِيَةِ الْعَجِينِ، وَلَا مَكَانِ فُرُشِ الْعَجِينِ، وَيَأْمُرُهُمْ بِنَشْرِهَا عَلَى حِبَالٍ بَعْدَ نَفْضِهَا، وَغَسْلِهَا فِي كُلِّ، وَقْتٍ. [فَصَلِّ الْحَسَبَة عَلَى فَرَّانِينَ الْخَبَز البيتوتي] (فَصْلٌ) : وَيَأْخُذُ الْمُحْتَسِبُ عَلَى فَرَّانِينَ الْخُبْزِ الْبَيْتُوتِيِّ لِعِظَمِ حَاجَةِ النَّاسِ إلَيْهِمْ، وَيَأْمُرُهُمْ بِإِصْلَاحِ الْمَدَاخِنِ، وَتَنْظِيفِ بَلَاطِ الْفُرْنِ بِالْمَكَانِسِ فِي كُلِّ سَاعَةٍ عَنْ اللُّبَابِ الْمُحْتَرِقِ، وَالرَّمَادِ لِئَلَّا يُلْصَقَ فِي أَسْفَلِ الْخُبْزِ مِنْهُ شَيْءٌ، وَيُجْعَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ غُلَامٌ يُعَلِّمُ بِهِ أَخْبَازِ النَّاسِ لِئَلَّا يَخْتَلِطَ عَلَيْهِ أَطْبَاقُ الْعَجِينِ فَلَا يَعْرِفُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَجْعَلَ السُّمْكَ بِمَعْزِلٍ عَنْ الْخُبْزِ لِئَلَّا يَسِيلَ شَيْءٌ مِنْ دُهْنِهِ عَلَى الْخُبْزِ، وَلَا يَأْخُذُ مِنْ الْعَجِينِ زِيَادَةً عَمَّا جَعَلَ لَهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْبَاب الثَّالِث عَشْر فِي الْحَسَبَة عَلَى الشَّوَّائِينَ] يَنْبَغِي لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَزِنَ عَلَيْهِمْ الْبَهَائِمَ قَبْلَ إنْزَالِهَا التَّنُّورَ، وَيَكْتُبَهُ فِي دَفْتَرِهِ ثُمَّ يُعِيدَهُ إلَى الْوَزْنِ بَعْدَ إخْرَاجِهَا فَإِنْ كَانَ قَدْ نَقَصَ مِنْهُ الثُّلُثُ فَقَدْ تَنَاهَى نُضْجُهُ، وَإِنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ أَعَادَهُ إلَى التَّنُّورِ، وَلَا يُمَكِّنَهُمْ أَنْ يَذْبَحُوا إلَّا الْبَهَائِمَ اللِّطَافَ الْبَلَدِيَّةَ السِّمَانَ الْجِذْعَان فِي

فصل الحسبة على باعة الشوي المرضوض

السِّنِّ، وَلَا يُمَكِّنَهُمْ مِنْ عَمَلِ الْبَهَائِمِ الصَّعِيدِيَّةِ، وَلَا الْبَرَاقِي، وَلَا الْمُجَنَّسِ، وَهُوَ الَّذِي أَبُوهُ صَعِيدِيَّةٌ، وَأُمُّهُ بَرْقِيَّةٌ، وَبِالْعَكْسِ، وَلَا الْبَهَائِمِ الثَّنِيَّاتِ الْهَزِيلَةِ، وَيَعْتَبِرُ عَلَيْهِمْ عِنْدَ، وَزْنِهِ، وَهُوَ لَحْمٌ أَنْ لَا يَضَعُوا فِيهِ صِنَجَ الْحَدِيدِ، أَوْ مَثَاقِيلَ الرَّصَاصِ، وَعَلَامَةُ نُضْجِ الشَّوِيِّ أَنْ يَجْذِبَ الْكَتِفَ بِسُرْعَةٍ فَإِنْ جَاءَتْ فَقَدْ انْتَهَى فِي النُّضْجِ، وَأَيْضًا يُبَالِغُ فِي تَجْرِيحِهِ، وَهُوَ لَحْمٌ، وَهُوَ أَنْ يَشُقَّ الْقُطْنَةَ شِقَتَيْنِ مِنْ تَحْتِ الْأَلْيَةِ إلَى آخِرِ الْمَسْرُبَةِ ثُمَّ يَجْرَحُ الْوَرِكَيْنِ تَجْرِيحًا تَامًّا، وَيَمْسَحُ خُفَافَتِهِ، وَيُطْلِقُ شَرَجَاتِهِ، وَيَخْلَعُ أَعْصَابَهُ، وَعَظْمَ سِنِّهِ حَتَّى يَتَمَكَّنَ النَّارُ مِنْ أَجْزَائِهِ، وَلَا يُمَكِّنْهُمْ بِأَنْ يُدَلُّوهُ حَتَّى يَطْهُرَ بِالْمَاءِ بَطْنُهُ مِنْ الرَّوْثِ، وَمَلَّاحِيهِ مِنْ الدَّمِ، وَجَمِيعِ أَجْزَائِهِ، وَلَا يُمَكِّنْهُمْ أَنْ يُلَوِّنُوهُ إلَّا بِالزَّعْفَرَانِ، وَلَا يُمَكِّنْهُمْ مِنْ إلْوَانٍ بِالْمَغْرَةِ، وَلَا بَابِيّ مُلَيْحٍ، وَلَا بِالْعَسَلِ، وَلَا بِاللَّبَنِ فَإِنَّهُ يُظْهِرُ اللَّوْنَ فَيَظُنُّ الرَّائِي أَنَّهُ نَضِجَ، وَهُوَ غَيْرُ نَاضِجٍ، وَهُوَ غِشٌّ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَذْبَحُ الْبَهَائِمَ الْكَبِيرَةَ، وَيَحْمِلُ بَعْضَهَا إلَى الْمُحْتَسِبِ، وَيُخْفِي الْبَاقِي فَيَعْتَبِر عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، وَيَأْمُرُهُمْ أَلَّا يُطَيِّنُوا تَنَانِيرَهُمْ إلَّا بِطِينٍ طَاهِرٍ قَدْ عُجِنَ بِمَاءٍ طَاهِرٍ فَإِنَّهُمْ يَأْخُذُونَ الطِّينَ مِنْ أَرَاضِي حَوَانِيتِهِمْ، وَهُوَ مُخْتَلِطٌ بِالدَّمِ، وَالرَّوْثِ، وَذَلِكَ نَجَسٌ، وَرُبَّمَا انْتَثَرَ عَلَى الشِّوَاءِ مِنْهُ شَيْءٌ عِنْدَ فَتْحِ التَّنُّورِ فَيُنَجَّسُ. [فَصَلِّ الْحَسَبَة عَلَى بَاعَة الشَّوِيّ الْمَرْضُوض] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا بَاعَةُ الشَّوَى الْمَرْضُوضِ فَمِنْهُمْ مَنْ يَضَعُ تَحْتَ يَدِهِ شَيْئًا يُقَالُ لَهُ تَشْرِيبُ التَّنُّورِ، وَهُوَ مَاءٌ، وَمِلْحٌ، وَهُوَ الَّذِي يَطْلُعُ مِنْ تَحْتِ الْبَهَائِمِ مِنْ التَّنُّورِ فِي قَدَحٍ، وَيُفَرِّقُهُ عَلَى الْمُشْتَرِينَ عِنْدَ رَضِّ الشِّوَى، وَيَرُشُّهُ قَلِيلًا قَلِيلًا، وَفِيهِمْ مَنْ قَدْ يَفْضُلُ عِنْدَهُ فَضْلَةٌ مِنْهُ فِي لَيَالِي الصَّيْفِ فَيُصْبِحُ مُتَغَيِّرًا فَيَمْزُجُهُ

الباب الرابع عشر في الحسبة على النقانقيين

بِاللَّيْمُونِ الطَّرِيِّ لِيُنَقِّيَ رِيحَهُ، وَطَعْمَهُ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَفِيهِمْ مَنْ يَرُضُّ شَحْمَ الْكُلَى مَعَ الشَّوَى، وَالْكُبُودِ، وَالْأُنْثَيَيْنِ عَلَى غَفْلَةٍ مِنْ الْمُشْتَرِي، وَجَمِيعُ هَذَا تَدْلِيسٌ يَجِبُ عَلَى الْمُحْتَسِبِ أَنْ يَعْتَبِرَهُ عَلَيْهِمْ، وَإِذَا فَرَغُوا مِنْ الْبَيْعِ، وَأَرَادُوا الِانْصِرَافَ أَمَرَهُمْ أَنْ يَنْثُرُوا عَلَى قَرَمِهِمْ الْمِلْحَ، وَيُغَطُّوهَا بِأُبْلُوجَةٍ فَارِغَةٍ خَشْيَةً مِنْ هَوَامِّ الْأَرْضِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْبَاب الرَّابِع عَشْر فِي الْحَسَبَة عَلَى النقانقيين] الْأَوْلَى أَنْ تَكُونَ مَوَاضِعُهُمْ الَّتِي يَصْنَعُونَ فِيهَا النَّقَانِقَ بِقُرْبِ دَكَّةِ الْمُحْتَسِبِ، وَيُلْزِمُهُمْ الْمُحْتَسِبُ أَنْ لَا يَعْمَلُوا إلَّا بَيْنَ يَدَيْهِ فَإِنَّ غِشَّهُمْ فِيهَا كَثِيرٌ، وَيَأْمُرُهُمْ بِتَنْقِيَةِ اللَّحْمِ، وَجَوْدَتِهِ، وَاسْتِمَانِهِ، وَيَكُونُ مِنْ لَحْمِ الضَّأْنِ، وَيَدُقُّ عَلَى الْقُرُمِ النَّظِيفَةِ، وَلْيَكُنْ عِنْدَهُ وَاحِدٌ حِينَ يَدُقُّ اللَّحْمَ بِيَدِهِ مِذَبَّةٌ يَطْرُدُ الذُّبَابَ بِهَا، وَلَا يَخْلِطُوا مَعَ اللَّحْمِ عَلَى الْقَرْمَةِ الشَّحْمَ، وَلَا شَيْئًا مِنْ بُطُونِ الْبَهِيمَةِ، وَلَا يَخْلِطُوا مَعَهُ مِنْ السَّمِيذِ، وَلَا الْفُلْفُلِ، وَلَا شَيْئًا مِنْ الْأَدْهَانِ إلَّا بِحُضُورِ الْمُحْتَسِبِ، أَوْ نَائِبِهِ، أَوْ أَمِينٍ يَثِقُ بِهِ الْمُحْتَسِبُ فِي ذَلِكَ ثُمَّ يَحْثُونَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْمَصَارِينِ النَّقِيَّةِ الْمَغْسُولَةِ بِالْمَاءِ، وَالْمِلْحِ، وَيَعْتَبِرُ عَلَيْهِمْ مَا يَغُشُّونَ بِهِ النَّقَانِقَ فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَغُشُّهَا بِلُحُومِ الْمَعْزِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَغُشُّهَا بِلُحُومِ الْإِبِلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَغُشُّهَا بِالسَّمِيذِ الزَّائِدِ عَنْ الْمُعْتَادِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَغُشُّهَا بِاللُّحُومِ الْوَاقِعَةِ الْهَزِيلَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرُشُّ الْمَاءَ عَلَى

الباب الخامس عشر في الحسبة على الكبوديين والبوارديين

اللَّحْمِ، وَقْتَ دَقَّهُ، وَيَعْرِفُ جَمِيعَ ذَلِكَ بِأَنْ يَشُقَّ النَّقَانِقَ قَبْلَ قَلْيِهَا لِيَنْظُرَ مَا فِيهَا مِنْ الْغِشِّ، وَمَا يَخْفَى ذَلِكَ عَلَى ذَكِيٍّ، وَلَا عَارِفٍ فَإِنَّ كُلَّ مَدْقُوقٍ مَجْهُولٍ لَكِنَّ الْحَاذِقَ لَا يَخْفَاهُ شَيْءٌ مِنْ غُشُوشِهِمْ، وَأَمَّا إذَا وُضِعَتْ فِي الْمِقْلَاةِ فَلَا تَكَادُ تُعْرَفُ؛ لِأَنَّهُمْ يَبْخَشُونَهَا بِالسَّفُّودِ، وَإِذَا قَارَبَتْ النُّضْجَ فَسَالَ مَا فِيهَا مِنْ الدُّهْنِ فَلَا يُعْرَفُ ذَلِكَ، وَيُلْزِمُهُمْ بِتَغْيِيرِ الطَّاجِنِ الَّذِي يُقْلَى فِيهِ كُلَّ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بِالشَّيْرَجِ الطَّرِيِّ، ثُمَّ يَنْثِرُونِ عَلَيْهَا بَعْدَ قَلْيِهَا الْأَبَازِيرَ الطَّيِّبَةَ، وَالتَّوَابِلَ الْمَسْحُوقَةَ، وَغَيْرَ ذَلِكَ. [الْبَاب الْخَامِس عَشْر فِي الْحَسَبَة عَلَى الكبوديين والبوارديين] يُؤْخَذُ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَخْلِطُوا كُبُودَ الْمَعْزِ، وَلَا الْبَقَرِ بِكُبُودِ الضَّأْنِ بَلْ كُلٌّ مِنْهَا يُعْمَلُ عَلَى جِهَتِهِ، وَيُحْضِرُهُمْ الْمُحْتَسِبُ إلَى مَجْلِسِهِ، وَيُلْزِمُهُمْ بِالْإِشْرَاحِ الرَّفِيعِ ثُمَّ بَعْدَ الْإِشْرَاحِ يُنْثَرُ عَلَيْهَا الْمِلْحُ، وَيَجْعَلُوا فِي مِشَنَّةِ ثِمَارٍ، وَيُطَهِّرُوا بِالْمَاءِ ثُمَّ يُسَخِّنُوا تَسْخِينًا خَفِيفًا ثُمَّ يُدْلُوا فِي التَّنُّورِ فَإِذَا انْتَهَى نُضْجُهَا خَرَّطُوا بِحَضْرَتِهِ، أَوْ بِحَضْرَةِ مَنْ يَثِقُ بِهِ، وَيُضَافُ عَلَيْهَا الْمِلْحُ النَّاعِمُ، وَالْكُسْفُرَةُ الْيَابِسَةُ، وَالْكَرَاوْيَةُ الْمُحَمَّصَةُ نِصْفَيْنِ بِالسَّوِيَّةِ

فصل ما يؤخذ على البوارديين

وَيُضَافُ عَلَيْهَا الْفُلْفُلُ الْمَصْحُونُ لِكُلِّ عَشْرَةِ أَسْيَاخٍ أُوقِيَّةٌ، وَمِنْ الْقِرْفَةِ اللِّفِّ الْمَصْحُونَةِ لِكُلِّ عَشْرَةِ أَسْيَاخٍ أُوقِيَّةٌ ثُمَّ يُضَافُ عَلَيْهَا الزَّيْتُ الطَّيِّبُ الرَّفِيعُ لِكُلِّ عَشْرَةِ أَسْيَاخٍ رِطْلٌ، وَنِصْفٌ، وَيُحْتَرَزُ عَلَيْهِمْ أَلَّا يَخْلِطُوا الْبَائِتَ مَعَ الطَّرِيِّ، وَلَا الْمَصْلُوقَ بِالْبَصَلِ مَعَ الْمَشْوِيِّ، وَإِذَا بَاتَ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْهُمْ شَيْءٌ أَعْرَضَهُ عَلَيْهِ مِنْ بَاكِرِ النَّهَارِ، وَيُلْزِمُهُ بِبَيْعِهِ وَحْدَهُ. [فَصَلِّ مَا يُؤْخَذ عَلَى البوارديين] (فَصْلٌ) : يُؤْخَذُ عَلَى البوارديين أَنْ لَا يُرْخُوا الْكُرُنْبَ إلَّا فِي الْمَاءِ الْحَارِّ، وَلَا يُطْلَعَ بِهِ مِنْ الْقِدْرِ حَتَّى يَتَمَكَّنَ نُضْجُهُ، وَأَمَّا اللِّفْتُ، وَاللُّوبْيَاءُ فَلَا يَخْلِطُوا الْفَرَنْسِيَّةَ بِالْحَرّانِيَّةِ، وَلَا يَعْمَلَهَا إلَّا مُقَمَّعَةَ الْعِيدَانِ، وَكَذَا اللِّفْتُ، وَيُؤْخَذُ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَصْلُقُوا بِنَشَادِرٍ فَإِنَّهُ بَخْسٌ، وَمُضِرٌّ بَلْ بِالنَّطْرُونِ كَمَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ، وَلَا يَشِيلُوهُ مِنْ الْمَاءِ الْحَارِّ فَيَضَعُوهُ فِي الْمَاءِ الْبَارِدِ فَإِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَفْعَلُ ذَلِكَ حَتَّى يُعْطِيَ لَوْنَهُ خُضْرَةً لِلزَّبُونِ، وَهَذَا مُضِرٌّ يُورِثُ الْبَرَصَ، فَيَتَفَقَّدُ مَوَاضِعَ الْعَمَلِ فَمَنْ وَجَدَهُ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ أَدَّبَهُ التَّأْدِيبَ التَّامَّ، وَيُلْزِمُهُمْ أَلَّا يَخْلِطُوا الْبَائِتَ بِالطَّرِيِّ، وَلَا يَصْلُقُوا اللِّفْتَ فِي مَرَقَةِ اللُّوبْيَاءِ، وَلَا اللُّوبْيَاءَ فِي مَرَقَةِ اللِّفْتِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَضُرُّ بِالْآكِلِينَ، وَكَذَلِكَ بَاذِنْجَانُ الصَّاجِ يُلْزِمُهُمْ بِأَنْ يُنْضِجُوهُ، وَيُضِيفُوا إلَيْهِ الْخَلَّ الْحَاذِقَ، وَالْكَرَاوْيَةَ، وَالْكُسْفُرَةُ الْيَابِسَةَ، وَحَوَائِجَ الْبَقْلِ، وَالْفُلْفُلِ، وَالْقِرْفَةِ الْمَصْحُونَةِ، وَيُلْزِمُهُمْ بِأَنْ يُقْلِعُوا أَقْمَاعَهُ الْيَابِسَةَ، وَكَذَلِكَ الرِّجْلَةَ يَأْمُرُ بِنُضْجِهَا، وَتَنْقِيَتِهَا مِنْ الرَّمْلِ، وَالْعِيدَانِ، وَيُضِيفُ إلَيْهَا الْخَلَّ الْحَاذِقَ، وَالثُّومَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَصْنَعُهَا بِاللَّبَنِ، وَالثُّومِ فَيُلْزِمُهُمْ بِكَثْرَةِ اللَّبَنِ، وَقِلَّةِ الثُّومِ فَإِنَّ فِيهِ ضَرَرًا، وَكَذَلِكَ الْمُبَعْثَرَةُ يُلْزِمُهُمْ بِعَرْضِ الْبَيْضِ عَلَيْهِ حَتَّى يُعْزَلَ الطَّرِيُّ مِنْ الْفَاسِدِ، وَيُلْزِمُهُمْ بِأَنْ يُضِيفُوا إلَيْهَا الزَّيْتَ الطَّيِّبَ حَتَّى يَقْطَعَ زُفَرَةَ الْبَيْضِ وَالْفُلْفُلِ

الباب السادس عشر في الحسبة على الجزارين

وَالْقِرْفَةَ، وَالْكَمُّونَ، وَكَذَلِكَ الْبَاذِنْجَانَ الْمَقْلُوَّ يَأْخُذُ عَلَيْهِمْ أَلَّا يَقْلُوهُ إلَّا مُقَشَّرًا، وَيَجْعَلُهُ فِي الْمَاءِ، وَالْمِلْحِ قَبْلَ قَلْيِهِ حَتَّى يَخْرُجَ دَغَلُهُ ثُمَّ يَقْلِيهِ بِالشَّيْرَجِ الطَّرِيِّ، وَلَا يَرْفَعُهُ مِنْ الْمِقْلَاةِ حَتَّى يَتِمَّ نُضْجُهُ، وَلَا يُمَكِّنُهُ مِنْ قَلْيِهِ بِالزَّيْتِ الْحُلْوِ فَإِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَقْلِيهِ بِهِ، وَيُوهِمُ الزَّبُونَ أَنَّهُ بِشَيْرَجٍ، وَهَذَا غِشٌّ فَيُؤَدَّبُ فَاعِلُهُ. [الْبَاب السَّادِس عَشْر فِي الْحَسَبَة عَلَى الْجَزَّارِينَ] وَلَا يَحِلُّ مِنْ الْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ شَيْءٌ مِنْ غَيْرِ ذَكَاةٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] إلَّا السَّمَكَ، وَالْجَرَادَ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أُحِلَّ لَكُمْ مَيْتَتَانِ، وَدَمَانِ أَمَّا الْمَيْتَتَانِ فَالسَّمَكُ، وَالْجَرَادُ، وَأَمَّا الدَّمَانِ فَالْكَبِدُ، وَالطِّحَالُ» ، وَلَا يَحِلُّ ذَكَاةُ الْمَجُوسِيِّ، وَلَا عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ لِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] ، وَأَرَادَ بِهِ الذَّبْحَ فَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا أَهْلَ الْكِتَابِ، وَكُرِهَ ذَكَاةُ الصَّبِيِّ، وَالْأَعْمَى، وَالْمَجْنُونِ، وَالسَّكْرَانِ؛ لِأَنَّهُمْ رُبَّمَا أَخْطَئُوا مَوْضِعَ الذَّكَاةِ، وَيَجُوزُ الذَّبْحُ بِكُلِّ مَا لَهُ حَدٌّ يَقْطَعُ حَتَّى الْقَصَبَ، وَالْحَجَرَ الْمُحَدَّدَ إلَّا السِّنَّ، وَالظُّفُرَ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ الذَّكَاةِ بِهِمَا. وَقَالَ: «إنَّهُمَا مُدَى الْحَبَشَةِ» ، فَحِينَئِذٍ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ الْجَزَّارُ مُسْلِمًا بَالِغًا عَاقِلًا يَذْكُرُ اسْمَ اللَّهِ عَلَى الذَّبِيحَةِ لِلْخَبَرِ الْمَشْهُورِ، وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ

الْمَوَاضِعِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى، وَقِيلَ يُسْتَحَبُّ الصَّلَاةُ، وَأَنْ تُسْتَقْبَلَ بِهَا الْقِبْلَةُ؛ لِأَنَّهَا أَفْضَلُ الْجِهَاتِ، وَأَنْ تُنْحَرَ الْإِبِلُ مَعْقُولَةً مِنْ قِيَامٍ، رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّهُ أَتَى عَلَى رَجُلٍ قَدْ أَنَاخَ بَدَنَةً يَنْحَرُهَا فَقَالَ ابْعَثْهَا قِيَامًا مُقَيَّدَةً سُنَّةَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَحَرَ سَبْعَ بَدَنَاتٍ بِيَدِهِ قِيَامًا» فَيَأْخُذُ حَرْبَةً، أَوْ سِكِّينًا فَيَغْرِزُهَا فِي شَفْرِ النَّحْرِ، وَهِيَ الْوَهْدَةُ الَّتِي فِي أَعْلَى الصَّدْرِ، وَأَصْلِ الْعُنُقِ، وَيَذْبَحُ الْبَقَرَ، وَالْغَنَمَ مُضْجَعَةً «؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَضْجَعَ الْكَبْشَيْنِ» ، وَأَلْحَقْنَا الْبَقَرَ بِهِمَا لِمُشَارَكَتِهِمَا إيَّاهُ فِي سُنَّةِ الذَّبْحِ عَلَى الْجَنْبِ الْأَيْسَرِ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ، وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ، وَأَنْ تُقْطَعَ الْأَوْدَاجُ كُلُّهَا؛ لِأَنَّهُ أَوْحَى، وَاعْلَمْ أَنَّهُمَا وَدَجَانِ لَا غَيْرُ، وَهُمَا عِرْقَانِ فِي جَانِبَيْ الْعُنُقِ مِنْ مُقَدِّمِهِ تَفُوتُ الْحَيَاةُ بِفَوَاتِهِمَا، وَالْحُلْقُومُ، وَالْمَرِيءُ، وَهُوَ تَحْتَ الْحُلْقُومِ فَإِنْ قَطَعَ الْحُلْقُومَ، وَبَعْضَ الْمَرِيءِ فَوَجْهَانِ أَظْهَرُهُمَا أَنَّهُ لَا يَحِلُّ فَلَوْ، وَقَعَ الشَّكُّ فِي أَنَّهُ هَلْ انْتَهَى إلَى حَرَكَةِ الْمَذْبُوحِ، أَوْ لَا فَاَلَّذِي نَقَلَهُ الْإِمَامُ فِي النِّهَايَةِ عَنْ جَمَاهِيرِ الْأَصْحَابِ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ بِالْحَرَكَةِ بَعْدَ الذَّبْحِ فَإِنْ تَحَرَّكَ بَعْدَهُ حَلَّ، وَظَهَرَ أَنَّ حَرَكَتَهُ كَانَتْ حَرَكَة مَذْبُوحٍ، وَإِنْ لَمْ يَتَحَرَّك لَمْ يَحِلَّ قَالَ صَاحِبُ التَّقْرِيبِ لَا بُدَّ مَعَ الْحَرَكَةِ بَعْدَ الذَّبْحِ مِنْ قَرَائِنَ بِحَيْثُ يَحْصُلُ الظَّنُّ أَمَّا مُجَرَّدُ الْحَرَكَةِ بَعْدَ الذَّبْحِ فَلَا يُكْتَفَى بِهَا، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِالِاخْتِلَاجِ بَعْدَ الذَّبْحِ، وَكَذَا لَا عِبْرَةَ بِإِنْهَارِ الدَّمِ. وَقَالَ بَعْضُ الْأَصْحَابِ: خُرُوجُ الدَّمِ دَلِيلُ اسْتِقْرَارِ الْحَيَاةِ، وَلَا يَجُرُّ شَاةً بِرِجْلِهَا جَرًّا عَنِيفًا، وَلَا يَذْبَحُ بِسِكِّينٍ كَالَّةٍ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ تَعْذِيبُ الْحَيَوَانِ. وَقَدْ «نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ تَعْذِيبِ الْحَيَوَانِ» ، وَلَا يَشْرَعُ فِي السَّلْخِ بَعْدَ الذَّبْحِ حَتَّى تَبْرُدَ الشَّاةُ، وَتَخْرُجَ مِنْهَا الرُّوحُ؛ لِأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -

فصل يمنع المحتسب القصابين من الذبح على أبواب دكاكينهم

أَمَرَ مُنَادِيًا يُنَادِي فِي الْمَدِينَةِ لَا تُسْلَخُ شَاةٌ مَذْبُوحَةٌ حَتَّى تَبْرُدَ، وَيُمْنَعُوا مِنْ ذَبْحِ الْبَقَرِ الْحَوَامِلِ، وَقَدْ كَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَمَرَ أَلَّا يُذْبَحَ مِنْ الْبَقَرِ إلَّا الْمَخْلُوعَ الْوَرِكَ، وَالْأَعْوَرَ، وَالْأَعْمَى، وَالْمَقْلُوعَ السِّنِّ، وَالْمُرَيَّشَ الْعُنُقِ، وَالْمَجْنُونَ، وَالْمَشْقُوقَ الْحَافِرِ، وَمَا بِهِ عَاهَةٌ، أَوْ مَرَضٌ ظَاهِرٌ، وَكَذَا الْجَوَامِيسَ، وَالْبَقَرَ الْحَبَشِيَّةَ، وَأَنْ تُذْبَحَ بَهِيمَةٌ، وَفِي بَطْنِهَا، وَلَدٌ فَإِنَّهُ حَلَالٌ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْجَنِينُ ذَكَاتُهُ ذَكَاةُ أُمِّهِ» . وَيُنْهَى الْأَبْخَرُ عَنْ النَّفْخِ فِي الشَّاةِ عِنْدَ السَّلْخِ؛ لِأَنَّ نَكْهَتَهُ تُغَيِّرُ اللَّحْمَ، وَتُزَفِّرُهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَشُقُّ اللَّحْمَ مِنْ الشَّفَافِيرِ، وَيَنْفُخُ فِيهِ الْمَاءَ، وَلَهُمْ أَمَاكِنُ يَعْرِفُونَهَا فِي اللَّحْمِ يَنْفُخُونَ فِيهَا الْمَاءَ، فَيُرَاعِيهِمْ الْمُحْتَسِبُ فِي ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُشْهِرُ فِي السُّوقِ الْبَقَرَ السِّمَانَ ثُمَّ يَذْبَحُ غَيْرَهَا، وَلَا يَذْبَحُ جَمَلًا مُقَرَّحَ الْجِسْمِ إلَّا أَنْ يُبْرِئَ مَا بِجِسْمِهِ. [فَصَلِّ يَمْنَع الْمُحْتَسَب الْقَصَّابِينَ مِنْ الذَّبْح عَلَى أَبْوَاب دَكَاكِينهمْ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الْقَصَّابُونَ فَيَمْنَعُهُمْ الْمُحْتَسِبُ مِنْ الذَّبْحِ عَلَى أَبْوَابِ دَكَاكِينِهِمْ فَإِنَّهُمْ يُلَوِّثُونَ الطَّرِيقَ بِالدَّمِ، وَالرَّوْثِ، وَهَذَا مُنْكَرٌ يَجِبُ الْمَنْعُ مِنْهُ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ تَضْيِيقًا لِلطَّرِيقِ، وَإِضْرَارًا بِالنَّاسِ بِسَبَبِ تَرْشِيشِ النَّجَاسَةِ بَلْ حَقُّهُ أَنْ يَذْبَحَ فِي الْمَذْبَحِ، وَيَمْنَعَهُمْ مِنْ إخْرَاجِ تَوَالِي اللَّحْمِ مِنْ حَدِّ مَصَاطِبِ حَوَانِيتِهِمْ بَلْ يَكُونُ تَمَكُّنُهُ فِي الدُّخُولِ عَنْ حَدِّ الْمِصْطَبَةِ لِئَلَّا تُلَاصِقَهَا ثِيَابُ النَّاسِ فَيُضَرُّونَ بِهَا، وَيَأْمُرَهُمْ أَنْ يُفَرِّدُونَ لُحُومَ الْمَعْزِ عَنْ لُحُومِ الضَّأْنِ، وَلَا يَخْلِطُوا بَعْضَهَا بِبَعْضٍ، وَيُنَقِّطُوا لَحْمَ الْمَعْزِ بِالزَّعْفَرَانِ

لِيَتَمَيَّزَ عَنْ غَيْرِهِ، وَتَكُونُ أَذْنَابُ الْمَعْزِ مُعَلَّقَةً عَلَى لُحُومِهَا إلَى آخِرِ الْبَيْعِ، وَيُعْرَفُ لَحْمُ الْمَعْزِ بِبَيَاضِ شَحْمِهِ، وَدِقَّةِ صُلْبِهِ، وَرِقَّةِ عَظْمِهِ، وَلَا يَخْلِطُوا شُحُومَ الْمَعْزِ بِشُحُومِ الضَّأْنِ، وَيُعْرَفُ شَحْمُ الضَّأْنِ بِعُلُوِّ صُفْرَتِهِ، وَلَا اللَّحْمَ السَّمِينَ بِاللَّحْمِ الْهَزِيلِ، وَلَا الذَّكَرَ بِالْأُنْثَى، وَفِيهِمْ مَنْ يُعَلِّقُ ذَكَرَ الْخَرُوفِ عَلَى النَّعْجَةِ، وَيُوهِمُ الزَّبُونَ بِأَنَّهَا خَرُوفٌ، وَهَذَا غِشٌّ، وَإِذَا، وَقَعَ عِنْدَ أَحَدِهِمْ بَهِيمَةٌ مَرِيضَةٌ، أَوْ مُتَغَيِّرَةُ اللَّوْنِ مَنَعَهُ مِنْ بَيْعِهَا مَعَ اللَّحْمِ الَّذِي عَلَى حَانُوتِهِ بَلْ يَأْمُرُهُ بِبَيْعِهَا خَارِجًا عَنْهُ لِئَلَّا يُبَطِّنَ بِهَا تَحْتَ الْبَهَائِمِ الْمُتَعَافِيَةِ، وَلَا يَبِيعُهَا إلَّا بِحُضُورِ أَمِينٍ مِنْ جِهَتِهِ، وَلَا يُمَكِّنُهُ أَنْ يَبِيعَ مِنْهَا لِلطَّبَّاخِينَ الَّذِينَ يَطْبُخُونَ لِلنَّاسِ شَيْئًا، وَيَأْمُرُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إذَا فَرَغَ مِنْ الْبَيْعِ أَنْ يَأْخُذَ مِلْحًا مَسْحُوقًا، وَيَنْثُرَهُ عَلَى الْقَرْمَةِ الَّذِي يُقَصِّبُ عَلَيْهَا اللَّحْمَ لِئَلَّا يُدَوَّدَ فِي زَمَنِ الْحَرِّ، وَأَنْ يَأْمُرَهُ بِأَنْ يُغَطِّيَهَا بِبُرْشٍ، وَفَوْقَهُ أُبْلُوجَةٌ فَارِغَةٌ مُثْقَلَةٌ بِالْحِجَارَةِ لِئَلَّا يَلْحَسَهَا الْكِلَابُ، أَوْ يَدِبَّ عَلَيْهَا شَيْءٌ مِنْ هَوَامِّ الْأَرْضِ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مِلْحًا فَالْأُشْنَانُ الْمَسْحُوقُ يَقُومُ مَقَامَهُ، وَالْمَصْلَحَةُ أَنْ لَا يُشَارِكَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا لِئَلَّا يَتَّفِقُونَ فِي سِعْرٍ وَاحِدٍ ، وَيَمْنَعُهُمْ مِنْ بَيْعِ لَحْمٍ بِالْحَيَوَانِ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. وَإِذَا شَكَّ الْمُحْتَسِبُ فِي الْحَيَوَانِ هَلْ هُوَ مَيْتَةٌ، أَوْ مَذْبُوحٌ اُخْتُبِرَ بِالْمَاءِ فَإِنْ طَفَحَ فَهُوَ مَيْتَةٌ، وَإِنْ رَسَبَ فَهُوَ حَلَالٌ، وَيُلْقِي مِنْهُ شَيْئًا عَلَى الْجَمْرِ، وَإِنْ لَمْ يُعَلَّقْ عَلَى الْجَمْرِ فَهُوَ مَيْتَةٌ، وَإِنْ عَلِقَ فَهُوَ حَلَالٌ، وَكَذَلِكَ الْبِيضُ إذَا طُرِحَ فِي الْمَاءِ فَمَا كَانَ مَذَرًا فَهُوَ يَطْفُو، وَمَا كَانَ طَرِيًّا فَهُوَ يَرْسُبُ، وَيُعْتَبَرُ عَلَى صَيَّادِينَ الْعَصَافِيرِ، وَسَائِرِ الطُّيُورِ بِمَا ذَكَرْنَاهُ بِالْمَاءِ فَإِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا دِينَ لَهُمْ، وَرُبَّمَا اخْتَنَقَ مَعَهُمْ شَيْءٌ مِنْ الطُّيُورِ فَبَاعُوهُ مَعَ الْمَذْبُوحِ

فصل فيما يحل أكله وما لا يحل

[فَصَلِّ فِيمَا يَحِلّ أَكُلّه وَمَا لَا يَحِلّ] (فَصْلٌ) : فِيمَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ، وَمَا لَا يُؤْكَلُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 4] . وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] ، وَالطَّيِّبُ يَقَعُ عَلَى الْحَلَالِ، وَتَكَلَّمَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي هَذَا الْبَابِ عَلَى مَا يَحِلُّ أَكْلُهُ، وَمَا لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ، وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِإِبَاحَتِهِ فَهُوَ مُبَاحٌ، وَمَا وَرَدَ بِتَحْرِيمِهِ فَهُوَ حَرَامٌ، وَمَا لَمْ يَرِدْ بِهِ الشَّرْعُ فِي إبَاحَتِهِ، وَلَا تَحْرِيمِهِ فَالْمَرْجِعُ فِيهِ إلَى عُرْفِ النَّاسِ، وَعَادَتِهِمْ فَمَا كَانَ فِي عَادَتِهِمْ مُسْتَطَابٌ أَكْلُهُ فَهُوَ حَلَالٌ، وَمَا كَانَ مُسْتَخْبَثًا غَيْرَ مُسْتَطَابٍ فَهُوَ حَرَامٌ، وَمَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِيهِ عَادَةٌ فَإِنَّهُ يُقَاسُ عَلَى مَا لَهُمْ فِيهِ عَادَةٌ فَإِنْ كَانَ الْتِئَامُهُ بِالْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ أَكْثَرَ أُكِلَ، وَإِنْ كَانَ شَبَهُهُ بِمَا لَا يُؤْكَلُ أَكْثَرَ لَمْ يُؤْكَلْ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [المؤمنون: 51] يَعْنِي الْحَلَالَ، وَيَقَعُ عَلَى الطَّاهِرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43] يَعْنِي طَاهِرًا، وَيَقَعُ عَلَى مَا تَسْتَطِيبُهُ النَّفْسُ كَمَا يُقَالُ هَذَا طَعَامٌ طَيِّبٌ، وَهَذَا شَيْءٌ طَيِّبٌ، وَإِنَّمَا يُرْجَعُ فِي ذَلِكَ إلَى عَادَةِ الْعَرَبِ الَّتِي كَانَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّ الْخِطَابَ لَهُمْ. وَالْكَلَامَ خَارِجٌ عَلَى عَادَاتِهِمْ، وَلَيْسَ يُرْجَعُ فِي ذَلِكَ إلَى عَادَةِ أَهْلِ الْبَادِيَةِ، وَالْعَرَبِ الْأَجْلَافِ؛ لِأَنَّ أُولَئِكَ يَأْكُلُونَ كُلَّمَا وُجِدَ حَتَّى رُوِيَ أَنَّ بَعْضَهُمْ سَأَلَ أَعْرَابِيًّا، فَقَالَ: مَا تَأْكُلُونَ؟ قَالَ: نَأْكُلُ كُلَّ مَا دَبَّ، وَدَرَجَ إلَّا أُمَّ حُبَيْنٍ، وَهِيَ دُوَيْبَّةٌ صَفْرَاءُ كَبِيرَةُ الْبَطْنِ فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَرْجِعُونَ فِي ذَلِكَ إلَى عَادَاتِهِمْ، وَعَادَاتُهُمْ مُخْتَلِفَةٌ؟ قُلْنَا: لَيْسَ يَكَادُ يَخْتَلِفُ ذَلِكَ فِي الْغَالِبِ، وَإِنْ اخْتَلَفَ رَجَعْنَا إلَى عَادَةِ الْأَكْثَرِ مِنْهُمْ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَالْحَيَوَانُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: طَاهِرٌ، وَنَجِسٌ، فَأَمَّا الطَّاهِرُ مِنْ دَوَابِّ الْإِنْسِ الْإِبِلُ، وَالْبَقَرُ، وَالْغَنَمُ لِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، وَالْخَيْلُ لِمَا

رَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ «ذَبَحْنَا يَوْمَ خَيْبَرَ الْخَيْلَ، وَالْبِغَالَ، وَالْحَمِيرَ فَنَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْبِغَالِ، وَالْحَمِيرِ، وَلَمْ يَنْهَنَا عَنْ الْخَيْلِ» ، وَيُؤْكَلُ مِنْ دَوَابِّ الْوَحْشِ الْبَقَرُ، وَالْحِمَارُ، وَالظَّبْيُ، وَالضَّبُّ، وَالضَّبُعُ، وَالثَّعْلَبُ، وَالْأَرْنَبُ، وَالْيَرْبُوعُ، وَالْقُنْفُذُ، وَالْوَبَرُ، وَابْنُ عَرِسٍ؛ لِأَنَّهَا مُسْتَطَابَةٌ عِنْدَ الْعَرَبِ، وَلَا تَتَقَوَّى بِنَابِهَا. قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ، وَكُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ، وَأَحَلَّ الضَّبُعَ، وَلَهُ نَابٌ» فَحُمِلَ عَلَى أَنَّ مَا لَهُ نَابٌ عَلَى ضَرْبَيْنِ ضَرْبٌ لَهُ قُوًى يَعْدُونَ بِهِ عَلَى النَّاسِ، وَعَلَى بَهَائِمِهِمْ، وَمَوَاشِيهِمْ كَالْأَسَدِ، وَالذِّئْبِ، وَالْفَهْدِ، وَالنَّمِرِ، وَالدُّبِّ، وَالْفِيلِ، وَالْقِرْدِ، وَالزَّرَافَةِ، وَالتِّمْسَاحِ، وَابْنِ آوَى فَهَذَا لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ إجْمَاعًا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْحَدِيثِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا لَهُ نَابٌ ضَعِيفٌ، وَلَيْسَ فِيهِ عَدْوَى، وَافْتِرَاسٌ كَالضَّبُعِ، وَالثَّعْلَبِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَهَذَا عِنْدَنَا مُبَاحٌ قَالَ مَالِكٌ هُوَ مُحَرَّمٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: مَكْرُوهٌ، وَظَاهِرُ مَذْهَبِهِ أَنَّ الْكَرَاهِيَةَ تَحْرِيمٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا قُلْنَا مَا رَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي عُمَارَةَ قَالَ سَأَلْت جَابِرًا فَقُلْت الضَّبُعُ صَيْدٌ قَالَ نَعَمْ قُلْت يُؤْكَلُ قَالَ نَعَمْ قُلْت سَمِعْت مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ نَعَمْ؛ وَلِأَنَّهَا بَهِيمَةٌ لَا تُنَجَّسُ بِالذَّبْحِ يَحِلُّ أَكْلُهَا كَالشَّاةِ، وَأَمَّا الثَّعْلَبُ فَقَدْ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ سَمِعْت الرَّبِيعَ يَقُولُ سَمِعْت الشَّافِعِيَّ يَقُولُ الثَّعْلَبُ، وَالْوَبَرُ، وَالْقُنْفُذُ حَلَالٌ، فَأَمَّا الثَّعْلَبُ فَقَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَهُ، وَأَمَّا الْوَبَرُ فَهِيَ دُوَيْبَّةٌ سَوْدَاءُ أَكْبَرُ مِنْ ابْنِ عُرْسٍ، وَأَمَّا الْقُنْفُذُ فَمَعْرُوفٌ، وَأَكْلُ الْجَمِيعِ جَائِزٌ، وَأَمَّا الْأَرْنَبُ حَلَالٌ أَكْلُهُ رَوَى أَنَسٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «كُنْت غُلَامًا حَزَوَّرًا فَاصْطَدْت أَرْنَبًا فَشَوَيْتهَا فَأَنْفَذَ أَبُو طَلْحَةَ بِفَخِذِهَا، وَوَرِكِهَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَتَيْته بِهِ» ،

، وَلَا بَأْسَ بِأَكْلِ الضَّبِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: مَكْرُوهٌ وَظَاهِرُ مَذْهَبِهِ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ فَإِنَّهُ قَالَ يَأْثَمُ بِأَكْلِهِ. وَقَالَ مَالِكٌ هُوَ حَرَامٌ، وَدَلِيلُنَا مَا رَوَى خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ قَالَ «دَخَلْت مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْزِلَ مَيْمُونَةَ فَقُدِّمَ إلَيْهِ ضَبٌّ مَحْنُوذٌ يَعْنِي مَشْوِيٌّ فَأَهْوَى إلَيْهِ بِيَدِهِ فَقَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْ النِّسْوَةِ اللَّوَاتِي فِي الْبَيْتِ أَخْبِرُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا الَّذِي يَأْكُلُ فَقَالُوا إنَّهُ ضَبٌّ فَرَفَعَ يَدَهُ عَنْهُ فَقَالَ خَالِدٌ فَقُلْت أَحَرَامٌ هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ لَا، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ قَالَ فَاجْتَرَرْتُهُ إلَى نَفْسِي، وَأَكَلْتُهُ، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْظُرُ إلَيَّ» . وَأَمَّا ابْنُ آوَى فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ يَحِلُّ أَكْلُهُ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: وَوَجْهُهُ بِأَنَّ لَهُ نَابٌ ضَعِيفٌ، وَلَيْسَ فِيهِ عَدْوٌ فَشَبَّهَهُ بِالثَّعْلَبِ، وَالضَّبُعِ، وَأَمَّا السِّنَّوْرُ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ أَهْلِيٌّ، وَبِرِّي أَمَّا الْأَهْلِيُّ فَحَرَامٌ بِلَا خِلَافٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَكْلُ السِّنَّوْرِ حَرَامٌ، وَثَمَنُهُ حَرَامٌ» ؛ لِأَنَّهُ يَأْكُلُ الْخَبَائِثَ كَالْفَأْرِ، وَغَيْرِهِ ذَكَرَهُ صَاحِبُ الِاسْتِقْصَاءِ، وَسِنَّوْرُ الْبَرِّ قِيلَ: إنَّهُ يُؤْكَلُ كَحِمَارِ الْوَحْشِ، وَقِيلَ لَا يُؤْكَلُ لِعُمُومِ الْخَبَرِ. وَأَمَّا النَّجِسُ فَهُوَ الْكَلْبُ، وَالْخِنْزِيرُ، وَمَا تَوَلَّدَ مِنْهُمَا، أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا فَلَا يَجُوزُ أَكْلُ شَيْءٍ مِنْهُ بِحَالٍ، وَلَا يُؤْكَلُ مَا تَسْتَخْبِثُهُ الْعَرَبُ مِنْ الْحَشَرَاتِ كَالْحَيَّةِ، وَالْعَقْرَبِ، وَالْفَأْرِ، وَالْوَزَغِ، وَالسَّامِّ الْبَرَصِ، وَالْخُنْفُسَاءِ، وَالزُّنْبُورِ، وَالذُّبَابِ، وَالْجُعْلَانِ، وَبَنَاتِ وَرْدَانَ، وَحِمَارِ قَبَّانٍ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] ، وَقِيلَ الصِّرَارُ حَلَالٌ كَالْجَرَادِ، وَالِاعْتِبَارُ مِنْ الْعَرَبِ بِأَهْلِ الْقُرَى دُونَ أَهْلِ الْبَوَادِي الَّذِينَ يَأْكُلُونَ كُلَّمَا دَبَّ، وَدَرَجَ فَإِنْ اسْتَطَابَ قَوْمٌ شَيْئًا، وَاسْتَخْبَثَهُ آخَرُونَ رُجِعَ إلَى مَا عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ فَإِنْ اُتُّفِقَ فِي بِلَادِ الْعَجَمِ مَا لَا يَعْرِفُهُ الْعَرَبُ نُظِرَ إلَى شَبَهِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ

شَبَهٌ مِمَّا يَحِلُّ، وَفِيمَا لَا يَحْرُمُ فِيهِ، وَجْهَانِ. وَأَمَّا الزَّرَافَةُ فَقَدْ جَعَلَهَا الشَّيْخُ مِنْ جُمْلَةِ مَا يَتَقَوَّى بِنَابِهِ. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي فَتَاوِيهِ إنَّ الزَّرَافَةَ حَلَالٌ كَالثَّعْلَبِ، وَيُؤْكَلُ مِنْ الطُّيُورِ النَّعَامَةُ، وَالدِّيكُ، وَالدَّجَاجُ، وَالْبَطُّ، وَالْإِوَزُّ، وَالْحَمَامُ، وَالْعُصْفُورُ، وَكُلُّ ذِي طَوْقٍ، وَمَا أَشْبَهَهُمْ، وَلَا يُؤْكَلُ مَا يَصْطَادُ بِالْمِخْلَبِ كَالنَّسْرِ، وَالصَّقْرِ، وَالشَّاهِينِ، وَالْبَازِي، وَالْحِدَأَةِ، وَلَا مَا يَأْكُلُ الْجِيَفَ كَالْغُرَابِ الْأَبْقَعِ، وَالْغُرَابِ الْأَسْوَدِ الْكَبِيرِ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَخْبَثٌ، وَأَمَّا غُرَابُ الزَّرْعِ، وَالْغُدَافُ، وَهُوَ صَغِيرُ الْجُثَّةِ لَوْنُهُ لَوْنُ الرَّمَادِ فَقَدْ قِيلَ: إنَّهُمَا يُؤْكَلَانِ؛ لِأَنَّهُمَا يَلْتَقِطَانِ الْحَبَّ فَأَشْبَهَ الْفَوَاخِتَ، وَقِيلَ لَا يُؤْكَلَانِ كَالْأَبْقَعِ، وَلَا يُؤْكَلُ الْهُدْهُدُ، وَالْخُطَّافُ، وَالْخُفَّاشُ. وَقَالَ بَعْضُ الْخُرَاسَانِيِّينَ: يَحِلُّ أَكْلُ الْهُدْهُدِ، وَمَا تَوَلَّدَ مِنْ مَأْكُولٍ، وَغَيْرِ مَأْكُولٍ كَالسَّبُعِ لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ، وَهُوَ الْمُتَوَلِّدِ بَيْنَ الذِّئْبِ، وَالضَّبُعِ، وَقِيلَ كَالْحِمَارِ الْمُتَوَلِّدِ بَيْنَ الْحِمَارِ الْوَحْشِ، وَحِمَارِ الْأَهْلِ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ تَغْلِيبًا لِلتَّحْرِيمِ، وَيُكْرَهُ أَكْلُ الشَّاةِ الْجَلَّالَةِ، وَهِيَ الَّتِي أَكْثَرُ عَلَفِهَا الْعَذِرَةُ الْيَابِسَةُ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، وَغَيْرُهُ: هِيَ الَّتِي تَتَعَاطَى أَكْلَ الْعَذِرَةِ، وَالْأَشْيَاءِ الْقَذِرَةِ، وَكَذَا تُكْرَهُ النَّاقَّةُ، وَالْبَقَرَةُ، وَالدَّجَاجَةُ الْجَلَّالَةُ، وَكَذَا يُكْرَهُ لَبَنُهَا، وَبَيْضُهَا، وَلَا يَحْرُمُ؛ لِأَنَّ النَّجَاسَةَ لَا تَخْتَلِطُ بِلَحْمِهَا فَأَشْبَهَ مَا لَوْ تَرَكَ لَحْمًا طَرِيًّا حَتَّى أَنْتَنَ. وَقَالَ الْفُقَهَاءُ: إنْ ظَهَرَ فِي اللَّحْمِ رَائِحَةُ الْعَذِرَةِ حَرُمَ أَكْلُهُ؛ لِأَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ أَكْلِ الْجَلَّالَةِ، وَعَنْ شُرْبِ لَبَنِهَا حَتَّى تُحْبَسَ» ، فَإِنْ أَطْعَمَ الْجَلَّالَةَ طَعَامًا طَاهِرًا حَتَّى طَابَ لَحْمُهَا أَيْ زَالَتْ الرَّائِحَةُ مِنْهُ لَمْ يُكْرَهْ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مُدَّةٌ مُقَدَّرَةٌ بَلْ يُرْجَعُ فِي ذَلِكَ إلَى الْعَادَةِ. وَقَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: حَدَّهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِأَنْ يُحْبَسَ الْبَعِيرُ، وَالْبَقَرَةُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَالشَّاةُ سَبْعَةَ أَيَّامٍ، وَالدَّجَاجَةُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَقِيلَ: سَبْعَةَ أَيَّامٍ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مُقَدَّرًا، وَإِنَّمَا الِاعْتِبَارُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَيُؤْكَلُ مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ السَّمَكُ لِلْخَبَرِ، وَلَا يُؤْكَلُ الضِّفْدَعُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ

الباب السابع عشر في الحسبة على الرواسين

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ قَتْلِهِ، وَلَوْ حَلَّ أَكْلُهُ لَمَا نَهَى عَنْ قَتْلِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَوَصَّلُ إلَى أَكْلِهِ إلَّا بِهِ، وَكَذَلِكَ الْحَيَّةُ الَّتِي تَكُونُ فِي الْمَاءِ، قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَكَذَا النَّسْنَاسُ؛ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ الْآدَمِيَّ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: وَالسَّرَطَانُ مِثْلُهُ. وَحَكَى الْخُرَاسَانِيُّونَ قَوْلًا فِي حِلِّ الضِّفْدَعِ، وَالسَّرَطَانِ، وَمَا سِوَاهُمَا فَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ يُؤْكَلُ لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ} [المائدة: 96] ، وَقِيلَ لَا يُؤْكَلُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَصَّ السَّمَكَ بِالْحِلِّ، وَقِيلَ مَا أُكِلَ شَبَهُهُ فِي الْبَرِّ أُكِلَ، وَقِيلَ فِيهِ قَوْلَانِ، وَمَا لَا يُؤْكَلُ شَبَهُهُ كَكَلْبِ الْمَاءِ، وَخِنْزِيرِهِ لَا يُؤْكَلُ اعْتِبَارًا بِهِ فَإِنْ قُلْنَا يَحِلُّ فَفِي اشْتِرَاطِ ذَبْحِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ هَلْ تُسَمَّى سَمَكًا أَمْ لَا، وَلَا يَجُوزُ أَكْلُ مَا فِيهِ ضَرَرٌ كَالسُّمِّ، وَالزُّجَاجِ وَالتُّرَابِ، وَالْحَجَرِ لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ لِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] ، وَلَا يَحِلُّ كُلُّ شَيْءٍ نَجِسٍ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْخَبَائِثِ. [الْبَاب السَّابِع عَشْر فِي الْحَسَبَة عَلَى الرواسين] أَمَّا الرُّءُوسُ، وَالْأَكَارِعُ فَيَجُوزُ بَيْعُهَا نِيًّا، وَمَشْوِيًّا، وَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ، وَأَمَّا الْمَسْمُوطُ أَلْحَقَهُ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ بِالْأَكَارِعِ؛ لِأَنَّ الْجِلْدَ مِنْهُ فِي حُكْمِ جُزْءٍ مِنْ اللَّحْمِ إذْ يُؤْكَلُ مَعَهُ. وَقَالَ الْإِمَامُ إنْ كَانَ مَشْوِيًّا فَكَمَا قَالَ، وَإِنْ كَانَ نِيًّا فَفِيهِ احْتِمَالٌ فَحِينَئِذٍ يَأْمُرُهُمْ بِنَظَافَةِ سَمْطِ الرُّءُوسِ، وَالْأَكَارِعِ بِالْمَاءِ الشَّدِيدِ الْحَرَارَةِ، وَجَوْدَةِ نَتْفِ الشَّعْرِ عَنْهَا ثُمَّ يُغْسَلُ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْمَاءِ

الباب الثامن عشر في الحسبة على الطباخين

الْبَارِدِ غَيْرِ الَّذِي سُمِطَتْ فِيهِ، وَيُشَقُّ خَيَاشِيمُ الْبَهِيمَةِ بَعْدَ أَنْ يُقْذَفَ مَقْدِمُهَا، وَيَنَزَّلُ مَا فِيهِ مِنْ الْقَذَى وَالْوَسَخِ، وَالدُّودِ الْمُتَوَلِّدِ إنْ كَانَ هُنَاكَ مِنْهُ شَيْءٌ، وَيَخْرُجُ أَيْضًا مِنْ الْأَكَارِعِ شَيْءٌ يُقَالُ لَهُ أَبُو صُوفَانَ، وَيُشَقُّ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ مُضِرٌّ، وَلَا يَخْلِطُوا رُءُوسَ الْمَعْزِ بِالضَّأْنِ عِنْدَ الْبَيْعِ، وَتُسْلَخُ رُءُوسُ الْمَعْزِ قَبْلَ السَّلْقِ لِيَتَمَيَّزَ عَلَى الضَّأْنِ، وَلَا يَخْفَى ذَلِكَ عَلَى عَارِفٍ، وَنَحْنُ نَذْكُرُ مَا إذَا أُشْكِلَ عَلَى الْمُحْتَسِبِ - عَلَامَاتٍ تَدُلُّهُ عَلَى ذَلِكَ، وَعَلَامَةُ رُءُوسِ الضَّأْنِ أَنَّ تَحْتَ كُلِّ عَيْنٍ ثُقْبٌ يُسَمُّونَهُ مَأْقًا، وَلَيْسَ تَحْتَ عُيُونِ الْمَعْزِ شَيْءٌ، وَأَيْضًا فَإِنَّ خُرْطُومَ الْمَعْزِ رَقِيقٌ مِنْ أَصْلِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِلضَّأْنِ، وَرُبَّمَا كَسَدَتْ عِنْدَهُمْ الرُّءُوسُ فَخَلَطُوهَا بِالطَّرِيَّةِ، وَعَلَامَةُ الْبَائِتِ أَنَّكَ تَسُلُّ الْعَظْمَ الرَّقِيقَ الَّذِي فِي الْمَبْلَعِ الْمُسَمَّى بِالشَّوْكَةِ ثُمَّ تَشُمُّ رَائِحَتَهُ فَإِنْ تَغَيَّرَ فَهُوَ بَائِتٌ، وَيَأْخُذُ عَلَيْهِمْ أَيْضًا أَلَّا يَسْلُقُوا الرُّءُوسَ إلَّا بِالْمَاءِ الْحُلْوِ، وَيُضَافُ إلَيْهِ الْقِرْفَةُ، والمصطكى، وَالشَّبُّ، وَالزَّيْتُ الطَّيِّبُ، وَالْمِلْحُ فَإِنَّ ذَلِكَ يُطَيِّبُهُ، وَيَقْطَعُ الزُّفَرَةَ، وَلَا يُخْرِجْ الرُّءُوسَ مِنْ الْغُمَّةِ حَتَّى يَنْتَهِيَ نُضْجُهَا، فَيَعْتَبِرُ عَلَيْهِمْ جَمِيعَ ذَلِكَ. [الْبَاب الثَّامِن عَشْر فِي الْحَسَبَة عَلَى الطَّبَاخِينَ] يَأْمُرُهُمْ بِتَغْطِيَةِ أَوَانَيْهِمْ، وَحِفْظِهَا مِنْ الذُّبَابِ، وَهَوَامِّ الْأَرْضِ بَعْدَ غَسْلِهَا بِالْمَاءِ الْحَارِّ، وَالْأُشْنَانِ، وَأَنْ لَا يَخْلِطُوا لُحُومَ الْمَعْزِ بِلُحُومِ الضَّأْنِ، وَلَا

لُحُومَ الْإِبِلِ بِلُحُومِ الْبَقَرِ لِئَلَّا يَأْكُلَهَا مَنْ كَانَ بِهِ مَرَضٌ فَيَكُونُ سَبَبًا لِنَكْسَتِهِ. وَإِذَا طَبَخَ اللَّحْمَ بِمَاءٍ نَجِسٍ صَارَ ظَاهِرُهُ، وَبَاطِنُهُ نَجِسًا، وَكَيْفَ يَطْهُرُ فِيهِ، وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَغْلِيَهُ فِي الْمَاءِ الطَّاهِرِ. وَالثَّانِي: أَنْ يُكَاثِرَهُ بِالْمَاءِ ثُمَّ يَعْصِرَهُ، وَيَعْتَبِرُ عَلَيْهِمْ كَثْرَةَ الدُّهْنِ، وَقِلَّةَ اللَّحْمِ فَإِنَّ أَكْثَرَهُمْ يُسْلَئُونَ الدُّهْنَ، وَيُفْرِغُونَهُ فِي الْقِدْرِ فَيَطْفُو عَلَى، وَجْهِ الطَّعَامِ فَيَغْتَرُّ بِهِ النَّاسُ، وَيَظُنُّونَهُ مِنْ كَثْرَةِ اللَّحْمِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْمَلُ عَلَى وَجْهِ الْقِدْرِ شَيْئًا مِنْ عِنْدِ الْعَطَّارِ يُسَمَّى القنبيل يُشْبِهُ الشَّيْرَجَ فَإِذَا غُرِفَ مِنْ الْقِدْرِ شَيْءٌ هَرَبَ ذَلِكَ إلَى جَانِبِ الْقِدْرِ، وَلَا يَصْعَدُ مِنْهُ فِي الْغَرْفِ شَيْءٌ، وَهَذَا غِشٌّ، وَعَلَامَةُ لَحْمِ الْمَعْزِ أَنْ يَكُونَ فِي الْقِدْرِ أَزْرَقَ، وَعَظْمُهُ رَقِيقٌ، وَعَلَامَةُ لَحْمِ الْبَقَرِ أَنْ تَكُونَ بَشَرَتُهُ فِيهَا غِلَظٌ، وَيَعْتَبِرُ عَلَيْهِمْ مَا يَغُشُّونَهُ فِي الْأَطْعِمَةِ فَإِنَّهُمْ يَغُشُّونَ الْمَضِيرَةَ بِالدَّقِيقِ فَإِنَّهُ يَزِيدُ فِي وَزْنِهَا، أَوْ دَقِيقِ الْأُرْزِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَغُشُّ الْمَصْلُوقَةَ بِاللَّبَنِ الْحَلِيبِ فَيَعْتَقِدُ الْمُشْتَرِي أَنَّ بَيَاضَ تِلْكَ الْمَرَقَةِ مِنْ كَثْرَةِ الْمُؤْنَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَغُشُّهَا بِقَلِيلٍ مِنْ الْأُرْزِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَغُشُّ الْمُهَلَّبِيَّة بِعَسَلِ الْقَصَبِ، وَيَقُولُ لِلزَّبُونِ: إنَّهَا بِقِطَارَةٍ، وَكُلُّ هَذَا تَدْلِيسٌ، وَلَوْلَا أَنِّي أَخَافُ أَنْ أُنَبِّهُ كُلَّ مَنْ لَا دِينَ لَهُ عَلَى غِشِّ الْأَطْعِمَةِ لَذَكَرْت مِنْ ذَلِكَ جُمَلًا كَثِيرَةً فِي اخْتِلَافِ أَشْيَاءَ، وَلَكِنِّي أَعْرَضْت عَنْ ذِكْرِهَا مَخَافَةَ أَنْ يَتَعَلَّمَهَا، أَوْغَادُ النَّاسِ،

فصل ما يؤخذ على طباخين النيدة

وَيَأْمُرُهُمْ بِكَثْرَةِ الْأَبَازِيرِ، وَقِلَّةِ الْإِمْرَاقِ، وَنَضَاجَةِ اللُّحُومِ، والتَّغَاطِي، وَغَسْلِ الْأَوْعِيَةِ الَّتِي يَأْكُلُ فِيهَا النَّاسُ بِالْمَاءِ النَّظِيفِ، وَالْأُشْنَانِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ. [فَصَلِّ مَا يُؤْخَذ عَلَى طَبَاخِينَ النِّيدَة] (فَصْلٌ) : وَيُؤْخَذُ عَلَى طَبَّاخِينَ النِّيدَة أَلَّا يَسْتَعْمِلُوا إلَّا الدَّقِيقَ الْعَلَامَةَ الطَّيِّبَ، وَيُكْثِرُوا نَشَاوَاتِهَا حَتَّى تَكْثُرَ حَلَاوَتُهَا، وَلَا يُمَكِّنُهُمْ مِنْ تَعْلِيقِ الْمِيزَانِ، وَلَا مِنْ بَيْعِهَا حَتَّى يَنْتَهِيَ نُضْجُهَا، وَيُقَرِّرُ لِكُلِّ تَلِّيسٍ - وَهُوَ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ رِطْلَا دَقِيقٍ - وَيْبَةً بِالْكَيْلِ الْمِصْرِيِّ مِنْ الْبُقُولِ، وَلَا يَسْتَعْمِلُ الْقَمْحَ الْعَتِيقَ الَّذِي فِيهِ الرَّائِحَةُ لِئَلَّا يَحْصُلَ فِيهَا تَغَيُّرُ الطَّعْمِ، وَلَا يُمَكِّنُهُمْ مِنْ عَمَلِهَا فِي زَمَنِ الصَّيْفِ عِنْدَ كَثْرَةِ الْفَوَاكِهِ لِئَلَّا تَكْسُدَ عَلَيْهِمْ فَتَحْمُضَ فَتَضُرُّ بِالْمُشْتَرِي، وَيُلْزِمُهُمْ إذَا بَاتَ عِنْدَهُمْ مِنْهَا شَيْءٌ أَلَّا يَخْلِطُوهُ عَلَى الطَّرِيِّ، وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى عِنْدَهُمْ الْمُنْكَسِرُ، وَعَلَامَتُهُ أَنْ يَطْلُعَ عَلَيْهَا رَغْوَةٌ، وَيَظْهَرَ فِيهَا شَيْءٌ أَسْوَدُ، وَيَمْنَعُهُمْ مِنْ صَبْغِهَا فَإِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَصْبُغُهَا بِشَيْءٍ يُقَالُ لَهُ أَبُو مُلَيْحٍ فَيُعْطِي زُهْرَةَ فَيَظُنُّ الْمُشْتَرِي أَنَّهَا نَاضِجَةٌ، وَهِيَ عَجِينٌ حَتَّى تُعْطِيَهُ الْوُقُوعَ فِي الْمِيزَانِ، وَأَحْسَنُ النِّيدَةِ مَا قَوِيَ نُضْجُهَا، وَكَثُرْت حَلَاوَتُهَا، فَيَعْتَبِرُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ جَمِيعَهُ. [الْبَاب التَّاسِع عَشْر فِي الْحَسَبَة عَلَى الشرائحيين] (الْبَابُ التَّاسِعَ عَشَرَ: فِي الْحِسْبَةِ عَلَى الشُّرائِحيِّينَ) يُؤْخَذُ عَلَى الشُّرائِحيِّينَ أَنْ يَحْتَرِزُوا عَلَى أَطْعِمَةِ النَّاسِ، وَغَسْلِ الْمَوَاعِينِ بِالْأُشْنَانِ، وَاللِّيفِ، وَسَمْطِهَا بِالْمَاءِ الْحَارِّ، وَكَذَلِكَ السَّخَّانَةُ يَأْمُرُهُمْ بِغَسْلِهَا فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ بَاكِرِ النَّهَارِ، وَأَنْ لَا يَسْتَعْمِلُوا إلَّا الْحِرَاقَ الطَّاهِرَ، وَلَا يُوقِدُوا بِكِرْسٍ

الباب العشرون في الحسبة على الهرائسيين

وَلَا بِقِمَّةٍ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَقَعَ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ فِي أَطْعِمَةِ النَّاسِ بَلْ بِالْحَطَبِ أَوَّلًا، وَلَا يَقْدُمُ عَلَى أَطْعِمَةِ النَّاسِ إلَّا مَنْ عَرَفَ جَمِيعَ الْأَطْعِمَةِ، وَلَا يَقِفُ عَلَى اللَّوْحِ إلَّا مَنْ يَكُونُ ثِقَةً أَمِينًا عَلَى أَمْوَالِ النَّاسِ، وَإِذَا انْكَسَرَتْ عِنْدَهُمْ قِدْرٌ لَا يُعْمِلُوهَا بِالدَّمِ فَإِنَّهُ نَجِسٌ بَلْ بِالطَّحِينِ، وَالْبِرَامِ. [الْبَاب الْعِشْرُونَ فِي الْحَسَبَة عَلَى الهرائسيين] يَأْخُذُ عَلَيْهِمْ الْمُحْتَسِبُ أَنْ يُعْمَلَ لِكُلِّ وَيْبَةِ قَمْحٍ بِالْكَيْلِ الْمِصْرِيِّ أَرْبَعُونَ رِطْلًا بِالْمِصْرِيِّ مِنْ لُحُومِ الْبَقَرِ، أَوْ مِنْ الضَّأْنِ اثْنَانِ، وَثَلَاثُونَ رِطْلًا، وَلَا يُمَكِّنُهُمْ أَنْ يَعْمَلُوهَا مِنْ لُحُومِ الْمَعْزِ، وَلَا مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ فَإِنَّهُمْ يَغُشُّونَ النَّاسَ بِذَلِكَ، وَلَا يُظْهِرُونَهُ لَهُمْ، وَيَكُونُ اللَّحْمُ سَمِينًا طَرِيًّا نَقِيًّا مِنْ الْعُرُوقِ، وَالْأَوْسَاخِ لَيْسَ فِيهِ عَيْبٌ، وَلَا مُتَغَيِّرَ الرَّائِحَةِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ فِي الْمَاءِ، وَالْمِلْحِ سَاعَةً حَتَّى يَخْرُجَ مَا فِي بَاطِنِهِ مِنْ الدَّمِ ثُمَّ يُخْرَجُ، وَيُغْسَلُ بِمَاءٍ غَيْرِ ذَلِكَ ثُمَّ يُنْزَلُ فِي الْقِدْرِ ثُمَّ يُخْتَمُ عَلَيْهَا بِخَاتَمِ الْحِسْبَةِ

الباب الحادي والعشرون في الحسبة على قلائين السمك

فَإِذَا كَانَ وَقْتُ السَّحَرِ حَضَرَ الْمُبَاشِرُ لِذَلِكَ، وَفَكَّ الْخَاتَمَ، وَهَرَسَهَا بِحَضْرَتِهِ لِئَلَّا يَشِيلُوا اللَّحْمَ مِنْهَا، وَيُعِيدُوهُ إلَيْهَا مِنْ الْغَدِ فَأَكْثَرُهُمْ يَفْعَلُ ذَلِكَ إذَا لَمْ يُخْتَمْ عَلَى الْقِدْرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَغُشُّ الْهَرِيسَةَ بِالْقُلْقَاسِ الْمُدَبَّرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْتَاعُ لَحْمَ الرُّءُوسِ، وَيَعْمَلُهُ فِيهَا إذَا وَجَدَ فُرْصَةً، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبِيتُ عِنْدَهُمْ شَيْءٌ فَيُضِيفُهُ إلَى، وَظِيفَةِ بَاكِرِ النَّهَارِ فَيُرَاعِي الْمُحْتَسِبُ كَشْفَ ذَلِكَ. (فَصْلٌ) : وَيَكُونُ دُهْنُ الْهَرِيسَةِ طَرِيًّا طَيِّبَ الرَّائِحَةِ قَدْ عُمِلَ فِيهِ عِنْدَ سَلْئِهِ الْمُصْطَكَا والدارصيني، وَيَعْتَبِرُ عَلَيْهِمْ مَا يَغُشُّونَ بِهِ الدُّهْنَ، فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُ عِظَامَ الْبَقَرِ، أَوْ الْجِمَالِ، وَيَكْسِرُهَا، وَيَأْخُذُ أَقْصَابَهَا فَيَسْلُقُهَا [فَيَخْرُجُ مِنْهَا دُهْنٌ كَثِيرٌ] ، وَيَعْمَلُهُ عَلَى، وَجْهِ الْهَرِيسَةِ، وَالطَّرِيقُ إلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ أَنَّهُ يُقَطِّرُ مِنْهُ شَيْئًا [عَلَى بَلَاطَةِ] فَإِنْ سَالَ، وَلَمْ يَجْمُدْ فَهُوَ خَالِصٌ، وَإِنْ جَمَدَ فَهُوَ مَغْشُوشٌ، وَيَأْمُرُهُمْ بِغُسْلِ قُدُورِ الْهَرِيسَةِ، وَقُدُورِ الدُّهْنِ، وَتَنْظِيفِهَا لِئَلَّا تَتَغَيَّرَ رَائِحَتُهَا، وَطَعْمُهَا فَيَتَوَلَّدُ فِيهَا الدُّودُ. [الْبَاب الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ فِي الْحَسَبَة عَلَى قَلَّائِينَ السَّمَك] يُؤْمَرُونَ فِي كُلِّ يَوْمٍ بِغَسْلِ قُفَافِهِمْ، وَأَطْبَاقِهِمْ الَّتِي يَحْمِلُونَ فِيهَا السَّمَكَ، وَيَنْثُرُونَ فِيهَا الْمِلْحَ الْمَسْحُوقَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ بَعْدَ الْغَسْلِ، وَكَذَلِكَ

يَفْعَلُونَ بِمَوَازِينِهِمْ الْخُوصِ؛ لِأَنَّهُمْ إذَا غَفَلُوا عَنْ غَسْلِهَا فَاحَ نَتِنُهَا، وَكَثُرَ، وَسَخُهَا فَإِذَا وُضِعَ فِيهَا السَّمَكُ الطَّرِيُّ تَغَيَّرَ رِيحُهُ، وَفَسَدَ طَعْمُهُ، وَيُبَالِغُوا فِي غَسْلِ السَّمَكِ بَعْدَ شَقِّهِ، وَتَنْظِيفِهِ، وَتَنْقِيَتِهِ مِنْ جِلْدِهِ، وَفُلُوسِهِ ثُمَّ يَنْثُرُونَ عَلَيْهِ الْمِلْحَ الْمَصْحُونَ، وَيُقَوِّي شَرَشَهُ فِي زَمَنِ الْحَرِّ حَتَّى يَشُدَّهُ، وَتَنْقَطِعَ رَائِحَتُهُ ثُمَّ يَنْثُرُ عَلَيْهِ الدَّقِيقَ ثُمَّ يَقْلُونَهُ بَعْدَ أَنْ يَجِفَّ، وَلَا يَخْلِطُوا فِي الدَّقِيقِ شَيْئًا مِنْ أَبُو مُلَيْحٍ، وَهُوَ الْعُصْفُرُ الْمَصْحُونُ حَتَّى يُعْطِيَ زُهْرَةً عِنْدَ الْقَلْيِ، وَلَا يَبُلُّهُ بِالْمَاءِ عِنْدَ الْقَلْيِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَزِيدُهُ زُفَرَةً، وَصَلَابَةً، وَغَيْرَ نُضْجٍ، وَلَا يَخْلِطُوا الْبَائِتَ بِالطَّرِيِّ، وَعَلَامَةُ الطَّرِيِّ أَنَّ خَيَاشِيمَهُ حُمْرٌ، وَالْبَائِتُ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَيَنْبَغِي لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَتَفَقَّدَ الْمَقْلِيَّ كُلَّ سَاعَةٍ لِئَلَّا يَقْلُوهُ بِدُهْنِ الشَّحْمِ الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ بُطُونِ السَّمَكِ، وَيَخْلِطُونَ هَذَا الدُّهْنَ بِالزَّيْتِ عِنْدَ قَلْيِهِ، وَلَا يُمَكِّنُهُمْ أَنْ يَقْلُوهُ إلَّا بِزَيْتِ الْقُرْطُمِ فَإِنَّهُ أَطْيَبُ مِنْ زَيْتِ السَّلْجَمِ، أَوْ بِالشَّيْرَجِ الطَّرِيِّ، وَلَا يَقْلُوهُ بِزَيْتِ الْبِزْرِ إذَا كَانَ مُتَغَيِّرَ الرَّائِحَةِ، وَلَا يُخْرِجُوا السَّمَكَ الْمَقْلِيَّ حَتَّى يَنْتَهِيَ نُضْجُهُ مِنْ غَيْرِ سَلْقٍ، وَلَا إحْرَاقٍ، وَأَمَّا السَّمَكُ الْمَشْوِيُّ فَيُلْزِمُهُمْ أَنْ يَعْمَلُوا حَوَائِجَهُ بِحَضْرَةِ مَنْ يَثِقُ إلَيْهِ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ بَعْدَ غَسْلِهِ، وَتَنْظِيفِهِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَأَنْ لَا يُخْرِجُوهُ مِنْ الْفُرْنِ حَتَّى يَكْتَمِلَ نِضَاجُهُ، وَأَمَّا السَّمَكُ الَّذِي يُحْمَلُ مِنْ الْبِلَادِ الْبَعِيدَةِ، أَوْ يُكْسَدُ فِي الْمَخَازِنِ فَلَا تُقَشَّرُ فُلُوسُهُ عَنْهُ حَتَّى يُوثَقَ بِالْمِلْحِ، وَلَا سِيَّمَا رُءُوسُهُ، وَخَيَاشِيمُهُ فَإِنَّ الدُّودَ أَوَّلُ مَا يَتَوَلَّدُ فِيهَا، وَمَتَى فَسَدَ السَّمَكُ الْمَجْلُوبُ، أَوْ الْمَكْسُودُ رُمِيَ بِهِ عَلَى الْمَزَابِلِ خَارِجَ الْبَلَدِ.

الباب الثاني والعشرون في الحسبة على قلائين الزلابية

[الْبَاب الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ فِي الْحَسَبَة عَلَى قَلَّائِينَ الزَّلَابِيَّة] يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ مِقْلَى الزَّلَابِيَةِ مِنْ النُّحَاسِ الْأَحْمَرِ الْجَيِّدِ فَأَوَّلُ مَا يُحْرَقُ فِيهِ النُّخَالَةُ ثُمَّ يُدَلِّكُهُ بِوَرَقِ السَّلْقِ إذَا بَرَدَ ثُمَّ يُعَادُ إلَى النَّارِ، وَيُجْعَلُ فِيهِ قَلِيلُ عَسَلٍ، وَيُوقَدُ عَلَيْهِ حَتَّى يَحْتَرِقَ الْعَسَلُ ثُمَّ يُجْلَى بِمَدْقُوقِ الْخَزَفِ ثُمَّ يُغْسَلُ، وَيُسْتَعْمَلُ فَإِنَّهُ يُنَقَّى وَسَخُهُ، وَيَكُونُ الدَّقِيقُ مِنْ أَجْوَدِ مَا يَكُونُ مِنْ الْعَلَامَةِ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ دَقِيقُ الزَّلَابِيَةِ مِنْ أَعْلَى الدَّقِيقِ زَادَتْ بَيَاضًا، وَأَجْوَدُ مَا قُلِيَتْ بِهِ الشَّيْرَجُ، وَيَأْخُذُ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَقْلُوهَا بِغَيْرِهِ، وَيَمْنَعُهُمْ مِنْ الْقَلْيِ بِزَيْتِ الْقُرْطُمِ، وَهُوَ الْحُلْوُ، وَيُسَمَّى عِنْدَهُمْ الدُّهْنُ، وَلَا يَشْرَعُ فِي قَلْيهَا حَتَّى يَخْتَمِرَ عَجِينُهَا، وَعَلَامَةُ اخْتِمَارِهِ أَنَّهَا تَطْفُو عَلَى وَجْهِ الشَّيْرَجَ، وَالْفَطِيرُ مِنْهَا يَرْسُبُ فِي أَسْفَلِ الْمِقْلَى، وَالْمُخْتَمِرُ أَيْضًا يَكُونُ مِثْلَ الْأَنَابِيبِ، وَإِذَا جَمَعْتهَا فِي كَفِّك اجْتَمَعَتْ، وَإِذَا أَرْسَلْتهَا عَادَتْ كَمَا كَانَتْ، وَالْفَطِيرُ تَكُونُ مَرْصُوصَةً، وَلَيْسَ فِيهَا تَجْوِيفٌ، وَلَا يُجْعَلُ فِي عَجِينِهَا مِلْحٌ، وَلَا نَطْرُونٌ بَلْ الْبُورَقُ أَوَّلًا، وَيُعْمَلُ الْيَسِيرُ مِنْهُ فَإِنَّهَا تُؤْكَلُ بِالْحَلَاوَةِ فَتَغْثَى النَّفْسُ إذَا كَانَتْ بِالْمِلْحِ، وَأَمَّا سَوَادُ الزَّلَابِيَةِ فَقَدْ يَكُونُ مِنْ وَسَخِ الْمِقْلَى، وَقَدْ يَكُونُ مِنْ دَقِيقِهَا، أَوْ تَكُونُ مَقْلُوَّةً بِالزَّيْتِ الْمُعْتَادِ، وَرُبَّمَا جَازَتْ عَلَيْهَا النَّارُ لِسُوءِ الصِّنَاعَةِ، وَقِلَّةِ الْمَعْرِفَةِ، فَيَعْتَبِرُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ جَمِيعَهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

الباب الثالث والعشرون في الحسبة على الحلوانيين

[الْبَاب الثَّالِث وَالْعِشْرُونَ فِي الْحَسَبَة عَلَى الْحَلْوَانِيِّينَ] الْحَلْوَاءُ أَنْوَاعٌ كَثِيرَةٌ وَأَجْنَاسٌ مُخْتَلِفَةٌ وَلَا يُمْكِنُ ضَبْطُهَا بِصِفَةٍ وَاحِدَةٍ وَعِيَارُ أَخْلَاطِهَا عَلَى قَدْرِ أَنْوَاعِهَا مِثْلُ النَّشَاءِ وَاللَّوْزِ وَالْفُسْتُقِ وَالْخَشْخَاشِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَقَدْ يَكُونُ كَثِيرًا فِي نَوْعٍ قَلِيلًا فِي نَوْعٍ آخَرَ وَإِنَّمَا يُرْجَعُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ إلَى الْعُرْفِ وَنَذْكُرُ مَا اُشْتُهِرَ مِنْهَا وَهِيَ الْمُقْرِضَةُ السَّكْبُ وَالصَّابُونِيَّةُ وَاللَّوْزِيَّةُ وَالْخَشْخَاشِيَّة وَالْفُسْتُقِيَّةُ وَخَبِيصَةُ الْيَقْطِينِ وَالْقَاهِرِيَّةُ وَالْمُشَبِّكُ والزقلبع والمصطنعية وَالْقَطَائِفُ الْمَقْلِيُّ والعاصدية وَرَأْسُ الْعُصْفُورِ وَسَاقُ الْخَادِمِ وَالْحَمَا والبانوا وَزَلَابِيَةٌ أَفِرِنْجِيَّةٌ وَكَعْكٌ تُرْكِيٌّ وافطلوا وَتَالِفَةٌ وعاضدية وَالشَّعْبِيَّةُ وَلُقَيْمَاتُ الْقَاضِي وَخُدُودُ التُّرْكِ وَخُدُودُ الْأَغَانِيّ وأخميمية وَأَسْيُوطِيَّةٌ وَلِبَابِيَّةٍ وَرْدِيَّةٌ مَكْشُوفَةٌ وَمَسِيرُ الْيَقْطِينِ وَمَجْرُودَةٌ وَهَرِيسَةُ الدَّجَاجِ وَهَرِيسَةُ الْوَرْدِ وجوارش عُودٍ وجوارش عَنْبَرٍ وجوارش مُصْطَكَا وجوارش نازنج وكشيك الْهَوَى وَأَقْرَاصُ لَيْمُونٍ وَدَنَفٌ فُسْتُقِيٌّ وَبَلَاطٌ وَصِفَتُهُ بُنْدُقٌ وَيُعْقَدُ عَقِيدَ إسْكَنْجَبِيل

وخشكنانك شَامِيٌّ وَمِصْرِيٌّ وبسندود وَمُشَاشٌ وَكَعْبُ غَزَالٍ هياجي وسابوري وَلَوْزِينْجُ رُطَبٍ وَفَرْكُ أَوْسَاطٍ وَصِفَتُهُ حَشْوُ الشَّعْبِيَّةِ الكاهي وقاووت وَبُقْسُمَاطٌ وَصِفَتُهُ تَأْلِيفُ الخشكنان وَكُلْ وَاشْكُرْ وَدَلَالَاتُ بِنْتِ الصَّالِحِ وَأَمْشَاطُ سُكَّرِيٍّ، وَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الْحَلْوَى تَامَّةَ النُّضْجِ غَيْرَ نِيَّةٍ وَلَا مُحْتَرِقَةٍ، وَلَا تَبْرَحُ الْمِذَبَّةُ فِي يَدِهِ يَطْرُدُ عَنْهَا الذُّبَابَ، وَيُعْتَبَرُ عَلَيْهِمْ مَا يَغُشُّونَ بِهِ الْحَلْوَى فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَنْ يَعْمَلُ الْحَلْوَى الْمُقْرَضَةَ بِغَيْرِ عَسَلِ النَّحْلِ وَيَجْعَلُ فِيهَا عَصْرَةَ لَيْمُونٍ أَخْضَرَ وَيَقُولُ لِلزُّبُونِ إنَّهَا بِعَسَلِ النَّحْلِ وَهَذَا غِشٌّ وَمِنْهُمْ مَنْ يَغُشُّ الْمُشَبِّكَ وَالْقَاهِرِيَّةَ بِالْقَنْدِ عِوَضَ عَسَلِ النَّحْلِ وَهَذَا غِشٌّ وَقَدْ يَغُشُّونَ الخبائص النَّاعِمَةَ وَالرَّطْبَةَ وَالصَّابُونِيَّةَ بِالنَّشَا الْخَارِجِ عَنْ الْحَدِّ الْمُعْتَادِ، وَعَلَامَةُ غِشِّهَا أَنَّهَا تَتَفَتَّتُ وَإِذَا بَاتَتْ خُمَّتْ وَمِنْهُمْ مَنْ يَغُشُّ قَلْبَ الخشكنان بِالدَّقِيقِ الزَّائِدِ عَلَى الْمُعْتَادِ، وَلِكُلِّ شَيْءٍ ضَرَائِبُ مَعْرُوفَةٌ مِنْهَا: أَنَّ ضَرِيبَةَ الْحَلْوَى الْمُقْرَضَةِ وَالصَّابُونِيَّةِ وَخَبِيصَةِ الْيَقْطِينِ لِكُلِّ عَشَرَةِ أَرْطَالِ سُكَّرٍ رِطْلَانِ نَشَا وَرِطْلَانِ قَلُوبَاتٍ وَالطِّيبُ الْجَيِّدُ، وَأَمَّا الخشكنان فَضَرِيبَتُهُ كُلُّ قِنْطَارِ سُكَّرٍ بِالْمِصْرِيِّ لَهُ خَمْسُونَ رِطْلًا دَقِيقًا يُعْمَلُ فِي تَأْلِيفِهِ وَمِثْقَالُ مِسْكٍ عِرَاقِيٍّ وَخَمْسَةُ أَرْطَالٍ مَاوَرْدٍ شَامِيٍّ وَقَلْبُ الْفُسْتُقِ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ وَيَكُونُ قِشْرُهُ دُهِنَ بِالشَّيْرَجِ الْكَثِيرِ، وَأَمَّا الْمَنْفُوشُ فَضَرِيبَتُهُ أَنْ يُعْمَلَ فِي كُلِّ عَشَرَةِ أَرْطَالِ دَقِيقٍ خَمْسَةُ أَرْطَالِ نَشَا وَيُخْبَزَ وَيُقْلَى بِالشَّيْرَجِ الطَّرِيِّ، وَيُحْتَرَزُ عَلَى

الباب الرابع والعشرون في الحسبة على الشرابيين

لَطَاخِّهِ فَإِنَّ فِيهِمْ مَنْ يَعْمَلُ الْقَنْدَ عِوَضَ السُّكَّرِ وَيَقُولُ هُوَ سُكَّرِيٌّ وَيَأْمُرُهُمْ بِقِلَّةِ زِيبَقِ الْبَيْضِ وَكَثْرَةِ الطِّيبِ حَتَّى يَقْطَعَ زَفْرَتَهُ، وَجَمِيعُ غُشُوشِ الْحَلَاوَةِ لَا تَخْفَى فِي مَنْظَرِهَا فَيُعْتَبَرُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ جَمِيعُهُ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ [الْبَاب الرَّابِع وَالْعِشْرُونَ فِي الْحَسَبَة عَلَى الشرابيين] تَدْلِيسُ هَذَا الْبَابِ كَثِيرٌ لَا يُمْكِنُ حَصْرُ مَعْرِفَتِهِ عَلَى التَّمَامِ لِأَنَّ الْعَقَاقِيرَ وَالْأَشْرِبَةَ مُخْتَلِفَةُ الطَّبَائِعِ وَالْأَمْزِجَةِ وَالتَّدَاوِي عَلَى قَدْرِ أَمْزِجَتِهَا فَمِنْهَا مَا يَصْلُحُ لِمَرَضٍ وَمِزَاجٍ فَإِذَا أُضِيفَ إلَيْهَا غَيْرُهَا أَحْرَفَهَا عَنْ مِزَاجِهَا فَأَضَرَّتْ بِالْمَرِيضِ لَا مَحَالَةَ فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يُرَاقِبُوا اللَّهَ - تَعَالَى - فِي ذَلِكَ فَيَنْبَغِي لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يُخَوِّفَهُمْ وَيَعِظَهُمْ وَيُنْذِرَهُمْ الْعُقُوبَةَ وَيُحَذِّرَهُمْ بِالتَّعْزِيرِ وَيَعْتَبِرُ عَلَيْهِمْ أَشْرِبَتَهُمْ وَعَقَاقِيرَهُمْ فِي كُلِّ وَقْتٍ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ بَعْدَ خَتْمِ حَوَانِيتِهِمْ مِنْ اللَّيْلِ وَيَشْتَرِطُ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَطْبُخُوا الْأَشْرِبَةَ إلَّا مِنْ السُّكَّرِ الطَّيِّبِ النَّقِيِّ الْمِصْرِيِّ وَلَا يَطْبُخُوا بِشَيْءٍ مِنْ التَّرْنِيقِ وَلَا مِنْ جَلابِية الْعَسَلِ الْمُرْسَلِ وَأَنْ يُقَرِّرَ عَلَيْهِمْ مَا هُوَ فِي دُسْتُورِ الطِّبِّ وَهُوَ لِكُلِّ عَشَرَةِ أَرْطَالِ سُكَّرٍ ثَلَاثَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثٌ مِنْ مَاءِ الْفَاكِهَةِ وَأَنْ لَا يُكْثِرُوا شَرَابَ التُّفَّاحِ وَلَا شَرَابَ الِانْجِبَارِ وَلَا الْبَنَفْسَجِ وَأَمْثَالِهَا بِلَيْمُونٍ فَإِنَّهُ يُجَرِّدُ الْأَمْعَاءَ وَيَضُرُّ بِالْمَرِيضِ أَمَّا الْأَشْرِبَةُ فَأَسْمَاؤُهَا كَثِيرَةٌ وَتَزِيدُ عَلَى سَبْعِينَ اسْمًا وَنَذْكُرُ مَا اُشْتُهِرَ.

مِنْ أَسْمَائِهَا وَهُوَ شَرَابُ الْجَلَّابِ وَشَرَابُ اللينوفر وَشَرَابُ الْوَرْدِ الطَّرِيِّ وَشَرَابُ وَرْدِ أَزْرَارٍ وَشَرَابُ وَرْدِ مُكَرَّرٍ وَشَرَابُ التُّفَّاحِ السَّاذَجِ وَشَرَابُ التُّفَّاحِ الْمُخَضَّبِ وَشَرَابُ التُّفَّاحِ الْفَتْحِيِّ وَشَرَابُ اللَّيْمُونِ السَّائِلِ وَشَرَابُ اللَّيْمُونِ الْمُسْتَوِي وَشَرَابُ اللَّيْمُونِ الْمُرَمَّلِ وَشَرَابُ السّكَنْجَبِيلِ السَّاذَجِ وَشَرَابُ السَّكَنْجَبيلِ البزوري وَشَرَابُ السَّكَنْجَبيلِ الرُّمَّانِيِّ وَشَرَابُ الْإِجَّاصِ وَشَرَابُ الْقَرَاصْيَا وَشَرَابُ الميبة السَّاذَجَةِ وَشَرَابُ الميبة الْمُطَيَّبَةِ وَشَرَابُ السَّفَرْجَلِ الْمُمْسِكِ وَشَرَابُ اللَّيْمُونِ السَّفَرْجَلِيُّ وَشَرَابُ الدِّينَارِيِّ وَشَرَابُ الْأُصُولِ وَشَرَابُ قِشْرِ أَصْلِ الهندبا وَشَرَابُ الرُّمَّانِ الْحُلْوِ وَشَرَابُ الرُّمَّانِيِّ وَشَرَابُ شاهترج وَشَرَابُ الصَّنْدَلِ الْأَبْيَضِ وَشَرَابُ الصَّنْدَلَيْنِ وَشَرَابُ الْعُودِ وَشَرَابُ الثَّلْجِ وَشَرَابُ التَّمْرِ هِنْدِيٍّ وَشَرَابُ لِسَانِ الْحَمَلِ وَشَرَابُ البرباريس وَشَرَابُ الْعُنَّابِ وَشَرَابُ الْخَشْخَاشِ وَشَرَابُ الْآسِ وَشَرَابُ الْهِلْيُونِ وَشَرَابُ الإصطخودج وَشَرَابُ كُزْبَرَةِ الْبِئْرِ وَشَرَابُ زَوْفًا وَشَرَابُ نَرْجِسَ وَشَرَابُ الْخَوْخِ وَشَرَابُ الْمُفْرِحِ وَشَرَابُ الْفَاكِهَةِ وَشَرَابُ الراوند وَشَرَابُ الْكَافُورِ الْمُدَبَّرِ، وَشَرَابُ البسبايج وَشَرَابُ النَّعْنَاعِ وَشَرَابُ المراقيا وَشَرَابُ الْخَلِّ وَشَرَابُ الِانْجِبَارِ وَشَرَابُ الْحُمَاضِ وَشَرَابُ عِرْقِ سُوسٍ وَشَرَابُ الْإِذْخِرِ وَشَرَابُ النَّارِنْجِ وَشَرَابُ النَّجِيلِ وَشَرَابُ الْقَطَامِ وَشَرَابُ الكشوثا وَشَرَابُ الرَّاسِّ وَشَرَابُ التِّينِ وَشَرَابُ الإفسنتين وَشَرَابُ الْعَوْسَجِ وَشَرَابُ الشيرخشك وَشَرَابُ التُّوتِ وَشَرَابُ الْعُنْصُلِ وَشَرَابُ لِسَانِ الثَّوْرِ وَشَرَابُ.

الْعَسَلِ وَشَرَابُ الْعَذْبَةِ وَشَرَابُ الْجِمَارِ وَشَرَابُ سَكَنْجَبِيل عنصلي وَشَرَابُ الْحِصْرِمِ الْمُنَعْنَعِ وَشَرَابُ عُصَاةِ الرَّاعِي وَشَرَابُ الْأَمْلَجِ وَشَرَابُ الْإِبْرَيْسَمِ وَهَذِهِ أَسْمَاءُ الْأَشْرِبَةِ الْمُسْتَعْمَلَةِ غَالِبًا وَمَا لَيْسَ بِمُسْتَعْمَلٍ فَلَا فَائِدَةَ فِي ذِكْرِهِ، ثُمَّ مِنْ هَذِهِ الْأَشْرِبَةِ مَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَقَاصِدِ وَكُلُّ شَرَابٍ فَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْجَلَّابِ، وَعَلَى مَاءِ الْفَاكِهَةِ الْمُسَمَّى بِهَا أَوْ مَاءِ الزَّهْرِ أَوْ مَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ الْحَشَائِشِ وَالْعَقَاقِيرِ وَلَيْسَ الْجَلَّابُ بِمَقْصُودٍ فِي الدَّوَاءِ وَإِنَّمَا جُعِلَ وَسِيلَةً لِإِيصَالِ مَاءِ الْفَاكِهَةِ وَالزَّهْرِ أَوْ الْعَقَاقِيرِ؛ لِأَنَّ الْكَيْدَ فِي شَأْنِهَا أَنْ تُشْتَاقَ إلَى الْحَلَاوَةِ فَجُعِلَتْ وَسِيلَةً لِإِيصَالِ الشَّرَابِ إلَى الْأَعْضَاءِ سَرِيعًا، وَالْقَانُونُ الَّذِي وَضَعُوهُ الْحُكَمَاءُ الْمُتَقَدِّمُونَ فِي عَمَلِ الْأَشْرِبَةِ فَهُوَ الثُّلُثُ مِنْ مَاءِ الْفَاكِهَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَأَمَّا الْعَقَاقِيرُ وَالْحَشَائِشُ وَالْأَزْهَارُ وَالْمِيَاهُ فَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ الْأَشْرِبَةِ فَمِنْهَا مَا يَكُونُ الْجَلَّابُ مُتَسَاوِيًا لِلْعَقَارِ وَمِنْهَا مَا هُوَ دُونَ ذَلِكَ وَمِنْهَا مَا يَكُونُ أَكْثَرَ، وَكُلُّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إلَى الشَّرَابِ الْمَطْلُوبِ وَقْتَ الْحَاجَةِ إلَى طَبْخِهِ وَعَلَى مَا يَقْتَضِيهِ رَأْيُ الْأَطِبَّاءِ أَمَّا الْمَعَاجِينُ فَكَثِيرٌ أَسْمَاؤُهَا وَكَذَلِكَ الْأَقْرَاصُ وَالرُّبُوبَاتِ واللُّعُوقَاتِ والجوارشيات وَالْحُبُوبُ والإيارجات وَالْفَتَائِلُ وَمَا يُعْمَلُ مِنْ الْمَطْبُوخَاتِ وَلَوْ ذَكَرْتُ كُلَّ بَابٍ مِنْ ذَلِكَ وَاسْتَقْصَيْتَهُ لَطَالَ، وَإِنَّمَا ذَكَرْتُ كَثِيرًا مِنْ الْأَشْرِبَةِ مَعَ أَنِّي لَمْ أَسْتَوِ عَنْهَا لِعُمُومِ الِانْتِفَاعِ بِهَا وَلِكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهَا وَذَكَرْتُ أَيْضًا مَا هُوَ الْغَالِبُ فِي اسْتِعْمَالِهَا، وَيُعْتَبَرُ عَلَيْهِمْ عَقَاقِيرُ الْأَقْرَاصِ وَالْمَعَاجِينِ وَالسُّفُوفَاتِ قَبْلَ عَمَلِهَا بِمَنْ ظَهَرَتْ مَخْبَرَتُهُ وَكَثُرَتْ تَجْرِبَتُهُ لِلْعَقَاقِيرِ وَيَكُونُ مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ لِذَلِكَ وَلَا يَرْكَبُهَا إلَّا مِنْ أَعْلَى الْحَوَائِجِ وَيَلْزَمُهُمْ أَنْ يَسْتَعْمِلُوا عَقَاقِيرَ دُسْتُورِ ابْنِ الْبَيَانِ أَوْ ابْنِ التِّلْمِيذِ فَإِنَّهُ أَنْفَعُ فَإِنَّ كُلَّ مَطْحُونٍ وَمَعْصُورٍ مَجْهُولٌ.

وَيُعْتَبَرُ عَلَيْهِمْ الراوند فَإِنَّ فِيهِمْ مَنْ يَأْخُذُ السُّوسَ التُّرْكِيَّ يَنْقَعُهُ فِي مَاءِ الْبَقْلِ وَيُثْقِلُهُ فِي الْمِعْصَارِ ثُمَّ يُجَوِّفُهُ وَيَبِيعُهُ بِصِينِيٍّ وَهَذَا غِشٌّ، وَأَصْنَافُ الراوند ثَلَاثَةٌ وَمِنْهَا اثْنَانِ يُعْرَفَانِ بالراوند الْقَدِيمِ وَوَاحِدٌ يُعْرَفُ بالراوند الْجَدِيدِ، أَمَّا الْمَعْرُوفَانِ بِالْقَدِيمِ فَالصِّينِيُّ وَالزِّنْجِيُّ وَالْجَدِيدُ يُعْرَفُ بِالتُّرْكِيِّ أَمَّا الراوند الصِّينِيُّ وَهُوَ أَعْلَاهُ وَأَنْفَعُهُ فَإِنَّهُ يُجْلَبُ مِنْ بِلَادِ الصِّينِ وَيَذْكُرُ جَالِبُوهُ أَنَّهُ أَصْلُ نَبَاتٍ يُشْبِهُ الْقُلْقَاسَ إذَا اُسْتُخْرِجَ مِنْ الْأَرْضِ، وَأَنَّهُ يُشَقُّ الْأَصْلُ قِطْعَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً وَيُثْقَبُ وَيُنَظَّمُ فِي الْخُيُوطِ وَيُعَلَّقُ فِي الْهَوَاءِ حَتَّى يَجِفَّ وَيَجْمُدَ، وَصِفَتُهُ أَنَّهُ قِطَعُ خَشَبٍ ضَخْمَةٍ، الْقِطْعَةُ مِنْهُ قَدْرُ الْكَفِّ أَوْ دُونَهُ لَهُ لَوْنٌ ظَاهِرُهُ أَغْبَرُ مَعَ حُمْرَةٍ قَانِتَةٍ، وَلَوْنُ مَقْطَعِهِ أَصْفَرُ خلنجي اللَّوْنِ وَجَوْهَرُهَا إلَى الْخِفَّةِ وَالرَّخَاوَةِ وَالْهَشَّاشَةِ وَإِذَا مُضِغَ مِنْهُ شَيْءٌ يَحْصُلُ مِنْهُ لُزُوجَةٌ ظَاهِرَةٌ وَإِذَا تُطُعِّمَ وُجِدَ فِيهِ قَبْضٌ ضَعِيفٌ وَمَرَارَةٌ وَحِدَّةٌ وَإِنْ أُخِذَ شَيْءٌ مِنْ مَمْضُوغِهِ وَمُسِحَ عَلَى مَوْضِعٍ مِنْ الْيَدِ صَبَغَهُ بِصُفْرَةٍ زَعْفَرَانِيَّةٍ وَأَجْوَدُهُ مَا كَانَ جَوْهَرُهُ لَيْسَ بِكَثِيفٍ، وَكَانَ الْقَبْضُ فِي طَعْمِهِ لَيْسَ بِقَوِيٍّ، وَكَانَ مَقْطَعُهُ سَالِمًا مِنْ السُّوسِ وَمَتَى كَانَ مُتَكَاثِفًا فِي الْجَوْهَرِيَّةِ، وَفِيهِ قَبْضٌ قَوِيٌّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَغْشُوشٌ بِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَالزِّنْجِيُّ وَالتُّرْكِيُّ دُونَهُ فِي اللَّوْنِ وَالطَّعْمِ وَالرَّائِحَةِ وَالْمَنْفَعَةِ والراوند الشَّامِيُّ مِنْ عَمَّانَ مِنْ أَرْضِ الشَّامِ وَهُوَ عُرُوقٌ خَشَبِيَّةٌ طِوَالٌ مُسْتَدِيرَةٌ فِي غِلَظِ الْأَصَابِعِ وَيُسَمَّى رَاوَنْدَ الدَّوَابِّ؛ لِأَنَّ الْبَيَاطِرَةَ يَسْقُونَهُ الدَّوَابَّ إذَا احْتَرَّتْ أَكْبَادُهَا وَهُوَ مُضِرٌّ بِالْآدَمِيِّ فَيُعْتَبَرُ عَلَيْهِمْ بِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَأَمَّا الْغَارِيقُونُ مَتَى كَانَ أَبْيَضَ نَقِيَّ الْبَيَاضِ خَفِيفَ الْوَزْنِ فِيهِ مَرَارَةٌ

كَانَ خَالِصًا وَلَا يُكْتَفَى فِي مَعْرِفَتِهِ بِالْبَيَاضِ فَقَدْ يُغَشُّ بِشَيْءٍ أَبْيَضَ وَإِنَّمَا بِالطَّعْمِ وَالْخِفَّةِ وَيُمْتَحَنُ أَيْضًا بِأَنْ يُرْمَى مِنْهُ شَيْءٌ فِي مَاءٍ وَيُحَرِّكَهُ حَتَّى يَخْتَلِطَ فَإِنْ بَقِيَ طَافِيًا فَهُوَ خَالِصٌ وَإِنْ رَسَبَ مِنْهُ شَيْءٌ كَثِيرٌ فَهُوَ مَغْشُوشٌ بِغَيْرِهِ، وَمِنْهُ ذَكَرٌ وَأُنْثَى قِيلَ: إنَّهُ يَتَوَلَّدُ فِي الْأَشْجَارِ الْمُتَآكِلَةِ عَلَى سَبِيلِ الْعُفُونَةِ وَأَجْوَدُهُ الْأَبْيَضُ الْأَمْلَسُ السَّرِيعُ التَّفَتُّتِ، وَفِيهِ مَعَ حَرَافَتِهِ حَلَاوَةٌ وَهُوَ الْأُنْثَى، وَأَمَّا الذَّكَرُ فَلَيْسَ بِجَيِّدٍ وَالصُّلْبُ وَالْأَسْوَدُ ريئات جِدًّا، وَأَمَّا الترنجبين الْخَالِصُ مِنْهُ الْأَبْيَضُ إلَى حُمْرَةٍ يَسِيرَةٍ وَحَبُّهُ أَحْمَرُ مُدَوَّرٌ دُهْنُهُ خَفِيفٌ وَطَعْمُهُ حُلْوٌ يَمِيلُ إلَى طَعْمِ مَنْ فِيهِ تغثية وَيُقَارِبُ طَعْمُهُ طَعْمَ الْقَنْدِ وَإِذَا حَلَّ فِي مَاءٍ حَارٍّ عَلَاهُ دُهْنِيَّةٌ يَسِيرَةٌ وَثُفْلُهُ كَلَوْزٍ مَقْشُورٍ مَدْقُوقٍ نَاعِمٍ وَرَائِحَتُهُ فِيهَا وَلَيْسَ فِي الْمَغْشُوشِ هَذِهِ الرَّائِحَةُ وَهُوَ طَلٌّ أَكْثَرُ مَا يَسْقُطُ بِخُرَاسَانَ وَمَا وَرَاءَ النَّهْرِ وَأَجْوَدُهُ الْأَبْيَضُ الطَّرِيُّ وَهُوَ مُعْتَدِلُ الْحَرَارَةِ وَمِزَاجُهُ أَلْطَفُ مِنْ السُّكَّرِ وَأَكْثَرُ حَلَاوَةً وَفِيهِ رُطُوبَةٌ. الشيرخشك نَوْعَانِ يُجْلَبَانِ مِنْ خُرَاسَانَ مِنْ بَلَدَيْنِ مُتَقَارِبَيْنِ فَالطَّيِّبُ مِنْهُ مَا كَانَ أَبْيَضَ خَفِيفَ الْوَزْنِ صَادِقَ الْحَلَاوَةِ وَإِذَا وُضِعَ عَلَى اللِّسَانِ مِنْهُ شَيْءٌ يَسِيرٌ ظَهَرَ مِنْهُ بَرْدٌ شَدِيدٌ وَلَا يَبْقَى لَهُ ثُفْلٌ، وَالْآخَرُ يُعْرَفُ بالبيرخشك وَهُوَ أَبْيَضُ اللَّوْنِ لَكِنْ أَزْرَقُ مِنْ الْأَوَّلِ وَإِذَا وُضِعَ مِنْهُ شَيْءٌ عَلَى اللِّسَانِ ظَهَرَ مِنْهُ حَلَاوَةٌ يَسِيرَةٌ وَلَا يَنْحَلُّ مِنْهُ إلَّا شَيْءٌ يَسِيرٌ وَيَبْقَى فِيهِ ثُفْلٌ كَثِيرٌ يُشْبِهُ الصَّمْغَ، وَقَدْ يُغَشُّ بِالْفَانِيدِ وَيَظْهَرُ الْخَالِصُ بِشَيْءٍ عَلَيْهِ مِنْ وَرَقِ شَجَرِهِ وَقِشْرِهِ وَالْمَغْشُوشُ لَيْسَ كَذَلِكَ وَرُبَّمَا نُثِرَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الدَّقِيقِ الْحَوَارِيِّ إذَا عَرِقَ فَيُمْتَحَنُ بِأَنْ يُعْمَلَ فِي خِرْقَةٍ بَيْضَاءَ بَيْنَ الْيَدَيْنِ فَمَا كَانَ مِنْهُ مِنْ الدَّقِيقِ يَبْقَى فِي الْخِرْقَةِ، أَوْ يُكْسَرُ مِنْهُ

فصل الحسبة على صانعي شراب الفقاع

قِطْعَةٌ، فَإِنْ كَانَ دَاخِلَهُ وَحَوْلَهُ شَيْءٌ وَاحِدٌ كَانَ جَيِّدًا، وَإِلَّا كَانَ مَغْشُوشًا، وَلَا يَخْفَى عَلَى الذَّكِيِّ ذَلِكَ، وَهُوَ طَلٌّ يَقَعُ عَلَى شَجَرِ الْخِلَافِ وَأَمَّا الْخِيَارُ شنبر وَيَمْنَعُهُمْ مِنْ بَيْعِ فُلُوسِ الْخِيَارِ شنبر الْجَدِيدِ فَإِنَّهُ مُضِرٌّ بَلْ يَكُونُ عَتِيقًا لَهُ مِنْ السِّنِينَ ثَلَاثَةٌ إلَى عَشَرَةٍ وَكَذَلِكَ عَسَلُهُ، وَيُعْتَبَرُ عَلَيْهِمْ قَرَارِيبُ شَرَابِ الْوَرْدِ واللينوفر وَالْجَلَّابِ فَمَنْ وَجَدَ فِيهِ زَفَرًا أَفْسَدَهُ وَأَلْزَمَهُ بِإِصْلَاحِهِ، وَيُعْتَبَرُ عَلَيْهِمْ مَاءُ اللينوفر وَمَاءُ الْبُلُسَانِ الشَّامِيِّ فَإِنَّ فِيهِمْ مَنْ يَخْلِطُ فِيهِ الْبَلَدِيَّ وَيَبِيعُهُ بِالشَّامِيِّ وَيَأْمُرُهُمْ بِتَغْيِيرِ الْمَاءِ الَّذِي يَضَعُونَ فِيهِ الْمَلَاعِقَ فِي كُلِّ سَاعَةٍ بِمَاءٍ نَظِيفٍ وَكَذَلِكَ الْمَاشَعِيرُ يَلْزَمُهُمْ بِأَنْ يَكُونَ رَبِيعِيًّا فَإِنَّهُ أَنْفَعُ وَلَا يَصِحُّ إذَا بَاتَ عِنْدَهُمْ مِنْهُ شَيْءٌ أَنْ يُضِيفُوا إلَيْهِ مَاءً جَدِيدًا فَإِنَّهُ لَمْ يَبْقَ فِيهِ مِنْ الْخَاصِّيَّةِ شَيْءٌ بَلْ الْوَاجِبُ أَنْ يُغَيِّرُوهُ كُلَّ يَوْمٍ بِجَدِيدٍ غَيْرِهِ وَلَا يَقِدُوا عَلَيْهِ بِحَطَبٍ بَلْ بِالْفَحْمِ أَوْلَى لِاحْتِمَالِ أَنْ يَتَدَخَّنَ فَيَضُرَّ بِالْمَرِيضِ، وَكَذَلِكَ الْأَدْهَانُ لَا يَخْلِطُوا الْعِرَاقِيَّ بِالشَّامِيِّ بَلْ كُلُّ شَيْءٍ عَلَى هَيْئَتِهِ. [فَصَلِّ الْحَسَبَة عَلَى صَانِعِي شَرَاب الْفُقَّاع] (فَصْلٌ) وَأَمَّا شَرَابُ الْفُقَّاعِ فَهُوَ نَوْعَانِ خَاصٌّ وَخَرْجِيٌّ فَالْخَاصُّ مَا يُعْمَلُ مِنْ السُّكَّرِ وَالْحَبِّ رُمَّانٍ وَالْأَفَاوِيهِ وَالطِّيبِ وَيُسَمَّى الْأَقْسَامَ، وَالْخَرْجِيُّ مَا كَانَ مِنْ الْقَطَّارَةِ الْعَالِّ وَلَا يُسْتَعْمَلُ عَسَلُ الْقَصَبِ وَلَا الْمُرْسَلُ فَإِنَّ فِيهِ حِدَّةً وَلَهُ ضَرَائِبُ فَيُلْزَمُ صُنَّاعُهُ بِأَنْ يَسْتَعْمِلُوا لِكُلِّ كُوزٍ مِنْ الْخَاصِّ أُوقِيَّةَ سُكَّرٍ وَرُبْعَ أُوقِيَّةِ حَبِّ رُمَّانٍ وَالطِّيبِ كَمَا ذَكَرْنَا وَضَرِيبَةُ

الباب الخامس والعشرون الحسبة على العطارين والشماعين

الْخَرْجِيِّ لِكُلِّ مِائَةِ كُوزٍ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثُ رِطْلٍ بِالْمِصْرِيِّ مِنْ الْقَطَّارَةِ مَعَ الْأَفَاوِيهِ وَالطِّيبِ، وَالْمَاءُ شَعِيرٌ لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا عَلَى الْحَارِّ وَهُوَ أَنْ يُؤْخَذَ الشَّعِيرُ الْمُنَقَّى وَيُثْفَلَ وَيُدَقَّ ثُمَّ يَغْلِيَهُ عَلَى النَّارِ وَيُبَرِّدَهُ وَيُصَفِّيَهُ وَيُضِيفَ إلَيْهِ الْعَسَلَ الْقَطَّارَةَ وَالْأَفَاوِيهَ وَالطِّيبَ وَالسِّدَابَ فَإِنَّهُ يُطَيِّبُ النَّفْسَ وَيَهْضِمُ الطَّعَامَ، وَيَلْزَمُهُمْ بِأَنْ يَكُونَ تَحْتَ أَيْدِيهِمْ مَاءٌ نَظِيفٌ وَيَكُونَ مَعَهُمْ الْمِذَبَّةُ لِأَجْلِ الذُّبَابِ لِئَلَّا يَقْعُدَ عَلَى الْكُوزِ أَوْ عَلَى وِعَاءِ الْمَشْرُوبِ فَمَنْ رَأَى ذَلِكَ قَامَتْ نَفْسُهُ مِنْهُ وَيَمُصُّهُ الْإِنْسَانُ فَيُؤَدِّي إلَى قَرَفِهِ، وَيَلْزَمُهُمْ بِغَسْلِ مَوَاعِينِهِمْ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَتَغْطِيَتِهَا وَتَسْوِيكِ كِيزَانِ الْفُقَّاعِ بِالْمِسْوَاكِ الْخَشِنِ اللِّيفِ وَمِنْ دَاخِلِ الْكُوزِ قَبْلَ مَلْئِهَا، وَكَذَلِكَ قَلِيلَاتُ الْمَاشَعِيرِ، وَيُعْمَلُ عَلَى حَانُوتٍ سَكَنَهُ فِي اللَّيْلِ سُدَّةٌ مِنْ قَصَبٍ أَوْ جَرِيدٍ لِتَمْنَعَ الْكِلَابَ وَكَذَلِكَ الْكِيزَانُ إذَا عُتِّقَتْ وَتَغَيَّرَتْ رَائِحَتُهَا يَأْمُرُهُمْ أَنْ لَا يَرْجِعُوا يَسْتَعْمِلُونَهَا وَيُغَيِّرُونَ قَصْدِيرَهَا فِي كُلِّ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ وَيُبَخِّرُونَهَا قَبْلَ مَلْئِهَا وَيُعْتَبَرُ ذَلِكَ جَمِيعُهُ عَلَيْهِمْ [الْبَاب الْخَامِس وَالْعِشْرُونَ الْحَسَبَة عَلَى الْعَطَّارِينَ وَالشَّمَّاعِينَ] اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْبَابَ مِنْ أَهَمِّ الْأَشْيَاءِ الَّتِي يَنْبَغِي لِلْمُحْتَسِبِ الِاعْتِنَاءُ بِهَا وَالْكَشْفُ عَنْهَا وَيَجِبُ عَلَى الْمُحْتَسِبِ أَنْ لَا يُمَكِّنَ أَحَدًا مِنْ بَيْعِ الْعَقَاقِيرِ

وَأَصْنَافِ الْعِطْرِ إلَّا مَنْ لَهُ مَعْرِفَةٌ وَخِبْرَةٌ وَتَجْرِبَةٌ وَمَعَ ذَلِكَ يَكُونُ ثِقَةً أَمِينًا فِي دِينِهِ عِنْدَهُ خَوْفٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ الْعَقَاقِيرَ إنَّمَا تُشْتَرَى مِنْ الْعَطَّارِينَ مُفْرَدَةً ثُمَّ تُرَكَّبُ غَالِبًا وَقَدْ يَشْتَرِي الْجَاهِلُ عَقَارًا مِنْ الْعَقَاقِيرِ مُعْتَمِدًا عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْمَطْلُوبُ ثُمَّ يَبْتَاعُهُ مِنْهُ جَاهِلٌ آخَرُ فَيَسْتَعْمِلُهُ فِي الدَّوَاءِ مُتَيَقِّنًا مَنْفَعَتَهُ فَيَحْصُلُ لَهُ بِاسْتِعْمَالِهِ عَكْسُ مَطْلُوبِهِ وَيَتَضَرَّرُ بِهِ وَهِيَ أَضَرُّ عَلَى النَّاسِ مِنْ غَيْرِهَا؛ لِأَنَّ الْعَقَاقِيرَ مُخْتَلِفَةُ الطَّبَائِعِ وَالْأَدْوِيَةِ عَلَى قَدْرِ أَمْزِجَتِهَا فَإِذَا أُضِيفَ إلَيْهَا غَيْرُهَا أَحْرَقَهَا، فَحِينَئِذٍ يَعْتَبِرُ الْمُحْتَسِبُ عَلَى الْعَطَّارِينَ مَا يَغُشُّونَ بِهِ الْعَقَاقِيرَ، فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَغُشُّ الطَّبَاشِيرَ بِالْعَظْمِ الْمَحْرُوقِ، وَمَعْرِفَةُ غِشِّهِ إذَا طُرِحَ فِي الْمَاءِ رَسَبَتْ الْعِظَامُ وَطَفَا الطَّبَاشِيرُ، وَقِيلَ: إنَّهُ أَصْلُ الْقَنِيِّ الْمُحْتَرِقَةِ، وَقِيلَ: إنَّهَا تَحْتَرِقُ لِاحْتِكَاكِ أَطْرَافِهَا عِنْدَ عُصُوفِ الرِّيَاحِ فَيَخْرُجُ عَنْهَا الطَّبَاشِيرُ وَأَجْوَدُهُ الْخَفِيفُ الْوَزْنِ الْأَبْيَضُ السَّرِيعُ التَّفَرُّكِ وَالسُّحْقِ وَهُوَ بَارِدٌ فِي الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ فِيهِ قَبْضٌ وَيَسِيرُ تَحْلِيلٍ، وَيَغُشُّونَ اللِّبَانَ الذَّكَرَ بِالصَّمْغِ والْقَلفُونِيّةِ وَمَعْرِفَةُ غِشِّهِ أَنَّهُ إذَا طُرِحَ مِنْهُ شَيْءٌ عَلَى النَّارِ الْتَهَبَتْ الْقَلفُونِيّةُ وَدَخَنَتْ وَفَاحَتْ رَائِحَتُهَا، وَيَغُشُّونَ التَّمْرَ هِنْدِيٍّ بِالشَّمْعِ وَالْمِلْحِ وَالْخَلِّ وَيَقُولُونَ: هَذَا عَجْنُ الْبِلَادِ وَيَظْهَرُ غِشُّهُ إذَا عَفَنَ وَأَمَّا عَجِينُ الْبِلَادِ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ عَفَنٌ وَلَا غَيْرُهُ وَالْفِلْفِلُ هُوَ أَعْلَاهُ وَمِنْهُ نَوْعٌ شَكْلُهُ شَكْلُ الْبَاذِنْجَانِ فِي تَجْوِيفِهِ تَمْرُ هِنْدِيٍّ بَيَاضُهُ كَبَيَاضِ الْقُطْنِ مُجْتَمِعُ الْأَجْزَاءِ وَلَهُ لِيفٌ كَالْإِبْرَيْسَمِ الْأَحْمَرِ وَلَهُ حَبٌّ صَغِيرٌ وَيَسْتَعْمِلُهُ مُلُوكُ الْهِنْدِ فِي بِلَادِهِمْ لِخَاصِّيَّةِ أَنْفُسِهِمْ،

وَيَغُشُّونَ الْقُسْطَ الْحُلْوَ بِأَصْلِ الرَّاسِنِ وَمَعْرِفَةُ غِشِّهِ أَنَّ الْقُسْطَ لَهُ رَائِحَةٌ، وَإِذَا وُضِعَ عَلَى اللِّسَانِ لَهُ طَعْمٌ، وَالرَّاسِنُ بِخِلَافِ ذَلِكَ، وَقَدْ يَغُشُّونَ زَغَبَ السُّنْبُلِ بِزَغَبِ الْقُلْقَاسِ وَمَعْرِفَةُ غِشِّهِ إذَا وُضِعَ فِي الْفَمِ يَغْثِي وَيُحْرِقُ، وَقَدْ يَغُشُّونَ الْأَفْيُونَ، وَهُوَ الْمَرْقَدُ بِالْبَاقِلَاءِ الْيَابِسِ الْمَدْقُوقِ وَقِيلَ بِالْعَدَسِ وَصِفَتُهُ أَنَّهُ مِنْ عُصَارَةِ الْخَشْخَاشِ الْأَسْوَدِ الْمِصْرِيِّ أَجْوَدُهُ الْكَثِيفُ الرَّزِينُ الْمُرُّ الْقَوِيُّ الرَّائِحَةِ جِدًّا السَّهْلُ الِانْحِلَالِ فِي الْمَاءِ الْحَارِّ وَيَنْحَلُّ فِي الشَّمْسِ وَيَكُونُ هَشًّا وَهُوَ أَبْيَضُ مَائِلٌ إلَى حُمْرَةٍ يَسِيرَةٍ وَفِي طَعْمِهِ مَرَارَةٌ وَقَبْضٌ يُحَلُّ بِمَاءٍ وَيُصَفَّى فَإِنْ بَقِيَ مِنْهُ ثُفْلٌ فَهُوَ مَغْشُوشٌ، وَأَمَّا الْأَصْفَرُ الضَّعِيفُ الرَّائِحَةِ الصَّابِغُ لِلْمَاءِ الصَّافِي اللَّوْنِ فَإِنَّهُ مَغْشُوشٌ وَيُغَشُّ بالماميثا وَلَبَنِ الْخَسِّ الْبَرِّيِّ وَالصَّمْغِ، وَالْمَغْشُوشُ بِالصَّمْغِ يَكُونُ بَرَّاقًا صَافِيًا جِدًّا، وَيُغَشُّ الْمُقَلُ الْأَزْرَقُ بِالصَّمْغِ الْقَوِيِّ وَمَعْرِفَةُ غِشِّهِ أَنَّ الْهِنْدِيَّ لَهُ رَائِحَةٌ طَاهِرَةٌ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَغُشُّ قُشُورَ شَجَرِ اللِّبَانِ بِقُشُورِ شَجَرِ الصَّنَوْبَرِ، وَمَعْرِفَةُ غِشِّهِ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ فَإِنْ الْتَهَبَ وَفَاحَتْ لَهُ رَائِحَةٌ فَهُوَ خَالِصٌ وَإِنْ كَانَ بِالضِّدِّ فَهُوَ مَغْشُوشٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَغُشُّ الزَّعْفَرَانَ الشَّعْرَ بِلَحْمِ الدَّجَاجِ أَوْ لَحْمِ الْبَقَرِ بَعْدَ سَلْقِهِ بِالْمَاءِ ثُمَّ يُنْثَرُ بِالْمِلْحِ وَيُجَفَّفُ ثُمَّ يَخْلِطُهُ فِيهِ وَعَلَامَةُ غِشِّهِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا وَيَنْقَعَهُ فِي الْخَلِّ فَإِنْ تَقَلَّصَ فَهُوَ مَغْشُوشٌ بِاللَّحْمِ، وَإِنْ لَمْ يَتَقَلَّصْ فَهُوَ خَالِصٌ، وَيُغَشُّ الْمَطْحُونُ بِأَبُو مَلِيحٍ أَوْ الْجَرِيشِ وَإِظْهَارُ غِشِّهِ أَنْ يُذَوَّبَ مِنْهُ شَيْءٌ فَيُتْرَكَ فِي خِرْقَةٍ فَيَبْقَى فِيهَا شَيْءٌ لَا يَنْزِلُ

وَفِي مَطْحَنِهِ خُشُونَةٌ وَإِذَا صَبَغْتَ مِنْهُ شَيْئًا كَانَ صَبْغُهُ مَائِلًا إلَى الْخُضْرَةِ وَرَائِحَتُهُ ضَعِيفَةً وَأَيْضًا يُؤْخَذُ مِنْهُ شَيْءٌ فَيُذَوَّبُ فِي الْمَاءِ فَمَا رَسَبَ كَانَ مَغْشُوشًا، وَأَجْوَدُ الزَّعْفَرَانِ الطَّرِيُّ الْحَسَنُ اللَّوْنِ الشَّدِيدُ الْحُمْرَةِ الذَّكِيُّ الرَّائِحَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَخْلِطُ الجنوي مَعَ الكيتلاني وَيَبِيعُهُ بجنوي وَالْمُعَسَّلَ بالكيتلاني وَيَبِيعُهُ بجنوي. وَمِنْهُمْ مَنْ يَغُشُّ الْمِسْكَ بالراوند التُّرْكِيِّ أَوْ دَمِ الْأَخَوَيْنِ، وَرَامِكُ الْقَاطِرِ يُعْمَلُ فِي نَافِجَةٍ، وَمَعْرِفَةُ غِشِّهِ أَنَّهُ إذَا سُحِقَ فِي مَاءِ وَرْدٍ فَإِنَّ الْمَاءَ يَحْمَرُّ والراوند يَطْفُو عَلَى وَجْهِ الْمَاوَرْدِ لِأَنَّهُ خَشَبٌ، وَالْمِسْكُ الْخَالِصُ إذَا سُحِقَ قَوِيَتْ رَائِحَتُهُ وَرَشَحَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَغُشُّ الْمِسْكَ فَإِنَّهُمْ يَعْمَلُونَ نَافِجَةَ الْمِسْكِ مِنْ قُشُورِ الْأَمْلَجِ والشيطرج الْهِنْدِيِّ وَعَلَيْهَا سادروان وَيَعْجِنُونَهُ بِمَاءٍ وَصَمْغِ الصَّنَوْبَرِ وَيَجْعَلُونَ مِنْ هَذَا أَوْ مِثْلِهِ مِسْكًا وَيَحْشُونَ بِهِ النَّافِجَةَ وَيَسُدُّونَ رَأْسَهَا بِالصَّمْغِ ثُمَّ يُجَفِّفُونَهَا عَلَى رَأْسِ تَنُّورٍ، وَمَعْرِفَةُ غِشِّهَا وَسَائِرِ غُشُوشِ النَّوَافِجِ أَنْ يَفْتَحَهَا وَيُلَثِّمَهَا كَالْمُتَحَسِّي لِلشَّيْءِ فَإِنْ طَلَعَ إلَى فِيكَ مِنْ الْمِسْكِ حِدَّةٌ كَالنَّارِ فَهُوَ فَحْلٌ لَا غِشَّ فِيهِ مِنْ دَمٍ وَلَا غَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ بِالضِّدِّ فَهُوَ مَغْشُوشٌ وَمَعْرِفَةُ غِشِّ أَنْوَاعِ الْمِسْكِ أَنْ تَضَعَ شَيْئًا فِي فِيكَ ثُمَّ تَتْفُلَهُ عَلَى قَمِيصٍ أَبْيَضَ ثُمَّ تَنْفُضَهُ فَإِنْ انْتَفَضَ وَلَمْ يَصْبُغْ فَلَا غِشَّ فِيهِ مِنْ دَمٍ وَلَا غَيْرِهِ وَإِنْ صَبَغَ وَلَمْ يَنْفَضْ فَهُوَ مَغْشُوشٌ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْحَقُهُ بِدَمِ الْغَزَالِ

ثُمَّ يُحْشِيهِ فِي مُصْرَانِهَا. وَمِنْهُمْ مَنْ يَغُشُّهُ بِالْخُبْزِ الْمَحْرُوقِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَغُشُّهُ بِالْكُبُودِ الْمُحْرَقَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَغُشُّ الْمَاوَرْدِ الدِّمَشْقِيِّ وَصِفَةُ غِشِّهِ أَنَّهُ يُعْمَلُ فِي عَشَرَةِ أَرْطَالِ مَاءٍ يَسِيرٍ مِنْ شَحْمِ الْحَنْظَلِ وَشَبٍّ حَتَّى يُعْطِيَ عُفُوصَةً بِمَرَارَةٍ، وَيَظْهَرُ غِشُّهُ بِالذَّوْقِ، وَغِشُّ الْعَنْبَرِ الْمَعْجُونِ إذَا أُضِيفَ إلَيْهِ الشَّمْعُ فَإِذَا حَمَيْتَ مِسَلَّةً وَتَشُكُّهَا فِي خَرَزَةِ الْعَنْبَرِ فَإِنْ سَالَ عَلَى الْمِسَلَّةِ فَهُوَ شَمْعٌ وَإِنْ انْكَسَرَتْ الْخَرَزَةُ وَبَانَ فِيهَا عُشْبٌ أَخْضَرُ فَهُوَ عَنْبَرٌ، وَيُغَشُّ أَيْضًا بِشَيْءٍ يُقَالُ لَهُ لِسَانُ حَبِّ الْعُصْفُورِ، وَمَعْرِفَةُ غِشِّهِ إنْ عُمِلَ عَلَى النَّارِ وَتَصَلَّبَ فَهُوَ لِسَانُ عُصْفُورٍ وَإِنْ عُمِلَ فِي مَاءٍ وَانْحَلَّ فَهُوَ لِسَانُ عُصْفُورٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَغُشُّ الزُّبْدَةَ بِالظُّفْرِ الْمَحْلُولِ فَإِنْ أَعْطَتْ جَمَادًا فَهُوَ مِنْ الظُّفْرِ وَإِنْ أَعْطَتْ نُعُومَةً فِي الْيَدِ وَرِيحًا قَوِيًّا فَهِيَ زُبْدَةٌ خَالِصَةٌ، وَالْعُودُ غِشُّهُ الدَّفْرُ الْمَصْبُوغُ يُخْلَطُ فِي السِّيليِّ وَغِشُّهُ يَظْهَرُ بِرِيحِهِ عَلَى النَّارِ، وَالْعَنْبَرُ الْجَاوِي يُضَافُ إلَيْهِ الْعَنْبَرُ السِّيليُّ وَغِشُّهُ أَنَّ السِّيليَّ يَطْلُعُ كَالدُّخَانِ وَالْجَاوِي رِيحُهُ كَالْعُودِ وَإِذَا أُضِيفَ إلَيْهِ الرَّمْلُ وَطُحِنَ مَعَهُ فَإِنَّ الذَّوْقَ يُظْهِرُهُ، وَغِشُّ الْهَلِيلَجِ الْمُرَبَّى أَنْ يُعْمَلَ فِي بِطِّيخَةٍ خَضْرَاءَ بَالِغَةٍ يَوْمًا وَاحِدًا فَإِذَا لَانَ يُضَافُ إلَيْهِ عَسَلُ النَّحْلِ وَالرُّبُّ خَرُّوبٍ وَمَعْرِفَةُ غِشِّ ذَلِكَ بِطَعْمِهِ وَلَوْنِهِ فَإِنَّ عَمَلَ الْبِلَادِ أَسْوَدُ وَلَحْمَهُ عِيزَارٌ وَهَذَا يَكُونُ لَحْمُهُ

خَفِيفًا، وَلَوْنُهُ حَايِلٌ وَفِي طَعْمِهِ قُوَّةٌ. وَأَمَّا الْعَنْبَرُ فَإِنَّ فِيهِمْ مَنْ يَعْمَلُهُ مِنْ زَبَدِ الْبَحْرِ وَالصَّمْغِ الْأَسْوَدِ وَالشَّمْعِ الْأَبْيَضِ والصندروس وَالْعُودِ وَالسُّنْبُلِ وَيَخْدُمُهُ وَيَخْلِطُهُ بِمِثْلِهِ وَمَعْرِفَةُ غِشِّهِ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَغُشُّ الْعُودَ الْهِنْدِيَّ فَيَأْخُذُ الصَّنْدَلَ يُبَرِّدُهُ حَتَّى يَصِيرَ مِثْلَ الْعُودِ وَيَنْقَعُهُ فِي مَطْبُوخِ الْكَرْمِ الْعَتِيقِ ثُمَّ يُرَوِّحُهُ وَيَخْلِطُهُ بِالْعُودِ الْهِنْدِيِّ وَمَعْرِفَةُ غِشِّهِ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ فَتَظْهَرَ رَائِحَةُ الصَّنْدَلِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْمَلُهُ مِنْ قُشُورِ خَشَبٍ يُقَالُ لَهُ: الإبلين فَيَنْقَعُهُ فِي مَاءِ الْوَرْدِ الْمُدَبَّرِ بِالْمِسْكِ وَالْكَافُورِ أَيَّامًا ثُمَّ يُخْرِجُهُ وَيَغْلِيهِ وَيُرَوِّحُهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْمَلُ هَذَا الصِّنْفَ مِنْ خَشَبِ الزَّيْتُونِ، وَمَعْرِفَةُ غِشِّهِ أَنْ يُلْقَى مِنْهَا شَيْءٌ فِي النَّارِ، وَلَا يَخْفَى غِشُّهُ وَأَمَّا الْكَافُورُ فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَعْمَلُهُ بِنِحَاتَةِ الْخَرَّاطِينَ الْمُدَبَّرَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْجِنُ الْكَافُورَ بِمَاءِ الصَّمْغِ الْأَبْيَضِ وَيُبَخِّرُهُ عَلَى الْغَرَابِيلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْمَلُهُ مِلْحًا مِنْ حِجَارَةِ النُّوشَادِرِ وَيُكَسِّرُهُ قِطَعًا صِغَارًا ثُمَّ يَخْلِطُهُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْمَلُ مِنْ نَوَى الْبَلَحِ يَدُقُّهُ حَتَّى يَصِيرَ مِثْلَ الزَّبَدِ، وَيَجْعَلُ عَلَيْهِ مِثْلَهُ كَافُورًا ثُمَّ يَعْجِنُهُ بِمَاءِ الْكَافُورِ وَيَبْسُطُهُ رَقِيقًا مِثْلَ الْكَافُورِ، وَمَعْرِفَةُ غُشُوشِ الْكَافُورِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا وَمَا لَمْ نَذْكُرْهَا هُوَ أَنْ يُلْقَى مِنْهَا شَيْءٌ فِي الْمَاءِ فَإِنْ رَسَبَ فَهُوَ مَغْشُوشٌ، وَإِنْ طَفَا فَهُوَ خَالِصٌ وَأَيْضًا يُلْقَى مِنْهَا عَلَى خِرْقَةٍ ثُمَّ يَجْعَلُهَا عَلَى النَّارِ فَإِنْ طَارَ، وَلَمْ يَثْبُتْ فَهُوَ خَالِصٌ، وَإِنْ احْتَرَقَ وَصَارَ رَمَادًا فَهُوَ مَغْشُوشٌ

فصل غش الشمع

وَاللَّازَوَرْدُ الْخَالِصُ إذَا عُمِلَ عَلَى النَّارِ يُعْطِي زُرْقَةً وَلَمْ يَصْعَدْ، وَإِذَا كَانَ فِيهِ غِشٌّ يَصْعَدُ وَاحْتَرَقَ وَمَعْرِفَةُ غِشِّهِ الزُّجَاجُ الْمَغْرِبِيُّ وَالنِّيلُ الْهِنْدِيُّ وَالْجِيرُ الرُّخَامِيُّ مَشْوِيٌّ شَيًّا لَطِيفًا وَيَظْهَرُ ذَلِكَ بِالنَّارِ، وَغِشُّ الْمُحَوْمَدَةِ بِلَبَنِ الْيَتُوعِ، وَيُغَشُّ أَيْضًا بِدَقِيقِ الْكِرْسِنَّةِ وَيُعْمَلُ أَيْضًا فِي نُشَارَةِ الْقُرُونِ الْمَحْرُوقَةِ وَيُعْجَنُ بِمَاءِ الصَّمْغِ مَعْمُولَةً فِي هَيْئَةِ الْمَحْمُودَةِ الْأَنْطَاكِيَّةِ الرَّقِيقَةِ وَالْجَيِّدُ مِنْهَا مَا كَانَ رَقِيقًا كَلَوْنِ الْغَرِيِّ، وَمَا كَانَ مِنْهَا يَحْذُو اللِّسَانَ حَذْوًا شَدِيدًا فَهُوَ مَغْشُوشٌ بِلَبَنِ الْيَتُوعِ وَهُوَ يُبَيِّضُ لَوْنَهَا. [فَصَلِّ غَشَّ الشَّمْع] (فَصْلٌ) : وَالشَّمْعُ أَيْضًا فَغِشُّهُ كَثِيرٌ فَمِنْهُ مَا يُغَشُّ بِالزَّيْتِ الْغَلِيظِ وَمِنْهُ مَا يُخْلَطُ وَقْتَ سَيْلِهِ بِدَقِيقِ الْبَاقِلَاءِ وَالْحِمَّصِ الْمَسْحُوقِ وَمَعْرِفَةُ إظْهَارِ غِشِّهِ أَنَّهُ إذَا وُضِعَ فِي مَاءٍ فَإِنْ طَفَا فَوْقَهُ فَهُوَ خَالِصٌ وَإِنْ رَسَبَ فَهُوَ مَغْشُوشٌ وَخَلَاصُ الْمَزْغُولِ بِالزَّيْتِ بِالْإِشْنَانِ وَالْمَاءِ وَمِنْهُمْ مَنْ يُبَطِّنُهُ فَيَجْعَلُ تَحْتَهُ الشَّمْعَ الْأَسْوَدَ وَيُسَمَّى الزِّنْجَارَيَّ أَوْ وَسَخُ الشَّمْعِ وَيُجْعَلُ فَوْقَهُ الشَّمْعُ الْأَبْيَضُ النَّقِيُّ فَيَعْتَقِدُ الْمُشْتَرِي أَنَّ جَمِيعَهُ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ وَأَيْضًا يُكْثِرُ الْقُطْنَ إذَا كَانَ رَخِيصًا تَحْتَهُ وَيَبِيعُهُ بِسِعْرِ الشَّمْعِ، وَهَذَا كُلُّهُ غِشٌّ وَتَدْلِيسٌ فَيُرَاعِي الْمُحْتَسِبُ ذَلِكَ جَمِيعَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ إهْمَالٍ.

الباب السادس والعشرون في الحسبة على البياعين

[الْبَاب السَّادِس وَالْعِشْرُونَ فِي الْحَسَبَة عَلَى الْبَيَّاعِينَ] يُعْتَبَرُ عَلَيْهِمْ الْمَوَازِينُ وَالْأَرْطَالُ وَصَنْجُ الدَّرَاهِمِ عَلَى مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ فِي بَابِهِ، وَيُنْهَوْا عَنْ خَلْطِ الْبِضَاعَةِ الرَّدِيَّةِ بِالْجَيِّدَةِ إذَا اشْتَرَى كُلَّ وَاحِدَةٍ عَلَى انْفِرَادِهَا بِسِعْرٍ وَعَنْ خَلْطِ الْخَلِّ الْعَتِيقِ بِالْجَدِيدِ، وَأَكْثَرُهُمْ يَغُشُّ الْخَلَّ بِالْمَاءِ فَيُمْتَحَنُ بِأَنْ تُؤْخَذَ كِبْرِيتَةٌ وَتُتْرَكَ فِيهِ سَاعَةً ثُمَّ تُشَالَ وَتُجْلَبَ فَإِنْ كَانَ فِيهِ غِشٌّ ظَهَرَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْزُجُ عَسَلَ الْقَصَبِ بِالْمَاءِ الْحَارِّ وَمِنْهُمْ مَنْ يَغُشُّ الزَّيْتَ الطَّيِّبَ وَالشَّيْرَجَ وَقْتَ نِفَاقِهِ بِزَيْتِ الْقُرْطُمِ، وَمَعْرِفَةُ غِشِّهِ إذَا عُمِلَ فِي الْخُبْزِ الْحَارِّ فَإِنَّ شَوْخَةَ الْقُرْطُمِ تَظْهَرُ، وَكَذَا إذَا أَشْكَلَ يُعْمَلُ مِنْهُ فِي فَرْخَةِ قِنْدِيلٍ وَيُعْمَلُ فِيهِ فَتِيلَةٌ وَتُوقَدُ فَإِنْ طَلَعَ لَهُ دُخَانٌ فَهُوَ مَغْشُوشٌ، وَكَذَا إذَا أَشْكَلَ يُعْمَلُ فِي زُبْدِيَّةٍ وَيُعْصَرُ عَلَيْهِ لَيْمُونٌ أَخْضَرُ وَيَسِيغُ بالبانيذ يَظْهَرُ طَعْمُهُ وَكَذَا إذَا أَشْكَلَ يُعْمَلُ الزَّيْتُ فِي وِعَاءٍ وَيُمْخَضُ فَإِنْ أَرْغَى فَهُوَ مَغْشُوشٌ، وَيُعْتَبَرُ عَلَى قَلَّائِينَ الْجُبْنِ الْمَقْلِيِّ أَنْ يَصْلُقُوا الْجُبْنِ دَفْعَتَيْنِ فِي مَاءٍ حَارٍّ وَيُطَاهِرُ فِي الثَّالِثَةِ حَتَّى تَطْلُعَ الْجُبْنَةُ مِنْ الطَّاجِنِ نَفْسُهَا وَلَا

يُقْلَى إلَّا بِالشَّيْرَجِ الطَّرِيِّ وَكَذَا الْجُبْنُ الْمَشْوِيُّ لَا يُبَاعُ إلَّا مُؤَخَّرًا أَيْ نَاشِفٌ مِنْ الْمَاءِ وَيَأْخُذُ عَلَيْهِمْ إذَا شَوَوْهُ أَلَّا يُطَهِّرُوهُ إلَّا بِالْمَاءِ الْحَارِّ لِئَلَّا يَبْرَصَ وَإِذَا أَشْكَلَ عَلَيْهِ مَا قَلَى بِهِ الْجُبْنَ يَعْتَبِرُهُ فِي الْخُبْزِ الْحَارِّ فَإِنْ ظَهَرَتْ لَهُ شَوْخَةُ فَهُوَ زَيْتُ الْقُرْطُمِ وَرَائِحَةُ الشيرخ وَطَعْمُهُ مَا يَخْفَى عَنْ فَطِنٍ، وَيُعْتَبَرُ عَلَيْهِمْ الْمُخَلَّلَاتُ عَلَى اخْتِلَافِ أَجْنَاسِهَا فَكُلَّمَا كَانَ يَابِسًا لَمْ يَنْضَجْ أُعِيدَ إلَى الْخَلِّ وَكُلَّمَا تَغَيَّرَ عِنْدَهُمْ أَوْ فَسَدَ أَوْ دُوِّدَ أَمَرَهُمْ بِرَمْيِهِ إلَى الْمَزَابِلِ وَمَتَى خُمَّتْ عِنْدَهُمْ أَيْضًا الْكَوَامِخُ يَأْمُرُهُمْ بِإِرَاقَتِهَا خَارِجَ الْبَلَدِ فَإِنَّهَا لَا تَصْلُحُ بَعْدَ خَمْضِهَا، وَكَذَلِكَ الْجُبْنُ الْمَكْسُودُ فِي الْخَوَابِي وَكَذَلِكَ الشُّحُومُ وَالْأَدْهَانُ إذَا تَغَيَّرَتْ وَلَا يَجُوزُ لَهُمْ بَيْعُهَا؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ بِالنَّاسِ وَكَذَلِكَ الْكَبَرُ إذَا دَوَّدَ فِي خَوَابِيهِ، وَيَلْزَمُهُمْ أَلَّا يَعْمَلُوهُ إلَّا بِاللَّبَنِ الْحَلِيبِ وَالْعَفِينِ مِنْ الْخُبْزِ الْعَلَامَةِ وَلَا يُعْمَلُ بِمِشِّ اللَّبَنِ وَضَرِيبَتُهُ لِكُلِّ عَشَرَةِ أَرْطَالِ لَبَنٍ حَلِيبٍ رِطْلَانِ وَنِصْفُ عَفِينٍ وَيَنْبَغِي أَنْ يَمْنَعَهُمْ مِنْ عَمَلِ الْمَرِيِّ الْمَطْبُوخِ عَلَى النَّارِ فَإِنَّهُ يُورِثُ الْجُذَامَ وَيُشْبِهُ الرُّبَّ خَرُّوبٍ. وَيُعْتَبَرُ عَلَيْهِمْ مَا يَغُشُّونَ بِهِ عَسَلَ النَّحْلِ فَإِنَّ فِيهِمْ مَنْ يَغُشُّهُ بِالْمَاءِ وَعَلَامَةُ غِشِّهِ أَنْ يَبْقَى فِي زَمَنِ الشِّتَاءِ مُحَبَّبًا كَالسَّمِيذِ وَفِي زَمَنِ الصَّيْفِ مَائِعًا رَقِيقًا وَعَلَامَةُ غِشِّهِ أَنَّهُ يَأْخُذُ خِرْقَةً رَقِيقَةً وَيَجْعَلُ فِيهَا قَلِيلًا مِنْ الطَّفْلِ الْمَشْوِيِّ وَيُصِرُّهُ صَرَّةً وَيُدْلِي فِي الْوِعَاءِ بِخَيْطٍ فَإِنْ انْحَلَّ الطَّفْلُ ظَهَرَ غِشُّهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَغُشُّهُ بِالصَّمْغِ فَيَأْخُذُ الصَّمْغَ وَيَصْحَنُهُ ثُمَّ يَبُلُّهُ بِالْمَاءِ يَوْمًا كَامِلًا ثُمَّ يَضْرِبُهُ بِعَصًا إلَى أَنْ يَتَضَرَّبَ بَعْضُهُ فِي بَعْضٍ ثُمَّ يُضِيفُ عَلَى كُلِّ عَشَرَةِ أَرْطَالٍ مِنْ عَسَلِ النَّحْلِ خَمْسَةَ أَرْطَالٍ مِنْ

فصل وينبغي أن تكون بضائع البياعين مصونة بالبراني والقطارميز

الصَّمْغِ وَيَضْرِبُهَا فِيهِ وَعَلَامَةُ غِشِّهِ أَنْ يَظْهَرَ مُحَبَّبًا وَإِذَا وَضَعَهُ فِي فَمِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُخْفِي طَعْمَ الصَّمْغِ مِنْ غَيْرِهِ. [فَصَلِّ وَيَنْبَغِي أَنَّ تَكُون بِضَائِعِ الْبَيَّاعِينَ مَصُونَة بِالْبَرَانِيِّ والقطارميز] (فَصْلٌ) : وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بَضَائِعُهُمْ مَصُونَةً بِالْبَرَانِيِّ والقطارميز لِئَلَّا يَصِلَ إلَيْهَا شَيْءٌ مِنْ الذُّبَابِ وَهَوَامِّ الْأَرْضِ أَوْ يَقَعَ عَلَيْهَا شَيْءٌ مِنْ التُّرَابِ وَالْغُبَارِ وَبَوْلِ الْفَأْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَيَأْمُرُهُمْ بِأَنْ لَا يَسْتَعْمِلُوا لِمَسْحِ أَوْعِيَتِهِمْ إلَّا الْخِرَقَ الطَّاهِرَةَ النَّظِيفَةَ وَلَا يَمْسَحُوا بِالْخِرَقِ الْمَجْمُوعَةِ مِنْ الْمَزَابِلِ وَيَغْسِلُوهَا وَيَحْتَرِزُوا مِنْ الْخِرَقِ الْمَمْسُوحِ بِهَا الْعَذِرَةُ وَالْحَيْضُ فَيُؤَدِّي إلَى أَذَى النَّاسِ، وَيَأْمُرُهُمْ بِأَنْ تَكُونَ الْمِذَبَّةُ فِي أَيْدِيهِمْ يَذُبُّوا بِهَا عَلَى الْبِضَاعَةِ طُولَ النَّهَارِ، وَيَأْمُرُهُمْ بِنَظَافَةِ أَثْوَابِهِمْ وَغَسْلِ أَيْدِيهِمْ وَآنِيَتِهِمْ وَمَسْحِ مَوَازِينِهِمْ وَمَكَايِيلِهِمْ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ وَيَتَعَاهَدُ الْحَوَانِيتَ الْمُنْفَرِدَةَ فِي الْمَوَاضِعِ الْخَارِجَةِ عَنْ الْأَسْوَاقِ وَيَعْتَبِرُ عَلَيْهِمْ وَبِضَائِعِهِمْ وَمَوَازِينِهِمْ فِي كُلِّ حِينٍ عَلَى غَفْلَتِهِمْ مِنْهُمْ فَإِنَّ أَكْثَرَهُمْ يُدَلِّسُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ. [الْبَاب السَّابِع وَالْعِشْرُونَ فِي الْحَسَبَة عَلَى اللِّبَانَاتِ] (الْبَابُ السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ فِي الْحِسْبَةِ عَلَى اللَّبَّانِينَ) يَعْتَبِرُ الْمُحْتَسِبُ عَلَى اللَّبَّانِينَ بِتَغْطِيَةِ أَوَانِيهِمْ وَأَنْ يَكُونَ الْمَكَانُ مُبَيَّضًا مُبَلَّطًا وَأَنْ يَكُونَ التَّغَاطِي جُدُدًا فَإِنَّ الزَّبِيبَ يُحِبُّ مَكَانَ اللَّبَنِ وَكَذَا الْمُحْلِبُ يَكُونُ فِي فَمِهِ لِيفَةٌ نَظِيفَةٌ حَتَّى يَمْنَعَ الْوَسَخَ وَيُلْزِمُهُمْ فِي كُلِّ يَوْمٍ بِغَسْلِ الْقَصَارِي وَالْمَوَاعِينِ بِمِسْوَاكِ اللِّيفِ الْجَدِيدِ وَالْمَاءِ النَّظِيفِ

الباب الثامن والعشرون في الحسبة على البزازين

لِئَلَّا يُسَارِعَ إلَيْهِ الْفَسَادُ فِي زَمَنِ الْحَرِّ وَلَا يَعْمَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَوْقَ وَظِيفَتِهِ لِئَلَّا يَفْسُدَ وَيَحْمُضَ وَلَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا اللَّبَنُ الْحَلِيبُ الدَّسِمُ بِخَيْرِهِ وَلَا يَكُونُ مَقْشُوطًا فَإِنَّهُ لَا طَعْمَ فِيهِ وَقَدْ رَاحَ دَسَمُهُ وَكَذَلِكَ اللَّبَنُ الْمَشُوبُ بِالْمَاءِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ أَصْلًا نَقَلَهُ الرَّافِعِيُّ وَعَلَامَةُ غِشِّهِ إذَا طُرِحَتْ فِيهِ حَشِيشَةُ الطُّحْلُبِ فَصَلَتْ بَيْنَ الْمَاءِ وَاللَّبَنِ وَأَيْضًا يُعْرَفُ غِشُّ اللَّبَنِ الْحَلِيبِ بِأَنْ يَغْمِسَ فِيهِ شَعْرَةً ثُمَّ يُخْرِجَهَا فَإِنْ لَمْ يَعْلَقْ عَلَيْهَا شَيْءٌ مِنْ اللَّبَنِ يَكُونُ مَغْشُوشًا بِالْمَاءِ، وَإِنْ عَلَقَ اللَّبَنُ عَلَيْهَا كَانَ خَالِصًا وَكَذَا إذَا قُطِرَ مِنْهُ قَطْرَةٌ عَلَى خِرْقَةٍ تَشْرَبُ الْمِيَاهَ، وَإِنْ كَانَ خَالِصًا بَقِيَ مَكَانَهُ وَكَذَا إذَا أَشْكَلَ عَلَيْهِ يَأْخُذُ الْمُحْتَسِبُ مِنْهُ قَلِيلًا وَيُرَقِّدُهُ بِقَلِيلٍ مِنْ الْإِنْفَحَةِ فِي قَصَارِي اللَّبَنِ عِنْدَهُ وَيَخْتِمُ عَلَيْهَا فَإِنْ كَانَ فِيهِ مَاءٌ ظَهَرَ، وَإِلَّا فَلَا. [الْبَاب الثَّامِن وَالْعِشْرُونَ فِي الْحَسَبَة عَلَى الْبَزَّازِينَ] يَنْبَغِي أَلَّا يَتَّجِرَ فِي الْبَزِّ إلَّا مَنْ عَرَفَ أَحْكَامَ الْبَيْعِ وَعُقُودَ الْمُعَامَلَاتِ وَمَا يَحِلُّ لَهُ فِيهَا وَمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ وَإِلَّا وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَارْتَكَبَ الْمَحْظُورَاتِ وَقَدْ قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا يَتَّجِرُ فِي سُوقِنَا إلَّا مَنْ تَفَقَّهَ فِي دِينِهِ وَإِلَّا أَكَلَ الرِّبَا شَاءَ أَوْ أَبَى وَقَدْ رَأَيْتُ فِي هَذَا الزَّمَانِ أَكْثَرَ بَاعَةِ الْبَزِّ يَفْعَلُونَ فِي بِيَاعَاتِهِمْ مَا لَا يَحِلُّ عَمَلُهُ مِمَّا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَمِنْ ذَلِكَ النَّجْشُ وَهُوَ أَنْ يَزِيدَ فِي ثَمَنِ السِّلْعَةِ، وَلَا

يُرِيدُ الشِّرَاءَ لِيَغُرَّ غَيْرَهُ وَهَذَا حَرَامٌ؛ لِأَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ النَّجْشِ» وَلِأَنَّهُ خَدِيعَةٌ وَمَكْرٌ فَإِنْ اغْتَرَّ الرَّجُلُ بِمَنْ يَنْجُشُ فَابْتَاعَ فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ لَا يَعُودُ إلَى الْبَيْعِ فَلَمْ يَمْنَعْ صِحَّةَ الْبَيْعِ كَمَا فِي حَالِ النَّدَى. وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا تَنَاجَشُوا وَلَا تَبَاغَضُوا وَلَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إخْوَانًا» وَلَا يَزِيدُ فِي السِّلْعَةِ أَكْثَرَ مِمَّا تَسْوَى لِيَغُرَّ بِهَا النَّاسَ فَيَكُونَ حَرَامًا، وَمِنْ ذَلِكَ الْبَيْعُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ وَهُوَ أَنْ يَشْتَرِيَ الرَّجُلُ السِّلْعَةَ بِثَمَنٍ مَعْلُومٍ بِشَرْطِ الْخِيَارِ فَيَقُولَ لَهُ رَجُلٌ آخَرُ رُدَّهَا، وَأَنَا أَبِيعُك خَيْرًا مِنْهَا بِهَذَا الثَّمَنِ، أَوْ مِثْلَهَا بِدُونِ هَذَا الثَّمَنِ فَهَذَا الْقَوْلُ أَيْضًا حَرَامٌ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا يَبِيعُ الرَّجُلُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ وَلَا يَخْطُبُ عَلَى خِطْبَةِ» أَخِيهِ وَلِأَنَّ فِي هَذَا إفْسَادًا وَإِنْجَاشًا فَلَمْ يَحِلَّ فَإِنْ قَبِلَ مِنْهُ وَفَسَخَ الْبَيْعَ وَاشْتَرَى مِنْهُ صَحَّ الْبَيْعُ كَمَا ذَكَرْنَا فِي النَّجْشِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَسُومُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ وَهُوَ أَنْ يَشْتَرِيَ سِلْعَةً مِنْ رَجُلٍ فَيَقُولَ لَهُ رَجُلٌ آخَرُ: أَنَا أُعْطِيكَ أَجْوَدَ مِنْهَا بِهَذَا الثَّمَنِ أَوْ مِثْلَهَا بِدُونِ هَذَا الثَّمَنِ ثُمَّ يَعْرِضَ عَلَيْهِ السِّلْعَةَ فَيَرَاهَا الْمُشْتَرِي وَهَذَا حَرَامٌ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَسُومُ الرَّجُلُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ» وَلِأَنَّ فِي ذَلِكَ فَسَادًا وَإِبْخَاسًا فَلَمْ يَحِلَّ، وَيَحْرُمُ أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ وَهُوَ أَنْ يَقْدَمَ رَجُلٌ وَمَعَهُ مَتَاعٌ يُرِيدُ بَيْعَهُ وَيَحْتَاجُ النَّاسُ إلَيْهِ فِي الْبَلَدِ، وَإِذَا بَاعَ اتَّسَعَ وَإِذَا لَمْ يَبِعْ ضَاقَ فَيَجِيءُ إلَيْهِ سِمْسَارٌ وَيَقُولُ لَهُ: لَا تَبِعْ حَتَّى أَبِيعَهُ لَكَ قَلِيلًا قَلِيلًا، وَأَزِيدَ فِي ثَمَنِهَا؛ لِمَا رَوَى طَاوُسٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَبِيعُ حَاضِرٌ لِبَادٍ قُلْتُ: لِمَ لَا يَبِيعُ حَاضِرٌ لِبَادٍ؟» قَالَ: لَا يَكُونُ لَهُ سِمْسَارًا. وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَبِيعُ حَاضِرٌ لِبَادٍ دَعُوا النَّاسَ فِي غَفَلَاتِهِمْ يَرْزُقُ اللَّهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ» ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ لِلتَّاجِرِ بِعْتُكَ هَذَا الثَّوْبَ عَلَى أَنْ تَبِيعَنِي

فصل وينبغي للتاجر أن يظهر جميع عيوب السلعة

ثَوْبَكَ أَوْ بِعْتُكَ هَذَا الثَّوْبَ بِعَشَرَةٍ نَقْدًا وَبِعِشْرِينَ نَسِيئَةً، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبِيعُ السِّلْعَةَ إلَى أَجَلٍ مَجْهُولٍ أَوْ عَلَى شَرْطِ مُسْتَقْبَلٍ مَجْهُولٍ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: بِعْتُكَ هَذَا الثَّوْبَ إلَى قُدُومِ الْحَاجِّ أَوْ إلَى دِرَاسِ الْغَلَّةِ أَوْ عَلَى عَطَاءِ السُّلْطَانِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَشْتَرِي سِلْعَةً مِنْ تَاجِرٍ مَثَلًا ثُمَّ يَبِيعُهَا لِرَجُلٍ آخَرَ قَبْلَ الْقَبْضِ فَجَمِيعُ ذَلِكَ حَرَامٌ، وَلَا يَجُوزُ لَهُمْ فِعْلُهُ؛ لِأَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ» ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمُلَامَسَةِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: بِعْتُكَ هَذَا الثَّوْبَ الَّذِي مَعِي بِاَلَّذِي مَعَكَ فَإِذَا لَمَسَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَوْبَ الْآخَرِ فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمُنَابَذَةِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ بِعْتُكَ هَذَا الثَّوْبَ الَّذِي مَعِي بِاَلَّذِي مَعَكَ فَإِذَا نَبَذْتُهُ إلَيْكَ فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْحَصَاةِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: بِعْتُكَ مَا تَقَعُ هَذِهِ الْحَصَاةُ عَلَيْهِ مِنْ أَرْضٍ أَوْ ثَوْبٍ؛ لِمَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ بَيْعِ الْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ وَالْحَصَاةِ» وَأَرَادَ بِهِ مَا ذَكَرْنَاهُ. [فَصَلِّ وَيَنْبَغِي لِلتَّاجِرِ أَنْ يَظْهَر جَمِيع عُيُوب السِّلْعَة] (فَصْلٌ) : وَيَنْبَغِي لِلتَّاجِرِ أَنْ يُظْهِرَ جَمِيعَ عُيُوبِ السِّلْعَةِ خَفِيَّهَا وَجَلِيَّهَا وَلَا يَكْتُمَ مِنْهَا شَيْئًا فَذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ فَإِنْ أَخْفَاهُ كَانَ ظَالِمًا غَاشًّا، وَالْغِشُّ حَرَامٌ وَكَانَ تَارِكًا لِلنُّصْحِ فِي مُعَامَلَتِهِ، وَالنُّصْحُ وَاجِبٌ وَمَهْمَا أَظْهَرَ أَحْسَنَ وَجْهَيْ الثَّوْبِ وَأَخْفَى الثَّانِيَ كَانَ غَاشًّا وَكَذَلِكَ إذَا أَعْرَضَ الثِّيَابَ فِي الْمَوَاضِعِ الْمُظْلِمَةِ وَأَمْثَالِهِ، وَيَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الْغِشِّ مَا رُوِيَ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَرَّ بِرَجُلٍ يَبِيعُ طَعَامًا فَأَعْجَبَهُ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فَرَأَى بَلَلًا فَقَالَ مَا هَذَا فَقَالَ أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ فَقَالَ: هَلَّا جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ حَتَّى يَرَاهُ النَّاسُ، مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا» وَيَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ النُّصْحِ بِإِظْهَارِ الْعُيُوبِ مَا رُوِيَ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا بَايَعَ جَرِيرًا عَلَى الْإِسْلَامِ وَذَهَبَ لِيَنْصَرِفَ فَجَذَبَ بِثَوْبِهِ

فصل ويعتبر على التجار صدق القول في إخبار الشرى ومقدار رأس المال

وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِ النُّصْحَ لِكُلِّ مُسْلِمٍ فَكَانَ جَرِيرٌ إذَا قَامَ إلَى السِّلْعَةِ يَبِيعُهَا نَصَّ عُيُوبَهَا ثُمَّ خَيَّرَ. وَقَالَ: إنْ شِئْتَ فَخُذْ، وَإِنْ شِئْتَ فَاتْرُكْ فَقِيلَ: إنَّكَ إنْ فَعَلْتَ ذَلِكَ لَمْ يُنْفِذْ لَكَ بَيْعًا قَالَ: إنَّا بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى النُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ» . [فَصْلٌ وَيَعْتَبِر عَلَى التُّجَّار صَدْق الْقَوْل فِي إخْبَار الشَّرَى وَمِقْدَار رَأَسَ الْمَال] (فَصْلٌ) : وَيُعْتَبَرُ عَلَيْهِمْ صِدْقُ الْقَوْلِ فِي إخْبَارِ الشِّرَى وَمِقْدَارِ رَأْسِ الْمَالِ، فَإِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَفْعَلُونَ مَا لَا يَجُوزُ فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ أَحَدَهُمْ يَشْتَرِي سِلْعَةً بِثَمَنٍ مَعْلُومٍ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ ثُمَّ يُخْبِرُ رَأْسَ الْمَالِ فِي بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ نَقْدًا وَهَذَا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ يُقَابِلُهُ قِسْطٌ مِنْ الثَّمَنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَشْتَرِي بِثَمَنٍ مَعْلُومٍ فَإِذَا وَجَدَ بِهَا عَيْبًا وَرَجَعَ بِالْأَرْشِ عَلَى بَائِعِهَا ثُمَّ يُخْبِرُ رَأْسَ الْمَالِ الَّذِي اشْتَرَاهَا بِهِ أَوَّلًا مِنْ غَيْرِ أَرْشٍ وَهَذَا حَرَامٌ. وَمِنْهُمْ مَنْ يُوَاطِئُ جَارَهُ أَوْ غُلَامَهُ فَيَبِيعُهُ ثَوْبًا بِعَشَرَةٍ مَثَلًا ثُمَّ يَشْتَرِيهِ مِنْهُ بِخَمْسَةَ عَشَرَ لِيُخْبِرَ بِهِ فِي الْبَيْعِ الْمُرَابَحَةِ، وَيَقُولُ: اشْتَرَيْتُهُ بِخَمْسَةَ عَشَرَ وَهَذَا حَرَامٌ لَا يَجُوزُ فِعْلُهُ، فَإِذَا اشْتَرَى ثَوْبًا بِعَشَرَةٍ ثُمَّ قَصَّرَهُ بِدِرْهَمَيْنِ وَرَفَاهُ بِدِرْهَمٍ فَإِنَّهُ لَا يَقُولُ: اشْتَرَيْتُهُ بِثَلَاثَةَ عَشَرَ وَلَا يَقُولُ: ثَمَنُهُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ كَاذِبًا بَلْ يَقُولُ قَامَ عَلَيَّ بِثَلَاثَةَ عَشَرَ، وَكَذَا إذَا اشْتَرَى ثَوْبًا بِعَشَرَةٍ، وَعَمِلَ فِيهِ عَمَلًا يُسَاوِي ثَلَاثَةً فَلَا يَقُولُ: قَامَ عَلَيَّ بِثَلَاثَةَ عَشَرَ فَإِنَّ عَمَلَ الْإِنْسَانِ لَا يَقُومُ عَلَيْهِ وَلَا يَقُولُ رَأْسُ مَالِهِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ فَإِنَّهُ يَكُونُ كَاذِبًا بَلْ يَقُولُ اشْتَرَيْتُهُ بِعَشَرَةٍ وَعَمِلْتُ فِيهِ عَمَلًا يُسَاوِي ثَلَاثَةً، فَعَلَى الْمُحْتَسِبِ أَنْ يَعْتَبِرَ عَلَيْهِمْ جَمِيعَ ذَلِكَ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ فِعْلِهِ وَيَتَفَقَّدَ مَوَازِينَهُمْ وَأَذْرِعَتِهِمْ وَيَمْنَعَهُمْ مِنْ شَرِكَةِ الْمُنَادِيَةِ وَيُرَاعِيَ حُسْنَ مُعَامَلَاتِهِمْ مَعَ الْمُشْتَرِينَ وَجَلَّابِي الْبَضَائِعِ وَصِدْقِ الْقَوْلِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ

الباب التاسع والعشرون في الحسبة على الدلالين

[الْبَاب التَّاسِع وَالْعِشْرُونَ فِي الْحَسَبَة عَلَى الدَّلَّالِينَ] يَنْبَغِي أَنْ لَا يَتَصَرَّفَ أَحَدٌ مِنْ الدَّلَّالِينَ حَتَّى يُثْبِتَ فِي مَجْلِسِ الْمُحْتَسِبِ مِمَّنْ يُقْبَلُ شَهَادَتُهُ مِنْ الثِّقَاتِ الْعُدُولِ مِنْ أَهْلِ الْخِبْرَةِ أَنَّهُ خَيْرُ ثِقَةٍ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ وَالْأَمَانَةِ وَالصِّدْقِ فِي النِّدَاءِ فَإِنَّهُمْ يَتَسَلَّمُونَ بَضَائِعَ النَّاسِ وَيُقَلِّدُونَهُمْ الْأَمَانَةَ فِي بَيْعِهَا، وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَزِيدَ فِي السِّلْعَةِ مِنْ نَفْسِهِ إلَّا أَنْ يَزِيدَ فِيهَا التَّاجِرُ، وَلَا يَكُونَ شَرِيكًا لِلْبَزَّازِ وَلَا يَقْبِضَ ثَمَنَ السِّلْعَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُوَكِّلَهُ صَاحِبُهَا فِي الْقَبْضِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْمِدُ إلَى صُنَّاعِ الْبَزِّ وَالْحَاكَةِ وَالتُّجَّارِ وَيُعْطِيهِمْ دَرَاهِمَ عَلَى سَبِيلِ الْقَرْضِ وَيَشْتَرِطُ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَبِيعَ لَهُمْ شَيْئًا مِنْ مَتَاعِهِمْ إلَّا هُوَ، وَهَذَا حَرَامٌ لِأَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ قَرْضٍ جَرَّ مَنْفَعَةً» . وَمِنْهُمْ مَنْ يَشْتَرِي السِّلْعَةَ لِنَفْسِهِ وَيُوهِمُ صَاحِبَهَا أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ اشْتَرَاهَا مِنْهُ وَيُوَاطِئُ غَيْرَهُ عَلَى شِرَائِهَا مِنْهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَكُونُ السِّلْعَةُ لَهُ فَيُنَادِي عَلَيْهَا، وَيَزِيدُ فِي ثَمَنِهَا مِنْ قِبَلِهِ وَيُوهِمُ النَّاسَ أَنَّ هَذَا الثَّمَنَ دَفَعَهُ لَهُ فِيهَا بَعْضُ التُّجَّارِ وَأَنَّهَا لَيْسَتْ مِلْكَهُ وَهَذَا غِشٌّ وَتَدْلِيسٌ وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَزَّازِ شَرْطٌ وَمُوَاطَأَةٌ عَلَى شَيْءٍ مَعْلُومٍ مِنْ دَلَالَتِهِ فَإِذَا قَدِمَ عَلَى الْبَزَّازِ تَاجِرٌ وَمَعَهُ مَتَاعٌ يَقُولُ هَاهُنَا سِمْسَارٌ وَهُوَ رَجُلٌ نَاصِحٌ فِي السِّلْعَةِ فَيَسْتَدْعِي ذَلِكَ الْمُنَادِيَ بِعَيْنِهِ وَيُسَلِّمُ لَهُ الْمَتَاعَ فَإِذَا فَرَغَ الْبَيْعُ، وَأَخَذَ الْأُجْرَةَ أَعْطَى الْبَزَّازَ مَا كَانَ شَرَطَهُ لَهُ وَوَاطَأَهُ عَلَيْهِ وَهَذَا حَرَامٌ عَلَى الْبَزَّازِ فِعْلُهُ وَمَتَى عَلِمَ الْمُنَادِي فِي السِّلْعَةِ عَيْبًا وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُعْلِمَ الْمُشْتَرِيَ بِذَلِكَ الْعَيْبِ وَيُوقِفَهُ عَلَيْهِ، وَعَلَى

الباب الثلاثون في الحسبة على الحاكة

الْمُحْتَسِبِ أَنْ يَعْتَبِرَ عَلَيْهِمْ جَمِيعَ ذَلِكَ وَيَأْخُذَ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَتَسَلَّمَ جَعَالَتَهُ إلَّا مِنْ يَدِ الْبَائِعِ وَلَا يُسْقِطَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي شَيْئًا، فَإِنَّ فِيهِمْ مَنْ يُوَاطِئُ الْمُشْتَرِيَ عَلَى جَعَالَتِهِ فَوْقَ مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْلَمَ الْبَائِعُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَهَذَا كُلُّهُ حَرَامٌ. [الْبَاب الثَّلَاثُونَ فِي الْحَسَبَة عَلَى الْحَاكَة] يَأْمُرُهُمْ بِجَوْدَةِ عَمَلِ الشُّقَّةِ وَصَفَاقَتِهَا وَنِهَايَةِ طُولِهَا الْمُتَعَارَفِ بِهِ وَعَرْضِهَا وَجَوْدَةِ صِنَاعَتِهَا وَتَنْقِيَةِ غَزْلِهَا مِنْ الْقِشْرَةِ السَّوْدَاءِ بِالْحَجَرِ الْأَسْوَدِ الْخَشِنِ وَيَمْنَعُهُمْ مِنْ نَثْرِ الدَّقِيقِ وَالْجِصِّ الْمَشْوِيِّ عَلَيْهَا فِي وَقْتِ نَسْجِهَا فَإِنَّهُ يَسْتُرُ وَحَاشَهَا فَتُبَانُ كَأَنَّهَا صَفِيقَةٌ رَفِيعَةٌ، وَهَذَا تَدْلِيسٌ عَلَى النَّاسِ وَيَأْمُرُهُمْ إذَا نَسَجُوا ثَوْبًا جَدِيدًا أَلَّا يَصْبُغُوا الْغَزْلَ إلَّا بَعْدَ بَيَاضِهِ، وَلَا يَصْبُغَهُ مِنْ الْغَزْلِ الْأَسْوَدِ فَيَتَهَرَّى وَلَا يَمْسِكُ شَيْئًا وَيَضُرُّ بِالْمُشْتَرِي وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْسِجُ وَجْهَ الشُّقَّةِ مِنْ الْغَزْلِ الطَّيِّبِ الْمُصْطَحِبِ ثُمَّ يَنْسِجُ بَاقِيَهَا مِنْ غَيْرِهِ وَهَذَا غِشٌّ فَيُعْتَبَرُ عَلَيْهِمْ جَمِيعُ ذَلِكَ. [فَصَلِّ أَخَذَ أَحَد مِنْ الْحَاكَة غَزْلًا لِإِنْسَانِ لِيَنْسِجهُ لَهُ ثَوْبًا فَلِيَأْخُذهُ بِالْوَزْنِ] (فَصْلٌ) : وَإِذَا أَخَذَ أَحَدٌ مِنْهُمْ غَزْلًا لِإِنْسَانٍ لِيَنْسِجَهُ لَهُ ثَوْبًا فَلْيَأْخُذْهُ بِالْوَزْنِ فَإِذَا نَسَجَهُ دَفَعَهُ إلَى صَاحِبِهِ بِالْوَزْنِ؛ لِأَنَّهُ أَنْفَى التُّهْمَةَ فَإِذَا ادَّعَى صَاحِبُ الْغَزْلِ أَنَّ الْحَائِكَ أَبْدَلَ غَزْلَهُ فَإِنْ كَانَ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ عَيْنِ غَزْلِهِ وَصَدَّقَهُ الْحَائِكُ حَمَلَهُمْ إلَى أَرْبَابِ الْخِبْرَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ شَيْءٌ وَلَا بَيِّنَةٌ حَلَفَ الْحَائِكُ أَنَّهُ مَا غَيَّرَهُ لِأَنَّهُ أَمِينٌ، فَلَوْ اسْتَأْجَرَهُ لِيَنْسِجَ لَهُ مِنْ

الباب الحادي والثلاثون في الحسبة على الخياطين والرفائين والقصارين وصناع القلانس

غَزْلٍ عَيَّنَهُ لَهُ عَشَرَةَ أَذْرُعٍ طُولًا فِي عَرْضِ كَذَا فَنَسَجَهُ أَحَدَ عَشَرَ، قَالَتْ الْعُلَمَاءُ: لَا يَسْتَحِقُّ مِنْ الْأُجْرَةِ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ وُجِدَ مِنْهُ مُخَالَفَةٌ فِي جَمِيعِ الثَّوْبِ وَلِأَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يُدْخِلَ الذِّرَاعَ فِي الْعَشَرَةِ، وَكَذَا لَوْ نَسَجَهُ تِسْعَةَ أَذْرُعٍ، كَذَا أَفْتَى الْإِمَامُ الْعَبَّادِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَا يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَمُدُّوا مَرَادِيَهُمْ فِي طُرُقَاتِ النَّاسِ فَإِنَّهُ يَضُرُّ بِالْمَارَّةِ [الْبَاب الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ فِي الحسبة عَلَى الخياطين والرفائين والقصارين وصناع القلانس] يُؤْمَرُونَ بِجَوْدَةِ التَّفْصِيلِ وَحُسْنِ الطَّوْقِ وَسَعَةِ التَّضَارِيسِ وَاعْتِدَالِ الْكُمَّيْنِ وَاسْتِوَاءِ الذَّيْلِ، وَالْأَجْوَدُ أَنْ تَكُونَ الْخِيَاطَةُ دَرْزًا لَا شَلًّا وَالْإِبْرَةُ رَفِيعَةً وَالْخَيْطُ عَلَى الْخُرْمِ قَصِيرًا؛ لِأَنَّهُ إذَا طَالَ انْسَلَخَ وَضَعُفَتْ قُوَّتُهُ وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُفَصِّلَ لِأَحَدٍ ثَوْبًا لَهُ قِيمَةٌ حَتَّى يُقَدِّرَهُ ثُمَّ يَقْطَعَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ ثَوْبًا لَهُ قِيمَةٌ كَالْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ فَلَا يَأْخُذُهُ إلَّا بِالْوَزْنِ فَإِذَا خَاطَهُ رَدَّهُ إلَى صَاحِبِهِ بِذَلِكَ الْوَزْنِ وَيَعْتَبِرُ عَلَيْهِمْ مَا يَسْرِقُونَهُ، فَمِنْهُمْ مَنْ إذَا خَاطَ ثَوْبًا حَرِيرًا أَوْ نَحْوَهُ لَخَّهُ بِالْمَاءِ وَالْمِلْحِ حَتَّى يَزِيدَ فِي الْوَزْنِ قُبَالَةَ مَا أَخَذَهُ، وَيَمْنَعُهُمْ أَنْ يُمَاطِلُوا النَّاسَ بِخِيَاطَةِ أَمْتِعَتِهِمْ وَيَتَضَرَّرُونَ بِالتَّرَدُّدِ إلَيْهِمْ وَحَبْسِ الْأَمْتِعَةِ عَنْهُمْ، وَلَا يُفْسَحُ لَهُمْ فِي حَبْسِ السِّلْعَةِ عَنْ صَاحِبِهَا أَكْثَرُ

مِنْ أُسْبُوعٍ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ لِصَاحِبِهَا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا يَتَعَدَّوْا الشَّرْطَ، وَنَذْكُرُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَائِدَةً لَا يَسْتَغْنِي الْمُحْتَسِبُ عَنْ مَعْرِفَتِهَا وَهِيَ كَثِيرَةُ الْوُقُوعِ مَسْأَلَةٌ: لَوْ سَلَّمَ خِرْقَةً إلَى خَيَّاطٍ فَخَاطَهَا قَبَاءً فَقَالَ الْمَالِكُ: مَا أَذِنْتُ لَكَ إلَّا فِي خِيَاطَتِهِ قَمِيصًا وَتَنَازَعَا قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: الْقَوْلُ قَوْلُ الْخَيَّاطِ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ فِي أَصْلِهِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَهُوَ أَمِينٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي التَّفْصِيلِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْقَوْلُ قَوْلُ الْمَالِكِ؛ لِأَنَّهُ الْإِذْنُ فَيَرْجِعُ إلَيْهِ فِي تَفْصِيلِ إذْنِهِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ أَوْلَى، وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ قَوْلًا ثَالِثًا، وَهُوَ أَنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ إذْ الْمَالِكُ يَدَّعِي عَلَيْهِ جِنَايَةً وَهُوَ يُنْكِرُهَا، وَالْخَيَّاطُ يَدَّعِي عَلَى الْمَالِكِ إذْنًا فِي خِيَاطَةِ الْقَبَاءِ وَهُوَ يُنْكِرُهُ فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ لِلشَّافِعِيِّ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ إذْ لَا يُرَجِّحُ فَاسِدًا عَلَى فَاسِدٍ فَدَلَّ أَنَّهُ رَأَى مَذْهَبَهُمَا رَأْيًا وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ مَذْهَبُهُ التَّحَالُفُ وَذَلِكَ حِكَايَةٌ عَنْ مَذْهَبِ الْغَيْرِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ، فَإِذَا قُلْنَا يَحْلِفُ الْخَيَّاطُ فَحَلِفُهُ يُسْقِطُ عَنْهُ الْأَرْشَ وَهَلْ يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ فِيهِ؟ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ لَا؛ لِأَنَّ يَمِينَهُ نَافِيَةٌ فَلَا يَصِحُّ لِلْإِثْبَاتِ وَالثَّانِي أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ؛ لِأَنَّا نُحَلِّفُهُ عَلَى أَنَّهُ أَذِنَ لَهُ فِي خِيَاطَتِهِ قَبَاءً لَا قَمِيصًا فَاسْتَفَادَ يَمِينُهُ اسْتِحْقَاقَ الْأُجْرَةِ وَهَلْ يَسْتَحِقُّ الْمُسَمَّى أَوْ أُجْرَةَ الْمِثْلِ وَجْهَانِ وَإِنْ قُلْنَا: إنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمَالِكِ فَيَحْلِفُ أَنَّهُ أَذِنَ فِي الْقَمِيصِ لَا فِي الْقَبَاءِ وَيَسْقُطُ عَنْهُ الْأُجْرَةُ وَيَسْتَحِقُّ الضَّمَانَ؛ لِأَنَّهُ إذَا انْتَفَى الْإِذْنُ فَالْأَصْلُ الضَّمَانُ، وَفِي قَدْرِ الضَّمَانِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: التَّفَاوُتُ مَا بَيْنَ الصَّحِيحِ وَالْمَقْطُوعِ. وَالثَّانِي: التَّفَاوُتُ مَا بَيْنَ الْمَقْطُوعِ قَمِيصًا أَوْ قَبَاءً؛ لِأَنَّ هَذَا الْقَدْرَ مَأْذُونٌ فِيهِ ثُمَّ مَهْمَا لَمْ يَأْخُذْ الْأَجِيرُ الْأُجْرَةَ فَلَهُ نَزْعُ الْخَيْطِ إذَا كَانَ مِلْكًا لَهُ، وَإِنْ قِيلَ بِالتَّحَالُفِ، فَإِذَا تَحَالَفَا سَقَطَتْ الْأُجْرَةُ وَهَلْ يَسْقُطُ

فصل ما يؤخذ على الرفائين

الضَّمَانُ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا لَا إذْ فَائِدَةُ التَّحَالُفِ رَفْعُ الْعَقْدِ وَالرُّجُوعُ إلَى مَا قَبْلَهُ. وَالثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّهُ يَسْقُطُ؛ لِأَنَّهُ حَلَفَ عَلَى نَفْيِ الْعُدْوَانِ أَعْنِي الْخَيَّاطَ وَلَوْ نَكَلَ لَكَانَ يَلْزَمُهُ الضَّمَانُ فَكَانَ لِيَمِينِهِ فَائِدَةٌ، وَكَذَا لَوْ أَحْضَرَ إلَيْهِ خِرْقَةً وَقَالَ إنْ كَانَتْ تَكْفِينِي قَمِيصًا فَاقْطَعْهَا فَقَطَعَهَا مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ فَلَمْ تَكْفِ يَلْزَمُهُ الضَّمَانُ أَيْضًا كَمَا ذَكَرْنَا مَا بَيْنَهُ صَحِيحًا وَمَقْطُوعًا. [فَصَلِّ مَا يُؤْخَذ عَلَى الرَّفَّائِينَ] (فَصْلٌ) : وَيَنْبَغِي أَنْ يَحْلِفَ الرَّفَّائِينَ أَنْ لَا يَرْفَئُوا لِأَحَدٍ مِنْ الْقَصَّارِينَ وَلَا الدَّقَّاقِينَ ثَوْبًا خَزًّا وَلَا غَيْرَهُ إلَّا بِحَضْرَةِ صَاحِبِهِ وَلَا يَنْقُلُ الْمُطَرِّزُ وَلَا الرَّقَّامُ رَقْمَ ثَوْبٍ إلَى ثَوْبٍ يُحْضِرُهُ إلَيْهِ الْقَصَّارُ أَوْ الدَّقَّاقُ فَأَكْثَرُهُمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ بِثِيَابِ النَّاسِ. [فَصْل مَا يُؤْخَذ عَلَى الْقَصَّارِينَ] (فَصْلٌ) : وَيَلْزَمُ الْقَصَّارِينَ أَلَّا يَسْرِقُوا أَقْمِشَةَ النَّاسِ، وَلَا يَلْبَسُوهَا وَلَا يُمَكِّنُوا أَحَدًا مِنْ صُنَّاعِهِمْ يَلْبَسُهَا، وَلَا يَرْهَنُوا لِأَحَدٍ شَيْئًا مِنْ أَقْمِشَةِ النَّاسِ وَيَكْتُبُوا عَلَى كُلِّ خِرْقَةٍ اسْمَ صَاحِبِهَا لِئَلَّا يَخْتَلِطَ أَقْمِشَةُ النَّاسِ، وَنَذْكُرُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَائِدَةً لَا يَسْتَغْنِي الْمُحْتَسِبُ عَنْ مَعْرِفَتِهَا، وَالْحُكْمِ فِيهَا. مَسْأَلَةٌ: إذَا قَصَرَ الْقَصَّارُ الثَّوْبَ ثُمَّ تَلِفَ فِي يَدِهِ فَلَهُ أَحْوَالٌ: أَحَدُهَا: أَنْ يَتْلَفَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ وَالنَّظَرُ فِي أَمْرَيْنِ أَحَدُهَا الْأُجْرَةُ وَالْآخَرُ الضَّمَانُ أَمَّا الضَّمَانُ فَيَخْرُجُ عَلَى قَوْلَيْنِ أَنَّ يَدَهُ يَدُ أَمَانَةٍ أَوْ يَدُ ضَمَانٍ وَأَمَّا الْأُجْرَةُ فَتَخْرُجُ عَلَى أَنَّ الْقِصَارَةَ عَيْنٌ أَوْ أَثَرٌ فَإِنْ قُلْنَا: إنَّهُ عَيْنٌ لَا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ؛ لِأَنَّهُ تَلِفَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ فَكَانَ مِنْ ضَمَانِهِ، وَإِنْ قُلْنَا: إنَّهُ أَثَرٌ فَكَأَنَّهُ وَقَعَ مُسَلَّمًا كَمَا فُرِّعَ فَعَلَى هَذَا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ فَإِذَا قُلْنَا: لَا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ وَيَلْزَمُهُ الضَّمَانُ فَبِكَمْ يُطَالَبُ فَاَلَّذِي صَرَّحَ بِهِ الْمُحَقِّقُونَ

فصل ما يؤخذ على صناع القلانس

أَنَّهُ يَضْمَنُ قِيمَةَ الثَّوْبِ عَلَى الْبَتِّ وَيَجْعَلُ الْقِصَارَةَ لَمْ تَكُنْ فَإِنَّهَا فَاتَتْ قَبْلَ التَّسْلِيمِ. الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَتْلَفَ بِإِتْلَافِ أَجْنَبِيٍّ، فَإِنْ فَرَّعْنَا عَلَى أَنَّهُ أَثَرٌ اسْتَحَقَّ الْأُجْرَةَ فَلِلْمَالِكِ أَنْ يُطَالِبَ الْأَجْنَبِيَّ بِقِيمَتِهِ مَقْصُورًا وَكَذَا الْقَصَّارُ إنْ قُلْنَا: يَدُهُ يَدُ ضَمَانٍ، الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَتْلَفَ بِإِتْلَافِ الْمَالِكِ فَتَسْتَقِرَّ الْأُجْرَةُ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْأَجِيرِ. الْحَالَةُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَتْلَفَ بِإِتْلَافِ الْأَجِيرِ وَفِيهِ قَوْلَانِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ إتْلَافَهُ كَإِتْلَافِ أَجْنَبِيٍّ أَوْ كَآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ الْقَصَّارُ إذَا قَصَرَ الثَّوْبَ ثُمَّ جَحَدَ ثُمَّ اعْتَرَفَ اسْتَحَقَّ الْأُجْرَةَ لِتَرَاخِي الْجُحُودِ، وَلَوْ أَنَّهُ جَحَدَ ثُمَّ قَصَّرَ ثُمَّ اعْتَرَفَ فَفِي اسْتِحْقَاقِ الْأُجْرَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ؛ لِأَنَّ الْجُحُودَ لَا يُوجِبُ فَسْخَ الْإِجَارَةِ، وَقَدْ وَفَّى مَا اسْتَحَقَّ، وَإِنَّمَا أَثَرُ الْجُحُودِ أَنْ يَصِيرَ ضَامِنًا. وَالثَّانِي: لَا يَسْتَحِقُّ؛ لِأَنَّهُ أَضْمَنُ أَنْ يَعْمَلَ لِنَفْسِهِ فَيَسْقُطَ اسْتِحْقَاقُهُ، وَعَلَى الْجُمْلَةِ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ: سُقُوطُ الضَّمَانِ، قَالَ الرَّبِيعُ كَانَ الشَّافِعِيُّ يَرَى أَنَّ الْأَجِيرَ لَا يَضْمَنُ وَلَكِنْ لَا يَبُوحُ بِهِ خُفْيَةَ أُجَرَاءِ السُّوءِ. [فَصَلِّ مَا يُؤْخَذ عَلَى صَنَاع الْقَلَانِس] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا صُنَّاعُ الْقَلَانِسِ فَيَأْمُرُهُمْ بِعَمَلِهَا مِنْ الْخِرَقِ الْجَدِيدَةِ إمَّا الْحَرِيرُ أَوْ الْكَتَّانُ وَلَا يَعْمَلُوهَا مِنْ الْخِرَقِ الْبَالِيَةِ الْمَصْبُوغَةِ فَإِنَّ فِيهِمْ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ بِالنَّشَا وَالصَّمْغِ وَيُدَلِّسُ بِهِ عَلَى النَّاسِ فَمَنْ وَجَدَهُ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ أَدَّبَهُ وَنَهَاهُ

الباب الثاني والثلاثون في الحسبة على الحريرين

[الْبَاب الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ فِي الْحَسَبَة عَلَى الحريرين] الْبَابُ الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ فِي الْحِسْبَةِ وَالْمَسَّاحِي الْحَرِيرِيَّيْنِ) يَأْمُرُهُمْ الْمُحْتَسِبُ أَلَّا يَصْبُغُوا حَرِيرَ الْقَزِّ قَبْلَ تَبْيِيضِهِ لِئَلَّا يَتَغَيَّرَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَقَدْ يَفْعَلُونَهُ حَتَّى يَزِيدَ لَهُمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَخْلِطُ الْحَرِيرَ الشَّامِيَّ مَعَ الْحَرِيرِ الْبَلَدِيِّ، وَيَبِيعُهُ بِشَامِيٍّ، وَيَخْلِطُونَ الْقَزَّ الْمَصْبُوغَ بالقطارش الْمَصْبُوغِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُثْقِلُ الْحَرِيرَ بِالنَّشَا الْمُدَبَّرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُثْقِلُهُ بِالسَّمْنِ أَوْ الزَّيْتِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُ فِي أَظُهْرً عَقْدًا مِنْ غَيْرِهِ لِيَغُرَّ بِذَلِكَ. [الْبَاب الثَّالِث وَالثَّلَاثُونَ فِي الْحَسَبَة عَلَى الصَّبَّاغِينَ] (الْبَابُ الثَّالِثُ وَالثَّلَاثُونَ: فِي الْحِسْبَةِ عَلَى الصَّبَّاغِينَ) أَكْثَرُ صَبَّاغِي الْحَرِيرِ الْأَحْمَرِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْغَزْلِ وَالثِّيَابِ يَصْبُغُونَ فِي حَوَانِيتِهِمْ بِالْحِنَّاءِ عِوَضًا عَنْ أَظْهُرِ فَيَخْرُجُ الصَّبْغُ مُشْرِقًا فَإِذَا أَصَابَتْهُ الشَّمْسُ تَغَيَّرَ لَوْنُهُ وَزَالَ إشْرَاقُهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُ مِنْ الزَّبُونِ الْفِضَّةَ عَلَى أَنَّهُ يَصْبُغُ لَهُ كَحُلِيٍّ فَيُدْلِيهَا فِي شَيْءٍ يُقَالُ لَهُ: الْجَرَادَةُ وَيُخْرِجُهَا ثُمَّ يَعْمَلُهَا بِشَيْءٍ مِنْ رَغْوَةِ الْخَابِيَةِ ثُمَّ يَدْفَعُهَا لَهُ فَمَا تَمْكُثُ إلَّا يَسِيرًا، وَتَعُودُ إلَى أَصْلِهَا، وَهَذَا كُلُّهُ تَدْلِيسٌ فَيَمْنَعُهُمْ مِنْ فِعْلِهِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكْتُبُوا عَلَى

الباب الرابع والثلاثون في الحسبة على القطانين

ثِيَابِ النَّاسِ أَسْمَاءَهُمْ بِالْحِبْرِ لِئَلَّا يَتَبَدَّلَ مِنْهَا شَيْءٌ وَأَكْثَرُ الصَّبَّاغِينَ يَرْهَنُونَ أَقْمِشَةَ النَّاسِ وَيُعَيِّرُونَهَا لِمَنْ يَلْبَسُهَا، وَيَتَزَيَّنُ بِهَا، وَهَذِهِ خِيَانَةٌ وَعُدْوَانٌ، فَيَمْنَعُهُمْ مِنْ فِعْلِهِ وَيَعْتَبِرُ عَلَيْهِمْ مَا يَغُشُّونَ بِهِ الصَّبْغَ وَيَتَعَرَّضُ ذَلِكَ عَلَى أَرْبَابِ الْخِبْرَةِ الْأُمَنَاءِ الْأَخْيَارِ مِنْهُمْ [الْبَاب الرَّابِع وَالثَّلَاثُونَ فِي الْحَسَبَة عَلَى الْقَطَّانِينَ] لَا يَخْلِطُوا جَدِيدَ الْقُطْنِ بِقَدِيمِهِ وَلَا أَحْمَرَهُ بِأَبْيَضِهِ وَيَنْبَغِي أَنْ يُنَدَّفَ الْقُطْنُ نَدْفًا مُكَرَّرًا حَتَّى تَطِيرَ مِنْهُ الْقِشْرَةُ السَّوْدَاءُ وَالْحَبُّ الْمُكَسَّرُ؛ لِأَنَّهُ إذَا بَقِيَ فِيهِ الْحَبُّ ظَهَرَ فِي وَزْنِهِ، وَإِذَا طَرَحَهُ فِي جُبَّةٍ أَوْ لِحَافٍ وَغُسِلَتْ وَدُقَّتْ أَظُهِرَ الْجُبَّةُ وَأَضَرَّتْ بِمَلَابِسِ النَّاسِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُنَدِّفُ الْقُطْنَ الرَّدِيءَ الْأَحْمَرَ، وَيَجْعَلُهُ فِي أَسْفَلِ الْمَكَبَّةِ ثُمَّ يَعْمَلُ فَوْقَهُ الْقُطْنَ الْأَبْيَضَ النَّقِيَّ فَلَا يَظْهَرُ إلَّا عِنْدَ غَزْلِهِ، وَيَنْهَاهُمْ عَنْ أَنْ يُجْلِسُوا النِّسْوَانَ عَلَى أَبْوَابِ حَوَانِيتِهِمْ لِانْتِظَارِ فَرَاغِ النَّدَّافِ وَعَنْ الْحَدِيثِ مَعَهُنَّ وَلَا يَضَعُوا الْقُطْنَ بَعْدَ فَرَاغِهِ فِي الْمَوَاضِعِ الْبَارِدَةِ النَّادِيَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَزِيدُ فِي وَزْنِهِ، فَإِذَا جَفَّ نَقَصَ، وَهَذَا تَدْلِيسٌ.

الباب الخامس والثلاثون في الحسبة على الكتانيين

[الْبَاب الْخَامِس وَالثَّلَاثُونَ فِي الْحَسَبَة عَلَى الْكَتَّانِيَّيْنِ] أَجْوَدُ الْكَتَّانِ الْمِصْرِيُّ الجنوي الْفَصِّ وَأَجْوَدُهُ النَّاعِمُ الْوَرَقِ، وَأَرْدَأَهُ الْقَصِيرُ الْخَشِنُ الَّذِي يَتَقَصَّفُ، وَلَا يَخْلِطُوا جَيِّدَهُ بِرَدِيئِهِ وَلَا الْكَتَّانَ الْبَحْرِيَّ بِالصَّعِيدِيِّ وَلَا الصَّعِيدِيَّ بِالْكُورِيِّ، وَكُلُّ ذَلِكَ تَدْلِيسٌ، وَلَا يَتْرُكُوا النِّسْوَانَ جُلُوسًا عَلَى أَبْوَابِ حَوَانِيتِهِمْ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ، وَلَا يُمَكِّنُ أَحَدًا مِنْ بَيْعِ الْكَتَّانِ إلَّا بَعْدَ ثُبُوتِ تَزْكِيَتِهِ فِي مَجْلِسِهِ بِالْأَمَانَةِ وَالصِّيَانَةِ وَالْعِفَّةِ، فَإِنَّ مُعَامَلَتَهُمْ مَعَ النِّسْوَانِ فَيَعْتَبِرُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ جَمِيعَهُ وَيُحْرِزُهُ وَلَا يُهْمِلُ أَمْرَ ذَلِكَ. [الْبَاب السَّادِس وَالثَّلَاثُونَ فِي الْحَسَبَة عَلَى الصَّيَارِف] التَّمَعُّشُ بِالصَّرْفِ خَطَرٌ عَظِيمٌ عَلَى دِينِ مُتَعَاطِيهِ بَلْ لَا يَقِي لِلدِّينِ مَعَهُ إلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ الشَّرْعِ لِيَتَجَنَّبَ الْوُقُوعَ فِي الْمَحْظُورَاتِ مِنْ أَبْوَابِهِ، وَعَلَى الْمُحْتَسِبِ أَنْ يَتَفَقَّدَ سُوقَهُمْ وَيَتَجَسَّسَ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ عَثَرَ بِمَنْ رَابَى أَوْ فَعَلَ فِي الصَّرْفِ مَا لَا يَجُوزُ عَزَّرَهُ، وَأَقَامَهُ مِنْ السُّوقِ، وَإِذَا تَكَرَّرَ ذَلِكَ.

الباب السابع والثلاثون في الحسبة على الصاغة

مِنْهُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا تَفَاصِيلَ ذَلِكَ فِي فَصْلِ الرِّبَا، وَنَذْكُرُ فِي هَذَا الْمَكَانِ مَا لَمْ نَذْكُرْهُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ دِينَارًا قَاشَانِيًّا بِدِينَارٍ سَابُورِيّ لِاخْتِلَافِ وَضْعِهِمَا، وَلَا يَبِيعَ دِينَارًا وَثَوْبًا بِدِينَارَيْنِ، وَقَدْ يَفْعَلُهُ بَعْضُ الصَّيَارِفِ وَالْبَزَّازِينَ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ فَيُعْطِيهِ دِينَارًا وَيَجْعَلُهُ قَرْضًا ثُمَّ يَبِيعُهُ ثَوْبًا بِدِينَارَيْنِ فَيَصِيرُ لَهُ ثَلَاثَةُ دَنَانِيرَ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ وَيُشْهِدُ عَلَيْهِ بِجُمْلَتِهَا، وَهَذَا حَرَامٌ أَيْضًا لَا يَجُوزُ فِعْلُهُ؛ لِأَنَّهُ قَرْضٌ جَرَّ مَنْفَعَةً، وَلَوْ لَمْ يُقْرِضْهُ الدِّينَارَ مَا اشْتَرَى مِنْهُ الثَّوْبَ بِدِينَارَيْنِ، وَيَعْتَبِرُ مَوَازِينَهُمْ وَصَنْجَهُمْ كَمَا سَبَقَ. [الْبَاب السَّابِع وَالثَّلَاثُونَ فِي الْحَسَبَة عَلَى الصَّاغَة] يُؤْخَذُ عَلَيْهِمْ أَلَّا يَبِيعُوا مَخْبُرَةَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْحُلِيِّ الْمَصْبُوغَةِ إلَّا بِغَيْرِ جِنْسِهَا لِيَحِلَّ فِيهَا التَّفَاضُلُ، وَإِنْ بَاعَهَا بِجِنْسِهَا حَرُمَ فِيهَا التَّفَاضُلُ وَالنِّسْأَةُ، وَالتَّفَرُّقُ قَبْلَ الْقَبْضِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي فَصْلِ الرِّبَا، وَنَذْكُرُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَيْضًا فَائِدَةً لَا يَسْتَغْنِي الْمُحْتَسِبُ عَنْ مَعْرِفَتِهَا، وَهِيَ تَلِيقُ بِهَذَا الْمَكَانِ. مَسْأَلَةٌ: إذَا بَاعَ حُلِيًّا زِنَتُهُ أَلْفٌ بِأَلْفٍ ثُمَّ حَدَثَ فِيهِ عَيْبٌ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ قَدِيمٍ فَلَوْ قُلْنَا: لَيْسَ لِلْمُشْتَرِي

الرَّدُّ وَلَا الْأَرْشُ كَانَ ذَلِكَ إضْرَارًا بِهِ، وَلَوْ قُلْنَا: يَضْمَنُ الْأَرْشَ إلَيْهِ فَيُؤَدِّي إلَى أَنْ يَسْتَرِدَّ أَلْفًا وَيَرُدَّ أَلْفًا وَزِيَادَةً، وَهُوَ عَيْنُ الرِّبَا، وَإِنْ قُلْنَا: الْبَائِعُ يَغْرَمُ أَرْشَ الْعَيْبِ الْقَدِيمِ كَانَ مَعْنَاهُ يَرُدُّ جُزْءًا مِنْ الثَّمَنِ فَيَبْقَى فِي مُقَابَلَةِ الْأَلْفِ أَقَلُّ مِنْ أَلْفٍ، وَهُوَ عَيْنُ الرِّبَا أَيْضًا؛ وَلِأَجْلِ هَذَا الْإِشْكَالِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ، وَاَلَّذِي قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ شُرَيْحٍ: هَذَا عَقْدٌ تَعَذَّرَ إمْضَاؤُهُ فَيَنْفَسِخُ الْعَقْدُ، وَيُرَدُّ الثَّمَنُ، وَلَا سَبِيلَ إلَى اسْتِرْدَادِ الْحُلِيِّ؛ لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى الرِّبَا فَيُقَدِّرُهُ بِأَلْفٍ، وَيُوجِبُ قِيمَتَهُ بِالذَّهَبِ إنْ كَانَ مِنْ فِضَّةٍ، وَبِالْفِضَّةِ إنْ كَانَ مِنْ ذَهَبٍ، وَذَكَرَ الْعِرَاقِيُّونَ وَجْهًا آخَرَ أَنَّهُ يَرُدُّ وَيَغْرَمُ أَرْشَ الْعَيْبِ الْحَادِثِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ يَمْلِكُ بِالرَّدِّ إلَّا الْأَلْفَ، وَأَمَّا الْأَرْشُ فَيُقَدَّرُ إيجَابُهُ بِعَيْبٍ فِي يَدِهِ عَلَى حُكْمِ الضَّمَانِ فَيُقَدِّرُ غُرْمَ الْعَقْدِ وَيُوجِبُ الضَّمَانَ وَهَذَا مَسْلَكُ أَرْشِ الْعَيْبِ الْحَادِثِ وَلَوْلَاهُ لَكَانَ ذَلِكَ إثْبَاتَ مِلْكٍ مِنْ غَيْرِ مُسْتَنَدٍ إذْ الْفَسْخُ لَا يَقْتَضِي الْمِلْكَ إلَّا فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَذَكَرَ صَاحِبُ التَّقْرِيبِ وَجْهًا ثَالِثًا، وَهُوَ أَنَّهُ يَطْلُبُ بِالْأَرْشِ الْقَدِيمِ، وَيُقَدِّرُ كَأَنَّهُ الْمَعِيبُ لِمِلْكِهِ، أَمَّا الْمُقَابَلَةُ فَقَدْ جَرَتْ فِي الِابْتِدَاءِ عَلَى شَرْطِ الشَّرْعِ فَلَا يُقَدَّرُ الْآنَ رِبًا فِي الدَّوَامِ، وَهَذَا أَصَحُّهُ، وَهَاهُنَا لَا بُدَّ مِنْ التَّنْبِيهِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَمْ يَصِرْ صَائِرًا إلَى التَّخْيِيرِ بَيْنَ أَرْشِ الْعَيْبِ الْقَدِيمِ أَوْ ضَمِنَ أَرْشَ الْعَيْبِ الْحَادِثِ كَمَا فِي سَائِرِ الْعُيُوبِ، وَإِنْ كَانَ مُحْتَمِلًا يَحْمِلُ التَّوْجِيهَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ لِلْوَجْهَيْنِ وَلَكِنْ اعْتَقَدَ كُلُّ فَرِيقٍ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ أَبْعَدُ مِنْ اقْتِحَامِ الرِّبَا فَلَمْ تَثْبُتْ الْخِيرَةُ. الثَّانِي الْبَحْثُ عَنْ حَقِيقَةِ أَرْشِ الْعَيْبِ الْقَدِيمِ يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ

مَعْنَاهُ اسْتِرْدَادُ جُزْءٍ مِنْ الثَّمَنِ وَهُوَ ظَاهِرُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ كَلَامُ الْأَصْحَابِ؛ إذْ عَلَيْهِ رَتَّبُوا أَشْكَالَ مَسْأَلَةِ الْحُلِيِّ فَعَلَى هَذَا لَوْ أَرَادَ أَنْ يَغْرَمَ لَا مِنْ عَيْنِ الثَّمَنِ لَمْ يَجِدْ إلَيْهِ سَبِيلًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ غَرَامَةٌ مُبْتَدَأَةٌ تَقْدِيرُهُ بِعَيْبٍ بِجِنَايَتِهِ، فَوَجَبَ الضَّمَانُ فِي مُقَابَلَةِ الْعَيْبِ الْحَادِثِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ لَا عَقْدَ، وَإِنْ بَاعَ شَيْئًا مِنْ الْحُلِيِّ الْمَغْشُوشَةِ لَزِمَهُ أَنْ يُعَرِّفَ الْمُشْتَرِيَ مِقْدَارَ مَا فِيهَا مِنْ الْغِشِّ لِيَدْخُلَ عَلَى بَصِيرَةٍ، وَإِذَا أَرَادَ صِنَاعَةَ شَيْءٍ مِنْ الْحُلِيِّ لِأَحَدٍ فَلَا يَسْبِكُهُ فِي الْكُوَرِ إلَّا بِحَضْرَةِ صَاحِبِهِ بَعْدَ تَحَقُّقِ وَزْنِهِ فَإِذَا فَرَغَ مِنْ سَبْكِهِ أَعَادَ الْوَزْنَ، وَدَفَعَ لَهُ عَيْنَهُ حَتَّى لَا يُخَيِّلَ عَلَى صَاحِبِهِ مَتَاعَهُ، وَإِنْ احْتَاجَ إلَى لِحَامٍ فَإِنَّهُ يَزِنُهُ قَبْلَ إدْخَالِهِ فِيهِ وَلَا يُرَكِّبُ شَيْئًا مِنْ الْفُصُوصِ وَالْجَوَاهِرِ عَلَى الْخَوَاتِمِ وَالْحُلِيِّ إلَّا بَعْدَ وَزْنِهَا بِحَضْرَةِ صَاحِبِهَا، وَبِالْجُمْلَةِ: إنَّ تَدْلِيسَ الصُّيَّاغِ وَغُشُوشِهِمْ خَفِيَّةٌ لَا تَكَادُ تُعْرَفُ، وَلَا يَصُدُّهُمْ عَنْ ذَلِكَ إلَّا أَمَانَتُهُمْ وَدِينُهُمْ، وَإِنَّهُمْ يَعْرِفُونَ مِنْ الْجَلَاوَاتِ وَالْأَصْبَاغِ مَا لَا يَعْرِفُهُ غَيْرُهُمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَصْبُغُ الْفِضَّةَ صَبْغًا لَا يُفَارِقُ الْجَسَدَ إلَّا بَعْدَ السَّبْكِ فِي الروباص، فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ مُرَاقَبَةُ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - وَلَا يُزْغِلُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ شَيْئًا بِهَذَا وَلَا بِغَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ أَكْوَارُ السَّبْكِ لَا تَكُونُ مُرْتَفِعَةً بَلْ تَكُونُ فِي قَصَارٍ مَبْنِيَّةٍ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ حَتَّى لَا يَخْفَى مَا يَسْبِكُهُ فِيهَا عَنْ صَاحِبِهِ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ وَلَا يَسْرِقُ.

الباب الثامن والثلاثون في الحسبة على النحاسين والحدادين

مِنْ الْبَوْتَقَةِ شَيْئًا بِالْمَاسِكِ وَيُسَمَّى بِسَيْلِ النَّارِ وَلَا يَدُسُّ فِيهَا نُحَاسًا وَلَا غَيْرَهُ مِنْ السَّرِقَةِ وَالْخِيَانَةِ، وَكَذَلِكَ صُنَّاعُ الْخَوَاتِمِ يُؤْخَذُ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ لَا يُثْقِلُوا الْخَوَاتِمَ بِالرَّصَاصِ تَحْتَ الْفُصُوصِ وَيَبِيعُوهَا لِلنَّاسِ بِفِضَّةٍ وَأَنْ يُصَدَّقُوا فِي نَعْتِ فُصُوصِهَا؛ لِأَنَّ أَكْثَرَهَا زُجَاجٌ مَصْبُوغٌ فَإِنْ عَثَرَ الْمُحْتَسِبُ بِأَحَدٍ يَفْعَلُ هَذَا عَزَّرَهُ، وَأَشْهَرَهُ حَتَّى يَرْتَدِعَ بِهِ غَيْرُهُ مِنْ الْمُفْسِدِينَ، وَأَمَّا تُرَابُ الدَّكَاكِينِ فَإِنَّهُ أَمْوَالُ النَّاسِ قَدْ جُهِلَتْ أَرْبَابُهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يُبَاعَ وَيُتَصَدَّقَ بِهِ عَنْ أَرْبَابِهِ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ إلَّا بِالْفُلُوسِ أَوْ بِعِوَضٍ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ تَكُونُ فِيهِ فَيُؤَدِّي إلَى الرِّبَا. [الْبَاب الثَّامِن وَالثَّلَاثُونَ فِي الْحَسَبَة عَلَى النُّحَاسَيْنِ وَالْحَدَّادِينَ] لَا يَجُوزُ لَهُمْ إذَا اشْتَرَوْا قِطْعَةَ نُحَاسٍ فِيهَا لِحَامَاتٌ إلَّا أَنْ يُطْلِعَ الْمُشْتَرِيَ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا يَبْيَضُّ فَيَأْمُرُهُمْ أَنْ يَنْقُشُوا عَلَيْهَا عَتِيقَ مَلْحُومٍ بِقَلَمٍ غَلِيظٍ حَتَّى يَعْرِفَهُ الْمُشْتَرِي، وَيَدْخُلَ عَلَى بَصِيرَتِهِ فَإِنْ أَخْفَاهُ، وَلَمْ يُطْلِعْهُ عَلَيْهِ كَانَ غَاشًّا، فَإِنْ اطَّلَعَ بَعْدَ ذَلِكَ الْمُشْتَرِي عَلَيْهِ ثَبَتَ لَهُ الرَّدُّ وَعَزَّرَهُ الْمُحْتَسِبُ عَلَى غِشِّهِ، وَيَلْزَمُهُمْ إذَا اشْتَرَوْا شَيْئًا بِنَسِيئَةٍ أَنْ يُخْبِرُوا شِرَاءَهُ بِالنَّسِيئَةِ، وَلَا يَقُولُوا: شِرَاؤُهُ كَذَا، وَلَمْ يُعَيَّنْ وَهَذَا تَدْلِيسٌ.

فصل ما يؤخذ على الحدادين

كَمَا ذَكَرْنَا فِي بَابِ الْبَزَّازِينَ، وَيَلْزَمُ الصُّنَّاعَ أَلَّا يَخْلِطُوا النُّحَاسَ الْأَحْمَرَ مَعَ السُّوسِيِّ وَلَا ضَرْبُ الْحَارِّ مَعَ الْبَارِدِ، وَلَا يُكْثِرُوا الرَّصَاصَ فِي النُّحَاسِ الْمُفَرَّغِ فَإِنَّهُ إذَا فُعِلَ مِنْهُ هَاوُنٌ أَوْ طَاسَةٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ ثُمَّ وَقَعَ انْكَسَرَ سَرِيعًا مِثْلَ الزُّجَاجِ وَلَا يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَعْمَلُوا الطَّاسَاتِ الْمُفَرَّغَةِ إلَّا رَزِينَةً حَتَّى إذَا وَقَعَتْ لَمْ يُصِبْهَا شَيْءٌ، وَلَهُمْ ضَرَائِبُ الْحَمْرَاءِ الْكَبِيرَةِ رِطْلَانِ وَنِصْفٌ بِالْمِصْرِيِّ والْوَسْطَانِيّةُ رِطْلٌ وَنِصْفٌ وَالسَّفَرِيَّةِ رِطْلٌ وَرُبْعٌ وَالصِّينِيَّةِ رِطْلَانِ وَرُبْعٌ وَالسِّرَاجِ سِتَّةُ أَرْطَالٍ وَمَنَارَةِ السِّرَاجِ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ وَقَالِبِ الهناب تِسْعُ أَوَاقٍ وَالْأَطْبَاقِ الْمُفَرَّغَةِ الدُّسَتِ رِطْلَانِ وَرُبْعٌ مَخْرُوطٌ. [فَصَلِّ مَا يُؤْخَذ عَلَى الْحَدَّادِينَ] (فَصْلٌ) : وَيُؤْخَذُ عَلَى الْحَدَّادِينَ أَلَّا يَضْرِبُوا سِكِّينًا وَلَا مِقْرَاضًا وَلَا مِخْصَفًا وَهِيَ كَلْبَتَانِ لِلضِّرْسِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ أرمهان فَإِنَّهُ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَشْتَرِطُ لِلْمُشْتَرِي أَنَّهُ فُولَاذٌ وَهَذَا تَدْلِيسٌ، وَلَا يَخْلِطُوا الْمَسَامِيرَ الرَّجِيعَةَ الْمُطَرَّقَةَ بِالْمَسَامِيرِ الْجَدِيدَةِ الْمَضْرُوبَةِ وَيَضَعُوهَا حَتَّى لَا يَشُكَّ الْمُشْتَرِي أَنَّهَا جَدِيدَةٌ وَتُبَاعُ، وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى عِنْدَهُمْ الْمُزَوَّجَ فَيُعْتَبَرُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فِي الْمَسَامِيرِ وَالْمَسَاحِي وَالْمَحَارِيثِ وَجَمِيعِ أَصْنَافِ الْحَدِيدِ فَمَنْ وَجَدَهُ فَعَلَ ذَلِكَ عَزَّرَهُ وَأَشْهَرَهُ فَإِنْ تَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْهُ أَقَامَهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِ الْمُسْلِمِينَ.

الباب التاسع والثلاثون في الحسبة على الأساكفة

[الْبَاب التَّاسِع وَالثَّلَاثُونَ فِي الْحَسَبَة عَلَى الْأَسَاكِفَة] يُؤْخَذُ عَلَيْهِمْ أَلَّا يُكْثِرُوا الْخَبْزَ فِي النَّعْلِ لِئَلَّا يَتَغَدَّدَ وَلَا يَسْتَعْمِلُوا إلَّا الْجِلْدَ الْمُحَبَّبَ الْأَدِيمَ الطَّائِفِيَّ الْخَمِيرَ، وَلَا يَسْتَعْمِلُوا الْجِلْدَ الْفَطِيرَ، وَلَا يَسْتَعْمِلُوا مِنْ الْخَيْطِ إلَّا قَلْبَ الْكَتَّانِ، وَلَا يُطَوِّلُوهُ أَكْثَرَ مِنْ ذِرَاعٍ لِئَلَّا يَتَسَلَّخَ، وَلَا يُمَكَّنُوا أَنْ يَخِيطُوا إلَّا بِالْإِبَرِ الرَّفِيعَةِ، وَلَا يُمَكَّنُوا أَنْ يَخِيطُوا بِشَيْءٍ مِنْ شَعْرِ الْخِنْزِيرِ، فَإِنَّ ذَلِكَ نَجِسٌ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خِلَافًا لِمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَكَرِهَهُ أَحْمَدُ وَكَذَلِكَ صُنَّاعُ أَوْطِئَةِ النِّسَاءِ يُؤْخَذُ عَلَيْهِمْ أَلَّا يُكْثِرُوا حَشْوَ الْخِرَقِ فِيمَا بَيْنَ الشِّبَاكِ وَالْبِطَانَةِ، وَلَا بَيْنَ النَّعْلِ وَالظِّهَارَةِ وَيَشُدُّونَ حَشْوَ الْأَعْقَابِ، وَلَا يَشُدُّوا نَعْلًا قَدْ أَحْرَقَتْهُ الدِّبَاغَةُ، وَلَا يَمْطُلُوا أَحَدًا بِمَتَاعِهِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطُوا لِصَاحِبِهِ أَجَلًا مَعْلُومًا؛ فَإِنَّ النَّاسَ يَتَضَرَّرُونَ بِحَبْسِ أَمْتِعَتِهِمْ وَالتَّرَدُّدِ إلَيْهِمْ فَيَمْنَعُهُمْ عَنْ ذَلِكَ.

الباب الأربعون في الحسبة على البياطرة

[الْبَاب الْأَرْبَعُونَ فِي الْحَسَبَة عَلَى الْبَيَاطِرَة] الْبَيْطَرَةُ عِلْمٌ جَلِيلٌ سَطَرَتْهُ الْفَلَاسِفَةُ فِي كُتُبِهِمْ وَوَضَعُوا فِيهَا تَصَانِيفَ، وَهِيَ أَصْعَبُ عِلَاجًا مِنْ أَمْرَاضِ الْآدَمِيِّينَ؛ لِأَنَّ الدَّوَابَّ لَيْسَ لَهَا نُطْقٌ تُعَبِّرُ بِهِ عَمَّا تَجِدُ مِنْ الْمَرَضِ وَالْأَلَمِ، وَإِنَّمَا يُسْتَدَلُّ عَلَى عِلَلِهَا بِالْحِسِّ وَالنَّظَرِ فَيَحْتَاجُ الْبَيْطَارُ إلَى حُسْنِ بَصِيرَةٍ بِعِلَلِ الدَّوَابِّ، وَعِلَاجِهَا فَلَا يَتَعَاطَى الْبَيْطَرَةَ إلَّا مَنْ لَهُ مَعْرِفَةٌ وَخِبْرَةٌ بِالتَّهَجُّمِ عَلَى الدَّوَابِّ بِفَصْدٍ أَوْ قَطْعٍ أَوْ كَيٍّ وَمَا أَشْبَهَهُ فَمَنْ قَدِمَ عَلَى ذَلِكَ بِغَيْرِ مَخْبَرَةٍ فَيُؤَدِّي إلَى هَلَاكِ الدَّابَّةِ أَوْ عَطَبِهَا فَيَلْزَمُهُ أَرْشُ مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهَا مِنْ طَرِيقِ الشَّرْعِ وَيُعَزِّرُهُ الْمُحْتَسِبُ مِنْ طَرِيقِ السِّيَاسَةِ. [فَصَلِّ وَيَنْبَغِي لِلْبَيْطَارِ أَنْ يَعْتَبِر حَافِرْ الْفَرَس وَالدَّابَّة قَبْل تَقْلِيمه] (فَصْلٌ) : وَيَنْبَغِي لِلْبَيْطَارِ أَنْ يَعْتَبِرَ حَافِرَ الْفَرَسِ وَالدَّابَّةِ قَبْلَ تَقْلِيمِهِ، فَإِنْ كَانَ أَحْنَفَ أَوْ مَائِلًا نَسَفَ مِنْ الْجَنْبِ الْآخَرِ قَدْرًا يَحْصُلُ بِهِ الِاعْتِدَالُ، وَإِنْ كَانَتْ يَدُ الدَّابَّةِ قَائِمَةً جَعَلَ الْمَسَامِيرَ الْمُؤَخَّرَةَ صِغَارًا وَالْمُقَدَّمَةَ كِبَارًا، وَإِنْ كَانَتْ يَدُهَا بِالضِّدِّ مِنْ ذَلِكَ صَغَّرَ الْمُقَدَّمَةَ، وَكَبَّرَ الْمُؤَخَّرَةَ فَلَا يُبَالِغُ فِي نَسْفِ الْحَافِرِ فَتَعْمِشُ الدَّابَّةُ وَلَا تُرْخَى الْمَسَامِيرُ فَيُحَرَّكُ النَّعْلُ وَيَدْخُلُ تَحْتَهُ الْحَصَى وَالرَّمْلُ وَتُرْهَصُ الدَّابَّةُ، وَلَا يَشُدُّ.

فصل وينبغي للبيطار أن يكون خبيرا بعلل الدواب وعيوبها

عَلَى الْحَافِرِ بِقُوَّةٍ فَتُزْمَنُ الدَّابَّةُ، وَاعْلَمْ أَنَّ النِّعَالَ الْمُطَرَّقَةَ أَلْزَمُ لِلْحَافِرِ وَالْمُلَيَّنَةُ أَثْبَتُ لِلْمَسَامِيرِ الصُّلْبَةِ وَالْمَسَامِيرُ الرَّفِيعَةُ خَيْرٌ مِنْ الْغَلِيظَةِ، وَإِذَا احْتَاجَتْ الدَّابَّةُ إلَى تَسْرِيعٍ أَوْ فَتْحِ عِرْقٍ أَخَذَ الْمِبْضَعَ بَيْنَ أُصْبُعَيْهِ، وَجَعَلَ نِصَابَهُ فِي رَاحَتِهِ، وَأَخْرَجَ مِنْ رَأْسِهِ مِقْدَارَ نِصْفِ ظُفْرٍ ثُمَّ فَتَحَ الْعِرْقَ تَعْلِيقًا إلَى فَوْقَ بِخِفَّةٍ وَرِفْقٍ وَلَا يَضْرِبُ الْعِرْقَ حَتَّى يَحْبِسَهُ بِأُصْبُعِهِ سِيَّمَا عُرُوقُ الْأَوْدَاجِ فَإِنَّهَا خُطْوَةٌ لِمُجَاوَرَتِهَا لِلْمَرِيءِ فَإِنْ أَرَادَ شَيْئًا مِنْ عُرُوقِ الْأَوْدَاجِ خَنَقَ الدَّابَّةَ خَنْقًا شَدِيدًا حَتَّى تَنْدُرَ عُرُوقُ الْأَوْدَاجِ فَيَتَمَكَّنَ حِينَئِذٍ مِمَّا أَرَادَ [فَصَلِّ وَيَنْبَغِي لِلْبَيْطَارِ أَنْ يَكُون خَبِيرًا بِعِلَلِ الدَّوَابّ وَعُيُوبهَا] (فَصْلٌ) : وَيَنْبَغِي لِلْبَيْطَارِ أَنْ يَكُونَ خَبِيرًا بِعِلَلِ الدَّوَابِّ وَمَعْرِفَةِ مَا يَحْدُثُ فِيهَا مِنْ الْعُيُوبِ، وَيَرْجِعُ النَّاسُ إلَيْهِ إذَا اخْتَلَفُوا فِي الدَّابَّةِ، وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ فِي كِتَابِ الْبَيْطَرَةِ أَنَّ عِلَلَ الدَّوَابِّ ثَلَاثُمِائَةٍ وَعِشْرُونَ عِلَّةً، وَنَذْكُرُ مَا اُشْتُهِرَ مِنْ ذَلِكَ، فَمِنْهَا الْخِنَاقُ الرَّطْبُ وَالْخِنَاقُ الْيَابِسُ وَالْجُنُونُ وَفَسَادُ الدِّمَاغِ وَالصُّدَاعُ وَالْحُمْرُ وَالنَّفْخَةُ وَالْوَرَمُ وَالْمُرَّةُ الْهَائِجَةُ وَالذِّئْبَةُ وَالْخُشَامُ وَوَجَعُ الْكَبِدِ وَوَجَعُ الْقَلْبِ وَالدُّودُ فِي الْبَطْنِ وَالْمَغَلُ وَالْمَغَصُ وَرِيحُ السُّوسِ وَالْقُضَاعُ وَالصِّدَامُ وَالسُّعَالُ الْبَارِدُ وَالسُّعَالُ الْحَارُّ وَانْفِجَارُ الدَّمِ مِنْ الدُّبُرِ وَالذَّكَرِ وَالنُّحْلِ وَالْحَلْقِ، وَعِصَارُ الْبَوْلِ، وَوَجَعُ الْمَفَاصِلِ، وَالرَّهْصَةُ والرحس وَالدَّاحِسُ وَالنَّمْلَةُ وَالنَّكَبُ وَالْخُلْدُ وَاللَّقْوَةُ.

الباب الحادي والأربعون في الحسبة على سماسرة العبيد والجواري والدواب والدور

وَالْمَاءُ الْحَارُّ فِي الْعَيْنِ وَالْمَنَاخِرِ وَرَخَاوَةُ الْأُذُنَيْنِ وَالطَّرَشُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَطُولُ شَرْحُهُ، فَيَفْتَقِرُ الْبَيْطَارُ إلَى تَحْصِيلِ مَعْرِفَةِ عِلَاجِهِ وَسَبَبِ حُدُوثِ هَذِهِ الْعِلَلِ مِنْهَا مَا إذَا أُحْدِثَ فِي الدَّابَّةِ صَارَ عَيْبًا دَائِمًا وَمِنْهَا مَا لَمْ يَصِرْ عَيْبًا دَائِمًا وَلَوْلَا التَّطْوِيلُ لَشَرَحْتُ مِنْ ذَلِكَ جُمَلًا كَثِيرَةً وَتَفَاصِيلَ، فَلَا يُهْمِلُ الْمُحْتَسِبُ ذَلِكَ وَيَمْتَحِنُهُمْ بِهِ [الْبَاب الْحَادِي وَالْأَرْبَعُونَ فِي الحسبة عَلَى سماسرة الْعَبِيد والجواري والدواب والدور] يَنْبَغِي أَلَّا يَتَصَرَّفَ فِي سَمْسَرَةِ الْعَبِيدِ وَالْجَوَارِي إلَّا مَنْ ثَبَتَتْ عِنْدَ النَّاسِ أَمَانَتُهُ وَعِفَّتُهُ وَصِيَانَتُهُ، وَأَنْ يَكُونَ مَشْهُورَ الْعَدَالَةِ؛ لِأَنَّهُ يَتَسَلَّمُ جِوَارِي النَّاسِ وَغِلْمَانَهُمْ، وَرُبَّمَا اخْتَلَى بِهِمْ فِي مَنْزِلِهِ، وَيَنْبَغِي أَلَّا يَبِيعَ لِأَحَدٍ جَارِيَةً وَلَا عَبْدًا حَتَّى يُعَرِّفَ الْبَائِعَ أَوْ يَأْتِيَ بِمَنْ يُعَرِّفُهُ وَيُثْبِتَ اسْمَهُ وَصِفَتَهُ فِي دَفْتَرِهِ لِئَلَّا يَكُونَ الْمَبِيعُ حُرًّا أَوْ مَسْرُوقًا وَيَتَفَقَّدَ عَهْدَ الْمَمَالِيكِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي أَيْدِي مَوَالِيهِمْ لِيَعْلَمَ مِنْهَا مَا قَدْ شَرَطَ عَلَى الْمُشْتَرِي مِنْ ذَلِكَ بَيْنَهُمَا وَلَا يُخْفُوا عَيْبًا عَلِمُوهُ، وَمَنْ أَرَادَ شِرَاءَ جَارِيَةٍ جَازَ لَهُ أَنْ يَنْظُرَ إلَى وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا فَإِنْ طَلَبَ اسْتِعْرَاضَهَا فِي مَنْزِلِهِ وَالْخَلْوَةَ بِهَا فَلَا يُمَكِّنُهُ النَّخَّاسُ مِنْ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ نِسَاءٌ فِي مَنْزِلِهِ فَيَنْظُرُونَ جَمِيعَ بَدَنِ الْجَارِيَةِ.

فصل وينبغي أن يكون سمسار العبيد بصيرا بالعيوب

وَإِنْ أَرَادَ شِرَاءَ غُلَامٍ فَلَهُ أَنْ يَنْظُرَ إلَى مَا فَوْقَ السُّرَّةِ وَدُونَ الرُّكْبَةِ، هَذَا كُلُّهُ قَبْلَ الْعَقْدِ وَأَمَّا بَعْدَهُ فَلَهُ أَنْ يَنْظُرَ إلَى جَمِيعِ بَدَنِ الْجَارِيَةِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ الْجَارِيَةِ وَوَلَدِهَا كَمَا سَبَقَ. وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْجَارِيَةِ أَوْ الْمَمْلُوكِ إذَا كَانَا مُسْلِمَيْنِ لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ كَمَا سَبَقَ إلَّا أَنْ يَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمَمْلُوكَ لَيْسَ بِمُسْلِمٍ، وَيَحْرُمُ بَيْعُ الْجَارِيَةِ لِمَنْ يَتَّخِذُهَا لِلْغِنَاءِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَبِيعُوا الْقَيْنَاتِ وَالْمُغَنِّيَاتِ وَلَا تَشْتَرُوهُنَّ وَلَا تُعَلِّمُوهُنَّ وَلَا خَيْرَ فِي تِجَارَةٍ فِيهِنَّ وَثَمَنُهُنَّ حَرَامٌ» وَفِي هَذَا أُنْزِلَتْ {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان: 6] ، وَمَتَى عَلِمَ بِالْمَبِيعِ عَيْبًا وَجَبَ عَلَيْهِ بَيَانُهُ لِلْمُشْتَرِي كَمَا ذَكَرْنَا. [فَصَلِّ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُون سِمْسَار الْعَبِيد بَصِيرًا بِالْعُيُوبِ] (فَصْلٌ) : وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بَصِيرًا بِالْعُيُوبِ خَبِيرًا بِابْتِدَاءِ الْعِلَلِ وَالْأَمْرَاضِ فَإِذَا أَرَادَ بَيْعَ غُلَامٍ نَظَرَ إلَى جَمِيعِ جَسَدِهِ سِوَى عَوْرَتِهِ قَبْلَ بَيْعِهِ وَيَعْتَبِرُ ذَلِكَ لِئَلَّا يَكُونَ فِيهِ عَيْبٌ أَوْ عِلَّةٌ فَيُخْبِرَ بِهِ الْمُشْتَرِيَ. [فَصَلِّ مَا يُؤْخَذ عَلَى سَمَاسِرَة الدَّوَابّ] (فَصْلٌ) : وَيُؤْخَذُ عَلَى سَمَاسِرَةِ الدَّوَابِّ أَلَّا يَبِيعُوا دَابَّةً حَتَّى يُعَرِّفُوا الْبَائِعَ أَوْ يُعَرِّفُوا مَنْ يَعْرِفُهُ، وَيَكْتُبَ اسْمَهُ فِي دَفْتَرِهِ لِئَلَّا تَكُونَ مَعِيبَةً أَوْ مَسْرُوقَةً كَمَا قُلْنَا وَيُعَيِّنَ عَيْبَهَا لِلْمُشْتَرِي وَسِنَّهَا وَطَرْقَتَهَا وَلَا يُنَادِيَ عَلَيْهَا إلَّا مِنْ فَمِ التَّاجِرِ، وَيُرَاقِبَ اللَّهَ - تَعَالَى - فِيمَا هُوَ بِصَدَدِهِ فِي أَمْرِ الْحَيَوَانِ. [فَصَلِّ مَا يُؤْخَذ عَلَى دَلَالِيّ الْعَقَارَات] (فَصْلٌ) : يُؤْخَذُ عَلَى دَلَّالِي الْعَقَارَاتِ وَيُسْتَحْلَفُوا أَلَّا يَبِيعُوا مَا يُظَنُّ بِهِ أَنَّهُ خَرَجَ عَنْ يَدِ صَاحِبِهِ بِكِتَابَةِ تَحْبِيسٍ أَوْ كِتَابَةِ إقْرَارٍ أَوْ رَهْنٍ وَلَا شُبْهَةَ، وَلَا لِصَبِيٍّ وَلَا لِيَتِيمٍ إلَّا بِإِذْنِ وَصِيِّهِ، وَلَا يَأْخُذُ الْجَعْلَ إلَّا مِنْ الْبَائِعِ لَا غَيْرُ وَلَا يَعْدِلُ عَنْ مَنْ زَادَ فِي الثَّمَنِ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ إلَى أَنْقَصَ مِنْهُ لِعِلَّةٍ مِنْ الْعِلَلِ فَمَنْ خَالَفَ هَذَا صُرِفَ مِنْ جُمْلَةِ الدَّلَّالِينَ.

الباب الثاني والأربعون في الحسبة على الحمامات وقوامها وذكر منافعها ومضراتها

[الْبَاب الثَّانِي وَالْأَرْبَعُونَ فِي الحسبة عَلَى الحمامات وقوامها وذكر منافعها ومضراتها] يَأْمُرُهُمْ الْمُحْتَسِبُ بِإِصْلَاحِهَا وَنَضَاجَةِ مَائِهَا وَقِوَامِهَا وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ بَعْضِ الْحُكَمَاءِ أَنَّهُ قَالَ: خَيْرُ الْحَمَّامَاتِ مَا قَدِمَ بِنَاؤُهُ، وَاتَّسَعَ هَوَاؤُهُ وَعَذُبَ مَاؤُهُ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْفِعْلَ الطَّبِيعِيَّ لِلْحَمَّامِ التَّسْخِينُ بِهَوَائِهِ وَالتَّرْطِيبُ بِمَائِهِ، فَالْبَيْتُ الْأَوَّلُ مُبَرَّدٌ مُرَطَّبٌ، وَالْبَيْتُ الثَّانِي مُسَخَّنٌ مُرَخٍّ وَالْبَيْتُ الثَّالِثُ مُسَخَّنٌ مُجَفَّفٌ، وَالْحَمَّامُ يَشْتَمِلُ عَلَى مَنَافِعَ وَمَضَارَّ، فَأَمَّا مَنَافِعُهُ فَتَوَسُّعُ الْمَسَامِّ وَاسْتِفْرَاغُ الْفَضَلَاتِ وَتَحَلُّلُ الرِّيَاحِ، وَتَحَبُّسُ الطَّبْعِ إذَا كَانَتْ سُهُولَتُهُ عَنْ هَيْضَةٍ وَتَنَظُّفُ الْوَسَخِ وَالْعَرَقِ وَتَذَهُّبُ الْحَكَّةِ وَالْجَرَبِ وَالْإِعْيَاءِ وَتَرَطُّبُ الْبَدَنِ وَتَجَوُّدُ الْهَضْمِ وَتَنَضُّجُ النَّزَلَاتِ وَالزُّكَامِ وَتَمَنُّعُ مِنْ حُمَّى يَوْمٍ، وَمِنْ حُمَّى الدَّقِّ وَالرُّبْعِ بَعْدَ نُضْجِ خَلْطِهَا، وَأَمَّا مَضَارُّهَا، فَإِنَّهَا تُرْخِي الْجَسَدَ وَتُضْعِفُ الْحَرَارَةَ عِنْدَ طُولِ الْمَقَامِ فِيهَا، وَتُسْقِطُ شَهْوَةَ الطَّعَامِ، وَتُضْعِفُ الْبَاهَ وَأَعْظَمُ مَضَارِّهَا صَبُّ الْمَاءِ الْحَارِّ عَلَى الْأَعْضَاءِ الضَّعِيفَةِ، وَقَدْ.

فصل أحكام الحمام

تُسْتَعْمَلُ عَلَى الرِّيقِ وَالْخَلَاءِ فَتُجَفَّفُ تَجْفِيفًا شَدِيدًا أَوْ تَهْزِلُ وَتُضْعِفُ وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ الْحَمَّامُ عَلَى قُرْبِ عَهْدٍ بِالشِّبَعِ بَعْدَ الْهَضْمِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ يُرَطِّبُ الْبَدَنَ وَيُسْمِنُهُ وَيُحْسِنُ بَشَرَتَهُ. [فَصَلِّ أَحْكَام الْحِمَام] (فَصْلٌ) وَأَمَّا الصُّوَرُ الَّتِي تَكُونُ عَلَى بَابِ الْحَمَّامِ أَوْ دَاخِلَهُ فَذَلِكَ مُنْكَرٌ يَجِبُ إزَالَتُهَا، وَيُكْرَهُ الْكَلَامُ فِي الْحَمَّامِ وَلَا يُقْرَأُ الْقُرْآنُ إلَّا سِرًّا، وَيُكْرَهُ دُخُولُ الْحَمَّامِ بَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ وَقَرِيبًا مِنْ الْغُرُوبِ فَإِنَّ ذَلِكَ وَقْتُ انْتِشَارِ الشَّيَاطِينِ، وَقِيلَ: إنَّ الْمَاءَ الْحَارَّ فِي الشِّتَاءِ مِنْ النَّعِيمِ الَّذِي يُسْأَلُ عَنْهُ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: الْحَمَّامُ مِنْ النَّعِيمِ الَّذِي أَحْدَثُوهُ، وَقَدْ دَخَلَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْحَمَّامَاتِ بِالشَّامِ، وَيَنْبَغِي أَلَّا يُكْثِرَ صَبَّ الْمَاءِ بَلْ يَقْتَصِرُ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ، وَحَرَامٌ عَلَى الْمَرْأَةِ دُخُولُ الْحَمَّامِ إلَّا نُفَسَاءَ أَوْ مَرِيضَةً وَدَخَلَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - حَمَّامًا مِنْ سَقَمٍ بِهَا فَإِنْ دَخَلَتْ لِضَرُورَةٍ فَلَا تَدْخُلُ إلَّا بِمِئْزَرٍ سَابِغٍ سَاتِرٍ لِسَائِرِ جَسَدِهَا، وَيُكْرَهُ لِلرَّجُلِ أَنْ يُعْطِيَهَا أُجْرَةَ الْحَمَّامِ فَيَكُونَ مُعِينًا لَهَا عَلَى الْمَكْرُوهِ. [فَصَلِّ وَيَلْزَم الْمُحْتَسَب أَصْحَاب الْحَمَّامَات بِنَظَافَتِهَا] (فَصْلٌ) : وَيَنْبَغِي أَنْ يَأْمُرَهُمْ الْمُحْتَسِبُ بِغَسْلِ الْحَمَّامِ وَكَنْسِهِ وَتَنْظِيفِهِ بِالْمَاءِ الطَّاهِرِ غَيْرِ مَاءِ الْغُسَالَةِ يَفْعَلُوا ذَلِكَ مِرَارًا فِي الْيَوْمِ، وَأَنْ يُدَلِّكُوا الْبَلَاطَ بِالْأَشْيَاءِ الْخَشِنَةِ لِئَلَّا يَتَعَلَّقَ بِهَا السِّدْرُ وَالْخِطْمِيُّ فَيَزْلُقُ النَّاسُ عَلَيْهِ، وَأَنْ يَغْسِلُوا فِي كُلِّ يَوْمٍ حَوْضَ النَّوْبَةِ مِنْ الْأَوْسَاخِ الْمُجْتَمِعَةِ فِيهِ وَكَذَلِكَ الْفَسَاقِي وَالْقُدُورُ مِنْ الْأَوْسَاخِ الْمُجْتَمِعَةِ مِنْ الْمَجَارِي وَالْعَكِرِ الرَّاكِدِ فِي أَسْفَلِهَا فِي كُلِّ شَهْرٍ مَرَّةً؛ لِأَنَّهَا إنْ تُرِكَتْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ تَغَيَّرَ الْمَاءُ فِيهَا مِنْ الطَّعْمِ وَالرَّائِحَةِ، وَلَا يَسُدُّوا الْأَنَابِيبَ بِشَعْرِ الْمَشَّاطَةِ بَلْ يَسُدُّوهَا بِالْخِرَقِ الطَّاهِرَةِ أَوْ اللِّيفِ الطَّاهِرِ لِيَخْرُجَ مِنْ الْخِلَافِ.

فصل الحسبة على الحلاقين

وَيُسْتَعْمَلُ فِيهَا الْبَخُورُ فِي الْيَوْمِ مَرَّتَيْنِ بِالْحَصَى اللِّبَانُ الذَّكَرُ أَوْ الْمُصْطَكَا أَوْ اللادن، وَلَا يَدَعُ الْأَسَاكِفَةَ وَأَصْحَابَ اللِّبَدِ يَغْسِلُونَ شَيْئًا مِنْ اللِّبَدِ، وَلَا مِنْ الْأَدِيمِ فِي الْحَمَّامِ، فَإِنَّ النَّاسَ يَتَضَرَّرُونَ بِرَائِحَتِهِ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَدْخُلَ الْحَمَّامَ مَجْذُومٌ وَلَا أَبْرَصُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِلْحَمَّامِيِّ مَآزِرُ يُؤَجِّرُهَا لِلنَّاسِ، وَأَنْ تَكُونَ عَرِيضَةً حَتَّى تَسْتُرَ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ، وَيَأْمُرَ بِفَتْحِ الْحَمَّامِ فِي السَّحَرِ لِحَاجَةِ النَّاسِ إلَيْهَا لِلتَّطَهُّرِ فِيهَا قَبْلَ وَقْتِ الصَّلَاةِ، وَيَلْزَمَ الْوَقَّافَ حِفْظُ أَقْمِشَةِ النَّاسِ فَإِنْ ضَاعَ مِنْهَا شَيْءٌ لَزِمَهُ ضَمَانُهُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَيَتَّخِذَ بِالْحَمَّامِ زِيرًا كَبِيرًا بِرَسْمِ الْمَاءِ الْحُلْوِ أَوْ عَذْبًا إنْ كَانَ يُشْرَبُ [أَوْ] بِرَسْمِ شُرْبِ النَّاسِ لَا سِيَّمَا فِي زَمَنِ الْحَرِّ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ الْمَصَالِحِ، وَكَذَلِكَ يَكُونُ عِنْدَهُ السِّدْرُ وَالدُّلُوكُ، فَقَدْ يَحْتَاجُ الْإِنْسَانُ لَهُ، وَلَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ إلَى ظَاهِرِ الْحَمَّامِ، وَلَوْ رَتَّبَ سِدَارًا دَائِمًا عَلَى بَابِ الْحَمَّامِ لِيَبِيعَ السِّدْرَ وَآلَةَ الْحَمَّامِ كَانَ ذَلِكَ حَسَنًا. [فَصَلِّ الْحَسَبَة عَلَى الْحَلَّاقِينَ] (فَصْلٌ) : وَيُلْزِمُ صَاحِبَ النَّوْبَةِ بِاسْتِعْمَالِ الْأَمْوَاسِ الْجَيِّدَةِ الْفُولَاذِ حَتَّى يَنْتَفِعُوا النَّاسُ بِهَا وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُزَيِّنُ خَفِيفًا رَشِيقًا بَصِيرًا بِالْحِلَاقَةِ، وَتَكُونُ الْأَمْوَاسُ حَدِيدَةً قَاطِعَةً كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَلَا يَسْتَقْبِلَ الرَّأْسَ وَمَنَابِتَ الشَّعْرِ اسْتِقْبَالًا، وَلَا يَأْكُلَ مَا يُغَيِّرُ نَكْهَتَهُ كَالْبَصَلِ وَالثُّومِ وَالْكُرَّاثِ وَغَيْرِهِ فِي يَوْمِ نَوْبَتِهِ لِئَلَّا يَتَضَرَّرَ النَّاسُ بِرَائِحَتِهِ فِيهِ عِنْدَ الْحِلَاقَةِ، وَلَا يَحْلِقَ شَعْرَ صَبِيٍّ إلَّا بِإِذْنِ وَلِيِّهِ وَلَا عَبْدًا إلَّا بِإِذْنِ سَيِّدِهِ وَلَا يَحْلِقُ عَذَارٍ أَمْرَدَ وَلَا لِحْيَةَ مُخَنَّثٍ.

فصل ويلزم المحتسب أن يتفقد الحمام في كل وقت

[فَصَلِّ وَيَلْزَم الْمُحْتَسَب أَنْ يَتَفَقَّد الْحِمَام فِي كُلّ وَقْت] (فَصْلٌ) : وَيَلْزَمُ الْمُحْتَسِبَ أَنْ يَتَفَقَّدَ الْحَمَّامَ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَيَعْتَبِرَ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَإِنْ رَأَى أَحَدًا قَدْ كَشَفَ عَوْرَتَهُ عَزَّرَهُ عَلَى كَشْفِهَا؛ لِأَنَّ كَشْفَ الْعَوْرَةِ حَرَامٌ وَقَدْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النَّاظِرَ وَالْمَنْظُورَ إلَيْهِ، وَالنِّسَاءُ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَشَدُّ تَهَالُكًا مِنْ الرِّجَالِ، وَلَهُنَّ مُحْدَثَاتٌ مِنْ الْمُنْكَرِ أَحْدَثَهَا كَثْرَةُ الْإِرْفَاهِ وَالْإِتْرَافِ وَأُهْمِلَ إنْكَارُهَا حَتَّى سَرَتْ فِي الْأَوْسَاطِ وَالْأَطْرَافِ فَقَدْ أَحْدَثْنَ الْآنَ مِنْ الْمَلَابِسِ مَا لَا يَخْطِرُ لِلشَّيْطَانِ فِي حِسَابٍ، وَتِلْكَ لِبَاسُ الشُّهْرَةِ الَّتِي لَا يَسْتَتِرُ مِنْهَا إسْبَالُ مِرْطٍ، وَلَا أَدْنَى جِلْبَابٍ، وَمِنْ جُمْلَتِهَا أَنَّهُنَّ يَعْتَصِبْنَ عَصَائِبَ كَأَمْثَالِ الْأَسْنِمَةِ، وَيَخْرُجْنَ مِنْ جَهَارَةِ أَشْكَالِهَا فِي الصُّورَةِ الْمُعَلَّمَةِ، وَقَدْ أَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَا وَرَدَ عَنْهُ مِنْ الْأَخْبَارِ، وَجَعَلَ صَاحِبَهَا مَعْدُودًا مِنْ جُمْلَةِ أَصْحَابِ النَّارِ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَرْبٍ عَنْ سَهْلٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا: قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ، وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَّاتٌ مَائِلَاتٌ مُمِيلَاتٌ رُءُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا وَكَذَا» . وَمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «سَيَكُونُ فِي آخِرِ أُمَّتِي نِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَّاتٌ عَلَى رُءُوسِهِنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْعَنُوهُنَّ فَإِنَّهُنَّ مَلْعُونَاتٌ» وَيَكْفِي فِي حَقِّهِنَّ مَا وَعَدَهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الْعَذَابِ وَاللَّعْنَةِ، فَيَجِبُ عَلَى الْمُحْتَسِبِ أَنْ يَمْنَعَهُنَّ مِنْ ذَلِكَ وَيَعِظَهُنَّ وَيُخَوِّفَهُنَّ عُقُوبَةَ اللَّهِ

الباب الثالث والأربعون في الحسبة على السدارين

تَعَالَى إذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى الْإِنْكَارِ عَلَيْهِنَّ، وَإِذَا كَانَ عَاجِزًا سَقَطَ عَنْهُ الْوُجُوبُ، وَمِنْهَا كَشْفُ الْبَلَّانِ عَنْ الْفَخِذِ وَمَا تَحْتَ السُّرَّةِ لِتَنْحِيَةِ الْوَسَخِ بَلْ مِنْ جُمْلَتِهَا إدْخَالُ الْيَدِ تَحْتَ الْإِزَارِ، فَإِنَّ مَسَّ عَوْرَةِ الْغَيْرِ حَرَامٌ كَالنَّظَرِ إلَيْهَا فَيُمْنَعُ الْمُدَلِّكُ مِنْ ذَلِكَ. [الْبَاب الثَّالِث وَالْأَرْبَعُونَ فِي الْحَسَبَة عَلَى السدارين] (الْبَابُ الثَّالِثُ وَالْأَرْبَعُونَ فِي الْحِسْبَةِ عَلَى السدارين) وَهُوَ أَلْيَقُ بِهَذَا الْمَكَانِ مِنْ غَيْرِهِ، يُؤْخَذُ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ لَا يَطْحَنُونَ شَيْئًا مِنْ السِّدْرِ الصَّيْفِيِّ إلَّا، وَمَعَهُ شَيْءٌ مِنْ الشَّتْوِيِّ فَإِنَّهُ يَظْهَرُ لَوْنُهُ وَيَقْوَى فِعْلُهُ وَيَأْخُذُ عَلَيْهِمْ بِأَنْ لَا يَخْلِطُوا فِيهِ شَيْئًا مِنْ أَوْرَاقِ الْبَسَاتِينِ فَإِنَّ فِيهِمْ مَنْ يَعْمَلُ فِيهِ وَرَقُ الصَّفْصَافِ وَالتُّوتِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَوْرَاقِ، وَعَلَامَةُ غِشِّهِ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ شَيْءٌ وَيُضْرَبَ فِي طَاسَةٍ فَإِنْ أَرْغَى وَطَلَعَتْ الرَّغْوَةُ بَيْضَاءَ فَهُوَ سَالِمٌ، وَإِنْ طَلَعَتْ صَفْرَاءَ فَهُوَ مَخْلُوطٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَغُشُّهُ بِشَيْءٍ يُقَالُ لَهُ: السَّرَّادَةُ، وَهُوَ نَوَى النَّبْقِ وَحَصَبُ السِّدْرِ فَيُجَفِّفُهُ وَيَطْحَنُهُ مَعَهُ، فَإِذَا غَسَلَ بِهِ الرَّجُلُ صَارَ فِي أُصُولِ الشَّعْرِ وَلَا يَخْرُجُ، وَلَا يُنَقَّى مِنْ الْوَسَخِ فَإِذَا وُجِدَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ أَدَّبَهُ تَأْدِيبًا جَيِّدًا لِيَرْدَعَ بِهِ غَيْرَهُ وَإِذَا أَشْكَلَ عَلَيْهِ بَعْدَ طَحْنِهِ يَزِنُهُ، وَعَلَامَةُ السَّالِمِ مِنْهُ: أَنَّ كُلَّ قَدَحٍ زِنَتُهُ رِطْلٌ وَأُوقِيَّتَانِ بِالرِّطْلِ الْمِصْرِيِّ، وَيَأْخُذُ عَلَى طَحَّانِينَ الْأُشْنَانِ أَلَّا يَطْحَنُوهُ إلَّا زَهْرًا عَلَى جِهَتِهِ فَإِنَّ فِيهِمْ مَنْ يُدَلِّسُهُ وَيَخْلِطُهُ بِالتُّرْمُسِ، فَإِنْ طَحَنَهُ عَلَى الطَّاحُونِ.

الباب الرابع والأربعون في الحسبة على الفصادين والحجامين

وَصَعُبَ عَلَى الدَّوَابِّ فَلْيَجْعَلْ فِي كُلِّ إرْدَبٍّ رُبْعَ وَيْبَةِ تُرْمُسٍ لَيْلًا مَا يَرْجِعُ يُزِيلُ الْوَسَخَ مِنْ يَدِ مَنْ يَغْسِلُ بِهِ وَمَتَى كَثُرَ فِيهِ دِقَاقُ التُّرْمُسِ مَنَعَ إزَالَةَ الْوَسَخِ، وَصَارَ فِي يَدِ الَّذِي يَغْسِلُ بِهِ مِثْلَ الْعَجِينِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَخْلِطُ فِيهِ سُوسَ حَطَبِ الطَّلْحِ وَشَيْئًا يُقَالُ لَهُ عِنْدَهُمْ الصُّوفَةُ وَهُوَ حَطَبُ الْأَوْرَاقِ، فَيَعْتَبِرُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ وَيَعْتَبِرُ عَلَيْهِمْ دِقَاقَ التُّرْمُسِ، فَإِنَّ فِيهِمْ مَنْ يَغُشُّهُ بِدَقِيقِ الْفُولِ الْمُسَوَّسِ، وَهَذَا غِشٌّ، وَيَعْتَبِرُ عَلَيْهِمْ مَوَازِينَهُمْ وَأَكْيَالَهُمْ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ [الْبَاب الرَّابِع وَالْأَرْبَعُونَ فِي الْحَسَبَة عَلَى الفصادين وَالْحَجَّامِينَ] يَنْبَغِي أَلَّا يَتَصَدَّى لِلْفَصْدِ إلَّا مَنْ اُشْتُهِرَتْ مَعْرِفَتُهُ وَأَمَانَتُهُ وَجَوْدَةُ عِلْمِهِ بِتَشْرِيحِ الْأَعْضَاءِ وَالْعُرُوقِ وَالْعَضَلِ وَالشَّرَايِينِ وَأَحَاطَ بِمَعْرِفَتِهَا وَكَيْفِيَّتِهَا لِئَلَّا يَقَعَ الْمِبْضَعُ فِي عُرُوقٍ غَيْرِ مَقْصُودَةٍ أَوْ عَضَلَةٍ أَوْ شِرْيَانٍ فَيُؤَدِّي إلَى زَمَانَةِ الْعُضْوِ وَهَلَاكِ الْمَفْصُودِ، وَإِذَا أَرَادَ تَعَلُّمَ الْفَصْدِ فَلْيُدْمِنْ بِفَصْدِ وَرَقِ السَّلْقِ أَعْنِي الْعُرُوقَ الَّتِي فِي الْوَرَقَةِ حَتَّى تَسْتَقِيمَ يَدُهُ وَلَا يُفْصَدُ عَبْدًا إلَّا بِإِذْنِ سَيِّدِهِ وَلَا صَبِيًّا إلَّا بِإِذْنِ وَلِيِّهِ وَلَا حَامِلًا وَلَا طَامِثًا.

فصل ما يكون مع الفاصد

وَأَلَّا يَفْصِدَ إلَّا فِي مَكَان فَضَاءٍ، وَأَنْ تَكُونَ آلَتُهُ مَاضِيَةً، وَلَا يَفْصِدَ وَهُوَ مُنْزَعِجُ الْجِنَانِ، وَيَنْبَغِي لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَأْخُذَ عَلَيْهِمْ الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ أَنَّ فِي عَشَرَةِ أَمْزِجَةٍ لَا يَحْدُثُ فِيهَا الْفَصْدُ إلَّا بَعْدَ مُشَاوَرَةِ الْأَطِبَّاءِ وَهِيَ فِي السِّنِّ الْقَاصِرِ عَنْ الرَّابِعَ عَشَرَ وَفِي سِنِّ الشَّيْخُوخَةِ وَفِي الْأَبْدَانِ الشَّدِيدَةِ الْقَضَافَةِ، وَفِي الْأَبْدَانِ الشَّدِيدَةِ الْيُبْسِ، وَفِي الْأَبْدَانِ الْمُتَخَلْخِلَةِ، وَفِي الْأَبْدَانِ الْبِيضِ الرَّهِلَةِ، وَفِي الْأَبْدَانِ الصُّفْرِ الْعَدِيمَةِ الدَّمِ، وَفِي الْأَبْدَانِ الَّتِي طَالَتْ بِهَا الْأَمْرَاضُ، وَفِي الْأَمْزِجَةِ الشَّدِيدَةِ الْبَرْدِ وَعِنْدَ الْوَجَعِ الشَّدِيدِ فَهَذِهِ الْأَحْوَالُ الَّتِي يَجِبُ أَنْ تَكْشِفَ عَنْ الْفَاصِدِ فِي وُجُودِهَا، وَقَدْ نَهَتْ الْأَطِبَّاءُ عَنْ الْفَصْدِ فِي خَمْسَةِ أَحْوَالٍ أَيْضًا، وَلَكِنْ مَضَرَّتُهَا دُونَ مَضَرَّةِ الْعَشَرَةِ الْأُولَى الْمُقَدَّمِ ذِكْرُهَا، فَالْحَالَةُ الْأُولَى الْفَصْدُ عَقِبَ الْجِمَاعِ، وَبَعْدَ الِاسْتِحْمَامِ الْمُخَلَّدِ وَفِي حَالِ الِامْتِلَاءِ مِنْ الطَّعَامِ، وَفِي حَالِ امْتِلَاءِ الْمَعِدَةِ وَالْمِعَاءِ مِنْ الثِّقَلِ (وَ) فِي حَالِ شِدَّةِ الْبَرْدِ وَالْحَرِّ فَهَذِهِ أَحْوَالٌ يُتَوَقَّى الْفَصْدُ فِيهَا أَيْضًا، وَاعْلَمْ أَنَّ الْفَصْدَ لَهُ وَقْتَانِ وَقْتُ اخْتِيَارٍ وَوَقْتُ اضْطِرَارٍ فَأَمَّا وَقْتُ الِاخْتِيَارِ فَهُوَ ضَحْوَةُ النَّهَارِ بَعْدَ تَمَامِ الْهَضْمِ وَالنَّفْضِ، وَأَمَّا وَقْتُ الِاضْطِرَارِ فَهُوَ الْوَقْتُ الْمُوجِبُ الَّذِي لَا يَتَّسِعُ تَأْخِيرُهُ، وَلَا يُلْتَفَتُ فِيهِ إلَى سَبَبٍ مَانِعٍ، وَيَنْبَغِي لِلْمُفْتَصِدِ أَنْ لَا يَمْتَلِئَ مِنْ الطَّعَامِ بَعْدَهُ بَلْ يَتَدَرَّجُ فِي الْغِذَاءِ، وَيُلَطِّفُهُ وَلَا يَغْتَاظُ بَعْدَهُ بَلْ يَمِيلُ إلَى الِاسْتِلْقَاءِ، وَيَحْذَرُ النَّوْمَ عَقِبَ الْفَصْدِ فَإِنَّهُ يُحْدِثُ انْكِسَارًا فِي الْأَعْضَاءِ، وَمَنْ اُفْتُصِدَ وَتَوَرَّمَتْ عَلَيْهِ الْيَدُ فَلْيُفَصَّدْ فِي الْيَدِ الْأُخْرَى بِمِقْدَارِ الِاحْتِمَالِ. [فَصَلِّ مَا يَكُون مَعَ الْفَاصِد] (فَصْلٌ)

فصل امتحان المحتسب للفصادين

وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَعَ الْفَاصِدِ مَبَاضِعُ كَثِيرَةٌ فِي ذَوَاتِ الشَّعِيرَةِ وَغَيْرِهَا وَيَكُونَ مَعَهُ وَتَرٌ لِيَشُدَّ الذِّرَاعَ بِهِ وَأَنْ يَكُونَ مَعَهُ نَافِجَةُ الْمِسْكِ وَأَقْرَاصُهُ حَتَّى إذَا عَرَضَ لِلْمَفْصُودِ غَشْيٌ بَادَرَ يُشَمِّمُهُ النَّافِجَةَ وَيُجَرِّعُهُ مِنْ أَقْرَاصِ الْمِسْكِ شَيْئًا فَتَنْتَعِشُ قُوَّتُهُ بِذَلِكَ. وَلْيَمْسَحْ رَأْسَ مِبْضَعِهِ بِالزَّيْتِ الطَّيِّبِ فَإِنَّهُ لَا يُوجَعُ عِنْدَ الْبَضْعِ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَلْتَحِمُ سَرِيعًا، وَإِذَا أَخَذَ الْمِبْضَعَ فَلْيَأْخُذْهَا بِالْإِبْهَامِ وَالْوُسْطَى، وَيَتْرُكُ السَّبَّابَةَ لِلْجَسِّ وَلْيَنْشُلْ نَشْلًا وَلَا يَغْرِزْ غَرْزًا. وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُوَسِّعَ الضَّرْبَةَ فِي الشِّتَاءِ لِئَلَّا يَجْمُدَ الدَّمُ وَيُضَيِّقَ الضَّرْبَةَ فِي الصَّيْفِ لِئَلَّا يُسْرِعَ إلَيْهِ الْغِشَاوَةَ، وَأَنْ يَحْفَظَ صِحَّةَ قُوَّةِ الْمَفْصُودِ، وَمَتَى تَغَيَّرَ لَوْنُ الدَّمِ أَوْ حَدَثَ غَشْيٌ أَوْ ضَعْفٌ فِي الْبَدَنِ فَلْيُبَادِرْ إلَى شَدِّهِ وَمَسْكِهِ. [فَصَلِّ امْتِحَان الْمُحْتَسَب للفصادين] (فَصْلٌ) : وَاعْلَمْ أَنَّ الْعُرُوقَ الْمَفْصُودَةَ كَثِيرَةٌ مِنْهَا عُرُوقٌ فِي الرَّأْسِ وَعُرُوقٌ فِي الْيَدَيْنِ وَعُرُوقٌ فِي الْبَدَنِ وَعُرُوقٌ فِي الرِّجْلَيْنِ وَعُرُوقٌ فِي الشَّرَايِينِ فَيَمْتَحِنُهُمْ الْمُحْتَسِبُ بِمَعْرِفَتِهَا وَبِمَا جَاوَرَهَا مِنْ الْعَضَلِ وَالشَّرَايِينِ وَسَأَذْكُرُ مَا اُشْتُهِرَ مِنْهَا أَمَّا عُرُوقُ الرَّأْسِ الْمَفْصُودَةِ فَعِرْقُ الْجَبْهَةِ، وَهُوَ الْمُنْتَصِبُ مَا بَيْنَ الْحَاجِبَيْنِ وَفَصْدُهُ يَنْفَعُ مِنْ ثِقَلِ الرَّأْسِ وَثِقَلِ الْعَيْنَيْنِ وَالصُّدَاعِ الدَّائِمِ، وَمِنْهَا الْعِرْقُ الَّذِي فَوْقَ الْهَامَةِ وَفَصْدُهُ يَنْفَعُ مِنْ الشَّقِيقَةِ، وَعُرُوقُ الرَّأْسِ مِنْهَا الْعِرْقَانِ الْبَارِعَانِ الْمَلْوِيَّانِ عَلَى الصُّدْغَيْنِ وَفَصْدُهُمَا.

يَنْفَعُ مِنْ الرَّمَدِ وَالدَّمْعَةِ وَجَرَبِ الْأَجْفَانِ، وَمِنْهَا عِرْقَانِ يُسَمَّيَانِ الْوُصْوَافَ مِنْ خَلْفِ الْأُذُنَيْنِ يُفْصَدَانِ لِقَطْعِ النَّسْلِ فَيُحَلِّفُهُمْ الْمُحْتَسِبُ أَنْ لَا يَفْصِدُوا أَحَدًا فِيهِمَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَقْطَعُ النَّسْلَ وَفِعْلُ هَذَا حَرَامٌ، وَمِنْهَا عُرُوقُ الشَّفَتَيْنِ وَفَصْدُهَا يَنْفَعُ مِنْ قُرُوحِ الْفَمِ وَالْقِلَاعِ وَأَوْجَاعِ اللِّثَةِ وَأَوْرَامِهَا، وَمِنْهَا الْعُرُوقُ الَّتِي تَحْتَ اللِّسَانِ وَفَصْدُهَا يَنْفَعُ لِلْخَوَانِيقِ وَأَوْرَامِ الرَّأْسِ، وَأَمَّا عُرُوقُ الْيَدَيْنِ فَسِتَّةٌ الْقِيفَالُ وَالْأَكْحَلُ والباسليق وَحَبْلُ الذِّرَاعِ الْوَحْشِيِّ وَالْأُسَيْلِمُ وَالْإِبْطِيُّ وَهُوَ شُعْبَةٌ مِنْ الباسليق وَأَسْلَمُ هَذِهِ الْعُرُوقِ الْقِيفَالُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُنَحَّى فِي فَصْدِهِ رَأْسُ الْعَضَلَةِ إلَى مَوْضِعٍ لَيِّنٍ وَيُوَسَّعَ بِضْعُهُ إنْ أَرَادَ أَنْ يُثْنَى، وَأَمَّا الْأَكْحَلُ فَفِي فَصْدِهِ خَطَرٌ عَظِيمٌ لِأَجْلِ الْعَضَلَةِ الَّتِي تَحْتَهُ، وَرُبَّمَا وَقَعَتْ بَيْنَ عَصَبَيْنِ، وَرُبَّمَا كَانَ فَوْقَهَا عَصَبَةٌ دَقِيقَةٌ مُدَوَّرَةٌ كَالْوَتَرِ، فَيَجِبُ أَنْ يَعْرِفَ ذَلِكَ، وَيَجْتَنِبَ فِي حَالِ الْفَصْدِ وَيَحْتَاطَ أَنْ تُصِيبَهُ الضَّرْبَةُ فَيَحْدُثَ مِنْهَا حَدَثٌ مُزْمِنٌ، وَأَمَّا الباسليق فَعَظِيمُ الْخَطَرِ أَيْضًا لِوُقُوعِ الشِّرْيَانِ تَحْتَهُ فَيَجِبُ أَنْ يَحْتَاطَ لِذَلِكَ فَإِنَّ الشِّرْيَانَ إذَا بُضِعَ لَمْ يُرْقَأْ دَمُهُ، فَأَمَّا الْأُسَيْلِمُ فَالْأَصْوَبُ أَنْ يُفْصَدَ طَوِيلًا وَحَبْلُ الذِّرَاعِ يُفْصَدُ مُؤْرَبًا. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا عُرُوقُ الرِّجْلَيْنِ فَأَرْبَعَةٌ مِنْهَا عِرْقُ النَّسَا وَيُفْصَدُ عِنْدَ الْجَانِبِ الْوَحْشِيِّ مِنْ الْكَعْبِ فَإِنْ خَفِيَ فَلْيُفْصَدْ فِي الشُّعْبَةِ الَّتِي بَيْنَ الْخِنْصِرِ وَالْبِنْصِرِ.

فصل في الحجامة

وَمَنْفَعَةُ ذَلِكَ عَظِيمَةٌ سِيَّمَا فِي النِّقْرِسِ، وَمِنْهَا عِرْقُ الصَّافِنِ، وَهُوَ عَلَى الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ، وَهُوَ أَظْهَرُ مِنْ عِرْقِ النَّسَا وَفَصْدُهُ يَنْفَعُ مِنْ الْبَوَاسِيرِ وَبَدْرِ الطَّمْثِ وَيَنْفَعُ الْأَعْضَاءَ الَّتِي تَحْتَ الْكَبِدِ، وَمِنْهَا عِرْقُ مَأْبِضِ الرُّكْبَةِ، وَهُوَ مِثْلُ الصَّافِنِ فِي النَّفْعِ، وَمِنْهَا الْعِرْقُ الَّذِي خَلْفَ الْعُرْقُوبِ، وَكَأَنَّهُ شُعْبَةٌ مِنْ الصَّافِنِ فَمَنْفَعَةُ فَصْدِهِ مِثْلُ الصَّافِنِ، وَاَلَّذِي يَجُوزُ فَصْدُهُ عَلَى الْأَكْثَرِ شِرْيَانُ الصُّدْغَيْنِ، وَالشِّرْيَانُ الَّذِي بَيْنَ الْإِبْهَامِ وَالسَّبَّابَةِ، وَقَدْ أَمَرَ جَالِينُوسُ بِفَصْدِهِ فِي الْمَنَامِ. [فَصَلِّ فِي الْحَجَّامَة] (فَصْلٌ) وَالْحِجَامَةُ عَظِيمَةُ الْمَنْفَعَةِ، وَهِيَ أَقَلُّ خَطَرًا مِنْ الْفَصَادَةِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْحَجَّامُ خَفِيفًا رَشِيقًا خَبِيرًا بِالصِّنَاعَةِ، وَأَنْ يَخِفَّ يَدَهُ فِي الشُّرُوطِ وَيَسْتَعْجِلَ ثُمَّ يُعَلِّقَ الْمُحْجِمَةَ، وَعَلَامَةُ خِفَّةِ يَدِهِ أَلَّا يُوجِعَ الْمَحْجُومَ. [فَصَلِّ أَفَضْل أَوْقَات الْحَجَّامَة] (فَصْلٌ) : وَأَفْضَلُ أَوْقَاتٍ الْحِجَامَةِ السَّاعَةُ الثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ مِنْ النَّهَارِ، وَأَمَّا مَنَافِعُ الْحِجَامَةِ فَإِنَّهَا كَثِيرَةٌ تَنْفَعُ مِنْ ثِقَلِ الْحَاجِبَيْنِ وَجَرَبِ الْعَيْنَيْنِ وَالْبَخَرِ فِي الْفَمِ غَيْرَ أَنَّهَا تُورِثُ النِّسْيَانَ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ مُؤْخِرَ الدِّمَاغِ مَوْضِعُ الْحِفْظِ وَتُضْعِفُهُ الْحِجَامَةُ» . [فَصَلِّ فِي الْخِتَان] (فَصْلٌ) وَيَكُونُ مَعَهُ آلَةُ الْخِتَانِ وَهُوَ الْمُوسُ وَالْمِقَصُّ؛ لِأَنَّ الْخِتَانَ فَرْضٌ وَاجِبٌ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَبِهَذَا قَالَ عَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْخِتَانُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَبَعْضُ أَصْحَابِهِ يَقُولُ: إنَّهُ وَاجِبٌ، وَلَيْسَ بِفَرْضٍ، وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ عَنْ «النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ أَسْلَمَ: أَلْقِ عَنْكَ شِعَارَ الْكُفْرِ وَاخْتَتِنْ» ، وَلِأَنَّهُ قَطْعُ شَيْءٍ مِنْ الْبَدَنِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى

فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا كَالْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَصِفَةُ الْخِتَانِ فِي الرَّجُلِ: أَنْ يَقْطَعَ مِنْهُ الْغُلْفَةَ الَّتِي تُوَارِي الْحَشَفَةَ، وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَمَوْضِعُ الْخِتَانِ مِنْهَا الْجِلْدَةُ الَّتِي فِي أَعْلَى الْفَرْجِ، وَهُوَ فَوْقَ الثَّقْبِ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْهُ الْبَوْلُ، فَإِنَّ أَسْفَلَ الْفَرْجِ مَجْرَى الْحَيْضِ وَالْوَلَدِ، وَأَعْلَاهُ ثُقْبَةٌ كَثُقْبَةِ الْإِحْلِيلِ يَخْرُجُ مِنْهُ الْبَوْلُ، وَفَوْقَ ذَلِكَ قِطْعَةُ جِلْدَةٍ كَعُرْفِ الدِّيكِ، وَهُوَ مَوْضِعُ الْخِتَانِ فَيَقْطَعُ مِنْ أَعْلَى تِلْكَ الْجِلْدَةِ، وَفِي هَذَا وَرَدَ «قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأُمِّ عَطِيَّةَ: الْخَاتِنَةُ أَشِمِّي وَلَا تُنْهِكِي فَإِنَّهُ أَسْنَى لِوَجْهِهَا وَأَحْظَى لَهَا عِنْدَ زَوْجِهَا» يَعْنِي خُذِي طَرَفَ الْجِلْدَةِ لَا تَسْتَأْصِلِيهَا، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَعَلَى الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ أَنْ يَفْعَلَا ذَلِكَ بِأَنْفُسِهِمَا وَأَوْلَادِهِمَا، فَإِنْ أَخَلَّا بِهِ أَجْبَرَهُمَا الْإِمَامُ عَلَى فِعْلِهِ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ وَاجِبٌ، فَلَوْ خَتَنَ الْحَجَّامُ فَأَخْطَأَ، فَأَصَابَ الْحَشَفَةَ وَجَبَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ؛ لِأَنَّهُ فَوَّتَ مَا لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِي تَفْوِيتِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، وَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ الْإِمَامُ فَمَاتَ الْمَخْتُونُ نُظِرَ فَإِنْ كَانَ الْهَوَاءُ مُعْتَدِلًا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ مِنْ قَطْعٍ وَاجِبٍ، وَإِنْ كَانَ فِي شِدَّةِ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ. وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْمَسْأَلَةِ عَلَى طَرِيقَيْنِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا فَصْلَ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ فَإِذَا قُلْنَا: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فَلَا كَلَامَ، وَإِذَا قُلْنَا: يَضْمَنُ فَبِكَمْ يَضْمَنُ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا يَضْمَنُ بِكَمَالِ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّهُ فَرَّطَ فِي ذَلِكَ. وَالثَّانِي: يَضْمَنُ النِّصْفَ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ مِنْ فِعْلِ وَاجِبٍ وَمُخْطِرٍ وَأَيُّ مَوْضِعٍ قُلْنَا يَضْمَنُ فِيهِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا عَلَى عَاقِلَتِهِ وَالثَّانِي فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

الباب الخامس والأربعون في الحسبة على الأطباء والكحالين والجرائحيين والمجبرين

[الْبَاب الْخَامِس وَالْأَرْبَعُونَ فِي الحسبة عَلَى الأطباء والكحالين والجرائحيين والمجبرين] الطِّبُّ عِلْمٌ نَظَرِيٌّ وَعَمَلِيٌّ أَبَاحَتْ الشَّرِيعَةُ تَعَلُّمَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ حِفْظِ الصِّحَّةِ وَدَفْعِ الْعِلَلِ وَالْأَمْرَاضِ عَنْ هَذِهِ الْبِنْيَةِ الشَّرِيفَةِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ، فَمِنْهَا مَا وَرَدَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ قَالَ دَخَلْتُ عَلَى أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَسْلَمِيِّ أَعُودُهُ فَأَرَادَ غُلَامٌ لَهُ أَنْ يُدَاوِيَهُ فَنَهَيْتُهُ فَقَالَ: دَعْهُ فَإِنِّي سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ يُخْبِرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَا أَنْزَلَ اللَّهُ دَاءً إلَّا وَأَنْزَلَ لَهُ دَوَاءً» وَرُبَّمَا قَالَ سُفْيَانُ: شِفَاءٌ عَلَّمَهُ مَنْ عَلَّمَهُ وَجَهَّلَهُ مَنْ جَهَّلَهُ. وَعَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ تَدَاوَوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُنْزِلْ دَاءً إلَّا وَأَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً» . وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: «بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَبِيبًا إلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فَكَوَاهُ» . وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: «رُمِيَ رَجُلٌ يَوْمَ الْأَحْزَابِ عَلَى الْخُلَّةِ فَكَوَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِيَدِهِ» . وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «احْتَفَّ بِرَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ يَوْمَ أُحُدٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَدَعَا لَهُ النَّبِيُّ طَبِيبَيْنِ كَانَا بِالْمَدِينَةِ

فصل الشروط التي يجب توافرها في الطبيب

فَقَالَ عَالِجَاهُ فَقَالَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا كُنَّا نُعَالِجُ وَنَحْتَالُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ فَمَا هُوَ إلَّا التَّوَكُّلُ فَقَالَ عَالِجَاهُ فَإِنَّ الَّذِي أَنْزَلَ الدَّاءَ أَنْزَلَ الدَّوَاءَ ثُمَّ جَعَلَ فِيهِ شِفَاءً فَعَالَجَاهُ فَبَرِئَ» ، وَهُوَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ، وَلَا قَائِمَ بِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَكَمْ مِنْ بَلَدٍ لَيْسَ فِيهِ طَبِيبٌ إلَّا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ؟ ، وَلَا يَجُوزُ قَبُولُ شَهَادَتِهِمْ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَطِبَّاءِ مِنْ أَحْكَامِ الطِّبِّ، وَلَا نَرَى أَحَدًا يَشْتَغِلُ بِهِ وَيَتَهَافَتُونَ عَلَى عِلْمِ الْفِقْهِ لَا سِيَّمَا الْخِلَافِيَّاتُ وَالْجَدَلِيَّاتُ، وَالْبَلَدُ مَشْحُونٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ مِمَّنْ يَشْتَغِلُ بِالْفَتْوَى وَالْجَوَابِ عَنْ الْوَقَائِعِ فَلَيْتَ شِعْرِي كَيْف يُرَخِّصُ الدِّينُ فِي الِاشْتِغَالِ بِفَرْضِ كِفَايَةٍ قَدْ قَامَ بِهِ جَمَاعَةٌ وَإِهْمَالِ مَا لَا قَائِمَ بِهِ؟ ، هَلْ لِهَذَا سَبَبٌ إلَّا أَنَّ الطِّبَّ لَيْسَ يَتَيَسَّرُ التَّوَصُّلُ بِهِ إلَى تَوَلِّي الْقَضَاءِ وَالْحُكُومَةِ وَالتَّقَدُّمِ بِهِ عَلَى الْأَقْرَانِ وَالتَّسَلُّطِ عَلَى الْأَعْدَادِ؟ ، هَيْهَاتَ قَدْ انْدَرَسَ عِلْمُ الدِّينِ فَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ وَإِلَيْهِ الْمَلَاذُ بِأَنْ يُعِيدنَا مِنْ هَذَا الْغُرُورِ الَّذِي يُسْخِطُ الرَّحْمَنَ وَيُضْحِكُ الشَّيْطَانَ. [فَصَلِّ الشُّرُوط الَّتِي يُجِبْ تَوَافُرهَا فِي الطَّبِيب] (فَصْلٌ) : وَالطَّبِيبُ هُوَ الْعَارِفُ بِتَرْكِيبِ الْبَدَنِ وَمِزَاجِ الْأَعْضَاءِ وَالْأَمْرَاضِ الْحَادِثَةِ فِيهَا وَأَسْبَابِهَا وَأَعْرَاضِهَا وَعَلَامَتِهَا وَالْأَدْوِيَةِ النَّافِعَةِ فِيهَا وَالِاعْتِيَاضِ عَمَّا لَمْ يُوجَدْ مِنْهَا وَالْوَجْهِ فِي اسْتِخْرَاجِهَا وَطَرِيقِ مُدَاوَاتِهَا بِالتَّسَاوِي بَيْنَ الْأَمْرَاضِ وَالْأَدْوِيَةِ فِي كَمْيَّاتِهَا وَيُخَالِفُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ كَيْفِيَّاتِهَا فَمَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَلَا يُجْعَلُ لَهُ مُدَاوَاةُ الْمَرْضَى، وَلَا يَجُوزُ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى عِلَاجٍ يُخَاطِرُ فِيهِ، وَلَا يَتَعَرَّضُ لِمَا لَا عِلْمَ لَهُ فِيهِ وَفِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ تَطَبَّبَ وَلَمْ يُعْلَمْ مِنْهُ طِبٌّ قَبْلَ ذَلِكَ فَهُوَ ضَامِنٌ» . وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لَهُمْ مُقَدَّمٌ مِنْ أَهْلِ صِنَاعَتِهِمْ فَقَدْ حُكِيَ أَنَّ مُلُوكَ

الْيُونَانِ كَانُوا يَجْعَلُونَ فِي كُلِّ مَدِينَةٍ حَكِيمًا مَشْهُورًا بِالْحِكْمَةِ ثُمَّ يَعْرِضُونَ عَلَيْهِ بَقِيَّةَ أَطِبَّاءِ الْبَلَدِ فَيَمْتَحِنُهُمْ فَمَنْ وَجَدَهُ مُقَصِّرًا فِي عِلْمِهِ أَمَرَهُ بِالِاشْتِغَالِ وَقِرَاءَةِ الْعِلْمِ وَنَهَاهُ عَنْ الْمُدَاوَاةِ. وَيَنْبَغِي إذَا دَخَلَ الطَّبِيبُ عَلَى الْمَرِيضِ سَأَلَهُ عَنْ سَبَبِ مَرَضِهِ، وَعَنْ مَا يَجِدُ مِنْ الْأَلَمِ ثُمَّ يُرَتِّبُ لَهُ قَانُونًا مِنْ الْأَشْرِبَةِ وَغَيْرَهُ مِنْ الْعَقَاقِيرِ ثُمَّ يَكْتُبُ نُسْخَةً لِأَوْلِيَاءِ الْمَرِيضِ بِشَهَادَةِ مَنْ حَضَرَ مَعَهُ عِنْدَ الْمَرِيضِ وَإِذَا كَانَ مِنْ الْغَدِ حَضَرَ وَنَظَرَ إلَى دَائِهِ وَنَظَرَ إلَى قَارُورَتِهِ وَسَأَلَ الْمَرِيضَ هَلْ تَنَاقَصَ بِهِ الْمَرَضُ أَمْ لَا؟ ثُمَّ يُرَتِّبُ لَهُ مَا يَنْبَغِي عَلَى حَسَبِ مُقْتَضَى الْحَالِ وَيَكْتُبُ لَهُ نُسْخَةً وَيُسَلِّمُهَا لِأَهْلِهِ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ كَذَلِكَ، وَفِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ كَذَلِكَ وَهَكَذَا إلَى أَنْ يَبْرَأَ الْمَرِيضُ أَوْ يَمُوتَ، فَإِنْ بَرِئَ مِنْ مَرَضِهِ أَخَذَ الطَّبِيبُ أَجَرْتَهُ وَكَرَامَتَهُ، وَإِنْ مَاتَ حَضَرَ أَوْلِيَاؤُهُ عِنْدَ الْحَكِيمِ الْمَشْهُورِ وَعَرَضُوا عَلَيْهِ النُّسَخَ الَّتِي كَتَبَهَا لَهُمْ الطَّبِيبُ، فَإِنْ رَآهَا عَلَى مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ وَصِنَاعَةِ الطِّبِّ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ، وَلَا تَقْصِيرٍ مِنْ الطَّبِيبِ قَالَ: هَذَا قُضِيَ بِفُرُوغِ أَجَلِهِ، وَإِنْ رَأَى الْأَمْرَ بِخِلَافِ ذَلِكَ قَالَ لَهُمْ: خُذُوا دِيَةَ صَاحِبِكُمْ مِنْ الطَّبِيبِ، فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي قَتَلَهُ بِسُوءِ صِنَاعَتِهِ وَتَفْرِيطِهِ فَكَانُوا يَحْتَاطُونَ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ الشَّرِيفَةِ إلَى هَذَا الْحَدِّ حَتَّى لَا يَتَعَاطَى الطِّبَّ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ، وَلَا يَتَهَاوَنُ الطَّبِيبُ فِي شَيْءٍ مِنْهُ وَيَنْبَغِي لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَأْخُذَ عَلَيْهِمْ عَهْدَ أَبُقْرَاطَ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَى سَائِرِ الْأَطِبَّاءِ وَيُحَلِّفَهُمْ أَنْ لَا يُعْطُوا أَحَدًا دَوَاءً مُضِرًّا، وَلَا يُرَكِّبُوا لَهُ سُمًّا، وَلَا يَصِفُوا سِمَامًا عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ الْعَامَّةِ، وَلَا يَكْذِبُوا النِّسَاءَ الدَّوَاءَ الَّذِي يُسْقِطُ الْأَجِنَّةَ، وَلَا لِلرِّجَالِ الَّذِي يَقْطَعُ النَّسْلَ وَلْيَغُضُّوا أَبْصَارَهُمْ عَنْ الْمَحَارِمِ عِنْدَ دُخُولِهِمْ عَلَى الْمَرْضَى

فصل امتحان المحتسب للكحالين

وَلَا يُفْشُوا الْأَسْرَارَ، وَلَا يَهْتِكُوا الْأَسْتَارَ، وَلَا يَتَعَرَّضُوا لِمَا يُنْكَرُ عَلَيْهِمْ فِيهِ. [فَصَلِّ امْتِحَان الْمُحْتَسَب لِلْكَحَّالَيْنِ] (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْكَحَّالُونَ فَيَمْتَحِنُهُمْ الْمُحْتَسِبُ بِكِتَابِ حُنَيْنِ بْنِ إِسْحَاقَ أَعْنِي الْعَشْرَ مَقَالَاتٍ فِي الْعَيْنِ فَمَنْ وَجَدَهُ قَيِّمًا فِيمَا امْتَحَنَهُ بِهِ عَارِفًا بِتَشْرِيحِ طَبَقَاتِ الْعَيْنِ وَعَدَدِ السَّبْعَةِ وَعَدَدِ رُطُوبَاتِهَا الثَّلَاثَةِ وَعَدَدِ أَمْرَاضِهَا الثَّلَاثَةِ وَمَا يَتَفَرَّعُ مِنْ ذَلِكَ مِنْ الْأَمْرَاضِ وَكَانَ خَبِيرًا بِتَرْكِيبِ الْأَكْحَالِ وَأَمْزِجَةِ الْعَقَاقِيرِ أَذِنَ لَهُ الْمُحْتَسِبُ بِالتَّصَدِّي لِمُدَاوَاةِ أَعْيُنِ النَّاسِ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُفَرِّطَ فِي شَيْءٍ مِنْ آلَاتِ صَنْعَتِهِ مِثْلِ صَنَانِيرِ السَّبَلِ وَالظَّفَرِ وَمَبَاضِعِ الْفَصْدِ وَدُرْجِ الْمَكَاحِلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَأَمَّا كَحَّالُو الطُّرُقَاتِ فَلَا يَوْثَقُ بِأَكْثَرِهِمْ إذْ لَا دِينَ لَهُمْ، وَيَصُدُّهُمْ عَنْ التَّهَجُّمِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ بِالْبِضْعِ وَالْكُحْلِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَمَخْبَرَةٍ بِالْأَمْرَاضِ وَالْعِلَلِ الْحَادِثَةِ، وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَرْكَنَ إلَيْهِمْ فِي مُعَالَجَةِ عَيْنَيْهِ، وَلَا يَثِقُ بِأَكْحَالِهِمْ وَأَشْيَافِهِمْ، فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَصْنَعُ أَشِيَافًا أَصْلُهَا النَّشَا وَالصَّمْغُ وَيَصْبُغُهَا أَلْوَانًا مُخْتَلِفَةً فَيُصْبَغُ الْأَحْمَرُ بالسيلقون وَالْأَخْضَرَ بِالْكُرْكُمِ وَالنِّيلَ وَالْأَسْوَدَ بالقاقيا

فصل امتحان المحتسب للمجبرين

وَالْأَصْفَرَ بِالزَّعْفَرَانِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُ أَشِيَافًا مِنْ ماميثا وَيَعْجِنُهُ بِالصَّمْغِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُ كُحْلًا مِنْ نَوَى الْإِهْلِيلَجِ الْمَحْرُوقِ وَالْفُلْفُلِ. وَجَمِيعُ غُشُوشِ أَكْحَالِهِمْ لَا يُمْكِنُ حَصْرُهَا فَيُحَلِّفُهُمْ الْمُحْتَسِبُ عَلَى ذَلِكَ إذْ لَا يُمْكِنُهُ مَنْعُهُمْ مِنْ الْجُلُوسِ لِمُعَالَجَةِ أَعْيُنِ النَّاسِ. [فَصَلِّ امْتِحَان الْمُحْتَسَب لِلْمُجْبَرَيْنِ] (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْمُجَبِّرُونَ فَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَصَدَّى لِلْجَبْرِ إلَّا بَعْدَ أَنْ يَعْرِفَ الْمَقَالَةَ السَّادِسَةَ مِنْ كَنَاشٍ فَوَلِيسِ فِي الْجَبْرِ، وَأَنْ يَعْلَمَ عَدَدَ عِظَامِ الْآدَمِيِّ وَهِيَ مِائَتَا عَظْمٍ وَثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ أَعْظُمٍ، وَصُورَةَ كُلِّ عَظْمٍ مِنْهَا وَشَكْلَهُ، وَقَدْرَهُ حَتَّى إذَا انْكَسَرَ مِنْهَا شَيْءٌ أَوْ انْخَلَعَ رَدَّهُ إلَى مَوْضِعِهِ عَلَى هَيْئَتِهِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا فَيَمْتَحِنُهُمْ الْمُحْتَسِبُ عَلَى ذَلِكَ. [فَصَلِّ امْتِحَان الْمُحْتَسَب للجرائحيون] (فَصْلٌ) وَأَمَّا الْجَرَائِحِيُّونَ فَيَجِبُ عَلَيْهِمْ مَعْرِفَةُ كِتَابِ جَالِينُوسَ الْمَعْرُوفِ بقاطا جَانِسَ فِي الْجِرَاحَاتِ وَالْمَرَاهِمِ وَأَنْ يَعْرِفُوا التَّشْرِيحَ وَأَعْضَاءَ الْإِنْسَانِ وَمَا فِيهِ مِنْ الْعَضَلِ وَالْعُرُوقِ وَالشَّرَايِينِ وَالْأَعْصَابِ لِيَجْتَنِبَ ذَلِكَ فِي وَقْتِ فَتْحِ الْمَوَادِّ وَقَطْعِ الْبَوَاسِيرِ وَأَنْ يَكُونَ مَعَهُ دُسَتُ الْمَبَاضِعِ فِيهِ مَبَاضِعُ مُدَوَّرَاتُ الرَّأْسِ وَالْمُؤَرَّبَاتُ وَالْحَرْبَاتُ وَفَأْسُ الْجَبْهَةِ وَمِنْشَارُ الْقَطْعِ وَمُخْرَقَةُ الْأُذُنِ وَوِرْدُ السِّلَعِ ومرهمدان الْمَرَاهِمِ وَدَوَاءُ الكندر الْقَاطِعُ لِلدَّمِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَهْرِجُونَ عَلَى النَّاسِ بِعِظَامٍ تَكُونُ مَعَهُمْ فَيَدْفِنُونَهَا فِي الْجُرْحِ ثُمَّ يُخْرِجُونَهَا بِمَحْضَرٍ مِنْ النَّاسِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّ أَدْوِيَتَهُمْ الْقَاطِعَةَ أَخْرَجَتْهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَصْنَعُ مَرَاهِمَ مِنْ الْكِلْسِ الْمَغْسُولِ بِالزَّيْتِ ثُمَّ يَصْبُغَ لَوْنَهُ أَحْمَرَ بِالْمَغْرَةِ وَأَخْضَرَ بِالْكُرْكُمِ وَالنِّيلِ وَالْأَسْوَدِ بِالْفَحْمِ الْمَسْحُوقِ، فَيُعْتَبَرُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ.

الباب السادس والأربعون في الحسبة على مؤدبي الصبيان

[الْبَاب السَّادِس وَالْأَرْبَعُونَ فِي الْحَسَبَة عَلَى مُؤَدِّبِي الصَّبِيَّانِ] لَا يَجُوزُ تَعْلِيمُ الْخَطِّ فِي الْمَسَاجِدِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِتَنْزِيهِ الْمَسَاجِدِ مِنْ الصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ؛ لِأَنَّهُمْ يُسَوِّدُونَ حِيطَانَهَا وَيُنَجِّسُونَ أَرْضَهَا إذْ لَا يَحْتَرِزُونَ مِنْ الْبَوْلِ وَسَائِرِ النَّجَاسَاتِ بَلْ يَأْمُرُهُمْ أَنْ يَتَّخِذُوا لِلتَّعْلِيمِ مَوَاضِعَ شَرَحَهُ فِي أَطْرَافِ الْأَسْوَاقِ، وَيَمْنَعُونَ أَيْضًا مِنْ التَّعْلِيمِ فِي بُيُوتِهِمْ. [فَصَلِّ مَا يَشْتَرِط فِي الْمُعَلَّم] (فَصْلٌ) : وَاعْلَمْ أَنَّهَا أَجَلُّ الْمَعَايِشِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ» ، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: «خَيْرُ مَنْ مَشَى عَلَى الْأَرْضِ الْمُعَلِّمُونَ الَّذِينَ كُلَّمَا خَلِقَ الدِّينُ جَدَّدُوهُ» . فَحِينَئِذٍ يُشْتَرَطُ فِي الْمُعَلِّمِ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاحِ وَالْعِفَّةِ وَالْأَمَانَةِ حَافِظًا لِلْكِتَابِ الْعَزِيزِ حَسَنَ الْخَطِّ وَيَدْرِي الْحِسَابَ وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ مُزَوَّجًا، وَلَا يُفْسَحُ لِعَازِبٍ أَنْ يَفْتَحَ مَكْتَبًا لِتَعْلِيمِ الصِّبْيَانِ إلَّا أَنْ يَكُونَ شَيْخًا كَبِيرًا، وَقَدْ اُشْتُهِرَ بِالدِّينِ وَالْخَيْرِ وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا يُؤْذَنُ لَهُ بِالتَّعْلِيمِ إلَّا بِتَزْكِيَةٍ مَرْضِيَّةٍ وَثُبُوتِ أَهْلِيَّتِهِ لِذَلِكَ. وَيَنْبَغِي لِلْمُؤَدِّبِ أَنْ يَتَرَفَّقَ بِالصَّغِيرِ وَأَنْ يُعَلِّمَهُ السُّوَرَ الْقِصَارَ مِنْ الْقُرْآنِ بَعْدَ حَذَاقَتِهِ بِمَعْرِفَةِ الْحُرُوفِ وَضَبْطِهَا بِالشَّكْلِ وَيُدَرِّجُهُ بِذَلِكَ حَتَّى يَأْلَفَهُ طَبْعًا ثُمَّ يُعَرِّفُهُ عَقَائِدَ السُّنَنَ ثُمَّ أُصُولَ الْحِسَابِ وَمَا يُسْتَحْسَنُ مِنْ الْمُرَاسَلَاتِ، وَفِي وَقْتِ بَطَالَةِ الْعَادَةِ يَأْمُرُهُمْ بِتَجْوِيدِ الْخَطِّ عَلَى الْمِثَالِ وَيُكَلِّفُهُمْ عَرْضَ

مَا أَمْلَاهُ عَلَيْهِمْ حِفْظًا غَائِبًا لَا نَظَرًا، وَمَنْ كَانَ عُمْرُهُ سَبْعَ سِنِينَ أَمَرَهُ بِالصَّلَاةِ فِي جَمَاعَةٍ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «عَلِّمُوا صَبِيَاكُمْ الصَّلَاةَ لِسَبْعٍ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَى تَرْكِهَا لِعَشْرٍ» . وَيَأْمُرُهُمْ بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَالِانْقِيَادِ لِأَمْرِهِمَا بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِمَا وَتَقْبِيلِ أَيَادِيهِمَا عِنْدَ الدُّخُولِ إلَيْهِمَا، وَيَضْرِبُهُمْ عَلَى إسَاءَةِ الْأَدَبِ وَالْفُحْشِ مِنْ الْكَلَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَفْعَالِ الْخَارِجَةِ عَنْ قَانُونَ الشَّرْعِ مِثْلِ اللَّعِبِ بِالْكَعْبِ وَالْبَيْضِ وَالنَّرْدِ وَجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْقِمَارِ، وَلَا يَضْرِبَ صَبِيًّا بِعَصًا غَلِيظَةٍ تَكْسِرُ الْعَظْمَ، وَلَا رَقِيقَةٍ لَا تُؤْلِمُ الْجِسْمَ بَلْ تَكُونُ وَسَطًا وَيَتَّخِذُ مُجَلَّدًا عَرِيضَ السَّيْرِ وَيَعْتَمِدُ بِضَرْبِهِ عَلَى الْأَلَايَا وَالْأَفْخَاذِ وَأَسَافِلِ الرِّجْلَيْنِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْمَوَاضِعَ لَا يُخْشَى مِنْهَا مَرَضٌ، وَلَا غَائِلَةٌ، وَيَنْبَغِي لِلْمُؤَدِّبِ أَنْ لَا يَسْتَخْدِمَ أَحَدَ الصِّبْيَانِ فِي حَوَائِجِهِ وَأَشْغَالِهِ الَّتِي فِيهَا عَارٌ عَلَى آبَائِهِمْ كَنَقْلِ التُّرَابِ وَالزِّبْلِ وَحَمْلِ الْحِجَارَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلَا يُرْسِلُهُ إلَى دَارِهِ وَهِيَ خَالِيَةٌ لِئَلَّا يَتَطَرَّقَ إلَيْهِ التُّهْمَةُ، وَلَا يُرْسِلُ صَبِيًّا مَعَ امْرَأَةٍ لِكَتْبِ كِتَابٍ، وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنَّ جَمَاعَةَ الْفُسَّاقِ يَحْتَالُونَ عَلَى الصِّبْيَانِ بِذَلِكَ، وَيَكُونُ السَّائِقُ لَهُمْ أَمِينًا ثِقَةً مُتَأَهِّلًا، فَإِنَّهُ يَتَسَلَّمُ الصِّبْيَانَ فِي الْغُدُوِّ وَالرَّوَاحِ وَيَنْفَرِدُ بِهِمْ فِي الْأَمَاكِنِ الْخَالِيَةِ وَيَدْخُلُ عَلَى الصَّبِيَّانِ فِي بُيُوتِهِمْ، وَلَا يُعَلِّمُ الْخَطَّ امْرَأَةً وَلَا جَارِيَةً فَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ بِذَلِكَ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تُعَلِّمُوا نِسَاءَكُمْ الْكِتَابَةَ، وَلَا تُسْكِنُوهُمْ الْغُرَفَ وَلَكِنْ عَلِّمُوهُنَّ سُورَةَ النُّورِ» وَقِيلَ: إنَّ الْمَرْأَةَ الَّتِي

الباب السابع والأربعون في الحسبة على القومة والمؤذنين

تَتَعَلَّمُ الْخَطَّ كَمَثَلِ الْحَيَّةِ تُسْقَى سُمًّا، وَيَنْبَغِي أَنْ يَمْنَعَ الصِّبْيَانَ مِنْ حِفْظِ شَيْءٍ مِنْ شَعْرِ ابْنِ الْحَجَّاجِ وَالنَّظَرِ فِيهِ وَيَزْجُرُهُمْ عَلَى ذَلِكَ. [الْبَاب السَّابِع وَالْأَرْبَعُونَ فِي الْحَسَبَة عَلَى الْقَوْمَة وَالْمُؤَذِّنِينَ] وَيَنْبَغِي أَنْ يُشْرِفَ الْمُحْتَسِبُ عَلَى الْجَوَامِعِ وَالْمَسَاجِدِ وَيَأْمُرُ قَوَمَتَهَا بِكَنْسِهَا وَتَنْظِيفِهَا فِي كُلِّ يَوْمِ مِنْ الْأَوْسَاخِ وَنَفْضِ حُصُرِهَا مِنْ الْغُبَارِ وَمَسْحِ حِيطَانِهَا وَغَسْلِ قَنَادِيلِهَا وَإِشْعَالِهَا بِالذِّكْرِ وَالْوُقُودِ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ وَيَلْزَمُ بِغَلْقِ أَبْوَابِهَا عَقِبَ الصَّلَوَاتِ وَصِيَانَتِهَا مِنْ الصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ وَمِمَّنْ يَأْكُلُ فِيهَا الطَّعَامَ وَيَنَامُ أَوْ يَعْمَلُ صِنَاعَةً أَوْ يَبِيعُ فِيهَا سِلْعَةً أَوْ يَنْشُدُ فِيهَا ضَالَّةً أَوْ يَجْلِسُ فِيهَا لِحَدِيثِ الدُّنْيَا فَجَمِيعِ ذَلِكَ، فَقَدْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِتَنْزِيهِ الْمَسَاجِدِ عَنْهُ وَكَرَاهِيَةِ فِعْلِهِ، وَيَتَقَدَّمُ إلَى جِيرَانِ كُلِّ مَسْجِدٍ بِالْمُوَاظَبَةِ عَلَى صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ عِنْدَ سَمَاعِ الْأَذَانِ لِإِظْهَارِ مَعَالِمِ الدِّينِ وَإِشْعَارِ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ» . وَفِي الْحَدِيثِ: «صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ تُفَضَّلُ عَلَى صَلَاةِ الْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ

دَرَجَةً» ، وَفِي الْحَدِيثِ: «إذَا تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ خَرَجَ إلَى الْمَسْجِدِ لَا يُخْرِجُهُ إلَّا الصَّلَاةُ لَمْ يَخْطُ خُطْوَةً إلَّا رُفِعَتْ لَهُ بِهَا دَرَجَةٌ وَحُطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيَّةٌ فَإِذَا صَلَّى لَمْ تَزَلْ الْمَلَائِكَةُ تُصَلِّي عَلَيْهِ مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ تَقُولُ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ، وَلَا يُزَالُ أَحَدُهُمْ فِي صَلَاةٍ مَا انْتَظَرَ» . وَفِي الْحَدِيثِ: «لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الْأَوَّلِ ثُمَّ لَا يَجِدُوا إلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لَاسْتَهَمُوا عَلَيْهِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ لَاسْتَبَقُوا عَلَيْهِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا» ، وَيُسْتَحَبُّ لِجِيرَانِ الْمَسَاجِدِ عِنْدَمَا يَسْمَعُونَ الْأَذَانَ أَنْ يُبَادِرُوا فِي الْمَشْيِ لِلْمَسْجِدِ لِتَحْصُلَ لَهُمْ هَذِهِ الْفَضِيلَةُ. وَيُشْتَرَطُ فِي الْإِمَامِ أَنْ يَكُونَ رَجُلًا عَاقِلًا قَارِئًا فَقِيهًا سَلِيمَ اللَّفْظِ مِنْ رَثٍّ أَوْ لَثَغٍ، فَإِنْ كَانَ صَبِيًّا أَوْ عَبْدًا أَوْ فَاسِقًا صَحَّتْ إمَامَتُهُ، وَلَا تَنْعَقِدُ وِلَايَتُهُ؛ لِأَنَّ الصِّغَرَ وَالرِّقَّ وَالْفِسْقَ يَمْنَعُ مِنْ الْوِلَايَةِ، وَلَا يُمْنَعُ مِنْ الْإِمَامَةِ، وَقَدْ: «أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَمْرَو بْنَ سَلَمَةَ أَنْ يُصَلِّيَ بِقَوْمِهِ وَكَانَ صَغِيرًا؛ لِأَنَّهُ كَانَ أَقْرَأَهُمْ» ، وَأَقَلُّ مَا يَلْزَمُ هَذَا الْإِمَامَ أَنْ يَكُونَ لَازِمَ الْقُرْآنِ حَافِظًا عَالِمًا بِأَحْكَامِ الصَّلَاةِ وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ فَقِيهًا حَافِظًا لِلْقُرْآنِ. وَإِذَا اجْتَمَعَ فَقِيهٌ لَيْسَ بِقَارِئِ وَقَارِئٌ لَيْسَ بِفَقِيهٍ كَانَ الْفَقِيهُ أَوْلَى إذَا كَانَ هُوَ يُقَوِّمُ الْفَاتِحَةَ؛ لِأَنَّ مَا يَلْزَمُ مِنْ الْقُرْآنِ مَحْصُورٌ وَمَا يَلْزَمُ مِنْ الْحَوَادِثِ غَيْرُ مَحْصُورٍ، وَمِنْ مُهِمَّاتِ الصَّلَاةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ الَّذِي هُوَ فِي الْأَيَّامِ بِمَنْزِلَةِ الْأَعْيَادِ فِي الْأَعْوَامِ، وَفِيهِ السَّاعَةُ الْمَخْصُوصَةُ بِالدُّعَاءِ الْمُجَابِ الَّتِي مَا صَادَفَهَا عَبْدٌ إلَّا

ظَفِرَ بِالطَّلَبِ فَيَأْمُرُ النَّاسَ بِابْتِدَارِهِ فِي الْبَوَاكِرِ وَالْفَوْزِ فِيهِ بِقُرُبَاتِ الْبَدَنَاتِ الْأَخَايِرِ، فَإِنَّهُ الْيَوْمُ الَّذِي لَمْ تَطْلُعْ الشَّمْسُ عَلَى مِثْلِهِ وَبِهِ فُضِّلَ هَذَا الدِّينُ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ قَبْلِهِ فَهُوَ وَاسِطَةُ عِقْدِ الْأَيَّامِ السَّبْعَةِ وَلِاشْتِمَالِهِ عَلَى مَجْمُوعِ فَضْلِهَا سُمِّيَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَلْيُنَادِهِمْ بِالِاجْتِمَاعِ إلَيْهَا وَرَاقَبَهُمْ عِنْدَ أَوْقَاتِ الْأَذَانِ فِي الْأَسْوَاقِ الَّتِي هِيَ مَعْرَكَةُ الشَّيْطَانِ فَمَنْ شُغِلَ عَنْهَا بِتَمْيِيزِ مَكْسَبِهِ أَوْ لُهِيَ عَنْهَا بِالْإِقْبَالِ عَلَى لَهْوِهِ وَلَعِبِهِ فَخُذْهُ بِالْآلَةِ الْعُمَرِيَّةِ الَّتِي تَضَعُ مِنْ قَدْرِهِ وَتُذِيقُهُ وَبَالَ أَمْرِهِ، وَلَا يَمْنَعُكَ مِنْ ذِي شَيْبَةٍ شَيْبَتُهُ، وَلَا مِنْ ذِي هَيْئَةٍ هَيْئَتُهُ: «فَإِنَّمَا هَلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ» . وَأَمَّا الْإِمَامَةُ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ تَقْلِيدِهَا فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَهْلُ الْعِرَاقِ أَنَّهَا مِنْ الْوِلَايَاتِ الْوَاجِبَةِ، وَأَنَّ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ لَا تَصِحُّ إلَّا بِحُضُورِ السُّلْطَانِ أَوْ مَنْ يَسْتَنِيبُهُ فِيهَا وَذَهَبَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ وَفُقَهَاءُ الْحِجَازِ إلَى أَنَّ التَّقْلِيدَ فِيهَا نَدْبٌ وَأَنَّ حُضُورَ السُّلْطَانِ فِيهَا لَيْسَ بِشَرْطٍ، فَإِنْ أَقَامَهَا الْمُصَلَّوْنَ عَلَى شُرُوطِهَا انْعَقَدَتْ وَصَحَّتْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ فِيهَا عَبْدًا، وَإِنْ لَمْ تَنْعَقِدْ وِلَايَتُهُ. وَفِي جَوَازِ إمَامَةِ الصَّبِيِّ خِلَافٌ، وَلَا يَجُوزُ إقَامَتُهَا إلَّا بِأَرْبَعِينَ رَجُلًا أَحْرَارًا مُكَلَّفِينَ لَا يَظْعَنُونَ شِتَاءً، وَلَا صَيْفًا مِنْ الْقَرْيَةِ الَّتِي تُقَامُ فِيهَا الْجُمُعَةُ إلَّا لِحَاجَةٍ، وَالْإِمَامُ هُوَ الْحَادِي وَالْأَرْبَعُونَ عَلَى قَوْلٍ وَقِيلَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَرْبَعِينَ. وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْخَطِيبُ لَابِسًا لِثَوْبٍ أَسْوَدَ يَغْلِبُ عَلَيْهِ الْإِبْرَيْسَمُ أَوْ

مُمْسِكًا لِسَيْفٍ مُذَهَّبٍ فَهُوَ فِسْقٌ وَالْإِنْكَارُ عَلَيْهِ وَاجِبٌ، وَأَمَّا مُجَرَّدُ السَّوَادِ فَلَيْسَ بِمَكْرُوهٍ لَكِنَّهُ لَيْسَ بِمَحْبُوبٍ إذْ أَحَبُّ الثِّيَابِ إلَى اللَّهِ الْبَيَاضُ وَمَنْ قَالَ فِي هَذَا إنَّهُ بِدْعَةٌ أَوْ مَكْرُوهٌ أَرَادَ بِهِ لَمْ يَكُنْ مَعْهُودًا فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ وَلَكِنَّهُ إذَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ نَهْيٌ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُسَمَّى بِدْعَةً، وَلَا مَكْرُوهًا وَلَكِنَّهُ تَرْكُ الْأَحَبِّ. وَيَمْنَعُ الْمُحْتَسِبُ أَيْضًا مَنْ يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بَعْدَ النِّدَاءِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِيذَاءِ، وَإِذَا كَانَ فِي أَئِمَّةِ الْمَسَاجِدِ وَالْجَوَامِعِ مَنْ يُطِيلُ الصَّلَاةَ حَتَّى يَعْجِزَ عَنْهَا الضَّعِيفُ وَيَنْقَطِعَ بِهَا ذُو الْحَاجَاتِ عَنْ حَاجَاتِهِ أَنْكَرَ الْمُحْتَسِبُ ذَلِكَ عَلَيْهِ كَمَا «أَنْكَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مُعَاذٍ حِينَ أَطَالَ الصَّلَاةَ بِقَوْمِهِ فَقَالَ: أَفَتَّانٌ أَنْتَ يَا مُعَاذُ» . وَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي جَامِعِهِ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ: «قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي لَأَتَأَخَّرُ عَنْ الصَّلَاةِ فِي الْعَجْزِ مِمَّا يُطِيلُ بِنَا فُلَانٌ فِيهَا فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا رَأَيْتُهُ غَضِبَ فِي مَوْعِظَةٍ كَانَ أَشَدَّ غَضَبًا مِنْهُ يَوْمَئِذٍ ثُمَّ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ فَمَنْ أَمَّ النَّاسَ فَلْيُخَفِّفْ، فَإِنَّ خَلْفَهُ الضَّعِيفَ وَالْكَبِيرَ وَذَا الْحَاجَةِ» . وَإِذَا قَلَّدَ السُّلْطَانُ فِيهَا إمَامًا كَانَ أَحَقَّ بِالْإِمَامَةِ فِيهَا مِنْ غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ أَفْضَلَ مِنْهُ وَأَعْلَمَ، وَلَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِ أَنْ يَتَقَدَّمَ فِيهَا مَعَ حُضُورِهِ، فَإِنْ غَابَ وَاسْتَنَابَ كَانَ مَنْ اسْتَنَابَهُ فِيهَا أَحَقَّ بِالْإِمَامَةِ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَنِبْ فِي غَيْبَتِهِ اُسْتُؤْذِنَ السُّلْطَانُ فِيمَنْ يُقَدَّمُ فِيهَا، فَإِنْ تَعَذَّرَ اسْتِئْذَانُهُ فِيهَا تَرَاضَى أَهْلُ الْمَسْجِدِ بِمَنْ يَؤُمُّهُمْ لِئَلَّا يَتَعَطَّلَ جَمَاعَتُهُمْ، وَإِذَا صَلَّى إمَامُ هَذَا الْمَسْجِدِ بِجَمَاعَةٍ وَحَضَرَ مَنْ لَمْ يُدْرِكْ تِلْكَ الْجَمَاعَةَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا فِيهِ جَمَاعَةً وَصَلَّوْا فُرَادَى لِمَا فِيهِ مِنْ إظْهَارِ الْمُبَايَنَةِ وَالتُّهْمَةِ بِالْمُشَاقَّةِ وَالْمُخَالَفَةِ.

فصل امتحان المحتسب للمؤذنين

وَفِي الْأَعْوَامِ مَوَاسِمُ لِصَلَوَاتٍ مَخْصُوصَةٍ كَالتَّرَاوِيحِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ وَالرَّغَائِبِ فِي أَوَّلِ جُمُعَةٍ مِنْ شَهْرِ رَجَبٍ وَلَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، فَإِنَّ الْمَسَاجِدَ تُمْلَأُ فِي هَذِهِ الْمَوَاسِمِ الَّتِي تَكْثُرُ فِيهَا الْأَقْلَامُ فِي كَتْبِ الطَّاعَاتِ وَمَحْوِ الْآثَامِ وَمَنْ حَضَرَهَا وَلَيْسَ هِمَّتُهُ إلَّا أَنْ يَمُرَّ بِهَا طُرُوقًا وَيُوَاعِدَ إلَيْهَا أَخْدَانَهُ رَفَثًا وَفُسُوقًا فَهَؤُلَاءِ الْخَلْقُ الَّذِينَ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَابْعَثْ عَلَيْهِمْ قَوْمًا يَسْلُبُونَهُمْ سَلْبًا وَيُوجِعُونَهُمْ ضَرْبًا وَيَمْلَئُونَ عُيُونَهُمْ مَهَابَةً وَقُلُوبَهُمْ رُعْبًا، فَإِنَّ بُيُوتَ اللَّهِ مُطَهَّرَةٌ مِنْ الْأَدْنَاسِ، وَلَمْ تُعَمَّرْ لِشَيْطَانِ الْإِنْسِ، وَإِنَّمَا عُمِّرَتْ لِلنَّاسِ فَلَا يَحْضُرُهَا إلَّا رَاكِعٌ وَسَاجِدٌ أَوْ ذَاكِرٌ وَحَامِدٌ فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ إظْهَارُ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ وَإِشْهَارُ الشَّرِيعَةِ فِي مُقَابَلَةِ ذَلِكَ لِتَقْوَى عَقَائِدُ الْعَامَّةِ. [فَصَلِّ امْتِحَان الْمُحْتَسَب لِلْمُؤَذِّنَيْنِ] (فَصْلٌ) وَلَا يُؤَذِّنُ فِي الْمَنَارَةِ إلَّا عَدْلٌ ثِقَةٌ أَمِينٌ عَارِفٌ بِأَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْمُؤَذِّنُونَ أُمَنَاءُ وَالْأَئِمَّةُ ضُمَنَاءُ فَأَرْشَدَ اللَّهُ الْآئِمَةَ وَغَفَرَ لِلْمُؤَذِّنِينَ» وَيَنْبَغِي لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَمْتَحِنَهُمْ بِمَعْرِفَةِ الْأَوْقَاتِ فَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ ذَلِكَ مَنَعَهُ مِنْ الْأَذَانِ حَتَّى يَعْرِفَهَا؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا أَذَّنَ فِي غَيْرِ الْوَقْتِ فَأَفْطَرَ الصَّائِمَ أَوْ فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ أَوْ يُصَلُّونَ قَبْلَ الْوَقْتِ فَلَا تَصِحُّ صَلَاتُهُمْ فَيَكُونُ هُوَ السَّبَبَ فِي إفْسَادِ أَحْوَالِهِمْ فَيَجِبُ عَلَيْهِ مَعْرِفَةُ الْوَقْتِ وَيَقْرَأُ بَابَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ فِي الْفِقْهِ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ الْمُؤَذِّنُ حَسَنَ الصَّوْتِ وَيَنْهَاهُ الْمُحْتَسِبُ عَنْ النَّغْيِ فِي الْأَذَانِ وَهُوَ التَّمْطِيطُ الْفَاحِشُ وَالتَّطْرِيبُ وَيَأْمُرُهُ إذَا صَعِدَ الْمَنَارَةَ أَنْ يَغُضَّ بَصَرَهُ

عَنْ النَّظَرِ إلَى حَرِيمِ النَّاسِ وَدُورِهِمْ، وَيَأْخُذُ عَلَيْهِ الْعَهْدُ فِي ذَلِكَ، وَلَا يَصْعَدُ إلَى الْمَنَارَةِ غَيْرُ الْمُؤَذِّنِ فِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ وَيَنْبَغِي لِلْمُؤَذِّنِ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِمَنَازِلِ الْقَمَرِ وَشَكْلِ كَوَاكِبِ الْمَنَازِلِ لِيَعْلَمَ أَوْقَاتَ اللَّيْلِ وَمُضِيَ سَاعَاتِهِ وَهِيَ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ مَنْزِلَةً الشَّرْطَيْنِ وَالْبُطَيْنُ وَالثُّرَيَّا وَالدَّبَرَانُ وَالْهَقْعَةُ وَالْهَنْعَةُ وَالذِّرَاعُ وَالنَّثْرَةُ وَالطَّرَفُ وَالْجَبْهَةُ والخرتان والصرفة وَالْعَوَّاءُ والسماك وَالْغَفْرُ والزبانيان وَالْإِكْلِيلُ وَالْقَلْبُ وَالشَّوْلَةُ وَالنَّعَائِمُ وَالْبَلْدَةُ وَسَعْدُ الذَّابِحِ وَسَعْدُ بُلَعٍ وَسَعْدُ السُّعُودِ وَسَعْدُ الْأَخْبِيَةِ وَالْفَرْغُ الْمُقَدَّمُ وَالْفَرْغُ الْمُؤَخَّرُ وَبَطْنُ الْحَوْطِ وَهُوَ الرِّشَاءُ فَهَذِهِ جُمْلَةُ عَدَدِ الْمَنَازِلِ، وَالصُّبْحُ يَدُومُ يَطْلُعُ فِي كُلِّ مَنْزِلَةٍ مِنْ هَذِهِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا ثُمَّ يَنْتَقِلُ إلَى الْمَنْزِلَةِ الَّتِي بَعْدَهَا فَإِذَا عَرَفَ الْمُؤَذِّنُ فِي أَيِّ مَنْزِلَةٍ هُوَ الصُّبْحُ نَظَرَ إلَى الْمَنْزِلَةِ الْمُعْتَرِضَةِ فِي وَسَطِ السَّمَاءِ فَيَعْرِفُ حِينَئِذٍ الطَّالِعَ وَالسَّاقِطَ وَكَمْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصُّبْحِ وَهَذَا فِيهِ عِلْمٌ وَحِسَابٌ يَطُولُ شَرْحُهُ. وَمِنْ شَرْطِ الْمُؤَذِّنِ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا عَاقِلًا ذَكَرًا فَلَا يَصِحُّ أَذَانُ كَافِرٍ أَوْ امْرَأَةٍ أَوْ مَجْنُونٍ أَوْ سَكْرَانَ وَيَصِحُّ أَذَانُ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ، وَيُسْتَحَبُّ الطَّهَارَةُ فِي الْأَذَانِ وَيَصِحُّ بِدُونِهَا، وَالْكَرَاهِيَةُ فِي الْجُنُبِ أَشَدُّ، وَلِيَكُنْ الْمُؤَذِّنُ عَارِفًا بِالْأَوْقَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَالْأَذَانُ مَثْنَى وَالْإِقَامَةُ فُرَادَى مَعَ الْإِدْرَاجِ وَأَنْ يَكُونَ قَائِمًا وَهُوَ مُسْتَقْبِلٌ الْقِبْلَةَ وَيَلْتَفِتُ فِي الْحَيْعَلَتَيْنِ يَمِينًا وَشِمَالًا وَصَدْرُهُ إلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ. وَرَفْعُ الصَّوْتِ فِي الْأَذَانِ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِهِ وَالتَّرْتِيبُ فِي كَلِمَاتِ الْأَذَانِ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِهِ فَلَوْ عَكَسَ لَمْ يُعْتَدْ بِهِ، وَإِنْ فَعَلَهُ اسْتِهْزَاءً أَوْ اسْتِهْتَارًا عُزِّرَ تَعْزِيرًا بَلِيغًا، وَلَا يُؤَذِّنُ إلَّا لِفَرِيضَةٍ وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ صَلَاةِ الْكُسُوفِ وَالْعِيدَيْنِ وَالِاسْتِسْقَاءِ يُنَادَى لَهَا: الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ

فصل الحسبة على قارئي القرآن

وَيَنْبَغِي لِلْمُؤَذِّنِ أَنْ يَزِيدَ فِي التَّذْكَارِ وَالتَّسْبِيحِ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ وَيُنَادِي بِالسُّحُورِ أَوَّلًا ثُمَّ يَشْرَبُ الْمَاءَ ثُمَّ يُنَادِي قَرُبَ الصَّبَاحُ ثُمَّ قَرُبَ الْأَذَانُ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يُطْفِي الْفَانُوسَ ثُمَّ يُؤَذِّنُ وَمَتَى تَعَذَّرَ عَلَيْهِ طفي الْفَانُوسِ كَسَرَهُ، فَإِنَّ مَنْ لَا يَسْمَعُ الْأَذَانَ لِبَعْدِهِ إنَّمَا اعْتِمَادُهُ فِي أَكْلِهِ وَشُرْبِهِ عَلَى رُؤْيَةِ الْفَانُوسِ وَإِيقَادِهِ وَطَفْيِهِ، وَيَجُوزُ لِلْمُؤَذِّنِ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَى الْأَذَانِ، وَأَمَّا الْأَئِمَّةُ فَلَا يَجُوزُ لَهُمْ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالْإِمَامَةِ، فَإِنْ دُفِعَ لِلْإِمَامِ شَيْءٌ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ جَازَ لَهُ أَخْذُهُ عَلَى سَبِيلِ الْهِبَةِ، وَإِنْ رُزِقُوا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ جَازَ عَلَى الصَّحِيحِ. وَيَأْمُرُ الْمُحْتَسِبُ الْقَوَمَةَ أَنْ يَقِفُوا عَلَى أَبْوَابِ الْجَامِعِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَيَمْنَعُوا الصَّعَالِيكَ مِنْ الدُّخُولِ لِلْكُدْيَةِ جُمْلَةً وَاحِدَةً، فَفِي دُخُولِهِمْ ضَرَرٌ عَلَى النَّاسِ وَيَمْنَعُوهُمْ مِنْ الِاشْتِغَالِ بِالذِّكْرِ وَالْعِبَادَةِ، فَإِنَّهُمْ يُشَوِّشُونَ عَلَيْهِمْ فِي الصَّلَاةِ لَا سِيَّمَا مَنْ يَقِفُ وَيَحْكِي أَخْبَارًا وَقِصَصًا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ وَيُشْغِلُونَ الْعَوَامَّ بِسَمَاعِ كَلَامِهِمْ عَمَّا حَضَرُوا لِأَجْلِهِ، فَيَجِبُ عَلَى الْمُحْتَسِبِ مَنْعُهُمْ مِنْ ذَلِكَ وَأَنْ يُرْسِلَ مِنْ جِهَتِهِ أَعْوَانًا لِلْقَوَمَةِ يُسَاعِدُونَهُمْ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ الْمَصَالِحِ. وَكَذَلِكَ مِنْ الْمَكْرُوهِ أَيْضًا تَكْثِيرُ الْأَذَانِ فِي الْجَامِعِ وَغَيْرِهِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ أَمَّا مِنْ وَاحِدٍ أَوْ مِنْ جَمَاعَةٍ، فَإِنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِيهِ إذَا لَمْ يَبْقَ فِي الْمَسْجِدِ غَافِلٌ، وَلَمْ يَكُنْ الصَّوْتُ مِمَّا يَخْرُجُ عَنْ الْمَسْجِدِ حَتَّى يَبْلُغَ غَيْرَ مَنْ فِي الْمَسْجِدِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ الْمَكْرُوهَاتِ الْمُخَالِفَةِ لِسُنَّةِ الصَّحَابَةِ وَالسَّلَفِ. [فَصَلِّ الْحَسَبَة عَلَى قَارِئِي الْقُرْآن] (فَصْلٌ) وَيَأْمُرُ أَهْلَ الْقُرْآنِ بِقِرَاءَتِهِ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - وَيَنْهَاهُمْ عَنْ تَلْحِينِ الْقُرْآنِ وَقِرَاءَتِهِ بِالْأَصْوَاتِ الْمُلَحَّنَةِ كَمَا تُلَحَّنُ الْأَغَانِي وَالْأَشْعَارُ

الباب الثامن والأربعون في الحسبة على الوعاظ

فَقَدْ نَهَى الشَّرْعُ عَنْ ذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اقْرَءُوا الْقُرْآنَ بِلُحُونِ الْعَرَبِ وَأَصْوَاتِهَا وَإِيَّاكُمْ وَلُحُونِ أَهْلِ الْعِشْقِ وَلُحُونِ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ وَسَيَجِيءُ بَعْدِي قَوْمٌ يُرَجِّعُونَ الْقُرْآنَ تَرْجِيعَ الْغِنَاءِ وَالنَّوْحِ، لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ مَفْتُونَةٌ قُلُوبُهُمْ وَقُلُوبُ الَّذِينَ يُعْجِبُهُمْ شَأْنُهُمْ» ، وَلَا يَأْتُونَ إلَى جِنَازَةٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْتَدْعِيَهُمْ وَلِيُّ الْمَيِّتِ، وَإِذَا أُعْطُوا شَيْئًا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ جَازَ لَهُمْ أَخْذُهُ عَلَى سَبِيلِ الْهِبَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْبَاب الثَّامِن وَالْأَرْبَعُونَ فِي الْحَسَبَة عَلَى الْوُعَّاظ] يَجِبُ عَلَى الْمُحْتَسِبِ أَنْ يَنْظُرَ فِي أَمْرِ الْوُعَّاظِ، وَلَا يُمَكِّنُ أَحَدًا يَتَصَدَّى لِهَذَا الْفَنِّ إلَّا مَنْ اُشْتُهِرَ بَيْنَ النَّاسِ بِالدِّينِ وَالْخَيْرِ وَالْفَضِيلَةِ وَأَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ وَعِلْمِ الْأَدَبِ حَافِظًا الْكِتَابَ الْعَزِيزَ وَلِأَحَادِيثِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَخْبَارِ الصَّالِحِينَ وَحِكَايَاتِ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَيُمْتَحَنُ بِمَسَائِلَ يُسْأَلُ عَنْهَا مِنْ هَذِهِ الْفُنُونِ، فَإِنْ أَجَابَ وَإِلَّا مُنِعَ كَمَا اخْتَبَرَ الْإِمَامُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَهُوَ يَتَكَلَّمُ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ لَهُ: مَا عِمَادُ الدِّينِ؟ قَالَ: الْوَرَعُ، قَالَ: فَمَا آفَتُهُ؟ قَالَ: الطَّمَعُ، قَالَ: تَكَلَّمَ الْآنَ إنْ شِئْتَ. وَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ فِيهِ مُكِّنَ مِنْ الْجُلُوسِ عَلَى الْمِنْبَرِ فِي الْجَوَامِعِ وَالْمَسَاجِدِ فِي أَيِّ بُقْعَةٍ أَحَبَّ، وَمَنْ لَا يَدْرِي ذَلِكَ وَكَانَ جَاهِلًا بِذَلِكَ مُنِعَ مِنْ الْكَلَامِ، فَإِنْ لَمْ يَمْتَنِعْ وَدَامَ عَلَى كَلَامِهِ عُزِرَ، وَمَنْ عَرَفَ شَيْئًا يَسِيرًا مِنْ كَلَامِ الْوُعَّاظِ

وَحَفِظَ مِنْ الْأَحَادِيثِ وَأَخْبَارِ الصَّالِحِينَ قَبْلَ ذَلِكَ وَقَصَدَ الْكَلَامَ يَسْتَرْزِقُ بِهِ وَيَسْتَعِينُ عَلَى قُوَّتِهِ فَيُبِيحُ لَهُ بِشَرْطِ أَلَّا يَصْعَدَ عَلَى مِنْبَرٍ بَلْ يَقِفُ عَلَى قَدَمَيْهِ، فَإِنَّ رُتْبَةَ صُعُودِ الْمِنْبَرِ رُتْبَةٌ شَرِيفَةٌ لَا يَلِيقُ أَنْ يَصْعَدَ عَلَيْهِ إلَّا مَنْ اُشْتُهِرَ بِمَا وَصَفْنَاهُ وَكَفَى بِهِ عُلُوًّا سُمُوًّا، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَعِدَ عَلَيْهِ وَالْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ مِنْ بَعْدِهِ وَالْأَئِمَّةُ وَكَانَ الْعَصْرُ الْأَوَّلُ لَا يَصْعَدُ فِيهِمْ الْمِنْبَرَ أَلَّا أَحَدُ رَجُلَيْنِ خَطِيبٌ فِي جَامِعٍ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَوْ يَوْمَ الْعِيدِ أَوْ رَجُلٌ عَظِيمُ الشَّأْنِ يَصْعَدُ الْمِنْبَرَ يَعِظُ النَّاسَ وَيُذَكِّرُهُمْ الْآخِرَةَ وَيُنْذَرُهُمْ وَيُحَذِّرُهُمْ وَيُخَوِّفُهُمْ وَيَحُثُّهُمْ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَكَانَ لِلنَّاسِ بِذَلِكَ نَفْعٌ عَظِيمٌ، وَفِي زَمَانِنَا هَذَا لَا يُطْلَبُ الْوَاعِظُ إلَّا لِتَمَامِ شَهْرِ مَيِّتُ أَوْ لَعَقَدَ نِكَاح أَوْ لِاجْتِمَاعِ هَذَيَانٍ، وَلَا يَجْتَمِعُونَ النَّاسُ عِنْده لِسَمَاعِ مَوْعِظَةٍ وَلَا لِفَائِدَةٍ، وَإِنَّمَا صَارَ ذَلِكَ مِنْ نَوْعِ الْفَرَحِ وَاللَّعِبِ وَالِاجْتِمَاعِ وَيَجْرِي فِي الْمَجْلِسِ أُمُورٌ لَا تَلِيقُ مِنْ اجْتِمَاعِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَرُؤْيَةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ وَأَشْيَاءُ لَا يَلِيقُ ذَكَرُهَا وَهَذَا مِنْ الْبِدَعِ الْمُضِلَّةِ وَكَانَ الْأَوْلَى حَسْمُ الْبَابِ فِي ذَلِكَ وَالْمَنْعُ مِنْهُ، وَإِنْ تَعَذَّرَ فَلَا يُمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ إلَّا رَجُلٌ مَشْهُورٌ بِالدِّينِ وَالْخَيْرِ وَالْفَضِيلَةِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَمِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ عَامِلًا لِلَّهِ مُجْتَهِدًا قَوَّالًا فَعَّالًا، قَالَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 55] . وَقَالَ: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا} [النور: 17] ، وَالْفُقَهَاءُ وَالْمُتَكَلِّمُونَ وَالْأُدَبَاءُ وَالنُّحَاةُ يُسَمُّونَ أَهْلَ الذَّكَرِ وَالْوَعْظِ قُصَّاصًا، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مَجَالِسُ الْوَعْظِ خَيْرُ الْمَجَالِسِ وَمَلَابِسُهَا أَفْخَرُ الْمَلَابِسِ فِيهَا تَرِقُّ قَسْوَةُ الْقُلُوبِ، وَفِيهَا يُتَابُ مِنْ الذُّنُوبِ وَيُعْتَرَفُ بِالْعُيُوبِ

وَعِنْدَ الْوَاعِظِ تَتَرَقْرَقُ الْعُيُونُ بِالدُّمُوعِ عَلَى الْخُدُودِ وَبِبَرَكَتِهِ يُزْدَادُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ. وَقَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا رَأَيْتُمْ رِيَاضَ الْجَنَّةِ فَارْتَعُوا فِيهَا قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا رِيَاضُ الْجَنَّةِ؟ قَالَ: مَجَالِسُ الذِّكْرِ» . وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ: إنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - أَوْحَى إلَى مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنْ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ رِيَاضًا تُنْبِتُ الْمَغْفِرَةَ قَالَ مُوسَى وَمَا هِيَ؟ قَالَ: حِلَقُ الذِّكْرِ فِيهَا دُعَاةٌ يَدْعُونَ إلَيَّ وَأَلْوِيَتُهُمْ مِثْلُ أَلْوِيَةِ الْأَنْبِيَاءِ يَحُثُّونَ عِبَادِي عَلَى الْخَيْرِ فَيُبْكُونَهُمْ وَيُزَهِّدُونَهُمْ وَيُرَغِّبُونَهُمْ وَيُحَبِّبُونَهُمْ إلَى عِبَادِي، أُولَئِكَ لَهُمْ الرَّحْمَةُ وَالْمَغْفِرَةُ وَالرِّضْوَانُ الْأَكْبَرُ. وَلِلْوَاعِظِ شُرُوطٌ مِنْهَا أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَأَنْ يَكُونَ مُسْتَقِيمَ اللِّسَانِ حَسَنَ الْبَيَانِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} [ص: 20] ، وَمِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ صَاحِبَ إشَارَةٍ وَرُمُوزٍ، فَقَدْ قِيلَ رُبَّ إشَارَةٍ أَبْلَغُ مِنْ عِبَارَةٍ وَرُبَّ لَحْظٍ أَبْلَغُ مِنْ لَفْظٍ وَقَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: الْوَاعِظُ الَّذِي إذَا دَخَلْتَ بَيْتَهُ تَعِظُكَ آلَةُ بَيْتِهِ فَتَرَى إنَاءَ الْوُضُوءِ وَسَجَّادَةَ الصَّلَاةِ. وَمِنْ الْمَكْرُوهَاتِ كَلَامُ الْقُصَّاصِ وَالْوُعَّاظِ الَّذِينَ يَمْزُجُونَ بِكَلَامِهِمْ الْبِدَعَ فَالْقَاصُّ إنْ كَانَ يَكْذِبُ فِي أَخْبَارِهِ فَهُوَ فِسْقٌ وَالْإِنْكَارُ عَلَيْهِ وَاجِبٌ وَكَذَا الْوَاعِظُ الْمُبْتَدِعُ يَجِبُ مَنْعُهُ فَلَا يَجُوزُ حُضُورُ مَجْلِسِهِ إلَّا عَلَى قَصْدِ إظْهَارِ الرَّدِّ عَلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ فَلَا يَجُوزُ حُضُورُ سَمَاعِ الْبِدْعَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام: 68] وَمَهْمَا كَانَ الْوَاعِظُ شَابًّا مُتَزَيِّنًا لِلنِّسَاءِ فِي ثِيَابِهِ وَهَيْئَتِهِ كَثِيرَ الْأَشْعَارِ وَالْإِشَارَاتِ وَالْحَرَكَاتِ، وَقَدْ حَضَرَ مَجْلِسَهُ النِّسَاءُ فَهَذَا مُنْكَرٌ يَجِبُ الْمَنْعُ مِنْهُ، فَإِنَّ الْفَسَادَ أَكْثَرُ مِنْ الصَّلَاحِ وَيَبِينُ ذَلِكَ مِنْهُ بِقَرَائِنِ أَحْوَالِهِ بَلْ

الباب التاسع والأربعون في الحسبة على المنجمين وكتاب الرسائل

لَا يَنْبَغِي أَنْ يُسَلَّمَ الْوَعْظُ إلَّا لِمَنْ ظَاهِرُهُ الْوَرَعُ وَهَيْئَتُهُ السُّكُونُ وَالْوَقَارُ وَزِيُّهُ زِيُّ الصَّالِحِينَ وَإِلَّا فَلَا يَزْدَادُ النَّاسُ إلَّا تَمَادِيًا فِي الضَّلَالِ. وَيَجِبُ أَنْ يَضْرِبَ بَيْنَ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ حَائِلًا يَمْنَعُ النَّظَرُ إلَيْهِنَّ، فَإِنَّ ذَلِكَ مَظِنَّةُ الْفَسَادِ وَالْعَادَاتُ تَشْهَدُ لِهَذِهِ الْمُنْكَرَاتِ وَيَجِبُ مَنْعُ النِّسَاءِ مِنْ حُضُورِ الْمَسَاجِدِ لِلصَّلَاةِ وَمَجَالِسِ الْوُعَّاظِ إذَا خِفْنَ الْفِتْنَةَ بِهِنَّ، فَقَدْ مَنَعَتْهُنَّ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قِيلَ لَهَا: «إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا مَنَعَهُنَّ مِنْ الْجَمَاعَاتِ» فَقَالَتْ لَوْ عَلِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا أَحْدَثَ النِّسَاءُ بَعْدَهُ لَمَنَعَهُنَّ. وَأَمَّا اجْتِيَازُ الْمَرْأَةِ بِالْمَسْجِدِ مُسْتَتِرَةً فَلَا تُمْنَعُ مِنْهُ إلَّا أَنَّ الْأَوْلَى أَلَّا تَتَّخِذَ الْمَسْجِدَ مَجَازًا أَصْلًا. وَكَذَا قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ بَيْنَ يَدَيْ الْوَاعِظِ بِالْأَلْحَانِ عَلَى وَجْهٍ يُغَيِّرُ نَظْمَ الْقُرْآنِ وَيُجَاوِزُ حَدَّ التَّنْزِيلِ مُنْكَرٌ وَمَكْرُوهٌ شَدِيدُ الْكَرَاهَةِ أَنْكَرَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ السَّلَفِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي قِرَاءَةِ الْجَنَائِزِ. [الْبَاب التَّاسِع وَالْأَرْبَعُونَ فِي الْحَسَبَة عَلَى الْمُنَجَّمِينَ وَكِتَاب الرَّسَائِل] أَمَّا الْمُنَجِّمُونَ فَقَدْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ دَالَّةٌ عَلَى النَّهْيِ بِالِاشْتِغَالِ بِهَذَا الْعِلْمِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَتَى حَزَّارًا فَصَدَّقَهُ فِي مَقَالِهِ، فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ قَالَ حَدَّثَنَا

يَحْيَى بْنُ يَحْيَى قَالَ قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ: «صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَاةَ الصُّبْحِ بِالْحُدَيْبِيَةِ فِي أَثَرِ سَمَاءٍ كَانَتْ مِنْ اللَّيْلِ فَلَمَّا انْصَرَفَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: قَالَ: أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ فَأَمَّا مَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا فَذَاكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ» فَدَلَّ عَلَى أَنَّ هَذَا عِلْمٌ لَيْسَ يُعْتَمَدُ فِيهِ عَلَى شَيْءٍ بَلْ جَعَلُوهُ أُحْبُولَةً لِأَخْذِ الرِّزْقِ، وَحِينَئِذٍ يُؤْخَذُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى كُتَّابِ الرَّسَائِلِ أَنَّهُمْ لَا يَجْلِسُوا فِي دَرْبٍ، وَلَا زُقَاقٍ، وَلَا فِي حَانُوتٍ بَلْ عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ، فَإِنَّ مُعْظَمَ مَنْ يَجْلِسُ عِنْدَهُمْ النِّسْوَانِ، وَقَدْ صَارَ فِي هَذَا الزَّمَانِ يَجْلِسُ عِنْدَ هَؤُلَاءِ الْكُتَّابِ وَالْمُنَجِّمِينَ مَنْ لَا لَهُ حَاجَةٌ عِنْدَهُمْ مِنْ الشَّبَابِ وَغَيْرِهِمْ وَلَيْسَ لَهُمْ قَصْدٌ سِوَى حُضُورِ امْرَأَةٍ تَكْشِفُ نَجْمَهَا أَوْ تَكْتُبُ رِسَالَةً أَوْ حَاجَةً لَهَا فَيُشَاكِلُهَا وَيَتَمَكَّنُ مِنْ الْحَدِيثِ مَعَهَا بِسَبَبِ جُلُوسِهِ وَجُلُوسِهَا وَيُؤَدِّي ذَلِكَ إلَى أَشْيَاءَ لَا يَلِيقُ ذِكْرَهَا فَإِذَا كَانُوا عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ كَانَ أَمْرُهُمْ أَسْهَلَ مِنْ جُلُوسِهِمْ فِي حَانُوتٍ أَوْ دَرْبٍ أَوْ غَيْرِهِ وَيُلْزِمُهُمْ بِالْقَسَامَةِ أَنَّهُمْ لَا يَكْتُبُونَ لِأَحَدٍ مِنْ النَّاسِ شَيْئًا مِنْ الرُّوحَانِيَّاتِ مِثْلُ مَحَبَّةٍ وَتَهْيِيجٍ وَنَزِيفٍ وَرَمَدٍ وَعَقْدِ لِسَانٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنَّ السِّحْرَ حَرَامٌ فِعْلُهُ وَمَتَى وَجَدَ أَحَدًا يَفْعَلُ ذَلِكَ عَزَّرَهُ لِيَرْتَدِعَ بِهِ غَيْرُهُ، وَكَذَلِكَ كُتَّابُ الرَّسَائِلِ يُؤْخَذُ عَلَيْهِمْ أَلَّا يَكْتُبُوا مَا لَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ مِنْ كِتَابِ الشُّرُوطِ مِنْ مُبَايَعَةٍ، وَلَا عُهْدَةٍ، وَلَا إجَارَةٍ، وَلَا وَثِيقَةٍ، وَلَا فَرْضٍ، وَلَا مَا هُوَ مِنْ وَظَائِفِ الْعُدُولِ وَكِتَابَتِهِمْ، وَلَا يَنْسَخُوا لِأَحَدٍ نُسْخَةً مَسْطُورٍ

الباب الخمسون يشتمل على معرفة الحدود والتعزيرات

بِيَدِهِ، وَلَا عُهْدَةً، وَلَا نُسْخَةَ إجَارَةٍ، وَلَا يَكْتُبُوا لِامْرَأَةٍ رِسَالَةً لِرَجُلٍ أَجْنَبِيٍّ فَلَا يَكَادُ يَخْفَى ذَلِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ خِطَابِهَا لَهُ فِي الْكِتَابِ، وَلَا يَكْتُبُوا أَمْرًا يَتَعَلَّقُ بِأُمُورِ الدَّوْلَةِ، وَلَا يُجَاوِزُونَ مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ مِنْ كِتَابَةِ رِسَالَةٍ وَاسْتِعْلَامِ خَبَرٍ وَمَا فِيهِ فَائِدَةٌ مُخْتَصَّةٌ بِالْمُرْسِلِ وَمَا يَتَعَدَّى فِيهِ ضَرَرٌ لِلْغَيْرِ وَمَتَى وَجَدَ أَحَدًا مِنْهُمْ خَرَجَ عَنْ ذَلِكَ وَكَتَبَ مَا مُنِعَ مِنْهُ أَقَامَهُ الْمُحْتَسِبُ وَأَدَّبَهُ، فَإِنْ تَابَ أَعَادَهُ، فَإِنْ رَجَعَ عَزَّرَهُ. [الْبَاب الْخَمْسُونَ يَشْتَمِل عَلَى مُعْرِفَة الْحُدُود وَالتَّعْزِيرَات] وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ نَذْكُرْهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ وَأَذْكُرُ مَا يَلْزَمُ الْمُحْتَسِبَ فِعْلُهُ مِنْ أُمُورِ الْحِسْبَةِ فِي مَصَالِحِ الرَّعِيَّةِ غَيْرَ مَا ذَكَرْنَا. فَمِنْ ذَلِكَ السَّوْطُ وَالدِّرَّةُ، أَمَّا السَّوْطُ فَيَتَّخِذُ وَسَطًا لَا بِالْغَلِيظِ الشَّدِيدِ، وَلَا بِالرَّقِيقِ اللَّيِّنِ بَلْ يَكُونُ مِنْ وَسَطَيْنِ حَتَّى لَا يُؤْلِمَ الْجِسْمَ لِمَا رَوَى زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: «أَنَّ رَجُلًا اعْتَرَفَ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالزِّنَا فَدَعَا لَهُ بِالسَّوْطِ فَأُتِيَ بِسَوْطِ مَكْسُورٍ فَقَالَ فَوْقَ هَذَا فَأُتِيَ بِسَوْطٍ جَدِيدٍ فَقَالَ دُونَ هَذَا فَأُتِيَ بِسَوْطٍ قَدْ لَانَ فَضَرَبَ بِهِ» . وَأَمَّا الدِّرَّةُ فَتَكُونُ مِنْ جِلْدِ الْبَقَرِ أَوْ الْجَمَلِ مَخْرُوزَةً وَتَكُونُ هَذِهِ الْآلَةُ مُعَلَّقَةً عَلَى دِكَّةِ الْمُحْتَسِبِ لِيُشَاهِدَهَا النَّاسُ فَتُرْعَدُ مِنْهَا قُلُوبُ الْمُفْسِدِينَ وَيَنْزَجِرُ بِهَا أَهْلُ التَّدْلِيسِ فَإِذَا أُتِيَ لَهُ بِمَنْ زَنَا وَهُوَ بِكْرٌ

جَلَدَهُ مِائَةً فِي مَلَإٍ مِنْ النَّاسِ كَمَا قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2] وَيَعْنِي بِذَلِكَ الزَّانِيَ، وَأَنْ يَكُونَ بَالِغًا عَاقِلًا مُخْتَارًا مُسْلِمًا كَانَ أَوْ ذِمِّيًّا أَوْ مُرْتَدًّا وَنَعْنِي بِقَوْلِنَا زَنَا أَنَّهُ وَطِئَ امْرَأَةً مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ، وَلَا شُبْهَةِ عَقْدٍ، وَلَا مِلْكٍ، وَلَا شُبْهَةِ مِلْكٍ وَنَعْنِي بِالْوَطْءِ تَغْيِيبَ الْحَشَفَةِ فِي الْفَرْجِ. وَاعْلَمْ أَنَّ مِنْ وُجُوبِ الْأُمُورِ الْمُعْتَبَرَةِ لِلْحَدِّ الْعِلْمُ بِالتَّحْرِيمِ، وَإِنَّمَا اُعْتُبِرَ الْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ وَالْمَجْنُونَ لَيْسَا مِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ لِلْخَبَرِ الْمَشْهُورِ، وَيُضْرَبُ الرَّجُلُ فِي الْحَدِّ وَالتَّعْزِيرِ قَائِمًا، وَلَا يُمَدُّ، وَلَا يُرْبَطُ؛ لِأَنَّ لِكُلِّ عُضْوٍ قِسْطًا مِنْ الضَّرْبِ وَيُتَوَقَّى الْوَجْهُ وَالرَّأْسُ وَالْفَرْجُ وَالْخَاصِرَةُ وَسَائِرُ الْمَوَاضِعِ الْمَخُوفَةِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - قَالَ لِلْجَلَّادِ: اضْرِبْهُ وَأَعْطِ كُلَّ عُضْوٍ حَقَّهُ وَاتَّقِ وَجْهَهُ وَمَذَاكِيرَهُ، وَاعْلَمْ أَنَّ أَكْثَرَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ قَالُوا لَا يُتَّقَ الرَّأْسُ؛ لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ لِلْجَلَّادِ اضْرِبْ الرَّأْسَ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ فِي الرَّأْسِ وَلِأَنَّهُ يَكُونُ مُغَطًّى فِي الْعَادَةِ فَلَا يُخَافُ إفْسَادُهُ وَالْخَاصِرَةُ كَالرَّأْسِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَلْزَمُهُ اتِّقَاؤُهُ وَهُوَ أَشْبَهُ؛ لِأَنَّ الضَّرْبَ عَلَيْهِ أَخْوَفُ، وَلَا يُجَرَّدُ بَلْ يَكُونُ عَلَيْهِ قَمِيصٌ، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ جُبَّةٌ مَحْشُوَّةٌ أَوْ فَرْوَةٌ جُرِّدَ مِنْهَا؛ لِأَنَّهَا تَقِيهِ الضَّرْبَ، وَلَا يَتَوَلَّى الضَّرْبَ غَيْرُ الرِّجَالِ؛ لِأَنَّهُمْ أَبْصَرُ بِهِ، وَلَا يَبْلُغُ بِالضَّرْبِ مَا يَجْرَحُ وَيَنْهَرُ الدَّمَ، وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَتُضْرَبُ جَالِسَةً فِي إزَارِهَا؛ لِأَنَّهَا عَوْرَةٌ فَإِذَا كَانَتْ قَائِمَةً رُبَّمَا تَكَشَّفَتْ وَتُشَدُّ عَلَيْهَا ثِيَابُهَا لِتَسْتَتِرَ بِهَا، قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَلِي ذَلِكَ مِنْهَا امْرَأَةٌ يَعْنِي شَدَّ الثِّيَابِ عَلَيْهَا. فَإِنْ كَانَ مُحْصَنًا فَالرَّجْمُ، وَالْمُحْصَنُ هُوَ الَّذِي أَصَابَ زَوْجَةً بِعَقْدِ نِكَاحٍ صَحِيحٍ، وَإِنْ كَانَ بِكْرًا فَالْحَدُّ وَتَغْرِيبُ عَامٍ وَالْبِكْرُ هُوَ الَّذِي

لَمْ يَطَأْ زَوْجَةً بِنِكَاحٍ صَحِيحٍ، وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَغْرِيبِهِ بَعْدَ الْحَدِّ فَمَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْهُ اقْتِصَارًا عَلَى جَلْدِهِ. وَقَالَ مَالِكٌ يُغَرَّبُ الرَّجُلُ، وَلَا تُغَرَّبُ الْمَرْأَةُ وَأَوْجَبَ الشَّافِعِيُّ تَغْرِيبَهُمَا عَامًا عَنْ بَلَدِهِمَا إلَى مَسَافَةٍ أَقَلُّهَا يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، وَحْدُ الْكَافِرِ وَالْمُسْلِمِ سَوَاءٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَلْدِ وَالتَّغْرِيبِ، وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «رَجَمَ يَهُودِيَّيْنِ زَنَيَا» . وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ الرَّجْمُ فَرِيضَةُ اللَّهِ أَنْزَلَهَا اللَّهُ - تَعَالَى - إلَّا أَنَّ الرَّجْمَ إذَا أُحْصِنَ وَقَامَتْ الْبَيِّنَةُ وَكَانَ الْحَمْلُ أَوْ الِاعْتِرَافُ، وَقَدْ قَرَأْنَا الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ. وَإِذَا زَنَا الْبِكْرُ بِمُحْصَنَةٍ أَوْ زَنَا الْمُحْصَنُ بِبِكْرٍ جُلِدَ الْبِكْرُ مِنْهُمَا وَرُجِمَ الْمُحْصَنُ، وَإِذَا عَادُوا الزُّنَاءُ بَعْدَ الْحَدِّ حُدُّوا، وَإِذَا زَنَا مِرَارًا قَبْلَ الْحَدِّ حُدَّ لِلْجَمِيعِ حَدًّا وَاحِدًا. وَالزِّنَاءُ يَثْبُتُ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ إمَّا بِإِقْرَارٍ أَوْ بِبَيِّنَةٍ، أَمَّا الْإِقْرَارُ فَإِذَا أَقَرَّ الْبَالِغُ الْعَاقِلُ بِالزِّنَا مَرَّةً وَاحِدَةً طَوْعًا أُقِيمَ الْحَدُّ عَلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَحُدُّهُ حَتَّى يُقِرَّ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، وَإِذَا وَجَبَ الْحَدُّ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ قَبْلَ الْحَدِّ سَقَطَ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ» . وَأَمَّا الْبَيِّنَةُ فَهُوَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِ بِفِعْلِ الزِّنَا أَرْبَعُ رِجَالٍ عُدُولٍ لَا امْرَأَةَ فِيهِمْ يَذْكُرُونَ أَنَّهُمْ شَاهِدُونَ دُخُولَ ذَكَرِهِ فِي الْفَرْجِ كَدُخُولِ الْمِرْوَدِ فِي الْمُكْحُلَةِ، وَإِنْ لَمْ يُشَاهِدُوا ذَلِكَ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ فَلَيْسَتْ شَهَادَةً وَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ مُجْتَمَعِينَ وَمُتَفَرِّقِينَ، وَمَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ ذَلِكَ وَقَالَ لَا أَقْبَلَهَا إذَا تَفَرَّقُوا وَجَعَلَهُمْ قَذَفَةً، وَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ بَعْدَ سَنَةٍ أَوْ أَكْثَرَ، وَإِذَا لَمْ يَكْمُلْ شُهُودُ الزِّنَاءِ أَرْبَعَةً فَهُمْ قَذَفَةٌ يُحَدُّونَ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ. وَاخْتُلِفَ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى إقْرَارِهِ بِالزِّنَاءِ هَلْ تُقْبَلُ بِشَاهِدَيْنِ أَوْ أَرْبَعَةٍ، وَإِذَا رُجِمَ الزَّانِي بِالْبَيِّنَةِ حُفِرَتْ لَهُ بِئْرٌ عِنْدَ رَجْمِهِ وَيَنْزِلُ فِيهَا إلَى

فصل في اللواط

وَسَطِهِ لِيَمْنَعَهُ مِنْ الْهُرُوبِ، فَإِنْ هَرَبَ اُتُّبِعَ وَرُجِمَ حَتَّى يَمُوتَ، وَإِنْ رُجِمَ بِإِقْرَارِهِ لَمْ يُحْفَرْ لَهُ، وَإِنْ هَرَبَ لَمْ يُتْبَعْ، وَلَا تُحَدُّ الْحَامِلُ حَتَّى تَضَعَ، وَلَا بَعْدَ الْوَضْعِ حَتَّى تُوجَدَ لِوَلَدِهَا مُرْضِعٌ، وَإِذَا ادَّعَى فِي الزِّنَا شُبْهَةً مُحْتَمَلَةً مِنْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ أَوْ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ زَوْجَتُهُ أَوْ جَهِلَ تَحْرِيمَ الزِّنَا، فَإِنْ كَانَ حَدِيثَ عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ أَوْ تَرَبَّى فِي بَادِيَةٍ سَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ لِلْحَدِيثِ، وَإِذَا تَابَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ سَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْقُدْرَةِ لَمْ يَسْقُطْ قَالَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 119] وَهَذَا كُلُّهُ مَعَ تَفْوِيضِ الْإِمَامِ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ مُخْتَصٌّ بِالْإِمَامِ وَهُوَ خَارِجٌ عَنْ وِلَايَتِهِ، قَالَ: وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً جَلَدَهَا سَيِّدُهَا نِصْفَ حَدِّ الْحُرَّةِ لِقَوْلِهِ: «إذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدَّ، فَإِنْ زَنَتْ فَلْيَبِعْهَا، وَلَوْ بِضَفِيرٍ» . وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ " وَلَوْ بِحَبْلٍ مِنْ شَعْرٍ "، هَذَا مَعَ الْإِقْرَارِ، فَإِنْ كَانَ بِالْبَيِّنَةِ فَالْحَاكِمُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى تَزْكِيَةِ الشُّهُودِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِسَيِّدِهَا وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَقِيمُوا الْحُدُودَ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ» . [فَصَلِّ فِي اللِّوَاط] (فَصْلٌ) وَأَمَّا اللِّوَاطُ وَإِتْيَانُ الْبَهَائِمِ، فَإِنَّهُ يُحَرَّمُ كَالزِّنَاءِ أَوْ أَشَدُّ تَحْرِيمًا مِنْهُ وَالدَّلِيلُ عَلَى تَحْرِيمِهِ قَوْلُهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى -: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 80] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأنعام: 151] . وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ} [الأعراف: 33] فَثَبَتَ أَنَّهُ يُسَمَّى فَاحِشَةً وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي حَدِّهِ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ اخْتَلَفَ عَلِيٌّ وَعَبْدُ اللَّهِ فِي رَجْمِهِ مُحْصَنًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُحْصَنٍ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ، وَفِيهِ قَوْلٌ آخَرُ أَنَّ اللِّوَاطَ كَالزِّنَا يُرْجَمُ إنْ كَانَ مُحْصَنًا وَيُجْلَدُ إنْ كَانَ بِكْرًا؛ لِأَنَّهُ فَرْجٌ يَجِبُ بِإِيلَاجٍ فِيهِ الْحَدُّ، وَفَرَّقَ فِيهِ

فصل في إتيان البهائم

بَيْنَ الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ كَفَرْجِ الْمَرْأَةِ وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا حَدَّ فِيهِ وَلَكِنْ يُعَزَّرُ وَيُحْبَسُ حَتَّى يَمُوتَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - سَمَّاهُ فَاحِشَةً عَلَى مَا بَيِّنَاهُ وَجَعَلَ حَدَّ الْفَاحِشَةِ الْحَبْسَ إلَى الْمَمَاتِ. [فَصَلِّ فِي إتْيَان الْبَهَائِم] (فَصْلٌ) وَأَمَّا إتْيَانُ الْبَهَائِمِ فَفِيهِ قَوْلَانِ كَاللِّوَاطِ بِشَبَهِهِ بِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ فِي الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ الثَّالِثُ أَنَّهُ يُعَزَّرُ. قَالَ فِي التَّهْذِيبِ وَهُوَ الْأَصَحُّ وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْحَدَّ يَجِبُ لِلرَّدْعِ عَنْ الْمُشْتَهِي بِدَلِيلِ وُجُوبِهِ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ دُونَ شُرْبِ الْبَوْلِ وَفَرْجُ الْبَهِيمَةِ لَا يُشْتَهَى، وَإِنْ مَالَتْ إلَيْهِ بَعْضُ الطِّبَاعِ الْخَبِيثَةِ وَقِيلَ يُطْرَدُ هَذَا الْقَوْلُ فِي اللِّوَاطِ أَيْضًا وَأُخِذَ هَذَا مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعُدُّ إتْيَانَ الْبَهِيمَةِ زِنًا وَالِاسْتِمْنَاءَ بِالْيَدِ زِنًا فَأَخْبَرَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِقَوْلِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ قَوْلُ الْغَيْرِ وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ فَإِذَا قُلْنَا إنَّهُ يُقْتَلُ فَوَجْهُهُ هُوَ أَنَّهُ مَا رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ رَأَيْتُمُوهُ عَلَى بَهِيمَةٍ فَاقْتُلُوهُ وَاقْتُلُوهَا مَعَهُ» . فَإِذَا قُلْنَا إنَّهُ كَالزِّنَا فَوَجْهُهُ هُوَ أَنَّهُ فَرْجٌ يَجِبُ بِالْإِيلَاجِ فِيهِ الْحَدُّ فَوَجَبَ أَنْ يَخْتَلِفَ حُكْمُهُ بِالْبَكَارَةِ وَالثِّيَابَةِ كَفَرْجِ الْمَرْأَةِ، فَإِنْ كَانَتْ الْبَهِيمَةُ مَأْكُولَةَ اللَّحْمِ وَجَبَ ذَبْحُهَا فَلِأَيِّ مَعْنًى ذُبِحَتْ فِيهِ مَعْنَيَانِ: أَحَدُهُمَا رُبَّمَا تَأْتِي بِخَلْقٍ مُشَوَّهٍ بَيْنَ الْآدَمِيِّ وَالْبَهِيمَةِ وَقِيلَ لِتَعْلِيلٍ ذَكَرَهُ أَبِي عَبَّاسٍ وَهُوَ أَنَّهُ يُقَالُ هَذِهِ فَعَلَ بِهَا فُلَانٌ فَيُذْكَرُ مَا فَعَلَهُ. فَإِذَا ذُبِحَتْ هَلْ يُؤْكَلُ أَمْ لَا؟ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا لَا تُؤْكَلُ؛ لِأَنَّهَا ذُبِحَتْ لِغَيْرِ مَأْكَلَةٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا تُؤْكَلُ؛ لِأَنَّهَا بَهِيمَةٌ يُؤْكَلُ لَحْمُهَا وَذَبَحَهَا مَنْ هُوَ أَهْلٌ لِلزَّكَاةِ، وَأَمَّا إنْ كَانَتْ لَا تُؤْكَلُ فَهَلْ تُذْبَحُ أَمْ لَا؟ فِيهِ وَجْهَانِ: مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ لَا تُذْبَحُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ ذَبْحِ الْحَيَوَانِ لِغَيْرِ مَأْكَلَةٍ» . وَالثَّانِي: أَنَّهَا تُذْبَحُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اُقْتُلُوهُ وَاقْتُلُوهَا مَعَهُ» وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصَلِّ حَدّ الْقُذُف بِالزِّنَا] (فَصْلٌ) وَأَمَّا حَدُّ الْقَذْفِ بِالزِّنَا ثَمَانُونَ جَلْدَةً، فَقَدْ وَرَدَ بِهَا النَّصُّ قَالَ اللَّهُ

تَعَالَى -: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] ، وَانْعَقَدَ عَلَيْهَا الْإِجْمَاعُ لَا يُزَادُ فِيهَا، وَلَا يُنْقَصُ مِنْهَا وَهُوَ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ فَيُسْتَحَقُّ بِالطَّالِبِ وَيَسْقُطُ بِالْعَفْوِ، وَإِذَا اجْتَمَعَتْ فِي الْمَقْذُوفِ بِالزِّنَاءِ خَمْسَةُ شُرُوطٍ، وَفِي قَاذِفِهِ ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ وَجَبَ الْحَدُّ فِيهِ، أَمَّا الشُّرُوطُ الْخَمْسَةُ فِي الْمَقْذُوفِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ بَالِغًا حُرًّا عَاقِلًا مُسْلِمًا عَفِيفًا، فَإِنْ كَانَ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا أَوْ كَافِرًا أَوْ سَاقِطَ الْعِفَّةِ بِزِنًا حُدَّ فِيهِ فَلَا حَدَّ عَلَى قَاذِفِهِ لَكِنْ يُعَزَّرُ لِأَجْلِ الْأَذَى وَتَبْرِئَةِ اللِّسَانِ. وَأَمَّا الشُّرُوطُ الثَّلَاثَةُ الَّتِي فِي الْقَاذِفِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ بَالِغًا عَاقِلًا حُرًّا، فَإِنْ كَانَ صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا لَمْ يُحَدَّ، وَلَمْ يُعَزَّرْ، وَإِنْ كَانَ عَبْدًا حُدَّ أَرْبَعِينَ بِنِصْفِ حَدِّ الْحُرِّ لِنَقْصِهِ بِالرِّقِّ وَيُحَدُّ الْكَافِرُ بِالْمُسْلِمِ وَتُحَدُّ الْمَرْأَةُ بِالرَّجُلِ وَيُفَسَّقُ الْقَاذِفُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، فَإِنْ تَابَ زَالَ فِسْقُهُ وَقُبِلَتْ شَهَادَتُهُ قَبْلَ الْحَدِّ وَبَعْدَهُ قَالَ الشَّافِعِيُّ تَوْبَةُ الْقَاذِفِ إكْذَابُ نَفْسِهِ بِأَنْ يَقُولَ الْقَذْفُ الَّذِي صَدَرَ مِنِّي بَاطِلٌ فَإِذَا تَابَ ارْتَفَعَ مَا سِوَى ذَلِكَ الْقَذْفِ مِنْ الْفِسْقِ وَالْمَنْعُ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ قَبْلَ الْحَدِّ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، وَإِنْ تَابَ بَعْدَ الْحَدِّ. وَالْقَذْفُ بِاللِّوَاطِ وَإِتْيَانُ الْبَهَائِمِ كَالْقَذْفِ بِالزِّنَا فِي وُجُوبِ الْحَدِّ، وَلَا يُحَدُّ الْقَاذِفُ بِالْكَيْدِ وَالسَّرِقَةِ وَيُعَزَّرُ لِأَجْلِ الْأَذَى. وَالْقَذْفُ بِالزِّنَا مَا كَانَ صَرِيحًا فِيهِ كَقَوْلِهِ يَا زَانٍ أَوْ قَدْ زَنَيْت أَوْ رَأَيْتُكَ تَزْنِي، فَإِنْ قَالَ يَا فَاجِرُ يَا فَاسِقُ يَا لُوطِيُّ كَانَ كِنَايَةً مُحْتَمِلَةً فَلَا يَجِبُ الْحَدُّ إلَّا إنْ أَرَادَ بِهِ الْقَذْفَ، وَلَوْ قَالَ يَا ابْنَ الزَّانِيَيْنِ كَانَ قَاذِفًا لِأَبَوَيْهِ دُونَهُ فَيُحَدُّ لَهُمَا إنْ طَلَبَا حَدَّهُ إلَّا أَنْ يَكُونَا مَيِّتَيْنِ فَيَكُونُ الْحَدُّ مَوْرُوثًا عَنْهُمَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: حَدُّ الْقَذْفِ لَا يُوَرَّثُ، وَلَوْ أَرَادَ الْمَقْذُوفُ أَنْ

فصل وطئ امرأة في نكاح مختلف في إباحته

يُصَالِحَ عَنْ حَدِّ الْقَذْفِ بِمَالٍ لَمْ يَجُزْ، وَإِذَا لَمْ يُحَدَّ الْقَاذِفُ حَتَّى زَنَا الْمَقْذُوفُ لَمْ يَسْقُطْ حَدُّ الْقَذْفِ، وَلَوْ قَالَ يَا عَاهِرُ كَانَ كِنَايَةً عِنْدَ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَصَرِيحًا عِنْدَ آخَرِينَ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ» . وَجَعَلَ مَالِكٌ التَّعَرُّضَ فِيهِ كَالتَّصْرِيحِ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ، وَلَا حَدَّ فِي التَّعْرِيضِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ حَتَّى يُقِرَّ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْقَذْفَ، وَإِذَا قَذَفَ الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ بِالزِّنَا حُدَّ إلَّا أَنْ يُلَاعِنَ مِنْهَا. [فَصَلِّ وَطِئَ امْرَأَة فِي نِكَاح مُخْتَلِف فِي إبَاحَته] (فَصْلٌ) وَمَنْ وَطِئَ امْرَأَةً فِي نِكَاحٍ مُخْتَلَفٍ فِي إبَاحَتِهِ كَنِكَاحٍ بِلَا وَلِيٍّ، وَلَا شُهُودٍ لَمْ يُحَدَّ وَقِيلَ إنْ كَانَ يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَهُ حُدَّ، وَنِكَاحُ الْمُتْعَةِ رُبَّمَا يُؤَوَّلُ إلَى الزِّنَا وَجَبَ عَلَيْهِ التَّعْزِيرُ. وَأَمَّا إذَا وُجِدَ رَجُلٌ مَعَ امْرَأَةٍ فِي فِرَاشٍ وَاحِدٍ وَهُوَ يُقَبِّلُهَا وَيُعَانِقُهَا فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِ التَّعْزِيرُ، وَإِنْ وَطِئَ امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ عُزِّرَ؛ لِأَنَّهَا مَعْصِيَةٌ لَا حَدَّ فِيهَا، وَلَا كَفَّارَةَ، وَإِنْ اسْتَمْنَى بِيَدِهِ عُزِّرَ؛ لِأَنَّهَا مُبَاشَرَةٌ مُحَرَّمَةٌ مِنْ غَيْرِ إيلَاجٍ، وَإِنْ أَتَتْ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ عُزِّرَتَا قِيَاسًا عَلَى الْمُبَاشَرَةِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ. وَإِنْ وَطِئَ جَارِيَةً مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ أَوْ جَارِيَةَ ابْنِهِ عُزِّرَ، وَلَا يُحَدُّ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ يُدْرَأُ بِالشُّبْهَةِ، وَإِنْ وَطِئَ أُخْتَهُ بِمِلْكِ الْيَمِينِ فَفِيهِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا يُحَدُّ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْيَمِينِ لَمْ يُبِحْ وَطْأَهَا فَلَمْ يَسْقُطْ الْحَدُّ. وَالثَّانِي: يُعَزَّرُ وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَإِنْ وَطِئَ امْرَأَةً وَهِيَ حَائِضٌ عُزِّرَ، وَلَا حَدَّ لِلشُّبْهَةِ وَكَذَا إنْ وَطِئَهَا فِي الْمَكَانِ الْمَكْرُوهِ عُزِّرَ، وَلَا يُحَدُّ قَوْلًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّهَا مَحَلُّ الشَّهْوَةِ. [فَصَلِّ فِي التعازير] وَالتَّعْزِيرُ اسْمٌ يَخْتَصُّ بِفِعْلِهِ الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ فِي غَيْرِ الْحُدُودِ وَالتَّأْدِيبِ وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ التَّعْزِيرِ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

قَالَ «لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ، وَلَا كَثْرَ حَتَّى يَأْوِيَهُ الْجَرِينُ فَإِذَا أَوَاهُ الْجَرِينُ وَبَلَغَ ثَمَنُهُ ثَمَنَ الْمِجَنِّ فَفِيهِ الْقَطْعُ، وَإِنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَفِيهِ غُرْمُ مِثْلِهِ وَجَلَدَاتٌ نَكَالًا» ، فَأَمَّا ضَرْبُ الزَّوْجِ زَوْجَتَهُ وَالْمُعَلِّمُ الصَّبِيَّ فَذَاكَ يُسَمَّى تَأْدِيبًا. وَأَصْلُهُ الْعَزْرُ وَهُوَ الْمَنْعُ وَالزَّجْرُ يُقَالُ عَزَرَهُ إذَا رَفَعَهُ وَهُوَ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَضْدَادِ، وَمِنْهُ سُمِّيَ النَّصْرُ تَعْزِيرًا؛ لِأَنَّهُ يَدْفَعُ الْعَدُوَّ وَيَمْنَعُهُ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} [الفتح: 9] فَكُلُّ مَنْ أَتَى مَعْصِيَةً لَا حَدَّ فِيهَا، وَلَا كَفَّارَةَ كَالْمُبَاشَرَةِ الْمُحَرَّمَةِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ وَالسَّرِقَةِ فِيمَا دُونَ النِّصَابِ وَالْقَذْفِ بِغَيْرِ الزِّنَا وَالْخِيَانَةِ بِمَا لَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ وَالشَّهَادَةِ بِالزُّورِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الْمَعَاصِي عُزِّرَ. وَرَوَى ذَلِكَ عَنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَلِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - أَبَاحَ الضَّرْبَ لِلزَّوْجِ عِنْدَ نُشُوزِ الزَّوْجَةِ وَقِسْنَا عَلَيْهِ سَائِرَ الْمَعَاصِي عَلَى حَسَبِ مَا يَرَاهُ الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ وَيَخْتَلِفُ حُكْمُهُ بِاخْتِلَافِ حَالِهِ وَحَالِ فَاعِلِهِ، فَيُوَافِقُ الْحُدُودَ مِنْ وَجْهٍ وَهُوَ أَنَّهُ تَأْدِيبُ اسْتِصْلَاحٍ وَزَجْرٍ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الذَّنْبِ، وَيُخَالِفُ الْحُدُودَ مِنْ وَجْهٍ وَهُوَ أَنَّ تَأْدِيبَ ذَوِي الْهَيْئَةِ مِنْ أَهْلِ الصِّيَانَةِ أَخَفُّ مِنْ تَأْدِيبِ أَهْلِ الْبَذَاءَةِ وَالسَّفَاهَةِ فَيُدْرَجُ فِي النَّاسِ عَلَى مَنَازِلِهِمْ ، وَإِنْ تُسَاوَوْا فِي الْحُدُودِ الْمُقَدَّرَةِ فَيَكُونُ تَعْزِيرُ مَنْ جَلَّ قَدْرَهُ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُ وَتَعْزِيرُ مَنْ دُونَهُ مِنْ زَوَاجِرِ الْكَلَامِ وَغَايَتُهُ اسْتِحْقَاقُ الذَّنْبِ الَّذِي لَا قَذْفَ فِيهِ وَلَا سَبَّ، ثُمَّ يَعْدِلُ بِمَنْ دُونَ ذَلِكَ إلَى الْحَبْسِ الَّذِي يَنْزِلُونَ فِيهِ عَلَى حَسَبِ رُتَبِهِمْ بِحَسَبِ هَفَوَاتِهِمْ

فَمِنْهُمْ مَنْ يُحْبَسُ يَوْمًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُحْبَسُ أَكْثَرَ إلَى غَايَةٍ مَقْدُورَةٍ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيُّ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ تُقَدَّرُ غَايَتُهُ شَهْرًا لِلِاسْتِبْرَاءِ وَالْكَفِّ وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ لِلتَّأْدِيبِ وَالتَّقْوِيمِ، وَإِنْ رَأَى الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ أَنْ يَجْلِدَهُ جَلَدَهُ، وَلَا يَبْلُغُ بِهِ أَدْنَى الْحَدِّ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ بَلَغَ مَا لَيْسَ بِحَدٍّ فَهُوَ مِنْ التَّعْزِيرِ» وَلِأَنَّ هَذِهِ الْمَعَاصِيَ دُونَهَا فَلَا يَجِبُ فِيهَا مَا يَجِبُ فِي ذَلِكَ. فَإِنْ كَانَ حُرًّا لَمْ يَبْلُغْ بِهِ أَرْبَعِينَ جَلْدَةً، وَإِنْ كَانَ عَبْدًا لَمْ يَبْلُغْ بِهِ عِشْرِينَ جَلْدَةً. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: أَكْثَرُهُ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ فِي الْحُرِّ وَالْعَبْدِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ الضَّرْبُ إلَى الْإِمَامِ يَضْرِبُهُ مَا يَرَى وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا تَجْلِدْ أَحَدًا فَوْقَ عَشْرِ جَلَدَاتٍ إلَّا فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى» وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى الْعَشَرَةِ بِحَالٍ إلَّا مَا دَلَّ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ الْحُدُودَ عُقُوبَةَ الْمَعَاصِي مُقَدَّرَةً فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعَاقِبَ عَلَى مَا دُونَ تِلْكَ الْمَعَاصِي عُقُوبَتَهَا بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يُنْقِصَ مِنْهَا، وَإِنْ رَأَى الْإِمَامَ أَوْ نَائِبَهُ تَرَكَ التَّعْزِيرَ جَازَ هَذَا. نَقْلُ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ آدَمِيٍّ أَوْ لَا يَتَعَلَّقُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَقِيلُوا ذَوِي الْهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ إلَّا فِي الْحُدُودِ» وَأَدْنَى دَرَجَاتِ الْأَمْرِ الْإِبَاحَةُ؛ لِأَنَّهُ ضَرْبٌ غَيْرُ مَحْدُودٍ فَلَمْ يَكُنْ وَاجِبًا كَضَرْبِ الزَّوْجَةِ. وَقَالَ فِي الْمُهَذَّبِ: لَيْسَ لَهُ تَرْكُهُ إذَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْآدَمِيِّ وَقَالَ الْغَزَالِيُّ إذَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ

الْآدَمِيِّ فَلَيْسَ لَهُ الْإِهْمَالُ مَعَ الطَّلَبِ لَكِنْ هَلْ يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى التَّوْبِيخِ بِاللِّسَانِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، وَعَلَى الْمُتَوَلِّي أَنْ يَسْتَوْفِيَ لَهُ حَقَّهُ مِنْ تَعْزِيرِ الشَّاتِمِ وَالضَّارِبِ، فَإِنْ عَفَى الْمَشْتُومُ أَوْ الْمَضْرُوبُ كَانَ وَلِيُّ الْأَمْرِ بَعْدَ عَفْوِهِمَا عَلَى خِيَارِهِ فِي فِعْلِ الْمَصْلَحَةِ وَتَعْزِيرِهِ تَقْوِيمًا؛ لِأَنَّ التَّقْوِيمَ مِنْ حُقُوقِ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ أَوْ الصَّفْحِ عَنْهُ عَفْوًا، فَإِنْ تَعَافَوْا عَنْ الشَّتْمِ وَالضَّرْبِ قَبْلَ التَّرَافُعِ إلَيْهِ سَقَطَ مِنْ التَّعْزِيرِ حَقُّ الْآدَمِيِّ، وَإِذَا عَزَّرَ الْإِمَامُ رَجُلًا فَمَاتَ وَجَبَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ وَقِيلَ لَا يَجِبُ وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - وَلَا مُخَالِفَ لَهُمَا وَلِأَنَّهُ ضَرْبٌ غَيْرُ مَحْدُودٍ فَكَانَ مَضْمُونًا كَضَرْبِ الزَّوْجِ زَوْجَتَهُ وَالْمُعَلِّمِ الصَّبِيَّ، وَإِنَّمَا ضَمِنَا التَّعْزِيرَ؛ لِأَنَّهُ تَأْدِيبٌ مَشْرُوطٌ فِيهِ السَّلَامَةُ فَإِذَا أَفْضَى فِيهِ إلَى التَّلَفِ تَبَيَّنَّا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَأْذُونًا فِيهِ فَوَجَبَ ضَمَانُهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إذَا رَأَى الْإِمَامُ أَنَّهُ لَا يُصْلِحُهُ إلَّا الضَّرْبُ لَزِمَهُ أَنْ يَضْرِبَهُ، وَإِنْ رَأَى أَنَّهُ يُصْلِحُهُ غَيْرُ الضَّرْبِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ فِي ذَلِكَ وَأَيَّ الْأَمْرَيْنِ فَعَلَ فَمَاتَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ. وَأَمَّا صِفَاتُ الضَّرْبِ فِي التَّعْزِيرِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِالْعَصَا وَبِالسَّوْطِ الَّذِي كُسِرَتْ ثَمَرَتُهُ، لَا تَجُوزُ أَنْ يُبَلِّغَ بِتَعْزِيرِهِ كَمَا تَقَدَّمَ إنْهَارَ الدَّمِ، وَضَرْبُ الْحَدِّ يَجُوزُ أَنْ يُفَرَّقَ فِي الْبَدَنِ كُلِّهِ بَعْدَ تَوَقِّي مَوَاضِعِ الْمَقَاتِلِ لِيَأْخُذَ كُلُّ عُضْوٍ نَصِيبَهُ مِنْ الْحَدِّ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْمَعَ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ مِنْ الْجَسَدِ وَاخْتُلِفَ فِي ضَرْبِ التَّعْزِيرِ فَأَجْرَاهُ جُمْهُورُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ مَجْرَى ضَرْبِ الْحَدِّ فِي التَّفْرِيقِ وَجَوَّزَ أَبُو عَبْدُ اللَّهِ الزُّبَيْرِيُّ جَمِيعَهُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ مِنْ الْجَسَدِ وَيَجُوزُ فِي مَكَانِ التَّعْزِيرِ أَنْ يُجَرَّدَ مِنْ

فصل التعزير في الأموال

ثِيَابِهِ إلَّا قَدْرُ مَا يَسْتُرُ عَوْرَتَهُ وَيُشْهَرُ فِي النَّاسِ وَيُنَادَى عَلَيْهِ بِذَنْبِهِ إذَا تَكَرَّرَ مِنْهُ، وَلَمْ يُقْلِعْ عَنْهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَحْلِقَ شَعْرَ رَأْسِهِ، وَلَا تُحْلَقُ لِحْيَتُهُ وَاخْتُلِفَ فِي جَوَازِ تَسْوِيدِ وَجْهِهِ فَجَوَّزَهُ الْأَكْثَرُونَ، أَمَّا رُكُوبُهُ الدَّابَّةَ مُسْتَدْبَرَةً فَنَقَلَ الْخَلَفُ عَنْ السَّلَفِ وَالْحُكَّامِ أَنَّهُمْ يَفْعَلُونَهُ وَيَجُوزُ أَنْ يُصَلَّبَ فِي التَّعْزِيرِ حَيًّا، وَلَا يُمْنَعُ مِنْ طَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ، وَلَا يُمْنَعُ مِنْ الْوُضُوءِ لِلصَّلَاةِ وَيُصَلِّي مُومِئًا وَيُعِيدُ إذَا أُرْسِلَ، وَلَا يُجَاوِزُ بِصَلْبِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ. [فَصَلِّ التَّعْزِير فِي الْأَمْوَال] (فَصْلٌ) وَأَمَّا التَّعْزِيرُ فِي الْأَمْوَالِ فَجَائِزٌ عِنْدَ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهُوَ قَوْلٌ قَدِيمٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِدَلِيلِ أَنَّهُ أُوجِبَ عَلَى مَنْ وَطِئَ زَوْجَتَهُ الْحَائِضَ فِي إقْبَالِ الدَّمِ دِينَارٌ، وَفِي إدْبَارِهِ نِصْفُ دِينَارٍ رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَفِي مَنْ غَلَّ الزَّكَاةَ تُؤْخَذُ مِنْهُ وَيُؤْخَذُ شَطْرُ مَالِهِ عُقُوبَةً لَهُ وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قَالَ «فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ مِنْ الْإِبِلِ السَّائِبَةِ بِنْتُ لَبُونٍ مَنْ أَعْطَاهَا مُرْتَجِزًا فَلَهُ أَجْرُهَا، وَمَنْ مَنَعَهَا فَأَنَا آخُذَهَا وَشَطْرَ مَالِهِ عَزْمَةً مِنْ عَزَمَاتِ رَبِّنَا لَيْسَ لِآلِ مُحَمَّدٍ فِيهَا شَيْءٌ» . وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ أَخَذَ سَلَبَ رَجُلٍ قَتَلَ صَيْدًا بِالْمَدِينَةِ وَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «مَنْ رَأَى رَجُلًا يَصْطَادُ بِالْمَدِينَةِ فَلَهُ سَلَبُهُ» وَالْمُرَادُ هَاهُنَا بِالسَّلَبِ الثِّيَابُ فَحَسْبُ وَهَذَا مَا أَوْرَدَهُ الْإِمَامُ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُمْ كَلَّمُوا سَعْدًا فِي هَذَا السَّلَبِ فَقَالَ مَا كُنْتُ أَرُدُّ طُعْمَةً أَطْعَمَنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ أَرَاقَ لَبَنًا مَغْشُوشًا. وَعَنْ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - أَنَّهُ أَحْرَقَ

فصل مراتب الحسبة

طَعَامًا مُحْتَكَرًا بِالنَّارِ، قَالَ الْغَزَالِيُّ لِلْوَالِي أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ إذَا رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِيهِ . وَأَقُولُ وَلَهُ أَنْ يَكْسِرَ الظُّرُوفَ الَّتِي فِيهَا الْخُمُورُ زَجْرًا، وَقَدْ فُعِلَ ذَلِكَ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَأْكِيدًا لِلزَّجْرِ، وَلَمْ يَثْبُتْ نَسْخُهُ وَلَكِنْ كَانَتْ الْحَاجَةُ إلَى الزَّجْرِ وَالْفِطَامِ شَدِيدَةً، وَإِذَا رَأَى الْوَالِي بِاجْتِهَادٍ مِثْلَ تِلْكَ الْحَاجَةِ جَازَ لَهُ مِثْلُ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ هَذَا مَنُوطًا بِنَوْعِ اجْتِهَادٍ رَقِيقٍ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لِآحَادِ الرَّعِيَّةِ، فَإِنْ قُلْتَ: هَلْ لِلسُّلْطَانِ زَجْرُ النَّاسِ عَنْ الْمَعَاصِي بِإِتْلَافِ أَمْوَالِهِمْ وَتَخْرِيبِ دُورِهِمْ الَّتِي فِيهَا يَشْرَبُونَ وَيَعْصُونَ وَإِحْرَاقِ أَمْوَالِهِمْ الَّتِي يَتَوَصَّلُونَ بِهَا إلَى الْمَعَاصِي؟ فَاعْلَمْ أَنَّ ذَلِكَ لِوُرُودِ الشَّرْعِ بِهِ لَمْ يَكُنْ خَارِجًا عَنْ سُنَنِ الْمَصَالِحِ وَلَكِنَّا لَا نَبْتَدِعُ الْمَصَالِحَ بَلْ نَتْبَعُ فِيهَا وَكَسْرُ ظُرُوفِ الْخَمْرِ قَدْ ثَبَتَ عِنْدَ شِدَّةِ الْحَاجَةِ لَا يَكُونُ نَسْخًا بَلْ الْحُكْمُ يَزُولُ بِزَوَالِ الْعِلَّةِ وَيَعُودُ بِعَوْدِهَا، فَإِنَّمَا جَوَّزْنَا ذَلِكَ لِلْإِمَامِ بِحُكْمِ الِاتِّبَاعِ وَمَنَعْنَا آحَادَ الرَّعِيَّةِ مِنْهُ لِخَفْيِ وَجْهِ الِاجْتِهَادِ فِيهِ بَلْ نَقُولُ لَوْ أُرِيقَتْ الْخُمُورُ أَوَّلًا فَلَا يَجُوزُ كَسْرِ الْأَوَانِي بَعْدَهَا، وَإِنَّمَا جَازَ كَسْرُ الْأَوَانِي تَبَعًا لِلْخَمْرِ فَإِذَا خَلَتْ عَنْهَا فَهُوَ إتْلَافُ مَالٍ إلَّا أَنْ تَكُونَ ضَارِبَةً بِالْخَمْرِ لَا تَصْلُحُ إلَّا لَهَا فَهَذِهِ تَصَرُّفَاتٌ فِقْهِيَّةٌ يَحْتَاجُ الْمُحْتَسِبُ لَا مَحَالَةً لِمَعْرِفَتِهَا. [فَصَلِّ مَرَاتِب الْحَسَبَة] (فَصْلٌ) وَاعْلَمْ أَنَّ مَرَاتِبَ الْحِسْبَةِ الْأَوَّلُ بِالنَّهْيِ، وَالثَّانِي بِالْوَعْظِ، وَالثَّالِثُ بِالرَّدْعِ وَالزَّجْرِ، أَمَّا الزَّجْرُ يَكُونُ عَنْ الْمُسْتَقْبِلِ وَالْعُقُوبَةُ تَكُونُ عَنْ الْمَاضِي وَالدَّفْعُ عَنْ الْحَاضِرِ الرَّاهِنِ، فَلَيْسَ إلَى آحَادِ الرَّعِيَّةِ إلَّا الدَّفْعُ وَهُوَ إعْدَامُ الْمُنْكِرِ فَمَا زَادَ عَلَى قَدْرِ إعْدَامِ الْمُنْكِرِ فَهُوَ إمَّا عُقُوبَةٌ عَلَى جَرِيمَةٍ سَابِقَةٍ أَوْ زَجْرٌ عَنْ لَاحِقٍ وَذَلِكَ رَاجِعٌ إلَى الْوُلَاةِ لَا إلَى الرَّعِيَّةِ، وَلَا

يَنْفَعُ وَعْظُ مَنْ لَا يَتَّعِظُ وَنَحْنُ نَقُولُ مَنْ عَلِمَ أَنَّ قَوْلَهُ لَا يُقْبَلُ فِي الْحِسْبَةِ لِعِلْمِ النَّاسِ بِفِسْقِهِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ الْحِسْبَةُ بِالْوَعْظِ إذْ لَا فَائِدَةَ فِي عِظَتِهِ فَمَنْ لَيْسَ بِصَالِحٍ فِي نَفْسِهِ كَيْف يُصْلِحُ غَيْرَهُ أَوْحَى اللَّهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - إلَى عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَا ابْنَ مَرْيَمَ عِظْ نَفْسَك، فَإِنْ اتَّعَظْتَ فَعِظْ النَّاسَ وَإِلَّا فَاسْتَحْيِ مِنِّي. الثَّانِيَةُ التَّخْوِيفُ بِاَللَّهِ وَالتَّهْدِيدُ بِالضَّرْبِ أَوْ مُبَاشَرَةِ الضَّرْبِ حَتَّى يَمْتَنِعَ عَمَّا هُوَ عَلَيْهِ كَالْمُوَاظِبِ عَلَى الْغِيبَةِ وَالْقَذْفِ. الثَّالِثَةُ السَّبُّ وَالتَّعْنِيفُ بِالْقَوْلِ الْخَشِنِ، وَلَا نَعْنِي بِالسَّبِّ الْفُحْشَ بِمَا فِيهِ نِسْبَةٌ إلَى الزِّنَا وَمُقَدِّمَاتِهِ، وَلَا الْكَذِبَ بَلْ أَنْ يُخَاطِبَهُ بِمَا فِيهِ مِمَّا لَا يُعَدُّ مِنْ جُمْلَةِ الْفُحْشِ كَقَوْلِهِ يَا فَاسِقُ يَا أَحْمَقُ يَا جَاهِلُ أَلَا تَخَافُ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - يَا سَيْءَ الْأَدَبِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ، فَإِنْ كَانَ فَاسِقًا فَهُوَ أَحْمَقُ، وَلَوْلَا حُمْقُهُ لَمَا عَصَى اللَّهَ - تَعَالَى - بَلْ كُلُّ مَنْ لَيْسَ بِكَيِّسٍ فَهُوَ أَحْمَقُ وَالْكَيِّسُ مَنْ شَهِدَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْكِيَاسَةِ حَيْثُ قَالَ: «الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْأَحْمَقُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ» ، وَلِهَذِهِ الرُّتْبَةِ أَدَبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يُقْدِمَ عَلَيْهِ إلَّا عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ الْمَنْعِ بِاللُّطْفِ وَظُهُورِ مَبَادِئِ الْإِضْرَارِ وَالِاسْتِهْزَاءِ بِالْوَعْظِ وَالنُّصْحِ. وَالثَّانِي: لَا يَنْطِقُ إلَّا بِالصِّدْقِ، وَلَا يَسْتَرْسِلُ فَيُطْلِقُ لِسَانَهُ الطَّوِيلَ بِمَا لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ بَلْ يَقْتَصِرُ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ، فَإِنْ عَلِمَ أَنَّ خِطَابَهُ بِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ الزَّاجِرَةِ لَيْسَتْ تَزْجُرُهُ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُطْلِقَهُ بَلْ يَقْتَصِرُ عَلَى إظْهَارِ الْغَضَبِ وَالِاسْتِحْقَارِ لَهُ وَالْإِزْرَاءِ لِمَحِلِّهِ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَوْ تَكَلَّمَ ضُرِبَ، وَلَوْ اكْفَهَرَّ وَأَظْهَرَ الْكَرَاهَةَ بِوَجْهِهِ لَمْ يُضْرَبْ

فصل شرط ما ينكره المحتسب

لَزِمَهُ، وَلَمْ يَكْفِهِ الْإِنْكَارُ بِالْقَلْبِ بَلْ يَلْزَمُهُ أَنْ يَغْضَبَ فِي وَجْهِهِ وَيُظْهِرَ الْإِنْكَارَ. [فَصَلِّ شَرْط مَا يُنْكِرهُ الْمُحْتَسَب] (فَصْلٌ) وَمِنْ شَرْطِ مَا يُنْكِرُهُ الْمُحْتَسِبُ أَنْ يَكُونَ مُنْكَرًا مَعْلُومًا بِغَيْرِ اجْتِهَادٍ فَكُلُّ مَا هُوَ فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ فَلَا حِسْبَةَ فِيهِ فَلَيْسَ لِلْحَنَفِيِّ أَنْ يُنْكِرَ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي أَكْلِ الضَّبِّ وَالضَّبُعِ وَمَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ، وَلَا لِلشَّافِعِيِّ أَنْ يُنْكِرَ عَلَى الْحَنَفِيِّ شُرْبَهُ النَّبِيذَ الَّذِي لَيْسَ بِمُسْكِرٍ وَتَنَاوُلَهُ مِيرَاثَ ذَوِي الْأَرْحَامِ وَجُلُوسَهُ فِي دَارٍ أَخَذَهَا بِشُفْعَةِ الْجُوَارِ نَعَمْ لِلشَّافِعِيِّ أَنْ يُنْكِرَ عَلَى الْحَنَفِيِّ شُرْبَ النَّبِيذِ وَاَلَّذِي يَنْكِحُ بِلَا وَلِيٍّ قُلْتُ نَعَمْ لَا يَتَعَرَّضُ عَلَى الْحَنَفِيِّ فِي النِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ، وَإِذَا أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَتَّخِذَ دَارِهِ مَدْبَغَةً أَوْ حَانُوتَ قَصَّارٍ أَوْ حَدَّادٍ عَلَى خِلَافِ الْعَادَةِ قَالَ الْمَرَاوِزَةُ. وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ إذَا أَحْكَمَ الْجُدْرَانَ وَاحْتَاطَ عَلَى الْعَادَةِ لَا يُمْنَعُ وَتَرَدَّدَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فِيمَا إذَا كَانَ يُؤَدَّى بِدُخَانِ الْخُبْزِ وَاِتَّخَذَهُ مَخْبِزًا عَلَى خِلَافِ الْعَادَةِ وَقِيلَ: إنَّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ فِي الْمَنْعِ. [فَصْل: وَيَمْنَعُ الْمُحْتَسِبُ مِنْ خَصْيِ الْآدَمِيِّ وَالْبَهَائِم] (فَصْلٌ) وَيَمْنَعُ الْمُحْتَسِبُ مِنْ خَصْيِ الْآدَمِيِّ وَالْبَهَائِمِ (وَ) يُؤَدِّبُ عَلَيْهِ، وَإِنْ اسْتَحَقَّ فِيهِ قَوَدًا أَوْ دِيَةً اسْتَوْفَاهُ لِمُسْتَحِقِّهِ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ تَخَاصُمٌ وَتَنَازُعٌ وَيُمْنَعُ مِنْ خِضَابِ الشَّيْبِ بِالسَّوَادِ إلَّا لِلْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ فِي اللِّحْيَةِ عَشْرَ خِصَالٍ مَكْرُوهَةٍ بَعْضُهَا أَشَدُّ مِنْ بَعْضٍ وَهُوَ خِضَابُهَا بِالسَّوَادِ وَتَبْيِيضُهَا بِالْكِبْرِيتِ وَتَنْقِيَتُهَا مِنْ الشَّيْبِ وَالنُّقْصَانُ مِنْهَا وَالزِّيَادَةُ وَتَسْرِيحُهَا تَصَنُّعًا لِأَجْلِ الرِّيَاءِ وَتَرْكُهَا شَعِثَةً وَالنَّظَرُ إلَى سَوَادِهَا عَجَبًا بِالشَّبَابِ وَإِلَى بَيَاضِهَا تَكَبُّرًا بِعُلُوِّ السِّنِّ وَخِضَابُهَا بِالْحُمْرَةِ وَالصُّفْرَةِ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ تَشَبُّهًا بِالصَّالِحِينَ، وَأَمَّا الْخِضَابُ بِالسَّوَادِ فَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خَيْرُ شَبَابِكُمْ مَنْ تَشَبَّهَ بِشُيُوخِكُمْ وَشَرُّ شُيُوخِكُمْ مَنْ تَشَبَّهَ بِشَبَابِكُمْ» وَالْمُرَادُ بِالتَّشَبُّهِ

بِالشُّيُوخِ فِي الْوَقَارِ لَا فِي تَبْيِيضِ الشَّعْرِ وَنَهَى عَنْ الْخِضَابِ بِالسَّوَادِ وَقَالَ هُوَ خِضَابُ أَهْلِ النَّارِ، وَفِي لَفْظٍ آخَرَ الْخِضَابُ بِالسَّوَادِ خِضَابُ الْكُفَّارِ وَتَزَوَّجَ رَجُلٌ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَكَانَ قَدْ خَضَّبَ بِالسَّوَادِ فَنَصَلَ خِضَابُهُ وَظَهَرَ شَيْبُهُ فَرَفَعَهُ أَهْلُ الْمَرْأَةِ إلَى عُمَرَ فَرَدَّ نِكَاحَهُ وَأَوْجَعَهُ ضَرْبًا وَقَالَ غَرَرْت الْقَوْمَ بِالشَّبَابِ وَلَبِسْتَ عَلَيْهِمْ شَيْبَك، وَيُقَالُ أَوَّلُ مَنْ خَضَّبَ بِالسَّوَادِ فِرْعَوْنُ لَعَنَهُ اللَّهُ، وَقَدْ «نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ نَتْفِ الشَّيْبِ وَقَالَ هُوَ نُورُ الْمُؤْمِنِينَ» وَرَدَّ عَمْرُو بْنُ أَبِي لَيْلَى شَهَادَةَ مَنْ كَانَ يَنْتِفُ الشَّيْبَ مِنْ لِحْيَتِهِ وَيُؤَدِّبُ مَنْ تَصَنَّعَ بِهِ لِلنِّسَاءِ، وَلَا يُمْنَعُ مِنْ الْخِضَابِ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ. وَأَمَّا مَا طَالَ مِنْ اللِّحْيَةِ، فَقَدْ اخْتَلَفُوا فِيمَا طَالَ مِنْهَا فَقِيلَ يَقْبِضُ الرَّجُلُ عَلَى لِحْيَتِهِ وَيَأْخُذُ مَا تَحْتَ الْقَبْضَةِ، وَلَا بَأْسَ بِهِ، فَقَدْ فَعَلَهُ ابْنُ عُمَرَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ التَّابِعِينَ وَاسْتَحْسَنَهُ ابْنُ سِيرِينَ وَالشَّعْبِيُّ وَكَرِهَهُ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَقَالُوا تَرْكُهُ أَحَبُّ إلَيْنَا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَعْفُوا اللِّحَى» وَالْأَمْرُ فِي هَذَا قَرِيبٌ إذَا لَمْ تَنْتَهِ إلَى تَنْقِيصِ اللِّحْيَةِ وَتَدْوِيرِهَا مِنْ الْجَوَانِبِ، فَإِنَّ الطُّولَ الْمُفْرِطَ قَدْ يُشَوِّهُ الْخِلْقَةَ وَيُطْلِقُ أَلْسِنَةَ الْمُغْتَابِينَ، وَلَا بَأْسَ بِالِاحْتِرَازِ عَنْهُ، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ عَجِبْتُ لِرَجُلٍ عَاقِلٍ طَوِيلِ اللِّحْيَةِ كَيْفَ لَا يَأْخُذُ مِنْ لِحْيَتِهِ فَجَعَلَهَا لِحْيَتَيْنِ، فَإِنَّ التَّوَسُّطَ فِي كُلِّ شَيْءٍ حَسَنٌ وَلِذَلِكَ قِيلَ كُلَّمَا طَالَتْ اللِّحْيَةُ تَكَوْسَجَ الْعَقْلُ. الثَّانِي: شَعْرُ الشَّارِبِ، وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «قُصُّوا الشَّارِبَ» ، وَفِي لَفْظٍ آخَرَ: «حُرُّوا الشَّارِبَ وَاعْفُوا اللِّحَى» ، وَلَا بَأْسَ بِتَرْكِ السَّالَّيْنِ وَهُمَا طَرَفَا الشَّارِبِ، فَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ عُمَرُ وَغَيْرُهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَسْتُرُ الْفَمَ، وَلَا يُبْقِي فِيهِ عُمْرُ الطَّعَامَ إذْ لَا يَصِلُ إلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: اُعْفُوَا اللِّحَى أَيْ كَثِّرُوهَا، وَفِي الْخَبَرِ أَنَّ الْيَهُودَ يَعْفُونَ شَوَارِبَهُمْ وَيَقُصُّونَ لِحَاهُمْ

فصل ويمنع المحتسب من التكسب بآلة اللهو

فَخَالِفُوهُمْ. وَأَمَّا شَعْرُ الرَّأْسِ فَلَا بَأْسَ بِحَلْقِهِ لِمَنْ أَرَادَ التَّنْظِيفَ، وَلَا بَأْسَ بِتَرْكِهِ لِمَنْ يَفْرِضُهُ وَيُرَجِّلُهُ إلَّا إذَا تَرَكَهُ قَزْحًا أَيْ قَطْعًا فَذَاكَ دَأْبُ أَهْلِ الشَّطَارَةِ، وَمَنْ أَرْسَلَ الذَّوَائِبَ عَلَى هَيْئَةِ أَهْلِ الشَّرَفِ حَيْثُ صَارَ ذَلِكَ شِعَارًا لَهُمْ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ شَرِيفًا كَانَ ذَلِكَ تَلْبِيسًا، وَيُسْتَحَبُّ. نَتْفَ الْإِبْطِ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا مَرَّةً وَذَلِكَ سَهْلٌ عَلَى مَنْ تَعَوَّدَهُ وَأَمَّا مَنْ تَعَوَّدَ الْحَلْقَ فَيَكْفِيه إذْ فِي النَّتْفِ تَعْذِيبٌ وَإِيلَامٌ وَالْمَقْصُودُ النَّظَافَةُ. الرَّابِعُ: شَعْرُ الْعَانَةِ وَيُسْتَحَبُّ إزَالَتُهُ بِالْحَلْقِ وَالنَّوْرَةِ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَأَخَّرَ عَنْ الْأَرْبَعِينَ يَوْمًا. الْخَامِسُ: قَصُّ الْأَظْفَارِ وَقَلْمُهَا مُسْتَحَبٌّ لِشَنَاعَةِ صُورَتِهَا إذَا طَالَتْ وَلِمَا يَجْتَمِعُ فِيهَا مِنْ الْوَسَخِ. السَّادِسُ: زِيَادَةُ السُّرَّةِ وَقُلْفَةِ الْحَشَفَةِ فَتُقْطَعُ مِنْ أَوَّلِ الْوِلَادَةِ وَأَمَّا التَّطْهِيرُ بِالْخِتَانِ فَعَادَةُ الْيَهُودِ فِعْلُهُ فِي السَّابِعِ مِنْ الْوِلَادَةِ وَمُخَالَفَتُهُمْ بِالتَّأْخِيرِ إلَى أَنْ يَشْتَدَّ الْوَلَدَ أَحَبُّ وَأَبْعَدُ عَنْ الْخَطَرِ. [فَصَلِّ وَيَمْنَع الْمُحْتَسَب مِنْ التَّكَسُّب بِآلَةِ اللَّهْو] (فَصْلٌ) وَيَمْنَعُ الْمُحْتَسِبُ مِنْ التَّكَسُّبِ بِآلَةِ اللَّهْوِ وَيُؤَدِّبُ عَلَيْهِ الْآخِذَ وَالْمُعْطِي وَيُنْهِي الْإِضْرَارَ وَأَهْلَ الْكُدْيَةِ الْمُقِيمِينَ عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الْأَسْوَاقِ وَالْكُدْيَةِ بِهِ، وَقَدْ نَهَتْ الشَّرِيعَةُ عَنْ ذَلِكَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

الباب الحادي والخمسون في القضاة والشهود

[الْبَاب الْحَادِي وَالْخَمْسُونَ فِي الْقُضَاة وَالشُّهُود] الْقَضَاءُ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ إبْرَامِ الْأَمْرِ وَالْفَرَاغِ مِنْهُ قَالَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -: {قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} [يوسف: 41] فَلَمَّا كَانَتْ الْقَضَاءُ أُمِرَ بِالْمَعْرُوفِ وَنُهِيَ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَطِبَاعُ النَّاسِ جُبِلَتْ عَلَى التَّنَازُعِ وَحُبِّ الْأَمْوَالِ وَالتَّنَافُسِ فَدَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى حَمْلِهِمْ إلَى الْحَقِّ بِالْيَدِ الْقَاطِعَةِ لِلنِّزَاعِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي أَمْرِ الْقَضَاءِ وَالْحُكْمِ كِتَابُ اللَّهِ وَسُنَّةُ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} [ص: 26] فَأَخْبَرَ - تَعَالَى - أَنَّ الْقَضَاءَ وَالْحُكْمَ بَيْنَ النَّاسِ مِنْ سُنَنِ الْأَنْبِيَاءِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة: 49] . وَقَالَ تَعَالَى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] . وَقَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور: 51] . وَقَدْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ تَرْغِيبٌ وَتَرْهِيبٌ فَمِنْ ذَلِكَ مَا رُوِيَ «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: لَا حَسَدَ إلَّا فِي اثْنَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيَعْمَلُ بِهَا» . وَعَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «هَلْ تَدْرُونَ مَنْ السَّابِقُونَ إلَى ظِلِّ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ الَّذِينَ إذَا حَكَمُوا لِلْمُسْلِمِينَ حَكَمُوا كَحُكْمِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ» ، وَعَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا جَلَسَ الْقَاضِي فِي مَجْلِسِهِ هَبَطَ عَلَيْهِ مَلَكَانِ

يُسَدِّدَانِهِ وَيُرْشِدَانِهِ وَيُوَفِّقَانِهِ فَإِذَا جَارَ عَرَجَا وَتَرَكَاهُ» . وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ وَلِيَ الْقَضَاءَ، فَقَدْ ذُبِحَ بِغَيْرِ سِكِّينٍ» ، وَقَالَ: «الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ قَاضٍ فِي الْجَنَّةِ وَاثْنَانِ فِي النَّارِ فَأَمَّا الَّذِي فِي الْجَنَّةِ فَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَقَضَى بِهِ وَأَمَّا اللَّذَانِ فِي النَّارِ فَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَجَارَ فِي الْحُكْمِ فَهُوَ فِي النَّارِ وَرَجُلٌ قَضَى فِي النَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِي النَّارِ» . وَعَنْ أَبِي بُرْدَةَ الْأَسْلَمِيُّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ قَاضِيَانِ فِي النَّارِ وَقَاضٍ فِي الْجَنَّةِ قَاضٍ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَيَعْلَمُ ذَلِكَ فِي النَّارِ وَقَاضٍ قَضَى وَهُوَ لَا يَعْلَمُ فَأَهْلَكَ حُقُوقَ النَّاسِ فَذَلِكَ فِي النَّارِ وَقَاضٍ قَضَى بِالْحَقِّ فَذَلِكَ فِي الْجَنَّةِ» . وَعَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «يُجَاءُ بِالْقَاضِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَلْقَى مِنْ شِدَّةِ الْحِسَابِ مَا يَوَدُّ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَضَى بَيْنَ اثْنَيْنِ فِي تَمْرَةٍ» . وَعَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ» وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ قَالَ لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ اقْضِ قَالَ عَلَى مَا اقْضِي قَالَ عَلَى أَنَّك إنْ اجْتَهَدْتَ فَأَصَبْتَ فَلَكَ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، وَإِنْ أَخْطَأْت فَلَكَ حَسَنَةٌ» . وَرَوَى أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اللَّهُ «مَعَ الْقَاسِمِ حِينَ يَقْسِمُ وَمَعَ الْقَاضِي حِينَ يَقْضِي» . وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ بَعْدَهُ، أَمَّا فِعْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَضَى بَيْنَ الْمُتَنَازِعِينَ فِي قَضَايَا لَا تُحْصَى كَثِيرَةٍ إلَى أَنْ قَبَضَهُ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - وَوَلَّى الْقَضَاءَ جَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِهِ: «فَبَعَثَ عَلِيًّا إلَى الْيَمَنِ قَاضِيًا وَقَالَ لَهُ إذَا حَضَرَ إلَيْكَ خَصْمَانِ فَلَا تَقْضِ شَيْئًا حَتَّى تَسْمَعَ كَلَامَ الْآخَرِ فَقَالَ عَلِيٌّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - فَمَا أَشْكَلَ عَلَيَّ قَضِيَّةٌ بَعْدَهَا» . وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «لَمَّا بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُعَاذًا إلَى الْيَمَنِ قَاضِيًا قَالَ لَهُ بِمَ تَقْضِي؟ قَالَ بِكِتَابِ اللَّهِ قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ قَالَ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ قَالَ أَجْتَهِدُ بِرَأْيِي فَقَالَ

رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ لِمَا يُرْضِي اللَّهَ:» وَوَلَّى عَتَّابُ بْنُ أَسِيدٍ الْقَضَاءَ بِمَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ وَبَعَثَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ إلَى الْبَحْرَيْنِ قَاضِيًا. وَبَعَثَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ قَاضِيًا إلَى الْبَصْرَةِ وَكَتَبَ إلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الْقَضَاءَ فَرِيضَةٌ مُحْتَكِمَةٌ وَسُنَّةٌ مُتَّبِعَةٌ الْفَهْمَ الْفَهْمَ إذَا أُدْلِيَ إلَيْكَ، فَإِنَّهُ لَا يَنْفَعُ حَقٌّ لَا يُقَادُ لَهُ، سَاوِ بَيْنَ النَّاسِ فِي وَجْهِكَ وَمَجْلِسِكَ وَعَدْلِكَ حَتَّى لَا يَطْمَعَ قَوِيٌّ فِي حَيْفِكَ، وَلَا يَيْأَسَ ضَعِيفٌ مِنْ عَدْلِكَ، الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ، وَالصُّلْحُ بَيْنَ النَّاسِ جَائِزٌ إلَّا صُلْحٌ حَرَّمَ حَلَالًا وَأَحَلَّ حَرَامًا، وَلَا يَمْنَعُكَ قَضَاءٌ قَضَيْته بِالْأَمْسِ فَرَاجَعْت فِيهِ نَفْسَكَ وَهُدِيتَ فِيهِ لِرُشْدِكَ أَنْ تَرْجِعَ إلَى الْحَقِّ، فَإِنَّ الْحَقَّ قَدِيمٌ وَالرُّجُوعَ إلَيْهِ خَيْرٌ مِنْ التَّمَادِي فِي الْبَاطِلِ الْفَهْمَ الْفَهْمَ فِيمَا يَخْتَلِجُ فِي صَدْرِكَ مِمَّا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ وَاعْرَفْ الْأَمْثَالَ وَالْأَشْبَاهَ وَقِسْ الْأُمُورَ بِرَأْيِكَ وَاعْمِدْ إلَى أَقْرَبِهَا إلَى اللَّهِ - سُبْحَانَهُ - وَأَشْبَهِهَا بِالْحَقِّ، وَاجْعَلْ لِمَنْ يَطْلُبُ حَقًّا غَائِبًا أَوْ شَاهِدًا أَمَدًا يَنْتَهِي إلَيْهِ، فَإِنْ أَحْضَرَ بَيِّنَةً أُخِذَ لَهُ بِحَقِّهِ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْهَا وُجِّهَتْ لِلْقَضَاءِ، فَإِنَّهُ أَجْلَى لِلْعَمَى وَأَبْلُغُ فِي الْعُذْرِ

وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إلَّا مَحْدُودٌ فِي قَذْفٍ أَوْ مُجْرَى عَلَيْهِ شَهَادَةُ الزُّورِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَوَلَّى السَّرَائِرَ وَدَرَأَ عَنْكُمْ الشُّبُهَاتِ. وَبَعَثَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ قَاضِيًا إلَى الْكُوفَةِ. وَبَعَثَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ قَاضِيًا إلَى الْبَصْرَةِ وَوَلَّى عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - شُرَيْحًا قَاضِيًا. وَالْقَضَاءُ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ إذَا قَامَ بِهِ بَعْضُ قَوْمٍ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ الْجِهَادِ، فَإِنْ تَرَكُوا الْقَضَاءَ أَثِمُوا الْجَمِيعُ. وَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ وَاخْتِلَافِ السَّلَفِ فَقِيهَ النَّفْسِ يَعْقِلُ وُجُوهَ الْقِيَاسِ إذَا وَرَدَ، عَالِمًا بِتَخْرِيجِ الْأَخْبَارِ إذَا اخْتَلَفَتْ وَتَرْجِيحِ أَقَاوِيلِ الْأَئِمَّةِ إذَا اشْتَبَهَتْ وَافِرَ الْعَقْلِ أَمِينًا مُتَثَبِّتًا حَلِيمًا ذَا فِطْنَةٍ وَتَيَقُّظٍ لَا يُؤْتَى مِنْ غَفْلَةٍ، وَلَا يُخْدَعُ بِغُرَّةٍ صَحِيحَ حَوَاسِّ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ عَارِفًا بِلُغَاتِ أَهْلِ قَضَائِهِ جَامِعًا لِلْعَفَافِ نَزِهًا بَعِيدَ الطَّمَعِ عَدْلًا رَشِيدًا صَدُوقَ اللَّهْجَةِ ذَا رَأْيٍ وَمَشُورَةٍ إذَا حَكَمَ فَصَلَ لَا تَأْخُذُهُ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ ذَا هَيْئَةٍ وَسَكِينَةٍ وَوَقَارٍ، وَلَوْ كَانَ مِنْ قُرَيْشٍ كَانَ أَوْلَى. يُحْكَى أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلَّى أَبَا الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيَّ الْقَضَاءَ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ثُمَّ عَزَلَهُ فَقَالَ لَهُ لِمَ عَزَلَتْنِي فَوَاَللَّهِ مَا خُنْتُ، وَلَا خَوَّنْت قَالَ بَلَغَنِي أَنَّ كَلَامَكَ يَعْلُو كَلَامَ الْخَصْمَيْنِ إذَا تَحَاكَمَا إلَيْك. قَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ

الْقَاضِي جَائِرًا عَسُوفًا، وَلَا ضَعِيفًا مَهِينًا. وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ شَدِيدًا مِنْ غَيْرِ عُنْفٍ لَيِّنًا مِنْ غَيْرِ ضَعْفٍ؛ لِأَنَّ الْجَبَّارَ يَهَابُهُ الْخَصْمَ فَلَا يُلْحِنُ بِحُجَّتِهِ، وَالضَّعِيفَ يَطْمَعُ فِيهِ الْخَصْمُ فَيُبْسِطُ لِسَانَهُ. وَعَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ بِكِتَابِ اللَّهِ فِيمَا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَنْسُوخٍ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنْ لَمْ تَكُنْ مَنْسُوخَةً. وَإِذَا تَكَمَّلَتْ شُرُوطُ الْقَضَاءِ فِي رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَنْ يَصْلُحُ لَهُ غَيْرُهُ فَالْقَضَاءُ عَلَيْهِ فَرْضُ عَيْنٍ وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْإِجَابَةُ إذَا دُعِيَ، وَإِنْ امْتَنَعَ أَجْبَرَهُ الْإِمَامُ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُ الْإِمَامُ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُعَرِّفهُ بِنَفْسِهِ حَتَّى يُوَلِّيَهُ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَقِيلَ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْإِجَابَةُ إذَا طَلَبَ، وَلَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ التَّعْرِيفُ بِنَفْسِهِ، وَلَا الطَّلَبُ، وَإِذَا كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لَكِنْ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ الْخِيَانَةَ وَالْمِيلَ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ وُجُوبُهُ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِجَابَةُ وَيَمْنَعُ نَفْسَهُ مِمَّا يَخَافُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَاتِ لَا تَسْقُطُ بِالِاسْتِشْعَارِ. وَأَمَّا إذَا كَانَ فِي الْبَلَدِ جَمَاعَةٌ يُكَامِلُ فِيهِمْ شُرُوطَ الْقَضَاءِ، فَإِنَّ الْأَوْلَى لِلْإِمَامِ تَقْلِيدُ أَفْضَلِهِمْ، فَإِنْ عَدَلَ عَنْهُ إلَى الْمَفْضُولِ وَقَلَّدَهُ صَحَّ تَقْلِيدُهُ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى كَمَالِ الشُّرُوطِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ، وَأَمَّا إذَا اجْتَمَعَ جَمَاعَةٌ يَصْلُحُونَ، وَفِيهِمْ طَالِبٌ، وَفِيهِمْ مُمْسِكٌ عَنْ الطَّلَبِ فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَلِّدَ الْإِمَامُ الْمُمْسِكَ دُونَ الطَّالِبِ؛ لِأَنَّهُ رَاغِبٌ فِي السَّلَامَةِ. وَرُوِيَ: «أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلِّنِي عَلَى الْعَمَلِ الْفُلَانِيِّ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّا لَا نُوَلِّي عَلَى عَمَلِنَا مَنْ أَرَادَهُ» ، فَلَوْ عَدَلَ الْإِمَامُ عَنْ الْمُمْتَنِعِ وَقَلَّدَ الطَّالِبَ صَحَّ تَقْلِيدُهُ بَعْدَ اعْتِبَارِ حَالِ الطَّالِبِ فِي طَلَبِهِ. وَلِلْقَاضِي شُرُوطٌ مُعْتَبَرَةٌ فِي صِحَّةِ وِلَايَتِهِ وَهِيَ الْبُلُوغُ وَالْعَقْلُ وَالْحُرِّيَّةُ

وَالذُّكُورَةُ وَالْإِسْلَامُ وَالْعَدَالَةُ وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَالْعِلْمُ فَلَا يَصِحُّ وِلَايَةُ صَبِيٍّ، وَلَوْ بَلَغَ دَرَجَةَ الِاجْتِهَادِ وَالْعِلْمِ، وَلَا يَصِحُّ وِلَايَةُ الْمَجْنُونِ فَلَوْ كَانَ مُتَوَلِّيًا وَطَرَأَ عَلَيْهِ الْجُنُونُ بَطَلَتْ وِلَايَتُهُ، وَلَوْ طَرَأَ عَلَيْهِ إغْمَاءٌ لَمْ يُؤْثِرْ فِي وِلَايَتِهِ؛ لِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنْ الْمَرَضِ، وَلَا يَصِحُّ وِلَايَةُ الْعَبْدِ، وَلَا مَنْ لَمْ تَكْمُلْ الْحُرِّيَّةُ فِيهِ، وَلَا يَصِحُّ تَقْلِيدُ الْمَرْأَةِ، وَلَا الْخُنْثَى خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَا يَصِحُّ وِلَايَةُ الْكَافِرِ الْقَضَاءَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَلَا عَلَى أَهْلِ دِينِهِ وَجَوَّزَ أَبُو حَنِيفَةَ تَقْلِيدَهُ عَلَى أَهْلِ دِينِهِ، وَأَنْفَذَ أَحْكَامَهُ. وَلَا يَصِحُّ وِلَايَةُ الْفَاسِقِ، وَالْعَدَالَةُ مُعْتَبَرَةٌ فِي جَمِيعِ الْوِلَايَاتِ وَالْحَاكِمُ يَجِبُ اتِّبَاعُ قَوْلِهِ وَامْتِثَالُ حُكْمِهِ وَالْفَاسِقُ مَأْمُورٌ بِالتَّوَقُّفِ فِي قَوْلِهِ فَلِهَذَا لَا يَصِحُّ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] وَقُرِئَ فَتَثَبَّتُوا، وَلَا يَصِحُّ وِلَايَةُ الْأَعْمَى وَطَرَآنُ الْعَمَى يُبْطِلُ، وَلَا اعْتِبَارَ بِضَعْفِ الْعَيْنِ إذَا حَقَّقَ الْأَشْخَاصَ مِنْ قُرْبٍ، وَلَا بِالْعَشَا الْمَانِعِ مِنْ الرُّؤْيَةِ بِاللَّيْلِ، وَلَا بِالْعَوَرِ، وَلَا يَصِحُّ وِلَايَةُ الْأَصَمِّ وَطَرَآنُ الصَّمَمِ بَعْدَ الْوِلَايَةِ مُبْطِلٌ لَهَا وَثِقَلُ السَّمْعِ لَا يُبْطِلُ ذَلِكَ إذَا سَمِعَ الْعَالِيَ مِنْ الْأَصْوَاتِ وَمَتَى لَمْ يَسْمَعْ مُنِعَ، وَلَا يَصِحُّ وِلَايَةُ الْأَخْرَسِ، وَلَا تَقْلِيدُهُ وَطَرَآنُهُ أَيْضًا يُبْطِلُ الْوِلَايَةَ وَجَوَّزَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ شُرَيْحٍ وِلَايَتَهُ، وَلَا يَصِحُّ وِلَايَةُ الْعَامِّيِّ وَقَوْلٌ ضَعِيفٌ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ بِجَوَازِ ذَلِكَ إذَا كَانَ يُرَاجِعُ أَهْلَ الْعِلْمِ وَيَحْكُمُ بِمَا يَقُولُونَ، وَفِي تَوْلِيَةِ الْأُمِّيِّ الَّذِي لَا يُحْسِنُ الْكِتَابَةَ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا الْجَوَازُ إذْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُمِّيًّا. وَأَمَّا الِاجْتِهَادُ فَمِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ الْجَلِيِّ، أَمَّا الْكِتَابُ فَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى

الْأَحْكَامِ وَهِيَ خَمْسُ مِائَةِ آيَةٍ، وَقَدْ يُمْكِنُ الْمُجْتَهِدَ أَنْ يَسْتَنْبِطَ أَحْكَامًا أُخَرَ مِنْ آيَاتٍ سِوَى هَذِهِ الْآيَاتِ وَاَللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ، وَلَا يُشْتَرَطُ عَلَيْهِ حِفْظُهَا بَلْ يَكْفِيه مَعْرِفَتُهَا إذَا رَجَعَ إلَيْهَا عِنْدَ الِاحْتِيَاجِ إلَيْهَا، وَأَمَّا السُّنَّةُ فَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى الْأَحْكَامِ وَهِيَ إنْ كَانَتْ مَذْكُورَةً مَحْصُورَةً مُدَوَّنَةً فَلَا يُشْتَرَطُ عَلَيْهِ حِفْظُهَا أَيْضًا بَلْ يُشْتَرَطُ عَلَيْهِ مَعْرِفَتُهَا وَهِيَ كَسُنَنِ أَبِي دَاوُد وَسُنَنِ الْبَيْهَقِيّ وَغَيْرِهِمَا مِنْ كُتُبِ الْأَحْكَامِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَعْلَمَ مَا انْعَقَدَ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ حَتَّى لَا يَحْكُمَ بِخِلَافِ ذَلِكَ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَعْلَمَ الْقِيَاسَ وَهُوَ الْأَصْلُ الرَّابِعُ مِنْ أُصُولِ الْأَحْكَامِ، هَذِهِ جَمِيعُهُ فِي حَقِّ الْمُجْتَهِدِ. ثُمَّ هَذِهِ الشُّرُوطُ أَطْلَقَهَا أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ، وَقَدْ خَلَى الْعَصْرُ عَنْ الْمُجْتَهِدِ الْمُسْتَقِلِّ، قَالَ الْإِمَامُ الْغَزَالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الصَّحِيحُ صِحَّةُ وِلَايَةِ مَنْ وَلَّاهُ السُّلْطَانُ الْقَاهِرُ لِئَلَّا يَتَعَطَّلَ مَصَالِحُ الْمُسْلِمِينَ لَكِنَّهُ يَعْصَى بِتَفْوِيضِ الْوِلَايَةِ إلَى الْفَاسِقِ وَالْجَاهِلِ، وَلَوْ وَلَّاهُ لَا بُدَّ مِنْ تَنْفِيذِ أَحْكَامِهِ لِلضَّرُورَةِ. وَالْوِلَايَةُ تَنْعَقِدُ بِلَفْظٍ صَرِيحٍ وَبِكِنَايَةٍ أَمَّا الصَّرِيحُ فَأَرْبَعَةُ أَلْفَاظٍ قَلَّدْتُكَ الْقَضَاءَ أَوْ وَلَّيْتُك أَوْ اسْتَخْلَفْتُك أَوْ اسْتَنَبْتُك، وَأَمَّا الْكِنَايَةُ فَأَرْبَعَةُ أَلْفَاظٍ وَهِيَ اعْتَمَدْتُ عَلَيْكَ فِي الْقَضَاءِ أَوْ عَوَّلْتُ عَلَيْكَ أَوْ عَهِدْتُ إلَيْكَ أَوْ وَكَّلْتُ إلَيْك. وَلَوْ تَحَاكَمَ رَجُلَانِ إلَى رَجُلٍ فِي مَالَ وَحَكَّمَاهُ بَيْنَهُمَا فَفِيهِ خِلَافٌ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجُوزُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمَدِينَةِ قَاضٍ وَأَمَّا إذَا كَانَ فِي الْمَدِينَةِ حَاكِمٌ فَلَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عَزْلٌ لِلْحَاكِمِ وَافْتِيَاتٌ عَلَى الْإِمَامِ، قَالَ الْغَزَالِيُّ إذَا جَوَّزْنَا ذَلِكَ فَيَكُونُ عَلَى صِفَةٍ يَجُوزُ لِلْقَاضِي تَوْلِيَتُهُ ثُمَّ

لَا يَنْفُذُ إلَّا عَلَى مَنْ رَضِيَ بَعْدَ الْحُكْمِ، وَمَنْ ذَهَبَ لِلْجَوَازِ قَالَ إلَّا فِي النِّكَاحِ وَاللِّعَانِ وَالْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ أَمْرُهَا خَطَرٌ فَاخْتَصَّتْ بِالْحَاكِمِ الْمُقَلَّدِ مِنْ الْإِمَامِ. قَالَ وَيَنْبَغِي أَنْ يَجْلِسَ لِلْحُكْمِ فِي مَوْضِعٍ وَاسِعٍ فِي وَسَطِ الْبَلَدِ يَعْرِفُهُ النَّاسُ وَيَقْصِدُونَهُ، وَلَا يَكُونُ فِي الْجَامِعِ، وَلَا فِي الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا دَخَلَ عَلَيْهِ الرَّجُلُ الْجُنُبُ وَالْمَرْأَةُ الْحَائِضُ أَوْ الذِّمِّيُّ أَوْ الصَّبِيُّ أَوْ الْحَافِي، وَمَنْ لَا يَحْتَرِزُ مِنْ النَّجَاسَاتِ فَيُؤْذُونَ الْمَسْجِدَ وَيُوَسِّخُونَ الْحُصْرَ، وَقَدْ تَرْتَفِعُ الْأَصْوَاتُ وَيَكْثُرُ اللَّغَطُ فِيهِ عِنْدَ ازْدِحَامِ النَّاسِ وَمُنَازَعَاتِهِمْ لِلْخُصُومِ وَكُلُّ ذَلِكَ وَرَدَ الشَّرْعُ بِالنَّهْيِ عَنْهُ، وَقَدْ ذَكَرَ الْإِمَامُ أَبُو الْقَاسِمِ الصَّيْمَرِيُّ أَنَّ الْخَلِيفَةَ الْمُسْتَظْهِرَ بِأَمْرِ اللَّهِ وَلَّى رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ الْحِسْبَةَ فَنَزَلَ إلَى الْجَامِعِ جَامِعِ الْمَنْصُورِ فَوَجَدَ قَاضِيَ الْقُضَاةِ يَحْكُمُ بَيْنَ النَّاسِ فِيهِ فَقَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج: 41] . وَقَدْ مَكَّنَ اللَّهُ خَلِيفَتَهُ الْمُسْتَظْهِرَ بِاَللَّهِ فِي أَرْضِهِ وَبَسَطَ يَدَهُ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَقَدْ جَعَلَنِي اللَّهَ وَإِيَّاكَ نَائِبَيْنِ عَنْهُ فِي ذَلِكَ قَائِمَيْنِ فِي رَعِيَّتِهِ بِحُدُودِ اللَّهِ " وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ " وَنَحْنُ أَوْلَى مَنْ يَعْمَلُ بِحُدُودِ اللَّهِ وَلُزُومِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَاجْتِنَابِ مَا نَهَى عَنْهُ لِتَقْتَدِيَ بِنَا الْعَامَّةُ وَنَحْنُ مِلْحُ الْبَلَدِ نُصْلِحُ مَا يَفْسُدُ مِنْ أَحْوَالِ الْعَامَّةِ فَإِذَا فَسَدَ الْمِلْحُ مَنْ يُصْلِحُهُ؟ وَمَجْلِسُكَ هَذَا لَا يَصْلُحُ فِي الْجَامِعِ أَمَا سَمِعْت قَوْلَ اللَّهِ - تَعَالَى -: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} [النور: 36] {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} [النور: 37] وَلَيْسَ

فِي هَذَا الَّذِي أَنْتَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّهُ لَيَدْخُلَ إلَيْك الْمَرْأَةُ لِتَحْتَكِمَ مَعَ بَعْلِهَا وَمَعَهَا الطِّفْلُ فَيَبُولُ عَلَى الْحُصْرِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَمْشِي عَلَى النَّجَاسَاتِ وَالْقَذِرِ وَيَدُوسُ الْحُصْرَ بِنَعْلِهِ، وَإِنَّ الْأَصْوَاتَ لَتَرْتَفِعَ بِاللَّغَطِ وَكُلُّ ذَلِكَ وَرَدَ الشَّرْعُ بِتَنْزِيهِ الْمَسَاجِدِ عَنْهُ، قَالَ فَنَهَضَ الْقَاضِي مِنْ وَقْتِهِ، وَلَمْ يَعُدْ بَعْدَهَا يَجْلِسُ فِي الْجَامِعِ لِلْقَضَاءِ. وَكَذَلِكَ أَيْضًا إذَا كَانَ فِي الْقُضَاةِ مَنْ يَحْتَجِبُ عَنْ الْخُصُومِ إذَا قَصَدُوهُ وَيَمْنَعُ النَّظَرَ بَيْنَهُمْ إذَا تَحَاكَمُوا إلَيْهِ حَتَّى تَقِفَ الْأَحْكَامُ وَتَتَصَرَّخَ الْخُصُومُ فَلِلْمُحْتَسِبِ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ مَعَ ارْتِفَاعِ الْأَعْذَارِ، وَلَا يَمْنَعُهُ عُلُوُّ مَرْتَبَتِهِ مِنْ أَنْ يُنْكِرَ عَلَيْهِ، فَقَدْ مَرَّ إبْرَاهِيمُ بْنُ الْبَطْحَاءِ مُتَوَلِّي الْحِسْبَةِ بِجَانِبَيْ بَغْدَادَ بِبَابِ أَبِي عَمْرِو بْنِ حَمَّادٍ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ قَاضِي الْقُضَاةِ فَرَأَى الْخُصُومَ جُلُوسًا عَلَى بَابِهِ يَنْتَظِرُونَ جُلُوسَهُ لِلنَّظَرِ بَيْنَهُمْ، وَقَدْ طَلَعَ النَّهَارُ وَهَجَرَتْ الشَّمْسُ فَوَقَفَ وَاسْتَدْعَى حَاجِبَهُ وَقَالَ تَقُولُ لِقَاضِي الْقُضَاةِ الْخُصُومُ جُلُوسٌ بِالْبَابِ وَبَلَغَتْهُمْ الشَّمْسُ وَتَأَذَّوْا بِالِانْتِظَارِ فَإِمَّا أَنْ تَجْلِسَ لَهُمْ أَوْ تُعَرِّفَهُمْ عُذْرَكَ لِيَنْصَرِفُوا وَيَعُودُوا. وَمَتَى رَأَى الْمُحْتَسِبُ رَجُلًا يَسْفُهُ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ أَوْ يَطْعَنُ عَلَى الْحَاكِمِ فِي حُكْمِهِ أَوْ لَا يَنْقَادُ إلَى حُكْمِهِ عَزَّرَهُ عَلَى ذَلِكَ وَأَمَّا إذَا رَأَى الْقَاضِيَ قَدْ اسْتَشَاطَ عَلَى رَجُلٍ غَيْظًا وَيَشْتُمُهُ أَوْ يَحْقِدُ عَلَيْهِ فِي كَلَامِهِ وَدَّعَهُ عَنْ ذَلِكَ وَوَعَظَهُ وَخَوَّفَهُ بِاَللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، فَإِنَّ الْقَاضِيَ لَا يَحْكُمُ وَهُوَ غَضْبَانُ، وَلَا يَقُولُ هَجْرًا، وَلَا يَكُونُ فَظًّا غَلِيظًا، وَغِلْمَانُهُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَعْوَانُهُ إنْ كَانَ فِيهِمْ شَابٌّ حَسَنُ الصُّورَةِ لَا يَبْعَثُهُ الْقَاضِي لِإِحْضَارِ النِّسْوَانِ. وَأَمَّا الْوُكَلَاءُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ فَلَا خَيْرَ فِيهِمْ، وَلَا مَصْلَحَةَ لِلنَّاسِ بِهِمْ

فصل في الشهود وما يتعلق بهم

فِي هَذَا الزَّمَانِ، فَإِنَّ أَكْثَرَهُمْ رَقِيقُ الدِّينِ يَأْخُذُ مِنْ الْخَصْمَيْنِ شَيْئًا ثُمَّ يَتَمَسَّكُونَ فِيهِ بِسَبَبِ الشَّرْعِ فَيُوقِفُونَ الْقَضِيَّةَ فَيَضِيعُ الْحَقُّ وَيَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْ طَالِبِهِ وَصَاحِبِهِ فَإِذَا حَضَرَ الْخَصْمَانِ، فَإِنَّ الْحَقَّ يَظْهَرُ سَرِيعًا مِنْ كَلَامِهِمَا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمَا وَكِيلٌ فَكَانَ تَرْكُ الْوُكَلَاءِ فِي هَذَا الزَّمَانِ أَوْلَى مِنْ نَصْبِهِمْ إلَّا أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ امْرَأَةٌ لَمْ تَكُنْ مِنْ ذَوَاتِ الْبُرُوزِ فَتُوَكِّلُ، أَوْ صَبِيٌّ فَحِينَئِذٍ يُنَصِّبُ الْحَاكِمُ عَنْهُ وَكِيلًا. [فَصَلِّ فِي الشُّهُود وَمَا يَتَعَلَّق بِهِمْ] الْعَدَالَةُ فِي اللُّغَةِ مَأْخُوذَةٌ مِنْ الِاسْتِقَامَةِ وَالْعَدْلُ مَأْخُوذٌ مِنْ الِاعْتِدَالِ وَسُمِّيَ الْعَدْلُ عَدْلًا لِاسْتِوَاءِ أَفْعَالِهِ حَتَّى لَا يَكُونَ فِيهَا مَيْلٌ عَنْ الصَّوَابِ، وَقَدْ نَطَقَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ بِفَضْلِهَا فِي مَوَاضِعَ وَجَاءَتْ الْأَخْبَارُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَنْ الصَّحَابَةِ، وَقَدْ جَعَلَهَا اللَّهُ أَعْلَى مَنَازِلِ الرِّيَاسَةِ وَرَفَعَهَا وَنَسَبَهَا إلَى نَفْسِهِ وَشَرَّفَ بِهَا مَلَائِكَتَهُ وَأَجَلَّ خَلْقِهِ فَقَالَ تَعَالَى: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [النساء: 166] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ} [آل عمران: 98] . وَقَالَ تَعَالَى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} [النساء: 41] فَجَعَلَ كُلَّ نَبِيٍّ شَهِيدًا عَلَى أُمَّتِهِ لِكَوْنِهِ أَفْضَلَ خَلْقِهِ فِي عَصْرِهِ فَجَعَلَ ذَلِكَ أَفْضَلَ مَنْزِلَةً وَأَعْلَى رُتْبَةً وَكَفَى بِالشَّهَادَةِ شَرَفًا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَفَضَ الْفَاسِقَ عَنْ قَبُولِ شَهَادَتِهِ وَرَفَعَ الْعَدْلَ بِقَبُولِهَا. وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] فَأَخْبَرَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَنَّ الْعَدْلَ هُوَ الْمَرْضِيُّ فَقَالَ: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ} [البقرة: 251] يَعْنِي هُوَ مَا يَدْفَعُ اللَّهُ عَنْ النَّاسِ بِالشُّهُودِ فِي حِفْظِ الْأَمْوَالِ وَالدِّمَاءِ وَالْأَعْرَاضِ فَهُمْ حُجَّةُ الْأَنَامِ وَبِقَوْلِهِمْ تَنْفُذُ الْأَحْكَامُ، وَفِي الْحَدِيثِ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَكْرِمُوا الشُّهُودَ

فَإِنَّ اللَّهَ يَسْتَخْرِجُ بِهِمْ الْحُقُوقَ وَيَدْفَعُ بِهِمْ الظُّلْمَ» . وَسَمَّاهُمْ الْبَيِّنَةَ لِوُقُوعِ صِحَّةِ الْبَيَانِ بِقَوْلِهِمْ وَارْتِفَاعِ الْإِشْكَالِ بِشَهَادَتِهِمْ وَذَلِكَ غَايَةُ التَّزْكِيَةِ، وَإِنَّهَا أَصْلٌ فِي كُلِّ فَضِيلَةٍ فَالْإِمَامُ لَا تَثْبُتُ وِلَايَتُهُ، وَلَا تَلْزَمُ طَاعَتُهُ مَا لَمْ يَكُنْ عَدْلًا وَالْقَاضِي لَا تَنْفُذُ أَحْكَامُهُ مَا لَمْ يَكُنْ عَدْلًا وَالْمُفْتِي لَا تَلْزَمُ فَتَاوِيه مَا لَمْ يَكُنْ عَدْلًا، فَالْخَلِيفَةُ وَالسُّلْطَانُ وَالْقَاضِي عَامِلٌ بِقَوْلِهِمْ وَمُعَوِّلٌ عَلَى خَبَرِهِمْ وَبِقَوْلِ اثْنَيْنِ مِنْهُمْ تُقْتَلُ النُّفُوسُ وَتَحِلُّ الْفُرُوجُ وَيُزَالُ الضَّلَالُ وَتَنْتَقِلُ الْأَمْوَالُ وَتُوجَبُ الْحُدُودُ، وَلَا يَسَعُهُمْ مُخَالَفَتُهُمْ فَيَجِبُ عَلَى الْعَاقِلِ الْمُتَصَدِّي لِهَذِهِ الرُّتْبَةِ أَنْ يَعْمَلَ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ مَعْرِفَةِ أَحْكَامِ الشَّهَادَةِ وَتَحَمُّلِهَا وَآدَابِهَا وَهِيَ أَفْضَلُ حَالَاتِ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ، وَأَنْ يَسْتَعِينَ بِاَللَّهِ عَلَى أَدَاءِ حَقِّهَا وَالْقِيَامِ بِهَا وَيَسْتَعِيذُ مِمَّنْ يَبْتَغِيهَا وَلَيْسَ هُوَ مِنْ أَهْلِهَا طَلَبًا لِلرِّيَاسَةِ لَهَا بَعْدَ ذِلَّةٍ وَالْإِكْثَارِ بَعْدَ قِلَّةٍ فَلَا يُنَازَعُ إذَا قَالَ، وَلَا يُعَارَضُ بِحَالٍ، أَوْ طَلَبًا لِلتَّشَفِّي مِمَّنْ عَادَاهُ وَالرِّفْعَةِ عَلَى مَنْ سَاوَاهُ وَالتَّكَبُّرِ وَالْمُبَاهَاةِ فَمَنْ كَانَ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ، فَقَدْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنْ اللَّهِ وَلَزِمَهُ مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ تَصَنَّعَ الْعَدَالَةَ لِيَشْهَدَ بَيْنَ يَدَيْ الْحُكَّامِ أَلْجَمَهُ اللَّهُ لِجَامًا مِنْ نَارٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ» فَالْوَيْلُ لِمَنْ دَخَلَ تَحْتَ هَذَا الْوَعِيدِ وَلَعَمْرِي لَقَدْ تَحَمَّلَ أَمْرًا شَدِيدًا؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا شَهِدَ فِيمَا لَا يَنْبَغِي بِجَهْلٍ فَهَلَكَ وَأَهْلَكَ، وَإِنْ شَهِدَ بِالزُّورِ فَالْوَيْلُ لَهُ مِنْ الثُّبُورِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ كُنْتُ عِنْدَ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ فَشَهِدَ عِنْدَهُ

رَجُلَانِ عَلَى رَجُلٍ فَقَالَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ وَاَلَّذِي قَامَتْ بِأَمْرِهِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ لَقَدْ كَذَبَا عَلَيَّ وَمَا فَعَلَا ذَلِكَ إلَّا غَيْظًا فَاسْتَوَى مُحَارِبُ بْنُ دِثَارٍ جَالِسًا وَكَانَ مُتَّكِئًا. وَقَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «إنَّ الطَّيْرَ تَخْفِقُ بِأَجْنِحَتِهَا وَتَرْمِي مَا فِي حَوَاصِلِهَا لَا تَفْزَعُ إلَّا لِهَوْلِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّ شَاهِدَ الزُّورِ لَا تَنْفَكُّ قَدَمَاهُ حَتَّى يَتَبَوَّأَ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» ، فَإِنْ كُنْتُمَا صَدَقْتُمَا فَأَثْبِتَا، وَإِنْ كَذَبْتُمَا فَغَطِّيَا رُءُوسَكُمَا وَاخْرُجَا، قَالَ: فَقَامَا وَغَطَّيَا رُءُوسَهُمَا وَخَرَجَا. وَالْعَدْلُ فِي الشَّرِيعَةِ هُوَ أَنْ يَجْتَمِعَ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْصَافٍ: الِاسْتِقَامَةُ فِي الدِّينِ وَالِاسْتِقَامَةُ فِي الْأَحْكَامِ وَالِاسْتِقَامَةُ فِي الْمُرُوَّةِ، وَجَمِيعُ ذَلِكَ يَشْتَمِلُ عَلَى سَبْعَةِ أَقْسَامٍ بِوُجُودِهَا تُطْلَقُ عَلَيْهِ الْعَدَالَةُ وَيَسْتَحِقُّ قَبُولَ الشَّهَادَةِ: أَحَدُهَا الْحُرِّيَّةُ وَالثَّانِي الْعَقْلُ وَالثَّالِثُ الْإِسْلَامُ وَالرَّابِعُ الْبُلُوغُ وَالْخَامِسُ الصَّلَاحُ فِي الدِّينِ وَالسَّادِسُ الْمُرُوَّةُ وَالسَّابِعُ التَّيَقُّظُ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ مُغَفَّلٍ، وَلَا مَنْ يُعْرَفُ بِكَثْرَةِ الْغَلَطِ وَالسَّهْوِ فَرُبَّ عَدْلٍ مُغَفَّلٍ كَثِيرِ الْغَلَطِ وَالسَّهْوِ لَا يَنْظُرُ لِحَقَائِق الْأَشْيَاءِ وَيَكْثُرُ سَبْقُهُ إلَى الِاعْتِقَادِ بِالتَّوَهُّمِ فَمِثْلُ هَذَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ إلَّا فِي أَمْرٍ جَلِيٍّ يَسْتَقْصِي الْقَاضِي فِيهِ وَيُكْثِرُ فِيهِ مُرَاجَعَتَهُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ صِحَّتُهُ وَسَقَمُهُ. وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ صَبِيٍّ وَقَبِلَ مَالِكٌ شَهَادَةَ الصِّبْيَانِ فِي الْقَتْلِ وَالْجِرَاحِ إذَا كَانُوا ذُكُورًا يَعْقِلُونَ الشَّهَادَةَ وَمَحْكُومًا بِإِسْلَامِهِمْ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ رَقِيقٍ، وَلَا مَنْ فِيهِ جُزْءٌ مِنْ الرِّقِّ وَقَبِلَهَا أَحْمَدُ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ كَافِرٍ وَقَبِلَ أَبُو حَنِيفَةَ شَهَادَةَ الْكُفَّارِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمَجْنُونِ، وَلَا الْفَاسِقِ، وَإِنْ كَانَ صَادِقًا فِي قَوْلِهِ وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى قَبُولِ شَهَادَتِهِ

مسألة قبول شهادة سماع العود والجنك والطنبور والمزمار

إذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّ الْحَاكِمِ صِدْقُهُ وَقِيلَ: إنَّ الضَّابِطَ فِي قَبُولِ الشَّهَادَةِ أَلَا يَرْتَكِبَ كَبِيرَةً، وَلَا يُوَاظِبَ عَلَى صَغِيرَةٍ، وَاخْتَلَفُوا فِي حَدِّ الْكَبِيرَةِ وَالصَّغِيرَةِ فَقَالَ قَوْمٌ الْكَبِيرَةُ كُلُّ مَا وَرَدَ فِيهِ حَدٌّ أَوْ وَعِيدٌ بِنَصِّ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَأَمَّا مَنْ ارْتَكَبَ شَيْئًا مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ كَالْقَتْلِ وَالزِّنَاءِ وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَتَرْكِ شَيْءٍ مِنْ الْفَرَائِضِ كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ الْوَاجِبِ عَمْدًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَيُحْكَمُ بِفِسْقِهِ وَتُرَدُّ شَهَادَتُهُ، قَالَ صَاحِبُ الْإِبَانَةِ إنْ تَرَكَ صَلَاةً وَاحِدَةً لَا لِأَمْرٍ فَيُحْكَمُ بِفِسْقِهِ وَتُرَدُّ شَهَادَتُهُ، وَلَوْ تَرَكَهَا لِأَمْرٍ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا فَفِيهِ خِلَافٌ. [مَسْأَلَة قَبُول شَهَادَة سَمَاع الْعُود وَالْجُنْك وَالطُّنْبُور وَالْمِزْمَار] وَأَمَّا سَمَاعُ الْعُودِ وَالْجُنْكِ وَالطُّنْبُورِ وَالْمِزْمَارِ وَمَا يُضْرَبُ بِطَرَبٍ، فَقَدْ ارْتَكَبَ أَمْرًا مُحَرَّمًا. وَأَمَّا سَمَاعُ الدُّفِّ، وَإِنْ خَلَا عَنْ الْحِلِّ فَمُبَاحٌ وَالطُّبُولُ كُلُّهَا فِي مَعْنَى الدُّفِّ إلَّا الْكُوبَةَ وَهِيَ طَبْلٌ طَوِيلٌ ضَيِّقُ الْوَسَطِ وَاسِعُ الطَّرَفَيْنِ وَيُعْرَفُ بِطَبْلِ السُّودَانِ، وَأَمَّا سَمَاعُ الشَّبَّابَةِ فَهِيَ مَكْرُوهَةٌ وَأَمَّا سَمَاعُ الْغِنَاءِ فَمُخْتَلَفٌ فِيهِ أَمَّا أَهْلُ الْحِجَازِ فَأَبَاحُوهُ وَنُقِلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ كَرَاهِيَتُهُ، وَلَمْ يُبِيحُوهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَلَمْ يُحَرِّمُوهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَتَوَسَّطُوا فِيهِ الْكَرَاهَةُ. وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَبَاحَهُ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَّهُ مَرَّ عَلَى جَارِيَةٍ لِحَسَّانِ بْنِ ثَابِتٍ وَهِيَ تُغْنِي هَلْ عَلَيَّ وَيْحَكُمَا إنْ لَهَوْتُ مِنْ حَرَجٍ فَقَالَ: - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَا حَرَجَ إنْ شَاءَ اللَّهُ» . وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ الْغِنَاءُ زَادُ الْمُشْتَاقِ، وَكَانَ إذَا خَلَا فِي دَارِهِ يَتَرَنَّمُ. وَكَانَ لِعُثْمَانَ جَارِيَتَانِ تُغَنِّيَانِ فِي اللَّيْلِ فَإِذَا جَاءَ وَقْتُ الِاسْتِغْفَارِ قَالَ لَهُمَا اُسْكُتَا، وَهَذَا جَمِيعُهُ بِشَرْطٍ أَلَّا يَقَعَ الْإِكْثَارُ مِنْهُ وَالِانْقِطَاعُ إلَيْهِ وَاسْتَدَلَّ مَنْ حَرَّمَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [لقمان: 6]

مسألة قبول شهادة سماع الحداة ونشيد العرب

قِيلَ هُوَ الْغِنَاءُ وَقِيلَ هُوَ شِرَاءُ الْمُغَنِّيَاتِ. وَأَمَّا الْمُسْتَمِعُ لِذَلِكَ فَإِذَا صَارَ ذَلِكَ دَأْبَهُ وَاشْتُهِرَ بِهِ وَسَمِعَهُ فِي الْأَسْوَاقِ وَالطُّرُقَاتِ فَهُوَ مَرْدُودُ الشَّهَادَةِ وَأَمَّا إذَا سَمِعَهُ فِي خَلْوَةٍ اسْتِرْوَاحًا بِذَلِكَ فَهُوَ عَلَى عَدَالَتِهِ وَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَأَمَّا مَنْ اشْتَرَى جَوَارِيَ يُغْنِينَ لَهُ فَلَا بَأْسَ بِهِ إذَا لَمْ يُكْثِرْ مِنْ ذَلِكَ، وَلَمْ يَتَجَاهَرْ بِهِ وَأَمَّا إذَا اتَّخَذَهُنَّ لِلِاكْتِسَابِ وَيَدْعُوهُنَّ النَّاسُ إلَى دُورِهِمْ فَهَذَا مَرْدُودُ الشَّهَادَةِ وَهَذَا مِنْ الصَّغَائِرِ دُونَ الْكَبَائِرِ. [مَسْأَلَة قَبُول شَهَادَة سَمَاع الْحُدَاة وَنَشِيد الْعَرَب] وَأَمَّا سَمَاعُ الْحُدَاةِ وَنَشِيدِ الْعَرَبِ فَلَا بَأْسَ بِهِ وَأَمَّا قَوْلُ الشِّعْرِ وَإِنْشَادُهُ، فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الشِّعْرُ كَلَامٌ حَسَنُهُ حَسَنٌ وَقَبِيحُهُ قَبِيحٌ وَالْمَحْذُورُ مِنْهُ مَا كَانَ كَذِبًا أَوْ يَضْمَنُ فُحْشًا أَوْ قَذْفًا وَأَمَّا مُنْشِدُهُ، فَإِنْ أَنْشَدَهُ إنْكَارًا عَلَى قَائِلِهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَإِنْ أَنْشَدَهُ اسْتِحْسَانًا لَهُ وَطَلَبًا لِلْحِفْظِ كَانَ جُرْحًا فِي حَقِّهِ وَمَعَ هَذَا فَكُلُّ مَا لَا يَحْرُمُ قَوْلُهُ لَا يَحْرُمُ سَمَاعُهُ، وَالسَّمَاعُ وَالرَّقْصُ لَيْسَ بِحَرَامٍ فِي نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا الْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهِ خَارِقَةٌ لِلْمُرُوءَةِ. وَلُبْسُ الْحَرِيرِ وَالْجُلُوسُ عَلَيْهِ وَلُبْسُ الذَّهَبِ وَاسْتِعْمَالُهُ حَرَامٌ وَلَكِنَّهُ مِنْ الصَّغَائِرِ وَبَالَغَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ حَتَّى قَالَ لَوْ كَانَ شُهُودُ النِّكَاحِ حَالَةَ الْعَقْدِ جُلُوسًا عَلَى الْحَرِيرِ لَمْ يَنْعَقِدْ النِّكَاحُ. وَأَمَّا اللَّعِبُ بِالنَّرْدِ فَمِنْ الْكَبَائِرِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ حَرَامٌ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدِ فَكَأَنَّمَا غَمَسَ يَدَهُ فِي دَمِ خِنْزِيرٍ» وَحَرَّمَ مَالِكٌ اللَّعِبَ بِهِ وَفَسَّقَ اللَّاعِبَ بِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ أَكْرَهُ اللَّعِبَ بِالنَّرْدِ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ صَرِيحُ التَّحْرِيمِ وَلَكِنْ نَقُولُ لَا يُمْكِنُ الِاسْتِدْلَال بِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ إنَّهُ يَكْرَهُ، فَإِنَّ كَثِيرًا مَا يُطْلِقُ الشَّافِعِيُّ الْكَرَاهَةَ وَيُرِيدُ بِهَا التَّحْرِيمَ. وَأَمَّا اللَّعِبُ بِالشِّطْرَنْجِ فَمَذْهَبُ مَالِكٍ إلَى الْقَوْلِ بِتَحْرِيمِهَا

مسألة اتخاذ الحمام للأصوات والاستئناس والاستفراخ

قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إنَّهَا مَكْرُوهَةٌ كَرَاهِيَةَ تَغْلِيظٍ وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا لَيْسَتْ مُحَرَّمَةً، وَالشِّطْرَنْجُ فَإِنَّهَا تَحْتَاجُ إلَى الْفِكْرِ وَالتَّرَوِّي وَالتَّدْبِيرِ وَالذَّكَاءِ وَإِدْرَاكِ أَنْوَاعِ اللَّعِبِ وَالصَّبْرِ فِي كُلِّ يَوْمِ لَعِبٍ وَهُوَ أَيْضًا مُشَبَّهٌ بِأَحْوَالِ الْحَرْبِ وَمَعْرِفَةِ حِيَلِ الْحَرْبِ، فَإِنَّ الشَّاهَ يُشَبَّهُ بِالسُّلْطَانِ والْفَرْزَانُ الْوَزِيرُ الْمُشَاوِرُ فَتَارَةً يُلَازِمُهُ وَتَارَةً يَتَفَرَّدُ عَنْهُ بِالْمَصْلَحَةِ وَالْفَرَسُ وَالْفِيلُ ظَاهِرٌ أَنَّهُمَا مُشَبَّهَانِ بِآلَةِ الْحَرْبِ مُلَازِمَانِ قُرْبَ السُّلْطَانِ وَالْبَيَاذِقُ تُشَبَّهُ بِالرَّجَّالَةِ بَيْنَ يَدَيْ الشَّاهِ وَالْفِرْزَانِ، وَالرُّخُّ مِثْلُ تُرْسِ السُّلْطَانِ فِي الطَّرَفَيْنِ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ كَانَ فِي صِفَةِ لَقْطِهِ، وَلَا يَتَمَكَّنُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَأْخُذَ لِلسُّلْطَانِ بَلْ شَأْنُهُ مُحَاصَرَتُهُ فَقَطْ؟ وَفِيهِ تَفْصِيلٌ وَصِنَاعَاتٌ لَا يَحْتَمِلُ هَذَا الْمُخْتَصَرِ ذِكْرِهَا، وَقَدْ لَعِب بِهَا أَيْضًا جَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٌ كَانَا يَلْعَبَانِ بِهَا اسْتِدْبَارًا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّ عَدَالَتَهُ وَجُرْحَهُ يُعْتَبَرُ بِصِفَةِ لَعِبِهِ، فَإِنْ خَرَجَ عَلَيْهَا إلَى خَلَاعَةٍ بِأَنْ قَامَرَ عَلَيْهَا أَوْ لَعِبَ فِي الْأَسْوَاقِ أَوْ تَشَاغَلَ بِهَا عَنْ الصَّلَاةِ الْوَاجِبَةِ خَرَجَ عَنْ الْعَدَالَةِ. [مَسْأَلَة اتِّخَاذ الْحِمَام لِلْأَصْوَاتِ وَالِاسْتِئْنَاس وَالِاسْتِفْرَاخ] وَأَمَّا اتِّخَاذُ الْحَمَامِ لِلْأَصْوَاتِ وَالِاسْتِئْنَاسِ وَالِاسْتِفْرَاخِ فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَمَنْ جَعَلَ نَفْسَهُ مَسْخَرَةً يُضْحَكُ بِهِ فِي كَلَامِهِ أَوْ لِبَاسِهِ كَالْفَقِيهِ إذَا لَبِسَ الْقَبَاءَ أَوْ الكلوتة فِي بِلَادٍ لَا يَعْتَادُ أَهْلُهَا لُبْسَ ذَلِكَ كَانَ تَارِكًا

مسألة قبول شهادة أصحاب الصنائع الرذلة كالحجامة والحياكة ونحوهما

لِلْمُرُوءَةِ وَكَذَلِكَ مَنْ يَكْشِفُ رَأْسَهُ وَيَمُدُّ رِجْلَيْهِ بَيْنَ النَّاسِ فِي مَكَان لَا يَعْتَادُ أَمْثَالُهُ ذَلِكَ كَانَ تَارِكًا لِلْمُرُوءَةِ أَيْضًا، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَأْكُلَ فِي الطَّرِيقِ وَالْأَسْوَاقِ وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَهُ وَلَا يَبُولَ عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ الْمَسْلُوكَةِ وَلَا يَحْمِلَ مَتَاعَهُ بُخْلًا بِأُجْرَةِ حَمَّالٍ يَحْمِلُهُ لَهُ. [مَسْأَلَة قَبُول شَهَادَة أَصْحَاب الصَّنَائِع الرَّذِلَةِ كَالْحَجَّامَةِ وَالْحِيَاكَة وَنَحْوهمَا] وَأَمَّا الصَّنَائِعُ الرَّذِلَةُ كَالْحَجَّامَةِ وَالْحِيَاكَةِ وَالْحِرَاسَةِ وَالْقِيَامِ فِي الْحَمَّامِ وَالزَّبَّالِينَ وَالْقَصَّابِينَ وَالسَّمَّاكِينَ وَالْمُبَاشِرِينَ لِلنَّجَاسَاتِ بِأَثْوَابِهِمْ وَأَبْدَانِهِمْ إذَا حَسُنَتْ طَرِيقَتُهُمْ وَأَزَالُوا مَا عَلَيْهِمْ مِنْ النَّجَاسَاتِ وَأَتَوْا بِمَا يَلْزَمُهُمْ مِنْ الطَّاعَاتِ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: لَا تُقْبَلُ لِأَنَّ اخْتِيَارَهُمْ لِهَذِهِ الصِّنَاعَةِ مَعَ أَنَّ النَّاسَ يَسْتَرْذِلُونَهَا دَلِيلٌ عَلَى دِرَّتِهِ عُقُولِهِمْ. وَالثَّانِي: تُقْبَلُ لِأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَى ذَلِكَ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ مَا اُسْتُرْذِلَ لِأَجْلِ الدِّينِ يُقْدَحُ وَمَا اُسْتُرْذِلَ لِأَجْلِ الدُّنْيَا كَالْحِيَاكَةِ لَمْ يُقْدَحْ وَقَالَ قَوْمٌ إنْ كَانَتْ صِنَاعَةُ آبَائِهِمْ وَقَدْ نَشَئُوا عَلَيْهَا مِنْ الصِّغَرِ لَا تُقْدَحُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَإِنَّمَا هُمْ اخْتَارُوهَا لِأَنْفُسِهِمْ كَانَ ذَلِكَ قَادِحًا وَيَجِبُ عَلَى الشَّاهِدِ أَنْ يَتَوَقَّى فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ مَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ لِيَنْقَطِعَ عَنْهُ أَلْسِنَةُ الْعَامَّةِ وَيَزُولَ عَنْهُ الظِّنَّةُ وَتَنْتَفِي عَنْهُ التُّهْمَةُ وَأَنْ يُنَظِّفَ مَطْعَمَهُ وَيُجَمِّلَ مَلْبَسَهُ وَيَحْفَظَ لَفْظَهُ وَيُظْهِرَ بِشْرَهُ مَعَ إخْوَانِهِ وَجِيرَانِهِ كَمَا قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنْ شُكْرِهِ إخْوَانَهُ وَجِيرَانَهُ وَخُلَطَاؤُهُ فَهُوَ جَائِزٌ الشَّهَادَةِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَتَجَنَّبَ السَّفَلَةَ وَمَنْ هُوَ مَشْهُورٌ بِبِدْعَةٍ وَيَتَوَقَّى إسْقَاطَ الْمُرُوَّةِ جَهْرَةً وَأَنْ لَا يَكُونَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ مِنَّةٌ وَفِي هَذَا كِفَايَةٌ.

الباب الثاني والخمسون في الأمراء والولاة وما يتعلق بهم من أمور العباد

[الْبَاب الثَّانِي وَالْخَمْسُونَ فِي الْأُمَرَاء وَالْوُلَاة وَمَا يَتَعَلَّق بِهِمْ مِنْ أُمُور الْعِبَاد] يَنْبَغِي لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَقْصِدَ مَجَالِسَ الْأُمَرَاءِ وَالْوُلَاةِ وَيَأْمُرَهُمْ بِالشَّفَقَةِ عَلَى الرَّعِيَّةِ وَالْإِحْسَانِ إلَيْهِمْ وَيَذْكُرَ لَهُمْ مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَا مِنْ أَمِيرٍ يَلِي أَمْرَ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يَجْهَدُ لَهُمْ وَيَنْصَحُ إلَّا لَمْ يَدْخُلْ الْجَنَّةَ» وَفِي رِوَايَةٍ «لَمْ يَجِدْ رِيحَ الْجَنَّةِ» . وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا مِنْ أَمِيرٍ يُؤَمَّرُ عَلَى عَشْرَةٍ إلَّا وَهُوَ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَغْلُولَةً يَدُهُ إلَى عُنُقِهِ حَتَّى يَكُونَ عَمَلُهُ هُوَ الَّذِي يُطْلِقُهُ أَوْ يُوثِقُهُ» وَفِي الْحَدِيثِ «لَا تَسْأَلْ الْإِمْرَةَ فَإِنَّك إنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْت إلَيْهَا وَإِنْ أُعْطِيتهَا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْت عَلَيْهَا» . وَفِي الْحَدِيثِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ إنِّي أُحِبُّ لَك مَا أُحِبُّ لِنَفْسِي لَا تَتَأَمَّرْنَ عَلَى اثْنَيْنِ وَلَا تَتَوَلَّيَنَّ مَالَ يَتِيمٍ» . وَيُرْوَى «أَنَّ الْعَبَّاسَ عَمَّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمِّرْنِي إمَارَةً قَالَ يَا عَمِّ نَفْسٌ تُحْيِيهَا خَيْرٌ مِنْ إمَارَةٍ لَا تُحْصِيهَا» لِأَنَّ الْإِمَارَةَ حَسْرَةٌ وَنَدَامَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَإِنْ اسْتَطَعْت أَنْ لَا تَكُونَ أَمِيرًا فَافْعَلْ، وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَخْرُجُ كُلَّ لَيْلَةٍ يَطُوفُ مَعَ الْعَسَسِ حَتَّى يَرَى خَلَلًا يَتَدَارَكُهُ وَكَانَ يَقُولُ لَوْ ضَاعَتْ شَاةٌ بِالْقُرَاةِ لَخَشِيت أَنْ أُسْأَلَ عَنْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَانْظُرْ أَيُّهَا الْأَمِيرُ الْمُتَوَلِّي أُمُورَ الْمُسْلِمِينَ إلَى عُمَرَ مَعَ احْتِيَاطِهِ وَعَدْلِهِ وَمَا وَصَلَ أَحَدٌ إلَى قِرَاءَتِهِ وَصَلَاتِهِ كَيْفَ يَتَفَكَّرُ وَيَتَخَوَّفُ مِنْ أَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ.

حُكِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ قَالُوا كُنَّا نَدْعُو اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُرِينَا عُمَرُ فِي الْمَنَامِ فَرَأَيْته فِي النَّوْمِ بَعْدَ اثْنَيْ عَشْرَ سَنَةَ كَأَنَّهُ قَدْ اغْتَسَلَ وَأَنَّهُ مُتَلَفِّعٌ بِإِزَارٍ فَقُلْت يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ كَيْفَ وَجَدْت رَبَّك وَبِأَيِّ حَسَنَاتِك جَازَاك قَالَ عَبْدُ اللَّهِ كَمْ لِي مُنْذُ فَارَقْتُكُمْ فَقُلْت اثْنَا عَشَرَ سَنَةً قَالَ مُنْذُ فَارَقْتُكُمْ كُنْت فِي الْحِسَابِ وَخِفْت أَنْ أَهْلَكَ إلَّا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ جَوَادٌ كَرِيمٌ. فَهَذِهِ حَالُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْ دُنْيَاهُ شَيْءٌ مِنْ أَسْبَابِ الْوِلَايَةِ سِوَى دِرَّتِهِ، وَلَمَّا مَاتَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ أَدْخَلَهُ فِي قَبْرِهِ وَلَدُهُ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَارْتَكَضَ وَاضْطَرَبَ عَلَى أَيْدِيهِمَا فَقَالَ وَلَدُهُ عَاشَ وَاَللَّهِ أَبِي فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بَلْ وَاَللَّهِ عُوجِلَ أَبُوك. وَقَالَ مَكْحُولٌ الدِّمَشْقِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُنَادِي مُنَادٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَيْنَ الظَّلَمَةُ وَأَعْوَانُهُمْ فَلَا يَبْقَى أَحَدٌ مَدَّ لَهُمْ دَوَاةً أَوْ بَرَى لَهُمْ قَلَمًا فَمَا فَوْقَ ذَلِكَ إلَّا حَضَرُوا فَيُجْمَعُونَ فِي تَابُوتٍ مِنْ نَارٍ فَيُلْقَوْنَ فِي جَهَنَّمَ وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «لَا يَقِفُ أَحَدُكُمْ مَوْقِفًا يُضْرَبُ فِيهِ رَجُلٌ مَظْلُومٌ فَإِنَّ اللَّعْنَةَ تَنْزِلُ عَلَى مَنْ حَضَرَ حَيْثُ لَمْ يَدْفَعْ عَنْهُ» . وَرُوِيَ أَنَّهُ مَاتَ رَجُلٌ مِنْ الْحَوَارِيِّينَ فَوَجَدَ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ وَجْدًا شَدِيدًا وَسَأَلُوا عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُحْيِيَهُ لَهُمْ فَوَقَفَ عَلَى قَبْرِهِ وَدَعَا اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَأَحْيَاهُ لَهُمْ وَإِذَا بِرِجْلَيْهِ نَعْلَانِ مِنْ نَارٍ فَسَأَلَهُ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ وَاَللَّهِ مَا عَصَيْت بِهِمَا قَطُّ غَيْرَ أَنِّي مَرَرْت بِمَظْلُومٍ فَلَمْ أَنْصُرْهُ. وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «يُؤْتَى بِالْوُلَاةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْتُمْ كُنْتُمْ رُعَاةَ خَلِيقَتِي وَخَزَنَةَ مُلْكِي فِي أَرْضِي ثُمَّ يَقُولُ لِأَحَدِهِمْ لِمَ ضَرَبْت عِبَادِي فَوْقَ الْحَدِّ

الَّذِي أَمَرْت بِهِ فَيَقُولُ يَا رَبِّ لِأَنَّهُمْ عَصَوْك وَخَالَفُوك فَيَقُولُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَسْبِقَ غَضَبُك غَضَبِي ثُمَّ يَقُولُ لِأَحَدِهِمْ لِمَ عَاقَبْت عِبَادِي أَقَلَّ مِنْ الْحَدِّ الَّذِي أَمَرْت بِهِ فَيَقُولُ يَا رَبِّ إنِّي رَحِمْتهمْ فَيَقُولُ تَعَالَى كَيْفَ تَكُونُ أَرْحَمَ مِنِّي خُذُوا الَّذِي زَادَ وَاَلَّذِي نَقَصَ فَاحْشُوا بِهِمَا زَوَايَا جَهَنَّمَ» . فَيَجِبُ عَلَيْك يَا أَيُّهَا الْمُتَوَلِّي لِأُمُورِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ تَحْتَرِزَ عَلَى نَفْسِك مِنْ مِثْلِ هَذَا وَأَنْ تَقِفَ عِنْدَ أَوَامِرِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ الظُّلْمَ مِنْ الْوُلَاةِ عَظِيمٌ لِأَنَّهُمْ يُجْرُونَ الْبَاطِلَ مَجْرَى الْحَقِّ وَيُخْرِجُونَ الْجَوْرَ مَخْرَجَ الْعَدْلِ وَيَقُولُونَ إنَّنَا عَلَى الْحَقِّ وَهُمْ أَمَاتُوهُ قَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ رَأَيْت بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ بِالْخَلِيجِ سَمَكًا كَثِيرًا مُطْلَقًا لِلْعَامَّةِ فَاحْتَجَرَ عَلَيْهِ الْوَالِي وَمَنَعَ النَّاسَ مِنْهُ فَذَهَبَ مِنْ الْخَلِيجِ السَّمَكُ إلَّا الْوَاحِدَةُ بَعْدَ الْوَاحِدَةِ. وَخَطَرُ الْوِلَايَةِ عَظِيمٌ وَخَطْبُهَا جَسِيمٌ وَلَا يَسْلَمُ الْوَالِي إلَّا بِمُخَالَطَةِ الْعُلَمَاءِ وَالصُّلَحَاءِ وَفُضَلَاءِ الدِّينِ لِيُعَلِّمُوهُ طَرِيقَ الْعَدْلِ وَيُسَهِّلُوا عَلَيْهِ خَطَرَ هَذَا الْأَمْرِ وَمِنْ أَعْظَمِ خِصَالِ الْوَالِي وَأَحْمَدِهَا تَوَقُّعًا فِي نُفُوسِ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ إنْصَافُهُ مِنْ خَاصَّتِهِ وَحَاشِيَتِهِ وَأَعْوَانِهِ وَتَفَقُّدُهُمْ فِي كُلِّ سَاعَةٍ وَيَمْنَعُهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا مِنْ الْغُرَمَاءِ فَوْقَ مَا يَسْتَحِقُّونَهُ، وَفِي هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ كِفَايَةٌ وَلْيَكُنْ فِي وَعْظِهِ وَقَوْلِهِ فِي رَدْعِهِمْ عَنْ الظُّلْمِ لَطِيفًا ظَرِيفًا لَيِّنَ الْقَوْلِ بَشُوشًا غَيْرَ جَبَّارٍ وَلَا عَبُوسٍ. قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159] وَقَدْ تَقَدَّمَتْ الْحِكَايَةُ عَنْ الْمَأْمُونِ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ وَلِيَ مِنْ أُمُورِ أُمَّتِي شَيْئًا وَرَفَقَ بِهِمْ فَارْفُقْ بِهِ وَمَنْ شَقَّ عَلَيْهِمْ فَاشْقُقْ عَلَيْهِ» فَقَدْ سَبَقَتْ دَعْوَتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي ذَلِكَ كِفَايَةٌ لِمَنْ يَتَدَبَّرُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

الباب الثالث والخمسون فيما يجب على المحتسب فعله

[الْبَاب الثَّالِث وَالْخَمْسُونَ فِيمَا يُجِبْ عَلَى الْمُحْتَسَب فَعَلَهُ] يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُلَازِمًا لِلْأَسْوَاقِ يَرْكَبُ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَيَدُورُ عَلَى السُّوقَةِ وَالْبَاعَةِ وَيَكْشِفُ الدَّكَاكِينَ وَالطُّرُقَاتِ وَيَتَفَقَّدُ الْمَوَازِينَ وَالْأَرْطَالَ وَيَتَفَقَّدُ مَعَائِشَهُمْ وَأَطْعِمَتَهُمْ وَمَا يَغُشُّونَهُ وَيَفْعَلَ ذَلِكَ فِي النَّهَارِ وَاللَّيْلِ فِي أَوْقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ وَذَلِكَ عَلَى غَفْلَةٍ مِنْهُمْ وَيَخْتِمَ فِي اللَّيْلِ حَوَانِيتَ مَنْ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْكَشْفِ عَلَيْهِ بِالنَّهَارِ وَلْيَكْشِفْهُ بَاكِرَ النَّهَارِ. وَإِذَا أَرَادَ الْمُحْتَسِبُ أَنْ يَكْشِفَ فَلْيَكُنْ مَعَهُ أَمِينٌ عَارِفٌ ثِقَةٌ يُعْتَمَدُ عَلَى قَوْلِهِ وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا يَعْتَمِدُ فِي الْكَشْفِ إلَّا عَلَى مَا يَظْهَرُ لَهُ وَيُبَاشِرُهُ بِنَفْسِهِ وَلَا يُهْمِلُ كَشْفَ الْأَسْوَاقِ فَقَدْ ذَكَرَ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ عِيسَى الْوَزِيرَ وَقَعَ إلَى مُحْتَسِبٍ كَانَ فِي وَقْتِ وِزَارَتِهِ يُكْثِرُ الْجُلُوسَ فِي دَارِهِ بِبَغْدَادِ الْحِسْبَةُ لَا تَحْتَمِلُ الْحَجَبَةَ فَطُفْ الْأَسْوَاقَ تَحِلَّ لَك الْأَرْزَاقُ وَاَللَّهِ إنْ لَزِمْت دَارَك نَهَارًا لَأَضْرِمَنَّهَا عَلَيْك نَارًا وَالسَّلَامُ. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَحْكُمَ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ وَيُخَوِّفُ بِمَا لَا يَسُوغُ لَهُ شَرْعًا وَيُهَدِّدُ الْجَانِي بِهِ وَيُظْهِرُ لِلنَّاسِ فِعْلَهُ وَفِي ذَلِكَ نَفْعٌ كَبِيرٌ عَامٌّ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ مَا أَخْبَرَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ عَنْ شُعَيْبٍ عَنْ ابْنِ أَبِي الزِّيَادِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجِ

فصل ينبغي للمحتسب أن يتخذ رسلا وأعوانا بين يديه بقدر الحاجة دائما

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «كَانَتْ امْرَأَتَانِ مَعَهُمَا ابْنَاهُمَا فَجَاءَ الذِّئْبُ فَذَهَبَ بِابْنِ إحْدَاهُمَا فَقَالَتْ صَاحِبَتُهَا إنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِك وَقَالَتْ الْأُخْرَى إنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِك فَتَحَاكَمَا إلَى دَاوُد فَأَخْبَرَتَاهُ فَقَضَى بِهِ لِلْكُبْرَى وَخَرَجَتَا عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُد فَأَخْبَرَتَاهُ فَقَالَ ائْتُونِي بِسِكِّينٍ أَشُقُّهُ بَيْنَهُمَا وَقَالَتْ الصُّغْرَى لَا تَفْعَلْ يَرْحَمُك اللَّهُ هُوَ ابْنُهَا فَقَضَى بِهِ لِلصُّغْرَى» . قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَاَللَّهِ إنْ سَمِعْت بِالسِّكِّينِ إلَّا يَوْمَئِذٍ وَمَا كُنَّا نَقُولُ إلَّا الْمُدْيَةَ، قَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ الْفِقْهِ جَوَازُ الْحُكْمِ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ لِلْمُتَوَلِّي إذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ الصِّحَّةُ فِيمَا طَلَبَهُ الْمُدَّعِي مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ لِأَنَّ سُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَرَادَ أَنْ يَعْرِفَ أُمَّ الصَّغِيرِ فَأَمَرَ بِطَلَبِ السِّكِّينِ وَأَظْهَرَ لَهُمَا شَقَّهُ وَتَحَقَّقَ أَنَّ الْوَالِدَةَ فِي الْحَقِيقَةِ لَا يَطِيبُ خَاطِرُهَا بِفِعْلِ ذَلِكَ وَلَا يَسَعُهَا السُّكُوتُ عَنْهُ فَقَالَتْ الصُّغْرَى لَا تَفْعَلْ يَرْحَمُك اللَّهُ هُوَ ابْنُهَا لِأَنَّهَا اخْتَارَتْ أَنْ تَأْخُذَهُ الْكُبْرَى وَلَا يُشَقُّ لِحُنُوِّهَا فَعَلِمَ سُلَيْمَانُ أَنَّهُ وَلَدُهَا فَقَضَى بِهِ لَهَا وَفِيهِ مِنْ الْفِقْهِ جَوَازُ التَّهْدِيدِ وَالتَّخْوِيفِ وَالْإِرْهَابِ بِمَا لَا يَجُوزُ فِعْلُهُ لِيَصِلَ الْمُتَوَلِّي إلَى فِعْلِ الْمَصْلَحَةِ فِي ذَلِكَ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ شَقُّهُ وَإِنَّمَا أَرَادَ نَبِيُّ اللَّهِ سُلَيْمَانُ أَنْ يُظْهِرَ لَهُمَا نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ الْإِرْهَابِ مِنْ بَابِ السِّيَاسَةِ وَالْمَعْرِفَةِ حَتَّى ظَهَرَ لَهُ أَمْرُهَا. [فَصَلِّ يَنْبَغِي لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَتَّخِذ رَسْلًا وَأَعْوَانًا بَيْن يَدَيْهِ بِقَدْرِ الْحَاجَة دَائِمًا] (فَصْلٌ) : وَيَنْبَغِي لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَتَّخِذَ رُسُلًا وَغِلْمَانًا وَأَعْوَانًا بَيْنَ يَدَيْهِ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ دَائِمًا إنْ كَانَ جَالِسًا أَوْ رَاكِبًا فَإِنَّ ذَلِكَ أَعْظَمُ لِحُرْمَتِهِ وَأَوْفَرُ لِهَيْبَتِهِ وَأَعَانَهُ النَّاسُ عَلَى طَلَبِ غُرَمَائِهِمْ وَخَلَاصِ الْحَقِّ مِنْهُمْ

مسألة إذا بلغ المحتسب أمر وتركه

وَيُشْتَرَطُ فِيهِمْ الْعِفَّةُ وَالصِّيَانَةُ وَالنَّهْضَةُ وَالشَّهَامَةُ وَيُؤَدِّبُهُمْ وَيُهَذِّبُهُمْ وَيُعَرِّفُهُمْ كَيْفَ يَتَصَرَّفُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَكَيْفَ يَخْرُجُونَ فِي طَلَبِ الْغُرَمَاءِ وَأَنَّهُمْ لَا يُعْرِفُونَ الْخَصْمَ الَّذِي طُلِبَ لِمَاذَا طُلِبَ لِئَلَّا يَتَفَكَّرَ فِي حُجَّةٍ يَتَخَلَّصُ بِهَا فَإِذَا طَلَبَ شَخْصًا بِعِدَّتِهِ وَآلَتِهِ فَلْيُحْضِرُوهُ عَلَى هَيْئَتِهِ الَّتِي وَجَدُوهُ عَلَيْهَا وَلَا يُمَكِّنُوهُ أَنْ يَتْرُكَ مِنْ أَرْطَالِهِ شَيْئًا فِي الدُّكَّانِ وَلَا يُودِعُ مِنْهَا شَيْئًا فِي طَرِيقِهِ وَإِنْ كَانَ ذِمِّيًّا فَوَجَدُوهُ بِلَا زُنَّارٍ إنْ كَانَ نَصْرَانِيًّا أَوْ بِلَا عَلَامَةٍ إنْ كَانَ يَهُودِيًّا فَلْيُحْضِرُوهُ عَلَى هَيْئَتِهِ الَّتِي وُجِدَ عَلَيْهَا حَتَّى يُعَاقِبَهُ الْمُتَوَلِّي عَلَى مَا يَرَاهُ مِنْهُ وَلَا يَخْرُجُ أَحَدٌ مِنْ الرُّسُلِ فِي طَلَبِ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ إلَّا بَعْدَ مُشَاوَرَةِ الْمُحْتَسِبِ وَإِذَا خَرَجَ فَلْيَخْرُجْ بِعَزْمٍ وَقُوَّةِ نَفْسٍ حَادَّةٍ وَيَطْلُبُ الْخَصْمَ بِسُرْعَةٍ فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُرْعِبُهُ وَيُخَوِّفُهُ وَيَرْدَعُهُ فَإِذَا حَضَرَ إلَى بَيْنَ يَدِي الْمُحْتَسِبِ وَوَجَدَ لِينًا وَرِفْقًا فَرَغِبَ فِي الْحَقِّ وَتَعَرَّفَ بِهِ بَعْدَ مَا كَانَ قَصْدُهُ جُحُودَهُ وَيَتُوبُ عَنْ الذَّنْبِ بَعْدَ مَا كَانَ مُصِرًّا عَلَيْهِ وَإِذَا أَمَرَهُمْ بِتَأْخِيرِ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ لِلتَّأْدِيبِ أَخَّرُوهُ وَلَا يَكْشِفُوا رَأْسَهُ حَتَّى يَأْمُرَهُمْ بِذَلِكَ وَإِذَا أَمَرَ بِضَرْبِهِ يَنْظُرُوا قَصْدَهُ هَلْ بِالسَّوْطِ أَوْ بِالدِّرَّةِ فَإِنَّ كُلَّ إنْسَانٍ أَدَبُهُ بِمَا يُنَاسِبُهُ وَيُنَاسِبُ وَذَنْبَهُ وَمَا يَلِيقُ بِهِ وَهَذَا كُلُّهُ رَاجِعٌ إلَى مَا يَرَاهُ مِنْ التَّعْزِيرِ مِنْ ضَرْبٍ وَصَفْعٍ وَحَبْسٍ وَلَوْمٍ وَتَوْبِيخٍ، وَالْمَنْقُولُ الْعَفْوُ فِي حَقِّ اللَّهِ دُونَ حَقِّ الْآدَمِيِّ. [مَسْأَلَة إذَا بَلَغَ الْمُحْتَسَب أَمَرَ وَتَرَكَهُ] وَإِذَا بَلَغَ الْمُحْتَسِبَ أَمْرٌ وَتَرَكَهُ أَثِمَ وَإِنْ تَكَرَّرَ شَكْوَى ذَلِكَ لَهُ وَلَمْ يَأْخُذْ لَهُ بِحَقِّهِ سَقَطَتْ وِلَايَتُهُ شَرْعًا أَوْ خَرَجَ عَنْ أَهْلِيَّةِ الْحِسْبَةِ

الباب الرابع والخمسون في الحسبة على أصحاب السفن والمراكب

وَسَقَطَتْ مُرُوءَتُهُ وَعَدَالَتُهُ وَلَا يَبْقَى مُحْتَسِبًا شَرْعًا وَإِنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ يَرْفَعُهُ إلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ وَهُوَ الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ، وَاَلَّذِي يَجِبُ عَلَى السُّلْطَانِ إدْرَارُ رِزْقِهِ الَّذِي يَكْفِيه وَتَعْجِيلُهُ وَبَسْطُ يَدِهِ وَتَرْكُ مُعَارَضَتِهِ وَالشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ مِنْ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْبَاب الرَّابِع وَالْخَمْسُونَ فِي الْحَسَبَة عَلَى أَصْحَاب السُّفُن وَالْمَرَاكِب] يُؤْخَذُ عَلَى أَصْحَابِ السُّفُنِ وَالْمَرَاكِبِ أَلَّا يَحْمِلُوهَا فَوْقَ الْعَادَةِ خَوْفَ الْغَرَقِ وَكَذَلِكَ يَمْنَعُهُمْ مِنْ السَّيْرِ وَقْتَ هُبُوبِ الرِّيَاحِ وَاشْتِدَادِهَا وَإِذَا حَمَلُوا فِيهَا النِّسْوَانِ مَعَ الرِّجَالِ حَجَبُوا بَيْنَهُمَا بِحَائِلٍ. [الْبَاب الْخَامِس وَالْخَمْسُونَ فِي الْحَسَبَة عَلَى بَاعَة قُدُور الْخَزْف وَالْكِيزَان] يُؤْخَذُ عَلَى بَاعَةِ قُدُورِ الْخَزَفِ وَالْكِيزَانِ وَالْأَوَانِي بِأَنَّهُمْ لَا يَطْلُونَ مَا كَانَ مَثْقُوبًا مِنْهَا أَوْ مَشْقُوقًا بِالْجِبْسِ الْمَعْجُونِ بِالشَّحْمِ وَبَيَاضِ الْبَيْضِ وَالْخَزَفِ الْأَحْمَرِ الْمَسْحُوقِ وَيَبِيعُونَهُ عَلَى أَنَّهُ سَالِمٌ فَإِذَا وَجَدَ عِنْدَهُمْ أَحَدٍ مِنْهُمْ خَزَفًا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ أَدَّبَهُ لِيَكُونَ رَدْعًا لِغَيْرِهِ.

الباب السادس والخمسون في الحسبة على الفاخرانيين والغضارين

[الْبَاب السَّادِس وَالْخَمْسُونَ فِي الْحَسَبَة عَلَى الفاخرانيين والغضارين] يَنْبَغِي أَنْ يُعَرِّفَ عَلَيْهِمْ رَجُلًا ثِقَةً بَصِيرًا بِعَمَلِهِمْ وَتَدْلِيسِهِمْ وَيَشْتَرِطُ عَلَيْهِمْ أَلَّا يَعْمَلُوا الزَّبَادِيّ إلَّا مِنْ الْحَصَى الْمَطْحُونِ وَلَا يَعْمَلُوا مِنْ الرَّمَلِ إلَّا مَا كَانَ خَرَجِيًّا الْمُتَّخَذُ لِوَلَائِمِ الْأَفْرَاحِ وَأَنْ تَكُونَ الزُّبْدِيَّة مُعْتَدِلَةً وَأَنْ تَكُونَ قَالِبَ الْعَادَةِ وَأَنْ تَكُونَ كَامِلَةَ الدُّهْنِ وَأَنْ يُعْمِلَ فِي صِبَاغِ الزَّبَادِيّ الْقَلْيَ الْأَزْرَقَ وَالتَّوْبَانُ وَالْمَغْنِيزُ وَلَا يُعَوِّضُوهُ بِالنِّيلَةِ وَالشَّوْكَسِ وَأَنْ يَكُونَ شَيْئًا تَامًّا لِئَلَّا يُوضَعَ فِيهَا الطَّعَامُ وَتُشَالُ فَتَتَفَتَّتُ فِي يَدِ الْآخِذِ أَوْ الْمُعْطِي، وَإِذَا ظَهَرَ مِنْ الْكُوزِ شَيْءٌ مَعِيبٌ أَفْرَدُوهُ وَبَاعُوهُ لِغَيْرِ الطَّعَامِ وَلَا يُدَاوُوهُ وَيُدَلِّسُوا بِهِ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَيَشْتَرِطُ عَلَيْهِمْ أَيْضًا أَلَّا يَقِدُوا عَلَيْهِ بقوسان وَهُوَ رَوْثُ الْآدَمِيِّ وَلَا بِشَيْءٍ مِنْ الْأَزْبَالِ فَإِنَّهُ نَجِسٌ بَلْ بِالْحَلْفَاءِ وَالْقَيْشَةُ وَهِيَ قِشْرُ الْأُرْزِ وَمَا أَشْبَهَهُ. وَيَشْتَرِطُ عَلَى بَاعَةِ الْغَضَارِ أَلَا يُبَاعَ غَضَارُ الْكُوزِ إلَّا مُفْرَدًا مِنْ غَضَارِ التَّنُّورِ وَلَا يُخْلَطُ كُوزٌ بِتَنُّورٍ إلَّا مَا كَانَ مُتَقَارِبًا وَيُعَيِّنُهُ لِلْمُشْتَرِي وَعَلَى الغَضّارِينَ إذَا جَاءَهُمْ الزُّبُونُ لِيَشْتَرِيَ مِنْهُ مِائَةَ جَامٍ لَا يَقْتَصِرُ عَلَى أَنَّهُ يُرِيَهُ جَامًا وَاحِدًا وَيَبِيعُهُ مِنْ هَذِهِ الْعَيْنِ ثُمَّ يُعْطِيه مِنْ غَيْرِهَا وَهَذَا

الباب السابع والخمسون في الحسبة على الأبارين والمسلاتيين

تَدْلِيسٌ لَا بُدَّ أَنْ يُعَيِّنَ لَهُ الْمَبِيعَ بِكَمَالِهِ وَيُعَاقِدَهُ عَلَيْهِ وَيَشْتَرِطَ عَلَى الْحَمَّالِينَ مُعَاوَنَةَ الزُّبُونِ مِنْ الْغُرَبَاءِ وَغَيْرِهِمْ وَأَنْ يَسْتَوْفُوا لَهُمْ حُقُوقَهُمْ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الْأَصْبَاغِ وَقَلْعِ الْمَعِيبِ وَعِدَّةِ مَا يَشْتَرِيه. [الْبَاب السَّابِع وَالْخَمْسُونَ فِي الْحَسَبَة عَلَى الْأَبَّارِينَ والمسلاتيين] يُعَرِّفُ عَلَيْهِ رَجُلًا ثِقَةً أَمِينًا مِنْ أَهْلِ صِنَاعَتِهِمْ يَمْنَعُهُمْ أَنْ يَخْلِطُوا الْإِبَرَ الْفُولَاذَ مَعَ الأرمهان لِأَنَّهَا إذَا سُنَّتْ جَازَ أَنْ تَخْتَلِطَ بِالْفُولَاذِ الدِّمَشْقِيِّ بَلْ يَكُونُ كُلُّ صِنْفٍ مِنْهَا عَلَى حِدَتِهِ وَيُحَلِّفُ الصُّنَّاعَ عَلَى ذَلِكَ، وَأَصْلَحُ الْإِبَرِ عِنْدَهُمْ الْخَيَّاطِيَّةُ وَهِيَ الَّتِي تُسَمَّى عِنْدَهُمْ الْمُسَوَّدَةَ وَهِيَ تُسَنُّ ثَلَاثَ دَفَعَاتٍ وَتُصْقَلُ وَأَحْسَنُهَا الْمُدَوَّرَةُ الْعَيْنِ وَيَعْتَبِرُ عَلَيْهِمْ أَيْضًا بِأَنْ تُؤْخَذَ الْإِبَرُ وَتُحْمَى فِي النَّارِ وَتُطْفَى فَإِنَّ الْفُولَاذَ إذَا حُمِيَ ثُمَّ طُفِيَ يُقْصَفُ وَغَيْرَ الْفُولَاذِ إذَا حُمِيَتْ وَطُفِيَتْ ازْدَادَتْ لِينًا فَيَجِبُ عَلَى فَاعِلِهِ الْأَدَبُ. وَأَمَّا المسلاتيين فَيُؤْخَذُ عَلَيْهِمْ أَلَّا يَعْمَلُوهَا إلَّا مِنْ الْفُولَاذِ أَوْ الْحَدِيدِ الأرمهان وَأَعْلَى الْمِسَلَّاتِ الْفُولَاذُ وَهِيَ أَصْنَافٌ نَذْكُرُ مِنْهَا مَا تَيَسَّرَ ذِكْرُهُ وَضَرِيبَتَهَا لِيَكُونَ اعْتِمَادُ الْمُحْتَسِبِ عَلَى مَا ذُكِرَ وَهِيَ الْحِزَامِيَّةُ وَالْمَزَابِلِيّةُ كُلُّ عَشْرَةٍ مِنْهَا زِنَتُهَا رِطْلٌ وَاحِدٌ بِالْمِصْرِيِّ

الباب الثامن والخمسون في الحسبة على المرادنيين

وَالْمُحَيَّرَة والفقاعية كُلُّ ثَلَاثَةٍ مِنْهَا زِنَتُهَا رِطْلٌ وَاحِدٌ وَالْخَيَّاطِيَّةُ والنقشية كُلُّ مِائَةٍ زِنَتُهَا رِطْلٌ وَاحِدٌ وَالرِّكَابِيَّةُ كُلُّ خَمْسَةَ عَشَرَ زِنَتُهَا رِطْلٌ وَاحِدٌ والمكانسية وَمِسَلَّاتُ التَّضْرِيبِ كُلُّ أَرْبَعَةٍ زِنَتُهَا رِطْلٌ وَاحِدٌ وَالْكَفِيَّة كُلُّ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ زِنَتُهَا رِطْلٌ وَاحِدٌ وَالْخَرْجِيِّةُ والأبارية كُلُّ مِائَةِ مِسَلَّةٍ مِنْهَا زِنَتُهَا مِائَتَا دِرْهَمٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْبَاب الثَّامِن وَالْخَمْسُونَ فِي الْحَسَبَة عَلَى المرادنيين] (الْبَابُ الثَّامِنُ وَالْخَمْسُونَ فِي الْحِسْبَةِ عَلَى المرادنيين) لَا يُمَكِّنُ الْمُحْتَسِبُ أَحَدًا يَجْلِسُ لِهَذِهِ الصِّنَاعَةِ إلَّا مَنْ شُهِرَ بِالْأَمَانَةِ وَالدِّينِ وَالْعِفَّةِ وَالصَّلَاحِ فَإِنَّ أَكْثَرَ مُعَامَلَتِهِمْ مَعَ النِّسْوَانِ وَأَيْضًا يُؤْخَذُ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ لَا يَسْتَعْمِلُونَ خَشَبَ الْمَرَادِنِ إلَّا مِنْ خَشَبِ الساسم أَوْ مِنْ خَشَبِ السَّنْطِ الْأَحْمَرِ السَّالِمِ مِنْ الْغَرَقِ وَالسُّوسِ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ غَرِيقًا وَبُرِمَتْ بِهِ الْمِرْآةُ انْكَسَرَ لِوَقْتِهِ وَكَذَلِكَ النُّحَاسُ الَّذِي فِيهِ فَيَكُونُ مِنْ النُّحَاسِ الْأَصْفَرِ الْمَضْرُوبِ وَلَا يَعْمَلُوهُ مَنْفُوخًا وَيُلْزَمُوا بِأَنْ يَعْمَلُوهُ صَامِتًا وَأَجْوَدُ نُحَاسٍ الْمَرَادِنُ كُلُّ رِطْلٍ سَبْعُونَ مِرْدَنًا وَالْخَرْجِيُّ فَكُلُّ ثَمَانِينَ رِطْلٌ وَاحِدٌ وَيَرْقُبُوا اللَّهَ تَعَالَى فِي مُعَامَلَتِهِمْ مَعَ النِّسْوَانِ وَغَيْرِهِنَّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

الباب التاسع والخمسون في الحسبة على الحناويين

[الْبَاب التَّاسِع وَالْخَمْسُونَ فِي الْحَسَبَة عَلَى الحناويين] وَغِشِّهِمْ يَنْبَغِي أَنْ يُعَرِّفَ عَلَيْهِمْ رَجُلًا بَصِيرًا بِصِنَاعَتِهِمْ عَارِفًا بِغِشِّهِمْ وَتَدْلِيسِهِمْ وَيُؤْخَذُ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ لَا يَبِيعُوهُ إلَّا سَالِمًا مِنْ الْعَيْبِ وَالرَّمْلِ وَالْجَرِيشِ وَعَلَامَةُ غِشِّهِ أَنَّ الْمَغْشُوشَ بِالرَّمْلِ وَالزَّيْتِ الْحَارِّ يُعْرَفُ ذَلِكَ بِالْغَرْبَلَةِ فَإِنَّ الْجَرِيشَ وَالرَّمْلَ يَطْلُعُ فِي أَعْلَى الْغِرْبَالِ وَأَيْضًا إذَا أُخِذَ مِنْ الطَّيِّبِ السَّالِمِ مِنْ الْغِشِّ قَدَحٌ وَوُزِنَ وَأُخِذَ مِنْ الْمَغْشُوشِ قَدَحٌ وَوُزِنَ كُلٌّ عَلَى حِدَتِهِ فَيَظْهَرُ ثِقَلُ الْمَغْشُوشِ. [الْبَاب السِّتُّونَ فِي الْحَسَبَة عَلَى الأمشاطيين] يُؤْخَذُ عَلَيْهِمْ أَلَّا يَعْمَلُوا الْأَمْشَاطَ الرِّجَالِيَّةَ وَالنِّسَائِيَّةَ إلَّا مِنْ خَشَبِ الْبَقْسِ الرُّومِيِّ فَإِنَّهُ أَنْفَعُ مَا يُعْمَلُ لِهَذَا وَأَنْ لَا يَكُونَ أَخْضَرَ فَإِنَّهُ إذَا عَمِلَهُ أَخْضَرَ ثُمَّ جَفَّ يَتَعَوَّجُ وَيَنْكَسِرُ، وَأَعْلَاهُ مِشْطُ الذَّبْلِ وَمَتَى عُمِلَ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْخَشَبِ كَخَشَبِ النَّارِنْجِ وَغَيْرِهِ فَإِنَّهُ يَظْهَرُ فِي تَسْرِيحِهِ شَعَرَاتٌ مِنْ الْخَشَبِ يَنْتِفُ شَعْرَ الْآدَمِيِّ وَيُلْزَمُ الصُّنَّاعُ

الباب الحادي والستون في الحسبة على معاصر الشيرج والزيت

بِالصِّنَاعَةِ الْجَيِّدَةِ وَأَنْ يَكُونَ صَحِيحَ الشَّرْح وَيَكُونَ مُدَّةً قَائِمًا عَقِبَ الْقَطْعِ مَعَ صِحَّةِ إنْزَالِهِ وَيَعْتَمِدُ عَلَى الْمُخَرَّزَةِ لِأَنَّهَا لَا تَمْشِي إلَّا عَلَى الصَّحِيحِ وَيَصِحُّ التَّبْطِينُ بِأَنْ يَكُونَ فَمُهُ رَقِيقًا حَتَّى تَرِقَّ رُءُوسُ الْأَسْنَانِ فَيَنْزِلُ فِي الشَّعْرِ حَادَّةً مَعَ تَدْوِيرِ الْحُرُوفِ بالرندك وَيُتَجَنَّبُ الشَّعَثُ. [الْبَاب الْحَادِي وَالسِّتُّونَ فِي الْحَسَبَة عَلَى مَعَاصِر الشيرج وَالزَّيْت] (الْبَابُ الْحَادِي وَالسِّتُّونَ: فِي الْحِسْبَةِ عَلَى مَعَاصِرِ الشَّيْرَجِ وَالزَّيْتِ الْحَارِّ) يَنْبَغِي أَنْ يُعَرَّفَ عَلَيْهِمْ رَجُلٌ ثِقَةٌ بَصِيرٌ بِصِنَاعَتِهِمْ يَمْنَعُهُمْ أَنْ يَعْمَلُوا السِّمْسِمَ إلَّا بَعْدَ غَسْلِهِ وَتَخْلِيَتِهِ وَتَحْمِيصِهِ وَدَقِّهِ حَتَّى تَطِيرَ قِشْرَتُهُ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَطْحَنُهُ وَلَا يُمَكِّنَ أَحَدًا مِنْ الصُّنَّاعِ أَنْ يَنْزِلَ يَعْصِرُ الشَّيْرَجَ إلَّا بَعْدَ غَسْلِ رِجْلَيْهِ بِالْمُحِكَّةِ وَطَهَارَتِهَا وَأَنْ يَكُونَ فِي وَسَطِهِ ثِيَابٌ ضَيِّقَةُ الْأَكْمَامِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَعْرَقَ فَيَقْطُرُ مِنْ عَرَقِهِ شَيْءٌ وَأَنْ يَكُونَ مُلَثَّمًا لِاحْتِمَالِ أَنْ يَتَكَلَّمَ فَيَقَعُ مِنْ بُصَاقِهِ شَيْءٌ فِي عَجِينِ الشَّيْرَجِ وَيُلْزِمُهُمْ بِالنَّظَافَةِ وَالطَّهَارَةِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِمْ وَيُغَطُّوا الْمَعَاجِنَ بِالْأَبْرَاشِ بَعْدَ الْعَمَلِ، وَيُعَايِرُ الْجِرَارَ الَّتِي لَهُمْ لَا سِيَّمَا فِي زَمَنِ الصَّيْفِ

فصل ما يؤخذ على عصاري الزيت

فَإِنَّهُ يَخِفُّ وَزْنُهَا وَعِيَارَةُ الْجَرَّةِ بِالرِّطْلِ الْمِصْرِيِّ سِتَّةٌ وَعِشْرُونَ رِطْلًا وَرُبْعُ رِطْلٍ [فَصَلِّ مَا يُؤْخَذ عَلَى عُصَارِيّ الزَّيْت] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا عَصَّارُو الزَّيْتِ الْحَارِّ فَيُؤْخَذُ عَلَيْهِمْ أَلَّا يَعْصِرُوا بِزْرَ الْكَتَّانِ إلَّا أَنْ يَقْلُوهُ لِتَطْهُرَ رَائِحَتُهُ فَإِنَّهُمْ إذَا عَصَرُوهُ نِيًّا خَفِيَتْ رَائِحَتُهُ وَدَلَّسُوا بِخَلْطِهِ بِالزَّيْتِ الْحُلْوِ وَيَكُونُ صِقَالَةُ الْحَارِّ الْبِزْرِ خَالِصَةً وَزَيْتُ الْقُرْطُمِ يَضُرُّ بِالنِّسَاءِ الْحَوَامِلِ إذَا أَكَلْنَهُ وَيُسْقِطُ شُعُورَهُنَّ وَقَدْ يَخْلِطُهُ مَنْ يَسْتَحِلُّ ذَلِكَ فِي الزَّيْتِ الطَّيِّبِ وَالشَّيْرَجِ عِنْدَ غُلُوِّهِ وَنَفَاقِهِ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. وَيُعَايِرُ قُلَلَهُمْ وَأَقْسَاطَهُمْ وَزِنَةُ الْقُلَّةِ بِالْقِنْطَارِ الْمِصْرِيِّ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ رِطْلًا بِمَدِينَةِ مِصْرَ خَاصَّةً وَغَيْرِهَا مِائَةٌ وَخَمْسَةَ عَشَرَ رِطْلًا وَزِنَةُ الْقِسْطِ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ بِالْمِصْرِيِّ وَالْقُلَّةُ ثَمَانِيَةٌ. [الْبَاب الثَّانِي وَالسِّتُّونَ فِي الْحَسَبَة عَلَى الغرابليين] (الْبَابُ الثَّانِي وَالسِّتُّونَ: فِي الْحِسْبَةِ عَلَى الْغَرَابِلِيِّينَ) يَنْبَغِي أَنْ يُعَرَّفَ عَلَيْهِمْ رَجُلٌ ثِقَةٌ بَصِيرٌ بِغِشِّهِمْ يَأْمُرُهُمْ بِغَسْلِ جَمِيعِ الشَّعْرِ قَبْلَ اسْتِعْمَالِهِ وَأَنْ يَحْتَرِزُوا مِنْ شَعْرِ الْمَيْتَةِ وَعَلَامَتُهُ أَنَّهُ خَشِنٌ وَيَتَقَصَّفُ بِسُرْعَةٍ وَلَا يَسْتَعْمِلُوا الشَّعْرَ فِي الْغَرَابِيلِ وَغَيْرِهَا إلَّا عَلَى جِهَتِهِ مِنْ غَيْرِ صَبَّاغٍ فَإِنَّ فِيهِمْ مَنْ يَأْخُذُ القلقند وَغَيْرَهُ وَيَغْلِيه عَلَى النَّارِ ثُمَّ يَتْرُكُ الشَّعْرَ فِيهِ فَتَضْعُفُ قُوَّتَهُ فَيَتَهَرَّأُ عِنْدَ اسْتِعْمَالِهِ وَلَا يَمْسِكُ شَيْئًا ثُمَّ

الباب الثالث والستون في الحسبة على الدباغين والبططيين

يَبِيعُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْلَمَ الْبَائِعُ أَنَّهُ مَصْبُوغٌ وَهَذَا كُلُّهُ تَدْلِيسٌ وَيَنْبَغِي أَنْ يُسْتَحْلَفُوا أَلَّا يَعْمَلُوا الْغَرَابِيلَ مِنْ جُلُودِ الْمَيْتَةِ لَكِنْ مِنْ الْجُلُودِ الطَّاهِرَةِ الْمَذْكِيَّةِ وَأَنْ يَغْسِلُوا الْجُلُودَ وَيُنَظِّفُوهَا قَبْلَ تَقْوِيرِهَا لِئَلَّا تَنْقَطِعَ بِسُرْعَةٍ. [الْبَاب الثَّالِث وَالسِّتُّونَ فِي الْحَسَبَة عَلَى الدِّبَاغَيْنِ والبططيين] يَنْبَغِي أَنْ يُعَرِّفَ عَلَيْهِمْ رَجُلًا ثِقَةً بَصِيرًا بِأَحْوَالِهِمْ وَأَنْ يَحْلِفُوا بِاَللَّهِ الْعَظِيمِ أَنَّهُمْ لَا يَدْبُغُونَ الْجُلُودَ بِدَقِيقِ الْحِنْطَةِ وَأَنْ لَا يَدْبُغُوا بِالنُّخَالِ وَأَنَّ لَا يُجَلِّدُوا بَوَاطِنَ الْإِسْقَاطِ إلَّا مِنْ الْجُلُودِ الَّتِي يُجَلِّدُونَ ظَوَاهِرَهَا وَكَذَلِكَ يُمْنَعُوا مِنْ دِبَاغِ جُلُودِ الْمَعْزِ إلَّا بِالْقَرَظِ الْيَمَانِيِّ وَيَكُونُ دِبَاغُهَا بِوَزْنِهَا مِنْ الْقَرَظِ لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَزْنِ مِائَةِ جِلْدٍ صَغِيرٍ أَرْبَعُونَ رِطْلًا بِالْمِصْرِيِّ وَتَقْدِيرُ كُلِّ مِائَةِ جِلْدٍ كَبِيرٍ وَزْنًا سِتُّونَ رِطْلًا بِالْمِصْرِيِّ وَمَا زَادَ فَيَنْبَغِي أَنْ يُدْبَغَ بِوَزْنِهِ إلَّا عَلَى عَدَدِ الْجُلُودِ، وَحْدُ كُلِّ وَزَعَمْتَ مِنْهَا أَنْ يُقِيمَ فِي الْحَوْضِ مُنْتَقَعًا فِي الْقَرَظِ الْمُعْتَدِلِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَيُنْقَلَ إلَى حَوْضٍ آخَرَ وَعَلَيْهِ مِنْ الْقَرَظِ مِقْدَارُ وَزْنِهِ الْأَوَّلِ يُفْعَلُ ذَلِكَ أَرْبَعَ دَفَعَاتٍ مُتَوَالِيَةٍ لِتَنْقَى مِنْ شُحُومِهَا، وَمِنْ الْغِشِّ فِي ذَلِكَ دِبَاغُ يُوَهِّنُونَ ثَلَاثُ دَفَعَاتٍ وَيَغُشُّ الثَّالِثَ بِالْعَفْصِ

فصل ما يؤخذ على البططيين

وَهُوَ مُضِرٌّ بِالْجُلُودِ مُهْلِكٌ لَهَا وَعَلَامَةُ غِشِّ يُوَهِّنُونَ أَنَّ جُلُودَهُ تَسْوَدُّ مِنْ الشَّمْسِ، وَدِبَاغُ الصَّيْفِ خَيْرٌ مِنْ الشِّتَاءِ وَالْعَفَصُ فِيهِ عَيْبٌ وَكَذَلِكَ الْقَرَظُ الْمِصْرِيُّ، وَالْحَوْضُ إذَا قُدِّمَ فِيهِ مِائَتَا جِلْدٍ لَمْ يَخْدُمْ فِيهِ أَقَلُّ مِنْ رَجُلَيْنِ وَأَمَّا جُلُودُ الْبَقَرِ فَيُمْنَعُوا أَنْ يَخْلِطُوا الْمَيْتَةَ بِالْمَدْبُوغَةِ. [فَصَلِّ مَا يُؤْخَذ عَلَى البططيين] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا البططيين فَيُؤْخَذُ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَعْمَلُوا إلَّا جُلُودَ الْمُذَكَّى وَأَنَّهُمْ لَا يَعْمَلُوا مِنْ جُلُودِ الْمَيْتَةِ شَيْئًا وَلَا يَأْمُرُوا مَنْ يَعْمَلُهَا لَهُمْ إلَّا عَلَى الْوُجُوهِ وَالْأَسْبَابِ كُلِّهَا وَيَكْبِسُ دَكَاكِينَهُمْ وَيَبْحَثُ عَنْ ذَلِكَ لِأَنَّ عَلَامَةَ مَا يُعْمَلُ مِنْ جُلُودِ الذَّبِيحَةِ الصَّفَاءُ وَالصُّفْرَةُ وَمَا عُمِلَ مِنْ الْمَيْتَةِ فَيَمِيلُ لَوْنُهُ إلَى السَّوَادِ وَيَعْتَبِرُ الرَّائِحَةَ وَخُشُونَةَ الْمَلْمَسِ وَلَا بُدَّ أَنْ يَبْقَى عَلَيْهِ الْيَسِيرُ مِنْ أُصُولِ الشَّعْرِ لِأَنَّ الصَّانِعَ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَتَقَصَّى شَعْرَ الْمَيْتَةِ بِالشَّفْرَةِ وَقْتَ الْعَمَلِ وَمَا عُمِلَ مِنْ جُلُودِ الْمَيْتَةِ أَيْضًا يَتَفَلَّحُ عِنْدَ جَفَافِهِ، وَيَأْخُذُ عَلَيْهِمْ أَلَّا يَعْمَلُوا الْبِطَطَ الْكِبَارَ إلَّا ثَلَاثَ طَاقَاتٍ وَالْبَطَّةَ الْمُتَوَسِّطَةَ طَاقَيْنِ وَالْكُوزَ الصَّغِيرَ طَاقًا وَاحِدًا غَلِيظًا صَحِيحًا سَالِمًا مِنْ الرُّقَعِ فَمَنْ خَالَفَ ذَلِكَ أُدِّبَ وَعُزِّرَ عَلَى ذَلِكَ.

الباب الرابع والستون في الحسبة على اللبوديين

[الْبَاب الرَّابِع وَالسِّتُّونَ فِي الْحَسَبَة عَلَى اللبوديين] يُعَرِّفُ عَلَيْهِمْ رَجُلًا ثِقَةً مِنْ أَهْلِ صِنَاعَتِهِمْ يَمْنَعُهُمْ أَنْ يَعْمَلُوا فِي اللُّبُودِ شَيْئًا مِنْ صُوفِ الْمَيْتَةِ وَيُعْرَفُ ذَلِكَ بِلِينِهِ وَتَغَيُّرِ رَائِحَتِهِ وَيَمْنَعُهُمْ مِنْ عَمَلِ صُوفِ الرُّءُوسِ أَيْضًا وَيُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ بِفَرْطِ خُشُونَتِهِ وَيَكُونُ وَزْنُ اللُّبَدِ الْأَحْمَرِ أَرْبَعَةَ أَرْطَالٍ وَاللُّبَدِ الْأَزْرَقِ (وَ) الْمُرَشَّحَةِ الْحَمْرَاءِ رِطْلًا وَنِصْفَ وَيُجَادُ غَزْلُ سَائِرِ اللُّبُودِ وَيُسْقَى الصَّمْغُ بِلَا مُشَاقٍّ وَيَمْنَعُهُمْ مِنْ عَمَلِ اللُّبُودِ الْمُشَاقَّةِ الَّتِي تَعْمَلُ الْقَوَالِبَ. [الْبَاب الْخَامِس وَالسِّتُّونَ فِي الْحَسَبَة عَلَى الفرائين] يُعَرِّفُ عَلَيْهِمْ رَجُلًا ثِقَةً مِنْ أَهْلِ صِنَاعَتِهِمْ يُلْزِمُهُمْ أَلَّا تُبَاعَ الْفِرَاءُ الْكِبَاشِيَّةُ وَغَيْرُهَا مِنْ سَائِرِ الْفِرَاءِ إلَّا مَدْبُوغَةً جَيِّدَةَ الْخِيَاطَةِ مُتَقَارِبَةَ الْغُرَزِ وَأَنْ لَا يَخْلِطُوا شَيْئًا قَدْ عُتِّقَ بِجَدِيدٍ وَلَا رُقْعَةٍ وَلَا غَيْرِهَا وَأَنْ يُبَاعَ الْمَجْلُوبُ فِي الدُّورِ وَيُخَصُّ بِهِ قَوْمٌ دُونَ آخَرِينَ بَلْ تُحْمَلُ إلَى سُوقِهِمْ وَتُبَاعُ فِيهَا بِالنِّدَاءِ لِيَنَالَهُ الْقَوِيُّ وَالضَّعِيفُ.

الباب السادس والستون في الحسبة على الحصريين العبداني والكركر العبداني

[الْبَاب السَّادِس وَالسِّتُّونَ فِي الْحَسَبَة عَلَى الحصريين العبداني والكركر العبداني] يَنْبَغِي أَنْ يُعَرِّفَ عَلَيْهِمْ رَجُلًا ثِقَةً خَبِيرًا بِصِنَاعَتِهِمْ وَيُؤْخَذُ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَصْبُغُوا شَيْئًا مِنْ السِّمَارِ إلَّا الْقُلْزُمِيَّ وَلَا يَصْبُغُوا مِنْ السُّمَّار الْقَطَوِيِّ وَلَا الْكُرَاعَيْ وَلَا شَيْئًا مِنْ الْأَسْمِرَةِ الْمَاوِيَّةِ فَإِنَّهَا تَتَهَرَّأُ وَلَا تَمْسِكُ شَيْئًا وَأَنْ لَا يَصْبُغُوا إلَّا بِالْفُوَّهِ الْقُبْرُصِيَّةِ وَلَا يَصْبُغُوا بِالْبُقَّمِ لِأَنَّهُ يَتَغَيَّرُ صَبْغُهُ وَإِذَا وَقَعَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الْحُمُوضَةِ اصْفَرَّ وَتَطَبَّعَ فَإِنْ عَزَّتْ الْفُوَّهُ وَقَلَّتْ وَقْتًا مَا جُعِلَ الثُّلُثَانِ فُوَّهً وَالثُّلُثُ بُقَّمٌ، وَأَمَّا صِبَاغُ السِّمَارِ الْأَسْوَدِ يَكُونُ صَبْغُهُ بِمَاءِ الْحَدِيدِ والقلقند وَيُجَفَّفُ مَكَانُهُ فِي الْحَوْضِ لِئَلَّا يَضْعُفَ جِبِلَّةً، وَتَكُونُ مِيَاهُهُ طَاهِرَةً فَإِنَّ النَّاسَ يَتَّخِذُونَ مِنْهُ الْحُصْرَ لِلْمَسَاجِدِ لِيُصَلُّوا عَلَيْهَا، وَيَكُونُ جَمِيعُ قِيَامِهِ مِنْ غَزْلِ الْكَتَّانِ الْمُعْتَدِلِ الْخَيْطِ، وَأَنْ لَا يَقْطَعُوا حَصِيرًا حَتَّى يُدَاخِلُوهُ مُدَاخَلَةً جَيِّدَةً فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يُدَاخَلْ يَبِسَ سِمَارُهُ فَيَصِيرُ مِثْلَ الْغِرْبَالِ، وَهُوَ أَبْيَاتٌ أَعْلَاهَا مِائَةٌ وَمَا دُونَهُ تِسْعُونَ وَمَا دُونَهُ ثَمَانُونَ وَمَا دُونَهُ سَبْعُونَ وَمَا دُونَهُ سِتُّونَ، وَالْكُرْكُرُ فَلَا اعْتِبَارَ بِهِ، وَيَتَقَدَّمُ إلَى الْمُنَادِيَةِ أَنْ لَا يَبْخَسُوا

الباب السابع والستون في الحسبة على التبانين

مِنْ نُفُوسِهِمْ زِيَادَةً إذَا رَأَوْا غَرْبًا يَبْتَاعُونَ شَيْئًا وَلَا يَقُولُوا إلَّا الْحَقَّ الَّذِي يَدْفَعُهُ إلَيْهِ التَّاجِرُ وَلَا يُنْقِصُ عِنْدَ الْوَزْنِ مِنْ الثَّمَنِ شَيْئًا فَهَذَا حَرَامٌ وَلَا يَأْخُذُ الْجَعْلَ إلَّا مِنْ الْمَبِيعِ. [الْبَاب السَّابِع وَالسِّتُّونَ فِي الْحَسَبَة عَلَى التُّبَّانَيْنِ] يُؤْخَذُ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَخْلِطُوا فِي تِبْنِ الْحِنْطَةِ شَيْئًا مِنْ سَائِرِ الْأَتْبَانِ مِثْلَ تِبْنِ الْفُولِ وَتِبْنِ الْبِرْسِيمِ وَتِبْنِ الْجُلُبَّانِ وَتِبْنِ الْعَدَسِ وَلَا شَيْئًا مِنْ الْبَرَايِبِ الْغَلِيظَةِ وَهِيَ أُصُولُ الْقَمْحِ، وَيُحَلِّفُهُمْ بِاَللَّهِ الْعَظِيمِ أَنَّهُمْ لَا يُدَلِّسُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ تَكُونَ شِبَاكُهُمْ عَلَى الْعَادَةِ وَزِنَتُهَا مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ رِطْلًا كُلُّ شَبَكَةٍ بِالرِّطْلِ الْمِصْرِيِّ وَأَنَّهُمْ إذَا مَلَئُوهَا مِنْ الْمَرَاكِبِ لَا يَنْقُلُوهَا إلَى مَوَاضِعِهِمْ لِيَقُصُّوا مِنْهَا ثُمَّ يَنْقُلُوهَا بِشِبَاكٍ أُخْرَى صِغَارٍ إلَى الْمَعَامِلِ وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ أَدَّبَهُ وَعَزَّرَهُ.

الباب الثامن والستون في الحسبة على الخشابين والقشاشين

[الْبَاب الثَّامِن وَالسِّتُّونَ فِي الْحَسَبَة عَلَى الْخَشَّابِينَ وَالْقَشَّاشِينَ] يَنْبَغِي أَنْ يُعَرِّفَ عَلَيْهِمْ رَجُلًا ثِقَةً يُنْهِي أَخْبَارَهُمْ لِلْمُحْتَسِبِ وَيَأْخُذُ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ لَا يَشْتَرُونَ خَشَبًا مِنْ صَغِيرٍ وَلَا مَحْجُورٍ عَلَيْهِ وَلَا مِنْ خَشَبٍ وُقِفَ عَلَى الْجَامِعِ أَوْ مَسْجِدٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْآدَمِيِّينَ وَيَشْتَرِطُ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ لَا يَشْتَرِكُونَ فِي الْبَيْعَةِ الْخَشَبَ الْمَفْسُوحَ لَهُمْ فِي شِرَائِهَا وَيَرْفَعُهَا أَحَدُهُمْ إلَى دُكَّانِهِ فَإِذَا جَاءَ الْمُشْتَرِي أَعَانَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي تَوْفِيرِ الثَّمَنِ وَهُوَ بَيْنَهُمْ هَذَا تَدْلِيسٌ وَإِذَا اشْتَرَى أَحَدٌ مِنْهُمْ أَفْلَاقَ النَّخْلِ وَنَشَرَهَا مُرَبِّعَاتٍ وَقَوَائِمَ وَجَاءَهُ الْمُشْتَرِي فَلَا يُخْبِرُهُ بِشِرَاءِ شَيْءٍ مِنْهُ عَلَى انْفِرَادِهِ فَهَذَا حَرَامٌ فَيُؤَدَّبُ عَلَيْهِ. [الْبَاب التَّاسِع وَالسِّتُّونَ فِي الحسبة عَلَى النَّجَّارِينَ وَالنَّشَّارِينَ وَالْبَنَّائِينَ ورقاصيهم والجباسين وَالْجَبَّارِينَ] (الْبَابُ التَّاسِعُ وَالسِّتُّونَ: فِي الْحِسْبَةِ عَلَى النَّجَّارِينَ وَالنَّشَّارِينَ وَالْبَنَّائِينَ وَرَقَّاصِيهِمْ وَالْجَبَّاسِينَ وَالْجَبَّارِينَ وَغِشِّهِمْ وَتَدْلِيسِهِمْ) يَنْبَغِي أَنْ يُعَرِّفَ عَلَيْهِمْ رَجُلًا ثِقَةً أَمِينًا بَصِيرًا بِصَنْعَتِهِمْ فَقَدْ يُوَافِقُ أَكْثَرُ الصُّنَّاعِ عَلَى أُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ كُلَّ يَوْمٍ فَيَتَأَخَّرُونَ عِنْدَ الْغُدُوِّ وَيَنْصَرِفُونَ قَبْلَ الْمَسَاءِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَشْتَرِطَ فِي ذَلِكَ مَا يَمْنَعُ مِنْهُ وَلَا يَنْصَرِفُوا إلَّا مُمْسِيًا.

فصل ما يؤخذ على النشارين

وَمِنْ الْبَنَّائِينَ وَالنَّجَّارِينَ وَالدَّهَّانِينَ مَنْ يُقَرِّبُ عَلَى الْمُسْتَعْمِلِ مَا يَصْنَعُهُ وَيُهَوِّنُهُ عَلَيْهِ وَيُقَلِّلُهُ حَتَّى إذَا نَشِطَ إلَيْهِ وَشَرَعَ فِيهِ يُحْوِجُهُ إلَى أَكْثَرَ مِمَّا قُدِّرَ فَيَكُونُ فِي ذَلِكَ ضَرَرٌ عَلَيْهِ وَغِشٌّ وَرُبَّمَا يَفْتَقِرُ وَرَكِبَهُ الدَّيْنُ بِسَبَبِ ذَلِكَ وَرُبَّمَا بَاعَ الْمَوْضِعَ قَبْلَ تَمَامِهِ وَفِي هَذَا أَذِيَّةٌ عَظِيمَةٌ وَيَنْبَغِي أَنْ يَتَقَدَّمَ بِمَا يَمْنَعُ أَتَمَّ مَنْعٌ بِالْحَلِفِ وَالْأَيْمَانِ الْمُؤَكَّدَةِ بِالنَّصِيحَةِ وَالتَّخْوِيفِ وَالرَّهْبَةِ، وَمَتَى لَمْ يَسْتَعْمِلْ مَنْ يَبْنِي مِنْ الصُّنَّاعِ مَا يُصَحِّحُ بِهِ عَمَلَهُ مِنْ زَوَايَا وَمَوَازِينَ وَخُيُوطٍ وَإِنْ جَرَى فِيمَا يَعْمَلُهُ زَيْغٌ أَوْ مَيْلٌ أَوْ انْحِرَافٌ عَنْ الِاسْتِوَاءِ لَزِمَهُ عَيْبُ ذَلِكَ وَفَسَادُهُ حَتَّى يَعُودَ صَحِيحًا مُسْتَقِيمًا، وَمَتَى قَطَعَ الْبَنَّاءُونَ مِنْ أَخْشَابِ النَّاسِ الْمُسْتَأْجَرَةِ لِلدَّعَائِمِ شَيْئًا لَزِمَهُمْ أَرْشُهُ وَعَلَيْهِمْ الْأَدَبُ بَعْدَ الْإِعْذَارِ إلَيْهِمْ، وَيَلْزَمُ الْفَعَلَةَ الْمَعْرُوفِينَ بِالرَّقَّاصِينَ لِبَاسُ التَّبَّابِينَ وَفِيهِ سُتْرَةٌ لِسَوْآتِهِمْ عِنْدَ تَصَرُّفِهِمْ فِي صُعُودِهِمْ وَهُبُوطِهِمْ وَلَا يَنْصَرِفُوا إلَى الْمَغِيبِ. [فَصَلِّ مَا يُؤْخَذ عَلَى النَّشَّارِينَ] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا النَّشَّارُونَ فَيَلْزَمُهُمْ أَنْ يَعْمَلُوا عَلَى كُلِّ وَرْشَةٍ ثَلَاثَةُ أُنَاسٍ لِيَحِدَّ أَحَدُهُمْ الْمَنَاشِيرَ وَإِذَا تَعِبَ وَاحِدٌ مِنْ الِاثْنَيْنِ نَابَ عَنْهُ ذَلِكَ الثَّالِثُ فِي النَّشْرِ إلَى أَنْ يَأْخُذَ صَاحِبُهُ رَاحَةً وَلَا يَنْصَرِفُوا إلَى آخِرِ النَّهَارِ وَيَمْنَعُهُمْ مِنْ اشْتَرَاك جَمِيعِهِمْ عَلَى النَّاسِ بَلْ يَكُونُوا مِثْلَ الْبَنَّائِينَ وَالنَّجَّارِينَ يَعْمَلُونَ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَهُمْ وَيُحَلِّفُ الْبَنَّائِينَ بِاَللَّهِ أَنَّهُمْ لَا يَأْخُذُوا مِنْ الْجَيَّارِينَ وَلَا مِنْ الْجَبَّاسِينَ رِشْوَةً وَلَا هَدِيَّةً لِيَكُفُّوا عَنْهُمْ قِلَّةَ نُضْجِ الْجِبْسِ وَرَدَاوَتِهِ وَأَيْضًا مَهْمَا حَضَرَ يَسُدُّونَ بِهِ وَيَعْمَلُونَهُ وَكُلُّ ذَلِكَ تَدْلِيسٌ

فصل الحسبة على المبيضين

عَلَى صَاحِبِ الْعَمَلِ. وَمِنْ عَلَامَةِ نُضْجِ الْجِبْسِ أَنْ يَصْفَرَّ لَوْنُهُ فِي الْفُرْنِ قَبْلَ طَحْنِهِ فَإِذَا خُلِطَ بِالْمَاءِ فَإِنْ دَخَلَ فِي الْقَصْرِيَّةِ وَجَفَّ بِسُرْعَةٍ فَهُوَ جِبْسٌ نَاضِجٌ وَإِلَّا فَهُوَ مَغْشُوشٌ وَيَجِبُ أَنْ يُرَاعَى ذَلِكَ أَتَمَّ مُرَاعَاةً وَيُؤْخَذُ عَلَيْهِمْ أَيْضًا أَنَّهُمْ لَا يَسْتَعْمِلُونَ الْجِبْسَ الرَّجِيعَ وَلَا مِنْ الْأَجْبَاسِ إلَّا مَا كَانَ مُفَلَّكًا فَهُوَ أَصْلَحُ الْجِبْسِ، وَكَذَلِكَ الْجَيَّارُونَ يُؤْخَذُ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ لَا يَبِيعُونَ لِلنَّاسِ إلَّا الْجِيرَ الطَّوَابِقِيَّ وَلَا يَعْمَلُوا فِيهِ مِنْ الصُّرُوفَاتِ شَيْئًا وَلَا يُعْطُوهُ إلَّا بِالْوَزْنِ وَقِنْطَار الْجَيَر لَيَّتِي مِائَةٌ وَأَرْبَعُونَ رِطْلًا وَيَجِبُ عَلَى الْبَنَّائِينَ أَيْضًا نُصْحُ أَرْبَابِ الْعَمَلِ وَأَنْ يَتَّقُوا اللَّهَ فِيمَا يُعَانُوهُ فَإِنَّهُ حَلَالٌ وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَلُّ مَا أَكَلَ الْمَرْءُ مِنْ كَسْبِهِ [فَصَلِّ الْحَسَبَة عَلَى الْمُبَيَّضَيْنِ] (فَصْلٌ) : وَكَذَلِكَ الْمُبَيِّضُونَ إذَا بَيَّضُوا مَوْضِعًا لِإِنْسَانٍ لَا يُكْثِرُوا مِنْ أَخْلَاطِ الْجِيرِ فِي جِبْسِ الْبِيَاضِ وَقْتَ عَجْنِهِ لِيَسْهُلَ عَلَيْهِمْ بَسْطُهُ عَلَى الْحِيطَانِ بِغَيْرِ تَعَبٍ فَإِنَّهُ يَكُونُ كَثْرَةُ الْجِيرِ سَبَبًا إلَى سُقُوطِ الْجِبْسِ عَلَى الْحِيطَانِ وَقْتَ حِفْظِهِ لَهَا وَبِنَائِهِ عَلَيْهَا وَيَلْزَمُ الصَّانِعَ تَجْرِبَةُ الْبِيَاضِ الْجَدِيدِ لِيَحْصُلَ مِنْهُ النُّصْحُ لِلْمُسْتَعْمِلِ. [فَصَلِّ الْحَسَبَة عَلَى نَجَّارِينَ الضِّبَاب] (فَصْلٌ) : وَأَمَّا نَجَّارُونَ الضِّبَابِ فَيُجْعَلُ عَلَيْهِمْ رَجُلٌ لَهُ دِينٌ وَبَصِيرٌ بِهَذِهِ الصِّنَاعَةِ فَهُوَ أَمْرٌ جَلِيلٌ يَحْتَاجُ إلَى ضَبْطِهِ لِأَنَّ فِيهِ حِفْظًا لِلْأَمْوَالِ وَصِيَانَةَ الْحَرِيمِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُرَاعَى ذَلِكَ وَيُؤْخَذُ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَعْمَلُوا لِأَحَدِ مِفْتَاحًا عَلَى مِفْتَاحٍ إلَّا أَنْ يَكُونَا شَرِيكَيْنِ مَشْهُورَيْنِ بِالْعِفَّةِ وَيُؤْمَرُوا أَنْ لَا

فصل الحسبة على الدهانين

يَثْقُبُوا رَأْسَ الْأَنْيَابِ لِطَرْحِ الْأَسْنَانِ بَلْ تُعْمَلُ تَعَشُّقًا يَنْقُرُهَا فِي رُءُوسِ الْإِنْبَاتِ لِحِفْظِ الْأَسْنَانِ الَّتِي فِيهَا مُرَبَّعَةَ الرُّءُوسِ مُدَوَّرَةَ الْأَسَافِلِ مَبْرُودَةً مُجَلَّسَةً وَكَذَلِكَ أَسْنَانُ الْمِفْتَاحِ حَتَّى لَا يُخَرَّبُ ذَكَرُ الْغَلْقِ لَا مِنْ فَوْقِهِ وَلَا مِنْ بَطْنِهِ وَيُؤْمَرُوا أَنْ يُغَيِّرُوا الْإِغْلَاقَ بِالْجَوَاسِيسِ الْمُخْتَلِفَةِ حَتَّى لَا يُعْمَلَ مِفْتَاحٌ عَلَى مِفْتَاحٍ فَمَنْ خَالَفَ ذَلِكَ أُدِّبَ. [فَصَلِّ الْحَسَبَة عَلَى الدَّهَّانِينَ] (فَصْلٌ) وَكَذَلِكَ الدَّهَّانُونَ يُؤْخَذُ عَلَيْهِمْ بِالْقَسَامَةِ بِاَللَّهِ الْعَظِيمِ أَنَّهُمْ لَا يُدْهِنُونَ مَا يَغُشُّونَهُ مِنْ جَمِيعِ عَلَامَتِهِمْ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِصِنَاعَتِهِمْ مِمَّا هُوَ لَهُمْ خَاصَّةً وَلِسَائِرِ النَّاسِ عَامَّةً مِمَّا يَسْتَعْمِلُونَهُ عِنْدَهُمْ وَأَنَّهُمْ يَدْهُنُونَ مَا يَبِيعُونَهُ لِلنَّاسِ ثَلَاثَ دَهَنَاتٍ وَيُشَمِّسُونَهُ حَتَّى يُشْبَعَ شَمْسًا قَبْلَ دَفْعِهِ إلَى أَرْبَابِهِ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ يَدْهُنُ دَهْنَةً أَوْ دَهْنَتَيْنِ فَأَدْنَى مَا يُصِيبُهُ مِنْ الْمَاءِ أَوْ النَّدَاوَةِ يَتْلَفُ فَإِنْ قَصَّرَ أَحَدٌ مِنْهُمْ دَهْنًا أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ أُنْكِرَ عَلَيْهِ وَيُؤَدُّونَ الْأَمَانَةَ فِيمَا يَتَسَلَّمُونَهُ مِنْ أَصْبَاغِ النَّاسِ وَمَهْمَا فَضَلَ أَعَادُوهُ لِأَرْبَابِهِ، وَيُمْنَعُوا مِنْ التَّصَاوِيرِ وَقَدْ «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُصَوِّرُ» . وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «أَنَّ الَّذِينَ يَصْنَعُونَ هَذِهِ الصُّوَرَ يُعَذَّبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُقَالُ لَهُمْ أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ» فَمَنْ وَجَدَهُ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ أَدَّبَهُ التَّأْدِيبَ التَّامَّ.

الباب السبعون يشتمل على تفاصيل من أمور الحسبة لم تذكر في غيره

[الْبَاب السَّبْعُونَ يَشْتَمِل عَلَى تَفَاصِيل مِنْ أُمُور الْحَسَبَة لَمْ تَذْكُر فِي غَيْره] [فَصَلِّ الْحَسَبَة عَلَى الرَّزَّازِينَ] (فَصْلٌ فِي الرَّزَّازِينَ وَغِشِّهِمْ وَتَدْلِيسِهِمْ) : أَمَّا الرَّزَّازُونَ فَإِنَّهُمْ كَثِيرُو الْغِشِّ فَيُعَرِّفُ عَلَيْهِمْ رَجُلًا ثِقَةً يَمْنَعهُمْ أَنْ يَخْلِطُوا مَعَهُ الْمِلْحَ وَيَبِيعُوهُ لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّهُ أُرْزٌ طَيِّبٌ وَهَذَا حَرَامٌ فَإِنَّهُ مَا اشْتَرَى مِنْهُ إلَّا أُرْزًا وَلَمْ يَشْتَرِ مِلْحًا وَلَا يُمَكِّنُهُمْ أَنْ يُوَجِّهُوا رُءُوسَ الْأَفْرَادِ بِالْأُرْزِ الطَّيِّبِ السَّالِمِ فَإِنَّ فِيهِمْ مَنْ يَجْعَلُ عَلَى رُءُوسِ الْأَفْرَادِ الْأُرْزَ السرادة وَتَحْتَهُ الدَّقُّ وَهَذَا أَيْضًا غِشٌّ وَتَدْلِيسٌ عَلَى الْمُشْتَرِي فَإِنَّهُ مَا اشْتَرَى إلَّا نِسْبَةَ الْعَيْنِ فَمَنْ وَجَدَهُ فَعَلَ ذَلِكَ أَدَّبَهُ. [فَصَلِّ الْحَسَبَة عَلَى المراوحيين وَبَاعَة الْكِبْرِيت وَالْمَكَانِس] (فَصْلٌ فِي المَرَاوِحِيّينَ وَبَاعَةِ الْكِبْرِيتِ وَالْمَكَانِسِ) يُؤْخَذُ عَلَى المَرَاوِحِيّينَ أَنَّهُمْ لَا يَسْتَعْمِلُونَ إلَّا الْخُوصَ النَّقِيَّ وَلَا يُظْفَرُ إلَّا رَفِيعٌ وَأَنْ يَكُونَ جَرِيدُ الْمَرَاوِحِ فِيهِ غِلَظٌ لِئَلَّا يَنْكَسِرَ فَيَضُرُّ بِالْمُشْتَرِي وَيُوصُوا أَنْ يَعْمَلُوا رَأْسَ الْمِرْوَحَةِ مَحْرُوزًا لِئَلَّا تَتَسَلَّتْ الْمِرْوَحَةُ بِسُرْعَةٍ وَكَذَلِكَ قَشُّ الْكِبْرِيتِ يُلْزَمُوا بِأَنْ لَا يَسْتَعْمِلُوا إلَّا الْكِبْرِيتَ النَّقِيَّ الْيَابِسَ لِأَنَّ الْأَخْضَرَ النَّادِي لَا يَعْلَقُ بِالنَّارِ سَرِيعًا، وَكَذَا الْمَكَانِسُ يُلْزَمُوا أَنْ يَجْعَلُوهَا لِيفًا جَمِيعَهَا

فصل الحسبة على الرفاتين

وَلَا يَحْشُوهَا بِشَيْءٍ مِنْ تُرَابِ اللِّيفِ وَلَا مِنْ الْقَشِّ وَيُخَيَّطُ فَيَعْتَقِدُ الْمُشْتَرِي أَنَّهَا جَمِيعَهَا لِيفٌ فَيُكْنَسُ بِهَا فَتَتَفَتَّتُ فَيَخْرُجُ مَا فِي بَطْنِهَا فَتَضُرُّ بِالْمُشْتَرِي. [فَصَلِّ الْحَسَبَة عَلَى الرفاتين] (فَصْلٌ فِي الزَّفَّاتِينَ) يُعَرِّفُ عَلَيْهِمْ رَجُلًا ثِقَةً وَيَحْلِفُوا بِاَللَّهِ الْعَظِيمِ أَنَّهُمْ لَا يَغُشُّونَهُ بِنُشَارَةِ الْخَشَبِ وَلَا بِالرَّمْلِ وَلَا بِرَبِّ الزَّيْتِ وَلَا يَبِلُّوا الْمَشَاقَّ بِالْمَاءِ حَتَّى يَثْقُلَ فِي الْوَزْنِ وَيَتَبَيَّنُ ذَلِكَ بِالنَّارِ، وَيَغُشَّ الزِّفْتَ الْيَابِسَ بِالْخُبْزِ الْمَحْرُوقِ فَيَعْتَبِرُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ. [فَصَلِّ الْحَسَبَة عَلَى سَقَّائِينَ الْكِيزَان وَأَرْبَاب الرَّوَايَا وَالْقُرْب وَالدِّلَاء] (فَصْلٌ فِي سَقَّائِينَ الْكِيزَانِ وَأَرْبَابِ الرَّوَايَا وَالْقِرَبِ وَالدِّلَاءِ) أَمَّا سُقَاةُ الْمَاءِ فِي الْكِيزَانِ فَيُؤْمَرُوا بِنَظَافَةِ أَزْيَارِهِمْ وَتَغْطِيَتِهَا وَافْتِقَادِهَا بِالْغَسْلِ بَعْدَ كُلِّ قَلِيلٍ مِنْ الْوَسَخِ الْمُجْتَمِعِ فِيهَا وَيَغْسِلُوا الْكِيزَانَ وَيَجْلُوهَا بِشِقْفِهَا وَبِالْأُشْنَانِ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَيُبَخِّرُوهَا فَإِنَّهَا تَتَغَيَّرُ مِنْ أَفْمَامِ النَّاسِ وَنَكْهَتِهِمْ وَلَا يَمْلَئُوا الْكُوزَ إلَى فَوْقَ شِبَاكِهِ وَلَا يَخْلِطُوا مَعَ مَاءِ الْبَحْرِ غَيْرَهُ مِنْ الْمِيَاهِ الْمَالِحَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ غِشٌّ وَلْيَكُنْ الْكُوزُ مُتَوَسِّطًا بَيْنَ الْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ وَشِبَاكُهُ مُتَوَسِّطًا بَيْنَ الضِّيقِ وَالِاتِّسَاعِ، وَلْتَكُنْ الْكِيزَانُ عِنْدَهُ مُعَلَّقَةً لِيَضْرِبَهَا الْهَوَاءُ فَتَبْرُدُ وَيُسْقِي كُلَّ أُنَاسٍ مِنْ كِيزَانٍ تَلِيقُ بِهِمْ وَإِنْ وَقَفَ عِنْدَهُ رَجُلٌ رَئِيسٌ أَوْ كَبِيرٌ نَاوَلَهُ كُوزًا جَدِيدًا لَمْ يَشْرَبْ فِيهِ أَحَدٌ قَبْلَهُ وَيَنْبَغِي أَنْ يَتَّخِذَ لِلْأَزْيَارِ أَغْطِيَةً مِنْ خُوصٍ مُصَلَّبَةً بِجَرِيدٍ، وَلَا يَسْقِ أَحَدًا مِنْ كُوزِ الزِّيرِ وَلَا يُدْخِلُ يَدَهُ فِي الزِّيرِ وَهِيَ زَفِرَةٌ وَيَجْتَهِدُ فِي نَظَافَةِ حَانُوتِهِ وَبَدَنِهِ وَثِيَابِهِ، وَيَتَفَقَّدُ الْمُحْتَسِبُ حَوَانِيتَهُمْ عَلَى غَفْلَةٍ مِنْهُمْ لَيْلًا وَنَهَارًا فَمَنْ وَجَدَ عِنْدَهُ زِيرًا مَكْشُوفًا أَوْ كِيزَانًا وَسِخَةً أَوْ وَجَدَهُ يَخْلِطُ مَاءَ الْبَحْرِ مَعَ مَاءِ الْبِئْرِ أَدَّبَهُ وَبَدَّدَ مَا عِنْدَهُ وَغَلَقَ حَانُوتَهُ حَتَّى يَرْتَدِعَ بِهِ غَيْرُهُ، وَبِالْجُمْلَةِ فَاَلَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْعُقَلَاءُ مِمَّنْ سَافَرَ الْبِلَادَ وَشَرِبَ مِنْ مَائِهَا أَنَّهُ لَا يُوجَدُ أَحْسَنُ وَلَا أَلَذُّ مِنْ مَاءِ النِّيلِ. وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «أَنَّ

جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نَزَلَ بِالنِّيلِ وَالْفُرَاتِ عَلَى جَنَاحَيْهِ فَكَانَ النِّيلُ عَلَى جَنَاحِهِ الْأَيْسَرِ وَالْفُرَاتُ عَلَى جَنَاحِهِ الْأَيْمَنِ» . قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَاءَ النِّيلِ أَخَفُّ مِنْ مَاءِ الْفُرَاتِ لِأَنَّ الشَّيْءَ الثَّقِيلَ مِنْ عَادَتِهِ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ وَالْخَفِيفَ عَلَى الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ وَكَوْنُ جِبْرِيلَ حَمَلَ النِّيلَ عَلَى جَنَاحِهِ الْأَيْسَرِ دَلِيلٌ عَلَى خِفَّتِهِ. وَأَمَّا أَرْبَابُ الرَّوَايَا وَالْقِرَبِ وَالدِّلَاءِ يُعَرِّفُ عَلَيْهِمْ رَجُلًا أَمِينًا يَمْنَعهُمْ أَنْ يَسْتَعْمِلُوا شَيْئًا مِنْ الْآلَاتِ الْحَافِظَةِ لِلْمِيَاهِ الَّتِي هِيَ مَادَّةُ الْحَيَاةِ إلَّا مِنْ الْجُلُودِ الْمَدْبُوغَةِ بِالْقَرَظِ الْيَمَانِيِّ الَّتِي قَدْ اُسْتُحْكِمَ دِبَاغُهَا وَطَالَ مُكْثُهَا وَلَا تُعْمَلُ مِنْ جِلْدِ بَغْلٍ وَلَا مُسَوَّسٍ وَلَا دَرَنٍ وَلَا تُعْمَلُ مِنْ نَطْعٍ وَلَا سُلْفَة وَلَا بِطَانَةٍ مِنْ جُلُودِ الرَّوَايَا الْمُسْتَعْمَلَةِ، وَلَا تُعْمَلُ قِرْبَةٌ إلَّا مِنْ أَدِيمٍ مِصْرِيٍّ أَوْ سُلْفَة يَمَانِيَّةٍ، وَكَذَلِكَ السَّقَّاءُونَ وَأَصْحَابُ الرَّوَايَا وَالْقِرَبِ يَأْمُرُهُمْ الْمُحْتَسِبُ بِالدُّخُولِ فِي الْبَحْرِ حَتَّى يَبْعُدَ عَنْ مَوَاضِعِ الْأَوْسَاخِ وَلَا يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَمْلَئُوا مِنْ قُرْبِ مَوْضِعٍ فِي الْبَحْرِ يَقْرَبُ سِقَايَةً أَوْ مَجْرَى حَمَّامٍ بَلْ يَصْعَدُوا عَنْهُ أَوْ يَبْعُدُوا مِنْ تَحْتِهِ وَمَنْ اتَّخَذَ مِنْهُمْ رِوَايَةً جَدِيدَةً أَوْ قِرْبَةً جَدِيدَةً أَلْزَمَهُ الْمُحْتَسِبُ أَنْ يَنْقُلَ بِهَا الْمَاءَ إلَى أَحْوَاضِ الطَّوَاحِينِ وَالْمَعَاصِرِ وَمَعَاجِنِ الطِّينِ أَيَّامًا وَلَا يَبِيعُهُ لِلشُّرْبِ أَصْلًا فَإِنَّهُ يَكُونُ مُتَغَيِّرَ الطَّعْمِ وَاللَّوْنِ وَالرَّائِحَةِ مِنْ أَثَرِ الدِّبَاغِ وَالْقَطْرَانِ فَإِنْ زَالَ التَّغَيُّرُ أَذِنَ لَهُ الْمُحْتَسِبُ بِبَيْعِهِ لِلنَّاسِ لِلشُّرْبِ وَالِاسْتِعْمَالِ، وَيَأْمُرُهُمْ أَنْ يَشُدُّوا فِي أَعْنَاقِ دَوَابِّهِمْ الْأَجْرَاسَ وَصَفَاقَاتِ الْحَدِيدِ وَالنُّحَاسِ لِيَعْلُوَا جَلَبَةَ الدَّابَّةِ إذَا عَبَرَتْ فِي السُّوقِ فَيَنْحَدِرُ مِنْهَا الضَّرِيرُ وَالْإِنْسَانُ الْغَافِلُ وَالصِّبْيَانُ وَكَذَلِكَ

فصل الحسبة على الغسالين لأقمشة الناس

يَفْعَلُ بِالْمُكَارِيَةِ وَالتَّرَّاسَيْنِ وَحَمَّالِينَ الْحَطَبِ وَمَزَابِلِ الطِّينِ وَغَيْرِهِمْ وَيُجْبِرُهُمْ الْمُحْتَسِبُ عَلَى ذَلِكَ. [فَصَلِّ الْحَسَبَة عَلَى الْغَسَّالِينَ لِأَقْمِشَةِ النَّاس] (فَصْلٌ فِي الْغَسَّالِينَ لِأَقْمِشَةِ النَّاسِ) يَنْهَاهُمْ الْمُحْتَسِبُ عَنْ غَسْلِ ثِيَابِ النَّاسِ بِالْمَاءِ الْمَطْبُوخِ فِيهِ الْقَلْيُ وَالنَّوْرَةُ وَالنَّطْرُونُ وَيُسَمَّى عِنْدَهُمْ الْمِقَّةَ فَإِنَّ ذَلِكَ يَضُرُّ بِمَلَابِسِ النَّاسِ وَيُعَرِّضُهَا لِتَخْرِيقِهَا وَتَوْلِيدِ الْقَمْلِ فِيهَا وَلَا يَعْصِرُوا عَلَى خَشَبٍ وَلَا بِخَشَبٍ فَمَنْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ أَدَّبَهُ.

فصل الإنكار على نطاح الكباش ونقار الديوك وصياح السمان وأمثالها

[فَصَلِّ الْإِنْكَار عَلَى نِطَاح الْكِبَاش وَنَقَّار الدُّيُوك وَصِيَاح السُّمَّانِ وَأَمْثَالهَا] (فَصْلٌ فِي الْإِنْكَارِ عَلَى نِطَاحِ الْكِبَاشِ وَنِقَارِ الدُّيُوكِ وَصِيَاحِ السِّمَّانِ وَأَمْثَالِهَا) وَمِمَّا عَرَفَ النَّاسُ أَنَّهُ مُنْكَرٌ إثَارَةُ التَّحْرِيشِ بَيْنَ الْحَيَوَانَاتِ وَهِيَ ذَوَاتُ أَكْبَادٍ رَطْبَةٍ وَأَخْلَاقٍ صَعْبَةٍ وَمَا مِنْهَا إلَّا مَا يَحِلُّ أَكْلُهُ وَلَا يَحِلُّ قَتْلُهُ كَالْكَبْشِ النِّطَاحِ وَالدِّيكِ النَّقَّارِ وَالسِّمَّانِ الصَّيَّاحِ وَأَشْبَاهِهَا وَقَدْ أَكْثَرَ النَّاسُ مِنْ اقْتِنَائِهَا وَالْمُوَاظَبَةِ عَلَى إضْرَامِ شَحْنَائِهَا وَرُبَّمَا نَشَأَ مِنْ ذَلِكَ فِتْنَةٌ تَئُولُ إلَى ضِرَابٍ وَتَشْوِيشٍ وَشَقِّ ثِيَابٍ وَإِحْدَاثِ شِجَاجٍ وَإِثَارَةِ عَجَاجٍ وَيَجْلِبُ ذَلِكَ إلَى أَحْزَابٍ كَثِيرَةٍ وَأَفْوَاجٍ وَيَتَّصِلُ بِهَذِهِ الْمُنْكَرَاتِ أَشْيَاءُ أُخْرَى تَجْرِي مَجْرَاهَا فِي التَّقْدِيمِ وَتَنْزِلُ مَنْزِلَتَهَا فِي التَّحْرِيمِ فَأَحْكُمُ فِيهَا بِحُكْمِك وَأَمْضِ فِي مُشْتَبِهَاتِهَا بِدَلِيلِ عِلْمِك فَإِنَّ السُّكُوتَ عَنْ الْبِدْعَةِ رِضَاءُ بِمَكَانَتِهَا وَتَرْكُ النَّهْيِ عَنْهَا كَالْأَمْرِ بِإِتْيَانِهَا وَلْيَكُنْ عَمَلُك لِلَّهِ الَّذِي يَسْمَعُ وَيَرَى وَلَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى وَهَذِهِ فُصُولٌ تَطُولُ لِأَنَّ الْمُنْكَرَاتِ لَا يَنْحَصِرُ عَدَدُهَا فَتُسْتَوْفَى وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ كِفَايَةٌ وَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعَوْنَ وَالتَّوْفِيقَ وَالْعِصْمَةَ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ بِمَنِّهِ وَكَرْمِهِ، إنَّهُ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ آمِينَ تَمَّ.

§1/1