معالم الطريق إلى الله

أبو فيصل البدراني

مقدمة

"بسم الله الرحمن الرحيم" الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين , أما بعد: فهذا كتاب أعددته لكل من عقد العزم على الرجوع إلى الله عز وجل وسمَيته معالم الطريق إلى الله , وعدد هذه المعالم ستة عشر وحصرها بهذا العدد هو اجتهاد مني , وقد جمعت في كل معلم بعض المسائل المهمة التي يحتاجها السالك إلى الله , وجعلتها على هيأة نقاط , علماً بأن هذه المسائل مُستفادة من استقراء الكتاب والسنة, وهي مُجرَدة عن الأدلة بُغية الاختصار والاختزال إذ المقام ليس مقام إطالة وإسهاب وهذا في الأعم الأغلب

المعلم الأول: عوارض الأهلية وشروط التكليف وموانعه

تنبيه: لا يجب قراءة هذا الكتاب من أوله إلى آخره مُرتباً , بل للقاريء الكريم أن يتخيَر ويقرأ كل معلم من هذه المعالم مجرَداَ عن ما قبله وعن ما بعده. (المعلم الأول: عوارض الأهلية وشروط التكليف وموانعه) • الأهلية هي صلاحية الإنسان لوجوب الحقوق الشرعية له أو عليه أو صلاحيته لصدور الفعل منه على وجه يُعتد به شرعاً. • عوارض الأهلية هي أحوال منافية لأهلية الإنسان غير لازمة له. وهي نوعان: 1 - عوارض سماوية: (وهي ما ثبت من قبل صاحب الشرع بدون اختيار للعبد فيه وهذه العوارض خارجة عن قدرة العبد وهي أحد عشر (الصغر، الجنون، العته، والنسيان، النوم، الإغماء، الرق، المرض، الحيض، النفاس، الموت) ويخرج الحمل والرضاع والشيخوخة القريبة إلى الفناء من العوارض لدخولها في المرض ولو أفردا من بين العوارض فلا بأس. والعته: هو اختلاط كلامه مرة وعدم اختلاطه مرة فيشبه بعض كلامه كلام العقلاء وبعضه كلام المجانين. 2 - عوارض مكتسبة: (وهو ما كان لاختيار العبد فيه دخل باكتساب أو ترك إزالتها وهي نوعان منه ومن غيره أما الذي منه فهي الجهل والسكر والهزل والسفه والخطأ والسفر أما الذي من غيره فالإكراه بما فيه من إلجاء وبما ليس فيه إلجاء.) لكن ليُعلم أنه ليس كل جهل هو عذر وعارض فهناك جهل باطل ولا يصلح عذراً في الآخرة , أما السكر فالمتفق في جعل السكر عارضاً وعذراً مؤثراً كونه بطريق مباح فيكون كالإغماء، وأما السفه فهو خفة تبعث الإنسان على العمل في ماله بخلاف مُقتضى العقل.

• الغضب عند أهل العلم له ثلاث مراتب: المرتبة الأولى: أن يشتد غضبه حتى يفقد عقله، وحتى لا يبقى معه تمييز من شدة الغضب. فهذا حكمه حكم المجانين لا يترتب على كلامه حكم؛ لا طلاقه، ولا سبّه، ولا غير ذلك، ويكون كالمجنون لا يترتب عليه حكم. المرتبة الثانية: دون ذلك، أن يشتد معه الغضب ويغلب عليه الغضب جدًّا حتى يغير فكره، وحتى لا يضبط نفسه ويستولي عليه استيلاءً كاملاً، حتى يصير كالمكره والمدفوع الذي لا يستطيع التخلص مما في نفسه، لكنه دون الأول، فلم يَزُلْ شعوره بالكيلة، ولم يفقد عقله بالكلية، لكن معه شدة غضب بأسباب المسابَة والمخاصمة والنزاع بينه وبين بعض الناس كأهله أو زوجته أو ابنه أو أميره أو غير ذلك. وهذا يُلحق بالأول الذي فقد عقله؛ لأنه أقرب إليه، ولأن مثله مدفوع مكره إلى النطق، لا يستطيع التخلص من ذلك لشدة الغضب. وحكمه حكم من فقد عقله في هذا المعنى، أي في عدم وقوع طلاقه، وفي عدم ردْته؛ لأنه يشبه فاقد الشعور بسبب شدة غضبه واستيلاء سلطان الغضب عليه حتى لم يتمكن من التخلص من ذلك. المرتبة الثالثة: فهو الغضب العادي، الذي لا يزول معه العقل، ولا يكون معه شدة تضيِّق عليه الخناق، وتُفقده ضبط نفسه، بل هو دون ذلك، غضب عادي يتكدّر ويغضب، ولكنه سليم العقل سليم التصرف. فهذا عند أهل العلم تقع تصرفاته، ويقع بيعه وشراؤه وطلاقه وغير ذلك؛ لأن غضبه خفيف لا يغيَر عليه قصده ولا قلبه , والله أعلم. • التمييز هو أن يميَز الطفل بين ما يضره وما ينفعه ويكون غالباً في السادسة أو السابعة من عمره. • الصغير (الطفل) المميز يجري عليه قلم الحسنات ولا يجري عليه قلم السيئات وليس عليه واجب وليس عليه محرم لكن يجب على ولي الطفل مُميزاً كان أو غير مميز أن يجنبه المحرمات من الأطعمة والملابس وغير ذلك.

• للتكليف موانع منها: الجهل وهو عدم العلم فمتى فعل المكلف محرماً جاهلاً بتحريمه فلا شيء عليه ومتى ترك واجباً جاهلاً بوجوبه لم يلزمه قضاؤه إذا كان قد فات وقته. النسيان وهو ذهول القلب عن شيء معلوم فمتى فعل محرماً ناسياً فلا شيء عليه ومتى ترك واجباً ناسياً فلا شيء عليه حال نسيانه ولكن عليه فعله إذا ذكره. الإكراه وهو إلزام الشخص بما لا يريد فمن أُكره على شيء محرم فلا شيء عليه ومن أكره على ترك واجب فلا شيء عليه حال الإكراه وعليه قضاؤه إذا زال. وهذه الموانع إنما هي في حق الله لأنه مبني على العفو والرحمة أما في حقوق المخلوقين فلا تمنع من ضمان ما يجب ضمانه إذا لم يرض صاحب الحق بسقوطه والله أعلم. • شروط التكليف: العلم والقدرة. ومن موانعه الجهل والعجز والإكراه والنسيان وغير ذلك. • من أسباب الإعذار: التأويل. • الغلط والنسيان والسهو وسبق اللسان بما لا يريده العبد بل يريد خلافه به مكرهاً أو غير عارف لمقتضاه من لوازم البشرية لا يكاد ينفك الإنسان من شيء منه فلو رتب عليه الحكم لحرجت الأمة وأصابها غاية التعب والمشقة فرفع عنها المؤاخذة بذلك كله حتى الخطأ في اللفظ من شدة الفرح والغضب والسكر وكذلك الخطأ والنسيان والإكراه والجهل بالمعنى وسبق اللسان بما لم يرده والتكلم في الإغلاق ولغو اليمين فهذه عشرة أشياء لا يؤاخذ الله بها عبده بالتكلم في حال منها لعدم قصده وعقد قلبه الذي يؤاخذ به. • الغافل والذاهل والناسي لا يُؤخذ بما يصدر منه. • من همَ بالسيئة ولم يفعلها معفوٌ عنه وإن تركها لله فهو مأجور.

المعلم الثاني: مصير الناس بعد الموت ومنازلهم عند ربهم ومراتب أعمالهم وأحوالهم

(المعلم الثاني: مصير الناس بعد الموت ومنازلهم عند ربهم) • الله عز وجل رحيم واسع الرحمة وحكيم يُنزل الأمور منازلها ويعطي كل أحد بحسب حاله ومقامه , قال تعالى (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) اشترك هؤلاء الثلاثة في الإيمان وفي اصطفاء الله لهم من بين الخليقة وفي دخول الجنة وافترقوا في تكميل مراتب الإيمان وفي مقدار الاصطفاء من الله وميراث الكتاب وفي منازل الجنة ودرجاتها بحسب أوصافهم. وهم ثلاث مراتب كلية: الأول: ظالم لنفسه. الثاني: مقتصد. الثالث: سابق بالخيرات. أما الظالم لنفسه فهو المؤمن الذي خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً وترك من واجبات الإيمان ما لا يزول معه الإيمان بالكلية وهذا القسم ينقسم إلى قسمين القسم الأول: من يرد القيامة وقد كُفَر عنه السيئات كلها إما بدعاء أو شفاعة أو آثار خيرية ينتفع بها في الدنيا أو عُذَب في البرزخ بقدر ذنوبه ثم رُفع عنه العقاب وعمل الثواب عمله فهذا من أعلى هذا القسم. القسم الثاني: من ورد القيامة وعليه سيئات فهذا توزن حسناته وسيئاته ثم هم بعد هذا النوع ثلاثة أنواع: النوع الأول: من ترجح حسناته على سيئاته فهذا لا يدخل النار بل يدخل الجنة برحمة الله. النوع الثاني: من تساوت حسناتهم وسيئاتهم فهؤلاء هم أصحاب الأعراف وهي موضع مرتفع بين الجنة والنار يكونون عليه ويلبثون فيه ما شاء الله ثم بعد ذلك يدخلون الجنة. النوع الثالث: من رجحت سيئاته على حسناته فهذا قد استحق دخول النار إلا أن يمنع من ذلك مانع من شفاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - له أو أحد أقاربه أو معارفه أو تدركه رحمة الله المحضة بلا واسطة وإلا فلا بد له من دخول النار يُعذب فيها بقدر ذنوبه ثم مآله إلى الجنة ولا يبقى في النار أحد في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال حبة خردل. أما المقتصد فهو الذي أدى الواجبات وترك المحرمات ولم يُكثر من نوافل العبادات وإذا صدر منه بعض الهفوات بادر إلى التوبة , فيُعاد إلى مرتبته فهؤلاء أهل اليمين فهؤلاء سلموا من عذاب البرزخ وعذاب النار وسلم لهم إيمانهم وأعمالهم فأدخلهم الله بها الجنة.

وأما السابق إلى الخيرات فهو الذي كمل مراتب الإسلام وقام برتبة الإحسان فعبد الله كأنه يراه فإن لم يكن يراه فإنه يراه وبذل ما استطاع من النفع لعباد الله فكان قلبه ملآن من محبة الله والنصح لعباد الله فأدى الواجبات والمستحبات وترك المحرمات والمكروهات وفضول المباحات المنقصة لدرجته فهؤلاء هم صفوة الصفوة وهم المقربون. علماً أن أصحاب هذه المراتب كلٌ على حسب درجته وبينهما تفاوت عظيم. • مراتب أعمال الناس من حيث ميزان الشرع: المرتبة الأولى: العمل الصالح المشروع الذي لا كراهة فيه: فهو سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - الباطنة والظاهرة والغالب على هذا الضرب هو أعمال السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان. المرتبة الثانية: العمل الصالح من بعض وجوهه أو أكثرها إما لحُسن القصد أو لاشتماله مع ذلك على أنواع من المشروع , وهذا الضرب كثير جداً في طرق المتأخرين ومن عامة المسلمين أيضاً, فقد يكون الشخص الواحد في العمل الواحد آثماً من جهة وفي ذات الوقت مُحسناً مأجوراً من جهة أخرى. المرتبة الثالثة: ما ليس صلاح أصلاً إما لكونه تركاً للعمل الصالح مطلقاً أو لكونه عملاً فاسداً محضاً. فأفضل هذه المراتب بلا شك الأولى ثم الثانية أما الثالثة فأعاذنا الله منها. • أولياء الله المتقون هم الذين فعلوا المأمور وتركوا المحظور وصبروا على المقدور. • هناك فرق بين القوة العلمية والقوة العملية والعلم شيء والتحلي بالعلم شيء آخر والناس مع هاتين القوتين (العلمية والعملية) أربعة أقسام: القسم الأول: من الناس من تكون له القوة العلمية الكاشفة عن الطريق ومنازلها وأعلامها وعوارضها ومعاثرها، وتكون هذه القوة العلمية أغلب القوتين عليه ويكون ضعيفاً في القوة العملية يُبصر الحقائق ولا يعمل بموجبها ويرى المتالف والمخاوف والمعاطب ولا يتوقاه فهو فقيه ما لم يحضر العمل فإذا حضر العمل شارك الجهَال في التخلَف وفارقهم في العلم وهذا هو الغالب على أكثر النفوس المنشغلة بالعلم والمعصوم من عصمه الله ولا قوة إلا بالله. القسم الثاني: ومن الناس من تكون له القوة العملية الإرادية وتكون أغلب القوتين عليه وتقتضي هذه القوة السير والسلوك والزهد في الدنيا والرغبة في

الآخرة والجد والتشمير في العمل ويكون أعمى البصر عند ورود الشبهات في العقائد والانحرافات في الأعمال والأقوال والمقامات كما كان الأول ضعيف العقل عند ورود الشهوات فداء هذا من جهله وداء الأول من فساد إرادته وضعف عقله وهذا حال أكثر أرباب الفقر والتصوف السالكين على غير طريق العلم. القسم الثالث: من كانت له هاتان القوتان استقام له سيره إلى الله ورُجي له النفوذ وقوي على رد القواطع والموانع بحول الله وقوته فإن القواطع كثيرة شأنها شديد ولا يخلص من حبائلها إلا الواحد بعد الواحد ولولا القواطع والآفات لكانت الطريق معمورة بالسالكين ولو شاء الله لأزالها وذهب بها ولكن الله يفعل ما يريد. القسم الرابع: فإذا كان السير ضعيفاً والهمة ضعيفة والعلم بالطريق ضعيفاً والقواطع الخارجة والداخلة كثيرة شديدة فإنه جهد البلاء ودرك الشقاء وشماتة الأعداء إلا أن يتداركه الله برحمة منه. • العلماء ثلاثة عالم بالله دون أمره وعالم بأمر الله ليس عالماً بالله وعالم بالله عالم بأمر الله وهذا هو الراسخ في العلم.

المعلم الثالث: الشيطان وموقفنا منه

(المعلم الثالث: الشيطان وموقفنا منه) • الملائكة عباد مكرمون يقومون بأمر الله الكوني المحبوب لله عز وجل وهم يعلمون ذلك ولو كان صورة هذا الأمر عذاب وانتقام فهو خير ومحبوب لله فهو جزاء لظلم الناس وما ظلمهم الله , والملائكة مسخَرون كالشمس والقمر فلا تتأتى منهم المعصية ألبتة والله أعلم , وهم يأتمرون بأمر الله المباشر سبحانه وتعالى. • إذا أطلق اسم الشيطان فالمراد به فاسق الجن , والله لا يجعل للشيطان على العبد سلطاناً حتى يجعل له العبد سبيلاً بطاعته والشرك به فجعل الله حينئذٍ له عليه تسلطاً وقهراً , فلا سلطان للشيطان على عباد الله الصالحين , وأما تسليطه على المؤمنين فيكون بسبب ذنوبهم. • وكَل الله بكل إنسان قريناً من الملائكة وقريناً من الجن والقرين الملكي والقرين الجني يتسابقان على توجيه الإنسان فللملك لمَته وهي إيعاد بالخير وتصديق بالحق ولَمة الشيطان إيعاد بالشر وتكذيب بالحق. • للإنسان عدوان: عدو ظاهر وهو شيطان الإنس وعدو باطن وهو شيطان الجن ومحاربة العدو الباطن أولى من العدو الظاهر. • خواطر القلب السيئة قسمان: 1 - طارئة (ضرورية) غير مستقرة وهي ما يجري في الصدر من الخواطر ابتداءً ولا يقدر الإنسان على دفعها فهذه مدافعتها تكون بالإعراض عنها وعدم التكلم بها. 2 - مستقرة (اختيارية) وهي التي أوجبتها شبهة وُجدت فيه فهذه لا تُدفع إلا بالاستدلال والنظر في إبطالها وتكون بمناقشتها ومعرفة الدليل وإقامة الحجة والبرهان لدحضه. • المؤاخذة تكون في أعمال القلوب المستقرة. • الأفكار والخواطر حسنها وسيئها تتوارد على القلب والإنسان يقبل منها ما شاء ويرفض ما شاء فمن فتح أبوابه للملك الكريم وأغلقه عن الشيطان الرجيم فقد أفلح. • قد يخاف الشيطان ويهرب من بعض عباد الله. • يدخل كافر الجن النار. • كل مخالفة للرحمن فهي طاعة للشيطان.

• أساليب الشيطان في إضلال الإنسان: تزيين الباطل، وتشويه الحق، والإفراط والتفريط ولا ينجي من ذلك بعد الله إلا علم راسخ وإيمان قوي، ومن الأساليب أيضاً التسويف والكسل والتثبيط، والوعد والتمنية وهو في الواقع لا حقيقة له، وإظهار النصح للإنسان، والتدرج في الإضلال، وتخويف المؤمنين أولياء الشيطان وهم الكفرة، ودخوله إلى النفس من الباب الذي تحبه وتهواه، وإلقاء الشبهات، وسائر أمراض قلوب بني آدم هي مداخل الشيطان. • الأذكار والتحصينات الشرعية والرقية وجميع الأوراد لها شروط ولها موانع فمن حقق شرطها واجتنب موانعها حصل على ثمرتها تامة والأوراد والأذكار والاستعاذة تكون بحسب ما يقوم بالقلب والسيف بضاربه. • كلما كان المؤمن حسن الصلة بالله كان لذكره ودعائه وتعوذه وورده أثر أقوى , وقيل وإن كان مرجوحاً بأن القول اللساني للأذكار والدعاء والاستعاذة بدون المعارف القلبية عديم الفائدة والأثر. • ما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزعتان إما إلى تفريط وإضاعة وإما إلى إفراط وغلو ودين الله وسط بين الجافي عنه والغالي فيه كالوادي بين جبلين والهدى بين ضلالتين والوسط بين طرفين دميمين فكما أن الجافي عن الأمر مُضيع له فالغالي فيه مضيع، هذا بتقصيره عن الحد وهذا بتجاوزه الحد. • الذي يعبد غير الله عز وجل إنما يعبد إبليس في نفس الأمر لأنه هو الذي أمره بذلك وحسَنه وزيَنه له. • الذي يميل ويحب ويريد ويستجيب لوحي الشيطان استجابة مطلقة هو من لا يؤمن بالآخرة وهو الكافر والناس بين مستقل ومستثكر. • شأن المتقين إذا مسهم طائفٌ من الشيطان التذكر والاستعاذة بالله والالتجاء إليه وإن كان الطائف يسير , أما الفجار فإنهم لا ينتهون ولا يقصر الشياطين في مدهم في الغي. • عبادة الشيطان المراد بها طاعته المطلقة فيما يوسوس به إليهم ويزينه لهم , وتكون طاعة الشيطان شركاً إذا أطاعه في الاعتقاد بالذي هو محل الكفر والإيمان أما من أطاعه في الفعل وعقده مستمر على التوحيد والتصديق فهو عاص.

• سؤال العرافين والكهنة على وجه الامتحان لإظهار تناقضهم وكشف عوارهم لا بأس به. • تعليل صدق المنجمين والعرافين بعض الأحيان: أنهم يقولون للناس كلاماً عاماً حمَال للوجوه فإذا حدث الأمر فسَروه على الوجه الذي يريدون وبعض الأحيان يكون فراسة وتوقع وأحياناً تكون هذه الكلمة الصادقة مما خطفه الجن من خبر السماء علماً بأن المسلم مأمور بعدم تصديقهم طاعةً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -. • كيف تصنع بالشيطان إذا سوَل لك الخطايا؟ تجاهده هذا حسن ولكنه يطول , والحل الناجع تستعين بخالقه فيكفَه عنك وهو على كل شيء قدير. • إذا ذُكر الله تصاغر الشيطان حتى يكون كالذباب. • قلوب بني آدم ثلاثة: 1 - قلب خالٍ من الإيمان والخير قد استراح الشيطان من إلقاء الوساوس عليه , وهذا قلب الكافر والمنافق. 2 - قلب محشو بالإيمان وتوحيد الله لو دنا منه الوسواس لاحترق وهذا قلب حقيقٌ أن يُحرس ويُحفظ من كيد العدو فلا ينال منه شيئاً إلا خطفة. 3 - قلب قد استنار بنور الإيمان ولم يتمكن منه وللشيطان فيه إقبال وإدبار فالحرب دول وسجال. • يشرع علاج الوسواس أحياناً بالعلاج الحسي الطبيعي النفسي كالأدوية وهذا الوسواس خبل في العقل. • الشيطان يتسلط على بني آدم ببعض ذنوبهم فهم الذين أدخلوه على أنفسهم ومكنوه بما فعلوا من المعاصي لأنها مركبه ومدخله فلو اعتصموا بطاعة ربهم لما كان له عليهم من سلطان. • من أبرز علامات وحي الشيطان ووسوسته قذف سوء الظن برب العالمين. • ينحصر شر الشيطان في ستة أجناس لا يزال بابن آدم حتى ينال منه واحداً منها أو أكثر: الأول: الكفر والشرك. الثاني: البدعة. الثالث: الكبائر من الذنوب. الرابع: الصغائر. الخامس: الانشغال بالمباحات عن الخير. السادس: العمل بالمفضول عن الفاضل.

• من شر الشيطان أنه قعد لابن آدم بطرق الخير كلها فما من طريق من طرق الخير إلا والشيطان مرصد عليه يمنعه بجهده أن يسلكه فإن خالفه وسلكه ثبَطه فيه وعوقه وشوَش عليه بالمعارضات والقواطع فإن عمله وفرغ منه قيض له ما يبطل أثره ويرده على حافرته. • الشيطان بمنزلة قاطع طريق كلما أراد العبد أن يسير إلى الله تعالى أراد قطع الطريق عليه , وكلما أرد العبد توجهاً إلى الله بقلبه جاءه من الوسواس ما يقطع الطريق عليه. • من أسباب الوسواس: قلة العلم، ضعف الأيمان، الاسترسال مع الهواجس، الغفلة عن ذكر الله، عدم مخالطة الناس، عدم الاتباع إما بإفراط أو تفريط. • الوسوسة عموماً: هي حديث النفس والأفكار وحديث الشيطان بما لا نفع فيه ولا خير وقد تكون خواطر رديئة مشينة قادحة في الإيمان أو داعية إلى المعاصي أو تكون فيما لا طائل تحته من تافه الأحاديث وخرافاتها مما يستند إلى الوهم والتخيل. • الشيطان يستطيع أن يصل إلى فكر الإنسان وقلبه بطريقة لا نُدركها ولا نعرفها يساعده على ذلك طبيعته التي خُلق عليها وهذه الوسوسة. • الوسوسة الشيطانية: هي الهمس والصوت الخفي الذي يصل مفهومه إلى القلب من غير سماع ثم يخنس أي يتأخر ويرجع عن الوسوسة إذا ذكر العبد ربه واستعاذ بالله من عدوه. • الوسوسة لغةً هي تردد الشيء في النفس من غير اطمئنان واستقرار. • الوسوسة على أقسام: باعتبار مصادرها والله أعلم: القسم الأول: حديث النفس. القسم الثاني: شياطين الإنس. القسم الثالث: شياطين الجن. • من حصل له وسوسة فتردد في الإيمان أو الصانع أو تعرض بقلبه لنقص أو سب وهو كاره لذلك كراهة شديدة ولم يقدر على دفعه لم يكن عليه شيء ولا إثم بل هو من الشيطان فيستعين بالله على دفعه ولو كان من نفسه لما كرهه. • وساوس الشيطان تتعلق بعلم القلب وعمله وأعمال الجوارح على حدٍ سواء وتكون بالإفراط أو التفريط ويأتي من باب الطاعة وأيضاً من باب المعصية. • من السنة قطع أسباب الوسوسة.

• قطع أسباب الوسوسة مشروعة ويُستحب أحياناً إيجاد بديل مشروع لسبب الوسواس لصرف الذهن عن السبب الموسوس. • على الموسوس أن يشتغل بطهارة باطنه قبل ظاهره. • فرح المؤمن مما يغيظ الشيطان فيكف عن الوسوسة وإذا حزنت تسلَط عليك الشيطان. • كيفية التعامل مع شيطان الإنس: أمر الله بمصانعة شيطان الإنس والعدو الإنسي والإحسان إليه ومداراته ليرده عنه طبعه الطيب الأصل عما هو فيه من الأذى. أما شيطان الجن: أمر الله بالاستعاذة من شيطان الجن والعدو الشيطاني لا محالة إذ لا يقبل مصانعة ولا إحساناً ولا رشوة ولا يؤثر فيه جميل لأنه شرير بالطبع ولا يبتغي غير هلاك بني آدم. • الأسباب التي يعتصم بها العبد من الشيطان: الاستعاذة بالله منه , كثرة ذكر الله وهو أنفع الحروز , توحيد الله والتوكل عليه, والإخلاص. • كل ما يثبطك عن الخير ويحثك على الشر فاعلم أنه من الشيطان , وإذا وجدت شيئاً من الخوف وعدم الإقدام في أمر من أمور الخير وعلى هدي السنة فاعلم أن وراء ذلك الشيطان. • بالجملة الوقوع في المعصية المحققة سبب لتسلط الشيطان على الإنسان. • دواء الوسواس: الاستعاذة بالله وهي الاعتصام بالله عز وجل والتوكل عليه، والانتهاء يعني الاعراض عن هذا التفكير وعن هذه الوسوسة وامض في سبيلك واترك هذه الوساوس ولا تلتفت إليها وسيشق عليك هذا الأمر ابتداءً ولكن اصبر وسيزول إن شاء الله. • مراد الشيطان من الوسوسة في بعض الطاعات الصد عن سبيل الله بإلحاق المشقة وتبغيض الطاعة للموسوس. • إذا كان الشيطان لا يريد من العبد أكثر مما هو عليه من المعصية فإنه لا يوسوس له. • من أسباب الوسوسة التكلف والتفكير في كيفية الغيبيات ونحوها , وهذا غلو منهيٌ عنه. • من وسائل دفع الوسواس الطبيعية: الاغتسال والتنظَف والتطيب.

• لابد في الاستعاذة من الشيطان تدبر المعنى واعتماد القلب على الله في صرفه عنه. • كثيراً ما تعرض للمؤمن شعبة من شعب النفاق ثم يتوب الله عليه، وقد يرِد على قلبه بعض ما يوجب النفاق ويدفعه الله عنه، والمؤمن يُبتلى بوساوس الشيطان وبوساوس الكفر التي يضيق بها صدره، كما قال الصحابة: يا رسول الله إن أحدنا ليجد في نفسه ما لئن يخر من السماء إلى الأرض أحب إليه من أن يتكلم به، فقال: ذاك صريح الإيمان. وفي رواية: ما يتعاظم أن يتكلم به، قال: الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة. أي حصول هذا الوسواس مع هذه الكراهة العظيمة له ودفعه عن القلب هو من صريح الإيمان، كالمجاهد الذي جاءه العدو فدافعه حتى غلبه فهذا أعظم الجهاد، والصريح الخالص كاللبن الصريح، وإنما صار صريحاً لما كرهوا تلك الوساوس الشيطانية ودفعوها فخلص الإيمان صريحاً، ولا بد لعامة الخلق من هذه الوساوس، فمن الناس من يجيبها فيصير كافراً ومنافقاً، ومنهم من غمرت قلبه الشهوات والذنوب فلا يحس بها إلا إذا طلب الدين، فإما أن يصير مؤمناً، وإما أن يصير منافقاً. • داء الوسوسة، هل له دواء؟ نعم , له دواء نافع، وهو الإعراض عنها جملة كافية، وإن كان في النفس من التردد ما كان؛ فإنه متى لم يلتفت لذلك لم يثبت بل يذهب بعد زمن قليل كما جرَب ذلك الموفَقون، وأما من أصغى إليها وعمل بقضيتها فإنها لا تزال تزداد به حتى تخرجه إلى حيز المجانين، بل وأقبح منهم كما شاهدناه في كثيرين ممن ابتلوا بها وأصغوا إليها وإلى شيطانها. فالوسوسة من الشيطان اتفاقاً، واللعين لا غاية لمراده إلا إيقاع المؤمن في وهدة الضلال والحيرة ونكد العيش وظلمة النفس وضجرها إلى أن يخرجه من الإسلام وهو لا يشعر فدواء الوسوسة أن يعتقد أن ذلك خاطر شيطاني وأن إبليس هو الذي أورده عليه وعليه مقاتلته ومدافعته فيكون له ثواب المجاهد لأنه يحارب عدو الله، فإذا استشعر ذلك فرَ عنه. وإذا أردت أن ينقطع عنك، في أي وقت أحسست به فافرح، فإنك إذا فرحت به انقطع عنك؛ لأنه ليس شيء أبغض إلى الشيطان من سرور المؤمن، وإن اغتممت به زادك. وإن الوسواس إنما يُبتلى به من كمل إيمانه، فإن اللص لا يقصد بيتا خرباً, وغرض الشيطان من تلك الوسوسة أن يحول بين العبد وربه.

• أمر الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يكتفي من شر شيطان الإنس بالإعراض عنه والعفو والدفع بالتي هي أحسن، ومن شيطان الجن بالاستعاذة بالله منه فأما شيطان الجن فإنه لا حيلة فيه إذا وسوس إلا الاستعاذة بخالقه الذي سلطه عليك، فإذا استعذت بالله والتجأت إليه كفَه عنك ورد كيده. • الخواطر وحديث النفس إذا لم تستقر ويستمر عليها صاحبها فمعفوٌ عنه باتفاق العلماء؛ لأنه لا اختيار له في وقوعه ولا طريق له إلى الانفكاك عنه. • اعلم أن الوسواس يعرض لكل من توجه إلى الله تعالى بذكر أو غيره، فينبغي للعبد أن يثبت ويصبر ويلازم ما هو فيه فإن الشيطان بمنزلة قاطع الطريق، كلما أراد العبد أن يسير إلى الله تعالى أراد قطع الطريق عليه، ولهذا قيل لبعض السلف: إن اليهود والنصارى يقولون: لا نوسوس، فقال: صدقوا، وما يصنع الشيطان بالبيت الخرب. • حصول الوسوسة نفسها لا يدل على قوة الإيمان ولا على ضعفه , والمراد بصريح الإيمان الوارد في الحديث المعروف هو الذي يعظم في نفوسهم إن تكلموا به، ويمنعهم من قبول ما يلقي الشيطان، فلولا ذلك لم يتعاظم في نفوسهم حتى أنكروه، وليس المراد أن الوسوسة نفسها صريح الإيمان، بل هي من قبل الشيطان وكيده وعلى هذا يُعلم أن الذي دل على صحة الإيمان هو تعاظم هذه الوساوس وردها، وأن عدم تعاظمها والسماح للنفس بالاسترسال فيها يدل على ضعف الإيمان , مالم تكن شركاً أكبر فتكون كفراً مع شرح الصدر لها واعتقادها والعمل بموجبها. • في باب التطهر من النجاسة يُحاول رش المحل الذي يعرض له فيه الوسواس بالماء ويُقنع نفسه أن ما يجده من بلل من أثر الماء لا من البول وهكذا يحاول المُبتلى اتخاذ حلول عملية. • مجاهدة الوساوس ومدافعتها تكون بالإعراض عنها. • من علاج الوسوسة البعد عن الفراغ والإنسان حارثٌ همَام والعزلة والانطواء على النفس من أسباب الوسوسة. • يُشرع تقليد المذهب المرجوح إذا كان تقليده يقطع أسباب الوسوسة. • شدة الخوف من الوقوع في الشيء توقع في الوسوسة فيه غالباً. • اعلم رحمك الله أن ربك ما جعل عليك في الدين من حرج ومتى ما وجدت الحرج في الدين فعليك بمدافعته فذاك شيطان أراد أن يحول بينك وبين ربك واعلم أن دين الله منه بريء ومتى ما تشتت فيك المذاهب ولا مرجح لها فافعل ما هو أصلح لقلبك.

المعلم الرابع: التوبة

• الطريق إلى الخلوص من فتنة الشيطان هي القيام بعبودية الله. • الخلاص من الشيطان هو التزام المسلم بشرائع الإسلام الظاهرة والباطنة. • كل ما يصيب بني آدم من شرور ما هي إلا محفزات لتحقيق العبودية لربه ويا ليت بني آدم يفهم هذه المسألة , ولو كانت هذه المحفزات لا تريد ذلك ولا تعلمه أصلاً كتسليط الكفار والشياطين على المؤمن فالنجاة هي توحيد الله عز وجل. • اتباع ما جاءنا عن الله ورسوله من عقائد وأقوال وأعمال وشرائع ظاهرة وباطنة هو الحرز من الشيطان. • المخرج الحقيقي والمختصر وأقصر الطرق إلى الحصول على المرغوب ودفع المرهوب هو توحيد الله عز وجل بشموله فلا دافع للآفات إلا هو ولا معطي للخيرات إلا هو. • الشيطان لا يكفه عن الإنسان إلا الله. (المعلم الرابع: التوبة) • التوبة هي الرجوع إلى الله. • تأخير التوبة ذنب تجب التوبة منه , ويجب تعجيل التوبة حتى لا تصير المعاصي راناً وطبعاً لا يقبل المحو , ومن يدري لعل العبد يُمنع من التوبة ويُحال بينه وبينها إذا ارتكب الذنب. • العباد قسمان إما تائب أو ظالم وليس ثمَ قسمٌ ثالث ألبته. • من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجاً ومن كل ضيق مخرجاً ورزقه من حيث لا يحتسب , إلا أن التوبة هي أمر زائد على الاستغفار. • من أي الذنوب تكون التوبة؟ التوبة تكون من الكبائر والصغائر , والتوبة من الكبائر والصغائر واجبة كحكم شرعي واجب على المكلف أما ما يتعلق بتكفير الذنوب وهذا أمرٌ أخروي فإن الصغائر تُغفر باجتناب الكبائر وأداء الفرائض, وها هنا أمرٌ ينبغي التفطّن له، وهو أن الكبائر قد يقترن بها من الحياء والخوف من الله، والاستعظام لها ما يُلحقها بالصغائر, وقد يقترن بالصغائر من قلة الحياء، وعدم المبالاة، وترك الخوف، والاستهانة بها ما يُلحقها بالكبائر, بل يجعلها في أعلى المراتب, وهذا أمرٌ

مرجعه إلى ما يقوم بالقلب, وهو قدر زائد على مجرّد الفعل, والإنسان يعرف ذلك من نفسه ومن غيره , وخلاصة القول أن التوبة تكون من الكبائر والصغائر، لكن من تاب من الكبائر غفر الله له الصغائر. • التوبة نوعان: واجبة وهي من ترك المأمور وفعل المحظور وهذه للأبرار المقتصدين, ومستحبة وهي من ترك المستحبات وفعل المكروهات وهي للسابقين المقربين. • التوبة من ترك أعمال القلوب قد تكون أهم من التوبة من فعل المنهيات أحياناً، والتوبة من الاعتقادات أعظم من التوبة من الإرادات. • تختلف طبقات التائبين ورتبهم تبعاً لاختلاف أحوالهم وتباينهم في أعمالهم واصطحابهم التوبة إلى آخر العمر واستقامتهم عليها , ومن التائبين من يكون حاله بعد الذنب أحسن مما كان قبله بحسب التوبة. • لا بد للتائب من الصبر على سفهاء الناس والمثبطين عن الخير. • من أضرار الذنوب: حرمان العلم , الوحشة في القلب , تعسير الأمور , وهن البدن , حرمان الطاعة , محق البركة , قلة التوفيق , ضيق الصدر , تولد السيئات , اعتياد الذنوب , هوان المذنب على الله وعلى الناس , لعنة البهائم له , لباس الذل , الطبع على القلب والدخول تحت اللعنة , منع إجابة الدعاء , الفساد في البر والبحر وانعدام الغيرة , ذهاب الحياء , زوال النعم , نزول النقم , الرعب في قلب العاصي , الوقوع في أسر الشيطان , سوء الخاتمة , عذاب الآخرة. • وسائل دفع آثار الخطيئة دون الشرك: 1 - التوبة النصوح وهي للشرك وما دونه. ... 2 - الاستغفار. 3 - عمل الحسنات الماحية. 4 - أن يدعو له إخوانه المؤمنون ويشفعوا له حياً وميتاً. 5 - أن يهدي له إخوانه المؤمنون من ثواب أعمالهم ما ينفعه الله به. 6 - شفاعة النبي محمد - صلى الله عليه وسلم -. 7 - ابتلاء الله له في الدنيا بمصائب في نفسه وماله وأولاده وأقاربه ومن يُحب ونحو ذلك. 8 - أن يبتليه الله في البرزخ بالفتنة والضغطة وهي عصرة القبر فيكفَر بها عنه. 9 - أن يبتليه الله في عرصات القيامة من أهوالها بما يكفر عنه. 10 - أن يرحمه أرحم الراحمين. فمن أخطأته هذه العشرة فلا يلومنَ إلا نفسه. • مكفرات الذنوب: قد دلت نصوص الكتاب والسنة على أن عقوبة الذنوب تزول عن العبد بنحو عشرة أسباب:

السبب الأول: التوبة وقت المهلة وهذا متفق عليه بين المسلمين. السبب الثاني: الاستغفار قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون ثم يستغفرون الله فيغفر لهم) والاستغفار بدون التوبة ممكن واقع فيكون في حق بعض المستغفرين الذين قد يحصل لهم عند الاستغفار من الخشية والإنابة ما يمحو الذنوب ويستغفرون بنوع من الصدق والإخلاص. السبب الثالث: الحسنات الماحية كالصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان كذلك قيام ليلة القدر إيماناً واحتساباً وحج البيت الحرام بلا رفث ولا فسوق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعتق الرقبة المؤمنة والصدقة وغيرها. السبب الرابع: الدافع للعقاب دعاء المؤمنين للمؤمن مثل صلاتهم على جنازته والدعاء من أسباب المغفرة للميت. السبب الخامس: ما يُعمل للميت من أعمال البر ونحوه. السبب السادس: شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيره في أهل الذنوب يوم القيامة وخاصة في حق أهل الكبائر. السبب السابع: المصائب المكفَرة في الدنيا. السبب الثامن: ما يحصل في القبر من الفتنة والضغطة والروعة فإن هذا مما يكفَر به الخطايا. السبب التاسع: أهوال يوم القيامة وكربها وشدائدها. السبب العاشر: رحمة الله وعفوه ومغفرته بلا سبب من العباد, ودعوى أن عقوبات أهل الكبائر لا تندفع إلا بالتوبة مُخالف لذلك. • مسألة: الحسنات إنما تكفر الصغائر فقط فأما الكبائر فلا تُغفر إلا بالتوبة؟ الجواب من وجوه: الأول: أن هذا الشرط جاء في الفرائض كالصلوات الخمس والجمعة وصيام رمضان وذلك أن الله تعالى يقول (إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا) فالفرائض مع ترك الكبائر مقتضية لتكفير السيئات وأما الأعمال الزائدة من التطوعات فلا بد أن يكون لها ثواب آخر فإن الله سبحانه يقول (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ & وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ).

الثاني: أنه قد جاء التصريح في كثير من الأحاديث بأن المغفرة قد تكون مع الكبائر كما في قوله - صلى الله عليه وسلم - (غُفر له وإن كان فرَ من الزحف)، وغيرها. الثالث: أن قوله تعالى لأهل بدر ونحوهم اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم إن حُمل على الصغائر أو على المغفرة مع التوبة لم يكن فرق بينهم وبين غيرهم فكما لا يجوز حمل الحديث على الكفر لما قد عُلم أن الكفر لا يُغفر إلا بالتوبة فلا يجوز حمله على مجرد الصغائر المكفرة باجتناب الكبائر. • شروط التوبة: الإقلاع عن الذنوب والندم على ما فات والعزم على عدم العودة وإرجاع حقوق من ظلمهم أو طلب البراءة منهم وأن تصدر في زمن التوبة وهو ما قبل حضور الأجل أو طلوع الشمس من مغربها , ثم إن كان الذنب مما يوجب الكفر فلا بد من الإتيان بالشهادتين وإثبات ما أنكر وإنكار ما قد اعتقد مما يوجب الكفر. وقد ذكر أهل العلم تفصيلات أخرى لشروط التوبة النصوح منها: أن يكون ترك الذنب لله لا لشيء آخر, وأن يستشعر قبح الذنب وضرره, فلا يشعر باللذة والسرور حين يتذكر الذنوب الماضية ولا يتمنى العود لذلك في المستقبل , والمبادرة إلى التوبة , وأن يخشى على توبته من النقص ولا يجزم بأنها قد قُبلت فيركن إلى نفسه ولا يأمن مكر الله ولكن دون التعمق في ذلك إلى حد القنوط من رحمة الله بل عليه إحسان الظن بربه فيكون بين رجاء وخوف , واستدراك ما فات من حق الله إن كان مُمكناً كإخراج المعصية , وإتلاف المحرمات الموجودة عنده التي لا ينتفع بها -أن الزكاة التي منعها في الماضي - مفارقة موضع المعصية إذا كان وجوده فيه قد يُوقعه في المعصية مرة أخرى , ومفارقة من أعانه على المعصية ويختار من الرفقاء الصالحين من يعينه على نفسه ويكون بديلاً عن رفقاء السوء , وأن يعمد إلى البدن الذي رباه بالسحت فيصرف طاقته في طاعة الله ويتحرَى الحلال حتى ينبت له لحم طيب. • ماذا تفعل إذا أذنبت؟ عملان الأول: عمل القلب (ندم على ما فات –العزم على عدم العودة) الثاني: عمل الجوارح (الإقلاع فوراً – فعل الحسنات المختلفة من الحسنات والطاعات ومنها صلاة التوبة) والنتيجة يُغفر ما تقدم من ذنبه + تجب له الجنة).

• الإصرار على المعصية: هو عقد القلب على شهوة الذنب والاستقرار على المخالفة والعزم على المعاودة , أو بمعنى آخر الإصرار هو العزم على فعل تلك الصغيرة بعد الفراغ منها وقضاء حاجته منها فهذا حكمه حكم من كررها فعلاً. • مصير ذنوب التائب: ذنوب التائب تُغفر وسيئاته تُبدَل حسنات بحسب صدق التائب وكمال توبته , وتكون الحسنات عوض السيئات بأقل منها أو مساوياً أو أكثر منها كماً أو كيفاً , والحسنات أيام الجاهلية تثبت لصاحبها بعد التوبة. • مسألة هل الشخص إذا تاب من ذنب ثم عاد إليه هل يعود إثم هذا الذنب الأول عليه لأنه رجع إليه إذا مات عليه؟ الراجح أنه لا يُؤخذ إلا بالثاني وأما الأول فقد محت أثره التوبة وصار بمنزلة من لم يعمله ما لم يكن كفراً أكبر , وعلى هذا فمن عاد إلى الذنب بعد توبة صحيحة مستكملة الشروط فهو كمن عمل معصية جديدة تلزمه توبة جديدة منها وتوبته الأولى صحيحة. • حكم التوبة الجزئية فيما دون الشرك: تصح التوبة من أي ذنب ولو أصر على ذنب آخر إذا لم يكن من النوع نفسه ولا يتعلق بالذنب الأول , أي بمعنى آخر أن هناك توبة عامة وهناك توبة خاصة وهي صحيحة وذلك بأن يتوب عن ذنب بعينه مع مباشرة آخر لا تعلَق له به ولا هو من نوعه فيتوب عن بعض الذنوب دون بعض , لكن إن تاب من ذنب وهو مصر على آخر من نوعه فتوبة من هذا حاله غير صحيحة. • حكم توبة العاجز عن المعصية: صحيحة وتكون التوبة من عزمه على المعصية لو قدر عليها ومن وساوس الشيطان له بالمعصية بألا يستحليها ويستعذبها. • توبة تارك الصلاة: الراجح أنه لا يلزمه القضاء لأنه قد فات وقتها ولا يمكن استدراكه ويُكثر الاستغفار والإكثار من النوافل لعل الله أن يتجاوز عنه ومن أحسن فيما بقي غُفر له ما مضى. • توبة تارك الصيام وتارك الزكاة: تارك الصيام فإن كان مسلماً وقت تركه للصيام فإنه يجب عليه القضاء مع إطعام مسكين عن كل يوم أخَره من رمضان حتى دخل رمضان الذي بعده من غير عذر وهذه

كفارة التأخير وهي واحدة لا تُضاعف ولو توالت أشهر رمضان , أما تارك الزكاة فيجب عليه إخراجها. • التوبة من ظلم الناس: إذا كانت السيئة في حق آدمي فعلى التائب أن يخرج من هذه المظالم إما بأدائها إلى أصحابها وإما باستحلالها منهم وطلب مسامحتهم فإن سامحوه وإلا ردها. • توبة المغتاب والقاذف: توبة المغتاب والقاذف بعد توبته لله يبقى حق المجني عليه فهنا المسألة تعتمد على المصالح والمفاسد فعليه استحلالهم إن لم يقتضي ذلك إذكاء العداوة والبغضاء بينهم , وإلا فعليه أن يُبريء المقذوف ويثني بالخير على من اغتابه في المجالس التي ظلمه فيها ويذكر محاسنه بما فيه ويدافع عمن اغتابه ويرد عنه إذا أراد أحد أن يسيء إليه ويستغفر له بظهر الغيب. • توبة القاتل العمد: القاتل العمد عليه ثلاثة حقوق: حق لله فلا يُقضى إلا بالتوبة , حق القتيل فلا يُمكن الوفاء به في الدنيا فإذا حسنت توبة القاتل فإن الله يتولى حق القتيل والله عز وجل يضمن التبعات , حق الورثة أن يُسلَم نفسه إليهم ليأخذوا حقهم إما بالقصاص أو بالدية أو بالعفو. • توبة السارق: توبة السارق بعد توبته لله إن كان المسروق عنده الآن فعليه رده إلى أصحابه وإن تلف أو نقصت قيمته وجب عليه أن يعوضهم إلا إذا سامحوه , علماً أنه لا يلزم أن يُصارح ويواجه المجني عليه بل له الحيلة في رد حقوقهم تفادياً للإحراج وغيره , ومن سرق مالاً وأراد التوبة ورد الحق لأهله ولم يجدهم فعليه البحث والاستقصاء عنهم فإن لم يجدهم فليدفعه لورثتهم فإن لم يجدهم فليتصدق بالنيابة عنهم ولو كانوا كفاراً , ومن سرق مالاً واتَجر به ونما وأراد التوبة ورد الحق لأهله فعليه رد رأس المال لأهله ويأخذ النصف من الربح الزائد (النامي) وإن تلف بعض رأس المال فعليه بالتعويض. • توبة المرتشي: تكون بإرجاع الحق لأهله ما استطاع إلى ذلك سبيلاً بسبب الرشوة، وعليه أن يتخلص من المال الحرام في وجوه الخير هذا إذا كان الراشي ظالم أما إذا كان الراشي صاحب حق ولم يكن له سبيل للوصول إلى حقه إلا بالرشوة فعلى المرتشي رد المال إلى الراشي صاحب الحق.

• الشخص الذي يعمل في أعمال محرمة أو يقدم خدمات محرمة ويأخذ مقابلاً وأجرة على ذلك إذا تاب إلى الله وعنده هذا المال الحرام فإنه يتخلص منه ولا يُعيده إلى من أخذه منه. • من اشترى شيئاً لا يتجزَأ كالبيت بمال بعضه حلال وبعضه حرام فيكفيه أن يُخرج ما يُقابل الحرام من ماله الآخر ويتصدَق به تطييباً لتلك الممتلكات فإن كان هذا الجزء من المال الحرام هو حق للآخرين وجب رد مثله إليهم على التفصيل السابق. • توبة من لديه أموال من كسب حرام: من لديه أموال من كسب حرام وأراد أن يتوب فإن كان كافراً أو مسلم غير عالم بالتحريم عند كسبها فلا يلزم عند التوبة بإخراجها , وإن كان مسلماً عند كسبها عالماً بالتحريم فإنه يُخرج ما لديه بحسب غلبة الظن من الحرام. • توبة فاعل الفاحشة على حالتين: إذا زنى بالمرأة اغتصاباً وإكراهاً فهذا عليه أن يدفع لها مهراً مثلها عوضاً عما ألحق بها من الضرر مع توبته إلى الله وإقامة الحد عليه إذا وصل أمره إلى الإمام أو من ينوب عنه كالقاضي ونحوه وأما إذا لم يصل الأمر إلى الإمام أو من ينوب عنه فليستر على نفسه , وأما إذا زنى بالمرأة برضاها فهذا لا يجب عليه إلا التوبة ولا يُلحق به الولد مُطلقاً ولا تجب عليه النفقة لأن الولد جاء من سفاح ومثل هذا يُنسب لأمَه لكنه لو تاب وتابت المرأة فإنه يجوز له حينئذٍ أن يتزوج منها لكن بعد تبيَن براءة حملها , إذ لا يجوز العقد على امرأة في بطنها جنين من الزنا ولو كان منه. • توبة الإمام المتبوع في الباطل: عليه إعلان التوبة على الملأ والبراءة مما كان عليه وبيان عوار الباطل الذي كان عليه. • لا يلزم الكافر قضاء العبادات إذا أسلم بل تسقط تخفيفاً عنه وترغيباً له في الإسلام. • توبة المبتدع ممكنة والطريق إليها أن يتبع من الحق ما علمه. • حكم توبة الزنديق أو المنافق قضاءً: توبة الزنديق أو المنافق الذي أظهر الكفر وطعن في الإسلام تُقبل توبته إذا جاء تائباً من قبل نفسه قبل أن يُعثر عليه وإلا فلا , أما التوبة فيما بين العبد وربه مقبولة كائناً من كان إذا كانت في زمن المهلة والخلاف في قبول توبة الزنديق المقصود به في أحكام الدنيا.

• من علامات صدق التائب أن يكون حاله بعد التوبة خيراً مما كان قبلها. • المرتد تحبط أعماله إذا مات عليها ويحبط ثواب أعماله قبل الردة فلا يجب عليه إعادتها ولكن أيضاً لا ثواب عليها والله أعلم , وذلك أن الحبوط نوعان عام وخاص فالعام حبوط الحسنات بالردة والسيئات كلها بالتوبة والخاص حبوط السيئات والحسنات بعضها ببعض وهذا حبوط مقيد جزئي ولما كان الكفر والإيمان كل منهما يُبطل الآخر ويُذهبه كانت شعبة كل واحد منهما لها تأثير في إذهاب بعض شعب الآخر فإن عظمت الشعبة أذهبت في مُقابلها شعباً كثيرة. • ما معنى الاستقامة على دين الله , وهل من لازم الاستقامة والتقوى أن يكون المسلم معصوماً من الزلل والخطأ , وما توجيهكم للقانطين من رحمة الله؟ الاستقامة هي السداد فإن لم يقدر ولن يقدر فعليه المقاربة فإن نزل عن المقاربة فلم يبق إلا التفريط والضياع ولا ينجي أحدٌ عمله إلا أن يتغمده الله برحمة منه وفضل , وليس في المؤمنين إلا من له ذنب من ترك مأمور أو فعل محظور، وليس من شرط ولي الله أن لا يكون له ذنب أصلاً بل أولياء الله تعالى هم الذين قال الله فيهم (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ & الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ) ولا يخرجون عن التقوى بإتيان ذنب صغير لم يصرَوا عليه ولا بإتيان ذنب كبيراً أو صغير إذا تابوا منه , وما من عبد إلا وقد اقترف ذنباً وفعل إثماً وكل بني آدم خطاء , وقال ربك جل جلاله في وصفه لعباده المؤمنين المحسنين (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ) واللمم هي الذنوب الصغار التي لا يصر صاحبها عليها أو التي يُلم بها العبد المرة بعد المرة على وجه النُدرة والقلَة فهذه ليست مجرد الإقدام عليها مُخرجاً للعبد من أن يكون من المحسنين فإنها مع الإتيان بالواجبات وترك المحرمات تدخل تحت مغفرة الله التي وسعت كل شيء , والمكلف يجب عليه العزم على عدم المعصية صغيرةً كانت أو كبيرة وإن كان بحسب الطبيعة التي جبله الله عليها لا يمكنه الاحتراز عن هذه الصغائر بالكلية لأن الله ما أراد له العصمة وهذا أمر مُتفق عليه قد أيدتَه النصوص الشرعية، والمسلم لا ينفك عن مواقعة شيء من صغائر الذنوب، وما من عبد مؤمن إلا وله ذنب يعتاده الفينة بعد الفينة أو ذنب هو مقيم عليه لا يفارقه حتى يفارق الحياة إذ أن المؤمن خُلق مفتَنا توَاباً نسياً إذا ذُكَر ذكر, بل وأجمع المسلمون قاطبة على أن الأنبياء-عليهم الصلاة والسلام معصومون من الخطأ لما

يبلغونه عن الله-عز وجل-من الأحكام, وهذا لا نزاع فيه بين أهل العلم, وقد ذهب جمهور أهل العلم إلى أن الأنبياء معصومون من المعاصي الكبائر دون الصغائر, وقد تقع الصغيرة منهم لكن الله عز وجل لا يُقرهم عليها بل يُنبههم عليها فيتركونها, أما في أمور الدنيا فقد يقع الخطأ منهم ثم ينبهون على ذلك. فهؤلاء الأنبياء عليهم السلام فما بالك بما هو دونهم وقد قال نبينا - صلى الله عليه وسلم - (والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقومٍ يُذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم) وليعلم المسلم أن تكفير السيئات الوارد في قوله تعالى (إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا) مشروط باجتناب الكبائر هذا من حيث الوعد ولكن قد يغفر الله لمن يشاء مما هو دون الشرك , ويدخل في اجتناب الكبائر فعل الفرائض التي يكون تاركها مرتكباً كبيرة كالصلوات الخمس والجمعة وصوم رمضان, واللمم المعفو عنه هو ما يعمله الإنسان المرة بعد المرة ولا يتعمق فيه ولا يُقيم عليه, فيُقال ألممت , ويُقال ما فعلته إلا إلماماً أي الحين بعد الحين , واللمم هي صغائر الذنوب, كما ذكرنا , والفقيه كل الفقه هو الذي لا يؤيَس الناس من رحمة الله ولا يُجرئهم على معصية الله ولهذا يؤمر العبد بالتوبة كلما أذنب , والله رحيم أمر عباده بما يُصلحهم ونهاهم عما يُفسدهم ثم إذا وقعوا في أسباب الهلاك لم يؤيسهم من رحمته بل جعل لهم أسباباً يتوصلون بها إلى رفع الضر عنهم والله يحب العبد المُفتَن التوَاب , وما دام العبد يُذنب ثم يتوب فقد غفر الله له , والله عفو غفور تواب يقبل التوب ويغفر الذنب ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل ويبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار فضلاً منه وإحساناً فاستغفر ربك في كل حين إنه كان غفاراً والله يعدك مغفرة منه وفضلاً وهو واسع المغفرة وهو الذي يقبل التوبة عن عباده وهو الغفور الودود , واعلم أنك ما دعوت الله ورجوته إلا غفر لك على ما كان فيك ولا يبالي ولو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرته غفر لك ولا يبالي ولو أتيته بقراب الأرض خطايا ثم لقيته لا تشرك به شيئاً لأتاك بقرابها مغفرة , والله غفور رحيم , وينبغي حسن الظن بالله والوثوق برحمته وعدم القنوط من عفوه فإن الله عند حسن ظن عبده فليظن عبده به ما شاء , ومن أصلح ما بقي من عمره يُغفر له ما مضى , والتائب من الذنب كمن لا ذنب له , وأخيراً أوصيك بتقوى الله فيما بقي من عمرك فإنه من يتق الله يجعل له مخرجاً ومن يتق الله يجعل له من أمره يسراً ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويُعظم له أجراً ومن يتق الله يرزقه من حيث لا يحتسب , فاتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة

المعلم الخامس: الغلو

الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن, والنفس لها داعيان داع للخير وداع للشر فمن أخذ بداعي الخير نجا وسعد في الدنيا والآخرة ومن أخذ بداعي الشر هلك وشقي في الدنيا والآخرة أعاذنا الله من الخذلان. (المعلم الخامس: الغلو) • الغلو هو مجاوزة الحد الشرعي والمبالغة فيه والتشديد. • الغلو درجات متفاوتة منه ما هو كفر ومنه ما هو كبيرة ومنه ما هو صغيرة ومنه ما هو خلاف الأولى. • من أسباب نشأه الغلو: -1 - الابتداع في الدين. -2 - الجهل. وسوء الفهم عن الله عز وجل ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وهو أصل كل بدعة وضلالة. -3 - اتباع الهوى. -4 - تقديم العقل على النقل: فللعقول مجالاً تعمل فيه فإذا تعدته وقعت في التيه والضلال والحيرة لاسيما إذا كان هذا التعدي في مجال الغيبيات التي لا تُدرك بالعقول أصلاً.-5 - التقليد والتعصب الأعمى:-والتقليد المذموم إنما هو التقليد في الباطل أما التقليد في الحق فهو في الحقيقة اتباع لا تقليد.-6 - الاستقلالية في استنباط الإحكام الشرعية. • من أسباب الغلو عدم الجمع بين الأدلة واتباع المتشابه واتباع الهوى وانعدام النظرة الشمولية والمنهج الحرفي في فهم النصوص والتلقي المباشر من النص والجهل بمآخذ الأدلة وأدوات الاستنباط والجهل بمراتب الناس والأعمال وغيرها. • عامة ضلال أهل البدع كان بسبب عدم معرفة دلالة الألفاظ على المعاني وتحميل كلام الله ورسوله ما لا يحتمل , والعلماء إذا تكلّموا في أحاديث الوعيد أجروها على ظاهرها، لأنهم يَرون أن هذا أردع وأبلغ في النفوس. • عدم فهم القرآن يجعل المرء يأخذ آيات نزلت في الكفار فيحملها على المسلمين بسبب الجهل. • إياك وتحميل النصوص الشرعية العامة ما لا تحتمل فإن دلالة العام ظنية وليست قطعية حتى أنه اشتهر قولهم (ما من عام إلا وقد خُصَص إلا قوله تعالى (والله بكل شيء عليم). • هناك نصوص في الوعيد يُراد بها التشديد والتغليظ لا الحقيقة.

• ليس كل ما نُسب للنبي - صلى الله عليه وسلم - صحت نسبته وليس كل ما صحت نسبته صح فهمه وليس كل ما صح فهمه صح وضعه في موضعه. • كلام العلماء في التصانيف يجب ألا يُقطع عن ظرفه الزماني والمكاني أحياناً. • الإطلاق في المصنفات ليس كالإطلاق في الفتاوي. • سبب الوقوع في التأويل الفاسد وقع بسبب الإجمال والإطلاق وعدم العلم بمعرفة مواقع الخطاب وتفاصيله مما يحصل به من اللبس والخطأ وعدم الفقه عن الله ما يفسد الأديان ويشتت الأذهان ويحول بينها وبين فهم السنة والقرآن وقد تكون هناك نصوص مجملة لبعض أهل العلم أو التي أطلقوها على سبيل التغليظ أو أخطأوا فيها. • يكون الغلو أحياناً متعلقاً بفقه النصوص وتحميلها ما لا تحتمل. • لا يتعمق أحد في الأعمال الدينية ويترك الرفق إلا عجز وانقطع فيغلب. • كل متنطع في الدين ينقطع وليس المراد منع طلب الكمال والأكمل في العبادة فإنه من الأمور المحمودة بل منع الإفراط المؤدي إلى الملال والمبالغة في التطوع المفضي إلى ترك الأفضل. • التيسير المطلوب هو التيسير الجاري على وفق الشرع والعدل لا على وفق الأهواء. • أحب الإعمال إلى الله أدومها وإن قل وتكلف مالا يُطاق على وجه العبادة منهي عنه. • التشديد تارة يكون باتخاذ ما ليس بواجب ولا مستحب بمنزلة الواجب أو المستحب في العبادات وتارة باتخاذ ما ليس بمحرم ولا مكروه بمنزلة المحرم والمكروه. • يُشرع النهي عن المستحبات إذا خشي أن ذلك يفضي إلى السآمة والملل وتفويت الحقوق المطلوبة الواجبة أو المندوبة الراجح فعلها على فعل المستحب المذكور. • هنالك فرق بين ترك فضول المباح وهو ما لا يُحتاج إليه لمصلحة الدين فهذا يُثاب المرء عليه وبين ترك المباح بالجملة فهذا ليس من الزهد المُستحب بل هو من تحريم ما أحل الله. • الولاء والبراء لهما حدود فما نقص عن حدود الولاء المطلوب فهو تفريط , وما زاد على حدود الولاء المشروع فهو إفراط (غلو مذموم)

, وهنالك غلو في البراءة من المجتمعات الإسلامية , فالبراءة من المجتمع العاصي وتكفير أفراده واعتزالهم بالكلية من الغلو المذموم. • إلزام ما لا يلزم من الغلو. • الإنسان له في ذاته أن يأخذ نفسه بالأشد من المشروع ولكن ليس له أن يُلزم الناس بهذا. • التشديد على الناس لا يدخل فيه إلزامهم بما شرع الله عز وجل بل التشديد هو إلزام الناس بغير ما شرع الله وهو قسمان: الأول: ما لم يُشرع أصلاً. الثاني: ما شُرع أصله ولكن الغلو واقع في صفته أو قدره. • المساواة بين الأحكام الشرعية غلو لأنها مُتفاضلة. • التكلف في معرفة كيفية ما حُجب عنا من الغيب تكلف وتنطع مذموم. • الفقه كل الفقه في الاقتصاد في الدين والاعتصام بالسنة , واقتصاد في السنة خيرٌ من الاجتهاد في البدعة , ونهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن التشديد في الدين وذلك بالزيادة على المشروع وأخبر أن تشديد العبد على نفسه هو السبب لتشديد الله عليه إما بالقدر وإما بالشرع فالتشديد بالشرع كما يشدد على نفسه بالنذر الثقيل فيلزمه الوفاء به وبالقدر كفعل أهل الوسواس فإنهم شددوا على أنفسهم فشدد عليهم القدر حتى استحكم ذلك وصار صفة لازمة له. • إن هذا الدين يُسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة والقصد القصد تبلغوا. • قيام الدين على اليسر ورفع الحرج. • رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما خير بين أمرين إلا أختار أيسرهما ما لم يكن إثماً. • الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف ولا يكون الرفق في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه ومن الفطرة النفور من الشدة والعنف. • لن ينجي أحداً عمله إلا أن يتغمده الله برحمته. • ما جعل عليكم في الدين من حرج وأحب الدين إلى الله الحنفية السمحة. والسداد هو التوسط وطلب الصواب من غير غلو أو تقصير والسنة إنما سنها من قد علم ما في خلافها من الخطأ والزلل والحُمق والتعمق. • الله يُحب أن يؤتى ما أباح لعباده وما رخص لهم به ويُبغض التشدد والترهبن بتحريم الطيبات.

المعلم السادس: المشقة والحرج

• التزام النصوص الشرعية بفهم السلف الصالح هذا هو عين الوسطية الحقة. • علاج الغلو الجامع المانع الشافي المبريء هو (التمسك بالكتاب والسنة الصحيحة عملاً وقولاً واعتقاداً بفهم سلف الأمة). (المعلم السادس: المشقة والحرج) • التكليف طلب ما فيه كلفة ومشقة. • قد تكون أحياناً المشقة القلبية أكبر من المشقة الفعلية. • المشقة نوعان: 1 - مشقة معتادة: وهي التي لا يخلو منها عمل ديني ولا دنيوي وهي ليست من مقصود الشارع فلم يقصدها لذاتها بل من جهة ما في العمل نفسه من المصالح العائدة على المكلف في دنياه وأخراه والمطلوبات الشرعية كلها فيها كلفة وهذه الكلفة متفاوتة في المقدار, والمقصود أن هذا النوع من المشقة ليس مانعاً من التكليف لأن أحوال الإنسان كلها كلفة في هذه الدار. 2 - مشقة غير معتادة: إذا كان الاستمرار على العمل يؤدي إلى الانقطاع عنه أو عن بعضه أو أدى إلى وقوع خلل في صاحبه فهو مشقة غير معتادة والانقطاع عن العمل يكون بأحد أمرين: 1 - بالسآمة والملل ثم العجز. 2 - بسبب تزاحم الحقوق. أما وقوع الخلل فالعمل متى ما كان مؤدياً إلى خلل في العامل -نفسي أو بدني-بأن يعذب الإنسان نفسه أو يمنع عن لوازم الحياة تديناً وتعبداً فإنه من المشقة على النفس فلذلك مجرد تعذيب النفس والبدن من غير منفعة راجحة فليس هذا مشروعاً لنا بل أمرنا الله بما ينفعنا ونهانا عما يضرنا. • الفرق بين المشقة التي لا تعد مشقة عادة أو التي تعد مشقة: هو أنه إن كان العمل يؤدي الدوام عليه إلى الانقطاع عنه أو عن بعضه أو وقوع خلل في صاحبه في نفسه أو ماله أو حال من أحواله فالمشقة هنا خارجة عن المعتاد وإن لم يكن فيها شيء من ذلك في الغالب فلا يعد في العادة مشقة. • المكلف ليس له أن يقصد المشقة في العمل نظراً إلى عظم أجرها ولكن له أن يقصد العمل الذي يعظم أجره لعظم مشقته والقصد معتبر هنا. • لا يُشرع للعبد أن يقصد المشقة لذاتها لكن لو ترتب على فعل ما أمر به الشارع مشقة أكبر فإن العبد يفعل ذلك ويزيد أجره بزيادة المشقة عليه.

• دخول المشقة على المكلف أمر نسبي يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال. • من لا يدخل عليهم بسبب تلك الأعمال الشاقة ملل ولا كسل لوزاع هو أشد من المشقة أو حادٍ يسهل به الصعب فصارت تلك المشقة في حقهم غير مشقة فلم يقع لهم شيء من العلل التي تجعل العمل غلواً بل وُفقوا للجمع بين الحقوق وصاروا أكثر أعمالاً فيسعهم من الأعمال الشرعية المتعلقة بالقلوب والجوارح ما يستعظمه غيرهم فهؤلاء لا يعد عملهم غلواً. • ليس كل ما كان العمل أشق كان أفضل عند الله إنما كل ما كان العمل أخلص وأصوب كان عند الله أفضل. • الأصل في أحكام الشريعة أنها داخلة تحت قدرة المكلفين واستطاعتهم ولا يوجد في أحكام الشريعة ما هو شاق أو ما لا يستطاع فعله بالنسبة للمكلفين بل إن العباد يطيقون أكثر مما كُلفوا به , هذا موضوع إجماع الأمة , ولكن قد يعرض للمكلف من العوارض التي جعلها الشارع الحكيم أسباباً للتخفيف رحمة منه سبحانه والمشقة التي تجلب التيسير والتخفيف هي الخارجة عن المعتاد والتي تنفك عنها العبادات غالباً , أما المشقة المعتادة والتي لا تنفك عنها العبادات غالباً فهذه لا أثر لها في التيسير والتخفيف. والأمور نوعان: نوع لا يطيقه العباد فهذا لا يكلفهم الله به. ونوع يطيقونه واقتضت حكمته أمرهم به فأمرهم به ومع هذا إذا حصل لهم بفعله مشقة وعسر فلا بد أن يقع التخفيف فيه والتيسير إما بإسقاطه كله أو تخفيفه وتسهيله. • التكاليف الشرعية لا تكون بما فيه مشقة فادحة على المكلف ولو كان يقدر عليها ببذل جهود كبيرة والتكاليف المعتادة إن خرجت في بعض الظروف إلى المشقة والحرج والشدة جلب ذلك معه التيسير والترخيص والتسهيل بطرقه المختلفة إلا أن هناك تكاليف معينة هي ذات مشقة فادحة وهي قليلة جداً وإنما وقع التكليف بها لأن المصالح المرادة منها أعظم من تلك المشقات ولا يمكن تحقيقها بوسيلة أخرى كالجهاد ونحوه. • من التيسير يُشرع العمل بالمظنون لمشقة الاطلاع على اليقين. • غرائز الإنسان وجبلته التي طبع عليه لا يُطالب الشارع برفعها ولا بإزالتها فإنه تكليف بما لا يطاق ولكن يطالب الشارع بتهذيبها. • قاعدة القيام بالمأمورات مشروط بالاستطاعة وأما ترك المحظورات لا يشترط فيه الاستطاعة إلا في حالة الإكراه والضرورة. • الضرورة: هي ما يلحق الضرر بفقده ولا يقوم غيره مقامه وأما الحاجة: فهي ما يلحق الضرر بفقد جنسه وقد يقوم غيره مقامه. • ليس واجب بلا اقتدار ولا محرم مع اضطرار وكل ما جاز للضرورة فبقدر ما تحتاجه الضرورة. • كل ممنوع فللضرورة يُباح والمكروه عند الحاجة وكل ما حرم للذريعة فإنه كالمكروه يجوز عند الحاجة , فما كان تحريمه تحريم وسيلة فإنه يجوز عند الحاجة , والحاجة ترفع الشبهة. • الضرورات تبيح المحظورات , والمسلم مطالب بالسعي للخلوص من حال الضرورة , ومن كانت ضرورته إلى المحظور بذنب منه لم يكن ذلك مانعاً من ذمه وعقابه. • شروط استباحة المحظور بالضرورة: 1 - أن تكون الضرورة تندفع بالمحظور. 2 - أن لا يملك دفع الضرورة إلا بفعل هذا المحرم. 3 - أن تكون الضرورة أقل ضرراً من فعل المحرم. 4 - أن يكون ضرر الضرورة متيقناً أو غالباً على الظن. 5 - ألا يفعل من المحظور إلا القدر الذي تندفع به الضرورة. • إن الله فرض فرائض على عباده وحرم عليهم محرمات فإذا عجزوا عما أمرهم به وضعفت قدرتهم عنه لم يُوجب عليهم فعل ما لم يقدروا عليه بل أسقطه عنهم ومع هذا إذا كانت لهم أعمال قبل وجود هذا المانع فإنه يجري أجرها عليهم تفضلاً منه تعالى. • الرخصة منها ما هو واجب ومنها ما هو مستحب ومنها ما هو مباح ومنها ما هو مكروه والأصل في الترخص أنه يجوز لمن قام به العذر أن يأخذ بالعزيمة وأن يأخذ بالرخصة ويترجح أحد الأمرين فيكون أفضل من الآخر لظرفٍ يقتضيه ولا يجب الأخذ بالرخصة إلا بدليل. • أسباب الرخص مختلفة منها: السفر والمرض والإكراه والجهل والنقص الحكمي كالرق والنقص العقلي أو البدني والعسر والمشقة وعموم البلوى وعسر التحرَز , وبالجملة إذا ضاق الأمر اتسع , والمشقة تجلب التيسير.

المعلم السابع: التقليد والافتاء

• الشرع رخصة وعزيمة. (المعلم السابع: التقليد والافتاء) • المفتي هو المُخبر عن الحكم الشرعي. • المستفتي هو السائل عن حكم شرعي. • التقليد هو اتباع من ليس قوله حجة. • ينبغي للمستفتي أن يختار أوثق المفتين علماً وورعاً. • يجوز للعامي استفتاء المفضول المجتهد مع القدرة على استفتاء الفاضل المجتهد. • من لم تتوفر فيه شروط الاجتهاد وجب عليه التقليد ويجوز تقليد من يظن أن قوله صواب وأنه حكم الله وذلك في جميع المسائل. • من لم يعرف العامي أهليته للفتوى لا يحق له سؤاله , ولابد من سكون نفس العامي إلى أن فتوى المفتي هي شرع الله بحيث تطمئن نفسه إليه. والعامي مقلد في كل شيء من أمور الدين إلا فيمن يستفتيه ويتمذهب بمذهبه فهو مجتهد في ذلك. • لو استفتى الإنسان عالمين كلاهما أهل للفتوى واختلفا فإن تساويا عنده في العلم والدين فليأخذ بالأيسر إلا أن لا تطمئن النفس إليه فحينئذٍ يأخذ بما تطمئن نفسه إليه ولو كان الأشد , وقد قيل أن من المرجحات بين الأدلة المتعارضة أن يقدَم ما كان أقرب إلى الاحتياط ما لم يفض الاحتياط إلى الحرج والتضييق. • مذهب العامي هو مذهب مفتيه ولا يلزم العامي أن ينتسب إلى مذهب معين يأخذ بعزائمه ورخصه والجمهور على عدم جوازه. • التقليد نوعان عام وخاص. فالخاص هو أن يأخذ بقول معين في قضية معينة فهذا جائز إذا عجز عن معرفة الحق بالاجتهاد سواء كان العجز حقيقي أو استطاع ذلك مع المشقة العظيمة. أما التقليد العام فهو أن يلتزم مذهباً معيناً يأخذ برخصه وعزائمه في جميع أمور دينه , فقد اختلف العلماء فيه فمنهم من حكى وجوبه ومنهم من حكى تحريمه لما فيه الالتزام المطلق لاتباع غير النبي - صلى الله عليه وسلم - لكن إن التزم مذهباً معيناً ثم فعل خلافه من غير تقليد لعالم آخر أفتاه ولا استدلال بدليل يقتضي خلاف ذلك ولا عذر شرعي يقتضي حل ما فعله فهو

متبع لهواه فاعل للمحرم بغير عذر شرعي وهذا منكر وأما إذا تبين له ما يوجب رجحان قول على قول إما بالأدلة المفصلة إن كان يعرفها ويفهمها وإما بأن يرى أحد الرجلين أعلم بتلك المسألة من الآخر وهو أتقى لله فيما يقوله فيرجع عن قول إلى قول لمثل هذا , فهذا يجوز بل يجب. • إذا عمل العامي في حادثة بما أفتاه مجتهد فإنه يلزم هذا العامي العمل بهذه الفتوى والبقاء عليه وليس له الرجوع عن فتواه إلى فتوى غيره في هذه المسألة إلا إذا غلب على ظنه أن فتوى ذلك العالم تُخالف شرع الله , أما إذا لم يعمل العامي بفتوى المجتهد فلا يلزمه العمل بفتواه إلا إذا ظن أنها حكم الله في المسألة فيجب عليه العمل بهذه الفتوى. • في المسائل الظنية إذا تغير اجتهاد من سأله العامي أولاً فإن كان قد عمل بالاجتهاد الأول فيجوز الاستمرار على الاجتهاد الأول ولا يجب عليه العمل بالاجتهاد الجديد , لأن الاجتهاد لا يُنقض بالاجتهاد أمَا إذا لم يكن قد عمل بالاجتهاد الأول فحينئذٍ يعمل بالاجتهاد الجديد دون الاجتهاد الأول. • إذا تكررت الحادثة للمستفتي فإنه لا يلزمه إعادة الاستفتاء للمجتهد الذي أفتاه أول مرة وعمل بفتواه وقتئذٍ إلا أنه يجوز له ذلك , وهذا إذا كان مستند المجتهد ظني طبعاً لا قطعي لأنه لو كان قطعي فحينئذٍ لا حاجة للتكرار. • لا يقول بإباحة جميع الرخص أحد من علماء المسلمين فإن القائل بالرخصة في هذه المسألة لا يقول بالرخصة في المسألة الأخرى غالباً فلذلك تتبع الرخص محرم. • الإخبار بالفتوى ونقلها جائز ومشروع ولو كان مقلداً. • فتوى المقلد جائزة عند الحاجة وعدم العالم المجتهد وقد يكون بين المسألة والأخرى وما عرفه بوساطة المفتي فرق لا يعرفه الناقل فينبغي عدم التوسع. • إذا تعارضت مذاهب العلماء ولا مُرجَح لأحدهما على الآخر ولم يمكن الجمع بينهما وجب العمل بكل منهما فيما لا يتعارضان فيه إذا كان ذلك ممكناً والتوقف في الصورة التي يتعارضان فيها , ولكن لا يمكن التعارض بين النصوص في نفس الأمر على وجه لا يمكن فيه الجمع ولا النسخ ولا الترجيح لأن النصوص لا تتناقض والرسول - صلى الله عليه وسلم - قد بين وبلَغ ولكن قد يقع ذلك بحسب نظر المجتهد لقصوره والله أعلم.

• كثير من مسائل الفقه ظنية لا قطعية , والعمل بالراجح واجب , ولا يُنقض حكم المجتهد في المسائل المظنونة ويحرم على المجتهد القادر على الاجتهاد بدون مشقة أن يقلد غيره. • إذا اجتهد العبد في مسألة ما ثم تبين له اجتهاد آخر في نفس المسألة فليتبع ما استقر عليه اجتهاده وذلك الاجتهاد الأول على ما قضى وهذا على ما يقضي ولا تثريب عليه. • الحق واحد من الأقوال في جميع المسائل ومن اجتهد فأخطأ فله أجر اجتهاده وخطأه مغفور ويجب عليه اتباع اجتهاده إلا إذا قصر في الاجتهاد. • إذا اجتهد العالم المؤهل للاجتهاد في مسألة وتوصل إلى الحكم فيها فليس له تقليد غيره ممن يخالفه القول في تلك المسألة , وإن لم يظهر له الحكم وجب عليه التوقف وجاز التقليد حينئذٍ للضرورة. • المسلم إذا تبين له من العلم ما كان خافياً عليه اتبعه وليس هذا مذبذباً بل هذا مهتد زاده الله هدى. • عمل المفتي يتألف من عنصرين: 1 - الوصول إلى معرفة الحكم المجرد. 2 - التطبيق على الواقعة وهذا العنصر الثاني لا تبيَنه الأدلة بل هو عمل اجتهادي صرف ولا غنى عنه في كل الوقائع وهو مزلة أقدام لمن لم يتثبت ولم يُمارس. • قد تقع معرفة الحكم دون اجتهاد بل بالتقليد ممن لا يتمكن من الاجتهاد ولكن هناك نوع من الاجتهاد آخر لابد منه لكل من يتولى القضاء أو الإفتاء حتى لو كان مقلداً ويسمى هذا النوع (تحقيق المناط) أي تحقيق وجود مناط الحكم في الواقعة المحكوم فيها أو عدم وجوده. • تحقيق المناط وتطبيق الشريعة على الواقع لا يكون إلا اجتهاداً. • من لا يكون قصده في استفتاؤه وحكومته الحق بل غرضه من يوافق على هواه كائناً من كان سواء كان صحيحاً أو باطلاً فهذا لا يجب بذل العلم له والفتوى. • لا يجوز كتم العلم إلا أن يعلم من حال السائل أن قصده التعنت أو تتبع الرخص أو ضرب آراء العلماء بعضها ببعض أو غير ذلك من المقاصد السيئة ففي هذه الحال يجوز له كتم الفتوى وكذلك إذا ترتب على الفتوى ما هو أكثر منها ضرراً فإن ترتب عليها ذلك وجب الإمساك عنها.

المعلم الثامن: مالا يسع جهله من بعض أصول الفقه وقواعده

(المعلم الثامن: مالا يسع جهله من بعض أصول الفقه وقواعده) • باب التعارض والموازنات باب واسع جداً في الفقه الإسلامي، فإذا ازدحم واجبان لا يمكن جمعهما فقدم أوكدهما , ولم يكن الآخر في هذه الحال واجباً ولم يكن تاركه لأجل فعل الأوكد تارك واجباً في الحقيقة وكذلك إذا اجتمع محرمان لا يمكن ترك أعظمهما إلا بفعل أدناهما , لم يكن فعل الأدنى في هذه الحال محرماً في الحقيقة وإن سمي ذلك ترك واجب وسمي هذا فعل محرم باعتبار الإطلاق لم يضر, ويُقال في مثل هذا ترك الواجب لعذر وفعل المحرم للمصلحة الراجحة أو للضرورة أو لدفع ما هو أحرم. • فقه الموازنات يكون بميزان الشرع لا ميزان الهوى وميل الطباع. • تقدير المصالح والمفاسد وفقه الموازنات مما تتفاوت فيه الاجتهادات وتتباين فيه التقديرات وهذا الباب مزلة أقدام ومضلة أفهام وقد تقارن الأهواء الآراء والمعصوم من عصمه الله عز وجل وجعل له فرقاناً وهو لا بد له من دراية بالشرع وفقه للواقع مع قوة في العقل والفراسة والإخلاص التام والتجرد من الهوى علماً أن هذا الأمر لا يُتوصَل إلى معرفته إلا بنور من الله يقذفه في قلب العبد يكون سببه تجريد متابعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشدة عنايته بمراتب الأعمال عند الله وأحبها إليه وأرضاها له. • من يقدَر المصلحة الشرعية؟ المسائل التي تحتاج إلى فقه موازنات وترجيح شرعي تتفاوت تفاوتاً عظيماً باعتبار أهميتها وخطورتها وتأثيرها وما تتعلق به وكل مسلم قلَت بضاعته في العلم أو كثرت لا بد أن يكون عنده فقه للموازنات فمستقل أو مستكثر لأنه لا يُعقل البحث عن مجتهد ليُقدَر المصلحة الشرعية في كل مسألة عابرة وهذا بخلاف المسائل الكبار العظيمة من حيث أهميتها وخطورتها وتأثيرها وما تتعلق به فإنها بلا شك تحتاج إلى مشورة أهل العلم والاجتهاد , وضابط المصالح والمفاسد في كثير من المسائل مما تختلف فيه أنظار العلماء والمجتهدين وأهل الخبرة.

علماً أن فقه الموازنات قد يكون بين خيارات ومذاهب كلها مباحة في الأصل. • هنالك فرق بين المفاسد التي لا تنفك عمَا فيها من المصالح وبين المفاسد التي يُمكن أن تنفك عن المصالح. • إذا كان في السيئة حسنة راجحة لم تكن سيئة وإذا كان في العقوبة مفسدة راجحة على الجريمة لم تكن حسنة بل تكون سيئة وإن كانت مكافئة لم تكن حسنة ولا سيئة. • إذا دار الأمر بين فعل إحدى المصلحتين وتفويت الأخرى بحيث لا يمكن الجمع بينهما روعي أكبر المصلحتين وأعلاهما ففُعلت , إلا أنه قد يعرض للعمل المفضول من العوارض ما يكون به أفضل من الفاضل بسبب اقتران ما يوجب التفضيل. • من الأسباب الموجبة لتفضيل العمل المفضول على الفاضل أن يكون المفضول أزيد مصلحة للقلب من الفاضل كما قال الإمام أحمد لما سُئل عن بعض الأعمال "انظر إلى ما هو أصلح لقلبك فافعله". • إذا تزاحمت المفاسد بأن اضطر الإنسان إلى فعل إحداها فالواجب أن لا يرتكب الكبرى بل يفعل الصغرى ارتكاباً لأهون الشرين لدفع أعلاهما. • الترجيح الشرعي قد يكون باعتبار مصلحة الغير أو مصلحة النفس الشرعية أو كلاهما. • المجتهد قد يعدل عن الدليل الظاهر العام أو القاعدة العامة أو القياس في بعض الوقائع إلى الدليل الخفي تحقيقاً للمصالح ورداً للمفاسد ولا يكون بذلك العدول استحساناً بمجرد الرأي والهوى بل بدليل يقتضي هذا العدول أي دليل معتبر كرفع الحرج ودفع المشقات , والاستحسان: هو العدول بالمسألة عن مثل ما حكم به في نظائرها إلى حكم آخر لدليل اقتضى ذلك. • إذا اختلط الواجب بالمحرم فتراعى مصلحة الواجب غالباً ما لم يكن المحرم أعظم مفسدة من ترك الواجب. • إذا اجتمع الحلال والحرام غلب الحرام. • ترك الشبهة مستحب ولا تتقي شبهه بترك واجب. • الأحوط هو اتباع ما دل عليه النص لا اتباع الأشد. • الخروج من الخلاف محمود إذا لم يلزم منه إخلال بسنة أو وقوع في خلاف آخر. • الضرر الأشد يُزال بالضرر الأخف , ويُحتمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام , والضرر يُزال بلا ضرر , ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح حال التساوي. • المصالح من حيث اعتبارها في الشرع وعدمه قسمان:

1 - مصلحة معتبرة وهي قسمان: مصلحة اعتبرها الشارع بعينها وراعاها في أصل معين فيقاس عليه ما يماثله وهذه هي المصلحة التي تضمنته العلة في القياس. 2 - مصلحة اعتبر الشارع جنسها ولا يشهد لها بعينها أصل معين وهذه هي التي تسمى (المصلحة المرسلة). 3 - مصلحة ملغاة , وذلك لاشتمالها على مفسدة أعظم منها أو لأنها تفوت مصلحة أعظم منها. • يجب الالتزام بأحكام المصلحة المرسلة إن كان الإخلال بها يؤدي إلى الإضرار بالناس وحصول الفوضى ولو صدرت من جهة لا تجب طاعتها شرعاً. • لا يتم الحكم حتى تجتمع كل الشروط والموانع ترتفع. • تتفاوت الأحكام الشرعية (الحرام، الواجب، المكروه ,المستحب) تفاوتاً عظيما ً. • فعل الغير لا تكليف به , ولاتزر وازرةٌ وزر أخرى , وإثم ترك الاحتساب الواجب المتعين على المحتسب عليه شيء ومخالفة وإثم المحتسب عليه شيء آخر, وإثم اتخاذ الكفار أولياء على الوجه المحرم شيء وكفر الكفار شيء آخر. • اليقين لا يزول بالشك , والأصل بقاء ما كان على ما كان , والأصل براءة الذمة , والأصل في الصفات العارضة العدم. • الأشياء ثلاثة: مقاصد، وسائل، متممات لها كرجوعه إلى محله الذي خرج منه فالوسائل والمتممات لها أحكام المقاصد فإن من خرج للطاعة فهو في عبادة من حيث يخرج من محله للعبادة حتى يرجع. • يثبت تبعاً ما لا يثبت استقلالاً , فإن من الأحكام أشياء يختلف حكمها في حال الانفراد وفي حال التبع لغيرها فلها حكم إذا انفردت ولها حكم إذا تبعت غيرها, وهذا التبع يثبت له حكم متبوعه والحكم لا يثبت له لو كان مستقلاً وإنما اكتسبه من تبعه لغيره. • يثبت الشيء ضمناً وحكماً ولا يثبت قصداً , ويُغتفر في التوابع ما لا يُغتفر في غيرها , والتابع يسقط بسقوط المتبوع , والتابع لا يُفرد بحكم , ولا يشترط في التابع ما يشترط في المتبوع.

• ما نشأ عن غير المأذون فيه فإنه مضمون , وأما ما تولد عن المأذون فيه فهو تابع للمأذون فيه وما تولد عن غير المأذون فيه فهو تابع له. • الآثار الناشئة عن الطاعة مُثاب عليها المسلم والآثار الناشئة عن المعصية تبع للمعصية. • الآثار الناشئة عن الطاعة إذا كانت معصية فهي أقرب إلى العفو إن كان يُمكن التحرز منها وأما إن كانت من لوازمها فلا شيء عليه أصلاً وهو مُثاب ولا تكون معصية حينئذٍ. • إذا لم تتحقق الكفاية في فرض الكفاية أثم كل قادر بحسب قدرته. • من ترك الواجب المتعين أثم إن كان عالماً بوجوبه قادراً عليه غير ناسٍ ولا مُكره. • الواجبات المطلقة التي لم يقدر لها وقت بالكلية فإنها تُفعل بحسب الحاجة كبر الوالدين وصلة الأرحام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. • المقدور عليه الذي لا يتم الواجب إلا به فهو واجب وأما ما لا يتم الوجوب إلا به سواءً كان شرطاً أو سبباً أو انتفاء مانع فليس تحصيله بواجب. • ما لا يتم ترك الحرام إلا به فهو واجب. • تارك السنن المؤكدة على الداوم ملوم. • الصحيح من العبادات هو ما أغنى عن الإعادة والقضاء , والصحيح من المعاملات هو ما ترتب عليه الأحكام المقصودة. • هل العبادة أو العقود إذا خالطها منهيٌ عنه تكون باطلة أو صحيحة مع التحريم؟ إذا كان النهي عائداً إلى ذات المنهي عنه أو شرطه فيكون باطلاً أما ما عدا ذلك فلا يكون باطلاً وإن كان صحيحاً مع التحريم والإثم , فقد يكون الشخص الواحد في العمل الواحد آثماً من جهة وفي ذات الوقت مُحسناً مأجوراً من جهة أخرى. • الذريعة هي الوسيلة المؤدية إلى الشيء سواء كانت مصلحة أم مفسدة. • سد الذرائع: المراد بها منع الجائز لئلا يتوصّل به إلى الممنوع. ونتيجة إعمالها تحريم أمرٍ مباح لما يفضي إليه من مفسدة , وأداء الوسيلة إلى المفسدة: إما أن يكون قطعياً أو ظنيًّا أو نادراً. فإن كان قطعياً: فقد اتفق العلماء على سدّه والمنع منه سواء سُمّي سَدَّ ذريعة أو لا , وإن كان نادراً: فقد اتفق العلماء أيضاً على عدم المنع منه، وأنّه

المعلم التاسع: فقه القلوب

على أصل المشروعيّة , وأما إن كان ظنياً: فقد اختلف أهل العلم فيه هل يُمنع أو لا؟ ولعل الصحيح في هذا القسم الأخير أنه يُنظر فيه إلى المصلحة والمفسدة. • ما لا خلاف فيه من سد الذرائع. 1 - ما كان إفضاؤه إلى المفسدة قطعياً. 2 - ما كان في ذاته محرماً ويفضي إلى محرم. • الواجب عدم التوسع في سد الذريعة لأن ذلك يؤدي إلى إدخال الحرج على الناس فلا يُفتى بسد الذريعة إلا فيما كان إفضاؤه إلى المفسدة غالباً بحيث يغلب على ظنه إفضاؤه إليها أو يكون إفضاؤه إليها كثيراً , ثم لا يكون سد الذريعة شاملاً عاماً لكل صور المحكوم فيه وكل أحواله بل بالقدر الذي تندريء به المفسدة وإذا زالت الخشية زال الحظر والله أعلم. • فتح الذرائع هو إباحة ارتكاب المحرم إن كان تركه يؤدي إلى ضرر أعظم وهو مشروع بل يجب ولكن لا يرتكب المحرم إلا بشرطين: 1 - أن لا يمكن منع الضرر بطريق آخر مأذون فيه شرعاً. 2 - أن يكون الضرر المخوف أعظم وأخطر من المحرم المرتكب. (المعلم التاسع: فقه القلوب) المراد بفقه القلوب:"علمه – إرادته- وارداته- مناط الثواب والتأثيم فيه-عمله" • تعلق الإدراك بالأشياء كالآتي: - علم وهو إدراك الشيء على ما هو عليه إدراكاً جازماً. - جهل بسيط وهو عدم الإدراك بالكلية. - جهل مركب وهو إدراك الشيء على وجه يُخالف ما هو عليه. - ظن وهو إدراك الشيء مع احتمال ضد مرجوح. - وهم وهو إدراك الشيء مع احتمال ضد راجح. - شك وهو إدراك الشيء مع احتمال ضد مساوٍ. • الشك في العبادة له أربع حالات: 1 - أن تكون مجرد وهم طرأ على قلبه وهماً ليس له مرجح ولا تساوى عنده الأمران بل هو مجرد شيء خطر في قلبه فهذا لا يهتم به ولا يلتفت إليه.

2 - أن يكون كثير الشكوك وهذا أيضاً لا يلتفت إلى الشك ولا يهتم به. 3 - أن يقع الشك بعد فراغه من العبادة فهذه أيضاً لا يلتفت إليها إلا إذا تيقن فيبني على يقينه. هذه ثلاث حالات لا يلتفت إليها في الشك: الوهم، أو أن يكون كثير الشكوك، أو أن يكون الشك بعد الفراغ من العبادة. 4 - أن يكون الشك شكاً حقيقياً وليس كثير الشكوك وحصل قبل أن يفرغ من العبادة ففي هذه الحال يجب عليه أن يبني على اليقين. • سوء الظن بالآخر على ضربين: 1 - محرم وهو سوء الظن بالله تعالى، وسوء الظن بالمسلمين الذين ظاهرهم العدالة. 2 - جائز وقد يكون واجباً أحياناً وهو سوء الظن بمن هو أهلٌ له إذ لا حرج في الظن القبيح بمن ظاهره القبيح. والذي يميز الظنون التي يجب اجتنابها عما سواها أن كل ما لم تعرف له أمارة صحيحة وسبب ظاهر كان حراماً واجب الاجتناب وذلك إذا كان المظنون به ممن شوهد منه الستر والصلاح وأونست منه الأمانة في الظاهر فظن الفساد به والخيانة محرم بخلاف من اشتهر بين الناس بتعاطي الريب والمجاهرة بالخبائث. • يُشرع العمل بالمظنون لمشقة الاطلاع على اليقين. • ما لم ينصب عليه دليل يوصل إلى العلم اليقيني به قد تعبدنا الله بتنفيذ الحكم فيه والاقتصاد على غالب الظن , وإجراء الحكم عليه واجب , وأكثر الأحكام الشرعية مبنية على غلبة الظن. • تحقيق المناط – أي تطبيقه على الواقع مبني على غلبة الظن. • حقيقة النية: القصد إلى الشيء والعزيمة على فعله , ومحل النية القلب. • جميع أقوال وأفعال المكلف تختلف نتائجها وثمارها وأحكامها الشرعية باختلاف قصد الإنسان وغايته من هذه الأقوال والأفعال , والنية هي رأس الأمر وعموده وأساسه وأصله الذي عليه ينبني فإنها روح العمل وقائده وسائقه والعمل تابع ينبني عليها ويصح بصحتها ويفسد بفسادها وبها يُستجلب التوفيق وبعدمها يحصل الخذلان وبحسبها تتفاوت الدرجات في الدنيا والآخرة. • انقلاب المباح مستحباً أو واجباً أو محرماً أو غير ذلك مرجعه إلى اختلاف النيات والأحوال , ولهذا الوسائل لها أحكام المقاصد. • مَن فعل الواجبات (حقوق العباد) الشرعية بنية التقرب إلى الله تعالى فله أجره أما من فعلها بدون هذه النية فلا أجر له ولكن تسقط عنه المطالبة. • الأعمال التي لا تفعل إلا على جهة العبادة يجب إفراد الله بها ولا تصح بدون ذلك , والأعمال التي قد تفعل على جهة العادة فهذه يصح فعلها بدون نية ومن نوى التقرب بها إلى الله استحق الأجر ولا يجوز التقرب بفعلها لغير الله على جهة العبادة , أما التروك أي "المحظورات الشرعية" فمن تركها لله أثيب ومن تركها بدون نية التقرب لله لم يستحق الثواب ولا العقاب. • ترك العمل يكون عملاً إذا كان كفاً أي وجود باعثه والقدرة على فعله وأما الترك الذي يكون بمعنى العدم وليس داخلاً تحت القدرة للعبد لا يُعد عملاً. • يبلغ المرء بنيته ما لا يبلغه بعمله والأعمال البدينة قد تتوقف بخلاف النية وقاصد فعل الخير يُثاب وإن لم يُصب المراد وإذا خالف اللسان ما نواه العبد في القلب فالعبرة عند الله بما نوى العبد في قلبه. • النية شرط في الثواب لا في الخروج عن العهدة فالنواهي يخرج الإنسان عن عهدتها وإن لم يشعر بها فضلاً عن القصد إليها أي ترك المعصية لأجل الله فإن فيها الثواب في هذه الحالة أما الأوامر فالعادات والمعاملات فيخرج الإنسان من عهدتها وإن لم ينوها أما العبادات فلا بد لها من النية ولا تصح إلا بها. • أثر النية على الأعمال: لا يثاب العبد إلا بالنية , والأفعال التي لا تؤدى إلا على جهة العبادة لا تصح إلا بالنية كما ذكرنا فالنية تدخل في جميع الواجبات والمستحبات وتحوَل المباحات إلى طاعات ومن فعل المحرم غير ناوٍ له لم يستحق العقوبة لكونه مخطأ , ومن فعل حراماً ناوياً به الحلال ظاناً أنه كذلك لم يؤاخذ , ومن فعل الحلال ناوياً به الحرام ترتب عليه إثم الفعل دون إثم نتائجه. • أعمال القلوب يؤاخذ بها الإنسان إن استقرت. • حديث النفس والوسوسة متقاربان إذ المعنى كليهما تردد في النفس من غير اطمئنان إليه واستقرار عليه. • ما يقع في النفس خمس مراتب: الأولى: هاجس وهو ما يُلقى في النفس وهو أضعف هذه المراتب. الثانية: خاطر وهو ما يجري في النفس ثم يذهب في

الحال بلا تردد. الثالثة: حديث النفس وهو ما يقع فيه التردد هل يفعل أم لا؟ فمرة يميل إلى الفعل وأخرى ينفر عنه ولا يستقر على حال. الرابع: الهم وهو أن يميل إلى الفعل ولا ينفر عنه لكنه لا يصمم على فعله وهو ترجيح قصد الفعل. والمراتب الأربع السابقة تندرج تحت مسمى الإرادة غير الجازمة. الخامسة: العزم وهي المسماة بالإرادة الجازمة وهو أن يميل إلى الفعل ولا ينفر منه بل يصمم عليه وهو قوة ذلك القصد والجزم به ومنتهى الهم , ومتى وُجدت الإرادة الجازمة مع القدرة التامة وجب وجود الفعل لكمال وجود المقتضى السالم عن المُعارض المقاوم , ومتى وُجدت الإرادة والقدرة التامة ولم يقع الفعل لم تكن الإرادة جازمة , والإرادة الجازمة إذا تخلف عنها ما يقدر عليها فذلك المتخلف لا يكون مراداً إرادة جازمة بل هو الهم الذي وقع العفو عنه. • الإرادة غير الجازمة إذا لم تتمثل في فعل من أفعال الجوارح فهي من حيث الثواب والعقاب كالآتي: 1 - ما لا ثواب عليه ولا عقوبة عليه: وهذا يشمل مرتبة الهاجس والخاطر. 2 - ما يُثاب صاحبه إذا كان خيراً ولا يُعاقب إن كان شراً , وهذا يشمل حديث النفس والهم فالهام بالحسنة إذا لم يفعلها ينال حسنة تامة والهام بالسيئة لا تُكتب عليه سيئة وتكتب له حسنة إن تركها لله وإلا فلا. • الإرادة الجازمة إذا لم تتمثل في فعل من أفعال الجوارح فهي من حيث الثواب والعقاب كالآتي: فهذا يثاب صاحبه إذا كان خيراً ويُعاقب إن كان شراً. • حديث النفس يتجاوز الله عنه إلى أن يتكلم فهو إذا صار نية وعزماً وقصداً ولم يتكلم فهو معفوٌ عنه، والإرادة الجازمة للفعل مع القدرة التامة توجب وقوع المقدور، والهمة التي لم يقترن بها فعل ما يقدر عليه الهام ليست إرادة جازمة , والإرادة الجازمة لابد أن يوجد معها ما يقدر عليه العبد والعفو وقع بمن هم بسيئة ولم يعملها لا عمن أراد وفعل المقدور عليه وعجز عن قيام مراده. • حديث النفس العابر والذي لا يستقر في القلب ولا يركن إليه المسلم معفوٌ عنه ولم يشتمل على هم ولا على إرادة جازمة وأما الهم فإنه مرتبة فوق التحديث فهذا هو الذي يُثاب عليه إن كان طاعة وإذا وقعت منه ضاعفها الله عشر أضعاف وقد يزيد وإن كانت معصية فهي

المعلم العاشر: الإلهام والرؤيا والكرامات

مغفورة إذا لم تقع منه , ويُثاب عليها إذا ترك المحرم الذي هم به لله فإن الله تعالى يكتبه حسنة كاملة وأما الإرادة الجازمة فيثاب عليها المرء ويُعاقب حسب إرادته ولو لم يصدر منه شىء على الجوارح. • إن الله لا يؤاخذ العبد بما دار في نفسه، لعسر التحرز منه، ولكن يؤاخذه بما قال أو عمل. • من كان عازماً على الفعل عزماً جازماً وفعل ما يقدر عليه منه كان بمنزلة الفاعل. • الأصل أن يفرَق في قول القلب وعمله بين ما كان مجامعاً لأصل الإيمان وما كان منافياً له ويُفرَق أيضاً بين ما كان مقدوراً عليه فلم يُفعل وبين ما لم يترك إلا للعجز عنه. • كل ما وقع في قلب المؤمن من خواطر الكفر والنفاق فكرهه وألقاه ازداد إيماناً ويقيناً كما أن كل من حدثته نفسه بذنب فكرهه ونفاه عن نفسه وتركه لله ازداد صلاحاً وبراً وتقوى. • ميل الطبع إلى المعصية بدون قصدها ليس إثماً. • الأمر والنهي إنما يتعلق بالاستماع لا بمجرد السماع، كما في الرؤية، فإنه إنما يتعلق بقصد الرؤية لا بما يحصل منها بغير الاختيار، وكذلك في اشتمام الطيب إنما ينهى المحرم عن قصد الشم، فأما إذا شم ما لم يقصده فإنه لا شيء عليه , وكذلك في مباشرة المحرمات كالحواس الخمس ـ من السمع والبصر والشم والذوق واللمس ـ إنما يتعلق الأمر والنهي من ذلك بما للعبد فيه قصد وعمل، وأما ما يحصل بغير اختياره، فلا أمر فيه ولا نهي. (المعلم العاشر: الإلهام والرؤى والكرامات) • الإلهام: هو ما يقع في القلب من آراء وترجيحات , وهو نور يختص الله به من يشاء من عباده , والإلهام حق وهو وحي باطن، وإنما حُرمه العاصي لاستيلاء وحي الشيطان عليه. وحكمه: حق وهو ترجيح شرعي لصاحب القلب المعمور بالتقوى بشرط أن لا يعارض نصاً صريحاً فإن من المسائل ما ليس فيها نص وكان الأمر فيها مشتبهاً والرأي فيها محتملاً فهنا يرجع فيه المؤمن إلى ما حك في صدره ووقع في قلبه.

• الإلهام ويُراد به ما يُلقى في روع الإنسان من علم أو عمل أو إرادة وهو قسمين: 1 - حق في ذاته ومتعلقاته وهو ما كان ثمرة للعبودية والمتابعة والصدق مع الله والإخلاص له وتلقي العلم من مشكاة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وكمال الانقياد له. 2 - باطل في ذاته ومتعلقاته وهو ما كان ثمرة للإعراض عن الوحي وتحكيم الهوى والشيطان وما تشتهيه الأنفس. فأما الأول فهو رحماني والثاني شيطاني , وبالنسبة لموقف المسلم من الإلهام فإذا كان الذي وقع في القلب إنما هو من باب الترجيح الشرعي بين الأدلة المتكافئة أو النظر في مناط الحكم أو عند الاشتباه بين الحلال والحرام ونحو ذلك وكان الذي وقع عليه الإلهام ممن شرح الله صدره ووفقه للعلم النافع وهداه للاعتصام بالسنة فهو إلهام رحماني ويعتبر دليلاً في حقه , وترجيحه بهذا الإلهام ترجيح شرعي بشرط أن لا يكون مخالفاً لصريح الشرع. • الرؤيا: وهي ما يراه الشخص في منامه , وحكمها كالإلهام فتُعرض على الوحي الصريح فإن وافقته وإلا لم يعمل بها. • الكرامة تكون بحسب حاجة الرجل الدينية أو القدرية ويكون من هو أكمل ولاية لله منه مستغنياً عن ذلك فلا يأتيه مثل ذلك لعلو درجته وغناه عنها لا لنقص ولايته بخلاف من يجري على يديه الخوارق لهُدى الخلق ولحاجتهم فهؤلاء أعظم درجة وهم الرسل عليهم السلام. • كرامات الأولياء سببها الإيمان والتقوى , والأحوال الشيطانية سببها ما نهى الله عنه ورسوله. • ينبغي للمسلم إذا جرت له كرامات ألا يقف عندها ولا يجعلها همته ولا يتبجح بها , فهناك طائفة يعتبرون بما يحصل لهم من خرق عادة مثل مكاشفة أو استجابة دعوة مخالفة العادة العامة ونحو ذلك فيشتغل أحدهم عما أُمر به من العبادة والشكر ونحو ذلك فهذه الأمور ونحوها كثيراً ما تعرض لأهل السلوك والتوجه وإنما ينجو العبد منها بملازمة أمر الله الذي بعث به رسوله في كل وقت فالاعتصام بالسنة نجاة والسنة مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلَف عنها غرق.

المعلم الحادي عشر: الاخلاص

(المعلم الحادي عشر: الإخلاص) • النية لها مرتبتان إحداها تمييز العادة عن العبادة , الثاني تمييز العبادات بعضها عن بعض, ومن مراتب النية الإخلاص وهو قدر زائد على مجرد نية العمل فلابد من نية نفس العمل والمعمول له وهذا هو الإخلاص. • الإخلاص هو إفراد الله سبحانه بالقصد في الطاعة وتصفية العمل عن ملاحظة المخلوقين ومن كل شائبة. • الأعمال تتفاضل بتفاضل ما في القلوب من الإيمان والمحبة والتعظيم والإجلال وقصد وجه المعبود وحده دون شيء من الحظوظ سواه حتى لتكون صورة العملين واحدة وبينهما في الفضل ما لا يُحصيه إلا الله تعالى. • اعلم رحمك الله أن من تنسب إليه شيء من الشر والظلم لا يُمكن أن تكون عابداً له مهما تكلَفت عبادته فنزَه ربك عمَا لا يليق بمقامه جل وعلا. • المستقل حقيقة هو الله. • سوء الظن بالله تلقين الشيطان , وحسن الظن بالله تلقين من الله تعالى. • مقاصد المكلفين في ميزان الشرع: المقصود الذي يجب أن يتوجَه إليه العبد هو الله وحده وأن هذا هو الإخلاص الذي لا يقبل الله من أحد ديناً سواه , إلا أن المقاصد تتنوع فيما بينها ذلك أن العباد يقصدون ربهم من جوانب مختلفة فمنهم الذي يعبده تعظيماً له وتوقيراً , ومنهم الذي يقصد الدخول في طاعته وعبادته, ومنهم الذي يطلب رضوانه ورضاه ومنهم الذي يقصد الأُنس به والتلذذ بطاعته وعبادته , ومنهم من يرجو التنعم برؤيته في يوم القيامة , ومنهم من يطلب ثوابه من غير أن يستشعر ثواباً معيناً , ومنهم من يطلب ثواب معيناً , ومنهم من يخاف عقابه من حيث الجملة غير ناظر إلى عقاب معين ومنهم من يخشى عقاباً معيناً وتنوع المقاصد باب واسع , والعبد قد يقصد هذا مرة وهذا مرة وقد يقصد أكثر من واحد من هذه المقاصد وكلها تنتهي إلى غاية واحدة وتعني في النهاية شيئاً واحداً أن العبد يريد الله سبحانه ولا يريد سواه وكل مطلب محقق للإخلاص وأصحاب هذه المقاصد على الصراط المستقيم وعلى الهدى والصواب , وإن كان العبد لا ينبغي أن يُخلي قصده من الحب والخوف فإن قوام العبادة بهما ومدارها عليهما.

المعلم الثاني عشر: الخوف

• المسلم يعبد ربه على قدر معرفته به. • لتوحيد الله آثار ولوازم قد لا تنفك عنها أحياناً كغضب بعض الناس وبغضهم لك وهجرهم إياك ونحو ذلك فينبغي على المسلم أن لا يُبالي بذلك ويمضي لعبادة ربه ويعلم أن ربه لن يُضيَعه وهو وليه وناصره وكفى به وكيلاً. • التوحيد يُذهب أصل الشرك والاستغفار يمحو فروعه والذنوب كلها من شعب الشرك. • تحقيق شهادة لا إله إلا الله شهادة التوحيد يقتضي ألا يحب إلا لله ولا يبغض إلا لله ولا يوالي إلا لله ولا يعادي إلا لله وأن يحب ما يحبه الله ويبغض ما أبغضه الله ويأمر بما أمر الله به وينهى عما نهى الله عنه وإنك لا ترجو إلا الله ولا تخاف إلا الله ولا تسأل إلا الله هذا ملة إبراهيم وهذا الذي بعث الله به جميع المرسلين , وهذا هو الفناء المأمور به الذي جاءت به الرسل فيفنى بعبادة الله عن عبادة ما سواه وبطاعته عن طاعة ما سواه وبالتوكل عليه عن التوكل على ما سواه وبرجائه وخوفه عن رجاء ما سواه وخوفه فيكون مع الحق بلا خلق. • العبد لا بد له في كل وقت وحال من منتهى يطلبه هو إلهه ومنتهى يطلب منه هو مستعانه وذلك هو صمده الذي يصمد إليه في استعانته وعبادته والمعبود الحق والمستعان الحق والصمد الحق هو الله جل جلاله. (المعلم الثاني عشر: الخوف) • الخوف هو توقع مكروه عن أمارة مظنونة أو معلومة. • الخوف المحمود هو ما حجز العبد عن محارم الله. • حقيقة وبيان الشرك في الخوف هو: أن يخاف العبد من غير الله تعالى أن يصيبه بمكروه بمشيئته وقدرته المستقلة عن الله، فهذا شرك أكبر؛ لأنه اعتقاد للضر والنفع في غير الله، والمراد بالخوف المخرج من الملة هو خوف العبادة، وهو الخوف الذي يكون معه تعظيم وإجلال وخشية ورجاء للمخوف، هذا هو خوف العبادة، وهو المسمى بخوف السر، وهو الخوف الذي يكون فيما وراء الأسباب، فهو لا يخاف لأن أمامه سبب، بل يخاف لأنه يعتقد أن هناك سر يستطيع به أن يغفر ذنبه، أو يسلط عليه عدوه، أو يقطع رزقه، أو يُميت ولده، أو يحرمه دخول الجنة، فهذا شرك أكبر. أما إذا خاف من شيء أسبابه ظاهرة فهذا لا يكون خوف عبادة، كأن يخاف من السباع فيبتعد عنها، أو من

الحيات والعقارب، أو من عدو كسلطان ظالم، فهذا أسبابه ظاهرة، وهذا لا يكون شركاً، بل هو خوف طبيعي. • أقسام الخوف: للخوف أقسام منه الجائز ومنه المستحب ومنه المحرم ومنه المخرج من الملة. 1 - خوف العبادة وخوف التعظيم وهو لا يجوز أن يكون إلا لله وهو ما يسمى بخوف السر وهو من لوازم الألوهية، وهذا الخوف من أعظم مقامات الدين وأجلها فمن صرفه لغير الله فقد أشرك بالله الشرك الأكبر كأن يخاف من غير الله من وثن أو طاغوت أو ميت أو غائب من جن أو إنس أن يصيبه بما يكره. فمن خاف مخلوقاً أن يُميته أو يضرَه أو يملك قطع رزقه, وهذا الخوف هو ... خوف الشرك المخرج من الملة. 2 - أن يترك الإنسان ما يجب عليه خوفاً من ملامة وأذى الناس كأن يترك أمراً بالمعروف أو نهياً عن المنكر أو يترك الصلاة مثلاً خوفاً من سخريتهم , وهذا الخوف هو خوف محرم وهو شرك أصغر. 3 - خوف أولياء الله من الله عز وجل وهو خوف محمود وهو من مقامات الإيمان. 4 - الخوف الطبيعي وهو أن يخاف الإنسان الضرر ومما يُخاف منه عادة كأن يخاف حيواناً مفترساً أو من نار أن أو يخاف من بحر أن يغرقه, فهذا الخوف جائز وهو من الطبيعة البشرية ولكن قد يُذم إذا تجاوز حدَه الطبيعي فيخاف من الأمور التي لا يُخاف منها عادة وهذا نوع من الضعف والخور والوساوس فيكون مذموماً من هذه الناحية. • من أخلص الخوف لله أعطاه الله ما يريد وأمَنه مما يخاف , والأمن التام لأهل الإيمان, والشرك بالله هو سبب الخوف فالرعب والهلع والخوف قرين الشرك, وأما أهل الإيمان فهم يجردون هذا الخوف لله. • الله عز وجل يريد من عباده أن يرجو رحمته أكثر من أن يخافوا عقابه ولأن تغليب رجاء رحمته يورثهم محبته. • الخشية أبداً متضمنة للرجاء ولولا ذلك لكانت قنوطاً كما أن الرجاء يستلزم الخوف ولولا ذلك لكان أمناً فأهل الخوف والرجاء له هم أهل العلم الذين مدحهم الله. • المؤمن يسير إلى الله بين الخوف والرجاء بحيث لا يذهب مع الخوف فقط حتى يقنط من رحمة الله ولا يذهب مع الرجاء فقط حتى يأمن من مكر الله لأن القنوط من رحمة الله والأمن من مكر الله ينافيان التوحيد , وتوازن القلب بين

المعلم الثالث عشر: المحبة

الخوف والرجاء يدفع على العمل الصالح والبعد عن المعاصي والتوبة من الذنوب. (المعلم الثالث عشر: المحبة) • المحبة هي أصل دين الإسلام الذي تدور عليه رحاه فبكمال محبة الله يكمل دين الإسلام وبنقصها ينقص توحيد الإنسان , ومحبة الله هي محبة العبودية المُستلزمة للذل والخضوع وكمال الطاعة وإيثار المحبوب على غيره فهذه المحبة خالصة لله لا يجوز أن يُشرك معه فيها أحد لأن المحبة قسمان، محبة مختصة وهي محبة العبودية، ومحبة عامة مشتركة وهي ثلاثة أنواع، محبة طبيعية، محبة إشفاق، محبة أنس وألف وهذه المحبة بأقسامها الثلاث لا تستلزم التعظيم والذل ولا يؤاخذ أحد بها ولا تُزاحم المحبة المختصة , فلا يكون وجودها شركاً لكن لابد أن تكون المحبة المختصة مقدمة عليها. • محبة العبادة مصحوبة بالخوف والرجاء، أما المحبة المنفردة عن الذل والخضوع فلا تكون عبادة، بل تكون محبة طبيعية، كمحبة المال والولد والزوجة؛ هذه تسمى محبة طبيعية ليست محبة عبادة، فمحبة العبادة هي التي تقتضي كمال المحبة وكمال الذل، أما إذا خرجت عن ذلك فلا تكون محبة عبادة، بل تكون محبة طبيعية، ومن أحب شيئاً ولم يخضع له لم يكن عابداً له، كالزوجة تُحبها لكن لا تخضع لها , ومن خضع لشيء ولم يحبه لم يكن عابداً له، كالعدو تخضع له لكن لا تحبه, فلهذا لا يكون المرء عبداً لله حتى يكون الله أحب إليه من كل شيء، وأعظم عنده من كل شيء. • لا يُحب أحد لذاته من كل وجه إلا الله تعالى. • المحبة تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: محبة عبادة وهي التي توجب التذلل والتعظيم، وأن يقوم بقلب الإنسان من إجلال المحبوب وتعظيمه ما يقتضي أن يمتثل أمره ويجتنب نهيه، وهذه خاصة بالله، فمن أحب مع الله غيره محبة عبادة فيكون لله كالند والنظير فهذا مشرك شركاً أكبر. ويُعبَر العلماء عنها بالمحبة الخاصة , ومحبة الله على درجتين: إحداهما: فرض، وهي المحبة المقتضية لفعل أوامره الواجبة، والانتهاء عن زواجره المحرمة، والصبر على مقدوراته المؤلمة، فهذا القدر لا بد منه في محبة الله، وإنما يحصل الوقوع فيما يكرهه الله لنقص محبة الله الواجبة في القلوب، وتقديم الهوى والنفس على محبته، وبذلك ينقص الإيمان.

والدرجة الثانية من المحبة: وهي فضل المتسحب أن ترتقي المحبة من ذلك إلى التقرب بنوافل الطاعات، والانكفاف عن دقائق الشبهات والمكروهات، والرضا بالأقضية المؤلمات. القسم الثاني: محبة ليست بعبادة في ذاتها وهذه نوعان: النوع الأول: المحبة لله وفي الله: وذلك بأن يكون الجالب لها محبة الله أي كون الشيء محبوباً لله تعالى من أشخاص كالأنبياء والرسل والصديقين والشهداء والصالحين، أو أعمال كالصلاة والزكاة وأعمال الخير. وميزان المحبة الخالصة لله: أنها لا تزيد بالبر ولا تنقص بالجفاء , أما محبة الآخرين لإحسانهم جائزة ولكنها لا تزيد من المحبة الطبيعية ولكن المُتكلم عنها المحبة التي تكون لله فمن أحب لله وأبغض لله فهي أوثق عرى الإيمان وعلى المسلم أن يقتصد في حبه وأن يكون متوازناً. النوع الثاني: محبة لغير الله وهي نوعان: الأول: مذمومة وهي محبة ما يبغضه الله من كفر وفسوق وعصيان, وهذه المحبة منها ما هو شرك أكبر ومنها ما هو دون ذلك , فمحبة الشخص الكافر لكفره كفر أكبر , أما محبّة الشخص كافراً كان أو مسلماً لِفسْقِه أو لمعصيةٍ يقترفها , فهذا إثمٌ ولاشك، ولكنه لا يصل إلى درجة الكفر لكونه لا ينافي أصل الإيمان؛ وهذا الحبّ قد يكون كبيرة من كبائر الذنوب، وقد لا يكون كذلك، بحسب حال المحبوب ومعصيته، فمن أحبّ محبوباً لارتكابه الكبائر، فهذا الحب كبيرة، ومن أحبّه لصغيرة يرتكبها، فلا يزيد إثمه على إثم من ارتكبها وأمّا الحبّ المباح فهو الحب الطبيعي، وهو الخارج عمَا سبق , كحبّ الوالد لولده الكافر، أو الوَلَدِ لوالديه الكافرين، أو الرجل لزوجه الكتابيّة، أو المرْءِ لمن أحسنَ إليه وأعانه من الكفار , فهذا الحُبّ المقيد مباح وهو رخصة، مادام لم يؤثر في بُغْضه لكفر الكافرين، وفسق الفاسقين، ومعصية العاصين , أمّا إذا أثّر في بُغْضه، فإنه يعود إلى أحد القسمين السابقين، بما فيهما من تفصيل. الثاني: المحبة الطبيعية وهي مذمومة إذا لم تُضبط بالضوابط الشرعية أو كانت في حق عموم الكفار وإلا فهي جائزة وقد تكون مستحبة , وهي أربعة أصناف: الصنف الأول: محبة إشفاق ورحمة وذلك كمحبة الولد والصغار والضعفاء والمرضى. الصنف الثاني: محبة تقدير واحترام وإجلال لا عبادة كمحبة الإنسان لوالده ولمعلمه والكبير من أهل الخير.

الصنف الثالث: محبة أُنس وألف، كمحبة المشتركين في صناعة أو تجارة، ... والطلبة بعضهم لبعض. الصنف الرابع: محبة ما يلائم طبع الإنسان من الجمادات كمحبة الطعام والشراب والملبس والمركب والمسكن ومحبة الوطن. والمحبة الطبيعية من قسم المباح؛ إلا إذا اقترن بها نية صالحة فتصير عبادة كمحبة الولد شفقة إذا اقترن بها الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في محبة الأولاد ورحمتهم, والأكل والشرب إذا قُصد به الاستعانة على عبادة الله صار عبادة , وعلى هذا فالمحبة الطبيعية قد تكون أحياناً مستحبة إذا أدت إلى شيء مستحب، وقد تكون محرمة إذا أدت إلى حرام، كمحبة المال في الأصل هي مباحة فإذا تجاوزت حدها الطبيعي أي إذا صارت زائدة عن الحد فصار يوالي فيه ويعادي فيه فتكون والحال هكذا محبة محرمة , وخلاصة القول يجب تقديم المحبة الشرعية على الجبلية الطبيعية عند التعارض. • يجب تقديم وإيثار محبة الله ورسوله وما أراده الله وأحبه على ما يريد ... العبد وذلك عند التزاحم , والمحبة الجبلية لا اختيار للإنسان فيها ولكن لا تُزاحم محبة الله ورسوله وما يحب الله ويريده. • حسن الظن بالله من واجبات التوحيد وسوء الظن به ينافي التوحيد. • هل من لازم إحسان الظن بالله العصمة من الزلل والخطأ؟ لا إشكال في حسن الظن بالله تعالى مع وجود المعاصي وإنما يأتي الإشكال في حال العاصي المُصر على معصيته السادر في غفلته المُستزيد من غيَه المُستهين بحدود ربه وهو مع ذلك يرجو المغفرة. • سر الحياة الطيبة: تفريغ القلب من تألَُه غير الله عز وجل كائناً من كان والإقبال على الله وحده. • الأسباب الجالبة لمحبة الله والموجبة لها عشرة: أحدهما: قراءة القرآن بالتدبر والتفهم لمعانيه وما أريد به. الثاني: التقرب إلى الله تعالى بالنوافل بعد الفرائض. الثالث: دوام ذكره على كل حال باللسان والقلب والعمل والحال، فنصيبه من المحبة على قدر نصيبه من هذا الذكر. الرابع: إيثار محاب الله على محابك عند غلبات الهوى والتسنم إلى محابه وإن صعب المرتقى. الخامس: مطالعة القلب لأسمائه وصفاته ومشاهدتها ومعرفتها، وتقلبه في

المعلم الرابع عشر: القضاء والقدر

رياض هذه المعرفة ومباديها، فمن عرف الله بأسمائه وصفاته وأفعاله أحبه لا محالة. السادس: مشاهدة بره وإحسانه وآلائه ونعمه الباطنة والظاهرة فإنها داعية إلى محبته. السابع: انكسار القلب بكليته بين يدي الله تعالى. قال ابن القيم: وهو من أعجبها. الثامن: الخلوة به وقت النزول الإلهي لمناجاته، وتلاوة كلامه، والوقوف بالقلب، والتأدب بأدب العبودية بين يديه ثم يختم ذلك بالاستغفار والتوبة. التاسع: مباعدة كل سبب يحول بين القلب وبين الله عز وجل. العاشر: مجالسة المحبين الصادقين، والتقاط أطايب ثمرات كلامهم كما ينتقى أطايب الثمر. (المعلم الرابع عشر: القضاء والقدر) • القدر هو تقدير الله للكائنات حسبما سبق به علمه واقتضته حكمته أو هو علم الله وكتابته للأشياء ومشيئته وخلقه لها. والإيمان بالقدر يقوم على أربعة أركان تسمى مراتب القدر وهي العلم والكتابة والمشيئة والخلق , وأفعال العباد داخلة في عموم خلقه عز وجل ولا يخرجها عن ذلك العموم شيء. ومفهوم هذه المراتب ما يلي: 1 - العلم: فنؤمن بأن الله تعالى بكل شيء عليم , علم ما كان وما يكون وكيف يكون بعلمه الأزلي الأبدي فلا يتجدد له علم بعد جهل ولا يلحقه نسيان بعد علم. 2 - الكتابة فنؤمن بأن الله تعالى كتب في اللوح المحفوظ ما هو كائن إلى يوم القيامة. 3 - المشيئة فنؤمن بأن الله تعالى قد شاء كل ما في السموات والأرض لا يكون شيء إلا بمشيئته , فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. 4 - الخلق فنؤمن بأن الله تعالى خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل. وهذه المراتب الأربع شاملة لما يكون من الله تعالى نفسه ولما يكون من العباد فكل ما يقوم به من العباد من أقوال أو أفعال أو تروك فهي معلومة لله تعالى مكتوبة عنده والله تعالى قد شاءها وخلقها ولكننا مع ذلك نؤمن بأن الله تعالى جعل للعبد اختياراً وقدرة بهما يكون الفعل ونرى أنه لا حجة للعاصي على معصيته بقدر الله

تعالى لأن العاصي يُقدم على المعصية باختياره من غير أن يعلم أن الله تعالى قدَرها عليه , إذ لا يعلم أحد قدر الله تعالى إلا بعد وقوع مقدوره ونؤمن بأن الشر لا يُنسب إلى الله تعالى لكمال رحمته وحكمته فنفس قضاء الله تعالى ليس فيه شر أبداًَ لأنه صادر عن رحمة وحكمة وإنما يكون الشر في مقضياته ومع هذا فإن الشر في المقضيات ليس شراً خالصاً محضاً بل هو شر في محله من وجه , خيرٌُ من وجه أو شر في محله خيرٌُ في محل آخر. والتقدير ينقسم إلى خمسة أقسام وهي: 1 - التقدير العام لجميع الكائنات. 2 - التقدير البشري: وهو التقدير الذي أخذ الله فيه الميثاق على بني آدم في عالم الذر. 3 - التقدير العمري: وهو تقدير كل ما يجري على العبد من لدن نفخ الروح فيه إلى نهاية أجله. 4 - التقدير السنوي: وهو تقدير ما يجري كل سنة وذلك ليلة القدر من كل سنة. 5 - التقدير اليومي: وهو تقدير ما يجري كل يوم. والتقدير البشري يدخل في التقدير العام على مذهب بعض أهل العلم فلا حاجة لذكره والله أعلم. • ما شاء العبد إن لم يشأ الله لم يكن , وما شاء الله وإن لم يشأ العبد كان. • ما لم يشأ الله كونه فإنه لا يكون لعدم مشيئته له لا لعدم قدرته عليه. • أفعال العباد الاختيارية هي من الله خلقاً وإيجاداً وتقديراً وهي من العباد فعلاً وكسباً فالله هو الخالق لأفعالهم وهم الفاعلون لها. • القدر قدران أحدهما المثبت أو المُبرم وهو ما في أم الكتاب فهذا لا يتغير ولا يتبدَل , والثاني: القدر المعلَق أو المقيًد وهو ما في كتب الملائكة فهذا الذي يقع فيه المحو والإثبات. • القضاء يعني قضاؤ الله عز وجل به عند وقوعه والقدر يعني تقدير الله الشيء في الأزل , فالقدر سابق والقضاء لاحق. • القدر هو نظام التوحيد فمن وحَد الله وآمن بالقدر تمَ توحيده ومن وحَد الله وكذَب بالقدر نقص توحيده. • التقدير الذي قدَره الله تابع لحكمته ورحمته وما تقتضيه تلك الحكمة من غايات حميدة وعواقب نافعة للعباد في معاشهم ومعادهم.

• الله سبحانه وتعالى أحاط بكل شيء علماً سواء مما يتعلق بأفعاله عز وجل أو بأفعال عباده فهو مُحيط بها جملة وتفصيلاً بعلمه الذي هو موصوف به أزلاً وأبداً. • كل ما سوى الله فهو مخلوق له وكما أن ذوات المخلوقات مخلوقة فكذلك أن صفاتها من أقوالها وأعمالها مخلوقة. • المستقبل بالنسبة للعبد أُنُف وإن كان بالنسبة لله عز وجل قد سبق به علمه وجرى به قلمه , والله يختص برحمته وفضله من يشاء ولا يمنع ما هو للعبد. • ينبغي للمؤمن استشعار واستحضار أنه لا يتحرك متحرك ولا يسكن ساكن إلا بإذن الله وأما الإيمان بمراتب القدر فيكفي فيها الإيمان المجمل من غير استشعاره كل حين , بل ينبغي عدم التعمق والوسوسة في مراتب القدر فهو ذريعة الخذلان وسلم الحرمان. • الأسباب مهما بلغت في قوة التأثير فإنها تابعة للقضاء والقدر ليست مستقلة في التأثير. • لا يُحتج بالقدر على الشرع. • يجوز الاحتجاج بالقدر على وجه الإيمان به والتوحيد والتوكل على الله والنظر إلى سبق قضائه وقدره محمود مأمورٌ به وكذلك الاحتجاج به على نعم الله الدينية والدنيوية , وكذلك إذا فعل ما يقدر عليه من الأسباب النافعة في دينه ودنياه ثم لم يحصل له مراده بعد اجتهاده فإنه إذا اطمأن في هذه الحال إلى قضاء الله وقدره كان محموداً وكذلك إذا احتج بعد التوبة من الذنب ومغفرة الله له وأيضاً الاحتجاج بالقدر في العذر بالأخطاء الواقعة في حق العبد الخاص. • حكم الاحتجاج بالقدر على الذنوب وظلم العباد فيما بينهم: إن اعتذار المذنبين والظالمين واحتجاجهم بالقدر يُنافي التوبة إلى الله من الذنوب والمعاصي، ويعتبر خللاً في العقيدة، وينقل العبد من دائرة الإسلام إلى دائرة الشرك والكفر، ويؤدي إلى فساد عقيدة الولاء والبراء إلا أن هناك جانب من الاعتذار لا بأس أن يقوم به الإنسان، وهذا الاعتذار هو ما كان في حق العبد الخاص، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعذر في حقه، فإذا كان الخطأ في حقك أنت أيها المسلم، فإن من السنة أن تعذر أخاك المسلم في حقك، فقد قال أنس رضي الله عنه: "خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي لشيء صنعته لم صنعته، ولا لشيء لم أصنعه لم لم تصنعه، وكان إذا عاتبني بعض أهله قال الرسول صلى الله عليه وسلم: دعوه فلو قُضي

شيء لكان". فقد كان عليه الصلاة والسلام يعذر المسلمين بالقدر للأخطاء التي تكون في حقه، فلم يكن يضربهم ولا يلومهم ولا يقرعهم وهذا إذا كان الوضع يحتمل ذلك. أما الأشياء التي تكون في حق الله، فلم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم يعذر فيها أحداً بالقدر مطلقاً، فإنه لما سرقت المرأة قطع يدها، وما قال الرسول صلى الله عليه وسلم أبداً: هذه المرأة قدر الله عليها بالسرقة، وما ذنبها، إذاً لا نقطع يدها، كلا؛ بل قطع يدها؛ لأن هذا حق من حقوق الله عز وجل, وكذلك لما تخلف بعض الناس عن صلاة الجماعة، ما قال الرسول صلى الله عليه وسلم هذا قضاء الله وقدره، دعونا نستسلم للقضاء والقدر ولا نعاقب هؤلاء؛ بل قد همَّ بتحريق بيوتهم عليهم, ولما زنت المرأة، وزنى الرجل رجمهما صلى الله عليه وسلم، ولم يعذرها بالقدر، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرف بالله وبحقه من أن يحتج بالقدر على ترك أمر الله تعالى، ولكنه يقبل هذا إذا كان في حقه، فقد عذر أنس بالقدر في حقه كما ذكرنا وقال: "لو قضي شيء لكان" فصلوات الله وسلامه عليه , أما عذر النفس بالذنوب، أو عذر العباد في تقصيرهم في حقوق الله تعالى، فهذا مزلق عظيم يؤدي إلى معذرة عبدة الأصنام والأوثان، وقتلة الأنبياء، وعذر فرعون وهامان، ونمرود بن كنعان وأبو جهل وأصحابه، وسيؤدي بك الأمر إلى إعذار إبليس وجنوده، وكل كافر وظالم ومتعدٍ لحدود الله. • الموقف من المصائب ومن المعائب: أمر الله نبيه إذا أصابته المصائب أن ينظر إلى القدر ولا يتحسر على الماضي بل يعلم أن ما أصابه لم يكن ليُخطئه وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه فالنظر إلى القدر عند المصائب , والاستغفار عند المعائب ; قال تعالى) مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُور) وقال تعالى (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) قال علقمة وغيره هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم. • الإنسان مخيَر باعتبار ومسيَر باعتبار فهو مخيَر باعتبار أن له قدرة ومشيئة واختياراً ومسيَر باعتبار أنه في جميع أفعاله داخل في القدر راجع إليه ولكونه لا يخرج عمَا قدره الله له.

• أفعال العبد قسمان أفعال هو مُجبر عليها مسيَر عليها كحركة القلب والهرم ونحوها وأفعال هو مُخيَر فيها وهي مناط التكليف. • الفرق بين فعل العبد اللاإرادي والفعل الإرادي المُختار: أن ما وقع باختيار العبد هو مناط التكليف وفعل العبد الاختياري وغير الاختياري هما من جملة القضاء والقدر. • هل للإنسان قدرة ومشيئة أو لا؟ نعم له مشيئة وقدرة جزئية , ومشيئته وقدرته واقعتان بمشيئة الله عز وجل تابعتان لها. • للعبد قدرة واختيار ومشيئة لا يُجبره على فعله الاختياري أحد حتى خالقه بل يفعل ما يفعله بمحض إرادته وحسب مشيئته, لكن فعله هذا وإرادته هذه داخله في خلق الله تعالى له كما أنها مسبوقة بعلم الله الأزلي فلا يعمل عملاً إلا وقد سبق تقديره وإرادته في علم الله الأزلي وكتبه عنده في كتابه الذي جرى بما كان ويكون إلى قيام الساعة. • علم الله كاشف لا مُكره. • لا تأثير لما سبق في علم الله وكتابته وتقديره على محض اختيار العبد وإرادته. • كتابة الله المقادير في اللوح المحفوظ هي كتابة علم وليست كتابة إجبار. • الله عز وجل يعلم ما كان , ويعلم ما يكون , ويعلم ما سيكون , ويعلم ما لم يكن لو كان كيف سيكون , فعلمه مطلق وقد أحاط بكل شيءٍ علماً ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء , وكتابة أفعال العباد الاختيارية في اللوح المحفوظ فرع عن علمه عن الخلق وما سيعملون. • المكتوب من أعمال العباد الاختيارية واقع لا محالة , لا , لأن المكتوب جبر للعبد بل لأن المكتوب فرع عن علم الله المُحيط بخلقه. • الله سبحانه منزهٌ عن الشر والشر هو الظلم والظلم هو وضع الشيء في غير محله فإذا وُضع في محله لم يكن شراً, فعلم أن الشر ليس إليه وأسماءه الحسنى تشهد بذلك والله تبارك وتعالى منزهٌ عن نسبة الشر إليه بل كل ما نُسب إليه فهو خير والشر إنما صار شراً لانقطاع نسبته وإضافته إليه، وإيجاد الله للعقوبة على ذنب لا يُعد شراً له بل ذلك عدل منه تعالى وتمكين الله بعض خلقه لفعل الشر وإذنه الكوني به ومشيئته لها هو خير باعتبار حكمة الله ومآلات هذا الإذن الكوني والله له الحكمة البالغة التي يُحمد عليها فهو خير

وحكمة ومصلحة علمها من علمها وجهلها من جهلها , هذا وإن كان وقوع هذا الفعل السيء والظلم من العبد يُعد عيباً ونقصاً وشراً في حقه. • ليس في القدر شر وإنما الشر في المقدور والشر ليس في فعل الله وتقديره , وإنما الشر في مفعولات الله لا في فعله والله تعالى لم يقدر هذا الشر إلا لخير وهذه المفعولات والمخلوقات هي شر من وجه وخير من وجه آخر فتكون شراً بالنظر إلى ما يحصل منها من الأذية ولكنها خير بما يحصل فيها من العاقبة الحميدة. • الشر لا يُنسب إلى الله تعالى فهو منزه عن الشر ولا يفعل إلا الخير والقدر من حيث نسبته إلى الله لا شر فيه بوجه من الوجوه فإنه علم الله وكتابته ومشيئته وخلقه وذلك خير محض فالشر إنما هو في المقضي لا في القضاء وفي مفعولات الله لا في أفعاله عز وجل. • الله خالق كل شيء لكن مع أنه خالق كل شيء وربه ومليكه فقد فرق بين المخلوقات أعيانها وأفعالها كما قال تعالى "أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ" وكما قال "أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ" وقال تعالى "أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّار"ِ وقال تعالى" وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ" وأمثال ذلك مما يبين الفرق بين المخلوقات وانقسام الخلق إلى شقي وسعيد كما قال تعالى "فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ". • حكم وصف الله عز وجل بأفعال خلقه السيئة باعتبار أنه خالقها: لا يجوز وصف الله عز وجل بأفعال خلقه السيئة وإن كان خالقها. قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم "وكونُه خَلَقَ أفعالَ العباد وفيها الظلم لا يقتضي وصفه بالظلم سبحانه وتعالى، كما أنَّه لا يُوصف بسائر القبائح التي يفعلها العباد، وهي خَلْقُهُ وتقدِيرُه، فإنَّه لا يُوصَف إلاَّ بأفعاله، لا يوصف بأفعال عباده، فإنَّ أفعالَ عباده مخلوقاته ومفعولاته، وهو لا يوصف بشيء منها، إنَّما يوصف بما قام به مِن صفاته وأفعاله، والله أعلم" ... انتهى. ثم إن الله عز وجل قد تبرأ من الشرك والظلم والكفر وأهله فلذلك توعد الكفار والمشركين والظالمين بالعذاب يوم القيامة , ولكنه قد شاء الكفر والظلم في الحياة الدنيا لحكم ومصالح من وراء ذلك , وفرق بين فعل الله سبحانه وبين ما

هو مفعول مخلوق له، وليس في مخلوقه ما هو ظلم منه وإن كان بالنسبة إلى فاعله الذي هو المخلوق هو ظلم، كما أن أفعال الإنسان هي بالنسبة إليه تكون سرقة وزنا وصلاة وصوماً، والله تعالى خالقها بمشيئته، وليست بالنسبة إليه كذلك؛ إذ هذه الأحكام هي للفاعل الذي قام به هذا الفعل، كما أن الصفات هي صفات للموصوف الذي قامت به لا للخالق الذي خلقها وجعلها صفات، والله - تعالى - خلق كل صانع وصنعته كما جاء ذلك في الحديث، وهو خالق كل موصوف وصفته. ثم صفات المخلوقات ليست صفات له؛ كالألوان والطعوم والروائح لعدم قيام ذلك به , وكذلك حركات المخلوقات ليست حركات له ولا أفعالاً له بهذا الاعتبار؛ لكونها مفعولات هو خلقها , وبهذا الفرق تزول شبه كثيرة. ولهذا ألزم السلف بعض أهل البدع في القدر أن يكون ما أحدثه من الكلام في الجمادات كلامه، وكذلك أيضاً ما خلقه في الحيوانات، ولا يفرق حينئذ بين نطق وأنطق وإنما قالت الجلود: {أَنطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ}، ولم تقل: نطق الله بذلك؛ بل يلزم أن يكون متكلماً بكل كلام خلقه في غيره , زوراً كان أو كذباً أو كفراً أو هذياناً تعالى الله عن ذلك؛ ولهذا قال من قال من السلف كسليمان بن داود الهاشمي وغيره ما معناه: إنه على هذا يكون الكلام الذي خلق في فرعون حتى قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى}، كالكلام الذي خلق في الشجرة حتى قالت: {إِنَّنِي أَنَا اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا}، فإما أن يكون فرعون محقًا، أو تكون الشجرة كفرعون وهذا يستوعب أنواع الكفر؛ ولهذا كان من الأمر البين للخاصة والعامة أن مَنْ قال: المتكلم لا يقوم به كلام أصلا - فإن حقيقة قوله أنه ليس بمتكلم؛ إذ ليس المتكلم إلا هذا؛ ولهذا كان أولوهم يقولون: ليس بمتكلم. ثم قالوا: هو متكلم بطريق المجاز، وذلك لما استقر في الفطر أن المتكلم لابد أن يقوم به كلام وإن كان مع ذلك فاعلا له، كما يقوم بالإنسان كلامه وهو كاسب له. أما أن يجعل مجرد أحداث الكلام في غيره كلاما له - فهذا هو الباطل. وهكذا القول في الظلم، فَهَبْ أن الظالم من فعل الظلم فليس هو من فعله في غيره، ولم يقم به فعل أصلا، بل لابد أن يكون قد قام به فعل، وإن كان متعدياً إلى غيره، فهذا جواب. ثم يقال لهم: الظلم فيه نسبة وإضافة، فهو ظلم من الظالم، بمعنى أنه عدوان وبغي منه، وهو ظلم للمظلوم، بمعنى أنه بغي واعتداء عليه. وأما من لم يكن معتدي عليه به ولا هو منه عدوان على غيره فهو في حقه ليس بظلم، لا منه ولا له.

ثم إن الله سبحانه إذا خلق أفعال العباد فذلك من جنس خلقه لصفاتهم فهم الموصوفون بذلك، فهو سبحانه إذا جعل بعض الأشياء أسود، وبعضها أبيض، أو طويلا، أو قصيرًا، أو متحركاً، أو ساكنًا أو عالمًا، أو جاهلا، أو قادرًا، أو عاجزًا، أو حيًا، أو ميتًا. أو مؤمنًا أو كافرًا، أو سعيدًا، أو شقيًا، أو ظالمًا , أو مظلومًا كان ذلك المخلوق هو الموصوف بأنه الأبيض والأسود، والطويل والقصير، والحي والميت، والظالم والمظلوم، ونحو ذلك, والله سبحانه لا يوصف بشيء من ذلك، وإنما إحداثه للفعل الذي هو ظلم من شخص وظلم لآخر بمنزلة إحداثه الأكل والشرب الذي هو أكل من شخص وأكل لآخر، وليس هو بذلك آكلاً ولا مأكولاً. ونظائر هذا كثيرة، وإن كان في خلق أفعال العباد لازمها ومتعديها حكم بالغة، كما له حكمة بالغة في خلق صفاتهم وسائر المخلوقات، لكن ليس هذا موضع تفصيل ذلك , والله تعالى أعلم. • لا يُعصى الله قسراً بل بإذنه وهو لا يرضى ذلك ولكنه يأذن به لحكمة. • الله خلق كل شيء الخير والشر، ولكن الشر لا يُنسب إليه، لأنه خلق الشر لحكمة، فعاد بهذه الحكمة خيراً، فالشر ليس في فعل الله، بل في مفعولاته، أي مخلوقاته, ومخلوقات الله تنقسم إلى ثلاثة أقسام هي: 1 - شر محض كالنار وإبليس باعتبار ذاتيهما، أما باعتبار الحكمة التي خلقهما الله من أجلها، فهي خير. 2 - خير محض، كالجنة والرسل والملائكة. 3 - فيه شر وخير، كالإنس والجن والحيوان. • الشر في المقضي لا في القضاء. • السيئة ذات شطرين: سبب , وعقوبة جزاءً وفاقاً , فالسبب فهو من العبد لكفره وظلمه وإعراضه والجزاء والعقوبة من الله. • ليس كل ما يريد الله كوناً , يرضاه ويحبه شرعاً وديانة. فالإرادة الربانية تنقسم إلى قسمين: 1 - كونية قدرية: وهي مرادفة للمشيئة ولا يخرج عن مرادها شيء أبداً ولا بد أن تقع.

2 - شرعية دينية: وتتضمن محبة الرب ورضاه ولا يلزم وقوعها فقد تقع وقد لا تقع لأنها تتعلق بفعل العبد الاختياري. • قد يريد الله أمراً ويشاؤه , وفي الوقت نفسه لا يحبه إذ أن المراد نوعان: 1 - مراد لنفسه إرادة الغايات ومنه خلق جبريل عليه السلام. 2 - مراد لغيره فهو وسيلة إلى غيره مثل خلق إبليس فهو مكروه لله من حيث نفسه وذاته ومُراد له عز وجل من حيث قضاؤه وإيصاله إلى مُراده فهو سبب لحصول محاب كثيرة فيجتمع الأمران بغضه له وإرادته له ولا يتنافيان. • كيف يُريد الله أمراً ولا يحبه أو كيف يجمع بين إرادته له وبُغضه وكراهته؟ إن المراد نوعان: الأول: مراد لنفسه. الثاني: مراد لغيره. فالمراد لنفسه مطلوب محبوب لذاته وما فيه من الخير , فهو مُراد إرادة الغايات والمقاصد والمراد لغيره قد لا يكون مقصوداً لذاته ولا فيه مصلحة بالنظر إلى ذاته وإن كان وسيلة إلى مقصوده ومراده فهو مكروهٌ له من حيث نفسه وذاته مراد له من حيث قضاؤه وإيصاله إلى مُراده فيجتمع الأمران بغضه وإرادته ولا يتنافيان فيُبغض من وجه ويُحب من وجه آخر. • المحبوب قسمان: محبوب لذاته، محبوب لغيره , والمحبوب لغيره قد يكون مكروهاً لذاته ولكن يُحب لما فيه من الحكمة والمصلحة فيكون حينئذ محبوباً من وجه ومكروهاً من وجه آخر. • كون الله لا يريد أمراً ما لا يعني عدم قدرته عليه فالله عز وجل على كل شيء قدير لكنه لا يفعل إلا ما يريد وفرق بين قدرة الله المطلقة وبين ما يريد فعله. • الله عز وجل أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين وقضاؤه وقدره لا يخرج عنهما وهو أعلم بمصالح عباده منهم وهو أرحم بهم من أنفسهم ووالديهم , والإنسان لا يعلم عاقبة أمره وقضاء الله لعبده المؤمن عطاء وإن كان في صورة منع ونعمة وإن كان في صورة محنة وبلاءه عافية وإن كان في صورة بلية والله يعلم ونحن لا نعلم ولكن لجهل العبد وظلمه لا يعد العطاء والنعمة والعافية إلا ما التذ به في العاجل وكان ملائماً لطبعه.

• لله عز وجل الحكمة البالغة في كل فعل من أفعاله وقد تظهر لنا الحكمة وقد تخفى ولا يلزم أن ندرك حكمته عز وجل في كل شيء أو أن يدرك ذلك كل أحد. • على المسلم أن يعلم أن لله تعالى في جميع أفعاله حكماً جليلة ظهرت لنا أو خفيت فالله عز وجل لم يُطلع خلقه على جميع حكمه بل أعلمهم بما شاء وما خفي عليهم أكثر مما يعلموه فأفعال الله وأوامره لا تخلو من الحكم الباهرة العظيمة التي تُحيَر العقول وإن كُنا لا نعلمها على وجه التفصيل لأن عدم العلم بالشيء لا يلزم منه عدمه. • من حِكم خلق إبليس أن يظهر للعباد قدرة الرب تعالى على خلق المتضادات والمتقابلات وأن يكمل الله لأوليائه مراتب العبودية وحصول الابتلاء ليكون محكاً يُمتحن به الخلق ليتبين به الخبيث من الطيب وظهور آثار أسماء الله تعالى ومقتضياتها ومتعلقاتها واستخراج ما في طبائع البشر من الخير بإرسال الرسل ومن الشر بخلق إبليس, وغيرها من الحكم. • من حِكم خلق المصائب والآلام الدنيوية استخراج عبودية الضراء وهي الصبر كما تستخرج عبودية السراء وهي الشكر وطهارة القلب والخلاص من الخصال القبيحة كآفات القلوب المعلومة من كبر وعجب وفرعنة وقسوة قلب ونحوها والنظر إلى قهر الربوبية وذل العبودية وإيقاظ المبتلى من غفلته ومعرفة قدر العافية وحصول رحمة أهل البلاء والصلاة من الله والرحمة والهداية وحصول الأجر وكتابة الحسنات وحط الخطيئات والعلم بحقارة الدنيا وهوانها والدخول في زمرة المحبوبين وغير ذلك من الحكم. • القدر سر الله في خلقه والبحث فيه بحث في بحر عميق مظلم وحيرة عقول وأفهام إلا من سلمه الله تعالى , وكل الخلق سائرون إلى ما خلقهم الله له واقعون فيما قدر عليهم وهو عدل منه جل ربنا وعز. • الواجب على العبد في باب القدر أن يؤمن بقضاء الله وقدره ويؤمن بشرع الله وأمره ونهيه فعليه تصديق الخبر وطاعة الأمر فإذا أحسن حمد الله تعالى وإذا أساء استغفر الله تعالى وعلم أن ذلك بقدر الله. • أحوال المسلم مع أقدار الله المؤلمة: 1 - الصبر وهو واجب وهو أن يرى هذا المقدور ثقيل عليه لكنه يتحمله وهو يكره وقوعه ولكن يحميه إيمانه من السخط.

2 - الرضا وهو مستحب وذلك بأن يرضى الإنسان بالمصيبة بحيث يكون وجودها وعدمها سواء فلا يشق عليه وجودها ولا يتحمل لها حملاً ثقيلاً. 3 - الشكر وهو أعلى المراتب وذلك بأن يشكر الله عز وجل على ما أصابه من مصيبة حيث عرف أن هذه المصيبة سبب لتكفير السيئات وربما لزيادة الحسنات. • الشكوى إذا لم تكن على سبيل التسخط وعدم الرضا بالمقدور فلا تُبطل العمل ولا تتعارض مع الصبر ولابد للمصدور أن ينفث , إلا أن الصبر وعدم الشكوى أولى. • قد يُريد العبد شيئاً والخير في عكسه والرب أعلم بالعبد المسلم من نفسه ولا يريد لعبده إلا ما هو خيرٌ له ولا يأمره إلا بما فيه مصلحة له. • هناك فرق بين ما أريد بنا وما أريد منا فما أراده الله بنا طواه الله عنَا إلا ما أطلعنا عليه من خلال رسوله وما أرداه منَا أمرنا بالقيام به فلنُشغل أنفسنا فيما أريد منا عن ما أريد بنا ولنحسن الظن بربنا. • القضاء والقدر يُعالج بالقضاء والقدر. • المعتدي على النفس أو المال أو البضع أي العرض يسميه العلماء صائلاً، ودفع الصائل بما يندفع به مشروع، ويُدفع بالأخف فما فوقه والأخف كالزجر والتهديد , ويختلف حكم دفع الصائل باختلاف ما يريد الاعتداء عليه، فإن كان يريد أخذ المال فدفعه جائز لا واجب، والمُعتدى عليه مُخيَر بين أن يدفع عن ماله، وبين أن يعطيه المال، وكذا في الدفع عن النفس، وأما في الدفع عن البضع "العرض" فقد قال كثير من العلماء بوجوب الدفع، ومما ينبغي أن يُعلم أن الواجب دفع الصائل بالأخف فالأخف، فلا يجوز قتله إن كان يندفع بما دون ذلك, فإن لم يمكن دفعه إلا بالقتل جاز قتله، ولا إثم على القاتل. • إذا صال عليك إنسان يريد قتلك أو أخذ مالك أو انتهاك عرضك أو قتل معصوم أو أخذ ماله أو انتهاك عرضه فإنك تدفعه بالأسهل فالأسهل فإن لم يندفع إلا بالقتل فلك قتله. • الله عز وجل هو الذي سلَط الصائل على العبد بسبب ذنوبه ولا يظلمُ ربَك أحداً وإن كان هذا الصائل أحياناً ظالماً مُستحقاً للعقوبة , فحق الله سبحانه الاستغفار وحق الصائل المُدافعة. • الله عز وجل قد شرع دفع الصائل ومدافعة الشر. • الله عز وجل قد شرع مكافأة المُحسن إلينا بالمعروف.

المعلم الخامس عشر: التوكل

• لا مانع من مباشرة الأسباب لكن المحظور أو الممنوع أن يلتفت إليها، ويظن بها التأثير المستقل، فالمسبب هو الله -سبحانه وتعالى-، وهو النافع الضار. • يجب على المسلم فعل الأسباب المشروعة المقدور عليها لتحقيق المراد فإن أتت الأمور على ما يريد حمد الله وإن أتت على خلاف ما يريد تعزَى بقدر الله وعلم أن ذلك كله وقع بقدر الله وخيرة الرب لعبده خيرٌ من خيرة العبد لنفسه. • إذا جاءت أقدار الله على خلاف ما يُريد المسلم وقد بذل الأسباب المشروعة لتحقيق المراد فليقل قدر الله وما شاء فعل ولا يسترسل مع أحزانه ويعلم أن ربه قضى ما هو خير له ولو بعد حين ولو لم يدركه عقله في الحال. • السعيد يستغفر من المعائب ويصبر على المصائب والشقي يجزع عند المصائب ويحتج بالقدر على المعائب. • استحباب الرضا بقضاء الله عز وجل فيه تفصيل نرضى بالقضاء الذي هو فعل الله عز وجل وأما المقضي الذي هو فعل العبد ففيه تفصيل فإن كان مرضياً لله رضينا به كالطاعات والإيمان وإن كان غير مرضي لله لم نرض به كالمعاصي. (المعلم الخامس عشر: التوكل) • التوكل هو: صدق الاعتماد على الله عز وجل في جلب المنافع الدينية والدنيوية ودفع المضار الدينية والدنيوية مع فعل الأسباب المأمور تعاطيها شرعاً وقدراً. • التوكل نصف الدين والنصف الثاني الإنابة فإن الدين استعانة وعبادة فالتوكل هو الاستعانة والإنابة هي العبادة , والتوكل أعم من الاستعانة فالاستعانة هي الاعتماد على الله فيما يقدر عليه العبد والتوكل هو الاعتماد على الله فيما يقدر عليه العبد ومالا يقدر عليه من جلب منفعة ودفع مضرة , فالتوكل يكون في جلب المنافع ودفع المضار والاستعانة تكون على العبادة. • حُسن الظن بالله يدعو إلى التوكل على الله والتوكل على الله لابد فيه من حُسن الظن بالله والتوكل على الله هو تفويض قبل وقوع المقدور ورضاً بعد وقوع المقدور ومن فعل ذلك فقد قام بالعبودية. • التوكل هو الثقة بحسن اختيار الله وقضاءه وقدره والرضا بمشيئته , ويتوكل المؤمن على ربه لعلمه بتمام كفايته وكمال قدرته وعميم إحسانه ويثق به. • التوكل على غير الله تعالى أقسام:

الأول: التوكل في الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله كالتوكل على الأموات والغائبين ونحوهم من الطواغيت في تحقيق المطالب من النصر والحفظ والرزق أو الشفاعة فهذا شرك أكبر. الثاني: التوكل في الأسباب الظاهرة كمن يتوكل على سلطان أو أمير أو أي شخص حي قادراً أقدره الله من عطاء أو دفع أذى ونحو ذلك فهذا شرك أصغر لأنه اعتماد على الشخص. الثالث: التوكل الذي هو إنابة الإنسان من يقوم بعمل عنه مما يقدر عليه كبيع وشراء فهذا جائز ولكن ليس له أن يعتمد عليه في حصول ما وكَل فيه بل يتوكل على الله في تيسير أموره التي يطلبها بنفسه أو نائبه. • بيان الأسباب: - السبب هو ما يُتوصَل به إلى غيره. - السبب باعتبار المشروعية ينقسم إلى قسمين: 1 - سبب مشروع وهو ما كان سبباً للمصلحة أصالة وإن كان مؤدياً إلى بعض المفاسد تبعاً كالجهاد في سبيل الله فإنه سبب لإقامة الدين وإعلاء كلمة الله وإن أدى في الطريق إلى نوع من المفاسد كإتلاف الأنفس وإضاعة الأموال. 2 - سبب غير مشروع وهو ماكان سبباً للمفسدة أصالة وإن ترتب عليه نوع من المصلحة تبعاً كالقتل بغير حق فإنه سبب غير مشروع وإن ترتب عليه ميراث ورثة المقتول. - السبب باعتبار مصدره ينقسم إلى ثلاثة أقسام. 1 - سبب شرعي وهو ما كان مستمداً من الشارع فقط. 2 - سبب عقلي وهو ما كان مستمداً من العقل فقط. 3 - سبب عادي وهو ما كان مستمداً من العادة المألوفة المتكرر وقوعها وقد يكون الشرع أشار إليها ضمناً أو تعييناً. - هنالك أسباب شرعية مصدرها الكتاب والسنة وهنالك أسباب طبيعية أرشد إليها الشرع بشكل عام , وكل سبب شرعي هو سبب طبيعي وليس كل سبب طبيعي هو سبب شرعي على التفصيل والتعيين وما سوى هذه الأسباب فهي أسباب وهمية.

- الأسباب لا يُعتمد عليها وإنما يُعتمد على الله سبحانه الذي هو مُسبَب الأسباب ومُوجد السبب والمسبب، ولا يقوم الإيمان ومقاماته وأعماله إلا على ساق التوكل والتوكل أصل لجميع مقامات الإيمان والإحسان والإسلام ومنزلته منها كمنزلة الرأس من الجسد، والتوكل على الله لا ينافي السعي في الأسباب والأخذ بها فإن الله سبحانه قدَر مقدورات مربوطة بأسبابها وقد أمر الله بتعاطي الأسباب مع أمره بالتوكل فالأخذ بالأسباب طاعة لله وهو من عمل الجوارح والتوكل على الله طاعة له سبحانه وهو من عمل القلب وهو إيمان بالله. - لا يضر مباشرة العبد للأسباب مع خلو القلب من الاعتماد عليها والركون إليها , والأسباب تذهب وتأتي ومسبب الأسباب باقٍ موجود سبحانه وتعالى , ويجب أن يكون الأخذ بالأسباب الجائزة شرعاً فإن من توكل على الله حق توكله لم يرتكب ما يخالف شرعه. - من يترك الأخذ بالأسباب مع القدرة عليها يُخشى عليه أنه يمتحن ويختبر ربه تعالى الله عن ذلك , والله يختبر العباد وليس للعباد أن يختبروا الله عز وجل. - التوكل على الله سبب وهو من أقوى الأسباب في حصول المأمول ومن اعتمد على عقله ضل ومن اعتمد على جاهه ذل ومن اعتمد على ماله قل ومن اعتمد على الله لا قل ولا ضل ولا ذل. - من تمام التوكل على الله عز وجل العمل بشرعه ومن شرعه اتخاذ الأسباب وأخذ ظروف الواقع بعين الاعتبار دون إفراط أو تفريط , ومن حقق ذلك فهو المتوكل حقاً وكان الله حسبه. - التوكل وغيره من الأسباب الشرعية كالدعاء وتقوى الله والاستغفار مما يُستدفع به المقدور المكروه ويُستجلب به المقدور المحبوب , والقدر يُدفع بعضه ببعض كما يُدفع قدر المرض بالدواء وقدر الذنوب بالتوبة وقدر العدو بالجهاد فكلاهما من القدر والله يلوم على العجز ويحب الكيس ويأمر به , والكيس هو مباشرة الأسباب التي ربط الله بها مسبباتها النافعة للعبد في معاشه ومعاده فهذه تفتح عمل الخير , أما العجز فإنه يفتح عمل الشيطان ومن صدق توكله على الله في حصول شيء ناله , وتحقيق وعد الله الكريم لا يعلم كيفيته وموعده إلا الله فلا يُقال كيف ولا متى ولكن يوقن بذلك وينتظر الفرج ويرضى بتدبير الله له وتصاريف الله تعالى خفية عجيبة , وإذا ثبت في نفسك أنه لا فاعل لما يُريد مُطلقاً سوى الله واعتقدت مع ذلك أنه تام القدرة والعلم والرحمة وأنه ليس

وراء قدرته قدرة ولا وراء علمه علم ولا وراء رحمته رحمة اتكل قلبك عليه وحده لا محالة ولم يلتفت إلى غيره بوجه وليس معنى التوكل ترك الكسب بالبدن وترك التدبير بالقلب. - الله الذي أمر بالتوكل هو الذي أمر باتخاذ الأسباب المشروعة. - من اعتمد قلبه على الله في جلب المنافع ودفع المضار وقرن مع ذلك فعل الأسباب المُستطاعة شرعاً وقدراً فهو المتوكل حقاً. - السنة الكونية هي القانون الإلهي المطَرد الثابت الذي لا يتخلَف إلا لحكمة إلهية بالغة كالمعجزة والكرامة , والله عز وجل جعل لهذا الكون نواميس وقوانين ينتظم بها وإن كان هو عز وجل قادراً على خرق هذه النواميس وتلك القوانين , وإن كان لا يخرقها لكل أحد. - كون الله قادراً على الشيء لا يعني أن المسلم قادر عليه أيضاً , فقدرة الله صفة خاصة به وقدرة العبد خاصة به والخلط بين قدرة الله والإيمان بها وقدرة العبد وقيامه بما أمره الله به كثيراً ما يحصل وهو خطأٌ بيَن. • من كان الله كافيه وواقيه فلا مطمع فيه لعدوه ولا يضره إلا أذى لابد منه كالحر والبرد والجوع والعطش وأما أن يضره العدو بما يبلغ به مراده فلا يكون إلا لعاقبة حسنة عاجلة أو آجلة أو كلاهما. • الله تعالى إذا حكم لا مرد له ولا معقَب لحكمه فمن قسم الله له نصيباً دنيوياً أو دينياً فلابد له من حصوله ومن لم يقسم الله له ذلك فلا سبيل إليه ألبتة حتى يدخل الجمل في سم الخياط , وطلب الرزق مشروع وما يُفتح بالطلب والكسب يكون من طيب وخبيث وما يُفتح بالتوكل لا يكون إلا طيباً. • من صدق توكله على الله في حصول شيء فناله فإن كان ما ناله محبوباً لله مرضياً كانت له فيه العاقبة المحمودة وإن كان مسخوطاً مبغوضاَ كان ما حصل له بتوكله مضرة عليه , وإن كان مباحاً حصلت له مصلحة التوكل دون مصلحة ما توكل فيه إن لم يستعن به على طاعته. • المخلوق ليس عنده للعبد نفع ولا ضر بل ربه هو الذي خلقه ورزقه وبصره وهداه وأسبغ عليه فإذا مسه الله بضر لم يكشفه عنه غيره وإذا أصابه بنعمة لم يرفعها عنه سواه والعبد المخلوق لا ينفعه ولا يضره إلا بإذن الله.

• إذا توكل العبد على ربه وسلم له وفوض إليه أمره أمده الله بالقوة والعزيمة والصبر وصرف عنه الآفات التي هي عُرضة اختيار العبد لنفسه وأراه من حسن عواقب اختياره له ما لم يكن ليصل إلى بعضه بما يختاره هو لنفسه. • ارض عن الله في جميع ما يفعله بك فإنه ما منعك إلا ليعطيك ولا ابتلاك إلا ليعافيك ولا أمرضك إلا ليشفيك ولا أصابك إلا ليحييك وكن كما قال القائل أصبحت والسراء والضراء مطيتان على بابي لا أبالي أيهما ركبت. • ينبغي التفويض لمن يعلم عواقب الأمور والرضا بما يقضيه عليك لما ترجوه من حسن عاقبته وألا تقترح على ربك ولا تسأله ما ليس لك به علم فلعل مضرتك فيه وأنت لا تعلم فلا تختار على ربك بل اسأله حسن العاقبة فيما يختاره لك ولربما طمحت نفسك لسبب من الأسباب الدنيوية التي تظن أن بها إدراك بُغيتك فيعلم الله أنها تضرك وتصدك عما ينفعك فيحول الله بينك وبينها فتظل كادحاً للمقدور ولم تدر أن الله قد لطف بك وهو الحليم الغفور. • المسلم إذا علم أن ما قدره الله كائن وأن كل ما ناله من خير أو شر إنما هو بقدر الله وقضاءه هانت عليه المصائب ولم يجد مرارة شماتة الأعداء وتشفي الحسدة , وقد جعل الله لكل شيء قدراً أي تقديراً وتوقيتاً أو مقداراً. • من يتوكل على الله في دينه ودنياه بأن يعتمد على الله في جلب ما ينفعه ودفع ما يضره ويثق به في تسهيل ذلك فهو حسبه وكافيه الأمر الذي توكل عليه به ولكن ربما أن الحكمة الإلهية اقتضت تأخيره إلى الوقت المناسب له , فلذلك قال تعالى في سورة الطلاق بعد أمره بالتوكل إن الله بالغ أمره أي لابد من نفوذ قضائه وقدره ولكنه قد جعل لكل شيء قدراً أي وقتاً ومقداراً لا يتعداه ولا يقصر عنه , فلا يستعجل المسلم النتائج. • من تمام التوكل على الله الصبر على الأذى في سبيله والعاقبة للمتقين. • توكل العبد على الله هو أن يعتمد عليه وأن يثق في قدرته التامة على تدبير الأمور كيف شاء ومتى شاء, وما وقع للأنبياء والأولياء من أنواع الابتلاء ليس هو من ضعف التوكل ولا يدل على نقصه عندهم بل التوكل عقيدة سابقة للمخوف يريدها الله من العبد ومن منافعها أن تكون عوناً له على تحمل ما يحذره ويخافه وما يقع بعد ذلك منه إنما هو ابتلاء وامتحان أو كفارة ورفع درجة تزيد الإيمان والتقوى , والله عز وجل لا يترك أولياءه إلى أعدائه إلا فترة الإعداد والابتلاء ثم

شبهات وإشكالات وتساؤلات في باب التوكل والقدر

يُظهرهم على عدوهم وقد تطول فترة الابتلاء لأمر يريده الله وانتظار الفرج من الله عبادة. • من يتوكل على الله فهو حسبه قدراً وشرعاً قدراً باعتبار العاقبة وشرعاً باعتبار الثبات في الأمر من ربط على القلب ونحوه والعزيمة على الرشد , ومن توكل على الله فإن الله يُقدَر له الخير حيث كان وييسره له ويبارك له فيه في دينه ومعاشه وعاقبة أمره ثم يُرضيه به والله يعلم ما هو خير للعبد والعبد لا يعلم ما هو خيرٌ لنفسه. • شبهات وإشكالات وتساؤلات في باب التوكل والقدر: - السؤال الأول: قرأت كثيراً عن التوكل، ولكن عندي شبهات أرجو كشفها، وهي: هل التوكل يرد المقدور؟ وهل التوكل يؤدي إلى وقوع المقدور حسب ما يريد العبد؟ وهل معنى الحسب والكفاية في قوله تعالى: ومن يتوكل على الله فهو حسبه"، وقوله: "أليس الله بكاف عبده" أن يقضي الله الخير للعبد حيث كان ثم يُرضيه به، وإن كان في قالب ضراء في نظر العبد القاصر بخفايا الأمور ومآلاتها، وأن تكون العاقبه له ولو بعد حين كما قال تعالى: "والعاقبة للمتقين"؟ وكيف نجمع بين قوله عليه الصلاة والسلام: "احفظ الله يحفظك"، وقوله تعالى: "والله يعصمك من الناس" وبين أنهُ سُحِرْ وقد شجًََت رباعيته يوم أحد وهناك من أهل العلم من يقول: إنه قتل بالشاة المسمومة؟ الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد: فالتوكل وغيره من الأسباب الشرعية كالدعاء وتقوى الله تعالى والاستغفار، مما يُستدفع به المقدور المكروه، ويُستجلب به المقدور المحبوب، بل هو من أعظم أسباب ذلك، قال الشيخ حافظ حكمي في معارج القبول: ليس في فعل الأسباب ما ينافي التوكل مع اعتماد القلب على خالق السبب، وليس التوكل بترك الأسباب، بل التوكل من الأسباب وهو أعظمها وأنفعها وأنجحها وأرجحها. اهـ. وفي (زاد المعاد) لابن القيم: القدر يُدفع بعضه ببعض، كما يُدفع قدر المرض بالدواء، وقدر الذنوب بالتوبة، وقدر العدو بالجهاد، فكلاهما من القدر ... والله يلوم على العجز ويحب الكيس ويأمر به، والكيس هو مباشرة الأسباب التي ربط الله بها مسبباتها النافعة للعبد في معاشه ومعاده، فهذه تفتح عمل الخير, وأما العجز فإنه يفتح عمل الشيطان. اهـ.

وقال في (مدارج السالكين): من صدق توكله على الله في حصول شيء ناله. اهـ. قلتُ من صدق توكله على الله في حصول شيء ناله مالم تكن المصلحة خلافه. ومن الوقائع النبوية في دفع المكروه بصدق التوكل على الله تعالى ما رواه جابر بن عبد الله قال: قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم محارب بن خصفة، فجاء رجل منهم يقال له غورث بن الحارث حتى قام على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف فقال: من يمنعك مني؟! قال: الله عز وجل. فسقط السيف من يده، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من يمنعك مني؟ قال: كن خير آخذ. قال: أتشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟ قال: لا، ولكن أعاهدك على أن لا أقاتلك، ولا أكون مع قوم يقاتلونك , فخلى سبيله فأتى قومه فقال: جئتكم من عند خير الناس. رواه البخاري ومسلم وأحمد واللفظ له. وفي ذلك نزل قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ {المائدة: 11} قال ابن كثير: يعني: من توكل على الله كفاه الله ما أهمه، وحفظه من شر الناس وعصمه. اهـ. ومن ذلك أيضا رد النبي صلى الله عليه وسلم على أبي بكر حين قال له في الغار أثناء الهجرة: لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا , فقال صلوات الله وسلامه عليه: ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما. متفق عليه. وفي ذلك نزل قوله تعالى: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ {التوبة: 40}. ويدل على عموم هذا المعنى الآيتان اللتان ذكرهما السائل، قوله تعالى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ {الزمر: 36} قال البغوي يعني: محمدًا صلى الله عليه وسلم، وقرأ أبو جعفر وحمزة والكسائي: (عباده) بالجمع يعني: الأنبياء عليهم السلام، قصدهم قومهم بالسوء كما قال: (وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه) "غافر: 5" فكفاهم الله شر من عاداهم. اهـ.

وقوله سبحانه: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا {الطلاق: 3} قال العلامة ابن عاشور في (التحرير والتنوير): وجملة {إن الله بالغ أمره} في موضع العلة لجملة {ومن يتوكل على الله فهو حسبه}، أي لا تستبعدوا وقوع ما وعدكم الله حين ترون أسباب ذلك مفقودة، فإن الله إذا وعد وعدا فقد أراده، وإذا أراد الله أمراً يسر أسبابه. ولعل قوله: {قد جعل الله لكل شيء قدرا} إشارة إلى هذا المعنى، أي علم الله أن يكفي من يتوكل عليه مهمَّه فقدر لذلك أسبابه كما قدر أسباب الأشياء كلها، فلا تشكوا في إنجاز وعده، فإنه إذا أراد أمراً يسر أسبابه من حيث لا يحتسب الناس وتصاريف الله تعالى خفية عجيبة. اهـ. وهنا لابد من التنبيه على أن تحقيق هذا الوعد الكريم لا يعلم كيفيته وموعده إلا الله، فلا يقال: كيف ولا متى؟ ولكن يوقن بذلك وينتظر الفرج ويرضى بتدبير الله له، ولهذا خُتِمت الآية بما ختِمت به، قال السعدي: {فهو حسبه} أي: كافيه الأمر الذي توكل عليه به، وإذا كان الأمر في كفالة الغني القوي العزيز الرحيم، فهو أقرب إلى العبد من كل شيء، ولكن ربما أن الحكمة الإلهية اقتضت تأخيره إلى الوقت المناسب له؛ فلهذا قال تعالى: {إن الله بالغ أمره} أي: لا بد من نفوذ قضائه وقدره، ولكنه {قد جعل الله لكل شيء قدرا} أي: وقتا ومقداراً، لا يتعداه ولا يقصر عنه اهـ. ووعود الله الكريمة للمؤمنين تتحقق بالطريقة التي تتفق مع الحكمة من الخلق، وهي الابتلاء والامتحان، والتمييز والتمحيص. وأما الجمع بين قوله تعالى: وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ {المائدة:67} وحديث: "احفظ الله يحفظك"، وبين ما أصاب النبي صلى الله عليه وسلم في بدنه من بلاء، فقال ابن عادل في (اللباب): الجواب أن قوله تعالى: (والله يعصمك من الناس) المراد به عصمة القلب والإيمان لا عصمة الجسد عما يرد عليه من الأمور الحادثة الدنيوية، فإنه عليه السلام قد سحر وكسرت رباعيته ورمي عليه الكرش والثرب وآذاه جماعة من قريش اهـ. وقال أحد أهل العلم عن ذات الإشكال: نظراً لشدة عداوة الكفار للنبي صلى الله عليه وسلم، وكثرتهم وقوتهم، وحرصهم على قتله صلى الله عليه وسلم والتخلص منه بكل وسيلة اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم الحرس في بداية الأمر كما تُمليه السنن الكونية والطبيعة البشرية .. فلما نزل عليه قول الله تبارك وتعالى: وَاللَّهُ

يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ {المائدة: 67}. ترك الحرس فلم يصل إليه عدوّ بقتل ولا أسر ولا قهر .. مع كثرة الأعداء وكثرة محاولاتهم، والأمثلة على ذلك كثيرة ثابتة فمنها محاولة عمير بن وهب وصفوان بن أمية، ومحاولة عامر بن الطفيل وأربد بن قيس، ومحاولة بني قينقاع، ومحاولة اليهودية التي أهدت للنبي - صلى الله عليه وسلم - ذراع الشاة المسمومة، وهي ثابتة في كتب السنة، ولكن الله سبحانه وتعالى عصمه من تلك المحاولات ومن غيرها , وقد استشكل بعضهم أن اليهود سحروه ووضعوا له السم وأن قريشاً شجوه وكسروا رباعيته ... ولا إشكال في ذلك، فما أصابه صلى الله عليه وسلم من الآلام والأذى ... في سبيل الله إنما هو لرفع درجاته وتعظيم أجره عند الله تعالى، وليتأسى به الدعاة والعلماء المصلحون .. من بعده. فالله سبحانه وتعالى ضمن له العصمة والسلامة من القتل والأسر وزوال العقل وتلف الجملة .. حتى يبلغ رسالته ويكمل دينه , وأما عوارض الأذى فلا تمنع عصمة الجملة، ولم تكن تهم النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما كان الذي يهمَه هو الخوف من القضاء على شخصه قبل أن يبلغ رسالة ربه , وعندما أكمل الله الدين لعباده وأتم عليهم نعمته بكمال تشريعه وأصبح رجال الإسلام الذين تعهدهم النبي صلى الله عليه وسلم بالتربية قادة قادرين على حمل الدين وتبليغه أجرى الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم سنته الماضية في خلقه، كما قال تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ {آل عمران: 185}. وبدأ النبي صلى الله عليه وسلم يحس بأن مهمته في هذه الحياة قد انتهت، وأنه بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح للأمة، وجاهد في الله حق جهاده ... فأشار إلى ذلك في حجة الوداع عندما خطب في تلك الجموع الحاشدة، فبين لهم شرائع الإسلام وأوصاهم وصية مودع .. وقال: لعلي لا ألقاكم في موضعي هذا بعد عامي هذا!. فلم يكن موته صلى الله عليه وسلم فجأة ولا بسبب قتل أو اغتيال وإنما كانت موتة طبيعية بسبب الحمى والصداع الذي كان من أسبابه آثار تلك الأكلة المسمومة التي تناولها بخيبر، فلم تؤثر عليه في ذلك الوقت، فقاد الجيوش بعد ذلك ودخل المعارك الكبرى وانتصر فيها، وفاوض الأعداء، واستقبل الوفود، ومارس حياته العادية اليومية بصورة طبيعية حتى وافاه الأجل المحتوم بصورة طبيعية , وتأثير السم عليه بعد ذلك عند نهاية الأجل إنما هو لرفع درجاته وعلو منزلته عند الله تعالى، ولينال بذلك مقام الشهداء, وبهذا نعلم أنه لا تعارض بين عصمة الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم، وبين ما لقيه صلى الله عليه وسلم من الأذى.

وقال الشيخ ابن باز عن نفس هذا الإشكال ما يلي: لم يترتب على ذلك شيء مما يضر الناس أو يُخل بالرسالة أو بالوحي، والله جل وعلا عصمه من الناس مما يمنع وصول الرسالة وتبليغها، أما ما يصيب الرسل من أنواع البلاء فإنه لم يعصم منه عليه الصلاة والسلام, بل أصابه شيء من ذلك, فقد جرح يوم أحد, وكسرت البيضة على رأسه, ودخلت في وجنتيه بعض حلقات المغفر, وسقط في بعض الحفر التي كانت هناك, وقد ضيقوا عليه في مكة تضييقا شديداً, فقد أصابه شيء مما أصاب من قبله من الرسل, ومما كتبه الله عليه, ورفع الله به درجاته, وأعلى به مقامه, وضاعف به حسناته, ولكن الله عصمه منهم فلم يستطيعوا قتله ولا منعه من تبليغ الرسالة, ولم يحولوا بينه وبين ما يجب عليه من البلاغ فقد بلغ الرسالة وأدى الأمانة صلى الله عليه وسلم. اهـ. والله أعلم. وأما ما وقع للأنبياء والأولياء من أنواع الابتلاء فلا يُقال أنه من ضعف التوكل، ولا يدل على نقصه عندهم؛ بل التوكل عقيدة سابقة للمخوف يريدها الله من العبد، ومن منافعها أن تكون عونا له على تحمل ما يحذره ويخافه، وما يقع بعد ذلك منه إنما هو ابتلاء وامتحان، أو كفارة ورفع درجة، تزيد الإيمان والتقوى؛ قال تعالى: "ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما". وللعلم حفظ الله للعبد ليس المراد به حفظه في بدنه وأهله وماله فحسب بل يشمل حفظ دينه وحفظه من الزيغ والضلال بعد الهداية والإسلام والله أعلم. - السؤال الثاني: هل التوكل يُنافي الأخذ بالأسباب؟ التوكل على الله لا يُعارض فعل الأسباب؛ ولا ينافيها؛ قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ"، وقال سبحانه: "وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ"، وقد دلت السنة على ذلك. فالأخذ بالأسباب من صدق التوكل، وصحة الدين، وسلامة المعتقد، وقوة اليقين، لكن الأخذ بالأسباب يكون دون الاعتماد عليها وحدها، ونسيان المسبب وهو الله سبحانه، فاعتماد المرء على الأسباب وحدها خلل في عقيدته، وترك أخذه بالأسباب خلل في عقله، وقد يظن بعض الناس أن معنى التوكل ترك الكسب بالبدن وترك التدبير بالقلب وهذا ظن الجهال، فليس من شرط التوكل ترك مباشرة الأسباب الدافعة للضرر , والرافعة للظلم، بل الواجب السعي لإزالة الضرر وجلب المصالح، قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ

الْمُتَوَكِّلِينَ) [آل عمران: من الآية159]. فأمره بالأخذ بالأسباب، وهي هنا الاستشارة في الأمور وتقليب النظر فيها، فإذا اطمأن قلبه وعزمت نفسه عليه توكل على الله في فعل ذلك، فهذا سيد المتوكلين رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أخل بشيء من الأسباب ... ظاهر بين درعين يوم أحد ولم يحضر الصف قط عرياناً، واستأجر دليلاً مشركاً يدله على طريق الهجرة، وكان يدَخر لأهله قوت سنة، وإذا سافر في جهاد أو حج أو عمرة حمل الزاد والمزاد، فالواجب على المسلمين أن يفهموا التوكل كما فهمه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وخلاصة القول أن سنة الله جارية في إعمال الأسباب مع التوكل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز. رواه مسلم. ومن أمثلة القرآن على ذلك قول يعقوب عليه السلام لبنيه: يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ {يوسف: 67} قال السعدي: ذلك أنه خاف عليهم العين، لكثرتهم وبهاء منظرهم، لكونهم أبناء رجل واحد، وهذا سبب. {وَ} إلا فـ {مَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} فالمُقدَر لا بد أن يكون، {إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ} أي: القضاء قضاؤه، والأمر أمره، فما قضاه وحكم به لا بد أن يقع، {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} أي: اعتمدت على الله، لا على ما وصيتكم به من السبب، {وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} فإن بالتوكل يحصل كل مطلوب، ويندفع كل مرهوب. اهـ. وترك الأسباب واعتقاد تعارضها مع التوكل على الله هو من مكائد الشطان كما روى ابن أبي الدنيا في كتاب مكائد الشيطان): أن عيسى عليه الصلاة والسلام كان يصلي على رأس جبل فأتاه إبليس فقال: أنت الذي تزعم أن كل شيء بقضاء وقدر؟ قال: نعم. قال: ألق نفسك من الجبل وقل: قُدَر علي. قال: يالعين! الله يختبر العباد، وليس للعباد أن يختبروا الله عز وجل. اهـ. وقد نقل ذلك ابن الجوزي في تلبيس إبليس وقال: ينبغي أن تكون أعضاء المتوكل في الكسب , وقلبه ساكن مفوض إلى الحق منع أو أعطى؛ لأن لا يرى إلا أن الحق سبحانه وتعالى لا يتصرف إلا بحكمة ومصلحة، فمنعه عطاء في المعنى، وكم زين للعجزة عجزهم وسولت لهم أنفسهم أن التفريط توكل، فصاروا في غرورهم بمثابة من اعتقد التهور شجاعة، ومتى وُضِعت أسباب فأهملت كان ذلك جهلاً بحكمة الواضع، مثل وضع الطعام سببا للشبع والماء للري والدواء للمرض

، فإذا ترك الإنسان ذلك إهواناً بالسبب، ثم دعا وسأل، فربما قيل له: قد جعلنا لعافيتك سبباً فإذا لم تتناوله كان إهواناً لعطائنا، فربما لم نعافك بغير سبب لإهوانك للسبب , وما هذا إلا بمثابة من بين قراحه أي مزرعته وماء الساقية رفسه بمسحاة، فأخذ يصلي صلاة الاستسقاء طلبا للمطر، فإنه لا يستحسن منه ذلك شرعاً ولا عقلاً اهـ. قال ابن مفلح في الآداب: قال الشيخ تقي الدين -رحمه الله- الله هو الذي خلق السبب والمسبب، والدعاء من جملة الأسباب التي يقدرها، فالالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومحو الأسباب بالكلية قدح في الشرع، بل العبد يجب أن يكون توكله ودعاؤه وسؤاله ورغبته إلى الله سبحانه وتعالى، والله يقدر له من الأسباب من دعاء الخلق وغير ذلك ما يشاء. ا. هـ وقال أيضاً: وقال أحمد للميموني: استغن عن الناس، فلم أر مثل الغني عن الناس، وقال رجل للفضيل بن عياض -رحمه الله- لو أن رجلاً قعد في بيته وزعم أنه يثق بالله فيأتيه برزقه، قال: إذا وثق به حتى يعلم أنه وثق به لم يمنعه شيئاً أراده، ولكن لم يفعل هذا الأنبياء ولا غيرهم، وقد الله تعالى: وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ (الجمعة: من الآية10، ولا بد من طلب المعيشة. ا. هـ وقال ابن العربي في أحكام القرآن، عند تفسير قوله تعالى: وقال للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك. قال: فيها جواز التعلق بالأسباب، وإن كان اليقين حاصلاً، لأن الأمور بيد مسببها، ولكنه جعلها سلسلة، وركب بعضها على بعض، فتحريكها سنة، والتعويل على المنتهى يعني القدر يقين، والذي يدلك على جواز ذلك نسبة ما جرى من النسيان إلى الشيطان، كما جرى لموسى صلى الله عليه وسلم في لقاء الخضر، وهذا بين فتأملوه. ا. هـ. والمقصود أن تعلق القلب بالله تعالى لا يتعارض مع تعلق البدن بالأسباب , وأن حقيقة التوكل هي عمل القلب وعلمه، فعمل القلب الاعتماد على الله عز وجل والثقة به، وعلمه معرفته بتوحيد الله سبحانه بالنفع والضر. وعمل القلب لا بد أن يؤثر في عمل الجوارح والذي هو الأخذ بالأسباب، فمن ترك العمل -أي الأخذ بالأسباب-فهو العاجز المتواكل الذي يستحق من العقلاء التوبيخ والتهجين، ولم يأمر الله بالتوكل إلا بعد التحرَز والأخذ بالأسباب، قال الله تعالى: وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ {آل عمران:159}، وقد قال عليه

الصلاة والسلام للذي سأله: يا رسول الله أعقلها -أي الناقة- وأتوكل، أو أطلقها وأتوكل؟! قال: اعقلها وتوكل. رواه الترمذي وحسنه الألباني. فمن كان توكله صحيحاً أخذ بالأسباب. أما حكم الأخذ بالأسباب على التعيين فهو يختلف باختلاف المسبب المطلوب إيجاده، فقد يكون الأخذ بالأسباب واجباً، وذلك إذا كان فعله لتحصيل واجب، كتحصيل أسباب الواجبات الشرعية كالعلم بأحكام الصلاة والصيام ونحوهما من الواجبات، وقد يكون الأخذ بالأسباب حراماً، وذلك إذا كان السبب المطلوب فعله يؤدي إلى حرام، كالأسباب المفضية إلى الزنا وشرب الخمر ونحوهما، وهكذا يكون الأخذ بالأسباب مكروها ومستحباً بحسب ما يفضي إليه، وبهذا يُعلم أن الأخذ بالأسباب مُختلف المراتب من جهة الحكم، وأنه لا يتنافى مع الإيمان بالقدر ولا التوكل ولا الثقة في الله تعالى. - السؤال الثالث: هل الإيمان بالقدر يعني التخلي عن الأسباب؟ وهل التوكل على الله تحصيل حاصل؟ الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد: فلقد غاب عن ذهن الأخ السائل أن الإيمان بالقدر لا يعني التخلي عن الأسباب، بل إن وقوع المسببات على حسب أسبابها هو من قدر الله تعالى. فمع إيماننا بأن الله بيده كل شيء، وأنه قدرّ كل شيء، فنحن مأمورون من قبل الله بالأخذ بالأسباب، ونؤمن بأن هذه الأسباب لا تُعطي النتائج إلا بإذن الله. ويجمع ذلك عبارة ابن تيمية حيث يقول: فالالتفات إلى الأسباب، واعتبارها مؤثرة في المسببات شرك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسباباً نقص في العقل، والإعراض عن الأسباب المأمور بها قدح في الشرع. ا. هـ مجموع الفتاوى8/ 528. ويقول شارح العقيدة الطحاوية: قد يظن بعض الناس أن التوكل ينافي الاكتساب، وتعاطي الأسباب، وأن الأمور إذا كانت مقدرة فلا حاجة إلى الأسباب، وهذا فاسد، فإن الاكتساب منه فرض، ومنه مستحب، ومنه مباح، ومنه مكروه، ومنه حرام، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أفضل المتوكلين يلبس لأمة الحرب، ويمشي في الأسواق للاكتساب. وقال ابن القيم: فلا تتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله تعالى، وإن تعطيلها يقدح في نفس التوكل، وإن تركها عجز ينافي التوكل الذي حقيقته اعتماد القلب على الله في حصول ما ينفع العبد في دينه ودنياه، ودفع ما يضره في دينه ودنياه، ولا بد من هذا الاعتماد من مباشرة الأسباب، وإلا كان معطلاً للحكمة والشرع، فلا يجعل العبد عجزه توكلاً ولا توكله عجزاً. زاد المعاد 3/ 67. والحاصل أن تعاطي العبد للأسباب النافعة، سواء في الزواج، أو في الرزق، أو

في الدراسة، أو في العلاج داخل في الإيمان بالقدر، ولا ينافيه، وإنما هو مقتضى من مقتضياته، وبغير هذا الفهم للقدر تبطل الحكمة، وتتعطل السنن، وتفسد مصالح الناس. وحاصل الأمر أن الإيمان بالقدر على الوجه الشرعي لا يتنافى مع التوكل على الله عز وجل، والأخذ بالأسباب، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، للأعرابي: اعقلها وتوكل على الله , وأمر بالتداوي كما جاء ذلك في أحاديث كثيرة صحيحة. وقال ابن القيم: لا تتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله تعالى، والأسباب لا تعطي النتائج إلا بإذن الله تعالى، والذي خلق الأسباب هو الذي خلق النتائج. - السؤال الرابع: هل التداوي مشروع وهل هو يُنافي التوكل على الله؟ التداوي مشروع ولا ينافي التوكل على الله تعالى، بل يُستحب كما حكاه النووي في شرحه على مسلم عن جماهير السلف والخلف. وأما التداوي بالمُحرَم فحرام، وأما التداوي بالمكروه فالأولى تركه، وللعلامة سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب كلام جيد في هذا الموضوع في كتابه (شرح كتاب التوحيد) عند شرحه لحديث السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب الذين قال عنهم النبي صلى الله عليه وسلم: "هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون". متفق عليه. قال رحمه الله تعالى: واعلم أن الحديث لا يدل على أنهم لا يُباشرون الأسباب - أصلاً - كما يظنه الجهلة، فإن مباشرة الأسباب في الجملة أمر فطري ضروري لا انفكاك لأحد عنه، حتى الحيوان البهيم، بل نفس التوكل مباشرة لأعظم الأسباب، كما قال الله تعالى: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) [الطلاق:3. أي كافيه. إنما المُراد أنهم يتركون الأمور المكروهة مع حاجتهم إليها توكلاً على الله، كالاسترقاء والاكتواء، فتركهم له ليس لكونه سبباً، لكن لكونه سبباً مكروهاً، لا سيما والمريض يتشبث بما يظنه سبباً لشفائه بخيط العنكبوت. أما نفس مباشرة الأسباب والتداوي على وجه لا كراهية فيه فغير قادح في التوكل، فلا يكون تركه مشروعاً، كما في الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعاً: "ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء". وعن أسامة بن شريك قال: "كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وجاءت الأعراب، فقالوا: يا رسول الله، أنتداوى؟ فقال: نعم، يا عباد الله تداووا فإن الله عز وجل لم

يضع داءاً إلا وضع له شفاء غير داء واحد. قالوا: ما هو؟ قال: الهرم" رواه أحمد. قال ابن القيم: فقد تضمنت هذه الأحاديث إثبات الأسباب والمسببات، وإبطال قول من أنكرها، والأمر بالتداوي، وأنه لا ينافي التوكل، كما لا ينافيه دفع الجوع والعطش والحر والبرد بأضدادها، بل لا تتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله مقتضيات لمسبباتها قدراً وشرعاً، وأن تعطيلها يقدح بمباشرته في نفس التوكل كما يقدح في الأمر والحكمة، ويضعفه من حيث يظن معطلها أن تركها أقوى من التوكل، فإن تركها عجز ينافي التوكل الذي حقيقته اعتماد القلب على الله في حصول ما ينفع العبد في دينه ودنياه، ودفع ما يضره في دينه ودنياه، ولابد مع هذا الاعتماد من مباشرة الأسباب وإلا كان معطلاً للأمر والحكمة والشرع، فلا يجعل العبد عجزه توكلاً، ولا توكله عجزاً. ا. هـ. وعلى ضوء ما سبق، فتناول الأدوية المباحة لدفع الأمراض لا ينافي العقيدة ولا التوكل، بل هو أمر مطلوب والله أعلم. - السؤال الخامس: الله عز وجل وعد عباده المؤمنين بكثير من الوعود في الحياة الدنيا ولا نراها تتحقق فما تأويل ذلك؟ وعود الله الكريمة للمؤمنين لا بد أن تحصل وتتحقق، ولكن بطريقة تتفق مع الحكمة من الخلق، التي هي ابتلاء بمعنى الامتحان والاختبار، فقد خلق الله تعالى الإنسان ليمتحنه ويختبره، كما قال تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ {الملك:2}، وقال تعالى: أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ* وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ {العنكبوت:2 - 3}، وقال عز وجل: مَّا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ {آل عمران:179}، وهذا الامتحان يكون بالأحكام الشرعية كالأوامر والنواهي، ويكون كذلك بالأحكام القدرية سواء ما نكره منها كالمصائب والشدائد، أو ما نحب كالأموال والأولاد، كما قال تعالى: وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ {الأنبياء:35}، ومن ذلك ابتلاء الله لخليله إبراهيم عليه السلام بأمره بذبح ولده بعدما بلغ معه السعي، فقد عقب الله تعالى على ذلك بقوله: إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ {الصافات:106}، قال الطبري: إن أمرنا إياك يا إبراهيم بذبح ابنك لهو البلاء، يقول: لهو الاختبار الذي يبين لمن فكر فيه أنه بلاء شديد ومحنة عظيمة. انتهى. وقد ابتلاه الله أيضاً بالإلقاء في النار وبتسليط جبار من الجبابرة على امرأته سارة، وبوضع امرأته هاجر وابنه إسماعيل في واد غير ذي زرع ولا ماء، وغير ذلك. ولكن الله نجاه وحفظه وأهل بيته، وأجزل له المثوبة في الدنيا مع ما ينتظره من ثواب الآخرة، قال تعالى: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ* شَاكِرًا لِّأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ* وَآتَيْنَاهُ فِي الْدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ* ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ

مِنَ الْمُشْرِكِينَ {النحل:120 ... 123}، فصار إبراهيم عليه السلام مثلاُ يلزم الاقتداء به، ومثالاً ينبغي القياس عليه، فالجزاء من جنس العمل، فكل من أحسن في عبادة الله كان جزاؤه عند الله الإحسان، كما قال تعالى: هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ {الرحمن:60}، وقال سبحانه: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ {الزمر:10}، وقال عز وجل: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى {النجم:31}، فمن استجاب لأمر الله وصبر على امتحانه واستقام على أمره نال في الدنيا الحياة الطيبة، وفاز في الآخرة بالنعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول، كما حصل للصحابة الكرام رضي الله عنهم في غزوة حمراء الأسد بعد غزوة أحد وما كان فيها من البلاء المبين والقرح الشديد، قال تعالى: الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ* الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ* فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ {آل عمران:172 - 173 - 174}. فللبلاء في حق المؤمنين طعم آخر، حتى إن خواصهم ليفرحون بالبلاء كما يفرح غيرهم بالعطاء، مع ما يُدَخر لهم في الآخرة من الأجر المُضاعف، كما قال أبو سعيد الخدري: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوعك فوضعت يدي عليه فوجدت حره بين يدي فوق اللحاف، فقلت: يا رسول الله ما أشدها عليك! قال: إنا كذلك يضعف لنا البلاء ويضعف لنا الأجر. قلت: يا رسول الله أي الناس أشد بلاءً؟ قال: الأنبياء، قلت: يا رسول الله ثم من؟ قال: ثم الصالحون، إن كان أحدهم ليبتلى بالفقر حتى ما يجد أحدهم إلا العباءة يحويها، وإن كان أحدهم ليفرح بالبلاء كما يفرح أحدكم بالرخاء. رواه ابن ماجه. وصححه الحاكم والبوصيري والألباني. فإذا كان هذا البلاء في ذات الله تعالى ونصرة لدين الله فهو أحب إليهم وأيسر عليهم، كما قال تعالى: وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا {الأحزاب:22}، وقال أيضاً: وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ {آل عمران:146}. وأما غير المؤمن القوي الموفق فإنه إذا امتُحن فقد يخسر دينه ودنياه والعياذ بالله، كما قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ {الحج:11}. وقال سبحانه: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِن جَاء نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ* وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ {العنكبوت:10 - 11}. ثم اعلم أخي الكريم أن الإنسان لا يستطيع الإحاطة بحكمة الله في قضائه وقدره، ولذلك قال تعالى: وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ

شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ {البقرة:216}، فعلى المؤمن أن يصبر ويرضى بأمر الله تعالى، وأن يُبصر الرحمة من خلال البلاء، فقد قال صلى الله عليه وسلم: إن عظم الجزاء من عظم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط. رواه الترمذي وحسنه، وابن ماجه وحسنه الألباني. واعلم أخي أن وعود الله متحققة لا محالة لمن أقام شرطها قال تعالى (وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ) (التوبة: من الآية111) وقال أيضاً "وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ" (الرعد: من الآية31) فعلى المسلم أن يُحسن الظن بربه وخاصة تجاه وعوده الكريمة ولماذا نسيء الظن بربنا وقد علمنا أنه لا يُخلف وعده ولِمَ نتشاءم، والله تعالى يقول: "أنا عند ظن عبدي بي" فمن أحسن الظن به أعانه وبلغه مُراده، ومن أساء بالله الظن لن يعطيه الله تعالى إلا ظنه، وقد استوجب مسيئو الظن بالله غضبه ولعنته قال الله تعالى: "الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً" (الفتح: من الآية6). وإن من أسماء الله تعالى البر الرحيم الودود العزيز اللطيف وغيرها من الأسماء الحسنى، فربٌ هذه أسماؤه وتلك صفاته يُظن به ظن السوء؟ والله ما قدرنا الله حق قدره، وما عرفناه حق معرفته، فالمتأمل في الأسماء الحسنى للخالق تعالى لن يجد بُداً من التفاؤل وحسن الظن به والثقة بما عنده من الخير والعطاء الجزيل. وحسن الظن بالله من العبادات الجليلة، والطاعات القلبية العظيمة التي تدل على حب العبد لربه وتصديقه بوعده وقد قال تعالى: {وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ} [الحج/47]. والسبب الكبير في ضعف اليقين تجاه الوعود الربانية، هو: التعلق بالدنيا، والركون إليها، ولهذا فإنك لو تأملتَ لوجدت أن أضعف الناس يقيناً بموعود الله هم أهل الدنيا، الراكنين إليها، وأقواهم يقيناً هم العلماء الربانيون، وأهل الآخرة، جعلنا الله منهم بمنه وكرمه. قال تعالى: {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 6، 7] ولا يُشكل على هذا ما يمر على القارئ من آيات قد يُفهم منها أن فيها نوعاً من التردد في تصديق وعد الله، أو الشك في ذلك، كقوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214]، وكقوله عز وجل: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف: 110]، فإن هذه الآيات إنما تحكي حالةً عارضة تمر بالإنسان ـ بسبب ضعفه حيناً، وبسبب استعجاله أحياناً ـ وليست حالةً دائمةً، وإذا كان الشك في موعود الله لا يصح أن ينسب إلى آحاد المؤمنين، فهو من الأنبياء والمرسلين أبعد وأبعد، ولكن ـ ولحكمة بالغة ـ جاءت هذه الآيات لتطمئن المؤمنين من هذه الأمة أن حالات

اليأس التي قد تعرض للعبد مجرد عرْض بسبب شدة وطأة أهل الباطل، أو تسلط الكفار، فإنها لا تؤثر على إيمانه، ولا تقدح في صدقه وتصديقه؛ ولهذا ـ والله تعالى أعلم ـ يأتي مثل هذا التثبيت في بعض الأحوال التي تعترض نفوس أهل الإيمان فترة نزول الوحي، كقوله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ ... } إلى قوله تعالى: {وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46) فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} [إبراهيم: 42، 47]. والمؤمن ليس من شأنه أن يقترح أجلاً لإهلاك الكفار، أو موعداً لنصرة الإسلام، أو غيرِ ذلك من الوعود التي يقرأها في النصوص الشرعية، ولكن من شأنه أن يسعى في نصرة دينه بما يستطيع، وأن لا يظل ينتظر مُضي السنن، فإن الله لم يتعبدنا بهذا ولا يغير ما بقوم حتى يُغيروا ما بأنفسهم، وعليه أن يفتش في مقدار تحققه بالشروط التي ربطت بها تلك الوعود، فإذا قرأ ـ مثلاً ـ قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7] فعليه هنا أن يفتش عن أسباب النصر التي أمر الله بها هل تحققت فيه فرداً أو في الأمة على سبيل المجموع؛ ليدرك الجواب على هذا السؤال: لماذا لا تنتصر الأمة على أعدائها؟!. - السؤال السادس: هل تعسر بعض الأمور يدل على أن الله لا يُحب إتمامها ولو كانت حقاً؟ تعسر بعض الأمور لا يعني بالضرورة أن الله لا يُحب إتمامها فالمؤمن مُطالب بالأخذ بالأسباب المشروعة والمباحة مع التوكل على الله وتفويض الأمر إليه، والحرص على ما ينفعه، ثم إذا لم يوفق بعد ذلك في أمر من الأمور، فلا يتأسف أو يتحسر على ما فات بل يؤمن بقضاء الله وقدره ويقول: قدر الله وما شاء فعل. وهذا ما أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم. ويحدث في أحيان كثيرة أن تتعلق النفس بأشياء وقد لا يكون الخير فيها، فيصرفها الله برحمته وحسن تدبيره للعبد، وبعض الناس لقصر نظرهم لا يشعرون أن النعمة في المنع أحياناً تكون أعظم مما تكون في العطاء، وقد قال سبحانه: وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ. {البقرة: 216}. قال الشيخ ابن سعدي في تفسير الآية: الغالب على العبد المؤمن، أنه إذا أحب أمراً من الأمور، فقيض الله له من الأسباب ما يصرفه عنه أنه خير له، فالأوفق له في ذلك، أن يشكر الله، ويجعل الخير في الواقع، لأنه يعلم أن الله تعالى أرحم بالعبد من نفسه، وأقدر على مصلحة عبده منه، وأعلم بمصلحته منه كما قال تعالى: "وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ" , فاللائق بكم أن تتمشوا مع أقداره، سواء سرتكم أو ساءتكم. انتهى. ثم المؤمن كذلك يعلم أنه مهما أخذ بالأسباب وبالغ في الجهد فهناك

قدر مكتوب، كما قال تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ. {الحديد:22}. ونحن نأخذ بالأسباب مع التوكل على الله؛ لأن ذلك هو واجبنا، فأما ما جرت به المقادير مما هو مكتوب لنا فهذا غيب لا نعلمه إلا بعد وقوعه، وعندها يجب الصبر على القضاء، وهو ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَل"َ. وأما وجود العوائق فلا يعني بالضرورة أن هذا علامة من الله بعدم محبة إتمام الأمر، بل قد يكون للامتحان , والمعيار في معرفة ما يُحب الله وما يكره هو معرفة شرعه وحدود ما أنزل على رسوله الكريم وعليك بالتوكل على الله والسعي وتسليم الأمر إلى الله، فإذا لم يحدث هذا الأمر لك فحينها تعلم أنه ليس مُقدراً لك حصوله. - السؤال السابع: هل هنالك تعارض بين إحساس العبد بالتقصير وحسن ظنه بربه حين يتوكل عليه؟ لا منافاة بين إحساس العبد بالتقصير وحسن ظنه بربه حين يتوكل عليه وليس ثم إشكال أصلا حتى يُطلب رفعه، فإن التوكل على الله والثقة به تحصل لمن كمل إيمانه وتصديقه بما أخبر الله به، وأنه يكفي من توكل عليه ويكون حسب من التجأ إليه، وبقدر كمال العلم بأسماء الرب عزوجل الحسنى وصفاته العلا تكون ثقته بربه تبارك وتعالى. فمن علم وأيقن أن الله تعالى أرحم بعبده من الأم بولدها، وعلم أنه تعالى هو الغني الحميد الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وأنه تعالى هو الأعلم بمصالح العبد، وأنه هو القادر على سوقها إليه أقبل بقلبه على ربه ولم يكن له تعلق بسواه، وكان حسن الظن به واثقا بما في يده تعالى، وإن كان يعلم من نفسه التقصير والتفريط والعجز، فالتوكل على الله والوثوق به ينبعث في القلب من مطالعة أسماء الرب عز وجل وصفاته، فمن كان بالله وصفاته أعلم كان توكله أتم وأكمل , يقول ابن القيم ـرحمه الله: وإذا تجلى بصفات الكفاية والحسب , والقيام بمصالح العباد, وسوق أرزاقهم إليهم, ودفع المصائب عنهم ونصره لأوليائه, وحمايته لهم, ومعيته الخاصة لهم, انبعثت من العبد قوة ليتوكل عليه, والتفويض إليه والرضا به في كل ما يُجريه على عبده, ويقيمه فيه مما يرضى به هو سبحانه، والتوكل معنى يلتئم من علم العبد بكفاية الله, وحسن اختياره لعبده, وثقته به, ورضاه بما يفعله ويختاره له. انتهى. وليس بين هذا وبين شعور العبد بالتقصير والتفريط تنافٍ ألبتة, فإن العبد يسير إلى الله تعالى بين مشاهدة المنة ومطالعة عيب النفس والعمل , بل إن افتقار العبد لله وشعوره بالذل والانكسار واستحضاره أنه لا حول له ولا قوة من دون الله وأنه لا يملك لنفسه شيئا وافتقاره إلى الله تعالى في جلب مصالحه ودفع المضار عنه من أعظم الأسباب الجالبة لكفاية الرب تعالى لعبده وجبره كسره وإقالة عثرته,

يقول ابن القيم ـ رحمه الله: فمشاهدة المنة توجب له المحبة والحمد والشكر لولي النعم والإحسان، ومطالعة عيب النفس والعمل توجب له الذل والانكسار والافتقار والتوبة في كل وقت وأن لا يرى نفسه إلا مفلساً، وأقرب باب دخل منه العبد على الله تعالى هو الإفلاس فلا يرى لنفسه حالاً ولا مقاماً ولا سبباً يتعلق به ولا وسيلة منه يمن بها، بل يدخل على الله تعالى من باب الافتقار الصرف والإفلاس المحض دخول من كسر الفقر والمسكنة قلبه حتى وصلت تلك الكسرة إلى سويدائه فانصدع وشملته الكسرة من كل جهاته وشهد ضرورته إلى ربه عز وجل وكمال فاقته وفقره إليه وأن في كل ذرة من ذراته الظاهرة والباطنة فاقة تامة وضرورة كاملة إلى ربه تبارك وتعالى وأنه إن تخلى عنه طرفة عين هلك وخسر خسارة لا تُجبر إلا أن يعود الله تعالى عليه ويتداركه برحمته , ولا طريق إلى الله أقرب من العبودية ولا حجاب أغلظ من الدعوى ... انتهى. والله أعلم. - السؤال الثامن: ما حكم الثقة بالنفس وهل تتنافى الثقة بالنفس مع اتهام السلف لأنفسهم بالتقصير ومع التواضع المشروع؟ الثقة بالنفس بعد التوكل على الله مطلوبة شرعاً، فالمسلم يتعين عليه أن يُحسن الظن بالله تعالى، وأن يتفاءل لنفسه الخير والنجاح دائماً، ويسعى باستمرار في سبيل الارتقاء لتحصيل الكمال، ويستخدم لذلك فكره وطاقته، ويبذل جهده وما تيسر له من الوسائل في تحقيق طموحاته والوصول إلى أهدافه، فقد قال الله تعالى: فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين {آل عمران: 159}. وفي حديث الصحيحين: يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي. وفي رواية لأحمد: أنا عند ظن عبدي بي، فإن ظن بي خيراً فله، وإن ظن بي شراً فله. وفي حديث مسلم: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل). وأما عدم الثقة بالنفس: فهو نوع من العجز لا يرتضيه الإسلام، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ من العجز، يقول صلى الله عليه وسلم: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال، قال: ففعلت ذلك فأذهب الله عز وجل همي، وقضى عني ديني. رواه الترمذي وحسنه. وإذا كان عدم الثقة بالنفس خلقا ذميما، فهو ليس مرادفا للتواضع ولا مظهرا من مظاهره، لأن التواضع خلق محمود، وهو لا ينافي الثقة بالنفس، ويكفي دلالة على ذلك ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان متواضعا مع شجاعة وإقدام وتوكل على الله في كل ما هو من أمور الخير. ولا بأس بالنظر في عواقب الأمور، ووضع احتمال الإخفاق في أمرٍ ما، والنظر في العلاج لما يمكن حصوله، فيحذر من أسباب الفشل ويحاول إصلاح ما فسد، وأما الاتهام للنفس الذي كان يفعله السلف فهو اتهامهم أنفسهم بعدم الوصول

المعلم السادس عشر: مالا يسع العابد والناسك جهله

للإيمان المطلوب وخوفهم على أنفسهم من النفاق، ولكنهم إذا أرادوا أمراً توجهوا له بعزم وجد وتوكل على الله في إنجاح وتحقيق مآربهم وهذا هو التوكل الذي عرفه العلماء بمباشرة الأسباب مع استشعار أنها لا تؤثر إلا بإذن الله، كما في الحديث: قيدها وتوكل. رواه الحاكم وجود إسناده الذهبي وحسنه الألباني. وفي رواية: اعقلها وتوكل. رواه ابن حبان والترمذي وحسنه الألباني. (المعلم السادس عشر: مالا يسع العابد والناسك جهله) • التقوى هي العمل بطاعة الله على نور من الله رجاء ثواب الله. • الله عز وجل لا تنفعه طاعة الطائعين ولا تضره معصية العاصين والله يريد العبد لمنفعة نفسه والخلق يريدون العبد لمنفعة أنفسهم والله غني حميد. • ينبغي للمسلم التفكر بالمخلوق وعدم التفكير في الخالق لأن التفكير مبناه على القياس والخالق جل جلاله ليس له شبيه ولا نظير. • شروط قبول العمل الصالح عند الله هي: الإسلام، الإخلاص، المتابعة للرسول - صلى الله عليه وسلم - في العمل المُراد قبوله، وهذه الشروط كل من أتى بها قبل الله عمله ولو كان مبتدعاً أو فاسقاً , ومن كان لعمله أصل في الشرع ودخلت عليه البدعة فإن كانت البدعة الداخلة على العمل مخلة بشروط صحته فهو مردود وإلا فلا. • الإنسان مسئول عن عمله بـ (لِم) و (كيف)؟ لِم: الإخلاص، كيف: المتابعة. • الصرط المستقيم مبني على قاعدة (إياك أُريد بما تريد) ومعناها (إياك أُريد أي الله وهو الإخلاص- بما تريد -أي متابعة الرسول-). • عبادة الله هي كمال المحبة له مع كمال الذل له فلا يستحق المحبة والذل التام إلا الله. • الإيمان أصل له شعب متعددة كل شعبة منها تسمى إيماناً وكذلك الكفر ذو أصل وشعب متعددة كل شعبة منها تسمى كفراً , لكن لا يلزم من انتفاء بعض هذه الشعب انتفاء أصل الإيمان كما لا يلزم من وجود بعض

شعب الكفر في المسلم وجود أصل الكفر وانتفاء ما يضاده فقد يكون الإنسان مؤمناً وعنده بعض شعب الكفر ولا يكون بها كافراً كما أنه قد يكون كافراً وعنده بعض شعب الإيمان ولا يكون بها مؤمناً إلا أن هذه الشعب تتفاوت فمنها ما هو ناقض لأصل الإيمان محقق لأصل الكفر كالاستهزاء بالدين ومنها ما ليس كذلك , وشعب الإيمان قسمان قولية وفعلية وشعب الكفر نوعان قولية وفعلية ومن شعب الإيمان ما يوجب زوالها زوال الإيمان وأصله بالكلية كترك النطق بالشهادتين مع القدرة عليها وترك الصلاة مُطلقاً وكذلك شعب الكفر منها ما يوجب فعلها أو قولها زوال الإيمان وأصله بالكلية كقول كلمة الكفر وسب الله ورسوله اختياراً والسجود للصنم والاستهانة بالمصحف. • الإيمان ذو أصل وشعب متعددة وكل شعبة منه تسمى إيماناً وأعلاها لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، وهذه الشعب منها ما يزول الإيمان بزوالها كشعبة الشهادة ومنها ما لا يزول بزوالها كترك إماطة الأذى عن الطريق ومنها شعب متفاوتة تفاوتاً عظيماً، منها ما يلحق بشعبة الشهادة ويكون إليها أقرب ومنها ما يلحق بشعبة إماطة الأذى ويكون إليها أقرب. وكذلك الكفر ذو أصل وشعب فكما أن شعب الإيمان إيمان فشعب الكفر كفر فالطاعات كلها من شعب الإيمان كما أن المعاصي كلها من شعب الكفر, وإن الرجل قد يجتمع فيه كفر وإيمان وشرك وتوحيد وتقوى وفجور ونفاق وإيمان وهذا من أعظم أصول أهل السنة بشرط ألا يكون الكفر والشرك والفجور والنفاق مما يناقض أصل الإيمان وما هيته. • من كان همَه الآخرة فالله عز وجل هو مالك يوم الدين ومن كان همه الدنيا فلا يتحرك متحرك ولا يسكن ساكن إلا بإذنه وإن كان هذا المتحرك أو الساكن أحياناً قد لا يعلم أن تحرَكه أو سكونه لم يكن دون إذن الله عز وجل له. • من العوائد القدرية والحكمة الإلهية أن من ترك ما ينفعه وأمكنه الانتفاع به فلم ينتفع ابتُلي بالانشغال بما يضره فمن ترك عبادة الرحمن ابتلي بعبادة الأوثان ومن ترك محبة الله وخوفه ورجائه ابتلي بمحبة غير الله وخوفه ورجائه ومن لم ينفق ماله في طاعة الله أنفقه في طاعة الشيطان ومن ترك الذل لربه ابتلي بالذل للعبيد ومن ترك الحق ابتلي بالباطل ولا يظلم ربك أحداً. • سبب ابتلاء الله للعبد بالإعراض عنه: الله يذيق عبده ألم الحجاب عنه

وزوال ذلك الأنس به والقُرب منه ليمتحن عبده فإن أقام العبد على الرضا والحال واطمأنت نفسه وسكنت إلى غيره علم أنه لا يصلح فوضعه في مرتبته التي تليق به وإن استغاثه به سبحانه استغاثة الملهوف ودعاه دعاء المضطر رد الله عليه أحوج ما هو محتاج إليه فعظمت به فرحته وتمت به نعمته وعلم العبد حينئذٍ مقدار ربه فعضَ على شرعه بالنواجذ وثنَى عليه بالخناصر. • من عمل بما يعلم ورَثه الله علم ما لم يعلم. • المأمور (الواجب) يفعل منه الإنسان ما استطاع والمحظور (المحرم) يجتنبه الإنسان كله وعلى هذا فلا يكون ما يُفعل من المحرم عند الضرورة حراماً بل هو حلال مباح. • خاتمة السوء تكون بسبب دسيسة باطنة للعبد لا يطَلع عليها الناس والله أعلم. • من أحبه الله تعالى لا بد من ابتلائه كبر هذا البلاء أو صغر وهو على قدر دينه وذلك لتمحيص هذا العبد وتطهيره من درن الذنوب والتعلق بغيره , علماً أن هذا البلاء المقصود منه إصلاح العبد وليس إتلافه وللعلم أيضاً لا منافاة بين البلاء والحياة الطيبة. • مما يُعين على الصبر ملاحظة حُسن الجزاء وانتظار روح ولذة الفرج. • طريق الجنة محفوف بالمكاره. • القنوط من رحمة الله واليأس من روحه من أعظم الخطايا وبعدها الأمن من مكر الله وهذا الذنبان هما أعظم الذنوب بعد الشرك. • من أصلح باطنه (موضع نظر الله) أعانه الله على إصلاح ظاهره (موضع نظر الخلق). • لا يحسن المبالغة في محاسبة النفس لأن ذلك قد يؤدي إلى انقباضها وانكماشها. • النفس إن لم تُشغل بالطاعة شغلت صاحبها بالمعصية. • المُنعم بالذات هو الله تعالى وما سواه فهو مُنعم لمُقابل يُريده منك أو من ربه أو من غيرك بغض النظر عن هذا المقابل فقد يكون محموداً , والخلق كلهم لا يُريدونك إلا لأنفسهم ولا أحد يُريدك لنفسك وهو غنيٌ عنك غير الله تعالى.

• الله عز وجل هو ربَّ السَّماواتِ السَّبْعِ، وربَّ العرشِ العظيمِ ورَبَّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَما أَظْلَلْنَ، وَرَبَّ الأَرَضينَ السَّبْعِ وَما أقْلَلْنَ، وَرَبَّ الشَّياطينِ وَما أَضْلَلْنَ، وَرَبَّ الرِّياحِ وَما ذَرَيْنَ لا إلهَ إلاّ اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ، لهُ المُلْكُ ولَهُ الحَمْدُ، يُحْيي وَيُميتُ وَهُوَ حَيٌّ لا يَمُوتُ، بِيَدِهِ الْخَيْرُ، وَهوَ على كُلِّ شيءٍ قَدِيرٌ , فالخَيْرُ كُلُّهُ بِيَدَيْه، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْه، ونحن بِه وَإِلَيْه، تَبارَكْ وَتَعالَى, والله عز وجل هو الأول والآخر والظاهر والباطن والعلي الأعلى المتعال العظيم المجيد الكبير السميع البصير العليم الخبير الحميد العزيز القدير القادر المقتدر القوي المتين الغني الحكيم الحليم العفو الغفور الغفار التواب الرقيب الشهيد الحفيظ اللطيف القريب المجيب الودود الشاكر الشكور السيد الصمد القاهر القهار الجبار الحسيب الهادي الحكم القدوس السلام البر الوهاب الرحمن الرحيم الكريم الأكرم الرءوف الفتاح الرازق الرزاق الحي القيوم الرب الملك المليك الواحد الأحد المتكبر الخالق الخلاق البارئ المصور المؤمن المهيمن المحيط المقيت الوكيل الكافي الواسع الحق الجميل الرفيق الحي الستير الإله القابض الباسط المعطي المقدم المؤخر المبين المنان الولي المولى النصير الشافي مالك الملك جامع الناس نور السماوات والأرض ذو الجلال والإكرام بديع السماوات والأرض لا قابض لما بسط، ولا باسط لما قبض، وربنا عز وجل هو الهادي فلا هادي لمن أضل ولا مضل لمن هدى، ولا معطي لما منع ولا مانع لما أعطى، ولا مقرب لما باعد، ولا مباعد لما قرب , وهو المنعم بالذات، فلا معطي ولا مانع في الحقيقة سواه، وأن ما عداه وسائط , وكل ما خطر ببالك فالله عز وجل بخلاف ذلك , فالله واحد لا شريك له , ولا شيء مثله , ولا شيء يعجزه , ولا إله غيره , أولٌ بلا ابتداء، دائمٌ بلا انتهاء ,لا يفنى ولا يبيد, ولا يكون إلا ما يريد, لا تبلغه الأوهام , ولا تدركه الأفهام، ولا يشبه الأنام , حيٌّ لا يموت, قيومٌ لا ينام, خالقٌ بلا حاجة، رازقٌ بلا مؤنة , مميتٌ بلا مخافة , باعثٌ بلا مشقة , ما زال بصفاته قديماً قبل خلقه, لم يزدد بكونهم شيئاً لم يكن قبلهم من صفته, وكما كان بصفاته أزلياً، كذلك لا يزال عليها أبدياً, ليس بعد خلق الخالق استفاد اسم (الخالق) , ولا بإحداث البرية استفاد اسم (الباري) , له معنى الربوبية ولا مربوب، ومعنى الخالق ولا مخلوق, وكما أنه محيي الموتى بعدما أحيا، استحق هذا الاسم قبل إحيائهم، كذلك استحق اسم الخالق قبل إنشائهم , ذلك بأنه على كل شيء قدير, وكل شيء إليه فقير, وكل أمر عليه يسير , لا يحتاج إلى شيء , (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) , خلق الخلق بعلمه, وقدر لهم أقداراً, وضرب لهم آجالاً, ولم يخف عليه شيء قبل أن يخلقهم, وعلم ما هم عاملون قبل أن يخلقهم , وأمرهم بطاعته، ونهاهم عن معصيته, وكل شيء يجري بتقديره, ومشيئته تنفذ، لا مشيئة للعباد إلا ما شاء لهم، فما شاء لهم كان، وما لم يشأ لم يكن, يهدي من يشاء، ويعصم ويعافي فضلاً، ويضل من يشاء ويخذل ويبتلي عدلاً, وكلهم يتقلبون في مشيئته بين فضله وعدله, وهو متعال عن الأضداد والأنداد, لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، ولا غالب لأمره, آمنّا بذلك كله، وأيقنا أن كلا من عنده, وأن محمداً عبده المصطفى، ونبيه المجتبى، ورسوله المرتضى.

وأنه خاتم الأنبياء وإمام الأتقياء، وسيد المرسلين وحبيب رب العالمين, وكل دعوى النبوة بعده فغي وهوى, وهو المبعوث إلى عامة الجن وكافة الورى بالحق والهدى، وبالنور والضياء, وأن القرآن كلام الله, منه بدأ بلا كيفية قولاً، وأنزله على رسوله وحياً, وصدقه المؤمنون على ذلك حقاً, وأيقنوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة, ليس بمخلوق ككلام البرية , فمن سمعه فزعم أنه كلام البشر، فقد كفر, وقد ذمه الله وعابه وأوعده بسقر، حيث قال تعالى: (سأصليه سقر) , فلما أوعد الله بسقر لمن قال: (إن هذا إلا قول البشر) , علمنا وأيقنا أنه قول خالق البشر, ولا يشبه قول البشر, ومن وصف الله بمعنى من معاني البشر، فقد كفر, فمن أبصر هذا اعتبر, وعن مثل قول الكفار انزجر, وعلم أنه بصفاته ليس كالبشر, والرؤية حق لأهل الجنة، بغير إحاطة ولا كيفية, كما نطق به كتاب ربنا: (وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة) , وتفسيره على ما أراده الله تعالى وعلمه, وكل ما جاء في ذلك من الحديث الصحيح عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فهو كما قال , ومعناه على ما أراد, لا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا، ولا متوهمين بأهوائنا , فإنه ما سلم في دينه إلا من سلم لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وآله وسلم, وردَّ علم ما اشتبه عليه إلى عالمه, ولا تثبت قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام, فمن رام علم ما حظر عنه علمه، ولم يقنع بالتسليم فهمه، حجبه مرامه عن خالص التوحيد، وصافي المعرفة، وصحيح الإيمان, فيتذبذب بين الكفر والإيمان، والتصديق والتكذيب، والإقرار والإنكار, موسوساً تائهاً، شاكاً، لا مؤمناً مصدقاً، ولا جاحداً مكذباً, ولا يصح الإيمان بالرؤية لأهل دار السلام لمن اعتبرها منهم بوهم أو تأولها بفهم, إذ كان تأويل الرؤية وتأويل كل معنى يضاف إلى الربوبية بترك التأويل ولزوم التسليم, وعليه دين المسلمين , ومن لم يتوق النفي والتشبيه، زل ولم يصب التنزيه, فإن ربنا جل وعلا موصوف بصفات الوحدانية, منعوت بنعوت الفردانية. ليس في معناه أحد من البرية , وهو فوق العالم ومحيطٌ به, والمعراج حق، وقد أُسري بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم, وعرج بشخصه في اليقظة إلى السماء , ثم إلى حيث شاء الله من العلا وأكرمه الله بما شاء وأوحى إليه ما أوحى (ما كذب الفؤاد ما رأى) , فصلى الله عليه وسلم في الآخرة والأولى, والحوض الذي أكرمه الله تعالى به –غياثاً لأمته- حق, والشفاعة التي ادخرها لهم حق، كما رُوي في الأخبار, والميثاق الذي أخذه الله تعالى من آدم وذريته حق, وقد علم الله تعالى فيما لم يزل عدد من يدخل الجنة، وعدد من يدخل النار جملة واحدة، فلا يزداد في ذلك العدد، ولا ينقص منه, وكذلك أفعالهم فيما علم منهم أن يفعلوه , وكل ميسرٌ لما خُلق له , والأعمال بالخواتيم , والسعيد من سعد بعلم الله قضاؤه، والشقي من شقي بعلم الله وقضاؤه , وأصل القدر سر الله تعالى في خلقه, لم يطلع على ذلك ملك مقرب ولا نبي مرسل, والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان، وسلم الحرمان، ودرجة الطغيان, فالحذر كل الحذر من ذلك نظراً وفكراً ووسوسة, فإن الله تعالى طوى علم القدر عن أنامه , ونهاهم عن مرامه لا يُسأل عما يفعل لكمال حكمته لا لقهره وهم يسألون. فمن سأل: لم فعل؟ فقد رد حكم الكتاب, ومن رد حكم الكتاب كان من

الكافرين, فهذا جملة ما يحتاج إليه من هو منور قلبه من أولياء الله تعالى وهي درجة الراسخين في العلم والله عز وجل لا يُسأل عما يفعل لعلمه وحكمته وقدرته ومشيئته النافذة وحكمه الذي لا يُرد ولا يُمانع ولا يُغالب ولأن العلم علمان: علم في الخلق موجود، وعلم في الخلق مفقود فإنكار العلم الموجود كفر، وادعاء العلم المفقود كفر ولا يثبت الإيمان إلا بقبول العلم الموجود، وترك طلب العلم المفقود. ونؤمن باللوح والقلم وبجميع ما فيه قد رُقم. فلو اجتمع الخلق كلهم على شيء كتبه الله تعالى فيه أنه كائنٌ، ليجعلوه غير كائن –لم يقدروا عليه ولو اجتمعوا كلهم على شيء لم يكتبه الله تعالى فيه، ليجعلوه كائناً لم يقدروا عليه جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة، وما أخطأ العبد لم يكن ليصيبه، وما أصابه لم يكن ليخطئه وعلى العبد أن يعلم أن الله قد سبق علمه في كل كائن من خلقه. فقدر ذلك تقديراً محكماً مبرماً ليس فيه ناقض، ولا معقب، ولا مزيل، ولا مغير، ولا ناقص ولا زائد من خلقه في سماواته وأرضه وذلك من عقد الإيمان، وأصول المعرفة والاعتراف بتوحيد الله تعالى وربوبيته، كما قال تعالى في كتابه: (وخلق كل شيء فقدره تقديراً)، وقال تعالى: (وكان أمر الله قدراً مقدوراً). فويل لمن صار لله تعالى في القدر خصيماً وأحضر للنظر فيه قلباً سقيماً لقد التمس بوهمه في فحص الغيب سراً كتيماً وعاد بما قال فيه أفاكاً أثيماً, والعرش والكرسي حق, وهو مستغن عن العرش وما دونه, محيط بكل شيء وفوقه , وقد أعجز عن الإحاطة خلقه. ونقول: إن الله اتخذ إبراهيم خليلاً، وكلم الله موسى تكليماً، إيماناً وتصديقاً وتسليماً, ونؤمن بالملائكة والنبيين. والكتب المنزلة على المرسلين ونشهد أنهم كانوا على الحق المبين, ونسمي أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين, ما داموا بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم معترفين، وله بكل ما قاله وأخبر مصدقين. ولا نخوض في الله، ولا نماري في دين الله , ولا نجادل في القرآن، ونشهد أنه كلام رب العالمين نزل به الروح الأمين، فعلمه سيد المرسلين محمداً صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو كلام الله تعالى لا يساويه شيء من كلام المخلوقين ولا نقول بخلقه، ولا نخالف جماعة المسلمين ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بكل ذنب، ما لم يستحله ولا نقول: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله. ونرجو للمحسنين من المؤمنين أن يعفو عنهم ويدخلهم الجنة برحمته، ولا نأمن عليهم، ولا نشهد لهم بالجنة ونستغفر لمسيئهم، ونخاف عليهم، ولا نقنطهم والأمن والإياس ينقلان عن ملة الإسلام وسبيل الحق بينهما لأهل القبلة والإيمان: قولٌ باللسان وعملٌ بالأركان وعقدٌ بالجنان يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان. وجميع ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم من الشرع والبيان كله حق والإيمان درجات، والتفاضل بين أهله بالخشية والتقى، ومخالفة الهوى، وملازمة الأولى. والمؤمنون كلهم أولياء الرحمن، وأكرمهم عند الله أطوعهم وأتبعهم للقرآن.

والإيمان: هو الإيمان بالله، وملائكته، ورسله، واليوم الآخر، والقدر: خيره وشره، وحلوه ومره، من الله تعالى. ونحن مؤمنون بذلك كله لا نفرق بين أحد من رسله، ونصدقهم كلهم على ما جاءوا به. وأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم في النار لا يخلدون، إذا ماتوا وهم موحدون. وإن لم يكونوا تائبين، بعد أن لقوا الله عارفين "مؤمنين" وهم في مشيئته وحكمه، إن شاء غفر لهم وعفا عنهم بفضله، كما ذكر عز وجل في كتابه: (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) وإن شاء عذبهم في النار بعدله ثم يخرجهم منها برحمته وشفاعة الشافعين من أهل طاعته ثم يبعثهم إلى جنته وذلك بأن الله تعالى تولى أهل معرفته، ولم يجعلهم في الدارين كأهل نكرته، الذين خابوا من هدايته، ولم ينالوا من ولايته اللهم يا وليّ الإسلام وأهله، ثبتنا على الإسلام حتى نلقاك به. ونرى الصلاة خلف كل برٍّ وفاجر من أهل القبلة وعلى من مات منهم, ولا ننزل أحداً منهم جنة ولا ناراً. ولا نشهد عليهم بكفر ولا بشرك ولا بنفاق، ما لم يظهر منهم شيء من ذلك , ونذر سرائرهم إلى الله تعالى , ولا نرى السيف على أحد من أمة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلا من وجب عليه السيف, ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا, وإن جاروا, ولا ندعو عليهم , ولا ننزع يداً من طاعتهم, ونرى طاعتهم من طاعة الله عز وجل فريضة، ما لم يأمروا بمعصية , وندعو لهم بالصلاح والمعافاة , ونتبع السنة والجماعة، ونجتنب الشذوذ والخلاف والفرقة, ونحب أهل العدل والأمانة، ونبغض أهل الجور والخيانة, ونقول: الله أعلم، فيما اشتبه علينا علمه, ونرى المسح على الخفين، في السفر والحضر، كما جاء في الأثر والحج والجهاد ماضيان مع أولي الأمر من المسلمين: برهم وفاجرهم إلى قيام الساعة، لا يبطلهما شيء ولا ينقضهما, ونؤمن بالكرام الكاتبين، فإن الله قد جعلهم علينا حافظين, ونؤمن بملك الموت، الموكل بقبض أرواح العالمين, وبعذاب القبر لمن كان له أهلاً، وسؤال منكر ونكير في قبره عن ربه ودينه ونبيه، على ما جاءت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وعن الصحابة رضوان الله عليهم , والقبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النيران, ونؤمن بالبعث وجزاء الأعمال يوم القيامة، والعرض والحساب، وقراءة الكتاب، والثواب والعقاب، والصراط والميزان, والجنة والنار مخلوقتان، لا تفنيان أبداً ولا تبيدان, وأن الله تعالى خلق الجنة والنار قبل الخلق، وخلق لهما أهلاً, فمن شاء منهم إلى الجنة فضلاً منه, ومن شاء منهم إلى النار عدلاً منه, وكل يعمل لما قد فرغ له، وصائر إلى ما خلق له, والخير والشر مقدران على العباد, والاستطاعة التي يجب بها الفعل، من نحو التوفيق الذي لا يجوز أن يوصف المخلوق به –فهي مع الفعل، وأما الاستطاعة من جهة الصحة والوسع، والتمكن وسلامة الآلات –فهي قبل الفعل، وبها يتعلق

الخطاب، وهو كما قال تعالى: (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها).وأفعال العباد خلق الله، وكسب من العباد. ولم يكلفهم الله تعالى إلا ما يطيقون وهو تفسير: "لا حول ولا قوة إلا بالله". نقول: لا حيلة لأحد، ولا حركة لأحد ولا تحول لأحد عن معصية الله إلا بمعونة الله، ولا قوة لأحد على إقامة طاعة الله والثبات عليها إلا بتوفيق الله وكل شيء يجري بمشيئة الله تعالى وعلمه وقضائه وقدره غلبت مشيئته المشيئات كلها , وغلب قضاؤه الحيل كلها , يفعل ما يشاء وهو غير ظالم أبداً، تقدس عن كل سوء وحين، وتنزه عن كل عيب وشين , وفي دعاء الأحياء وصدقاتهم منفعة للأموات والله تعالى يستجيب الدعوات، ويقضي الحاجات, ويملك كل شيء، ولا يملكه شيء, ولا غنى عن الله تعالى طرفة عين , ومن استغنى عن الله طرفة عين، فقد كفر , والله يغضب ويرضى، لا كأحد من الورى. ونحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم, ولا نفرط في حب أحد منهم, ولا نتبرأ من أحد منهم , ونبغض من يبغضهم, وبغير الخير يذكرهم، ولا نذكرهم إلا بخير. وحبهم دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان ونثبت الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: أولاً لأبي بكر الصديق رضي الله عنه، تفضيلاً له وتقديماً على جميع الأمة، ثم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، ثم لعثمان رضي الله عنه، ثم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهم الخلفاء الراشدون والأئمة المهتدون وأن العشرة الذين سماهم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وبشرهم بالجنة، على ما شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وقوله الحق، وهم: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وسعد، وسعيد، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو عبيدة بن الجراح وهو أمين هذه الأمة، رضي الله عنهم أجمعين ومن أحسن القول في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وأزواجه الطاهرات من كل دنس، وذرياته المقدسين من كل رجس؛ فقد برئ من النفاق وعلماء السلف من السابقين، ومن بعدهم من التابعين –أهل الخير والأثر، وأهل الفقه والنظر- لا يذكرون إلا بالجميل، ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل ولا نفضل أحداً من الأولياء على أحد من الأنبياء عليهم السلام، ونقول: نبي واحد أفضل من جميع الأولياء ونؤمن بما جاء من كراماتهم، وصح عن الثقات من رواياتهم ونؤمن بأشراط الساعة: من خروج الدجال ونزول عيسى ابن مريم عليه السلام من السماء ونؤمن بطلوع الشمس من مغربها وخروج دابة الأرض من موضعها ولا نصدق كاهناً ولا عرافاً ولا من يدعي شيئاً يخالف الكتاب والسنة وإجماع الأمة ونرى الجماعة حقاً وصواباً، والفرقة زيغاً وعذاباً ودين الله في الأرض والسماء واحد، وهو دين الإسلام قال الله تعالى: (إن الدين عند الله الإسلام) وقال تعالى (ورضيت لكم الإسلام ديناً) وهو بين الغلو والتقصير. وبين التشبيه والتعطيل وبين الجبر والقدر وبين الأمن والإياس فهذا ديننا واعتقادنا ظاهراً وباطناً ونحن براء إلى الله من كل من خالف الذي ذكرناه وبيناه

ونسأل الله تعالى أن يثبتنا على الإيمان، ويختم لنا به ويعصمنا من الأهواء المختلفة، والآراء المتفرقة, والمذاهب الردية, وبالله العصمة والتوفيق. • الواجب على المسلم أن يعتقد أن الله تعالى مستو على عرشه، وعرشه فوق سماواته، وأنه بائن من خلقه جل وعلا ليس حاّلاً فيهم، فهو العلي الأعلى، فوق جميع مخلوقاته سبحانه وتعالى وتقدس وكيفية العلو لا يعلمها إلا الله تعالى , وذلك أن الله تعالى لا يُقارن بمخلوقاته، فهو فوقها جميعاً، وفوقيته ليست كفوقية الأشياء فيما بينها، وقد أثبتها لنفسه وإذا كان ذهن الإنسان أضعف من أن يدرك هذه الفوقية، ولا يمكن أن يتصورها في المخلوقات التي بين يديه، فليعلم أن الله على كل شيء قدير، وليُسلِّم بما أخبر الله به، ويترك الخوض فيما لا يستطيع أحد الوصول إلى كنهه عالمين أنه لا سبيل إلى معرفة كيفية صفاته تعالى بل نعتقد أن كل ما دار بخلد إنسان في كيفية صفة الرب تعالى فالله تعالى منزه عنه، فإنه لا يعلم كيف الله إلا الله تعالى، وكذا لا يعلم كيف صفاته إلا هو سبحانه، فمن خاض في كيفية صفات الرب فقد تعاطى ما لا علم له به وما لا سبيل إلى العلم به وقال على الله بغير علم، وهذا من أكبر الكبائر , قال تعالى (ليس كمثله شىء وهو السميع البصير) , فعلى هذا يجب على المسلم أن يؤمن بعلو الله على خلقه ذاتاً وقدراً وقهراً وعليه كذلك التوقف في الإيمان بلوازم هذا العلو الذي لم ينص عليها كتاب أو سنة بنفيها أو إثباتها , ناهيك لو كانت هذه اللوازم باطلة كما هو الحال في كثير من الشبهات , ولنقف حيث وقف السلف ـ رحمهم الله ـ الذين هم أعلم بالله تعالى منا مثبتين لله ما أثبته لنفسه من غير تكييف ولا تعطيل ولا تشبيه ولا تمثيل , نافين عنه ما نفاه عن نفسه , وهذا الذي قررناه هو ما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، وإجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أهل القرون المفضلة. • مذهب أهل السنة والجماعة في أسماء الله وصفاته أن ما أثبته الله تعالى لنفسه وأثبته له نبيه عليه الصلاة والسلام، فهو ثابت له على حقيقته بلا تمثيل ولا تعطيل، والصفات كلها من باب واحد قال تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ). • كروية الأرض أمر متفق عليه، وأما دوران الأرض حول نفسها، ثم حول المجموعة الشمسية، والمجموعة الشمسية بأكملها حول المجرة، كل ذلك أضحى حقيقة علمية، فدوران الأرض حول نفسها ينتج منه الليل والنهار، ودوران القمر حولها ينتج منه الشهر القمري، ودوران الأرض حول الشمس ينتج عنه الفصول الأربعة.

• مكان الجنة والنار: لا شك أن النار موجودة الآن كما أن الجنة موجودة، وقد دل على ذلك الكتاب والسنة وإجماع أهل العلم، لكن ينبغي أن يُعلم أن نصوص الكتاب والسنة لم تعين تحديد مكان لهما بصريح العبارة. • أول المخلوقات العرش وهو سابق في الخلق للقلم. • حقيقة العرش والكرسي: قد دل الكتاب والسنة وإجماع السلف على أن العرش حق، وأن الله تعالى مستو عليه، وأنه أعلى المخلوقات وسقفها، وأنه مقبب وله قوائم. وأما الكرسي في قوله تعالى: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ {البقرة:255}، فقيل: هو العرش ذاته، وقيل: هو علم الله، وقيل: هو موضع القدمين من العرش , وأنه بين يدي العرش كالمرقاة إليه، فهو غير العرش، وهذا القول هو الأقرب والراجح , والله تعالى أعلم. • هل العرش كالقبة على العالم أم كالفلك المستدير؟ لا شك أن العرش هو أعلى المخلوقات وسقفها ولكن اختُلف في صفة العرش فقيل: أن العرش فلك مستدير محيط بالعالم من كل جهة، وربما سموه: الفلك الأطلس، والفلك التاسع , وهذا مذهب طائفة من أهل الكلام، وهذا ليس براجح؛ لأنه قد ثبت في الشرع أن له قوائم تحمله الملائكة. وعلى كل تقدير فالعرش فوق سواء كان محيطاً بالأفلاك أو غير ذلك ; فيجب أن يُعلم أن العالم العلوي والسفلي بالنسبة إلى الخالق - سبحانه وتعالى - في غاية الصغر ; لقوله تعالى {وما قدروا الله حق قدره} الآية. وليعلم المسلم بأن السكوت عن الكلام في العرش وأنه كالقبة أو فلك مستدير محيط بالكائنات خير من الخوض في ذلك، والجدل وكثرة الحديث فيه، فإن الخوض في ذلك والتعمق فيه من شره الفكر، واستشراف العقل إلى إدراك أمر غيبي لا يُعلم إلا بالتوقف، فينبغي الوقوف عند النقل وخاصة أن الحديث الذي استدل به من استدل على أن العرش مقبب وله قوائم إسناده ضعيف وعلى فرض صحته فهو لا يدل على أن العرش كالقبة فوق السماوات من جانب واحد، فإن السماوات محيطة بالأرض،

ومع ذلك فهي كالقبة بالنسبة لكل جماعة على سطح الأرض من الجهة التي تليهم إلا أن هذه المذهب هو ظاهر كلام أهل السنة المتأخرين وهو الأرجح لأن العرش ثبت أن له قوائم بالأدلة الصحيحة وأن الملائكة تطوف من حوله - علماً بأن متقدموا أهل السنة لم يفصحوا بتفصيل في ذلك في أن العرش هو كالقبة فوق العالم، أو أنه ليس مستديراً من كل جهة فلذلك فليسعنا ما وسعهم. وهنا تنبيه مهم: يجب أن يعلم المسلم أن استواء الله على العرش ليس لحاجته إليه، ولا لكون العرش حاملاً له، فإن السماء فوق الأرض ومحيطة بها، ولم يلزم أن تكون السماء في قيامها وتماسكها محتاجة إلى الأرض، ولا أن تكون الأرض حاملة لها، فالله مستو على عرشه، وهو مستغن عنه وعما فيه من الكائنات، وهو فوق عباده حقيقة، محيط بهم إحاطة تليق بجلاله لا كإحاطة الفلك بما فيه من الكائنات، والجميع قائم بحوله وقوته ابتداء ودواما، محفوظ بعنايته ورعايته، جلت قدرته، وتعالت عظمته علوا كبيرا. • قطعي الوحي وقطعي العقل لا يتعارضان أبداً، فقطعي العقل يؤيد قطعي الوحي، فإن حدث تعارض بين العقل والنقل فالقطعي منهما يقضي على الظني، وإن حدث تعارض بين ظني الوحي وظني العقل فظني الوحي مقدم، حتى يثبت العقلي أو ينهار وهذا على قول وأما القول الآخر فالمقدم منهما هو الراجح مطلقاً. • الله عز وجل قبل أن يخلق مخلوقاته كان في عماء، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فقد روى أحمد والترمذي وابن ماجه عن أبي رزين قال: قلت: يا رسول الله! أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه؟ قال: كان في عماء ما تحته هواء وما فوقه هواء، ثم خلق عرشه على الماء. • سبب تعليق قلب العبد بالله تعالى مطلوب شرعاً؟ لأنه لا يتحرك متحرك ولا يسكن ساكن إلا بإذن الله عز وجل وكل ما يُصيب العبد من سراء أو ضراء لا يكون إلا بعد إذن الله عز وجل ومشيئته وإرادته , علماً بأن الشر لا يُنسب إلى الله سبحانه باعتبار رضاه به وأمره به لكنه يُنسب إليه باعتبار الخلق فالله خالق كل شيء , والله عز وجل بائن عن خلقه لكنه بحكمته يُجري أقداره على عبده من خلال خلقه, وهؤلاء الخلق ماهم إلا وسائط لإرادة الله تعالى بعبده وهذه الوسائط قسمان وسائط مباشرة محمودة , ووسائط غير مباشرة , فأما الوسائط المباشرة المحمودة فهم الذين يُصيبون العبد بالسراء أو

الضراء بأمر الله الكوني أو الشرعي المباشر كالملائكة وعباد الله المتقين القائمين بشرعه والرياح والجبال وما يعلم جنود ربك إلا هو ولإيضاح الصورة نضرب مثالاً على الوسائط المباشرة المحمودة لإرادة الله بعبده السراء: كالرجل الصالح الذي يُحسن للعبد بشفاعة أو صدقة أو إعانة ونحو ذلك من ألوان الإحسان طاعة لله عز وجل وطمعاً في ثوابه , مثال آخر ملائكة الرحمة حينما تُريد قبض روح العبد وتبشره بروح وريحان وجنة نعيم ونحو ذلك. ومثال الوسائط المباشرة المحمودة لإرادة الله بعبده الضراء جزاءً وفاقاً: كالرجل الصالح الذي يُقيم الحد على العبد الذي أصاب حداً من حدود الله. مثال آخر ملائكة العذاب حينما تريد قبض روح العبد وتبشيرها له بالعذاب ونحو ذلك. أما القسم الثاني فهي الوسائط الغير مباشرة وهم الذين يُصيبون العبد بالسراء أو الضراء بأمر الله الكوني الغير مُباشر لهم, وقد تكون هذه الوسائط مذمومة مستدرجة كالشياطين والظالمين والكفار ونحوهم أو تكون وسائط غير مذمومة كأن يقيَض الله لك من ينتفع من تجارتك وتنتفع منه بالبيع والشراء ونحو ذلك أو يُسلَط الله عليك من يظلمك وهو متأول معذور عند الله. مثال الوسائط المذمومة الغير مباشرة لإرادة الله بعبده السراء: كالرجل الكافر يحوط وينصر قريبه العبد المؤمن الداعي إلى الله كما كان من أبي طالب حين دافع عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.وكذلك عطف الوالدين الكافرين على ولدهما ومثال الوسائط غير المباشرة لإرادة الله بعبده الضراء المذمومة كتسليط شياطين الإنس والجن على العبد بالحبس والتضييق والسحر والمس ونحو ذلك علماً أن هذه الوسائط (مُستدرجة) مذمومة وهي ظالمة. وكيفية تعامل المسلم مع هذه الوسائط ما يلي: من صنع إليك معروفاً كافئه ومن أرادك بسوء فدافعه. أما كيفية تعامل المسلم مع الله عز وجل: المسلم إذا ابتُلي صبر وإذا أُنعم عليه شكر وإذا أذنب استغفر. وعلى هذا فالمعطي للعبد والمانع حقيقةً هو الله وما بالعبد من نعمة فمن الله وما به من سوء فبسبب ذنوبه , والله عز وجل لا يظلم أحداً من خلقه ولكن الخلق أنفسهم يظلمون وهنا ننبه إلى أن ما أصاب الأنبياء من مصائب ليس بسبب ذنوبهم ولكن رفعة لهم ثم إنه من قال أن ما أصاب الأنبياء من ضراء هو نقمة عليهم وليس نعمة لهم بل الحق هو أن هذه المصائب هي عين رحمتهم والنعمة لهم

باعتبار مآل هذه المصائب وعلى هذا فمصائب الأنبياء والصالحين المتبعين لهم ليست من المصائب أصلاً بل هي من الفضل والنعمة لهم ولكن لقصور نظرنا قد لا نُدرك هذه الحقيقة وصدق الله (كلا بل تحبون العاجلة). وخلاصة القول: أقبل على الله واصدقه يصدقك وتعرف عليه في الرخاء يعرفك وقت الشدة واحفظه يحفظك , احفظ الله تجده تجاهك إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك فما أخطأك لم يكن ليُصيبك وما أصابك لم يكن ليُخطئك رُفعت الأقلام وجفت الصحف. • بيان حقيقة جزاء لله لخلقه: الله عز وجل واحدٌ أحد لم يكن له كفواً أحد بائن عن خلقه فما شاء الله كان ومالم يشأ لم يكن وما يشاء الخلق إلا أن يشاء الله رب العالمين وقد أحاط الله بكل شيءٍ علماً وهو على كل شيءٍ قدير فما كان وما يكون وما هو كائن إلى يوم القيامة قد سبق به علمه وجرى به قلمه في اللوح المحفوظ من غير جبرٍ لنا فيما خيَرنا فيه فلقد هدانا النجدين وطريق الخير والشر ولا يظلم ربَُنا أحداً , والخير كله بيديه والشر ليس إليه باعتبار سببه فالشر يقع من مفعولاته ومخلوقاته ابتداءً ومنه سبحانه جزاءً وفاقاً إن لم يتجاوز ويعفُ وهو لا يسمَى في هذه الحالة شراً أصلاً بل حكمة وعدلاً, وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة على خلقه وأفعال الله كلها خيرات محض لا شر فيها بوجه من الوجوه وإنما الشر قائم بمفعوله المُباين له لا بفعله الذي هو فعله وفرقُُ بين الفعل والمفعول أما باعتبار خلق الشر وإيجاده والإذن به فهو إليه سبحانه لحكمة هو أعلم بها وما بنا من نعمة فمن الله وحده وما بنا من سوء وشر فمن أنفسنا والشيطان , ولا يظلم ربنا أحداً ولكن الخلق أنفسهم يظلمون , وإن الله عز وجل لا يضيع أجر من أحسن عملا ويعفُ عن كثير وجزاؤه لخلقه من جنس أعمالهم إن خيراً فخير وإن شراً فشر أو يتجاوز إلا الشرك إذا مات عليه العبد وجزاء الله لخلقه إمَا ثواب أو عقاب والثواب والعقاب نوعان: الأول: حسَي مادي. الثاني: معنوي. فالثواب الحسَي المادي كالأموال والأولاد وجمال الهيأة وصحة الأبدان ونحوها , والعقاب الحسي المادي هو بضد الثواب المادي الحسي. أما الثواب المعنوي هو ما يشمل جميع شعب الإيمان القلبية كاليقين والرضا والفرقان بين الحق والباطل والنور والإلهام على هدى من الله وحب الإيمان

وبغض الكفر والفسوق والعصيان والإ يعاد بالخير والتصديق بالحق وحسن الظن بالله والربط على القلب ونحو ذلك والعقاب المعنوي هو بضد الثواب المعنوي. وثواب الله بنوعيه المادي والمعنوي في الآخرة واقع لا محالة للمؤمنين. وعقابه الأخروي بنوعيه واقع لا محالة للكافرين الذين قامت عليهم الحجة أما عصاة المؤمنين فهم تحت المشيئة ومآلهم إلى الثواب المادي والمعنوي بفضل الله تعالى. أما ثواب الله المعنوي واقع لا محالة في الدنيا على خلقه وعقابه المعنوي إن لم يتجاوز ويعفُ واقع لا محالة في الدنيا على خلقه. بالنسبة لثواب الله المادي في الدنيا كالوعد بالنصرة والحفظ والتمكين في الأرض والكفاية فيما أهم المسلم ونحو ذلك فقد يقع وهو الأصل وقد لا يقع لحكمة ولطف بالعبد والله يقضي له الخير حيث كان ثم يُرضيه به والعاقبة للعبد المتقي ولو بعد حين والله يعلم ونحن لا نعلم وخيرته لعبده خيرٌ من خيرة العبد لنفسه هذا من حيث أفرادهم أما من حيث مجموعهم فهو واقع لا محالة وعلى هذا تُحمل آيات نصرة الله وحفظه وعدم جعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً ونحوها علماً بأن هذه الوعود من الله خاصة بمن أقام شرطه فيها. وأما عقاب الله المادي في الدنيا لمن عصاه إن لم يتجاوز الله عنه فقد يقع زجراً للعبد لعلَه يتوب أو لكف شرَه عن المسلمين أو كفارة له بتعجيله أو عبرة لغيره وقد لا يقع استدراجاً له مالم يعفُ الله عنه في الآخرة. • طاعة الله وعبادته هي مصلحة العبد التي فيها سعادته ونجاته وأما إجابة دعائه وإعطائه سُؤله فقد يكون منفعة وقد يكون مضرة. • في سيرك إلى الله لا تُقارن نفسك بأحد من خلق الله لأن الله عز وجل لا يُعامل خلقه معاملة واحدة لأن الخلق مختلفين في معاملتهم لربهم فمنهم الكافر وهم دركات ومنهم المؤمن وهم درجات ويبتلي الله العبد على قدر دينه وهو مع عبده بين القبض والبسط رحمةً منه وحكمة. • الفاعل لما يُريد مطلقاً المستقل عن غيره هو الله تعالى , واعلم أن المدبر لهذا الكون حقيقةً هو الله تعالى، وأنه لا معطي ولا مانع في الحقيقة سواه، وأن ما عداه وسائط. • الخلق جميعهم لا يستغنون عن الله عز وجل طرفة عين وإن جحد ذلك بعض

تساؤلات وإشكالات في باب العقيدة

خلقه وهو غنيٌ عنهم , وخلقه لا يُمكن أن ينفكوا عنه فلولاه ما كانوا شيئاً مذكوراً والخلق كلهم بلا استثناء لا يخرجون عن مُراد الله ومشيئته وإذنه الكوني القدري ولو قيد أنملة. • حقيقة مراقبة الله هي مراقبة العبد لقلبه فهو موضع نظر الرب وماسوى ذلك فلا أراه إلا تكلف مذموم. • الهوى المذموم هو ما خالف الشرع. • قلَ أن يؤتى الإنسان في دينه إلا من قبل الهوى فالجهل سهل علاجه ولكن الهوى بعد العلم هو آفة النفس التي تحتاج إلى جهاد شاق طويل الأمد لعلاجها. وهما أمران لا ثالث لهما: اتباع السنة واتباع الهوى , فمن أراد اتباع السنة فإنه سيأخذ بجادة الطريق وهي النصوص المحكمة وعمل السلف الصالح وسبيلهم ومن أراد اتباع هواه فسيسلك لذلك بنيات الطريق وسيجد هنالك عمومات أو قياسات أو قول صحابي أو تابعي أو رأياً لبعض أهل العلم وجميع هذه في ظاهرها أدلة وما هي عند التحقيق بأدلة، وكل صاحب مذهب لا يُعجزه أن يستدل لمذهبه بدليل شرعي صح أو لم يصح والحق يا مبتغيه إنما يُبتغى في اتباع الدليل الناصع واقتفاء السبيل الواضح لا في موافقة جمهور الناس ومجاراتهم والتوسعة عليهم. • إصدار أي حكم لا يخلو من واحد من مأخذين لا ثالث لهما الشريعة أو الهوى. • أسباب فتن الشبهات: لفتن الشبهات أسباب منها: 1 - اتباع الهوى وفساد القصد. 2 - الإفراط والتفريط. 2 - اتباع المتشابه وترك المحكم. 3 - الجهل بما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم -. (تساؤلات وإشكالات في باب العقيدة) السؤال الأول: ما هو الدليل على علو الله؟ الواجب على المسلم أن يعتقد أن الله تعالى مستو على عرشه، وعرشه فوق سماواته، وأنه بائن من خلقه جل وعلا ليس حاّلاً فيهم، فهو العلي الأعلى، فوق جميع مخلوقاته سبحانه وتعالى وتقدس وكيفية العلو لا يعلمها إلا الله تعالى , وذلك أن الله تعالى لا يُقارن بمخلوقاته، فهو فوقها جميعاً، وفوقيته ليست كفوقية الأشياء فيما بينها، وقد أثبتها لنفسه وإذا كان ذهن الإنسان أضعف من أن يدرك هذه الفوقية، ولا يمكن أن يتصورها في المخلوقات التي بين يديه، فليعلم أن الله على

كل شيء قدير، وليُسلِّم بما أخبر الله به، ويترك الخوض فيما لا يستطيع أحد الوصول إلى كنهه عالمين أنه لا سبيل إلى معرفة كيفية صفاته تعالى بل نعتقد أن كل ما دار بخلد إنسان في كيفية صفة الرب تعالى فالله تعالى منزه عنه، فإنه لا يعلم كيف الله إلا الله تعالى، وكذا لا يعلم كيف صفاته إلا هو سبحانه، فمن خاض في كيفية صفات الرب فقد تعاطى ما لا علم له به وما لا سبيل إلى العلم به وقال على الله بغير علم، وهذا من أكبر الكبائر , قال تعالى (ليس كمثله شىء وهو السميع البصير) , فعلى هذا يجب على المسلم أن يؤمن بعلو الله على خلقه ذاتاً وقدراً وقهراً وعليه كذلك التوقف في الإيمان بلوازم هذا العلو الذي لم ينص عليها كتاب أو سنة بنفيها أو إثباتها , ناهيك لو كانت هذه اللوازم باطلة كما هو الحال في كثير من الشبهات , ولنقف حيث وقف السلف ـ رحمهم الله ـ الذين هم أعلم بالله تعالى منا مثبتين لله ما أثبته لنفسه من غير تكييف ولا تعطيل ولا تشبيه ولا تمثيل , نافين عنه ما نفاه عن نفسه , وهذا الذي قررناه هو ما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، وإجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أهل القرون المفضلة. قال الله تعالى (سبح اسم ربك الأعلى). وقال الله تعالى (يخافون ربهم من فوقهم). وأما الأرض فهي حبة في فلاة بالنسبة لملكوت الله تعالى وهو سبحانه فوق ذلك كله، وله الفوقية المطلقة. وقال الله تعالى (ثم استوى على العرش) في سبعة مواضع من القرآن وقد فسر السلف الاستواء بالعلو والارتفاع والصعود , مع نفي علمنا بالكيفية، كما قال الإمام مالك رحمه الله: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة ... انتهى. ولنعلم أنه لا يجوز إبطال دلالة النصوص المثبتة لصفة الاستواء بمجرد أوهام يظن صاحبها أنها دلالات عقلية، إذ أن العقل الصريح لا يعارض النقل الصحيح. وقال الله تعالى (إليه يصعد الكلم الطيب). وقال الله تعالى (بل رفعه الله إليه). وقال الله تعالى (أأمنتم من في السماء). والسماء بمعنى العلو، أو هي السماوات المعروفة و (في) بمعني (على) أي: على السماء، إذ ليس الله تعالى محصوراً ولا داخلاً في شيء من خلقه، وهذا نحو قوله تعالى (قل سيروا في الأرض) أي على الأرض. وكقوله تعالى (ولأ صلبنكم في جذوع النخل) أي على جذوع النحل. إلى غير ذلك من الآيات الدالة على علوه تعالى على خلقه.

كما دلت عليه نصوص السنة ومنها: 1 - ما رواه مسلم من حديث معاوية بن الحكم السلمي في قصة ضربه لجاريته وفيه .. فقلت: يا رسول الله أفلا أعتقها؟ قال: "ادعها، فدعوتها، فقال لها أين الله؟ قالت: في السماء. قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله. قال: أعتقها فإنها مؤمنة ". 2 - ما رواه مسلم عن جابر بن عبد الله أن رسول صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يوم عرفة: " ألا هل بلغت؟ فقالوا: نعم _ يرفع أصبعه إلى السماء وينكتها إليهم _ ويقول: اللهم اشهد ". 3 - ما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الملائكة يتعاقبون فيكم، ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج إليه الذين باتوا فيكم فيسألهم وهو أعلم بهم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون ". 4 - ما رواه أبو داود والترمذي من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء ". 5 - ما رواه البخاري عن أنس أن زينب بنت جحش كانت تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تقول:" زوجكن أهاليكن، وزوجني الله من فوق سبع سموات ". 6 - ما في الصحيحين من حديث أبي سعيد قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم:" ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء، يأتيني خبر السماء صباحاً ومساء". 7 - ما رواه مسلم من حديث أبي هريرة أن رسول صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نفسي بيده ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشه فتأبى عليه إلا كان الذي في السماء ساخطاً عليها حتى يرضى عنها زوجها ". 8 - ما في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم " كان ملك الموت يأتي الناس عياناً، فأتى موسى عليه السلام فلطمه فذهب بعينه، فعرج إلى ربه عز وجل فقال: يارب بعثتني إلى موسى فلطمني" الحديث. 9 - ما رواه النسائي من حديث سعد بن أبي وقاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لسعد بن معاذ: " لقد حكمت فيهم بحكم الملك من فوق سبع سموات ". 10 - وما جاء في قصة معراجه صلى الله عليه وسلم وارتفاعه إلى مستوى سمع فيه صريف الأقلام، وكلامه مع ربه جل وعلا، ثم مروره على موسى، ثم رجوعه إلى ربه جل وعلا سائلاً التخفيف في أمر الصلاة.

إلى غير ذلك من الأحاديث الصحيحة الثابتة الدالة على إثبات هذا الأمر العظيم. وهذا الأمر مستفيض عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم من التابعين وحسبنا من ذلك ما قال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه: شهدت بأن وعد الله حق ... وأن النار مثوى الكافرينا وأن العرش فوق الماء طاف ... وفوق العرش رب العالمينا وتحمله ملائكة كرام ... ملائكة الإله مقربينا وأما الإجماع فقد حكاه غير واحد من أئمة المسلمين. 1_ قال الإمام الأوزاعي (المتوفى سنة 157هـ): (كنا والتابعون متوافرون نقول: إن الله تعالى فوق عرشه، ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته). 2 - وقال الإمام عثمان بن سعيد الدارمي (المتوفى سنة 280 هـ) في رده على بشر المريسي: (اتفقت الكلمة من المسلمين أن الله تعالى فوق عرشه، فوق سماواته). 3ــ وقال الإمام قتيبة بن سعيد (المتوفى سنه 240هـ): (هذا قول الأئمة في الإسلام وأهل السنة والجماعة: نعرف ربنا عز وجل في السماء السابعة على عرشه، كما قال (الرحمن على العرش استوى) 4ــ وقال الإمام أبو زرعة الرازي (المتوفى سنة 264هـ) والإمام أبو حاتم: (أدركنا العلماء في جميع الأمصار، فكان مذهبهم أن الله على عرشه بائن من خلقه، كما وصف نفسه، بلا كيف، أحاط بكل شيء علما). 5ــ وقال الإمام بن عبد البر حافظ المغرب (المتوفى سنة 463هـ) في كتابه التمهيد (6/ 124) في شرح حديث النزول ( ... وهو حديث منقول من طرق متواترة، ووجوه كثيرة من أخبار العدول عن النبي صلى الله عليه وسلم ... وفيه دليل على أن الله عز وجل في السماء على العرش من فوق سبع سموات، كما قالت الجماعة، وهو من حجتهم على المعتزلة والجهمية في قولهم: إن الله عز وجل في كل مكان وليس على العرش. والدليل على صحه ما قاله أهل الحق في ذلك: قول الله عز وجل (الرحمن على العرش استوى ... ) انتهى. 6 - وقال الإمام الحافظ أبو نعيم صاحب الحلية في كتابه محجة الواثقين: (وأجمعوا أن الله فوق سمواته، عال على عرشه، مستو عليه، لا مستولٍ عليه كما تقول الجهمية إنه بكل مكان ... ). وبهذا يُعلم أن القول بأن الله في كل مكان ليس من أقوال أهل السنة، بل هو قول الجهمية والمعتزلة، ولهذا قال ابن المبارك رحمه الله (المتوفى سنه 181هـ) وقد سئل: كيف ينبغي أن نعرف ربنا؟ قال: على السماء السابعة على عرشه، ولا نقول: كما تقول الجهمية: إنه هاهنا في الأرض).

قال الإمام الذهبي في نهاية كتابه: العلو: (والله فوق عرشه كما أجمع عليه الصدر الأول، ونقله عنهم الأئمة. وقالوا ذلك رادين على الجهمية القائلين بأنه في كل مكان محتجين بقوله (وهو معكم) فهذان القولان هما اللذان كانا في زمن التابعين وتابعيهم، وهما قولان معقولان في الجملة. فأما القول الثالث المتولد أخيراً من أنه تعالى ليس في الأمكنة ولا خارجا عنها ولا فوق العرش ولا هو متصل بالخلق، ولا بمنفصل عنهم، ولا ذاته المقدسة متحيزة، ولا بائنة عن مخلوقاته، ولا في الجهات، ولا خارجا عن الجهات، ولا، ولا، فهذا شيء لا يعقل ولا يفهم، مع ما فيه من مخالفة الآيات والأخبار، ففر بدينك وإياك وآراء المتكلمين). انتهى فمن قال: إن الله في كل مكان، يريد نفي علوه على عرشه، وأنه بذاته في الأمكنة فقوله باطل بل هو كفر بالله تعالى، لما فيه من إثبات الحلول والامتزاج بالمخلوقات. ولهذا قال الإمام ابن خزيمة (من لم يقل إن الله فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه وجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه، ثم ألقي على مزبلة لئلا يتأذى به أهل القبلة ولا أهل الذمة). ومن قال إن الله في كل مكان يريد بذلك علمه تعالى وأنه لا يعزب مكان عن علمه، فهذا حق، وينبغي له أن يصرح مع ذلك بأن الله بائن عن خلقه مستو على عرشه لئلا يوهم كلامه حلول الله في خلقه، تعالى الله عن ذلك. وهذا هو معنى قوله تعالى (وهو معهم أينما كانوا) وقوله (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ... ) الآية. وقد صح عن الإمام مالك بن أنس رحمه الله أنه قال: (الله في السماء، وعلمه في كل مكان لا يخلو منه شيء) وقد نقل الإمام أبو عمرو الطلمنكي الإجماع على أن المراد بهذه الآية: العلم. وقال القاضي أبو بكر الباقلاني في كتابه الإبانة: (فإن قال: فهل تقولون إنه في كل مكان؟ قيل له: معاذ الله، بل هو مستو على عرشه كما أخبر في كتابه فقال الرحمن على العرش استوى) وقال الله (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه) وقال (أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور). ولو كان في كل مكان لكان في بطن الإنسان وفمه، والحشوش، والمواضع التي يرغب عن ذكرها، ولوجب أن يزيد بزيادة الأمكنة إذا خلق منها ما لم يكن، وينقص بنقصانها إذا بطل منها ما كان، ولصح أن يُرْغب إليه إلى نحو الأرض، وإلى خلفنا وإلى يميننا وإلى شمالنا، وهذا قد أجمع المسلمون على خلافه وتخطئة قائله) انتهى.

وذكر ابن القيم أن من جحد فوقيته فقد جحد لوازم اسمه " الظاهر " ولا يصح أن يكون الظاهر من له فوقية القَدْر فقط كما يقال الذهب فوق الفضة؛ لأن هذه الفوقية تتعلق بالظهور بل قد يكون المفوق أظهر من الفائق فيها، ولا يصح أن يكون القهر والغلبة فقط وإن كان سبحانه ظاهرا بالقهر والغلبة، فله سبحانه العلو المطلق من كل وجه وهو علو الذات، وعلو القدر، وعلو القهر. وهذه المسألة قد اهتم أهل السنة ببيانها والتصنيف فيها، فمن أراد الاطلاع على كلام السلف واستدلالاتهم فليرجع إلى هذه المصادر، ومنها: 1 - كتاب الإيمان والتوحيد لابن منده. 2 - الإبانة لابن بطة العكبري. 3 - التوحيد لابن خزيمة. 4 - كتاب أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للطبري اللالكائي. 5 - كتاب الإبانة للإمام أبي الحسن الأشعري. 6 - كتاب العلو للحافظ الذهبي. 7 - كتاب الفتوى الحموية لابن تيمية. 8 - كتاب اجتماع الجيوش الإسلامية لابن القيم. ... والله أعلم. السؤال الثاني: ما هو الدليل على إثبات العينين والقدم والرجل والساق لله عز وجل على ما يليق بجلاله؟ مذهب أهل السنة والجماعة أن ما أثبته الله تعالى لنفسه وأثبته له نبيه عليه الصلاة والسلام، فهو ثابت له على حقيقته بلا تمثيل ولا تعطيل، والصفات كلها من باب واحد قال تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) الشورى: 11. أما بخصوص الأدلة على صفة القدم والرجل والساق والعينين فهي كثيرة، نقتصر منها على ما يلي: فمن أدلة إثبات القدم والرجل لله عز وجل على مايليق بجلاله ما يلي: 1 - ما ثبت في الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تزال جهنم يُلقى فيها وتقول هل من مزيد، حتى يضع رب العزة فيها قدمه فينزوي بعضها إلى بعض وتقول: قط قط وكرمك، ولا يزال في الجنة فضل حتى يُنشئ الله لها خلقاً فيسكنهم فضل الجنة. هذا لفظ مسلم. وقد ورد لفظ الرجل في رواية البخاري وهي: فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع رجله تقول: قط قط.

2 - قال ابن عباس رضي الله عنهما: الكرسي موضع قدميه، والعرش لا يقدر قدره. أخرجه الحاكم في المستدرك، وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. قال الذهبي في التلخيص: على شرط البخاري ومسلم. . 3 - قال الإمام ابن خزيمة في كتاب التوحيد 2/ 202: باب ذكر إثبات الرجل لله عز وجل وإن رغمت أنوف المعطلة الجهمية، الذين يكفرون بصفات خالقنا عز وجل التي أثبتها لنفسه في محكم تنزيله وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم. 4 - قال الشيخ ابن عثيمين في شرح العقيدة الواسطية: والحاصل أنه يجب علينا أن نؤمن بأن لله تعالى قدماً، وإن شئنا قلنا رجلاً على سبيل الحقيقة مع عدم المماثلة، ولا تكيف الرجل، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا بأن لله تعالى رجلا أو قدما، ولم يخبرنا كيف هذه الرجل أو القدم. انتهى. 5 - ومن ذلك ما أخرجه الحاكم في المستدرك من حديث عبد الله بن مسعود الطويل في الحشر, وفيه: فبم تعرفون ربكم إن رأيتموه؟ قالوا: بيننا وبينه علامة إن رأيناه عرفناه، قيل: وما هي؟ قالوا: يكشف عن ساق، قال: فيكشف عند ذلك عن ساق .... الحديث قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذا اللفظ. ووافقه الذهبي قائلا: على شرط البخاري ومسلم. وفي البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد: فيأتيهم الجبار في صورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرة فيقول: أنا ربكم فيقولون: أنت ربنا، فلا يكلمه إلا الأنبياء، فيقول: هل بينكم وبينه آية تعرفونه؟ فيقولون: الساق، فيكشف عن ساق فيسجد كل مؤمن. أخرجه البخاري في التوحيد, وكذلك مسلم في الإيمان, وورد ذكر هذا في عدة أحاديث مخرجة في الصحاح والسنن والمسانيد والمعاجم والجوامع وغيرها. قال الحافظ ابن حجر قوله: هل بينكم وبينه علامة تعرفونها فيقولون الساق: فهذا يحتمل أن الله عرفهم على ألسنة الرسل من الملائكة أو الأنبياء أن الله جعل لهم علامة تجليه الساق وذلك أنه يمتحنهم. وذكر نحو هذا القرطبي ونقله عن الحافظ في الفتح. وأما أدلة إثبات الساق للرب على ما يليق بجلاله فهي ما يلي: 1 - فقد ورد في تفسير قوله تعالى: يوم يكشف عن ساق أقوال متعددة: فمنها تفسير هذا بالساق الحقيقية استنادً على الحديث المعروف في البخاري، وعند الضمير ساقه، وتفسير القرآن بالحديث مقدم على غيره من أقوال المفسرين، وروايات

الحديث وسياقاته متطابقة في الجملة مع ما في القرآن: يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون. وقال ابن عباس وجماعة إن الساق: الشدة واستدل باللغة، وهو مروي عنه بسندين حسنين كما قال ذلك الحافظ، وعلة ذلك عدم الضمير في الآية، وتفسير هذا الوجه في اللغة، وما جاء في الحديث لا ينافي اللغة وهو مقدم على غيره. وخاصة لفظ البخاري بالضمير يكشف ربنا عن ساق. والخطابي وجماعة فسروه بالنور في الآية، وبعضهم بالنفس كما في الفتح، والذي عليه المعول الحديث لأنه حجة بخلاف غيره. وحاصل الحديث الوارد في البخاري هو أن الله جعل علامة للمؤمنين يوم القيامة وهي الكشف عن ساقه سبحانه كما هو منصوص في صحيح البخاري وهو تفسير الآية الكريمة على الأرجح. وأما من أدلة إثبات العينين لله عز وجل فهي ما يلي: 1 - قال تعالى: (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا) هود: 37 .. ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله تعالى: (واصْنَعِ الفُلْكَ بِأَعْيُنِنا)، قال: بعين الله تبارك وتعالى، رواه عنه البيهقي في "الأسماء والصفات" (2/ 116). قال ابن جرير الطبري رحمه الله: " وقوله: (بأعيننا)، أي: بعين الله ووحيه كما يأمرك " انتهى. قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: " مذهب أهل السنة والجماعة: أن لله عينين اثنتين، ينظر بهما حقيقة على الوجه اللائق به، وهما من الصفات الذاتية " انتهى من "مجموع فتاوى ابن عثيمين" (4/ 58). 2. قال تعالى: (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي) طه: 39 3. قال تعالى: (وَاصْبِرْ لِحُكمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا) الطور: 48 وأما الأدلة من السنة؛ فمنها ما رواه البخاري (6858) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يخفى عليكم، إن الله ليس بأعور - وأشار بيده إلى عينه - وإن المسيح الدجال أعور العين اليمنى كأن عينه عنبة طافية).

قال ابن خزيمة رحمه الله – بعد ذكره للنصوص السابقة -: " فواجب على كل مؤمن أن يثبت لخالقه وبارئه ما ثبَّت الخالق البارئ لنفسه من العين، وغير مؤمن من ينفي عن الله تبارك وتعالى ما قد ثبَّته الله في محكم تَنْزيله ببيان النبي صلى الله عليه الذي جعله الله مبيِّناً عنه عَزَّ وجلَّ في قوله: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ)، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن لله عينين، فكان بيانه موافقاً لبيان محكم التَنْزيل، الذي هو مسطور بين الدفتين، مقروء في المحاريب والكتاتيب " انتهى. "كتاب التوحيد" (1/ 64). السؤال الثالث: هل إثبات الوجه والعين واليدين لله تعالى يستلزم التركيب كما يزعم البعض؟ الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد: قال ابن تيمية في (العقيدة الواسطية): ومن الإيمان بالله: الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه، وبما وصفه به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، بل يؤمنون بأن الله سبحانه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. فلا ينفون عنه ما وصف به نفسه ولا يحرفون الكلم عن مواضعه ولا يلحدون في أسماء الله وآياته، ولا يكيفون ولا يمثلون صفاته بصفات خلقه؛ لأنه سبحانه لا سمي له ولا كفء له ولا ند له، ولا يقاس بخلقه سبحانه وتعالى فإنه أعلم بنفسه وبغيره وأصدق قيلا وأحسن حديثا من خلقه. ثم رسله صادقون مصدقون بخلاف الذين يقولون عليه ما لا يعلمون، ولهذا قال: (سبحان ربك رب العزة عما يصفون. وسلام على المرسلين. والحمد لله رب العالمين) فسبح نفسه عما وصفه به المخالفون للرسل وسلم على المرسلين لسلامة ما قالوه من النقص والعيب. وهو سبحانه قد جمع فيما وصف وسمى به نفسه بين النفي والإثبات، فلا عدول لأهل السنة والجماعة عما جاء به المرسلون، فإنه الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين .. اهـ. وكذلك قال تلميذه ابن القيم (مدارج السالكين): العصمة النافعة في هذا الباب: أن يوصف الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، بل تثبت له الأسماء والصفات، وتنفي عنه مشابهة المخلوقات، فيكون إثباتك منزها عن التشبيه، ونفيك منزها عن التعطيل اهـ.

فإن أهل السنة يثبتون ما أثبته الله تعالى لنفسه، وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل، ويفوضون العلم بكيفيتها إلى الله عز وجل، فهم لا يثبتون له صفات كصفات البشر حتى ينقض قولهم بتوابع الصفات البشرية ولوازمها، وبيان ذلك في أن نقول: الوجه واليد والعين في البشر أبعاض وأجزاء، لأنها قد تفارق الجسم، وأما صفة الوجه والعين واليد لله تعالى فليست أبعاضاً ولا أجزاء، لأن الأبعاض هي ما جاز مفارقتها وانفصالها، وذلك في حق الرب تعالى محال، فليست هي في حق الله سبحانه جوارح مركبة، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيراً، قال الإمام الدارمي في نقضه على المريسي: أما ما ادعيت أن قوما يزعمون أن لله عينا فإنا نقوله، لأن الله قاله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأما جارح كجارح العين من الإنسان على التركيب، فهذا كذب ادعيته عمداً، لما أنك تعلم أن أحدا لا يقوله، غير أنك لا تألو ما شنعت، ليكون أنجع لضلالتك في قلوب الجهال، والكذب لا يصلح منه جد ولا هزل، فمن أي الناس سمعت أنه قال: جارح مركب؟ فأشر إليه، فإن قائله كافر، فكم تكرر قولك: جسم مركب، وأعضاء وجوارح وأجزاء، كأنك تهول بهذا التشنيع علينا أن نكف عن وصف الله بما وصف نفسه في كتابه، وما وصفه الرسول صلى الله عليه وسلم ونحن وإن لم نصف الله بجسم كأجسام المخلوقين، ولا بعضو ولا بجارحة، لكنا نصفه بما يغيظك من هذه الصفات التي أنت ودعاتك لها منكرون، فنقول: إنه الواحد الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، ذو الوجه الكريم، والسمع السميع، والبصرالبصير، نورالسموات والأرض. اهـ. وذكر الدكتور عبد الرحمن المحمود في أطروحته للدكتوراة: موقف ابن تيمية من الأشاعرة ـ مناقشة شيخ الإسلام لأدلة نفاة الصفات الخبرية ـ ومنها دليل التركيب والتجسيم ـ فقال: أما دليل التركيب والتجسيم، فهو من أشهر أدلتهم وأكثرها دورانا في كتبهم، وقد بين شيخ الإسلام بطلان حجتهم من خلال الوجوه التالية ـ فذكر خمسة أوجه فكان الخامس منها: والذين يدعون أن في إثبات العلو أو الوجه واليدين تركيبا، يرد عليهم بأنه يلزمهم التركيب فيما أثبتوه من الصفات كالحياة والعلم، يقول شيخ الإسلام: فإن قال من أثبت هذه الصفات التي هي فينا أعراض كالحياة والعلم والقدرة، ولم يثبت ما هو فينا أبعاض كاليد والقدم: هذه أجزاء وأبعاض تستلزم التركيب والتجسيم، قيل له: وتلك أعراض تستلزم التجسيم والتركيب العقلي، كما استلزمت هذه عندك التركيب الحسي، فإن أثبت تلك على وجه لا تكون أعراضا، أو تسميتها أعراضا لا يمنع ثبوتها، قيل له: وأثبت هذه

على وجه لا تكون تركيبا وأبعاضا، أو تسميتها تركيبا وأبعاضا لا يمنع ثبوتها، فإن قيل: هذه لا يعقل منها إلا الأجزاء، قيل له: وتلك لا يعقل منها إلا الأعراض، فإن قال: العرض ما لا يبقى وصفات الرب باقية، قيل: والبعض ما جاز انفصاله عن الجملة، وذلك في حق الله محال، فمفارقة الصفات القديمة مستحيلة في حق الله تعالى مطلقا، والمخلوق يجوز أن تفارقه أعراضه وأبعاضه فإن قال: ذلك تجسيم، والتجسيم منتف، قيل: وهذا تجسيم، والتجسيم منتف، وهذا منهج في الإلزام قوي، كثيرا ما يستخدمه شيخ الإسلام مع نفاة بعض الصفات خاصة. اهـ. ويحسن الرجوع للكتاب للوقوف على بقية الوجوه لفائدتها. وقال ابن الموصلي في مختصر الصواعق المرسلة لابن القيم: قالت طائفة أخرى: ما لم يكن ظاهره جوارح وأبعاضا كالعلم والحياة والقدرة والإرادة والكلام لا يتأول، وما كان ظاهره جوارح وأبعاضا كالوجه واليدين والقدم فإنه يتعين تأويله لاستلزام إثباته التركيب والتجسيم، قال المثبتون ـ يعني أهل السنة المثبتين للصفات: جوابنا لكم هو عين الذي تجيبون به خصومكم من الجهمية والمعتزلة نفاة الصفات، فهم قالوا لكم: لو قام به سبحانه صفة وجودية كالسمع والبصر والعلم والقدرة والحياة لكان محلا للأعراض ولزم التركيب والتجسيم والانقسام، كما قلتم: لو كان له وجه ويد وإصبع لزم التركيب والانقسام وحينئذ فما هو جوابكم لهؤلاء نجيبكم به؟ فإن قلتم: نحن نثبت هذه الصفات على وجه لا تكون أعراضا ولا نسميها أعراضا فلا يستلزم تركيبا ولا تجسيما، قيل لكم: ونحن نثبت الصفات التي أثبتها الله لنفسه ونفيتموها أنتم عنه على وجه لا يستلزم الأبعاض والجوارح ولا يسمى المتصف بها مركبا ولا جسما ولا منقسما، فإن قلتم: هذا لا يعقل منها إلا الأجزاء والأبعاض، قلنا لكم: وتلك لا يعقل منها إلا الأعراض، فإن قلتم: العرض لا يبقى زمانين، وصفات الرب تعالى باقية دائما أبدية فليست أعراضا، قلنا: وكذلك الأبعاض هي ما جاز مفارقتها وانفصالها وذلك في حق الرب تعالى محال، فليست أبعاضا ولا جوارح، فمفارقة الصفات الإلهية للموصوف بها مستحيل مطلقا في نوعين، والمخلوق يجوز أن تفارقه أبعاضه وأعراضه فإن قلتم: إن كان الوجه عين اليد وعين الساق والإصبع فهو محال، وإن كان غيره يلزم التميز ويلزم التركيب، قلنا لكم: وإن كان السمع هو عين البصر وهما نفس العلم وهي نفس الحياة والقدرة فهو محال، وإن تميز لزم التركيب، فما هو جوابكم؟ فالجواب مشترك، فإن قلتم: نحن نعقل صفات ليست أعراضا تقوم بغير جسم وإن لم يكن له في الشاهد نظير، ونحن لا ننكر الفرق بين

النوعين في الجملة، ولكن فرق غير نافع لكم في التفريق بين النوعين، وإن أحدهما يستلزم التجسيم والتركيب والآخر لا يستلزمه. اهـ. وقال الدكتور/ خالد كبير علال، في أطروحته للدكتوراة (الأزمة العقيدية بين الأشاعرة وأهل الحديث): للأشاعرة في تبنيهم للتأويل ودفاعهم عنه مبررات يتذرّعون بها، فيقولون: إن في الشرع نصوصا تُوهم النقص في صفات الله تعالى، كالاستواء والنزول والمجيء والوجه واليدين والعينين، فإثباتها على ظاهرها يُؤدي إلى التشبيه في اعتقادهم، ونظرتهم هذه ناقصة وخطأ، لا تعتمد على أساس شرعي ولا عقلي؛ لأن الله تعالى ليس كمثله شيء ولم يكن له كفؤا أحد، وهو موصوف بصفات الجلال والعظمة والإكرام، والصفات التي اعترض عليها الأشاعرة، الله هو الذي وصف بها نفسه، فهي إذن صفات كمال، وليست صفات نقص، ويجب علينا أن ننظر إليها بما يليق به تعالى ويجب له من كمال وعظمة وجلال، وفي إطار نصوص التنزيه .. فنحن إذا نظرنا لتلك الصفات في إطارها الشرعي الكامل وأرجعنا المتشابه – إن وُجد - إلى المحكم زال الإشكال المُتوّهم نهائيا بلا تأويل ولا تعطيل. اهـ. وهكذا ترد النصوص الشرعية بدعوى مناقضتها للأدلة العقلية، وكأن أهل العلم في عصر النبوة وصدر هذه الأمة لم يكن عندهم من الفهم للنصوص الشرعية ما يفطنون به إلى مناقضة العقل وهكذا يدخل العبد في سلسلة من الانحرافات بسبب هذا الخلط وسوء الفهم عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومثال ذلك ما قاله الإيجي في (المواقف) حيث أصل لضرورة تقديم العقل على النقل وقال: لو وجد ذلك المعارض (العقلي) لقدم على الدليل النقلي قطعا بأن يؤول الدليل النقلي عن معناه إلى معنى آخر. مثاله قوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى. {طه:5} فإنه يدل على الجلوس، وقد عارضه الدليل العقلي الدال على استحالة الجلوس في حقه تعالى، فيؤول الاستواء بالاستيلاء أو يجعل الجلوس على العرش كناية عن الملك. اهـ. ومن ذلك قول الرازي في (تأسيس التقديس) والذي نقله شيخ الإسلام للرد عليه في (بيان تلبيس الجهمية): أن القائلين بكونه جسما مؤلفا من الأجزاء والأبعاض لا يمنعون من جواز الحركة عليه، فإنهم يصفونه بالذهاب والمجيء، فتارة يقولون: إنه جالس على العرش وقدماه على الكرسي!! وهذا هو السكون، وتارة يقولون إنه ينزل إلى السماء الدنيا، وهذا هو الحركة. اهـ.

وهكذا يتيسر نسف كل دليل شرعي، ولو كان قرآنا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه إما بتحريفه وتزييفه، أو بتأويله وتعطيله، وإما بتحميله ما لا يحتمل ولزومه ما لا يلزم من اللوازم الباطلة. قال الدكتور محمد أمان في كتاب (الصفات الإلهية): خلاصة شبهتهم أنهم تصوروا - خطأ - أن النصوص التي نطقت بأن الله في السماء تدل بظاهرها على أنه تعالى مظروف في جوف السماء فشبهوه بمخلوق داخل مخلوق آخر، كما فهموا - خطأ - أيضاً من قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}. وما في معناه من النصوص أنه تعالى جالس على العرش، وأنه محتاج إليه، فشبهوه بإنسان جالس على سريره، محتاجاً إليه، فأرادوا أن يفروا من هذا التشبيه الذي وقعوا فيه لسوء فهمهم، فوقعوا في التعطيل. اهـ. وعلى أية حال فالتشبيه الممنوع هو نحو قول القائل: يد كيد، أو: يد كأيدينا. كما سبق عن الإمام أحمد، وأما قول: يد ليست كأيدنا. فليس فيها شيء محظور، بل هي الموافقة للتنزيل، حيث يجمع بين الإثبات والتنزيه، كقوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ. {الشورى: 11}. قال الإمام الترمذي في سننه: قال إسحاق بن إبراهيم يعني ابن راهويه: إنما يكون التشبيه إذا قال: يد كيد، أو مثل يد، أو سمع كسمع، أو مثل سمع، فإذا قال: سمع كسمع أو مثل سمع، فهذا التشبيه. وأما إذا قال كما قال الله تعالى: يد وسمع وبصر، ولا يقول كيف، ولا يقول مثل سمع، ولا كسمع، فهذا لا يكون تشبيها، وهو كما قال الله تعالى في كتابه لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ. {الشورى: 11}. اهـ. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: التشبيه الممتنع إنما هو مشابهة الخالق للمخلوق في شيء من خصائص المخلوق، أو أن يماثله في شيء من صفات الخالق. فإن الرب تعالى منزه عن أن يوصف بشيء من خصائص المخلوق، أو أن يكون له مماثل في شيء من صفات كماله، وكذلك يمتنع أن يشاركه غيره في شيء من أموره بوجه من الوجوه. اهـ. وقال الهروي في منازل السائرين في بيان درجة معرفة الصفات والنعوت: هي على ثلاثة أركان، أحدها: إثبات الصفة باسمها من غير تشبيه، ونفي التشبيه عنها من غير تعطيل، والإياس من إدراك كنهها وابتغاء تأويلها. اهـ.

ومما قال ابن القيم في شرح ذلك: الله سبحانه ليس كمثله شيء، لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، فالعارفون به المصدقون لرسله المقرون بكماله: يثبتون له الأسماء والصفات، وينفون عنه مشابهة المخلوقات فيجمعون بين الإثبات ونفي التشبيه، وبين التنزيه وعدم التعطيل، فمذهبهم حسنة بين سيئتين، وهدى بين ضلالتين، فصراطهم صراط المنعم عليهم، وصراط غيرهم صراط المغضوب عليهم والضالين. قال الإمام أحمد: لا نزيل عن الله صفة من صفاته لأجل شناعة المشنعين. وقال: التشبيه: أن تقول يد كيدي تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. اهـ. السؤال الرابع: هل الأرض الكروية؟ وهل إثبات دوران الأرض حول نفسها، ثم حول المجموعة الشمسية، والمجموعة الشمسية بأكملها حول المجرة يُخالف صريح الكتاب والسنة؟ بسم الله والحمد لله: قبل الجواب نذكر بقاعدة عظيمة لأهل العلم مُجمع عليها وهي: أن قطعي الوحي وقطعي العقل لا يتعارضان أبداً، فقطعي العقل يؤيد قطعي الوحي، ولذا ألف شيخ الإسلام ابن تيمية كتابه العظيم (درء تعارض العقل والنقل) في (11) مجلداً فإن حدث تعارض بين العقل والنقل فالقطعي منهما يقضي على الظني، وإن حدث تعارض بين ظني الوحي وظني العقل فظني الوحي مقدم، حتى يثبت العقلي أو ينهار وهذا على قول وأما القول الآخر فالمقدم منهما هو الراجح مطلقاً. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في درء التعارض 1/ 80: كل ما قام عليه دليل قطعي سمعي يمتنع أن يعارضه قطعي عقلي، ومثل هذا الغلط يقع فيه كثير من الناس. انتهى وقال شيخ الإسلام رحمه الله في 1/ 88 من نفس المرجع: فما أخبر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم هو ثابت في نفس الأمر، سواء علمنا صدقه أو لم نعلمه. وقال: لا يجوز أن يتعارض دليلان قطعيان لا عقليان ولا سمعيان ولا سمعي ولا عقلي، ولكن قد ظن من لم يفهم حقيقة القولين تعارضهما لعدم فهمه لفساد أحدهما. ولذا .. فلا يمكن أن يحدث تعارض بين حقيقة علمية وخبر شرعي قطعي، وإنما عبرنا بالحقيقة العلمية لتخرج النظرية العلمية والفرضية العلمية، فالنظرية العلمية قابلة للصواب وللخطأ وكذا الفرضية، أما الحقيقة العلمية فلا تقبل التشكيك، وكثير

من الناس يأتي إلى بعض النظريات التي مازالت تحت الدراسة ولم يمط عنها اللثام ويجعل بينها وبين نصوص الوحي إشكالات ومعارضات. وكروية الأرض أمر متفق عليه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى: اعلم أن الأرض قد اتفقوا على أنها كروية الشكل، ثم قال: والأفلاك مستديرة بالكتاب والسنة والإجماع، ثم قال: وأهل الهيئة والحساب متفقون على ذلك. انتهى وأما دوران الأرض حول نفسها، ثم حول المجموعة الشمسية، والمجموعة الشمسية بأكملها حول المجرة، كل ذلك أضحى حقيقة علمية، فدوران الأرض حول نفسها ينتج منه الليل والنهار، ودوران القمر حولها ينتج منه الشهر القمري، ودوران الأرض حول الشمس ينتج عنه الفصول الأربعة، فهل هذه الحقيقة العلمية تعارض نصوص القرآن أم تؤيدها؟ إذا نظرنا إلى قوله تعالى (والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم) [يس:38] وقوله تعالى (وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون) [الأنبياء:33] وقوله تعالى (وسخر الشمس والقمر كل يجري إلى أجل مسمى) [لقمان:29] فهذه الآيات تدل على جريان الشمس والقمر وبقية الأفلاك، أما ما يدعيه بعض الناس من أن القول بدوران الأرض لا يتفق مع القرآن فليس مع أصحاب هذه الدعوى حجة ولا دليل، أما قوله تعالى: (اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَاراً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) [غافر:64] (أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) [النمل:61] (وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) [الأنبياء:31] فهذه الآية تدل على أن الأرض قرار بالنسبة لنا وهذا ما نشعر به، ولكنها في ذاتها تدور وتسبح، ولا تعارض بين هذا وذاك. وكون الأرض تدور لا يفيد أنها تضطرب، فاضطراب الأرض منفي بكتاب الله حيث وصفها بالقرار وثبتها بالجبال الرواسي حتى لا تميد وتضطرب بمن عليها، وخذ على ذلك مثلاً مشاهداً: فالسفينة التي تسير في البحر إن كانت خفيفة لعب بها الموج واضطربت يمنة ويسرة، فإذا وضعت فيها الأثقال امتنعت عن الميلان والاضطراب فثبتت ورسخت مع أنها متحركة. وعلى كل حال الثابت -فعلاً- أن الكون يسبح ويتحرك، هذا ما أثبته العلم، وليس في القرآن ما ينفيه أبداً. فليس في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة ما ينفي حركة الأرض ودورانها

أو يثبت سكونها واستقرارها، وهناك آيات ذكر بعض المفسرين أنها تدل إجمالاً على حركة الأرض ودورانها ... وقد تواترت الأخبار من علماء الفلك المسلمين وغير المسلمين أن الأرض تدور وتتحرك كغيرها من الكواكب المبثوثة في هذا الكون، ومن المعلوم -كما هو مقرر في علم الأصول- أن من الأخبار المقطوع بها خبر التواتر، ولا يشترط فيه أن يكون من المسلمين بل يجوز أن يكون من المسلمين ومن غيرهم، قال الشيخ سيدي عبد الله في المراقي (ألفية الأصول): واقطع بصدق خبر التواتر**** وسو بين مسلم وكافر واللفظ والمعنى، وذاك خبر**** من عادة كذبهم منحظر. فلا تكاد اليوم تطالع كتاباً يتحدث عن هذا الموضوع إلا وجدته يقرر هذه الحقيقة .... وهكذا الأمر بالنسبة لوسائل الإعلام وأحاديث أهل الاختصاص، يقول الدكتور حماد العبيدي في كتابه: الكون من الذرة إلى المجرة (الأرض هي الكوكب السيار الثالث من كواكب المجموعة الشمسية .... وتتميز عن كواكب المجموعة كلها بصلاحيتها للحياة ... ) ثم يقول: تسبح الأرض بنا في الفضاء كأنها سفينة، وسقفها هو غلافها الجوي، وهي مكيفة بالطاقة الشمسية .... وعند سيرها في دورانها حول الشمس تسير مهتزة متمايلة وتبدو وكأنها تتدرج إلى الوراء ذلك أنها تدور ضد عقارب الساعة وبسرعة تزيد عن (23) كم في الثانية فكأنها صاروخ عابر للقارات، ورغم هذه السرعة المدهشة فإننا لا نشعر بشيء منها، لأن قوة جاذبية الأرض وثقل ضغطها الجوي على رؤوسنا يثبتنا على سطحها تثبيتا يجعلنا كأننا جزء من أديمها، وذلك من عجيب صنع الله تعالى. هذه الدورة للأرض حول الشمس هي التي تنتج عنها الفصول الأربعة، وتتم في سنة هي السنة الشمسية التي يجري الحساب بها في سائر الأنشطة والأعمال التي يقوم بها الناس، وهناك دورة ثانية للأرض تتم في نفس الوقت مع دورانها حول الشمس، هذه الدورة هي دورتها حول نفسها من الغرب إلى الشرق في اتجاه عقارب الساعة بسرعة (1609) كم في الساعة وتكملها في أربع وعشرين ساعة وينشأ عنها الليل والنهار. وهذا ما درج عليه علماء التفسير في هذا العصر، حيث يقول الدكتور وهبة الزحيلي في كتابه التفسير المنير: وكل من الشمس والقمر والأرض يسبح ويدور في فلكه في السماء كما يسبح السمك في الماء، فالشمس تسير في مدار نصف قطره (93) مليون ميل، وتتم دورتها في سنة، والقمر يدور حول الأرض كل

شهر في مدار نصف قطره (24) ألف ميل، والأرض تدور حول الشمس في سنة، وحول نفسها في يوم وليلة. وهذا دليل على أن الله سبحانه وتعالى جعل لكل من الشمس والقمر والأرض مدارا مستقلا يدور فيه، فلا يحجب أحدهما ضوء الآخر إلا نادرا حينما يحدث خسوف الشمس أو كسوف القمر، كما قال الله تعالى: وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ. كأنه أخبر أن كل كوكب سيار يدور ... ويقول سيد قطب في تفسيره في ظلال القرآن: ..... إن كون الأرض تدور دورتها هذه حول نفسها أمام الشمس، وكون القمر بهذا الحجم وبهذا البعد من الأرض، وكون الشمس كذلك بهذا الحجم وهذا البعد وهذه الدرجة من الحرارة ... هي تقديرات من (العزيز) ذي السلطان القادر (العليم) ذي العلم الشامل ..... ولولا هذه التقديرات ما انبثقت الحياة من الأرض على هذا النحو، ولما انبثق النبت والشجر من الحب والنوى .... إنه كون مقدر بحساب دقيق .. لا مجال فيه للمصادفة العابرة .... وفي موضع آخر يقول -رحمه الله-: وهذه الأرض تدور دورتها، وتخرج زرعها وتقوت أبناءها وتواري موتاها، وتفجر ينابيعها .... وفق سنة الله تعالى بلا إرادة منها. ويقول في موضع آخر: .... فالأرض الكروية تدور حول نفسها في مواجهة الشمس، فالجزء الذي يواجه الشمس من سطحها المكور يغمره الضوء ويكون نهاراً، ولكن هذا الجزء لا يثبت لأن الأرض تدور، وكلما تحركت بدأ الليل يغمر السطح الذي كان عليه النهار. وهذا السطح مكور، فالنهار كان عليه مكورا، والليل يتبعه مكورا كذلك، وبعد فترة يبدأ النهار من الناحية الأخرى يتكور على الليل، وهكذا في حركة دائبة: يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ. واللفظ يرسم الشكل ويحدد الوضع ويعين نوع طبيعة الأرض وحركتها، وكروية الأرض ودورانها يفسران هذا التعبير أدق من أي تفسير آخر لا يستصحب هذه النظرية .... انتهى. وحركة الأرض ودورانها ليست من الواجب عقلاً أو المستحيل عقلاً بل هي من الجائز، فإذا أثبت أهل الاختصاص من المسلمين وغيرهم هذه الحقيقة ولم يكن في شرعنا ما يخالفها، فإن علينا أن نسلم بذلك ونحن على يقين جازم بأن ثابت الوحي لن يتعارض مع حقيقية علمية ثابتة، فمرد هذه الأمور التي لم يرد نص فيها قطعي

من الوحي إلى أهل الاختصاص من علماء الفلك، فالله سبحانه وتعالى يقول: فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا {الفرقان:59}، ويقول تعالى: فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ {النحل:43}، ومما يجدر وضعه في الاعتبار أن هذه المسألة لا يترتب عليها حكم شرعي ولا ينبني عليها عمل تكليفي، فينبغي أن يكون البحث فيها لأهل الاختصاص من علماء الفلك هذا والله تعالى أعلم. السؤال الخامس: ما تأويل قوله تعالى (خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ)؟ اعلم رحمك الله أن المفسرون اتفقوا على أن السماوات سبع، بعضها فوق بعض، واختلفوا في تفسير الأرضين السبع، فذهب الجمهور إلى أنها كرات كالكرة الأرضية، بعضها فوق بعض، بين كل أرض منها مسافة كما بين السماء والأرض، وأن في كل أرض منها خلق، لا يعلم حقيقتهم إلا الله تعالى. وقيل: إنها سبع أرضين، إلا أنه لم يفتق بعضها من بعض. وقيل: إن الأرض كرة واحدة منقسمة إلى سبعة أقاليم وهذا القول ضعيف جداً. قال القرطبي في تفسيره: ذكر تعالى أن السماوات سبع، ولا خلاف في أنها كذلك، بعضها فوق بعض، كما دلَّ على ذلك حديث الإسراء وغيره، ولم يأتِ للأرض في التنزيل عدد صريح لا يحتمل التأويل إلا قوله تعالى: وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ [الطلاق:12]، وقد اختلف في المثلية؛ هل تكون في العدد واللفظ؟ لأن الكيفية والصفة مختلفة بالمشاهدة والأخبار، والجمهور على أنها سبع أرضين طباقًا، بعضها فوق بعض، بين كل أرض وأرض مسافة كما بين السماء والسماء، وفي كل أرض سكان من خلق الله. وعن الضحاك: أنها سبع أرضين، ولكنها مطبقة بعضها على بعض من غير فتوق بخلاف السموات. قال القرطبي: والأول أصح؛ لأن الأخبار دالّة عليه. ومن هذه الأخبار ما رواه النسائي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لو أن السماوات السبع وعامرهنَّ، والأرضين السبع جعلن في كفةٍ، ولا إله إلا الله في كفة، لمالت بهنَّ لا إله إلاالله. وقال ابن كثير في تفسيره: ومن حمل ذلك على سبعة أقاليم فقد أبعد النجعة، وأغرق في النزع، وخالف القرآن والحديث بلا مستند. أما ما رواه البيهقي في "الأسماء والصفات" (رقم:832) عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ [الطلاق:12] قال:

سبع أرضين في كل أرض نبي كنبيكم، وآدم كآدمكم، ونوح كنوح، وإبراهيم كإبراهيم، وعيسى كعيسى. فقد تكلم فيه أهل العلم. قال البيهقي بعده: هو شاذ بمرة. وقال السيوطي في الحاوي: هذا الكلام من البيهقي في غاية الحسن، فإنه لا يلزم من صحة الإسناد صحة المتن، لاحتمال صحة الإسناد مع أن في المتن شذوذًا أو علة تمنع صحته. وقال ابن كثير في البداية والنهاية: هو محمول - إن صح عن ابن عباس - على أنه أخذه من الإسرائيليات .. وذلك وأمثاله إذا لم يصح سنده إلى معصومٍ فهو مردود على قائله. وقال صديق حسن خان في "أبجد العلوم": وقد وقعت الزلازل والقلاقل لأجل ذلك الأثر لهذا العهد بين أبناء الزمان بما لا يأتي بفائدة، ولا يعود بعائدة .. ثم من استدل بهذا الأثر على إمكان وجود مثله صلى الله عليه وسلم، وكونه داخلاً تحت القدرة الإلهية فقد أطال المسافة، وأبعد النجعة، وأتى بما هو أجنبي عن المقام، وخارج عن النزاع. والله أعلم. السؤال السادس: أين الجنة والنار؟ لا شك أن النار موجودة الآن كما أن الجنة موجودة، وقد دل على ذلك الكتاب والسنة وإجماع أهل العلم. قال الله تعالى عن فرعون وقومه: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) [غافر:46]. ومن الأحاديث في ذلك: - حديث: "أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى عمرو بن لحي في النار" رواه الشيخان. - حديث: "أن الله لما خلق النار قال لجبريل: اذهب فانظر إليها ... الخ الحديث، وقد رواه أبو داود والترمذي وغيرهما. - حديث: "اطلعت على النار فرأيت أكثر أهلها النساء" رواه البخاري ومسلم. والأدلة على ذلك كثيرة، لكن لينبغي أن يُعلم أن نصوص الكتاب والسنة لم تعين تحديد مكان لهما بصريح العبارة، ولهذا قال زروق المالكي في شرح الرسالة عند قوله: وخلق النار فأعدها دار خلود لمن كفر به .. ثم قال: لم يرد نص صريح في مكان الجنة والنار، والأكثر على أن الجنة فوق السماوات السبع وتحت العرش؛ لقول الله تعالى: عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى*عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى. والنار تحت الأرضين السبع. وقال العدوي في حاشيته عند النص المذكور: إن الجنة فوق السماوات السبع وتحت العرش وإنه سقفها، ولم يصح شيء في مكان النار، وقيل إنها تحت الأرضين السبع، وقيل إنها محيطة بالدنيا وإن الجنة بعدها ... انتهى.

وقد قال البغوي في تفسيره: وسئل أنس بن مالك رضي الله عنه عن الجنة: أفي السماء أم في الأرض؟ فقال: وأي أرض وسماء تسع الجنة؟ قيل: فأين هي؟ قال: فوق السماوات السبع تحت العرش. وقال قتادة: كانوا يرون أن الجنة فوق السماوات السبع، وأن جهنم تحت الأرضين السبع. وقال ابن كثير في التفسير: وقد روينا في مسند الإمام أحمد أن هرقل كتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم إنك دعوتني إلى جنة عرضها السماوات والأرض، فأين النار؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سبحان الله فأين الليل إذا جاء النهار؟ ..... وقال الأعمش وسفيان الثوري وشعبة عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب: إن ناساً من اليهود سألوا عمر بن الخطاب عن جنة عرضها السماوات والأرض، فأين النار؟ فقال لهم عمر: أرأيتم إذا جاء النهار أين الليل؟ وإذا جاء الليل أين النهار؟ فقالوا: لقد نزعت مثلها من التوراة. رواه ابن جرير من ثلاث طرق ..... وهذا يحتمل معنيين (أحدهما: أن يكون المعنى في ذلك أنه لا يلزم من عدم مشاهدتنا الليل إذا جاء النهار أن لا يكون في مكان، وإن كنا لا نعلمه، وكذلك النار تكون حيث يشاء الله عز وجل، وهذا أظهر. الثاني: أن يكون المعنى أن النهار إذا تغشى وجه العالم من هذا الجانب، فإن الليل يكون من الجانب الآخر، فكذلك الجنة في أعلى عليين فوق السماوات تحت العرش وعرضها كما قال الله عز وجل كعرض السماوات والأرض، والنار في أسفل سافلين فلا تنافي بين كونها كعرض السماوات والأرض وبين وجود النار. وقد استأنس بعض أهل العلم إلى أن النار تحت الأرضين السبع بقول الله تعالى: كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ {المطففين:7}. وبما في صحيح البخاري وغيره مرفوعا: وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا يهوي بها في جهنم. قال زروق في شرحه المذكور: والحق تفويض ذلك إلى علم العليم الخبير. والله أعلم. السؤال السابع: ما حقيقة القول بأن الشمس في السماء الرابعة؟ القول بأن الشمس في السماء الرابعة هو قول أهل الهيئة القائلين بأن الشمس في السماء الرابعة، قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: والحق أن الشمس في الفلك الرابع، والسموات السبع عند أهل الشرع غير الأفلاك خلافاً لأهل الهيئة. ا. هـ

وقد يستدل على أن الشمس بل وغيرها من النجوم إنما هي في السماء الدنيا بقوله تعالى: إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (الصافات:6)، وبقوله تعالى: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (الملك:5)، وبقوله تعالى: فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (فصلت:12). وقد ذكر هذا الاستدلال ابن كثير في البداية والنهاية فقال: وقال آخرون بل الكواكب كلها في السماء الدنيا، ولا مانع من كون بعضها فوق بعض، وقد يستدل على هذا بقوله تعالى .. وذكر الآيات السابقة. والله أعلم. السؤال الثامن: ما تأويل قوله تعالى (وَسَعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضَ)؟ للعلماء ثلاثة أقوال في معنى الكرسي المذكور في قوله تعالى: وَسَعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضَ [البقرة:255]: - الأول أنه بمعنى علم الله، وهو عن ابن مسعودٍ وابن عباس وسعيد بن جبير وقال به: ابن جرير الطبري، وهو الذي يدل عليه ظاهر القرآن. - الثاني: أنه هو العرش، وهو مروي عن الحسن. - الثالث: أنه موضع القدمين بالنسبة للعرش وهو الراجح، وهو مروي عن أبي موسى والسدي ومسلم البطين وابن عباس. وقد روى ابن جرير بسنده إلى عبد الله بن خليفة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن كرسيه وسع السماوات والأرض، وإنه ليقعد عليه فما يفضل مقدار أربع أصابع، وإن له أطيطًا كأطيط الرحل وقد رواه أيضًا الخطيب والضياء المقدسي وغيرهما، وضعفه طائفة من أهل العلم منهم: ابن الجوزي والإسماعيلي والألباني وغيرهم. السؤال التاسع: ما أول المخلوقات؟ العرش هو أول المخلوقات وهو سابق في الخلق للقلم، وأما حديث عبادة رضي الله عنه: (أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب)، فإن المراد به: إنه عند أول خلقه أُمر بالكتابة وليس المقصود أن القلم هو أول المخلوقات، كقولك: أول ما دخل زيد قيل له: اجلس. أي: أنه عند أول دخوله أُمر بالجلوس. وإن كان بعض المعاصرين من أهل العلم يرجحون أن القلم هو أول المخلوقات على الإطلاق، وهو قول طائفة من أصحاب الأئمة من أهل السنة المتأخرين؛ لكن جماهير السلف وعامتهم

على أن العرش متقدم عليه، ولهذا قال ابن القيم رحمه الله: والناس مختلفون في القلم الذي سبق القضاء به من الديَّان هل كان قبل العرش أو هو بعده قولان عند أبي العلا الهمداني والحق أن العرش قبل لأنه قبل الكتابة كان ذا أركان ثم أراد أن يبين معنى حديث عبادة فقال: وكتابة القلم الشريف تعاقب إيجاده من غير فصل زمان أي: أنه عند أول خلقه أمر بالكتابة. السؤال العاشر: في كم يوم خلق الله عز وجل السماوات والأرض , وأين كان الله عز وجل قبل خلقه للخلق؟ بدايةً لتعلم أخي أن الأصل في المسلم أن يسأل عما يعود عليه بالنفع في الدنيا والآخرة، وقد كره السلف رحمهم الله أن يُسألوا عن أشياء لا تعود عليهم بالنفع. ومن ذلك مثلاً لما سُئل الإمام ابن حجر رحمه الله عن سؤال الملكين في القبر بأي اللغات سيكون؟ أجاب بما حاصله: إن هذا أمر لا يهمك في قليل ولا كثير، ولكن اسأل عمَّا ينجيك من أهوال القبر ... وفيما يتعلق بالسؤال فإن الله تعالى قد أخبرنا أنه خلق الأرض في يومين، وأنه جعل من فوقها الجبال، وقدر فيها الأقوات في يومين آخرين، وأنه خلق السماوات في يومين. قال تعالى: قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ {فصلت:9 - 12}. وورد شيء من التفصيل لوقت خلق هذه المخلوقات في السنة النبوية. فقد أخرج الإمام مسلم من حديث أبي هريرة قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال: خلق الله عز وجل التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الإثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم عليه السلام بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل.

وهذه الأزمنة وهذا الخلق لا يقاس بالمقياس الذي يدبر به الإنسان أموره. فملايين الكواكب وملايين المجرات المحتواة في السماء، لا تحتاج من الله إلى عناء أو وقت. فالله تعالى قادر على أن يخلق كل المخلوقات في أقل من لحظة. قال جل وعلا: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ {يس:82}. ولكنه أراد ما أراده لحكم بالغة، قد لا يدركها سائر الناس، وعلى المسلم أن يسلم بكل ما أخبر الله به، ويعتقد قدرة الله على كل شيء. وأما عن السؤال الثاني فالله عز وجل قبل أن يخلق مخلوقاته كان في عماء، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فقد روى أحمد والترمذي وابن ماجه عن أبي رزين قال: قلت: يا رسول الله! أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه؟ قال: كان في عماء ما تحته هواء وما فوقه هواء، ثم خلق عرشه على الماء. السؤال الحادي عشر: ما هو العرش وما هو الكرسي؟ قد دل الكتاب والسنة وإجماع السلف على أن العرش حق، وأن الله تعالى مستو عليه، وأنه أعلى المخلوقات وسقفها، وأنه مقبب وله قوائم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: والكرسي فوق الأفلاك كلها، والعرش فوق الكرسي، ونسبة الأفلاك وما فيها بالنسبة إلى الكرسي كحلقة في فلاة، والحملة بالنسبة إلى العرش كحلقة في فلاة، وأما العرش فإنه مقبب لما روي في السنن لأبي داود عن جبير بن مطعم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابي فقال يا رسول الله: جهدت الأنفس وجاع العيال .. وذكر الحديث، إلى أن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله على عرشه، وإن عرشه على سماواته، وأرضه هكذا، وقال بأصبعه مثل القبة. اهـ. وقال في شرح الطحاوية: والعرش في اللغة عبارة عن السرير الذي للملك، كما قال تعالى عن بلقيس: وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ. وليس هو فلكا ولا تفهم منه العرب ذلك، والقرآن إنما أنزل بلغة العرب، فهو سرير ذو قوائم تحمله الملائكة، وهو كالقبة على العالم، وهو سقف المخلوقات. اهـ. واعلم رحمك الله أن عرش الرحمن وهو أعظم مخلوق خلقه الله، فقد روى ابن حبان وصححه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا أبا ذر: ما السماوات السبع مع الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على الحلقة. قال الحافظ ابن حجر في الفتح: وله شاهد عن مجاهد أخرجه سعيد بن منصور في التفسير بسند صحيح عنه. وهناك من أوَّل العرش

بأنه الملك، وهذا الحديث يرد هذا التأويل ويبطله، وكذلك يبطله قوله تعالى: وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ {الحاقة:17}. قال صلى الله عليه وسلم {إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه وسط الجنة وأعلاها وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة}. وأما الكرسي في قوله تعالى: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ {البقرة:255}، فقيل: هو العرش ذاته، وقيل: هو علم الله، وقيل: هو موضع القدمين من العرش , وأنه بين يدي العرش كالمرقاة إليه، فهو غير العرش، وهذا القول هو الأقرب والراجح , والله تعالى أعلم. السؤال الثاني عشر: هل العرش كالقبة على العالم أم كالفلك المستدير؟ لا شك أن العرش هو أعلى المخلوقات وسقفها ولكن اختُلف في صفة العرش فقيل: أن العرش فلك مستدير محيط بالعالم من كل جهة، وربما سموه: الفلك الأطلس، والفلك التاسع , وهذا مذهب طائفة من أهل الكلام، وقيل هذا ليس براجح؛ لأنه على حد تعبير ابن تيمية رحمه الله قد ثبت في الشرع أن له قوائم تحمله الملائكة، كما قال صلى الله عليه وسلم: {فإن الناس يصعقون، فأكون أول من يفيق، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور}. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: والكرسي فوق الأفلاك كلها، والعرش فوق الكرسي، ونسبة الأفلاك وما فيها بالنسبة إلى الكرسي كحلقة في فلاة، والحملة بالنسبة إلى العرش كحلقة في فلاة، وأما العرش فإنه مقبب لما روي في السنن لأبي داود عن جبير بن مطعم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابي فقال يا رسول الله: جهدت الأنفس وجاع العيال .. وذكر الحديث، إلى أن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله على عرشه، وإن عرشه على سماواته، وأرضه هكذا، وقال بأصبعه مثل القبة. اهـ. وقال شارح الطحاوية ابن أبي العز: والعرش في اللغة عبارة عن السرير الذي للملك، كما قال تعالى عن بلقيس: وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ. وليس هو فلكا ولا تفهم منه العرب ذلك، والقرآن إنما أنزل بلغة العرب، فهو سرير ذو قوائم تحمله الملائكة، وهو كالقبة على العالم، وهو سقف المخلوقات. اهـ. ومن شعر أمية بن أبي الصلت:

مجدوا الله فهو للمجد أهل ... ربنا في السماء أمسى كبيرا بالبناء العالي الذي بهر النَّاس ... وسوَّى فوق السماءِ سريرا شرجعاً لا يناله بصر العين ... ترى حوله الملائك صورا الصور هنا جمع أصور , وهو المائل العنق لنظره إلى العلو. والشرجع هو العالي المنيف , والسرير: هو العرش في اللغة. ومن شعر عبدالله بن رواحة رضي الله عنه , الذي عرَض به عن القراءة لامرأته حين اتهمته بجاريته: شهدت بأن وعد الله حق ... وأن النار مثوى الكافرينا وأن العرش فوق الماء ... طاف وفوق العرش رب العالمينا وتحمله ملائكة شداد ... ملائكة الإله مسوَّمينا ذكره ابن عبدالبر وغيره من الأئمة. قال ابن كثير: العرش على الصحيح الذي تقوم عليه الأدلة قبة مما يلي العالم من هذا الوجه، وليس بمحيط كسائر الأفلاك؛ لأنه له قوائم وحملة يحملونه. ولا يتصور هذا في الفلك المستدير، وهذا واضح لمن تدبر ما وردت به الآيات والأحاديث الصحيحة، ولله الحمد والمنة اهـ. وذكر العيني في شرح أبي داود نحو ذلك ثم قال: وبهذا بطل كلام من يقول: إنه فلك مستدير في جميع جوانبه، محيط بالعالم من كل جهة، وهو الفلك التاسع، والفلك الأطلس، والأثير اهـ. وقال القاسمي في (محاسن التأويل): هذا ـ يعني الوصف بالمقبب ـ لا يدل على أنه فلك من الأفلاك، ولا مستدير مثل ذلك، لكن لفظ (القبة) يستلزم استدارة من العلوّ، لا من جميع الجوانب، إلا بدليل منفصل. ولفظ (الفلك) يستدل به على الاستدارة مطلقا، كما قال ابن عباس في كُلٌّ فِي فَلَكٍ [الأنبياء: 33]: في فلكة مثل فلكة المغزل وأما لفظ (القبة) فإنه لا يتعرض لهذا المعنى، لا ينفي ولا إثبات، لكن يدل على الاستدارة من العلوّ اهـ.

وعلى كل تقدير فالعرش فوق سواء كان محيطاً بالأفلاك أو غير ذلك ; فيجب أن يُعلم أن العالم العلوي والسفلي بالنسبة إلى الخالق - سبحانه وتعالى - في غاية الصغر ; لقوله تعالى {وما قدروا الله حق قدره} الآية. وليعلم المسلم بأن السكوت عن الكلام في العرش وأنه كالقبة أو فلك مستدير محيط بالكائنات خير من الخوض في ذلك، والجدل وكثرة الحديث فيه، فإن الخوض في ذلك والتعمق فيه من شره الفكر، واستشراف العقل إلى إدراك أمر غيبي لا يُعلم إلا بالتوقف، فينبغي الوقوف عند النقل وخاصة أن الحديث الذي في السنن والذي أورده ابن تيمية إسناده ضعيف وعلى فرض صحته فهو لا يدل على أن العرش كالقبة فوق السماوات من جانب واحد، فإن السماوات محيطة بالأرض، ومع ذلك فهي كالقبة بالنسبة لكل جماعة على سطح الأرض من الجهة التي تليهم إلا أن هذه المذهب هو ظاهر كلام أهل السنة المتأخرين وهو الأرجح لأن العرش ثبت أن له قوائم بالأدلة الصحيحة وأن الملائكة تطوف من حوله - علماً بأن متقدموا أهل السنة لم يُفصحوا بتفصيل في ذلك في أن العرش هو كالقبة فوق العالم، أو أنه ليس مستديراً من كل جهة فلذلك فليسعنا ما وسعهم. وهنا تنبيه مهم: يجب أن يعلم المسلم أن استواء الله على العرش ليس لحاجته إليه، ولا لكون العرش حاملاً له، فإن السماء فوق الأرض ومحيطة بها، ولم يلزم أن تكون السماء في قيامها وتماسكها محتاجة إلى الأرض، ولا أن تكون الأرض حاملة لها، فالله مستو على عرشه، وهو مستغن عنه وعما فيه من الكائنات، وهو فوق عباده حقيقة، محيط بهم إحاطة تليق بجلاله لا كإحاطة الفلك بما فيه من الكائنات، والجميع قائم بحوله وقوته ابتداء ودواما، محفوظ بعنايته ورعايته، جلت قدرته، وتعالت عظمته علوا كبيرا، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) وقال: (وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ). وقال: (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا) وقال: (أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) وقال: (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ). السؤال الثالث عشر: هل إثبات كروية الأرض يستلزم القول بنفي علو وفوقية الله عز وجل على خلقه؟

الإجابة الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد: هذه الشبهة التي يوردها الجهمية على مسألة الاستواء وحاصلها أنه كيف يكون الرب تعالى فوقنا والأرض كروية كما هو معلوم، فإن هذه الشبهة الداحضة قد فندها شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ في مواضع، ونحن ننقل من كلامه ما يناسب المقام، قال رحمه الله: وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّ الْمَخْلُوقَاتِ كَالْكُرَةِ وَهَذَا قَبْضُهُ لَهَا وَرَمْيُهُ بِهَا وَإِنَّمَا بَيَّنَ لَنَا مِنْ عَظَمَتِهِ وَصْفَ الْمَخْلُوقَاتِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ مَا يُعْقَلُ نَظِيرُهُ مِنَّا، ثُمَّ الَّذِي فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ يُبَيِّنُ أَنَّهُ إنْ شَاءَ قَبَضَهَا وَفَعَلَ بِهَا مَا ذَكَرَ كَمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَقْبِضَهَا وَيَدْحُوَهَا كَالْكُرَةِ وَفِي ذَلِكَ مِنْ الْإِحَاطَةِ بِهَا مَا لَا يَخْفَى، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ، وَبِكُلِّ حَالٍ فَهُوَ مُبَايِنٌ لَهَا لَيْسَ بمحايث لَهَا، وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْوَاحِدَ مِنَّا ـ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى ـ إذَا كَانَ عِنْدَهُ خَرْدَلَةٌ إنْ شَاءَ قَبَضَهَا فَأَحَاطَتْ بِهَا قَبْضَتُهُ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَقْبِضْهَا بَلْ جَعَلَهَا تَحْتَهُ فَهُوَ فِي الْحَالَتَيْنِ مُبَايِنٌ لَهَا وَسَوَاءٌ قُدِّرَ أَنَّ الْعَرْشَ هُوَ مُحِيطٌ بِالْمَخْلُوقَاتِ كَإِحَاطَةِ الْكُرَةِ بِمَا فِيهَا أَوْ قِيلَ إنَّهُ فَوْقَهَا وَلَيْسَ مُحِيطًا بِهَا، كَوَجْهِ الْأَرْضِ الَّذِي نَحْنُ عَلَيْهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى جَوْفِهَا وَكَالْقُبَّةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا تَحْتَهَا أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ يَكُونُ الْعَرْشُ فَوْقَ الْمَخْلُوقَاتِ وَالْخَالِقُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَوْقَهُ وَالْعَبْدُ فِي تَوَجُّهِهِ إلَى اللَّهِ يَقْصِدُ الْعُلُوَّ دُونَ التَّحْتِ وَتَمَامُ هَذَا بأَنْ نَقُولَ: لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ الْعَرْشُ كُرَوِيًّا كَالْأَفْلَاكِ وَيَكُونُ مُحِيطًا بِهَا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فَوْقَهَا وَلَيْسَ هُوَ كُرَوِيًّا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَمِنْ الْمَعْلُومِ بِاتِّفَاقِ مَنْ يَعْلَمُ هَذَا أَنَّ الْأَفْلَاكَ مُسْتَدِيرَةٌ كُرَوِيَّةُ الشَّكْلِ وَأَنَّ الْجِهَةَ الْعُلْيَا هِيَ جِهَةُ الْمُحِيطِ وَهِيَ الْمُحَدَّبُ وَأَنَّ الْجِهَةَ السُّفْلَى هُوَ الْمَرْكَزُ وَلَيْسَ لِلْأَفْلَاكِ إلَّا جِهَتَانِ الْعُلُوُّ وَالسُّفْلُ فَقَطْ، وَأَمَّا الْجِهَاتُ السِّتُّ فَهِيَ لِلْحَيَوَانِ فَإِنَّ لَهُ سِتَّ جَوَانِبَ يَؤُمُّ جِهَةً فَتَكُونُ أَمَامَهُ وَيُخْلِفُ أُخْرَى فَتَكُونُ خَلْفَهُ وَجِهَةٌ تُحَاذِي يَمِينَهُ وَجِهَةٌ تُحَاذِي شِمَالَهُ وَجِهَةٌ تُحَاذِي رَأْسَهُ، وَجِهَةٌ تُحَاذِي رِجْلَيْهِ وَلَيْسَ لِهَذِهِ الْجِهَاتِ السِّتِّ فِي نَفْسِهَا صِفَةٌ لَازِمَةٌ، بَلْ هِيَ بِحَسَبِ النِّسْبَةِ وَالْإِضَافَةِ فَيَكُونُ يَمِينُ هَذَا مَا يَكُونُ شِمَالُ هَذَا وَيَكُونُ أَمَامَ هَذَا مَا يَكُونُ خَلْفَ هَذَا وَيَكُونُ فَوْقَ هَذَا مَا يَكُونُ تَحْتَ هَذَا، لَكِنَّ جِهَةَ الْعُلُوِّ وَالسُّفْلِ لِلْأَفْلَاكِ لَا تَتَغَيَّرُ فَالْمُحِيطُ هُوَ الْعُلُوُّ وَالْمَرْكَزُ هُوَ السفل ... وكل أحد فهو على ظهر الأرض وليس مَنْ فِي هَذِهِ الْجِهَةِ تَحْتَ مَنْ فِي هَذِهِ الْجِهَةِ وَلَا مَنْ فِي هَذِهِ تَحْتَ مَنْ فِي هَذِهِ كَمَا أَنَّ الْأَفْلَاكَ مُحِيطَةٌ بِالْمَرْكَزِ وَلَيْسَ أَحَدُ جَانِبَيْ الْفَلَكِ تَحْتَ الْآخَرِ وَلَا الْقُطْبُ الشمالي تحت الجنوبي ولا بالعكس .. مَنْ يَكُونُ عَلَى الْأَرْضِ مِنْ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ وَالْأَثْقَالِ لَا يُقَالُ إنَّهُ تَحْتَ أُولَئِكَ وَإِنَّمَا هَذَا خَيَالٌ يَتَخَيَّلُهُ الْإِنْسَانُ وَهُوَ تَحْتَ إضَافِيٍّ، كَمَا لَوْ كَانَتْ

نَمْلَةٌ تَمْشِي تَحْتَ سَقْفٍ فَالسَّقْفُ فَوْقَهَا وَإِنْ كَانَتْ رِجْلَاهَا تُحَاذِيه، وَكَذَلِكَ مَنْ عُلِّقَ مَنْكُوسًا فَإِنَّهُ تَحْتَ السَّمَاءِ وَإِنْ كَانَتْ رِجْلَاهُ تَلِي السَّمَاءَ وَكَذَلِكَ يَتَوَهَّمُ الْإِنْسَانُ إذَا كَانَ فِي أَحَدِ جَانِبَيْ الْأَرْضِ أَوْ الْفَلَكِ أَنَّ الْجَانِبَ الْآخَرَ تَحْتَهُ وَهَذَا أَمْرٌ لَا يَتَنَازَعُ فِيهِ اثْنَانِ مِمَّنْ يَقُولُ إنَّ الْأَفْلَاكَ مُسْتَدِيرَةٌ، وَكُلُّ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّ الْأَفْلَاكَ مُسْتَدِيرَةٌ يَعْلَمُ أَنَّ الْمُحِيطَ هُوَ الْعَالِي عَلَى الْمَرْكَزِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ وَمَنْ تَوَهَّمَ أَنَّ مَنْ يَكُونُ فِي الْفَلَكِ مِنْ نَاحِيَةٍ يَكُونُ تَحْتَهُ مَنْ فِي الْفَلَكِ مِنْ النَّاحِيَةِ الْأُخْرَى فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَهُوَ مُتَوَهِّمٌ عِنْدَهُمْ ... وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّ الْعَرْشَ مُسْتَدِيرٌ مُحِيطٌ بِالْمَخْلُوقَاتِ كَانَ هُوَ أَعْلَاهَا وَسَقْفَهَا ـ وَهُوَ فَوْقَهَا ـ مُطْلَقًا فَلَا يَتَوَجَّهُ إلَيْهِ وَإِلَى مَا فَوْقَهُ الْإِنْسَانُ إلَّا مِنْ الْعُلُوِّ لَا مِنْ جِهَاتِهِ الْبَاقِيَةِ أَصْلًا، وَاَللَّهُ تَعَالَى مُحِيطٌ بِالْمَخْلُوقَاتِ كُلِّهَا إحَاطَةً تَلِيقُ بِجَلَالِهِ، فَإِنَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعَ وَالْأَرْضَ فِي يَدِهِ أَصْغَرُ مِنْ الْحِمَّصَةِ فِي يَدِ أَحَدِنَا، وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: إذَا كَانَ كُرَوِيًّا وَاَللَّهُ مِنْ وَرَائِهِ مُحِيطٌ بِهِ بَائِنٌ عَنْهُ فَمَا فَائِدَةُ: أَنَّ الْعَبْدَ يَتَوَجَّهُ إلَى اللَّهِ حِينَ دُعَائِهِ وَعِبَادَتِهِ؟ فَيَقْصِدُ الْعُلُوَّ دُونَ التَّحْتِ فَلَا فَرْقَ حِينَئِذٍ وَقْتَ الدُّعَاءِ بَيْنَ قَصْدِ جِهَةِ الْعُلُوِّ وَغَيْرِهَا مِنْ الْجِهَاتِ الَّتِي تُحِيطُ بِالدَّاعِي وَمَعَ هَذَا نَجِدُ فِي قُلُوبِنَا قَصْدًا يَطْلُبُ الْعُلُوَّ لَا يَلْتَفِتُ يَمْنَةً وَلَا يَسْرَةً فَأَخْبِرُونَا عَنْ هَذِهِ الضَّرُورَةِ الَّتِي نَجِدُهَا فِي قُلُوبِنَا وَقَدْ فُطِرْنَا عَلَيْهَا، فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا السُّؤَالُ إنَّمَا وَرَدَ لِتَوَهُّمِ الْمُتَوَهِّمِ أَنَّ نِصْفَ الْفَلَكِ يَكُونُ تَحْتَ الْأَرْضِ وَتَحْتَ مَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مِنْ الْآدَمِيِّينَ وَالْبَهَائِمِ وَهَذَا غَلَطٌ عَظِيمٌ، فَلَوْ كَانَ الْفَلَكُ تَحْتَ الْأَرْضِ مِنْ جِهَةٍ لَكَانَ تَحْتَهَا مِنْ كُلِّ جِهَةٍ فَكَانَ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْفَلَكُ تَحْتَ الْأَرْضِ مُطْلَقًا وَهَذَا قَلْبٌ لِلْحَقَائِقِ، إذْ الْفَلَكُ هُوَ فَوْقَ الْأَرْضِ مُطْلَقًا .. انتهى محل الغرض من كلام الشيخ بتصرف. وإن شئت البحث بتمامه فا نظره في مجموع الفتاوى. وشيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ يرجح أن العرش ليس مستديراً مطلقاً، بل يرجح أنه مقبب، قال ـ رحمه الله ـ ما عبارته: وَأَمَّا الْعَرْشُ: فَإِنَّهُ مُقَبَّبٌ، لِمَا رُوِيَ فِي السُّنَنِ لِأَبِي دَاوُد عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ: أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ جَهَدَتْ الْأَنْفُسُ وَجَاعَ الْعِيَالُ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ إلَى أَنْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنَّ اللَّهَ عَلَى عَرْشِهِ وَإِنَّ عَرْشَهُ عَلَى سَمَوَاتِهِ وَأَرْضِهِ كَهَكَذَا ـ وَقَالَ بِأُصْبُعِهِ مِثْلَ الْقُبَّةِ، وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ فَلَكٌ مُسْتَدِيرٌ مُطْلَقًا، بَلْ ثَبَتَ أَنَّهُ فَوْقَ الْأَفْلَاكِ وَأَنَّ لَهُ قَوَائِمَ: كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ لُطِمَ وَجْهُهُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِك لَطَمَ وَجْهِي، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اُدْعُوهُ فَدَعَوْهُ فَقَالَ: لِمَ لَطَمْت وَجْهَهُ؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي مَرَرْت بِالسُّوقِ وَهُوَ يَقُولُ: وَاَلَّذِي

اصْطَفَى مُوسَى عَلَى الْبَشَرِ، فَقُلْت: يَا خَبِيثُ وَعَلَى مُحَمَّدٍ فَأَخَذَتْنِي غَضْبَةٌ فَلَطَمْته، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تُخَيِّرُوا بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِنَّ النَّاسَ يُصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ، فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى آخِذٌ بِقَائِمَةٍ مِنْ قَوَائِمِ الْعَرْشِ فَلَا أَدْرِي أَفَاقَ قَبْلِي أَمْ جُوزِيَ بِصَعْقَةِ الطُّورِ ـ وَفِي: عُلُوِّهِ ـ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إذَا سَأَلْتُمْ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ فَإِنَّهُ وَسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَاهَا وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ ـ فَقَدْ تَبَيَّنَ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ أَنَّهُ أَعْلَى الْمَخْلُوقَاتِ وَسَقْفُهَا وَأَنَّهُ مُقَبَّبٌ وَأَنَّ لَهُ قَوَائِمَ وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَهُوَ فَوْقُ سَوَاءٌ كَانَ مُحِيطًا بِالْأَفْلَاكِ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، فَيَجِبُ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الْعَالَمَ الْعُلْوِيَّ وَالسُّفْلِيَّ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي غَايَةِ الصِّغَرِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ـ الْآيَةَ. انتهى. وقد فصل الكلام على ذلك ـ أيضا ـ في درء التعارض ـ خلال رده على الرازي وبيان تقرير العلو بالأدلة العقلية وكذلك في بيان تلبيس الجهمية. قال الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ: أن الله سبحانه منح عباده فطرة فطرهم عليها لا تقبل سوى الحق ولا تؤثر عليه غيره، ومن أبين ما شهدت به الفطر والعقول والشرائع: علوه سبحانه فوق جميع العالم، ثم قال: وأما تقرير ذلك بالأدلة العقلية الصريحة فمن طرق كثيرة جدا، منها: أنه إذا ثبت بضرورة العقل أنه سبحانه مباين للمخلوقات، وثبت أن العالم كري ـ كما اعترف به النفاة المعطلة وجعلوه عمدتهم في جحد علوه سبحانه ـ لزم أن يكون الرب تعالى في العلو ضرورة، وذلك لأن العالم إذا كان مستديرا فله جهتان حقيقيتان: العلو والسفل فقط. هـ. ومراده ـ رحمه الله ـ إثبات فوقية الله تعالى وعلوه على خلقه وليس مراده أن إحاطة الله تعالى بخلقة تستلزم نسبته لجميع الجهات فلينتُبه لذلك، فإنه لا يصح أن يُنسب الله تعالى إلا إلى جهة العلو المطلق، بل لا يصح أصلا أن في خارج العالم جهات إلا جهتان فقط: العلو والسفل، كما ذكر ابن القيم نفسه في آخر كلامه الذي نقلناه قبل قليل. وقد قال شيخ الإسلام في أول الرسالة العرشية وهي من أفضل ما كتب في بيان هذا الموضوع: الله تعالى محيط بالمخلوقات كلها إحاطة تليق بجلاله، فإن السموات السبع والأرض في يده أصغر من الحمصة في يد أحدنا. هـ. وقال في آخرها: فقد ظهر أنه ـ على كل تقدير ـ لا يجوز أن يكون التوجه إلى الله إلا إلى العلو مع كونه على عرشه مباينا لخلقه ـ وسواء قدر مع ذلك أنه محيط بالمخلوقات كما يحيط بها إذا كانت في قبضته، أو قدر مع ذلك أنه فوقها من غير أن يقبضها ويحيط بها ـ فهو على التقديرين يكون فوقها مباينا لها، فقد

تبين أنه على هذا التقدير في الخالق وعلى هذا التقدير في العرش لا يلزم شيء من المحذور والتناقض، وهذا يزيل كل شبهة، وإنما تنشأ الشبهة في اعتقادين فاسدين: أحدهما: أن يظن أن العرش إذا كان كريا والله فوقه وجب أن يكون الله كريا، ثم يعتقد أنه إذا كان كريا فيصح التوجه إلى ما هو كري ـ كالفلك التاسع ـ من جميع الجهات، وكل من هذين الاعتقادين خطأ وضلال، فإن الله مع كونه فوق العرش ومع القول بأن العرش كري ـ سواء كان هو التاسع أو غيره ـ لا يجوز أن يظن أنه مشابه للأفلاك في أشكالها، كما لا يجوز أن يظن أنه مشابه لها في أقدارها ولا في صفاتها ـ سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا ـ بل قد تبين أنه أعظم وأكبر من أن تكون المخلوقات عنده بمنزلة داخل الفلك في الفلك، وإنها عنده أصغر من الحمصة والفلفلة ونحو ذلك في يد أحدنا، فإذا كانت الحمصة أو الفلفلة، بل الدرهم والدينار أو الكرة التي يلعب بها الصبيان ونحو ذلك في يد الإنسان أو تحته أو نحو ذلك، هل يتصور عاقل إذا استشعر علو الإنسان على ذلك وإحاطته به أن يكون الإنسان كالفلك؟ والله ـ ولله المثل الأعلى ـ أعظم من أن يظن ذلك به، وإنما يظنه الذين: وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون}. وكذلك اعتقادهم الثاني: وهو أن ما كان فلكا فإنه يصح التوجه إليه من الجهات الست خطأ باتفاق أهل العقل الذين يعلمون الهيئة، وأهل العقل الذين يعلمون أن القصد الجازم يوجب فعل المقصود بحسب الإمكان، فقد تبين أن كل واحد من المقدمتين خطأ في العقل والشرع، وأنه لا يجوز أن تتوجه القلوب إليه إلا إلى العلو لا إلى غيره من الجهات على كل تقدير يفرض من التقديرات ـ سواء كان العرش هو الفلك التاسع أو غيره، سواء كان محيطا بالفلك كري الشكل أو كان فوقه من غير أن يكون كريا سواء كان الخالق - سبحانه - محيطا بالمخلوقات كما يحيط بها في قبضته، أو كان فوقها من جهة العلو منا التي تلي رءوسنا دون الجهة الأخرى، فعلى أي تقدير فرض كان كل من مقدمتي السؤال باطلة وكان الله تعالى إذا دعوناه إنما ندعوه بقصد العلو دون غيره، كما فطرنا على ذلك. هـ. وقال ابن القيم في الصواعق المرسلة: إنه إذا كان سبحانه مباينا للعالم فإما أن يكون محيطا به أو لا يكون محيطا به، فإن كان محيطا به لزم علوه عليه ـ قطعاً ـ ضرورة علو المحيط على المحاط به، ولهذا لما كانت السماء محيطة بالأرض كانت عالية عليها، ولما كان الكرسي محيطا بالسماوات كان عاليا عليها، ولما كان العرش محيطا بالكرسي كان عاليا، فما كان محيطا بجميع ذلك كان عاليا عليه

ضرورة ولا يستلزم ذلك محايثته لشيء مما هو محيط به ولا مماثلته ومشابهته له، فإذا كانت السماء محيطة بالأرض وليست مماثلة لها، فالتفاوت الذي بين العالم ورب العالم أعظم من التفاوت الذي بين الأرض والسماء، وإن لم يكن محيطا بالعالم بأن لا يكون العالم كريا، بل تكون السماوات كالسقف المستوي، فهذا وإن كان خلاف الإجماع وخلاف ما دل عليه العقل والحس فلو قال به قائل لزم ـ أيضا ـ أن يكون الرب تعالى عاليا على العالم، لأنه إذا كان مباينا وقدر أنه غير محيط، فالمباينة تقتضي ضرورة أن يكون في العلو أو في جهة غيره، ومن المعلوم بالضرورة أن العلو أشرف بالذات من سائر الجهات، فوجب ضرورة اختصاص الرب بأشرف الأمرين ... انتهى. فهذا عن تحرير القول في دفع هذه الشبهة، فإن علو الله على جميع خلقه واستواءه على عرشه ثابت كتاباً وسنة وإجماعاً من السلف ـ رحمهم الله ـ ولكن من الثابت أيضاً بالكتاب والسنة والإجماع أنه لا يعلم كيفية هذه الصفة وغيرها من الصفات إلا الله تعالى، فمن تعرض للخوض في كيفية الصفة فقد أتى بدعة في الدين كما قال الإمام مالك ـ رحمه الله ـ في السؤال عن الاستواء: والسؤال عنه بدعة. فالواجب علينا أن نؤمن بما وصف الله به نفسه من غير تكييف ولا تمثيل، بل نعتقد أن كل ما دار بخلد إنسان في كيفية صفة الرب تعالى فالله تعالى منزه عنه، فإنه لا يعلم كيف الله إلا الله تعالى، وكذا لا يعلم كيف صفاته إلا هو سبحانه، فمن خاض في كيفية صفات الرب فقد تعاطى ما لا علم له به وما لا سبيل إلى العلم به وقال على الله بغير علم، وهذا من أكبر الكبائر، قال تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ {الأعراف:33}. فلنقف حيث وقف السلف ـ رحمهم الله ـ الذين هم أعلم بالله تعالى منا مثبتين لله ما أثبته لنفسه نافين عنه ما نفاه عن نفسه منزهين له عن مماثلة المخلوقين عالمين أنه لا سبيل إلى معرفة كيفية صفاته تعالى، قال العلامة الأمين الشنقيطي ـ رحمه الله: فَلَوْ قَالَ مُتَنَطِّعٌ: بَيِّنُوا لَنَا كَيْفِيَّةَ الِاتِّصَافِ بِصِفَةِ الِاسْتِوَاءِ وَالْيَدِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ لِنَعْقِلَهَا، قُلْنَا: أَعَرَفْتَ كَيْفِيَّةَ الذَّاتِ الْمُقَدَّسَةِ الْمُتَّصِفَةِ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ؟ فَلَا بُدَّ أَنْ يَقُولَ: لَا، فَنَقُولُ: مَعْرِفَةُ كَيْفِيَّةِ الِاتِّصَافِ بِالصِّفَاتِ مُتَوَقِّفَةٌ عَلَى مَعْرِفَةِ كَيْفِيَّةِ الذَّاتِ، فَسُبْحَانَ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ غَيْرُهُ أَنْ يُحْصِيَ الثَّنَاءَ عَلَيْهِ هُوَ، كَمَا أَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا {20 110} لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ

{112 1 - 4} فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ [16 74] فَتَحَصَّلَ مِنْ جَمِيعِ هَذَا الْبَحْثِ أَنَّ الصِّفَاتِ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ، وَأَنَّ الْحَقَّ فِيهَا مُتَرَكِّبٌ مِنْ أَمْرَيْنِ: الْأَوَّلُ: تَنْزِيهُ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا عَنْ مُشَابَهَةِ الْخَلْقِ، وَالثَّانِي: الْإِيمَانُ بِكُلِّ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، أَوْ وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِثْبَاتًا، أَوْ نَفْيًا، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، وَالسَّلَفُ الصَّالِحُ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ـ مَا كَانُوا يَشُكُّونَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا كَانَ يَشْكُلُ عَلَيْهِمْ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ الْفَرَزْدَقِ وَهُوَ شَاعِرٌ فَقَطْ، وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْعِلْمِ، فَهُوَ عَامِّيٌّ: وَكَيْفَ أَخَافُ النَّاسَ وَاللَّهُ قَابِضٌ ... عَلَى النَّاسِ وَالسَّبْعَيْنِ فِي رَاحَةِ الْيَدِ ـ وَمُرَادُهُ بِالسَّبْعَيْنِ: سَبْعُ سَمَاوَاتٍ وَسَبْعُ أَرْضِينَ، فَمَنْ عَلِمَ مِثْلَ هَذَا مِنْ كَوْنِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِينَ فِي يَدِهِ جَلَّ وَعَلَا أَصْغَرَ مِنْ حَبَّةِ خَرْدَلٍ، فَإِنَّهُ عَالِمٌ بِعَظَمَةِ اللَّهِ وَجَلَالِهِ لَا يَسْبِقُ إِلَى ذِهْنِهِ مُشَابَهَةُ صِفَاتِهِ لِصِفَاتِ الْخَلْقِ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ زَالَ عَنْهُ كَثِيرٌ مِنَ الْإِشْكَالَاتِ الَّتِي أَشْكَلَتْ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ تَنْزِيهِ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ، وَالْإِيمَانِ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، أَوْ وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هُوَ مَعْنَى قَوْلِ الْإِمَامِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: الِاسْتِوَاءُ غَيْرُ مَجْهُولٍ، وَالْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ، وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ ـ وَيُرْوَى نَحْوُ قَوْلِ مَالِكٍ هَذَا عَنْ شَيْخِهِ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَأُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا. انتهى. فالزم هذه الجادة تنج وتفلح، فليتبصر اللبيب أين يضع قدمه في هذه المسائل العظيمة ولينته حيث انتهى السلف الكرام رحمهم الله ورضي عنهم. السؤال الرابع عشر: عندي بعض الشبهات في باب العقيدة أرجو أن تكشفوها مأجورين, وهي أن الله عز وجل فوق خلقه وهو عال عليهم، ومن المعلوم بأن الأرض كروية، فإذا كان الله عز وجل فوقنا فهل الله عز وجل في ذات الوقت يكون تحتنا وهو منزه عن النقص ولكن تحتنا باعتبار أنه أيضاً فوق من يقابلنا من الجهة الأخرى من العالم؟ وهل الله عز وجل محيط بخلقة كالسماوات للأرض بدليل قول النبي عليه الصلاة والسلام: (وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء). فإذا كان تفسير الظاهر بمعنى الفوقية فهل يكون معنى الباطن أنه تحتنا أيضاً باعتبار المقابلة في المعنى وهو محيط بنا بذاته كإحاطة السماوات لنا؟ أفتونا مأجورين. الإجابة الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فالواجب على المسلم أن يعتقد أن الله تعالى فوق خلقه مستو على عرشه، وعرشه فوق سماواته، وأنه بائن من خلقه جل وعلا، فهو العلي الأعلى، فوق جميع مخلوقاته سبحانه وتعالى وتقدس. وهذا ما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، وإجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أهل القرون المفضلة. قال الله تعالى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى {الأعلى:1}، وقال الله تعالى: يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ {النحل:50}. وأما الأرض فهي حبة في فلاة بالنسبة لملكوت الله تعالى وهو سبحانه فوق ذلك كله، وله الفوقية المطلقة. فلا وجه لذلك الإشكال ولا يقبل بحال. والله تعالى لا يُقارن بمخلوقاته، فهو فوقها جميعاً، وفوقيته ليست كفوقية الأشياء فيما بينها، وقد أثبتها لنفسه وإذا كان ذهن الإنسان أضعف من أن يدرك هذه الفوقية، ولا يمكن أن يتصورها في المخلوقات التي بين يديه، فليعلم أن الله على كل شيء قدير، وليُسلِّم بما أخبر الله به، ويترك الخوض فيما لا يستطيع الوصول إلى كُنهه. وأما عن مسألة الإحاطة فالله تعالى بكل شيء محيط كما هو منصوص في القرآن، وقد أحاط بخلقه علماً وقدرة، وليس معنى ذلك أنه تحتهم وفوقهم. ففي تفسير القرطبي: قال الخطابي: هو الذي أحاطت قدرته بجميع خلقه، وهو الذي أحاط بكل شيء علما، وأحصى كل شيء عددا ... اهـ وفي تفسير ابن جزي: بكل شيء محيط أي بعلمه وقدرته وسلطانه. اهـ. وأما عن معنى الظاهر والباطن فقد فسر معنى الاسمين حديث أبو هريرة رضي الله عنه وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: (وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء) رواه مسلم. فالظاهر فسره بالظهور بمعنى العلو، والله تعالى عال على كل شيء، وفسره بعضهم بالظهور، بمعنى البروز: فهو الذي ظهر للعقول بحججه وبراهين وجوده وأدلة وحدانيته فهو الظاهر بالدلائل الدالة عليه، وأفعاله المؤدية إلى العلم به ومعرفته فهو ظاهر مدرك بالعقول والدلائل، وأما الباطن فمعناه القريب؛ كما في صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم كان يدعو عند النوم: اللهم رب السماوات السبع ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء فالق الحب والنوى ومنزل التوراة والإنجيل والفرقان، أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته، أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك

شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عنا الدين وأغننا من الفقر. فمعنى الباطن هنا أي القريب من خلقه المحيط بهم علما، فهو يعلم السر وأخفى. قال سبحانه: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ. [الواقعة:85]. وقال تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ. [قّ:16]. وقيل في معنى الباطن: هو المحتجب عن خلقه عن أبصارهم وأوهامهم، وقيل: هو العالم بما يبطن، يقال: بطنت الأمر إذا عرفت باطنه. وانظر تفسير ابن عطية وشرح السندي على ابن ماجه. ولا يسوغ وصف الله بأنه تحتنا مقابلة للباطن بالظاهر، لأن السفول نقص هو منزه عنه، والله تعالى وصف بالعلو دون السفول، فإنه سبحانه العلي الأعلى لا يكون قط إلا عاليا. فقد قال ابن القيم في الصواعق المرسلة: قد ثبت بصريح العقل أن الأمرين المتقابلين إذا كان أحدهما صفة كمال والآخر صفة نقص فإن الله سبحانه يوصف بالكمال منهما دون النقص، ولهذا لما تقابل الموت والحياة وصف بالحياة دون الموت، ولما تقابل العلم والجهل وصف بالعلم دون الجهل، وكذلك العجز والقدرة والكلام والخرس والبصر والعمى والسمع والصمم، والغنى والفقر. ولما تقابلت المباينة للعالم والمداخلة له وصف بالمباينة دون المداخلة، وإذا كانت المباينة تستلزم علوه على العالم أو سفوله عنه وتقابل العلو والسفول وصف بالعلو دون السفول، وإذا كان مباينا للعالم كان من لوازم مباينته أن يكون فوق العالم، ولما كان العلو صفة كمال كان ذلك من لوازم ذاته فلا يكون مع وجود العالم إلا عاليا عليه ضرورة، ولا يكون سبحانه إلا فوق المخلوقات كلها. 000اهـ وقال في طريق الهجرتين في كلامه على الباطن: وباب هذه المعرفة والتعبد هو معرفة إحاطة الرب سبحانه بالعالم وعظمته وأن العوالم كلها في قبضته، وأن السموات السبع والأرضين السبع في يده كخردلة في يد العبد. قال تعالى: وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس. وقال: والله من ورآئهم محيط. ولهذا يقرن سبحانه بين هذين الاسمين الدالين على هذين المعنيين اسم العلو الدال على أنه الظاهر وأنه لا شيء فوقه، واسم العظمة الدال على الإحاطة وأنه لا شيء دونه كما قال تعالى: وهو العلي العظيم. وقال تعالى: وهو العلي الكبير. وقال: ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم. وهو تبارك وتعالى كما أنه العالي على خلقه بذاته فليس فوقه شيء، فهو الباطن بذاته فليس دونه شيء بل ظهر على كل

شيء فكان فوقه، وبطن فكان أقرب إلى كل شيء من نفسه، وهو محيط به حيث لا يحيط الشيء بنفسه، وكل شيء في قبضته وليس شيء في قبضة نفسه ... اهـ السؤال الخامس عشر: هل يأثم المُنكر لأحاديث الصفات أو المتأول لها تأولاً غير شرعي؟ من كان مجتهداً في إصابة الحق باذلاً وسعه فهو مأجور على نيته في طلب الحق وأما خطأه فنرجو أن يسامحه الله إن لم يكن حقق في آيات وأحاديث الصفات، وأما إن كان على علم بها وأنكرها تعصبا وعنادا فهو على خطر عظيم، فقد قال الذهبي في الرد على ابن خزيمة في تكفيره المطلق لمن لم يثبت الصفات: من أقر بذلك تصديقا لكتاب الله ولأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وآمن به مفوضا معناه إلى الله ورسوله ولم يخض في التأويل ولا عمق فهو المسلم المتبع، ومن أنكر ذلك فلم يدر بثبوت ذلك في الكتاب والسنة فهو مقصر، والله يعفو عنه إذ لم يوجب الله على كل مسلم حفظ ما ورد في ذلك، ومن أنكر ذلك بعد العلم وقفا غير سبيل السلف الصالح وتمعقل على النص فأمره إلى الله نعوذ بالله من الضلال والهوى. اهـ الموقف من الأخبار الثابتة في صفات الله والتي تُخالف في ظاهرها تنزيه الله عز وجل والمعلوم من الدين بالضرورة: في هذا الباب هنالك طرفان ووسط هناك طائفة ردت هذه الأحاديث وهنالك طائفة قبلت هذه الأحاديث لكن دون فهمها على الوجه الصحيح , والتحقيق: أن كلام رسوله حق وليس أحد أعلم بالله من رسوله ولا أنصح للأمة منه ولا أفصح ولا أحسن بياناً منه فإذا كان كذلك كان المتحذلق والمنكر عليه من أضل الناس ; وأجهلهم وأسوئهم أدبا بل يجب تأديبه وتعزيره ويجب أن يصان كلام رسول صلى الله عليه وسلم عن الظنون الباطلة ; والاعتقادات الفاسدة وللتنبيه ينبغي أن يعلم المسلم أنه لا يكون ما وصف الله به نفسه بمنزلة ما يوصف به الواحد منا فإن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله , فالعقل والشرع لا يقول: إن الخالق كالمخلوق، حتى يكون ما جعله حسنًا لهذا أو قبيحًا له جعله حسنًا للآخر أو قبيحًا له، كما يفعل مثل ذلك القدرية؛ لما بين الرب والعبد من الفروق الكثيرة.

وختاماً نسأل الله عز وجل أن ينفع بهذه الرسالة قارئها ومؤلفها وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين, وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. تنبيه: أعتذر لكل الأخوة القراء لعدم الدقة في عزو المعلومات المسطرة في هذه الرسالة إلى مصادرها والسبب في ذلك أن أصل هذه الرسالة كان ملخصاً شخصياً ولم أكن أنوي وقتها نشرها بين الناس وبالتالي لم أهتم بمصادر المعلومات ولكن لمَا كثرت المادة لدي ارتأيت نشرها لتعم الفائدة للجميع , فجزى الله كل من ساهم في هذه الرسالة مساهمة مباشرة أو غير مباشرة كالذين نقلت عنهم ولم أذكر أسماءهم للسبب المذكور أعلاه وجعلها في موازين حسناتهم. لإبداء الملاحظات والاقتراحات فيرجى التواصل على البريد الإليكتروني: [email protected] أخوكم أبو فيصل البدراني. قائمة ببعض مراجع هذه الرسالة - تطريز رياض الصالحين للمؤلف: فيصل بن عبد العزيز آل مبارك رحمه الله. - دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين لابن علان الصديقى. - غذاء الألباب شرح منظومة الآداب للسفاريني. - الآداب الشرعية للمؤلف: عبد الله بن محمد بن مفلح المقدسي رحمه الله. - أصول الفقه للمؤلف: عياض بن نامي السلمي وسعد بن ناصر الشثري حفظهم الله. - الأصول من علم الأصول للمؤلف: محمد بن صالح العثيمين رحمه الله. - الواضح في أصول الفقه للمؤلف: محمد الأشقر حفظه الله. - رسالة في القواعد الفقهية للمؤلف: عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله. - عالم الجن والشياطين للمؤلف: عمر بن سليمان الأشقر حفظه الله. - عالم الملائكة الأبرار للمؤلف: عمر بن سليمان الأشقر حفظه الله. - الأسباب التي يعتصم بها العبد من الشيطان للمؤلف: عبد الله جار الله بن إبراهيم الجار الله رحمه الله. - فتاوى سليمان الماجد حفظه الله.

- فتاوى ابن باز رحمه الله. - مجموع فتاوى ابن تيمية رحمه الله. - فتاوى ابن عثيمين رحمه الله. - فتاوى اللجنة الدائمة. - مركز الفتوى من موقع إسلام ويب. - سلسلة أعمال ومفسدات القلوب القلوب للمؤلف: محمد بن صالح المنجد حفظه الله. - متن الطحاوية. - الغلو في الدين وأثره في الأمة للمؤلف: خالد بن محمد الخريف حفظه الله. - حقيقة الغلو في الدين للمؤلف: علي بن عبد العزيز بن علي الشبل حفظه الله. - الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد للمؤلف: صالح بن فوزان الفوزان حفظه الله. - مقاصد المكلفين فيما يُتعبد به لرب العالمين للمؤلف: عمر بن سليمان الأشقر حفظه الله. - قاعدة جامعة في توحيد الله وإخلاص الوجه والعمل له عبادة واستعانة للمؤلف: شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية رحمه الله. - إحياء علوم الدين للمؤلف أبي حامد الغزالي رحمه الله. - القدر للمؤلف: أبي عبد الله مصطفى العدوي حفظه الله. - القضاء والقدر للمؤلف: عمر بن سليمان الأشقر حفظه الله. - ما هو القضاء والقدر؟ للمؤلف: محمد بن محمود عجاج حفظه الله. - القضاء والقدر حقٌ وعدل للمؤلف: هشام بن عبدالرزاق الحمصي حفظه الله. - فتاوى تتعلق بالقضاء والقدر لأصحاب الفضيلة العلماء (محمد بن إبراهيم آل الشيخ _ عبد العزيز بن عبد الله بن باز_ محمد بن صالح العثيمين _ عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين_ صالح بن فوزان الفوزان _ اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء) جمع وترتيب: دخيل الله بن بخيت المطرفي. - الإيمان بالقضاء والقدر للمؤلف: محمد بن إبراهيم الحمد حفظه الله. - مكفرات الذنوب للمؤلف ابن تيمية رحمه الله. - التوبة إلى الله للمؤلف: صالح بن غانم السدلان حفظه الله. - التوبة للمؤلف: ابن تيمية رحمه الله. - أريد أن أتوب ولكن للمؤلف: محمد بن صالح المنجد حفظه الله. - العلاج من الوساوس في ضوء الكتاب والسنة للمؤلف: ابن عثيمين رحمه الله.

- الوسوسة الداء والدواء للمؤلف: عبد الله بن سليمان العتيق حفظه الله. - التوكل على الله تأليف: أسماء بن راشد الرويشد حفظها الله. - التوكل على الله وأثره في حياة المسلم للمؤلف: عبد الله بن جار الله آل جار الله رحمه الله. - فقه العبادات للمؤلف: محمد بن صالح العثيمين رحمه الله. - الانترنت وبعض المصادر الأخرى التي لم يتيسر لي استحضارها. الفهرس العنوان الصفحة مقدمة 1 المعلم الأول: عوارض الأهلية وشروط التكليف وموانعه 2 المعلم الثاني: مصير الناس بعد الموت ومنازلهم عند ربهم ... ومراتب أعمالهم وأحوالهم 5 المعلم الثالث: الشيطان وموقفنا منه 8 المعلم الرابع: التوبة 15 المعلم الخامس: الغلو 24 المعلم السادس: المشقة والحرج 27 المعلم السابع: التقليد والافتاء 30 المعلم الثامن: مالا يسع جهله من بعض أصول الفقه وقواعده 33 المعلم التاسع: فقه القلوب 37 المعلم العاشر: الإلهام والرؤيا والكرامات 41

المعلم الحادي عشر: الاخلاص 43 المعلم الثاني عشر: الخوف 44 المعلم الثالث عشر: المحبة 46 المعلم الرابع عشر: القضاء والقدر 49 المعلم الخامس عشر: التوكل 60 شبهات وإشكالات وتساؤلات في باب التوكل والقدر 65 المعلم السادس عشر: مالا يسع العابد والناسك جهله 80 تساؤلات وإشكالات في باب العقيدة 94 الفهرس 131

§1/1