معالم السنن

الخطابي

مقدمة المصنف بسم الله الرحمن الرحيم قال الشيخ الإمام أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم الخطابي رحمه الله تعالى: الحمد لله الذي هدانا لدينه، وأكرمنا بسنة نبيه، وجعلنا من العاملين بها، والمتبعين لها، والمتفقهين فيها، ونسأله أن ينفعنا بما علمنا منها، وأن يرزقنا العمل بها، والنصيحة للمسلمين فيها، وأداء الحق في إرشاد متعلميها، وإفادة طلابها ومقتبسيها، وأن يصلي أولاً وآخراً على عبده ورسوله، وخيرته من خلقه، سابق الأنبياء شرفاً وفضيلة، وسابقهم ديناً وشريعة، ليكون دينه قاضياً على الأديان، وملته باقية آخر الزمان، لا يستولي عليها نسخ، ولا يتعقب حكمه حكم، وليظهره على الدين كله ولو كره المشركون. أما بعد: فقد فهمت مساءلتكم إخواني أكرمكم الله، وما طلبتموه من تفسير كتاب السنن لأبي داود سليمان بن الأشعث، وإيضاح ما يُشكل من متون ألفاظه، وشرح ما يستغلق من معانيه، وبيان وجوه أحكامه، والدلالة على مواضع الانتزاع والاستنباط من أحاديثه، والكشف عن معاني الفقه المنطوية في ضمنها لتستفيدوا إلى ظاهر الرواية لها باطن العلم والدراية بها، وقد رأيت الذي ندبتموني له وسألتمونيه من ذلك أمراً لا يسعني تركه كما لا يسعكم جهله، ولا يجوز لي كتمانه كما لا يجوز لكم إغفاله وإهماله فقد عاد الدين غريباً كما بدأ وعاد هذا الشأن دارسة أعلامه خاوية أطلاله وأصبحت رباعه مهجورة ومسالك طرقه مجهولة.

ورأيت أهل العلم في زماننا قد حصلوا حزبين وانقسموا إلى فرقتين أصحاب حديث وأثر، وأهل فقه ونظر، وكل واحدة منهما لا تتميز عن أختها في الحاجة ولا تستغني عنها في درك ما تنحوه من البغية والإرادة، لأن الحديث بمنزلة الأساس الذي هو الأصل، والفقه بمنزلة البناء الذي هو له كالفرع، وكل بناء لم يوضع على قاعدة وأساس فهو منهار، وكل أساس خلا عن بناء وعمارة فهو قفر وخراب. ووجدت هذين الفريقين على ما بينهم من التداني في المحلين والتقارب في المنزلتين وعموم الحاجة من بعضهم إلى بعض وشمول الفاقة اللازمة لكل منهم إلى صاحبه إخواناً متهاجرين وعلى سبيل الحق بلزوم التناصر والتعاون غير متظاهرين. فأما هذه الطبقة الذين هم أهل الأثر والحديث فإن الأكثرين منهم إنمّا وكدهم الروايات وجمع الطرق وطلب الغريب والشاذ من الحديث الذي أكثره موضوع أو مقلوب لا يراعون المتون ولا يتفهمون المعاني ولا يستنبطون سيرها ولا يستخرجون ركازها وفقهها وربما عابوا الفقهاء وتناولوهم بالطعن وادعوا عليهم مخالفة السنن ولا يعلمون أنهم عن مبلغ ما أوتوه من العلم قاصرون وبسوء القول فيهم آثمون. وأما الطبقة الأخرى وهم أهل الفقه والنظر فإن أكثرهم لا يعرجون من الحديث إلاّ على أقله ولا يكادون يميزون صحيحه من سقيمه، ولا يعرفون جيده من رديئه ولا يعبؤون بما بلغهم منه أن يحتجوا به على خصومهم إذا وافق مذاهبهم التي ينتحلونها ووافق آراءهم التي يعتقدونها وقد اصطلحوا على مواضعة بينهم في قبول الخبر الضعيف والحديث المنقطع إذا كان ذلك قد اشتهر عندهم

وتعاورته الألسن فيما بينهم من غير ثبت فيه أو يقين علم به، فكان ذلك ضلة من الرأي وغبناً فيه وهؤلاء وفقنا الله وإياهم لو حكي لهم عن واحد من رؤساء مذاهبهم وزعماء نحلهم قول يقوله باجتهاد من قبل نفسه طلبوا فيه الثقة واستبرؤوا له العهدة. فتجد أصحاب مالك لا يعتمدون من مذهبه إلاّ ما كان من رواية ابن القاسم والأشهب وضربائهم من تلاد أصحابه فإذا وجدت رواية عبد الله بن عبد الحكم وأضرابه لم تكن عندهم طائلاً. وترى أصحاب أبي حنيفة لا يقبلون من الرواية عنه إلاّ ما حكاه أبو يوسف ومحمد بن الحسن والعلية من أصحابه والأجلة من تلامذته فإن جاءهم عن الحسن بن زياد اللؤلؤي وذويه رواية قول بخلافه لم يقبلوه ولم يعتمدوه. وكذلك تجد أصحاب الشافعي إنما يعولون في مذهبه على رواية المزني والربيع بن سليمان المرادي فإذا جاءت رواية حرملة والجيزي وأمثالهما لم يلتفتوا إليها ولم يعتدوا بها في أقاويله. وعلى هذا عادة كل فرقة من العلماء في أحكام مذاهب أئمتهم وأستاذيهم. فإذا كان هذا دأبهم وكانوا لا يقنعون في أمر هذه الفروع وروايتها عن هؤلاء الشيوخ إلاّ بالوثيقة والثبت فكيف يجوز لهم أن يتساهلوا في الأمر الأهم والخطب الأعظم وأن يتواكلوا الرواية والنقل عن إمام الأئمة ورسول رب العزة، الواجب حكمه اللازمة طاعته، الذي يجب علينا التسليم لحكمه والانقياد لأمره من حيث لا نجد في أنفسنا حرجاً مما قضاه ولا في صدورنا

غلاً من شيء مما أبرمه وأمضاه. أرأيتم إذا كان للرجل أن يتساهل في أمر نفسه ويتسامح عن غرمائه في حقه فيأخذ منهم الزيف ويغضي لهم عن العيب هل يجوز له أن يفعل ذلك في حق غيره إذا كان نائباً عنه كولي الضعيف ووصي اليتيم ووكيل الغائب وهل يكون ذلك منه إذا فعله إلا خيانة للعهد وإخفاراً للذمة فهذا هو ذاك إما عيان حس وإما عيان مثل ولكن أقواماً عساهم استوعروا طريق الحق واستطالوا المدة في درك الحظ وأحبوا عجالة النيل فاختصروا طريق العلم واقتصروا على نتف وحروف منتزعة عن معاني أصول الفقه سموها عللاً وجعلوها شعاراً لأنفسهم في الترسم برسم العلم واتخذوها جُنّة عند لقاء خصومهم ونصبوها دريئة!!! للخوض والجدال يتناظرون بها ويتلاطمون عليها، وعند التصادر عنها قد حكم للغالب بالحذق والتبريز فهو الفقيه المذكور في عصره والرئيس المعظم في بلده ومصره هذا وقد دسّ لهم الشيطان حيلة لطيفة وبلغ منهم مكيدة بليغة. فقال لهم هذا الذي في أيديكم علم قصير وبضاعة مزجاة لا تفي بمبلغ الحاجة والكفاية فاستعينوا عليه بالكلام وصلوه بمقطعات منه واستظهروا بأصول المتكلمين يتسع لكم مذهب الخوض ومجال النظر، فصدق عليهم ظنه وأطاعه كثير منهم واتبعوه إلاّ فريقاً من المؤمنين. فيا للرجال والعقول أنّى يذهب بهم وأنّى يختدعهم الشيطان عن حظهم وموضع رشدهم والله المستعان. وقد انتهيت أكرمكم الله إلى ما دعوتم إليه بجهدي وأتيت من مسألتكم بقدر ما تيسرت له ورجوت أن يكون الفقيه إذا ما نظر إلى ما أثبته في هذا الكتاب من معاني الحديث ونهجت من طرق الفقه المتشعبة عنه دعاه ذلك إلى طلب

الحديث وتتبع علمه وإذا تأمله صاحب الحديث رغبه في الفقه وتعلمه والله الموفق له وإليه أرغب في أن يجعل ذلك لوجهه وأن يعصمني من الزلل فيه برحمته. واعلموا رحمكم الله أن كتاب السنن لأبي داود كتاب شريف لم يصنف في علم الدين كتاب مثله وقد رزق القبول من الناس كافة فصار حكما بين فرق العلماء وطبقات الفقهاء على اختلاف مذاهبهم فلكل فيه ورد ومنه شرب وعليه معول أهل العراق وأهل مصر وبلاد المغرب، وكثير من مدن أقطار الأرض. فأما أهل خراسان فقد أولع أكثرهم بكتاب محمد بن إسماعيل ومسلم بن الحجاج ومن نحا نحوهما في جمع الصحيح على شرطهما في السبك والانتقاد إلاّ أن كتاب أبي داود أحسن رصفا وأكثر فقها وكتاب أبي عيسى أيضاً كتاب حسن والله يغفر لجماعتهم ويحسن على جميل النية فيما سعوا له مثوبتهم برحمته. ثم اعلموا أن الحديث عند أهله على ثلاثة أقسام حديث صحيح وحديث حسن وحديث سقيم. فالصحيح عندهم ما اتصل سنده وعدلت نقلته والحسن منه ما عرف مخرجه واشتهر رجاله وعليه مدار أكثر الحديث وهو الذي يقبله أكثر العلماء ويستعمله عامة الفقهاء وكتاب أبي داود جامع لهذين النوعين من الحديث فأما السقيم منه فعلى طبقات شرها الموضوع ثم المقلوب أعني ما قلب إسناده ثم المجهول وكتاب أبي داود خلي منها بريء من جملة وجوهها فإن وقع فيه شيء من بعض أقسامها لضرب من الحاجة تدعوه إلى ذكره فإنه لا يألو أن يبين أمره ويذكر علته ويخرج من عهدته. وحكي لنا، عَن أبي داود أنه قال ما ذكرت في كتابي حديثا اجتمع الناس على تركه.

وكان تصنيف علماء الحديث قبل زمان أبي داود الجوامع والمسانيد ونحوهما فتجمع تلك الكتب إلى ما فيها من السنن والأحكام أخبارا وقصصا ومواعظ وآداباً. فأما السنن المحضة فلم يقصد واحد منهم جمعها واستيفاءها ولم يقدر على تخليصها واختصار مواضعها من أثناء تلك الأحاديث الطويلة ومن أدلة سياقها على حسب ما اتفق لأبي داود ولذلك حل هذا الكتاب عند أئمة الحديث وعلماء الأثر محل العجب فضربت فيه أكباد الإبل ودامت إليه الرحل. أخبرني أبو عمر محمد بن عبد الواحد الزاهد صاحب أبي العباس أحمد بن يحيى قال قال إبراهيم الحربي لما صنف أبو داود هذا الكتاب ألين لأبي داود الحديث كما ألين لداود الحديد. وحدثني عبد الله بن محمد المسكي قال حدثني أبو بكر بن جابر خادم أبي داود قال كنت معه ببغداد فصلينا المغرب إذ قرع الباب ففتحته فإذا خادم يقول هذا الأمير أبو أحمد الموفق يستأذن فدخلت إلى أبي داود فأخبرته بمكانه فأذن له فدخل وقعد ثم أقبل عليه أبو داود وقال ما جاء بالأمير في مثل هذا الوقت فقال خلال ثلاث فقال وما هي قال تنتقل إلى البصرة فتتخذها وطناً ليرحل إليك طلبة العلم من أقطار الأرض فتعمر بك فإنها قد خربت وانقطع عنها الناس لما جرى عليها من محنة الزنج، فقال هذه واحدة هات الثانية قال وتروي لأولادي كتاب السنن. فقال نعم هات الثالثة قال وتفرد لهم مجلساً للرواية فإن أولاد الخلفاء لا يقعدون مع العامة فقال أما هذه فلا سبيل إليها لأن الناس شريفهم ووضيعهم في العلم سواء. قال ابن جابر فكانوا يحضرون بعد ذلك ويقعدون في كم حيري ويضرب

بينهم وبين الناس ستر فيسمعون مع العامة. وسمعت ابن الأعرابي يقول ونحن نسمع منه هذا الكتاب فأشار إلى النسخة وهي بين يديه لو أن رجلاً لم يكن عنده من العلم إلاّ المصنف الذي فيه كتاب الله ثم هذا الكتاب لم يحتج معهما إلى شيء من العلم بتة. قال أبو سليمان: وهذا كما قال لا شك فيه لأن الله تعالى أنزل كتابه تبياناً لكل شيء وقال {ما فرطنا في الكتاب من شيء} [الأنعام: 38] فأخبر سبحانه أنه لم يغادر شيئا من أمر الدين لم يتضمن بيانه الكتاب إلاّ أن البيان على ضربين بيان جلي تناول الذكر نصا وبيان خفي اشتمل عليه معنى التلاوة ضمناً فما كان من هذا الضرب كان تفصيل بيانه موكولا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو معنى قوله سبحانه: {لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} [النحل: 44] فمن جمع بين الكتاب والسنة فقد استوفى وجهي البيان، وقد جمع أبو داود في كتابه هذا من الحديث في أصول العلم وأمهات السنن وأحكام الفقه ما لا نعلم متقدما سبقه إليه ولا متأخرا لحقه فيه وقد كتبت لكم فيما أمليت من تفسيرها وأوضحته من وجوهها ومعانيها وذكر أقاويل العلماء واختلافهم فيها علما جما فكونوا به سعداء نفعنا الله تعالى وإياكم برحمته.

كتاب الطهارة

كتاب الطهارة من باب التخلي عند قضاء الحاجة أخبرنا أبو الحسن على بن الحسن أنا أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم نا أبو بكر بن داسة نا أبو داود حدثنا مُسدد حدثنا عيسى بن يونس حدثنا إسماعيل بن عبد الملك عن الزبير عن جابر بن عبد الله «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد البراز انطلق حتى لا يراه أحد» . البراز بالباء المفتوحة اسم للفضاء الواسع من الأرض كنوا به عن حاجة الإنسان كما كنوا بالخلاء عنه يقال تبرز الرجل إذا تغوط وهو أن يخرج إلى البراز كما يقال تخلى إذا صار إلى الخلا وأكثر الرواة يقولون البراز بكسر الباء وهو غلط وإنما البراز مصدر بارزت الرجل في الحرب مبارزة وبرازاً. وفيه من الأدب استحباب التباعد عند الحاجة عن حضرة الناس إذا كان في براح من الأرض. ويدخل في معناه الاستتار بالأبنية وضرب الحجب وإرخاء الستور وإعماق الآبار والحفائر في نحو ذلك في الأمور الساترة للعورات. ومن باب الرجل يتبوأ لبوله قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد حدثنا أبو التيَّاح قال حدثني شيخٌ أن عبد الله بن عباس كتب إلى أبي موسى يسأل عن أشياء فكتب إليه أبو موسى أني كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأراد أن يبول

ومن باب ما يقول إذا دخل الخلاء

فأتى دَمِثاً في أصل جدار فبال ثم قال: «إذا أراد أحدكم أن يبول فليرتَدْ لِبَوله» . الدمث المكان السهل الذي يُخد فيه البول فلا يرتد على البائل. يُقال للرجل إذا وُصف باللين والسهولة أنه لدمث الخلق وفيه دماثة. وقوله فليرتد أي ليطلب وليتحر، ومنه المثل إن الرائد لا يكذب أهله، وهو الرجل يبعثه القوم يطلب لهم الماء والكلأ، يقال رادهم يرودهم رياداً وارتاد لهم ارتياداً. وفيه دليل على أن المستحب للبائل إذا كانت الأرض التي يريد القعود عليها صلبة أن يأخذ حجراً أو عوداً فيعالجها به ويثير ترابها ليصير دمثاً سهلاً فلا يرتد بوله عليه. قلت: ويشبه أن يكون الجدار الذي قعد إليه النبي صلى الله عليه وسلم جداراً عادياً غير مملوك لأحد من الناس فإن البول يضر بأصل البناء ويوهي أساسه وهو عليه السلام لا يفعل ذلك في ملك أحد إلاّ بإذنه، أو يكون قعوده متراخياً عن جذمه!!! فلا يصيبه البول فيضر به. ومن باب ما يقول إذا دخل الخلاء قال أبو داود: حدثنا عمرو هو ابن مرزوق البصري حدثنا شعبة عن قتادة عن النَّضر بن أنس عن زيد بن أرقم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ هذه الحُشُوش محتَضرَةٌ فإذا أتى أحدكم الخلاء فليقل أعوذ بالله من الخُبُثِ والخَبائِث» . الحشوش الكنف وأصل الحش جماعة النخل الكثيفة وكانوا يقضون حوائجهم إليها قبل أن يتخذوا الكنف في البيوت وفيه لغتان حَش وحُش. ومعنى محتضرة أي تحضرها الشياطين وتنتابها. والخُبث بضم الباء جماعة الخبيث، والخبائث جمع الخبيثة يريد ذكران الشياطين وإناثهم، وعامة أصحاب الحديث يقولون الخبث

ومن باب كراهة استقبال القبلة عند الحاجة

ساكنة الباء وهو غلط والصواب الخبُث مضمومة الباء، وقال ابن الأعرابي أصل الخبث في كلام العرب المكروه فإن كان من الكلام فهو الشتم وإن كان من المِلل فهو الكفر، وإن كان من الطعام فهو الحرام، وإن كان من الشراب فهو الضار. ومن باب كراهة استقبال القبلة عند الحاجة قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن إبراهيم عن عبد الرحمن بن يزيد عن سليمان، قال: قيل: «لقد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة، قال أجل لقد نهانا أن نستقبل القِبلَة بغائط أو بول وأن نستنجي باليمين وأن يستنجي أحدنا بأقلَّ من ثلاثة أحجار أو يستنجي برجيعٍ أو عظمٍ» . الخِراءة مكسورة الخاء ممدودة الألف أدب التخلي والقعود عند الحاجة، وأكثر الرواة يفتحون الخاء ولا يمدون الألف فيفحش معناه. ونهيه عن الاستنجاء باليمين في قول أكثر العلماء نهي تأديب وتنزيه وذلك أن اليمين مرصدة في أدب السنة للأكل والشرب والأخذ والإعطاء ومصونة عن مباشرة السفل والمغابن وعن مماسة الأعضاء التي هي مجاري الأثفال والنجاسات. وامتهنت اليسرى في خدمة أسافل البدن لإماطة ما هنالك من القذارات وتنظيف ما يحدث فيها من الدنس والشعث. وقال بعض أهل الظاهر إذا استنجى بيمينه لم يجزه كما لا يجزيه إذا استنجى برجيع أو عظم واحتج بأن النهي قد اشتمل على الأمرين معاً في حديث واحد فإذا كان أحد فصليه على التحريم كان الفصل الآخر كذلك.

قلت والفرق بين الأمرين أن الرجيع نجس وإذا لاقى نجاسة لم يزلها بل يزيدها نجاسة وليس كالحجر الطاهر الذي يتناول الأذى فيزيله عن موضعه ويقطعه عن أصله، وأما اليمين فليست هي المباشرة لموضع الحدث وإنما هي آلة يتناول بها الحجر الملاقي للنجاسة، والشمال في هذا المعنى كاليمين إذ كل واحدة منهما تعمل مثل عمل الأخرى في الإمساك بالحجر واستعماله فيما هنالك، والرجيع النجس لا يعمل عمل الحجر الطاهر ولا ينظف تنظيفه، فصار نهيه عن الاستنجاء باليمين نهي تأديب وعن الرجيع نهي تحريم، والمعاني هي المصرفة للأسماء والمرتبة لها. وحاصل المعنى أن المزيل للنجاسة الرجيع لا اليد، وفي قوله وأن يستنجي أحدنا بأقل من ثلاثة أحجار بيان أن الاستنجاء بالأحجار أحد الطهرين وأنه إذا لم يستعمل الماء لم يكن بد من الحجارة أو ما يقوم مقامها وهو قول سفيان الثوري ومالك بن أنس والشافعي وأحمد بن حنبل، وفي قوله أن يستنجي أحدنا بأقل من ثلاثة أحجار البيان الواضح أن الاقتصار على أقل من ثلاثة أحجار لا يجوز وإن وقع الإنقاء بما دونها. ولو كان القصد به الإنقاء حسب لم يكن لاشتراط عدد الثلاث معنى ولا في ترك الاقتصار على ما دونها فائدة إذ كان معلوماً أن الإنقاء قد يقع بالمسحة الواحدة وبالمسحتين فلمّا اشترط العدد لفظاً وكان الإنقاء من معقول الخبر ضمناً دل على أنه إيجاب للأمرين معاً، وليس هذا كالماء إذا أنقى كفى لأن الماء يزيل العين والأثر فحل محل الحس والعيان ولم يحتج فيه إلى استظهار بالعدد، والحجر لا يزيل الأثر وإنمّا يفيد الطهارة من طريق الاجتهاد،

فصار العدد من شرطه استظهاراً كالعدة بالأقراء لما كانت دلالتها من جهة الظهور والغلبة على سبيل الاجتهاد شرط فيها العدد وإن كانت براءة الرحم قد تكون بالقرء الواحد. ألا ترى أن الأمة تستبرأ بحيضة واحدة فتكفي. فأمّا وضع الحمل الذي دلالته من باب اليقين والإحاطة فإنه لم يحتج فيه إلى شيء من العدد، فكذلك الماء والحجارة في معانيها. وعند أصحاب الرأي أن الإنقاء إذا وقع بالحجر الواحد كفى غير أن مرجع جملة قولهم في ذلك إلى أنه استحباب لا إيجاب، وعلى هذا تأولوا الحديث، وذلك أنهم يقولون إن كانت النجاسة هناك أكثر من قدر الدرهم فإنه لا يطهره إلاّ الماء وإن كان بقدر الدرهم فلم يزله بالحجارة أو بما يقوم مقامها وصلى أجزأه. فجاء من هذا أنه إذا أمر بالاستنجاء فإن ذلك منه على سبيل الاستحباب دون الإيجاب. قلت ولا ينكر على مذهبهم أن يكون المراد بالاستنجاء الإنقاء ويدخله مع ذلك التعبد بزيادة العدد، وقد قالوا في غسل النجاسات بإيجاب الثلاث، فإن لم تزل فإن الزيادة عليها واجبة حتى يقع الإنقاء، وقد أجاز الشافعي ثلاث امتساحات بحروف الحجر الواحد وأقامها مقام ثلاثة أحجار. ومذهبه في تأويل الخبر أن معنى الحجر أوفى من اسمه وكل كلام كان معناه أوسع من اسمه فالحكم للمعنى وكأنه قال: الحجر وحروفه وجوانبه والاستنجاء غير واقع بكل الحجر لكن ببعضه، فأبعاض الحجر الواحد كأبعاض الأحجار. وأما نهيه عن الاستنجاء بالعظم فقد دخل فيه كل عظم من ميتة أو ذكيّ لأن الكلام على إطلاقه وعمومه، وقد قيل إن المعنى في ذلك أن العظم زلج لا يكاد يتماسك فيقلع النجاسة وينشف البلة، وقيل إن العظم لا يكاد يعرى

من بقية دسم قد علق به. ونوع العظام قد يتأتى فيه الأكل لبني آدم لأن الرخو الرقيق منه قد يتمشمش في حالة الوُجد والرفاهية والغليظ الصلب منه يدق ويستف عند المجاعة، وقد حرم الاستنجاء بالمطعوم والرجيع والعذرة. وسُمي رجيعاً لرجوعه عن حالة الطهارة إلى الاستحالة والنجاسة. قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن محمد، حَدَّثنا ابن المبارك عن محمد بن عجلان عن القعقاع بن حكيم، عَن أبي صالح، عَن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنمّا أنا لكم بمنزلة الوالد أُعلِّمُكم فإذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها ولا يَسْتَطِبْ بيمينه» ، وكان يأمر بثلاثة أحجار وينهى عن الرَّوثِ والرِمَّة. قوله إنمّا أنا لكم بمنزلة الوالد كلام بسط وتأنيس للمخاطبين لئلا يحتشموه ولا يستحيوا عن مسألته فيما يعرض لهم من أمر دينهم كما لا يستحي الولد عن مسألة الوالد فيما عنّ وعرض له من أمر. وفي هذا بيان وجوب طاعة الآباء وأن الواجب عليهم تأديب أولادهم وتعليمهم ما يحتاجون إليه من أمر الدين. وقوله ولا يستطب بيمينه أي لا يستنجي بها وسمى الاستنجاء استطابة لما فيه من إزالة النجاسة وتطهير موضعها من البدن يقال استطاب الرجل إذا استنجى فهو مستطيب وأطاب فهو مطيب ومعنى الطيب ههنا الطهارة، ومن هذا قوله تعالى {فتيمموا صعيدا طيباً} [النساء: 43] وسمى رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة طابة ومعناه طهارة التربة وهي سبخة فدل ذلك على جواز التيمم بالسباخ وقيل معناه الطهارة من النفاق. وأصل الاستنجاء في اللغة الذهاب إلى النجوة من الأرض لقضاء الحاجة والنجوة المرتفعة منها كانوا يستترون بها إذا قعدوا للتخلي فقيل على هذا قد

استنجى الرجل أي أزال النجو عن بدنه. والنجو كناية عن الحدث كما كنى عنه بالغائط وأصل الغائط المطمئن من الأرض كانوا ينتابونه للحاجة فكنوا به عن نفس الحدث كراهية لذكره بخاص اسمه. ومن عادة العرب التعفف في ألفاظها واستعمال الكناية في كلامها وصون الألسنة عما تصان الأسماع والأبصار عنه. وقيل أصل الاستنجاء نزع الشيء عن موضعه وتخليصه منه، ومنه قولهم نجوت الرطب واستنجيته إذا جنيته واستنجيت الوتر إذا خلصته من أثناء اللحم والعظم قال الشاعر: فتبازت فتبارخت لها ... قعدة الجازر يستنجي الوتر وفي قوله يأمرنا بثلاثة أحجار وينهى عن الروث والرمة دليل على أن أعيان الحجارة غير مختصة بهذا المعنى دون غيرها من الأشياء التي تعمل عمل الحجارة وذلك أنه لما أمر بالأحجار ثم استثنى الروث والرمة فخصهما بالنهي دل على أن ما عدا الروث والرمة قد دخل في الإباحة وأن الاستنجاء به جائز ولو كانت الحجارة مخصوصة بذلك وكان كل ما عداها بخلاف ذلك لم يمكن لنهيه عن الروث والرمة وتخصيصها بالذكر معنى، وإنما جرى ذكر الحجارة وسبق اللفظ إليها لأنها كانت أكثر الأشياء التي يستنجى بها وجوداً وأقربها متناولاً، والرمة العظام البالية ويقال إنها سميت رمة لأن الإبل ترمها أي تأكلها قال لبيد: والّنيب إن تعر مني رمة خَلَقاً ... بعد الممات فأنى كنت اتّئر قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا سفيان عن الزهري عن عطاء بن يزيد، عَن أبي أيوب رواية قال إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا بول ولكن شرقوا وغربوا، فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت

قبل القبلة فكنا ننحرف عنها ونستغفر الله. قوله شرقوا وغربوا هذا خطاب لأهل المدينة ولمن كانت قبلته عنى ذلك السمت فأما من كانت قبلته إلى جهة المغرب أو المشرق فإنه لا يغرب ولا يشرق، والمراحيض جمع المرحاض وهو المغتسل يقال رحضت الثوب إذا غسلته. وقد اختلف الناس في تأويل ما اختلف من الأخبار في استقبال القبلة وتخريجها فذهب أبو أيوب إلى تعميم النهي والتسوية في ذلك بين الصحارى والأبنية وهو مذهب سفيان الثوري. وذهب عبد الله بن عمر إلى أن النهي عنه إنمّا جاء في الصحارى، فأما الأبنية فلا بأس باستقبال القبلة فيها، وكذلك قال الشعبي وإليه ذهب مالك والشافعي وقد قيل إن المعنى هو أن الفضاء من الأرض موضع للصلاة ومتعبد للملائكة والإنس والجن فالقاعد فيه مستقبلا للقبلة ومستدبرا لها مستهدف للأبصار، وهذا المعنى مأمون في الأبنية. قلت الذي ذهب إليه ابن عمر ومن تابعه من الفقهاء أولى لأن في ذلك جمعا بين الأخبار المختلفة واستعمالها على وجوهها كلها، وفي قول أبي أيوب وسفيان تعطيل لبعض الأخبار وإسقاط له. وقد روى أبو داود عن ابن عمر أنه قال: ارتقيت على ظهر البيت فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على لبنتين مستقبل بيت المقدس لحاجته. قال حدثناه عبد الله بن مسلمة عن مالك عن يحيى بن سعيد عن محمد بن يحيى بن حبان عن عمه واسع بن حبان عن عبد الله بن عمر. وروي أيضاً عن جابر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تستقبل القبلة ببول فرأيته قبل أن يقبض بعام يستقبلها. قال حدثناه محمد بن بشار نا وهب

ومن باب كراهية الكلام على الخلاء

بن جرير نا أبي قال سمعت محمد بن إسحاق يحدث عن أبان بن صالح عن مجاهد عن جابر بن عبد الله. قلت وفي هذا بيان ما ذكرناه من صحة مذهب من فرق بين البناء والصحراء غير أن جابراً توهم أن النهي عنه كان على العموم فحمل الأمر في ذلك على النسخ. قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا وهيب حدثنا عمرو بن يحيى، عَن أبي زيد عن معقل بن أبي معقل الأسدي. قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستقبل القبلتين ببول أو غائط. أراد بالقبلتين الكعبة وبيت المقدس وهذا يحتمل أن يكون على معنى الاحترام لبيت المقدس إذ كان مرة قبلة لنا. ويحتمل أن يكون ذلك من أجل استدبار الكعبة لأن من استقبل بيت المقدس بالمدينة فقد استدبر الكعبة. ومن باب كراهية الكلام على الخلاء قال أبو داود: حدثنا عبيد الله بن عمر بن ميسرة نا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا عكرمة بن عمار عن يحيى بن أبي كثير عن هلال بن عياض قال حدثني أبو سعيد قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (لا يخرج الرجلان يضرمان الغائط كاشفين عورتهما يتحدثان فإن الله يمقت على ذلك) . قوله يضرمان الغائط قال أبو عمر صاحب أبي العباس يقال ضربت الأرض

ومن باب أيرد السلام وهو يبول

إذا أتيت الخلا وضربت في الأرض إذا سافرت. ومن باب أيرد السلام وهو يبول قال أبو داود: حدثنا عثمان وأبو بكر ابنا أبي شيبة قالا: حَدَّثنا عمر بن سعد عن سفيان عن الضحاك بن عثمان عن نافع عن ابن عمر. قال مر رجل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبول فسلم فلم يرد عليه. قال أبو داود وروى ابن عمر وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم تيمم ثم رد على الرجل السلام. وفي رواية المهاجر بن قنفذ أنه توضأ ثم اعتذر إليه فقال إني كرهت أن أذكر الله عز وجل إلاّ على طهر. قلت وفي هذا دلالة على أن السلام الذي يحيي به الناس بعضهم بعضا اسم من أسماء الله عز وجل. وقد روي ذلك في حديث حدثناه محمد بن هاشم حدثنا الدّبري عن عبد الرزاق حدثنا بشر بن رافع عن يحيى بن أبي كثير، عَن أبي سلمة، عَن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن السلام اسم من أسماء الله فأفشوه بينكم» . وفي الحديث من الفقه أنه قد تيمم في الحضر لغير مرض ولا جرح. وإلى هذا ذهب الأوزاعي في الجنب يخاف إن اغتسل أن تطلع الشمس قال يتيمم ويصلي قبل فوات الوقت. وقال أصحاب الرأي إذا خاف فوات صلاة الجنازة والعيدين يتيمم وأجزأه. وفيه أيضاً حجة للشافعي فيمن كان محبوسا في حش أو نحوه فلم يقدر على الطهارة بالماء أنه يتيمم ويصلي على حسب الإمكان إلاّ أنه يرى عليه الإعادة إذا قدر عليها، وكذلك قال في المصلوب وفيمن لا يجد ماءً ولا ترابا أنه يصلي ويعيد وزعم أن لأوقات الصلاة أذمة!!! تُرعى ولا تُعطل حُرُماتها، ألا ترى أن النبي

ومن باب الاستبراء من البول

صلى الله عليه وسلم أمر أن ينادى في يوم عاشوراء من لم يأكل فليصمه ومن أكل فليمسك بقية النهار. ومعلوم أن صوم بعض النهار لا يصح وقد يمضى في فاسد الحج وإن كان غير محسوب له عن فرضه. ومن باب الاستبراء من البول قال أبو داود: حدثنا زهير بن حرب وهناد بن السري قالا: حَدَّثنا وكيع، حَدَّثنا الأعمش قال سمعت مجاهدا يحدث عن طاوس عن ابن عباس قال مر النبي صلى الله عليه وسلم على قبرين فقال إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير أما هذا فكان لا يستبرىء أو لا يستنزه من البول وأما هذا فكان يمشي بالنميمة ثم دعا بعسيب رطب فشقه باثنين ثم غرس على هذا واحداً وعلى هذا واحداً وقال لعله يخفف عنهما العذاب ما لم ييبسا. قوله وما يعذبان في كبير معناه أنهما لم يعذبا في أمر كان يكبر عليهما أو يشق فعله لو أرادا أن يفعلاه وهو التنزه من البول وترك النميمة ولم يرد أن المعصية في هاتين الخصلتين ليست بكبيرة في حق الدين وأن الذنب فيهما هين سهل. وفي قوله صلى الله عليه وسلم: أما هذا فكان لا يستنزه من البول دلالة على أن الأبوال كلها نجسة مجتنبة من مأكول اللحم وغير مأكوله لورود اللفظ به مطلقاً على سبيل العموم والشمول وفيه إثبات عذاب القبر، وأما غرسه شق العسيب على القبر وقوله ولعله يخفف عنهما ما لم ييبسا فإنه من ناحية التبرك بأثر النبي صلى الله عليه وسلم ودعائه بالتخفيف عنهما، وكأنه صلى الله عليه وسلم جعل مدة بقاء النداوة فيهما حدا لما وقعت به المسألة من تخفيف العذاب عنهما وليس ذلك من أجل أن في الجريد الرطب

ومن باب البول قائما

معنى ليس في اليابس والعامة في كثير من البلدان تفرش الخوص في قبور موتاهم وأراهم ذهبوا إلى هذا وليس لما تعاطوه من ذلك وجه والله أعلم. ومن باب البول قائماً قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن سليمان، عَن أبي وائل عن حذيفة قال أتى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم سباطة قوم فبال قائماً ثم دعا بماء فمسح على خُفيه قال فذهبتُ أتباعد فدعاني حتى كنت عند عقبه. السباطة مُلقى التراب والقِمام ونحوه تكون بفناء الدار مرفقا للقوم ويكون ذلك في الأغلب سهلاً منثالاً يخد فيه البول فلا يرتد على البائل. وأما بوله قائماً فقد ذكر فيه وجوه منها أنه لم يجد للقعود مكانا فاضطر إلى القيام إذ كان ما يليه من طرف السباطة مرتفعا عاليا وقيل إنه كان برجله جرح لم يتمكن من القعود معه وقد روي ذلك في حديث حدثت به عن محمد بن عقيل. قال: حدثني يحيى بن عبد الله الهمداني،، قال: حَدَّثنا حماد بن غسان الجعفي حدثنا معن بن عيسى القزاز عن مالك بن أنس، عَن أبي الزناد عن الأعرج، عَن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بال قائماً من جرح كان بمأبضه. وحدثونا عن الشافعي أنه قال: كانت العرب تستشفي لوجع الصلب بالبول قائماً فنرى أنه لعلة. كان به إذ ذاك وجع الصلب والله أعلم. وروي عن عمر أنه بال قائماً وقال البول قائماً أحصن للدبر يريد به أنه إذا تفاج قاعداً استرخت مقعدته، وإذا كان قائماً كان أحصن لها، والثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمعتاد من فعله أنه كان يبول قاعداً وهذا هو الاختيار وهو

ومن باب المواضع التي نهي عن البول فيها

المستحسن في العادات، وإنما كان ذلك الفعل منه نادرا لسبب أو ضرورة دعته إليه وفي الخبر دليل على أن مدافعة البول ومصابرته مكروهة لما فيه من الضرر والأذى، وفيه جواز المسح من الحدث على الخفين. وأما قوله فدعاني حتى كنت عند عقبه فالمعنى في إدنائه إياه مع إبعاده في الحاجة إذا أرادها أن يكون سترا بينه وبين الناس، وذلك أن السباطة إنمّا تكون في الأفنية والمحال المسكونة أو قريبة منها ولا تكاد تلك البقعة تخلو من المارة. ومن باب المواضع التي نهي عن البول فيها قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا إسماعيل بن جعفر عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه، عَن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اتقوا اللاعنين قيل وما اللاعنان يا رسول الله؟ قال: الذي يتخلى في طريق الناس وظلهم. قال أبو داود: حدثنا إسحاق بن سويد الرملي وعمر بن الخطاب أبو حفص وحديثه أتمُّ أن سعيد بن الحكم حدثهم قال أخبرني نافع بن يزيد، قال: حَدَّثنا حيوة بن شريح أن أبا سعيد الحِميري حدثه عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اتقوا الملاعن الثلاث البَراز في الموارد وقارعة الطريق والظل. قوله اتقوا اللاعنين يريد الأمرين الجالبين للّعن الحاملين الناس عليه والداعِيَين إليه، وذلك أن من فعلهما لعن وشتم فلما صارا سببا لذلك أضيف إليهما الفعل فكان كأنهما اللاعنان، وقد يكون اللاعن أيضاً بمعنى الملعون فاعل بمعنى مفعول كما قالوا سر كاتم أي مكتوم وعيشة راضية أي مرضية، والملاعن مواضع اللعن والموارد طرق الماء وأحدها موردة والظل هنا يراد به مستظل الناس الذي اتخذوه مقيلا

باب البول قي المستحم

ومناخا ينزلونه وليس كل ظل يحرم القعود للحاجة تحته فقد قعد النبي صلى الله عليه وسلم لحاجته تحت حايش من النخل وللحايش لا محالة ظل، وإنما ورد النهي عن ذلك في الظل يكون ذرىً للناس ومنزلاً لهم. باب البول قي المستحم قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل والحسن بن علي قالا: حَدَّثنا عبد الرزاق حدثنا معمر حدثني أشعثُ عن الحسن عن ابن مُغفل قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يبولنّ أحدكم في مستحمه ثم يغتسل فيه فإن عامة الوسواس تكون منه. المستحم المغتسل وسمي مستحماً باسم الحميم وهو الماء الحار الذي يغتسل به وإنما نهى عن ذلك إذا لم يكن المكان جَددا صلبا أولم يكن مسلك ينفذ فيه البول ويسيل فيه الماء فيوهم المغتسل أنه أصابه من قطره ورشاشه فيورثه الوسواس. ومن باب ما يقول إذا خرج من الخلاء قال أبو داود: حدثنا عمرو بن محمد حدثنا هاشم بن القاسم حدثنا إسرائيل عن يوسف من أبى بُردة عن أبيه قال حدثتني عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج من الغائط قال غُفرانك. الغفران مصدر كالمغفرة وإنما نصبه بإضمار الطلب والمسألة كأنه يقول اللهم إني أسألك غفرانك كما تقول اللهم عفوك ورحمتك تريد هب لي عفوك ورحمتك وقيل في تأويل ذلك وفي تعقيبه الخروج من الخلاء بهذا الدعاء قولان أحدهما أنه قد استغفر من تركه ذكر الله تعالى مدة لبثه على الخلاء، وكان صلى الله عليه وسلم لا يهجر ذكر الله إلاّ عند الحاجة فكأنه رأى هجران الذكر في تلك الحالة تقصيرا وعده على نفسه ذنبا فتداركه بالاستغفار.

ومن باب كراهة مس الذكر في الاستبراء

وقيل معناه التوبة من تقصيره في شكر النعمة التي أنعم الله تعالى بها عليه فأطعمه ثم هضمه ثم سهل خروج الأذى منه فرأى شكره قاصرا عن بلوغ حق هذه النعم ففزع إلى الاستغفار منه والله أعلم. ومن باب كراهة مس الذكر في الاستبراء قال أبو داود: حدثنا مسلم بن إبراهيم وموسى بن إسماعيل قالا: حَدَّثنا أبان حدثنا يحيى عن عبد الله بن قتادة عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا بال أحدكم فلا يمس ذكره بيمينه وإذا شرب فلا يشرب نفساً واحداً. إنما كره مس الذكر باليمين تنزيها لها عن مباشرة العضو الذي يكون منه الأذى والحدث وكان صلى الله عليه وسلم يجعل يمناه لطعامه وشرابه ولباسه ويسراه لما عداها من مهنة البدن. وقد تعرض ههنا شبهة ويشكل فيه مسألة فيقال قد نهى عن الاستنجاء باليمين ونهى عن مس الذكر باليمين فكيف يعمل إذا أراد الاستنجاء من البول فإنه إن أمسك ذكره بشماله احتاج إلى أن يستنجي بيمينه، وان أمسكه بيمينه يقع الاستنجاء بشماله فقد دخل في النهي. فالجواب أن الصواب في مثل هذا أن يتوخى الاستنجاء بالحجر الضخم الذي لا يزول عن مكانه بأدنى حركة تصيبه أو بالجدار أو بالموضع الناتىء من وجه الأرض وبنحوها من الأشياء، فإن أدته الضرورة إلى الاستنجاء بالحجارة والنبل ونحوها فالوجه أن يتأتى لذلك بأن يلصق مقعدته إلى الأرض ويمسك الممسوح بين عقبيه ويتناول عضوه بشمال فيمسحه به وينزه عنه يمينه. وسمعت ابن أبي هريرة يقول حضرت مجلس المحاملي، وقد حضر شيخ من أهل أصفهان نبيل الهيئة قدم أيام الموسم حاجا فأقبلت عليه وسألته عن مسألة

ومن باب الاستتار في الخلاء

من الطهارة فضجر وقال: مثلي يسأل عن مسائل الطهارة. فقلت لا والله إن سألتك إلاّ عن الاستنجاء نفسه وألقيت عليه هذه المسألة فبقي متحيرا لا يحسن الخروج منها إلى أن فهمته. وأما نهيه عن الشرب نفساً واحداً فنهي تأديب وذلك أنه إذا جرعه جرعاً واستوفى ريه نفساً واحداً تكابس الماء في موارد حلقه وأثقل معدته. وقد روي أن الكُباد من العب وهو إذا قطع شربه في أنفاس ثلاثة كان أنفع لريه وأخف لمعدته وأحسن في الأدب وأبعد من فعل ذوي الشره. ومن باب الاستتار في الخلاء قال أبو داود: حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي حدثنا عيسى عن ثور عن الحصين الجبراني، عَن أبي سعد، عَن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من استجمر فليوتر ومن فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج ومن أتى الغائط فليستتر فإن لم يجد إلاّ أن يجمع كثيباً من رمل فليستدبره فإن الشيطان يلعب بمقاعد ابن آدم. قوله من استجمر فليوتر الاستجمار الاستنجاء بالأحجار ومنه رمي الجمار في الحج، وهي الحصا التي يرمى بها في أيام منى، وحدثني محمد بن الحسين بن عاصم وإبراهيم بن عبد الله القصار ومحمد بن الحباب قالوا حدثنا محمد بن إسحاق بن خزيمة قال سمعت يونس بن عبد الأعلى يقول سئل ابن عيينة عن معنى قوله صلى الله عليه وسلم من استجمر فليوتر فسكت ابن عيينة، فقيل له أترضى بما قال مالك؟ فقال وما قال مالك؟ قيل قال مالك الاستجمار الاستطابة بالأحجار. فقال ابن عيينة إنمّا مثلي ومثل مالك كما قال الأول:

وابن اللبون إذا ما لز في قرن…… لم يستطع صولة البزل القناعيس وقوله صلى الله عليه وسلم: من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج معناه التخيير بين الماء الذي هو الأصل في الطهارة وبين الأحجار التي هي للترخيص والترفيه يريد أن الاستنجاء ليس بعزيمة لا يجوز تركها إلى غيره لكنه إن استنجى بالحجارة فليجعلها وتراً ثلاثاً وإلا فلا حرج إن تركه إلى غيره، وليس معناه رفع الحرج في ترك التعبد أصلا بدليل حديث سلمان الذي رويناه متقدما وهو قوله نهانا أن يستنجي أحدنا بأقل من ثلاثة أحجار، وفيه وجه آخر وهو رفع الحرج في الزيادة على الثلاث، وذلك أن ما جاوز الثلاث في الماء عدوان وترك للسنة. والزيادة في الأحجار ليست بعدوان وإن صارت شفعا وقوله صلى الله عليه وسلم إن الشيطان يلعب بمقاعد ابن آدم، فمعناه أن الشياطين تحضر تلك الأمكنة وترصدها بالأذى والفساد لأنها مواضع يهجر فيها ذكر الله وتكشف فيها العورات، وهو معنى قوله إن هذه الحشوش محتضرة فأمر عليه السلام بالتستر ما أمكن وأن لا يكون قعود الإنسان في براح من الأرض تقع عليه أبصارالناظرين فيتعرض لانتهاك الستر أو تهب عليه الريح فيصيبه نشر البول عليه والخلاء فيلوث بدنه وثيابه وكل ذلك من لعب الشيطان به وقصده إياه بالأذى والفساد. وفي قوله: من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج، دليل على أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم على الوجوب واللزوم ولولا أن ذلك حكم الظاهر منه ما كان يحتاج فيه إلى بيان سقوط وجوبه وإزالة الإثم والحرج فيه.

ومن باب ما ينهى أن يستنجى به

ومن باب ما ينهى أن يستنجى به قال أبو داود: حدثنا يزيد بن خالد بن عبد الله بن مَوْهب الهمداني حدثني المفضل بن فضالة عن عياش بن عباس القِتباني أن شُييم بن بينان أخبره عن شيبان القتباني عن رُوَيفع بن ثابت قال إن كان أحدنا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأخذ نضو أخيه على أن له النصف مما يغنم ولنا النصف وإن كان أحدنا ليطير له النصلُ والريشُ وللآخر القدح. ثم قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رويفع لعل الحياة ستطول بك بعدي فأخبر الناس أنه من عقد لحيته أو تقلد وتراً أو استنجى برجيع دابة أو عظم فإن محمداً منه بريء. النضو ههنا البعير المهزول يقال بعير نضو وناقة نضو ونضوة وهو الذي أنضاه العمل وهزله الكد والجهد، وفي هذا حجة لمن أجاز أن يعطي الرجل فرسه أو بعيره على شطر ما يصيبه المستأجر من الغنيمة، وقد أجازه الأوزاعي وأحمد ولم يجز أكثر الفقهاء، وإنما رأوا في مثل هذا أجرة المثل. وقوله وإن كان أحدنا ليطير له النصل أي يصيبه في القسمة يقال طار لفلان النصف ولفلان الثلث إذا وقع له ذلك في القسمة والقدح خشب السهم قبل أن يراش ويركب فيه النصل، وفيه دليل على أن الشيء المشترك بين الجماعة إذا احتمل القسمة وطلب أحد الشركاء المقاسمة كان له ذلك ما دام ينتفع بالشيء الذي يخصه منه وان قل ونزر وذلك لأن القدح قد ينتفع به عريا من الريش والنصل، وكذلك قد ينتفع بالنصل والريش وإن لم يكونا مركبين في قدح. فأما ما لا ينتفع بقسمته أحد من الشركاء وكان في ذلك الضرر والإفساد للمال كاللؤلؤة تكون بين الشركاء ونحوها من الشيء الذي إذا فرق بين أجزائه بطلت قيمته وذهبت منفعته فإن المقاسمة لا تجب فيه

لأنها حينئذ من باب إضاعة المال ويبيعون الشيء ويقتسمون الثمن بينهم على قدر حقوقهم منه. وأما نهيه عن عقد اللحية فإن ذلك يفسر على وجهين: أحدهما ما كانوا يفعلونه من ذلك في الحروب كانوا في الجاهلية يعقدون لحاهم وذلك من زي الأعاجم يفتلونها ويعقدونها، وقيل معناه معالجة الشعر ليتعقد ويتجعد وذلك من فعل أهل التوضيع والتأنيث. وأما نهيه عن تقليد الوتر فقد قيل إن ذلك من أجل العوذ التي يعلقونها عليه والتمائم التي يشدونها بتلك الأوتار وكانوا يرون أنها تعصم من الآفات وتدفع عنهم المكاره فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك من فعلهم ونهاهم عنه وقد قيل إن ذلك من جهة الأجراس التي يعلقونها بها. وقيل أنه نهى عن ذلك لئلا تختنق الخيل بها عند شدة الركض. قال أبو داود: حدثنا حيوة بن شُريح الحمصي حدثنا ابن عياش عن يحيى بن أبي عمرو الشيباني عن عبد الله بن الديلمي عن عبد الله بن مسعود قال قدم وفد الجن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا محمد انه أمتك أن يستنجوا بعظم أو روثة أو حممةٍ فإن الله جعل لنا فيها رزقاً قال فنهى النبي صلى الله عليه وسلم. الحمم الفحم وما أحرق من الخشب والعظام ونحوهما، والاستنجاء به منهي عنه لأنه جعل رزقاً للجن فلا يجوز إفساده عليهم، وفيه أيضاً أنه إذا مس ذلك المكان وناله أدنى غمز وضغط تفتت لرخاوته فعلق به شيء منه متلوثاً بما يلقاه من تلك النجاسة وفي معناه الاستنجاء بالتراب وفتات المدر ونحوهما.

ومن باب الاستنجاء بالماء

ومن باب الاستنجاء بالماء قال أبو داود: حدثنا وهب بن بقية عن خالد الواسطي عن خالد الحذاء عن عطاء بن أبي ميمونة عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل حائطا ومعه غلام معه ميْضأةٌ وهو أصغرنا فوضعها عند السدرة فقضى حاجته فخرج علينا وقد استنجى بالماء. الميضأة شبه المطهرة تسع من الماء قدر ما يتوضأ به وفيه من العلم أن حمل الخادم الماء إلى المغتسل غير مكروه وأن الأدب فيه أن يليه الأصاغر من الخدم دون الكبار. وفيه استحباب الاستنجاء بالماء وإن كانت الحجارة مجزية. وقد كره قوم من السلف الاستنجاء بالماء وزعم بعض المتأخرين أن الماء نوع من المطعوم فكرهه لأجل ذلك، والسنة تقضي على قوله وتبطله، وكان بعض القراء يكره الوضوء في مشارع المياه الجارية وكان يستحب أن يؤخذ له الماء في ركوة أو ميضأة، وزعم أنه من السنة لأنه لم يبلغه أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ على نهر أو شرع في ماء جار، قلت وهذا عندي من أجل أنه لم يكن بحضرته المياه الجارية والأنهار المطردة، فأما من كان في بلاد ريف وبين ظهراني مياه جارية فأراد أن يشرع فيها ويتوضأ منها كان له ذلك من غير حرج في حق دين ولا سنة. ومن باب السواك قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد عن سفيان، عَن أبي الزناد عن الأعرج، عَن أبي هريرة يرفعه قال: لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بتأخير العشاء وبالسواك عند كل صلاة. فيه من الفقه أن السواك غير واجب وذلك أن لولا كلمة تمنع الشيء لوقوع

غيره فصار الوجوب بها ممنوعا ولو كان السواك واجبا لأمرهم به شق أو لم يشق. وفيه دليل أن أصل أوامره على الوجوب ولولا أنه إذا أمرنا بالشيء صار واجبا لم يكن لقوله لأمرتهم به معنى وكيف يشفق عليهم من الأمر بالشيء وهو إذا أمر به لم يجب ولم يلزم فثبت أنه على الوجوب ما لم يقم دليل على خلافه. وأما تأخيره العشاء فالأصل أن تعجيل الصلوات كلها أولى وأفضل وإنما اختار لهم تأخير العشاء ليقل حظ النوم وتطول مدة انتظار الصلاة وقد قال صلى الله عليه وسلم: إن أحدكم في صلاة ما دام ينتظر الصلاة. قال أبو داود: حدثنا محمد بن عوف الطائي حدثنا أحمد بن خالد حدثنا محمد بن إسحاق عن محمد بن يحيى بن حبان عن عبد الله بن عبد الله بن عمر قال قلت: أرأيت توضؤ ابن عمر لكل صلاة طاهرا أو غير طاهر عم ذلك فقال حدثته أسماء بنت زيد بن الخطاب أن عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر حدثها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالوضوء عند كل صلاة طاهرا أو غير طاهر فلما شق ذلك عليه أمر بالسواك لكل صلاة. قال يحتج بهذا الحديث من يرى أن المتيمم لا يجمع بين صلاتي فرض بتيمم واحد وأن عليه أن يتيمم لكل صلاة فريضة. قال وذلك لأن الطهارة بالماء كانت مفروضة عليه لكل صلاة وكان معلوماً أن حكم التيمم الذي جعل بدلا عنها مثلها في الوجوب فلما وقع التخفيف بالعفو عن الأصل ولم يذكر سقوط التيمم كان باقيا على حكمه الأول وهو قول علي بن أبي طالب وابن عمر رضي الله عنهما والنخعي وقتادة وإليه ذهب مالك والشافعي وأحمد وإسحاق. فإن سئل على هذا فقيل فهلا كان التيمم تبعاً له في السقوط كهو في الوجوب؟ قيل الأصل أن

ومن باب الرجل يستاك بسواك غيره

الشيء إذا ثبت وصار شرعاً لم يزل عن محله إلا بيقين نسخ وليس مع من أسقطه إلاّ معنى يحتمل ما ادعاه ويحتمل غيره، والنسخ لا يقع بالقياس ولا بالأمور التي فيها احتمال. ومن باب الرجل يستاك بسواك غيره قال أبو داود: حدثنا محمد بن عيسى حدثنا عنبسة بن عبد الواحد عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستن وعنده رجلان أحدهما أكبر من الآخر فأوحى إليه في فضل السواك أن كَبِّر أي أعط السواك أكبرهما. قوله يستن معناه يستاك وأصله مأخوذ من السن، وهو إمرارك الشيء الذي فيه حزونة على شيء آخر ومنه المسن الذي يشحذ به الحديد ونحوه يريد أنه كان يدلك أسنانه. وفيه من الأدب تقديم حق الأكبر من جماعة الحضور وتبديته على من هو أصغر منه وهو السنة في السلام والتحية والشراب والطيب ونحوها من الأمور. وفي معناه تقديم ذي السن بالركوب والحذاء والطست وما أشبه ذلك من الإرفاق. وفيه أن استعمال سواك الغير ليس بمكروه على ما يذهب إليه بعض من يتقزز إلاّ أن السنة فيه أن يغسله ثم يستعمله. ومن باب غسل السواك قال أبو داود: حدثنا يحيى بن معين حدثنا وكيع عن زكريا بن أبي زائدة عن مصعب بن شيبة عن طلق بن حبيب، عَن أبي الزبير عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عشر من الفطرة قص الشارب وإعفاء اللحية

والسواك والاستنشاق بالماء وقص الأظفار وغسل البراجم ونتف الإبط وحلق العانة وانتقاص الماء،، يَعني الاستنجاء بالماء. قال مصعب بن شيبة ونسيت العاشرة إلاّ أن تكون المضمضة. وفي رواية عمار بن ياسر أن رسول الله قال إن من الفطرة المضمضة والاستنشاق وذكر نحوه ولم يذكر إعفاء اللحية وزاد والختان قال والانتضاح ولم يذكر انتقاص الماء. قوله صلى الله عليه وسلم: عشر من الفطرة فسر أكثر العلماء الفطرة في هذا الحديث بالسنة وتأويله أن هذه الخصال من سنن الأنبياء الذين أمرنا أن نقتدي بهم لقوله سبحانه {فبهداهم اقتده} [الأنعام: 90] وأول من أُمر بها إبراهيم صلوات الله عليه وذلك قوله تعالى {وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن} [البقرة: 124] . قال ابن عباس أمره بعشر خصال ثم عددهن فلما فعلهن قال إني جاعلك للناس إماما أي ليقتدي بك ويستن بسنتك وقد أمرت هذه الأمة بمتابعته خصوصا وبيان ذلك في قوله تعالى {ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا} [النحل: 123] ويقال إنها كانت عليه فرضاً وهن لنا سنة. وأما إعفاء اللحية فهو إرسالها وتوفيرها كره لنا أن نقصها كفعل بعض الأعاجم وكان من زي آل كسرى قص اللحى وتوفير الشوارب فندب صلى الله عليه وسلم أمته إلى مخالفتهم في الزي والهيئة. ويقال عفا الشعر والنبات إذا وفا وقد عفوته وأعفيته لغتان قال تعالى {حتى عفوا} [الأعراف: 95] أي أكثروا. وأما غسل البراجم فمعناه تنظيف المواضع التي تتشنج ويجتمع فيها الوسخ وأصل البراجم العقد التي تكون في ظهور الأصابع، والرواجب ما بين البراجم

باب

وواحدة البراجم بُرجمة. وأما الختان فإنه وإن كان مذكورا في جملة السنن فإنه عند كثير من العلماء على الوجوب وذلك أنه شعار الدين وبه يعرف المسلم من الكافر، وإذا وجد المختون بين جماعة قتلى غير مختتنين صلى عليه ودفن في مقابر المسلمين. وحكي، عَن أبي العباس بن شريح أنه كان يقول لا خلاف أن ستر العورة واجب فلولا أن الختان فرض لم يجز هتك حرمة المختون بالنظر إلى عورته. وأما انتضاح الماء الاستنجاء وأصله من النضح وهو الماء القليل، وانتقاص الماء الاستنجاء به أيضاً كما فسروه. وقد يستدل بهذا الحديث من يرى المضمضة والاستنشاق غير واجبين في شيء من الطهارات ويراهما سنه كنظائرهما المذكورة معهما، إلاّ أنه قد يجوز أن يفرق بين القراين التي يجمعها نظم واحد بدليل يقوم على بعضها فيحكم له بخلاف حكم صواحباتها. وقد روي أنه كره من الشاة سبعا: الدم، والمرارة، والحيا، والغدة، والذكر والأنثيين، والمثانة. والدم حرام بالإجماع وعامة المذكورات معه مكروهه غير محرمة. باب قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير حدثنا سفيان عن منصور وحُصين عن أبى وائل عن حذيفة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك. قوله يشوص معناه يغسل يقال شاصه يشوصه، وماصه يموصه بمعنى واحد إذا غسله.

ومن باب فرض الوضوء قال أبو داود: حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا شعبة عن قتادة، عَن أبي المليح عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يقبل الله صلاة بغير طهور ولا صدقة من غُلول. فيه من الفقه أن الصلوات كلها مفتقرة إلى الطهارة وتدخل فيها صلاة الجنازة والعيدين وغيرهما من النوافل كلها. وفيه دليل أن الطواف لا يجزي بغير طهور لأن النبي صلى الله عليه وسلم سماه صلاة فقال الطواف صلاة إلاّ أنه أبيح فيه الكلام. وفي قوله ولا صدقة من غلول بيان أن من سرق مالاً أو خانه ثم تصدق به لم يجز وإن كان نواه عن صاحبه وفيه مستدل لمن ذهب إلى أنه إن تصدق به على صاحب المال لم تسقط عنه تبعته. وإن كان طعاما فأطعمه إياه لم يبرأ منه ما لم يعلمه بذلك. وإطعام الطعام لأهل الحاجة صدقة ولغيرهم معروف وليس من أداء للحقوق ورد الظلامات. قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا وكيع عن سفيان، عَن أبي عقيل عن محمد بن الحنفية عن علي رضي الله عنه قال. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم. فيه من الفقه أن تكبيرة الافتتاح جزء من إجراء الصلاة وذلك لأنه أضافها إلى الصلاة كما يضاف إليها سائر أجزائها من ركوع وسجود، وإذا كان كذلك لم يجز أن تعري مباديها عن النية لكن تضامها كما لا يجزيه إلاّ بمضامة سائر شرائطها

ومن باب الماء يكون في الفلاة

من استقبال القبلة وستر العورة ونحوهما. وفيه دليل أن الصلاة لا يجوز افتتاحها إلاّ بلفظ التكبير دون غيره من الأذكار وذلك لأنه قد عينه بالألف واللام اللتين هما للتعريف والألف واللام مع الإضافة يفيدان السلب والإيجاب وهو أن يسلبا الحكم فيما عدا المذكور ويوجبان ثبوت المذكور، كقولك فلان مبيته المساجد أي لا مأوى له غيرها، وحيلة الهم الصبر أي لا مدفع له إلاّ بالصبر ومثله في الكلام كثير. وفيه دليل على أن التحليل لا يقع بغير السلام لما ذكرنا من المعنى ولو وقع بغيره لكان ذلك خُلْفا في الخبر. ومن باب الماء يكون في الفلاة قال أبو داود: حدثنا محمد بن العلاء وعثمان بن أبي شيبة والحسن بن علي وغيرهم قالوا حدثنا أبو أسامة عن الوليد بن كثير عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عبيد الله بن عمر عن أبيه قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الماء وما ينوبه من الدواب والسباع فقال صلى الله عليه وسلم إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث. هذا لفظ ابن العلاء وقال عثمان والحسن بن علي ومحمد بن عباد بن جعفر قال أبو داود: حدثنا أبو كامل حدثنا يزيد بن زُريع عن محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر عن أبيه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الماء يكون في الفلاة فذكر معناه.

قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد حدثنا عاصم بن المنذر عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر قال حدثني أبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا كان الماء قلتين لا ينجس. قلت قد تكون القلة الإناء الصغير الذي تقله الأيدي ويتعاطى فيه الشرب كالكيزان ونحوها، وقد تكون القلة الجرة الكبيرة التي يقلها القوي من الرجال إلاّ أن مخرج الخبر قد دل على أن المراد به ليس النوع الأول لأنه إنما سئل عن الماء الذي يكون بالفلاة من الأرض في المصانع والوهاد والغدرَان ونحوها. ومثل هذه المياه لاتحمل بالكوز والكوزين في العرف والعادة لأن أدنى النجس إذا أصابه نجسه فعلم أنه ليس معنى الحديث. وقد روي من غير طريق أبي داود من رواية ابن جريج إذا كان الماء قلتين بقلال هجر. أخبرناه محمد بن هاشم حدثنا الدبري عن عبد الرزاق عن ابن جريج. وذكر الحديث مرسلا وقال في حديثه بقلال هجر قال وقلال هجر مشهورة الصنيعة معلومة المقدار لا تختلف كما لا تختلف المكائل والصيعان والقرب المنسوبة إلى البلدان المحدودة على مثال واحد وهي أكبر ما يكون من القلال وأشهرها لأن الحد لا يقع بالمجهول ولذلك قيل قلتين على لفظ التثنية ولوكان وراءها قلة في الكبر لأشكلت دلالته فلما ثناها دل على أنه أكبر القلال لأن التثنية لا بد لها من فائدة وليست فائدتها إلاّ ما ذكرناه، وقد قدر العلماء القلتين بخمس قرب، ومنهم من قدرها بخمسمائة رطل. ومعنى قوله لم يحمل الخبث أي يدفعه عن نفسه كما يقال فلان لا يحتمل الضيم

إذ كان يأباه ويدفعه عن نفسه فأما من قال معناه أنه يضعف عن حمله فينجس فقد أحال لأنه لو كان كما قال لم يكن إذاً فرق بين ما بلغ من الماء قلتين وبين ما لم يبلغهما، وإنما ورد هذا مورد الفصل والتحديد بين المقدار الذي ينجس والذي لا ينجس ويؤكد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم فإنه لا ينجس من رواية عاصم بن المنذر. وممن ذهب إلى هذا في تحديد الماء، الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو عبيد وأبو ثور وجماعة من أهل الحديث، منهم محمد بن إسحاق بن خزيمة. وقد تكلم بعض أهل العلم في إسناده من قبل أن بعض رواته، قال عن عبد الله بن عبد الله، وقال بعضهم عبيد الله بن عبد الله، وليس هذا باختلاف يوجب توهينه لأن الحديث قد رواه عبيد الله وعبد الله معا. وذكروا أن الرواة قد اضطربوا فيه، فقالوا مرة عن محمد بن جعفر بن الزبير ومرة عن محمد بن عباد بن جعفر، وهذا اختلاف من قبل أبي أسامة حماد بن أسامة القرشي. ورواه محمد بن إسحاق بن يسار عن محمد بن جعفر بن الزبير، فالخطأ من إحدى روايتيه متروك والصواب معمول به وليس في ذلك ما يوجب توهين الحديث وكفى شاهدا على صحته أن نجوم الأرض من أهل الحديث قد صححوه وقالوا به وهم القدوة وعليهم المعول في هذا الباب. وقد يستدل بهذا الحديث من يرى سؤر السباع نجسا لقوله وما ينوبه من الدواب والسباع فلولا أن شرب السباع منه ينجسه لم يكن لمسألتهم عنه ولا لجوابه إياهم بهذا الكلام معنى، وقد يحتمل أن يكون ذلك من أجل أن السباع إذا وردت المياه خاضتها وبالت فيها وتلك عادتها وطباعها وقل ماتخلو أعضاؤها من لوث أبوالها ورجيعها، وقد ينتابها أيضاً في جملة السباع الكلاب وأسْآرها

ومن باب في بئر بضاعة

نجسة ببيان السنة. ومن باب في بئر بضاعة قال أبو داود: حدثنا محمد بن العلاء حدثنا أبو أسامة عن الوليد بن كثيرعن محمد بن كعب عن عبيد الله بن عبد الله بن رافع بن خديج، عَن أبي سعيد الخدري أنه قيل يا رسول الله أنتوضأ من بئر بضاعة وهي بئر تطرح فيها الحيض ولحوم الكلاب والنتن. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الماء طهور لا ينجسه شيء. قد يتوهم كثير من الناس إذا سمع هذا الحديث ان هذا كان منهم عادة وأنهم كانوا يأتون هذا الفعل قصدا وتعمدا وهذا ما لا يجوز أن يظن بذمي بل بوثني فضلا عن مسلم ولم يزل من عادة الناس قديما وحديثا مسلمهم وكافرهم تنزيه المياه وصونها عن النجاسات فكيف يظن بأهل ذلك الزمان وهم أعلى طبقات أهل الدين وأفضل جماعة المسلمين. والماء في بلادهم أعز والحاجة إليه أمس أن يكون هذا صنيعهم بالماء وامتهانهم له، وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من تغوط في موارد الماء ومشارِعِه فكيف من اتخذ عيون الماء ومنابعه رصدا لأنجاس ومطرحا للأقذار، هذا ما لا يليق بحالهم، وإنما كان هذا من أجل أن هذه البئر موضعها في حَدور من الأرض وأن السيول كانت تكسح هذه الأقذار من الطرق والأفنية وتحملها فتلقيها فيها وكان الماء لكثرته لا يؤثر فيه وقوع هذه الأشياء ولا يغيره فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شأنها ليعلموا حكمها في الطهارة والنجاسة فكان من جوابه لهم أن الماء لا ينجسه شيء يريد الكثير منه الذي صفته صفة ماء هذه البئر في غزارته وكثرة جمامه لأن السؤال إنمّا وقع عنها

ومن باب البول في الماء الراكد

بعينها فخرج الجواب عليها، وهذا لا يخالف حديث القلتين إذ كان معلوماً أن الماء في بئر بضاعة يبلغ القلتين فأحد الحديثين يوافق الآخر ولا يناقضه والخاص يقضي على العام ويبينه ولا ينسخه. قال أبو داود: حدثنا مسدد نا أبو الأحوص حدثنا سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال اغتسل بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في جفنة فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليتوضأ منها أو ليغتسل فقالت له يا رسول الله إني كنت جنبا فقال رسول الله: إن الماء لا يُجنب. قوله لا يجنب، معناه لا ينجس وحقيقته أنه لا يصير بمثل هذا الفعل إلى حال يجتنب فلا يستعمل، وأصل الجنابة البعد، ولذلك قيل للغريب جنب أي بعيد وسمي المجامع ما لم يغتسل جنبا لمجانبته الصلاة وقراءة القرآن كما سمي الغريب جنبا لبعده عن أهله ووطنه. وقد روي أربع لا يجنبن: الثوب والإ نسان والأرض والماء، وفسروه أن الثوب إذا أصابه عرق الجنب والحائض لم ينجس. والإنسلن إذا أصابته الجنابة لم ينجس وإن صافحه جنب أو مشرك لم ينجس. والماء إن أدخل يده فيه جنب أو اغتسل فيه لم ينجس. والأرض إن اغتسل عليها جنب لم تنجس. ومن باب البول في الماء الراكد قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن محمد بن عجلان قال سمعت أبي يحدث، عَن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ولا يغتسل فيه من الجنابة. الماء الدائم هو الراكد الذي لا يجري، ونهيه عن الاغتسال فيه يدل على أنه

ومن باب الوضوء بسؤر الكلب

يسلبه حكمه كالبول فيه يسلبه حكمه إلاّ أن الاغتسال فيه لا ينجسه لأن بدن المؤمن ليس بنجس والبول ينجسه لنجاسته في نفسه. وفيه دليل على أن الوضوء بالماء المستعمل غير جائز وإنما ينجس الماء بالبول فيه إذا كان دون القلتين بدليل ما تقدم من الحديث. وفيه دليل على أن حكم الماء الجاري بخلاف الراكد لأن الشيء إذا ذكر بأخص أوصافه كان حكم ما عداه بخلافه. والمعنى فيه أن الماء الجاري إذا خالطه النجس دفعه الجزء الثاني الذي يتلوه فيه فيغلبه فيصير في معنى المستهلك ويخلفه الطاهر الذي لم يخالطه النجس والماء الراكد لا يدفع النجس عن نفسه إذا خالطه لكن يداخله ويقارُّه فمهما أراد استعمال شيء منه كان النجس فيه قائماً والماء في حد القلة فكان محرما. ومن باب الوضوء بسؤر الكلب قال أبو داود: حدثنا أحمد بن يونس حدثنا زائدة في حديث هشام عن محمد، عَن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسل سبع مراراً أولاهن بالتراب. قال أبو داود وكذلك أيوب وحبيب بن الشهيد عن محمد. في هذا الحديث من الفقه أن الكلب نجس الذات ولولا نجاسته لم يكن لأمره بتطهير الإناء من ولوغه معنى. والطهور يقع في الأصل إما لرفع حدث أو لازالة نجس والإناء لا يلحقه حكم الحدث فعلم أنه قصد به إزالة النجس وإذا ثبت أن لسانه الذي يتناول به الماء نجس يجب تطهير الإناء منه علم أن سائر أجزائة وأبعاضه في النجاسة بمثابة لسانه فبأي جزء من أجزاء بدنه ماسه وجب تطهيره

وفيه البيان الواضح أنه لا يطهره أقل من عدد السبع وأن تعفيره بالتراب واجب. وإذا كان معلوماً أن التراب أنمّا ضم إلى الماء استظهارا في التطهير وتوكيدا له لغلظ نجاسة الكلب فقد عقل أن الأشنان وما أشبهه من الأشياء التي فيها قوة الجلاء والتهير بمنزلة التراب في الجواز. وفي دليل على أن الماءالمولوغ فيه نجس لأن الذي قد مسه الكلب هو الماء دون الإناء فلولا أن الماء نجس لم يجب تطهير الإناء منه. ويؤيد ذلك قوله في رواية أخرى إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليهرقه وليغسله سبعا من طريق علي بن مُسهر عن الأعمش، عَن أبي صالح، عَن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم حدثناه غير واحد من أصحابنا قالوا حدثنا محمد بن إسحاق بن خزيمة حدثنا محمد بن يحيى حدثنا إسماعيل بن خليل حدثنا علي بن مسهر. ولو كان المولوغ فيه باقيا على طهارته لم يأمر بإراقته، وقد يكون لبنا وزيتا ونحو ذلك من المطعوم وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال. وذهب بعض أهل الظاهر إلى أن الماء طاهر وأن غسل الإناء تعبد، وقد دل الحديث على فساد هذا القول وبطلانه. وذهب مالك والأوزاعي إلى أنه إذا لم يجد ماءً غيره توضأ به، وكان سفيان الثوري يقول يتوضأ به إذا لم يجد ماء غيره. ثم يتيمم بعده. فدل هذا من فتواهم على أن الماء المولوغ فيه عندهم ليس على النجاسة المحضة، وخالفهم من سواهم من أهل العلم ومنعوا التطهير به وحكموا بنجاسته. وفي الخبر دليل على أن الماء القليل إذا حلته نجاسة فسد، وفيه دليل على تحريم بيع الكلب إذ كان نجس الذات فصار كسائر النجاسات.

ومن باب في سؤر الهرة

ومن باب في سؤر الهرة قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن حميدة بنت عبيد بن رفاعة عن كبشة بنت كعب بن مالك وكانت تحت ابن أبي قتادة أن أبا قتادة دخل فسكبت له وضوءا فجاعت هرة فشربت منه فأصغى لها الإناء حتى شربت قالت كبشة فرآني أنظر إليه فقال أتعجبين ما بنت أخي فقلت نعم. فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم أو الطوافات. فيه من الفقه أن ذات الهرة طاهرة وأن سؤرها غير نجس وأن الشرب منه والوضوء به غير مكروه. وفيه دليل على أن سؤر كل طاهر الذات من السباع والدواب والطير وإن لم يكن مأكول اللحم طاهر. وفيه دليل على جواز بيع الهر إذ قد جمع الطهارة والنفع. وقوله إنها من الطوافين أو الطوافات عليكم يتأول على وجهين أحدهما أن يكون شبهها بخدم البيت وبمن يطوف على أهله للخدمة ومعالجة المهنة كقوله تعالى {طوافون عليكم بعضكم على بعض} [النور: 58] ، يَعني المماليك والخدم وقال تعالى {يطوف عليهم ولدان مخلدون} [الواقعة: 17] وقال ابن عمر إنمّا هي ربيطة من ربائط البيت والوجه الآخر أن يكون شبهها بمن يطوف للحاجة والمسألة يريد أن الأجر في مواساتها كالأجر في مواساة من يطوف للحاجة ويتعرض للمسألة.

ومن باب الوضوء بفضل وضوء المرأة

ومن باب الوضوء بفضل وضوء المرأة قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يحيىعن سفيان حدثني منصور عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة قالت كنت اغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد ونحن جنبان. فيه دليل على أن الجنب ليس بنجس، وأن فضل وضوء المرأة طاهركفضل وضوء الرجل. وروى أبو داود في هذا الباب حديثا آخر في النهي عن فضل طهور المرأة. قال أبو داود: حدثنا محمد بن بشار نا أبو داود [زاد في المتن، يَعني الطيالسي] حدثنا شعبة عن عاصم، عَن أبي حاجب عن الحكم بن عمرو وهو الأقرع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة. فكان وجه الجمع بين الحديثين أن ثبت حديث الأقرع أن النهي إنما وقع عن التطهير بفضل ما تستعمله المرأة من الماء وهو ما سال وفضل عن أعضائها عند التطهر به دون الفضل الذي تسئره في الإناء، وفيه حجة لمن رأى أن الماء المستعمل لا يجوز الوضوء به. ومن الناس من يجعل النهي في ذلك على الاستحباب دون الإيجاب، وكان ابن عمر يذهب إلى النهي عن فضل وضوء المرأة، إنما هو إذا كانت جنبا أو حائضا فإذا كانت طاهرا فلا بأس به. وإسناد حديث عائشة في الإباحة أجود من إسناد خبر النهي. وقال محمد بن إسماعيل: خبر الأقرع لا يصح. والصحيح في هذا الباب حديث عبد الله بن سرجس وهو موقوف ومن رفعه فقد أخطأ.

ومن باب الوضوء بماء البحر

ومن باب الوضوء بماء البحر قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي عن مالك عن صفوان بن سليم عن سعيد بن سلمة من آل الأزرق أن المغيرة بن أبي بردة وهو من بني عبد الدار أخبره أنه سمع أبا هريرة يقول: سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء فإن توضأنا به عطشنا أفتوضأ بماء البحر؟ فقال صلى الله عليه وسلم هو الطهور ماؤه الحل ميتته. في هذا الحديث أنواع من العلم منها أن المعقول من الطهور والغسول المضمنين في قوله تعالى {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} [المائدة: 6] الآية إنما كان عند السامعين له والمخاطبين به الماء المفطور على خلقته السليم في نفسه الخلي من الأعراض المؤثرة فيه ألا تراهم كيف ارتابوا بماء البحر لما رأوا تغيره في اللون وملوحة الطعم حتى سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم واستفتوه عن جواز التطهير به. وفيه أن العالم والمفتي إذا سئل عن شيء وهو يعلم أن بالسائل حاجة إلى معرفة ما وراءه من الأمور التي يتضمنها مسألته أو تتصل بمسألته كان مستحبا له تعليمه إياه والزيادة في الجواب عن مسألته ولم يكن ذلك عدوانا في القول ولا تكلفا لما لا، يَعني من الكلام ألا تراهم سألوه عن ماء البحر حسب، فأجابهم عن مائه وعن طعامه لعلمه بأنه قد يعوزهم الزاد في البحر كما يعوزهم الماء العذب، فلما جمعتهم الحاجة منهم انتظمهما الجواب منه لهم. وأيضاً فإن علم طهارة الماء مستفيض عند الخاصة والعامة، وعلم ميتة البحر وكونها حلالا مشكل في الأصل، فلما رأى السائل جاهلا بأظهر الأمرين

غير مستبين للحكم فيه علم أن أخفاهما أولاهما بالبيان ونظير هذا قوله للرجل الذي أساء الصلاة بحضرته فقال له صل فإنك لم تصل فأعادها ثلاثا كل ذلك يأمره بإعادة الصلاة إلى أن سأله الرجل أن يعلمه الصلاة فابتدأ فعلمه الطهارة ثم علمه الصلاة وذلك والله أعلم لأن الصلاة شيء ظاهر تشتهره الأبصار، والطهارة أمر يستخلي به الناس في ستر وخفاء فلما رآه صلى الله عليه وسلم جاهلا بالصلاة حمل أمره على الجهل بأمر الطهارة فعلمه إياها. وفيه وجه آخر وهوأنه لما أعلمهم بطهارة ماء البحر وقد علم أن في البحر حيوانا قد يموت فيه والميتة نجس احتاج إلى أن يعلمهم أن حكم هذا النوع من الميتة حلال بخلاف سائر الميتات لئلا يتوهموا أن ماءه ينجس بحلولها إياه. وفيه دليل على أن السمك الطافي حلال وأنه لا فرق بين ما كان موته في الماء وبين ما كان موته خارج الماء من حيوانه. وفيه مستدل لمن ذهب إلى أن حكم جميع أنواع الحيوان التي تسكن البحر إذا ماتت فيه الطهارة، وذلك بقضية العموم إذا لم يستثن نوعا منها دون نوع. وقد ذهب بعض العلماء إلى أن ما كان له في البر مثل ونظير مما لا يؤكل لحمه كالإنسان المائي والكلب والخنزير فإنه محرم، وما له مثل في البر يؤكل فإنه مأ كول. وذهب آخرون إلى أن هذا الحيوان وإن اختلف صورها فإنها كلها سموك، والجريث يقال له حية الماء وشكله شكل الحيات ثم أكله جائز فعلم أن اختلافها في الصور لا يوجب اختلافها في حكم الإباحة، وقد استثنى هؤلاء من جملتها الضفدع لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل الضفدع.

ومن باب أيصلي الرجل وهو حاقن

ومن باب أيصلي الرجل وهو حاقن قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا يحيى بن سعيد، عَن أبي حزرة، قال: حَدَّثنا عبد الله بن محمد أخو القاسم بن محمد قال كنا عند عائشة فجيء بطعامها فقام القاسم بن محمد يصلي فقالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا يصلي بحضرة الطعام ولا هو يدافعه الأخبثان. إنما أمر صلى الله عليه وسلم أن يبدأ بالطعام لتأخذ النفس حاجتها منه فيدخل المصلي في صلاته وهو ساكن الجأش لا تنازعه نفسه شهوة الطعام فيعجله ذلك عن إتمام ركوعها وسجودها وإيفاء حقوقها وكذلك إذا دافعه البول فإنه يصنع به نحوا من هذا الصنيع، وهذا إذا كان في الوقت فضل يتسع لذلك، فأما إذا لم يكن فيه متسع له ابتدأ الصلاة ولم يعرج على شيء سواها. قال أبو داود: حدثنا محمود بن خالد حدثنا أحمد بن علي حدثنا ثور عن يزيد بن شريح الحضرمي، عَن أبي حي المؤذن، عَن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا يحل لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر أن يصلي وهو حاقن حتى يتخفف ولا يحل لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر أن يؤم قوماً إلا بإذنهم ولا يخص نفسه بدعوة دونهم فإن فعل فقد خانهم) . قوله لا يحل لرجل أن يؤم قوما إلاّ بإذنهم يريد أنه إذا لم يكن باقرئهم ولا بافقههم لم يجز له الاستبداد عليهم بالإمامة فأما إذا كان جامعا لأوصاف الإمامة بأن يكون أقرأ الجماعة وأفقههم فإنهم عند ذلك يأذنون له لا محالة في الإمامة بل يسألونه ذلك ويرغبون إليه فيها وهو إذ ذاك أحقهم بها أذنوا له أو لم يأذنوا. وإنما هذا كقوله صلى الله عليه وسلم: من تولى قوما بغير إذن مواليه فعليه لعنة الله، والمعنى

ومن باب اسباغ الوضوء

أنه لا يجوز له أن يتولى غير مواليه إلاّ أنه إذا أراد أن يوالي قوما فاستأذن مواليه فلم يأذنوا له ومنعوه امتنع من ذلك وبقي على أصل ولائه لم يحدث عنه انتقالا ولا له استبدالاً، وليس معناه أنه لو أذنوا له في ذلك جازت موالاته إياهم، ولكن الإشارة وقعت بالاذن إلى المنع مما يقع الاستئذان له. وقد قيل إن النهي عن الإمامة إلاّ بالاستئذان انما هو إذا كان في بيت غيره فأما إذا كان في سائر بقاع الأرض فلا حاجة به إلى الاستئذان وأولاهم بالإمامة أقرؤهم وأفقههم على ماجاء معناه في حديث أبي مسعود البدري. ومن باب اسباغ الوضوء قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن سفيان حدثنا منصور عن هلال بن يساف، عَن أبي يحيى عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى قوماً تلوح أعقابهم فقال: ويل للأعقاب من النار أسبغوا الوضوء. فيه من الفقه أن المسح لا يجوز على النعلين وأنه لا يجوز ترك شيء من القدم وغيره من أعضاء الوضوء لم يمسه الماء قل ذلك أوكثر لأنه صلى الله عليه وسلم لا يتوعد على ما ليس بواجب. ومن باب التسمية على الوضوء قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا محمد بن موسى عن يعقوب بن سلمة عن أبيه، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه. قلت قد ذهب بعض أهل العلم إلى ظاهر لفظ الحديث فأوجب إعادة الوضوء إذا ترك التسمية عامدا وهو قول إسحاق بن راهويه.

ومن باب يدخل يده في الاناء قبل أن يغسلها

قال آخرون معناه نفي الفضيلة دون الفريضة كما روي لا صلاة لجار المسجد إلاّ في المسجد أي في الأجر والفضيلة، وتأوله جماعة من العلماء على النية وجعلوه ذكر القلب. وقالوا وذلك أن الأشياء قد تعتبر بأضدادها فلما كان النسيان محله القلب كان محل ضده الذي هو الذكر بالقلب وإنما ذكرُ القلب النية والعزيمة. ومن باب يدخل يده في الاناء قبل أن يغسلها قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا أبو معاوية عن الأعمش، عَن أبي رزين وأبي صالح، عَن أبي هريرة قال. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام أحدكم من الليل فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاث مرات فإنه لا يدري أين باتت يده. قلت: قد ذهب داود ومحمد بن جربر إلى إيجاب غسل اليد قبل غمسها في الإناء ورأيا أن الماء ينجس به إن لم تكن اليد مغسولة، وفرق أحمد بين نوم الليل ونوم النهار. قال وذلك لأن الحديث إنما جاء في ذكر الليل في قوله إذا قام أحدكم من الليل ولأجل أن الانسان لا يتكشف لنوم النهار ويتكشف غالبا لنوم الليل فتطوف يده في أطراف بدنه فربما أصابت موضع العورة وهناك لوث من أثر النجاسة لم ينقه الاستنجاء بالحجارة فإذا غمسها في الماء فسد الماء بمخالطة النجاسة إياه، وإذا كان بين اليد وبين موضع العورة حائل من ثوب أو نحوه كان هذا المعنى مأموناً. وذهب عامة أهل العلم إلى أنه غمس يده في الإناء قبل غسلها فإن الماء طاهر ما لم يتيقن نجاسة بيده وذلك لقوله فإنه لا يدري أين باتت يده فعلقه بشكل وارتياب، والأمر المضمن بالشك والارتياب لا يكون واجبا وأصل الماء الطهارة وبدن الإنسان على حكم الطهارة كذلك، وإذا ثبتت الطهارة يقينا

لم تزل بأمر مشكوك فيه. وفي الخبر دليل على أن الماء القليل إذا وردت عليه النجاسة وإن قلت غيرت حكمه لأن الذي يعلق باليد منها من حيث لا يرى قليل، وكان من عادة القوم في طهورهم استعمال ما لطف من الآنية كالمخاضب والمراكن والركاء والأداوي ونحوها من الآنية التي تقصر عن قدر القلتين. وفيه من الفقه أن القليل من الماء إذا ورد على النجاسة على حد الغلبة والكثرة أزالها ولم يتنجس بها لأن معقولا ان الماء الذي أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصبه من الإناء على يده أقل من الماء الذي أبقاه في الإناء; ثم قد حكم للأقل بااطهارة والتطهير وللأكثر بالنجاسة فدل على الفرق بين الماء واردا على النجاسة ومورودا عليه النجاسة. وفيه دليل على أن غسل النجاسة سبعا مخصوص به بعض النجاسات دون بعض وأن ما دونها من العدد كاف لإزالة سائر الأنجاس، والعدد الثلاثة في هذا الخبر احتياط واستظهار باليقين لأن الغالب أن الغسلات الثلاث إذا توالت على نجاسة عين أزالتها وأذهبتها، وموضع النجاسة ههنا غير مرئي العين فاحتيج إلى الاستظهار بالعدد ليتيقن إزالتها ولو كانت عينها مرئية لكانت الكفاية واقعة بالغسلة الواحدة مع الإزالة. وفيه من الفقه أن موضع الاستنجاء مخصوص بالرخصة في جواز الصلاة مع بقاء أثر النجاسة عليه وأن ما عداه غير مقيس عليه. وفي الحديث من العلم أن الأخذ بالوثيقة والعمل بالاحتياط في طب العبادات أولى.

ومن باب صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم

ومن باب صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم قال أبو داود: حدثنا عبد العزيز بن يحيى الحراني حدثنا محمد، يَعني ابن سلمة عن محمد بن إسحاق عن محمد بن طلحة عن يزيد بن ركانة عن عبيد الله الخولاني عن ابن عباس قال دخل علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقد أهرق الماء فدعا بوضو فأتيناه بتور فيه ماء فقال يا بن عباس ألا أريك كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ قلت بلى فأصغى الإناء على يده فغسلها ثم أدخل يده اليمنى فأفرغ بها على الأخرى ثم غسل كفيه ثم تمضمض واستنثر ثم أدخل يديه في الإناء جميعا فأخذ بهما حفنة من ماء فضرب بها على وجهه ثم ألقم إبهامه مأقبل من أُذُنيه ثم الثانية ثم الثالثة مثل ذلك ثم أخذ بكفه اليمنى قبضةً من ماء فصبها على ناصيته فتركها تستن على وجهه ثم غسل ذراعيه إلى المرفقين ثلاثا ثلاثا ثم مسح رأسه وظهور أذنيه ثم أدخل يديه جميعا فأخذ حفنة من ماء فضرب بها على رجله وفيه النعل ففتلها بها ثم الأخرى مثل ذلك قال قلت وفي النعلين قال في النعلين قال قلت وفي النعلين قال وفي النعلين قال قلت وفي النعلين قال وفي النعلين. قوله استنثر معناه استنشق الماء ثم أخرجه من أنفه وأصله مأخوذ من النثرة وهي الأنف، ويقال نثر الرجل نثرا إذا عطس. وقوله تستن على وجهه معناه تسيل وتنصب يقال سننت الماء إذا صببته صبا سهلا، وفيه أن مسح باطن الأذن مع الوجه وظاهرهما مع الرأس، وكان الشعبي يذهب إلى أن باطن الأذنين من الوجه وظاهرهما من الرأس.

وأما مسحه على الرجلين وهما في النعلين فإن الروافض ومن ذهب مذهبهم في خلاف جماعة المسلمين يحتجون به في إباحة المسح على الرجلين في الطهارة من الحدث واحتج بذلك أيضاً بعض أهل الكلام وهو الجُبائي زعم أن المرء مخير بين غسل الرجل ومسحها. وحكي ذلك أيضاً عن محمد بن جرير محتجين بقوله تعالى {وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين} [المائدة: 6] قالوا والقراءة بالخفض في أرجلكم مشهورة وموجبها المسح. وهذا تأويل فاسد مخالف لقول جماعة الأمة. فأما احتجاجهم بالقراءة في الآية فلا درَكَ لهم فيها لأن العطف قد يقع مرة على اللفظ المجاور ومرة على المعنى المجاور، فالأول كقولهم جحر ضبٍ خربٍ والخرب من نعت الجحر وهو مرفوع وكقول الشاعر: كأن نسج العنكبوت المرمل وقول الآخر: معاوي إننا بشر فاسجح ... فلسنا بالجبال ولا الحديدا وإذا كان الأمر في ذلك على مذهب اللغة وحكم الاعراب سواء في الوجهين وجب الرجوع إلى بيان النبي صلى الله عليه وسلم وقد ثبت عنه أنه قال: ويل للأعقاب من النار. فثبت أن استيعاب الرجلين غسلا واجب. قلت وقد يكون المسح في كلام العرب بمعنى الغسل. أخبرني الأزهري حدثنا أبو بكر بن عثمان، عَن أبي حازم، عَن أبي زيد الأنصاري. قال المسح في كلام العرب يكون غسلا ويكون مسحا، ومنه يقال للرجل إذا توضأ فغسل أعضاءه قد تمسح، ويقال مسح الله ما بك أي

أذهبه عنك وطهرك من الذنوب. وأما هذا الحديث فقد تكلم الناس فيه، قال أبو عيسى سألت محمد بن إسماعيل عنه فضعفه، وقال ما أدري ما هذا. وقد يحتمل أن ثبت الحديث أن يكون تلك الحفنة من الماء قد وصلت إلى ظاهر القدم وباطنه وإن كان في النعل ويدل على ذلك قوله ففتلها بها ثم الأخرى مثل ذلك، والحفنة من الماء إنما كفت مع الرفق في مثل هذا. فأما من أراد المسح على بعض القدم فقد يكفيه ما دون الحفنة وقد روي في غير هذه الرواية عن علي رضي الله عنه أنه توضأ ومسح علي نعليه وقال هذا وضوء من لم يحدث. وإذا احتمل الحديث وجهاً من التأويل يوافق قول الأمة فهو أولى من قول يكون فيه مفارقتهم والخروج من مذاهبهم. والعجب من الروافض تركوا المسح على الخفين مع تظاهر الأخبار فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم واستفاضة علمه على لسان الأمة وتعلقوا بمثل هذا التأويل من الكتاب وبمثل هذه الرواية من الحديث ثم اتخذوه شعارا حتى إن الواحد من غلاتهم ربما تألى فقال برئت من ولاية أمير المؤمنين ومسحت على خفي إن فعلت كذا. وحدثني إبراهيم بن فراس حدثنا أحمد بن علي المروزي حدثنا ابن أبي الجوال أن الحسن بن زيد عتب على كاتب له فحبسه وأخذ ماله فكتب إليه من الحبس. أشكو إلى الله ما لقيت ... أحببت قوماً بهم بليت لا أشتم الصالحين جهرا …ولا تشيعت ما بقيت أمسح خفي ببطن كفي ... ولو على جيفة وطيت قال فدعا به من الحبس ورد عليه ماله وأكرمه. قال أبو داود: حدثنا مسدد وقتيبة عن حماد بن زيد عن سنان بن ربيعة

عن شهر بن حوشب، عَن أبي أمامة وذكر وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح الماقين قال وقال الأذنان من الرأس. قال أبو داود: حدثنا قتيبة قال حماد لا أدري هو قول النبي صلى الله عليه وسلم أو من أبي أمامة، يَعني قصة الأذنين. الماق طرف العين الذي يلي الأنف، وفيه ثلاث لغات ماق ومأق مهموز وموق، فالماق يجمع على الآماق وموق يجمع على المآقي. وقوله الأذنان من الرأس فيه بيان أنهما ليستا من الوجه كما ذهب إليه الزهري وأنه ليس باطنهما من الوجه وظاهرهما من الرأس كما ذهب إليه الشعبي. وممن ذهب إلى أنهما من الرأس ابن المسيب وعطاء والحسن وابن سيرين وسعيد بن جبير والنخعي وهو قول الثوري وأصحاب الرأي ومالك وأحمد بن حنبل. وقال الشافعي هما سنة على حيالهما ليستا من الوجه ولا من الرأس. وتأول أصحابه الحديث على وجهين: أحدهما: أنهما يمسحان مع الرأس تبعاً له؛ والآخر: أنهما يمسحان كما يمسح الرأس ولا يغسلان كالهمجه وإضافتهما إلى الرأس إضافة تشبيه وتقريب، لا إضافة تحقيق، وإنما هو في معنى دون معنى، كقول: مولى القوم منهم، أي في حكم النصرة والموالاة، دون حكم النسب واستحقاق الإرث. ولو أوصى رجل لبني هاشم لم يعط مواليهم ومولى اليهودي لا يؤخذ بالجزية. وفائدة الكلام ومعناه عندهم إبانة الأذن عن الوجه في حكم الغسل وقطع الشبهة فيها لما بينهما من الشبه في الصورة، وذلك أنهما وجدتا في أصل الخلقة بلا شعر وجعلتا محلا لحاسة من الحواس ومعظم الحواس محله الوجه فقيل الأذنان من الرأس ليعلم أنهما ليستا من الوجه.

ومن باب في الاستنثار

ومن باب في الاستنثار قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد في آخرين قالوا حدثنا يحيى بن سليم عن إسماعيل بن كثير عن عاصم بن لقيط بن صَبرة عن أبيه لقيط بن صبرة. قال كنت وافد بني المُنتفق أو في وفد بني المنتفق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم لم نصادفه في منزله وصادفنا عائشة أم المؤمنين قال فأمرت لنا بخزيرة فصنعت لنا. قال واوتينا بقناع قال والقناع طبق فيه تمر. ثم جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: هل أصبتم شيئا أو أمر لكم بشيء قال قلنا نعم يا رسول الله قال فبينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جلوس إذ دفع الراعي غنمه إلى المراح ومعه سخلة تيعر. قال ما ولدت يا غلام قال بهمة. قال فاذبح لنا مكانها شاة ثم قال: لا تحسِبن، ولم يقل لا تحسَبن أنا من أجلك ذبحناها، لنا غنم مائة لا نريد أن تزيد، فإذا ولد الراعي بهمة ذبحنا مكانها شاة. قال: قلت: يا رسول الله إن لي امرأة وإن في لسانها شيئا،، يَعني البذا، قال: فطلقها إذاً، قال: قلت: يا رسول الله! إن لها صحبة، ولي منها ولد. قال: فمرها، يقول عظها، فإن يك فيها خير فستفعل، ولا تضرب ظَعِينتك كضربك أُميتك. قلت: يا رسول الله! أخبرني عن الوضوء، قال: أسبغ الوضوء، وخلل بين الأصابع، وبالغ في الاستنشاق، إلاّ أن تكون صائما. قوله: أمرت لنا بخزيرة، فإن الخزيرة من الأطعمة ما اتخذ بدقيق ولحم، والخزيرة حساء من دقيق ودسم، والقناع الطبق، وسمي قناعا لأن أطرافه أقنعت إلى داخل، أي عطفت. وقوله تيعر من اليُعار وهو صوت الشاة، وقوله ما ولَّدت هومشددة اللام

على معنى خطاب الشاهد. وأصحاب الحديث يروونه على معنى الخبر يقولون ما ولدت خفيفة اللام ساكنة التاء أي ما ولدت الشاة، وهو غلط يقال ولَّدت الشاة إذا أحضرت ولادها فعالجتها حتى يبين منها الولد وأنشدني أبو عمر في ذكر قوم: إذا ما ولَّدوا يوماً تنادوا …أجديٌ تحت شاتك أم غلام والبهمة ولد الشاة أول ما يولد يقال للذكر والأنثى بهمة. وقوله لا تحسبن أنا من أجلك ذبحناها معناه ترك الاعتداد به على الضيف والتبرؤ من الرياء. وقوله ولا تحسبن مكسورة السين إنما هو لغة عُليا مضر وتحسبن بفتحها لغة سفلاها وهو القياس عند النحويين لأن المستقبل من فعل مكسورة العين يفعل مفتوحتها كقولهم علم يعلم وعجل يعجل إلاّ أن حروفا شاذة قد جاءت نحو نعِم ينعِم ويئس ييئس وحسب يحسب، وهذا في الصحيح، فأما المعتل فقد جاء فيه ورِم يرِم ووثق يثق وورع يرِع وورِي يرِي. وقوله لا تضرب ظعينتك كضربك أميتك فإن الظعينة هي المرأة وسميت ظعينة لأنها تظعن مع الزوج وتنتقل بانتقاله. وليس في هذا ما يمنع من ضربهن أويحرمه على الأزواج عند الحاجة إليه فقد أباح الله تعالى ذلك في قوله {فعظوهن واهجروهن في المضاجع} [النساء: 34] وإنما فيه النهي عن تبريح الضرب كما يضرب المماليك في عادات من يستجيز ضربهم، ويستعمل سوء الملكة فيهم. وتمثله بضرب المماليك لا يوجب إباحة ضربهم، وإنما جرى ذكره في هذا على طريق الذم لأفعالهم ونهاه عن الاقتداء بها. وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن ضرب المماليك إلاّ في الحدود وأمرنا بالإحسان إليهم وقال: من لم يوافقكم منهم فبيعوه ولا تعذبوا خلق الله. فأما ضرب الدواب فمباح لأنها لا تتأدب بالكلام ولا تعقل معاني الخطاب

كما يفعل الإنسان، وإنما يكون تقويمها غالبا بالضرب، وقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وحرك بعيره بمحجنه ونخس جمل جابر رضي الله عنه حين أبطأ عليه فسبق الركب حتى مايملك رأسه. وفي الحديث من الفقه أن الاستنشاق في الوضوء غير واجب ولو كان فرضاً فيه لكان على الصائم كهو على المفطر، ونرى أن معظم ما جاء من الحث والتحريض على الاستنشاق في الوضوء إنما جاء لما فيه من المعونه على القراءة وتنقية مجرى النفس النذي يكون به التلاوة. وبإزالة ما فيه من الثفل تصح مخارج الحروف. وقال ابن أبي ليلى وإسحاق بن راهويه إذا ترك الاستنشاق في الوضوء أعاد الصلاة وكذلك إذا ترك المضمضة. وفي الحديث دليل على أن ما وصل إلى الدماغ من سعوط ونحوه فإنه يفطر الصائم كما يفطره ما يصل إلى معدته إذا كان ذلك من فعله أو بإذنه. وفي الحديث دليل على أنه بالغ في الاستنشاق ذاكرا لصومه فوصل الماء إلى دماغه فقد أفسد صومه. وقوله أخبرني عن الوضوء فان ظاهر هذا السؤال يقتضي الجواب عن جملة الوضوء إلاّ أنه صلى الله عليه وسلم لما اقتصر في الجواب على تخليل الأصابع والاستنشاق علم أن السائل لم يسأله عن حكم ظاهر الوضوء وإنما سأله عما يخفى من حكم باطنه وذلك لأن آخذ الماء قد يأخذه بجمع الكف وضم الأصابع بعضها إلى بعض فيسد خصاص ما بينها فربما لم يصل الماء إلى باطن الأصابع وكذلك هذا في باطن أصابع الرجل لأنها ربما ركب بعضها بعضا حتى تكاد تلتحم فقدم له الوصاة بتخليلها ووكد القول فيها لئلا يغفلها والله أعلم.

ومن باب تخليل اللحية

ومن باب تخليل اللحية قال أبو داود: حدثنا أبو توبة حدثنا أبو المليح عن الوليد بن زَرْوان عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا توضأ أخذ كفا من ماء فأدخله تحت حنكه يُخلل به لحيته وقال هكذا أمرني ربي. قلت قد أوجب بعض العلماء تخليل اللحية وقال إذا تركه عامدا أعاد الصلاة وهو قول إسحاق بن راهويه وأبي ثور. وذهب عامة العلماء إلى أن الأمر به استحباب وليس بإيجاب ويشبه أن يكون المأمور بتخليله من الحي على سبيل الوجوب ما رق من الشعر منها فتراءى ما تحتها من البشرة. ومن باب المسح على العمامة قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا يحيى بن سعيد عن ثورعن راشد بن سعد عن ثوبان قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية فأصابهم البرد فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يمسحوا على العصائب والتساخين. العصائب العمائم سميت عصائب لأن الرأس يعصب بها والتساخين الخفاف. ويقال إن أصل ذلك كل ما يسخن به القدم من خف وجورب ونحوه. وقد اختلف أهل العلم في المسح على العمامة فذهب إلى جوازه جماعة من السلف وقال به من فقهاء الأمصار الأوزاعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو ثور وداود. وقال أحمد قد جاء ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من خمسة أوجه وشرط من جوز المسح على العمامة أن يعتم الماسح عليها بعد كمال الطهارة كما يفعله من يريد المسح على الخفين. وروي عن طاوس أنه قال لا يمسح على العمامة التي لا تجعل تحت الذقن.

ومن باب المسح على الخفين

وأبى المسح على العمامة أكثر الفقهاء وتأولوا الخبرفي المسح على العمامة على معنى أنه كان يقتصر على مسح بعض الرأس فلا يمسحه كله مقدمه ومؤخره ولا ينزع عمامته من رأسه ولا ينقضها وجعلوا خبر المغيرة بن شعبة كالمفسر له; وهوأنه وصف وضوءه ثم قال ومسح بناصيته وعلى عمامته فوصل مسح الناصية بالعمامة. وإنما وقع أداء الواجب من مسح الرأس بمسح الناصية إذ هي جزء من الرأس وصارت العمامة تبعاً له كما روي أنه مسح أسفل الخف وأعلاه، ثم كان الواجب في ذلك مسح أعلاه وصار مسح أسفله كالتبع له. والأصل أن الله تعالى فرض مسح الرأس وحديث ثوبان محتمل للتأويل فلا يترك الأصل المتيقن وجوبُه بالحديث المحتمل ومن قاسه على مسح الخفين فقد أبعد لأن الخف يشق نزعه ونزع العمامة لا يشق. قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب حدثني معاوية بن صالح عن عبد العزيز بن مسلم، عَن أبي معقل عن أنس بن مالك قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ وعليه عمامة قطرية فأدخل يده من تحت العمامة فمسح مقدم رأسه ولم ينقض العمامة. قلت وهذا يشهد لما تأولوه في معنى الحديث الأول والقِطر نوع من البرود فيه حمرة. ومن باب المسح على الخفين قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا عيسى بن يونس حدثنا أبي عن الشعبي قال سمعت عروة بن المغيرة بن شعبة يذكرعن أبيه قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة ومعي إداوة فخرج لحاجته ثم أقبل فتلقيته بالإداوة

فأفرغت عليه فغسل كفيه ووجهه ثم أراد أن يخرج ذراعيه وعليه جبة من صوف من جباب الروم ضيقة الكمين فضاقت فادَّرعهما ادراعا ثم أهويت إلى الخفين لأنزعهما فقال دع الخفين فإني أدخلت القدمين الخفين وهما طاهرتان فمسح عليهما. قوله ادرعهما معناه أنه نزع ذراعيه عن الكمين وأخرجهما من تحت الجبة وزنه افتعل من درع إذ مد ذراعه كما يقال ادكر من ذكر. وفي قوله أدخلت القدمين الخفين وهما طاهرتان دليل على أن المسح على الخفين لا يجوز إلاّ بأن يلبسا على كمال الطهارة وأنه إذا غسل إحدى رجليه فلبس عليها أحد الخفين ثم غسل رجله الأخرى ثم لبس الخف الآخر لم يجزئه لأنه جعل طهارة القدمين معاً قبل لبس الخفين شرطا لجواز المسح عليهما وعلة لذلك والحكم المعلق بشرط لا يصح إلاّ من جود شرطه وهو قول مالك والشافعي وأحمد وإسحاق. وفيه جواز الاستعانة في الطهارة والوضوء بالخادم ونحوه. قال أبو داود: حدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا شعبة، عَن أبي بكر بن حفص بن عمر بن سعد سمع أبا عبد الله وهومولى بني تيم بن مرة، عَن أبي عبد الرحمن السلمي أن بلالا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال كان يخرج يقضي حاجته فآتيه بالماء فيتوضأ ويمسح على عمامته ومُوقيه. الموق نوع من الخفاف معروف وساقه إلى القصر. قال أبو داود: حدثنا علي بن الحسين الدرهمي حدثنا ابن داود عن بكير بن عامر، عَن أبي زرعة بن عمرو بن جرير. أن جريراً بال ثم توضأ ومسح

ومن باب فى التوقيت في المسح

على الخفين قال ما يمنعني أن أمسح وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح قالوا إنما كان ذلك قبل نزول المائدة. قال ما أسلمت إلاّ بعد نزول المائدة. أراد القوم بهذا القول أن المسح على الخفين كان رخصة ثم نسخ بقوله سبحانه {وأرجلكم إلىالكعبين} في صورة المائدة. فقال جرير ما أسلمت إلاّ بعد نزول المائدة أي ما صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلاّ بعد إسلامي. وقد رأيته يمسح على خفيه يريد به إثبات المسح على الخفين وأنه غير منسوخ، وفي هذا من قول الصحابة دلالة على أنهم كانوا يرون نسخ السنة بالقرآن. وقد روى قوم من الشيعة عن علي رضي الله عنه أنه قال إنما كان المسح على الخفين قبل نزول المائدة ثم نهى عنه فصارت الإباحة منسوخة. هذا أمرلايصح عن على رضى الله عنه. وقد ثبت عنه أنه قال لو كان الدين بالقياس أو بالرأى لكان باطن الخف، أولى بالمسح من ظاهره، إلا أنى رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح ظاهر خفيه. وقد ذكره أبو داود حدثنا محمد بن العلاء حدثنا حفص بن غياث حدثنا الأعمش، عَن أبي إسحاق عن عبد خير عن علي رضي الله عنه بمعناه. ومن باب فى التوقيت في المسح قال أبو داود: حدثنا يحيى بن معين حدثنا عمرو بن الربيع بن طارق حدثنا يحيى بن أيوب عن عبد الرحمن بن رزين عن محمد بن يزيد وهو ابن أبي زياد عن أيوب بن قَطَن عن أُبَي بن عمارة أنه قال يا رسول الله أمسح على الخفين قال نعم قال يوم قال ويومين قال وثلاثة قال نعم وما شئت. قلت والأصل في التوقيت أنه للمقيم يوم وليلة وللمسافر ثلاثة أيام ولياليهن

هكذا روي في خبر خزيمة بن ثابت وخبر صفوان بن عسال وهو قول عامة الفقهاء غير أن مالكا قال يمسح من غير توقيت قولا بظاهر هذا الحديث. وتأويل الحديث عندنا أنه جعل له أن يرتخص بالمسح ما شاء وما بدا له كلما احتاج إليه على مر الزمان إلاّ أنه لا يعدو شرط التوقيبت، والأصل وجوب غسل الرجلين فإذا جاءت الرخصة في المسح مقدرة بوقت معلوم لم يجز مجاوزتها إلاّ بيقين، والتوقيت في الأخبار الصحيحة إنما هو اليوم والليلة للمقيم والثلاثة الأيام ولياليهن للمسافر. فأما رواية منصور عن إبراهيم التيمي، عَن أبي عبد الله الجدلي عن خزيمة بن ثابت أنه قال ولو استزدناه لزادنا. فإن الحكم وحماداً قد روياه عن إبراهيم فلم يذكروا فيه هذا الكلام ولو ثبت لم يكن فيه حجة لأنه ظن منه وحسبان، والحجة إنما تقوم بقول صاحب الشريعة لا بظن الراوي. وقال محمد بن إسماعيل ليس في التوقيت في المسح على الخفين شيء أصح من حديث صفوان بن عسال المرادي. ورأيت أن أذكر حديث صفوان إذ كان المعول عليه وفيه ألفاظ فيها معان تحتاج إلى شرح وتفسير ونحن نذكر وجوهها إن شاء الله. حدثنا ابن الأعرابي وإسماعيل بن محمد الصفار، قال: حَدَّثنا سعدان بن نصر حدثنا سفيان بن عيينة عن عاصم بن أبي النجود عن زر بن حبيش. قال أتيت صفوان بن عسال فقال ما جاء بك قلت ابتغاء العلم. قال فإن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضى بما يطلب قلت حاك في صدري المسح على الخفين بعد الغائط والبول وكنت امرأً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فأتيتك أسألك هل سمعت منه

في ذلك شيئاً فقال نعم كان يأمرنا إذا كنا سفرا أو مسافرين لا ننزع خفافنا ثلاثةَ أيام ولياليهن إلاّ من جنابة لكن من غائط وبول ونوم. قلت هل سمعته يذكر الهوى، قال نعم بينما نحن في مسير إذ ناداه أعرابي بصوت له جَهوري يا محمد فأجابه على نحو ذلك هاؤم قلنا ويحك أوويلك اغضُض من صوتك فإنك قد نهيت عن ذلك. فقال والله لا أغضض من صوتي، قال أرأيتَ رجلا أحب قوما ولما يلحق بهم قال المرء مع من أحب. قال ثم لم يزل يحدثنا حتى قال إن من قِبَل المغرب باباً للتوبة مسيرة أربعين سنة أو سبعين سنة فتحه الله للتوبة يوم خلق السموات والأرض فلا يغلقه حتى تطلع الشمس منه. قوله إن الملائكة تضع أجنحتها فيه ثلاثة أوجه أحدها أن يكون معنى وضع الجناح من الملائكة بسط أجنحتها وفرشها لطالب العلم لتكون وطاءً له ومعونة إذا مشى في طلب العلم. والوجه الثاني أن يكون ذلك بمعنى التواضع من الملائكة تعظيما لحقه وتوقيرا لعلمه فتضم أجنحتها له وتخفضها عن الطيران كقوله تعالى {واخفض لهما جناح الذل من الرحمة} [الإسراء: 24] . والوجه الثالث أن يكون وضع الجناح يراد به النزول عند مجالس العلم والذكر وترك الطيران كما روي أنه قال صلى الله عليه وسلم قال: ما من قوم يذكرون الله عز وجل إلاّ حفت بهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم الله فيمن عنده. قلت وهذه الكلمة لم يرفعها سفيان في هذه الرواية ورفعها حماد بن سلمة عن عاصم عن زر عن صفوان بن عسال وقد رواه أيضاً أبو الدرداء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومن باب المسح على الجوربين

وقوله سفرا هوجمع سافر كما يقال تاجر وتجر وراكب وركب. وقوله لكن من غائط وبول كلمة لكن موضوعة للاستدراك وذلك لأنه قد تقدمه نفي واستثناء وهو قوله كان يأمرنا أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلاّ من جنابة ثم قال لكن من بول وغائط ونوم فاستدركه بلكن ليعلم أن الرخصة إنما جاءت في هذا النوع من الأحداث دون الجنابة فإن المسافر الماسح على خفه إذا أجنب كان عليه نزع الخف وغسل الرجل مع سائر البدن وهذا كما تقول ما جاءني زيد لكن عمرو وما رأيت زيداً لكن خالداً. ويشبه أن يكون رفع النبي صلى الله عليه وسلم صوته في جواب الأعرابي. وقوله هاؤم يمد به صوته من ناحية الشفقة عليه لئلا يحبط عمله وذلك لما جاء من الوعيد في قوله تعالى {ولا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون} [الحجرات: 2] فعذره عليه السلام لجهله وقلة علمه ورفع صوته حتى كان فوق صوته أومثله لفرط رأفته وشفقته على أمته. وفيه أنه أقام المحبة والمشايعة في الخير والطاعة مقام العمل بهما وجعل المرء مع من أحب. وفيه دليل على استحباب احتمال دالة التلامذة والصبر على أذاهم لما يُرجى من عاقبته من النفع لهم. ومن باب المسح على الجوربين قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة عن وكيع عن سفيان، عَن أبي قيس الأودي عن هذيل بن شرحبيل عن المغيرة بن شعبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على الجوربين والنعلين.

ومن باب في الانتضاح

قوله والنعلين هو أن يكون قد لبس النعلين فوق الجوربين. وقد أجاز المسح على الجوربين جماعة من السلف وذهب إليه نفر من فقهاء الأمصار منهم سفيان الثوري وأحمد وإسحاق وقال مالك والأوزاعي والشافعى لا يجوز المسح على الجوربين قال الشافعي إلاّ إذا كانا منعلين يمكن متابعة المشي فيهما. وقال أبو يوسف ومحمد يُمسح عليهما إذا كانا ثخينين لا يشقان. وقد ضعف أبو داود هذا الحديث وذكر أن عبد الرحمن بن مهدي كان لا يحدث به. ومن باب في الانتضاح قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير حدثنا سفيان الثوري عن منصور عن مجاهد عن سفيان بن الحكم الثقفي أو الحكم بن سفيان قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بال توضأ وينتضح. الانتضاح ههنا الاستنجاء بالماء وكان من عادة أكثرهم أن يستنجوا بالحجارة لا يمسون الماء، وقد يتناول الانتضاح أيضاً على رش الفرج بالماء بعد الاستنجاء به ليرفع بذلك وسوسة الشيطان. ومن باب في تفريق الوضوء قال أبو داود: حدثنا هارون بن معروف حدثنا ابن وهب عن جريربن حازم أنه سمع قتادة، قال: حَدَّثنا أنس بن مالك أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوضأ وترك على قدمه مثل موضع الظفر فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ارجع فأ حسن وضوءك. دلالة هذا الحديث أنه لا يجوز تفريق الوضوء وذلك لأنه قال ارجع فأحسن وضوءك وظاهر معناه إعادة الوضوء في تمام، ولوكان تفريقه جائزاً لأشبه

ومن باب إذا شك في الحديث

أن يقتصر فيه على الأمر بغسل ذلك الموضع أو كان يأمرة بإمساسه الماء في ذلك وأن لا يأمره بالرجوع إلى المكان الذي يتوضأ فيه. ومن باب إذا شك في الحديث قال ابوداود: حدثنا قتيبه حدثنا سفيان عن الزهرى عن سعيد بن المسيب وعباد بن تميم عن عمه شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم الرجل يجد الشيء في الصلاة حتى يخيل إليه قال لا ينفتل حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً. قوله حتى يسمع صوتاً او يجد ريحاً معناه حتى يتيقن الحدث ولم يرد به الصوت نفسه ولا الريح نفسها حسب وقد يكون أطروشاً لا يسمع الصوت وأخشم لا يجد الريح ثم تنتقض طهارته إذا تيقن وقوع الحدث منه كقوله صلى الله عليه وسلم في الطفل إذا استهل صلى عليه ومعناه أن تعلم حياته يقيناً والمعنى إذا كان أوسع من الاسم كان الحكم له دون الاسم. وفي الحديث من الفقه أن الشك لا يزحم اليقين. وفيه دليل على أنه إذا تيقن النكاح وشك في الطلاق كان على النكاح المتقدم إلى أن يتيقن الطلاق. وقال مالك: إذا شك في الحدث لم يصل إلاّ مع تجديد الوضوء إلاّ أنه قال إذا كان في الصلاة فاعترضه الشك مضى في صلاته وأحد قوليه حجة عليه في الآخر. ومن باب الوضوء من القبله قال أبو داود: حدثنا محمد بن بشار حدثنا يحيى وعبد الرحمن قالا: حَدَّثنا سفيان، عَن أبي رَوق عن إبراهيم التيمي عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قبلها ولم يتوضأ. قال يحتج به من يذهب إلى أن الملامسة المذكورة في الآية معناها الجماع

ومن باب الوضوء من مس الذكر

دون اللمس بسائر البدن إلاّ أن أبا داود ضعف هذا الحديث فقال هو منقطع لأن التيمي لم يسمع من عائشة وضعف حديث الأعمش عن حبيب عن عروة عن عائشة. وحكي عن يحيى بن سعيد أنه قال هو شبه لا شيء قال وليس هذا بعروة بن الزبير إنما هو عروة المزني. ومن باب الوضوء من مس الذكر قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن عبد الله بن أبي بكر عن عروة بن الزبير عن مروان عن بسرة بنت صفوان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من مس ذكره فليتوضأ. قد ذهب إلى إيجاب الوضوء من مس الذكر جماعة من السلف منهم عمر وسعد بن أبي وقاص وابن عمر وابن عباس وأبو هريرة رضوان الله عليهم. وهو مذهب الأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق إلاّ أن الشافعي لا يرى نقص الطهارة إلاّ أن يمسه بباطن كفه0وقال الأوزاعي وأحمد إذا مسه بساعده أو بظهركفه انتقض طهره كهو إذا مسه ببطن كفه سواء. وكان علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وعمار وحذيفة وأبو الدرداء رضوان الله عليهم لا يرون مسه نا قضاً للطهر. وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه وهو قول سفيان الثوري. وكان مالك بن أنس يذهب إلى أن الأمر فيه على الاستحباب لا على الإيجاب وروى أبو داود في الرخصة فيه حديث قيس بن طلق، قال: حَدَّثنا مسدد حدثنا ملازم بن عمرو الحنفي حدثنا عبد الله بن بدر عن قيس بن طلق عن أبيه، قال قدمنا على نبي

ومن باب الوضوء من لحوم الابل

الله صلى الله عليه وسلم فجاء رجل كأنه بدوي فقال يا رسول ما ترى في مس الرجل ذكره بعدما يتوضأ فقال وهل هو إلا مضغة منه أو بضعة منه. قال أبو داود ورواه الثوري وشعبة وابن عيينة عن محمد بن جابر عن قيس بن طلق عن أبيه بإسناده ومعناه، وقال في الصلاة واحتج من رأى فيه الوضوء بأن خبر بسرة متأخر لأن أبا هُرَيْرَة رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو متأخر الإسلام وكان قدوم طلق على رسول الله صلى الله عليه وسلم في بدء الإسلام وهو إذ ذاك يبني مسجد المدينة أول زمن الهجرة، وإنما يؤخذ بآخر الأمرين. وتأولوا خبر طلق على أنه أراد به المس ودونه حائل. واستدلوا على ذلك برواية الثوري وشعبة وابن عيينة أنه سأله عن مسه في الصلاة والمصلي لا يمس فرجه من غير حائل بينه وبينه. وحدثنا الحسن بن يحيى حدثنا أبو بكر بن المنذر قال بلغني عن أحمد بن حنبل ويحيى بن معين أنهما اجتمعا فتذاكرا الوضوء من الذكر وكان أحمد يرى فيه الوضوء ويحيى لا يرىذلك وتكلما في الأخبار التي رويت في ذلك فحصل أمرهما على أن اتفقا على إسقاط الإحتجاج بالخبرين معاً خبر بسره وخبر طلق، ثم صارا إلى الآثار المرويه عن الصحابه في ذلك فصار أمرهما ألى أن احتج أحمد بحديث ابن عمر فلم يمكن يحيى دفعه. ومن باب الوضوء من لحوم الابل قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا أبو معاويه حدثنا الأعمش عن عبد الله بن عبد الله الرازي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن البراء بن عازب قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوضوء من لحوم الإبل فقال توضؤوا

ومن باب الوضوء من مس لحم النيء

منها. وسئل عن لحوم الغنم فقال لا تتوضؤوا منها وسئل عن الصلاة في مبارك الإبل فقال لا تصلوا في مبارك الإبل فإنها من الشياطين. وسئل عن الصلاة في مرابض الغنم فقال صلوا فيها فإنها بركة. قلت قد ذهب عامة أصحاب الحديث إلى إيجاب الوضوء من أكل لحوم الإبل قولا بظاهر هذا الحديث وإليه ذهب أحمد بن حنبل. وأما عامة الفقهاء فمعنى الوضوء عندهم متأول على الوضوء الذي هو النظافة ونفى الزهومة كما ُروي توضؤوا من اللبن فان له دسماً وكما قال صلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في أعطان الإبل وليس ذلك من أإجل أن بين الأمرين فرقاً في باب الطهارة والنجاسة لأن الناس على أحد قولين: إما قائل يرى نجاسة الأبوال كلها أو قائل هى طهارة بول ما يؤكل لحمه والغنم والإبل سواء عند الفريقين في القضيتين معاً. وإنما نهى عن الصلاة في مبارك الإبل لأن فيها نفاراً وشراداً لا يؤمن أن تتخبط المصلي إذا صلى بحضرتها أو تفسد عليه صلاته، وهذا المعنى مأمون من الغنم لما فيها من السكون وقلة النفار، ومعلوم أن في لحوم الإبل من الحرارة وشدة الزهومة ما ليس في لحوم الغنم فكان معنى الأمر بالوضوء منه منصرفاً إلى غسل اليد لوجود سببه دون الوضوء الذي هو من أجل رفع الحدث لعدم سببه والله أعلم. ومن باب الوضوء من مس لحم النيء قال أبو داود: حدثقا محمد بن العلا حدثنا مروان بن معا ويه حدثنا هلال بن ميمون الجهني عن عطاء بن زيد الليثي قال هلال لا أعلمه إلاّ، عَن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ بغلام يسلخ شاة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم

ومن باب الوضوء مما مست النار

تنح حتى أريك فأدخل يده بين الجلد واللحم فدحس بها حتى توارت إلى الإبط ثم مضى فصلى للناس ولم يتوضأ. قوله حتى أريك معناه أعلمك ومنه قوله تعالى {وأرنا مناسكنا} [البقرة: 128] وقوله فدحس بها إلى الإبط أي أدخل ملئ يده بذراعها إلى الإبط والدحس كالدس ويقال للسنبلة إذا امتلأت واشتد حبها قد دحست، ومعنى الوضوء في هذا الحديث غسل اليد والله أعلم. ومن باب الوضوء مما مست النار قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا وكيع عن مسعود عن جامع بن شداد عن المغيرة بن عبد الله عن المغيرة بن شعبة قال ضفت النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فأمر بجنب فشوي وأخذ الشفرة فجعل يحز لي بها منه قال فجاء بلال فأذنه بالصلاة فألقى الشفرة وقال ما له تربت يداه وقام يصلي. قول تربت يداه كلمة يقولها العرب عند اللوم والتأنيب، ومعناه الدعاء عليه بالفقر والعدم وهم يطلقونها في كلامهم، وهم لا يريدون وقوع الأمر كما قالوا عقرى حلقى، وكقولهم هبلته أمه، فإن هذا الباب لما كثر في كلامهم ودام استعمالهم له في خطابهم صار عندهم بمعنى اللغو، كقولهم لا والله وبلى والله وذلك من لغو اليمين الذي لا اعتبار به ولا كفارة فيه، ويقال ترب الرجل إذا افتقر وأترب بالألف إذا استغنى، ومثل هذا قوله صلى الله عليه وسلم: فعليك بذات الدين تربت يداك. قلت وليس هذا الصنيع من رسول الله بمخالف لقول إذا حضر العشاء وأقيمت الصلاة فابدؤوا بالعشاء وإنما هو للصائم الذي قد أصابه الجوع وتاقت

ومن باب الوضوء من الدم

نفسه إلى الطعام فأمر بأن يصيب من الطعام قدر ما يسكن به شهوته لتطمئن نفسه في الصلاة فلا تنازعه شهوة الطعام وهذا فيمن حضره الطعام أوان العادة غداء وعشاء وهو متماسك في نفسه لا يزعجه الجوع ولا يعجله عن إقامة الصلاة وإيفاء حقها. وفي الخبر دليل على أن الأمر بالوضوء مما غيرت النار استحباب لا أمر إيجاب. وفيه جواز قطع اللحم بالسكين وقد جاء النهي عنه في بعض الحديث ورويت الكراهة فيه وأمر بالنهي ويشبه أن يكون المعنى في ذلك كراهية زي العجم واستعمال عادتهم في الأكل بالأخلة والبارجين على مذهب النخوة والترفع عن مس الأصابع الشفتين والفم وليس يضيق قطعه بالسكين واصلاحه به والجز منه إذا كان اللحم طابقاً أو عضواً كبيراً كالجنب ونحوه فإذا كان عُراقاً ونحوه فنهشه مستحب على مذهب التواضع وطرح الكبر وقطعه بالسكين مباح عند الحاجة إليه غير ضيق. قال أبو داود: حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح حدثنا عبد الملك بن أبي كريمة من خيار المسلمين حدثنا عبيدبن ثمامة المرادي. قال قدم علينا مصر عبد الله بن الحارث بن جزء الزُبيدي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال مر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل وبرمته على النار فقال له: أطابت برمتك قال نعم بأبي أنت وأمي فتناول منها بضعة فلم يزل يعلكها حتى أحرم بالصلاة. قوله يعلكها أي يلوكها في فمه والعلك مضغ ما لا يطاوع الأسنان. ومن باب الوضوء من الدم قال أبو داود: حدثنا أبو توبة الربيع بن نافع حدثنا ابن المبارك عن

محمد بن إسحاق حدثني صدقة بن يسار عن عقيل بن جابر عن جابر قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة ذات الرقاع فأصاب رجل امرأه رجل من المشركين فحلف أن لا أنتهي حتى أهريق دماً في أصحاب محمد فخرج يتبع أثره ونزل النبي صلى الله عليه وسلم فقال مَن رجل يكلؤنا فانتدب رجل من المهاجرين ورجل من الأنصار فقال كونا بفم الشعب فلما خرج الرجلان إلى فم الشعب اضطجع المهاجري وقام الأ نصارى يصلي وأتى الرجل، فلما رأى شخصه عرف أنه ربيئة للقوم فرماه بسهم فوضعه فيه ونزعه حتى رماه بثلاثة أسهم ثم ركع ثم سجد ثم أنبه صاحبه فلما عرف أنهم قد نذروا به هرب ولما رأى المهاجري ما بالأنصاري من الدماء قال سبحان الله ألا أنبهتني أول ما رمى قال كنت في سورة أقرأها فلم أحب أن أقطعها. ربيئة القوم هو الرقيب الذي يشرف على المرقب ينظر العدو من أي وجه يأتي فينذر أصحابه، وقوله نذروا به أي شعروا به وعلموا بمكانه. وقد يحتج بهذا الحديث من لا يرى خروج الدم وسيلانه من غير السبيلين ناقضا للطهارة ويقول لو كان ناقضا للطهارة لكانت صلاة الأنصاري تفسد بسيلان الدم أول ما أصابته الرمية ولم يكن يجوز له بعد ذلك أن يركع ويسجد وهو محدث، وإلى هذا ذهب الشافعي. وقال أكثر الفقهاء: سيلان الدم من غير السبيلين ينقض الوضوء وهذا أحوط المذهبين وبه أقول. وقول الشافعي قوي في القياس ومذاهبهم أقوى في الاتباع ولست أدري

ومن باب الوضوء من النوم

كيف يصح هذا الاستدلال من الخبر والدم إذا سال أصاب بدنه وجلده وربما أصاب ثيابه ومع إصابة شيء من ذلك وإن كان يسيرا لا تصح الصلاة عند الشافعي إلاّ أن يقال إن الدم كان يخرج من الجراحة على سبيل الذرق حتى لا يصيب شيئا من ظاهر بدنه ولئن كان كذلك فهو أمر عجب. ومن باب الوضوء من النوم قال أبو داود: حدثنا شاذ بن فياض حدثنا هشام الدستواني عن قتادة عن أنس قال كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظرون العشاء الآخرة حتى تخفق رؤوسهم ثم يصلون ولا يتوضؤون. في هذا الحديث من الفقه أن عين النوم ليس بحدث ولوكان حدثا لكان على أي حال وجد ناقضا للطهارة كسائر الأحداث التي قليلها وكثيرها وعمدها وخطؤها سواء في نقض الطهارة، وإنما هو مظنة للحدث موهم لوقوعه من النائم غالبا فإذا كان بحال من التماسك والاستواء في القعود المانع من خروج الحدث منه كان محكوما له بالسلامة، وبقاء الطهارة المتقدمة فإذا زال عن مستوى القعود بأن يكون مضطجعا أو راكعا أو ساجدا أو قائماً أو مائلا إلى أحد شقيه أو على حال يسهل معها خروج الحدث من حيث لا يشعر بذلك كان أمره محمولا على أنه قد أحدث لأنه قد يكون منه الحدث في تلك الحالة غالبا ولوكان نوم القاعد ناقضا للطهارة لم يجز على عامة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بين أظهرهم والوحي ينزل عليه أن يصلوا محدثين بحضرته فدل على أن النوم إذا كان بهذه الصفة غير ناقض للطهور. وفي قوله كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظرون العشاء الآخرة حتى تخفق

رؤوسهم دليل على أن ذلك أمركان يتواتر منهم وأنه قد كثر حتى صار كالعادة لهم وأنه لم يكن نادرا في بعض الأحوال وذلك يؤكد ما قلناه من أن عين النوم ليس بحدث. وقوله تخفق رؤوسهم معناه تسقط أذقانهم على صدورهم وهذا لا يكون إلاّ عن نوم مثقل. قال ذو الرمة يذكر سرى الليل وغلبة النوم: وخافق الرأس وسط الكور قلت له …زع بالزمام وجوف الليل مركوم قال أبو داود: حدثنا حيوة بن شريح في آخرين قالوا حدثنا بقية عن الوضين بن عطاء عن محفوط بن علقمة عن عبد الرحمن بن عائذ عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وكاء السِّه العينان فمن نام فليتوضأ. السه اسم من أسماء الدبر والوكاء الرباط الذي يشد به القربة ونحوها من الأوعية وفي بعض الكلام الذي يجري مجرى الأمثال حفظ ما في الوعاء بشد الوكاء. وفي هذا الحديث ما يؤيد ماقلناه من أن النوم عينه ليس بحدث وإنما ينتقض به الطهر إذا كان مع إمكان انحلال الوكاء غالبا فأما مع إمساكه بأن يكون واطدا بالأرض فلا. ومن أهل العلم من يذهب إلى أن النوم قليله وكثيره حدث إلاّ أنه لا يسمى هذا النوع منه نوما مطلقا إنما يسميه نعاسا قال وذلك لأنه إذا وجد منه النوم عدم معه التماسك أصلا وأنشد فيه قول الشاعر: وسنان أثقله النعاس فرنَّقت ... في عينه سنة وليس بنائم وقال المفضل الضبي السنة في الرأس والنوم في القلب ويشهد لذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: تنام عيناي ولا ينام قلبي.

ومن باب الرجل يطأ الاذى برجله

ومن باب الرجل يطأ الاذى برجله قال أبو داود: حدثنا هناد بن السري، عَن أبي معاوية عن الأعمش عن شقيق قال قال عبد الله كنا لا نتوضأ من موطىء ولا نكُف شعرا ولا ثوبا. الموطىء ما يوطأ من الأذى في الطرق وأصله الموطوء بالواو وإنما أراد بذلك أنهم كانوا لا يعيدون الوضوء للأذى إذا أصاب أرجلهم لأنهم كانوا لا يغسلون أرجلهم ولا ينظفونها من الأذى إذا أصابها. وقوله لا نكف شعرا ولا ثوبا أي لا نقيها من التراب إذا صلينا صيانة لهما عن التتريب ولكن نرسلهما حتى يقعا بالأرض فيسجدا مع الأعضاء. ومن باب في المذي قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك، عَن أبي النَّضر عن سليمان بن يسار عن المقداد بن الأسود أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أمره أن يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل إذا دنا من أهله فخرج منه المذي ماذا عليه فإن عندي ابنته وأنا أستحي أن أسأله. قال المقداد فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: إذا وجد أحدكم ذلك فلينضح فرجه وليتوضأ وضوءه للصلاة. قال أبو داود: حدثنا أحمد بن يونس حدثنا زهير حدثنا هشام بن عروة عن عروة أن عليا رضي الله عنه قال للمقداد وذكر نحو هذا. قال فسأله المقداد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليغسل ذكره وأنثييه. قوله فلينضح فرجه معناه ليغسله بالماء وأمر بغسل الأنثيين استظهارا بزيادة التطهير لأن المذي ربما انتشر فأصاب الأنثيين ويقال إن الماء البارد إذا أصاب

ومن باب الإكسال

الأنثيين رد المذي وكسر من غربه فلذلك أمره بغسلهما. وفيه من الفقه أن المذي نجس وأنه ليس فيه إلاّ الوضوء. ومن باب الإكسال قال أبو داود: حدثنا محمد بن مهران البزاز الرازي حدثنا مبشر الحلبي عن محمد أبي غسان، عَن أبي حازم عن سهل بن سعد حدثني أُبيّ بن كعب أن الفتيا التي كانوا يفتون أن الماء من الماء كانت رخصة رخصها رسول الله صلى الله عليه وسلم في بدء الإسلام ثم أمر بالاغتسال بعد. قال معنى الماء من الماء إنما هو وجوب الاغتسال بالماء من أجل خروج الماء الدافق وكان الحكم في صدر الاسلام أن مخالطة الرجل المرأة حتى يلتقي الختانان منهما من غير إترال لا يوجب الاغتسال فأحد الماءين المذكورين في الخبر هو المني والماء الآخر الغسول الذي يغسل به. ثم نسخ ذلك واستقر الحكم على أن الختانين إذا التقيا فقد وجب الغسل سواء كان هناك إنزال أو لم يكن، وقد بقي على المذهب الأول جماعة من الصحابة لم يبلغهم خبر التقاء الختانين. منهم سعد بن أبي وقاص وأبو أيوب الأنصاري وأبو سعيد الخدري ورافع بن خديج وزيد بن خالد وممن ذهب إلى قولهم سليمان الأعمش ومن المتأخرين داود بن علي. وروى شريك عن داود عن عكرمة عن ابن عباس في قوله الماء من الماء قال إنما ذلك في الاحتلام. وفي قوله الماء من الماء مستدل لمن ذهب إلى طهارة المني وذلك أنه سماه ماء

ومن باب الجنب يؤخر الغسل

وهذا الاسم على إطلاقه لا يكون إلاّ في الطاهر ألا ترى أنه قال لايقولن أحدكم أرقت ماء وليقل بُلْتُ فمنع إطلاق هذا الاسم على النجاسة. ومن باب الجنب يؤخر الغسل قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر النمري حدثنا شعبة عن علي بن مدرك، عَن أبي زُرعة بن عمرو بن جرير عن عبد الله بن نُجيّ عن أبيه عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تدخل الملائكة بيتا فيه صورة ولا كلب ولا جنب. قوله لا تدخل الملائكة بيتا يريد الملائكة الذين ينزلون بالبركة والرحمة دون الملائكة الذين هم الحفظة فإنهم لا يفارقون الجنب وغير الجنب. وقد قيل أنه لم يرد بالجنب ههنا من أصابته جنابة فأخر الاغتسال إلى أوان حضور الصلاة ولكنه الذي يجنب فلا يغتسل ويتهاون به ويتخذه عادة فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان يطوف على نسائه في غسل واحد، وفي هذا تأخير الاغتسال عن أول وقت وجوبه. وقالت عائشة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينام وهوجنب من غير أن يمس ماء. وأما الكلب فهو أن يقتني كلبا ليس لزرع ولا ضرع أو صيد، فأما إذا كان يرتبطه للحاجة إليه في بعض هذه الأمور أو لحراسة داره إذا اضطر إليه فلا حرج عليه. وأما الصورة فهي كل صورة من ذوات الأرواح كانت لها أشخاص منتصبة أو كانت منقوشة في سقف أوجدار أومصنوعة في نمط أومنسوجة في ثوب أو ما كان فإن قضية العموم تأتي عليه فليجتنب وبالله التوفيق.

ومن باب الجنب يقرأ

ومن باب الجنب يقرأ قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن عمرو بن مُرة عن عبد الله بن سلمة قال دخلت على عليّ أنا ورجلان رجل منا ورجل من بني أسد فبعثهما علي رضي الله عنه وجها. وقال إنكما عِلجان فعالجا عن دينكما. فدخل المخرج ثم خرج فدعا بماء فأخذ منه حفنة فتمسح بها ثم جعل يقرأ القرآن فأنكروا ذلك فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخرج من الخلاء فيقرئنا القرآن ويأكل معنا ولم يكن يحجبُه أو قال يحجزُه عن القرآن شيء ليس الجنابة. قوله إنكما علجان يريد الشدة والقوة على العمل يقال رجل عَلج وعُلج إذا كان قوي الخلقة وثيق البنية، وقوله عالجا عن دينكما أي جاهدا وجالدا. وقوله ليس الجنابة معناه غير الجنابة، وحرف ليس لها ثلاثة مواضع أحدها أن تكون بمعنى الفعل ترفع الاسم وتنصب الخبر كقولك ليس عبد الله عاق وتكون بمعنى لا كقولك رأيت عبد الله ليس زيدا تنصب به زيدا كما تنصب بلا وتكون بمعنى غير، كقولك ما رأيت أكرم من عمرو ليس زيد أي غير زيد وهو يجر ما بعده. وفي الحديث من الفقه أن الجنب لا يقرأ القرآن وكذلك الحائض لا تقرأ لأن حدثها أغلظ من حدث الجنابة. وكان أحمد بن حنبل يرخص للجنب أن يقرأ الآية ونحنوها وكان يوهن حديث علي هذا ويضعف أمرعبد الله بن سلمة وكذلك قال مالك في الجبنب أنه لا يقرأ الآية ونحوها. وقد حكي عنه أنه قال تقرأ الحائض ولا يقرأ الجبنب لأن الحائض إذا لم تقرأ نسيت القرآن لأن أيام

ومن باب الجنب يدخل المسجد

الحيض تتطاول ومدة الجنابة لا تطول، وروي عن ابن المسيب وعكرمة أنهما كانا لا يريان بأسا بقراءة الجنب القرآن وأكثر العلماء على تحريمه. ومن باب الجنب يدخل المسجد قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا عبد الواحد بن زياد حدثنا الأفلتُ بن خليفة حدثتني جسرة بنت دجاجة قالت سمعت عائشة رضي الله عنها تقول جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجوه بيوت أصحابه شارعة في المسجد فقال وجهوا هذه البيوت عن المسجد فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب. وجوه البيوت أبوابها ولذلك قيل لناحية البيت التي فيها الباب وجه الكعبة. وقوله وجهوا هذه البيوت عن المسجد أي احرفوا وجوهها يقال وجهت الرجل إلى ناحية كذا إذا جعلت وجهه إليها ووجهته عنها إذا صرفته عن جهتها إلى جهة غيرها. وفي الحديث بيان أن الجنب لا يدخل المسجد وظاهر قوله صلى الله عليه وسلم فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب يأتي على مقامه في المسجد ومروره فيه. وقد اختلف العلماء في ذلك فقال أصحاب الرأي لا يدخل الجنب المسجد إلاّ بأحد الطهرين وهو قول سفيان الثوري فإن كان مسافرا ومر على مسجد فيه عين ماء تيمم بالصعيد ثم دخل المسجد واستقى. وقال مالك والشافعي ليس له أن يقعد في المسجد وله أن يمر فيه عابر سبيل. وتأول الشافعي قوله تعالى {لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى} [النساء: 43] الآية. على أن المراد به المسجد وهو موضع الصلاة وعلى هذا تأوله أبوعبيدة معمر بن المثنى. وكان أحمد بن حنبل وجماعة من أهل الظاهر يجيزون للجنب دخول المسجد إلاّ أن أحمد كان يستحب له أن يتوضأ

ومن باب الجنب يصلي بالقوم وهو ناس

إذا أراد دخوله وضعفوا هذا الحديث وقالوا افلتُ راويه مجهول لا يصح الاحتجاج بحديثه، والآية على مذهب هؤلاء الطائفة المتقدمة متأولة على أن عابري سبيل هم المسافرون تصيبهم الجنابة فيتيممون ويصلون، وقد روي ذلك عن ابن عباس. ومن باب الجنب يصلي بالقوم وهو ناس قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن زياد الأعلم عن الحسن، عَن أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل في صلاة الفجر فأومأ بيده أَنْ مكانكم ثم جاء ورأسه يقطر ماء فصلى بهم. قلت في هذا الحديث دلالة على أنه إذا صلى بالقوم وهو جنب وهم لا يعلمون بجنابته إن صلاتهم ماضية ولا إعادة عليهم وعلى الإمام الإعادة وذلك أن الظاهر من حكم لفظ الخبر أنهم قد دخلوا في الصلاة معه ثم استوقفهم إلى أن اغتسل وجاء فأتم الصلاة بهم، وإذا صح جزء من الصلاة حتى يجوز البناء عليه جاز سائر أجزائها، والاقتداء بالإمام طريقه الاجتهاد، وإنما كلِفَ المأموم الظاهِرَ من أمره وليس عليه الإحاطة لأنه يتعذر دركها فإذا أخطأ فيما حكمه الظاهر لم ينقض عليه فعله كالحاكم لا ينقض عليه حكمه فيما طريقه الاجتهاد وإن أخطأ فيه ولا سبيل للمأموم إلى معرفة طهاره الإمام ولا عتب عليه إن عزب عنه علمها وهو قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولا يعلم له مخالف وإليه ذهب الشافعي. وفي الحديث دليل على أن افتتاح المأموم صلاته قبل الإمام لا تبطل صلاته وفيه حجة لمن ذهب إلى البناء على الصلاة في الحدث.

ومن باب في الرجل يجد البلة في منامه

ومن باب في الرجل يجد البِلةَ في منامه قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا حماد بن خالد الخياط حدثنا عبد الله العمري عن عبيد الله عن القاسم عن عائشة قالت سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجد البلل ولا يذكر احتلام قال يغتسل وعن الرجل يرى أنه قد احتلم ولا يجد البلل قال لا غسل عليه. فقالت أم سليم المرأة ترى ذلك أعليها الغسلُ قال نعم إنما النساء شقائق الرجال. قلت ظاهر هذا الحديث يوجب الاغتسال إذا رأى البلة وإن لم يتيقن أنها الماء الدافق. وروي هذا القول عن جماعة من التابعين هم عطاء والشعبي والنخعي وقال أحمد بن حنبل أعجب إليّ أن يغتسل إلاّ رجلا به أبردة. وقال أكثر أهل العلم لا يجب عليه الاغتسال حتى يعلم أنه بلل الماء الدافق واستحبوا أن يغتسل من طريق الاحتياط ولم يختلفوا أنه إذا لم ير الماء وإن كان رأى في النوم أنه قد احتلم فإنه لا يجب عليه الاغتسال، وعبد الله بن عمر العمري ليس بالقوي عند أهل الحديث. وقوله النساء شقائق الرجال أي نظائرهم وأمثالهم في الخلق والطباع فكأنهن شققن من الرجال. وفيه من الفقه إثبات القياس والحاق حكم النظير بالنظير وأن الخطاب إذا ورد بلفظ الذكور كان خطابا بالنساء إلا مواضع الخصوص التي قامت أدلة التخصيص فيها، وفيه ما دل على فساد قول من زعم من أهل الظاهر أن من أعتق شركاً له في جارية بينه وبين شريكه وكان موسراً فإنه لا يقوَّم عليه نصيب شريكه ولا تعتق الجارية لأن الحديث إنما ورد في العبد دون الأمة.

ومن باب الغسل من الجنابة

ومن باب الغسل من الجنابة قال أبو داود: حدثنا محمد بن المثنى حدثنا أبو عاصم عن حنظلة عن القاسم عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة جاء بشيء نحو الحِلاب فأخذ بكفيه فبدأ بشِق رأسه الأيمن ثم الأيسر ثم أخذ بكفيه فقال بهما على رأسه. الحلاب إناء يسع قدر حلبة ناقة، وقد ذكره محمد بن إسماعيل في كتابه وتأوله على استعمال الطيب في الطهور وأحسبه توهم أنه أريد بالمحلب الذي يستعمل في غسل الأيدي. وليس هذا من الطيب في شيء وإنما هوعلى ما فسرتم لك ومنه قول الشاعر: صاح هل رأيت أو سمعت براع ... رد في الضرع ما قرى في الحلاب قال أبو داود: حدثنا نصر بن علي حدثنا الحارث بن وجيه حدثنا مالك بن دينار عن محمد بن سيرين، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله: تحت كل شعرة جنابة فاغسلوا الشعر وأنقوا البشرة. ظاهر هذا الحديث يوجب نقض القرون والضفائر إذا أراد الاغتسال من الجنابة لأنه لا يكون شعره كله شعرة شعرة مغسولا إلاّ بنقضها وإليه ذهب إبراهيم النخعي وقال عامة أهل العلم إيصال الماء إلى أصول الشعر وإن لم ينقض شعره يجزيه. والحديث ضعيف والحارث بن وجيه مجهول وقد يحتج به من يوجب الاستنشاق في الجنابة لما في داخل الأنف من الشعر. واحتج بعضهم في إيجاب المضمضة بقوله وأنقوا البشرة وزعم أن داخل الفم من البشرة، وهذا خلاف قول أهل اللغة لأن البشرة عندهم هي ما ظهر من البدن

ومن باب في المرأة هل تنقض شعرها عند الغسل

فباشره البصر من الناظر إليه، وأما داخل الأنف والفم فهو الأدمة والعرب تقول فلان مُؤدَم مُبشر إذا كان حسن الظاهر مخبوء الباطن كذلك أخبرني أبو عمر، عَن أبي العباس أحمد بن يحيى. ومن باب في المرأة هل تنقض شعرها عند الغسل قال أبو داود: حدثنا زهير بن حرب حدثنا سفيان بن عيينة عن أيوب بن موسى عن سعيد بن أبي سعيد عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة عن أم سلمة أن امرأة من المسلمين قالت يا رسول اللهإ ني امرأة أشد ضفر رأسي أفأنقضه للجنابة. قال إنما يكفيك أن تحثي عليه ثلاث حَثَيات من ماء ثم تفيضي على ساتر جسدك فإذا أنت قد طهرت. قولها أشد ضفر رأسي أي فتل الشعر وإدخال بعضه في بعض يقال ضفرت الشعر إذا فعلت ذلك به وضفرت شراك النعل ونحوه والعقائص يقال لها الضفاير. وفي قوله صلى الله عليه وسلم فإذا أنت قد طهرت دليل على أنه إذا انغمس في الماء أوبلل به بدنه من غير دلك باليد وامرار بها عليه فقد أجزأه، وهو قول عامة الفقهاء إلاّ مالك فانه قال إذا اغتسل من الجنابة فانه لا يجزيه حتى يُمر يده على جسده. وكذلك قال في الوضوء إذا غمس يده أو رجله في الماء لم يجزئه وإن نوى الطهارة حتى يمر يديه على رجليه يتدلك بهما. وفيه دليل على أن الفيضة الواحدة من الماء إذا عمت تجزيه وأن الغسلات الثلاث إنما هي على الاستحباب وليست على الوجوب.

ومن باب في مؤاكلة الحائض ومجامعتها

ومن باب في مؤاكلة الحائض ومجامعتها قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد حدثنا ثابت عن أنس أن أسيد بن حُضير وعباد بن بشر أتيا النبي صلى الله عليه وسلم فسألاه أن يأذن لهما في وطء النساء في المحيض خلافا لليهود فتمعر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظننا أنه قد وجد عليهما قال فخرجا واستقبلتهما هدية من لبن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث في آثارهما فسقاهما فظننا أنه لم يجد عليهما. قوله تمعر وجهه معناه تغير والأصل في التمعر قلة النضارة وعدم إشراق اللون ومنه المكان الأمعر وهو الجدب الذي ليس فيه خصب. وقوله فظننا أنه لم يجد عليهما يريد علمنا فالظن الأول حسبان والآخر علم ويقين، والعرب تجعل الظن مرة حسباناً ومرة علما ويقينا لاتصال طرفيه بهما فمبدأ العلم ظن وآخره يقين قال الله تعالى {الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم} [البقرة: 46] معناه يوقنون. قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا عبد الله بن داود عن مِسعَر عن المقدام بن شريح عن أبيه عن عائشة قالت كنت أتعرّق العظم وأنا حائض فأعطيه النبي صلى الله عليه وسلم فيضع فمه في الموضع الذي فيه وضعته. العظم العراق بما عليه من اللحم تريد أني كنت انتهسه وآخذ ما عليه من اللحم. ومن باب الحائض تناول من المسجد قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن ثابت بن عبيد عن القاسم عن عائشة قالت قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ناوليني الخمرة من المسجد فقلت إني حائض فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن حيضتك ليست في يدك.

ومن باب في اتيان الحائض

الخمرة السجادة التي يسجد عليها المصلي ويقال سميت خمرة لأنها تخمر وجه المصلي عن الأرض أي تستره. وقوله ليست حيضتك في يدك الحيضة بكسر الحاء الحال التي تلزمها الحائض من التجنب والتحيض كما قالوا القعدة والجلسة يريدون حال القعود والجلوس. وأما الحيضة مفتوحة الحاء فهي الدفعة من دفعات دم الحيض. وفي الحديث من الفقه أن للحائض أن تتناول الشيء بيدها من المسجد وأن من حلف لا يدخل دارا أو مسجدا فإنه لا يحنث بإدخال يده أو بعض جسده فيه ما لم يدخله بجميع بدنه. ومن باب في اتيان الحائض قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن شعبة حدثني الحكم عن عبد الحميد بن عبد الرحمن عن مقسم عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم في الذي يأتي امرأته وهي حائض قال يتصدق بدينار أو بنصف دينار. قلت قد ذهب إلى إيجاب الكفارة عليه غير واحد من العلماء منهم قتادة والأوزاعي وأحمد بن حنبل وإسحاق وبه قال الشافعي قديما ثم قال في الجديد لا شيء عليه. قلت ولا ينكر أن يكون فيه كفارة لأنه وطء محظور كالوطء في رمضان وقال أكثر العلماء لا شيء عليه ويستغفر الله وزعموا أن هذا الحديث مرسل أو موقوف على ابن عباس (ولا يصح متصلا مرفوعا والذمم برية إلاّ أن تقوم الحجة بشغلها وكان ابن عباس) يقول إن أصابها في فور الدم تصدق بدينار وإن كان في آخره فنصف دينار.

ومن باب في الرجل يصيب

وقال قتادة دينار للحائض ونصف دينار إذا أصابها قبل أن تغتسل وكان أحمد ابن حنبل يقول هو مخير بين الدينار والنصف الدينار. وروي عن الحسن أنه قال عليه ما على من وقع على أهله في شهر رمضان. ومن باب في الرجل يصيب من أهله دون الجماع قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن الشيباني عن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا في فوح حيضنا أن نتزر ثم يباشرنا وأيكم كان يملك إربه كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يملك إربه. فوح الحيض معظمه وأوله ومثله فَوعة الدم، يقال فاح وفاع بمعنى واحد وجاء في الحديث النهي عن السير في أول الليل حتى تذهب فوعته يريد إقبال ظلمته كما جاء النهي عن السير حتى يذهب فحمة العشاء. وقولها أيكم يملك إربه يروى على وجهين. أحدهما الإرب مكسورة الألف والآخر الأرب مفتوحة الألف والراء وكلاهما معناه وطر النفس وحاجتها يقال لفلان عندي أرب وإرب أي بغية وحاجة. ومن باب في المرأة تستحاض ومن قال تدع الصلاة عدد الأيام التي كانت تحيض قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن نافع عن سليمان بن يسارعن أم سلمة أن امرأة كانت تُهَراقُ الدماء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتت لها أم سلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لتنظر عدة الليالي والأيام التي كانت تحيضهن في الشهر قبل أن يصيبها الذي أصابها فلتترك الصلاة

قدر ذلك من الشهر فإذا خلَّفت ذلك فلتغتسل ثم لتستثفربثوب ثم لتصلّ. قلت هذا حكم المرأة يكون لها من الشهر أيام معلومة تحيضها في أيام الصحة قبل حدوث العلة، ثم تستحاض فتهريق الدماء ويستمر بها السيلان. أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تدع الصلاة من الشهر قدر الأيام التي كانت تحيضهن قبل أن يصيبها ما أصابها، فإذا استوفت عدد تلك اليام اغتسلت مرة واحدة وصار حكمها حكم الطواهر في وجوب الصلاة والصوم عليها وجواز الطواف إذا حجت وغشيان الزوج إياها، إلاّ أنها إذا أرادت أن تصلي توضأت لكل صلاة تصليها لأن طهارتها طهارة ضرورية فلا يجوز أن تصلي بها صلاتي فرض كالمتيمم ولولا أنها قد كانت تحفظ عدد أيامها التي كانت تحيضها أيام الصحة لم يكن لقوله صلى الله عليه وسلم: لتنظر عدد الأيام والليالي التي كانت تحيضهن من الشهر قبل أن يصيبها الذي أصابها معنى. إذ لا يجوز أن يردها إلى رأيها ونظرها في أمر هي غير عارفة بكنهه والاستثفار أن تشد ثوبا تحتجز به يمسك موضع الدم ليمنع السيلان وهومأخوذ من الثفر. وفيه من الفقه أن المستحاضة يجب عليها أن تستثفر وأن تعالج نفسها بما يسد المسلك ويرد الدم من قطن ونحوه كما قال في حديث حمنة أنعت لك الكرسف وقال لها تلجمي واستثفري. وفيه دليل على أنها إذا لم تفعل ذلك كان عليها إعادة الوضوء إذا خرج منها دم. وإنما جاء قوله صلى الله عليه وسلم تصلي المستحاضة وإن قطر الدم على الحصير فيمن قد تعالجت بالاستثفار ونحوه فإذا جاء بعد ذلك شيء غالب لا يرده الثفر حتى تقطر لم يكن عليها إعادة الوضوء. فأما إذا لم تكن قدمت العلاج فهي غير معذورة

ومن باب من قال إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة

وإنما أتيت من قبل نفسها فلزمها الوضوء. وهكذا حكم من به سلس البول يجب عليه أن يسد المجرى بقطن ونحوه، ثم يشده بالعصائب فإن لم يفعل فقطر أعاد الوضوء. وفي هذا الباب حروف منها أن عائشة قالت رأيت مِركنها مَلآن دما والمرْكنُ شبه الجفنة الكبيرة ومنها قوله إذا أتاك قرؤك فلا تصلي وإذا مر قرؤك فتطهري ثم صلي ما بين القرء إلى القرء يريد بالقرء هنا الحيض يقال قرء وقرء ويجمع على القروء وحقيقة القرء الوقت الذي يعود فيه الحيض أو الطهر ولذلك قيل للطهر قرء كما قيل للحيض قرء، وذهب إلى أن الأقراء في العدة الحيض عمر بن الخطاب رضي الله عنه وإلى أنها الأطهار عائشة. وروي ذلك أيضاً عن زيد بن ثابت ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: إنما ذلك عرق وليست بالحيضة، يريد أن ذلك علة حدثت بها من تصدع العروق فاتصل الدم وليس بدم الحيض الذي يقذفه الرحم لميقات معلوم فيجري مجرى سائر الأثفال والفضول التي تستغني عنها الطبيعة فتقذفها عن البدن فتجد النفس راحة لمفارقتها وتخلصها عن ثفلها وأذاها. ومن باب من قال إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة قال أبو داود: حدثنا ابن أبي عقيل ومحمد بن سلمة المصريان قالا: حَدَّثنا ابن وهب عن عمرو بن الحارث عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير وعمرة عن عائشة أن أم حبيبة بنت جحش ختنة رسول الله صلى الله عليه وسلم: استحيضت سبع سنين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن هذه ليست بالحيضة ولكن هذا عرق فاغتسلي وصلي. قال أبو داود: زاد الأوزاعي في هذا الحديث عن الزهري عن عروة

أن عائشة رضي الله عنها قالت فأمرها النبي إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة وإذا أدبرت فاغتسلي وصلي. قلت وهذا خلاف الأول وهو حكم المرأة التي تميز دمها فتراه زمانا أسود ثخينا فذلك إقبال حيضها ثم تراه رقيقا مشرقا فذلك حين إدبار الحيضة ولا يقول لها رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا القول إلاّ وهي تعرف إقبالها وإدبارها بعلامة تفصل بها بين الأمرين وبين ذلك حديثه الآخر. قال أبو داود: حدثنا محمد بن المثنى حدثنا ابن أبي عدي عن محمد، يَعني ابن عمرو حدثني ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن فاطمة بنت أبي حبيش أنها كانت تستحاض فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: إذا كان دم الحيضة فإنه دم أسود يعرف فإذا كان ذلك فامسكي عن الصلاة وإذا كان الآخر فتوضئي وصلي فإنما هو عرق. قال أبو داود: وقد روى أنس بن سيرين عن ابن عباس في المستحاضة قال إذا رأت الدم البحراني فلا تصلي وإذا رأت الطهر ولو ساعة فلتغتسل وتصلي. قلت فهذا يبين لك أن الدم إذا تميز كان الحكم له وإن كانت لها أيام معلومة. واعتبار الشيء بذاته وبخاص صفانه أولى من اعتباره بغيره من الأشياء الخارجة عنه فإذا عدمت التمييز فالاعتبار للأيام على معنى حديث أم سلمة. وقول ابن عباس إذا رأت الدم البحراني يريد الدم الغليظ الواسع الذي يخرج من قعر الرحم ونسب إلى البحر لكثرته وسعته والتبحر التوسع في الشيء والانبساط فيه. قال أبو داود: حدثنا زهير بن حرب حدثنا عبد الملك بن عمرو حدثنا زهير بن محمد حدثنا عبد الله بن محمد بن عقيل عن إبراهيم بن محمد بن طلحة عن عمه عمران بن طلحة عن أمه حمنة بنت جحش قالت: كنت أستحاض حيضة كثيرة

شديدة، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استفتيه وأخبره فوجدته في بيت أختي زينب بنت جحش فقلت يا رسول الله إني امرأة أستحاض حيضة كثيرة شديدة فما ترى فيها قد منعتني الصلاة والصوم فقال: أنعت لك الكُرسُف فإنه يذهب الدم. قالت هو أكثر من ذلك قال فاتخذي ثوباً فقالت هو أكثر من ذلك إنما اثُج ثجا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم سآمرك بأمرين أيهما فعلت أجزأ عنك من الآخر وإن قويت عليهما فأنت أعلم وقال لها إنما هذه ركضة من ركضات الشيطان فتحيِّضي ستة أيام أو سبعة أيام في علم الله ثم اغتسلي حتى إذا رأيت أنك قد طهرت واستنقأت فصلي ثلاثا وعشرين ليلة أو أربعا وعشرين ليلة وأيامها وصومي فإن ذلك يجزيك وكذلك فافعلي كل شهر كما تحيض النساء وكما يطهرن ميقات حيضهن وطهرهن وإن قويت على أن تؤخري الظهر وتعجلي العصر فتغتسلين وتجمعين بين الصلاتين الظهر والعصر وتؤخرين المغرب وتعجلين العشاء ثم تغتسلين وتجمعين بين الصلاتين فافعلي وتغتسلين مع الفجر فافعلي وصومي إن قدرت على ذلك. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا أعجب الأمرين إليّ. قال أبو داود: روى هذا الحديث عمرو بن ثابت عن ابن عقيل لم يجعل قوله وهذا أعجب الأمرين إليّ كلام النبي صلى الله عليه وسلم جعله كلام حمنة. قلت وهذا خلاف الحكم الأول في حديث أم سلمة وخلاف الحكم الثاني في حديث عائشة وإنما هي امرأة مبتدأة لم يتقدم لها أيام ولا هي مميزة لدمها وقد استمر بها الدم حتى غلبها فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرها إلى العرف الظاهر

والأمر الغالب من أحوال النساء كما حمل أمرها في تحيضها كل شهر مرة واحدة على الغالب من عاداتهن ويدل على ذلك قوله كما تحيض النساء ويطهرن من ميقات حيضهن وطهرهن، وهذا أصل في قياس أمرالنساء بعضهن على بعض في طب الحيض والحمل والبلوغ وما أشبه هذا من أمورهن ويشبه أن يكون ذلك منه صلى الله عليه وسلم على غير وجه التخيير بين الستة والسبعة لكن على معنى اعتبارحالها بحال من هي مثلها وفي مثل سنها من نساء أهل إقليمها فإن كانت عادة مثلها منهن أن تقعد ستا قعدت ستا وإن سبعا فسبعا. وفيه وجه آخر وذلك أنه قد يحتمل أن تكون هذه المرأة قد ثبت لها فيما تقدم أيام ستة أو سبعة، إلاّ أنها قد نسيتها فلا تدري أيتهما كانت فأمرها أن تتحرى وتجتهد وتبني أمرها على ما تتيقنه من أحد العددين. ومن ذهب إلى هذا استدل بقوله في علم الله أي فيما علم الله من أمرك من ستة أوسبعة. وقد ترك بعض العلماء القول بهذا الخبر لأن ابن عقيل راويه ليس بذلك وصار في المبتدأة التي لا تمييز للدم معها إلى أنها تحتاط وتأخذ باليقين فلا تترك الصلاة إلاّ أقل مدة الحيض عنده وهي يوم وليلة، ثم تغتسل وتصلي سائر الشهرلأن الصلاة لا تسقط بالشك وإلى هذا مال الشافعي في أحد قوليه. وقوله أنعت لك الكرسف يريد القطن وقولها أثج ثجا، الثج شدة السيلان. وقوله إنما هي ركضة الشيطان فإن أصل الركض الضرب بالرجل والإصابة بها يريد به الإضرار والإفساد كما تركض الدابة وتصيب برجلها ومعناه والله أعلم

ومن باب المستحاضة تغتسل لكل صلاة

أن الشيطان قد وجد بذلك طريقا إلى التلبيس عليها في أمردينها ووقت طهرها وصلاتها حتى أنساها ذلك فصار في التقدير كأنه ركضة نالتها من ركضاته وإضافة النسيان في هذا إلى فعل الشيطان كهو في قوله سبحانه {فأنساه الشيطان ذكر ربه} [يوسف: 42] وكقول النبي صلى الله عليه وسلم: إن نساني الشيطان شيئا من صلاتي فسبحوا أوكما قال أي إن لبس علي. ومن باب المستحاضة تغتسل لكل صلاة قال أبو داود: حدثنا هناد عن عبدة عن ابن إسحاق عن الزهري عن عروة عن عائشة أن أم حبيبة بنت جحش استحيضت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرها بالغسل لكل صلاة. قال وحدثنا عبد الله بن عمرو بن أبي الحجاج أبو معمر حدثنا عبد الوارث عن الحسين عن يحيى بن أبي كثير، عَن أبي سلمة قال أخبرتني زينب بنت أبي سلمة أن امرأة كانت تهراق الدم وكانت تحت عبد الرحمن بن عوف وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرها أن تغتسل عند كل صلاة وتصلى. قلت هذا الحديث مختصر وليس فيه ذكر حال هذه المرأة لا بيان أمرها وكيفية شأنها في استحاضتها وليس كل امرأة مستحاضة يجب عليها الاغتسال لكل صلاة وإنما هي فيمن تبتلى وهي لا تميز دمها أوكانت لها أيام فنسيتها فهي لا تعرف موضعها ولا عددها ولا وقت انقطاع الدم عنها من أيامها المتقدمة فإذا كانت كذلك فإنها لا تدع شيئا من الصلاة وكان عليها أن تغتسل عند

ومن باب من قال تجمع بين الصلاتين

كل صلاة لأنه قد يمكن أن تكون ذلك الوقت قد صادف زمن انقطاع دمها فالغسل عليها عند ذلك واجب. ومن كان هذا حالها من النساء لم يأتها زوجها في شيء من الأوقات لإمكان أن تكون حائضا وعليها أن تصوم شهر رمضان كله مع الناس وتقضيه بعد ذلك لتحيط علما بأن قد استوفت عدد ثلاثين يوما في وقت كان لها أن تصوم فيه وإن كانت حاجة طافت طوافين بينهما خمسة عشر يوما لتكون على يقين من وقوع الطواف في وقت حكمها فيه حكم الطهارة وهذا على مذهب من رأى أكثر أيام الحيض خمسة عشر يوما. ومن باب من قال تجمع بين الصلاتين وتغتسل لهما غسلا واحداً قال أبو داود: حدثنا عبد العزيز بن يحيى حدثنا محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة أن سهلة بنت سُهيل استحيضت فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فأمرها أن تغتسل عند كل صلاة فلما جهدها ذلك أمرها أن تجمع بين الظهر والعصر بغسل والمغرب والعشاء بغسل وتغتسل للصبح. قلت وهذه والأولى سواء وحالهما حال واحدة إلاّ أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى الأمر قد طال عليها وقد جهدها الاغتسال لكل صلاة رخص لها في الجمع بين الصلاتين لما يلحقه من مشقة السفر. وفيه حجة لمن رأى للمتيمم أن يجمع بين صلاتي فرض بتيمم واحد لأن علتهما واحدة وهي الضرورة وإلى هذا ذهب أبو حنيفة وأصحابه وهو قول ابن المسيب وسفيان الثوري والحسن والزهري. وقال مالك والشافعي وأحمد

وإسحاق يتيمم لكل فريضة ولا يجمع به بين فريضتين. وقد روي ذلك عن علي وابن عمر وابن عباس وبه قال النخعي والشعبي وقتادة. قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا وكيع عن الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن عروة عن عائشة قالت جاءت فاطمة بنت أبي حُبيش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر الحديث إلى أن قال لها ثم اتغسلي ثم صلي وتوضئي لكل صلاة. ثم ان أبا داود ذكر طرق هذا الحديث وضعف أكثرها، يَعني الوضوء عند كل صلاة. قال ودل على ضعف حديث حبيب بن أبي ثابت عن عائشة وذكرت الحديث قالت فكانت تغتسل لكل صلاة. قلت أما قول أكثر الفقهاء فهو الوضوء لكل صلاة وعليه العمل في قول عامتهم. ورواية الزهري لا تدل على ضعف حديث حبيب بن أبي ثابت لأن الاغتسال لكل صلاة في حديث الزهري مضاف إلى فعلها وقد يحتمل أن يكون ذلك اختيارا منها. وأما الوضوء لكل صلاة في حديث حبيب فهو مروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومضاف إليه وإلى أمره إياها بذلك والواجب هو الذي شرعه النبي صلى الله عليه وسلم وأمر به دون ما فعلته وأتته من ذلك. قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن سُمي مولى أبي بكر أن القعقاع وزيد بن أسلم أرسلاه إلى سعيد بن المسيب يسأله كيف تغتسل المستحاضة قال تغتسل من ظهر إلى ظهر وتتوضأ لكل صلاة فإن غلبها الدم استثفرت بثوب.

ومن باب من لم يذكر الوضوء إلا عند الحدث

قال أبو داود قال مالك إني لا أظن حديث ابن المسيب من ظهر إلى ظهر إنما هو من طهر إلى طهر ولكن الوهم دخل فيه فقلبه الناس فقالوا من ظهر إلى ظهر. قلت ما أحسن ما قال مالك وما أشبهه بما ظنه من ذلك لأنه لا معنى للاغتسال من وقت صلاة الظهر إلى مثلها من الغد ولا أعلمه قولا لأحد من الفقهاء وإنما هو من طهر إلى طهر وهو وقت انقطاع دم الحيض. وقد يجيء ما روي من الاغتسال من ظهر إلى ظهر في بعض الأحوال لبعض النساء وهو أن تكون المرأة قد نسيت الأيام التي كانت عادة لها ونسيت الوقت أيضاً، إلاّ أنها تعلم أنها كلما انقطع دمها في أيام العادة كان وقت الظهر فهذه يلزمها أن تغتسل عند كل ظهر وتتوضأ لكل صلاة ما بينها وبين الظهر من اليوم الثاني، فقد يحتمل أن يكون سعيد إنما سئل عن امرأة هذا حالها فنقل الراوي الجواب ولم ينقل السؤال على التفصيل والله أعلم. ومن باب من لم يذكر الوضوء إلاّ عند الحدث قال أبو داود: حدثنا زياد بن أيوب حدثنا هشيم حدثنا أبو بشر عن عكرمة أن أم حبيبة بنت جحش استحيضت فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تنتظر أيام إقرائها ثم تغتسل وتصلي فإن رأت شيئا من ذلك توضأت وصلت. قال أبو داود وكان ربيعة لا يرى على المستحاضة وضوءا عند كل صلاة إلاّ أن يصيبها حدث غير الدم فتوضأ. قلت: الحديث لا يشهد لما ذهب إليه ربيعة، وذلك أن قوله فإن رأت شيئا من ذلك توضأت وصلت يوجب عليها الوضوء ما لم تتيقن زوال تلك العلة وانقطاعها عنها وذلك لأنها لا تزال ترى شيئا من ذلك أبدا إلاّ أن تنقطع عنها

ومن باب في المرأة ترى الصفرة والكدرة

العلة وقد يحتمل أن يكون قوله فإن رأت يمعنى فإن علمت شيئا من ذلك ورؤية الدم لا تدوم أبدا وقال أهل التفسير قوله تعالى {وأ رنا مناسكنا} [البقرة: 128] معناه علّمنا. وقول ربيعة شاذ ليس عليه العمل وهذا الحديث منقطع وعكرمة لم يسمع من أم حبيبة بنت جحش. ومن باب في المرأة ترى الصفرة والكدرة قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن قتادة عن أم الهُذيل عن أم عطية قالت كنا لا نعد الكدرة والصفرة بعد الطهر شيئا. قلت اختلف الناس في الصفرة والكدرة بعد الطهر والنقاء فروي عن عليّ أنه قال ليس ذلك بحيض ولا تترك لها الصلاة ولتتوضأ ولتصلي. وهو قول سفيان الثوري والأوزاعي. وقال سعيد بن المسيب إذا رأت ذلك اغتسلت وصلت به قال أحمد بن حنبل. وعن أبي حنيفة إذا رأت بعد الحيض وبعد انقطاع الدم الصفرة أو الكدرة يوما أو يومين ما لم يجاوز العشرة فهو من حيضتها ولا تطهر حتى ترى البياض خالصا. واختلف قول أصحاب الشافعي في هذا فالمشهور من مذهب أصحابه أنها إذا رأت الصفرة أو الكدرة بعد انقطاع دم العادة ما لم يجاوز خمسة عشر يوما فإنها حيض. وقال بعضهم إذا رأتها في أيام العادة كان حيضا ولا يعتبرها فيما جاوزها، فأما البكر إذا رأت أول ما رأت الدم صفرة أو كدرة فإنهما لا تعدان في قول أكثر الفقهاء حيضا وهو قول عائشة وعطاء. وقال بعض أصحاب الشافعي حكم المبتدأة بالصفرة والكدرة حكم الحيض.

ومن باب في وقت النفساء

ومن باب في وقت النفساء قال أبو داود: حدثنا أحمد بن يونس حدثنا زهير حدثنا علي بن عبد الأعلى، عَن أبي سهل عن مُسَّة عن أم سلمة قالت كانت النفساء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تقعد بعد نفاسها أربعين يوما أو أربعين ليلة. قلت: النفاس في قول أكثر الفقهاء أربعون يوما وقد روي ذلك عن عمر بن الخطاب وابن عباس وأنس بن مالك وهو قول سفيان الثوري وأصحاب الرأي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه. قال أبوعبيد وعلى هذا جماعة الناس. وروي عن الشعبي وعطاء أنهما جعلا النفاس أقصاه شهرين وإليه ذهب الشافعي وقال به مالك في الأول ثم رجع عنه وقال يسئل النساء عن ذلك ولم يحد فيه حدا. وعن الأوزاعي تقعد كامرأة من نسائها من غير تحديد. فأما أقل النفاس فساعة عند الشافعي وكذلك قال مالك والأوزاعي وإلى هذا مال محمد بن الحسن. فأما أبو حنيفة فإنه قال أقل النفاس خمسة وعشرون يوما. وقال أبو يوسف أدنى ما تقعد له النفساء أحد عشر يوما، فإن رأت الطهر قبل ذلك فيكون أدناه زائدا على أكثر الحيض بيوم. وعن الأوزاعي في امرأة ولدت ولم تر دما قال تغتسل وتصلي من وقتها وحديث مُسة أثنى عليه محمد بن إسماعيل وقال مسة هذه أزدية واسم أبي سهل كثير بن زياد وهو ثقة وعلي بن عبد الأعلى ثقة. ومن باب الاغتسال من الحيض قال أبو داود: حدثنا محمد بن عمرو الرازي حدثنا سلمة، يَعني ابن الفضل

حدثنا محمد، يَعني ابن إسحاق عن سليمان بن سُحيم عن أمية بنت أبي الصلت عن امرأة من غفار سماها أن النبي صلى الله عليه وسلم أردفها على حقيبة رحله فحاضت قال فنزلت وإذا بها دم مني [وكانت أول حيضة حضتها قال فتقبضت إلى الناقة واستحييت فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بي ورأى الدم قال ما لك] لعلك نَفِست قلت نعم قال فأصلحي من نفسك ثم خذي إناءً من ماء فاطرحي فيه ملحا ثم اغسلي ما أصاب الحقيبة من الدم [ثم عودي لمركبك قالت فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر رضخ لنا من الفيء] قالت وكانت لا تطهر من حيض إلاّ جعلت في طهورها ملحا [وأوصت به أن يجعل في غسلها حين ماتت. فيه من الفقه أنه استعمل الملح في غسل الثياب وتنقيته من الدم، والملح مطعوم فعلى هذا يجوز غسل الثياب بالعسل إذا كان ثوباً من إبريسم يفسده الصابون وبالخل إذا أصابه الحبر ونحوه ويجوز على هذا التدلك بالنخالة وغسل الأيدي بدقيق الباقلّي والبطيخ ونحو ذلك من الأشياء التي لها قوة الجلاء. وحدثونا عن يونس بن عبد الأعلى قال: دخلت الحمام بمصر فرأيت الشافعي يتدلك بالنخالة. وقوله نفست أي حضت يقال نفست المرأة مفتوحة النون مكسورة الفاء إذا حاضت ونفست بضم النون إذا أصابها النفاس. قلت: وفي هذا الباب من حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم علم المرأة كيف تغتسل

ومن باب التيمم

من الحيض فقال لها خذي فرصة ممسكة. الفرصة القطعة من القطن أو الصوف تفرص أي تقطع، وقد طيِبت بالمسك أو بغيره من الطيب فتتبع بها المرأة أثر الدم ليقطع عنها رائحة الأذى. وقد تتأول أن الممسكة على معنى الإمساك دون الطيب يقال مسَّكت الشيء وأمسكته يريد أنها تمسكها بيدها فتستعملها. وقال هذا القائل متى كان المسك عندهم بالحال التي يمتهن في هذا فيتوسعوا في استعماله هذا التوسع. ومن باب التيمم قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن محمد النُفيلي حدثنا أبو معاوية عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أُسيَد بن حُضير وأبا سامعة في طلب قلادة أضلتها عائشة فحضرت الصلاة فصلوا بغير وضوء فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له فأنزل الله سبحانه آية التيمم فقال لها أسيد بن حضير يرحمك الله ما نزل بك امرٌ تكرهينه إلاّ جعل الله للمسلمين ولكِ فرجا. قوله فصلوا بغير وضوء حجة لقول الشافعي فيمن لا يجد ماء ولا ترابا أنه لا يترك الصلاة إذا حضر وقتها على حال وذلك أن القوم الذين بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلب العقد كانوا على غير ماء ولم يكن رخص لهم بعد في التيمم بالتراب وإنما نزلت آية التيمم بعدُ فكانوا في معنى من لا يجد اليوم ماءً ولا ترابا ولوكانوا ممنوعين من الصلاة وتلك حالهم لأنكره النبي صلى الله عليه وسلم حين أعلموه ذلك ولنهاهم عنه فيما يستقبلونه إذ لا يجوز سكوته على باطل يراه ولا تأخيره البيان

في واجب عن وقته، إلاّ أن الشافعي يرى إعادة هذه الصلاة إذا زالت الضرورة وكان الإمكان. وقد احتج بعض من ذهب إلى أنه لا يصلي إذا لم يجد ماء ولا ترابا بقول النبي صلى الله عليه وسلم لا يقبل الله صلاة بغير طهور. قال وهذا لا يجد طهوراً فلا صلاة عليه. قال وهذا لا يسقط عنه الصلاة ألا تراه يقول: لا يقبل الله صلاة حائض إلاّ بخمار وهي إذا لم تجد ثوبا صلت عريانة فكذلك هذا إذا لم يجد طهورا صلى على حسب الإمكان. وقد يؤمر الطفل بالطهارة والصلاة ويحج به ولا يصح في الحقيقة شيء منها وتؤمر المستحاضة بالصلاة وطهرها غير صحيح. قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عبد الله بن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب أن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة حدثه عن عمار بن ياسر أنه كان يحدث أنهم تمسحوا وهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصعيد لصلاة الفجر فضربوا بأكفهم الصعيد ثم مسحوا بوجوههم مسحة واحدة ثم عادوا فضربوا بأكفهم الصعيد مرة أخرى فمسحوا بأيديهم كلها إلى المناكب والآباط من بطون أيديهم. قال أبو داود: حدثنا محمد بن يحيى وابن أبي خلف قالا: حَدَّثنا يعقوب حدثنا أبي عن صالح عن ابن شهاب عن عبيد الله عن ابن عباس عن عمار وذكر الحديث.

قلت: لم يختلف أحد من أهل العلم أنه لا يلزم المتيمم أن يمسح بالتراب ما وراء المرفقين وإنما جرى القوم في استيعاب اليد بالتيمم على ظاهر الاسم وعموم اللفظ لأن ما بين مناط المنكب إلى أطراف الأصابع كله اسم لليد. وقد يقسم بدن الإنسان على سبعة آراب اليدان والرجلان ورأسه وظهره وبطنه ثم قد يفصل كل عضو منها فيقع تحته اسما خاصة كالعضد في اليد والذراع والكف واسم اليد يشتمل على هذه الأجزاء كلها. وإنما يترك العموم في الأسماء ويصار إلى الخصوص بدليل يفهم أن المراد من الاسم بعضه لا كله، ومهما عدم دليل الخصوص كان الواجب إجراء الاسم على عمومه واستيفاء مقتضاه برمته. وفي هذا الحديث حجة لمن ذهب إلى إدخال الذراع في المرفقين في التيمم وهو قول ابن عمر وابنه سالم والحسن والشعبي. وإليه ذهب أبو حنيفة والثوري وهو قول مالك والشافعي. ووجه الاحتجاج له من صنيع عمار وأصحابه أنهم رأوا إجراء الاسم على العموم فبلغوا بالتيمم إلى الآباط وقام دليل الإجماع في إسقاط ما وراء المرفقين فسقط وبقي ما دونهما على الأصل لاقتضاء الاسم إياه. ويؤيد هذا المذهب أن التيمم بدل من الطهارة بالماء والبدل يسد مسد الأصل ويحل محله وإدخال المرفقين في الطهارة بالماء واجب فليكن التيمم بالتراب كذلك. وقد يقول من يخالف في هذا لوكان حكم التيمم حكم الطهارة بالماء لكان التيمم على أربعة أعضاء، فيقال له إن العضوين المحذوفين لا عبرة بهما لأنهما

إذا سقطا سقطت المقايسة عليهما. فأما العضوان الباقيان فالواجب أن يراعى فيهما حكم الأصول ويستشهد لهما بالقياس ويستوفى شرطه في أمرهما كركعتي السفر قد اعتبر فيهما حكم الأصل وإن كان الشطر الآخر ساقطا. وذهب هؤلاء إلى حديث ابن عمر. قال أبو داود: حدثنا أحمد بن إبراهيم أبو علي الموصلي حدثنا محمد بن ثابت العبدي حدثنا نافع قال انطلقت مع ابن عمر في حاجة إلى ابن عباس فقضى ابن عمر حاجته. وكان من حديثه يومئذ أن قال مر رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سكة من السكك وقد خرج من غائط أو بول فسلم عليه فلم يرد عليه حتى إذا كاد الرجل يتوارى في السكة ضرب بيده على الحائط ومسح بها وجهه ثم ضرب ضربة أخرى فمسح ذراعيه ثم رد على الرجل. ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن التيمم ضربة واحدة للوجه والكفين وهو قول عطاء بن أبي رباح ومكحول، وبه قال الأوزاعي وأحمد بن حنبل وإسحاق وعامة أصحاب الحديث. وذكر أبو داود في هذا الباب حديث ابن أبزى من طريق أبي قتادة وهو أصح الأحاديث وأوضحها. قال أبو داود: حدثنا محمد بن المنهال حدثنا يزيد بن زريع حدثنا سعيد عن قتادة عن عزرة عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه عن عمار بن ياسر قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التيمم فأمرني ضربة واحدة للوجه والكفين. وروي من طريق الأعمش عن سلمة بن كهيل عن ابن أبزى عن عمار. وذكر الحديث فقال يا عمار إنما كان يكفيك هكذا ثم ضرب بيده إلى الأرض

أحدهما على الأخرى ثم مسح وجهه والذراعين إلى نصف الساعد ولم يبلغ المرفقين ضربة واحدة. قال أبو داود: حدثنا محمد بن العلاء حدثنا حفص عن الأعمش قالوا فالمعول في هذا إنما هو على تعليم النبي صلى الله عليه وسلم إياهم لا على فعلهم الأول واجتهادهم من حيث سبق إلى أوهامهم في وجوب استيعاب اليد كلها. قالوا وحديث ابن عمر لا يصح لأن محمد بن ثابت العبدي ضعيف جدا لا يحتج بحديثه. قلت وهذا المذهب أصح في الرواية والمذهب الأول أشبه بالأصول وأصح في القياس. واختلفوا في نفض الكفين أو النفخ فيهما، فقال مالك ينفضهما نفضا خفيفا. وقال أصحاب الرأي ينفضهما، وقال الشافعي إذا علقت الكفان غباراً كثيرا نفض. وقال أحمد بن حنبل لا يضرك نفضت أولم تنفض. قال أبو داود: حدثنا محمد بن سليمان الأنباري حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن شقيق، قال كنت جالساً بين عبد الله وأبي موسى فقال أبو موسى يا أبا عبد الرحمن أرأيت لو أن رجلاً أجنب فلم يجد الماء شهراً، قال أبو موسى كيف تصنعون بهذه الآية {فلم تجدوا ماءً فتيمموا صعيداً طيباً } [النساء: 43] فقال عبد الله لو أرخص لهم في هذا لأوشكوا إذا برد عليهم الماء أن يتيمموا بالصعيد. فقال له أبو موسى ألم تسمع قول عمار لعمر بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة فأجنبت فلم أجد الماء فتمرغت في الصعيد كما تتمرغ الدابة، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فقال إنما كان يكفيك أن تضع هكذا فضرب بيده على الأرض فنفضها ثم ضرب بشماله على يمينه وبيمينه على شماله على الكفين ثم مسح

ومن باب الجنب يتيمم

وجهه. وقال عبد الله أفلم تر عمر لم يقنع بقول عمار. قلت في دلالة هذا الحديث أن مذهب عمر في تأويل آية الملامسة أن المراد بها غير الجماع وإن اللمس باليد ونحوه ينقض الطهارة. وكذلك مذهب ابن مسعود ولولا أنه كذلك عندهما لم يكن لهما عذر في ترك التيمم مع ورود النص فيه. ومن باب الجنب يتيمم قال أبو داود: حدثنا عمرو بن عَون ومسدد قالا: حَدَّثنا خالد الواسطي عن خالد الحذاء، عَن أبي قلابة عن عمرو بن بُجدان، عَن أبي ذر. قال كانت تصيبني الجنابة فأمكث الخمس والست فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ثكلتك أمك ما أبا ذر إن الصعيد الطيب وضوءُ المسلم ولو إلى عشر سنين فإذا وجدت الماء فأمسَّه جلدك. قلت يحتج من هذا الحديث بقوله صلى الله عليه وسلم الصعيد الطيب وضوء المسلم ولو إلى عشر سنين من يرى أن للمتيمم أن يجمع بتيممه بين صلوات كثيرة وهومذهب أصحاب أبي حنيفة ويحتجون أيضاً بقوله فإذا وجدت الماء فأمسه جلدك في إيجاب انتقاض طهارة المتيمم بوجود الماء على عموم الأحوال سواء كان في صلاة أو غيرها. ويحتج به من يرى إذا وجد من الماء ما لا يكفي لكمال الطهارة أن يستعمله في بعض أعضائه ويتيمم للباقي. وكذلك فيمن كان على بعض أعضائه جرح فإنم يغسل ما لا ضررعليه في غسله ويتيمم للباقي منه. وهو قول الشافعي ويحتج به أصحابه أيضاً في أن لا يتيمم في مصر لصلاة فرض ولا جنازة ولا عيد لأنه

ومن باب إذا خاف الجنب البرد لم يغتسل

واجد للماء فعليه أن يمسه جلده. ومعنى قوله ولو إلى عشر سنين، أي أن له أن يفعل التيمم مرة بعد أخرى وإن بلغت مدة عدم الماء واتصلت إلى عشر سنين وليس معناه أن التيمم دفعة واحدة يكفيه لعشرسنين. ومن باب إذا خاف الجنب البرد لم يغتسل قال أبو داود: حدثنا ابن المثنى حدثنا وهب بن جرير حدثنا أبي قال سمعت يحيى بن أيوب يحدث عن يزيد بن أبي حبيب عن عمران بن أنس عن عبد الرحمن بن جبير عن عمرو بن العاص. قال احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك فتيممت ثم صليت بأصحابي الصبح فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال، وقلت إني سمعت الله يقول {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما} [النساء: 29] فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئا. قلت فيه من الفقه أنه جعل عدم إمكان استعمال الماء كعدم عين الماء وجعله بمنزلة من خاف العطش ومعه ماء فأبقاه لشفته وتيمم خوف التلف. وقد اختلف العلماء في هذه المسألة فشدد فيه عطاء بن أبي رباح وقال يغتسل وإن مات واحتج بقوله {وإن كنتم جنبا فاطهروا} [المائدة: 6] وقال الحسن نحوا من قول عطاء. وقال مالك وسفيان يتيمم وهو بمنزلة المريض، وأجازه أبوحنيفة في الحضر، وقال صاحباه لا يجزيه في الحضر. وقال الشافعي إذا خاف على نفسه من شدة البرد تيمم وصلى وأعاد صلاة صلاها كذلك ورأى أنه من العذر النادر وإنما جاءت الرخص النامة في الأعذار العامة.

ومن باب في المتيمم يجد الماء بعدما صلى في الوقت

قال أبو داود: حدثنا موسى بن عبد الرحمن الأنطاكي حدثنا محمد بن سلمة عن الزبير بن خريق عن عطاء عن جابر. قال خرجنا في سفر فأصاب رجلاً معنا حجر فشجه في رأسه فاحتلم، فقال لأصحابه هل تجدون لي رخصة في التيمم، فقالوا لا نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء فاغتسل فمات. فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم أخبرناه بذلك فقال قتلوه قتلهم الله الا سألوا إذا لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصب أويُعصب شك موسى على جرحه خِرقة ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده. قلت في هذا الحديث من العلم أنه عابهم بالفتوى بغير علم وألحق بهم الوعيد بأن دعا عليهم وجعلهم في الإثم قتلة له. وفيه من الفقه أنه أمر بالجمع بين التيمم وغسل سائر بدنه بالماء ولم ير أحد الأمرين كافيا دون الآخر. وقال أصحاب الرأي إن كان أقل أعضائه مجروحاً جمع بين الماء والتيمم، وإن كان الأكثر كفاه التيمم وحده وعلى قول الشافعي لا يجزيه في الصحيح من بدنه قل أو كثر إلاّ الغسل. ومن باب في المتيمم يجد الماء بعدما صلى في الوقت قال أبو داود: حدثنا محمد بن إسحاق المسيبي حدثنا عبد الله بن نافع عن الليث بن سعد عن بكر بن سوادة عن عطاء بن يسار، عَن أبي سعيد الخدري قال خرج رجلان في سفر فحضرت الصلاة وليس معهما ماء فتيمما وصليا، ثم وجدا الماء في الوقت فأعاد أحدهما الصلاة والوضوء ولم يعد الاخر، ثم أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرا ذلك له فقال للذى لم يعد الصلاة: أصبت السنة وأجزأتك صلاتك

ومن باب في الغسل يوم الجمعة

وقال للذي توضأ وأعاد لك الأجر مرتين. قال أبو داود، ذكر أبي سعيد الخدري في هذا الحديث ليس بمحفوظ إنما هو عن عطاء بن يسار. قلت في هذا الحديث من الفقه أن السنة تعجيل الصلاة للمتيمم في أول وقتها كهو للمتطهر بالماء؛ وقد اختلف الناس في هذه المسألة فروي عن ابن عمر أنه قال: يتلوَّم مابينه وبين آخر الوقت وبه قال عطاء وأبوحنيفة وسفيان. وهوقول أحمد بن حنبل وإلى نحو من ذلك ذهب مالك، إلاّ أنه قال إن كان في موضع لا يرى فيه وجود الماء يتيمم وصلى في أول وقت الصلاة. وعن الزهري لا يتيمم حتى يخاف ذهاب الوقت واختلفوا في الرجل يتيمم فيصلي ثم يجد الماء قبل خروج الوقت، فقال عطاء وطاوس وابن سيرين ومكحول والزهري يعيد الصلاة، واستحبه الأوزاعي ولم يوجبه، وقالت طائفة لا إعادة عليه روي ذلك عن ابن عمر وبه قال الشعبي وهو مذهب مالك وسفيان وأصحاب الرأي والشافعي وأحمد وإسحاق. ومن باب في الغسل يوم الجمعة قال أبو داود: حدثنا الربيع بن نافع أبو توبة حدثنا معاوية عن يحيى أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن أبا هريرة أخبره أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بينا هو يخطب يوم الجمعة إذ دخل رجل فقال عمر أتحتبسون عن الصلاة فقال الرجل ما هو إلا أن سمعت النداء فتوضأت فقال عمر رضي

الله عنه والوضوء أيضاً أو لم تسمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل. فيه دلالة على أن غسل يوم الجمعة غير واجب ولو كان واجبا لأشبه أن يأمره عمر رضي الله عنه بأن ينصرف فيغتسل فدل سكوت عمر رضي الله عنه ومن معه من الصحلبة على أن الأمر به على معنى الاستحباب دون الوجوب. وقد ذكر في هذا الخبر من غير هذا الوجه أن الرجل الذي دخل المسجد هو عثمان بن عفان وفي رواية أخرى دخل رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس يجوز عليهما وعلى عمر ومن بحضرته من المهاجرين والأنصار أن يجتمعوا على ترك واجب. قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن صفوان بن سليم عن عطاء بن يسار، عَن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم. قلت قوله واجب معناه وجوب الاختبار والاستحباب دون وجوب الفرض كما يقول الرجل لصاحبه حقك علي واجب وأنا أوجب حقك وليس ذلك بمعنى اللزوم الذي لا يسع غيره ويشهد لصحة هذا التأويل حديث عمر رضي الله عنه الذي تقدم ذكره. وقد اختلف الناس في وجوب الغسل يوم الجمعة فكان الحسن يراه واجباً وقد حكي ذلك عن مالك بن أنس، وقال ابن عباس هوغير محتوم. وذهب عامة الفقهاء إلى أنه سنة وليس بفرض ولم تختلف الأمة في أن صلاته مجزية إذا لم يغتسل فلما لم يكن الغسل من شرط صحتها دل أنه استحباب كالاغتسال

للعيد وللإحرام الذي يقع الاغتسال فيه متقدماً لسببه ولو كان واجباً لكان متأخراً عن سببه كالاغتسال للجنابة والحيض والنفاس. .قال أبو داود: حد، حَدَّثنا يزيد بن خالد بن موهب وعبد العزيز بن يحيى قالا: حَدَّثنا محمد بن سلمة عن محمد بن إبراهيم، عَن أبي سلمة بن عبد الرحمن وأبي أمامة بن سهل، عَن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة قالا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من اغتسل يوم الجمعة ولبس من أحسن ثيابه ومس من طيب إن كان عنده، ثم أتى الجمعة فلم يتخط أعناق الناس ثم صلى ما كتب الله له ثم أنصت إذا خرج إمامُه حتى يفرغ من صلاته كانت كفارة لما بينها وبين جمعته التي قبلها، قال ويقول أبو هريرة وزيادة ثلاثة أيام ويقول إن الحسنة بعشر أمثالها. قلت وقرانه بين غسل الجمعة وبين لبس أحسن ثيابه ومسه للطيب يدل على أن الغسل مستحب كاللباس والطيب. وقوله كانت كفارة لما بينها وبين جمعته التى قبلها، يريد بذلك ما بين الساعة التي تصلى فيها الجمعة إلى مثلها من الجمعة الأخرى لأنه لو كان المراد به ما بين الجمعتين على أن يكون الطرفان وهما يوما الجمعة غير داخلين في العدد لكان لا يحصل من عدد الحسوب له أكثر من ستة أيام. ولو أراد ما بينهما على معنى إدخال الطرفين فيه بلغ العدد ثمانية فإذا ضمت إليها الثلاثة الأيام المزيدة التي ذكرها أبو هريرة صار جملتها إما أحد عشر يوماً على أحد الوجهين، وإما تسعة أيام على الوجه الآخر فدل أن المراد به ما قلنا على سبيل التكسير لليوم ليستقيم الأمرفي تكميل عدد العشرة. وقد اختلف الفقهاء فيمن أقر لرجل بما بين درهم إلى عشرة دراهم. فقال أبو حنيفة يلزمه تسعة دراهم وقال أبو يوسف ومحمد يلزمه عشرة دراهم ويدخل فيه

الطرفان والواسطة، وقال أبو ثور لا يلزمه أكثر من ثمانية دراهم ويسقط الطرفان. وهو قول زفر. وهذا أغلب وجوه ما يذهب إليه أصحاب الشافعي. قال أبو داود: حدثنا محمد بن حاتم الجراجرائي نا ابن المبارك عن الأوزاعي حدثني حسان بن عطية حدثنا الأشعث الصنعاني حدثنا أوس بن أوس الثقفي. قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من غسل يوم الجمعة واغتسل ثم بكر وابتكر ومشى ولم يركب ودنا من الإمام واستمع ولم يلغ كان له بكل خطوة عمل سنة أجر صيامها وقيامها. قوله غسل واغتسل وبكر وابتكر اختلف الناس في معناهما فمنهم من ذهب إلى أنه من الكلام المظاهر الذي يراد به التوكيد ولم تقع المخالفة بين المعنيين لاختلاف اللفظين. وقال ألا تراه يقول في هذا الحديث ومشى ولم يركب ومعناهما واحد، وإلى هذا ذهب الأثرم صاحب أحمد. وقال بعضهم: قوله غسل معناه غسل الرأس خاصة وذلك لأن العرب لهم لِمم وشعور، وفي غسلها مؤونة فأفرد ذكر غسل الرأس من أجل ذلك. وإلى هذا ذهب مكحول. وقوله واغتسل معناه غسل سائرالجسد. وزعم بعضهم أن قوله غسل معناه أصاب أهله قبل خروجه إلى الجمعة ليكون أملك لنفسه وأحفظ في طريقه لبصره. قال ومن هذا قول العرب فحل غُسَلة إذا كان كثير الضراب. وقوله بكر وابتكر زعم بعضهم أن معنى بكر أدرك باكورة الخطبة وهي أولها، ومعنى وابتكر قدم في الوقت. وقال ابن الأنباري معنى بكر تصدق قبل خروجه. وتأول في ذلك ما روي في الحديث من قوله باكروا بالصدقة فإن البلاء لا يتخطاها.

قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن سمي، عَن أبي صالح، عَن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح فكأنما قرب بدنة ومن راح في الساعه الثانية فكأنما قرب بقرة ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر. قوله راح إلى الجمعة معناه قصدها وتوجه إليها مبكرا قبل الزوال وإنما تأولناه على هذا المعنى لأنه لا يجوز أن يبقى عليه بعد الزوال من وقت الجمعة خمس ساعات، وهذا جائز في الكلام أن يقال راح لكذا ولأن يفعل كذا بمعنى أنه قصد إيقاع فعله وقت الرواح كما يقال للقاصدين إلى الحج حجاج ولما يحجوا بعد، وللخارجين إلى الغزو غزاة ونحو ذلك من الكلام. فأما حقيقة الرواح فإنما هي بعد الزوال يقال غدا الرجل في حاجته إذا خرج فيها صدر النهار وراح لها إذا كان ذلك في عجز النهار أو في الشطر الآخر منه. وأخبرني الحسن بن يحيى، عَن أبي بكر بن المنذر، قال كان مالك بن أنس يقول لا يكون الرواح إلاّ بعد الزوال، وهذه الأوقات كلها في ساعة واحدة. قلت كأنه قسم اثساعة التي تحين فيها الرواح للجمعة أقساماً خمسة فسماها ساعات على معنى التشبيه والتقريب كما يقول القائل قعدت ساعة وتحدثت ساعة ونحوه يريد جزءاً من الزمان غير معلوم، وهذا على سعة مجاز الكلام وعادة الناس في الاستعمال. قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا محمد بن بشر حدثنا زكريا

ومن باب الرخصة في ترك الغسل يوم الجمعة

حدثنا مصعب بن شيبة عن طلق بن حبيبب العنزي عن عبد الله بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها أنها حدثته أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغتسل من أربع من الجنابة ويوم الجمعة ومن الحجامة ومن غسل الميت. قلت قد يجمع النظم قرائن الألفاظ والأسماء المختلفة الأحكام والمعاني ترتبها وتنزلها فأما الاغتسال من الجنابة فواجب بالاتفاق، وأما الاغتسال للجمعة فقد قام الدليل على أنه كان يفعله ويأمر به استحباباً. ومعقول أن الاغتسال من الحجامة إنما هو لإماطة الأذى، ولما لا يؤمن أن يكون قد أصاب المحتجم رشاش من الدم فالاغتسال منه استظهار بالطهارة واستحباب للنظافة. وأما الاغتسال من غسل الميت فقد اتفق أكثر العلماء على أنه على غير الوجوب. وقد روي، عَن أبي هُرَيْرَة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من غسل ميتاً فليغتسل. وروي عن ابن المسيب والزهري معنى ذلك، وقال النخعي وأحمد وإسحاق يتوضأ غاسل الميت وروي عن ابن عمر وابن عباس أنهما قالا ليس على غاسل الميت غسل، وقال أحمد لا يثبت في الاغتسال من غسل الميت حديث. وقال أبو داود حديث مصعب بن شيبة ضعيف ويشبه أن يكون من رأى الاغتسال منه إنما رأى ذلك لما لا يؤمن أن يصيب الغاسل من رشاش المغسول نضح وربما كانت على بدن الميت نجاسة فأما إذا علمت سلامته منها فلا يجب الاغتسال منه والله أعلم. ومن باب الرخصة في ترك الغسل يوم الجمعة قال أبو داود: حدثنا مسددحدثنا حماد بن زيد عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة رضي الله عنها قالت كان الناس مهان أنفسهم فيروحون

ومن باب في الرجل يسلم يؤمر بالغسل

إلي الجمعة بهيأتهم فقيل لهم لو أغتسلتم. المهان جمع الماهن وهو الخادم يريد أنهم كاموا يتولون المهنة لأنفسهم في الزمان الأول حين لم يكن لهم خدم يكفونهم المهنة والأنسان إذا باشر العمل الشاق حمي بدنه وعرق سيما في البلد الحار فربما تكون منه الرائحة الكريهة فأمروا بالأغتسال تنظيفاً للبدن وقطعاً للرائحة. قال أبو داود: حدثنا أبو الوليد الطيالسي حدثنا همام عن قتادة عن الحسن عن سمرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من توضأ فبها ونعمت ومن اغتسل فهو أفضل. قوله فبها قال الأصمعي معناه فبالسنة أخذ، وقوله ونعمت يريد ونعمت الخصلة ونعمت الفعلة أو نحو ذلك، وإنما ظهرت التاء التي هي علامة التأنيث لإظهار السنة أو الخصلة أو الفعلة، وفيه البيان الواضح أن الوضوء كاف للجمعة وإن الغسل لها فضيلة لا فريضة. ومن باب في الرجل يُسْلِم يؤمر بالغسل قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير العبدي حدثنا سفيان حدثنا الأغر عن خليفة بن حصين عن جده قيس بن عاصم قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم أريد الإسلام فأمرني أن اغتسل بماء وسدر. قلت هذا عند أكثر أهل العلم على الاستحباب لا على الإيجاب، وقال الشافعي إذا أسلم الكافر أحببت له أن يغتسل فإن لم يفعل ولم يكن جنباً أجزأه أن يتوضأ ويصلي. وكان أحمد بن حنبل وأبو ثور يوجبان الاغتسال على الكافر إذا أسلم قولاً بظاهر الحديث قالوا ولا يخلو المشرك في أيام كفره من جماع أو احتلام

ومن باب المرأة تغسل ثوبها

وهو لا يغتسل ولو اغتسل لم يصح منه ذلك لأن الاغتسال من الجنابة فرض من فروض الدين لا يجزيه إلاّ بعد الإيمان كالصلاة والزكاة ونحوهما. وكان مالك يرى أن يغتسل الكافر إذا أسلم. واختلفوا في المشرك يتوضأ في حال شركه ثم يسلم. فقال أصحاب الرأي له أن يصلي بالوضوء المتقدم في حال شركه، ولكنه لوكان تيمم ثم أسلم لم يكن له أن يصلي بذلك التيمم حتى يستأنف التيمم في الإسلام إن لم يكن واجداً للماء. والفرق بين الأمرين عندهم أن التيمم مفتقر إلى النية ونية العبادة لا تصح من مشرك والطهارة بالماء غير مفتقرة إلى النية فإذا وجدت من المشرك صحت في الحكم كما توجد من المسلم سواء. وقال الشافعي إذا توضأ وهو مشرك أو تيمم ثم أسلم كان عليه إعادة الوضوء للصلاة بعد الإ سلام، وكذلك التيمم لا فرق بينهما ولكنه لو كان جنباً فاغتسل ثم أسلم فإن أصحابه قد اختلفوا في ذلك فمنهم من قال يجب عليه الاغتسال ثانياً كالوضوء سواء وهذا أشبه. ومنهم من فرق بينهما فرأى عليه أن يتوضأ على كل حال ولم ير عليه الاغتسال فإن أسلم وقد علم أنه لم يكن أصابته جنابة قط في حال كفره فلا غسل عليه في قولهم جميعاً، وقول أحمد في الجمع بين إيجاب الاغتسال والوضوء عليه إذا أسلم أشبه بظاهر الحديث وأولى. ومن باب المرأة تغسل ثوبها الذي تلبسه في حيضتها قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير حدثنا إبراهيم بن نافع سمعت الحسن، يَعني ابن مسلم يذكر عن مجاهد قال قالت عائشة ما كان لإحدانا إلا ثوب

واحد فيه تحيض فإن أصابه شيء من دم بلته بريقها ثم قصعته به. قولها قصعته بريقها معناه دلكته به ومنه قصع القملة إذا شدخها بين أظفاره فأما فصع الرطبة فهو بالفاء وهو أن يأخذها بين إصبعه فيغمزها أدنى غمز فتخرج الرطبة خالعة قشرها. قال أبو داود: نا النفيلي حدثنا محمد بن سلمة حدثنا محمد بن إسحاق عن فاطمة بنت المنذر عن أسماء بنت أبي بكر قال سمعت امرأة تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف تصنع إحدانا بثوبها إذا رأت الطهر لتصلي فيه. قال: تنظر فإن رأت فيه دماً فلتقرصه بشيء من ماء ولتنضح ما لم تر وتصلي فيه. أصل القرص أن يقبض بأصبعه على الشيء ثم يغمز غمزاً جيداً، والنضح الرش وقد يكون أيضاً بمعنى الغسل والصب. قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثني يحيى عن سفيان حدثني ثابت الحداد حدثني عدي بن دينار قال سمعت أم قيس بنت محصَن سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن دم الحيض يكون في الثوب فقال حكيه بضلع واغسليه بماء وسدر. قوله اغسليه بماء دليل على أن النجاسات إنما تزال بالماء دون غيره من المائعات لأنه إذا أمر بإزالتها بالماء فأزالها بغيره كان الأمر باقياً لم يمتثل، وإذا وجب ذلك عليه في الدم بالنص كان سائر النجاسات بمثابته لا فرق بينهما في القياس وإنما أمربحكه بالضلع ليتقلع المستجسد منه اللاصق بالثوب ثم تتبعه الماء ليزيل الأثر.

ومن باب الصلاة في شعر النساء

ومن باب الصلاة في شُعُر النساء قال أبو داود: حدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا الأشعث عن محمد بن سيرين عن عبد الله بن شقيق عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصلي في شُعُرنا أو لُحفنا قال عبيد الله شك أبي. الشعر جمع الشعار وهو الثوب الذي يستشعره الإنسان أي يجعله مما يلي بدنه والدثار ما يلبسه فوق الشعار. ومن باب الرخصة فيه قال أبو داود: حدثنا محمد بن الصباح حدثنا سفيان، عَن أبي إسحاق الشيباني سمعه من عبد الله بن شداد يحدثه عن ميمونة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى وعليه مرط وعلى بعض أزواجه منه وهي حائض وهو يصلي وهوعليه. قال: المرط ثوب يلبسه الرجال والنساء يكون إزاراً ويكون رداء، وقد يتخذ من صوف ويتخذ من خز وغيره. ومن باب المني يصيب الثوب قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة قالت كنت افرك المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيصلي فيه. قلت في هذا دليل على أن المني طاهر ولوكان عينه نجساً لكان لا يطهر الثوب بفركه إذا يبس كالعذرة إذا يبست لم تطهر بالفرك. وممن كان يرى فرك المني ولا يأمر بغسله سعد بن أبي وقاص، وقال ابن عباس امسحه عنك بإذخرة أو خرقة ولا تغسله إن شئت إنما هو كالبزاق أو المخاط، وكذلك قال عطاء وقال الشافعي المني طاهر وقال أحمد يجزيه أن يفركه.

ومن باب بول الصبي يصيب الثوب

قال أبو داود: حدثنا محمد بن عبيد البصري حدثنا سليم بن أخضر حدثنا عمرو بن ميمون قال: سمعت سليمان بن يسار يقول سمعت عائشة تقول إنها كانت تغسل المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت ثم أرى فيه بقعة أو بقعاً. قلت هذا لا يخالف حديث الفرك وإنما هذا استحباب واستظهار بالنظافة كما قد يغسل الثوب من النخامة والمخاط ونحوه والحديثان إذا أمكن استعمالهما لم يجز أن يحملا على التناقض. وقد ذهب إلى غسل المني من الثوب عمر بن الخطاب وسعيد بن المسيب وقال مالك غسله من الثوب أمر واجب وإليه ذهب الثوري والأوزاعي. وقال أبو حنيفة: المني نجس، إلاّ أنه قال: يجوز فرك اليابس منه بلا غسل للأثر فيه، وغسل الرطب. ومن باب بول الصبي يصيب الثوب قال أبو داود: حدثنا مسدد وأبو توبة المعنى قالا: حدثنا أبو الأحوص عن سماك عن قابوس عن لبابة بنت الحارث قالت كان الحسين بن علي في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم فبال عليه فقلت البس ثوبا آخر وأعطني إزارك حتى أغسله. قال: إنما يغسل من بول الأنثى وينضح من بول الذكر. قلت معنى النضح في هذا الموضع الغسل إلاّ أنه غسل بلا مرس ولا دلك وأصل النضح الصب، ومنه قيل للبعير الذي يستقى عليه الناضح فأما غسل بول

ومن باب الأرض يصيبها البول

الجارية فهو غسل يستقصى فيه فيمرس باليد ويعصر بعده، وقد يكون النضح بمعنى الرش أيضاً. وممن قال بظاهر هذا الحديث علي بن أبي طالب وإليه ذهب عطاء بن أبي رباح والحسن البصري وهو قول الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق قالوا ينضح بول الغلام ما لم يطعم، ويغسل بول الجارية وليس ذلك من أجل أن بول الغلام ليس بنجس ولكنه من أجل التخفيف الذي وقع في إزالته؛ وقالت طائفة يغسل بول الغلام والجارية معاً. وإليه ذهب النخعي وأبو حنيفة وأصحابه وكذلك قال سفيان الثوري. ومن باب الأرض يصيبها البول قال أبو داود: حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح وابن عبدة في آخرين وهذا لفظ ابن عبدة، قال: حَدَّثنا سفيان عن الزهري عن سعيد، عَن أبي هريرة أن أعرابياً دخل المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس فصلى ركعتين ثم قال اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً فقال النبي صلى الله عليه وسلم لقد تحجرت واسعاً ثم لم يلبث أن بال في ناحية المسجد وأسرع الناس إليه فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين صبوا عليه سجلاً من ماء أو قال: ذنوباً من ماء. قوله لقد تحجرت واسعاً أصل الحجر المنع، ومنه الحجر على السفيه وهو منعه من التصرف في ماله وقبض يده عليه يقول له قد ضيعت من رحمة الله ما وسّعه ومنعت منها ما أباحه، والسجل الدلو الكبيرة وهي السجيلة أيضاً، والذنوب الدلو الكبيرة أيضاً. وفي هذا دليل أن الماء إذا ورد على النجاسة على سبيل المكاثرة والغلبة طهرها

ومن باب في طهور الأرض إذا يبست

وأن غسالة النجاسات طاهرة ما لم يبن للنجاسة فيها لون أوريح ولو لم يكن ذلك الماء طاهراً لكان المصبوب منه على البول أكثر تنجيساً للمسجد من البول نفسه فدل ذلك على طهارته. وليس في خبر أبي هُرَيْرَة ولا في خبرمتصل ذكر لحفر المكان ولا لنقل التراب. فأما حديث عبد الله بن معقل بن مقرن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: خذوا ما بال عليه من التراب فألقوه وأهريقوا على مكانه ماء، فإن أبا داود قد ذكره في هذا الباب وضعفه وقال هو مرسل وابن معقل لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم. قلت وإذا أصابت الأرض نجاسة ومطرت مطرا عاما كان ذلك مطهرا لها وكانت في معنى صب الذنوب وأكثر. وفي قوله إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين دليل على أن أمرالماء على التيسير والسعة في إزالة النجاسات به والله أعلم. ومن باب في طهور الأرض إذا يبست قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عبد الله بن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب حدثني حمزة بن عبد الله بن عمر قال قال ابن عمر: كنت أبيت في المسجد في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنت فتى شابا عَزَبا وكانت الكلاب تبول وتقبل وتدبر في المسجد فلم يكونوا يَرُشون شيثا من ذلك. قوله كانت الكلاب تبول وتقبل وتدبر في المسجد يتأول على أنها كانت تبول خارج المسجد في مواطنها وتقبل وتدبر في المسجد عابرة إذ لا يجوز أن تترك الكلاب وانتياب المسجد حتى تمتهنه وتبول فيه وإنما كان إقبالها وإدبارها في أوقات نادرة ولم يكن على المسجد أبواب فتمنع من عبورها فيه. وقد اختلف الناس في هذه المسألة فروي، عَن أبي قلابة أنه قال: جفوف

ومن باب الأذى يصيب الذيل

الأرض طهورها وقال أبو حنيفة ومحمد بن الحسن: الشمس تزيل النجاسة عن الأرض إذا ذهب الأثر، وقال الشافعي وأحمد الأرض إذا أصابتها النجاسة لا يطهرها إلاّ الماء. ومن باب الأذى يصيب الذيل قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن محمد بن عمارة بن عمرو بن حزم عن محمد بن إبراهيم عن أم ولد لإبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف أنها سألت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فقالت إني امرأة أطيل ذيلي وأمشي في المكان القذر فقالت أم سلمة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يطهره ما بعده. قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي وأحمد بن يونس قالا: حَدَّثنا زهير حدثنا عبد الله بن عيسى عن موسى بن عبد الله بن يزيد أن امرأة من بني عبد الأشهل قالت قلت يا رسول الله إن لنا طريقا إلى المسجد منتنة فكيف نفعل إذا مطرنا، قال: أليس بعدها طريق هي أطيب منها. قالت قلت: بلى قال: فهذه بهذه. قوله يطهره ما بعده كان الشافعي يقول إنما هو فيما جُر على ما كان يابسا لا يعلق بالثوب منه شيء، فأما إذا جر على رطب فلا يطهر إلاّ بالغسل. وقال أحمد بن حنبل ليس معناه إذا أصابه بول ثم مر بعده على الأرض أنها تطهره ولكنه يمر بالمكان فيقذره ثم يمر بمكان أطيب منه فيكون هذا بذاك ليس على أنه يصيبه منه شيء. وقال مالك: إن الأرض يطهر بعضها بعضا إنما هو أن يطأ الأرض القذرة ثم يطأ الأرض اليابسة النظيفة فإن بعضها يطهر بعضا فأن النجاسة مثل البول

ومن باب الإعادة من النجاسة تكون في الثوب

ونحوه يصيب الثوب أو بعض الجسد فإن ذلك لا يطهره إلاّ الغسل. قلت وهذا إجماع الأمة وفي إسناد الحديثين مقال لأن الأول عن أم ولد لإبراهيم بن عبد الرحمن وهي مجهولة لا يعرف حالها في الثقة والعدالة والحديث الآخر عن امرأة من بني عبد الأشهل والمجهول لا تقوم به الحجة في الحديث. قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا أبو المغيرة عن الأوزاعي قال أُنبئت أن سعيد بن أبي سعيد المقبري حدث عن أبيه، عَن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا وطىء بنعله أحدكم الأذى فإن التراب له طهور. قلت كان الأوزاعي يستعمل هذا الحديث على ظاهره وقال يجزئه أن يمسح القذر في نعله أو خفه بالتراب ويصلي فيه. وذكر هذا الحديث في غير هذه الرواية عن ابن عجلان عن سعيد بن أبي سعيد وروي مثله في جوازه عن عروة بن الزبير وكان النخعي يمسح النعل أو الخف يكون فيه السرقين عند طب المسجد ويصلي بالقوم. وقال أبو ثور في الخف والنعل إذا مسحهما بالأرض حتى لا يجد له ريحا ولا أثرا رجوت أن يجزئه. وقال الشافعي لا تطهر النجاسات إلاّ بالماء سواء كانت في ثوب أو حذاء. ومن باب الإعادة من النجاسة تكون في الثوب قال أبو داود: حدثنا محمد بن يحيى بن فارس حدثنا أبو معمر حدثنا

كتاب الصلاة

عبد الوارث حدثتنا أم يونس بنت شداد قالت حدثتني حماتي أم جَحْدرٍ العامرية عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبس كساء كان علينا من الليل فصلى الغداة ثم جلس فقال رجل يا رسول الله هذه لُمعة من دم فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما يليها فبعث بها إليّ مصرورة في يد الغلام فقال اغسلي هذه وأجفِّيها وارسلي به إليّ فدعوت بقصعتي فغسلتها ثم أجففتها فأحرتها إليه فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم نصف النهار وهو عليه. قولها فأحرتها معناه رددتها إليه يقال حار الشيء يحور بمعنى رجع ومنه قوله تعالى {أنه ظن أن لن يحورا} أي لا يبعث ولا يرجع إلينا في القيامة للحساب. كتاب الصلاة باب قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك، عَن أبي سهيل بن مالك عن أبيه أنه سمع طلحة بن عبيد الله يقول جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل نجد ثائر الرأس يسمع دوي صوته ولا يفقه ما يقول حتى دنا فإذا هو يسأل عن الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خمس صلوات في اليوم والليلة قال هل عليّ غيرُهن قال لا إلاّ أن تطوع قال وذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم صيام شهر رمضان قال هل علي غيره قال لا إلاّ أن تطوع قال وذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم له الصدقة قال فهل علي غيرها قال لا إلاّ أن تطوع قال فأدبر الرجل وهو يقول والله لا أزيد على هذا ولا أنقص فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أفلح إن صدق. قال أبو داود: حدثنا سليمان بن داود حدثنا إسماعيل بن جعفر المدني، عَن أبي سهيل نافع بن مالك بن أبي عاص بهذا الحديث بإسناده وقال أفلح

وأبيه إن صدق دخل الجنة وأبيه إن صدق. قوله عند ذكر الصلاة هل علي غيرهن فقال لا إلاّ أن تطوع دليل على أن الوتر غير مفروض ولا واجب وجوب حتم ولوكان فرضاً لكانت الصلوات المفروضة ستا لا خمسا وفيه بيان أن فرض صلاة الليل منسوخ. وقوله أفلح وأبيه هذه كلمة جارية على ألسن العرب تستعملها كثيرا في خطابها تريد بها التوكيد. وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحلف الرجل بأبيه فيحتمل أن يكون هذا القول منه قبل النهي ويحتمل أن يكون جرى ذلك منه على عادة الكلام الجاري على الألسن وهو لا يقصد به القسم كلغو اليمين المعفوعنه قال الله تعالى {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم} [البقرة: 225] الآية قالت عائشة هو قول الرجل في كلامه لا والله وبلى والله ونحو ذلك. وفيه وجه آخر وهو أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم ضمر فيه اسم الله كأنه قال لا ورب أبيه، وإنما نهاهم عن ذلك لأنهم لم يكونوا يضمرون ذلك في أيمانهم وإنما كان مذهبهم في ذلك مذهب التعظيم لآبائهم. ويحتمل أن يكون النهي إنما وقع عنه إذا كان ذلك منه على وجه التوقير له والتعظيم لحقه دون ما كان بخلافه، والعرب قد تطلق هذا اللفظ في كلامها على ضربين أحدهما على وجه التعظيم والاخر على سبيل التوكيد للكلام دون القسم قال ابن ميادة: أظنت سفاهاً من سفاهة رأيها ... لأهجوها لما هجتنى محارب فلا وأبيها إنني بعشيرتي ... ونفسي عن ذاك المقام لراغب وليس يجوزأن يقسم بأب من يهجوه على سبيل الإعظام لحقه. وقال

ومن باب في المواقيت

آخر لعبيد الله بن عبد الله بن مسعود أحد الفقهاء السبعة: لعمر أبي الواشين أيام نلتقي ... لما لا تلاقيها من الدهر أكثر يعدون يوماً واحداً إن لقيتها ... وينسون ما كانت على النادي تهجر وقال آخر: لعمر أبي الواشين لا عمر غيرهم …لقد كلفتني خطة لا أريدها وفيه دليل على أن صلاة الجمعة فريضة، وفيه بيان أن صلاة العيد نافلة. وكان أبو سعيد الإصطخري يذهب إلى أن صلاة العيد من فرض الكفاية، وعامة أهل العلم على أنها نافلة. ومن باب في المواقيت قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن سفيان حدثني عبد الرحمن بن فلان بن أبي ربيعة عن حكيم بن حكيم عن نافع بن جبير بن مطعم عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتاني جبريل عليه السلام عند البيت مرتين فصلى بي الظهر حين زالت الشمس وكانت قدر الشراك وصلى بي العصر حين كان ظله مثله وصلى بي المغرب حين أفطر الصائم وصلى بي العشاء حين غاب الشفق وصلى بي الفجر حين حرم الطعام والشراب على الصائم فلما كان الغد صلى بي الظهر حين كان ظله مثله وصلى بي العصر حين كان ظله مثليه وصلى بي المغرب حين أفطر الصائم وصلى بي العشاء إلى ثلث الليل وصلى بي الفجر فأسفر ثم التفت إلي فقال يا محمد هذا وقت الأنبياء من قبلك والوقت ما بين هذين الوقتين. قلت قوله وكانت قدر الشراك ليس قدر الشراك هذا على معنى التحديد

ولكن الزوال لا يستبان إلاّ بأقل ما يرى من الفيء، وأقله فيما يقدر هو ما بلغ قدر الشراك أو نحوه وليس هذا المقدار مما يتبين به الزوال في جميع البلدان إنما يتبين ذلك في مثل مكة من البلدان التي ينتقل فيها الظل فإذا كان أطول يوم في السنة واستوت الشمس فوق الكعبة لم ير لشيء من جوانبها ظل. وكل بلد يكون أقرب إلى وسط الأرض كان الظل فيه أقصر؛ وماكان من البلدان أبعد من واسطة الأرض وأقرب إلى طرفيها كان الظل فيه أطول. وقد اعتمد الشافعي هذا الحديث وعول عليه في بيان مواقيت الصلاة إذ كان قد وقع به القصد إلى بيان أمر الصلاة في أول زمان الشرع. وقد اختلف أهل العلم في القول بظاهره فقالت طائفة وعدل آخرون عن القول ببعض ما فيه إلى أحاديث أخر وإلى سنن سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض المواقيت لمّا هاجر إلى المدينة، قالوا وإنما يؤخذ بالآخر من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنذكر موضع الاختلاف منهم في ذلك. فمن قال بظاهر حديث ابن عباس وتوقيت أول صلاة الظهر وآخرها به مالك وسفيان الثوري والشافعي وأحمد وبه قال أبو يوسف ومحمد وقال أبو حنيفة آخر وقت الظهر إذا صار الظل قامتين. وقال ابن المبارك وإسحاق بن راهويه آخر وقت الظهر أول وقت العصر. واحتج بعض من قاله بأن في بعض الروايات أنه صلى الظهر من اليوم الثاني في الوقت الذي صلى فيه العصر من اليوم الأول، وقد نسب هذا القول محمد بن جرير الطبري إلى مالك بن أنس وقال لو أن مصليين صليا أحدهما الظهر والآخر العصر في وقت واحد صحت صلاة كل واحد منهما. قلت ومعنى هذا الكلام معقول أنه إنما أراد فراغه من صلاة الظهر اليوم الثاني

في الوقت الذي ابتدأ فيه صلاة العصر من اليوم الأول وذلك أن هذا الحديث إنما سيق لبيان الأوقات وتحديد أوائلها وأواخرها دون بيان عدد الركعات وصفاتها وسائر أحكامها ألا ترى أنه يقول في آخره (الوقت فيما بين هذين الوقتين) فلو كان الأمر على قدره هو لألجأ من ذلك الاشكال في أمرالأوقات واحتيج من أجل ذلك إلى أن يعلم مقدار صلاة النبي صلى الله عليه وسلم لتعلق الوقت بها فيزداد بقدرها في الوقت ويحتسب كميتها فيه. والصلاة لا تقدر بشيء معلوم لا يزيد عليه ولا ينقص منه لأنها قد تطول في العادة وتقصر. وفي هذا بيان فساد ما ذهبوا إليه ومما يدل على صحة ما قلناه حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ووقت الظهر ما لم يحضر العصر، وهو حديث حسن ذكره أبو داود في هذا الباب. واختلفوا في أول وقت العصر فقال بظاهر حديث ابن عباس مالك والثوري والشافعي وأحمد وإسحاق. وقال أبو حنيفة أول وقت العصر أن يصير الظل قامتين بعد الزوال فمن صلى قبل ذلك لا تجزئه صلاته وخالفه صاحباه. واختلفوا في آخر وقت العصر، فقال الشافعي آخر وقتها إذا صار ظل كل شيء مثليه لمن ليس له عذر ولا به ضرورة على ظاهر هذا الحديث فأما أصحاب العذر والضرورات فآخر وقتها لهم غروب الشمس قبل أن يصلي منها ركعة على حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدركها. وقال سفيان الثوري وأبو يوسف ومحمد وأحمد بن حنبل أول وقت العصر إذا صار ظل كل شيء مثله ما لم تصفر الشمس. وقال بعضهم ما لم تتغير الشمس.

وعن الأوزاعي نحو من ذلك ويشبه أن يكون هؤلاء ذهبوا إلى حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وقت العصر ما لم تصفر الشمس. وأما المغرب فقد أجمع أهل العلم على أن أول وقتها غروب الشمس. واختلفوا في آخر وقتها فقال مالك والأوزاعي والشافعي لا وقت للمغرب إلاّ وقت واحد قولاً بظاهر الحديث حديث ابن عباس وقال سفيان الثوري وأصحاب الرأي وأحمد وإسحاق وقت المغرب إلى أن يغيب الشفق. قلت وهذا أصح القولين للأخبار الثابتة وهي خبر أبي موسى الأشعري وبريدة الأسلمي وعبد الله بن عمرو. ولم يختلفوا في أن أول وقت العشاء الآخرة غيبوبة الشفق إلاّ أنهم اختلفوا في الشفق ما هو فقالت طائفة هو الحمرة، روي ذلك عن ابن عمر وابن عباس، وهو قول مكحول وطاوس وبه قال مالك وسفيان الثوري وابن أبي ليلى وأبي يوسف ومحمد والشافعي وأحمد وإسحاق. وروي، عَن أبي هريرة أنه قال: الشفق البياض. وعن عمر بن عبد العزيز مثله. وإليه ذهب أبو حنيفة وهو قول الأوزاعي. وقد حكي عن الفراء أنه قال: الشفق الحمرة وأخبرني أبو عمر، عَن أبي العباس أحمد بن يحيى قال: الشفق البياض وأنشد لأبي النجم: حتى إذا الليل جلاه المجتلي ... بين سماطي شفق مُهَوَّل يريد الصبح وقال بعضهم الشفق اسم للحمرة والبياض معاً إلاّ أنه إنما يطلق في أحمر ليس بقاني وأبيض ليس بناصع، وإنما يعلم المراد منه بالأدلة لا بنفس اللفظ كالقُرء الذي يقع اسمه على الطهر والحيض معاً وكسائر نظائره من الأسماء المشتركة.

واختلفوا في آخر وقت العشاء الآخرة فروي عن عمر بن الخطاب وأبي هريرة أن أخر وقتها ثلث الليل، وكذلك قال عمر بن عبد العزيز وبه قال الشافعي قولا بظاهر حديث ابن عباس. وقال الثوري وأصحاب الرأي وابن المبارك وإسحاق بن راهويه آخر وقت العشاء إلى نصف الليل، وحجة هؤلاء حديث عبد الله بن عمرو قال ووقت العشاء إلى نصف الليل، وكان الشافعي يقول به إذ هو بالعراق وقد روي عن ابن عباس أنه قال لا يفوت وقت العشاء إلى الفجر وإليه ذهب عطاء وطاوس وعكرمة. واختلفوا في آخر وقت الفجر فذهب الشافعي إلى ظاهر حديث ابن عباس وهو الإسفار، وذلك لأصحاب الرفاهية ومن لا عذر له وقال من صلى ركعة من الصبح قبل طلوع الشمس لم تفته الصبح، وهذا في أصحاب العذر والضرورات وقال مالك وأحمد من صلى ركعة من الصبح وطلعت له الشمس أضاف إليها أخرى وقد أدرك الصبح فجعلوه مدركا للصلاة على ظاهر حديث أبي هريرة. وقال أصحاب الرأي من طلعت عليه الشمس وقد صلى ركعة من الفجر فسدت صلاته إلاّ أنهم قالوا فيمن صلى من العصر ركعة أو ركعتين فغربت الشمس قبل أن يتمها إن صلاته تامة. قال أبو داود: حدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا شعبة عن قتادة سمع أبا أيوب عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال وقت الظهر ما لم يحضر العصر ووقت العصر ما لم تصفر الشمس ووقت المغرب ما لم يسقط فور الشفق ووقت العشاء إلى نصف الليل ووقت صلاة الفجر ما لم تطلع الشمس. قوله فور الشفق بقية حمرة الشمس في الأفق. وسمي فورا لفورانه وسطوعه

ومن باب في وقت صلاة النبي ص

وروي أيضاً ثور الشفق وهو ثوران حمرته. ومن باب في وقت صلاة النبي ص قال أبو داود: حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا شعبة عن سعد بن إبراهيم عن محمد بن عمرو قال سألنا جابرا عن وقت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كان يصلي الظهر بالهاجرة والعصر والشمس بيضاء حية والمغرب إذا غربت الشمس والعشاء إذا كثر الناس عجل وإذا قلوا أخر والصبح بغَلَس. قوله والشمس حية يفنببر على وجهين أحدهما أن حياتها شدة وهجها وبقاء حرها لم ينكسر منه شيء والوجه الآخر أن حياتها صفاء لونها لم يدخلها التغير. ومن باب وقت الظهر قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل ومسدد قالا: حَدَّثنا عباد بن عباد حدثنا محمد بن عمرو عن سعيد بن الحارث الأنصاري عن جابر بن عبد الله: قال كنت أصلي الظهر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فآخذ قبضة من الحصباء لتبرد في كفي أضعها لجبهتي أسجد عليها لشدة الحر. قلت فيه من الفقه تعجيل صلاة الظهر. وفيه أنه لا يجوز السجود إلاّ على الجبهة ولو جاز السجود على ثوب هو لابسه أو الاقتصار من السجود على الأرنبة دون الجبهة لم يكن يحتاج إلى هذا الصنيع، وفيه أن العمل اليسير لا يقطع الصلاة. قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا عبيدة بن حميد، عَن أبي مالك الأشجعي سعد بن طارق عن كثير بن مدرك عن الأسود أن عبد الله بن مسعود قال كان قدر صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصيف ثلاثة أقدام إلى خمسة أقدام وفي الشتاء خمسة أقدام إلى سبعة أقدام.

قلت وهذا أمر يختلف في الأقاليم والبلدان ولا يستوي في جميع المدن والأمصار لأن العلة في طول الظل وقصره هو زيادة ارتفاع الشمس في السماء وانحطاطها فكلما كانت أعلى وإلى محاذاة الرؤوس في مجراها أقرب كان الظل أقصر. وكلما كانت أخفض ومن محاذاة الرؤوس أبعد كان الظل أطول ولذلك ظلال الشتاء تراها أبداً أطول من ظلال الصيف في كل مكان. وكانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة والمدينة وهما من الإقليم الثانى. ويذكرون أن الظل فيهما في أول الصيف في شهر آذار ثلاثة أقدام وشيء ويشبه أن يكون صلاته إذا اشتد الحر متأخرة عن الوقت المعهود قبله فيكون الظل عند ذلك خمسة أقدام. وأما الظل في الشتاء فإنهم يذكرون أنه في تشرين الأول خمسة أقدام أو خمسة وشيء وفي الكانون سبعة أقدام أو سبعة وشيء. فقول ابن مسعود منزل على هذا التقدير في ذلك الإقليم دون ساتر الأقاليم والبلدان التي هي خارجة عن الإقليم الثاني والله أعلم. قال أبو داود: حدثنا يزيد بن خالد بن موهب الهمداني وقتيبة بن سعيد الثقفي أن الليث حدثهم عن ابن شهاب عن ابن المسيب وأبي سلمة، عَن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة فإن شدة الحر من فيح جهنم. معنى الإبراد في هذا الحديث انكسار شدة حر الظهيرة وقال محمد بن كعب القرظي نحن نكون في السفر فإذا فات الأفياء وهبت الأرواح قالوا أبردتم فالرواح. قلت ومن تأول على بردى النهار فقد خرج عن جملة قول الأمة.

وقد اختلف العلماء في تأخير صلاة الظهر في الصيف والإبراد بها فذهب أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه إلى تأخيرها والإبراد بها في الصيف. وإليه ذهب أصحاب الرأي، وقال الشافعي تعجيلها أولى إلاّ أن يكون امام جماعة ينتابه الناس من بعد فإنه يبرد بها في الصيف عند شدة الحر، وأما من صلاها وحده أو صلاها بجماعة بفناء بيته لا يحضره إلاّ من بحضرته فإنه يصليها في أول وقتها لأنه لا أذى عليهم في حرها. ولا يؤخر في الشتاء بحال. وقوله عليه الصلاه والسلام فيح جهنم معناه سطوع حرها وانتشاره وأصله في كلامهم السعة والانتشار. ومنه قولهم في الغادة فيحي فياح، ومكان أفيح أي واسع، وأرض فيحاء أي واسعة ومعنى الكلام يحتمل وجهين أحدهما أن شدة الحر في الصيف من وهج حر جهنم في الحقيقة. وروي أن الله تعالى أذن لجهنم في نفسين نفس في الصيف ونفس في الشتاء فأشد ما تجدونه من الحر في الصيف فهو من نفسها وأشد ما ترونه من البرد في الشتاء فهو منها. والوجه الاخر أن هذا الكلام إنما خرج مخرج التشبيه والتقريب أي كأنه نار جهنم في الحر فاحذروها واجتنبوا ضررها. قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن سماك بن حرب عن جابر بن سَمُرة أن بلالاً كان يؤذن للظهر إذا دحضت الشمس. قوله دحضت معناه زالت وأصل الدحض الزلق يقال دحضت رجله أي زلت عن موضعها وأدحضت حجة فلان أي أزالتها وأبطلتها.

ومن باب وقت العصر

ومن باب وقت العصر قال أبو داود: حدثنا القعنبي قال قرأت على مالك عن ابن شهاب قال عروة ولقد حدثتني عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي العصر والشمس في حجرتها قبل أن تظهر. قوله قبل أن تظهر معنى الظهور ههنا الصعود يقال ظهرت على الشيء إذا علوته ومنه قول الله تعالى {ومعارج عليها يظهرون} [الزخرف: 33] . قلت وحجرة عائشة ضيقة الرقعة والشمس تقلص عنها سريعاً فلا يكون مصلياً العصر قبل أن تصعد الشمس عنها إلاّ وقد بكر بها. قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن العلاء بن عبد الرحمن أنه قال: دخلنا على أنس بن مالك بعد الظهر فقام يصلي العصر فلما فرغ من صلا ته ذكرنا تعجيل الصلاة أو ذكرها فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: تلك صلاة المنافقين تلك صلاة المنافقين يجلس أحدهم حتى إذا اصفرت الشمس وكانت بين قرني الشيطان أو على قرني الشيطان قام فنقر أربعاً لا يذكرالله فيها إلا قليلا. قوله كانت بين قرنى الشيطان إختلفوا في تأويله على وجوه فقال قائل معناه مقارنه الشيطان للشمس عند دنوها للغروب على معنى ما روي أن الشيطان يقارنها إذا طلعت فإذا ارتفعت فارقها فإذا استوت قارنها فإذا زالت فارقها فإذا دنت للغروب قارنها فإذا غربت فارقها فحرمت الصلاة في هذه الأوقات الثلاثة لذلك. وقيل معنى قرن الشيطان قوته من قولك أنا مقرن لهذا الأمرأي مطيق له قوي عليه وذلك لأن الشيطان إنما يقوى أمره في هذه الأوقات لأنه يسول لعبدة الشمس أن يسجدوا لها في هذه الأزمان الثلاثة، وقيل قرنه حزبه وأصحابه

ومن باب وقت عشاء الآخرة

الذين يعبدون الشمس يقال هؤلاء قرن أي نشوء جاؤوا بعد قرن مضى. وقيل إن هذا تمثيل وتشبيه وذلك أن تأخير الصلاة إنما هو من تسويل الشيطان لهم وتزيينه ذلك في قلوبهم وذوات القرون إنما تعالج الأشياء وتدفعها بقرونها فكأنهم لما دافعوا الصلاة وأخروها عن أوقاتها بتسويل الشيطان لهم حتى اصفرت الشمس صار ذلك منه بمنزلة ما تعالجه ذوات القرون بقرونها وتدفعه بأرواقها. وفيه وجه خامس قاله بعض أهل العلم وهو أن الشيطان يقابل الشمس حين طلوعها وينتصب دونها حتى يكون طلوعها بين قرنيه وهما جانبا رأسه فينقلب سجود الكفار للشمس عبادة له. وقرنا الرأس فوداه وجانباه وسمي ذو القرنين وذلك أنه ضرب على جانبي رأسه فلقب به. قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الذي تفوته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله. قلت معنى وتر أي نقص أو سلب فبقي وتراً فرداً بلا أهل ولا مال يريد فليكن حذره من فوتها كحذره من ذهاب أهله وماله. ومن باب وقت عشاء الآخرة قال أبو داود: حدثنا عمرو بن عثمان الحمصى حدثنا أبي حدثنا جرير عن راشد بن سعد عن عاصم بن حميد السكوني أنه سمع معاذ بن جبل يقول بقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة العتمة فتأخر حتى ظن الظان أنه ليس بخارج والقائل منا يقول صلى فانا لكذلك حتى خرج النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا له كما قالوا فقال اعتموا هذه الصلاة فإنكم قد فُضلتم بها على سائر الأمم ولم تصلها أمة قبلكم. قوله بقينا النبي صلى الله عليه وسلم معناه انتظرنا يقال بقيت الرجل أبقيه إذا انتظرته.

ومن باب وقت الصبح

وقوله اعتموا هذه الصلاة يريد أخروها، يقال فلان عاتم القرى إذا لم يقدم العجالة لأضيافه. وقد روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تسمى هذه الصلاة العتمة، وقال: لا يغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم فإنهم يعتمون بحلاب الإبل أي يؤخرونه. وكان ابن عمر إذا سمع رجلاً يقول العتمة صاح وغضب وقال إنما هو العشاء. ومن باب وقت الصبح قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن يحيى بن سعيد عن عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة أنها قالت انْ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي الصبح فينصرف النساء متلَفِّعات بمُروطهن ما يعرفن من الغلس. والغلس اختلاط ضياء الصبح بظلمة الليل والغبش قريب منه إلاّ أنه دونه. والمروط أكسية تلبس والتلفع بالثوب الاشتمال به. وهو حجة لمن رأى التغليس بالفجر وهو الثابت من فعل أبي بكر وعمر وغيرهما من الصحابة رضوان الله عليهم. وبه قال مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه. وقال الثوري وأصحاب الرأى: الإسفار بها أفضل. قال أبو داود: حدثنا إسحاق بن إسماعيل حدثنا سفيان عن ابن عجلان عن عاصم بن عمر بن قتادة بن النعمان عن محمود بن لبيد عن رافع بن خديج قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اصبحوا بالصبح فإنه أعظم لأجركم أو أعظم للأجر. قلت وإلى هذا ذهب الثورى وأصحاب الرأي. وقد احتج من رأى التغليس بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما. وقال يحيى بن آدم لا يحتاج مع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قول وإنما كان يقال سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم

ومن باب المحافظة على الوقت

وأبي بكر وعمر ليعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم مات وهو عليها. واحتجوا أيضاً بخبر بشر بن أبي مسعود الأنصاري عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غلس بالصبح ثم أسفر مرة ثم لم يعد إلى الإسفار حتى قبضه الله وهو حديث صحيح الإسناد. وقد ذكره أبو داود في باب قبل هذا. قال حدثنا محمد بن سلمه المرادي حدثنا ابن وهب عن أسامة بن زيد الليثي أن ابن شهاب أخبره عن عروة عن بشير بن أبي مسعود عن أبيه. وتأولوا حديث رافع بن خديج على أنه إنما أراد بالإصباح والإسفار أن يصليها بعد الفجر الثاني وجعلوا مخرج الكلام فيه على مذهب مطابقة اللفظِ اللفظَ وزعموا أنه قد يحتمل أن أولئك القوم لما أمروا بتعجيل الصلوات جعلوا يصلونها مابين الفجر الأول والفجر الثاني طلبا للأجر في تعجيلها فقيل لهم صلوها بعد الفجر الثاني وأصبحوا إذا كنتم تريدون به الأجر فإن ذلك أعظم لأجوركم. فإن قيل كيف يستقيم هذا ومعلوم أن الصلاة إذا لم يكن لها جواز لم يكن فيها أجر. قيل أما الصلاة فلا جواز لها ولكن أجرهم فيما نووه ثابت كقوله صلى الله عليه وسلم: إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر ألا تراه قد بطل حكمه ولم يبطل أجره، وقيل إن الأمر بالاسفار إنما جاء في الليالي المقمرة وذلك أن الصبح لا يتبين فيها جيدا فأمرهم بزيادة التبيين استظهارا باليقين في الصلاة. ومن باب المحافظة على الوقت قال أبو داود: حدثنا عمرو بن عون أخبرنا خالد (هو ابن عبيد الله الطحان الواسطي) عن داود بن أبي هند، عَن أبي حرب بن أبي الأسود عن عبد الله بن فضالة عن أبيه قال علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان فيما علمني (وحافظ على

الصلوات الخمس) . قال قلت إن هذه ساعات لي فيها أشغال فمرني بأمر جامع إذا أنا فعلته أجزأ عني فقال حافظ على العصرين وما كانت من لغتنا فقلت وما العصران قال صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها. يريد بالعصرين صلاة العصر وصلاة الصبح والعرب قد تحمل أحد الاسمين على الآخر فتجمع بينهما في التسمية طلبا للتخفيف كقولهم سنة العمرين لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما. والأسودين يريدون التمر والماء والأصل في العصرين عند العرب الليل والنهار قال حميد بن ثور: ولن يلبث العصران يوم وليلةٌ ... إذا طلبا أن يدركا ما تيمما فيشبه أن يكون إنما قيل لهاتين الصلاتين العصران لأنهما تقعان في طرفي العصرين وهما الليل والنهار. قال أبو داود: حدثنا محمد بن حرب الواسطي حدثنا يزيد بن هارون حدثنا محمد بن مطرف عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن عبد الله الصنابحى قال زعم أبو محمد أن الوتر واجب فقال عيادة بن الصامت كذب أبو محمد أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: خمس صلوات افترضهن الله من أحسن وضوءهن وجاء بهن لوقتهن وأتم ركوعهن وخشوعهن كان له على الله عهدٌ أن يغفر له. ومن لم يفعل فليس له على الله عهد إن شاء غفر له وإن شاء عذبه. قوله كذب أبو محمد يريد أخطأ أبو محمد لم يرد به تعمد الكذب الذى هو ضد الصدق لأن الكذب إنما يجري في الأ خبار. وأبو محمد هذا إنما افتى فتيا ورأى رأيا فأخطأ فيما افتى به وهو رجل من الأنصار له صحبة والكذب عليه

ومن باب إذا أخر الصلاة عن الوقت

في الأخبار غير جائز والعرب تضع الكذب موضع الخطأ في كلامها فتقول كذب سمعي وكذب بصري أي زل ولم يدرك ما رأى وما سمع ولم يحط به قال الأخطل: كذبتك عينُك أم رأيت بواسط ... ملس الظلام من الرطب خيالا ومن هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم للرجل الذى وصف له العسل صدق الله وكذب بطن أخيك. وإنما أنكر عبادة أن يكون الوتر واجبا وجوب فرض كالصلوات الخمس دون أن يكون واجبا في السنة ولذلك استشهد بالصلوات الخمس المفروضات في اليوم والليلة. ومن باب إذا أخر الصلاة عن الوقت قال أبو داود: حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم بن دُحَيم حدثنا الوليد حدثني حسان هو ابن عطية عن عبد الرحمن بن سابط عن عمرو بن ميمون الأودي قال قدم علينا معاذ بن جبل اليمن رسولُ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلينا قال فسمعب تكبيره مع الفجر رجل أجش الصوت، قال فألقيت عليه محبتي فما فارقته حتى دفنته بالشام ميتا ثم نظرت إلى أفقه الناس بعده فأتيت ابن مسعود فلزمته حتى مات فقال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف بكم إذا أتت عليكم أمراء يصلون الصلاة لغير ميقاتها. قلت فما تأمرني إن أدركني ذلك يا رسول الله قال: صل الصلاة لميقاتها واجعل صلاتك معهم سُبحةً. قوله أجش الصوت هو الذي في صوته جُشة وهي شدة الصوت وفيها غنة، والسبحة ما يصليه المرء نافلة من الصلوات ومن ذلك سبحة الضحى.

ومن باب من نام عن صلاة أو نسيها

وفي الحديث من الفقه أن تعجيل الصلوات في أول أوقاتها أفضل وأن تأخيرها بسبب الجماعة غير جائز، وفيه أن إعادة الصلاة الواحدة مرة بعد أخرى في اليوم الواحد إذا كان لها سبب جائزة وإنما جاء النهي عن أن يصلي صلاة واحدة مرتين في يوم واحد إذا لم يكن لها سبب. وفيه أن فرضه هو الأولى منهما وأن الأخرى نافلة، وفيه أنه قد أمربالصلاة مع أئمة الجَور حذرا من وقوع الفرقة وشق عصا الأئمة. ومن باب من نام عن صلاة أو نسيها قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عبد الله بن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب عن ابن المسيب، عَن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قفل من غزوة خيبر فسار ليلة حتى أدركنا الكرى عرَّس وقال لبلال اكلأ لنا الليل فغلبت بلالا عيناه وهو مستند إلى راحلته فلم يستيقظ النبي صلى الله عليه وسلم ولا بلالاً، ولا أحد من أصحابه حتى ضربتهم النشمس فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أولهم استيقاظا ففزع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا بلال فقال أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك بأبي أنت وأمي يا رسول الله فاقتادوا رواحلهم شيئا ثم توضأ النبي صلى الله عليه وسلم وأمر بلالا فأقام لهم الصلاة وصلى بهم الصبح فلما قضى الصلاة قال من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها فإن الله تعالى قال {أقم الصلاة لذكري} [طه: 14] . الكرى النوم وقوله عرس معناه نزل للنوم والاستراحة. والتعريس النزول لغير إقامة، وقوله فزع رسول الله معناه انتبه من نومه يقال أفزعت الرجل من نومه ففزع أي انبهته فانتبه.

وفي الحديث من الفقه أنهم لم يصلوا في مكانهم ذلك عندما استيقظوا حتى اقتادوا رواحلهم ثم توضؤوا ثم أقام بلال وصلى بهم. وقد اختلف الناس في معنى ذلك وتأويله، فقال بعضهم إنما فعل ذلك لترتفع الشمس فلا تكون صلاتهم في الوقت المنهي عن الصلاة فيه وذلك أول ما تبزغ الشمس قالوا والفوائت لا تقضى في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها، وعلى هذا مذهب أصحاب الرأي. وقال مالك والأوزاعي والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه تقضى الفوائت في كل وقت نهي عن الصلاة فيه أولم ينه عنها. وإنما نهى عن الصلاة في تلك الأوقات إذا كانت تطوعا وابتداء من قبل الاختيار دون الواجبات فإنها تقضى الفوائت فيها إذا ذكرت أي وقت كان. وروي معنى ذلك عن علي بن أبي طالب وابن عباس رضي الله عنهما وهو قول النخعي والشعبي وحمادة وتأولوا أو من تأول منهم القصة في قود الرواحل وتأخير الصلاة على أنه أراد أن يتحول عن المكان الذي أصابته الغفلة فيه والنسيان. وقد روي هذا المعنى في هذا الحديث من طريق أبان العطار. قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا أبان حدثنا معمر عن الزهري عن ابن المسيب، عَن أبي هُرَيْرَة وذكر القصة قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تحولوا عن مكانكم الذي أصابتكم فيه هذه الغفلة وقال فأمر بلالاً فأذن وأقام وصلى. قلت وذكر الأذان في هذه الرواية من طريق أبان عن معمر زيادة وليست في رواية يونس. وقد اختلف أهل العلم في الفوائت هل يؤذن لها أم لا؟ فقال

أحمد بن حنبل يؤذن للفائت ويقام له وإليه ذهب أصحاب الرأي. واختلف قول الشافعي في ذلك فأظهر أقاويله إنه يقام للفوائت ولا يؤذن لها. وقال أبو داود روى هذا الخبر مالك وابن عيينة والأوزاعي عن عبد الرزاق عن معمر وابن إسحاق لم يذكر أحد منهم الأذان في حديث الزهري هذا ولم يسنده منهم أحد إلاّ الأوزاعي وأبان العطار عن معمر. قلت وروى هذا الحديث هشام عن الحسن عن عمران بن حصين فذكر فيه الأذان. ورواه أبو قتادة الأنصاري عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكر الأذان والإقامة والزيادات إذا صحت مقبولة والعمل بها واجب. وقد يسأل عن هذا فيقال قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال تنام عيناي ولا ينام قلبي فكيف ذهب عن الوقت ولم يشعر به وقد تأول بعض أهل العلم على أن ذلك خاص في أمرالحدث وذلك أن النائم قد يكون منه الحدث وهو لا يشعر به وليس كذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن قلبه لا ينام حتى لا يشعر بالحدث إذا كان منه. وقد قيل إن ذلك من أجل أنه يوحى إليه في منامه فلا ينبغي لقلبه أن ينام، فأما معرفة الوقت واثبات رؤ ية الشمس طالعة فإن ذلك إنما يكون دركه ببصر العين دون القلب فليس فيه مخالفة للحديث الآخر والله أعلم. قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن ثابت عن عبد الله بن رباح الأنصاري حدثنا أبو قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفر له فمال وملت معه فقال انظر فقلت هذا راكب هذان راكبان هؤلاء ثلاثة حتى صرنا سبعة فقال احفظوا علينا صلاتنا، يَعني الفجر فضرب على آذانهم فما أيقظهم إلاّ حر

الشمس فقاموا فساروا هُنيَّة ثم نزلوا فتوضؤوا وأذن بلال فصلوا ركعتي الفجر ثم صلوا الفجر وركبوا فقال بعضهم لبعض قد فرطنا في صلاتنا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أنه لا تفريط في النوم إنما التفريط في اليقظة فإذا سها أحدكم عن صلاة فليصلها حين يذكرها ومن الغد للوقت. قلت قد ذكر الأذان في هذا الحديث كما ترى واسناده جيد فهو أولى. وأما هذه اللفظة وهي قوله ومن الغد للوقت فلا أعلم أحدا من الفقهاء قال بها وجوباً ويشبه أن يكون الأمر به استحبابا ليحرز فضيلة الوقت في القضاء. وقوله ضرب على آذانهم كلمة فصيحة من كلام العرب معناه أنه حجب الصوت والحس عن أن يلجا آذانهم فينتبهوا ومن هذا قوله تعالى {فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا} [الكهف: 11] . قال أبو داود: حدثنا علي بن نصر حدثنا وهب بن جرير حدثنا الأسود بن شيبان حدثنا خالد بن سمير حدثنا أبو قتادة الأنصاري قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيش الأمراء وذكر القصة قال فلم يوقظنا إلاّ الشمس طالعة فقمنا وهلين لصلاتنا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: رويدا رويدا حتى تقالت الشمس أو تعالت الشك مني قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان منكم يركع ركعتي الفجر فليركعها فركعوا ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينادوا بالصلاة فنودي بها. فقام فصلى بنا فلما انصرف قال ألا إنا بحمد الله لم نكن في شيء من أمرالدنيا يشغلنا عن صلاتنا ولكن أرواحنا كانت بيد الله فأرسلها أنَّى شاء فمن أدرك منكم صلاة الغداة من غد صالحا فليقض معها مثلها. قوله فقمنا وهلين يريد فزعين يقال وهل الرجل يوهل إذا فزع لشيء يصيبه

ومن باب في بناء المسجد

وقوله تقالت الشمس يريد استقلالها في السماء وارتفاعها إن كانت الرواية هكذا وهو في سائر الروايات تعالت ووزنه تفاعلت من العلو، وفى أمره صلى الله عليه وسلم إياهم بركعتي الفجر قبل الفريضة دليل على أن قوله فليصلها إذا ذكرها ليس على معنى تضييق الوقت فيه وحصره بزمان الذكر حتى لا يعدوه بعينه ولكنه على أن يأتي بها على حسب الإمكان بشرط أن لا يغفلها ولا يتشاغل عنها بغيرها. قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير أخبرنا همام عن قتادة عن أنس أن النبي ص قال: من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلاّ ذلك. قوله لا كفارة لها إلاّ ذلك يريد أنه لا يلزمه في تركها غرم أوكفارة من صدقة أو نحوها كما يلزمه في ترك الصوم في رمضان من غير عذر الكفارة وكما يلزم المحرم إذا ترك شيئا من نسكه كفارة وجبران من دم وإطعام ونحوه. وفيه دليل على أن أحدا لا يصلي عن أحد كما يحج عنه وكما يؤدي عنه الديون ونحوها وفيه دليل أن الصلاة لا تجبر بالمال كما يجبر الصوم ونحوه. ومن باب في بناء المسجد قال أبو داود: حدثنا محمد بن الصباح أنا سفيان بن عيينة عن سفيان الثوري، عَن أبي فزارة عن يزيد بن الأصم عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أمرت بتشييد المساجد. قال ابن عباس لتُزَخرفُنَّها كما زخرفت اليهود والنصارى. التشييد رفع البناء وتطويله وقوله لتُزَخرفُنَّها معناه لتزيننها، وأصل الزخرف الذهب يريد تمويه المساجد بالذهب ونحوه، ومنه قولهم زخرف الرجل كلامه إذا موهه وزينه بالباطل، والمعنى أن اليهود والنصارى إنما زخرفوا المساجد عندما حرفوا وبدلوا وتركوا العمل بما في كتبهم يقول فأنتم تصيرون إلى مثل حالهم

إذا طلبتم الدنيا بالدين وتركتم الإخلاص في العمل وصار أمركم إلى المراياة بالمساجد والمباهاة بتشييدها وتزيينها. قال أبو داود: حدثنا محمد بن يحيى بن فارس ومجاهد بن موسى وهو أتم قالا: حَدَّثنا يعقوب بن إبراهيم حدثني أبي عن صالح حدثنا نافع عن ابن عمر أن المسجد كان مبنيا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم باللبن وسقفه بالجريد وعمده خُشُب النخل وغيَّره عثمان وزاد فيه زيادة كثيرة وبنى جداره بالحجارة المنقوشة والقَصَّة. العمد السواري يقال عمود وعمد بفتح العين والمين وضمها والقصة شيء شبه الجص وليس به. قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا عبد الوارث، عَن أبي التيَّاح عن أنس بن مالك قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم أمر ببناء المسجد فأرسل إلى بني النجار فقال: ثامنوني بحائطكم فقالوا. والله لا نطلب ثمنه إلاّ إلى الله. قال أنس وكان فيه قبور المشركين فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فنُبشت وذكر الحديث. قلت: فيه من الفقه أن المقابر إذا نبشت ونقل ترابها ولم يبق هناك نجاسة تخالط أرضها فإن الصلاة فيها جائزة وإنما نهى صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في المقبرة إذا كان قد خالط ترابها صديد الموتى ودماؤهم فإذا نقلت عنها زال ذلك الاسم وعاد حكم الأرض إلى الطهارة. وفيه من العلم أنه أباح نبش قبور الكفار عند الحاجة إليه وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه أمر أصحابه بنبش قبر أبي رغال في طريقه إلى الطائف وذكر لهم أنه دفن معه غصن من ذهب فابتدروه فأخرجوه. وفي أمره بنبش قبور المشركين بعدما جعل أربابها تلك البقعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم دليل على أن الأرض التى يدفن فيها

ومن باب المساجد تبنى في الدور

الميت باقية على ملك أوليائه. وكذلك ثيابه التي يكفن فيها وأن النباش سارق من حرز في ملك مالك ولوكان موضع القبر وكفن الميت مبقَّى على ملك الميت حتى ينقطع ملك الحي عنه من جميع الوجوه لم يكن يجوز نبشها واستباحتها بغير إذن مالكها. وفيه دليل أن من لا حرمة لدمه في حياته فلا حرمة لعظامه بعد مماته، وقد قال صلى الله عليه وسلم: كسر عظم المسلم ميتاً ككسره حياً فكان دلالته أن عظام الكفار بخلافه. ومن باب المساجد تبنى في الدور قال أبو داود: حدثنا محمد بن العلاء حدثنا حسين بن علي عن زائدة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدور وأن تنظف وتطَّيب. قلت في هذا حجة لمن رأى أن المكان لا يكون مسجدا حتى يسبّله صاحبه وحتى يصلي الناس فيه جماعة ولو كان الأمر يتم فيه بأن يجعله مسجدا بالتسمية فقط لكان مواضع تلك المساجد في بيوتهم خارجة عن أملاكهم فدل أنه لا يصح أن يكون مسجداً بنفس التسمية. وفيه وجه آخر وهو أن الدور يراد بها المحال التي فيها الدور. ومن باب الصلاة عند دخول المسجد قال أبو داود: حدثنا القعنبي حدثنا مالك عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن عمرو بن سليم، عَن أبي قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا جاء أحدكم المسجد فليصل سجدتين قبل أن يجلس. قلت: فيه من الفقه أنه إذا دخل المسجد كان عليه أن يصلي ركعتين تحية

ومن باب في كراهية إنشاد الضالة في المسجد

المسجد قبل أن يجلس وسواء كان ذلك في جمعة أو غيرها كان الإمام على المنبر أو لم يكن لأن النبي صلى الله عليه وسلم عم ولم يخص. وقد اختلف الناس في هذا فقال بظاهر الحديث الشافعى وأحمد بن حنبل وإسحاق وإليه ذهب الحسن البصري ومكحول وقالت طائفة إذا كان الإمام على المنبر جلس ولا يصلي. وإليه ذهب ابن سيرين وعطاء بن أبي رباح والنخعي وأصحاب الرأي وهو قول مالك والثوري. ومن باب في كراهية إنشاد الضالة في المسجد قال أبو داود: حدثنا عبيد الله بن عمر الجثمي حدثنا حيوة بن شريح قال: سمعت أبا الأسود يقول أخبرني أبو عبد الله مولى شداد أنه سمع أبا هريرة يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من سمع رجلا ينشد ضالة في المسجد فليقل لا أداها الله إليك فإن المساجد لم تبن لهذا. قوله ينشد معناه يطلب يقال نشدت الضالة إذا طلبتها وأنشدتها إذا عرفتها وفى رواية أخرى أنه قال لرجل كان ينشد ضالة في المسجد أيها الناشد غيرك الواجد ويدخل في هذا كل أمر لم يبن له المسجد من البيع والشراء ونحو ذلك من أمور معاملات الناس واقتضاء حقوقهم، وقد كره بعض السلف المسألة في المسجد. وكان بعضهم لا يرى أن يتصدق على السائل المتعرض في المسجد. ومن باب كراهية البزاق في المسجد قال أبو داود: حدثنا يحيى بن الفضل السجستاني وهشام بن عمار وسليمان بن عبد الرحمن الدمشقيان بهذا الحديث وهذا لفظ يحيى بن الفضل حدثنا حاتم بن إسماعيل حدثنا يعقوب بن مجاهد أبو حزرة عن عُبادة بن الوليد بن عبادة بن

الصامت قال أتينا جابر بن عبد الله وهو في مسجده فقال أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجدنا هذا وفي يده عُرجون ابن طاب فنظر فرأى في قبلة المسجد نخامة فأقبل عليها فحَتَّها بالعرجون ثم قال: أيكم يحب أن يعرض الله عنه إن أحدكم إذا قام يصلي فإن الله قبل وجهه فلا يبسُقن قبل وجهه ولا عن يمينه وليبسُق عن يساره تحت رجله اليسرى فإن عجلت به مادرة فليقل بثوبه هكذا ووضع على فيه ثم دلكه أروني عبيراً فقام فتى من الحي يشتد إلى أهله فجاء بخَلوق في راحته فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لطخ به على أثر النُخامة قال جابر رضي الله عنه فمن هناك جعلتم الخَلوق في مساجدكم. العرجون عود كباسة النخل وسمي عرجونا لانعراجه وهو انعطافه وابن طاب اسم لنوع من أنواع التمر منسوب إلى ابن طاب كما نسب سائر ألوان التمر فقيل لون ابن حبيق ولون كذا ولون كذا. وقوله فإن الله قبل وجهه تأويله أن القبلة التي أمره الله عزو جل بالتوجه إليها للصلاة قبل وجهه فليصنها عن النخامة. وفيه إضمار وحذف واختصار كقوله تعالى {وأشربوا في قلوبهم العجلس} [البقرة: 93] أي حب العجل وكقوله تعالى {واسأل القرية} [يوسف: 82] يريد أهل القرية ومثله في الكلام كثير وإنما أضيفت تلك الجهة إلى الله تعالى على سبيل التكرمة كما قيل بيت الله وكعبة الله في نحو ذلك من الكلام. وفيه من الفقه أن النخامة طاهره ولولم تكن طاهرة لم يكن يأمر المصلي بأن يدلكها بثوبه ولا أعلم خلافا في أن البزاق طاهر إلاّ أن أبا محمد الكُدانى حدثني قال سمعت الساجي يقول كان إبراهيم النخعي يقول البزاق نجس.

ومن باب المشرك يدخل المسجد

ومن باب المشرك يدخل المسجد قال أبو داود: حدثنا عيسى بن حماد حدثنا الليث عن سعيد المقبري عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر أنه سمع أنس بن مالك يقول دخل رجل على جمل فأناخه في المسجد ثم عقله ثم قال ايُّكم محمد ورسول الله صلى الله عليه وسلم متكىء بين ظهرانَيْهم فقلنا هذا الأبيض المتكىء فقال له الرجل يا بن عبد المطلب فقال له النبي صلى الله عليه وسلم قد أجبتك فقال يا محمد إني سائلك وساق الحديث. قلت كل من استوى قاعداً على وطاء فهو متكىء والعامة لا تعرف المتكىء إلاّ من مال في قعوده معتمدا على أحد شقيه. وفي الحديث من الفقه جواز دخول المشرك المسجد إذا كانت له فيه حاجة مثل أن يكون له غريم في المسجد لا يخرج إليه ومثل أن يحاكم إلى قاض وهو في المسجد فإنه يجوز له دخول المسجد لإثبات حقه في نحو ذلك من الأمور. وفي إدخاله المسجد جمله وعقله إياه فيه ثم لم يُهج ولم يمنع منه حجة لقول من زعم إن بول ما يؤكل لحمه من الحيوان طاهر. وقد زعم بعضهم أنه إنما قال له قد أجبتك ولم يستأنف له الجواب لأنه كره أن يدعوه باسم جده وأن ينسبه إليه إذ كان عبد المطلب جده كافرا غير مسلم وأحب أن يدعوه باسم النبوة والرسالة. قلت وهذا وجه ولكن قد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم حنين حين حمل على الكفار فانهزموا: أنا النبي لا كذب …أبا بن عبد المطلب وقال بعض أهل العلم في هذا إنه لم يذهب بهذا القول مذهب الانتساب إلى شرف

ومن باب المواضع التي لا تجوز فيها الصلاة

الآباء على سبيل الافتخار بهم ولكنه ذكرهم بذلك رؤيا كان رآها عبد المطلب له أيام حياته وكانت إحدى دلائل نبوته وكانت القصة فيها مشهورة عندهم فعرفهم شأنها وأذكرهم بها وخروج الأمرعلى الصدق فيها والله أعلم. ومن باب المواضع التي لا تجوز فيها الصلاة قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن الأعمش عن مجاهد عن عُبيد بن عمير، عَن أبي ذر قال. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: جُعلت لي الأرض طهورا ومسجدا. قوله جعلت لي الأرض طهورا ومسجدا فيه إجمال وإبهام. وتفصيله في حديث حذيفة بن اليمان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: جعلت لنا الأرض مسجدا وجعلت تربتها لنا طهورا ولم يذكره أبو داود في هذا الباب واسناده جيد حدثونا به عن محمد بن يحيى حدثنا مسدد حدثنا أبو عوانة، عَن أبي مالك عن رِبْعِيّ بنِ حِِرَاش عن حذيفة. وقد يحتج بظاهر خبر أبي ذر من يرى التيمم جائزا بجميع أجزاء الأرض من جص ونورة وزرنيخ ونحوها. وإليه ذهب أهل العراق. وقال الشافعي لا يجوز التيمم إلاّ بالتراب. قال والمفسر من الحديث يقضي على المجمل. وإنما جاء قوله جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا على مذهب الامتنان على هذه الأمة بأن رخص لها في الطهور بالأرض والصلاة عليها في بقاعها. وكانت الأمم المتقدمة لا يصلون الا في كنائسهم وبيعهم وإنما سيق هذا الحديث لهذا المعنى. وبيان ما يجوز أن يتطهر به منها مما لا يجوز إنما هو في حديث حذيفة الذي ذكرناه. قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد. قال ونا مسدد

حدثنا عبد الواحد عن عمرو بن يحيى عن أبيه، عَن أبي سعيد قال. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال موسى في حديثه فيما يحسب عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الأرض كلها مسجد إلاّ الحمام والمقبرة. قلت في هذا الحديث أيضاً اختصار وتفسيره في حديث أنس وجعلت لي كل أرض طيبة مسجدا وطهورا يريد بالطيبة الطاهرة. رواه حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس ولم يذكره أيضاً أبو داود حدثونا به عن علي بن عبد العزيز عن حجاج بن منهال عن حماد. واختلف العلماء في تأويل هذا الحديث فكان الشافعي يقول إذا كانت المقبرة مختلطة التراب بلحوم الموتى وصديدها وما يخرج منهم لم تجز الصلاة فيها للنجلسة فإن صلى رجل في مكان طاهر منها أجزأته صلاته. قال وكذلك الحمام إذا صلى في موضع نظيف منه فلا إعادة عليه. وحكي عن الحسن البصري أنه صلى في المقابر، وعن مالك بن أنس لا بأس بالصلاة في المقابر. وقال أبو ثور لا يصلي في حمام ولا مقبرة تعلقا بظاهره وكان أحمد وإسحاق يكرهان ذلك ورويت الكراهية فيه عن جماعة من السلف. واحتج بعض من لم يجز الصلاة في المقبرة وإن كانت طاهرة التربة بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: صلوا في بيوتكم ولا تتخذوها مقابر. قال فدل ذلك على أن المقبرة ليست بمحل الصلاة. قال أبو داود: حدثنا سليمان بن داود حدثنا ابن وهب حدثني ابن لَهِيعة ويحيى بن زاهر عن عمار بن سعد المرادي، عَن أبي صالح الغفاري عن علي

ومن باب الصلاة في مبارك الإبل

رضي الله عنه قال نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أصلي في المقبرة ونهاني أن أصلي في أرض بابل فإنها ملعونة. قلت في إسناد هذا الحديث مقال ولا أعلم أحدا من العلماء حرم الصلاة في أرض بابل، وقد عارضه ما هو أصح منه وهو قوله صلى الله عليه وسلم جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ويشبه أن يكون معناه لو ثبت أنه نهاه أن يتخذ أرض بابل وطنا ودارا للإقامة فتكون صلاته فيها إذا كانت إقامته بها ومخرج النهي فيه على الخصوص ألا تراه يقول نهاني ولعل ذلك منه إنذار منه له بما أصابه من المحنة بالكوفة وهي أرض بابل ولم ينتقل أحد من الخلفاء الراشدين قبله من المدينة. ومن باب الصلاة في مبارك الإبل قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن عبد الله بن عبد الله الرازي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن البراء بن عازب قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في مبارل الإبل، فقال: لا تصلوا في مبارك الإبل فانها من الشياطين وسئل عن الصلاة في مرابض الغنم فقال صلوا فيها فإنها بركة. اختلف الناس في هذا فذهب إلى إباحة الصلاة في مرابض الغنم ومنعها في مبارك الإبل وأعطانها جماعة منهم مالك بن أنس وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو ثور وغيرهم. وكان أحمد يقول لا بأس بالصلاة في موضع فيه أبوال الإبل ما لم يكن معاطن لأن النهي إنما جاء في المعاطن ولم ير هؤلاء بالصلاة في مراح البقر بأسا وكان الشافعي يقول إذا صلى الرجل في أعطان الإبل في ناحية منها ليس فيها شيء من أبوالها وأبعارها أجزأه وإن كنت أكره الصلاة في شيء منها اختيارا. وكذلك حكم مرابض الغنم عنده لأنه لا فرق في مذهبه بين

ومن باب متى يؤمر الغلام بالصلاة

شيء من الأبوال والأبعار والأرواث في أنها كلها نجسة، واستشهد لما تأول من ذلك بقوله فإنها من الشياطين يريد أنها لما فيها من النفور والشرود ربما أفسدت على المصلي صلاته والعرب تسمي كل مارد شيطانا كأنه يقول إن المصلي إذا صلى بحضرتها كان مغررا بصلاته لما لا يومن من نفارها وخبطها المصلي. وهذا المعنى مأمون في الغنم لسكونها وضعف الحركة إذا هيجت. وقال بعضهم معنى الحديث أنه كره الصلاة في السهول من الأرض لأن الإبل إنما تأوي إليها وتعطن إليها، والغنم إنما تبوأُ وتراح إلى الأرض الصلبة قال والمعنى في ذلك أن الأرض الخوارة التي يكثر ترابها ربما كانت فيها النجاسة فلا يبين موضعها فلا يأمن المصلي أن تكون صلاته فيها على نجاسة فأما العزاز الصلب من الأرض فإنه ضاح بارز لا يخفي موضع النجاسة إذا كانت فيه. وزعم بعضهم أنه إنما أراد به المواضع التي يحط الناس رحالهم فيها إذا نزلوا المنازل في الأسفار، قال ومن عادة المسافرين أن يكون برازهم بالقرب من رحالهم فتوجد هذه الأماكن في الأغلب نجسة فقيل لهم لا تصلوا فيها وتباعدوا عنها. ومن باب متى يؤمر الغلام بالصلاة قال أبو داود: حدثنا محمد بن عيسى حدثنا إبراهيم بن سعد عن عبد الملك بن الربيع بن سبرة عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مروا الصبي بالصلاة إذا بلغ سبع سنين وإذا بلغ عشر سنين فاضربوه عليها. قلت قوله صلى الله عليه وسلم إذا بلغ عشر سنين فاضربوه عليها يدل على إغلاظ العقوبة له إذا تركها متعمدا بعد البلوغ ونقول إذا استحق الصبي الضرب وهو غير بالغ فقد عقل أنه بعد البلوغ يستحق من العقوبة ما هو أشد من الضرب وليس

ومن باب بدء الأذان

بعد الضرب شيء مما قاله العلماء أشد من القتل. وقد اختلف الناس في حكم تارك الصلاة فقال مالك والشافعي يقتل تارك الصلاة، وقال مكحول يستتاب فإن تاب وإلا قتل. وإليه ذهب حماد بن زيد ووكيع بن الجراح. وقال أبو حنيفة لا يقتل ولكن يضرب ويحبس. وعن الزهري أنه قال إنما هو فاسق يضرب ضربا مبرحا ويسجن. وقال جماعة من العلماء تارك الصلاة حتى يخرج وقتها لغير عذر كافر، هذا قول إبراهيم النخعي وأيوب وعبد الله بن المبارك وأحمد وإسحاق. وقال أحمد لا يكفر أحد بذنب إلاّ تارك الصلاة عمدا واحتجوا بخبر جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بين العبد والكفر إلاّ ترك الصلاة. وقال بعض من احتج لهذه الطائفة أن الصلاة لا تشبه سائر العبادات ولا يقاس إليها لأنها لم تزل مفتاح شرائع الأديان وهي دين الملائكة والخلق أجمعين. ولم يكن لله تعالى دين قط بغير صلاة، وليس كذلك الزكاة والصيام والحج فليس على الملائكة منها شيء والصلاة تلزمهم كما يلزمهم التوحيد وهي علم الإسلام الفاصل بين المسلم والكافر في كلام أكثر من هذا قد ذكره. ومن باب بدء الأذان قال أبو داود: حدثنا عباد بن موسى الختلي وزياد بن أيوب وحديث عباد أتم قالا: حَدَّثنا هشيم، عَن أبي بشر، عَن أبي عميربن أنس عن عمومة له من الأنصار قال اهتم النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة كيف يجمع الناس لها فقيل له انصب رايه عند حضور الصلاة فإذا رأوها اذن بعضهم بعضا فلم يعجبه ذلك. قال فذكر له القُنُع،

ومن باب كيف الأذان

يَعني الشبُّور فلم يعجبه ذلك، وقال هو من أمراليهود قال فذكر له الناقوس قال هو من أمرالنصارى فانصرف عبد الله بن زيد بن عبد ربه وهو مهتم لهم النبي صلى الله عليه وسلم فأري الأذان في منامه قال فغدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال يا رسول الله إني لبين نائم ويقظان إذ أتاني آت فأراني الأذان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا بلال قم فانظر ما أمرك به عبد الله بن زيد فافعله فأذن بلال. قال الشيخ: القنع هكذا قاله ابن داسة وحدثناه ابن الأعرابي، عَن أبي داود مرتين فقال مرة القنع بالنون ومرة القبع مفتوحة بالباء وجاء تفسيره بالحديث أنه الشبور وهو البوق وسألت عنه غير واحد من أهل اللغة فلم يثبتوه لي على واحد من الوجهين فإن كانت الرواية في الفتح صحيحة فلا أراه سمي الا لإقناع الصوت وهو رفعه، يقال أقنع الرجل صوته وأقنع رأسه إذا رفعه. وأما القبع بالباء فلا أحسبه سمي قبعا إلاّ لأنه يقبع صاحبه أي يستره، ويقال قبع الرجل رأسه في جيبه إذا أدخله فيه. وسمعت أبا عمر يقول هو القثع بالثاء المثلثة، يَعني البوق ولم أسمع هذا الحرف من غيره. وفي قوله يا بلال قم فانظر ما يأمرك به عبد الله فافعله دليل على أن الواجب أن يكون الأذان قائماً. ومن باب كيف الأذان قال أبو داود: حدثنا محمد بن منصور الطوسي حدثنا يعقوب حدثنا أبي عن محمد بن إسحاق حدثنا محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي عن محمد بن عبد الله بن زيد بن عبد ربه حدثنى أبي عبد الله بن زيد قال لما أمر رسول الله ص بالناقوس يعمل ليضرب به الناس لجمع الصلاة طاف بي وأنا نائم رجل يحمل ناقوسا في يده فقلت يا عبد الله اتبيع الناقوس فقال وما تصنع به فقلت ندعو به إلى الصلاة

قال أفلا أدلك على ما هو خير من ذلك فقلت بلى فقال تقول: الله أكبر. الله أكبر. الله أكبر. الله أكبر، أشهد أن لا إله إلاّ الله، أشهد أن لا إله إلاّ الله أشهد أن محمداً رسول الله أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة حي على الصلاة حي على الفلاح. حي على الفلاح، الله أكبر. الله أكبر. لا إله إلاّ الله. قال ثم استأخر عني غير بعيد، ثم قال تقول إذا أقمت الصلاة الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلاّ الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلاّ الله. فلما أصبحت أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بما رأيت فقال: إنها لرؤيا حق إن شاء الله تعالى فقم مع بلال فألق عليه ما رأيت فليؤذن به فإنه أندى صوتا منك فقمت مع بلال فجعلت ألقيه عليه ويؤذن به قال فسمع بذلك عمر بن الخطاب وهو في بيته فخرج يجر رداءه فقال يا رسول الله والذي بعثك بالحق لقد رأيت مثل ما أري فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فلله الحمد. قلت روي هذا الحديث والقصة بأسانيد مختلفة وهذا الإسناد أصحها. وفيه أنه ثنى الأذان وأفرد الإقامة وهو مذهب أكثر علماء الأمصار وجرى به العمل في الحرمين والحجاز وبلاد الشام واليمن وديار مصر ونواحي المغرب إلى أقصى حجر من بلاد الإسلام. وهو قول الحسن البصري ومكحول والزهري ومالك والأوزاعي والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وغيرهم. وكذلك حكاه سعد القَرَظ وقد كان أذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته بقبا، ثم استخلفه بلال زمان عمر رضي الله عنه، فكان يفرد الإقامة ولم يزل ولد أبي محذورة وهم الذين يلون الأذان بمكة يفردون الإقامة ويحكونه عن جدهم إلاّ أنه قد روي

في قصة أذان أبي محذورة الذي علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم منصرفه من حنين ان الأذان تسع عشرة كلمة والإقامة سبع عشرة كلمة، وقد رواه أبو داود في هذا الباب، إلاّ أنه قد روي من غير هذا الطريق أنه أفرد الإقامة غير أن التثنية عنه أشهر إلاّ أن فيه إثبات الترجيع فيشبه أن يكون العمل من أبي محذورة ومن ولده بعده إنما استمر على افراد الإقامة إمّا لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره بذلك بعد الأمرالأول بالتثنية، وإما لأنه قد بلغه أنه أمر بلالا بإفراد الإقامة فاتبعه وكان أمرالأذان ينقل من حال إلى حال ويدخله الزيادة والنقصان، وليس كل أمور الشرع ينقلها رجل واحد ولا كان وقع بيانها كلها ضربة واحدة وقيل لأحمد وكان يأخذ في هذا بأذان بلال أليس أذان أبي محذورة بعد أذان بلال فإنما يؤخذ بالأحدث فالأحدث من أمررسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أليس لما عاد إلى المدينة أقر بلالا على أذانه. وكان سفيان الثوري وأصحاب الرأي يرون الأذان والإقامة مثنى مثنى على حديث عبد الله بن زيد من الوجه الذي روى فيه تثنية الإقامة. وقوله طاف بي رجل يريد الطيف وهو الخيال الذي يلم بالنائم يقال منه طاف يطيف ومن الطواف يطوف ومن الإحاطة بالشيء أطاف يطيف. وفي قوله ألقها على بلال فإنه أندى صوتا منك دليل على أن من كان أرفع صوتا كان أولى بالأذان لأن الأذان إعلام فكل من كان الإعلام بصوته أوقع كان به أحق وأجدر. وقوله وثم استأخر غير بعيد يدل على أن المستحب أن تكون الإقامة في غير موقف الأذان.

ومن باب في الإقامة

ومن باب في الإقامة قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا وهيب عن أيوب، عَن أبي قلابة عن أنس قال أُمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة وحدثنا حميد بن مسعدة حدثنا إسماعيل عن خالد الحذاء، عَن أبي قلابة عن أنس مثل حديث وهيب قال إسماعيل فحدثت به أيوب فقال إلا الإقامة. قلت قوله (أمر بلال أن يوتر الإقامة) يريد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو البذي أمره بذلك والأمر مضاف إليه دون غيره لأن الأمرالمطق في الشريعة لا يضاف إلاّ إليه. وقد زعم بعض أهل العلم أن الآمر له بذلك أبو بكر أو عمر رضي الله عنهما وهذا تأويل فاسد لأن بلالا لحق بالشام بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلف سعد القَرظ على الأذان في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله في رواية إسماعيل عن أيوب إلاّ الإقامة، يريد أنه كان يفرد ألفاظ الإقامة كلها إلاّ قوله قد قامت الصلاة فإنه كان يكرر مرتين وعلى هذا مذهب عامة الناس في عامة البلدان إلاّ في قول مالك فإنه كان يرى أن لا يقال ذلك إلاّ مرة واحدة، وهكذا يروى في أذان سعد القرظ. وقد اختلفت الروايات عنه في ذلك أيضاً، وفي هذ الباب سنة أخرى وهي أن المؤذن يقعد قعدة بين الأذان والإقامة. وقد ذكره أبو داود في حديث ابن أبي ليلى في قصة الصلاة وأنها أحيلت ثلاثة أحوال، قال وحدثنا أصحابنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لقد هممت أن آمر رجالا يقومون على الآطام ينادون الناس بحين الصلاة وذكر قصة رؤيا عبد الله بن زيد إلى أن قال رأيت رجلا عليه ثوبان أخضران فقام فأذن ثم قعد قعدة ثم قام الحديث. الآطام جمع الأطم وهي كالحصن المبني بالحجارة.

ومن باب رفع الصوت

ومن باب رفع الصوت قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر النمَري حدثنا شعبة عن موسى بن أبي عثمان، عَن أبي يحيى، عَن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال المؤذن يغفر له مدى صوته ويشهد له كل رطب ويابس. قلت مدى الشيء غايته والمعنى أنه يستكمل مغفرة الله إذا استوفى وسعه في رفع الصوت فيبلغ الغاية من المغفرة إذا بلغ الغاية من الصوت. وقيل فيه وجه آخر وهو أنه كلام تمثيل وتشبيه يريد أن المكان الذي ينتهي إليه الصوت لو تقدر أن يكون ما بين أقصاه وبين مقامه الذي هو فيه ذنوب تملأ تلك المسافة لغفرها الله له. قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك، عَن أبي الزناد عن الأعرج، عَن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا نودي بالصلاة أدبر الشيطان له ضراط حتى لا يسمع التأذين فإذا قضي النداء أقبل حتى إذا ثوب بالصلاة أدبر حتى إذا قضي التثويب أقبل حتى يخطر بين المرء ونفسه. التثويب هنا الإقامة والعامة لا تعرف التثويب إلاّ قول المؤذن في صلاة الفجر الصلاة خير من النوم. ومعنى التثويب الإعلام بالشيء والإنذار بوقوعه. وأصله أن يلوح الرجل لصاحبه بثوبه فيديره عند الأمريرهقه من خوف أو عدو، ثم كثر استعماله في كل اعلام يجهر به صوت، وإنما سميت الإقامة تثويبا لأنها إعلام بإقامة الصلاة والأذان إعلام بوقت الصلاة. ومن باب ما يجب على المؤذن من تعهد الوقت قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا محمد بن فُضيل حدثنا الأعمش

ومن باب أخذ الأجر على الأذان

عن رجل، عَن أبي صالح، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن اللهم ارشد الأئمة واغفر للمؤذنين. قوله الإمام ضامن قال أهل اللغة الضامن في كلام العرب معناه الراعي والضمان معناه الرعاية قال الشاعر: رعاكِ ضمان الله يا أم مالك ... ولله أن يشقيك أغنى وأوسع والإمام ضامن بمعنى أنه يحفظ الصلاة وعدد الركعات على القوم، وقيل معناه ضامن الدعاء يعمهم به ولا يختص بذلك دونهم، وليس الضمان الذي يوجب الغرامة من هذا في شيء، وقد تأوله قوم على معنى أنه يتحمل القراءة عنهم في بعض الأحوال وكذلك يتحمل القيام أيضاً إذا أدركه راكعا. ومن باب أخذ الأجر على الأذان قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد أخبرنا سعيد الجريري، عَن أبي العلى عن مطرف عن عبد الله عن عثمان بن أبي العاص أنه قال يا رسول الله اجعلني إمام قومي، قال: أنت إمامهم واقتدِ بأضعفهم واتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً. قلت أخذ المؤذن الأجر على أذانه مكروه في مذاهب أكثر العلماء وكان مالك بن أنس يقول لا بأس به ويرخص فيه وقال الأوزاعي الإجارة مكروهة ولا بأس بالجعل وكره ذلك أصحاب الرأي ومنع منه إسحاق بن راهويه. وقال الحسن أخشى أن لا تكون صلاته خالصة لله وكرهه الشافعي وقال لا يرزق الإمام المؤذن إلاّ من خمس الخمس سهم النبي صلى الله عليه وسلم فإنه مرصد لمصالح الدين ولا يرزقه من غيره.

ومن باب الأذان قبل دخول الوقت

ومن باب الأذان قبل دخول الوقت قال أبو داود: نا موسى بن إسماعيل وداود بن شبيب المعنى قالا: حَدَّثنا حماد عن أيوب عن نافع عن ابن عمر أن بلالا أذن قبل طلوع الفجر فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرجع فينادي الا ان العبد قد نام قال أبو داود لم يرو هذا الحديث عن أيوب إلاّ حماد بن سلمة. قوله الا ان العبد نام يتأول على وجهين أحدهما أن يكون أراد به أنه غفل عن الوقت كما يقال نام فلان عن حاجتي إذا غفل عنها ولم يقم بها. الوجه الآخر أن يكون معناه أنه قد عاد لنومه إذا كان عليه بقية من الليل يعلم الناس ذلك لئلا ينزعجوا عن نومهم وسكونهم، ويشبه أن يكون هذا فيما تقدم من أول زمان الهجرة فإن الثابت عن بلال أنه كان في آخر أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤذن بليل ثم يؤذن بعده ابن أم مكتوم مع الفجر. وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم. وممن ذهب إلى تقديم أذان الفجر قبل دخول وقته مالك والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق. وكان أبو يوسف يقول: بقول أبي حنيفة في أن ذلك لا يجوز ثم رجع فقال لا بأس أن يؤذن للفجر خاصة قبل طلوع الفجر اتباعا للأثر. وكان أبو حنيفة ومحمد لا يجيزان ذاك قياسا على سائر الصلوات وإليه ذهب سفيان الثوري. وذهب بعض أصحاب الحديث إلى أن ذلك جائز إذا كان للمسجد مؤذنان كما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأما إذا لم يؤذن فيه إلاّ واحد فإنه لا يجوز أن يفعله إلاّ بعد دخول الوقت، فيحتمل على هذا أنه لم يكن لمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم

ومن باب تقام الصلاة ولم يأت الإمام

في الوقت الذي نهى فيه بلالا إلاّ مؤذن واحد وهو بلال ثم أجازه حين أقام ابن أم مكتوم مؤذنا لأن الحديث في تأذين بلال قبل الفجر ثابت من رواية ابن عمر. ومن باب تقام الصلاة ولم يأت الإمام قال أبو داود: حدثنا أحمد بن علي السدوسي حدثنا عون بن كهمس عن أبيه كهمس قال قمنا بمنى إلى الصلاة والإمام لم يخرج فقعد بعضنا فقال لي شيخ من أهل الكوفة ما يقعدك قلت ابن بريدة قال هذا السَمودُ فقال الشيخ حدثنا عبد الرحمن بن عَوسجة عن البراء بن عازب قال كنا نقوم في الصفوف عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم طويلا قبل أن يكبر وذكر الحديث. قلت: السمود يفسَّر على وجهين أحدهما أن يكون بمعنى الغفلة والذهاب عن الشيء يقال رجل سامد هامد أي لاه غافل. ومن هذا قول الله تعالى {وأنتم سامدون} [النجم: 61] أي لاهون ساهون، وقد يكون السامد أيضاً الرافع رأسه. قال أبوعبيد ويقال منه سَمَدَ يَسمِدُ ويسمد سمودا وروي عن علي أنه خرج والناس ينتظرونه قياما للصلاة فقال ما لي أراكم سامدين. وحكي عن إبراهيم النخعي أنه قال كانوا يكرهون أن ينتظروا الإمام قياما ولكن قعوداً ويقولون: ذلك السَّمود. قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا عبد الوارث عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس قال أقيمت الصلاة ورسول الله صلى الله عليه وسلم نجيّ في جانب المسجد فما قام إلى الصلاة حتى نام القوم. قوله نجي أى مناج رجلا كما قالوا نديم بمعنى منادم ووزير بمعنى موازر، وتناجى القوم إذا دخلوا قى حديث سر وهم نجوى أى متناجون.

ومن باب التشديد في ترك الجماعة

وفيه من الفقه أنه قد يجوز له تأخير الصلاة عن أول وقتها لأمر يحزبه. ويشبه أن يكون نجواه في مهم من أمرالدين لا يجوز تأخيره وإلا لم يكن ليؤخر الصلاة حتى ينام القوم لطول الانتظار له والله أعلم. ومن باب التشديد في ترك الجماعة قال أبو داود: حدثنا هارون بن عباد حدثنا وكيع عن المسعودي عن علي بن الأقمر، عَن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود قال حافظوا على هؤلاء الصلوات الخمس حيث ينادى بهن فإنهن من سنن الهدى وإن الله تعالى شرع لنبيه صلى الله عليه وسلم سنن الهدى ولقد رأيتنا وإن الرجل ليهادى بين رجلين حتى يقام في الصف وما منكم من أحد إلاّ وله مسجد في بيته ولوصليتم في بيوتكم وتركتم مساجدكم تركتم سنة نبيكم ولو تركتم سنة نبيكم لكفرتم. قوله ليهادى بين رجلين أي يرفد من جانبيه ويؤخذ بعضديه يتمشى به إلى المسجد. وقوله لكفرتم أي يؤديكم إلى الكفر بأن تتركوا شيئا منها حتى تخرجوا من الملة. قال أبو داود: حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد عن عاصم بن بهدلة، عَن أبي رزين عن ابن أم مكتوم أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني رجل ضرير البصر شاسع الدار ولي قائد لا يلاومني فهل من رخصة أن أصلي في بيتي قال فهل تسمع النداء؟ قال نعم. قال: لا أجد لك رخصة. قوله لا يلاومني هكذا يروى في الحديث والصواب لا يلايمني أي لا يوافقني ولا يساعدني، فأما الملاومة فإنها مفاعلة من اللوم وليس هذا موضعه.

ومن باب المشي إلى الصلاة

وفي هذا دليل على أن حضور الجماعة واجب ولو كان ذلك ندبا لكان أولى من يسعه التخلف عنها أهل الضرر والضعف ومن كان في مثل حال ابن أم مكتوم. وكان عطاء بن أبي رباح يقول ليس لأحد من خلق الله في الحضر والقرية رخصة إذا سمع النداء في أن يدع الصلاة. وقال الأوزاعي لا طاعة للوالدين في ترك الجمعة والجماعات سمع للنداء أو لم يسمع. وكان أبو ثور يوجب حضور الجماعة، واحتج هو أو غيره ممن أوجبه بأن الله سبحانه أمرأن يصلى جماعة في حال الخوف ولم يعذر في تركها فعقل أنها في حال المن أوجب. وأكثر أصحاب الشافعي على أن الجماعة فرض على الكفاية لا على الأعيان وتأولوا حديث ابن أم مكتوم على أنه لا رخصة لك إن طلبت فضيلة الجماعة وأنك لا تحرز أجرها مع التخلف عنها بحال. واحتجنوا بقوله صلى الله عليه وسلم صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعنشرين درجة. قال أبو داود: حدثنا هارون بن زيد، عَن أبي الزرقاء حدثنا أبي حدثنا سفيان عن عبد الرحمن بن عابس عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن ابن أم مكتوم. قال يا رسول الله إن المدينة كثيرة الهوام والسباع فقال النبي صلى الله عليه وسلم: تسمع حي على الصلاة حي على الفلاح فحي هلا. قوله حي هلا كلمة حث واستعجال قال لبيد (ولقد تسمع صوتي حيّ هل) . ومن باب المشي إلى الصلاة قال أبو داود: حدثنا أبو توبة حدثنا الهيثم بن حميد عن يحيى عن الحارث عن القاسم أبي عبد الرحمن، عَن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من خرج من بيته متطهرا إلى صلاة مكتوبة فأجره كأجر الحاج المحرم ومن خرج

ومن باب الهدي في المشي إلى المساجد

إلى تسبيح الضحى لا ينصبه إلاّ إياه فأجره كأجر المعتمر وصلاة على أثر صلاة لا لغو بينهما كتاب في عليين. تسبيح الضحى يريد به صلاة الضحى وكل صلاة يتطوع بها فهي تسبيح وسبحة. وقوله لا ينصبه معناه لا يتعبه ولا يزعجه إلاّ ذلك وأصله من النصب وهو معاناة المشقة يقال أنصبني هذا الأمر وهو أمر منصب ويقال أمر ناصب أي ذو نصب كقول النابغة: (كليني لِهَمًّ ما أميمة ناصبِ) . قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا أبو معاوية عن الأعمش، عَن أبي صالح، عَن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا توضأ أحدكم فأحسن الوضوء وأتى المسجد لا يريد إلاّ الصلاة لا ينهزه إلاّ الصلاة لم يخط خطوة إلاّ رفع له بها درجة وحط عنه بها خطيئة حتى يدخل المسجد. قوله لا ينهزه أي لا يبعثه ولا يشخصه إلاّ ذلك، ومن هذا انتهاز الفرصة وهو الانبعاث لها والمبادرة إليها. ومن باب الهدي في المشي إلى المساجد قال أبو داود: حدثنا محمد بن سليمان الأنباري أن عبد الملك بن عمر حدثهم عن داود بن قيس حدثني سعد بن إسحاق حدثنا أبو ثمامة الخياط أن كعب بن عجرة أدركه وهو يريد المسجد أدرك أحدهما صاحبه قال فوجدني وأنا مشبك يدي فنهاني عن ذلك وقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا توضأ أحدكم فأحسن وضوءه ثم خرج عامدا إلى المسجد فلا يشبكن يده فإنه في صلاة.

ومن باب خروج النساء إلى المسجد

قلت تشبيك اليد هو إدخال الأصابع بعضها في بعض والاشتباك بها. وقد يفعله بعض الناس عبثا وبعضهم ليفرقع أصابعه عندما يجده من التمدد فيها، وربمل قعد الإنسان فشبك بين أصابعه واحتبى بيديه يريد به الاستراحة وربما استجلب به النوم فيكون ذلك سببا لانتقاض طهره فقيل لمن تطهر وخرج متوجها إلى الصلاة لا تبشك بين أصابعك لأن جميع ما ذكرناه من هذه الوجوه على اختلافها لا يلائم شيء منها الصلاة ولا يشاكل حال المصلي. ومن باب خروج النساء إلى المسجد قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن محمد بن عمرو، عَن أبي سلمة، عَن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تمنعوا إماء الله مساجد الله وليخرجن وهن تفلات. التفل سوء الرائحة يقال امرأة تفلة إذا لم تطيب ونساء تفلات، وقد استدل بعض أهل العلم بعموم قوله لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، على أنه ليس للزوج منع زوجته من الحج لأن المسجد الحرام الذي يخرج إليه الناس للحج والطواف أشهر المساجد وأعظمها حرمة فلا يجوز للزوج أن يمنعها من الخروج إليه. ومن باب السعي إلى الصلاة قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عنبسة أخبرني يونس عن ابن شهاب حدثنا ابن المسيب وأبو سلمة بن عبد الرحمن أن أبا هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون وأتوها تمشون وعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا. قال أبو داود وكذا قال الزبيدي وابن أبي ذئب وإبراهيم بن سعد ومعمر وشعيب بن أبي حمزة

ومن باب يصلي معهم إذا كان في المسجد

عن الزهري وما فاتكم فأتموا وكذلك روى ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم وأبو قتادة وأنس كلهم قال فأتموا. قلت في قوله فأتموا دليل أن الذي أدركه المرء من صلاة إمامه هو أول صلاته لأن لفظ الاتمام واقع على باق من شيء قد تقدم سائره. وإلى هذا ذهب الشافعي في أن ما أدركه المسبوق من صلاة إمامة هو أول صلاته. وقد روي ذلك عن علي بن أبي طالب، وبه قال سعيد بن المسيب والحسن البصري ومكحول وعطاء والزهري والأوزاعي وإسحاق بن راهويه وقال سفيان الثوري وأصحاب الرأي وأحمد بن حنبل هو آخر صلاته وإليه ذهب أحمد بن حنبل. وقد روي ذلك عن مجاهد وابن سيرين واحتجوا بما روي في هذا الحديث من قوله وما فاتكم فاقضوا قالوا والقضاء لا يكون إلاّ للفائت. قلت قد ذكر أبو داود في هذا الباب أن أكثر الرواة اجتمعوا على قوله وما فاتكم فأتموا، وإنما ذكر عن شعبة عن سعد بن إبراهيم، عَن أبي سلمة، عَن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال صلوا ما أدركتم واقضوا ما سبقكم. قال وكذا قال ابن سيرين، عَن أبي هريرة وكذا قال أبو رافع عن أبى هريرة. قلت وقد يكون القضاء بمعنى الاداء للأصل كقوله تعالى {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض} [الجمعة: 10] وكقوله {فإذا قضيتم مناسككم} [البقرة: 200] وليس شيء من هذا قضاء لفائت فيحتمل أن يكون قوله وما فاتكم فاقضوا أي أدوه في تمام جمعا بين قوله فأتموا وبين قوله فاقضوا ونفيا للاختلاف بينهما. ومن باب يصلي معهم إذا كان في المسجد قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة أخبرني يعلى عن عطاء

عن جابر بن يزيد بن الأسود عن أبيه أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو غلام شاب فلما أن صلى إذا رجلان لم يصليا في ناحية المسجد فدعا بهما فجيء بهما ترعد فرائصهما فقال ما منعكما أن تصليا معنا قالا قد صلينا في رحالنا قال فلا تفعلوا إذا صلى أحدكم في رحله ثم أدرك الإمام. لم يصل فليصل معه فإنها نافلة. قوله ترعد فرائصهما هي جمع الفريصة وهي لحمة وسط الجنب عند منبض القلب تفترص عند الفزع أي ترتعد. وفى الحديث من الفقه أن من صلى في رحله ثم صادف جماعة يصلون كان عليه أن يصلي معهم أي صلاة كانت من الصلوات الخمس، وهو مذهب الشافعي وأحمد وإسحاق وبه قال الحسن والزهرى. وقال قوم يعيد إلاّ المغرب والصبح، كذلك قال النخعي وحكي ذلك عن الأوزاعي. وكان مالك والثوري يكرهان أن يعيد صلاة المغرب وكان أبو حنيفة لا يرى أن يعيد صلاة العصر والمغرب والفجر إذا كان قد صلاهن. قلت وظاهر الحديث حجة على جماعة من منع عن شيء من الصلوات كلها ألا تراه يقول إذا صلى أحدكم في رحله ثم أدرك الإمام ولم يصل فليصل معه ولم يستثن صلاة دون صلاة. وقال أبو ثور لا يعاد الفجر والعصر إلاّ أن يكون في المسجد وتقام الصلاة فلا يخرج حتى يصليها. وقوله فإنها نافلة يريد الصلاة الآخرة منهما والأولى فرضه. فأما نهيه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس وبعد العصرحتى تغرب فقد تأولوه على وجهين أحدهما أن ذلك على معنى إنشاء الصلاة ابتداء من غير سبب.

ومن باب إذا صلى ثم أدرك

فأما إذا كان لها سبب مثل أن يصادف قوما يصلون جماعة فإنه يعيدها معهم ليحرز الفضيلة. والوجه الآخر أنه منسوخ وذلك أن حديث يزيد بن جابر متأخر لأن في قصته أنه شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، ثم ذكر الحديث. وفي قوله فإنها نافلة دليل على أن صلاة التطوع جائزة بعد الفجر قبل طلوع الشمس إذا كان لها سبب. وفيه دليل على أن صلاته منفردا مجزية مع القدرة على صلاة الجماعة وإن كان ترك الجماعة مكروها. قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح قال قرأت على ابن وهب أخبرني عمروعن بكير أنه سمع عفيف بن عمرو بن المسيب يقول حدثني رجل من أسد بن خزيمة أنه سأل أبا أيوب الأنصاري. قال يصلي أحدنا في منزله الصلاة ثم يأتي المسجد وتقام الصلاة فأصلي معهم فقال أبو أيوب سألنا عن ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال ذلك له سهم جمع. قوله سهم جمع يريد أنه سهم من الخير جمع له فيه حظان. وفيه وجه آخر قال الأخفش سهم جمع يريد سهم الجيش وسهم الجيش هوالسهم من الغنيمة قال والجمع ههنا الجيش واستدل بقوله تعالى {يوم التقى الجمعان} [آل عمران: 166] وبقوله {سيهزم الجمع} [القمر: 45] وبقوله {فلما تراءى الجمعان} [الشعراء: 61] . ومن باب إذا صلى ثم أدرك جماعة هل يعيد الصلاة قال أبو داود: حدثنا أبو كامل حدثنا يزيد بن زُريع حدثنا حسين عن عمرو بن شعيب عن سليمان بن يسار عن ابن عمر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

ومن باب من أحق بالإمامة

لا تصلوا صلاة في يوم مرتين. قلت هذه صلاة الإيثار والاختيار دون ما كان لها سبب كالرجل يدرك الجماعة وهم يصلون فيصلي معهم ليدرك فضيلة الجماعة توفيقا بين الاخبار ورفعا للاختلاف بينهما. ومن باب من أحق بالإمامة قال أبو داود: حدثنا أبو الوليد حدثنا شعبة أخبرني إسماعيل بن رجاء سمعت أوس بن ضَمْعج يحدث، عَن أبي مسعود البدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يؤم القومَ اقرؤهم لكتاب الله وأقدمهم قراءة فإن كانوا في القراءة سواء فليؤمهم أقدمهم هجرة فإن كانوا في الهجرة سواء فليؤمهم أكبرهم سناً ولا يؤم الرجل في بيته ولا في سلطانه ولا يجلس على تكرمته إلاّ بإذنة. قال شعبة فقلت لإسماعيل ما تكرمته فقال فراشه. قال أبو داود وكذلك قال يحيى القطان عن شعبة وأقدمهم قراءة. قلت هذه الرواية مخرجة من طريق شعبة على ما ذكره أبو داود. والصحيح من هذا رواية سفيان عن إسماعيل بن رجاء حدثناه أحمد بن إبراهيم بن مالك حدثنا بشر بن موسى حدثنا الحميدي حدثنا سفيان عن إسماعيل بن رجاء عن أوس بن ضمعج عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة. فإن كانوا سواء فأقدمهم هجرة. وإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سنا. قلت وهذا هو الصحيح المستقيم في الترتيب وذلك أنه جعل صلى الله عليه وسلم ملاك أمرالإمامة القراءة وجعلها مقدمة على سائر الخِصال المذكورة معها. والمعنى في ذلك أنهم

كانوا قوما أُميين لا يقرؤون فمن يعلم منهم شيئا من القرآن كان أحق بالإمامة ممن لم يتعلم لأنه لا صلاة إلاّ بقراءة وإذا كانت القراءة من ضرورة الصلاة وكانت ركناً من أركانها صارت مقدمة في الترتيب على الأشياء الخارجة عنها. ثم تلا القراءة بالسنة وهي الفقه ومعرفة أحكام الصلاة وما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها وبينه من أمرها فإن الإمام إذا كان جاهلا بأحكام الصلاة وبما يعرض فيها من سهو ويقع من زيادة ونقصان أفسدها أو أخرجها فكان العالم بها والفقيه فيها مقدَّما على من لم يجمع علمها ولم يعرف أحكامها. ومعرفة السنة وإن كانت مؤخرة في الذكر وكانت القراءة مبدوءاً بذكرها فإن الفقيه العالم بالسنة إذا كان يقرأ من القرآن ما يجوز به الصلاة أحق بالإمامة من الماهر بالقراءة إذا كان متخلفاً عن درجته في علم الفقه ومعرفة السنة. وإنما قدم القارىء في الذكر لأن عامة الصحابة إذا اعتبرت أحوالهم وجدت أقرأهم أفقههم. وقال أبو مسعود كان أحدنا إذا حفظ سورة من القرآن لم يخرج عنها إلى غيرها حتى يحكم علمها أو يعرف حلالها وحرامها أو كما قال. فأما غيرهم ممن تأخر بهم الزمان فإن أكثرهم يقرأون القرآن ولا يفقهون فقراؤهم كثير والفقهاء منهم قليل. وأما قوله فإن استووا في السنة فأقدمهم هجرة فإن الهجرة قد انقطعت اليوم إلاّ أن فضيلتها موروثة فمن كان من أولاد المهاجرين أو كان في آبائه وأسلافه من له قدم أو سابقة في الإسلام أو كان آباؤه أقدم إسلاما فهو مقدم على من لا يعد لآبائه سابقة أو كانوا قريبي العهد بالإسلام فإذا كانوا متساوين في هذه الخلال الثلاث فأكبرهم سناً مقدم على من هو أصغر سنا منه لفضيلة السن.

ولأنه إذا تقدم أصحابه في السن فقد تقدمهم في الإسلام فصار بمنزلة من تقدمت هجرته، وعلى هذا الترتيب يوجد أقاويل أكثر العلماء في هذا الباب. قال عطاء بن أبي رباح يؤمهم أفقههم فإن كانوا في الفقه سواء فأقرأهم فإن كانوا في الفقه والقراءة سواء فأسنهم. وقال مالك يتقدم القوم أعلمهم فقيل له أقرأهم قال قد يقرأ من لا يرضى، وقال الأوزاعي يؤمهم أفقههم. وقال الشافعي إذا لم تجتمع القراءة والفقه والسن في واحد قدموا أفقههم إذا كان يقرأ من القرآن ما يكتفي به في الصلاة وإن قدموا أقرأهم إذا كان يعلم من الفقه ما يلزمه في الصلاة فحسن. وقال أبو ثور يؤمهم أفقههم إذا كان يقرأ القرآن وإن لم يقرأه كله. وكان سفيان وأحمد بن حنبل وإسحاق يقدمون القراء قولا بظاهر الحديث. وأما قوله ولا يؤم الرجل في بيته معناه أن صاحب المنزل أولى بالإمامة في بيته إذا كان من القراءة والعلم بمحل يمكنه أن يقيم الصلاة. وقد روى مالك بن الحويرث عن النبي صلى الله عليه وسلم من زار قوماً فلا يؤمهم وليؤمهم رجل منهم. وقوله ولا في سلطانه فهذا في الجمعات والأعياد لتعلق هذه الأمور بالسلاطين فأما في الصلوات المكتوبات فأعلمهم أولاهم بالإمامة فإن جمع السلطان هذه الفضائل كلها فهو أولاهم بالإمامة في كل صلاة. وكان أحمد بن حنبل يرى الصلاة خلف أئمة الجور ولا يراها خلف أهل البدع. وقد يتأول أيضاً قوله ولا في سلطانه على معنى ما يتسلط عليه الرجل من ملكه في بيته أو يكون إمام مسجده في قومه وقبيلته. وتكرمته فراشه وسريره وما يعد لإكرامه من وطاء ونحوه.

ومن باب الرجل يؤم القوم وهم له كارهون

قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد حدثنا أيوب عن عمرو بن سلمة قال كنا بحاضر يمر بنا الناس إذا أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فكانوا إذا رجعوا مروا بنا فأخبرونا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كذا وقال كذا وكنت غلاما حافظا فحفظت من ذلك قرآنا كثيرا فانطلق أبي وافدا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في نفر من قومه فعلمهم الصلاة وقال يؤمكم أقرؤكم. فكنت أؤمهم وأنا ابن سبع سنين أو ثمان سنين. قوله كنا بحاضر. الحاضر القوم النزول على ما يقيمون به ولا يرحلون عنه. ومعنى الحاضر المحضور فاعل بمعنى مفعول. وقد اختلف الناس في إمامة الصبي غير البالغ إذا عقل الصلاة. فممن أجاز ذلك الحسن وإسحاق بن راهويه. وقال الشافعي يؤم الصبي غير المحتلم إذا عقل الصلاة إلاّ في الجمعة. وكره الصلاة خلف الغلام قبل أن يحتلم عطاء والشعبي ومالك والثوري والأوزاعي. وإليه ذهب أصحاب الرأي. وكان أحمد بن حنبل يضعف أمرعمرو بن سلمة. وقال مرة دعه ليس بشيء بين. وقال الزهري إذا اضطروا إليه أمهم. قلت: وفي جواز صلاة عمرو بن سلمة لقومه دليل على جواز صلاة المفترض خلف المتنفل لأن صلاه الصبي نافلة. ومن باب الرجل يؤم القوم وهم له كارهون قال أبو داود: حدثنا القعنبي حدثنا عبد الله بن عمر بن غانم عن عبد الرحمن بن زياد عن عمران بن عبد المعافري عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم

ومن باب إمامة من صلى بقوم

كان يقول: ثلاثةٌ لا تقبل منهم صلاة من تقدم قوما وهم له كارهون. ورجلٌ أتى الصلاة دِبارا والدبار أن يأتيها بعد أن تفوته ورجل اعتبد محرره. قلت يشبه أن يكون هذا الوعيد في الرجل ليس من أهل الإمامة فيتقحم فيها ويتغلب عليها حتى يكره الناس إمامته. فأما إن كان مستحقا للإمامة فاللوم على من كرهه دونه. وشكي رجل إلى علي بن أبي طالب وكان يصلي بقوم وهم له كارهون فقال إنك لخروط يريد أنك متعسف في فعلك ولم يزده على ذلك. وقوله وأتى الصلاة دبارا فهو أن يكون قد اتخذه عادة حتى يكون حضوره الصلاة بعد فراغ الناس وانصرافهم عنها. واعتباد المحرر يكون من وجهين أحدهما أن يعتقه ثم يكتم عتقه أو ينكره وهو شر الأمرين. والوجه الآخر أن يستخدمه كرها بعد العتق. ومن باب إمامة من صلى بقوم وقد صلى تلك الصلاة قال أبو داود: حدثنا عبيد الله بن عمر بن ميسرة حدثنا يحيى بن سعيد عن محمد بن عجلان حدثنا عبيد الله بن مقسم عن جابر بن عبد الله أن معاذ بن جبل كان يصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء ثم يأتي قومه فيصلي بهم تلك الصلاة. قلت: فيه من الفقه جواز صلاة المفترض خلف المتنفل لأن صلاة معاذ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم هي الفريضة وإذا كان قد صلى فرضه كانت صلاته بقومه نافلة له. وفيه دليل على جواز إعادة صلاة في يوم مرتين إذا كان للإعادة سبب من الأسباب التي تعاد لها الصلوات. واختلف الناس في جواز صلاة المفترض خلف المتنفل. فقال مالك إذا اختلفت نية الإمام والمأموم في شيء من الصلاة لم يعتد المأموم بما صلى معه واستأنف

ومن باب الإمام يصلي من قعود

وكذلك قال الزهري وربيعة. وقال أصحاب الرأي إن كان الإمام متطوعا لم يجزىء من خلفه الفريضة. وإن كان الإمام مفترضا وكان من خلفه متطوعا كانت صلاتهم جائزة وجوزوا صلاة المقيم خلف المسافر. وفرض المسافر عندهم ركعتان. وقال الشافعي والأوزاعي وأحمد بن حنبل صلاة المفترض خلف المتنفل جائزة وهو قول عطاء وطاوس. وقد زعم بعض من لم ير ذلك جائزاً أن صلاة معاذ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نافلة وبقومه فريضة وهذا فاسد إذ لا يجوز على معاذ أن يدرك الفرض وهوأفضل العمل مع أفضل الخلق فيتركه ويضيع حظه منه ويقنع من ذلك بالنفل الذي لا طائل فيه. ويدل على فساد هذا التأويل قول الراوي كان يصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء والعشاء هي صلاة الفريضة وقد قال صلى الله عليه وسلم إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلاّ المكتوبة فلم يكن معاذ يترك المكتوبة بعد أن شهدها وقد أقيمت وقد أثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفقه فقال أفقهكم معاذ. ومن باب الإمام يصلي من قعود قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن ابن شهاب عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب فرسا فصرع عنه فجُحِش شقهُ الأيمن فصلى صلاة من الصلوات وهوقاعد وصلينا وراءه قعوداً فلما انصرف قال إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا صلى قائماً فصلوا قياما وإذا ركع فاركعوا وإذا رفع فارفعوا وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا لك الحمد وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعين. قلت وذكر أبو داود هذا الحديث من رواية جابر وأبي هريرة وعائشة ولم

يذكر صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر ما صلاها بالناس وهو قاعد والناس خلفه قيام وهذا آخر الأمرين من فعله صلى الله عليه وسلم. ومن عادة أبي داود فيما أنشأه من أبواب هذا الكتاب أن يذكر الحديث في بابه ويذكر الذي يعارضه في باب آخر على أثره ولم أجده في شيء من النسخ فلست أدري كيف أغفل ذكر هذه القصة وهي من أمهات السنن وإليه ذهب أكثر الفقهاء ونحن نذكره لتحصل فائدتة وتحفظ على الكتاب رسمه وعادته. حدثنا محمد بن الحسن بن سعيد الزعفراني حدثنا يحيى بن أبي طالب حدثنا علي بن عاصم أخبرني يحيى بن سعيد عن عبد الله بن أبي مليكة عن عائشة قالت ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الإثنين فلما ناداه بلال صلاة الغداة قال قولوا له فليقل لأبي بكر فليصل بالناس قال فرجع إلى أبي بكر فقال له ان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تصلي بالناس فتقدم أبو بكر فصلى بالناس وكان أبو بكر إذا صلى لا يرفع رأسه ولا يلتفت فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم خفة فخرج يهادي بين رجلين أسامة ورجل آخر فلما رآه الناس تفرجت الصفوف لرسول الله صلى الله عليه وسلم فعلم أبو بكر أنه لا يتقدمُ ذلك المتقدم أحد فدفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقامه في مقامه وجعله عن يمينه وقعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فكبر بالناس فجعل أبو بكر يكبر بتكبيره وجعل الناس يكبرون بتكبير أبي بكر. قلت وفي إقامة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر عن يمينه وهومقام المأموم، وفي تكبيره بالناس وتكبير أبي بكر بتكبيره بيان واضح أن الإمام في هذه الصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد صلى قاعداً والناس من خلفه وهي آخر صلاة صلاها

بالناس فدل أن حديث أنس وجابر منسوخ. ويزيد ما قلناه وضوحا ما رواه أبو معاوية عن الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة قالت لما ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر الحديث قالت فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جلس على يسار أبى بكر وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس جالسا وأبو بكر قائماً يقتدي به والناس يقتدون بأبي بكر. حدثونا به عن يحيى بن محمد بن يحيى حدثنا مسدد حدثنا أبومعاوية. والقياس يشهد لهذا القول لأن الإمام لا يسقط عن القوم شيئا من أركان الصلاة مع القدرة عليه ألا ترى أنه لا يحيل الركوع والسجود إلى الإيماء فكذلك لا يحيل القيام إلى القعود. وإلى هذا ذهب سفيان الثوري وأصحاب الرأي والشافعي وأبو ثور. وقال مالك لا ينبغي لأحد أن يؤم بالناس قاعداً وذهب أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه ونفر من أهل الحديث إلى خبر أنس وأن الإمام إذا صلى قاعداً صلى من خلفه قعودا. وزعم بعض أهل الحديث أن الروايات اختلفت في هذا فروى الأسود عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إماما وروى سفيان عنها أن الإمام أبو بكر فلم يجز أن يترك له حديث أنس وجابر. ويشبه أن يكون أبو داود إنما ترك ذكره لأجل هذه العلة. وفي الحديث من الفقه أنه تجوز الصلاة بإمامين أحدهما بعد الاخر من غير حدث يحدث بالإمام الأول. وفيه دليل على جواز تقدم بعض صلاة المأموم صلاة الإمام. وقوله فجحش شقه معناه أنه انسحج جلده والجحش كالخدش أو أكثر من ذلك.

ومن باب في الرجلين يؤم أحدهما صاحبه

ومن باب في الرجلين يؤم أحدهما صاحبه قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عن ابن عباس. قال بت في بيت خالتي ميمونة فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطلق القِربة فتوضأ ثم أوكى القربة ثم قام إلى الصلاة فقمت فتوضأت كما توضأ ثم جئت فقمت عن يساره فأخذني بيمينه فأدارني وراءه فأقامني عن يمينه فصليت معه. قلت: فيه أنواع من الفقه منها أن الصلاة بالجماعة في النوافل. ومنها أن الاثنين جماعة. ومنها أن المأموم يقوم عن يمين الإمام إذا كانا اثنين. ومنها جواز العمل اليسير في الصلاة ومنها جواز الإتمام بصلاة من لم ينو الإمامة فيها. ومن باب إذا كانوا ثلاثة كيف يقومون قال أبو داود: حدثني القعنبي أراه عن مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس أن جدته مليكة دعت النبي صلى الله عليه وسلم لطعام صنعته فأكل منه ثم قال قوموا فلأصلي لكم. قال أنس فقمت إلى حصير لنا قد أسود من طول ما لبس فنضحته بماء فقام عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصففت أنا واليتيم وراءه والعجوز من ورائنا فصلى لنا ركعتين. قلت: فيه من الفقه جواز صلاة الجماعة في التطوع وفيه جواز صلاة المنفرد خلف الصف لأن المرأة قامت وحدها من ورائهما. وفيه دليل على أن إمامة المرأة للرجال غير جائزة لأنها لما زحمت عن مساواتهم في مقام الصف كانت من أن تتقدمهم أبعد. وفيه دليل على وجوب ترتيب مواقف المأمومين وأن الأفضل يتقدم على من دونه في الفضل. وكذلك قال صلى الله عليه وسلم ليليني ذوو الأحلام والنهى. وعلى هذا

ومن باب الإمام يحدث بعدما يرفع رأسه

القياس إذا صلى على جماعة من الموتى فيهم رجال ونساء وصبيان وخناثى فإن الأفضل منهم يكون الإمام فيكون الرجل أقربهم منه ثم الصبي ثم الخنثى ثم المرأة فإن دفنوا في قبر واحبد كان أفضلهم أقربهم إلى القبلة ثم يليه الذي هو أفضل وتكون المرأة آخرهم إلاّ أنه يكون بينها وبين الرجل حجاب من لبن ونحوه. ومن باب الإمام يحدث بعدما يرفع رأسه قال أبو داود: حدثنا أحمد بن يونس حدثنا زهير حدثنا عبد الرحمن بن زياد بن أنعم عن عبد الرحمن بن رافع وبكر بن سوادة عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا قضى الإمام الصلاة وقعد فأحدث قبل أن يتكلم فقد تمت صلاته ومن كان خلفه ممن أتم الصلاة. قلت هذا الحديث ضعيف وقد تكلم الناس في بعض نقلته وقد عارضته الأحاديث التي فيها إيجاب التشهد والتسليم ولا أعلم أحدا من الفقهاء قال بظاهره لأن أصحاب الرأي لا يرون أن صلاته قد تمت بنفس القعود حتى يكون ذاك بقدر التشهد على ما رووا عن ابن مسعود. ثم لم يقودوا قولهم في ذلك لأنهم قالوا إذا طلعت عليه ااشمس أوكان متيمما فرأى الماء وقد قعد مقدار التشهد قبل أن يسلم فقد فسدت صلاته. وقالوا فيمن قهقه بعد الجلوس قدر التشهد أن ذاك لا يفسد صلاته ويتوضأ؛ ومن مذهبهم أن القهقهة لا تنقض الوضوء إلاّ أن تكون في صلاة والأمر في اختلاف هذه الأقاويل ومخالفتها الحديث بين. قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا وكيع عن سفيان عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن محمد بن الحنفية عن علي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم.

ومن باب ما يؤمر به المأموم من اتباع الإمام

قلت: في هذا الحديث بيان أن التسليم ركن الصلاة كما أن التكبير ركن لها وأن التحليل منها إنما يكون بالتسليم دون الحدث والكلام لأنه قد عرفه بالألف واللام وعيَّنه كما عيَّن الطهور وعرفه فكان ذلك منصرفا إلى ما جاءت به الشريعة من الطهارة المعروفة والتعريف بالألف واللام مع الإضافة يوجب التخصيص كقولك فلان مبيته المساجد تريد أنه لا مبيت له يأوي إليه غيرها. وفيه دليل أن افتتاح الصلاة لا يكون إلاّ بالتكبير دون غيره من الأذكار. ومن باب ما يؤمر به المأموم من اتباع الإمام قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن ابن عجلان حدثنا محمد بن يحيى بن حبان عن ابن محيريز عن معاوية بن أبى سفيان قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تبادروني بركوع ولا سجود فإنه مهما أسبقكم به إذا ركعت تدركوني به إذا رفعت إني قد بَدُنت. قوله تدركوني إذا رفعت يريد أنه لا يضركم رفع رأس وقد بقي عليكم شيء منه إذا أدركتموني قائماً قبل أن اسجد وكان صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع يدعو بكلام فيه طول. وقوله إني قد بدنت يروى على وجهين أحدهما بدنت بتشديد الدال ومعناه كبر السن يقال بدن الرجل تبدينا إذا أسن والآخر بدُنت مضمومة الدال غير مشدودة ومعناه زياده الجسم واحتمال اللحم. وروت عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما طعن في السن احتمل بدنه اللحم. وكل واحد من كبر السن واحتمال اللحم يثقل البدن ويثبط عن الحركة. ومن باب التشديد فيمن يرفع رأسه قبل الإمام أو يضع قبله قال أبو داود: حدثنا حغص بن عمرحدثنا شعبة عن محمد بن زياد، عَن أبي

ومن باب جماع أبواب ما يصلى فيه

هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما يخشى أو لا يخشى أحدكم إذا رفع رأسه والإمام ساجد أن يحول الله رأسه رأس حمار أو صورته صورة حمار. قلت واختلف الناس فيمن فعل ذلك فروي عن ابن عمر أنه قال لا صلاة لمن فعل ذلك. وأما عامة أهل العلم فإنهم قالو قد أساء وصلاته مجزية غير أن أكثرهم يأمرونه بأن يعود إلى السجود، وقال بعضهم يمكث في سجوده بعد أن يرفع الإمام رأسه بقدر ما كان ترك منه. ومن باب جماع أبواب ما يصلى فيه قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن ابن شهاب عن المسيب، عَن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الصلاة في ثوب واحد فقال أو لكلكم ثوبان. قوله أولكلكم ثوبان لفظه لفظ استفهام ومعناه الإخبار عما كان يعلم من حالهم من العدم وضيق الثياب يقول فإذا كنتم بهذه الصفة وليس لكل واحد منكم ثوبان والصلاة واجبة عليكم فاعلموا أن الصلاة في الثوب الواحد جائزة. قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا سفيان، عَن أبي الزناد عن الأعرج، عَن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد ليس على منكبه منه شيء. يريد أنه لا يتزر به في وسطه ويشد طرفيه على حقويه ولكن يتزر به ويرفع طرفيه فيخالف بينهما ويشده على عاتقه فيكون بمنزلة الإزار والرداء.

ومن باب في الثوب إذا كان ضيقا

وهذا إذا كان الثوب واسعا فإذا كان ضيقا شده على حقويه؛ وقد جاء ذلك في حديث جابر الذي نذكره في الباب الذي يلي هذا الباب. ومن باب في الثوب إذا كان ضيقا قال أبو داود: حدثنا هشام بن عمار وسليمان بن عبد الرحمن الدمشقي ويحيى بن الفضل السجستاني وهذا لفظ يحيى قالوا: حدثنا حاتم بن إسماعيل حدثنا يعقوب بن مجاهد أبو حزرة عن عبادة بن الوليد بن عبادة قال أتينا جابر بن عبد الله قال سرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة فقام يصلي وكانت عليّ بردة فذهبت أخالف بين طرفيها فلم تبلغ لى وكانت لها ذباذب فنكستها ثم خالفت بين طرفيها ثم تواقصت عليها لا تسقط وذكر صلاته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا جابر إذا كان واسعا فخالف بين طرفيه وإذا كان ضيقا فاشدده على حقوك. ذباذب الثوب أهدابه وسمي ذباذب لتذبذبها. وقوله تواقصت عليها معناه أنه ثنى عنقه ليمسك الثوب به كأنه يحكي خلقة الأوقص من الناس. قال أبو داود: حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد عن أيوب عن نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا كان لأحدكم ثوبان فليصل فيهما فإن لم يكن إلاّ ثوب فليتزر ولا يشتمل اشتمال اليهود. قلت اشتمال اليهود المنهي عنه هو أن يجلل بدنه الثوب ويسبله من غيرأن يشيل طرفه، فأما اشتمال الصماء الذي جاء في الحديث فهو أن يجلل بدنه الثوب ثم يرفع طرفيه على عاتقه الأيسر، هكذا يفسر في الحديث.

ومن باب السدل في الصلاة

ومن باب السدل في الصلاة قال أبو داود: حدثنا محمد بن العلاء وإبراهيم بن موسى عن ابن المبارك عن الحسن بن ذكوان عن سليمان الأحول عن عطاء قال إبراهيم، عَن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن السدل في الصلاة وأن يغطي الرجل فاه. السدل إرسال الثوب حتى يصيب الأرض، وقد رخص بعض العلماء في السدل في الصلاة. روي ذلك عن عطاء ومكحول والزهري والحسن وابن سيرين. وقال مالك لا بأس به ويشبه أن يكونوا إنما فرقوا بين إجازة السدل في الصلاة وبينه في غير الصلاة لأن المصلي ثابت في مكانه لا يمشي في الثوب الذي عليه. فأما غير المصلي فإنه يمشي فيه ويسدل وذلك من الخيلاء المنهي عنه وكان سفيان الثوري يكره السدل في الصلاه وكان الشافعي يكرهه في الصلاة وفي غير الصلاة. وقوله وأن يغطي الرجل فاه فإن من عادة العرب التلثم بالعمائم على الأفواه فنهوا عن ذلك في الصلاة إلاّ أن يعرض للمصلي التثاؤب فيغطي فمه عند ذلك للحديث الذي جاء فيه. ومن باب في كم تصلي المرأة قال أبو داود: حدثنا مجاهد بن موسى حدثنا عثمان بن عمر حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله، يَعني ابن دينار عن محمد بن زيد بن قنفذ عن أمه عن أم سلمة أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم أتصلي المرأة في درع وخمار ليس عليهما إزار. فقال: إذا كان الدرع سابغا يغطي ظهور قدميها. قلت واختلف الناس فيما يجب على المرأة الحرة أن تغطي من بدنها إذا صلت

ومن باب تصلي المرأة بغير خمار

فقال الأوزاعي والشافعي تغطي جميع بدنها إلاّ وجهها وكفيها. وروي ذلك عن ابن عباس وعطاء وقال أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام كل شيء من المرأة عورة حتى ظفرها. وقال أحمد المرأة تصلي ولا يرى منها شيء ولا ظفرها وقال مالك بن أنس إذا صلت المرأة وقد انكشف شعرها أو صدور قدميها تعيد ما دامت في الوقت. وقال أصحاب الرأي في المرأة تصلي وربع شعرها أوثلثه مكشوف، أو ربع فخذها أو ثلثه مكشوف، أو ربع بطنها أو ثلثه مكشوف فإن صلاتها تنتقض، وإن انكشف أقل من ذلك لم تنتقض وبينهم اختلاف في تحديده. ومنهم من قال بالنصف ولا أعلم لشيء مما ذهبوا إليه في التحديد أصلا يعتمد. وفي الخبر دليل على صحة قول من لم يجز صلاتها إذا انكشف من بدنها شيء ألا تراه يقول إذا كان سابغا يغطي ظهور قدميها فجعل من شرط جواز صلاتها أن لا يظهر من أعضائها شىء. ومن باب تصلي المرأة بغير خمار قال أبو داود: حدثنا ابن المثنى حدثنا حجاج بن منهال حدثنا حماد عن قتادة عن محمد بن سيرين عن صفية بنت الحارث عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا تقبل صلاة حائض إلاّ بخمار. قلت يريد بالحائض المرأة التي قد بلغت سن المحيض ولم يرد به المرأة التي هي في أيام حيضها فإن الحائض لا تصلي بوجه. ومن باب الرجل يصلي عاقصا شعره قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي حدثنا عبد الرزاق عن ابن جريج حدثنا

ومن باب الصلاة في النعل

عمران بن موسى عن سعيد بن أبي سعيد المقبري يحدث عن أبيه أنه رأى أبا رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ بالحسن بن علي وهو يصلي قائماً وقد غرز ضفره في قفاه فحمله أبو رافع فالتفت حسن إليه مغضبا. فقال أبو رافع اقبل على صلاتك ولا تغضب فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ذلك كفل الشيطان، يَعني مقعد الشيطان، يَعني مغرز ضفره. يريد بالضفر المضفور من شعره وأصل الضفر الفتل والضفائر هي العقائص المضفورة. وأما الكفل فأصله أن يجمع الكساء على سنام البعير ثم يركب قال الشاعر: وراكب على البعير مكتفل ... يحفى على آثارها وينتعل وإنما أمره بإرسال الشعر ليسقط على الموضع الذي يصلي فيه صاحب من الأرض فيسجد معه. وقد روي أمرت أن أسجد على سبعة آراب وأن لا أكف شعراً ولا ثوباً. ومن باب الصلاة في النعل قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد، عَن أبي نعامة السعدي، عَن أبي نضرة، عَن أبي سعيد الخدري. قال بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه إذ خلع نعليه فوضعهما عن يساره. فلما رأى ذلك القوم ألقوا نعالهم، فلما قضى صلاته قال: ما حملكم على إلقاء نعالكم، قالوا رأيناك ألقيت نعليك فألقينا نعالنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن جبريل أتاني فأخبرني أن فيهما قذرا. قلت: فيه من الفقه أن من صلى وفي ثوبه نجاسة لم يعلم بها فإن صلاته مجزية ولا إعادة عليه.

ومن باب المصلي إذا خلع نعليه اين يضعهما

وفيه أن الايتساء برسول الله صلى الله عليه وسلم في أفعاله واجب كهو في أقواله، وهو أنهم لما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم خلع نعليه خلعوا نعالهم. وفيه من الأدب أن المصلي إذا صلى وحده فخلع نعله وضعها عن يساره وأما إذا كان مع غيره في الصف وكان عن يمينه وعن يساره أناس فإنه يضعها بين رجليه. وفيه أن يسير العمل لا يقطع الصلاة. ومن باب المصلي إذا خلع نعليه اين يضعهما قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي حدثنا عثمان بن عمر حدثنا صالح بن رستم أبو عامر عن عبد الرحمن بن قيس عن يوسف بن ماهك، عَن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا صلى أحدكم فلا يضع نعليه عن يمينه ولا عن يساره فتكون عن يمين غيره إلاّ أن لا يكون عن يساره أحد وليضعهما بين رجليه. قلت فيه باب من الأدب وهو أن يصان ميامن الإنسان عن كل شيء يكون محلاً للأذى. وفيه أن الأدب أن يضع الإنسان نعله إذا أراد الصلاة بين يديه أو عن يساره إن كان وحده. وفيه دليل على أنه إن خلع نعله فتركها من ورائه أو عن يمينه أو متباعدة عنه من بين يديه فتعق بها إنسان فتلف إما بأن خر على وجهه أو تردى في بئر بقربه أن عليه الضمان، وهذا كواضع الحجر في غير ملكه وناصب السكين ونحوه لا فرق بينهما والله أعلم.

ومن باب الصلاة على الخمرة

ومن باب الصلاة على الخُمرة قال أبو داود: حدثنا عمرو بن عون حدثنا خالد عن الشيباني عن عبد الله بن شداد قال حدثتني ميمونة بنت الحارث قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على الخمرة. قلت: الخمرة سجادة تعمل من سعف النخل وترمل بالخيوط. وسميت خمرة لأنها تخمر وجه الأرض أي تستره. وفيه من الفقه جواز الصلاة على الحصير والبسط ونحوها وكان بعض السلف يكره أن يصلى إلاّ على جديد الأرض. وكان بعضهم يجيز الصلاة على كل شيء يعمل من نبات الأرض. فأما ما يتخذ من أصواف الحيوان وشعورها فإنه كان يكرهه. ومن باب الرجل يسجد على ثوبه قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا بشير، يَعني ابن المفضل حدثنا غالب القطان عن بكر بن عبد الله عن أنس قال كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شدة الحر فإذا لم يستطع أحدنا أن يمكن وجهه من الأرض بسط ثوبه فسجد عليه. وقد اختلف الناس في هذا فذهب عامة الفقهاء إلى جوازه. مالك والأوزاعي وأصحاب الرأي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه. وقال الشافعي لا يجزيه ذلك كما لا يجزيه السجود على كور العمامة، ويشبه أن يكون تأويل حديث أنس عنده أن يبسط ثوباً هو غير لابسه. ومن باب تسوية الصفوف قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد حدثنا سماك بن حرب سمعت النعمان بن بشير يقول كان النبي صلى الله عليه وسلم يُسَوينا في الصفوف كما يقوّم القِدح.

ومن باب ما يستحب أن يلي الإمام في الصف

القدح خشب السهم إذا بري وأصلح قبل أن يركب فيه النصل والريش. قال أبو داود: حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا أبان عن قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: رُصُّوا صفوفكم وقاربوا بينها وحاذوا بالأعناق فوالذي نفسي بيده إني لأرى الشيطان يدخل بين خلَل الصف كأنها الحَذَف. قوله رصوا صفوفكم معناه ضموا بعضها إلى بعض وقاربوا بينها ومنه رص البناء قال تعالى {كأنهم بنيان مرصوص} [الصف: 4] والحذف غنم سود صغار، ويقال إنها أكثر ما تكون باليمن. قال أبو داود: حدثنا محمد بن بشار حدثنا أبو عاصم حدثنا جعفر بن يحيى بن ثوبان أخبرني عمي عمارة بن ثوبان عن عطاء عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خياركم ألينكم مناكب في الصلاة. قلت معنى لين المنكب لزوم السكينة في الصلاة والطمأنينة فيها لا يلتفت ولا يُحاك بمنكبه منكب صاحبه. وقد يكون فيه وجه آخر وهو أن لا يمتنع على من يريد الدخول بين الصفوف ليسد الخلل أو لضيق المكان، بل يمكنه من ذلك ولا يدفعه بمنكبه لتتراص الصفوف وتتكاتف الجموع. ومن باب ما يستحب أن يلي الإمام في الصف قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يزيد بن زريع حدثنا خالد، عَن أبي معشر عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله بن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ليليني منكم ذوو الأحلام والنهى ثم الذين يلونهم، ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم واياكم وهَيشات الأسواق. قلت إنما أمر صلى الله عليه وسلم أن يليه ذوو الأحلام والنهى ليعقلوا عنه صلاته، ولكي

ومن باب في الرجل يصلي وحده خلف الصف

يخلفوه في الإمامة إن حدث به حدث في صلاته وليرجع إلى قولهم إن أصابه سهو أو عرض في صلاته عارض في نحو ذلك من الأمور. وهيشات الأسواق ما يكون فيها من الجلبة وارتفاع الأصوات وما يحدث فيها من الفتن. وأصله من الهوش وهو الاختلاط يقال تهاوش القوم إذا اختلطوا ودخل بعضهم في بعض وبينهم تهاوش أي اختلاط واختلاف. ومن باب في الرجل يصلي وحده خلف الصف قال أبو داود: حدثنا سليمان بن حرب وحفص بن عمر قالا: حَدَّثنا شعبة عن عمرو بن مرة عن هلال بن يساف عن عمرو بن راشد عن وابصة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يصلي خلف الصف وحده أمره أن يعيد قال سليمان بن حرب الصلاة. واختلف أهل العلم فيمن صلى خلف الصف وحده فقالت طائفة صلاته فاسدة على ظاهر الحديث. هذا قول النخعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه. وحكوا عن أحمد أو عى بعض أصحابه أنه إذا افنتح صلاته منفردا خلف الإمام فلم يلحق به أحد من القوم حتى رفع رأسه من الركوع فإنه لا صلاة له ومن تلاحق به بعد ذلك فصلاتهم كلهم فاسدة وإن كانوا مائة أو أكثر. وقال مالك والأوزاعي والشافعي صلاة المنفرد خلف الإمام جائزة، وهو قول أصحاب الرأي. وتأولوا أمره إياه بالإعادة على معنى الاستحباب دون الإيجاب.

ومن باب الرجل يركع دون الصف

ومن باب الرجل يركع دون الصف قال أبو داود: حدثنا حميد بن مسعدة أن يزيد بن زريع حدثهم، قال: حَدَّثنا سعيد بن أبي عروبة عن زياد الأعلم حدثنا الحسن أن أبا بكرة حدث أنه دخل المسجد ونبي الله صلى الله عليه وسلم راكع قال فركعت دون الصف فقال النبي صلى الله عليه وسلم: زادك الله حرصا ولا تعد. قلت فيه دلالة على أن صلاة المنفرد خلف الصف جائزة لأن جزءاً من الصلاة إذا جاز على حال الانفراد جاز سائر أجزائها. وقوله ولا تعد إرشاد له في المستقبل إلى ما هو أفضل ولو لم يكن مجزياً لأمره بالإعادة، ويدل على مثل ذلك حديث أنس في صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت المرأة وقيامها منفردة. وأحكام الرجال والنساء في هذا واحدة وهذا يدل على أن أمره بالإعادة في حديث وابصة ليس على الإيجاب لكن على الاستحباب. وكان الزهري والأوزاعي يقولان في الرجل يركع دون الصف إن كان قريبا من الصفوف أجزأه وإن كان بعيدا لم يجزئه. ومن باب الصلاة إلى المتحدثين والنيام قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة حدثنا عبد الملك بن محمد بن أيمن عن عبد الله بن يعقوب بن إسحاق عن من حدثه عن محمد بن كعب القُرَظي قال قلت له، يَعني لعمر بن عبد العزيز حدثني عبد الله بن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تصلوا خلف النائم ولا المتحدثين. قلت هذا حديث لا يصح عن النبي لضعف سنده وعبد الله بن يعقوب لم يسم من حدثه عن محمد بن كعب، وإنما رواه عن محمد بن كعب رجلان كلاهما

ومن باب الدنو من السترة

ضعيفان تمام بن بزيع وعيسى بن ميمون. وقد تكلم فيهما يحيى بن معين والبخاري ورواه أيضاً عبد الكريم أبو أمية عن مجاهد عن ابن عباس. وعبد الكريم متروك الحديث. قال أحمد ضربنا عليه فاضربوا عليه. قال يحيى بن معين: ليس بثقة ولا يحمل عنه وعبد الكريم هذا أبو أمية البصري وليس بالجزري وعبد الكريم الجزري أيضاً ليس في الحديث بذلك إلاّ أن البصري تالف جدا. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى وعائشة نائمة معترضة بينه وبين القبلة. وأما الصلاة إلى المتحدثين فقد كرهها الشافعى وأحمد، وذلك من أجل أن كلامهم يشغل المصلي عن صلاته. وكان أبوعمر لا يصلي خلف رجل يتكلم إلاّ يوم الجمعة. ومن باب الدنو من السترة قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة وحامد بن يحيى وابن السرح قالوا حدثنا سفيان عن صفوان بن سليم عن نافع بن جبير عن سهل بن أبي حثمة يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا صلى أحدكم إلى سترة فليدن منها لا يقطع الشيطان عليه صلاته. قال عطاء أدنى ما يكفيك أن يكون بينك وبين السترة ثلاثة أذرع، وبه قال الشافعي وعن أحمد نحو هذا وأخبرني الحسن بن يحيى بن صالح أخبرنا ابن المنذر أن مالك بن أنس كان يصلي يوما متباينا عن السترة فمر به رجل وهو لا يعرفه فقال أيها المصلي ادن من سترتك فجعل يتقدم وهويقرأ {وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما} [البقرة: 113] .

ومن باب إذا صلى إلى سارية

ومن باب إذا صلى إلى سارية أو نحوها أين يجعلها منه قال أبو داود: حدثنا محمود بن خالد الدمشقي حدثنا علي بن عياش حدثني أبو عبيدة الوليد بن كامل عن المهلب بن حجر البهراني عن ضباعة بنت المقداد بن الأسود عن أبيها. قال ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إلى عود ولا عمود ولا شجرة إلاّ جعله على حاجبه الأيمن أو الأيسر ولا يصمد له صمدا. قلت الصمد القصد يريد أنه لا يجعله تلقاء وجهه والصمد هو السيد الذي يصمد في الحوائج أي يقصد فيها ويعتمد لها. ومن باب ما يؤمر المصلي أن يدرأ المار بين يديه قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن زيد بن أسلم عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري عن أبى سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا كان أحدكم يصلي فلا يدع أحداً يمر بين يديه وليدرأه ما استطاع فإن أبى فليقاتله فإنما هو شيطان. قوله وليدرأه معناه يدفعه ويمنعه عن المرور بين يديه، والدرء المدافعة وهذا في أول الأمرلا يزيد على الدرء والدفع فإن أبى ولج فليقاتله أي يعالجه ويعنف في دفعه عن المرور بين يديه. وقوله فإنما هو شيطان معناه أن الشيطان يحمله على ذلك وأنه من فعل الشيطان وتسويله. وقد روي في هذا الحديث من طريق ابن عمر فليقاتله فإن معه القرين يريد الشيطان. قلت وهذا إذا كان المصلي يصلي إلى سترة فإن لم تكن سترة يصلي إليها وأراد المار أن يمر بين يديه فليس له درؤه ولا دفعه ويدل على ذلك حديثه الاخر. قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا سليمان بن المغيرة عن حميد،

ومن باب ما يقطع الصلاة

يَعني بن هلال، عَن أبي صالح، عَن أبي سعيد، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس فإن أراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفع في نحره فإن أبى فليقاتله فإنما هو شيطان. وفي هذا دلالة على أن العمل القليل لا يقطع الصلاة ما لم يتطاول. ومن باب ما يقطع الصلاة قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن حميد بن هلال عن عبد الله بن الصامت، عَن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقطع صلاه الرجل إذا لم يكن بين يديه قِيدَ أخِرة الرحل الحمارُ والكلب الأسود والمرأة فقلت ما بال الأسود من الأحمر من الأصفر من الأبيض قال يا ابن أخي سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سألتني فقال الكلب الأسود شيطان. ورواه من طريق ابن عباس فقال يقطع الصلاة المرأة الحائض. قوله قيد أخرة الرحل أي قدرها في الطول يقال قيد شبر وقيس شبر وقدروا أخِرة الرحل ذراعاً. وقد اختلف للناس فيما يقطع الصلاة من الحيوان فقالت طائفة بظاهر هذا الخبر. روي ذلك عن ابن عمر وأنس والحسن البصري، وقالت طائفة يقطع الصلاة الكلب الأسود والمرأة الحائض وروي ذلك عن ابن عباس وعطاء بن أبي رباح، وقالت طائفة لا يقطع الصلاة إلاّ الكلب الأسود روي ذلك عن عائشة وهو قول أحمد وإسحاق. وقال أحمد وفي قلبي من المرأة والحمار شيء وقالت طائفة لا يقطع الصلاه شيء روي هذا القول عن علي وعثمان وكذلك قال ابن المسيب وعبيدة والشعبي وعروة بن للزبير وإليه ذهب مالك بن أنس

وسفيان الثوري وأصحاب الرأي وبه قال الشافعي. وزعم من لا يرى الصلاة يقطعها شىء أن حديث أبي ذر معارض بخبر أبي سعيد وبخبر ابن عباس وبخبر عائشة، وقد ذكرها أبو داود على أثر هذا الباب. قال أبو داود: حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا شعبة عن سعد بن إبراهيم عن عروة عن عائشة قالت كنت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين القبلة قال شعبة وأحسبها قالت وأنا حائض. قال أبو داود: وحدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس حدثنا زهير حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي صلاته من الليل وهي معترضة فيما بينه وبين القبلة. قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا أبو عوانة عن منصور عن الحكم عن يحيى بن الجزار، عَن أبي الصهباء قال تذاكرنا ما يقطع الصلاة عند ابن عباس قال جئت أنا وغلام من بني عبد المطلب على حمار ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فنزل ونزلت فتركنا الحمار أمام الصف فما بالى بذلك. قال أبو داود: حدثنا عبد الملك بن شعيب بن اليث حدثني أبي عن جدي عن يحيى بن أيوب عن محمد بن عمر بن علي عن عباس بن عبد الله بن عباس عن الفضل بن عباس قال أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في بادية فصلى في صحراء ليس بين يديه سترة وحمارة لنا وكلبة تعبثان بين يديه فما بالى بذلك. قلت زعم أصحاب أحمد بن حنبل أن حديث أبي ذر قد عارضه حديث عائشة في المرأة وحديث ابن عباس في الحمار، وأما حديث الفضل بن عباس ففي إسناده

ومن باب من قال لا يقطع الصلاة شيء

مقال ثم أنه لم يذكر فيه نعت الكلب، وقد يجوز أن يكون هذا الكلب ليس بأسود فبقي خبر أبي ذر في الكلب الأسود لا معارض له فالقول به واجب لثبوته وصحة إسناده. ومن باب من قال لا يقطع الصلاة شيء قال أبو داود: حدثنا محمد بن العلاء حدثنا أبو أسامة عن مجالد، عَن أبي الوداك، عَن أبي سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يقطع الصلاة شيء وادرؤوا ما استطعتم فإنما هو شيطان. قلت وقد يحتمل أن يتأول حديث أبي ذر على أن هذه الأشخاص إذا مرت بين يدي المصلي قطعته عن الذكر وشغلت قلبه عن مراعاة الصلاة فذلك معنى قطعها للصلاة دون إبطالها من أصلها حتى يكون فيها وجوب الإعادة. ومن باب في سترة الإمام قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا عيسى بن يونس حدثنا هشام بن الغاز عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى إلى جدار فجاءت بَهْمَة تمر بين يديه فما زال يدارئها حتى لصق بطنه بالجدار فمرت من ورائه. البهمة ولد الشاة أول ما يولد يقال ذلك للذكر والأنثى سواء. وقوله يدارئها هو من الدرء مهموز أي يدافعها وليس من المداراة التي تجري مجرى الملاينة هذا غير مهموز وذلك مهموز. ومن باب رفع اليدين عند افتتاح الصلاة قال أبو داود: حدثنا أحمد حدثنا سفيان عن الزهري عن سالم عن أبيه قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استفتح الصلاة رفع يديه حتى يحاذي منكبيه

وإذا أراد أن يركع وبعدما يرفع رأسه من الركوع ولا يرفع بين السجدتين. وذكر في هذا الباب حديث وائل بن حجر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يرفع يديه حتى يحاذي بأذنيه وكان يرفعهما إذا أراد أن يركع وإذا أراد أن يرفع رأسه من الركوع. وذكر حديث مالك بن الحويرث قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع يديه إذا كبر وإذا ركع وإذا رفع رأسه من الركوع حتى يبلغ بهما فروع أذنيه. وذكر حديث علي بن أبي طالب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا قام إلى الصلاة كبر ورفع يديه حذو منكبيه ويصنع مثل ذلك إذا قضى قراءته وأراد أن يركع ويصنعه إذا رفع من الركوع وإذا قام من السجدتين رفع يديه كذلك وكبر. وذكر حديث أبي حميد الساعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قام إلى الصلاة يرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه ثم يركع ثم يرفع رأسه فيرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، ثم ذكر على أثر هذه الأحاديث حديث أبي مسعود ألا أصلي بكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى ولم يرفع يده. وروى حديث البراء بن عازب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا افتتح الصلاة رفع يديه إلى قريب من أذنيه ثم لا يعود. قلت والاختلاف في هذه الأحاديث من وجهين: أحدهما في منتهى ما يرفع إليه اليد من المنكبين والأذنين. فذهب الشافعي وأحمد وإسحاق إلى رفعهما إلى المنكبين على حديث ابن عمر وأبي حميد الساعدي وهو مذهب مالك بن أنس. وذهب سفيان الثوري وأصحاب الرأي إلى رفعهما إلى الأذنين على حديث البراء. وحكي لنا، عَن أبي ثور أنه قال كان الشافعي يجمع بين الحديثين المختلفين وكان

يقول إنما اختلف الحديث في هذا من أجل الرواة، وذلك أنه كان إذا رفع يديه حاذى بظهر كفه المنكبين وبأطراف أنامله الأذنين واسم اليد يجمعهما فروى هذا قوم وروى هذا آخرون من غير تفصيل ولا خلاف بين الحديثين. والوجه الاخر من الاختلاف فيها رفع اليدين عند الركوع وبعد رفع الرأس منه وعند القيام من التشهد الأول فذهب أكثر العلماء إلى أن الأيدي ترفع عند الركوع وعند رفع الرأس منه، وهو قول أبي بكر الصديق وعلي بن أبى طالب وابن عمر وأبي سعيد الخدري وابن عباس وأنس وابن الزبير. وإليه ذهب الحسن البصري وابن سيرين وعطاء وطاوس ومجاهد والقاسم بن محمد وسالم وقتادة ومكحول وبه قال الأوزاعي ومالك في آخر أمره والشافعي وأحمد وإسحاق، وذهب سفيان الثوري وأصحاب الرأي إلى حديث ابن مسعود وهو قول ابن أبى ليلى وقد روي ذلك عن الشعبي والنخعي. قلت والأحاديث الصحيحة التي جاءت بإثبات رفع اليدين عند الركوع وبعد رفع الرأس منه أولى من حديث ابن مسعود وللإثبات أولى من النفي. وقد يجوز أن يذهب ذلك على ابن مسعود كما قد ذهب عليه الأخذ بالركبة في الركوع وكان يطبق بيديه على الأمرالأول وخالفه الصحابة كلهم في ذلك. وقد اختلف الناس في صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكعبة فأثبتها بلال ونفاها أسامة فأخذ الناس بقول بلال وحملوا قول أسامة على أنه سها عنه ولم يحفظه. وحديث البراء لم يقل أحد فيه ثم لا يعود غير شَريك. قال أبو داود وقد رواه هشيم وخالد وابن إدريس عن يزيد بن أبي زياد ولم

يذكروا فيه ثم لا يعود، وذكر عن سفيان بن عيينة أن يزيد حدثهم به قبل خروجه إلى الكوفة فلم يذكروا فيه ثم لا يعود. فلما انصرف زاد فيه لا يعود فحمل ذلك منه على الغلط والنسيان. وأما ما روى في حديث أبي حميد الساعدي من رفع اليدين عند النهوض من التنشهد فهو حديث صحيح وقد شهد له بذلك عشرة من الصحابة منهم أبو قتادة الأنصاري، وقد قال به جماعة من أهل الحديث ولم يذكره الشافعي والقول به لازم على أصله في قبول الزيادات. وأما ما روي في حديث علي رضي الله عنه أنه كان يرفع يديه عند القيام من السجدتين فلست أعلم أحدا من الفقهاء ذهب إليه وإن صح الحديث فالقول به واجب. وقد ذكر أبو داود في هذا الباب حديث أبي حميد الساعدي في صفة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسرده على وجهه، وفيه سنن لا يستغنى عن ذكرها وألفاط يحتاج إلى تفسيرها فنذكره. قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا أبو عاصم حدثنا عبد الحميد بن جعفر أخبرني محمد بن عمرو بن عطاء قال سمعت أبو حميد الساعدي في عشرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم أبو قتادة قال أبو حميد أنا أعلمكم بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا فلم فوالله ما كنت بأكثرنا له تبعاً ولا أقدمنا له صحبة، قال بلى، قالوا فاعرِض قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة يرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه ثم يكبر حتى يقر كل عظم في موضعه معتدلا ثم يقرأ ثم يكبر فيرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه ثم يركع ويضع راحتيه على ركبتيه ثم يعتدل ولا ينصب رأسه ولا يقنع ثم يرفع رأسه فيقول سمع الله لمن حمده

ثم يرفع يديه حتى يحاذي منكبيه معتدلا ثم يقول الله أكبر ثم يهوي إلى الأرض فيجافي يديه عن جنبيه ثم يرفع رأسه ويثني رجله اليسرى فيقعد عليها ويفتخ أصابع رجليه إذا سجد ويسجد ثم يقول الله أكبر ويرفع ويثني رجله اليسرى فيقعد عليها حتى يرجع كل عظم إلى موضعه، ثم يصنع في الأخرى مثل ذلك ثم إذا قام من الركعتين كبر ورفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه كما كبر عند افتتاح الصلاة ثم يصنع ذلك في بقية صلاته حتى كانت السجدة التي فيها التسليم أخر رجله اليسرى وقعد متوركا على شقه الأيسر قالوا صدقت هكذا كان يصلي صلى الله عليه وسلم. قال أبو داود: وحدثنا قتيبة بن سعيد نا ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن محمد بن عمرو بن حَلْحلة عن محمد بن عمرو العامري وذكر حديث أبي حميد وقال فيه وإذا ركع أمكن كفيه من ركبتيه وفرج بين أصابعه وهصر ظهره غير مقنع رأسه ولا صافح بخده. قلت قوله لا ينصب رأسه هكذا جاء في هذه الرواية ونصب الرأس معروف ورواه ابن المبارك عن فليح بن سليمان عن عيسى بن عبد الله سمعه من عباس، عَن أبي حميد فقال فيه كان لا يُصَبّي رأسه ولا يقنعه، يقال صَبَّى الرجل رأسه يصبيه إذا خفضه جدا، وقد فسرته في غريب الحديث. وقوله لا يقنعه معناه لا يرفعه، والإقناع رفع الرأس. ويقال أيضاً لمن خفض رأسه قد أقنع رأسه والحرف من الأضداد قال الله تعالى {مهطعين مقنعي رؤوسهم} [إبراهيم: 43] . وقوله يفتخ أصابع رجليه أي يلينها حتى تنثني فيوجهها نحو القبلة والفتخ لين واسترسال في جناح الطائر. وقوله هصر ظهره معناه ثنى ظهره وخفضه، وأصل الهصر أن يأخذ بطرف

ومن باب ما يستفتح به الصلاة من الدعاء

الشيء ثم يجذبه إليه كالغصن من الشجرة ونحوه فينصهرأي ينكسر من غير بينونة. وقوله ولا صافح بخده أي غير مبرز صفحة خده مائلا في أحد الشقين. وفيه من السنة أن المصلي أربعا يقعد في التشهد الأول على بطن قدمه اليسرى ويقعد في الرابعة متوركا وهو أن يقعد على وركه ويفضي به إلى الأرض ولا يقعد على رجله كما يقعد في التشهد الأول، وإليه ذهب الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق. وكان مالك يذهب إلى أن القعود في التشهد الأول والآخر يجب أن يكون على وركه ولا يقعد على بطن قدمه في القعدة الأولى وكذلك يقعد بين السجدتين. وكان سفيان الثوري يرى القعود على قدمه في القعدتين جميعا، وهو قول أصحاب الرأي. وفيه أيضاً أنه قعد قعدة بعدما رفع رأسه من السجدة الثانية قبل القيام. وقد روي ذلك أيضاً في حديث مالك بن الحويرث وبه قال الشافعي. وقال الثوري ومالك وأصحاب الرأي وأحمد وإسحاق لا يقعدها ورووا عن جماعة من الصحابة أنهم كانوا ينهضون على صدور أقدامهم. ومن باب ما يستفتح به الصلاة من الدعاء قال أبو داود: حدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة عن عمه الماجشون بن أبي سلمة عن عبد الرحمن الأعرج عن عييد الله بن أبي رافع عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة كبر ثم قال وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين. وساقه إلى أن قال لبيك وسعديك والخير كله في يديك والشر ليس إليك.

ومن باب من رأى الاستفتاح بسبحانك اللهم

قوله والشر ليس إليك سئل الخليل عن تفسيره، فقال معناه الشر ليس مما يتقرب به إليك. وقال غيره هذا كقول القائل فلان إلى بني تميم إذا كان عداده فيهم أو صغوه معهم وكما يقول الرجل لصاحبه أنا بك واليك يريد ان التجاءه وانتماءه إليه أو نحو هذا من الكلام. وروى أبو داود في هذا الباب حديث أنس بن مالك أن رجلا جاء إلى الصلاة وقد حفزه النفس فقال الله أكبر الحمد الله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه. قوله حفزه النفس يريد أنه قد جهده النفس من شدة السعي إلى الصلاة وأصل الحفز الدفع العنيف. ومن باب من رأى الاستفتاح بسبحانك اللهم قال أبو داود: حدثنا حسين بن عيسى حدثنا طلق بن غنام حدثنا عبد السلام بن حرب الملائي عن بديل بن ميسرة، عَن أبي الجوزاء عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استفتح الصلاة قال: سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك. قوله وبحمدك ودخول الواو فيه أخبرني ابن خلاد قال سألت الزجاج عن ذلك فقال معناه سبحانك اللهم وبحمدك سبحتك، ومعنى الجد العظمة ههنا. وقد اختلف العلماء فيما يستفتح به الصلاة من الذكر بعد التكبير فذهب الشافعي إلى ما رواه عبيد الله بن أبي رافع عن علي رضي الله عنه، وذهب سفيان وأصحاب الرأي إلى حديث عائشة، هذا وبه قال أحمد وإسحاق. وكان مالك لا يقول شيئا من ذلك إنما يكبر ويقرأ الحمد لله رب العالمين.

ومن باب السكتة عند الافتتاح

وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنواع من الذكر في استفتاح الصلاة. وقد روى أبو داود بعضها وترك بعضها وهو من الاختلاف المباح فبأيها استفتح الصلاة كان جائزا وإن استعمل رجل مذهب مالك ولم يقل شيئاً أجزأته صلاته وكرهناه له. ومن باب السكتة عند الافتتاح قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يزيد حدثنا سعيد حدثنا قتادة عن الحسن أن سمرة وعمران بن حصين تذاكرا فحدث سمرة أنه حفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سكتتين سكتة إذا كبر وسكتة إذا فرغ من قراءة {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} [الفاتحة: 7] فأنكر عليه عمران فكتبا في ذلك إلى أبي بن كعب فكان في كتابه إليهما أن سمرة قد حفظ. قلت إنما كان يسكتها ليقرأ من خلفه فيهما فلا ينازعوه القراءة إذا قرأ وإليه ذهب الأوزاعي والشافعي وأحمد بن حنبل. وقال مالك بن أنس وأصحاب الرأي السكتة مكروهة. ومن باب من لم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم قال أبو داود: نا مسلم بن إبراهيم حدثنا هشام عن قتادة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم كانوا يفتتحون القراءة بالحمد الله رب العالمين. قلت قد يحتج بهذا الحديث من لا يرى أن التسمية من فاتحة الكتاب، وليس المعنى كما توهمه، وإنما وجهه ترك الجهر بالتسمية بدليل ما روى ثابت البناني عن أنس أنه قال صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلف أبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحدا منهم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم.

قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا عبد الوارث بن سعيد عن حسين المعلم عن بديل بن ميسره، عَن أبي الجوزاء عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد لله رب العالمين، وكان إذا ركع لم يُشخص رأسه ولم يصوبه ولكن بين ذلك وكان إذا رفع رأسه من الركوع لم يسجد حتى يستوي قائماً وكان إذا رفع رأسه من السجود لم يسجد حتى يستوي قاعداً وكان إذا جلس يفرش رجله اليسرى وينصب رجله اليمنى، وكان يقول في كل ركعتين التحيات لله وكان ينهى عن عقب الشيطان وعن فرشة السبع وكان يختم الصلاة بالتسليم. قولها كان يفتتح القراءة بالحمد لله رب العالمين قد يحتمل أن يكون أرادت به تعيين القراءة فذكرت اسم السورة وعرفتها بما يتعرف به عند الناس من غيرحذف آية التسمية كما يقال قرأت البقرة وقرأت آل عمران يراد به السورة التي يذكر فيها البقرة وآل عمران. وقولها لم يصوبه أي لم يخفضه وعقب الشيطان هو أن يقعي فيقعد على عقبيه في الصلاة لا يفترش رجله ولا يتورك وأحسب أني سمعت في عقب الشيطان معنى غير هذا فسره بعض العلماء لم يحضرني ذكره. وفرشة السبع أن يفترش يديه وذراعيه في السجود يمدهما على الأرض كالسبع، وإنما السنة أن يضع كفيه على الأرض ويقل ذراعيه ويجافي بمرفقيه عن جنبيه. وفي قولها كان يفتتح الصلاه بالتكبير ويختمها بالتسليم دليل على انهما ركنان من أركان الصلاة لا تجزي إلاّ بهما لأن قولها كان يفتتح الصلاة بالتكبير ويختمها بالتسليم اخبار عن أمر معهود مستدام، وقال صلى الله عليه وسلم: صلوا كما رأيتموني أصلي.

ومن باب في تخفيف الصلاة

ومن باب في تخفيف الصلاة قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا سفيان عن عمرو سمعه من جابر كان معاذ يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم يرجع فيصلي بقومه فأخر النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الصلاة وقال مرة العشاء فصلى معاذ مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم جاء يؤم قومه فقرأ البقرة فاعتزل رجل من القوم فصلى، فقيل نافقت فقال ما نافقت فأتى الرجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال إنا نحن أصحاب نواضح ونعمل بأيدينا وإنه جاء يؤمنا فقرأ بسوره البقرة فقال ما معاذ أفتان أنت أفتان أنت اقرأ بكذا اقرأ بكذا، قال أبو الزبير بسبح اسم ربك الأعلى والليل إذا يغشى فذكرنا لعمرو فقال أراه قد ذكره. النواضح الإبل التي يستقى عليها، والفتان هو الذي يفتن الناس عن دينهم ويصرفهم عنه، وأصل الفتنة الامتحان، يقال فتنت الفضة في النار إذا امتحنتها فأحميتها بالنار لتعرف جودتها. وفي الحديث من الفقه جواز صلاة للمفترض خلف المتنفل. وفيه أن المأموم إذا حزبه أمر يزعجه عن إتمام الصلاة مع الإمام كان له أن يخرج من إمامته ويتم لنفسه. وقد تأوله بعض الناس على خلاف ظاهره وزعم أن صلاته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نافلة وليس هذا عندنا كما توهمه وذلك أن العشاء اسم للفريضه دون النافله. ثم لا يجوز على معاذ مع فقهه أن يترك فضيلة الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فعل نفسه، هذا مع قوله صلى الله عليه وسلم إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلاّ المكتوبة وكيف يجوز عليه أن يترك المكتوبة وقد أقيمت إلى النافلة التي لم تكتب عليه ولم يخاطب بها.

ومن باب تخفيف الصلاة لأمر يحدث

قال أبو داود: حدثنا يحيى بن حبيب حدثنا خالد بن الحارث حدثنا محمد بن عجلان عن عبيد الله بن مقسم عن جابر وذكر قصة معاذ قال وقال النبي صلى الله عليه وسلم للفتى: كيف تصنع يا ابن أخي إذا صليت قال أقرأ: بفاتحة الكتاب وأسأل الله الجنة وأعوذ به من النار وإني لا أدري ما دندنتك ودندنة معاذ. الدندنة قراءة مبهمة غير مفهومة والهينمة مثلها أو نحوها. ومن باب تخفيف الصلاة لأمر يحدث قال أبو داود: حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم حدثنا عمر بن عبد الواحد وبشر بن بكر عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه قال قال رسول الله: إنى لأقُومُ إلى الصلاة وأنا أريد أن أطول فيها فاسمع بكاء الصبي فأتجوز كراهية أن أشق على أمه. فيه دليل على أن الإمام وهو راكع إذا أحس برجل يريد الصلاة معه كان له أن ينتظره راكعا ليدرك فضيلة الركعة في الجماعة لأنه إذا كان له أن يحذف من طول الصلاة لحاجة الإنسان في بعض أمور الدنيا كان له أن يزيد فيها لعبادة الله بل هو أحق بذلك وأولى. وقد كرهه بعض العلماء وشدد فيه بعضهم وقال أخاف أن يكون شركاً وهو قول محمد بن الحسن. ومن باب قدر القراءة في الظهر قال أبو داود: حدثنا مسدد نا عبد الوارث عن موسى بن سالم نا عبد الله بن عبيد الله قال دخلت على ابن عباس في شباب من بني هاشم فقلنا لشاب

ومن باب قدر القراءة في المغرب

منا سله أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر والعصر فقال لا قال فلعله يقرأ في نفسه قال خمشاً هذه شر من الأولى. قوله خمشا دعاء عليه بأن يخمش وجهه أو جلده كما يقال جدعاً له وصلبا وطعنا ونحو ذلك من الدعاء بالسوء. قلت وهذا وهم من ابن عباس قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقرأ في الظهر والعصر من طرق كثيرة منها حديث أبي قتادة قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر والعصر في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورتين ويسمعنا الآية أحيانا. ومنها حديث خباب كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر والعصر فقيل له بم كنتم تعرفون قال باضطراب لحيته. ومن باب قدر القراءة في المغرب قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي حدثنا عبد الرزاق عن ابن جريج حدثني ابن أبي مليكة عن عروة بن الزبير عن مروان بن الحكم قال: قال لي زيد بن ثابت ما لك تقرأ في المغرب بقصار المفصل وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بطولى الطوليين. قلت أصحاب الحديث يقولون بطول الطِوالين وهو غلط، والطول الحبل وليس هذا بموضعه إنما هو طُولى الطُوليين يريد أطول السورتين، وطُولى وزنه فعلى تأنيث أطول، والطوليين تثنية الطولى، ويقال أنه أراد سورة الأعراف وهذا يدل على أن للمغرب وقتين كسائر الصلوات. وقد وردت فيه أخبار أكثرها صحيح. حديث عبد الله بن عمرو وحديث بريدة وحديث أبي موسى، وقد تقدم الكلام فيها في موضعها.

ومن باب من ترك القراءة في صلاته

ومن باب من ترك القراءة في صلاته قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن العلاء بن عبد الرحمن أنه سمع أبا السائب مولى هشام بن زهرة يقول سمعت أبا هريرة يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج فهي خداج فهي خداج غير تمام قال فقلت يا أبا هُرَيْرَة فإني أكون أحيانا وراء الإمام فغمز ذراعي وقال أقرأ بها يا فارسي في نفسك فإني سمعت رسول الله يقول: «قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فنصفها لي ونصفها لعبدى ولعبدي ما سأل. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرؤا يقول العبد {الحمد لله رب العالمين} يقول الله حمدني عبدى، يقول العبد {الرحمن الرحيم} يقول الله اثنى عليّ عبدي، يقول العبد {مالك يوم الدين} يقول الله عز وجل مجدني عبدي، يقول العبد {إياك نعبد وإياك نستعين} يقول الله وهذه بيني وبيني عبدي ولعبدي ما سأل؛ يقول العبد {اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} فهؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل. قوله فهي خداج معناه ناقصة نقص فساد وبطلان، تقول العرب أخدجت الناقة إذا ألقت ولدها وهو دم لم يستبن خلقه فهي مخدج والخداج اسم مبني منه. وقوله قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فإنه يريد بالصلاة القراءة يدل على ذلك قوله عند التفسير له والتفصيل للمراد منه إذا قال العبد {الحمد الله رب العالمين} يقول الله حمدني عبدي إلى آخر السورة وقد تسمى القراءة صلاة لوقوعها في الصلاة وكونها جزءا من أجزائها كقوله تعالى {ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها} [الإسراء: 110] قيل معناه القراءة وقال {وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا}

[الإ سراء: 78] أراد صلاة الفجر فسمى الصلاة مرة قرآنا والقرآن مرة صلاة لانتظام أحدهما الآخر يدل على صحة ما قلناه. قوله بيني وبين عبدي نصفين والصلاة خالصة لله لا شرك فيها لأحد فعقل أن المراد به القراءة. وحقيقة هذه القسم منصرفة إلى المعنى لا إلى متلو اللفظ وذلك أن السورة من جهة المعنى نصفها ثناء ونصفها مسألة ودعاء، وقسم الثناء ينتهي إلى قوله {إياك نعبد} وهو تمام الشطر الأول من السورة وباقي الآية وهو قوله {وإياك نستعين} من قسم الدعاء والمسألة. ولذلك قال وهذه الآية بيني وبين عبدي ولو كان المراد به قسم الألفاط والحروف لكان النصف الآخر يزيد على الأول زيادة بينة فيرتفع معنى التعديل والتنصيف وإنما هو قسمة المعاني كما ذكرته لك وهذا كما يقال نصف السنة إقامة ونصفه سفر، يريد به انقسام أيام السنة مدة للسفر ومدة للإقامة لا على سبيل التعديل والتسوية بينهما حتى يكونا سواء لا يزيد أحدهما على الآخر، وقيل لشريح كيف أصبحت قال أصبحت ونصف الناس عليّ غضاب يريد أن الناس محكوم له ومحكوم عليه، فالمحكوم عليه غضبان عليّ لاستخراج الحق منه وإكراهي إياه عليه وكقول الشاعر: إذا مت كان الناس نصفين شامتٌ …بموتي ومثن بالذي كنت أفعل وقد يستدل بهذا الحديث من لا يرى التسمية آية من فاتحة الكتاب، وقالوا لو كانت آية منها لذكرت كما ذكر سائر الآي، فلما بدىء بالحمد لله دل أنه أول آية منها وأن لاحظ للتسمية فيها. وقد اختلف الناس في ذلك فقال قوم هي آية من فاتحة الكتاب وهو قول

ابن عباس وأبي هريرة وسعيد بن جبير وعطاء وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد، وقال آخرون ليست التسمية من فاتحة الكتلب روي ذاك عن عبد الله بن المغفل. وإليه ذهب أصحاب الرأي وهو قول مالك والأوزاعي. قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد وابن السرح قالا: حَدَّثنا سفيان عن الزهري عن محمود بن الربيع عن عبادة بن الصامت يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال: لاصلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب فصاعدا قال سفيان لمن يصلي وحده. قلت هذا عموم لا يجوز تخصيصه إلاّ بدليل. قال أبو داود: حدثنا النفيلي نا محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن مكحول عن محمود بن الربيع عن عبادة بن الصامت قال كنا خلف النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ رسول الله فثقلت عليه القراءة فلما فرغ قال لعلكم تقرؤون خلف إمامكم قلنا نعم هذَّاَّ يا رسول الله قال لا تفعلوا إلاّ بفاتحة الكتاب فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها. قلت هذا الحديث نص بأن قراءة فاتحة الكتاب واجبة على من صلى خلف الإمام سواء جهر الإمام بالقراءة أو خافت بها وإسناده جيد لا طعن فيه. والهذ سرد القراءة ومداركتها في سرعة واستعجال، وقيل أراد بالهذ الجهر بالقراءة وكانوا يلبسون عليه قراءته بالجهر، وقد روي ذلك في حديث عبادة هذا من غير هذا الطريق. وقوله لا تفعلوا يحتمل أن يكون المراد به الهذ من القراءة وهو الجهر بها ويحتمل أن يكون أراد بالنهي ما زاد من القراءة على فاتحة الكتاب. قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن ابن شهاب عن ابن أكيمة الليثي، عَن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة

فقال هل قرأ معي أحد منكم آنفا فقال رجل نعم يا رسول الله قال إني أقول ما لي أنازع القرآن قال فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جهر فيه من الصلوات حين سمعوا ذلك منه. قلت قوله فانتهى الناس عن القراءة من كلام الزهري لا من كلام أبي هريرة قال أبو داود وسمعت محمد بن يحيى يقول فانتهى الناس من كلام الزهري، وكذلك حكاه عن الأوزاعي. وقوله صلى الله عليه وسلم: ما لي أنازع القرآن معناه اداخَل في القرآن وأغالب عليها. وقد تكون المنازعة بمعنى المشاركة والمناوبة، ومنه منازعة الناس في النِدام. قال أبو داود: حدثنا ابن المثنى حدثنا ابن أبي عدي عن سعيد عن قتادة عن زرارة عن عمران بن حصين أن نبي الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم الظهر فلما انفتل قال أيكم قرأ بسبح اسم ربك الأعلى فقال رجل أنا فقال علمت أن بعضكم خالجنيها. قوله خالجنيها أي جاذبنيها، والخلج الجذب. وهذا وقوله نازعنيها سواء وإنما أنكر عليه محاذاته في قراءة السورة حتى تداخلت القراءتان وتجاذبتا. وأما قراءة فاتحة الكتاب فإنه مأمور بها في كل حال إن أمكنه أن يقرأ في السكتتين فعل وإلا قرأ معه لا محالة. وقد اختلف العلماء في هذه المسألة فروي عن جماعة من الصحابة أنهم أوجبوا القراءة خلف الإمام وروي عن آخرين أنهم كانوا لا يقرؤون. وافترق الفقهاء فيها على ثلاثة أقاويل فكان مكحول والأوزاعي والشافعي وأبو ثور يقولون لا بد من أن يقرأ خلف الإمام فيما يجهر به وفيما لا يجهر. وقال الزهري ومالك وابن المبارك وأحمد بن حنبل وإسحاق يقرأ فيما أسر الإمام فيه ولا يقرأ فيما جهر به.

ومن باب ما يجزي

وقال سفيان الثوري وأصحاب الرأي لا يقرأ أحد خلف الإمام جهر الإمام أو أسر، واحتجوا بحديث رواه عبد الله بن شداد مرسلا عن النبي صلى الله عليه وسلم من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة. ومن باب ما يجزي الأُمي والأعجمي من القراءة قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا وكيع بن الجراح حدثنا سفيان الثوري، عَن أبي خالد الدالاني عن إبراهيم السكسكي عن عبد الله بن أبي أوفى قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إني لا أستطيع أن آخذ من القرآن شيئا فعلمني ما يجزيني قال: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلاّ الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلاّ بالله؛ قال يا رسول الله هذا لله فما لي؟ قال قل اللهم ارحمني وعافني واهدني وارزقني. قلت الأصل أن الصلاة لا تجزي إلاّ بقراءة فاتحة الكتاب لقوله صلى الله عليه وسلم: لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب، ومعقول أن وجوب قراءة فاتحة الكتاب إنما هو على من أحسنها دون من لا يحسنها فإذا كان المصلي لا يحسنها وكان يحسن شيئا من القرآن غيرها كان عليه أن يقرأ منه قدر سبع آيات لأن أولى الذكر بعد فاتحة الكتاب ما كان مثلاً لها من القرآن. فإن كان رجل ليس في وسعه أن يتعلم شيثا من القرآن لعجز في طبعه أو سوء حفظه أو عجمة لسان أو آفة تعرض له كان أولى الذكر بعد القرآن ما علمه النبي صلى الله عليه وسلم من التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير. وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: أفضل الذكر بعد كلام الله عز وجل سبحان الله والحمد لله ولا إله إلاّ الله والله أكبر.

ومن باب كيف يضع ركبتيه قبل يديه

ومن باب كيف يضع ركبتيه قبل يديه قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي والحسين بن عيسى قالا: حَدَّثنا يزيد بن هارون حدثنا شريك عن عاصم بن كليب عن أبيه عن وائل بن حجر قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه. قلت واختلف الناس في هذا فذهب أكثر العلماء إلى وضع الركبتين قبل اليدين وهذا أرفق بالمصلي وأحسن في الشكل وفي رأي العين. وقال مالك يضع يديه قبل ركبتيه، وكذلك قال الأوزاعي وأظنهما ذهبا إلى الحديث الآخر وقد رواه أبو داود في هذا الباب. قال أبو داود: حدثنا سعيد بن منصور حدثنا عبد العزيز بن محمد حدثنا محمد بن عبد الله بن الحسن، عَن أبي الزناد عن الأعرج، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير وليضع يديه قبل ركبتيه. قلت: حديث وائل بن حجر أثبت من هذا وزعم بعض العلماء أن هذا منسوخ وروى فيه خبراً عن سلمة بن كهيل عن مصعب بن سعد قال كنا نضع اليدين قبل الركبتين فأمرنا بالركبتين قبل اليدين. ومن باب الإقعاء بين السجدتين قال أبو داود: حدثنا يحيى بن معين حدثنا حجاج بن محمد عن ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع طاوسا يقول قلنا لابن عباس في الاقعاء على القدمين في السجود فقال هي السنة قال قلنا إنا لنراه جفاء بالرجل فقال ابن عباس هي سنة نبيك صلى الله عليه وسلم. قلت أكثر الأحاديث على النهي عن الاقعاء في الصلاة، وروي أنه عقبة الشيطان وقد ثبت من حديث وائل بن حجر وحديث أبي حميد أن النبي صلى الله عليه وسلم

ومن باب ما يقول

قعد بين السجدتين مفترشا قدمه اليسرى. ورويت الكراهة في الإقعاء عن جماعة من الصحابة وكرهه النخعي ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وهو قول أصحاب الرأي وعامة أهل العلم. وتفسير الاقعاء أن يضع اليتيه على عقبيه ويقعد مستوفزا غير مطمئن إلى الأرض وكذلك إقعاء الكلاب والسباع إنما هو أن تقعد على مآخيرها وتنصب أفخاذها. قال أحمد بن حنبل وأهل مكة يستعملون الاقعاء، وقال طاوس رأيت العبادلة يفعلون ذاك ابن عمر وابن عباس وابن الزبير، وروي عن ابن عمر أنه قال لبنيه لا تقتدوا بي في الإقعاء فإني إنما فعلت هذا حين كبرت. ويشبه أن يكون حديث ابن عباس منسوخا والعمل على الأحاديث الثابتة في صفة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن باب ما يقول إذا رفع رأسه من الركوع قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن سمي، عَن أبي صالح السمان، عَن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا لك الحمد فإنه من وافق قوله قول الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه. قلت في هذا دلالة على أن الملائكة يقولون مع المصلي هذا القول ويستغفرون ويحضرونة بالدعاء والذكر. واختلف الناس فيما يقوله المأموم إذا رفع رأسه من الركوع فقالت طائفة يقتصر على ربنا لك الحمد وهو الذي جاء به الحديث لا يزيد عليه وهو قول الشعبي وإليه ذهب مالك وأحمد بن حنبل. وقال أحمد إلى هذا انتهى أمرالنبي صلى الله عليه وسلم وقالت طائفة يقول سمع الله لمن حمده اللهم ربنا لك الحمد يجمع بينهما هذا قول ابن سيرين وعطاء، وإليه ذهب الشافعي

ومن باب صلاة من لا يقيم

وهو مذهب أبي يوسف ومحمد. قلت وهذه الزيادة وإن لم تكن مذكورة في الحديث نصا فإنها مأمور بها الإمام، وقد جاء إنما جعل الإمام ليؤتم به فكان هذا في جميع أقواله وأفعاله والإمام يجمع بينهما، وكذلك المأموم وإنما كان القصد بما جاء في هذا الحديث مداركة الدعاء والمقارنة بين القولين ليستوجب بها دعاء الإمام وهو قوله سمع الله لمن حمده ليس بيان كيفية الدعاء والأمر باستيفاء جميع ما يقال في ذلك المقام إذ قد وقعت الغنية بالبيان المتقدم فيه. ومن باب صلاة من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود قال أبو داود: حدثنا ابن المثنى حدثنا يحيى بن سعيد عن عبيد الله حدثني سعيد ابن أبي سعيد عن أبيه، عَن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد فدخل رجل فصلى ثم جاء فسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ارجع فصل فإنك لم تصل فرجع الرجل فصلى كما كان صلى ثم جاء إلى النبي فقال له ارجع فصل فإنك لم تصل حتى فعل ذلك ثلاث مرات فقال الرجل والذي بعثك بالحق ما أحسن غير هذا فعلمني، قال إذا قمت إلى الصلاة فكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القران ثم اركع حتى تطمئن راكعا ثم ارفع حتى تعتدل قائماً ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ثم اجلس حتى تطمئن جالسا ثم افعل ذلك في صلاتك كلها. قلت قوله ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ظاهره الإطلاق والتخيير، والمراد منه فاتحة الكتاب لمن أحسنها لا يجزيه غيرها بدليل قوله لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب، وهذا في الإطلاق كقوله تعالى {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج

فما استيسر من الهدي} [البقرة: 196] ثم كان أقل ما يجزي من الهدي معيناً معلوم المقدار ببيان السنة وهو الشاة. وفي قوله ثم افعل ذلك في صلاتك كلها دليل على أن عليه أن يقرأ في كل ركعة كما كان عليه أن يركع ويسجد في كل ركعة. وقال أصحاب الرأي إن شاء أن يقرأ في الركعتين الأخرين قرأ وإن شاء أن يسبح سبح وإن لم يقرأ فيهما شيئا اجزأه. ورووا فيه عن علي بن أبي طالب أنه قال يقرأ في الأوليين ويسبح في الأخرين من طريق الحارث عنه. قلت وقد تكلم في الحارث قديما وممن طعن فيه الشعبي ورماه بالكذب وتركه أصحاب الصحيح ولوصح ذلك عن علي رضي الله عنه لم يكن حجة لأن جماعة من الصحابة قد خالفوه في ذلك منهم أبو بكر وعمر وابن مسعود وعائشة وغيرهم، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى ما اتبع بل قد ثبت عن علي رضي الله عنه من طريق عبيد الله بن أبي رافع أنه كان يأمر أن يقرأ في الأوليين من الظهر والعصر بفاتحة الكتاب وسورة وفي الأخريين بفاتحة الكتاب. حدثنا محمد بن المكي حدثنا الصايغ حدثنا سعيد بن منصور حدثنا عبد الرحمن بن زياد حدثنا شعبة عن سفيان بن حسين سمعت الزهري يحدث عن ابن أبي رافع عن أبيه عن علي رضي الله عنه بذلك. وفيه دليل على أن صلاة من لم يقم صلبه في الركوع والسجود غير مجزية. وفي قوله إذا قمت إلى الصلاة فكبر دليل على أن غير التكبير لا يصح به افتتاح الصلاة لأنه إذا افتتحها بغيره كان الأمربالتكبير قائماً لم يمتثل.

قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي حدثنا هشام بن عبد الملك والحجاج بن منهال قالا: حَدَّثنا همام حدثنا إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن علي بن يحيى بن خلاد عن أبيه عن عمه رفاعة بن رافع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه لا يتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله فيغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ويمسح برأسه ورجليه إلى الكعبين ثم يكبر الله ويحمده ثم يقرأ من القرآن ما أذن له فيه وساق الحديث إلى أن قال ثم يسجد فيمكن وجهه. قال هشام وربما قال جبهته من الأرض. قلت فيه من الفقه أن ترتيب الوضوء وتقديم ما قدمه الله في الذكر منه واجب وذلك معنى قوله حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله ثم عطف عليه بحرف الفاء الذي يقتضي التعقيب من غير تراخ. وفيه دليل على أن السجود لا يجزي على غير الجبهة وأن من سجد على كور العمامة ولم يسجد معها على شيء من جبهته لم تجزئه صلاته. قال أبو داود: حدثنا قتيبة حدثنا الليث عن جعفر بن عبد الله الأنصاري عن تميم بن محمود عن عبد الرحمن بن شبل قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نقرة الغراب وافتراش السبع وأن يُوطن الرجل المكان في المسجد كما يوطن البعيرُ. قوله نقرة الغراب هي أن لا يتمكن الرجل من السجود فيضع جبهته على الأرض حتى يطمئن ساجدا وإنما هو أن يمس بأنفه أوجبهته الأرض كنقرة الطائر ثم يرفعه، وافتراش السبع أن يمد ذراعيه على الأرض لا يرفعهما ولا يجافي مرفقيه عن جنبيه. وأما إيطان البعير ففيه وجهان أحدهما أن يألف الرجل مكانا معلوماً من المسجد

ومن باب ما يقول في ركوعه وسجوده

لا يصلي إلاّ فيه كالبعصلا يأوي من عطنه إلاّ إلى مبرك دمث قد أوطنه واتخذه منلخا لا يبرك إلاّ فيه. والوجه الآخر أن يبرك على ركبتيه قبل يديه إذا أراد السجود بروك البعير على المكان الذي أوطنه وأن لا يهوي في سجوده فيثني ركبتيه حتى يضعهما بالأرض على سكون ومهل. ومن باب ما يقول في ركوعه وسجوده قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا ابن المبارك عن موسى بن أيوب عن عمه عن عقبة بن عامر قال لما نزلت {فسبح باسم ربك العظيم} [الواقعة: 74] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اجعلوها في ركوعكم فلما نزلت {سبح اسم ربك الأعلى} [الأعلى: 1] قال اجعلوها في سجودكم. قلت في هذا دلالة على وجوب التسبيح في الركوع والسجود لأنه قد اجتمع في ذلك أمر الله وبيان الرسول صلى الله عليه وسلم وترتيبه في موضعه من الصلاة فتركه غير جائز وإلى إيجابه ذهب إسحاق. ومذهب أحمد قريب منه. وروي عن الحسن البصري نحوا منه، فأما عامة الفقهاء مالك وأصحاب الرأي والشافعي فانهم لم يروا تركه مفسدا للصلاة. ومن باب في الدعاء في الركوع والسجود قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا سفيان عن سليمان بن سحيم عن إبراهيم بن عبد الله بن معبد عن أبيه عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كشف الستارة والناس صفوف خلف أبي بكر رضي الله عنه فقال أيها الناس إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤ يا الصالحة يراها المسلم أوترى له وإني نهيت أن اقرأ راكعا أو

ساجدا، فأما الركوع فعظموا الرب فيه، وأما السجود فاجتهدوا بالدعاء فَقَمِن أن يستجاب لكم. قلت نهيه عن القراءة راكعا أو ساجدا يشد قول إسحاق ومذهبه في إيجاب الذكر في الركوع والسجود وذلك أنه إنما أُخلي موضعهما من القراءة ليكون محلا للذكر والدعاء، وقوله قمن بمعنى جدير وحري أن يستجاب لكم. قال أبو داود: حدثنا ابن أبي شيبة حدثنا جرير عن منصور، عَن أبي الضحى عن مسروق عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه وسجوده سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي يتأول القرآن. قلت قولها يتأول القرآن تريد قوله فسبح بحمد ربك إنه كان تواباً. قال أبو داود: حدثنا محمد بن سليمان الأنباري حدثنا عبدة عن عبيد الله عن محمد بن يحيى بن حبان عن عبد الرحمن الأعرج، عَن أبي هريرة عن عائشة قالت: فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فلمست المسجد فإذا هو ساجد وقدمه منصوبتان ويقول أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك. قلت في هذا الكلام معنى لطيف وهوأنه قد استعاذ بالله وسأله أن يجيزه برضاه من سخطه وبمعافاته من عقوبته والرضاء والسخط ضدان متقابلان، وكذلك المعافاة والمؤاخذة بالعقوبة فلما صار إلى ذكر ما لا ضد له وهو الله سبحانه استعاذ به منه لا غير، ومعنى ذلك الاستغفار من التقصير في بلوغ الواجب من حق عبادته والثناء عليه، وقوله لا أحصي ثناء عليك أي لا أطيقه ولا أبلغه وفيه إضافة الخير والشر معاً إليه سبحانه.

ومن باب أعضاء السجود

ومن باب أعضاء السجود قال أبو داود: حدثنا النُفيلي حدثنا زهير حدثنا أبو إسحاق عن التميمي الذي يحدث التفسير عن ابن عباس قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم من خلفه فرأيت بياض إبطيه وهو مُجَخٍّ قد فرج يديه. قوله مجخ يريد أنه قد رفع مؤخره ومال قليلا هكذا يفسر. قال أبو داود: حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا عباد بن راشد حدثنا الحسن حدثنا أحمد بن جزء صاحب النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سجد جافى عضديه عن جنبيه حتى نأوي له. قوله نأوي له معناه حتى نرق له قال أويت للرجل آوي له إذا أصابه شيء فرثيت له. ومن باب البكاء في الصلاة قال أبو داود: حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن سلام حدثنا يزيد بن هارون أنا حماد بن سلمة عن ثابت عن مطرف عن أبيه، قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وفي صدره أزيز كأزيز الرحاء من البكاء. قلت أزيز الرحاء صوتها وجرجرتها وفيه من الفقه أن البكاء في الصلاة لا يفسدها. ومن باب الفتح على الإمام قال أبو داود: حدثنا يزيد بن محمد حدثنا هشام بن إسماعيل حدثنا محمد بن شعيب حدثنا عبد الله بن العلاء بن زَبْر عن سالم بن عبد الله عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة فقرأ فيها فلُبّس عليه فلما انصرف قال لأُبَيّ صليت معنا قال نعم قال فما منعك.

ومن باب النظر في الصلاة

قلت معقول أنه إنما أراد به ما منعك أن تفتح عليَّ إذ رأيتني قد لبس عليّ، وفيه دليل على جواز تلقين الإمام. قال أبو داود: حدَّثنا عبد الوهاب بن نجدة حدثنا محمد بن يوسف الفريابي عن يونس بن أبي إسحاق، عَن أبي إسحاق عن الحارث عن علي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا علي لا تفتح علي الإمام في الصلاة. قلت إسناد حديث أُبي جيد وحديث عليّ هذا رواية الحارث وفيه مقال، وقال داود أبو إسحاق سمع من الحارث أربعة أحاديث ليس هذا منها. وقد روي عن علي رضي الله عنه نفسه أنه قال إذا استطعمكم الإمام فأطعموه من طريق أبي عبد الرحمن السلمي يريد أنه إذا تعايا في القراءة فلقنوه. واختلف الناس في هذه المسألة فروي عن عثمان بن عفان وابن عمر رضي الله عنهما أنهما كانا لا يريان به بأسا، وهو قول عطاء والحسن وابن سيرين ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق. وروي عن ابن مسعود الكراهة في ذلك وكرهه الشعبي، وكان سفيان الثوري يكرهه. وقال أبوحنيفة إذا استفتحه الإمام ففتحه عليه فإن هذا كلام في الصلاة. ومن باب النظر في الصلاة قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت صلى النبي صلى الله عليه وسلم في خَميصة لها أعلام فقال شغلتني أعلام هذه اذهبوا بها إلى أبي جهم وائتوني بأنبجانيته. الخميصة كساء مربع من صوف والانبجانية أراها منسوبة وهي إلى الغلظ لا علم لها.

ومن باب العمل في الصلاة

وفي الحديث دلالة على أنه إذا استثبت خطاً مكتوبا وهو في الصلاة لم تفسد صلاته وذلك لأنه يشغله علم الخميصة عن صلاته حتى يتأمله بالنظر إليه. ومن باب العمل في الصلاة قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن عامر بن عبد الله هو ابن الزبير عن عمرو بن سليم، عَن أبي قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي وهو حامل أُمامةَ بنت زينب، بنت النبي صلى الله عليه وسلم فإذا سجد وضعها وإذا قام حملها. قلت يشبه أن يكون هذا الصنيع من رسول الله لا عن قصد وتعمد له في الصلاة فلعل الصبية لطول ما ألفته واعتادته من ملابسته في غير الصلاة كانت تتعلق به حتى تلابسه وهو في الصلاة فلا يدفعها عن نفسه ولا يبعدها فإذا أراد أن يسجد وهي علىعاتقه وضعها بأن يحطها أو يرسلها إلى الأرض حتى يفرغ من سجوده فإذا أراد القيام وقد عادت الصبية إلى مثل الحالة الأولى لم يدافعها ولم يمنعها حتى إذا قام بقيت محمولة معه هذا عندي وجه الحديث. ولا يكاد يتوهم عليه أنه كان يعتمد لحملها ووضعها وإمساكها في الصلاة تارةً بعد أخرى لأن العمل في ذلك قد يكثر فيتكرر والمصلي يشتغل بذلك عن صلاته ثم ليس في شيء من ذلك أكثر من قضائها وطراً من لعب لا طائل له ولا فائدة فيه. وإذا كان علم الخميصة يشغله عن صلاته حتى يستبدل بها الانبجانية فكيف لا يشتغل عنها بما هذا صفته من الأمر وفي ذلك بيان ما تأولناه والله أعلم. وفي الحديث دلالة على أن لمس ذوات المحارم لا ينقض الطهارة وذلك أنها لا تلابسه هذه الملابسة إلاّ وقد تمسه ببعض أعضائها.

ومن باب رد السلام

وفيه دليل على أن ثياب الأطفال وأبدانهم على الطهارة ما لم يعلم نجاسة. وفيه أن العمل اليسير لا يبطل الصلاة، وفيه أن الرجل إذا صلى وفي كمه متاع أو على رقبته كارة ونحوها فإن صلاته مجزية. قال أبو داود: حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا علي بن المبارك حدثنا يحيى بن أبي كثير عن ضمضم بن جَوس، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقتلوا الأسودين في الصلاة الحية والعقرب. قلت فيه دلالة على جواز العمل اليسير في الصلاة وأن موالاة الفعل مرتين في حال واحدة لا تفسد الصلاة. وذلك أن قتل الحية غالباً إنما يكون بالضربة والضربتين فإذا تتابع العمل وصار في حد الكثرة بطلت الصلاة. وفي معنى الحية والعقرب كل ضرار مباح القتل كالزنابير والنشبان ونحوهما، ورخص عامة أهل العلم في قتل الأسودين في الصلاة إلاّ إبراهيم النخعي. والسنة أولى ما اتبع. ومن باب رد السلام قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا أبان حدثنا عاصم، عَن أبي وائل عن عبد الله قال قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فسلمت فلم يرد عليّ السلام فأخذني ما قَدُم وما حدُث فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة قال: إن الله يحدث من أمره ما شاء وإن الله قد أحدث أن لا تكلموا في الصلاة ورد عليّ السلام. قوله ما قدم وما حدث معناه الحزن والكآبة، يريد أنه قد عاوده قديم الأحزان واتصل بحديثها، واختلف الناس في المصلي يسلم عليه فرخصت طائفة في الرد وكان سعيد بن المسيب لا يرى بذلك بأساً، وكذلك الحسن البصري

وقتادة، وروي، عَن أبي هريرة أنه كان إذا سلم عليه وهو في الصلاة رده حتى يسمع، وروي عن جابر نحو من ذلك. وقال أكثر الفقهاء لا يرد السلام، وروي عن ابن عمر أنه قال يرد إشارة. وقال عطاء والنخعي وسفيان الثوري إذا انصرف من الصلاة رد السلام. وقال أبوحنيفة لا يرد السلام ولا يشير. قلت رد السلام في الصلاة قولاً ونطقاً محظور ورده بعد الخروج من الصلاة سنة، وقد رد النبي صلى الله عليه وسلم على ابن مسعود بعد الفراغ من صلاته السلام. والإشارة حسنة، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أشار في الصلاة، وقد رواه أبو داود في هذا الباب. قال أبو داود: وحدثنا يزيد بن خالد بن موهب وقتيبة بن سعيد أن الليث حدثهم عن بكير عن نايل صاحب العباء عن ابن عمر عن صهيب أنه قال: مررت برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فسلمت عليه فرد إشارة. قال قتيبة: ولا أعلمه إلاّ قال إشارة بأصبعه. قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان، عَن أبي مالك الأشجعي، عَن أبي حازم، عَن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا غِرار في صلاة ولا تسليم. قال أحمد، يَعني أن لا تسلم ولا يسلم عليك ويغرّر الرجل بصلاته فينصرف وهوفيها شاك. قلت أصل الغرار نقصان لبن الناقة، يقال غارت الناقة غراراً فهي مغار إذا نقص لبنها، فمعنى قوله لا غرارأي لا نقصان في التسليم. ومعناه أن ترد كما يسلم عليك وافيا لا نقص فيه مثل أن يقال السلام عليكم ورحمة الله فيقول

ومن باب تشميت العاطس

عليكم السلام ورحمة الله، ولا يقتصر على أن يقول السلام عليكم أو عليكم حسب، ولا ترد التحية كما سمعتها من صاحبك فتبخسه حقه من جواب الكلمة. وأما الغرار في الصلاة فهو على وجهين أحدهما أن لا يتم ركوعه وسجوده والآخر أن يشك هل صلى ثلاثا أو أربعا فيأخذ بالأكثر ويترك اليقين وينصرف بالشك، وقد جاءت السنة في رواية أبي سعيد الخدري أنه يطرح الشك ويبني على اليقين ويصلي ركعة رابعة حتى يعلم أنه قد أكملها أربعا. ومن باب تشميت العاطس قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن حجاج الصواف حدثنا يحيى بن أبي كثير عن هلال بن أبي ميمونة عن عطاء بن يسار عن معاوية بن الحكم السلمي، قال صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فعطس رجل من القوم فقلت يرحمك الله فرماني القوم بأبصارهم فقلت واثكل أماه ما شأنكم تنظرون إلي فجعلوا يضربون أيديهم على أفخاذهم فعلمت أنهم يصمتونني فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي وأمي ما ضربني ولا كهرني ولا سبني، ثم قال إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن أو كما قال قلت يا رسول الله إنا قوم حديث عهد بجاهلية وقد جاءنا الله بالإ سلام ومنا رجال يأتون الكهان، قال فلا تأتهم، قال: قلت ومنا رجال يتطيرون قال ذلك شيء يجدونه في صدورهم فلا يضرهم. قلت ومنا رجال يخطُّون قال كان نبى من الأنبياء يخط فمن وافق خطه فذلك. قلت جارية لي كانت ترعى غنيمات قبل أحد والجوانية إذ اطلعت عليها اطّلاعة فإذا الذئب قد ذهب بشاة منها وأنا من بني آدم آسف كما يأسفون لكني صككتها صكة فعظم ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت أفلا

أعتقها فقال آتيني بها، فقال فجئت بها فقال أين الله قالت في السماء قال من أنا قالت أنت رسول الله قال اعتقها فإنها مؤمنة. قلت في هذا الحديث من الفقه أن الكلام ناسيا في الصلاة لا يفسد الصلاة وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه أحكلم الصلاة وتحريم الكلام فيها، ثم لم يأمره بإعادة الصلاة التي صلاها معه وقد كان تكلم بما تكلم به ولا فرق بين من تكلم جاهلا بتحريم الكلام عليه، وبين من تكلم ناسيا لصلاته في أن كل واحد منهما قد تكلم والكلام مباح له عند نفسه. وقد اختلف العلماء في هذه المسألة فممن قال يبني على صلاته إذا تكلم ناسيا أو جاهلا الشعبي والأوزاعي ومالك والشافعي. وقال النخعي وحماد بن أبي سليمان وأصحاب الرأي إذا تكلم ناسيا استقبل الصلاة، وفرق أصحاب الرأي بين أن يتكلم ناسيا وبين أن يسلم ناسيا فلم يوجبوا عليه الإعادة في السلام كما أوجبوها عليه في الكلام. وقال الأوزاعي من تكلم في صلاته عامدا بشي يرد به إصلاح صلاته لم تبطل صلاته. وقال في رجل صلى العصر فجهر بالقرآن فقال رجل من ورائه إنها العصر لم تبطل صلاته. وفي الحديث دليل على أن المصلي إذا عطس فشمته رجل فإنه لا يجيبه. واختلفوا إذا عطس وهو في الصلاة هل يحمد الله فقالت طائفة يحمد الله. روي عن ابن عمر أنه قال: العاطس في الصلاة يجهر بالحمد؛ وكذلك قال النخعي وأحمد بن حنبل. وهو مذهب الشافعي إلاّ أنه يستحب أن يكون ذلك في نفسه. وقوله ما كهرني معناه ما انتهرني ولا أغلظ لي، وقيل الكهر استقبالك الإنسان

بالعبوس. وقرأ بعض الصحابة فأما اليتيم فلا تكهر. وقوله في الطيرة ذلك شيء عفي نفوسهم فلا يضرهم يريد أن ذلك شيء يوجد في النفوس البشرية وما يعتري الإنسان من قبل الظنون والأوهام من غير أن يكون له تأثير من جهة الطباع أو يكون فيه ضرر كما كان يزعمه أهل الجاهلية. وقوله وهنا رجال يخطون فإن الخط عند العرب فيما فسره ابن الأعرابي أن يأتي الرجل العراف وبين يديه غلام فيأمره بأن يخط في الرمل خطوطا كثيرة وهو يقول ابني عيان اسرعا البيان ثم يأمره أن يمحو منها اثنين اثنين ثم ينظر إلى آخر ما يبقى من تلك الخطوط فإن كان الباقي منها زوجا فهو دليل الفلح والظفر وإن كان فردا فهو دليل الخيبة واليأس. وقوله فمن وافق خطمفذلك يشبه أن يكون أراد به الزجر عنه وترك التعاطي له إذ كانوا لا يصادقون معنى خط ذلك النبي لأن خطه كان علما لنبوته وقد انقطعت نبوته فذهبت معالمها. وقوله آسف كما يأسفون معناه أغضب كما يغضبون ومن هذا قوله سبحانه {فلما آسفونا انتقمنا منهم} [الزخرف: 55] وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم أعتقها فإنها مؤمنة ولم يكن ظهر له من إيمانها أكثر من قوله حين سألها أين الله فقالت في السماء وسألها من أنا فقالت رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن هذا السؤال عن امارة الإيمان وسمة أهله وليس بسؤال عن أصل الإيمان وصفة حقيقته ولو أن كافرا يريد الانتقال من الكفر إلى دين الإسلام فوصف من الإيمان هذا القدر الذي تكلمت به الجارية لم يصر به مسلما حتى يشهد أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتبرى من دينه الذي كان يعتقده، وإنما هذا كرجل وامرأة يوجدان في بيت فيقال للرجل من هذه منك

ومن باب التأمين وراء الإمام

فيقول زوجتي وتصدقه المرأة فإنا نصدقهما في قولهما ولا نكشف عن أمرهما ولا نطالبهما بشرائط عقد الزوجية حتى إذا جاءانا وهما أجنبيان يريدان ابتداء عقد النكاح بينهما فإنا نطالبهما حينئذ بشرائط عقد الزوجية من إحضار الولي والشهود وتسمية المهر. كذلك الكافر إذا عرض عليه الإسلام لم يقتصر منه على أن يقول إني مسلم حنتى يصف الإيمان بكماله وشرائطه وإذا جاءنا من نجهل حاله بالكفر والإيمان فقال إني مسلم قبلناه، وكذلك إذا رأينا عليه أمارة المسلمين من هيئة وشارة ونحوهما حكمنا بإسلامه إلى أن يظهر لنا منه خلاف ذلك. ومن باب التأمين وراء الإمام قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن أنهما أخبراه، عَن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا أمن الإمام فأمنوا فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه. قال ابن شهاب فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول آمين. قلت فيه دليل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجهر بآمين ولولا جهره به لم يكن لمن يتحرى متابعته في التأمين على سبيل المداركة طريق إلى معرفته فدل أنه كان يجهر به جهرا يسمعه من وراءه، وقد روى وائل بن حجر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ ولا الضالين قال آمين ورفع بها صوته، ورواه أبو داود بإسناده في هذا الباب. قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن سُمي مولى أبي بكر، عَن أبي صالح السمان، عَن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا قال الإمام غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقولوا آمين.

ومن باب صلاة القاعد

قلت قد احتج به من ذهب إلى أنه لا يجهر بآمين، وقال ألا ترى أنه جعل وقت فراغ الإمام من قوله ولا الضالين وقتا لتأمين القوم فلو كان الإمام يقوله جهرا لاستغني بسماع قوله عن التحين له مراعاة وقته. وقته قلت وهذا قد كان يجوز أن يستدل به لو لم يكن ذلك مذكورا في حديث وائل بن حجر الذي تقدم ذكره وإذا كان كذلك لم يكن فيما استدلوا به طائل. وقد يكون معناه الأمر به والحض عليه إذا نسيه الإمام يقول لا تغفلوه إذا أغفله الإمام ولا تتركوه إن نسيه وأمنوا لأنفسكم لتحرزوا به الأجر. قلت وقوله إذا قال الإمام ولا الضالين فقولوا آمين معناه قولوا مع الإمام حتى يقع تأمينكم وتأمينه معاً، فأما قوله إذا أمن الإمام فأمنوا فإنه لا يخالفه ولا يدل على أنهم يؤخرونه عن وقت تأمينه وإنما هو كقول القائل إذا رحل الأمير فارحلوا يريد إذا أخذ الأمير في الرحيل فتهيؤوا للارتحال ليكون رحيلكم مع رحيله، وبيان هذا في الحديث الآخر أن الإمام يقول آمين والملائكة تقول آمين فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه فأحب أن يجتمع التأمينان في وقت واحد رجاء المغفرة. ومن باب صلاة القاعد قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يحيى حدثنا حسين المعلم عن عبد الله بن بريدة عن عمران بن حصين أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن صلاة الرجل قاعداً فقال: صلاته قائماً أفضل من صلاته قاعداً وصلاته قاعداً على النصف من صلاته قائماً وصلاته نائما على النصف من صلاته قاعداً. قوله صلاته قاعداً على النصف من صلاته قائماً وصلاته نائما على النصف من

صلاته قاعداً إنما هو في التطوع دون الفرض لأن الفرض لا جواز له قاعداً والمصلي يقدر على القيام وإذا لم يكن له جواز لم يكن لشيء من الأجر ثبات. وأما قوله وصلاته نائما على النصف من صلاته قاعداً فإني لا أعلم أني سمعته إلاّ في هذا الحديث ولا أحفظ عن أحد من أهل العلم أنه رخص في صلاة التطوع نائما كما رخصوا فيها قاعداً فإن صحت هذه اللفظة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم تكن من كلام بعض الرواة أدرجه في الحديث وقاسه على صلاة القاعد أو اعتبر بصلاة المريض نائما إذا لم يقدر على القعود فإن التطوع مضطجعا للقادر على القعود جائز كما يجوز أيضاً للمسافر إذا تطوع على راحلته، فأما من جهة القياس فلا يجوز له أن يصلي مضطجعا كما يجوز له أن يصلي قاعداً لأن القعود شكل من أشكال الصلاة وليس الاضطجاع في شيء من أشكال الصلاة. قال أبو داود: حدثنا محمد بن سليمان الأنباري حدثنا وكيع عن إبراهيم بن طَهمان عن حسين المعلم، عَن أبي بريدة عن عمران بن حصين قال كان بي الناصور فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً فان لم تستطع فعلى جنب. قلت وهذا في الفريضة دون النافلة أقام له القعود مقام القيام عند العجز عنه وأقام صلاته نائما عند العجز عن القعود مقام القعود. واختلفوا فيه إذا صلى نائما أي واقعا بالأرض كيف يصلي، فقال أصحاب الرأي يصلي مستلقيا ورجله إلى القبلة. وقال الشافعي يصلي على جنبه متوجها إلى القبلة على ما جاء في الحديث.

ومن باب كيف الجلوس في التشهد

ومن باب كيف الجلوس في التشهد قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا بشر بن المفضل عن عاصم بن كليب عن أبيه عن وائل بن حجر وذكر صلاة رسول الله وساق القصة إلى أن قال ثم جلس فافترش رجله اليسرى ووضع يده اليسرى على فخذه اليسرى وحد مرفقه الأيمن على فخذه اليمنى وقبض ثنتين وحلق حلقة ورأيته يقول هكذا وحلق بشر الإبهام والوسطى وأشار بالسبابة. قلت في هذا الحديث إثبات الإشارة بالسبابة، وكان بعض أهل المدينة لا يرى التحليق وقال يقبض أصابعه الثلاث ويشير بالسبابة، وكان بعضهم يرى أن يحلق فيضع أنمله الوسطى بين عقدي الإبهام وإنما السنة أن يحلق برؤوس الأنامل من الإبهام والوسطى حتى يكون كالحلقة المستديرة لا يفضل من جوانبها شيء. ومن باب التشهد قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن سليمان الأعمش حدثنا شقيق بن سلمة عن عبد الله بن مسعود قال: كنا إذا جلسنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة قلنا السلام على الله قبل عباده السلام على فلان وفلان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقولوا السلام على الله فإن الله هو السلام ولكن إذا جلس أحدكم فليقل (التحيات لله والصلوات والطيبات السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين) فإنكم إذا قلتم ذلك أصاب كل عبد صالح في السماء والأرض أو بين السماء والأرض (أشهد أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً عبده ورسوله) ثم ليتخير أحدكم من الدعاء أعجبه إليه فيدعو به. قلت قوله التحيات لله فيه إيجاب التشهد لأن الأمرعلى الوجوب.

وفي قوله عند الفراغ من التشهد ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه دليل على أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ليست بواجبة في الصلاة ولوكانت واجبة لم يخل مكانها منها ويخيره بين ما شاء من الأذكار والأدعية فلما وكل الأمر في ذلك إلى ما يعجبه منها بطل التعيين. وعلى هذا قول جماعة الفقهاء إلاّ الشافعي فإنه قال الصلاة على النبي في التشهد الأخير واجبة فإن لم يصل عليه بطلت صلاته؛ وقد قال إسحاق بن راهويه نحوا من ذلك أيضاً ولا أعلم للشافعي في هذا قدوة وأصحابه يحتجون في ذلك بحديث كعب بن عجرة وقد رواه أبو داود. قال أبو داود: نا حفص بن عمر أنا شعبة عن الحكم عن ابن أبي ليلى عن كعب بن عجرة قال قلنا أو قالوا يا رسول الله أمرتنا أن نصلي وأن نسلم عليك فأما السلام فقد عرفناه فكيف نصلي، قال: قولوا اللهم صل على محمد وآل محمد كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمد وآل محمد، كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد. قالوا فقوله أمرتنا أن نصلي عليك يدل على وجوبه لأن أمره لازم وطاعته واجبة. وقوله قولوا اللهم صل على محمد أمر ثان يحب ائتماره ولا يجوز تركه. قالوا وقد أمرالله بالصلاة عليه فقال: {يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً} [الأحزاب: 56] فكان ذلك منصرف إلى الصلاة لأنه إذا صرف إلى غيرها كان ندبا وإن صرف إليها كان فرضاً إذ لا خلاف أن الصلاة عليه غير واجبة في غير الصلاة فدل على وجوبها في الصلاة والله أعلم. واختلفوا في التشهد هل هو واجب أم لا فروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال من لم يتشهد فلا صلاة له، وبه قال الحسن البصري وإليه ذهب

الشافعي ومذهب مالك قريب منه. وقال الزهري وقتادة وحماد إن ترك التشهد حتى انصرف مضت صلاته. وقال أصحاب الرأي التشهد والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم مستحب غير واجب والقعود قدر التشهد واجب. واختلفوا فيما يتشهد به فذهب سفيان الثوري وأصحاب الرأي وأحمد بن حنبل إلى تشهد ابن مسعود الذي رويناه في هذا الباب. وذهب الشافعي إلى تشهد ابن عباس وقد رواه أبو داود. قال أبو داود: حدثنا قتيبة نا الليث، عَن أبي الزبيرعن سعيد بن جبير وطاوس عن ابن عباس أنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا التشهد كما يعلمنا القرآن فكان يقول (التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلاّ الله وأشهد أن محمداً رسول الله) . وذهب مالك إلى تشهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو التحيات لله الزاكيات لله الطيبات لله. قلت وأصحها إسنادا وأشهرها رجالا تشهد ابن مسعود وإنما ذهب الشافعي إلى تشهد ابن عباس للزيادة التي فيه، وهي قوله المباركات ولموافقته القرآن وهو قوله فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة. طيبة، ثم ان إسناده أيضاً جيد ورجاله مرضيون. قال أبو داود: حدثنا النفيلي حدثنا زهير حدثنا الحسن بن الحر عن القاسم بن مُخيمرة، قال أخذ علقمة بيدي فحدثني أن عبد الله بن مسعود

أخذ بيده وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيد عبد الله فعلمه التشهد في الصلاة فذكر مثل حديث الأعمش إذا قلت هذا أو قضيت هذا فقد قضيت صلاتك وإن شئت أن تقوم فقم وإن شئت أن تقعد فاقعد. قلت قد اختلفوا في هذا الكلام هل هو من قول النبي صلى الله عليه وسلم أو من قول ابن مسعود فإن صح مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ففيه دلالة على أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد غير واجبة. وقوله فقد قضيت صلاتك يريد معظم الصلاة من القراءة والذكر والخفض والرفع وإنما بقي عليه الخروج منها بالسلام فكنى عن التسليم بالقيام إذ كان القيام إنما يقع عقب السلام ولا يجوز أن يقوم بغير تسليم لأنه يبطل صلاته لقوله صلى الله عليه وسلم: تحريمها التكبير وتحليلها التسليم. قال أبو داود: حدثنا عمرو بن عون حدثنا أبو عوانة عن قتادة [ح] قال وحدثنا أحمد بن حنبل حدثنا يحيى بن سعيد حدثنا هشام عن قتادة عن يونس بن جبيرعن حِطان بن عبد الله الرقاشي قال صلى بنا أبو موسى الأشعري فلما جلس في صلاته قال رجل من القوم أقرت الصلاة بالبر والزكاة فلما انفتل أبو موسى أقبل على القوم فقال أيكم القائل كلمة كذا وكذا، قال فأرمّ القوم حتى قالها مرتين، قال فلعلك يا حطان أنت قائلها قال ما قلتها ولقد رهبت أن تبكعني إلى أن قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمنا صلاتنا فقال إذا كبر الإمام فكبروا وإذا قرأ {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} [الفاتحة: 7] فقولوا آمين يجبكم الله، وإذا كبر وركع فكبروا واركعوا فإن الإمام يركع قبلكم ويرفع قبلكم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فتلك بتلك. وإذا

قال سمع الله لمن حمده فقولوا اللهم ربنا لك الحمد يسمع الله لكم فإن الله قال على لسان نبيه سمع الله لمن حمده وإذا كبر وسجد فكبروا واسجدوا فإن الإمام يسجد قبلكم ويرفع قبلكم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلك بتلك. قوله فأرم القوم يريد أنهم سكتوا مطرقين، يقال أرمّ فلان حتى ما به نطق ومنه قول الشاعر: * يَردن والليل مرمُّ طائره * وقوله رهبت أن تبكعني بها أي تجبهني بها أو تبكتني أو نحو ذلك من الكلام. قال الأصمعي يقال بكعت الرجل بكعا إذا استقبلته بما يكره. وأخبرني أحمد بن إبراهيم بن مالك عن محمد بن حاتم المظفري قال: قال سليمان بن معبد قلت للأصمعي ما قول الناس الحق مغضَبة فقال ما بني وهل يسأل عن مثل هذا إلاّ رازم قل ما بُكِعَ أحد بالحق إلاّ اعزنزم له. وقوله فتلك بتلك فيه وجهان أحدهما أن يكون ذلك مردودا إلى قوله وإذا قرأ غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقولوا آمين يجبكم الله يريد ان كلمة آمين يستجاب بها الدعاء الذي تضمنه السورة أو الآية كأنه قال فتلك الدعوة مضمنة بتلك الكلمة أو معلقة بها أو ما أشبه ذلك من الكلام. والوجه الآخر أن يكون ذلك معطوفاً على ما يليه من الكلام وإذا كبر وركع فكبروا واركعوا يريد أن صلاتكم متعلقة بصلاة إمامكم فاتبعوه وائتموا به ولا تختلفوا عليه فتلك إنما تصح وتثبت بتلك. وكذلك الفصل الآخر وهو قوله وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا لك الحمد يسمع الله لكم إلى أن قال فتلك بتلك يريد والله أعلم أن الاستجابة مقرونة بتلك الدعوة

ومن باب التصفيق في الصلاة

وموصولة بها وقوله سمع الله لمن حمده معناه استجاب الله دعاء من حمده، وهذا من الإمام دعاء للمأموم وإشارة إلى قوله ربنا لك الحمد فانتظمت الدعوتان إحداهما بالأخرى فكان ذلك بيان قوله فتلك بتلك. ومعنى قوله يسمع الله لكم أي يستجيب لكم ومن هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم إني أعوذ بك من قول لا يسمع أي لا يستجاب. قال أبو داود: حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي حدثنا وكيع عن سفيان عن عاصم، عَن أبي عثمان عن بلال أنه قال يا رسول الله لاتسبقني بآمين. قلت يبشبه أن يكون معناه أن بلالا كان يقرأ بفاتحة الكتاب في السكتة الأولى من السكتتين فربما بقي عليه الشيء منها وقد فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من قراءة فاتحة الكتاب فاستمهله بلال في التأمين مقدار ما يتم فيه بقية السورة حتى يصادف تأمينه تأمين رسول الله صلى الله عليه وسلم فينال بركته معه والله أعلم. وقد تأوله بعض أهل العلم على أن بلالا كان يقيم في الموضع الذي يؤذن فيه وراء الصفوف فإذا قال قد قامت الصلاة كبر النبي صلى الله عليه وسلم فربما سبقه ببعض ما يقرؤه فاستمهله بلال قدر ما يلحق القراءة والتأمين. ومن باب التصفيق في الصلاة قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك، عَن أبي حازم عن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب إلى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم وحانت الصلاة فجاء المؤذن إلى أبي بكر فقال أتصلي بالناس فأقيم فقال نعم فصلى أبو بكر فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس في الصلاة فتخلص حتى وقف في الصف فصفق الناس وكان أبو بكر لا يلتفت في الصلاة فلما أكثر الناس التصفيق التفت فرأى

رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن امكث مكانك فرفع أبو بكر يديه فحمد الله على ما أمره رسول الله من ذلك، ثم استأخر أبو بكر حتى استوى في الصف وتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى فلما انصرف قال يا أبا بكر ما منعك أن تثبت إذ أمرتك، قال أبو بكر ما كان لابن أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما لي أراكم أكثرتم التصفيح من نابه شيء في صلاته فليُسبح فإنما التصفيح للنساء. قلت في هذا الحديث أنواع من الفقه منها تعجيل الصلاة في أول وقتها ألا ترى أنهم لما حانت الصلاة ورسول الله غائب لم يؤخروها انتظارا له. ومنها أن الالتفات في الصلاة لا يبطلها مالم يتحول المصلي عن القبلة بجميع بدنه ومنها أنه لم يأمرهم بإعادة الصلاة لما صفقوا بأيديهم. وفيه أن التصفيق سنة النساء في الصلاة وهومعنى التصفيح المذكور في آخر الحديث وهو أن يضرب بظهور أصابع اليمنى صفح الكف من اليسرى. ومنها أن تقدم المصلي عن مصلاه وتأخره عن مقامه لحاجة تعرض له غيرمفسد صلاته ما لم يطل ذلك. ومنها إباحة رفع اليدين في الصلاة والحمد لله والثناء عليه في إضعاف القيام عندما يحدث للمرء من نعمة لله ويتجدد له من صنع. وفيه جواز الصلاة بإمامين أحدهما بعد الآخر. ومنها جواز الائتمام بصلاة من لم يلحق أول الصلاة. وفيه أن سنة الرجال عندما ينوبهم شيء في الصلاة التسبيح. وفيه أن المأموم إذا سبح يريد بذلك إعلام الإمام لم يكن ذلك مفسدا لصلاته.

ومن باب الاختصار في الصلاة

ومن باب الاختصار في الصلاة قال أبو داود: حدثنا يعقوب بن كعب الأنطاكي حدثنا محمد بن سلمة عن هشام عن محمد، عَن أبي هريرة قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الاختصار في الصلاة. قال أبو داود هو أن يضع يده على خاصرته في الصلاة ويقال إن ذلك من فعل اليهود وقد روي في بعض الأخبار أن إبليس أهبط إلى الأرض كذلك. وهوشكل من أشكال أهل المصائب يضعون أيديهم على الخواصر إذا قاموا في المآتم وقيل هو أن يمسك بيده مخصرة أي عصا يتوكأ عليها. ومن باب مسح الحصا قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا سفيان عن الزهري، عَن أبي الأحوص شيخ من أهل المدينة أنه سمع أبا ذر يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإن الرحمة تواجهه فلا يمسح الحصا. قلت يريد بمسح الحصا تسويته حتى يسجد عليه وكان كثير من العلماء يكرهون ذلك. وكان مالك بن أنس لا يرى به بأسا ويسوي الحصا في صلته غير مرة. ومن باب تخفيف القعود قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن سعد بن إبراهيم، عَن أبي عبيدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم كان في الركعتين الأوليين كأنه على الرضف قال قلنا حتى يقوم قال حتى يقوم.

ومن باب السهو

الرضف الحجارة المحماة واحدتها رضفة، ومنه المثل خذ من الرضفة ما عليها. ومن باب السهو قال أبو داود: حدثنا محمد بن عبيد حدثنا حماد عن أيوب عن محمد، عَن أبي هريرة قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشي الظهر أو العصر قال فصلى بنا ركعتين ثم سلم ثم قام إلى خشبة في مقدم المسجد ووضع يده عليها يعرف في وجهه الغضب ثم خرج سرعان الناس وهم يقولون قصرت الصلاة وفي الناس أبو بكر وعمر فهاباه أن يكلماه فقام رجل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسميه ذا اليدين فقال يا رسول الله أنسيت أم قصرت الصلاة قال لم أنس ولم تقصر الصلاة قال بلى نسيت يا رسول الله فأقبل رسول الله على القوم فقال أصدق ذو اليدين فأوموا أي نعم فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مقامه فصلى الركعتين الباقيتين ثم سلم ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول ثم رفع وكبر، قال فقيل لمحمد سلم في السهو؛ قال لم أحفظ من أبي هريرة ولكن نبئت أن عمران بن حصين قال ثم سلم. قلت سرعان الناس مفتوحة السين والراء وهم الذين ينفتلون بسرعة ويقال لهم أيضاً سرعان بكسر السين وسكون الراء وهو جمع سريع كقوله رعيل ورعلان وأما قولهم سرعان ما فعلت فالراء منه ساكنة. وفي الحديث دليل على أن من قال لم أفعل كذا وكان قد فعله ناسياً أنه غير كاذب. وفيه من الفقه أن من تكلم ناسيا في صلاته لم تفسد صلاته، وكذلك من تكلم غير عالم بأنه في الصلاة وذلك أن رسول الله كان عنده أنه قد أكمل صلاته فتكلم على أنه خارج من الصلاة.

وأما ذو اليدين ومراجعته النبي صلى الله عليه وسلم فأمره متأول على هذا المعنى أيضاً لأن الزمان كان زمان نسخ وتبديل وزيادة في الصلاة ونقصان فجرى منه الكلام في حال قد يتوهم فيها أنه خارج عن الصلاة لا مكان وقوع النسخ ومجيء القصر بعد الإتمام، وقد دفع قوم هذا الحديث وزعموا أنه منسوخ وأنه إنما كان هذا قبل تحريم الكلام في الصلاة ولولا ذلك لم يكن أبو بكر وعمر وسائر الصحابة وقد علموا أن الصلاة لم تقصر ليتكلموا وقد بقي عليهم من الصلاة شيء. قال الشيخ أما النسخ فلا موضع له ههنا لأن نسخ الكلام كان بمكة وحدوث هذا الأمرإنما كان بالمدينة لأن روية أبو هريرة وهو متأخر الإسلام. وقد رواه عمران بن حصين وهجرته متأخرة. فأما كلام أبي بكر وعمر ومن معهما، ففي رواية حماد عن زيد عن أيوب وهو الذي رواه أبو داود أنهم أوموا أي نعم فدل ذلك على أن رواية من روى أنهم قالوا نعم إنما هو على المجاز والتوسع في الكلام كما يقول الرجل، قلت بيدي وقلت برأسي وكقول الشاعر: * قالت له العينان سمعاً وطاعة * ولو صح أنهم قالوه بألسنتهم لم يكن ذلك جائزا لأنه لم ينسخ من الكلام ما كان جوابا لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى {استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم} [الأنفال: 24] وقد مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي بن كعب وهو يصلي فدعاه فلم يجبه ثم اعتذر إليه وقال له كنت في الصلاة فقال ألم تسمع الله تعالى يقول {استجيبوا لله وللرسول} فدل على أن الكلام في الصلاة إذا كان استجابة لرسول الله غير منسوخ.

ومن باب إذا صلى خمسا

وممن قال إن الكلام ناسيا في الصلاة لا يقطع الصلاة مالك والأوزاعي والشافعي. وقد روي ذلك عن ابن عباس وابن الزبير، وكذلك قال عطاء، وقال النخعي وحماد وأصحاب الرأي الكلام في الصلاة ناسيا يقطع الصلاة كالعمل سواء. وفي الحديث دليل على أنه إذا سها في صلاة واحدة مرات أجزأه لجميعها سجدتان وذلك أنه صلى الله عليه وسلم سها فلم يصل ركعتين وتكلم ناسيا ثم اقتصر على سجدتين وهو قول عامة الفقهاء. وحكي عن الأوزاعي والماجشون صاحب مالك أنهما قالا: يلزمه لكل سهو سجدتان. ومن باب إذا صلى خمسا قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر ومسلم بن إبراهيم المعنى قالا نا شعبة عن الحكم عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال صلى رسول الله الظهر خمسا فقيل له أزيد في الصلاة فقال وما ذاك قال صليت خمسا فسجد سجدتين بعدما سلم. قلت اختلف أهل العلم في هذا الباب فقال بظاهر هذا الحديث جماعة منهم علقمة والحسن وعطاء والنخعي والزهري ومالك والأوزاعي والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه. وقال سفيان الثوري إن كان لم يجلس في الرابعة أحب إلي أن يعيد. وقال أبو حنيفة إن كان لم يقعد في الرابعة قدر التشهد وسجد في الخامسة فصلاته فاسدة وعليه أن يستقبل الصلاة. وإن كان قد قعد في الرابعة قدر التشهد فقد تمت له الظهر والخامسة تطوع وعليه أن يضيف إليها ركعة ثم يتشهد ويسلم ويسجد سجدتي السهو وتمت صلاته.

قلت متابعة السنة أولى واسناد هذا الحديث إسناد لا مزيد عليه في الجودة من إسناد أهل الكوفة. وقال بعض من صار إلى ظاهر الحديث لا يخلو من أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قعد في الرابعة أو لو يكن قعد، فإن كان قعد فيها فإنه لم يضف إليها السادسة وإن كان لم يقعد في الرابعة فإنه لم يستأنف الصلاة ولكن احتسب بها وسجد سجدتين للسهو فعلى الوجهين جميعا يدخل الفساد على أهل الكوفة فيما قالوه والله أعلم. ومن أبواب السهو قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة نا جربر عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب وليتم عليه ثم يسلم ويسجد سجدتين. قال أبو داود: حدثنا محمد بن العلاء نا أبو خالد عن ابن عجلان عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار، عَن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا شك أحدكم في صلاته فليلق الشك وليبن على اليقين فإذا استيقن التمام سجد سجدتين فإن كانت صلاته تامة كانت الركعة نافلة وإن كانت ناقصة كانت الركعة تماما لصلاته وكانت السجدتان مرغمتي الشيطان. قال أبو داود: وحدثنا القعنبي عن مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر صلى ثلاثا أو أربعا فليصل ركعة ويسجد سجدتين وهوجالس قبل التسليم فإن كانت الركعة التي صلاها خامسة شفعها بها وإن كانت رابعة فالسجدتان ترغيم الشيطان. قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن ابن شهاب، عَن أبي سلمة، عَن أبي

هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن أحدكم إذا قام يصلي جاءه الشيطان فلبس عليه حتى لا يدري كم صلى فإذا وجد أحدكم فليسجد سجدتين وهو جالس. قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن ابن شهاب عن عبد الرحمن الأعرج عن عبد الله بن بحينة أنه قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين ثم قام فلم يجلس فقام الناس معه فلما قضى صلاته وانتظرنا تسليمه كبر فسجد سجدتين وهو جالس قبل التسليم ثم سلم. قلت روى أبو داود في أبواب السهو عدة أحاديث في أكثر أسانيدها مقال والصحيح منها والمعتمد عند أهل العلم هذه الأحاديث الخمسة التي ذكرناها. فأما حديث أبي هريرة فهو حديث مجمل ليس فيه أكثر من أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بسجدتين عند الشك في الصلاة وليس فيه بيان ما يصنعه من شيء سوى ذلك ولا فيه بيان موضع السجدتين من الصلاة وحصل الأمر على حديث ابن مسعود وأبي سعيد الخدري، وحديث ذي اليدين وابن بحينة وعنها تشعبت مذاهب الفقهاء وعليها بنيت. فأما حديث ابن مسعود وهو أنه يتحرى في صلاته ويسجد سجدتين بعد السلام فهو مذهب أصحاب الرأي. ومعنى التحري عندهم غالب الظن وأكبر الرأي كأنه شك في الرابعة من الظهر هل صلاها أم لا فإن كان أكبر رأيه أنه لم يصلها أضاف إليها أخرى ويسجد سجدتين بعد السلام وإن كان أكبر رأيه أنه في الرابعة أتمها ولم يضف إليها ركعة وسجد سجدتي السهو بعد السلام وهذا إذا كان يعتريه الشك في الصلاة مرة بعد أخرى فإن كان ذلك أول ما سها فإن عليه أن يستأنف الصلاة عندهم.

وأما حديث ابن بحينة وذي اليدين فإن مالكا اعتبرهما جميعاً وبنى مذهبه عليهما في الوهم إذا وقع في الصلاة فإن كان من زيادة زادها في صلب الصلاة سجد السجدتين بعد السلام لأن في خبر ذي اليدين أن النبي صلى الله عليه وسلم سلم عن ثنتين وهو زيادة في الصلاة وإن كان من نقصان سجدهما قبل السلام لأن في حديث ابن بحينة أن النبي صلى الله عليه وسلم قام عن ثنتين ولم يتشهد وهذا نقصان في الصلاة. وذهب أحمد بن حنبل إلى أن كل حديث منها يتأمل صفته ويستعمل في موضعه ولا يحمل على الخلاف فكان يقول ترك الشك على وجهين أحدهما إلى اليقين والآخر إلى التحري. فمن رجع إلى اليقين فهو أن يلقى الشك ويسجد سجدتي السهو قبل السلام على حديث أبي سعيد الخدري. وإذا رجح إلى التحري وهو أكبر الوهم سجد سجدتي السهو بعد التسليم على حديث ابن مسعود. فأما مذهب الشافعي فعلى الجمع بين الأخبار ورد المجمل منها إلى المفسر والتفسير إنما جاء في حديث أبي سعيد الخدري وهو قوله فليلق وليبن على اليقين وقوله إذا لم يدر أثلاثا صلى أو أربعا فليصل ركعة ويسجد سجدتين وهوجالس قبل السلام. وقوله فإن كانت الركعة التي صلاها خامسة شفعها بهاتين، وإن كانت رابعة فالسجدتان ترغيم للشيطان. وهذه فصول في الزيادات حفظها أبو سعيد الخدري دون غيره من الصحابة، وقبول الزيادات واجب فكان المصير إلى حديثه أولى. ومعنى التحري المذكور في حديث ابن مسعود عند أصحاب الشافعي هو البناء على اليقين على ما جاء تفسيره في حديث أبي سعيد الخدري. وحقيقة التحري هو طلب أحرى الأمرين وأولاهما بالصواب وأحراهما ما جاء

في حديث الخدري من البناء على اليقين لما كان فيه من كمال الصلاة والاحتياط لها، ومما يدل على أن التحري قد يكون بمعنى اليقين قوله تعالى {فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا} [الجن: 14] . وأما حديث ذي اليدين وسجوده فيها بعد السلام فإن ذلك محمول في مذهبهم على السهو لأن تلك الصلاة قد نسبت إلى السهو فجرى حكم آخرها على مشاكلة حكم ما قد تقدم منها. وقد زعم بعضبهم أنه منسوخ بخبر ابي سعيد. وقد روي عن الزهري أنه قال كلٌ فعلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلاّ أن تقديم السجود قبل السلام آخر الأمرين، وقد ضعف حديث أبي سعيت الخدري قوم زعموا أن مالكا أرسله عن عطاء بن يسار ولم يذكر فيه أبا سعيد الخدري، وهذا مما لايقدح في صحته، ومعلوم عن مالك أنه يرسل الأحاديث وهي عنده مسنده وذلك معروف من عادته وقد رواه أبو داود من طريق ابن عجلان عن زيد بن أسلم وذكر أن هشام بن سعد أسنده فبلغ به أبا سعيد. وقد أسنده أيضاً سليمان بن بلال ثناه حمزة بن الحارث ومحمد بن أحمد بن زيرك قالا: حَدَّثنا عباس الدوري، قال: حَدَّثنا موسى بن داود حدثنا سليمان بن بلال عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار، عَن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى أثلاثا أم أربعا فليطرح الشك وليبن على ما استيقن ثم ليسجد سجدتين وهو جالس قبل أن يسلم فإن كان صلى خمسا كان شفعا وإن كان صلى تمام الأربع كانت ترغيما للشيطان. قال الشيخ ورواه ابن عباس أيضاً حدثونا به عن محمد بن إسماعيل الصايغ، قال: حَدَّثنا ابن قعنب حدثنا عبد العزيز بن محمد عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار

ومن باب من صلى لغير القبلة ثم علم

عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر ثلاثا صلى أم أربعا فليقم فليصل ركعة ثم يسجد سجدتين وهوجالس قبل السلام فإن كانت الركعة التي صلاها خامسة شفعها بهاتين وإن كانت رابعة فالسجدتان ترغيم للشيطان. قلت وفي هذا الحديث بيان فساد قول من ذهب فيمن صلى خمسا إلي لأنه يضيف إليها سادسة إن كان قد قعد في الرابعة. واعتلوا بأن النافلة لا تكون ركعة، وقد نص فيه من طريق ابن عجلان على أن تلك الركعة تكون نافلة ثم لم يأمره بإضافة أخرى إليها. ومن باب من صلى لغير القبلة ثم علم قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل نا حماد عن ثابت وحميد عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يصلون نحو بيت المقدس فلما نزلت هذه الآية {فول وجهك شطر المسجد الحرام} [البقرة: 144] الآية فمر رجل من بني سلمة فإذا هم ركوع في صلاة الفجر نحو بيت المقدس فقال ألا إن القبلة قد حولت إلى الكعبة مرتين قال فمالوا كما هم ركوعا إلى الكعبة. قلت فيه من العلم أن ما مضى من صلاتهم كان جائزا ولولا جوازه لم يجز البناء عليه. وفيه دليل على أن كل شيء له أصل صحيح في التعبد ثم طرأ عليه الفساد

باب ومن أبواب الجمعة

قبل أن يعلم صاحبه به فإن الماضي منه صحيح، وذلك مثل أن يجد المصلي بثوبه نجاسة لم يكن علمها حتى صلى ركعة فإنه إذا رأى النجاسة ألقاها عن نفسه وبنى على ما مضى من صلاته. وكذلك هذا في المعاملات فلو وكل رجل رجلا فباع الوكيل واشترى ثم عزله بعد أيام فإن عقوده التي عقدها قبل بلوغ الخبر إليه صحيحة. وفيه دليل على وجوب قبول أخبار الآحاد. باب ومن أبواب الجمعة قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن يزيد بن عبد الله بن الهاد عن محمد بن إبراهيم، عَن أبي سلمة، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، وساق الحديث إلى أن قال وما من دابة إلاّ وهي مُسيخة يوم الجمعة من حين تصبح حتى تطلع الشمس شفقاً من الساعة إلاّ الجن والإنس. قوله مسيخة معناه مصغية يقال أصاخ وأساخ بمعنى واحد. قال أبو داود: حدثنا هارون بن عبد الله نا حسين بن علي عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عَن أبي الأشعث الصنعاني عن أوس بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أكثروا عليّ من الصلاة فإن صلاتكم معروضة عليّ قالوا يا رسول الله وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت قال إن الله تعالى حرم على الأرض أجساد الأنبياء. قوله أرمت معناه بليت وأصله أرممتَ أي صرت رميماً فحذفوا إحدى الميمين

ومن باب جمعة المملوك والمرأة

وهي لغة لبعض العرب كما قالت ظلت أفعل كذا أي ظللت وكما قيل أحسْت بمعنى أحسست في نظائر لذلك، وقد غلط في هذا بعض من يفسر القرآن برأيه ولا يعبأ بقول أهل التفسير ولا يعرج عليهم لجهله، فقال إن قوله فظلتم تفكهون من ظال يظال وهذا شيء اختلقه من قبل نفسه لم يسبق إليه. قال أبو داود: حدثنا إبراهيم بن موسى أخبرنا عيسى، حَدَّثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر حدثني عطاء الخراساني عن مولى امرأته أم عثمان قال سمعت عليا رضي الله عنه على منبر الكوفة يقول إذا كان يوم الجمعة غدت الشياطين براياتها إلى الأسواق فيرمون الناس بالبرايث أو الربايث وذكر الحديث. قلت البرايث ليس بشيء إنما هو الربائث وأصله من ربّثت الرجل عن حاجته إذا حبسته عنها، واحدتها ربيثة، وهي تجري مجرى العلة، والسبب الذي يعوقك عن وجهك الذي تتوجه إليه. وقوله يرمون الناس إنما هو يربثون الناس كذلك روي لنا في غير هذا الحديث. ومن باب جمعة المملوك والمرأة قال أبو داود:، حَدَّثنا عباس بن عبد العظيم حدثني إسحاق بن منصور، حَدَّثنا هُريم عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إلاّ أربعة عبد مملوك أو امرأة أو صبي أو مريض. قلت أجمع الفقهاء على أن النساء لا جمعة عليهن. فأما العبيد فقد اختلفوا فيهم فكان الحسن وقتادة يوجبان على العبد الجمعة إذا كان مخارجا، وكذلك قال الأوزاعي وأحسب أن مذهب داود إيجاب الجمعة عليه.

ومن باب في الجمعة في القرى

وقد روي عن الزهري أنه قال: إذا سمع المسافر الأذان فليحضر الجمعة، وعن إبراهيم النخعي نحو من ذلك. وفي الحديث دلالة على أن فرض الجمعة من فروض الأعيان وهو ظاهر مذهب الشافعي؛ وقد علق القول فيه وقال أكثر الفقهاء هي من فروض الكفاية وليس إسناد هذا الحديث بذلك، وطارق بن شهاب لا يصح له سماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلاّ أنه قد لقي النبي صلى الله عليه وسلم. ومن باب في الجمعة في القرى قال أبو داود:، حَدَّثنا قتيبة بن سعيد، حَدَّثنا ابن إدريس عن محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك وكان قائد أبيه بعدما ذهب بصره عن أبيه كعب بن مالك أنه كان إذا سمع النداء يوم الجمعة ترحم على أسعد بن زرارة فقلت له إذا سمعت النداء ترحمت لأسعد قال لأنه أول من جمّع بنا في هزم النَبيتِ من حَرّة بني بَياضةَ في نَقيع يقال له نقيع الخَضِمات قلت له كم كنتم يومئذ قال أربعون. النقيع بطن من الأرض يستنقع فيه الماء مدة فإذا نضب الماء أنبت الكلأ

ومنه حديث عمر رضي الله عنه أنه حمى النقيع لخيل المسلمين، وقد يصحف أصحاب الحديث0 فيروونه البقيع بالباء والبقيع بالمدينة موضع القبور. وفي الحديث من الفقه أن الجمعة جوازها في القرى كجوازها في المدن والأمصار لأن حرة بني بياضة يقال قرية على ميل من المدينة، وقد استدل به الشافعي على أن الجمعة لا تجزىء بأقل من أربعين رجلا أحرارا مقيمين وذلك أن هذه الجمعة كانت أول ما شرع من الجمعات فكان جميع أوصافها معتبرة فيها لأن ذلك بيان لمجمل واجب، وبيان المجمل الواجب واجب. وقد روي عن عمر بن عبد العزيز اشتراط عدد الأربعين في الجمعة، وإليه ذهب أحمد بن حنبل وإسحاق إلاّ أن عمر قد اشترط مع عدد الأربعين أن يكون فيها وال قال وليس الوالي من شرط الشافعي. وقال مالك إذا كان جماعة في القرية التي بيوتها متصلة وفيها سوق ومسجد يجمع فيه وجبت عليهم الجمعة ولم يذكر عددا محصورا ومذهبه في الوالي كمذهب الشافعي. وقال أصحاب الرأي لا جمعة إلاّ في مصر جامع وتنعقد عندهم بأربعة. وقال الأوزاعي إذا كانوا ثلاثة صلوا جمعة إذا كان فيهم الوالي. قال أبو ثور هي كباقي الصلوات في العدد. قال أبو داود:، حَدَّثنا محمد بن المصفى، حَدَّثنا بقية، حَدَّثنا شعبة عن المغيرة الضبي عن عبد العزيز بن رفيع، عَن أبي صالح، عَن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال قد اجتمع في يومكم هذا عيدان فمن شاء أجزأه من الجمعة وإنا مُجَمّعون. قال أبو داود:، حَدَّثنا يحيى بن خلف، حَدَّثنا أبوعاصم عن ابن جريج قال قال عطاء اجتمع يوم جمعة ويوم فطر على عهد ابن الزبير فقال عيدان اجتمعا

ومن باب في اللبس يوم الجمعة

في يوم واحد فجمعهما جميعا صلاهما ركعتين بكرة لم يزد عليهما حتى صلى العصر. قلت في إسناد حديث أبي هريرة مقال ويشبه أن يكون معناه لو صح أن يكون المراد بقوله فمن شاء أجزأه من الجمعة أي عن حضور الجمعة ولا يسقط عنه الظهر. وأما صنيع ابن الزبير فإنه لا يجوز عندي أن يحمل إلاّ على مذهب من يرى تقديم صلاة الجمعة قبل الزوال. وقد روي ذلك عن ابن مسعود. وروي، عَن أبي عباس أنه بلغه فعل ابن الزبير فقال أصاب السنة. وقال عطاء كل عيد حين يمتد الضحى الجمعة والأضحى والفطر. وحكى ابن إسحاق بن منصور عن أحمد بن حنبل أنه قيل له الجمعة قبل الزوال أو بعده قال إن صليت قبل الزوال فلا أعيبه، وكذلك قال إسحاق فعلى هذا يشبه أن يكون ابن الزبير صلى الركعتين على أنهما جمعة وجعل العيد في معنى التبع لها. ومن باب في اللبس يوم الجمعة قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمرأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى حلة سِيراء عند باب المسجد تباع فقال يا رسول الله لو اشتريت هذه فلبستها يوم الجمعة وللوفد إذا قدموا عليك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة. قلت الحلة السيراء هي المضلعة بالحرير التي فيها خطوط وهو الذي يسمونه المسير وإنما سموه مسيرا للخطوط التي فيه كالسيور، وقيل حلة سيراء كما قالوا ناقة عشراء. قلت وفي معناه العتابي وما أشبهه من الثياب لا يجوز لبس شيء من ذلك واستعماله للرجال.

ومن باب التحلق يوم الجمعة

ومن باب التحلق يوم الجمعة قال أبو داود: حدثنا مسدد نا يحيى عن ابن عجلان عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن البيع والشراء في المسجد وأن تنشد فيه ضالة وأن ينشد فيه شعر ونهى عن الحلق قبل الصلاة يوم الجمعة. الحلق مكسورة الحاء مفتوحة اللام جماعة الحلقة وكان بعض مشايخنا يرونه أنه نهى عن الحَلْق بسكون اللام وأخبرني أنه بقي أربعين سنة لا يحلق رأسه قبل الصلاة يوم الجمعة، فقلت له إنما هو الحلق جمع الحلقة؛ وإنما كره الاجتماع قبل الصلاة للعلم والمذاكرة وأمر أن يشتغل بالصلاة وينصت للخطبة والذكر فإذا فرغ منها كان الاجتماع والتحلق بعد ذلك فقال قد فرجت عني وجزاني خيراً وكان من الصالحين رحمه الله. ومن باب اتخاذ المنبر قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد نا يعقوب بن عبد الرحمن حدثني أبو حازم بن دينار عن سهل بن سعد الساعدي قال أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فلانة امرأة قد سماها سهل أن مُري غلامك النجار يعمل لي أعواداً أجلس عليهن إذا كلمت الناس فأمرته فعملها من طرفاء الغابة، قال فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم كبر عليها ثم ركع وهوعليها ثم نزل القهقرى فسجد في أصل المنبر ثم عاد فلما فرغ أقبل على الناس فقال أيها الناس إنما صنعت هذا لتأتموا ولتعلموا صلاتي. قلت: الغابة الغيضة وجمعها غابات وغاب. ومنه قولهم: ليث غاب، قال الشاعر: وكنا كالحريق أصاب غابا ... فتخبو ساعة وتهب ساعا وفيه من الفقه جواز أن يكون مقام الإمام أرفع من مقام المأموم إذا كان

ومن باب الاحتباء والإمام يخطب

ذلك لأمر يعلمه الناس ليقتدوا به، وفيه أن العمل اليسير لا يقطع الصلاة وإنما كان المنبر مرقاتين فنزوله وصعوده خطوتان وذلك في حد القلة، وإنما نزل القهقرى لئلا يولي الكعبة قفاه. فأما إذا قرأ الإمام السجدة وهو يخطب يوم الجمعة فإنه إذا أراد النزول لم يقهقر ونزل مقبلا على الناس بوجهه حتى يسجد وقد فعله عمر بن الخطاب. وعند الشافعي أنه إن أحب أن يفعله فعل فإن لم يفعله أجزأه. وقال أصحلمب الرأي ينزل ويسجد، وقال مالك لا ينزل ولا يسجد ويمر في خطبته. ومن باب الاحتباء والإمام يخطب قال أبو داود: حدثنا محمد بن عوف نا عبد الله بن يريد المقري نا سعيد بن أبي أيوب، عَن أبي مرحوم عن سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الحبوة يوم الجمعة والإمام يخطب. قلت: إنما نهى عن الاحتباء في ذلك الوقت لأنه يجلب النوم ويعرض طهارته للانتقاض فنهى عن ذلك وأمربالاستيفاز في القعود لاستماع الخطبة والذكر. وفيه دليل على أن الاستناد يوم الجمعة في ذلك المقام مكروه لأنه بعلة الاحتباء أو أكثر. ومن باب استئذان المحدث الإمام قال أبو داود: حدثنا إبراهيم بن الحسن المَصِيصي نا حجاج قال: قال ابن جريج أخبرني هشام بن عروة عن عروة عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أحدث أحدكم في صلاته فليأخذ بأنفه ثم لينصرف. قلت إنما أمره أن يأخذ بأنفه ليوهم القوم أن به رعافا.

ومن باب إذا دخل والإمام يخطب

وفي هذا باب من الأخذ بالأدب في ستر العورة واخفاء القبيح من الأمر والتورية بما هو أحسن منه وليس يدخل في هذا الباب الرياء والكذب، وإنما هو من باب التجمل واستعمال الحياء وطلب السلامة من الناس. ومن باب إذا دخل والإمام يخطب قال أبو داود: حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد عن عمرو بن دينار عن جابر أن رجلا جاء يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب قال أصليت يا فلان، قال لا قال قم فاركع. قلت فيه من الفقه جواز الكلام في الخطبة لأمر يحدث وإن ذلك لا يفسد الخطبة وفيه أن الداخل المسجد والإمام يخطب لا يقعد حتى يصلي ركعتين. وقال بعض الفقهاء إذا تكلم أعاد الخطبة ولا يصلي الداخل والإمام يخطب والسنة أولى ما اتبع. ومن باب من أدرك من الجمعة ركعة قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن ابن شهاب، عَن أبي سلمة، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة. قلت دلالته أنه إذا لم يدرك تمام الركعة فقد فاتته الجمعة ويصلي أربعا لأنه إنما جعله مدركا للجمعة بشرط إدراكه الركعة فدلالة الشرط تمنع من كونه مدركا لها بأقل من الركعة، وإلى هذا ذهب سفيان الثوري ومالك والأوزاعي والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه. وقد روي ذلك عن عبد الله بن مسعود وابن عمر وأنس وابن المسيب وعلقمة والأسود وعروة والحسن والشعبي والزهري.

ومن باب الصلاة بعد الجمعة

وقال الحكم وحماد وأبو حنيفة من أدرك التشهد يوم الجمعة مع الإمام صلى ركعتين. ومن باب الصلاة بعد الجمعة قال أبو داود: حدثنا إبراهيم بن الحسن حدثنا الحجاج بن محمد عن ابن جريج قال أخبرني عطاء أنه رأى ابن عمر يصلي بعد الجمعة فينماز عن مصلاه الذي صلى الجمعة فيه قليلا غيركثير فيركع ركعتين قال ثم يمشي أنفس من ذلك فيركع أربع ركعات. قوله فينماز معناه يفارق مقامه الذي صلى فيه، وهومن قولك مزت الشيء من الشيء إذا فرقنت بينهما، وقوله أنفس من ذلك يريد أبعد قليلا. وقد اختلفت الرواية في عدد الصلاة بعد الجمعة، وقد رواها أبو داود في هذا الباب على اختلافها روي أربعا وروي ركعتين في المسجد، وروي أنة كان لا يصلي في المسجد حتى إذا صار إلى بيته صلى ركعتين. قلت وهذا والله أعلم من الاختلاف المباح وكان أحمد بن حنبل يقول إن شاء صلى ركعتين وإن شاء صلى أربعا. وقال أصحاب الرأي يصلي أربعا وهو قول إسحاق وقال سفيان الثوري يصلي ركعتين ثم يصلي بعدها أربعا. ومن كناب العيدين قال أبو داود: حدثنا أبو الوليد الطيالسي حدثنا إسحاق بن عثمان قال حدثني إسماعيل بن عبد الرحمن بن عطية عن جدته أم عطية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة جمع نساء الأنصار في بيت فأرسل إلينا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقام على الباب فسلم علينا فرددنا عليه السلام ثم قال أنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم وأمرنا بالعيدين أن نخرج فيهما الحيض والعتَّقَ ولا جمعةَ علينا ونهانا عن اتباع الجنائز.

ومن باب الخطبة في العيد

العتق جمع عاتق يقال جارية عاتق وهي التي قاربت الإدراك ويقال بل هي المدركة. أخبرني أبو عمر أخبرني أبو العباس عن ابن الأعرابي قال: قالت جارية من الأعراب لأبيها اشتر لي لَوْطا أغطي به فُرعلي فإني قد عتقت تريد أدركت والفرعل ههنا الشعر واللوط الإزار. ومن باب الخطبة في العيد قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل نا عبد الرزاق نا ابن جريج أخبرني عطاء عن جابر بن عبد الله قال قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفطر فصلى فبدأ بالصلاة قبل الخطبة ثم خطب الناس فلما فرغ نبي الله صلى الله عليه وسلم نزل فأتى النساء فذكّرهن وهو يتوكأ على يد بلال وبلال باسط ثوبه والنساء يلقين فيه صدقة تلقي المرأة فَتَخها. الفتخ الخواتيم الكبار. واحدتها فتخة. ومن باب تكبير العيدين قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد نا ابن لَهِيعة عن عقيل عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكبر في الفطر والأضحى في الأولى سبع تكبيرات وفي الثانية خمس تكبيرات. قلت وهذا قول أكثر أهل العلم، وروي ذلك، عَن أبي هريرة وابن عمر وابن عباس وأبي سعيد الخدري وبه قال الزهري ومالك والأوزاعي والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه. وقال الشافعي ليس من السبع تكبيرة الافتتاح ولا من الخمس تكبيرة القيام. وقال أبو ثور سبع تكبيرات مع تكبيرة الافتتاح وخمس في الثانية.

ومن باب إذا لم يخرج الإمام للعيد يومه

وروي عن ابن مسعود أنه قال يكبر الإمام أربع تكبيرات متواليات ثم يقرأ ثم يكبر فيركع ويسجد ثم يقوم فيقرأ ثم يكبر أربع تكبيرات يركع بآخرها، وإليه ذهب أصحاب الرأي، وكان الحسن يكبر في الأولى خمسا وفي الأخرى ثلاثا سوى تكبيرتي الركوع. وروى أبو داود في هذا الباب حديثا ضعيفا، عَن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكبر في العيد أربعاً تكبيره على الجنائز. قال حدثنا محمد بن العلاء نا زيد بن حباب عن عبد الرحمن بن ثوبان عن أبيه عن مكحول قال أخبرني أبو عائشة جليس لأبي هريرة، عَن أبي موسى. ومن باب إذا لم يخرج الإمام للعيد يومه يخرج من الغد قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر نا شعبة عن جعفر بن أبي وحشية، عَن أبي عمير بن أنس عن عمومة له من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ركبا جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشهدون أنهم رأوا الهلال بالأمس فأمرهم أن يفطروا فإذا أصبحوا أن يغدوا إلى مصلاهم. قلت وإلى هذا ذهب الأوزاعي وسفيان الثوري وأحمد بن حنبل وإسحاق في الرجل لا يعلم بيوم الفطر إلاّ بعد الزوال. وقال الشافعي إن علموا بذلك قبل الزوال خرجوا وصلى الإمام بهم صلاة العيد وإن لم يعلموا إلاّ بعد الزوال لم يصلوا يومهم ولا من الغد لأنه عمل في وقت إذا جاز ذلك الوقت لم يعمل في غيره، وكذلك قال مالك وأبو ثور. قلت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى وحديث أبي عُمير صحيح فالمصير إليه واجب.

ومن باب الصلاة بعد صلاة العيد

ومن باب الصلاة بعد صلاة العيد قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة حدثني عدي بن ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فطر فصلى ركعتين لم يصل قبلها ولا بعدها ثم أتى النساء ومعه بلال فأمرهن بالصدقة فجعلت المرأة تلقي خُرصها سِخابها. الخرص الحلقة والسخاب القلادة. وفي الحديث من الفقه أن عطية المرأة البالغة وصدقتها بغير إذن زوجها جائزة ماضية ولوكان ذلك مفتقرا إلى الأزواج لم يكن صلى الله عليه وسلم ليأمرهن بالصدقة قبل أن يسأل أزواجهن الإذن لهن في ذلك. ومن أبواب الاستسقاء قال أبو داود: حدثنا أحمد بن محمد بن ثابت المروزي نا عبد الرزاق حدثنا معمر عن الزهري عن عباد بن تميم عن عمه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج بالناس يستسقي فصلى بهم ركعتين جهر فيهما وحول رداءه فدعا واستسقى واستقبل القبلة. قلت في قوله خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس يستسقي دليل على أن السنة في الاستسقاء الخروج إلى المصلى. وفيه أن الاستسقاء إنما يكون بصلاة. وذهب بعض أهل العراق إلى أنه لا يصلي ولكن يدعو فقط. وفيه أنه يجهر بالقراءة فيها وهو مذهب مالك بن أنس والشافعي وأحمد، وكذلك قال محمد بن الحسن. وفيه أنه يحول رداءه وتأول على مذهب التفاؤل أي لينقلب ما بهم من الجدب إلى الخصب. وقد اختلفوا في صفة تحويل الرداء فقال الشافعي ينكس أعلاه ويتاخى أن

ومن باب رفع اليدين في الاستسقاء

يجعل ما على شقه الأيمن على شقه الأيسر ويجعل الجانب الأيسر على الجانب الأيمن. وقال أحمد بن حنبل يجعل اليمين على الشمال ويجعل الشمال على اليمين، وكذلك قال إسحاق وقول مالك قريب من ذلك. قلت إذا كان الرداء مربعا نكسه وإذا كان طيلسانا مدورا قلبه ولم ينكسه. قال أبو داود: حدثنا ابن عوف قال قرأت في كتاب عمرو بن الحارث الحمصي عن عبد الله بن سالم عن الزبيدي عن ابن شهاب عن عباد بن تميم عن عمه وساق الحديث قال وحول رداعه وجعل عِطافه الأيمن على عاتقه الأيسر وجعل عطافه الأيسر على عاتقه الأيمن ثم دعا الله. أصل العطاف الرداء وإنما أضاف العطاف إلى الرداء ههنا لأنه أراد أحد شقي العطاف الذي عن يمينه وعن شماله. قال أبو داود: حدثنا النفيلي وعثمان بن أبي شيبة قالا، حَدَّثنا حاتم بن إسماعيل حدثنا هشام بن إسحاق بن عبد الله بن كنانة، قال أخبرني أبي عن ابن عباس قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء وصلى ركعتين كما كان يصلي في العيد. قلت في هذا دلالة على أنه يكبر كما يكبر في العيدين، وإليه ذهب الشافعي وهو قول ابن المسيب وعمر بن عبد العزيز ومكحول. وقال مالك يصلي ركعتين كسائر الصلوات لا يكبر فيها تكبير العيد غير أنه يبدأ بالصلاة قبل الخطبة كالعيد. ومن باب رفع اليدين في الاستسقاء قال أبو داود: حدثنا ابن أبي خلف نا محمد بن عبيد نا مسعر عن يزيد الفقيرعن جابر رضي الله عنه قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يُواكي فقال اللهم اسقنا غيثا

مغيثاً مُغيثا مَريئا مريعا نافعا غير ضار عاجلا غير آجل قال وأطبقت عليهم السماء. قوله يواكي معناه التحامل على يديه إذا رفعهما ومدهما في الدعاء، ومن هذا التوكؤ على العصا وهو التحامل عليها. وقوله مريعا يروى على وجهين بالياء والباء فمن رواه بالياء جعله من المراعة وهي للخصب، يقال منه أمرع المكان إذا أخصب، ومن رواه مربعا بالباء كان معناه منبتا للربيع. واستدل بفعل النبي صلى الله عليه وسلم من لا يرى الصلاة في الاستسقاء، وقال ألا ترى أنه اقتصر على الدعاء ولم يصل له. قال الشيخ قد ثبت الاستسقاء بالصلاة بما ذكره أبو داود في الأخبار المتقدمة وإنما وجهه وتأويله أنه كان بإزاء صلاة يريد أن يصليها فدعا في أثناء خطبته بالسقيا فاجتمعت له الصلاة والخطبة فجزت عن استئناف الصلاة والخطبة كما يطوف للرجل فيصادف الصلاة المفروضة عند فراغه من الطواف فيصليها فينوب عن ركعتي الطواف وكما يقرأ السجدة في آخر الركعة فينوب الركوع عن السجود. قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا حماد بن زيد عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس قال أصاب أهل المدينة قحط فقام رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب فقال هلك الكراع والشاة فسل الله أن يسقينا فمد يده ودعا فهاجت ريح ثم أنشأت سحابا ثم اجتمع فأرسلت السماءعزاليها فخرجنا نخوض الماء حتى أتينا منازلنا. العزالي جمع العزلاء وهم فم المزادة.

ومن باب صلاة الكسوف

ومن باب صلاة الكسوف قال أبو داود: حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح أخبرنا ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب قال أخبرني عروة بن الزبير عن عائشة قالت خسفت الشمس في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج إلى المسجد فقام فكبر وصف الناس وراءه فاقترأ قراءة طويلة ثم كبر فركع ركوعا طويلا ثم رفع رأسه فقال سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، ثم قام فاقترأ قراءة طويلة هي أدنى من القراءة الأولى ثم كبر فركع ركوعا طويلا وهو أدنى من الركوع الأول ثم قال سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد، ثم فعل في الركعة الأخرى مثل ذلك فاستكمل أربع ركعات وأربع سجدات وانجلت الشمس قبل أن ينصرف. قلت قوله فكبر وصف الناس حوله. فيه بيان أن السنة أن يصلي الكسوف جماعة، وإليه ذهب الشافعي وأحمد بن حنبل. وقال أهل العراق يصلون منفردين وعند مالك يصلون لكسوف القمر وحدانا وفي خسوف الشمس جماعة. وفيه بيان أنه يركع في كل ركعة ركوعين وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد وقال سفيان الثوري وأصحاب الرأي يركع ركعتين في كل ركعة ركوع واحد كسائر الصلوات. وقد اختلفت الروايات في هذا الباب فروى أنس أنه ركع ركعتين في أربع ركعات وأربع سجدات وروي أنه ركعهما في ركعتين وأربع سجدات وروي أنه ركع ركعتين في ست ركعات وأربع سجدات. وروي أنه ركع ركعتين في عشر ركعات وأربع سجدات. وقد ذكر أبو داود أنواعا منها. ويشبه أن يكون المعنى في ذلك أنه صلاها مرات وكرات فكانت إذا طالت مدة

الكسوف مد في صلاته وزاد في عدد الركوع وإذا قصرت نقص من ذلك وحذا بالصلاة حذوها وكل ذلك جائز يصلي على حسب الحال ومقدار الحاجة فيه. قال أبو داود: حدثنا عبيد الله بن سعد حدثنا عمي نا أبي عن ابن إسحاق حدثني هشام بن عروة عن سليمان بن يسار عن عروة عن عائشة قالت كسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج فصلى بالناس فقام فحزرت قراءته فرأيت أنه قرأ سورة البقرة وحزرت قراءته، يَعني في الركعة الأخرى فرأيت أنه قرأ سورة آل عمران. قلت قولها فحزرت قراءته يدل على أنه لم يجهر بالقراءة فيها ولو جهر لم يحتج فيها إلى الحزر والتخمين. وممن قال لا يجهر بالقراءة مالك وأصحاب الرأي وكذلك قال الشافعي. قال أبو داود: حدثنا عباس بن الوليد أخبرني أبي حدثنا الأوزاعي أخبرني الزهري أخبرني عروة بن الزبير عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ قراءة طويلة يجهر بها في صلاة الكسوف. قلت وهذا خلاف الرواية الأولى عن عائشة؛ وإليه ذهب أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وجماعة من أصحاب الحديث قالوا، وقوله المثبت أولى من قول النافي لأنه حفظ زيادة لم يحفظها النافي. قلت وقد يحتمل أن يكون قد جهر مرة وخفت أخرى وكل جائز. قال أبو داود: حدثنا أحمد بن يونس حدثنا زهير حدثنا الأسود بن قيس حدثني ثعلبة بن عباد عن سمرة بن جندب قال بينما أنا وغلام من الأنصار

نرمي غرضين لنا حتى إذا كانت الشمس قِيدَ رمحين أو ثلاثة في عين الناظر من الأفق اسودت حتى آضت كأنها تَنُّومَةَ فقال أحدنا لصاحبه انطلق بنا إلى المسجد فوالله ليُحدثن شأن هذه الشمس لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أمته حَدثا قال فدُفعنا إلى المسجد فإذا هو بارز وذكر صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه قام بنا كأطول ما قام بنا في صلاة قط لا نسمع له صوتاً. قلت التنوم نبت لونه إلى السواد ويقال بل هوشجر له ثمركمد اللون. وقوله فإذا هو بارز تصحيف من الراوي وإنما هو بأزز أي بجمع كثير، تقول العرب الفضاء منهم أزز والبيت منهم أزز إذا غص بهم لكثرتهم، وقد فسرناه في غريب الحديث. وفي قوله فلم نسمع له صوتا دليل على صحة إحدى الروايتين لعائشة أنه لم يجهر فيها بالقراءة. قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن عطاء بن السائب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو قال انكسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يكد يركع ثم ركع فلم يكد يرفع ثم رفع فلم يكد يسجد، ثم سجد فلم يكد يرفع ثم رفع فلم يكد يسجد ثم سجد فلم يكد يرفع ثم رفع ثم فعل في الأخرى مثل ذلك ثم نفخ في آخر سجوده فقال أف، ثم قال رب ألم تعدني أن لا تعذبهم وأنا فيهم، ألم تعدني أن لا تعذبهم وهم يستغفرون ففرغ من صلاته وقد امَّحصت الشمس. قوله امحصت الشمس معناه انجلت، واصل المحص الخلوص يقال محصت الشيء محصا إذا خلصته من الشوب، فامحص إذا خلص منه. ومنه التمحيص من الذنوب وهو التطهير منها.

ومن باب صلاة السفر

وفي الحديث بيان أن السجود في صلاة الكسوف يطول كما يطول الركوع وقال مالك لم نسمع أن السجود يطول في صلاة الكسوف كما يطول الركوع ومذهب الشافعي وإسحاق بن راهويه تطويل السجود كالركوع. وفي الحديث دليل على أن النفخ لا يقطع الصلاة إذا لم يكن له هجاء فيكون كلمة تامة وقوله أف لا تكون كلاما حتى تشدد الفاء فيكون على ثلاثة أحرف من التأفيف كقولك أف لكذا، فأما والفاء خفيفة فليس بكلام، والنافخ لا يخرج الفاء في نفخه مشددة ولا يكاد يخرجها فاء صادقة من مخرجها بين الشفة السفلى ومقاديم الأسنان العليا ولكنه يفشيها من غير اطباق السن على الشفة وما كان كذلك لم يكن كلاماً. وقد قال عامة الفقهاء إذا نفخ في صلاته فقال أف فسدت صلاته إلاّ أبا يوسف فإنه قال صلاته جائزة. ومن باب صلاة السفر قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن صالح بن كيسان عن عروة بن الزبير عن عائشة قالت فرضت الصلاة ركعتين ركعتين في الحضر والسفر فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر. قلت هذا قول عائشة عن نفسها وليس برواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا بحكاية لقوله وقد روي عن ابن عباس مثل ذلك من قوله فيحتمل أن يكون الأمر في ذلك كما قالاه لأنهما عالمان فقيهان قد شهدا زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحباه وإن لم يكونا شهدا أول زمان الشريعة وقت إنشاء فرض الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فإن الصلاة فرضت عليه بمكة ولم تلق عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلاّ بالمدينة ولم يكن

ابن عباس في ذلك الزمان في سن من يعقل الأمور ويعرف حقائقها ولا يبعد أن يكون قد أخذ هذا الكلام عن عائشة فإنه قد يفعل ذلك كثيرا في حديثه وإذا فتشت عن أكثر ما يرويه كان ذلك سماعا عن الصحابة وإذا كان كذلك فإن عائشة نفسها قد ثبت عنها أنها كانت تتم في السفر وتصلي أربعاً أخبرناه محمد بن هاشم أخبرنا الدبري عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة أنها كانت تصوم في السفر وكانت تتم وتصلي أربعا. وقد اختلف أهل العلم في هذه المسألة فكان أكثر مذاهب علماء السلف وفقهاء الأمصار على أن القصر هو الواجب في السفر وهو قول عمر وعلي وابن عمر وجابر وابن عباس وروي ذلك عن عمر بن عبد العزيز والحسن وقتادة، وقال حماد بن أبي سليمان يعيد من صلى في السفر أربعا، وقال مالك بن أنس يعيد ما دام في الوقت وقال أحمد بن حنبل السنة ركعتان، وقال مرة أنا أحب العافية من هذه المسألة. وقال أصحاب الرأي إن لم يقعد المسافر في التشهد في الركعتين فصلاته فاسدة لأن فرضه ركعتان فما زاد عليهما كان تطوعا فإن لم يفصل بينهما بالقعود بطلت صلاته. وقال الشافعي هو بالخيار إن شاء أتم وإن شاء قصر، وإليه ذهب أبو ثور. وقد روي الإتمام في السفر عن عثمان وسعد بن أبي وقاص وقد أتمها ابن مسعود مع عثمان بمنى وهو مسافر واحتج الشافعي في ذلك بأن المسافر إذا دخل في صلاة المقيم صلى أربعا ولو كان فرضه القصر لم يكن يأتم مسافر بمقيم. وأما قول أصحاب الرأي أن الركعتين الأخريين تطوع فإنهم يوجبونها على المأموم والتطوع لا يجبر عليه أحد فدل على أن ذلك من صلب صلاته.

ومن باب متى يقصر الصلاة المسافر

قلت والأولى أن يقصر المسافر الصلاة لأنهم أجمعوا على جوازها. واختلفوا فيها إذا أتم والإجماع مقدم على الاختلاف. قال أبو داود: حدثنا خُشيش بن أصرم، حَدَّثنا عبد الرزاق عن ابن جريج حدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار عن عبد الله بن طبية عن يعلى بن أمية قال: قلت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه قصر الناس الصلاة اليوم وإنما قال الله تعالى {إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا} [النساء: 101] فقد ذهب ذلك اليوم فقال عجبتُ مما عجبتَ منه فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته. قلت وفي هذا حجة لمن ذهب إلى أن الإتمام هو الأصل ألا ترى أنهما قد تعجبا من القصر مع عدم شرط الخوف فلو كان أصل صلاة المسافر ركعتين لم يتعجبا من ذلك فدل على أن القصر إنما هوعن أصل كامل قد تقدمه فحذف بعضه وأبقى بعضه. وفي قوله صدقة تصدق الله بها عليكم دليل على أنه رخصة رخص لهم فيها، والرخصة إنما تكون إباحة لا عزيمة والله أعلم بالصواب. ومن باب متى يقصر الصلاة المسافر قال أبو داود: حدثنا محمد بن بشار، حَدَّثنا محمد بن جعفر، حَدَّثنا شعبة عن يحيى بن يزيد الهنائي قال سألت أنس بن مالك عن قصر الصلاة فقال أنس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ شك شعبة يصلي ركعتين. قلت إن ثبت هذا الحديث كانت الثلاثة الفراسخ حدا فيما يقصر إليه الصلاة إلاّ أني لا أعرف أحدا من الفقهاء يقول به.

ومن باب الجمع بين الصلاتين

وقد روي عن أنس أنه كان يقصر الصلاة فيما بينه وبين خمسة فراسخ. وعن ابن عمر أنه قال إني لأسافر الساعة من النهار فأقصر، وعن علي رضي الله عنه أنه خرج إلى النُخيلة فصلى بهم الظهر ركعتين ثم رجع من يومه. وقال عمرو بن دينار قال لي جابر بن زيد أقصر بعرفة. وأما مذاهب فقهاء الأمصار فإن الأوزاعي قال عامة الفقهاء يقولون مسيرة يوم تام وبهذا نأخذ، وقال مالك يقصر من مكة إلى عُسفان وإلى الطائف وإلى جدة وهو قول أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وإلى نحو ذلك أشار الشافعي حين قال ليلتين قاصدتين، وروي عن الحسن والزهري قريب من ذلك قالا يقصر في مسيرة يومين. واعتمد الشافعي في ذلك قول ابن عباس حين سئل فقيل له يقصر إلى عرفة قال لا ولكن إلى عسفان وإلى جدة وإلى الطائف، وروي عن ابن عمر مثل ذلك وهو أربعة برد وهذا عن ابن عمر أصح الروايتين وقال سفيان الثوري وأصحاب الرأي لا يقصر إلاّ في مسافة ثلاثة أيام. ومن باب الجمع بين الصلاتين قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك، عَن أبي الزبير المكي، عَن أبي الطفيل عامر بن واثلة أن معاذ بن جبل أخبرهم أنهم خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء فأخر الصلاة يوما ثم خرج فصلى الظهر والعصر ثم دخل ثم خرج فصلى المغرب والعشاء جميعا. قلت في هذا بيان أن الجمع بين الصلاتين في غير يوم عرفة وغير المزدلفة جائز وفيه أن الجمع بين الصلاتين لمن كان نازلا في السفر غير سائر جائز.

وقد اختلف الناس في الجمع بين الصلاتين في غير يوم عرفة بعرفة وبالمزدلفة فقال قوم لا يجمع بين صلاتين ويصلي كل واحدة منهما في وقتها يروى ذلك عن إبراهيم النخعي وحكاه عن أصحاب عبد الله، وكان الحسن ومكحول يكرهان الجمع في السفر بين الصلاتين. وقال أصحاب الرأي إذا جمع بين الصلاتين في السفر أخر الظهر إلى آخر وقتها وعجل العصر في أول وقتها ولا يجمع بين الصلاتين في وقت إحداهما، ورووا عن سعد بن أبي وقاص أنه كان يجمع بينهما كذلك. وقال كثيرمن أهل العلم يجمع بين الصلاتين في وقت إحداهما إن شاء قدم العصر وإن شاء أخر الظهر على ظاهر الأخبار المروية في هذا الباب، هذا قول ابن عباس وعطاء بن أبي رباح وسالم بن عبد الله وطاوس ومجاهد، وبه قال من الفقهاء الشافعي وإسحاق بن راهويه، وقال أحمد بن حنبل إن فعل لم يكن به بأس. قلت ويدل على صحة ما ذهب هؤلاء إليه حديث ابن عمرو وأنس عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد ذكرهما أبو داود في هذا الباب. قال أبو داود: حدثنا سليمان بن داود العتكي حدثنا حماد عن أيوب عن نافع أن ابن عمر استُصرخ على صفية وهو بمكة فسار حتى غربت الشمس وبدت النجوم فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا عجل به أمر في سفر جمع بين هاتين الصلاتين فسار حتى غاب الشفق ثم نزل فجمع بينهما. قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا المفضَّل عن عقيل عن ابن شهاب عن أنس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى

وقت العصر ثم نزل فجمع بينهما. قال أبو داود: وأخبرني سليمان بن داود المَهري حدثنا ابن وهب قال أخبرني جابر بن إسماعيل جابر هذا من أهل مصر عن عقيل بهذا الحديث قال ويؤخر المغرب حتى يجمع بينهما وبين العشاء حتى يغيب الشفق. قلت ظاهر اسم الجمع عرفاً لا يقع على من أخر الظهر حتى صلاها في آخر وقتها وعجل العصر فصلاها في أول وقتها لأن هذا قد صلى كل صلاة منهما في وقتها الخاص بها وإنما الجمع المعروف بينهما أن تكون الصلاتان معاً في وقت إحداهما ألا ترى أن الجمع بينهما بعرفة والمزدلفة كذلك. ومعقول أن الجمع بين الصلاتين من الرخص العامة لجميع الناس عامهم وخاصهم ومعرفة أوائل الأوقات وأواخرها مما لا يدركه أكثر الخاصة فضلاً عن العامة وإذا كان كذلك كان في اعتبار الساعات على الوجه الذي ذهبوا إليه ما يبطل أن تكون هذه الرخصة عامة مع ما فيه من المشقة المربية على تفريق الصلاة في أوقاتها الموقتة. قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك، عَن أبي الزبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر جميعاً والمغرب والعشاء جميعاً من غير خوف ولا سفر. وقال مالك أرى ذلك كان في مطر. قلت وقد اختلف الناس في جواز الجمع بين الصلاتين للممطور في الحضر فأجازه جماعة من السلف، روي ذلك عن ابن عمر وفعله عروة وابن المسيب وعمر بن عبد العزيز وأبو بكر بن عبد الرحمن وأبو سلمة وعامة فقهاء المدينة وهو قول مالك والشافعي وأحمد غير أن الشافعي اشترط في ذلك أن يكون المطر قائماً وقت افتتاح الصلاتين معاً وكذلك قال أبو ثور ولم يشترط ذلك غيرهما

وكان مالك يرى أن يجمع الممطور في الطين وفي حال الظلمة وهو قول عمر بن عبد العزيز. وقال الأوزاعي وأصحاب الرأي يصلي الممطور كل صلاة في وقتها. قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حَدَّثنا أبومعاوية، حَدَّثنا الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالمدينة من غير خوف ولا مطر قال فقلت لابن عباس ما أراد إلى ذلك؟ قال أراد أن لا تحرَج أمته. قلت هذا حديث لا يقول به أكثر الفقهاء واسناده جيد إلاّ ما تكلموا فيه من أمر حبيب، وكان ابن المنذر يقول ويحكيه عن غير واحد من أصحاب الحديث. وسمعت أبا بكر القفال يحكيه، عَن أبي إسحاق المروزي قال ابن المنذر ولا معنى لحمل الأمر فيه على عذر من الأعذار لأن ابن عباس قد أخبر بالعلة فيه وهو قوله أراد أن لا تحرج أمته. وحكي عن ابن سيرين أنه كان لا يرى بأساً أن يجمع بين الصلاتين إذا كانت حاجة أو شيء ما لم يتخذه عادة. قلت وتأوله بعضهم على أن يكون ذلك في حال المرض قال وذلك لما فيه من إرفاق المريض ودفع المشقة عنه فحمله على ذلك أولى من صرفه إلى من لا عذر له ولا مشقة عليه من الصحيح البدن المنقطع العذر. وقد اختلف الناس في ذلك فرخص عطاء بن أبي رباح للمريض في الجمع بين الصلاتين وهو قول مالك وأحمد بن حنبل. وقال أصحاب الرأي يجمع المريض بين الصلاتين إلاّ أنهم أباحوا ذلك على شرطهم

ومن باب التطوع على الراحلة والوتر

في جمع المسافر بينهما، ومنع الشافعي من ذلك في الحضر إلاّ للممطور. ومن باب التطوع على الراحلة والوتر قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح، حَدَّثنا عبد الله بن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب عن سالم عن أبيه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسبح على الراحلة أي وجه توجه ويوتر عليها غير أنه لا يصلي عليها المكتوبه. قلت قوله يسبح معناه يصلي النوافل والسبحة النافلة من الصلاة ومنه سبحة الضحى ولا أعلم خلافاً في جواز النوافل على الرواحل في السفر إلاّ أنهم اختلفوا في الوتر فقال أصحاب الرأي لا يوتر على الراحلة وقال النخعي كانوا يصلون الفريضة والوتر بالأرض وإن أوترت على راحلتك فلا بأس. وممن رخص في الوتر على الراحلة عطاء ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل، وروي ذلك عن علي وابن عباس وابن عمر، وكان مالك يقول لا يصلي على راحلته إلاّ في سفر يقصر فيه الصلاة. وقال الأوزاعي والشافعي قصير السفر وطويله في ذلك سواء يصلي على راحلته. وقال أصحاب الرأي إذا خرج من المصر فرسخين أو ثلاثا صلى على دابته تطوعاً. وقال الأوزاعي يصلي الماشي على رجله كذلك يومىء إيماء قال وسواء كان مسافرا أو غير مسافر يصلي على دابته وعلى رجله إذا خرج من بلده لبعض حاجته. قلت والوجه في ذلك أن يفتتح الصلاة مستقبلا للقبلة ثم يركع ويسجد حيث توجهت به راحلته ويجعل السجود أخفض من الركوع.

ومن باب متى يتم المسافر

ومن باب متى يتم المسافر قال أبو داود: حدثنا إبراهيم بن موسى، حَدَّثنا ابن عُلية، حَدَّثنا علي بن زيد، عَن أبي نصرة عن عمران بن حصين قال غزوت مع رسول الله وشهدت الفتح فأقام بمكة ثماني عشرة ليلة لا يصلي إلاّ ركعتين ويقول يا أهل البلد صلوا أربعا فإنا قوم سفر. قلت هذا العدد جعله الشافعي حدا في القصر لمن كان في حرب يخاف على نفسه العدو. وكذلك كان حال رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام مقامه بمكة عام الفتح، فأما في حال الأمن فإن الحد في ذلك عنده أربعة أيام فإذا أزمع مقام أربع أتم الصلاة، وذهب في ذلك إلى مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجه بمكة وذلك أنه دخل يوم الأحد وخرج يوم الخميس كل ذلك يقصر الصلاة فكان مقامه أربعة أيام، وقد روي عن عثمان بن عفان أنه قال من أزمع مقام أربع فليتم وهو قول مالك بن أنس وأبي ثور. وقد اختلفت الروايات عن ابن عباس في مقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة عام الفتح فروي عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام سبع عشرة بمكة يقصر الصلاة وعنه أنه أقام تسع عشرة وعنه أنه أقام خمس عشرة وكل قد ذكره أبو داود على اختلافه فكان خبر عمران بن حصين أصحها عند الشافعي وأسلمها من الاختلاف فاعتمده وصار إليه. وقال أصحاب الرأي وسفيان الثوري إذا أجمع المسافر مقام خمس عشرة أتم الصلاة، ويشبه أن يكونوا ذهبوا إلى إحدى الروايات عن ابن عباس. وقال الأوزاعي إذا أقام اثنتي عشرة ليلة أتم الصلاة وروي ذلك عن ابن عمر.

ومن باب صلاة الخوف

وقال الحسن بن صالح بن حي إذا عزم مقام عشر أتم الصلاة وأراه ذهب إلى حديث أنس بن مالك وقد ذكره أبو داود. قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل ومسلم بن إبراهيم المعنى قالا، حَدَّثنا وهيب، حَدَّثنا يحيى بن أبي إسحاق عن أنس بن مالك قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة فكان يصلي ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة فقلنا هل أقمتم بها شيئاً قال أقمنا عشرا. وأما أحمد بن حنبل فإنه لا يحدد ذلك بالأيام والليالي ولكن بعدد الصلوات قال إذا جمع المسافر لاحدى وعشرين صلاة مكتوبة قصر فإذا عزم على أن يقيم أكثر من ذلك أتم. واحتج بحديث جابر وابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم مكة لصبح رابعة قال وأقام الرابع والخامس والسادس والسابع وصلى الفجر بالأبطح يوم الثامن فكانت صلاته فيها إحدى وعشرين صلاة. قلت وهذا التحديد يرجع إلى قريب من قول مالك والشافعي إلاّ أنه رأى تحديده بالصلوات أحوط وأحصر فخرج من ذلك زيادة صلاة واحدة على مدة أربعة أيام ولياليهن، وقال ربيعة قولا شاذا إن من أقام يوما وليلة أتم الصلاة. ومن باب صلاة الخوف قال أبو داود: حدثنا سعيد بن منصور، حَدَّثنا جرير بن عبد الحميد عن منصور عن مجاهد، عَن أبي عياش الزُّرَقي قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعُسْفان وعلى المشركين خالد بن الوليد فصلينا الظهر فقال المشركون لقد أصبنا غِرةً لوحملنا عليهم وهم في الصلاة فنزلت آية القصر بين الظهر والعصر فلما حضرت العصر

قام رسول الله صلى الله عليه وسلم مستقبل القبلة والمشركون أمامه فصف خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم صفُّ وصفَّ بعد ذلك الصف صف آخر فركع رسول الله صلى الله عليه وسلم وركعوا جميعا ثم سجد وسجد الصف الذين يلونه وقام الآخرون يحرسونهم فلما صلى هؤلاء السجدتين وقاموا سجد الآخرون الذين كانوا خلفهم ثم تأخر الصف الذي يليه إلى مقام الآخرين وتقدم الصف الآخر إلى مقام الصف الأول ثم ركع رسول الله صلى الله عليه وسلم وركعوا جميعا، ثم سجد وسجد الصف الذي يليه وقام الآخرون يحرسونهم فلما جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم والصف الذي يليه سجد الآخرون ثم جلسوا جميعا فسلم عليهم جميعا فصلاها بعسفان وصلاها يوم بني سليم. قال أبو داود رواه جابر وابن عباس وأبو موسى نحو هذا المعنى. قلت صلاة الخوف أنواع وقد صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في أيام مختلفة وعلى أشكال متباينة يتوخى في كلًّ ما هو أحوط للصلاة وأبلغ في الحراسة وهي على اختلاف صورها مؤتلفة في المعاني وهذا النوع منها هو الاختيار إذا كان العدو بينهم وبين القبلة. وإن كان العدو وراء القبلة صلى بهم صلاته في يوم ذات الرقاع وقد ذكره أبو داود في هذا الباب. قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن يزيد بن رومان عن صالح بن خوّات عن من صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم ذات الرقاع صلاة الخوف أن طائفة صفت معه وطائفة وجاه العدو فصلى بالتي معه ركعة ثم ثبت قائماً وأتموا لأنفسهم ثم انصرفوا وصفوا وجاه العدو وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته ثم ثبت جالساً وأتموا لأنفسهم ثم سلم بهم. قلت وإلى هذا ذهب مالك والشافعي إذا كان العدو من ورائهم.

وأما أصحاب الرأي فإنهم ذهبوا إلى حديث ابن عمر. قال أبو داود: حدثنا مسدد، حَدَّثنا يزيد بن زريع عن معمر عن الزهري عن سالم عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بإحدى الطائفتين ركعة والطائفة الأخرى مواجهة العدو وانصرفوا فقاموا في مقام أولئك فصلى بهم ركعة أخرى ثم سلم عليهم ثم قام هؤلاء فقضوا ركعتهم وقام هؤلاء فقضوا ركعتهم. قلت وهذا حديث جيد بالإسناد إلاّ أن حديث صالح بن خوات أشد موافقة لظاهر القرآن لأن الله سبحانه قال {وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك} [النساء: 102] الآية فجعل إقامة الصلاة لهم كلها لا بعضها وعلى المذهب الذي صاروا إليه إنما يقيم لهم الإمام بعض الصلاة لا كلها. ومعنى قوله {فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم} أي إذا صلوا كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إذا دخل أحدكم المسجد فليسجد سجدتين أي فليركع ركعتين ثم قال {ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا} فكان دليل مفهومه أن هؤلاء قد صلوا وقوله فليصلوا معك مقتضاه تمام الصلاة وهوعلى قولهم لا يصلون معه إلاّ بعضها وقد ذكر الطائفتين ولم يذكر عليهما قضاء فدل أن كل واحدة منهما قد انصرفت عن كمال الصلاة، وهذا المذهب أحوط للصلاة لأن الصلاة تحصل مؤداة على سننها في استقبال القبلة وعلى مذهبهم يقع الاستدبار للقبلة ويكثر العمل في الصلاة، ومن الاحتياط في المذهب الأول أنهم إذا كانوا خارجين من الصلاة تمكنوا من الحرب إن كانت للعدو جولة وإذا كانوا في الصلاة لم يقدروا على ذلك فكان المصير إلى حديث صالح بن خوات أولى والله أعلم. قال أبو داود: حدثنا عبيد الله بن معاذ، حَدَّثنا أبي، حَدَّثنا الأشعث عن الحسن، عَن أبي

بكرة قال صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في خوف الظهر فصف بعضهم خلفه وبعضهم بإزاء العدو فصلى ركعتين ثم سلم فانطلق الذين صلوا فوقفوا موقف أصحابهم ثم جاء أولئك فصلوا خلفه فصلى بهم ركعتين ثم سلم فكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم أربعا ولأصحابه ركعتين ركعتين. قلت: وهذا النوع من الصلاة أيضاً جاءت به الرواية على قضية التعديل وعبرة التسوية بين الطائفتين لا يفضل فيها طائفة على الأخرى بل كل يأخذ قسطه من فضيلة الجماعة وحصته من بركة الأسوة. وفيه دليل على جواز صلاة المفترض خلف المتنفل. قال أبو داود: حدثنا مسدد، حَدَّثنا يحيى عن سفيان حدثني الأشعث بن سليمان عن الأسود بن هلال عن ثعلبة بن زهدم، قال كنا مع سعيد بن العاص بطَبَرَستان فقال أيكم صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف فقال حذيفة أنا فصلى بهؤلاء ركعة وبهؤلاء ركعة ولم يقضوا. قلت: وهذا قد تأوله قوم من أهل العلم على صلاة شدة الخوف. وروي عن جابر بن عبد الله أنه كان يقول في الركعتين في السفر ليستا بقصر إنما القصر واحدة عند القتال. وقال بعض أهل العلم في قول الله تعالى {فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا} [النساء: 110] إنما هو أن يقصر ويصلي ركعة واحدة عند شدة الخوف قال وشرط الخوف ههنا معتبر باق ليس كما ذهب إليه من ألغى الشرط فيه. قلت: وهذا تأويل قد كان يجوز أن يتأول عليه الآية لولا خبر عمر بن

ومن باب صلاة الطالب

الخطاب رضي الله عنه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال صدقة تصدق الله بها عليكم فأقبلوا صدقته، وكان إسحاق بن راهويه يقول أما عند الشدة تجزيك ركعة واحدة تومىء بها إيماء فإن لم تقدر فسجدة واحدة فإن لم تقدر فتكبيرة لأنها ذكر الله. ويروى عن عطاء وطاوس والحسن ومجاهد والحكم وحماد وقتادة في شدة الخوف ركعة واحدة يومىء بها إيماء. فأما سائر أهل العلم فإن صلاة شدة الخوف عندهم لا ينقص من العدد شيئا ولكن يصلي على حسب الإمكان ركعتين أي وجه يوجهون إليه رجالا وركبانا يومئون إيماء، روي ذلك عن عبد الله بن عمر وبه قال النخعي والثوري وأصحاب الرأي وهو قول مالك والشافعي. وأخبرنى الحسن بن يحيى عن ابن المنذر قال: قال أحمد بن حنبل كل حديث روي في أبواب صلاة الخوف فالعمل به جائز قال وقال أحمد ستة أوجه أو سبعة يروى فيه كلها جائز. ومن باب صلاة الطالب قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن عمرو بن الحجاج أبو معمر البصري حدثنا عبد الوارث، حَدَّثنا محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر، عَن أبي عبد الله بن أُنيس عن أبيه قال بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خالد بن سفيان الهُذَلي وكان نحو عُرنة وعرفات قال اذهب فاقتله فرأيته وحضرت صلاة العصر فقلت إني لأخاف أن يكون بيني وبينه ما يؤخر الصلاة فانطلقت أمشي وأنا أصلي أومىء إيماءً نحوه فلما دنوت منه قال لي من أنت قلت رجل من العرب بلغني أنك تجمع لهذا الرجل فجئتك في ذاك قال إني لفي ذاك فمشيت معه ساعة حتى إذا أمكنني علوته بسيفي حتى برد.

ومن باب التطوع

قلت واختلفوا في صلاة الطالب فقال عوام أهل العلم إذا كان مطلوبا كان له أن يصلي إيماء وإذا كان طالبا نزل إن كان راكبا وصلى بالأرض راكعا وساجدا، وكذلك قال الشافعي إلاّ أنه شرط في ذلك شرطا لم يشرطه غيره قال إذا قل الطالبون عن المطلوبين وانقطع الطالبون عن أصحابهم فيخافون عودة المطلوبين عليهم فإذا كان هكذا كان لهم أن يصلوا يومئون إيماء. قلت وبعض هذه المعاني موجودة في قصة عبد الله بن أنيس. باب تفريع أبواب التطوع ومن باب التطوع قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا أبو المغيرة حدثني عبد الله بن العلاء حدثني عبيد الله بن زياد الكندي عن بلال أنه حدثه أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤذنه بصلاة الغداة فشغلت عائشة بلالا بأمر سألته عنه حتى فضحه الصبح فأصبح جدا وأنه أبطأ عليه بالخروج فقال إني كنت ركعت ركعتي الفجر فقال يا رسول الله إنك أصبحت جدا وساق الحديث. قلت فضحه الصبح معناه دهمته فضحة الصبح، والفضحة بياض في غبرة وقد يحتمل أن يكون معناه أنه لما تبين الصبح جدا ظهرت غفلته عن الوقت فصار كمن يفتضح بعيب يظهر منه والله أعلم. وقد رواه بعضهم فصَحه الصبح بالصاد غير المعجمة، قال ومعناه بان له الصبح ومنها الإفصاح بالكلام وهو الإبانة باللسان عن الضمير. ومن باب إذا أدرك الإمام ولم يصل ركتي الفجر قال أبو داود: حدثنا سليمان بن حرب، حَدَّثنا حماد عن عاصم عن عبد الله

بن سَرجِس قال جاء رجل والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي الصبح فصلى الركعتين ثم دخل مع النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة فلما انصرف قال يا فلان أيتهما صلاتك التي صليت وحدك أو التي صليت معنا. قلت في هذا دليل على أنه إذا صادف الإمام في الفريضة لم يشتغل بركعتي الفجر وتركهما إلى أن يقضيهما بعد الصلاة. وقوله أيتهما صلاتك مسألة إنكار يريد بذلك تبكيته على فعله. وفيه دلالة على أنه لا يجوز أن يفعل ذلك وإن كان الوقت يتسع للفراغ منهما قبل خروج الإمام من صلاته لأن قوله أو التي صليت معنا يدل على أنه قد أدرك الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فراغه من الركعتين. قال أبو داود: حدثنا محمد بن المتوكل حدثنا عبد الرزاق حدثنا زكريا بن إسحاق عن عمرو بن دينار عن عطاء بن يسار، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلاّ المكتوبة. قلت: وفي هذا بيان أنه ممنوع من ركعتي الفجر ومن غيرها من الصلوات إلاّ المكتوبة. وقد اختلف الناس في هذا فروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يضرب الرجل إذا رآه يصلي الركعتين والإمام في الصلاة. وروي الكراهية في ذلك عن ابن عمر وأبي هُرَيْرَة وكره ذلك سعيد بن جبير وابن سيرين وعروة بن الزبير وإبراهيم النخعي وعطاء وإليه ذهب الشافعي وأحمد بن حنبل. ورخصت طائفة في ذلك روي ذلك عن ابن مسعود ومسروق والحسن ومجاهد ومكحول وحماد بن أبي سليمان.

ومن باب من فاتته متى يقضيها

وقال مالك إن لم يخف أن يفوته الإمام بالركعة فليركع خارجا قبل أن يدخل فإن خاف أن يفوته الركعة فليدخل مع الإمام فليصل معه. وقال أبوحنيفة إن خشي أن يفوته ركعة من الفجر في جماعة ويدرك ركعة يصلي عند باب المسجد ثم دخل فصلى مع القوم، وإن خاف أن يفوته الركعتان جميعا صلى مع القوم. ومن باب من فاتته متى يقضيها قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا عبد الله بن نمير عن سعد بن سعيد حدثني محمد بن إبراهيم عن قيس بن عمرو قال رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يصلي بعد صلاة الصبح ركعتين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح ركعتان، فقال الرجل إني لم أكن صليت الركعتين اللتين قبلهما فصليتهما الآن فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم. قلت: فيه بيان أن لمن فاتته الركعتان قبل الفريضة أن يصليهما بعدها قبل طلوع الشمس وأن النهي عن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس إنما هو فيمل يتطوع به الإنسان إنشاءً وابتداءً دون ما كان له تعلق بسبب. وقد اختلف الناس في وقت قضاء ركعتي الفجر فروي عن ابن عمر أنه قال يقضيهما بعد صلاة الصبح وبه قال عطاء وطاوس وابن جريج. وقال طائفة يقضيهما إذا طلعت الشمس، وبه قال القاسم بن محمد وهو مذهب الأوزاعي والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه. وقال أصحاب الرأي إن أحب قضاهما إذا ارتفعت الشمس فإن لم يفعل فلا شيء عليه لأنه تطوع.

وقال مالك يقضيهما ضحى إلى وقت زوال الشمس ولا يقضيهما بعد الزوال. قال أبو داود: حدثنا الربيع بن نافع، حَدَّثنا محمد بن المهاجر عن العباس بن سالم، عَن أبي سلام، عَن أبي أمامة عن عمرو بن عنبسة السُّلمي أنه قال: قلت يارسول الله أي الليل اسمع قال جوف الليل الآخر فصل ما شئت فإن الصلاة مشهودة مكتوبة حتى تصلي الصبح ثم اقصر حتى تطلع الشمس فترتفع قِيسَ رمح أو رمحين فإنها تطلع بين قرني شيطان ويصلي لها الكفار ثم صل ما شئت فإن الصلاة مشهودة مكتوبة حتى يعدل الرمح ظله ثم أقصر فإن جنهم تسجر وتفتح أبوابها فإذا زاغت الشمس فصل ما شئت فإن الصلاة مشهودة حتى تصلي العصر ثم أقصر حتى تغرب النشمس فإنها تغرب بين قرني شيطان ويصلي لها الكفار وساق الحديث. قلت: قوله أي الليل أسمع، يريد أي أوقات الليل أرجى للدعوة وأولى بالاستجابه وضع السمع موضع الاجابة كما يقول المصلي سمع الله لمن حمده، يريد استجاب الله دعاء من حمده. وقوله جوف الليل الآخر يريد به ثلث الليل الآخر وهو الجزء الخامس من أسداس الليل، وقيس رمح معناه قدر رمح في رأي العين يقال هو قيس رمح وقيد رمح بمعنى واحد. وقوله فإن الصلاة مشهودة مكتوبة، معناه أن الملائكة تشهدها وتكتب أجرها للمصلي. ومعنى قوله حتى يعدل الرمح ظله وهو إذا قامت الشمس قبل أن تزول، فإذا تناهى قصر الظل فهو وقت اعتداله وإذا أخذ في الزيادة فهو وقت الزوال. قلت وذكره تسجير جهنم وكون الشمس بين قرني الشيطان وما أشبه ذلك

من الأشياء التي تذكر على سبيل التعليل لتحريم شيء أو لنهي عن شيء أمور لا تدرك معانيها من طريق الحس والعيان، وإنما يجب علينا الإيمان بها والتصديق بمخبوءاتها والانتهاء إلى أحكامها التي علقت بها وقد ذكرت فيما تقدم من الكتاب ما قيل في معنى قرني الشيطان وحكيت في ذلك أقوالا لأهل العلم فأغنى عن إعادتها ههنا. قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة، عَن أبي إسحاق عن الأسود ومسروق قالا نشهد على عائشة أنها قالت ما من يوم يأتي على النبي صلى الله عليه وسلم إلاّ صلى بعد العصر ركعتين. قلت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الوقت قد قيل أنه مخصوص بها، وقيل إن الأصل فيه أنه صلاها يوما قضاء لفائت ركعتي الظهر وكان صلى الله عليه وسلم إذا فعل فعلا واظب عليه ولم يقطعه فيما بعد. قال أبو داود: حدثنا عبد الله النفيلي حدثنا ابن عُلَية عن الجُريري عن عبد الله بن بريدة عن عبد الله بن مغفل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بين كل أذانين صلاة بين كل أذانين صلاة لمن شاء. قلت أراد بالأذانين الأذان والإقامة حمل أحد الاسمين على الآخر والعرب تفعل ذلك كقولهم الأسودين للتمر والماء، وإنما الأسود أحدهما، وكقولهم سيرة العمرين يريدون أبا بكر وعمر رضي الله عنهما وإنما فعلوا ذلك لأنه أخف على اللسان من أن يثبتوا كل اسم منهما على حدته ويذكروه بخاص صفته، وقد يحتمل أن يكون ذلك في الأذانين حقيقة الاسم لكل واحد منهما لأن الأذان في اللغة معناه الإعلام. ومنه قوله تعالى {وأذان من الله ورسوله} [التوبة: 3] فالنداء

ومن باب صلاة النهار

بالصلاة أذان بحضور الوقت والإقامة أذان بفعل الصلاة. قال أبو داود: حدثنا أحمد بن منيع، حَدَّثنا عباد بن عباد عن واصل عن يحيى بن عقيل عن يحيى بن يعمر، عَن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يصبح على كل سلامى من بني آدم صدقة فتسليمه على من لقي صدقة وأمره بالمعروف صدقة ونهيه عن المنكر صدقة وإماطة الأذى عن الطريق صدقة وبضعته أهله صدقة ويجزي من ذلك كله ركعتا الضحى. قلت: السُّلامى عظام أصابع اليد والرجل ومعناه عظام البدن كلها يريد أن في كل عضو ومفصل من بدنه عليه صدقة. ومن باب صلاة النهار قال أبو داود: حدثنا عمرو بن مرزوق أخبرنا شعبة عن يعلى بن عطاء عن علي بن عبد الله البارقي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: صلاة الليل والنهار مثنى مثنى. قلت: روى هذا الحديث عن ابن عمر نافع وطاوس وعبد الله بن دينار لم يذكر فيه أحد صلاة النهار إنما هو صلاة الليل مثنى مثنى، إلاّ أن سبيل الزيادات أن تقبل وقد قال بهذا في النوافل مالك بن أنس والشافعي وأحمد بن حنبل، وقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الضحى يوم الفتح ثماني ركعات يسلم عن كل ركعتين. وصلاة العيد ركعتان والاستسقاء ركعتان وهذه كلها من صلاة النهار. قال أبو داود: حدثنا ابن المثنى، حَدَّثنا معاذ بن معاذ، حَدَّثنا شعبة حدثني عبد ربه بن سعيد عن أنس بن أبي أنس عن عبد الله بن نافع عن عبد الله بن الحارث عن المطلب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الصلاة مثنى مثنى وأن تشهد في كل ركعتين وأن تبأس وتَمَسكن وتقنع بيدك وتقول اللهم فمن لم يفعل ذلك فهي خداج.

ومن باب قيام الليل

قلت: أصحاب الحديث يغلطون شعبة في رواية هذا الحديث، قال محمد بن إسماعيل البخاري أخطأ شعبة في هذا الحديث في مواضع قال عن أنس بن أبي أنس وإنما هو عمران بن أبي أنس، وقال عن عبد الله بن الحارث وإنما هو عن عبد الله بن نافع عن ربيعة بن الحارث وربيعة بن الحارث هو ابن المطلب فقال هو عن المطلب، والحديث عن الفضل بن عباس ولم يذكر فيه الفضل. قلت ورواه الليث بن سعد عن عبد ربه بن سعيد عن عمران بن أبي أنس عن عبد الله بن نافع عن ربيعة بن الحارث عن الفضل بن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو الصحيح. وقال يعقوب بن سفيان في هذا الحديث مثل قول البخاري وخطأ شعبة وصوب الليث بن سعد، وكذلك قال محمد بن إسحاق بن خزيمة. وقوله تبأس معناه إظهار البؤس والفاقة وتمسكن من المسكنة، وقيل معناه السكون والوقار والميم مذيدة فيها واقناع اليدين رفعهما في الدعاء والمسألة، وقوله اللهم نداء معناه يا الله، وزعم بعض النحويين أنهم لما أسقطوا ياء من أوله عوضوا منها الميم في آخره. وقال بعضهم اللهم معناه يا الله امنا بخير أي اقصدنا بخير فحذف حذف الإضافة اختصارا؛ والخداج ههنا الناقص في الأجر والفضيلة. ومن باب قيام الليل قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك، عَن أبي الزناد عن الأعرج، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد يضرب بمكان كل عقدة عليك ليلا طويلا وذكر الحديث. قوله قافية رأس أحدكم يريد مؤخر الرأس ومنه سمي آخر بيت الشعر قافية.

ومن باب صلاة الليل

وقلت لأعرابي ورد علينا أين نزلت فقال في قافية ذلك المكان وسمى لي موضعا عرفته. ومن باب صلاة الليل قال أبو داود: حدثنا نصر بن عاصم الأنطاكي حدثنا الوليد حدثنا الأوزاعي وابن أبي ذيب عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء إلى أن ينصدع الفجر إحدى عشرة ركعة يسلم من كل ثنتين ويوتر بواحدة ويمكث في سجوده قدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية قبل أن يرفع رأسه فإذا سكت المؤذن بالأول من صلاة الفجر قام فركع ركعتين خفيفتين ثم اضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن. قلت: قوله سكت بالأول معناه الفراغ من الأذان الأول يريد أنه لا يصلي ما دام يؤذن فإذا فرغ من الأذان وسكت قام فصلى ركعتي الفجر. وقوله ينصدع معناه ينشق. ومن باب ما يؤمر به من القصد قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الليث عن ابن عجلان عن سعيد المقبري، عَن أبي سلمة عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اكْفَلوا من العمل ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا. معناه أن الله سبحانه لا يمل أبدا وإن مللتم، وهذا كقول الشاعر الشنفرى: صَلِيتْ مني هُذيل بحرق…… لا يمل الشرَّ حتى تملوا يريد أنه لا يمل إذا ملوا ولوكان يمل عند ملالهم لم يكن له عليهم فضل، وقيل معناه أن الله لا يمل من الثواب ما لم تملوا من العمل، ومعنى يمل يترك

ومن باب قيام شهر رمضان

لأن من مل شيئا تركه وأعرض عنه. قال أبو داود: حدثنا عبيد الله بن سعد حدثنا عمي حدثنا أبي عن ابن إسحاق عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى عثمان بن مظعون فجاءه فقال يا عثمان ارغبة عن سنتي فقال لا والله يا رسول الله لكني سنتك اطلب. قال فإني أنام وأصلي وأصوم وأفطر وأنكح النساء فاتق الله يا عثمان فإن لأهلك عليك حقا وإن لضيفك عليك حقا وإن لنفسك عليك حقا فصم وافطر وصل ونم. قوله إن لأهلك عليك حقا، يريد أنه إذا دأب نفسه وجهدها ضعفت قواه فلم يتسع لقضاء حق أهله. وقوله وإن لضيفك عليك حقا، فيه دليل على أن المتطوع بالصوم إذا أضافه ضيف كان المستحب أن يفطر ويأكل معه ليبسط بذلك منه ويزيد في إيناسه بمواكلته إياه وذلك نوع من إكرامه وقد قال صلى الله عليه وسلم: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه. باب تفريع أبواب شهر رمضان ومن باب قيام شهر رمضان قال أبو داود: حدثنا هناد بن السري حدثنا عبدة بن سليمان عن محمد بن عمرو بن علقمة عن محمد بن إبراهيم، عَن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة قالت: كان الناس يصلون في المسجد في رمضان أوزاعا فأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم فضربت له حصيرا فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه وصلى بصلاته الناس وذكر الحديث. قولها أوزاعاً يريد متفرقين ومن هذا قولهم وزعت الشيء إذا فرقته وفيه إثبات الجماعة في قيام شهر رمضان، وفيه إبطال قول من زعم إنها محدثة.

ومن باب تحزيب القرآن

قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يزيد بن زريع حدثنا داود بن أبي هند عن الوليد بن عبد الرحمن عن جبير بن نفير، عَن أبي ذر، قال صمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رمضان فلم يقم بنا شيئا من الشهر حتى بقي سبع فقام بنا حتى ذهب ثلث الليل فلما كانت السادسة لم يقم بنا فلما كانت الخامسة قام بنا حتى إذا ذهب شطر الليل فقلت يا رسول الله لو نفلتنا قيام هذه الليلة قال: فقال إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف حسب له قيام ليلة، قال فلما كانت الرابعة لم يقم بنا فلما كانت الثالثة جمع أهله ونساءه والناس فقام بنا حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح قال قلت وما الفلاح، قال السحور ثم لم يقم بنا بقية الشهر. قلت: أصل الفلاح البقاء وسمي السحور فلاحا إذ كان سبباً لبقاء الصوم ومعيناً عليه. قال أبو داود: حدثنا نصر بن علي وداود بن أمية أن سفيان أخبرهم، عَن أبي يعفور وقال داود بن أمية عن ابن عبيد بن نسطاس، عَن أبي الضحى عن مسروق عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل العشر أحيا الليل وشد المئزر وأيقظ أهله. شد المئزر يتأول على وجهين: أحدهما هجران النساء وترك غشيانهن. والآخَرُ الجد والتشمير في العمل. أبواب قراءة القرآن وتحزيبه وترتيله ومن باب تحزيب القرآن قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن سعيد حدثنا أبو خالد عن عبد الله بن عبد الرحمن بن يعلى عن عثمان بن عبد الله بن أوس بن حذيفة عن جده، قال قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد ثقيف وساق الحديث قال وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتينا كل ليلة بعد العشاء فيحدثنا قائماً على رجليه حتى يراوح بين رجليه من طول

ومن باب السجود في صاد

القيام، وأكثر ما يحدثنا ما لقي من قومه قريش، قال كانت سجال الحرب بيننا وبينهم ندال عليهم ويدالون علينا فلما كانت ليلة أبطأ عن الوقت الذي كان يأتينا فيه فقلت لقد أبطأت عنا الليلة قال أنه طرأ عليّ حزبي من القرآن وكرهت أجيء حتى أتمه. قوله يراوح بين رجليه هو أن يطول قيام الإنسان حتى يعيا فيعتمد على إحدى رجليه مرة ثم يتكئ على رجله الأخرى مرة، وسجال الحرب نوبها وهي جمع سجل وهو الدلو الكبيرة وقد يكون السجال مصدر ساجلت الرجل مساجلة وسجالا وهو أن يستقي الرجل من بئر أو ركية فينزع هذا سجلا وهذا سجلا يتناوبان السقي بينهما. وقوله ندال عليهم ويدالون علينا يريد أن الدولة تكون لنا عليهم مرة ولهم علينا أخرى. وقوله طرأ علي حزبي من القرآن يريد أنه كان قد أغفله عن وقته ثم ذكره فقرأه وأصله من قولك طرأ عليّ الرجل إذا خرج عليك فجأة طروءاً فهو طارئ. قال ابو داود: حدثنا عباد بن موسى حدثنا إسماعيل بن جعفر عن إسرائيل، عَن أبي إسحاق عن علقمة والأسود، قالا أتى ابن مسعود رجل فقال إني أقرأ الفصل في ركعة فقال أهذاً كهذَّ الشعر ونثراً كنثر الدَّقَل. الهذ سرعة القراءة وإنما عاب عليه ذلك لأنه إذا أسرع القراءة ولم يرتلها فاته فهم القرآن وإدراك معانيه. سجود القرآن ومن باب السجود في صاد قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب أخبرني عمرو عن ابن أبي هلال عن عياض بن عبد الله بن سعد بن أبي سرح، عَن أبي سعيد الخدري أنه قال قرأ رسول الله وهو على المنبر صاد فلما بلغ السجدة نزل فسجد

وسجد الناس معه، فلما كان يوم آخر قرأها فلما بلغ السجدة تشزن الناس للسجود فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما هو توبة نبي ولكني رأيتكم تشزنتم للسجود فنزل وسجد وسجدوا. قوله تشزن الناس معناه استوفزوا للسجود وتهيؤوا له وأصله من الشزن وهو القلق يقال بات فلان على شزن إذا بات قلقاً يتقلب من جنب إلى جنب. واختلف الناس في سجدة صاد فقال الشافعي سجود القرآن أربع عشرة سجدة في الحج منها سجدتان وفي المفصل ثلاثة وليس في صاد سجدة. وقال أصحاب الرأي في الحج سجدة واحدة وأثبتوا السجود في صاد. وقال إسحاق بن راهويه سجود القرآن خمس عشرة سجدة وأثبت السجود في «ص» والسجدتين في «الحج» . قال أبو داود: حدثنا أحمد بن الفرات الرازي أخبرنا عبد الرزاق أخبرنا عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقْرأ عليه القرآن فإذا مر بالسجدة كبر وسجد وسجدنا معه. قلت: فيه من الفقه أن المستمع للقرآن إذا قرئ بحضرته السجدة يسجد مع القارئ. وقال مالك والشافعي إذا لم يكن قعد لاستماع القرآن فإن شاء سجد وإن شاء لم يسجد. وفيه بيان أن السنة أن يكبر للسجدة وعلى هذا مذهب أكثر أهل العلم. وكذلك يكبر إذا رفع رأسه. وكان الشافعي وأحمد بن حنبل يقولان يرفع يديه إذا أراد أن يسجد. وعن ابن سيرين وعطاء إذا رفع رأسه من السجود يسلم وبه قال إسحاق بن راهويه

باب استحباب الوتر

واحتج لهم في ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم تحريمها التكبير وتحليلها التسليم، وكان أحمد بن حنبل لا يعرف التسليم في هذا. ومن باب الوتر باب استحباب الوتر قال أبو داود: حدثنا إبراهيم بن موسى أخبرنا عيسى عن زكريا، عَن أبي إسحاق عن عاصم عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أهل القرآن أوتروا فإن الله وتر يحب الوتر. قلت تخصيصه أهل القرآن بالأمر فيه يدل على أن الوتر غير واجب ولو كان واجبا لكان عاما وأهل القرآن في عرف الناس هم القراء والحفاط دون العوام وسل على ذلك أيضاً قوله للأعرابي ليس لك ولا لأصحابك. قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا أبو حفص الأبار عن الأعمش عن عمرو بن مرة، عَن أبي عبيدة عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم بمعناه فقال أعرابي ما تقول قال ليس لك ولا لأصحابك. قال أبو داود: حدثنا أبو الوليد وقتيبة المعنى قالا: حَدَّثنا الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن عبد الله بن راشد الزوفي عن عبد الله بن أبي مرة الزوفى عن خارجة بن حذافة، قال أبو الوليد العدوي خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن الله قد أمدكم بصلاة هي خير لكم من حمر النعم وهي الوتر فجعلها لكم ما بين صلاة العشاء إلى طلوع الفجر. قوله أمدكم بصلاة يدل على أنها غير لازمة لهم ولو كانت واجبة لخرج الكلام فيه على صيغة لفظ الإلزام فيقول ألزمكم أو فرض عليكم أو نحو ذلك من الكلام. وقد روي أيضاً في هذا الحديث أن الله قد زادكم صلاة ومعناه الزيادة في النوافل

وذلك أن نوافل الصلوات شفع لا وتر فيها، فقيل أمدكم بصلاة وزادكم صلاة لم تكونوا تصلونها قبل على تلك الهيئة والصورة وهي الوتر. وفيه دليل على أن الوتر لا يقضى بعد طلوع الفجر، وإليه ذهب مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وهو قول عطاء. وقال سفيان الثوري وأصحاب الرأي يقضي الوتر وإن كان قد صلى الفجر، وكذلك قال الأوزاعي. قال أبو داود: حدثنا محمد بن المثنى حدثنا أبو إسحاق الطالقاني حدثنا الفضل بن موسى عن عبيد الله بن عبد الله العتكي عن ابن بريدة عن أبيه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الوتر حق فمن لم يوتر فليس منا. قلت معنى هذا الكلام التحريض على الوتر والترغيب فيه وقوله ليس منا معناه من لم يوتر رغبة عن السنة فليس منا. وقد دلت الأخبار الصحيحة على أنه لم يرد بالحق الوجوب الذي لا يسع غيره منها خبر عبادة بن الصامت لما بلغه أن أبا محمد رجلا من الأنصار يقول الوتر حق، فقال كذب أبو محمد ثم روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في عدد الصلوات الخمس، ومنها خبر طلحة بن عبيد الله في سؤال الأعرابي؛ ومنها خبر أنس بن مالك في فرض الصلوات ليلة الإسراء. وقد أجمع أهل العلم على أن الوتر ليس بفريضة إلاّ أنه يقال إن في رواية الحسن بن زياد، عَن أبي حنيفة أنه قال هو فريضة وأصحابه لا يقولون بذلك فإن صحت هذه الرواية فإنه مسبوق بالإجماع فيه. قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير أخبرنا همام عن قتادة عن عبد الله بن شقيق

ومن باب القنوت في الصلاة

عن ابن عمر أن رجلا من أهل البادية سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة الليل فقال: مثنى مثنى والوتر ركعة من آخر الليل. قلت قد ذهب جماعة من السلف إلى أن الوتر ركعة منهم عثمان بن عفان وسعد بن أبي وقاص وزيد بن ثابت وأبو موسى الأشعري وابن عباس وعائشة وابن الزبير وهو مذهب ابن المسيب وعطاء ومالك والأوزاعي والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه غير أن الاختيار عند مالك والشافعي وأحمد بن حنبل أن يصلي ركعتين ثم يوتر بركعة فإن أفرد الركعة كان جائزا عند الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وكرهه مالك. وقال أصحاب الرأي الوتر ثلاث لا يفصل بين الشفع والوتر بتسليمة. وقال سفيان الثوري الوتر ثلاث وخمس وسبع وتسع وإحدى عشرة. وقال الأوزاعي إن فصل بين الركعتين والثالثة فحسن وإن لم يفصل فحسن. وقال مالك يفصل بينهما فإن لم يفعل ونسي إلى أن قام في الثالثة سجد سجدتي السهو. ومن باب القنوت في الصلاة قال أبو داود: حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم حدثنا الوليد حدثنا الأوزاعي حدثني يحيى بن أبي كثير حدثني أبوسلمة بن عبد الرحمن، عَن أبي هريرة قال قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة العتمة شهرا يقول في قنوته اللهم نج الوليد بن الوليد اللهم نج سلمة بن هشام، اللهم نج المستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مضر اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف، قال أبو هريرة وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فلم يدع لهم فذكرت له ذلك فقال أو ما تراهم قد قدموا. قلت فيه من الفقه إثبات القنوت في غير الوتر.

وفيه دليل على أن الدعاء لقوم بأسمائهم وأسماء آباءهم لا يقطع الصلاة وأن الدعاء على الكفار والظلمة لا يفسدها، ومعنى الوطأة ههنا الإيقاع بهم والعقوبة لهم، ومعنى سني يوسف القحط والجدب وهي السبع الشداد التي أصابتهم. قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن معاوية الجمحي حدثنا ثابت بن يزيد عن هلال بن خباب عن عكرمة عن ابن عباس قال قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهراً متتابعاً في الظهر والعصر والمغرب والعشاء وصلاة الصبح في دبر كل صلاة إذا قال سمع الله لمن حمده من الركعة الآخرة يدعوعلى أحياء من سُليم على رِعَل وذَكوان وعصية ويؤمن من خلفه. قلت فيه بيان أن موضع القنوت بعد الركوع لا قبله. قال أبو داود: حدثنا أبو الوليد الطيالسي حدثنا حماد بن سلمة عن أنس بن سيرين عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت شهراً ثم تركه. قلت معنى قوله ثم تركه أي ترك الدعاء على هؤلاء القبائل المذكورة في الحديث الأول أو ترك القنوت في الصلوات الأربع ولم يتركه في صلاة الصبح ولا ترك الدعاء المذكور في حديث الحسن بن علي، وهو قوله اللهم اهدنا فيمن هديت يدل على ذلك الأحاديث الصحيحة في قنوته إلى آخر أيام حياته. وقد اختلف الناس في القنوت في صلاة الفجر وفي موضع القنوت منها، فقال أصحاب الرأي لا قنوت فيها ولا قنوت إلاّ في الوتر ويقنت قبل الركوع. وقال مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه يقنت في صلاة الفجر والقنوت بعد الركوع وقد روي القنوت بعد الركوع في صلاة الفجر،

ومن باب ثواب قراءة القرآن

عَن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم. فأما القنوت في شهر رمضان فمذهب إبراهيم النخعي وأهل الرأي وإسحاق ان يقنت في أوله وآخره. وقال الزهري ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل لا يقنت إلاّ في النصف الآخر منه واحتجوا في ذلك بفعل أبي بن كعب وابن عمر ومعاذ القارىء. [جماع أبواب فضائل القرآن] ومن باب ثواب قراءة القرآن قال أبو داود: حدثنا سليمان بن داود المهري أخبرنا ابن وهب حدثنا موسى بن علي بن رباح عن أبيه عن عقبة بن عامر الجُهني قال خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في الصُفّة فقال أيكم يحب أن يغدو إلى بُطحان أو العقيق قيأخذ ناقتين كَوماوين زهراوين بغير إثم ولا قطع رحم قالوا كلنا يا رسول الله، قال فلأن يغدو أحدكم كل يوم إلى المسجد فيتعلم آيتين من كتاب الله عز وجل خير له من ناقتين. الكوماء من الإبل العظيمة السنام. ومن باب الترتيل في القرآن قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن سفيان قال حدثني عاصم بن بهدلة عن زر عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقال لصاحب القرآن اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها. قلت جاء في الأثر أن عدد آي القرآن على قدر درج الجنة، يقال للقارىء

ارق في الدرج على قدر ما كنت تقرأ من آي القرآن فمن استوفى قراءة جميع القرآن استولى على اقصى درج الجنة ومن قرأ جزءا منها كان رقيه في الدرج على قدر ذلك فيكون منتهى الثواب عند منتهى القراءة. قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن الأعمش عن طلحة عن عبد الرحمن عن عوسجة عن البراء بن عازب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: زينوا القرآن بأصواتكم. قلت معناه زينوا أصواتكم بالقرآن هكذا فسره غير واحد من أئمة الحديث وزعموا أنه من باب المقلوب كما قالوا عرضت الناقة على الحوض أي عرضت الحوض على الناقة، وكقولهم إذا طلعت الشعرى واستوى العود على الحرباء أي استوى الحرباء على العود وكقول الشاعر: وتركب خيلاً لا هوادة بينها … وتشقى الرماح بالضياطرة الحمر وإنما هو تشقى الضياطرة بالرماح. وأخبرنا ابن الأعرابي حدثنا عباس الدوري حدثنا يحيى بن معين حدثنا أبو قطن عن شعبة قال نهاني أيوب أن أحدث زينوا القرآن بأصواتكم. قلت ورواه معمر عن منصور عن طلحة فقدم الأصوات على القرآن وهو الصحيح أخبرناه محمد بن هاشم حدثنا الدبري عن عبد الرزاق أخبرنا معمر عن منصور عن طلحة عن عبد الرحمن بن عوسجة عن البراء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: زينوا أصواتكم بالقرآن، والمعنى اشغلوا أصواتكم بالقرآن والهجوا بقراءته واتخذوه شعارا وزينة. وفيه دليل على هذه الرواية من طريق منصور أن المسموع من قراءة القارئ

هو القرآن وليس بحكاية للقرآن. قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن ابن أبي مليكة عن عبيد الله بن أبي نهيك عن سعد بن أبي وقاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس منا من لم يتغن بالقرآن. قلت هذا يتأول على وجوه أحدها: تحسين الصوت والوجه الثاني: الاستغناء بالقرآن عن غيره، وإليه ذهب سفيان بن عيينة ويقال تغنى الرجل بمعنى استغنى قال الأعشى: وكنت امرأ زمنا بالعراق ... عفيف المنازل طويل التغني أي الاستغناء، وفيه وجه ثالث قاله ابن الأعرابي صاحبنا أخبرني إبراهيم بن فراس قال: سألت ابن الأعرابي عن هذا فقال إن العرب كانت تتغنى بالركبان إذا ركبت البل وإذا جلست في الأفنية وعلى أكثر أحوالها فلما نزل القرآن أحب النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون القرآن هجيراهم مكان التغني بالركبان. قال أبو داود: حدثنا سليمان بن داود المهري أخبرنا ابن وهب حدثني عمرو بن مالك وحَيْوة عن ابن الهاد عن محمد بن إبراهيم بن الحارث، عَن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عَن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما أذِن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به. قوله أذن معناه استمع يقال أذنت للشيء آذن له أذنا مفتوحه الألف والذال قال الشاعر: * إن همي في سماع وأذَنْ *

ومن باب أنزل القرآن على سبعة أحرف

وقوله يجهر به زعم بعضهم أنه تفسير لقوله يتغنى به، قال وكل من رفع صوته بشيء معلنا به فقد تغنى به، وقال أبو عاصم أخذ بيدي ابن جريج فوقفني على أشعب فقال غن ابن أخي ما بلغ من طمعك فقال بلغ من طمعي أنه ما زفت بالمدينة جارية إلاّ رششت بابي طمعا أن تهدي إليَّ يريد أخبره معلنا به غير مُسرّ وهذا وجه رابع في تفسير قوله ليس منا من لم يتغن بالقرآن. قال أبو داود: حدثنا محمد بن العلاء حدثنا ابن إدريس عن يزيد بن أبي زياد عن عيسى بن فايد عن سعد بن عبادة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من امرئ يقرأ القرآن ثم ينساه إلاّ لقي الله يوم القيامة أجذم. قال أبوعبيد: الأجذم المقطوع اليد وقال ابن قتيبة: الأجذم ههنا المجذوم، وقال ابن الأعرابي: معناه أنه يلقى الله خالي اليدين عن الخير كنى باليد عما تحويه اليد، وقال آخر معناه لقي الله لا حجة له وقد رويناه عن سويد بن غفلة. ومن باب أنزل القرآن على سبعة أحرف قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عبد الرحمن بن عبد القارىء قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرؤوا ما تيسر منه. قلت اختلف الناس في تفسير قوله سبعة أحرف فقال بعضهم معنى الحروف اللغات يريد أنه نزل على سبع لغات من لغات العرب هن أفصح اللغات وأعلاها في كلامهم قالوا وهذه اللغات متفرقة في القرآن غير مجتمعة في الكلمة الواحدة

ومن باب الدعاء

وإلى نحو من هذا أشار أبو عبيد. وقال القتبي لا نعرف في القرآن حرفاً يقرأ على سبعة أوجه، وقال ابن الأنباري هذا غلط وقد وجد في القرآن حروف تصح أن تقرأ على سبعة أحرف منها قوله تعالى {وعبد الطاغوت} [المائدة: 60] وقوله {أرسله معنا غدا يرتع ويلعب} [يوسف: 12] وذكر وجوهها كأنه يذهب في تأويل الحديث إلى أن بعض القرآن أنزل على سبعة أحرف لا كله. وقد ذكر بعضهم فيه وجها آخر قال وهو أن القرآن أنزل مرخَّصا للقارئ وموسعا عليه أن يقرأه على سبعة أحرف أي يقرأه بأي حرف شاء منها على البدل من صاحبه ولو أراد أن يقرأ على معنى ما قاله ابن الأنباري لقيل أنزل القرآن بسبعة أحرف فإنما قيل على سبعة أحرف ليعلم أنه أريد به هذا المعنى أي كأنه أنزل على هذا من الشرط أو على هذا من الرخصة والتوسعة وذلك لتسهل قراءته على الناس ولو أخذوا بأن يقرؤوه على حرف واحد لشق عليهم ولكان ذلك داعيةً للزهادة فيه وسببا للنفورعنه. وقيل فيه وجه آخر وهو أن المراد به التوسعة ليس حصر العدد. ومن باب الدعاء قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي حدثنا عبد الملك بن محمد بن أيمن عن عبد الله بن يعقوب بن إسحاق عمن حدثه عن محمد بن كعب القرظي حدثني عبد الله بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من نظر في كتاب أخيه بغير إذنه فإنما ينظر في النار. قوله فإنما ينظر في النار إنما هو تمثيل يقول كما يحذر النار فليحذر هذا الصنيع

إذ كان معلوماً أن النظر إلى النار والتحديق إليها يضر بالبصر، وقد يحتمل أن يكون أراد بالنظر إلى النار الدنو منها والصُّليَّ بها لأن النظر إلى الشيء إنما يتحقق عند قرب المسافة بينك وبينه والدنو منه. وفيه وجه آخر وهو أن يكون معناه كأنما ينظر إلى ما يوجب عليه النار فأضمره في الكلام. وزعم بعض أهل العلم أنه إنما أراد به الكتاب الذي فيه أمانة أو سر يكره صاحبه أن يطلع عليه أحد دون الكتب التي فيها علم فإنه لا يحل منعه ولا يجوز كتمانه، وقيل أنه علم في كل كتاب لأن صاحب الشيء أولى بماله وأحق بمنفعة ملكه وإنما يأثم بكتمان العلم الذي يسأل عنه، فأما أن يأثم في منعه كتابا عنده وحبسه عن غيره فلا وجه له والله أعلم. قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا حفص بن غياث عن الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن عطاء عن عائشة أنها سُرقت مِلحفة لها فجعلت تدعو على من سرقها فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول لا تسبخي عنه. قوله لا تسبخي عنه معناه لا تخففي عنه بدعائك، وقال أعرابي الحمد لله على تسبيخ العروق واساغة الريق. قال أبو داود: حدثنا داود بن أمية حدثنا سفيان بن عيينة عن محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة عن كريب عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضاء نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته. قوله مداد كلماته أي قدر ما يوازيها في العدد والكثرة، والمداد بمعنى المدد قال الشاعر:

رأوا بارقات بالأكف كأنها ... مصابيح سرج أوقدت بمداد أي بمدد من الزيت وحكى الفراء عن العرب أنهم يجمعون المُدَّ مدادا قال أنشدني الحارثي: ما يَزْنَ في البحر بخير سعد ... وخير مد من مداد البحر فيكون على هذا معناه أنه يسبح الله على قدر كلماته عيار كيل أو وزن أو ما أشبههما من وجوه الحصر والتقدير، وهذا كلام تمثيل يراد به التقريب لأن الكلام لا يقع في المكاييل ولا يدخل في الوزن ونحوذلك. قال أبو داود: حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا الأوزاعي حدثني حسان بن عطية حدثني محمد بن أبي عائشة حدثني أبو هريرة قال قال أبوذر يا رسول الله ذهب أصحاب الدثور بالأجور وذكر الحديث. الدثور جمع الدثر وهو المال الكثير. قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن الحارث عن طليق بن قيس عن ابن عباس قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: رب تقبل توبتي واغسل حَوبتي. الحوبة الزلة والخطيئة والحوب الإثم. قال أبو داود: حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن ثابت، عَن أبي بردة عن الأغر المزني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه ليُغان على قلبي وإني لأستغفر الله في كل يوم مائة مرة. قوله يغان معناه يُغطي ويلبس على قلبي، وأصله من الغين وهو الغطاء وكل حائل بينك وبين شيء فهو غين ولذلك قيل للغيم غين.

قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد أخبرنا الليث عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أخيه عباد بن أبي سعيد أنه سمع أبا هريرة يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم إني أعوذ بك من الأربع من علم لا ينفع وقلب لا يخشع ومن نفس لا تشبع ومن دعاء لا يسمع. قوله لا يسمع معناه لا يجاب ومن هذا قول المصلي سمع الله لمن حمده يريد استجاب الله دعاء من حمده. قال الشاعر: دعوت الله حتى خفت ألاّ …يكون الله يسمع ما أقول أي لا يجيب ما أدعو به. قال أبو داود: حدثنا عبيد الله بن عمر حدثني مكي بن إبراهيم حدثني عبد الله بن سعيد عن صيفي مولى أفلح مولى أبي أيوب، عَن أبي اليسر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو (اللهم إني أعوذ بك من الهدم وأعوذ بك من التردي ومن الغرق والحرق والهرم وأعوذ بك من أن يتخبطني الشيطان عند الموت وأعوذ بك من أن أموت في سبيلك مدبرا وأعوذ بك أن أموت لديغا) . قلت: استعاذته من تخبط الشيطان عند الموت هو أن يستولي عليه الشيطان عند مفارقة الدنيا فيضله ويحول بينه وبين التوبة أو يعوقه عن إصلاح شأنه والخروج من مظلمة تكون قبله أو يؤيسه من رحمة الله أو يتكره الموت ويتأسف على حياة الدنيا فلا يرضى بما قضاه الله من الفناء والنُّقلة إلى الدار الآخرة فيختم له بالسوء ويلقى الله وهوساخط عليه. وقد روي أن الشيطان لا يكون في حال أشد على ابن آدم منه في حال الموت يقول لأعوانه دونكم هذا فإنه إن فاتكم اليوم لم تلحقوه.

بالله نعوذ من شره ونسأله أن يبارك لنا في ذلك المصرع وأن يختم لنا بخير. قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد حدثنا قتادة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: اللهم إني أعوذ بك من البرص والجنون والجذام ومن سيء الأسقام. قلت يشبه أن يكون استعاذته من هذه الأسقام لأنها عاهات تفسد الخلقة وتبقي الشين وبعضها يؤثر في العقل وليست كسائر الأمراض التي إنما هي أعراض لا تدوم كالحمى والصداع وسائر الأمراض التي لا تجري مجرى العاهات وإنما هي كفارات وليست بعقوبات. ومن كتاب الجنائز قال أبو داود: حدثنا عبد العزبز بن يحيى حدثنا محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن عروة عن أسامة بن زيد قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يعود عبد الله بن أُبي في مرضه الذي مات فيه فلما دخل عليه عرف فيه الموت قال قد كنت أنهاك عن حب اليهود قال فقد أبغضهم أسعد بن زرارة فَمَهْ فلما مات أتاه ابنه فقال يا رسول الله إن عبد الله بن أبي قد مات فأعطني قميصك أكفنه فنزع رسول الله صلى الله عليه وسلم قميصه فأعطاه إياه. قلت كان أبو سعيد بن الأعرابي يتأول ما كان من تكفين النبي صلى الله عليه وسلم

عبد الله بن أبي بقميصه على وجهين: أحدهما أن يكون أراد به تألف ابنه وإكرامه فقد كان مسلما بريئاً من النفاق، والوجه الآخر أن عبد الله بن أبي كان قد كسا العباس بن عبد المطلب قميصا فأراد صلى الله عليه وسلم أن يكافئه على ذلك لئلا يكون لمنافق عنده يد لم يجازه عليها. وحدثنا بهذه القصة ابن الأعرابي حدثنا سعدان بن نصر حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار سمع جابر بن عبد الله يقول كان العباس بن عبد المطلب بالمدينة فطلبت الأنصار له ثوبا يكسونه فلم يجدوا قميصا يصلح عليه إلاّ قميص عبد الله بن أبي فكسوه إياه. وكان أيضاً حدثنا بالحديث الأول الذي رواه أبو داود زادنا فيه شيئا لم يذكره أبو داود وقال حدثنا سعدان بن نصر حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو سمع جابر بن عبد الله قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبر عبد الله بن أبي بعدما ادخل حفرته فأمر به فأخرج فوضعه على ركبتيه أو فخذيه فنفس فيه من ريقه وألبسه قميصه. قلت: عبد الله بن أُبي منافق ظاهر النفاق أنزل الله تعالى في كفره ونفاقه آيات من القرآن تتلى فاحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم إنما فعل ذلك قبل أن ينزل قوله تعالى {ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره} [التوبة: 84] واحتمل أن يكون معناه ماذهب إليه ابن الأعرابي من التأويل والله أعلم. وفي الحديث دليل على جواز التكفين بالقميص. وفيه دليل على جواز إخراج الميت من القبر بعد الدفن لعلة أو سبب.

ومن باب فضل العيادة

ومن باب فضل العيادة قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير أخبرنا شعبة عن الحكم عن عبد الله بن نافع عن علي رضي الله عنه قال: ما من رجل يعود مريضا ممسياً إلاّ خرج معه سبعون ألفَ ملكٍ يستغفرون له حتى يصبح وكان له خريف في الجنة، ومن أتاه مصبحا خرج معه سبعون ألف ملك يستغفرون له حتى يمسي وكان له خريف في الجنة. قال أبو داود أُسند هذا عن عليّ من غير وجه صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم. قوله كان له خريف في الجنة أي مخروف من ثمر الجنة فعيل بمعنى مفعول، وهذا كحديثه الآخر عائد المريض على مخارف الجنة، والمعنى والله أعلم أنه بسعيه إلى عيادة المريض يستوجب الجنة ومخارفها. ومن باب الخروج من الطاعون قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن ما لك عن ابن شهاب عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب عن عبد الله بن عبد الله بن الحارث بن نوفل عن عبد الله بن عباس قال: قال عبد الرحمن بن عوف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه، يَعني الطاعون. قلت في قوله لا تقدموا عليه إثبات الحذر والنهي عن التعرض للتلف وفي قوله لا تخرجوا فرارا منه إثباب التوكل والتسليم لأمرالله وقضائه فأحد الأمرين تأديب وتعليم والآخر تفويض وتسليم. ومن باب موت الفُجأة قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن شعبة عن منصور عن تميم بن

ومن باب فضل من مات في الطاعون

سلمة أو سعد بن عُبيدة عن عبيد بن خالد السُّلمي رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال مرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال مرة عن عبيد قال موت الفجأة اخذة أسف. الأسف الغضبان ومن هذا قوله تعالى {فلما آسفونا انتقمنا منهم} [الزخرف: 55] ومعناه والله أعلم أنهم فعلوا ما أوجب الغضب عليهم والانتقام منهم. ومن باب فضل من مات في الطاعون قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن عبد الله بن عبد الله بن جابر بن عتيك عن عَتيك بن الحارث بن عتيك وهو جد عبد الله بن عبد الله أبو أمه أنه خبره أن جابر بن عتيك أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء يعود عبد الله بن ثابت فوجده قد غلب عليه فصاح به رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجبه فاسترجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: غلبنا عليك يا أبا الرجيع فصاح النسوة وبكين فجعل ابن عتيك يسكتهن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم دعهن فإذا وجب فلا تبكين باكية قالوا وما الوجوب يا رسول الله قال الموت، فقالت ابنته والله إن كنتُ لأرجو أن تكون شهيدا فإنك قد كنت قضيت جهازك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد وقع أجره على قدر نيته وماتعدون الشهادة قالوا القتل في سبيل الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الشهادة سبع سوى القتل في سبيل الله المطعون شهيد والغريق شهيد وصاحب ذات الجنب شهيد والمبطون شهيد وصاحب الحريق شهيد والذي يموت تحت الهدم شهيد والمرأة تموت بجمع شهيد. قلت أصل الوجوب في اللغة السقوط قال الله تعالى {فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها} [الحج: 36] وهو أن تميل فتسقط وإنما يكون ذلك إذا زهقت نفسها، ويقال للشمس إذا غابت قد وجبت الشمس.

ومن باب ما يستحب من حسن الظن

وقوله والمرأة تموت بجمع فهو أن تموت وفي بطنها ولد. ومن باب ما يستحب من حسن الظن بالله عند الموت قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا عيسى بن يونس حدثنا الأعمش، عَن أبي سفيان عن جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قبل موته بثلاث لا يموت أحدكم إلاّ وهو يحسن بالله الظن. قلت إنما يحسن بالله الظن من حسن عمله فكأنه قال أحسنوا أعمالكم يحسن ظنكم بالله فإن من ساء عمله ساء ظنه؛ وقد يكون أيضاً حسن الظن بالله من ناحية الرجاء وتأميل العفو والله جواد كريم لا آخذنا الله بسوء أفعالنا ولا وكلنا إلى حسن أعمالنا برحمته. ومن باب ما يستحب من تطهير ثياب الميت قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي حدثنا ابن أبي مريم أخبرنا يحيى بن أيوب عن ابن الهاد عن محمد بن إبراهيم، عَن أبي سلمة، عَن أبي سعيد الخدري أنه لما حضره الموت دعا بثياب جدد فلبسها، ثم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الميت يبعث في ثيابه التي يموت فيها. قلت أما أبو سعيد فقد استعمل الحديث على ظاهره، وقد روي في تحسين الكفن أحاديث وقد تأوله بعض العلماء علي خلاف ذلك فقال معنى الثياب العمل كنى بها عنه يريد أنه يبعث على ما مات عليه من عمل صالح أوعمل سيء. قال والعرب تقول فلان طاهر الثياب إذا وصفوه بطهارة النفس والبراءة من العيب ودنسُ الثياب إذا كان بخلاف في ذلك واستدل في ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم: تحشر الناس حفاة عراة، فدل ذلك على أن معنى الحديث ليس على الثياب التي

ومن باب في التعزية

هي الكفن، وقال بعضهم البعث غير الحشر فقد يجوز أن يكون البعث مع الثياب والحشر مع العري والحفا والله أعلم. ومن باب في التعزية قال أبو داود: حدثنا يزيد بن خالد بن عبد الله أخبرنا المفضل عن ربيعة بن سيف المعافري، عَن أبي عبد الرحمن الحبُلي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قبرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما، يَعني ميتا فلما فرغنا انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وانصرفنا معه فلما حاذى بابه وقف فإذا نحن بامرأة مقبلة قال أظنه عرفها فلما ذهبت إذا هي فاطمة فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أخرجك يا فاطمة من بيتك؟ قالت أتيت يا رسول الله أهل هذا البيت فرحّمت إليهم ميتهم أو عزيتهم به، قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلعلك بلغت معهم الكُدَى قالت معاذ الله وقد سمعتك تذكر فيها ما تذكر قال لو بلغت معهم الكدى فذكر تشديداً في ذلك فسألت ربيعة عن الكدى قال القبور فيما أحسب. الكدى جمع الكدية وهي القطعة الصلبة من الأرض والقبور إنما تحفر في المواضع الصلبة لئلا تنهار، والعرب تقول ما هو إلاّ ضب كُدية إذا وصفوا الرجل بالدهاء والأرب، ويقال أكدى الرجل إذا حفر فأفضى إلى الصلابة ويضرب به المثل فيمن أخفق فلم ينجح في طلبته. ومن باب النوح قال أبو داود: حدثنا هناد بن السري عن عبدة وأبي معاوية المعنى عن هشام بن عروة عن أبيه عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الميت ليعذب ببكاء

أهله عليه فذكر ذلك لعائشة فقالت وَهَل تعني ابن عمر إنما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبر يهودي فقال إن صاحبه ليعذب وأهله يبكون عليه ثم قرأت {ولا تزر وازرة وزر أخرى} [الأنعام: 164] ولم يقل عبدة يهودي. قلت قد يحتمل أن يكون الأمر في هذا على ما ذهبت إليه عائشة لأنها قد روت أن ذلك إنما كان في شأن يهودي والخبر المفسر أولى من المجمل ثم احتجت له بالآية، وقد يحتمل أن يكون ما رواه ابن عمر صحيحا من غير أن يكون فيه خلاف الآية وذلك أنهم كانوا يوصون أهليهم بالبكاء والنوح عليهم وكان ذلك مشهورا من مذاهبهم وهو موجود في أشعارهم كقول القائل وهو طرَفة: إذا مت فأنعيني بما أنا أهله ... وشقي عليّ الجيب يا أم معبد وكقول لَبيد: فقوما فقولا بالذي تعلمانه … ولا تخمشا وجهاً ولا تحلقا الشعر وقولا هو المرء الذي لا صديقه …أضاع ولا خان الأمين ولا غدر إلى الحول ثم اسم لسلام عليكما …ومن يبك حولاً كاملاً فقد اعتذر ومثل هذا كثير في أشعارهم وإذا كان كذلك فالميت إنما تلزمه العقوبة في ذلك بما تقدم من أمره إياهم بذلك وقت حياته، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها، وقولها وهل ابن عمر معناه ذهب وهَله إلى ذلك يقال وهل الرجل ووهم بمعنى واحد كل ذلك بفتح الهاء فإذا قلت وهل بكسر الهاء كان معناه فزِع. وفيه وجه آخر ذهب إليه بعض أهل العلم، قال وتأويله أنه مخصوص في بعض الأموات الذين وجب عليهم بذنوب اقترفوها وجرى من قضاء الله سبحانه

ومن باب الشهيد لم يغسل

فيهم أن يكون عذابه وقت البكاء عليهم، ويكون كقولهم مطرنا بنوء كذا أي عند نوء كذا، كذلك قوله إن الميت يعذب ببكاء أهله أي عند بكائهم عليه لاستحقاقه ذلك بذنبه ويكون ذلك حالا لا سببا لأنا لو جعلناه سببا لكان مخالفا للقرآن وهو قوله تعالى {لا تزر وازرة ورر أخرى} [الأنعام: 164] والله أعلم. ومن باب الشهيد لم يغسل قال أبو داود: حدثنا سليمان بن داود المهري أخبرنا ابن وهب أخبرني أسامة بن زيد الليثي أن ابن شهاب أخبره أن أنس بن مالك حدثه أن شهداء أحد لم يغسلوا ودفنوا بدمائهم ولم يصل عليهم. قال وحدثنا ابن أبي شيبة حدثنا زيد بن الحباب (ح) قال: وحدثنا قتيبة حدثنا أبو صفوان عن أسامة عن الزهري عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على حمزة وقد مثل به فقال لولا أن تجد صفية في نفسها لتركته حتى تأكله العافية حتى يحشر من بطونها، وقلت الثياب وكثرت القتلى فكان الرجل والرجلان والثلاثة يكفنون في الثوب الواحد زاد قتيبة يدفنون في قبر واحد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل أيهم أكثر قرآنا فيقدمه إلى القبلة. العافية السباع والطير التي تقع على الجيف فتأكلها وتجمع على العوافي. وفيه من الفقه أن الشهيد لا يغسل وهو قول عوام أهل العلم. وفيه أنه لا يصلى عليه وإليه ذهب أكثر العلماء، وقال أبو حنيفة لا يغسل ولكن يصلى عليه، ويقال ان المعنى في ترك غسله ما جاء أن الشهيد يأتي يوم القيامة

ومن باب كيف غسل الميت

وكلمه يدمى الريح ريح المسك واللون لون الدم. وقد يوجد الغسل في الأحياء مقرونا بالصلاة، وكذلك الوضوء فلا يجب التطهر على أحد إلاّ من أجل صلاة يصليها، إلاّ أن الميت لا فعل له فأمرنا أن نغسله ليُصلى عليه فإذا سقط الغسل سقطت الصلاة والله أعلم. والحديث مستغنى بنفسه عن الاستشهاد له بدلائل الأصول. وفيه جواز أن تدفن الجماعة في القبر الواحد وأن أفضلهم يقدم إلى القبلة وإذا ضاقت الأكفان وكانت الضرورة جاز أن يكفن الجماعة منهم في الثوب الواحد. قال أبو داود: حدثنا عباس العنبري حدثنا عثمان بن عمر حدثنا أسامة عن الزهري عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بحمزة وقد مثل به ولم يصل على أحد من الشهداء غيره. قلت قد تأول قوم تركه الصلاة على قتلى أحد على معنى اشتغاله في ذلك اليوم عنهم وليس هذا بتأويل صحيح لأنه قد دفنهم مع قيام الشغل ولم يتركهم على وجه الأرض وأكثر الروايات أنه لم يصل عليهم. وقد تأول بعضهم ماروي من صلاته على حمزة فجعلها بمعنى الدعاء زيادة خصوصية له وتفضيلا له على سائر أصحابه. ومن باب كيف غسل الميت قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك (ح) قال: وحدثنا مسدد حدثنا حماد بن زيد المعنى عن أيوب عن محمد بن سيرين عن أم عطية قالت دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفيت ابنته فقال: اغسلنها ثلاثا أو خمسا أو

ومن باب الكفن

أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك بماء وسدر واجعلن في الآخرة كافورا أو شيئا من كافور فإذا فرغتن فآذنني فلما فرغنا آذناه فأعطانا حقوة فقال أشعرنها إياه ولم يقل مسدد دخل علينا. الحقوة الإزار، وقوله أشعرنها إياه يريد اجعلنه شعارا لها وهو الثوب الذي يلي جسدها. وفيه أن عدد الغسلات وتر وأن من السنة أن يكون في آخر الماء شيء من الكافور وأن يغسل الميت بالسدر أو بما في معناه من أشنان ونحوه إذا كان على بدنه شيء من الدرن أو الوسخ. قال أبو داود: حدثنا محمد بن المثنى حدثنا عبد الأعلى حدثنا هشام عن حفصة بنت سيرين عن أم عطية قالت ضفرنا رأسها ثلاثة. تريد ثلاثة قرون والضفر أصله الفتل. وفيه دليل على أن تسريح لحية الميت مستحب. ومن باب الكفن قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن الأعمش، عَن أبي وائل عن خباب قال: قتل مصعب بن عمير يوم أحد ولم يكن له إلاّ نَمِرة كنا إذا غطينا بها رأسه خرجت رجلاه وإذا غطينا رجله خرج رأسه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: غطوا بها رأسه واجعلوا على رجله من الإذخر. النمرة ضرب من الأكسية وفيه من الفقه أن الكفن من رأس المال وأن الميت إذا استغرق كفنه جميع تركته كان أحق به من الورثة.

ومن باب الغسل من غسل الميت

ومن باب الغسل من غسل الميت قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن أبي فديك حدثني ابن أبي ذئب عن القاسم بن عباس عن عمرو بن عمير، عَن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من غسل الميت فليغتسل ومن حمله فليتوضأ. قلت لا أعلم أحداً من الفقهاء يوجب الاغتسال من غسل الميت ولا الوضوء من حمله، ويشبه أن يكون الأمر في ذلك على الاستحباب، وقد يحتمل أن يكون المعنى فيه إن غاسل الميت لا يكاد يأمن أن يصيبه نضح من رشاش الغسول وربما كان على بدن الميت نجاسة فإذا أصابه نضحه وهو لا يعلم مكانه كان عليه غسل جميع البدن ليكون الماء قد أتى على الموضع الذي أصابه النجس من بدنه. وقد قيل معنى قوله فليتوضأ أي ليكن على وضوء ليتهيأ له الصلاة على الميت والله أعلم. وفي إسناد الحديث مقال. ومن باب الركوب في الجنازة قال أبو داود: حدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا شعبة عن سماك سمع جابر بن سمرة قال صلى النبي صلى الله عليه وسلم على ابن الدحداح ونحن شهود ثم أتي بفرس فعقل حتى ركبه فجعل يتوقص به ونحن نسعى حوله. التوقص أن ترفع يديها وتثب به وثبا متقاربا واصل الوقص الكسر. ومن باب المشي أمام الجنازة قال أبو داود: حدثنا القعنبي حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن سالم عن أبيه قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر رضي الله عنهما يمشون أمام الجنازة.

قلت أكثر أهل العلم على استحباب المشي أمام الجنازة، وكان أكثر الصحابة يفعلون ذلك، وقد روي عن علي بن أبي طالب وأبي هريرة أنهما كان يمشيان خلف الجنازة. وقال أصحاب الرأي لا بأس بالمشي أمامها والمشي خلفها أحب إلينا. وقال الأوزاعي هو سعة وخلفها أفضل، فأما الراكب فلا أعلمهم اختلفوا في أنه يكون خلف الجنازة. قال أبو داود: حدثنا وهب بن بقية عن خالد عن يونس عن زياد بن جبيرعن أبيه عن المغيرة قال وأحسب أن أهل زياد أخبروني أنه رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال الراكب يسير خلف الجنازة والماشي يمشي خلفها وأمامها وعن يمينها وعن يسارها قريبا منها والسِّقط يصلى عليه ويدعى لوالديه بالمغفرة والرحمة. قلت اختلف الناس في الصلاة على السقط فروي عن ابن عمر أنه قال يصلى عليه وإن لم يستهل وبه قال ابن سيرين وابن المسيب. وقال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه كل مانفخ فيه الروح وتمت له أربعة أشهر وعشر صُلي عليه. وقال إسحاق وإنما الميراث بالاستهلال، فأما الصلاة فإنه يصلى عليه لأنه نسمة تامة قد كتب عليه الشقاء والسعادة فلأي شيء يترك الصلاة عليه. وروي عن ابن عباس أنه قال إذا استهل ورث وصُلّي عليه. وعن جابر إذا استهل صلي عليه وإن لم يستهل لم يصل عليه، وبه قال أصحاب الرأي وهو قول مالك والأوزاعي والشافعي.

ومن باب الإمام يصلي على من قتل نفسه

ومن باب الإمام يصلي على من قتل نفسه قال أبو داود: حدثنا ابن نُفيل حدثنا زهير حدثنا سماك حدثني جابر بن سمرة قال نحر رجل نفسه بِمشقَص فأُخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إذاً لا أصلي عليه. المشقص نصل عريض وترك النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة عليه معناه العقوبة له والردع لغيره عن مثل فعله. وقد اختلف الناس في هذا فكان عمر بن عبد العزيز لا يرى الصلاة على من قتل نفسه، وكذلك قال الأوزاعي وقال أكثر الفقهاء يصلى عليه. ومن باب فيمن قتلتْه الحدود قال أبو داود: حدثنا أبو كامل حدثنا أبو عَوانة، عَن أبي بشر جعفر حدثني نفر من أهل البصرة، عَن أبي برزه الأسلمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصل على ماعز بن مالك ولم ينه عن الصلاة عليه. قلت كان الزهري يقول يصلى على الذي يقاد منه في حد ولا يصلى على من قتل في رجم. وقد روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه أمر أن يصلى على شُراحة وقد رجمها وهو قول أكثر العلماء. وقال الشافعي لا تترك الصلاة على أحد من أهل القبلة براً كان أو فاجراً. وقال أصحاب الرأي والأوزاعي يغسل المرجوم ويصلى عليه، وقال مالك من قتله الإمام في حد من الحدود فلا يصلى عليه الإمام ويصلي عليه أهله إن شاؤوا أو غيرهم. وقال أحمد لا يصلي الإمام على قاتل نفس ولا غالٍّ. وقال أبوحنيفة من قتل من المحاربين أو صلب لم يصل عليه، وكذلك الفئة الباغية لا يصلى

ومن باب الصلاة على المسلم يليه أهل الشرك

على قتلاهم. وذهب بعض أصحاب الشافعي إلى أن تارك الصلاة إذا قتل لم يصل عليه ويصلى على من سواه ممن قتل في حد أو قصاص. ومن باب الصلاة على المسلم يليه أهل الشرك قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب، عَن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نعى للناس النجاشي لليوم الذي مات فيه وخرج بهم إلى المصلى فصف بهم وكبر أربع تكبيرات. قلت: النجاشي رجل مسلم قد آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم وصدقه على نبوته إلا أنه كان يكتم إيمانه، والمسلم إذا مات وجب على المسلمين أن يصلوا عليه إلاّ أنه كان بين ظهراني أهل الكفر ولم يكن بحضرته من يقوم بحقه في الصلاة عليه فلزم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل ذلك إذ هو نبيه ووليه وأحق الناس به فهذا والله أعلم هو السبب الذي دعاه إلى الصلاة عليه بظهر الغيب، فعلى هذا إذا مات المسلم ببلد من البلدان وقد قضى حقه في الصلاة عليه فإنه لا يصلي عليه من كان ببلد آخر غائبا عنه فإن علم أنه لم يصل عليه لعائق أو مانع عذر كانت السنة

ومن باب الصلاة على الطفل

أن يصلى عليه ولا يترك ذلك لبعد المسافة فإذا صلوا عليه استقبلوا القبلة ولم يتوجهوا إلى بلد الميت إن كان في غير جهة القبلة. وقد ذهب بعض العلماء إلى كراهية الصلاة على الميت الغائب وزعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مخصوصا بهذا الفعل إذ كان في حكم المشاهد للنجاشي لما روي في بعض الأخبار أنه قد سويت له أعلام الأرض حتى كان يبصر مكانه، وهذا تأويل فاسد لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فعل شيئا من أفعال الشريعة كان علينا متابعته والايتساء به والتخصيص لا يعلم إلاّ بدليل. ومما يبين ذلك أنه صلى الله عليه وسلم خرج بالناس إلى المصلى فصف بهم فصلوا معه فعلمت أن هذا التأويل فاسد والله أعلم. ومن باب الصلاة على الطفل قال أبو داود: حدثنا محمد بن يحيى بن فارس حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد حدثنا أبي عن ابن إسحاق حدثني عبد الله بن أبي بكر عن عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة قالت مات إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثمانية عشر شهرا فلم يصل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. قلت كان بعض أهل العلم يتأول ذلك على أنه إنما ترك الصلاة عليه لأنه قد استغنى بنبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قربة الصلاة كما استغنى الشهداء بقربة الشهادة عن الصلاة عليهم. وقد روى عطاء مرسلا أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على ابنه إبراهيم. ورواه أبو داود في هذا الباب. حدثنا سعيد بن يعقوب الطالقاني عن ابن المبارك عن يعقوب بن القعقاع عن عطاء. قلت وهذا أولى الأمرين وإن كان حديث عائشة أحسن اتصالا، وقد روي

ومن باب الصلاة على الجنازة في المسجد

أن الشمس قد خسفت يوم وفاة إبراهيم فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخسوف فاشتغل بها عن الصلاة عليه والله أعلم. ومن باب الصلاة على الجنازة في المسجد قال أبو داود: حدثنا سعيد بن منصور حدثنا فليح بن سليمان عن صالح بن عجلان ومحمد بن عبد الله بن عباد عن عباد بن عبد الله بن الزبير عن عائشة قالت والله ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على سهيل بن بيضاء إلاّ في المسجد. قال وحدثنا مسدد حدثنا يحيى عن ابن أبي ذئب حدثني صالح مولى التوأمة، عَن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من صلى على جنازة في المسجد فلا شيء له. قلت الحديث الأول أصح وصالح مولى التوأمة ضعفوه وكان قد نسي حديثه في آخر عمره، وقد ثبت أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما صلي عليهما في المسجد ومعلوم أن عامة المهاجرين والأنصار شهدوا الصلاة عليهما ففي تركهم إنكاره دليل على جوازه. وقد يحتمل أن يكون معناه ان ثبت الحديث متأولاً على نقصان الأجر وذلك أن من صلى عليها في المسجد فإن الغالب أنه ينصرف إلى أهله ولا يشهد دفنه وإن من سعى إلى الجبان فصلى عليها بحضرة المقابر شهد دفنه فأحرز أجر القيراطين وهو مارواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من صلى على جنازة فله قيراط ومن شهد دفنها فله قيراطان والقيراط مثل أحد، وقد يؤجر أيضاً على كثرة خطاه فصار الذي يصلي عليها في المسجد منقوص الأجر بالإضافة إلى من صلى عليها برّاً والله أعلم.

ومن باب الدفن عند طلوع الشمس وعند غروبها

ومن باب الدفن عند طلوع الشمس وعند غروبها قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا وكيع حدثنا موسى بن علي بن رباح قال سمعت أبي يحدث أنه سمع عقبة بن عامر قال ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن يصلى فيهن أو نقبر فيهن موتانا حين تطلع الشمس طزغة حتى ترتفع وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل وحين تضيف الشمس للغروب حتى تغرب أوكما قال. قوله تضيف معناه تميل وتجنح للغروب يقال ضاف الشيء يضيف بمعنى مال ومنه اشتق اسم الضيف، ويقال ضفت الرجل إذا ملت نحوه وكنت له ضيفا وأضفته إذا أملته إلى رحلك فقربته. واختلف الناس في جوار الصلاة على الجنازة والدفن في هذه الساعات الثلاث فذهب أكثر أهل العلم إلى كراهية الصلاة على الجنائز في الأوقات التي تكره الصلاة فيها وروي ذلك عن ابن عمر وهو قول عطاء والنخعي والأوزاعي، وكذلك قال سفيان الثوري وأصحاب الرأي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وكان الشافعي يرى الصلاة على الجنائز أي ساعة شاء من ليل أو نهار وكذلك الدفن أي وقت كان من ليل أو نهار. قلت قوله الجماعة أولى لموافقته الحديث. ومن باب أين يقوم الإمام من الميت إذا صلى عليه قال أبو داود: حدثنا داود بن معاذ حدثنا عبد الوارث عن نافع أبي غالب قال صليت خلف أنس بن مالك على جنازة عبد الله بن عمير فقام عند رأسه

فكبر أربع تكبيرات ثم صلى على امرأة فقام عند عجيزتها فقيل له هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على الجنائز كصلاتك يكبر عليها أربعا ويقوم عند رأس الرجل وعجيزة المرأة قال نعم. وذكر أنس أنه شهد حنينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان رجل من المشركين يحمل على المسلمين فيدمغهم ويحطمهم ثم هزمهم الله وجعل يجاء بهم فيبايعونه على الإسلام فقال رجل، يَعني من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إن علي نذراً إن جاء الله بالرجل الذي كان منذ اليوم يحطمنا لأضربن عنقه وحيء بالرجل فقال يا رسول الله تبت إلى الله فأمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يبايعه ليفي الرجل بنذره فجعل الرجل يتصدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليأمره بقتله وجعل يهاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقتله فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لا يصنع شيئا بايعه فقال الرجل يا رسول الله نذري فقال إني لم أمسك منذ اليوم إلاّ لتفي بنذرك قال يا رسول الله أفلا أومضت إلي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ليس لنبي يومض. قلت الإيماض الرمذ بالعين والإيماء بها، ومنه وميض البرق وهو لمعانه. وأما قوله ليس لنبي يومض فإن معناه أنه لا يجوز له فيما بينه وبين ربه عز وجل أن يضمر شيئا ويظهر خلافه لأن الله تعالى إنما بعثه بإظهار الدين وإعلان الحق فلا يجوز له ستره وكتمانه لأن ذلك خداع؛ ولا يحل له أن يؤمن رجلا قي الظاهر ويخفره في الباطن. وفي الحديث دليل على أن الإمام بالخيار بين قتل الرجال البالغين من الأسارى وبين حقن دمائهم ما لم يسلموا فإذا أسلموا فلا سبيل عليهم. وقد اختلف الناس في موقف الإمام من الجنازة فقال أحمد يقوم من المرأة بحذاء وسطها ومن الرجل بحذاء صدره.

ومن باب الصلاة على القبر

وقال أصحاب الرأي يقوم من الرجل والمرأة بحذاء الصدر. وأما التكبيرفقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم خمس وأربع فكان آخر ما كان يكبر أربعا وكان علي بن أبي طالب يكبر على أهل بدر ست تكبيرات وعلى سائر الصحابة خمسا وعلى سائر الناس أربعا، وكان ابن عباس هى التكبير على الجنازة ثلاثا. ومن باب الصلاة على القبر قال أبو داود: حدثنا سليمان بن حرب ومسدد قالا: حَدَّثنا حماد عن ثابت، عَن أبي رافع، عَن أبي هريرة أن امرأة سوداء أو رجلا كان يَقُمُّ المسجد ففقده النبي صلى الله عليه وسلم فسأل عنه فقيل مات فقال ألا آذنتموني به قال دلوني على قبره فدلوه فصلى عليه. قوله يقم معناه يكنس والقمام الكُناسة وفيه بيان جواز الصلاة على القبر لمن لم يلحق الصلاة على الميت قبل الدفن. ومن باب كراهية الذبح عند الميت قال أبو داود: حدثنا يحيى بن موسى البلخي حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن ثابت عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا عَقْر في الإسلام. قلت كان أهل الجاهلية يعقرون الإبل على قبر الرجل الجواد يقولون نجازيه على فعله لأنه كان يعقرها في حياته فيطعمها الأضياف فنحن نعقرها عند قبره لتأكلها السباع والطير فيكون مطعما بعد مماته كما كان مطعما في حياته. قال الشاعر: عقرت على قبر النجاشي ناقتي ... بأبيضَ عَضب أخلصته صياقله

ومن باب في البناء على القبر

على قبر من لوأنني مت قبله ... لهانت عليه عند قبري رواحله ومنهم من كان يذهب في ذلك إلى أنه إذا عقرت راحلته عند قبره حشر في القيامة راكباً ومن لم يعقر عنه حشر راجلا، وكان هذا على مذهب من يرى البعث منهم بعد الموت. ومن باب في البناء على القبر قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يقعد على القبر وأن يقصص وأن يبنى عليه. قلت نهيه عن القعود على القبر يتأول على وجهين: أحدهما أن يكون ذلك في القعود عليه للحديث. والوجه الآخر كراهة أن يطأ القبر بشيء من بدنه، وقد روي أن النبي ما رأى رجلا قد اتكأ على قبر فقال لا تؤذ صاحب القبر، والتقصيص التجصيص والقَصة شيء شبيه بالجص. ومن باب المشي بين القبور في النعل قال أبو داود: حدثنا سهل بن بكار حدثنا الأسود بن شيبان عن خالد بن سمير السدوسي عن بشير بن نهيك عن بشير مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بينا أنا أماشي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حانت منه نظرة فإذا رجل يمشي في القبور عليه نعلان فقال يا صاحب السِّبتيتين ويحك الق سِبْتيتك فنظر الرجل فلما عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم خلعهما فرمى بهما. قال وحدثنا محمد بن سليمان الأنباري حدثنا عبد الوهاب بن عطاء عن سعيد عن قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه

باب ما يقول الرجل إذا مر بالقبور

أصحابه أنه ليسمع قرع نعالهم. قال الأصمعي السبتية من النعال ما كان مدبوغا بالقرظ. قلت وخبر أنس يدل على جواز لبس النعل لزائر القبور وللماشي بحضرتها وبين ظهرانيها. فأما خبر السبتيتين فيشبه أن يكون إنما كره ذلك لما فيهما من الخيلاء وذلك أن نعال السبت من لباس أهل الترفه والتنعم قال الشاعر يمدح رجلاً: يُحذى نعال السبت ليس بتوأم وقال النابغة: رقاق النعال طيب حجزاتهم ... يحيون بالريحان يوم السباسب يقول هم أعفاء الفروج لا يحلون أزرهم لريبة، والسباسب عيد كان لهم في الجاهلية فأحب النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون دخوله المقابر على زي التواضع ولباس أهل الخشوع. باب ما يقول الرجل إذا مر بالقبور قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه، عَن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى المقبرة فقال السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون. قلت: فيه من العلم أن السلام على الموتى كهو على الأحياء في تقديم الدعاء على الاسم ولا يقدم الاسم على الدعاء كما تفعله العامة، وكذلك هو في كل دعاء الخير كقوله تعالى {رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت} [هود: 73] وكقوله عز وجل {سلام على آل ياسين} [الصافات: 130] وقال في خلاف ذلك {وإن عليكم لعنتي إلى يوم الدين} [ص: 78] فقدم الاسم على الدعاء وفيه أنه سمى المقابر داراً فدل على أن اسم الدار قد يقع من جهة

ومن باب كيف يصنع بالمحرم إذا مات

اللغة على الربع العامر المسكون وعلى الخراب غير المأهول كقول الشاعر: [يا دار مَيَّة بالعلياء والسند] ثم قال: [أَقْوَت وطال عليها سالف الأبد] . وأما قوله وإنا إن شاء الله بكم لاحقون فقد قيل إن ذلك ليس على معنى الاستثناء الذى يدخل الكلام لشك وارتياب ولكنه عادة المتكلم يُحسِّن بذلك كلامه ويزينه كما يقول الرجل لصاحبه إنك إن أحسنت إلي شكرتك إن شاء الله وإن ائتمنتني لم أخنك إن شاء الله في نحو ذلك من الكلام وهولا يريد به الشك في كلامه. وقد قيل أنه دخل المقبرة ومعه قوم مؤمنون متحققون بالإيمان والآخرون يظن بهم النفاق فكان استثناؤه منصرفا إليهم دون المؤمنين فمعناه اللحوق بهم في الإيمان وقيل إن الاستثناء إنما وقع في استصحاب الإيمان إلى الموت لا في نفس الموت. ومن باب كيف يصنع بالمحرم إذا مات قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن منصور عن الحكم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال وقصت برجل محرم ناقته فقتلته فأُتي به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اغسلوه وكفنوه ولا تغطوا رأسه ولا تقربوه طيبا. قوله وقصت به ناقته يريد أنها صرعته فدقت عنقه وأصل الوقص الدق أو الكسر. وفيه من الفقه أن حرم الرجل في رأسه وإن المحرم إذا مات سن به سنة الأحياء في اجتناب الطيب. جاء في النسخه الكتانية ما نصه: آخر الكتاب والحمد لله رب العالمين وصلواته على سيدنا محمد وآله وسلم، يتلوه في الثاني كتاب الزكاة وكتب بمدينة السلام في المدرسة النظاميه في الجانب الشرقي وتم في شهر صفر من سنة سبع وثمانين وأربعمائة.

كتاب الزكاة

كتاب الزكاة قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الليث عن عُقيل عن ابن شهاب الزهري أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عَن أبي هريرة قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر بعده وكفر من كفر من العرب قال عمر بن الخطاب لأبي بكر رضي الله عنهما كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إلّه إلا الله فمن قال لا إلّه إلاّ الله عصم مني ماله ونفسه إلاّ بحقه وحسابه على الله. قال أبو بكر رضي الله عنه والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال ولله لو منعوني عِقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه فقال عمر بن الخطاب فوالله ما هو إلاّ أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق. قال أبو داود رواه عبد الرزاق عن معمر عن الزهري بإسناده وشعيب بن أبي حمزة والزبيدي عن الزهري وعنبسة عن يونس عن الزهري فقالوا عناقاً. قال أبو سليمان هذا الحديث أصل كبير في الدين وفيه أنواع من العلم وأبواب من الفقه وقد تعلق الروافض وغيرهم من أهل البدع بمواضع شبه منه

ونحن نكشفها بإذن الله ونبين معانيها والله المعين عليه والموفق له. ومما يجب تقديمه في هذا أن يعلم أن أهل الردة كانوا صنفين صنف منهم ارتدوا عن الدين ونابذوا الملة وعادوا إلى الكفر وهم الذين عناهم أبو هريرة بقوله وكفر من كفر من العرب وهذه الفرقة طائفتان إحداهما أصحاب مسيلمة من بني حنيفة وغيرهم الذين صدقوه على دعواه في النبوة وأصحاب الأسود العنسي ومن كان من مستجيبيه من أهل اليمن وغيرهم وهذه الفرقة بأسرها منكرة لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم مدعية النبوة لغيره فقاتلهم أبو بكر رضي الله عنه حتى قتل الله مسيلمة باليمامة والعنسي بصنعاء وانفضت جموعهم وهلك أكثرهم، والطائفة الأخرى ارتدوا عن الدين وأنكروا الشرائع وتركوا الصلاة والزكاة إلى غيرهما من جماع أمرالدين وعادوا إلى ما كانوا عليه في الجاهلية فلم يكن يسجد لله سبحانه على بسيط الأرض إلاّ في ثلاثة مساجد مسجد مكة ومسجد المدينة ومسجد عبد القيس بالبحرين في قرية يقال لها جُوَاثا ففي ذلك يقول الأعور الثرينى يفتخر بذلك: والمسجد الثالث الشرقي كان لنا …والمنبران وفصل القول في الخطب أيام لا منبر في الناس نعرفه ... إلاّ بطيبةوالمحجوج ذي الحجب وكان هؤلاء المتمسكون بدينهم من الأزد محصورين بجواثا إلى أن فتح الله على المسلمين اليمامة فقال بعضهم وهو رجل من بني بكر بن كلاب يستنجد أبا بكر: ألا أبلغ أبا بكر رسولاً ... وفتيان المدينة أجمعينا فهل لكم إلى قوم كرام ... قعود في جواثا محصرينا

كأن دماءهم في كل فج ... دماء البدن يغشي الناظرينا توكلنا على الرحمن إنا ... وجدنا النصر للمتوكلينا والصنف الاخر هم الدين فرقوا بين الصلاه والزكاة فأقروا بالصلاة وأنكروا فرض الزكاة ووجوب آدائها إلى الإمام وهؤلاء على الحقيقة أهل بغي وإنما لم يدعوا بهذا الاسم في ذلك الزمان خصوصا لدخولهم في غمار أهل الردة فأضيف الاسم في الجملة إلى الردة إذ كانت أعظم الأمرين وأهمهما وأرخ مبدأ قتال أهل البغي بأيام علي بن أبي طالب إذ كانوا متفردين في زمانه لم يختلطوا بأهل شرك وفي ذلك دليل على تصويب رأي علي رضي الله عنه في قتال أهل البغي وأنه إجماع من الصحابة كلهم، وقد كان في ضمن هؤلاء المانعين للزكاة من كان يسمح بالزكاة ولا يمنعها إلاّ أن رؤساءهم صدوهم عن ذلك الرأي وقبضوا على أيديهم في ذلك كبني يربوع فإنهم قد جمعوا صدقاتهم وأرادوا أن يبعثوا بها إلى أبي بكر رضي الله عنه فمنعهم مالك بن نويرة عن ذلك وفرقها فيهم وقال في شعر له: فقلت لقومي هذه صدقاتكم ... مصررة…أخلافها لم تجرد سأجعل نفسي دون ما تتقونه ... وأرهنكم يوما بما قلته يدي وقال بعض شعرائهم ممن سلك هذه الطريقة في منع الزكاة يحرض قومه ويأمرهم على قتال من طالبهم بها. أطعنا رسول الله ما دام بيننا ... فيا عجبا ما بال ملك أبي بكر وإن الذي سألوكم فمنعتم ... لكالتمر أو أحلى لديهم من التمر سنمنعهم ما دام فينا بقية ... كراماً على العراء في ساعة العسر

قلت وفي أمر هؤلاء عرض الخلاف ووقعت الشبهة لعمر رضي الله عنه فراجع أبا بكر رضي الله عنه وناظره واحتج عليه بقول النبي صلى الله عليه وسلم أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إلّه إلاّ الله فمن قال لا إلّه إلاّ الله فقد عصم نفسه وماله. وكان هذا من عمر رضي الله عنه تعلقا بظاهر الكلام قبل أن ينظر في آخره ويتأمل شرائطه فقال له أبو بكر إن الزكاة حق المال يرد أن القضية التي قد تضمنت عصمة دم ومال معلقة بإيفاء شرائطها والحكم المعلق بشرطين لا يجب بأحدهما والاخر معدوم ثم قايسه بالصلاة ورد الزكاة إليها فكان في ذلك من قوله دليل على أن قتال الممتنع من الصلاة كان إجماعاً من رأي الصحابة ولذلك رد المختلف فيه إلى المتفق عليه فاجتمع في هذه القضية الاحتجاج من عمر بالعموم ومن أبي بكر بالقياس ودل ذلك على أن العموم يخص بالقياس وأن جميع ما يتضمنه الخطاب الوارد في الحكم الواحد من شرط واستثناء مراعى فيه ومعتبر صحته به فلما استقر عمر رضي الله عنه صحة رأي أبي بكر رضي الله عنه وبان له صوابه تابعه على قتال القوم، وهومعنى قوله فلما رأيت أن الله قد شرح صدر أبي بكر عرفت أنه الحق يشير إلى انشراح صدره بالحجة التى أدلى بها والبرهان الذي أقامه نصا ودلالة. وقد زعم قوم من الروافض أن عمر رضي الله عنه إنما أراد بهذا القول تقليد أبي بكر رضي الله عنه وأنه كان يعتقد له العصمة والبراءة من الخطأ وليس ذلك كما زعموه وإنما وجهه ما أوضحته لك وبينته. وزعم زاعمون منهم أن أبا بكر رضي الله عنه أول من سمى المسلمين كفارا وأن القوم كانوا متأولين في منع الصدقة وكانوا يزعمون أن الخطاب في قوله

تعالى {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم} [التوبة: 103] خطاب خاص في مواجهة النبي صلى الله عليه وسلم دون غيره وأنه مقيد بشرائط لا توجد فيمن سواه وذلك أنه ليس لأحد من التطهير والتزكية والصلاة على المتصدق ما للنبي صلى الله عليه وسلم ومثل هذه الشبهة إذا وجد كان مما يعذر فيه أمثالهم ويرفع به السيف عنهم فكان ما جرى من أبي بكر عليهم عسفا وسوء سيرة. وزعم بعض هؤلاء أن القوم كانوا قد اتهموه ولم يأمنوه على أموالهم إلى ما يشبه هذا الكلام الذي لا حاصل له ولا طائل فيه. قلت: وهؤلاء قوم لا خلاف لهم في الدين وإنما رأس مالهم البَهتُ والتكذُّب والوقيعة في السلف، وقد بينا أن أهل الردة كانوا أصنافا منهم من ارتد عن الملة ودعا إلى نبوة مسيلمة وغيره، ومنهم من ترك الصلاة والزكاة وأنكر الشرائع كلها وهؤلاء الذين سماهم الصحابة كفارا ولذلك رأى أبو بكر سبي ذراريهم وساعده على ذلك أكثر الصحابة واستولد علي بن أبى طالب رضي الله عنه جارية من سبي بني حنيفة فولدت له محمد بن علي الذي يدعى ابن الحنفية ثم لم ينقض عصر الصحابة حتى أجمعوا على أن المرتد لا يسبى. فأما مانعو الزكاة منهم المقيمون على أصل الدين فإنهم أهل بغي ولم يسموا على الانفراد عنهم كفارا وإن كانب الردة قد أضيفت إليهم لمشاركتهم المرتدين في منع بعض ما منعوه من حقوق الدين، وذلك أن الرده اسم لغوي وكل من انصرف عن أمر كان مقبلا إليه فقد ارتد عنه، وقد وجد من هؤلاء القوم الانصراف عن الطاعة ومنع الحق فانقطع عنهم اسم الثناء والمدح بالدين وعلق بهم الاسم القبيح لمشاركتهم القوم الذين كان ارتدادهم حقا ولزوم الاسم إياهم صدقا.

فأما قلوله تعالى {خد من أموالهم صدقة تطهرهم} [التوبة: 103] وما ادعوه من وقوع الخطاب فيه خاصا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإن خطاب كتاب الله تعالى على ثلاثة أوجه خطاب عام كقوله {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة} [المائدة: 6] الآية وكقوله {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام} [البقرة: 183] في نحو ذلك من أوامرالشريعة. وخطاب خاص للنبي صلى الله عليه وسلم لا يشركه في ذلك غيره وهو ما أبين به عن غيره بسمة التخصيص وقطع التشريك كقوله تعالى {ومن الليل فتهجد به نافلة لك} [الإسراء: 79] وكقوله {خالصة لك من دون المؤمنين} [الأحزاب: 50] . وخطاب مواجهة للنبي صلى الله عليه وسلم وهو وجميع أمته في المراد به سواء كقوله تعالى {أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل} [الإسراء: 78] وقوله {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} [النحل: 98] وكقوله {وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة} [النساء: 120] في نحو ذلك من خطاب المواجهة فكل من دلكت له الشمس كان عليه إقامة الصلاة واجبة وكل من أراد قراءة القرآن كانت الاستعاذة معتصما له وكل من حضره العدو وخاف فوت الصلاة أقامها على الوجه الذي فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنها لأمته ومن هذا النوع قوله تعالى {خذ من أموالهم صدقة} فعلى القائم بعده بأمر الأمة أن يحتذي حذوه في أخذها منهم وإنما الفائدة في مواجهة النبي صلى الله عليه وسلم بالخطاب أنه هو الداعي إلى الله سبحانه والمبين عنه معنى ما أراده فقدم اسمه في الخطاب ليكون سلوك الأمة في شرائع الدين على حسب ما ينهجه ويبينه لهم. وعلى هذا المعنى قوله {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن} [الطلاق: 1] فافتتح الخطاب بالتنويه باسمه خصوصا ثم خاطبه وسائر أمته بالحكم عموما وربما كان الخطاب له مواجهة والمراد به غيره كقوله {فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك} [يونس: 94]

إلى قوله {فلا تكونن من الممترين} [البقرة: 147] ولا يجوز أن يكون صلى الله عليه وسلم قد شك قط في شيء مما أنزل عليه وكقوله {أن أشكر لي ولوالديك} [لقمان: 14] وقال {وبالوالدين إحسانا} [البقرة: 83] وهذا خطاب لم يتوجه عليه ولم يلزمه حكمه لمرين أحدهما أنه لم يدرك والديه ولا كان واجبا عليه لو أدركهما أن يحسن إليهما ويشركهما إحسان الآباء المسلمين وشكرهم. وأما التطهير والتزكية والدعاء من الإمام لصاحب الصدقة فإن الفاعل لها قد ينال ذلك كله بطاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم فيها وكل ثواب موعود على عمل من الطاعات كان في زمان حياته صلى الله عليه وسلم فإنه باق غير منقطع بوفاته وقد يستحب للإمام ولعامل الصدقة أن يدعو للمتصدق بالنماء والبركه في ماله ويرجى أن الله يستجيب له ذلك ولا يخيب مسألته فيه. قلت: ومن لواحق بيان ما تقدم في الفصل الأول من ذكر وجوب إيتاء الزكاة وأدائها إلى القائم بعد النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل آخر كلامه عند وفاته قوله الصلاة وما ملكت أيمانهم ليعقل أن فرض الزكاة قائم كفرض الصلاة وأن القائم بالصلاة هو القائم بأخذ الزكاة ولذلك قال أبو بكر رضي الله عنه والله لأقتلن من فرق بين الصلاة والزكاة استدلالاً بهذا مع سائر ما عقل من أنواع الأدلة على وجوبها والله أعلم. فإن قيل كيف تأولت أمر هذه الطائفة التي منعت الزكاة على الوجه الذي ذهبت إليه وجعلتهم أهل بغي أرأيت إن أنكرت طائفة من أهل المسلمين في زماننا فرض الزكاة وامتنعوا من أدائها إلى الإمام هل يكون حكمهم حكم أهل البغي قيل لا فإن من أنكر فرض الزكاة في هذا الزمان كان كافراً بإجماع

المسلمين والفرق بين هؤلاء وبين أولئك القوم أنهم إنما عذروا فيما كان منهم حتى صار قتال المسلمين إياهم على استخراج الحق منهم دون القصد إلى دمائهم لأسباب وأمور لا يحدث مثلها في هذا الزمان منها قرب العهد بزمان الشريعه التي كان يقع فيها تبديل الأحكام ومنها وقوع الفترة بموت النبي صلى الله عليه وسلم وكان القوم جهالا بأمور الدين وكان عهدهم حديثا بالإسلام فتداخلتهم الشبهة فعذروا كما عذر بعض من تأول من الصحابة في استباحة شرب الخمر قوله تعالى {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا} [المائدة: 93] فقالوا نحن نشربها ونؤمن بالله ونعمل الصالحاب ونتقي ونصلح. فأما اليوم فقد شاع دين الإسلام واستفاض علم وجوب الزكاة حتى عرفه الخاص والعام واشترك فيه العالم والجاهل فلا يعذر أحد بتأويل يتأول في إنكارها. وكذلك الأمر في كل من أنكر شيئا مما أجمعت عليه الأمة من أمور الدين إذا كان منتشراً كالصلوات الخمس وصوم شهر رمضان والاغتسال من الجنابة وتحريم الزنا والخمر ونكاح ذوات المحارم في نحوها من الأحكام إلاّ أن يكون رجل حديث عهد بالإسلام لا يعرف حدوده فإذا أنكر شيئا منه جهلا به لم يكفر وكان سبيله سبيل أولئك القوم في تبقية اسم الدين عليه. فأما ما كان الإجماع فيه معلوماً من طريق علم الخاصة كتحريم نكاح المرأة على عمتها وخالتها وإن قاتل العمد لا يرث وأن للجدة السدس وما أشبه ذلك من الأحكام، فإن من أنكرها لا يكفر بل يعذر فيها لعدم استفاضة علمها في العامة وتفرد الخاصة بها. قلت: وإنما عرض الوهم في تأويل هذا الحديث من رواية أبي هريرة ووقعت

الشبهة فيه لمن تأوله على الوجه الذي حكيناه عنهم لكثرة ما دخله من الحذف والاختصار وذلك لأن القصد لم يكن به سياق الحديث على وجهه وذكر القصة في كيفية الردة منهم وإنما قصد به حكاية ما جرى بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وما تنازعاه من الحجاج في استباحه قتالهم ويشبه أن يكون أبو هريرة إنما لم يعن بذكر القصة وسوقها على وجهها كلها اعتمادا على معرفة المخاطبين بها إذ كانوا قد علموا وجه الأمر وكيفية القصة في ذلك فلم يضر ترك إشباع البيان مع حصول العلم عندهم به والله أعلم. ونبين لك أن حديث أبي هريرة مختصر غير مستقصى إن عبد الله بن عمر وأنس بن مالك قد روياه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بزياة شروط ومعان لم يذكرها أبو هريرة. فأما حديث أنس فقد رواه أبو داود في كتاب الجهاد من السنن، قال: حَدَّثنا سعيد بن يعقوب الطالقاني حدثنا عبد الله بن المبارك عن حميد عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً عبده ورسوله وأن يستقبلوا قبلتنا وأن يأكلوا ذبيحتنا وأن يصلوا صلاتنا فإذا فعلوا ذلك حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلاّ بحقها لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين. حدثناه ابن داسة عنه. وأما حديث ابن عمر ففيه زيادة شرط الزكاة، وقد رواه محمد بن إسماعيل البخاري في الجامع الصحيح،، قال: حَدَّثنا عبد الله بن محمد حدثنا حَرَمي بن عمارة حدثنا شعبة عن واقد بن محمد قال سمعت أبي يحدث عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً

رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلاّ بحق الإسلام وحسابهم على الله. حدثنيه خلف بن محمد حدثنا إبراهيم بن معقل عنه. قلت: وفي هذا الحديث حجة لمن ذهب إلى أن الكفار مخاطبون بالصلاة والزكاة وسائر العبادات وذلك لأنهم إذا كانوا مقاتلين على الصلاة والزكاة فقد عقل أنهم مخاطبون بهما. وأما معنى الحديث وما فيه من الفقه فمعلوم أن المراد بقوله حتى يقولوا لا إلّه إلاّ الله إنما هم أهل الأوثان دون أهل الكتاب لأنهم يقولون لا إلّه إلاّ الله ثم أنهم يقاتلون ولا يرفع عنهم السيف. وقوله وحسابهم على الله معناه فيما يستسرون به دون ما يخلون به من الأحكام الواجبة عليهم في الظاهر. وفيه دليل أن الكافر المُستسر بكفره لا يتعرض له إذا كان ظاهره الإسلام ويقبل توبته إذا أظهر الإنابة من كفر علم باقراره أنه كان يستسر به وهو قول أكثر العلماء. وذهب مالك بن أنس إلى أن توبة الزنديق لا تقبل ويحكى ذلك أيضاً عن أحمد بن حنبل، وفي قوله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم دليل على وجوب الصدقة في السخال والفصلان والعجاجيل وأن واحدة منها تجزي عن الواجب في الأربعين منها إذا كانت كلها صغاراً ولا يكلف صاحبها مسنة. وفيه دليل على أن حول النتاج حول الأمهات ولو كان يستأنف بها الحول لم يوجد السبيل إلى أخذ العناق.

وقد اختلف الناس فيما يجب في السخال فقال أبو حنيفة ومحمد بن الحسن لا شيء فيها، وقد اختلف فيها، عَن أبي حنيفة وهذا أظهر أقاويله وإلى هذا ذهب أحمد بن حنبل وحكي ذلك عن سفيان الثوري، وقد روي عن سفيان أيضاً أنه قال يأخذ المصدق مسنة ثم يرد على رب المال فضل ما بين المسنة والصغيرة التى في ماشيته، وقال مالك فيها مسنة وقال الشافعي يؤخذ من أربعين سخلة واحدة منها وهو قول الأوزاعي وأبي يوسف وإسحاق بن راهويه. وأما العقال فقد اختلفوا في تفسيره، فقال أبو عبيد القاسم بن سلام العقال صدقة عام. وقال غيره العقال الحبل الذي يعقل به البعير وهو مأخوذ مع الفريضة لأن على صاحبها التسليم، وإنما يقع قبضها برباطها. وقال ابن عائشة كان من عادة المصدق إذا أخذ الصدقة أن يعمد إلى قرن وهو الحبل فيقرن به بين بعيرين أي يشده في أعناقهما لئلا تشرد الإبل فتسمى عند ذلك القرائن وكل قرينين منها عقال. وقال أبو العباس محمد بن يزيد النحوي إذا أخذ المصدق أعيان الإبل قيل أخذ عقالا وإذا أخذ أثمانها قيل أخذ نقدا وأنشد لبعضهم: أتانا أبو الخطاب يضرب طبله ... فرد ولم يأخذ عقالاً ولا نقدا وتأول بعض أهل العلم قوله لومنعوني عقالا على معنى وجبوب الزكاة فيه إذا كان من عروض التجارة فبلغ مع غيره منها قيمة نصاب. وفيه دليل على وجوب الزكاة في عروض التجارة، وقد زعم داود أن لا زكاة في شيء من أموال التجارات. وفي الحديث دليل على أن الواحد من الصحابة إذا خالف سائر الصحابة لم يكن

ومن باب ما يجب فيه الزكاة

شاذا وأن خلافه يعد خلافاً. وفيه دليل على أن الخلاف إذا حدث في عصر فلم ينقرض العصر حتى زال الخلاف وصار إجماعاً أن الذي مضى من الخلاف ساقط كأن لم يكن. وفيه دليل على أن الردة لا تسقط عن المرتد الزكاة الواجبة في أمواله. ومن باب ما يجب فيه الزكاة قال أبو داود: حدثنا ابن مسلمة قال قرأت على مالك بن أنس عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه أنه قال سمعت أبا سعيد الخدري يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس فيما دون خمس ذَود صدقة وليس فيما دون خمس أواق صدقة وليس فيما دون خمسة أوسق صدقة. قلت: هذا الحديث أصل في بيان مقادير ما يحتمل من الأموال المواساة وإيجاب الصدقة فيها وإسقاطها عن القليل الذي لا يحتملها لئلا يجحف بأرباب الأموال ولا يبخس الفقراء حقوقهم وجعلت هذه المقادير أصولا وأنصبة إذا بلغتها أنواع هذه الأموال وجب فيها الحق، والذود اسم العدد من الإبل غير كثير ويقال أنه ما بين الثلاث إلى العشر ولا واحد للذود من لفظه؛ وإنما يقال للواحد منها بعير كما قيل للواحدة من النساء امرأة، والعرب تقول الذود إلى الذود إبل وأما الوَسْق فهو ستون صاعا. قال الشاعر يصف مطيته وهوأبووجزة: راحت بستين وسقا في حقيبتها ... ما حملت مثلها أنثى ولا ذكر وهذا لم يريد أنها حمّلت هذه الأوساق بأعيانها فإن شيئا من المطايا لا يحمل هذا القدر وإنما مدح بعض الملوك فأجازه بستين وسقا إلى عامله وصك له بها فحمل الكتاب في حقيبته فهذا تفسير الوسق.

وأما الكُرُّ فهو اثنا عشر وسقا والقفيز ثمانية مكاكيك، والمكوك صاع ونصف والصاع خمسة أرطال وثلث فهذا صاع النبي صلى الله عليه وسلم المشهور عند أهل الحجاز، والصاع في مذهب أهل العراق ثمانية أرطال والأواقي أوقية وهي أربعون درهما يقال أوقية وأواقي مشددة الياء، وقد يخفف الياء أيضاً فيقال أواق كما يقال أضحية وأضاحي وأضاح ولا يقال آواق كما ترويه العامة ممدودة الألف لأنها جمع أوق. وقد يستدل بهذا الحديث من يرى أن الصدقة لا تجب في شيء من الخضراوات لأنه زعم أنها لا توسق ودليل الخبر أن الزكاة إنما تجب فيما يوسق ويكال من الحبوب والثمار دون ما لا يكال من الفواكه والخضر ونحوها وعليه عامة أهل العلم إلاّ أن أبا حنيفة رأى الصدقة فيها وفي كل ما أخرجته الأرض إلاّ أنه استثنى الطرفاء والقصب الفارسي والحشيش وما في معناه. وفيه بيان أن النوع الذي فيه الصدقة من الحبوب والثمار لا يجب فيها شيء حتى يبلغ خمسة أوسق. وفي قوله ليس فيما دون خمس أواق صدقة بيان أن مائتي درهم إذا نقصت شيئا في الوزن وإن قل أو كانت تجوز جواز مائتي درهم أو كانت ناقصة تساوي عشرين دينارا أنه لا شيء فيها. وفيه دليل على أن الزكاة لا تجب في الفضة بقيمتها لكن بوزنها. وفيه مستدل لمن ذهب إلى أن نيل المعدن إذا كان دون خمس أواق لم يجب فيه شيء، وإليه ذهب الشافعي. وفيه دليل على أن ما زاد على المائتين فإن الزكاة تجب فيه بحسابه لأن في دلالة

قوله ليس فيما دون خمس أواق صدقة إيجابا في الخمس الأواقي وفيما زاد عليه وقليل الزيادة وكثيرها سواء في مقتضى الاسم. ولا خلاف في أن فيما زاد على الخمسة الأوسق من التمر صدقة قلت الزيادة أو كثرت وقد أسقط النبي صلى الله عليه وسلم الزكاة عما نقص عن الخمسة الأوسق كما أسقطها عما نقص عن الخمس الأواقي فوجب أن يكون حكم ما زاد على الخمس الأواقي من الورق حكم الزيادة على الخمسة الأوسق لأن مخرجهما في اللفظ مخرج واحد. وقد اختلف الناس فيما زاد من الورق على مائتي درهم فقال أكثر أهل العلم يخرج عما زاد على المائتي درهم بحسابه ربع العشر قلت الزيادة أو كثرت. وروى ذلك عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وابن عمر وبه قال النخعي وسفيان الثوري وابن أبي ليلى وأبو يوسف ومحمد بن الحسن وهو قول مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وأبي عبيد. وروي عن الحسن البصري وعطاء وطاوس والشعبي ومكحول والزهري أنهم قالوا لا شيء في الزيادة حتى تبلغ أربعين درهما وبه قال أبو حنيفة. وفيه دليل على أن الفضة لا تضم إلى الذهب وإنما يعتبر نصابها بنفسها ولم يختلفوا في أن الغنم لا يضم إلى الإبل ولا إلى البقر، وأن التمر لا يضم إلى الزبيب. واختلفوا في البُر والشعير فقال أكثر العلماء لا يضم واحد منهما إلى الآخر وهو قول الثوري والأوزاعي وأصحاب الرأي والشافعي وأحمد بن حنبل. وقال مالك يضاف القمح إلى الشعير ولا يضاف القطاني إلى القمح والشعير. واختلفوا في الذهب والفضة فقال مالك والأوزاعي والثوري وأصحاب الرأي يضم أحد الصنفين منهما إلى الآخر.

ومن باب زكاة الحلي

وقال الشافعي وأحمد بن حنبل لا يضم أحدهما إلى الاخر ويعتبر كل واحد منهما بنفسه، وإليه ذهب ابن أبي ليلى وأبوعبيد ولم يختلفوا في أن الضأن يضم إلى المعز لأن اسم الغنم يلزمهما لزوما واحداً ولا أعلم عامتهم. واختلفوا في أن من كانت عنده مائة درهم وعنده عرض للتجارة يساوي مائة درهم وحال الحول عليهما أن أحدهما يضم إلى الاخر وتجب الزكاة فيهما. ومن باب زكاة الحلي قال أبو داود: حدثنا أبو كامل وحميد بن مسعدة المعنى أن خالد بن الحارث حدثهم، قال: حَدَّثنا حسين عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن امرأة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعها ابنة لها وفي يد ابنتها مَسكتان غليظتان من ذهب فقال لها أتعطين زكاة هذا قالت لا قال أيسرك أن يسورك الله بهما يوم القيامة بسوارين من نار. قال فخلعتهما فألقتهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت هما لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم. قلت قوله أيسرك أن يسورك الله بهما نارا إنما هو تأويل قوله عز وجل {يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم} [التوبة: 35] . قال أبو داود: حدثنا محمد بن إدريس الرازي حدثنا عمرو بن الربيع بن طارق حدثني يحيى بن أيوب عن عبيد الله بن أبي جعفر أن محمد بن عمرو بن عطاء أخبره عن عبد الله بن شداد بن الهاد أنه قال دخلنا على عائشة فقالت دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى في يدي فَتَخات من ورق فقال ما هذا يا عائشة فقلت صنعتهن اتزين لك يا رسول الله قال أتؤدين زكاتهن قلت لا أو ما شاء الله قال هوحسبك من النار.

ومن باب زكاة السائمة

الفتخات خواتيم كبار كان النساء يتختمن بها والواحدة فتخة وأنشدنا أبو العباس عن ابن الأعرابي: ألا بزَعْزاع يسلي همي ... يسقط منه فَتَخي في كمي قلت والغالب أن الفتخات لا تبلغ نصابا تجب فيها بمفردها الزكاة وإنما معناه أن تضم إلى سائر ما عندها من الحلي فتؤدي زكاتها منه. وقد اختلف الناس في وجوب الزكاة في الحلي فروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمرو وابن عباس أنهم أوجبوا فيه الزكاة وهو قول ابن المسيب وسعيد بن جبير وعطاء وابن سيرين وجابر بن زيد ومجاهد والزهري وإليه ذهب الثوري وأصحاب الرأي. وقد روى عن ابن عمر وجابر بن عبد الله وعائشة وعن القاسم بن محمد والشعبي أنهم لم يروا فيه الزكاة وإليه ذهب مالك بن أنس وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وهو أظهر قولي الشافعي. قلت الظاهر من الكتاب يشهد لقول من أوجبها والأثر يؤيده ومن أسقطها ذهب إلى النظر ومعه طرف من الأثر والاحتياط أداؤها والله أعلم. وذهب بعض من لم ير الزكاة فيما يلبسه الإنسان من الخاتم ونحوه من زي الرجال أنه إذا اتخذ خواتيم كثيرة لا يتسع للبسها كلها أن عليه زكاتها وإنما يسقط عنه فيما كان منها على مجرى العادة. ومن باب زكاة السائمة قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد قال أخذت من ثمامة بن عبد الله بن أنس كتابا زعم أن أبا بكر كتبه لأنس وعليه خاتم

رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعثه مُصَدِّقا وكتب له فإذا فيه هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين التي أمرالله بها نبيه صلى الله عليه وسلم فمن سألها من المسلمين على وجهه فليعطها ومن سأل فوقها فلا يعطه. فيما دون خمس وعشرين من الإبل الغنم في كل خمس ذود شاة فإذا بلغت خمسا وعشرين ففيها ابنة مخاض إلى أن تبلغ خمسا وثلاثين فإن لم يكن فيها ابنة مخاض فابن لَبُون ذكر فإذا بلغت ستا وثلاثين ففيها ابنة لبون إلى خمس وأربعين فإذا بلغت ستا وأربعين ففيها حِقة طروق الفحل إلى ستين فإذا بلغت إحدى وستين ففيها جَذَعة إلى خمس وسبعين فإذا بلغت ستاً وسبعين ففيها ابنتا لبون إلى تسعين فإذا بلغت إحدى وتسعين ففيها حقتان طروقتا الفحل إلى عشرين ومائة فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين ابنة لبون وفي كل خمسين حقة فإذا تباين أسنان الإبل في فرائض الصدقات فمن بلغت عنده صدقة الجذعة وليست عنده جذعة وعنده حقة فإنها تقبل منه ويجعل معها شاتين إن استيسرتا له أو عشرين درهما ومن بلغت عنده صدقة الحقة وليست عنده حقة وعنده جذعة فإنها تقبل منه ويعطيه المصدق عشرين درهما أو شاتين ومن بلغت عنده صدقة الحقة وليست عنده حقة وعنده ابنة لبون فإنها تقبل منه ويجعل معها شاتين إن استيسرتا له أوعشرين درهما ومن بلغت عنده صدقة ابنة لبون وليست عنده إلاّ حقة فانها تقبل منه ويعطيه المصدق عشرين درهما أو شاتين ومن بلغت عنده صدقة ابنة لبون وليست عنده إلاّ ابنة مخاض فإنها تقبل منه وشاتين أو عشرين درهما

ومن بلغت عنده صدقة ابنة مخاض وليس عنده إلاّ ابن لبون ذكر فإنه يقبل منه وليس معه شيء ومن لم يكن عنده إلاّ أربع فليس فيها شيء إلاّ أن يشاء ربها. وفي سائمة الغنم إذا كانت أربعين ففيها شاة إلى عشرين ومائة فإذا زادت على عشرين ومأثة ففيها شاتان إلى أن تبلغ مائتين فإذا زادت على المائتين ففيها ثلاث شياه إلى أن تبلغ ثلاثمائة فإذا زادت على ثلاثمائة ففي كل مائة شاة شاة. ولا يؤخذ في الصدقة هَرِمة ولا ذات عوار من الغنم ولا تيس الغنم إلاّ أن يشاء المصدق. ولا يجمع بين متفرق ولايفرق بين مجتمع خشيه الصدقة وما كان من خليتين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية فإن لم تبلغ سائمة الرجل أربعين فليس فيها شيء إلا أن يشاء ربها. وفي الرقة ربعُ العشر فإن لم يكن المال إلاّ تسعين ومائة فليس فيها شيء إلاّ أن يشاء ربها. قوله هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتمل وجهين من التأويل أحدهما أن يكون معنى الفرض الإيجاب، وذلك أن يكون الله تعالى قد أوجبها وأحكم فرضها في كتابه ثم أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بالتبليغ فأضيف الفرض إليه بمعنى الدعاء إليه وحمل الناس عليه وقد فرض الله تعالى طاعته على الخلق فجاز أن يسمى أمره وتبليغه عن الله عز وجل فرضاً على هذا المعنى. وكان ابن الأعرابي يقول معنى الفرض السنة ههنا. وحكى أبو عمر، عَن أبي العباس أحمد بن يحيى عنه قال الفرض الواجب والفرض القراءة، يقال فرضت جزئي أي قرأته والفرض السنة، قال ومنه ما يروى

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض كذا أي سنَّه. والوجه الآخر أن يكون معنى الفرض ههنا بيان التقدير كقوله سبحانه {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة} [البقرة: 236] ومن هذا فرض نفقة الأزواج وفرض أرزاق الجند، ومعناه راجع إلى قوله تعالى {لتبين للناس ما نُزل إليهم} [النحل: 44] . وقوله فمن سألها على وجهها أي على حسب ما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم من فرض مقاديرها فليعطها وقوله ومن سأل فوقها فلا يعطه يتأول على وجهين: أحدهما أن لا يعطى الزيادة على الواجب. والوجه الاخر أن لا يعطي شيئا منها لأن الساعي إذا طلب فوق الواجب كان خائنا فإذا ظهرت خيانته سقطت طاعته. وفي هذا دليل على أن الإمام والحاكم إذا ظهر فسقهما بطل حكمهما. وفيه دليل على جواز إخراج المرء صدقة أمواله الظاهرة بنفسه دون الإمام. وفي الحديث بيان أن لا شيء في الأوقاص وهي ما بين الفريضتين. وفيه دليل على أن الإبل إذا زادت على العشرين ومائة لم يستأنف لها الفريضة لأنه علق تغير الفرض بوجود الزيادة، وهو قوله فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين ابنة لبون وفي كل خمسين حقة، وقد يحصل وجود الزيادة بالواحدة كحصولها بأكثر منها. وعلى هذا وجد الأمر في أكثر الفرائض فإن زيادة الواحدة بعد منتهى الوقص توجب تغير الفريضة كالواحدة بعد الخامسة والثلاثين وبعد الخامسة والأربعين وبعد كمال الستين. وقد اختلف الناس في هذا فذهب الشافعي إلى أنها إذا زادت واحدة على مائة وعشرين كان فيها ثلاث بنات لبون وبه قال إسحاق بن راهويه.

وقال أحمد بن حنبل ليس في الزيادة شيء حتى يبلغ ثلاثين وجعلها من الأوقاص التي تكون بين الفرائض وهو قول أبي عبيد، وحكي ذلك عن مالك بن أنس واستدل بعضهم في ذلك بأنه لما قال فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين ابنة لبون وفي كل خمسين حقة اقتضى ذلك أن يكون تغير الفرض في عدد يجب فيه السنَّان معاً. قلت وهذا غيرلازم وذلك أنه إنما علق تغير الفرض بوجود الزيادة على المائة والعشرين وجعل بعدها في أربعين ابنة لبون وفي خمسين حقة وقد وجدت الأربعونات الثلاث في هذا النصاب فلا يجوز أن يسقط الفرض ويتعطل الحكم وإنما اشترط وجود السنين في محلين مختلفين لا في محل واحد فاشتراطهم وجودهما معاً في محل واحد غلط. وقال إبراهيم النخعي إذا زادت الابل على عشرين ومائة ففي كل خمس منها شاة وفي كل عشر شاتان وفي كل خمس عشرة ثلاث شياه فإذا بلغت مائة وأربعين ففيها حقتان وأربع شياه فإذا بلغت مائة وخمسا وأربعين ففيها حقتان وابنة مخاض حتى تبلغ خمسين ومائة ففيها ثلاث حقاق فإذا زادت استأنف الفرض كما استؤنفت الفريضة وهو قول أبي حنيفة؛ وقد روي عن علي رضي الله عنه أنه قال إذا زادت الإبل على عشرين ومائة استؤنفت الفريضة. قال ابن المنذر وليس بثابت منه، وقال محمد بن جرير الطبري وهو مخير إن شاء استأنف الفريضة إذا زادت الإبل على مائة وعشرين وإن شاء أخرج الفرائض لأن الخبرين جميعا قد رويا.

قلت وهذا قول لا يصح لأن الأمة قد فرقت بين المذهبين واشتهر الخلاف فيه بين العلماء فكل من رأى استئناف الفريضة لم ير إخراج الفرائض ومن رأى إخراج الفرائض لم يجز استئناف الفريضة فهما قولان متنافيان على أن رواية عاصم بن ضمرة عن علي رضي الله عنه لا تقاوم لضعفها رواية حديث أنس وهو حديث صحيح ذكره البخاري في جامعه عن محمد بن عبد الله الأنصاري عن أبيه عن ثمامة عن أنس، عَن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما. وفي حديث عاصم بن ضمرة كلام متروك بالإجماع غير مأخوذ به في قول أحد من العلماء وهو أنه قال في خمس وعشرين من الإبل خمس شياه. وروى أبو داود الحديثين معاً في هذا الباب وذكر أن شعبة وسفيان لم يرفعا حديث عاصم بن ضمرة ووقفاه على علي رضي الله عنه. وفيه من الفقه أن كل واحدة من الشاتين والعشرين الدرهم أصل في نفسه ليست ببدل وذلك لأنه قد خيره بينهما بحرف أو. وقد اختلف الناس في ذلك فذهب إلى ظاهر الحديث النخعي والشافعي وإسحاق. وقال الثوري عشرة دراهم أو شاتان وإليه ذهب أبو عبيد وقال مالك يجب على رب المال أن يبتاع للمصدق السن الذي يجب له. وقال أصحاب الرأي يأخذ قيمة الذي وجب عليه وإن شاء تقاصا بالفضل دراهم. قلت وأصح هذه الأقاويل قول من ذهب إلى أن كل واحد من الشاتين والعشرين الدرهم أصل في نفسه وأنه ليس له أن يعدل عنهما إلى القيمة. ولو كان للقيمة فيها مدخل لم يكن لنقله الفريضة إلى سن فوقها وأسفل منها ولا لجبران النقصان فيها بالعشرين أو بالشاتين معنى والله أعلم.

وعند الشافعي أنه إذا ارتفع إلى السن الذي يلي ما فوق السن الواجب عليه كان فيها أربع شياه أو أربعون درهما وبه قال إسحاق. وقال بعض أهل الحديث ولا يُجَاوزُ ما في الحديث من السن الواحد إلاّ أن الشافعي قال إذا وجبت عليه ابنة لبون ولم يكن عنده إلاّ حق فإنه لا يأخذ الحق كما يأخذ ابن اللبون عند عدم ابنة المخاض وجعله خاصا في موضعه ولم يجعل سبيله في القياس سبيل ما يؤخذ من الجبران إذا زاد أو نقص عند تباين الأسنان. قلت: ويشبه أن يكون صلى الله عليه وسلم إنما جمل الشاتين أو العشرين الدرهم تقديراً في جبران النقصان والزيادة بين السنين ولم يكل الأمر في ذلك إلى اجتهاد الساعي وإلى تقديره لأن الساعي إنما يحضر الأموال على المياه وليس بحضرته حاكم ولا مقوم يحمله ورب المال عند اختلافها على قيمة يرتفع بها الخلاف وتنقطع معها مادة النزاع فجعلت فيها قيمة شرعية كالقيمة في المُصَراة والجنين حسما لمادة الخلاف مع تعذرالوصول إلى حقيقة العلم بما يجب فيها عند التعديل. قلت: وإذا كان معلوماً أن القصد بالمسامحة الواقعة في الطرفين إنما كان بها لأجل الضرورة، وقد يحدث مثل ذلك عند وجوب الحقة واعوازها مع وجود الجذع وكان ما بينهما من زيادة المنفعة من وجه ونقصانها من وجه شبيها بما بين ابن اللبون وابنة المخاض، فلو قال قائل أنه مأخوذ مكانها كما كان ابن اللبون مأخوذاً مكان ابنة المخاض لكان مذهباً وهو قول الشافعي والله أعلم.

وفي قوله ومن بلغت صدقته ابنة مخاض وليس عنده إلاّ ابن لبون ذكر فإنه يقبل منه وليس معه شيء دليل على أن ابنة المخاض ما دامت موجودة فإن ابن اللبون لا يجزىء عنها وموجب هذا الظاهر أنه يقبل منه سواء كانت قيمته قيمة ابنة مخاض أو لم يكن ولوكانت القيمة مقبولة لكان الأشبه أن يجعل بدل ابنة مخاض قيمتها دون أن يؤخذ الذكران من الإبل فإن سنة الزكاة قد جرت بأن لا يؤخذ فيها إلاّ الإناث إلاّ ما جاء في البقر من التبيع. وزعم بعض أهل العلم أنه إذا وجد قيمة ابنة مخاض لم يقبل منه ابن لبون لأن واجد قيمتها كواجد عينها ألا ترى أن من وجد ثمن الرقبة في الظهار لم ينتقل إلى الصيام. قلت وهذا خلاف النص وخلاف القياس الذي قال وتمثل به وذلك أنه قال في الآية فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين فعلق الحكم بالوجود ووجود القيمة وجود لما يتقوم بها، وإنما قال في الحديث ومن بلغت صدقته ابنة مخاض وليس عنده إلاّ ابن لبون ذكر فإنه يقبل منه فعلق الحكم بكونه عنده لا بقدرته عليه فالأمران مختلفان. وأما قوله ابن لبون ذكر وتقييده إياه بهذا الوصف وقد علم لا محالة ان ابن اللبون لا يكون إلاّ ذكرا فقد يحتمل ذلك وجهين من التأويل، أحدهما أن يكون توكيدا للتعريف وزيادة في البيان وقد جرت عادة العرب بأن يكون خطابها مرة على سبيل الإيجاز والاختصار ومرة على العدل والكفاف ومرة على الإشباع والزيادة في البيان، وهذا النوع كقوله سبحانه {فصيام ثلاثة أيام

في الحج وسبعة إذا رجعتم} [البقرة: 196] ثم قال {تلك عشرة كاملة} [البقرة: 196] وكان معلوماً أن سبعة إلى ثلاثة بمجموعها عشرة وكقول النبي صلى الله عليه وسلم حين ذكر تحريم الأشهر الحرم فقال ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان. والوجه الآخر أن يكون ذلك على معنى التنبيه لكل واحد من رب المال والمصدق فقال هو ابن لبون ذكر ليطيب رب المال نفساً بالزيادة المأخوذة منه إذا تأمله فعلم أنه قد سوغ له من الحق وأسقط عنه ما كان بإزائه من فضل الأنوثة في الفريضة الواجبة عليه وليعلم المصدق أن سن الذكورة مقبول من رب المال في هذا النوع وهو أمر نادر خارج عن العرف في باب الصدقات ولا ينكر تكرار البيان والزيادة فيه مع الغرابه والندور لتقرير معرفته في النفوس. وقوله إن استيسرتا له معناه إن كانتا موجودتين في ماشيته. وفيه دليل على أن الخيار في ذلك إلى رب المال أيهما شاء أعطى. وفي قوله في سائمة الغنم إذا كانت أربعين شاة شاة دليل على أن لا زكاة في المعلوفة منها لأن الشيء إذا كان يعتوره وصفان لازمان فعلق الحكم بأحد وصفيه كان ما عداه بخلافه وكذلك هذا في عوامل البقر والإبل، وهو قول عوام أهل العلم إلاّ مالكا فإنه أوجب الصدقة في عوامل البقر ونواضح الإبل. وقوله فإذا زادت على ثلاثمائة ففي كل مائة شاة شاة فإنما معناه أن يزيد مائة أخرى فيصير أربعمائة وذلك لأن المائتين لما توالت أعدادها حتى بلغت ثلاثمائة وعلقت الصدقة الواجبة فيها بمائة مائة ثم قيل فإذا زادت عقل أن هذه الزيادة اللاحقة بها إنما هي مائة لا ما دونها وهو قول عامة الفقهاء الثوري وأصحاب الرأي

وقول الحجازيين مالك والشافعي وغيرهم. وقال الحسن بن صالح بن حي إذا زادت على ثلاثمائة واحدة ففيها أربع شياه. وقوله لا تؤخذ في الصدقة هرمة ولا ذات عوار ولا تيس الغنم إلاّ أن يشاء المصدق فإن حق الفقراء إنما هو في النمط الأوسط من المال لا يأخذ المصدق خياره فيجحف بأرباب الأموال ولا شراره فيزري بحقوق الفقراء. وقوله إلاّ أن يشاء المصدق، فيه دلالة على أن له الاجتهاد لأن يده كيد المساكين وهو بمنزلة الوكيل لهم ألا ترى أنه يأخذ أجرته من مالهم وإنما لا يأخذ ذات العوار ما دام في المال شيء سليم لا عيب فيه فإن كان المال كله معيبا فإنه يأخذ واحداً من أوسطه وهو قول الشافعي، وقال إذا وجب في خمس من إبله شاة وكلها معيبة فطلب أن يؤخذ منه واحد منها أخذ وإن لم يبلغ قيمته قيمة شاة وقال مالك يكلف أن يأتي بصحيحة ولا يؤخذ منه مريض، وتيس الغنم يريد به فحل الغنم، وقد زعم بعض الناس أن تيس الغنم إنما لا يؤخذ من قبل الفضيلة وليس الأمر كذلك وإنما لا يؤخذ لنقصه وفساد لحمه. وكان أبو عبيد يرويه إلا أن يشاء المصدَّق بفتح الدال يريد صاحب الماشية وقد خالفه عامة الرواة في ذلك فقالوا إلاّ أن يشاء المصدِّق مكسورة الدال أي العامل. وقوله لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة فإن هذا إنما يقع في زكاة الخلطاء، وفيه إثبات الخلطة في المواشي. وقد اختلف في تأويله فقال مالك هو أن يكون لكل رجل أربعون شاة فإذا أظلهم المصدق جمعوها لئلا يكون فيها إلاّ شاة واحدة ولا يفرق بين مجتمع أن الخليطين إذا كان لكل واحد منهما مائة شاة وشاة فيكون عليهما

فيه ثلاث شياه فإذا أظلهما المصدق فرقا غنمهما فلم يكن على كل واحد منهما إلاّ شاة. وقال الشافعي الخطاب في هذا خطاب للمصدق ولرب المال معاً وقال الخشية خشيتان خشية الساعي أن تقل الصدقة وخشية رب المال أن تكثر الصدقة فأمر كل واحد منهما أن لا يحدث في المال شيئا من الجمع والتفريق خشية الصدقة. وقوله وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية فمعناه أن يكونا شريكين في إبل يجب فيها الغنم فيوجد الإبل في يدي أحدهما فتؤخذ منه صدقتها فإنه يرجع على شريكه بحصته على السوية. وفيه دلالة على أن الساعي إذا ظلمه فأخذ منه زيادة على فرضه فإنه لا يرجع بها على شريكه وإنما يغرم له قيمة ما يخصه من الواجب دون الزيادة التي هي ظلم وذلك معنى قوله بالسوية وقد يكون تراجعهما أيضاً من وجه آخر وهو أن يكون بين رجلين أربعون شاة لكل واحد منهما عشرون وقد عرف كل واحد منهما عين ماله فيأخذ المصدق من نصيب أحدهما شاة فيرجع المأخوذ من ماله على شريكه بقيمة نصف شاة. وفيه دليل على أن الخلطة تصح مع تميز أعيان الأموال. وقد روي عن عطاء وطاوس أنهما قالا إذا عرف الخليطان كل واحد منهما أموالهما فليسا بخليطين. وقد اختلف مالك والشافعي في شرط الخلطة فقال مالك إذا كان الراعي والفحل والمراح واحداً فهما خليطان، وكذلك قال الأوزاعى. وقال مالك فإن فرقهما المبيت هذه في قرية وهذه في قرية فهما خليطان. وقال الشافعي إن فرق بينهما في المراح فليسا بخليطين واشترط في الخلطة المراح والمسرح والسقي واختلاط الفحولة، وقال إذا افترقا في شيء من هذه

الخصال فليسا بخليطين، إلاّ أن مالكاً قال لا يكونان خليطين حتى يكون لكل واحد منهما تمام النصاب وعند الشافعى إذا تم بماليهما نصاب فهما خليطان وإن كان لأحدهما شاة واحدة. وقوله في الرقة ربع العشر فإن لم يكن إلاّ تسعون ومائة فليس فيها شيء إلاّ أن يشاء ربها فإن الرقة الدراهم المضروبة وليس في هذا دلالة على أنه إذا كانت تسعة وتسعين ومائة أو كانت مائتين ناقصة كانت فيها الزكاة، وإنما ذكر الفصول والعشرات لأنها قد تتضمن الآحاد فدل بذلك على أنه أراد بالزيادة التي بها يتعلق الوجوب عشرة كاملة. وبيان ذلك في قوله ليس فيما دون خمس أواق من الورق زكاة. وفيه دليل على أن الدراهم إذا بلغت خمس أواق بما فيها من غش وحملان فإنه لا شيء فيها حتى يكون كلها فضة خالصة. وفي قوله إلاّ أن يشاء ربها دليل على أن رب المال إذا سمح بما لا يلزمه من زيادة السن أو أعطى الماخض مكان الحائل أو أعطى ذات الدر بطيبة نفس كان ذلك مقبولا منه. وحكي عن داود وأهل الظاهر أنهم قالوا لا يقبل منه أو لا يجزئه والحديث حجة عليه لأنه إذا أعطى عن مائة وتسعين درهما خمسة دراهم لكانت مقبولة منه وهو لا يجب عليه فيها شيء لعدم النصاب فلأن تقبل زيادة السن مع كمال النصاب أولى. وأما تفسير اسنان الفرائض المذكورة في هذا الحديث فإن ابنة المخاض هي التي أتى عليها حول ودخلت في السنة الثانية وحملت أمها فصارت من المخاض وهي الحوامل، والمخاض اسم جماعة للنوق الحوامل.

وأما ابنة اللبون فهي التي أتى عليها حولان ودخلت في السنة الثالثة فصارت أمها لبونا بوضع الحمل أي ذات لبن. وأما الحقة فهي التي أتى عليها ثلاث سنين ودخلت في السنة الرابعة فاستحقت الحمل والضراب. والجذعة هي التي تمت لها أربع سنين ودخلت في الخامسة. وقد ذكر أبو داود عن الرياشي وأبي حاتم عن الأصمعى وغيره أسنان الإبل وأشبع بيانها في الكتاب فلا حاجة بنا إلى ذكرها. وقوله طَروقة الفحل فهي التي طرقها الفحل أي نزا عليها وهي فعولة بمعنى مفعولة كما قيل ركوبة وحلوبة بمعنى مركوبة ومحلوبة. قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي حدثنا زهير حدثنا أبو إسحاق عن عاصم بن ضمرة وعن الحارث الأعور عن علي رضي الله عنه قال زهير أحسبه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال هاتوا ربع العشور من كل أربعين درهما درهم فما زاد فعلى حساب ذلك. قال وفي البقر في كل ثلاثين تبيع وفي كل أربعين مسنة وليس على العوامل شيء قال وفي النبات ما سقته الأنهار أو سقت السماء العشر وما سقي بالغَرْب ففيه نصف العشر. قوله في كل أربعين درهما درهم تفصيل لجملة قد تقدم بيانها في حديث أبى سعيد الخدري وهو قول ليس فيما دون خمس أواق شيء وتفصيل الجملة لا يناقض الجملة. وقوله فما زاد فعلى حساب ذلك؛ فيه دليل على أن القليل والكثير من الزيادة على النصاب محسوب على صاحبه ومأخوذ منه الزكاة بحصته وقد ذكرنا اختلاف أقاويل العلماء في هذا فيما مضى. وقوله في البقر في كل ثلاثين تبيع فإن العجل ما دام يتبع أمه فهو تبيع إلى تمام

سنة ثم هو جذع ثم ثني ثم رَباع ثم سَدَس وسديس ثم صالغ وهو المسن. وقوله وليس في العوامل شيء بيان فساد قول من أوجب فيها الصدقة، وقد ذكرناه فيما مضى. وفي الحديث دليل على أن البقر إذا زادت على الأربعين لم يكن فيها شيء حتى تكمل ستين، ويدل على صحة ذلك ماروي عن معاذ أنه أتي بوقص البقر فلم يأخذه. ومذهب أبي حنييفة أن ما زاد على الأربعين فبحسابه. وقوله فيما سقته الأنهار أو سقته السماء العشر وما سقي بالغرب ففيه نصف العشر، فإن الغَرْب الدلو الكبيرة يريد ما سقى بالسواني وما في معناها مما سقي بالدواليب والنواعير ونحوها. وإنما كان وجوب الصدقة مختلفة المقادير في النوعين لأن ما عمت منفعته وخفت مؤونته كان أحمل للمواساة فأوجب فيه العشر توسعة على الفقراء وجمل فيما كثرت مؤنته نصف العشر رفقا بأهل الأموال. قال أبو داود: حدثنا سليمان بن داود المَهْري أخبرني ابن وهب أخبرني جرير بن حازم، عَن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة والحارث الأعور عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال فإذا كانت لك مائتا درهم وحال عليها الحول ففيها خمسة دراهم وليس عليكم شيء، يَعني في الذهب حتى يكون لك عشرون دينارا فإذا كان لك عشرون دينارا وحال عليها الحول ففيها نصف دينار وما زاد فبحساب ذلك وليس في مالٍ زكاة حتى يحول عليه الحول. قلت وفي هذا دليل على أن المال إذا نقص وزنه عن تمام النصاب وإن كان شيئا يسيرا أو كان مع نقصه يجوز جواز الوازن لم تجب فيه الزكاة.

وقوله لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول إنما أراد به المال النامي كالمواشي والنقود لأن نماءها لا يظهر إلاّ بمضي مدة الحول عليها. فأما الزروع والثمار فإنها لا يراعى فيها الحول وإنما ينظر إلى وقت إدراكها واستحصادها فيخرج الحق منها. وفيه حجة لمن ذهب إلى أن الفوائد والأرباح يستأنف بها الحول ولا تبنى على حول الأصل. وقد اختلف الناس في ذلك فقال الشافعي يستقبل بالفائدة حولها من يوم افادها. وروي ذلك، عَن أبي بكر وعلي وابن عمر وعائشة رضوان الله عليهم. وهو قول عطاء وإبراهيم النخعي وعمر بن عبد العزيز. وقال أحمد بن حنبل ما استفاده الإنسان من صلة وميراث استأنف به الحول وما كان من نماء ماله فإنه يزكيه مع الأصل. وقال أبو حنيفة تضم الفوائد إلى الأصول ويزكيان معاً. وإليه ذهب ابن عباس وهو قول الحسن البصري والزهري. واتفق عامة أهل العلم في النتاج أنه يعد مع الأمهات إذا كان الأصل نصابا تاما وكان الولاد قبل الحول ولا يستأنف له الحول وذلك لأن النتاج يتعذر تميزه وضبط أوائل أوقات كونه فحمل على حكم الأصل والولد يتبع الأم في عامة الأحكام. وفي الحديث دليل على أن النصاب إذا نقص في خلال الحول ولم يوجد كاملا من أول الحول إلى آخره أنه لا تجب فيه الزكاة وإلى هذا ذهب الشافعي. وعند أبي حنيفة أن النصاب إذا وجد كاملا في طرفي الحول وإن نقص في خلاله لم تسقط عنه الزكاة. ولم يختلفا في العروض التي هي للتجارة أن الاعتبار إنما هو لطرفي

الحول وذلك لأنه لا يمكن ضبط أمرها في خلال السنة. وفيه دليل على أنه إذا بادل إبلا بإبل قبل تمام الحول بيوم لم يكن عليه فيها زكاة وهو قول أبي حنيفة والشافعي. إلاّ أن الشافعي يسقط بالمبادلة الزكاة عن النقود كما يسقطها بها عن الماشية وأباه وأبوحنيفة في النقود وهو أحوط لئلا يتذرع بذلك إلى إبطال الزكاة ومنع الفقراء حقوقهم منها وهي أصل الأموال وأعظمها قدرا وغناءً. قال أبو داود: حدثنا عمرو بن عون أخبرنا أبو عَوانة، عَن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عفوت عن الخيل والرقيق فهاتوا صدقة الرقة من كل أربعين درهما درهم وليس في تسعين ومائة شيء فإذا بلغت مائتين ففييها خمسة دراهم. قلت إنما أسقط الصدقة عن الخيل والرقيق إذا كانت للركوب والخدمة فأما ما كان منها للتجارة ففيه الزكاة في قيمتها. وقد اختلف الناس في وجوب الصدقة في الخيل فذهب أكثر الفقهاء إلى أنه لا صدقة فيها وقال حماد بن أبي سليمان فيها صدقة. وقال أبو حنيفة في الخيل الإناث والذكور التي يطلب نسلها في كل فرس دينار وإن شئت قومتها دراهم فجعلت في كل مائتي درهم خمسة دراهم. وقد روي عن عمر بن الخطاب أنه أخذ من كل فرس ديناراً. قلت وإنما هو شيء تطوعوا به لم يلزمهم عمر إياه وروى مالك عن الزهري عن سليمان بن يسار أن أهل الشام عرضوه على أبي عبيدة فأبى ثم كلموه فأبى ثم كتب إلى عمر في ذلك فكتب إليه إن أحبوا فخذها منهم وارددها عليهم وارزق رقيقهم.

قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد حدثنا بَهْز بن حكيم عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: في كل سائمة إبل في أربعين ابنة لبون لا يُفَرَّقُ إبل على حسابها من أعطاها مؤتجرا فله أجرها ومن منعها فإنا آخذوها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا ليس لآل محمد منها شيء. قلت اختلف الناس في القول بظاهر هذا الحديث فمذهب أكثر الفقهاء أن الغلول في الصدقة والغنيمة لا يوجب غرامة في المال، وهو مذهب الثوري وأصحاب الرأي وإليه ذهب الشافعي. وكان الأوزاعي يقول في الغال في الغنيمة إن للإمام أن يحرق رحله، وكذلك قال أحتد وإسحاق. وقال أحمد في الرجل يحمل الثمرة في أكمامها فيه القيمة مرتين وضرب النكال وقال كل من درأنا عنه الحد أضعفنا عليه الغرم، واحتج في هذا بعضهم بما روي، عَن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في ضالة الإبل المكتومة غرامتها ومثلها والنكال. وغرم عمر بن الخطاب حاطب بن أبي بلتعة ضعف ثمن ناقة المزني لما سرقها رقيقه. وروي عن جماعة من الصحابة أنهم جعلوا دية من قتل في الحرم دية وثلثا وهو مذهب أحمد بن حنبل. وكان إبراهيم الحربي يتأول حديث بهز بن حكيم على أدنه يؤخذ منه خيار ماله مثل سن الواجب عليه لا يزاد على السن والعدد ولكن يتقي خيار ماله فتزداد عليه الصدقة بزيادة شطر القيمة. وفي الحديث تأويل آخر ذهب إليه بعض أهل العلم وهو أن يكون معناه أن الحق مستوفى منه غير متروك عليه وإن تلف ماله فلم يبق إلاّ شطره كرجل

كان له ألف شاة فتلف حتى لم يبق منه إلاّ عشرون فإنه يؤخذ منه عشر شياه وهوشطر ماله الباقي أي نصفه وهذا محتمل وإن كان الظاهر ما ذهب إليه غيره ممن قد ذكرناه. وفي قوله ومن منعها فإنا آخذوها دليل على أن من فرط في إخراج الصدقة بعد وجوبها فمنع بعد الإمكان ولم يؤدها حتى هلك المال أن عليه الغرامة لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفرق بين منع ومنع. قال أبو داود: حدثنا النفيلي حدثنا أبو معاوية عن الأعمش، عَن أبي وائل عن معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم لما وجهه إلى اليمن أمره أن يأخذ من البقر من كل ثلاثين تبيعا أو تبيعة ومن كل أربعين مسنة ومن كل حالم دينارا أو عدل من المعافر ثياب تكون باليمن. قلت ليس في أصول الزكاة مدخل للذكران من المواشى إلاّ في صدقة البقر فإن التبيع مقبول عنها فيشبه أن يكون ذلك والله أعلم لقلة هذا النصاب وانحطاط قيمة هذا النوع من الحيوان فسوس لهم إخراج الذكران منه ما دام قليلا إلى أن يبلغ كمال النصاب وهو الأربعون. فأما ابن اللبون فإنه يؤخذ بدلا عن ابنة المخاض لا أصلا في نفسه ومعه زيادة السن التى يوازي بها فضيلة الأنوثة التي هي لابنة المخاض. وأما الدينار فإنما أخذه جزية عن رؤوسهم وهم نصارى نجران وصدقة البقر إنما أخذها من المسلمين إلاّ أنه أدرج ذلك في الخبر ونسق أحدهما على الآخر والمعنى مفهوم عند أهل العلم. وفيه دليل على أن الدينار مقبول منهم سواء كانوا فقراء أو مياسير لأنه عم ولم يخص، وفيه بيان أنه لا جزية على غير البالغ وأنها لا تلزم إلاّ الرجال لأن الحالم سمة الذكران وهو كالإجماع من أهل العلم.

واختلفوا في الفقراء منهم يؤخذ منهم أم لا فقال أصحاب الرأي لا يؤخذ من الفقير الذي لا كسب له، واختلف فيه قول الشافعي فأحد قوليه أنه لا شيء عليه وأوجبها في القول الثاني لأنه يجعلها بمنزلة كراء الدار وأجرة السكنى والدار للمسلمين لا لهم والكراء يلزم الفقير والغني. وقوله أوعدله أي ما يعادل قيمته من الثياب قال الفراء يقال هذا عدل الشيء بكسر العين أي مثله في الصورة وهذا عدله بفتح العين إذا كان مثله في القيمة. قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا أبو عَوانة عن هلال بن خباب عن ميسرة أبي صالح عن سويد بن غفلة قال سرت أو أخبرني من سار مع مصدق النبي صلى الله عليه وسلم فإذا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا تأخذ من راضع لبن قال وكان يأتي المياه حين ترد الغنم فيقول أدوا صدقات أموالكم قال فعمد رجل منهم إلى ناقة كَوماء قال وهي عظيمة السنام فأبى أن يقبلها قال فخطم له أخرى دونها وذكر الحديث. قوله لا تأخذ من راضع الراضع ذات الدر فنهيه عنها يحتمل وجهين: أحدهما أن لا يأخذ المصدق عن الواجب في الصدقة لأنها خيار المال ويأخذ دونها وتقديره لا تأخذ راضع لبن ومن زيادة وصلة في الكلام كما تقول لا تأكل من حرام ولا تنفق من سحت أي لا تأكل حراماً. والوجه الاخر أن يكون عند الرجل الشاة الواحدة أو اللقحة قد اتخذها للدر فلا يؤخذ منها شيء وقد جاء في بعض الحديث لا تُعَدُّ فاردتكم. والكوماء هي التي ارتفع سنامها فكان كالكومة فوقها يقال كومت كومة من التراب إذا جمعت بعضه فوق بعض حتى ارتفع وعلا قال أبو النجم يصف الإبل:

الحمد لله الوهوب المجزل ... كُومَ الذُّرى من خَوَل المخوَّل وقوله فخطم له أخرى أي قادها إليه بخطامها والإبل إذا أرسلت في مسارحها لم يكن عليها خُطُم وإنما تخطم إذا أريد قودها. قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي حدثنا وكيع عن زكريا بن إسحاق المكي عن عمرو بن أبي سفيان الجمحي عن مسلم بن ثَفنة اليشكري عن سعد بن دَيْسم قال كنت في غنم لي فجاءني رجلان على بعير فقالا إنا رسولا رسول الله صلى الله عليه وسلم إليك لتؤدي صدقة غنمك فقلت وما علي فيها فقالا شاة فعمدت إلى شاة قد عرفتها وعرفت مكانها ممتلئة مخضا وشحما فأخرجتها إليهما فقالا هذه شاة الشافع وقد نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نأخذ شاة شافعا قلت فأي شيء تأخذان قالا عناقا أو جذعة أو ثنية قال فعمدت إلى عناق معتاط والمعتاط التي لم تلد وقد حان ولادها فأخرجتها إليهما فجعلاها على بعيرهما ثم انطلقا. المخض اللبن والشافع الحامل وسميت شافعا لأن ولدها قد شفعها فصارا زوجاً والمعتاط من الغنم هي التي قد امتنعت عن الحمل لسمنها وكثرة شحمها، يقال اعتاطت الشاة وشاة معتاط ويقال ناقة عائط ونوق عيط. قلت وهذا يدل على أن غنمه كانت ماعزة ولوكانت ضائنة لم يجزه العناق ولا يكون العناق إلاّ الأنثى من المعز. وقال مالك: الجذع يؤخذ من الماعز والضأن. وقال الشافعي يؤخذ من الضأن ولا يؤخذ من المعز إلاّ الثني. وقال أبو حنيفة لا يؤخذ الجذعه من الماعز ولا من الضأن. قال أبو داود: قرأت في كتاب عبد الله بن سالم الحمصي عند آل عمرو بن

الحارث الحمصي عن الزبيدي قال: وأخبرني يحيى بن جابر عن جبير بن نفير عن عبد الله بن معاوية الغاضري من غاضرة قيس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث من فعلهن فقد طعِم طُعم الإيمان من عبد الله وحده وأنه لا إلّه إلاّ الله وأعطى زكاة ماله طيبة بها نفسه رافدة عليه كل عام ولم يعط الهرمة ولا الدرنه ولا المريضة ولا الشُرَط اللئيمة ولكن من وسط أموالكم فإن الله لم يسألكم خيره ولم يأمركم بشره. قوله رافدة عليه أي معينة وأصل الرفد الإعانة والرفد المعونة والدرنة الجرباء وأصل الدرن الوسخ والشرط رذالة المال قال الشاعر: وفي شُرط المِعزى لهن مُهور قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا وكيع حدثنا زكريا بن إسحاق المكي عن يحيى بن عبد الله بن صيفي، عَن أبي معبد عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث معاذا إلى اليمن فقال إنك تأتي قوما أهل كتاب فادعهم إلى شهادة أن لا إلّه إلاّ الله وأني رسول الله فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد في فقرائهم فإن هم أطاعوك فإياك وكرائم أموالهم واتق دعوة المظلوم فإنها ليس بينها وبين الله حجاب. قلت في هذا الحديث مستدل لمن يذهب إلى أن الكفار غير مخاطبين بشرائع الدين وإنما خوطبوا بالشهادة فإذا أقاموها توجهت عليهم بعد ذلك الشرائع والعبادات لأنه صلى الله عليه وسلم قد أوجبها مرتبة وقدم فيها الشهادة ثم تلاها بالصلاة والزكاة.

وفيه دليل على أنه لا يجوز دفع شيء من صدقات أموال المسلمين إلى غير أهل دينهم، وهو قول عامة الفقهاء. وفيه دليل على أن سنة الصدقة أن تدفع إلى جيرانها وأن لا تنقل من بلد إلى بلد. وكره أكثر الفقهاء نقل الصدقة من البلد الذي به المال إلى بلد آخر إلاّ أنهم مع الكراهة له قالوا إن فعل ذلك أجزأه، إلاّ عمر بن عبد العزيز فإنه يروى عنه أنه رد صدقة حملت من خراسان إلى الشام إلى مكانها من خراسان. وفيه مستدل لمن ذهب إلى إسقاط الزكاة عمن في يده مائتا درهم وعليه من الدين مثلها لأن له أخذ الصدقة وذلك من حكم الفقراء. وقد قسم النبي صلى الله عليه وسلم الناس قسمين: آخذاً ومأخوذا منه فإذا جعلناه معطى مأخوذاً منه كان خارجا عن هذا التقسيم. ولكن قد جوز أبوحنيفة أن يأخذ من عشر الأرض من يعطي العشر وذلك أن العشر في القليل والكثير عنده واجب. وقد يستدل بهذا الحديث من يذهب إلى وجوب الزكاة في مال الأيتام وذلك أنه لما كان معدوداً من جملة الفقراء الذين تقسم فيهم الزكاة كان معدودا في جملة الأغنياء الذين تجب عليهم الزكاة إذ كان آخر الكلام معطوفا على أوله. وقد اختلف الناس في ذلك فأوجبها في ماله مالك والثوري والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه. وروي ذلك عن عمر بن الخطاب وعلى وابن عمر وجابر وعائشة، وهو قول عطاء وطاوس ومجاهد وابن سيرين. وقال الأوزاعي وابن أبي ليلى عليه الزكاة ولكن يحصيها الولي فإذا بلغ الطفل أعلمه ليزكي عن نفسه. وقال أصحاب الرأي لا زكاة عليه في ماله إلاّ فيما أخرجت أرضه ويلزمه زكاة الفطر.

قال أبو داود: حدثنا مهدي بن حفص ومحمد بن عبيد المعنى قالا: حَدَّثنا حماد عن أيوب عن رجل يقال له ديسم عن بشير بن الخصاصية قال قلنا إن أهل الصدقة يعتدون علينا أفنكتم من أموالنا بقدر ما يعتدون علينا فقال لا. قلت: يشبه أن يكون نهاهم عن ذلك من أجل أن للمصدق أن يستحلف رب المال إذا اتهمه فلو كتموه شيئاً منها واتهمهم المصدق لم يجز لهم أن يحلفوا على ذلك فقيل لهم احتملوا لهم الضيم ولا تكذبوهم ولا تكتموهم المال. وقد روي أدّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك. وفي هذا تحريض على طاعة السلطان وإن كان ظالماً وتوكيد لقول من ذهب إلى أن الصدقات الظاهرة لا يجوز أن يتولاها المرء بنفسه لكن يخرجها إلى السلطان. قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر النمري وأبو الوليد الطيالسي المعنى قالا: حَدَّثنا شعبة عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن أبي أوفى قال كان أبي من أصحاب الشجرة وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال اللهم صل على آل فلان قال فأتاه أبي بصدقته فقال اللهم صل على آل أبى أوفى. قلت: الصلاة في هذا الموضع معناه الدعاء والتبرك وهو تأويل قوله تعالى {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم} [التوبة: 103] ومن هذا قول الأعشى: وقابلها الريح في دنِّها ... وصلى على دَنِّها وارتسم قال أبو العباس أحمد بن يحيى بن يزيد ودعا لها بأن لا تحْمُض ولا تفسد. وفيه دليل على أن الصلاة التي هي بمعنى الدعاء والتبريك يجوز أن يصلى على غير النبي صلى الله عليه وسلم.

ومن باب أين تصدق الأموال

فأما الصلاة التي هي تحية لذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنها بمعنى التعظيم والتكريم وهي خصيصا له لا يشركه فيها إلاآلُهُ، وإنما يستحق المزكي الصلاة والدعاء إذا أعطى الصدقة طوعا ولا يستحقها من استخرجت منه الصدقة كرها وقهراً. قال أبو داود: حدثنا عباس بن عبد العظيم ومحمد بن المثنى قالا: حَدَّثنا بشر بن عمر، عَن أبي الغُصن عن صخر بن إسحاق عن عبد الرحمن بن جابر بن عتيك عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: سيأتيكم رُكَيب مبغضون فإذا جاؤوكم فرحبوا بهم وخلوا بينهم وبين ما يبغون فإن عدلوا فلأنفسهم وإن ظلموا فعليها وأرضوهم فإن تمام زكاتكم رضاهم وليدعوا لكم. قوله ركيب تصغير ركب وهو جمع راكب كما قيل صحب في جمع صاحب وتجر في جمع تاجر، وإنما عنى به السعاة إذا أقبلوا يطلبون صدقات الأموال فجعلهم مبَغَّضين لأن الغالب في نفوس أرباب الأموال بغضهم والتكره لهم لما جبلت عليه القلوب من حب المال وشدة حلاوته في الصدر إلاّ من عصمه الله ممن أخلص النية واحتسب فيها الأجر والمثوبة. وفيه من العلم أن السلطان الظالم لا يغالب باليد ولا ينازع بالسلاح. ومن باب أين تُصَدق الأموال قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا ابن أبي عدي عن ابن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا جَلَبَ ولا جَنَبَ ولا تؤخذ صدقاتهم إلاّ في دورهم. قلت الجلب يفسر تفسيرين يقال أنه في رهان الخيل وهو أن يجلب عليها عند الركض، ويقال هو في الماشية. يقول لا ينبغي للمصدق أن يقيم بموضع

ومن باب صدقة الزرع

ثم يرسل إلى أهل المياه فيجلبوا إليه مواشيهم فيصدقها ولكن ليأتهم على مياههم حتى يصدقهم هناك. وأما الجنب فتفسيره أيضاً على وجهين: أحدهما أن يكون في الصدقة وهو أن أصحاب الأموال لا يجنبون على مواضعهم أي لا يبعدون عنها حتى يحتاج المصدق إلى أن يتبعهم ويمعن في طلبهم. وقيل إن الجنب في الرهان وهو أن يركب فرسا فيركضه وقد أجنب معه فرسا آخر فإذا قارب الغاية ركبه وهو جام فيسبق صاحبه. ومن باب صدقة الزرع قال أبو داود: حدثنا هارون بن سعيد بن الهيثم الأيلي حدثنا عبد الله بن وهب أخبرني يونس بن يزيد عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما سقت السماء والأنهار والعيون أو كان بعلا العشر وفيما سقي بالسواني أو النضح نصف العشر. قال أبو داود البعل ماشرب بعروقه ولم يتعن في سقيه، وكذلك قال أبو عبيد والسواني جمع السانية وهي البعير الذى يسنى عليه أي يستقى. والنضح مثله وهو السقي بالرشاء وهذا مما تقدم بيانه وأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الصدقة ما خفت مؤنته وكثرت منفعته على التضعيف توسعة على الفقراء وجعل ما كثرت مؤنته على التنصيف رفقا بأرباب الأموال. قلت وأن الزرع الذي يسقى بالقنى فالقياس على هذا أن ينظر فإن كان لا مؤنة فيها أكثر من مؤنة الحفر الأول وكسحها في بعض الأوقات فسبيلها سبيل

النهر والسيح في وجوب العشر فيها وإن كان تكثر مؤنتها بأن لا تزال تتداعى وتنهار ويكثر نضوب مائها فيحتاج إلى استحداث حفر فسبيلها سبيل ماء الآبار التي تنزح منها بالسواني والله أعلم. قال أبو داود: حدثنا الربيع بن سليمان حدثنا ابن وهب عن سليمان، يَعني ابن بلال عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر عن عطاء بن يسار عن معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إلى اليمن فقال خذ الحب من الحب والشاة من الغنم والبعير من الإبل والبقرة من البقر. قلت فيه من الفقه أن الزكاة إنما تخرج من أعيان الأموال وأجناسها ولا يجوز صرف الواجب منها إلى القِيَم. وفيه دليل على أن من وجبت عليه شاة في خمس من الإبل فأعطى بعيراً منها فإنه يقبل منه. وقال داود لا يقبل منه ذلك ويكلف الشاة لأنه خلاف المفروض عليه وحكي ذلك عن مالك أيضاً. قلت الأصل أن الواجب عليه في كل جنس من أجناس الأموال جزء منه إلاّ أن الضرورة دعت في هذا إلى العدول عن الأصل إلى غيره وذلك لأمرين أحدهما أن الزكاة أمرها مبني على أخذ القليل من الكثير فلو كان البعير مأخوذا من الخمس لكان خمس المال مأخوذا وهو كثير وفي ذلك إجحاف بأرباب الأموال، والمعنى الآخر أنه لو جعل فيها جزء من البعير لأدى ذلك إلى سوء المشاركة باختلاف الأيدي على الشخص الواحد فعدل عنه إلى الشاة إرفاقا للمعطي والآخذ والله أعلم، فإذا أعطى رب المال بعيرا منها فقد تبرع بالزيادة على الواجب وكان عليه مأجورا إن شاء الله.

ومن باب زكاة العسل

ومن باب زكاة العسل قال أبو داود: حدثنا أحمد بن أبي شعيب الحراني حدثنا موسى بن أعين عن عمرو بن الحارث عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال جاء هلال أحد بني مُتعان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشور نحل له وسأله أن يحمي واديا يقال له سَلَبة فحمى له رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الوادي فلما ولي عمر بن الخطاب كتب سفيان بن وهب إلى عمر يسأل عن ذلك فكتب عمر إن أدى إليك ما كان يؤدي إلى رسول الله من عشور نحله فاحم له سلبة وإلا فإنما هو ذباب غيث يأكله من شاء. قلت في هذا دليل على أن الصدقة غير واجبة في العسل وأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أخذ العشر من هلال المُتعي إذ كان قد جاء بها متطوعا وحمى له الوادي إرفاقا ومعونة له بدل ما أخذ منه وعقل عمر بن الخطاب المعنى في ذلك فكتب إلى عامله يأمره بأن يحمي له الوادي إن أدى إليه العشر وإلا فلا ولو كان سبيله سبيل الصدقات الواجبة في الأموال لم يخيره في ذلك وكيف يجوز عليه ذلك مع قتاله في كافة الصحابة مع أبي بكر ما نعي الزكاة. وممن لم ير فيه الصدقة مالك وابن أبي ليلى والثوري والشافعي وأبو ثور. وروي ذلك عن عمر بن عبد العزيز وأوجبها مكحول والزهري والأوزاعي وأصحاب الرأي. وقال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه في العسل العشر. وقوله حمى له الوادي، معناه أن النحل إنما ترعى من البقل والنبات أنوارها وما رخُص ونعُم منها فإذا حميت مراعيها أقامت فيها وأقبلت تعسِل في الخلايا كثرت منافع أصحابها وإذا شوركت في تلك المراعي نفرت عن تلك المواضع

ومن باب الخرص

وأمعنت في طلب المرعى فيكون ريعها حينئذٍ أقل. وقد يحتمل ذلك وجها آخر وهو أن يكون ذلك بأن يحمى لهم الوادي الذي يُعسَّل فيه فلا يترك أحد أن يتعرض للعسل فيشتاره وذلك أن سبيل العسل سبيل المياه والمعادن والصيود وليس لأحد عليها ملك وإنما تملك باليد لمن سبق إليها فإذا حمى له الوادي ومنع الناس منه حتى يجتازه هؤلاء القوم وجب عليهم بحق الحماية إخراج العشر منه، ويدل على صحة هذا التأويل قوله فإنما هو ذباب غيث يأكله من شاء. ومعنى هذا الكلام أن النحل إنما تتبع مواقع الغيث وحيث يكثر المرعى وذلك شأن الذطب لأنها تألف الغياض والمكان المعشب. ومن باب الخرص قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن خبيب بن عبد الرحمن عن عبد الرحمن بن مسعود عن سهل بن أبي حَثْمة قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا خرصتم فخذوا ودعوا الثلث فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع. قال أبو داود الخارص يدع الثلث للخُرْفة وكذا قال يحيى بن القطان. قلت في هذا الحديث إثبات الخرص والعمل به وهو قول عامة أهل العلم إلاّ ما روي عن الشعبي أنه قال الخرص بدعة وأنكر أصحاب الرأي الخرص. وقال بعضهم إنما كان ذلك الخرص تخويفاً للأكَرَة لئلا يخونوا فأما أن يلزم به حكم فلا وذلك أنه ظن وتخمين وفيه غرر وإنما كان جوازه قبل تحريم الربا والقمار. قلت العمل بالخرص ثابت وتحريم الربا والقمار والميسر متقدم، وبقي الخرص يعمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم طول عمره وعمل به أبو بكر وعمر رضى الله عنهما في

ومن باب خرص العنب

زمانهما وعامة الصحابة على تجويزه والعمل به لم يذكر عن أحد منهم فيه خلاف. فأما قولهم أنه ظن وتخمين فليس كذلك بل هو اجتهاد في معرفة مقدار الثمار وإدراكه بالخرص الذي هو نوع من المقادير والمعايير كما يعلم ذلك بالمكاييل والموازين وإن كان بعضها أحصر من بعض وإنما هذا كإباحته الحكم بالاجتهاد عند عدم النص مع كونه معرضا للخطأ. وفي معناه تقويم المتعلقات من طريق الاجتهاد. وباب الحكم بالظاهر باب واسع لا ينكره عالم. قلت: وقد ذهب بعض العلماء في تأويل قوله دعوا الثلث أو الربع إلى أنه متروك لهم من عرض المال توسعة عليهم فلو أخذوا باستيفاء الحق كله لأضر ذلك بهم. وقد يكون منها السقاطة وينتابها الطير ويخترفها الناس للأكل فترك لهم الربع توسعة عليهم وكان عمر بن الخطاب يأمر الخراص بذلك. ويقول عمر قال أحمد وإسحاق. وذهب غير هؤلاء إلى أنه لا يترك لهم شيئا شائعا في جملة النخل بل يفرد لهم نخلات معدودة قد علم مقدار ثمرها بالخرص. ومن باب خرص العنب قال أبو داود: حدثنا عبد العزيز بن السري الناقط حدثنا بشر بن منصور عن عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن عتاب بن أسِيد قال أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرص العنب كما يخرص النخل وتؤخذ زكاته زبيبا كما يؤخذ صدقة النخل تمرا. قلت إنما يخرص من الثمر ما يحيط به البصر بارزا لا يحول دونه حائل ولا يخفى موضعه في خلال ورق المثنجر والعنب في هذا المعنى كثمر النخل. فأما سائر الثمار فإنها لا يجري فيها الخرص لأن هذا المعنى فيها معدوم.

وفائدة الخرص ومعناه أن الفقراء شركاء أرباب الأموال في الثمر فلو منع أرباب المال من حقوقهم ومن الانتفاع بها إلى أن تبلغ الثمرة غاية جفافها لأضر ذلك بهم ولو انبسطت أيديهم فيها لأخل ذلك بحصة الفقراء منها إذ ليس مع كل أحد من التقية ما تقع به الوثيقة في أداء الأمانه فوضعت الشريعة هذا العيار ليتوصل به أرباب الأموال إلى الانتفاع ويحفظ على المساكين حقوقهم. وإنما يفعل ذلك عند أول وقت بدو صلاحها قبل أن يؤكل ويستهلك ليعلم حصة الصدقة منها فيخرج بعد الجفاف بقدرها تمرا وزبيبا. وفيه دليل على صحة القسمة في الثمار بين الشركاء بالخرص لأنه إذا صح أن يكون عيارا في إفراز حصة الفقراء من حصة أرباب الأموال كان كذلك عيارا في إفراز حصص الشركاء. قلت ولم يختلف أحد من العلماء في وجوب الصدقة في التمر والزبيب. واختلفوا في وجوب الصدقة في الزيتون، فقال ابن أبي ليلى لازكاة فيه لأنه أُدْم غير مأكول بنفسه وهو آخر قولي الشافعي. وأوجبها أصحاب الرأي وهو قول مالك والأوزاعي والثوري إلاّ أنهم اختلفوا في كيفية ما يؤخذ من الواجب فيه فقال أصحاب الرأي يؤخذ من ثمرته العشر أو نصف العشر. وقال الأوزاعي يؤخذ العشر منه بعد أن يعصر زيتا صافياً. وأما الحبوب فقد اختلف العلماء فيها فقال أصحاب الرأي تجب الصدقة في الحبوب ما كان مقتاتاً منها أو غير مقتات. وقال الشافعي كل ما جمع من الحبوب أن يزرعه الآدميون وييبس ويدخر ويقتات ففيه الصدقة. فأما ما يتفكه به أوما يؤتدم به أو يتداوى به فلا شيء فيه.

ومن باب زكاة الفطر

ومن باب زكاة الفطر قال أبو داود: حدثنا محمود بن خالد الدمشقي وعبد الله بن عبد الرحمن السمرقندي قالا: حَدَّثنا مروان هو ابن محمد قال عبد الله حدثنا أبو يزيد الخولاني وكان شيخ صدق وكان ابن وهب يروي عنه حدثنا سيار بن عبد الرحمن هو الصدفي عن عكرمة عن ابن عباس قال فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات. قوله فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر فيه بيان أن صدقة الفطر فرض واجب كافتراض الزكوات الواجبة في الأموال. وفيه أن ما فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كما فرضه الله تعالى في كتابه لأن طاعته صادرة عن طاعته. وقد قال بفرضية زكاة الفطر ووجوبها عامة أهل العلم غير أن بعضهم تعلق فيها بخبر مروي عن قيس بن سعد أنه قال أمرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن تنزل الزكاة فلما نزلت الزكاة لم يأمرنا بها ولم ينهنا فنحن نفعله. قلت وهذا لا يدل على زوال وجوبها وذلك أن الزيادة في جنس العبادة لا توجب نسخ الأصل المزيد عليه غير أن محل ساتر الزكوات الأموال ومحل زكاة الفطر الرقاب. وقد عللت بأنها طهرة للصائم من الرفث واللغو فهي واجبة على كل صائم غني ذي جدة ويسر أو فقير يجدها فضلا عن قوته إذ كان وجوبها عليه بعلة التطهير وكل من الصائمين محتاجون إليها، فإذا اشتركوا في العلة اشتركوا في الوجوب.

ومن باب كم يؤدى في صدقة الفطر

ويشبه أن يكون إنما ذهب من رأى إسقاطها عن الأطفال إلى هذا لأنهم إذا كانوا لا يلزمهم الصيام فلا يلزمهم طهرة الصيام. فأما أكثر أهل العلم فقد أوجبوها على الأطفال إيجابها على البالغين. وأما وقت إخراجها فالسنة أن تخرج قبل الصلاة، وهو قول عامة أهل العلم وقد رخص ابن سيرين والنخعي في إخراجها بعد يوم الفطر. وقال أحمد أرجو أن لا يكون بذلك بأس. وقال بعض أهل العلم تأخير إخراجها عن وقتها من يوم الفطر كتأخير إخراج زكاة الأموال عن ميقاتها فمن أخرها كان آثما إلاّ من عذر. ومن باب كم يؤدى في صدقة الفطر قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة حدثنا مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر صاعا من تمر أو صاعا من شعير على كل حر أو عبد ذكر أو أنثى من المسلمين. قال أبو داود: حدثنا يحيى بن محمد بن السكن حدثنا محمد بن جَهضم حدثنا إسماعيل بن جعفر عن عمر بن نافع عن أبيه عن عبد الله بن عمر بمعناه وزادوا الصغير والكبير. قلت فيه من الفقه أن وجوب زكاة الفطر وجوب فرض لا وجوب استحباب وفيه بيان أنها واجبة على الصغير والكبير. وفيه دليل على أنها واجبة على من ملك مائتي درهم أو لم يملكها. وقد اختلف أهل العلم في ذلك فقال أصحاب الرأي من حلت له الصدقة فلا تجب عليه صدقة الفطر والحد في ذلك عندهم ملك المائتين.

وقال مالك بن أنس صدقة الفطر على الغني والفقير؛ وهو قول الشعبي وابن سيرين وعطاء والزهري. وقال الشافعي إذا فضل عن قوت المرء وقوت أهله مقدار ما يؤدي عن زكاة الفطر وجبت عليه، وكذلك قال ابن المبارك وأحمد بن حنبل. واختلفوا في وجوبها على الصغير الطفل فقال أكثر الفقهاء هي واجبة على الصغير وجوبها على الكبير. وقال محمد بن الحسن لا تجب صدقة الفطر في مال الصغير يتيما أو غير يتيم. وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال صدقة الفطر إنما هي على من أطاق الصوم. وقوله على كل حر أو عبد ظاهره إلزام العبد نفسه إلاّ أنه لا ملك له فيلزم السيد إخراجه عنه. وقال داود هولازم للعبد وعلى سيده أن يمكنه من الكسب حتى يكسب فيؤديه. وفيه دليل على أنه يزكي عن عبيده المسلمين كانوا للتجارة أو للخدمة لأن عموم اللفظ يشملهم كلهم. وفي دلالته وجوبها على الصغير منهم والكبير والحاضر والغائب، وكذلك الآبق منهم والمرهون والمغصوب وفي عبيد عبيده وفي كل من أضيف إلى ملكه. وفيه دليل على أنه لا يزكي عن عبيده الكفار لقول من المسلمين فقيده بشرط الإسلام فدل أن عبده الذمي لا يلزمه وهو قول مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وروي ذلك عن الحسن البصري. وقال الثوري وأصحاب الرأي يؤدي عن العبد الذمي وهو قول عطاء والنخعي.

وفيه دليل على أن إخراج أقل من صاع لا يجوز وذلك أنه ذكر في الخبر التمر والشعير وهما قوت أهل ذلك الزمان في ذلك المكان فقياس ما تقتاتونه من البر وغيره من الأقوات أنه لا يجزي منه أقل من صاع. وقد اختلف الناس في هذا فقال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق لا يجزيه من البر أقل من صاع، وروي ذلك عن الحسن وجابر بن زيد. وقال أصحاب الرأي والثوري يجزيه نصف صاع من بر، فأما سائر الحبوب فلا يجزيه أقل من صاع غير أن أبا حنيفة قال يجزيه من الزبيب نصف صاع كالقمح. وروى جماعة من الصحابة إخراج نصف صاع من البر. قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة حدثنا داود بن قيس عن عياض بن عبد الله، عَن أبي سعيد الخدري قال: كنا نخرج إذ كان فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر عن كل صغير وكبير حر أو مملوك صاعاً من طعام أو صاعا من أقط أو صاعا من شعير أو صاعا من تمر أو صاعا من زبيب فلم نزل نخرجه حتى قدم معاوية حاجا أومعتمرا فكلم الناس على المنبر فكان فيما كلم به الناس أن قال: إني أرى مُدَّين من سَمْراء الشام يعدل صاعا من تمر فأخذ الناس بذلك. قال أبو سعيد فأما أنا فلا أزال أخرجه أبدا ما عشت. قال أبو داود ورواه بعضهم عن ابن عُلية عن ابن إسحاق عن عبد الله بن عبد الله بن عثمان بن حكيم بن حزام عن عياض، عَن أبي سعيد وقال أو صاعا من حنطة وليس بمحفوظ. قلت قوله صاعا من طعام زعم بعض أهل العلم أن الطعام عندهم اسم خاص للبر قال ويدل على صحة ما تأولناه من ذلك أنه قد ذكر في الخبر الأقط والشعير

والتمر والزبيب وهي أقواتهم التي كانوا يقتاتونها في الحضر والبدو ولم يذكر الحنطة وكانت أغلاها وأفضلها كلها فلولا أنه أرادها بقوله صاعا من طعام لكان يجزي ذكرها عند التفصيل كما جرى ذكر غيرها من سائر الأقوات. وزعم غيره أن هذا جملة قد فصلت والتفصيل لا يخالف الجملة، وإنما قال في أول الحديث صاعا من طعام ثم فصله فقال صاعا من أقط أو صاعا من شعير أو كذا أو كذا واسم الطعام شامل لجميع ذلك. وإنما كان يجوز ما قاله من تأول الطعام على البر خاصة لو كان قال صاعا من طعام أو صاعا من كذا بحرف أو الفاصلة بين الشيئين ثم نسق عليه ما بعده شيثا شيئا. قلت قد رواه غير أبي داود بحرف أو الفاصلة من أول الحديث إلى آخره حدثنا الأصم حدثنا الربيع أخبرنا الشافعي أخبرنا أنس بن عياض عن داود بن قيس سمع عياض بن عبد الله بن سعد بن أبي سرح يقول إن أبا سعيد الخدري قال كنا نخرج في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعا من طعام أو صاعا من زبيب أو صاعا من اقط أو صاعا من شعير أو صاعا من تمر وذكر الحديث. قلت إن صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر أن يخرج صاع من قمح فأخرج عنه نصف صاع على سبيل البدل على ما رواه معاوية فإنه لا يجزىء لما فيه من الربا لأن حقيقته بيع صاع قمح بنصف صاع منه، ولكنه إذا خرج نصف صاع منه جزا عن نصف الحق وعليه أن يخرج النصف الاخر. وفي الحديث دليل على أن إخراج القيمة لا يجوز وذلك لأنه ذكر أشياء مختلفة القيم فدل أن المراد بها الأعيان لا قيمتها. وفيه دليل على أنه لا يجوز إخراج الدقيق والسويق ونحوهما لأن هذه الحبوب

كلها أموال كاملة المنفعة لم يذهب من منافعها شيء، وهذا المعنى غير موجود في الدقيق والسويق ونحوهما. قال أبو داود: حدثنا مسدد وسليمان بن داود العتكي قالا: حَدَّثنا حماد بن زيد عن النعمان بن راشد عن الزهري عن ثعلبة بن عبد الله بن أبي صعير عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صاع من بر أو قمح عن كل اثنين صغير أو كبير حر أو عبد ذكر أو أنثى أما غنيكم فيزكيه الله وأما فقيركم فيرد الله عليه أكثر مما أعطاه. قلت في هذا حجة لمذهب من أجاز نصف الصاع من البر. وفيه دليل على أنها واجبة على الطفل كوجوبها على البالغ. وفيه بيان أنها تلزم الفقير إذا وجد ما يؤديه، ألا تراه يقول وأما فقيركم فيرد الله عليه أكثر مما أعطاه فقد أوجب عليه أن يؤديها عن نفسه مع إجازته له أن يأخذ صدقة غيره. وفي قوله ذكر أو أنثى دليل لمن أسقط صدقة الزوجة عن الزوج لأنه في الظاهر إيجاب على المرأة فلا يزول الفرض عنها إلاّ بدليل، وهو مذهب أصحاب الرأي وسفيان الثوري. وقال مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه يخرج الزوج عن زوجته لأنه يمونها. وقد يروى فيه عن جعفر بن محمد عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: عمن تمونون. قلت إن صح قوله عمن تمونون وإلا فلا يلزمه ذلك عن زوجته ولوكان لها عبيد كان عليها إخراج الصدقة عنهم فلأن يلزمها إخراجها عن نفسها أولى. وم باب تعجيل الزكاة قال أبو داود: حدثنا الحسن بن الصباح حدثنا شبابة عن ورقاء، عَن

أبي الزناد عن الأعرج، عَن أبي هريرة قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب على الصدقة فمنع ابن جميل وخالد بن الوليد والعباس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما ينقم ابن جميل إلاّ أن كان فقيرا فأغناه الله. وأما خالد فإنكم تظلمون خالدا فقد احبس أدراعه وعتاده في سبيل الله. وأما العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي علىَّ ومثلها ثم قال أما شعرت أن عم الرجل صنو الأب أو صنو أبيه. قوله ما ينقم ابن جميل إلاّ أن كان فقيرا فأغناه الله فيه دليل على أن مانع الصدقة إذا لم يكن ممتنعا بقتال وقوة وسلاح فإنها تستخرج منه ولا يعاقب عليه. وإنما كان قتال أبي بكر مانعي الزكاة لأنهم امتنعوا من أدائها واعترضوا دونها بالسلاح. وقوله إن خالداً أحبس أدراعه وعتاده في سبيل الله فإن العتاد كل ما أعده الرجل من سلاح أو مركوب وآلة للجهاد يقال اعتدت الشيء إذا هيأته، ومن هذا سميت عتيدة العطر والزينة، وتأويل هذا الكلام على وجهين أحدهما أنه إنما طولب بالزكاة عن أثمان الأدراع والعتاد على أنها كانت عنده للتجارة فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا زكاة عليه فيها إذ قتد جعلها حبسا في سبيل الله. وفيه دليل على وجوب الزكاة في الأموال التي ترصد للتجارة وهو كالإجماع من أهل العلم. وزعم بعض المتأخرين من أهل الظاهر أنه لا زكاة فيها وهومسبوق بالإجماع. وفي الحديث دليل على جواز إحباس آلات الحروب من الدروع والسيوف والحجف. وقد يدخل فيها الخيل والإبل لأنها كلها عتاد للجهاد. وعلى قياس ذلك

الثياب والبسط والفرش ونحوها من الأشياء التي ينتفع بها مع بقاء أعيانها. وفيه دليل على أن الوقف والحبس قد يصح من غير إخراج من يد الواقف والمحبس وذلك أن الشيء لو لم يكن في يده لم يكن لمطالبته بالزكاة عنه معنى. والوجه الآخر أن يكون معناه أنه قد اعتذر لخالد ودافع عنه يقول إذا كان قد احبس أدراعه وعتاده في سبيل الله تبرراً وتقرباً إليه سبحانه وذلك غير واجب عليه فكيف يجوز عليه منع الصدقة الواجبة عليه. وقوله في صدقة العباس هي عليَّ ومثلها فإنه يتأول على وجهين أحدهما أنه كان قتد تسلف منه صدقة سنتين فصارت ديناً عليه. وفي ذلك دليل على جواز تعجيل الصدقة قبل محلها وقد اختلف العلماء في ذلك فأجاز كثير منهم تعجيلها قبل أوان محلها، وذهب إليه الزهري والأوزاعي وأصحاب الرأي والشافعي، وكان مالك بن أنس لا يرى تعجيلها عن وقت محلها. وروي عن الحسن البصري أنه قال إن للصلاة وقتا وللزكاة وقتا فمن صلى قبل الوقت أعاد، ومن زكى قبل الوقت أعاد. قلت: قول الحسن البصري ظاهر والمعنى بخلافه لأن الأجل إذا دخل في الشيء رفقاً بالإنسان فإن له أن يسوس من حقه ويترك الارتفاق به كمن عجل حقا مؤجلا لآدمي وكمن أدى زكاة مال غائب عنه وإن كان على غير يقين من وجوبها عليه لأن من الجائز أن يكون ذلك المال تالفا في ذلك الوقت. والوجه الآخر هو أن يكون قد قبض صلى الله عليه وسلم منه صدقة ذلك العام الذي شكاه فيها العامل وتعجل صدقة عام ثان، وقال هي عليّ ومثلها أي الصدقة التي قد

حلت وأنت تطالبه بها مع مثلها من صدقة عام واحد لم تحل وذلك أن بعض من أجاز تعجيل الصدقة لم يجوزها أكثر من صدقة عام واحد. وقد يحتمل معنى الحديث أن يكون صلى الله عليه وسلم قد تحمل بالصدقة وضمن أداءها عنه لسنتين ولذلك قال إن عم الرجل صنوأبيه يريد أن حقه في الوجوب كحق أبيه عليه إذ هما شقيقان خرجا من أصل واحد فأنا أنزهه عن منع الصدقة والمطل بها وأؤديها عنه والأول أصوب لأن الضمان فيما لم يجب على العباس ضمان مجهول وضمان المجهول غير جائز. وقد روي أنه استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأذن له في تعجيل صدقته فرخص له في ذلك. وقد رواه أبو داود. قال أبو داود: حدثنا سعيد بن منصور حدثنا إسماعيل بن زكريا عن الحجاج بن دينار عن الحكم عن حُجَية عن علي رضي الله عنه أن العباس سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعجيل صدقته قبل أن يحل فرخص له في ذلك وقال مرة فأذن له في ذلك. وقوله صنو أبيه، معناه أن العم شقيق الأب وأصل ذلك في النخلتين تخرجان من أصل واحد يقال صنو وصنوان وقنو وقنوان وقل ما جاء من الجمع على هذا البناء. وقد روى حديث العباس على خلاف هذا الوجه وهو أنه قال في صدقته هي عليه ومثلها معها، وقد رواه أبو عبيد وقال أرى أنه كان أخر عنه الصدقة عامين وليس وجه ذلك إلاّ أن يكون من حاجة بالعباس إليها فإنه يجوز للإمام أن يؤخرها إذا كان ذلك على وجه النظر ثم يأخذها منه بعدُ. حدثنيه عبد الله بن محمد المسكي حدثنا علي بن عبد العزيز، عَن أبي عبيد.

ومن باب من يعطى الصدقة وحد الغنى

ومن باب من يعطى الصدقة وحَدّ الغنى قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي حدثنا يحيى بن آدم حدثنا سفيان عن حكيم بن جبير عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد عن أبيه عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من سأل وله ما يغنيه جاءت يوم القيامة خُموش أو خُدوش أوكدوح في وجهه فقيل يا رسول الله وما الغنى قال خمسون درهما أو قيمتها من الذهب. قال يحيى فقال عبد الله بن عثمان لسفيان حفظي أن شعبة لا يروي عن حكيم بن جبير فقال سفيان فقد حدثنا زبيد عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد. قلت الخموش هي الخدوش، يقال خمشت المرأة وجهها إذا خدشته بظفر أو حديدة أو نحوها، والكدوح الآثار من الخدش والعض ونحوه، وإنما قيل للحمار مكدّح لما به من اثار العضاض. وأما تحديده الغنى الذي يحرم معه الصدقة بخمسين درهما فقد ذهب إليه قوم من أهل العلم ورأوه حدا في غنى من تحرم عليه الصدقة منهم سفيان الثوري وابن المبارك وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه. وأبى القول به آخرون وضعفوا الحديث للعلة التي ذكرها يحيى بن آدم، قالوا وأما ما رواه سفيان فليس فيه بيان أنه أسنده وإنما قال فقد حدثنا زبيد عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد حسب، قالوا وليس في الحديث أن من ملك خمسين درهما لم تحل له الصدقة، إنما فيه أنه كره له المسألة فقط وذلك أن المسألة إنما تكون مع الضرورة ولا ضرورة بمن يجد ما يكفيه في وقته إلى المسألة. وقال مالك والشافعي لا حد للغنى معلوم وإنما يعتبر حال الإنسان بوسعه وطاقته فإذا اكتفى بما عنده حرمت عليه الصدقة وإذا احتاج حلت له.

قال الشافعي قد يكون الرجل بالدرهم غنيا مع كسب ولا يغنيه الألف مع ضعفه في نفسه وكثرة عياله. وجعل أصحاب الرأي الحد فيه مائتي درهم وهو النصاب الذي تجب فيه الزكاة وإنما أمرنا أن نأخذ الزكاة من الأغنياء وأن ندفعها إلى الفقراء وهذا إذا ثبت أنه غني يملك النصاب الذي تجب عليه فيه الزكاة فقد خرج به من حد الفقر الذي يستحق به أخذ الزكاة. قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن رجل من بني أسد قال: نزلت أنا وأهلي ببقيع الغرقد فقال لي أهلي اذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسله لنا شيئا نأكله فجعلوا يذكرون من حاجتهم فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله فوجدت عنده رجلا يسأله ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا أجد ما أعطيك فتولى الرجل عنه وهومغضب وهو يقول لعمري إنك لتعطي من شئت فقال صلى الله عليه وسلم يغضب عليَّ أن لا أجد ما أعطيه من سأل منكم وعنده أوقية أو عَدلها فقد سأل الحافا قال الأسدي فقلت لَلِقْحة لنا خير من أوقية قال فرجعت ولم أسأله فقدم علي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك شعير وزبيب فقسم لنا منه أو كما قال حتى أغنانا الله. اللقحة الناقة المِرية وهي التي تمري أي التي تحلب وجمعها لقاح، والأوقية عند أهل الحجاز أربعون درهما. وذهب أبو عبيد القاسم بن سلام في تحديد الغني إلى هذا الحديث، وزعم أن من وجد أربعين درهما حرمت عليه الصدقة. وقوله أوعدلها يريد قيمتها، يقال هذا عدل الشيء أي ما يساويه في القيمة

وهذا عدله بكسر العين أي نظيره ومثله في الصورة والهيئة. قال أبو داود: حدثنا النفيلي حدثنا مسكين حدثنا محمد بن المهاجر عن ربيعة بن يزيد، عَن أبي كبشة السلولي حدثنا سهل بن الحنظلية قال قدم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عيينة بن حصن والأقرع بن حابس فسألاه فأمر لهما بما سألاه وأمر معاوية فكتب لهما بما سألاه. فأما الأقرع بن حابس فأخذ كتابه فلفه في عمامته وانطلق. وأما عيينة فأخذ كتابه فأتى النبي صلى الله عليه وسلم مكانه فقال أتراني يا محمد حاملا إلى قومي كتابا لا أدري ما فيه كصحيفة المتلمس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من سأل وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من النار فقالوا يا رسول الله وما يغنيه قال قدر ما يغديه ويعشيه. صحيفة المتلمس لها قصة مشهورة عند العرب وهو المتلمس الشاعر وكان هجا عمرو بن عبد الملك فكتب له كتابا إلى عامله يوهمه أنه أمر له فيه بعطية وقد كان كتب إليه يأمره بقتله فارتاب المتلمس به ففكه وقُرىء له، فلما علم ما فيه رمى به ونجا فضربت العرب المثل بصحيفته بعد. وقوله ما يغديه ويعشيه فقد اختلف الناس في تأويله فقال بعضهم من وجد غداء يومه وعشاءه لم تحل له المسألة على ظاهر الحديث. وقال بعضهم إنما هو فيمن وجد غداء وعشاء على دائم الأوقات فإذا كان عنده ما يكفيه لقوته المدة الطويلة فقد حرمت عليه المسألة. وقال آخرون هذا منسوخ بالأحاديث التي تقدم ذكرها. قلت وإنما أعطاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم من سهم المؤلفة قلوبهم فإن الظاهر من حالهما أنهما ليسا بفقيرين وهما سيدا قومهما ورئيسا قبائلهما.

قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة حدثنا عبد الله، يَعني ابن عمر بن غانم عن عبد الرحمن بن زياد أنه سمع زياد بن نعيم الحضرمي أنه سمع زياد بن الحارث الصُدائي قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعته قال فأتاه رجل فقال أعطني من الصدقة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو فجزأها ثمانية أجزاء فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك حقك. قلت في قوله فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك حقك دليل على أنه لا يجوز جمع الصدقة كلها في صنف واحد وأن الواجب تفرقتها على أهل السهمان بحصصهم ولو كان معنى الاية بيان المحل دون بيان الحصص لم يكن للتجزئة معنى وسل على صحة ذلك قوله أعطيتك حقك فبين أن لأهل كل جزء على حدة حقاً وإلى هذا ذهب عكرمة وهو قول الشافعي. وقال إبراهيم النخعي إذا كان المال كثيرا يحتمل الأجزاء قسمه على الأصناف وإن كان قليلا جاز أن يوضع في صنف واحد. وقال أحمد بن حنبل تفريقها أولى ويجزئه أن يضعه في صنف واحد. وقال أبو ثور إن قسمه الإمام قسمه على الأصناف وإن تولى قسمه رب المال فوضعه في صنف واحد رجوت أن يسعه. وقال مالك بن أنس يجتهد ويتحرى موضع الحاجة منهم ويقدم الأولى فالأولى من أهل الخَلة والفاقة فإن رأى الخلة في الفقراء في عام أكثر قدمهم. وإن رآها في أبناء السبيل في عام آخر حولها إليهم. وقال أصحاب الرأي هو مخير يضعه في أي الأصناف شاء.

وكذلك قال سفيان الثوري، وقد روي ذلك عن ابن عباس وهو قول الحسن البصري وعطاء بن أبي رباح. وفي قوله إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو دليل على أن بيان الشريعة قد يقع من وجهين أحدهما ما تولى الله بيانه في الكتاب وأحكم فرضه فيه فليس به حاجة إلى زيادة من بيان النبي صلى الله عليه وسلم وبيان شهادات الأ صول. والوجه الآخر ما ورد ذكره في الكتاب مجملا ووكل بيانه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فهو يفسره قولا وفعلا أو يتركه على إجماله ليتنبه فقهاء الأمة ويستدركوه استنباطا واعتبارا بدلائل الأصول وكل ذلك بيان مصدره عن الله سبحانه وتعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم. ولم يختلفوا في أن السهام الستة ثابتة مستقرة لأهلها في الأحوال كلها، وإنما اختلفوا في سهم المؤلفة فقالت طائفة من أهل العلم سهمهم ثابت يجب أن يعطوه هكذا قال الحسن البصرى. وقال أحمد بن حنبل يعطون إن احتاج المسلمون إلى ذلك. وقالت طائفة انقطعت المؤلفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم روي ذلك عن الشعبي. وكذلك قال أصحاب الرأي. وقال مالك سهم المؤلفة يرجع على أهل السهام الباقية. وقال الشافعي لا يعطى من الصدقة مشرك يتألف على الإسلام. وأما العاملون فهم السعاة وجباة الصدقة فإنما يعطون عمالة قدر أجرة مثلهم. فأما إذا كان الرجل هو الذي يتولى إخراج الصدقة وقسمها بين أهلها فليس فيها للعاملين حق.

قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة وزهير بن حرب قالا: حَدَّثنا جرير عن الأعمش، عَن أبي صالح، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان والأكلة والأكلتان ولكن المسكين الذي لا يسأل الناس شيئا ولا يفطنون به فيعطونه. قلت الأكلة مضمومة اللقمة والأكلتان اللقمتان، فأن الأكلة مفتوحة فهي الواحدة والمرة من الأكل. وفي الحديث دليل على أن المسكين في الظاهر عندهم والمتعارف لديهم هو السائل الطواف وإنما نفى صلى الله عليه وسلم عنه اسم المسكنة لأنه بمسألته تأتيه الكفاية، وقد تأتيه الزيادة عليها فتزول حاجته وسنقط عنه اسم المسكنة، وإنما تدوم الحاجة والمسكنة ممن لا يسأل ولا يفطن له فيعطى. وقد اختلف الناس في المسكين والفقير والفرق بينهما روي عن ابن عباس أنه قال المساكين هم الطوافون والفقراء فقراء المسلمين وعن مجاهد وعكرمة والزهري أن المسكين الذي يسأل والفقير الذي لا يسأل. وعن قتادة أن الفقير هو الذي به زمانة والمسكين الصحيح المحتاج. وقال الشافعي الفقير من لا مال له ولا حرفة يقع منه موقعا زمناً كان أو غير زمن وللمسكين من له مال أو حرفة لا تقع منه موقعا ولا تغنيه سائلا كان أو غير سائل. وقال بعض أهل اللغة المسكين الذي لا شيء له والفقير من له البلغة من العيش واحتج بقول الراعي. أما الفقير الذي كانت حَلوبته ... وَفْقَ العيال فلم يترك له سَبَد قال فجعل للفقير حلوبة، وقال غيره من أهل اللغة إنما اشترط له الحلوبة قبل

الفقر فلما انتزعت منه ولم يترك له سبد صار فقيرا لا شيء له، قال والمسكين أحسن حالا من الفقير، واحتج بقول الله تعالى {أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر} [الكهف: 79] فأثبت لهم مع المسكنة ملكاَ وكسبا وهما السفينة والعمل بها في البحر. وقال بعض من ينصر القول الأول إنما سماهم مساكين مجازا وعلى سبيل الترحم والشفقة عليهم إذ كانوا مظلومين، وقيل إن المسكنة مشتقة من السكون والخشوع اللازمين لأهل الحاجة والخصاصة والميم زيادة في الاسم. وقيل إن الفقير مشبه بمن أصيب فِقاره فانقصف ظهره من قولهم فقرت الرجل إذا أصبت فقاره كما يقال بطنته إذا أصبت بطنه ورأسته إذا أصبت رأسه إلى ما أشبه ذلك من نظائر هذا الباب. ويشبه أن يكون الفقير أشدهما حاجة ولذلك بدىء بذكره في الآية على سائر أصناف أهل الفاقة والخلة والفقر هو الذي يقابل الغنى إذا قيل فقير وغني فصار أصلا للفاقة وعنه يتفرع المسكنة وغيرها من وجوه الحاجة. قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا عيسى بن يونس حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عبيد الله بن عدي بن الخيار. قال أخبرني رجلان أنهما أتيا النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وهو يقسم الصدقة فسألاه منها فرفع فينا النظر وخفضه فرآنا جَلدين فقال إن شئتما أعطيتكما ولاحظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب. قلت هذا الحديث أصل في أن من لم يعلم له مال فأمره محمول على العدم. وفيه أنه لم يعتبر في منع الزكاة ظاهر القوة والجلد دون أن يضم إليه الكسب فقد يكون من الناس من يرجع إلى قتوة بدنه ويكون مع ذلك أخرق اليد لا يعتمل فمن كان هذا سبيله لم يمنع من الصدقة بدلالة الحديث. وقد استظهر

ومن باب من يجوز له الصدقة ممن هو غني

صلى الله عليه وسلم مع هذا في أمرهما بالإنذار وقلدهما الأمانة فيما بطن من أمرهما. قال أبو داود: حدثنا عباد بن موسى الختلي حدثنا إبراهيم، يَعني ابن سعد أخبرني أبي عن ريحان بن يزيد عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مِرة سَوِي. قلت معنى المرة القوة وأصلها من شدة فتل الحبل؛ يقال أمررت الحبل إذا أحكمت فتله فمعنى المرة في الحديث شدة أسر الخلق وصحة البدن التي يكون معها احتمال الكد والتعب. وقد اختلف الناس في جواز أخذ الصدقة لمن يجد قوة يقدر بها على الكسب فقال الشافعي لا تحل له الصدقة، وكذلك قال إسحاق بن راهويه وأبو عبيد. وقال أصحاب الرأي يجوز له أخذ الصدقة إذا لم يملك مائتي درهم فصاعداً. ومن باب من يجوز له الصدقة ممن هو غني قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تحل الصدقة لغني إلاّ لخمسة لغاز في سبيل الله أولعامل عليها أو لغارم أو لرجل اشتراها بماله أو لرجل كان له جار مسكين فتصدق على المسكين فأهدى المسكين للغني. قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار، عَن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم بمعناه. قلت فيه بيان أن للغازي وإن كان غنيا أن يأخذ الصدقة ويستعين بها في غزوه وهو من سهم سبيل الله وإليه ذهب مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه. وقال أصحاب الرأي لا يجوز أن يعطى الغازي من الصدقة

إلاّ أن يكون منقطعا به. قلت سهم السبيل غير سهم ابن السبيل وقد فرق الله بينهما بالتسمية وعطف أحدهما على الآخر بالواو الذي هو حرف الفرق بين المذكورين المنسوق أحدهما على الآخر فقال {وفي سبيل الله وابن السبيل} [التوبة: 60] والمنقطع به هو ابن السبيل فأما سهم ابن السبيل فهو على عمومه وظاهره في الكتاب. وقد جاء في هذا الحديث ما بينه ووكد أمره فلا وجه للذهاب عنه. وفي قوله أو رجل اشتراها بماله دليل على أن المصدق إذا تصدق بالشيء ثم اشتراه من المدفوع إليه فإن البيع جائز وقد كرهه أكثر العلماء مع تجويزهم البيع في ذلك. وقال مالك بن أنس إن اشتراه فالبيع مفسوخ. وأما الغارم الغني فهو الرجل يتحمل الحمالة ويدَّان في المعروف وإصلاح ذات البين وله مال إن بيع فيها افتقر فيوفر عليه ماله ويعطي من الصدقة ما يقضي به دينه، وأما الغارم الذي يدَّان لنفسه وهو معسر فلا يدخل في هذا المعنى لأنه من جملة الفقراء. وأما العامل فإنه يعطى منها عمالة على قدر عمله وأجرة مثله فسواء كان غنياً أو فقيراً فإنه يستحق العمالة إذا لم يفعله متطوعاً، وأن المهدى له الصدقة فهو إذا ملكها فقد خرجت عن أن تكون صدقة وهي ملك لمالك تام الملك جائز التصرف في ملكه. وقد روي أن بريرة أهدت لعائشة لحماً تصدق به عليها فقربته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرته بشأنها فقال هذا أوان بلغت حلها وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تحل له الصدقة.

ومن باب كم يعطي الرجل الواحد من الزكاة

ومن باب كم يعطي الرجل الواحد من الزكاة قال أبو داود: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح حدثنا أبو نعيم حدثنا سعيد بن عبيد الطائي عن بشير بن يسار وزعم أن رجلا من الأنصار يقال له سهل بن أبي حثمة أخبره أن النبي صلى الله عليه وسلم وداه مائة من إبل الصدقة، يَعني دية الأنصاري الذي قتل بخيبر. قلت يشبه أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم إنما أعطاه ذلك من سهام الغارمين على معنى الحمالة في إصلاح ذات البين إذ كان قد شجر بين الأنصار وبين أهل خيبر في دم القتيل الذي وجد بها منهم فإنه لا مصرف لمال الصدقات في الديات. وقد يحتج بهذا من يرى جمع الصدقة في صنف واحد من أهل السهام الثمانية وهذا محتمل ولكن في وسع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسوي بين الأصناف من صدقات مختلفة ولعله قد كان يجتمع عنده من سهم الغارمين مئون وألوف فليس فيما يحتج به من ذلك كبير درك. وقتد اختلف الناس في قدر ما يعطاه الفقير من الصدقة فكره أصحاب الرأي أن يبلغ به مائتي درهم إذا لم يكن عليه دين أو له عيال. وكان سفيان الثوري يقول لا يدفع إلى الرجل من الزكاة أكثر من خمسين درهما، وكذلك قال أحمد بن حنبل. وعلى مذهب الشافعي يجوز أن يعطي على قدر حاجته من غير تحديد فإذا زال اسم الفقر عنه لم يعط. ومن باب ما يجوز فيه المسألة قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر النمرى حدثنا شعبة عن عبد الملك

بن عمير عن زيد بن عقبة الفزاري عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: المسايل كُدُوح يكدح بها الرجل وجهه فمن شاء أبقى على وجهه ومن شاء ترك إلاّ أن يسأل الرجل ذا سلطان أو في أمرلا يجد منه بدا. قلت قول إلاّ أن يسأل الرجل ذا سلطان أو في أمرلا يجد بداً هو أن يسأل حقه من بيت المال الذي في يده وليس هذا على معنى استباحة الأموال التى تحويها أيدي بعض السلاطين من غصب أملاك المسلمين. قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا حماد بن زيد عن هارون بن رباب حدثني كنانة بن نعيم العدوي عن قبيصة بن مخارق الهلالي قال تحملت حمالة فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أقم يا قبيصة حتى تأتينا صدقه فنأمر لك بها ثم قال يا قبيصة إن المسألة لا تحل إلاّ لأحد ثلاثة رجل تحمل بحمالة فحلت له المسألة فسأل حتى يصيبها ثم يمسك. ورجل أصابته جائحة فاجتاحت ماله فحلت له المسألة فسأل حتى يصيب قواماً من عيش أو قال سدادا من عيش ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجى من قومه قد أصابت فلانا الفاقة فحلت له المسألة فسأل حتى يصيب قواما من عيش أو قال سدادا من عيش ثم يمسك وما سواهن من المسألة يا قبيصة سحت يأكلها صاحبها سحتاً. قلت في هذا الحديث علم كثير وفوائد جمة ويدخل في أبواب من العلم والحكم وذلك أنه قد جعل من تحل له المسألة من الناس أقساماً ثلاثة غنياً وفقيرين وجعل الفقر على ضربين فقراً ظاهراً وفقراً باطناً، فالغني الذي تحل له المسألة هو صاحب الحمالة وهي الكفالة والحميل الكفيل والضمين وتفسير الحمالة أن يقع بين القوم التشاجر في الدماء والأموال ويحدث بسببهما العداوة والشحناء ويخاف

منها الفتق العظيم فيتوسط الرجل فيما بينهم ويسعى في إصلاح ذات البين ويتضمن مالاً لأصحاب الطوايل يترضاهم بذلك حتى تسكن الثائرة وتعود بينهم الألفة فهذا الرجل صنع معروفاً وابتغى بما أتاه صلاحا فليس من المعروف أن تورّك الغرامة عليه في ماله ولكن يعان على أداء ما تحمله منه ويعطي من الصدقة قدر ما يبرأ به ذمته ويخرج من عهدة ما تضمنه منه. وأما النوع الأول من نوعي أهل الحاجة فهو رجل أصابته جائحة في ماله فأهلكته والجائحة في غالب العرف هي ما ظهر أمره من الآفات كالسيل يغرق متاعه والنار تحرقه والبرد يفسد زرعه وثماره في نحو ذلك من الأمور وهذه أشياء لا تخفى آثارها عند كونها ووقوعها فإذا أصاب الرجل شىء منها فذهب ماله وافتقر حلت له المسألة ووجب على الناس أن يعطوه الصدقة من غير بينه يطالبونه بها على ثبوت فقره واستحقاقه إياها. وأما النوع الآخر فإنما هو فيمن كان له ملك ثابث وعرف له يسار ظاهر فادعى تلف ماله من لص طرقه أو خيانة ممن أودعه أو نحو ذلك من الأمور التي لا يبين لها أثر ظاهر المشاهدة والعيان فإذا كان ذلك ووقعت في أمره الريبة في النفوس لم يعط شيئا من الصدقة إلاّ بعد استبراء حاله والكشف عنه بالمسألة عن أهل الاختصاص به والمعرفة بشأنه، وذلك معنى قوله حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجى من قومه قد أصابت فلانا الفاقة واشتراطه الحجى تأكيد لهذا المعنى أي لا يكونوا من أهل الغباوة والغفلة ممن يخفى عليهم بواطن الأمور ومعانيها وليس هذا من باب الشهادة ولكن من باب التبيين والتعرف وذلك أنه لا مدخل لعدد الثلاثة في شيء من الشهادات، فإذا قال نفر من قومه أو

جيرانه أو من ذوي الخبرة بشأنه أنه صادق فيما يدعيه أعطى الصدقة. وفيه من العلم أن من ثبت عليه حق عند حاكم من الحكام فطلب المحكوم له به حبسه وادعى المطلوب الإفلاس والعدم فإن الواجب في ذلك أن ينظر فإن كان الطالب إنما استحقه عليه بسبب فيه تمليك مثل أن يقرضه مالا أو يبيعه متاعا فيقبضه إياه فإنه يحبس ولا يقبل قوله في العُدم لأنه قد ثبت له ملك ما صار إليه وحصل في يده من ذلك فالظاهر من حاله الوجد واليسار حتى تقوم دلالة على إفلاس حادث بعده فإن أقام البينة على ذلك لم يحبس وخلي عنه وإن كان ذلك مستحقا عليه بجناية من إتلاف مال أو أرش جراحة جرحه بها في بدنه أو من قبل مهر امرأة أو ضمان أوما أشبهها مما لم يتقدم فيه تمليك ولا إقباض فإنه لا يحبس له وينظر فإن كان له ملك ظاهر انتزع له منع أو بيع عليه وإلا أنظر إلى الميسرة. وأصل الناس العُدْم والفقر وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن أحدكم يسقط من بطن أمه ليس عليه قشرة ثم يرزقه الله تعالى ويغنيه أو كما قال: وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: مطل الغني ظلم وقال: ليّ الواجد يحل عرضه وعقوبته فإنما جعله ظالما مع الواجد والغني فلا يجوز حبسه وعقوبته وهو ليس بظالم. وفي قوله أقم حتى تأتينا صدقة فنأمر لك بها دليل على جواز نقل الصدقة من بلد إلى أهل بلد آخر. وفيه أن الحد الذي ينتهي إليه العطاء في الصدقة هو الكفاية التي تكون بها قوام العيش وسداد الخله وذلك يعتبر في كل إنسان بقدر حاله ومعيشته ليس فيه حد معلوم يحمل عليه الناس كلهم مع اختلاف أحوالهم. قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة أخبرنا عيسى بن يونس عن الأخضر

بن عجلان، عَن أبي بكر الحنفى عن أنس بن مالك أن رجلا من الأنصار أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له أما في بيتك شيء قال بلى حِلس نلبس بعضه ونبسط بعضه وقعب نشرب فيه قال ائتني بهما فأتاه بهما فأخذهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده فقال من يشتري هذين فقال رجل أنا آخذهما بدرهم فقال من يزيد على درهم مرتين أو ثلاثا قال رجل أنا آخذهما بدرهمين فأعطاهما إياه وأخذ الدرهمين فأعطاهما الأنصاري وقال اشتر بأحدهما طعاما فانفذه إلى أهلك واشتر بالاخر قدوما فأتنى به فأتاه به فشد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عوداً بيده، ثم قال اذهب فاحتطب وبع ولا أرينك خمسة عشر يوما فذهب الرجل يحتطب ويبيع فجاءه وقد أصاب عشرة دراهم فاشترى ببعضها ثوبا وببعضها طعاما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا خير لك من أن تجيء المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة. إن المسألة لا تصلح إلاّ لثلاث لذي فقر مدقع أو لذي غرم مفظع أولذي دم موجع. في هذا الحديث من الفقه جواز بيع المزايدة وأنه ليس بمخالف لنهيه أن يبيع الرجل على بيع أخيه لأن ذلك إنما هو بعد وقوع العقد ووجوب الصفقة وقبل التفرق من المجلس وهذا إنما هو في حال المراودة والمساومة وقبل تمام المبايعة. وفيه إثبات الكسب والأمر به. وفيه أنه لم ير الصدقة تحل له مع القوة على الكسب. وقوله فقر مدقع فهو الفقر الشديد وأصله من الدقعاء وهو التراب ومعناه الفقر الذي يفضي به إلى التراب لا يكون عنده ما يقي به التراب. والغرم المفظع هو أن تلزمه الديون الفظيعة القادحة حتى ينقطع به فتحل له الصدقة فيعطى من سهم الغارمين. والدم الموجع هو أن يتحمل حمالة في حقن الدماء وإصلاح ذات البين فتحمل له المسألة فيها وقد فسرناه فيما مضى.

ومن باب الاستعفاف

ومن باب الاستعفاف قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال على المنبر وهو يذكر الصدقة والتعفف منها والمسألة اليد العليا خير من اليد السفلى واليد العليا المنفقة والسفلى السائلة. قال أبو داود اختلف على أيوب عن نافع في هذا الحديث قال عبد الوارث اليد العليا المتعففة وقال أكثرهم عن حماد بن زيد عن أيوب المنفقة وقال واحد عن حماد المتعففة. قلت رواية من قال المتعففة أشبه وأصح في المعنى وذلك أن ابن عمر ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال هذا الكلام وهو يذكر الصدقة والتعفف منها فعطف الكلام على سببه الذي خرج عليه وعلى ما يطابقه في معناه أولى. وقد يتوهم كثير من الناس أن معنى العليا هو أن يد المعطي مستعلية فوق يد الآخذ يجعلونه عن علو الشيء إلى فوق وليس ذلك عندي بالوجه وإنما هومن علاء المجد والكرم يريد به الترفع عن المسألة والتعفف عنها وأنشدني أبو عمر قال أنشدنا أبو العباس قال أنشدنا ابن الأعرابي في معناه: إذا كان باب الذل من جانب الغنى …سموت إلى العلياء من جانب الفقر يريد به التعزز بترك المسألة والتنزه عنها. ومن باب الصدقة على بني هاشم قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير أخبرنا شعبة عن الحكم عن ابن أبي رافع أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث رجلا على الصدقة من بني مخزوم فقال لأبي رافع اصحبني فإنك تصيب منها فقال حتى آتي النبي صلى الله عليه وسلم فأسأله فأتاه فسأله فقال مولى القوم

من أنفسهم وإنا لا تحل لنا الصدقة. قلت أما النبي صلى الله عليه وسلم فلا خلاف بين المسلمين أن الصدقة لا تحل له وكذلك بنو هاشم في قول أكثر العلماء. وقال الشافعي لا تحل الصدقة لبني المطلب لأن النبي صلى الله عليه وسلم من سهم ذي القربى وأشركهم فيه مع بني هاشم ولم يعط أحداً من قبائل قريش غيرهم وتلك العطية عوض عوضوه بدلاً عما حرموه من الصدقة. فأما موالي بني هاشم فإنه لا حظ لهم في سهم ذي القربى فلا يجوز أن يحرموا الصدقة ويشبه أن يكون إنما نهاه عن ذلك تنزيهاً له. وقال مولى القوم من أنفسهم على سبيل التشبيه في الاستنان بهم والاقتداء بسيرتهم في اجتناب مال الصدقة التي هى أوساخ الناس. ويشبه أن يكون صلى الله عليه وسلم قد كان يكفيه المؤنة ويزيح له العلة إذ كان أبو رافع مولى له وكان يتصرف له في الحاجة والخدمة فقال له على هذا المعنى إذا كنت تستغني بما أعطيت فلا تطلب أوساخ الناس فإنك مولانا ومنا. قلت وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ولا يأخذ الصدقة لنفسه وكان المعنى في ذلك أن الهدية إنما يراد بها ثواب الدنيا فكان صلى الله عليه وسلم يقبلها ويثيب عليها فتزول المنة عنه. والصدقة يراد بها ثواب الآخرة فلم يجز أن يكون يد أعلى من يده في ذات الله وفي أمر الآخرة. قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل ومسلم بن إبراهيم المعنى قالا: حَدَّثنا حماد عن قتادة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمر بالتمرة العائره فما يمنعه من أخذها إلاّ مخافة أن تكون صدقة.

العائرة هي الساقطة على وجه الأرض لا يعرف من صاحبها ومن هذا قيل عار الفرس إذا انفلت على صاحبه فذهب على وجهه ولا يدفع وهذا أصل في الورع وفي أن كل ما لا يستبينه الإنسان من شيء طلقا لنفسه فإنه يجتنبه ويتركه. وفيه دليل على أن التمرة ونحوها من الطعام إذا وجدها الإنسان ملقاة في طريق ونحوها أن له أخذها وأكلها إن شاء وأنها ليست من جملة اللقطة التي حكمها الاستيناء بها والتعريف لها. قال أبو داود: حدثنا محمد بن عبيد المحاربي حدثنا محمد بن الفضيل عن الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن كريب مولى ابن عباس عن ابن عباس قال: بعثني أبى إلى النبي صلى الله عليه وسلم في إبل أعطاها إياه من الصدقة. قلت وهذا لا أدري ما وجهه والذي لا أشك فيه أن الصدقة محرمة على العباس والمشهور أنه أعطاه من سهم ذوي القربى من الفيء ويشبه أن يكون ما أعطاه من إبل الصدقة أن ثبت الحديث قضاء عن سلف كان تسلفه منه لأهل الصدقة فقد روى أنه شُكي إليه العباس في منع الصدقة فقال هى عليَّ ومثلها كأنه كان قد تسلف منه صدقة عامين فردها أو رد صدقة أحد العامين عليه لما جاءته إبل الصدقة فروى الحديث من رواه على الاختصار من غير ذكر السبب فيه والله أعلم.

ومن باب حقوق المال

ومن ظب من تصدق بصدقة ثم ورثها قال أبو داود: حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس حدثنا زهير حدثنا عبد الله بن عطاء عن عبد الله بن بريده عن أبيه بريدة أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت كنت تصدقت على أمي بوليدة وأنها ماتت وتركت تلك الوليدة. قال قد وجب أجرك ورجعت إليك في الميراث. قلت الصدقة في الوليدة معناها التمليك وإذا ملكتها في حياتها بالأقباض ثم ماتت كان سبيلها سائر أملاكها. والوليدة الجاريه الحديثة السن والولائد الوصائف. ومن باب حقوق المال قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا أبو عَوانة عن عاصم بن أبي النجود عن شقيق عن عبد الله قال كنا نعد الماعون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عارية الدلو والقِدر. قلت يقال في تفسير الماعون أنه الشيء الذي لا يجوز منعه من الارفاق التي للناس فيها متاع، وزعم بعض أهل اللغة أن الماعون مشتق من المعن وهو الشيء القليل وزنه فاعول منه والعرب تقول ماله سَعْنة ولا مَعْنة أي قليل ولا كثير وقال النمر بن تولب: * فإن هلال مالك غير مَعْن* وإنما اشتق للصدقة والمعونة هذا الاسم لأن الواجب من حق الزكاة والصدقات إنما هو قليل من كثير، وقد جاء الماعون بمعنى الزكاة قال الراعي.

قوم على الإسلام لما يمنعوا ... ماعونهم ويضيعوا التهليلا يريد الصلاة والزكاة. قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه، عَن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ما من صاحب كنز لا يؤدي حقه إلاّ جعله يوم القيامة يحمي عليها في نار جهنم فيكوي بها جبهته وجنبه وظهره حتى يقضي الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار وما من صاحب غنم لا يؤدي حقها إلاّ جاءت يوم القيامة أوفر ما كانت فيُبطح لها بقاع قَرْقَر تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها ليس فيها عقصاء ولا جلحاء كلما مضت أخراها ردت عليه أولاها حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون ثم هى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار، وما من صاحب إبل لا يؤدي حقها إلاّ جاءت يوم القيامة أوفر ما كانت فيبطح لها بقاع قرقر فتطؤه بأخفافها كلما مضت أخراها ردت عليه أولاها حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون ثم هى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار. القرقر المستوى الأملس من الأرض والعقصاء الملتوية القرن والجلحاء التي لا قرن لها. وإنما اشترط نفي العقص والالتواء في قرونها ليكون أنكى لها وأدنى أن تمور في المنطوح. قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا شعبة عن قتادة، عَن أبي عمير الغُداني، عَن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر

ومن باب حق السائل

الحديث إلى أن قال فما حق الإبل قال تعطي الكريمة وتمنح الغزيرة وتُفقِر الظهر وتُطرِق الفحل وتسقي اللبن. الغزيرة الكثيرة اللبن والمنيحة الشاة اللبون أو الناقة ذات الدر تعار لدرها فإذا حلبت ردت إلى ربها. وإفقار الظهر اعارته للركوب يقال أفقرت الرجل بعيري إذا أعرته ظهره يركبه ويبلغ عليه حاجته واطراق الفحل إعارته للضراب لا يمنعه إذا طلبه ولا يأخذ عليه عسبا، ويقال طرق الفحل الناقة فهي مطروقة وهي طروقة الفحل إذا حان لها أن تطرق. قال أبو داود: حدثنا عبد العزيز بن يحيى الحراني حدثنا محمد بن مسلمة عن محمد بن إسحاق عن محمد بن يحيى بن حبان عن عمه واسع بن حبان عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من كل جاد عشرة أوسق من التمر بقنو يعلق في المسجد للمساكين. قوله جاد عشرة أوسق. قال إبراهيم الحربي يريد قدرا من النخل يُجَذُّ منه عشرة أوسق وتقديره تقدير مجذوذ فاعل بمعنى مفعول وأراد بالقنو العذق بما عليه من الرطب والبسر يعلق للمساكين يأكلونه وهذا من صدقة المعروف دون الصدقة التي هي فرض واجب. ومن باب حق السائل قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان حدثنا مصعب بن محمد بن شرحبيل حدثني يعلى بن أبي يحيى عن فاطمة بنت الحسين عن حسين بن علي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للسائل حق وإن جاء على فرس. قلت معنى هذا الكلام الأمر بحسن الظن بالسائل إذا تعرض لك وأن لا تجبهه

ومن باب الصدقة على أهل الذمة

بالتكذيب والرد مع إمكان الصدق في أمره يقول لا تخيب السائل إذا سألك وإن راقك منظره فقد يكون له الفرس يركبه ووراء ذلك عيلة ودين يجوز له معهما أخذ الصدقة. وقد يكون من أصحاب سهم السبيل فيباح له أخذها مع الغنى عنها وقد يكون صاحب حمالة أو غرامة لديون ادّانها في معروف واصلاح ذات البين ونحو ذلك فلا يرد ولا يخيب مع إمكان أسباب الاستحقاق. واختلفوا فيمن أعطى من الصدقة على أنه فقير فتبين غنياً. قال أبوحنيفة ومحمد بن الحسن يجزئه، وروي ذلك عن الحسن البصرى، وقال الثورى لا يجزد وكذلك قال الشافعي في أحد قوليه وهو قول أبي يوسف. ومن باب الصدقة على أهل الذمة قال أبو داود: حدثنا أحمد بن أبي شعيب الحراني حدثنا عيسى بن يونس حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن أسماء قالت قدمت عليَّ أمي راغبة في عهد قريش وهي راغمة مشركه فقلت يا رسول الله إن أمى قدمت علي وهي راغمة افأصلها قال نعم فصلي أمك. قولها راغبة في عهد قريش أي طالبة بري وصلتي وقولها راغمة معناه كارهة للإسلام ساخطة عليّ تريد أنها لم تقدم مهاجرة راغبة في الدين كما كان يقدم المسلمون من مكة للهجرة والإقامة بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما أمر بصلتها لأجل الرحم. فأما دفع الصدقة الواجبة إليها فلا يجوز وإنما هي حق للمسلمين لا يجوز صرفها إلى غيرهم ولو كانت أمها مسلمة لم يكن أيضاً يجوز لها إعطاؤها الصدقة فإن خلَّتها مسدودة بوجوب النفقة لها على ولدها إلاّ أن تكون غارمة فتعطى من سهم الغارمين. فأما من سهم الفقراء والمساكين فلا وكذلك إذا

ومن باب الرجل يخرج من ماله

كان الوالد غازيا جاز للولد أن يدفع إليه من سهم السبيل. ومن باب الرجل يخرج من ماله قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة عن محمود بن لبيد عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل بمثل بيضة من ذهب فقال يا رسول الله أصبت هذه من معدن فخذها فهي صدقة ما أملك غيرها فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أتاه من قبل ركنه الأيمن فقال مثل ذلك فأعرض عنه ثم أتاه من قبل ركنه الأيسر فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أتاه من خلفه فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم فحذفه بها فلو أصابته لأوجعته أو لعقرته وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي أحدكم بما يملك فيقول هذه صدقة ثم يقعد يستكف الناس. خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى. قوله يستكف الناس معناه يتعرض للصدقة وهو أن يأخذها ببطن كفه يقال تكفف الرجل واستكف إذا فعل ذلك. ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم لسعد رضي الله عنه أنك إن تدع ورثتك أغنياء خير لك من أن تدعهم عالة يتكففون الناس. وقوله صلى الله عليه وسلم خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى أي عن غنى يعتمده ويستظهر به على النوائب التي تنوبه كقوله في حديث آخر خير الصدقة ما أبقت غنى. وفي الحديث من الفقه أن الاختيار للمرء أن يستبقي لنفسه قوتا وأن لا ينخلع من ملكه أجمع مرة واحدة لما يخاف عليه من فتنة الفقر وشدة نزاع النفس إلى ما خرج من يده فيندم فيذهب ماله ويبطل أجره ويصير

ومن باب المرأة تصدق من بيت زوجها

كلاً على الناس. قلت ولم ينكر على أبي بكر الصديق رضي الله عنه خروجه من ماله أجمع لما علمه من صحة نيته وقوة يقينه ولم يخف عليه الفتنة كما خافها على الرجل الذي رد عليه الذهب. قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن الأعمش، عَن أبي صالح، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن خير الصدقة ما ترك غنى وأبدأ بمن تعول. قوله ما ترك غنى يتأول على وجهين أحدهما أن يترك غني للمتصدق عليه بأن تجزل له العطية والاخر أن يترك غنى للمتصدق وهو أظهرهما ألا تراه يقول وابدأ بمن تعول أي لا تضيع عيالك وتُفضل على غيرك. ومن باب المرأة تصدق من بيت زوجها قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا أبو عوانة عن منصور عن شقيق عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها قالت قال النبي صلى الله عليه وسلم إذا أنفقت المرأة من بيت زوجها غير مفسدة كان لها أجر بما أنفقت ولزوجها أجر بما اكتسبت ولخازنه مثل ذلك لا ينقص بعضهم أجر بعض. قلت هذا الكلام خارج على عادة الناس بالحجاز وبغيرها من البلدان في أن رب البيت قد يأذن لأهله ولعياله وللخادم في الإنفاق مما يكون في البيت من طعام وأدام ونحوه ويطلق أمرهم في الصدقة منه إذا حضرهم السائل ونزل بهم الضيف فحضهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على لزوم هذه العادة واستدامة ذلك الصنيع ووعدهم الأجر والثواب عليه وأفرد كل واحد منهم باسمه ليتسارعوا

إليه ولا يتقاعدوا عنه. والخازن هو الذي يكون بيده حفظ الطعام والمأكول من خادم وقهرمان وقيم لأهل المنزل في نحو ذلك من أمر الناس وعاداتهم في كل أرض وبلد وليس ذلك بأن تقتات المرأة أو الخازن على رب البيت بشيء لم يؤذن لهما فيه ولم يطلق لهما الإنفاق منه بل يخاف أن يكونا آثمين إن فعلا ذلك والله أعلم. قال أبو داود: حدثنا محمد بن سوَّار المصري حدثنا عبد السلام بن حرب عن يونس بن عبيد عن زياد بن جبير بن حية عن سعد. قال لما بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء قامت امرأة جليلة كأنها من نساء مضر فقالت ما نبي الله أنأكل على آبائنا وأبنائنا فما يحل لنا من أموالهم قال الرطب تأكلنه وتهدينه. قوله امرأة جليلة الجليلة تكون بمعنيين أحدهما أن تكون خليقة جسيمة يقال امرأة خليقة وخلِّيقاء كذلك والآخر أن تكون بمعنى المسنة يقال جل الرجل إذا كبر وأسن وجلت المرأة إذا عجزت وإنما خص الرطب من الطعام لأن خطبه أيسر والفساد إليه أسرع إذا ترك فلم يؤكل وربما عفن ولم ينتفع به فيصير إلى أن يلقى ويرمى به وليس كذلك اليابس منه لأنه يبقى على الخزن وينتفع به إذا رفع وادخر فلم يأذن لهم في استهلاكه، وقد جرت العادة بين الجيرة والأقارب أن يتهادوا رطب الفاكهة والبقول وأن يغرفوا لهم من الطبيخ وأن يتحفوا الضيف والزائر بما يحضرهم منها فوقعت المسامحة في هذا الباب بأن يترك الاستئذان له وأن يجري على العادة المستحسنة في مثله وإنما جاء هذا فيمن ينبسط إليه في ماله من الآباء والأبناء دون الأزواج والزوجات فإن الحال بين الوالد والولد ألطف من أن يحتاج معها إلى زيادة استقصاء في الاستثمار للشركة

ومن باب صلة الرحم

النسبية بينهما والبعضية الموجودة فيهما. فأما نفقة الزوجة على الزوج فإنها معاوضه على الاستمتاع وهي مقدرة بكمية ومتناهية إلى غاية فلا يقاس أحد الأمرين بالآخر وليس لأحدهما أن يفعل شيئا من ذلك إلاّ بأذن صاحبه وقد وضعه أبو داود في باب المرأة تصدق من بيت زوجها. ومن باب صلة الرحم قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن ثابت عن أنس قال لما نزلت {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} [آل عمران: 92] قال أبو طلحنة يا رسول الله أرى ربنا يسألنا من أموالنا فإني أشهدك أني قد جعلت أرضى بأريحا له فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اجعلها في قرابتك فقسمها بين حسان بن ثابت وأُبيّ بن كعب. قلت فيه من الفقه أن الحبس إذا وقع أصله مبهما ولم يذكر سبله وقع صحيحا. وفيه دلالة على أن من أحبس عقارا على رجل بعينه فمات المحبس عليه ولم يذكر المحبس مصرفها بعد موته فإن مرجعها يكون إلى أقرب الناس بالواقف. وذلك أن هذه الأرض التي هي بأريحا لما حبسها أبو طلحة بأن جعلها لله عز وجل

ولم يذكر سبلها صرفها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أقرب الناس به من قبيلته فقياس ذلك فيمن وقفها على رجل فمات الموقوف عليه وبقي الشيء محبس الأصل غير مبين السبل أن يوضع في أقاربه وأن يتوخى بذلك الأقرب فالأقرب ويكون في التقدير كأن الواقف قد شرطه له وهذا يشبه معنى قول الشافعي. وقال المزني يرجع إلى أقرب الناس به إذا كان فقيرا، وقصة أبي بن كعب تدل على أن الفقير والغني في ذلك سواء. وقال الشافعي كان أبيّ يعد من مياسير الأنصار. وفيه دلالة على جواز قسم الأرض الموقوفة بين الشركاء وأن للقسمة مدخلاً فيما ليس بمملوك الرقبة. وقد يحتمل أيضاً أن يكون أريد بهذا القسم قسمة ريعها دون رقبتها وقتد امتنع عمر بن الخطاب رضي الله عنه من قسمة أحباس النبي صلى الله عليه وسلم بين علي والعباس لما جاءاه يلتمسان ذلك. قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن محمد بن عجلان عن المقبري، عَن أبي هريرة قال أمرالنبي صلى الله عليه وسلم بالصدقة فقال رجل يا رسول الله عندي دينار فقال تصدق به على نفسك قال عندي آخر قال تصدق به على ولدك. قال عندي آخر قال تصدق به على زوجك. قال عندي آخر قال تصدق به على خادمك. قال عندي آخر قال أنت أبصر. قلت هذا الترتيب إذا تأملته علمت أنه صلى الله عليه وسلم قدم الأولى فالأولى والأقرب وهو أنه أمره بأن يبدأ بنفسه ثم بولده لأن ولده كبعضه فإذا ضيعه هلك ولم يجد من ينوب عنه في الإنفاق عليه. ثم ثلث بالزوجة وآخرها عن درجة الولد

لأنه إذا لم يجد ما ينفق عليها فرق بينهما وكان لها من يمونها من زوج أو ذي رحم تجب نفقتها عليه. ثم ذكر الخادم لأنه يباع عليه إذا عجز عن نفقته فتكون النفقة على من يبتاعه ويملكه. ثم قال له فيما بعد أنت أبصر. أي إن شئت تصدقت وإن شئت أمسكت. وقياس هذا في قول من رأى أن صدقة الفطر تلزم الزوج عن الزوجة ولم يفضل من قوته أكثر من صاع أن يخرجه عن ولده دون الزوجة لأن الولد مقدم الحق على الزوجة ونفقة الأولاد إنما تجب بحق البعضية النسبية ونفقة الزوجة إنما تجب بحق المتعة العوضية وقد يجوز أن ينقطع ما بين الزوجين بالطلاق والنسب لا ينقطع أبدا ومعنى الصدقة في هذا الحديث النفقة. قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان حدثنا أبو إسحاق عن وهب بن جابر الخَيْواني عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت. قوله من يقوت يريد من يلزمه قوته والمعنى كأنه قال للمتصدق لا تتصدق بما لا فضل فيه عن قوت أهلك تطلب به الأجر فينقلب ذلك إثماً إذا أنت ضيعتهم. قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح ويعقوب بن كعب وهذا حديثه قالا: حَدَّثنا ابن وهب أخبرني يونس عن الزهري عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من سره أن يبسط الله عليه في رزقه ويُنَسأ في أثره فليصل رحمه. قوله ينسأ في أثره معناه يؤخر في أجله يقال للرجل نسأ الله في عمرك وأنسأ عمرك والأثر ههنا آخر العمر قال كعب بن زهير: والمرء ما عاش ممدود له أمل ... لا ينتهي العين حتى ينتهي الأثر قال أبو داود: حدثنا مسدد وأبو بكر بن أبي شيبة قالا: حَدَّثنا سفيان عن

ومن باب الشح

الزهري، عَن أبي سلمة عن عبد الرحمن بن عوف قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله أنا الرحمن وهي الرحم شققت لها من اسمي من وصلها وصلته ومن قطعها بَتَته. قلت في هذا بيان صحة القول بالاشتقاق في الأسماء اللغويه وذلك أن قوما أنكروا الاشتقاق وزعموا أن الأسماء كلها موضوعة وهذا يبين لك فساد قولهم. وفيه دليل على أن اسم الرحمن عربي مأخوذ من الرحمة وقد زعم بعض المفسرين أنه عبراني. قلت والرحمن بناؤه فعلان وهو بناء نعوت المبالغة كقولهم غضبان وإنما يقال لمن يشتد غضبه ولم يغلب عليه الغضب ضجر وجرد ونحو ذلك حتى إذا امتلأ غضبا قيل غضبان وكقولهم سكران وإنما هو قبل ذلك طَرِب ثم ثمِل فإذا طفِح قيل سكران ولا يجوز أن يسمى بالرحمن أحد غير الله ولذلك لا يثنى ولا يجمع كما ثنوا وجمعوا الرحيم فقيل رحيمان ورحماء وقوله بتته معناه قطعته والبت القطع. ومن باب الشُح قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن الحارث، عَن أبي كثير عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إياكم والشح فإنما هلك من كان قبلكم بالشح، أمرهم بالبخل فبخلوا وأمرهم بالقطيعة فقطعوا وأمرهم بالفجور ففجروا. قلت الشح أبلغ في المنع من البخل وإنما الشح بمنزلة الجنس والبخل بمنزلة النوع، وأكثر ما يقال البخل إنما هو في إفراد الأمور وخواص الأشياء، والشح عام وهو كالوصف اللازم للإنسان من قبل الطبع والجبلة.

كتاب اللقطة

وقال بعضهم البخل أن يضن بمال والشح أن يبخل بماله وبمعروفه، والفجور ههنا الكذب، وأصل الفجور الميل والانحراف عن الصدق ويقال للكاذب قد فجر أي انحرف عن الصدق. قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا إسماعيل حدثنا أيوب عن عبد الله بن أبي مليكة قال حدثتني أسماء بنت أبي بكر قالت: قلت يا رسول الله ما لي شيء إلاّ ما أدخل عليَّ الزبير بيته أفأعطي منه قال اعطي ولا تُوكي فيوكى عليك. قلت معناه اعطي من يصيبك منه ولا توكي أي لا تدخري والإيكاء شد رأس الوعاء بالوكاء وهو الرباط الذي يربط به يقول لا تمنعي ما في يدك فتنقطع مادة بركة الرزق عنك. وفيه وجه آخر وهو أن صاحب البيت إذا أدخل الشيء بيته كان ذلك في العرف مفوضا إلى ربة المنزل فهي تنفق منه بقدر الحاجة في الوقت وربما تدخر منه الشيء لغابر الزمان فكأنه قال إذا كان الشىء مفوضا إليك موكولا إلى تدبيرك فاقتصري على قدر الحاجة في النفقة وتصدقي بالباقي ولا تدخري والله أعلم. كتاب اللقطة قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير أخبرنا شعبة عن سلمة بن كهيل عن سويد بن غَفَلة قال غزوت مع زيد بن صوحان وسلمان بن ربيعة فوجدت سوطا فقال لي أطرحه فقلت لا ولكن إن وجدت صاحبه وإلا استمتعت به، قال

فحججت فمررت على المدينة فسألت أُبيّ بن كعب فقال وجدت صرة فيها مائة دينار فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عرفها حولا فعرفتها حولا ثم أتيته فقال عرفها حولا فعرفتها حولا ثم أتيته فقال عرفها حولا فعرفتها ثم أتيته فقلت لم أجد من يعرفها. قال احفظ عددها ووكاءها ووعاءها فان جاء صاحبها وإلا فاستمتع بها وقال لا أدري ثلاثا قال عرفها أو مرة واحدة. قال أبو داود: حدثنا موسى بن اسماعيل حدثنا حماد حدثنا سلمة بن كهيل بإسناده ومعناه قال في التعريف عامين أو ثلاثة، وقال اعرف عددها ووعاءها ووكاءها زاد فإن جاء صاحبها فعرف عددها ووكاءها فادفعها إليه. قال أبو داود ليس يقول ذا الكلمة إلاّ حماد في هذا الحديث، يَعني فعرف عددها. في هذا الحديث من الفقه إن أخذ اللقطة جائز فإنه صلى الله عليه وسلم لم ينكر على أُبيّ أخذها والتقاطها. وممن روى ذلك عنه عبد الله بن عمر بن الخطاب وجابر بن زيد وعطاء بن أبي رباح ومجاهد وكره أخذها أحمد بن حنبل. قلت وفيه أن اللقطة إذا كان لها بقاء ولم يكن مما يسرع إليها الفساد فيتلف قبل مضي السنة فإنها تعرف سنة كاملة. وقد اختلفت هذه الرواية في تحديد المدة فقال فيها لا أدري قالها مرة أو ثلاثا وجاء في خبر زيد بن خالد الجهني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عرفها حولا واحداً من غير شك فيه وهو مذهب عامة الفقهاء. وفي قوله فإن جاء صاحبها وإلا فاستمتع بها دليل على أن له أن يتملكها بعد السنة ويأكلها بعد السنة إن شاء غنياً كان الملتقط لها أو فقيرا وكان أبي بن كعب من مياسير الأنصار ولوكان لا يجوز للغني أن يتملكها بعد تعريف السنة لأشبه أن لا يبيح له

الاستمتاع منها إلاّ بالقدر الذي لا يخرجه عن حد الفقر إلى حد الغنى فلما أباح له الاستمتاع بها كلها دل أن حكم الغني والفقير لا يختلف في ذلك وإلى هذا ذهب الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه. وقد روي عن عمر بن الخطاب وعائشة إباحة التملك والاستمتاع بعد السنة. وقالت طائفة إذا عرفها سنة ولم يأت صاحبها تصدق بها روي ذلك عن علي وابن عباس وهو قول الثوري وأصحاب الرأي وإليه ذهب مالك. وفي قوله من رواية حماد فإن جاء صاحبها فعرف عددها ووكاءها فادفعها إليه دلالة على أنه إذا وصف اللقطة وعرف عددها دفعت إليه من غير تكليف بينة سواها وهو مذهب مالك وأحمد. وقال الشافعي إن وقع في نفسه أنه صادق وقد عرف الرجل العفاص والوكاء والعدد والوزن دفعها إليه إن شاء ولا أخبره على ذلك إلاّ ببينة لأنه قد يصيب الصفة بأن يستمع الملتقط يصفها وكذلك قال أصحاب الرأي. قلت ظاهر الحديث يوجب دفعها إليه إذا أصاب الصفة وهو فائدة قوله عفاصها ووكاءها فإن صحت هذه اللفظة في رواية حماد وهي قوله فعرف عددها فادفعها إليه كان ذلك أمراً لا يجوز خلافه وإن لم يصح فالاحتياط مع من لم يرالرد إلاّ بالبينة لقوله عليه السلام البينة على المدعي. ويتأول على هذا المذهب قول اعرف عفاصها ووكاءها على وجهين أحدهما أنه أمره بذلك لئلا يختلط بماله فلا يتميز منه والوجه الآخر لتكون الدعوى فيها معلومة فإن الدعوى المبهمة لا تقبل. قلت وأمره بإمساك اللقطة وتعريفها أصل في أبواب من الفقه إذا عرضت

الشبهة فلم يتبين الحكم فيها وإلى هذا ذهب الشافعي في كثير من المسائل مثل أن يطلق إحدى نسائه من غير تعيين ومات فإن الثمن يوقف بينهن حتى تتبين المطلقة منهن أو يصطلحن على شيء في نظائر لها من الأحكام. قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا إسماعيل بن جعغر عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن يزيد مولى المنبعث عن زيد بن خالد الجهني أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اللقطة فقال عرفها سنة ثم اعرف وكاءها وعفاصها ثم استنفق بها فإن جاء ربها فأدها إليه فقال يا رسول الله فضالة الغنم فقال خذها فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب قال يا رسول الله فضالة الإبل فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى احمرت وجنتاه أو احمر وجهه. وقال مالك ولها معها حذاؤها وسقاؤها حتى يأتيها ربها. قلت الوكاء الخيط الذي يشد به الصرة والعفاص الوعاء الذي يكون فيه النفقة وأصل العفاص الجلد الذي يلبس رأس القارورة. وفي الحديث دليل على أن قليل اللقطة وكثيرها سواء في وجوب التعريف إذا كان مما يبقى إلى الحول لأنه عم اللفظ ولم يخص. وقال قوم ينتفع بالقليل التافه من غير تعريف كالنعل والسوط والجراب ونحوها مما يرتفق به ولا يتمول. وعن بعضهم أن ما دون عشرة دراهم قليل. وقال بعضهم إنما يعرف من اللقطة ما كان فوق الدينار واستدل بحديث علي رضي الله عنه أنه وجد دينارا فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره أن يشتري به دقيقا ولحما فلما وضع الطعام جاء صاحب الدينار قال فهذا لم يعرفه سنة لكن استنفقه حين وجده فدل ذلك على فرق ما بين القليل من اللقطة والكثير منها. وقد ذكر أبو داود حديث عليّ

في موضع من هذا الكتاب. وقوله في ضالة الغنم هي لك أولأخيك أو للذئب فيه دليل على أنه إنما جعل هذا حكمها إذا وجدت بأرض فلا يخاف عليها الذئاب فيها. فأما إذا وجدت في قرية وبين ظهراني عمارة فسبيلها سبيل اللقطة في التعريف إذ كان معلوماً إن الذئاب لا تأوي إلى الأمصار والقرى. وأما ضالة الإبل فإنه لم يجعل لواجدها أن يتعرض لها لأنها قد ترد الماء وترعى الشجر وتعيش بلا راع وتمتنع على أكثر السباع فيجب أن يخلي سبيلها حتى يأتي ربها، وفي معنى الإبل الخيل والبغال والظباء وما أشبهها من كبار الدواب التي تمعن في الأرض وتذهب فيها. وقوله في الإبل معها حذاؤها وسقاؤها فإنه يريد بالحذاء اخفافها يقول إنها تقوى على السير وقطع البلاد وأراد بالسقاء أنها تقوى على ورود المياه فتحمل ريها في أكراشها. قلت فإن كانت الإبل مهازيل لا تنبعث فإنها بمنزلة الغنم التي قيل فيها هي لك أو لأخيك أو للذئب. وفى قوله ثم استنفق بها وقوله هي لك أو لأخيك دليل على أنه لا ينقض عليه البيع فيها إذا كان قد باعها ولكن يغرم القيمة لأنه أذن له في أن يستنفقها فقد أذن له فيما يتوصل به إلى الاستنفاق بها من بيع ونحوه. قال أبو داود: حدثنا محمد بن رافع وهارون بن عبد الله المعنى قالا: حَدَّثنا ابن أبي فديك عن الضحاك، يَعني ابن عثمان عن بُسر بن سعيد عن زيد بن خالد الجهني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن اللقطة فقال عرفها سنة فإن جاء باغيها فأدها إليه وإلا فاعرف عفاصها ووكاءها ثم كلها فإن جاء باغيها فأدها إليه. قلت قوله ثم كلها يصرح بإباحتها له بشرط أن يؤدي ثمنها إذا جاء صاحبها فدل أنه لا وجه لكراهة الاستمتاع بها. وقال مالك بن أنس إذا أكل الشاة التي وجدها بأرض الفلاة ثم جاء صاحبها لم يغرمها وقال لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعلها له ملكاً بقوله هي لك أو لأخيك، وكذلك قال داود والحديث حجة عليهما وهو قوله بعد إباحة الأكل فإن جاء باغيها فأدها

إليه. وقال الشافعي يغرمها كما يغرم اللقطة يلتقطها في المصر سواء. قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حفص حدثني أبي حدثني إبراهيم بن طهمان عن عباد بن إسحاق عن عبد الله بن يزيد عن أبيه يزيد مولى المنبعث عن زيد بن خالد الجهني أنه قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اللقطة قال تعرفها حولاً فإن جاء صاحبها دفعتها إليه وإلا عرفت وكاءها وعفاصها ثم أفضها في مالك فإن جل صاحبها دفعتها إليه. قوله ثم افضها في مااك معناه ألقها في مالك وأخلطها به من قولك فاض الأمر والحديث إذا انتشر وشاع، فيقال ملك فلان فائض إذا كان شائعا مع أملاك شركائه غير مقسوم ولا متميز منها، وهذا يبين لك أن المراد بقوله اعرف عفاصها ووكاءها إنما هو ليمكنه تمييزها بعد خلطها بماله إذا جاء صاحبها لا أنه جعله شرطاً لوجوب دفعها إليه بغير بينة يقيمها أكثر من ذكر عددها وإصابة الصفة فيها. قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا خالد، يَعني الطحان قال وحدثنا موسى

بن إسماعيل أخبرنا وهيب المعنى عن خالد الحذاء، عَن أبي العلاء عن مطرف، يَعني ابن عبد الله عن عياض بن حماد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجد لقطة فليشهد ذا عدل. أو ذوي عدل ولا يكتم ولا يغيب فإن وجد صاحبها فليردها عليه وإلا فهو مال الله يؤتيه من يشاء. قوله فليشهد أمر تأديب وإرشاد وذلك لمعنيين أحدهما ما يتخوفه في العاجل من تسويل النفس وانبعاث الرغبة فيها فتدعوه إلى الخيانة بعد الأمانة والآخر ما لا يؤمن من حدوث المنية به فيدعيها ورثته ويحوزونها في جملة تركته. قال أبو داود: حدثنا قتيبة حدثنا الليث عن ابن عجلان عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الثمر المعلق فقال من أصاب منه من ذي حاجة غير متخذ خُبنة فلا شيء عليه ومن خرج بشيء منه فعليه غرامة مثليه والعقوبة. ومن سرق منه بعد أن يؤويه الجَرين فبلغ ثمن المجَن فعليه القطع. ومن سرق دون ذلك فعليه غرامة مثليه والعقوبة. قال وسئل عن اللقطه فقال ما كان في طريق المِيتاء والقرية الجامعة فعرفها سنة وما كان من الخراب ففيها وفي الركاز الخمس. قلت الخبنة ما يأخذه الرجل في ثوبه فيرفعه إلى فوق، ويقال للرجل إذا رفع ذيله في المشي قد رفع خبنته. وقوله فعليه غرامة مثليه يشبه أن يكون هذا على سبيل التوعيد لينتهي فاعل ذلك عنه. والأصل أن لا واجب على متلف الشيء أكثر من مثله وقد قيل أنه كان في صدر الإسلام يقع بعض العقوبات في الأموال ثم نسخ والله أعلم.

وإنما سقط القطع عمن سرق الثمر المعلق لأن حوائط المدينة ليس عليها حيطان وليس سقوطه عنه من أجل أن لا قطع في عين الثمر فإنه مال كساتر الأموال ألست ترى أنه قد أوجب القطع في ذلك الثمر بعينه إذا كان أواه الجرين فإنما كان الفرق بين الأمرين الحرز. والطريق الميتاء هي المسلوكة التي يأتيها الناس. وقوله وما كان من الخراب فإنه يريد بالخراب العادي الذي لا يعرف له مالك وسبيله سبيل الركاز وفيه الخمس وسا ئره لواجده. فأما الخراب الذي كان مرة عامراً ملكاً لمالك ثم خرب فإن المال الموجود فيه ملك لصاحب الخراب ليس لواجده منه شيء فان لم يعرف صاحبه فهو لقطة. قال أبو داود: حدثنا مخلد بن خالد حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن عمرو بن مسلم عن عكرمة أحسبه، عَن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في ضالة الإبل المكتومة غرامتها ومثلها معها. قلت سبيل هذا سبيل ما تقدم ذكره من الوعيد الذي يراد به وقوع الفعل وإنما هو زجر وردع، وكان عمر بن الخطاب يحكم به وإليه ذهب أحمد بن حنبل وأما عامة الفقهاء فعلى خلافه. قال أبو داود: حدثنا عمر بن عون حدثنا خالد، عَن أبي حيان التيمي عن المنذر بن جرير قال كنت مع جرير بالبوازيج فجاء الراعي بالبقر وفيها بقرة ليست منها فقال له جرير أخرجوها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا يأوي الضالة إلاّ ضال. قلت هذا ليس بمخالف للأخبار التي جاءت في أخذ اللقطة. وذلك أن اسم الضالة لا يقع على الدرهم والدنانير والمتاع ونحوها، وإنما الضالة اسم للحيوان

كتاب الصيام

التي تضل عن صاحبها كالإبل والبقر والطير وما في معناها فإذا وجدها المرء لم بجز له أن يعرض لها ما دامت بحال تمتنع بنفسها وتستقل بقوتها حتى يأخذها ربها. كتاب الصيام قال أبو داود: حدثنا ابن المثنى حدثنا ابن أبي عدي عن سعيد عن قتادة عن عزرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله عز وجل {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين} [البقرة: 184] قال كانت رخصة للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة وهما يطيقان الصيام أن يفطرا ويطعما مكان كل يوم مسكيناً والحبلى والمرضع إذا خافتا، يَعني على أولادهما أفطرتا وأطعمتا. قلت مذهب ابن عباس في هذا أن الرخصة مثبتة للحبلى والمرضع، وقد نسخت في الشيخ الذي يطيق الصوم فليس له أن يفطر ويفدي إلاّ أن الحامل والمرضع وإن كانت الرخصة قائمة لهما فإنه يلزمهما القضاء مع الإطعام، وإنما لزمهما الإطعام مع القضاء لأنهما يفطران من أجل غيرهما شفقة على الولد وإبقاء عليه، وإذا كان الشيخ يجب عليه الإطعام وهو أنه رخص له في الإفطار من أجل نفسه فقد عقل أن من ترخص فيه من أجل غيره أولى بالإطعام وهذا على مذهب الشافعي وأحمد. وقد روي ذلك أيضاً عن مجاهد. فأما الشيخ الكبير الذي لا يطيق الصوم فإنه يطعم ولا قضاء عليه لعجزه. وقد روي ذلك عن أنس وكان يفعل ذلك بعدما أسن وكبر، وهو قول أصحاب الرأي ومذهب الشافعي والأوزاعي. وقال الأوزاعي والثوري وأصحاب الرأي في الحبلى والمرضع تقضيان ولا تطعمان كالمريض، وكذلك روي عن الحسن وعطاء والنخعي والزهري. وقال مالك بن أنس في الحبلى هي كالمريض تقضي

ومن باب الشهر يكون تسعا وعشرين

ولا تطعم، والمرضع تقضي وتطعم. ومن باب الشهر يكون تسعاً وعشرين قال أبو داود: حدثنا سليمان بن حرب حدثنا شعبة عن الأسود بن قيس عن سعيد بن عمرو، يَعني ابن سعيد بن العاص عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنَّا أُمة أمية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا وهكذا وهكذا وخنَس سليمان إصبعه في الثالثة، يَعني تسعا وعشرين. قوله أمية إنما قيل لمن لا يكتب ولا يقرأ أمي لأنه منسوب إلى أمة العرب وكانوا لا يكتبون ولا يقرؤون، ويقال إنما قيل له أمي على معنى أنه باق على الحال التي ولدته أمه لم يتعلم قراءة ولا كتاباً. وقوله خنس إصبعه أي أضجعها فأخرها عن مقام أخواتها، ويقال للرجل إذا كان مع أصحابه في مسير أو سفر فتخلف عنهم قد خنس عن أصحابه. وقوله الشهر هكذا يريد أن الشهر قد يكون هكذا أي تسعاً وعشرين وليس يريد أن كل شهر تسعة وعشرون، وإنما احتاج إلى بيان ما كان موهوماً أن يخفى عليهم لأن الشهر في العرف وغالب العادة ثلاثون فوجب أن يكون البيان فيه مصروفا إلى النادر دون المعروف منه. فلو ان رجلا حلف أو نذر أن يصوم شهرا بعينه فصامه فكان تسعا وعشرين كان بارا في يمينه ونذره ولو حلف ليصومن شهرا لا يعينه فعليه إتمام العدة ثلاثون يوما. وفي الحديث مستدل لمن رأى الحكم بالإشارة واعمال دلالة الإيماء كمن قال امرأتي طالق وأشار بأصابعه الثلاث فإنه يلزمه ثلاث تطليقات على الظاهر من الحال. قال أبو داود: حدثنا سليمان حدثنا حماد حدثنا أيوب عن نافع عن ابن

عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الشهر تسع وعشرون فلا تصوموا حتى تروه ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فأقدروا له فكان ابن عمر إذا كان شعبان تسعا وعشرين نظر له فإن رئي فذلك. وإن لم ير ولم يحل دون منظره سحاب أو قترة أصبح مفطراً وإن حال دون منظره سحاب أو قترة أصبح صائماً. قال وكان ابن عمر يفطر مع الناس ولا يأخذ بهذا الحساب. قوله غم عليكم من قولك غممت الشيء إذا غطيته فهومغموم. وقوله فأقدروا له معناه التقدير له بإكمال العدد ثلاثين، يقال قدرت الشيء أقدره قدرا بمعنى قدرته تقديرا ومنه قوله تعالى {فقدرنا فنعم القادرون} [المرسلات: 23] . وكان بعض أهل العلم يذهب في ذلك غير هذا المذهب ويتأوله على التقدير له بحساب سير القمر في المنازل والقول الأول أشبه ألا تراه يقول في رواية أخرى فإن غم عليكم فصوموا ثلاثين يوما. حدثناه جعفر بن نصير الخالدي حدثنا الحاوث بن أبي أسامة حدثنا سليمان بن داود حدثنا إبراهيم بن سعد عن ابن شهاب عن ابن المسيب، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا فإن غُم عليكم فصوموا ثلاثين يوما. وقد روي ذلك أيضاً من طريق ابن عمر أخبرنا محمد بن هاشم حدثنا الدبَري عن عبد الرزاق عن عبد العزيز بن أبي رواد عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله جعل الأهلة مواقيت للناس فصوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فعدوا له ثلاثين يوما. قلت وعلى هذا قول عامة أهل العلم ويؤكد ذلك نهيه صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الشك، وكان أحمد يقول إذا لم ير الهلال لتسع وعشرين من شعبان لعلة في السماء

ومن باب إذا أخطأ القوم الهلال

صام الناس وإن كان صحواً لم يصوموا أتباعاً لمذهب ابن عمر. وقوله وكان ابن عمر يفطر مع الناس ولا يأخذ بهذا الحساب يريد أنه كان يفعل هذا الصنيع في شهر شعبان احتياطا للصوم ولا يأخذ بهذا الحساب في شهر رمضان ولا يفطر إلاّ مع الناس، والقتَرة الغبرة في الهواء الحائلة بين الأبصار وبين رؤية الهلال. قال أبو داود: حدثنا مسداد أن يزيد بن زريع حدثه، قال: حَدَّثنا خاك الحذاء عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال شهرا عيد لا ينقصان رمضان وذو الحجة. قلت اختلف الناس في تأويله على وجوه فقال بعضهم معناه أنهما لا يكونان تاقصين في الحكم وإن وجدا ناقصين في عدد الحساب. وقال بعضهم معناه إنهما لا يكادان يوجدان في سنة واحدة مجتمعين في النقصان فإن كان أحدهما تسعا وعشرين كان الآخر ثلاثين على الكمال. قلت وهذا القول لا يعتمد لأن دلالته تخلف إلاّ أن يحمل الأمر في ذلك على الغالب الأكثر. وقال بعضهم إنما أراد بهذا تفضيل العمل في العشر من ذي الحجة وأنه لا ينقص في الأجر والثواب عن شهر رمضان. ومن باب إذا أخطأ القوم الهلال قال أبو داود: حدثنا محمد بن عبيد الله حدثنا حماد في حديث أيوب عن محمد بن المنكدر، عَن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه وفطركم يوم تفطرون وأضحاكم يوم تضحون. معنى الحديث أن الخطأ موضوع عن الناس فيما كان سبيله الاجتهاد فلو أن

ومن باب تقدم الشهر

قوما اجتهدوا فلم يروا الهلال إلاّ بعد الثلاثين فلم يفطروا حتى استوفوا العدد ثم ثبت عندهم أن الشهر كان تسعا وعشرين فإن صومهم وفطرهم ماض فلا شيء عليهم من وزر أو عتب. وكذلك هذا في الحج إذا أخطؤوا يوم عرفة فإنه ليس عليهم إعادته ويجزيهم أضحاهم كذلك؛ وإنما هذا تخفيف من الله سبحانه ورفق بعباده ولو كلفوا إذا أخطؤوا العدد أن يعيدوا أن يأمنوا أن يخطؤوا ثانيا وأن لا يسلموا من الخطأ ثالثا ورابعا فإن ما كان سبيله الاجتهاد كان الخطأ غير مأمون فيه. ومن باب تقدم الشهر قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن ثابت عن مطرف عن عمران بن حصين. وسعيد الجريري، عَن أبي العلاء عن مطرف عن عمران أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل هل صمت من سَرَر شعبان شيئا قال لا قال فإذا أفطرت فصم يوماً، وقال أحدهما يومين. قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي حدثنا حسين عن زائدة عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تقدموا الشهر بصيام يوم ولا يومين إلاّ أن يكون شيء يصومه أحدكم. قلت هذان الحديثان متعارضان في الظاهر ووجه الجمع بينهما أن يكون الأول إنما هو شيء كان الرجل قد أوجبه على نفسه بنذره فأمره بالوفاء به أو كان ذلك عادة قد اعتادها في صيام أواخر الشهور فتركه لاستقبال الشهر فاستحب له صلى الله عليه وسلم أن يقضيه. وأما المنهي عنه في حديث ابن عباس فهو أن يبتدأ المرء متبرعا به من غير

إيجاب نذر ولا عادة قد تعودها فيما مضى والله أعلم. وسرر الشهر آخره وفيه لغتان يقال سرر الشهر وسراره. قال أبو داود: حدثنا إبراهيم بن العلاء الزُبيدي من كتابه حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا عبد الله بن العلاء، عَن أبي الأزهر المغيرة بن فروة قال قام معاوية في الناس بدير مسحل الذي على باب حمص فقال يا أيها الناس إنا قد رأينا الهلال يوم كذا وكذا، وأنا متقدم بالصيام فمن أحب أن يفعله فليفعله قال فقام إليه مالك بن هبيرة فقال يا معاوية أشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم أم شيء من رأيك قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول صوموا الشهر وسرَّه. قال أبو داود: حدثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي قال قال الوليد سمعت أبا عمرو، يَعني الأوزاعي يقول سره أوله. قلت أنا أنكر هذا التفسير وأراه غلطا في النقل ولا أعرف له وجها في اللغة، والصحيح ان سره آخره هكذا حدثناه أصحابنا عن إسحاق بن إبراهيم بن إسماعيل حدثنا محمود بن خالد الدمشقي عن الوليد عن الأوزاعي قال سِره آخره وهذا هو الصواب. وفيه لغات يقال سر الشهر وسَرَرُ الشهر وسراره وسمي آخر الشهر سرا لاستسرار القمر فيه. وأما قوله صوموا الشهر فإن العرب تسمي الهلال الشهر تقول رأيت الشهر أي الهلال وأنشد ابن الأعرابي: اَبْدانَ من نجد على مَهَل …والشهر مثل قلامة الظفر أي الهلال ولذا كان أول الشهر مأمورا بصيامه في قوله صوموا الشهر فقد علم أن الأمربصيام سره غير أوله.

ومن باب إذا رأى الهلال ببلد قبل آخر بليلة

ومن باب إذا رُأى الهلال ببلد قبل آخر بليلة قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا إسماعيل، يَعني ابن جعفر أخبرني محمد بن أبي حرمله أخبرني كريب أن أم الفضل بنت الحارث بعثته إلى معاوية بالشام قال فقدمت الشام فقضيت حاجتها فاستهل رمضان وأنا بالشام فرأينا الهلال ليله الجمعة ثم قدمت المدينة من الشام في آخر الشهر فسألني ابن عباس فقال متى رأيتم الهلال قلت رأيته ليلة الجمعة، قال أنت رأيته قلت نعم ورآه الناس فصاموا وصام معاوية، فقال لكنا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل الثلاثين أو نراه، فقلت أفلا نكتفي برؤيه معاوية وصيامه قال لا هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. قلت اختلف الناس في الهلال يستهله أهل بلد في ليلة ثم يستهله أهل بلد آخر في ليلة قبلها أو بعدها فذهب إلى ظاهر حديث ابن عباس القاسم بن محمد وسالم بن عبد الله بن عمر وعكرمة وهو مذهب إسحاق وقالوا لكل قوم رؤيتهم. وقال ابن المنذر قال أكثر الفقهاء إذا ثبت بخبر الناس أن أهل بلد من البلدان قد رأوه قبلهم فعليهم قضاء ما أفطروه، وهو قول أصحاب الرأي ومالك، وإليه ذهب الشافعي وأحمد. ومن باب كراهة صوم يوم الشك قال أبو داود: حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير أخبرنا أبو خالد الأحمر عن عمرو بن قيس، عَن أبي إسحاق عن صلة قال كنا عند عمار في اليوم الذي يشك فيه فأتى بشاة فتنحى بعض القوم فقال عمار من صام هذا اليوم فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم.

قلت اختلف الناس في معنى النهي عن صيام يوم الشك فقال قوم إنما نهى عن صيامه إذا نوى به أن يكون عن رمضان. فأما من نوى به صوم يوم من شعبان فهو جائز. هذا قول مالك بن أنس والأوزاعي وأصحاب الرأي، ورخص فيه على هذا الوجه أحمد وإسحاق. وقالت طائفة لا يصام ذلك اليوم عن فرض ولا تطوع للنهي فيه وليقع الفصل بذلك بين شعبان ورمضان، هكذا قال عكرمة وروي معناه، عَن أبي هريرة وابن عباس. وكانت عائشة وأسماء ابنتا أبي بكر رضي الله عنهم تصومان ذلك اليوم، وكانت عائشة تقول لأن أصوم يوما من شعبان أحب إلي من أن أفطر يوما من رمضان. وكان مذهب عبد الله بن عمر بن الخطاب صوم يوم الشك إذا كان من ليله في السماء سحاب أو قترة فإن كان صحواً ولم ير الناس الهلال أفطر مع الناس وإليه ذهب أحمد بن حنبل. وقال الشافعي إن وافق يوم الشك يوما كان يصومه صامه وإلا لم يصمه وهو أن يكون من عادته أن يصوم صوم داود فإن وافق يوم صومه صامه وإن وافق يوم فطره لم يصمه. قال أبو داود: حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا هشام عن يحيى بن أبي كثير، عَن أبي سلمة، عَن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يتقدم أحدكم صوم رمضان بيوم ولا يومين إلاّ أن يكون صوما يصومه رجل فليصم ذلك اليوم. قلت معناه أن يكون قد اعتاد صوم الاثنين والخميس فيوافق صوم اليوم المعتاد فيصومه ولا يتعمد صومه إن لم تكن له عادة وهذا قريب من معنى

ومن باب الشهادة على هلال شهر شوال

الحديث الأول. قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا عبد العزيز بن محمد عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا انتصف شعبان فلا تصوموا. قلت هذا حديث كان يذكره عبد الرحمن بن مهدي من حديث العلاء وروت أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصوم شعبان كله ويصله برمضان ولم يكن يصوم من السنة شهرا تاما غيره. حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا عبد العزيز بن محمد قال قدم عباد بن كثير المدينة فمال إلى مجلس العلاء فأخذ بيده فأقامه ثم قال اللهم إن هذا يحدث عن أبيه، عَن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا انتصف شعبان فلا تصوموا، فقال العلاء اللهم إن أبى حدثني، عَن أبي هريرة ويشبه أن يكون حديث العلاء أثبت على معنى كراهة صوم يوم الشك ليكون في ذلك اليوم مفطرا أو يكون استحب إجمام الصائم في بقية شعبان ليتقوى بذلك على صيام الفرض في شهر رمضان كما كره للحاج الصوم بعرفة ليتقوى بالإفطار على الدعاء. ومن باب الشهادة على هلال شهر شوال قال أبو داود: حدثنا محمد بن عبد الرحيم أبو يحيى البزاز حدثنا سعيد بن سليمان حدثنا عباد بن العوام، عَن أبي مالك الأشجعي حدثنا الحسين بن الحارث الجَدَلي جديلة قيس. أن أمير مكة خطب ثم قال عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننسك لرؤيته فإن لم نره وشهد شاهد عدل نسكنا بشهادتهما قال فسألت الحسين بن

الحارث من أمير مكة، فقال الحارث بن حاطب أخو محمد بن حاطب ثم قال الأمير إن فيكم من هو أعلم بالله ورسوله مني وشهد هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأومأ بيده إلى رجل قال الحسين، فقلت لشيخ إلى جنبي من هذا الذي أومأ إليه الأمير، قال هذا عبد الله بن عمر وصدق كان أعلم بالله منه فقال بذلك أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. قلت لا أعلم اختلافا في أن شهادة الرجلين العدلين مقبولة في رؤية هلال شوال وإنما اختلفوا في شهادة رجل واحد، فقال أكثر العلماء لا يقبل فيه أقل من شاهدين عدلين. وقد روي عن عمر بن الخطاب من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى أنه أجاز شهادة رجل واحد في أضحى أو فطر، ومال إلى هذا القول بعض أهل الحديث وزعم أن باب رؤية الهلال باب الإخبار فلا يجري مجرى الشهادات ألا ترى أن شهادة الواحد مقبولة في رؤية هلال شهر رمضان فكذلك يجب أن تكون مقبولة في هلال شهر شوال. قلت لو كان ذلك من باب الإخبار لجاز فيه أن يقول أخبرني فلان أنه رأى الهلال فلما لم يجز ذلك على الحكاية عن غيره علم أنه ليس من باب الإخبار والدليل على صحة ذلك أنه يقول أشهد أني رأيت الهلال كما يقول ذلك في سائر الشهادات ولكن بعض الفقهاء ذهب في أن رؤية هلال رمضان خصوصا من باب الإخبار وذلك لأن الواحد العدل فيه كاف عند جماعة من العلماء واحتج بخبر ابن عمر أنه قال أخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم إني رأيت الهلال فأمرالناس بالصيام.

قلت ومن ذهب إلى هذا الوجه أجاز فيه المرأة والعبد. قال أبو داود: حدثنا محمود بن خالد وعبد الله بن عبد الرحمن السمرقندي وإنا لحديثه أتقن قالا: حَدَّثنا مروان وهو ابن محمد عن عبد الله بن وهب عن يحيى بن عبد الله بن سالم، عَن أبي بكر بن نافع عن أبيه عن ابن عمر قال ترايا الناس الهلال فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أني رأيته فصام وأمر الناس بصيامه. قلت فيه بيان أن شهادة الواحد العدل في رؤية هلال شهر رمضان مقبولة وإليه ذهب الشافعي في أحد قوليه وهو قول أحمد بن حنبل. وكان أبو حنيفة وأبو يوسف يجيزان على هلال شهر رمضبان شهادة الرجل الواحد العدل وإن كان عبدا، وكذلك المرأة الواحدة وإن كانت أمة ولا يجيزان في هلال الفطر إلاّ رجلين أو رجلا وامرأتين. وكان الشافعي لا يجيز في ذلك شهادة النساء، وكان مالك والأوزاعي وإسحاق بن راهويه يقولون لا يقبل على هلال شهر رمضان ولا على هلال الفطر أقل من شاهدين عدلين. وفي قول ابن عمر ترايا الناس الهلال فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أني رأيته وقبوله في ذلك قوله وحده دليل على وجوب قبول أخبار الآحاد وأنه لا فرق بين أن يكون المخبر بذلك منفردا عن الناس وحده وبين أن يكون مع جماعة من الناس فلا يشاركه أصحابه في ذلك. وقال بعض أهل العراق إذا ترايا الناس الهلال وكان صحواً فقال واحد منهم قد رأيته لم أقبله قال وهذا مثل أن يكون جماعة قد حضروا الإمام يوم الجمعة فأخبر واحد منهم أنه خطب موليا وجهه عن القبلة ولم يصدقه على ذلك الجماعة الحضور فإنه لا يقبل.

ومن باب السحور

قلت وهذا مخالف لما شبهوه به لأن مثل تلك الحال لا يخفى على ذي بصر. والحاد البصر والكليل يستويان في ذلك. وأما الهلال فقد يزل عن بعض أبصار الناس لدقته وضؤلة شخصه ويتجلى لمن كان أحد بصرا وأجود استدراكا. ولو أن جماعة حضروا في محفل فشهد عدلان منهم على رجل من جماعتهم أنه قام فيهم فطلق امرأته وأنكره الباقون كان القول قولهما دون قول من أنكر وإن كانوا كلهم ذوي آذان سميعة واحساس سليم فكذلك هذا لا فرق بين الأمرين. قال أبو داود: حدثنا محمد بن بكار بن الريان حدثنا الوليد، يَعني ابن ثور قال وحدثنا الحسن بن علي حدثنا حسين عن زائدة المعنى عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس، قال جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إني رأيت الهلال، قال الحسن، يَعني هلال رمضان، فقال أتشهد أن لا إله إلاّ الله، قال نعم قال أتشهد أن محمداً رسول الله قال نعم، قال يا بلال أذن في الناس فليصوموا غدا. قلت وهذا يدل على مثل ما دل عليه خبر ابن عمر، وفيه حجة لمن أجرى الأمر في رؤ ية هلال شهر رمضان مجرى الإخبار ولم يحملها على أحكام الشهادات وفيه أيضاً حجة لمن رأى أن الأصل في المسلمين العدالة، وذلك أنه لم يطلب أن يعلم من الأعرابي غير الإسلام فقط ولم يبحث بعد عن عدالته وصدق لهجته. ومن باب السحور قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا ابن المبارك عن موسى بن علي بن رباح عن أبيه، عَن أبي قيس مولى عمرو بن العاص عن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر. قلت معنى هذا الكلام الحث على التسحر وفيه الإعلام بأن هذا الدين يسر

لا عسر فيه. وكان أهل الكتاب إذا ناموا بعد الإفطار لم يحل لهم معاودة الأكل والشرب وعلى مثل ذلك كان الأمر في أول الإسلام ثم نسخ الله عز وجل ذلك ورخص في الطعام والشراب إلى وقت الفجر بقوله {كلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر} [البقرة: 187] . قال أبو داود: حدثنا عمرو بن محمد الناقد حدثنا حماد بن خاك الخياط حدثنا معاوية بن صالح عن يوسف بن سيف عن الحارث بن زياد، عَن أبي رُهم عن العرباض بن سارية قال دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السحور في رمضان فقال هلم إلى الغداء المبارك. قلت إنما سماه غداء لأن الصائم يتقوى به على صيام النهار فكأنه قد تغدى والعرب تقول غدا فلان لحاجته إذا بكر فيها وذلك من لدن وقت السحر إلى طلوع الشمس قال: أمن آل نُعم أنت غادٍ فمبكر قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا حماد بن زيد عن عبد الله بن سوادة القشيري عن أبيه قال سمعت سمرة بن جندب يخطب وهو يقول. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يمنعكم من سحوركم أذان بلال ولا بياض الأفق الذي هكذا حتى يستطير. قوله يستطير معناه يعترض في الأفق وينشر ضوءه هناك قال الشاعر: لهان على سراة بني لؤي ... حريق بالبُويرة مستطير قال أبو داود: حدثنا محمد بن عيسى حدثنا ملازم بن عمرو عن عبد الله بن النعمان حدثني قيس بن طلق عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كلوا واشربوا ولا يَهِيدنكم الساطع المصعد فكلوا واشربوا حتى يعترض لكم الأحمر.

قوله لا يهيدنكم معناه لا يمنعنكم الأكل وأصل الهيد الزجر، يقال هدت الرجل أهيده هيداً إذا زجرته، ويقال في زجر الدواب يريد هِيْد هِيْد والساطع المرتفع وسطوعها ارتفاعها مصعداً قبل أن يعترض. ومعنى الأحمر ههنا أن يستبطن البياض المعترض أوائل حمرة وذلك أن البياض إذا تتام طلوعه ظهرت أوائل الحمرة والعرب تشبه الصبح بالبلَق في الخيل لما فيه من بياض وحمرة، وقد جعله عمر بن أبي ربيعة شقرة فقال: فلما تقضى الليل إلاّ أقله …وكادت توالي نجمه تتغوّر فما راعني إلاّ مناد تحملوا …وقد لاح معروف من الصبح أشقر قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا حصين بن نمير قال وحدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا ابن إدريس المعنى عن حصين عن الشعبي عن عدي بن حاتم قال لما نزلت هذه الآية {حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود} [البقرة: 187] قال أخذت عقالا أبيض وعقالا أسود ووضعتهما تحت وسادتي فنظرت فلم أتبين فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فضحك وقال إن وسادك إذاً لعريض طويل إنما هو الليل والنهار. وقال عثمان إنما هو سواد الليل وبياض النهار. قوله إن وسادك إذاً لعريض فيه قولان أحدهما يريد أن نومك إذاً لكثير وكنى بالوساد عن النوم إذا كان النائم يتوسده أو يكون أراد أن ليلك إذا لطويل إذا كنت لا تمسك عن الأكل والشرب حتى يتبين لك سواد العقال من بياضه. والقول الآخر أنه كنى بالوساد عن الموضع الذي يضعه من رأسه وعنقه على الوساد إذا نام والعرب تقول فلان عريض القفا إذا كانت فيه غباوة وغفلة.

ومن باب الرجل يسمع النداء والإناء على يده

وقد روي في هذا الحديث من طريق آخر أنه قال إنك عريض القفا والعرب تسمي بياض الصبح أول ما يبدو خيطاً قال النابغة: فلما تبدت لنا سَدْفة ... ولاح من الصبح خيط أنارا ومن باب الرجل يسمع النداء والإناء على يده قال أبو داود: حدثنا عبد الأعلى بن حماد حدثنا حماد عن محمد بن عمرو، عَن أبي سلمة، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سمع أحدكم النداء والإناء على يده فلا يضعه حتى يقضي حاجته منه. قلت هذا على قوله إن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم أو يكون معناه أن يسمع الأذان وهو يشك في الصبح مثل أن تكون السماء متغمة فلا يقع له العلم بأذانه أن الفجر قد طلع لعلمه أن دلائل الفجر معه معدومة ولو ظهرت للمؤذن لظهرت له أيضاً، فأما إذا علم انفجار الصبح فلا حاجة به إلى أذان الصارخ لأنه مأمور بأن يمسك عن الطعام والشراب إذا تبين له الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر. ومن باب وقت فطر الصائم قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا وكيع قال وحدثنا مسدد حدثنا عبد الله بن داود المعنى عن هشام بن عروة عن أبيه عن عاصم بن عمر عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جاء الليل من هاهنا وذهب النهار من هاهنا. قال مسدد وغابت الشمس فقد أفطر الصائم. قوله فقد أفطر الصائم معناه أنه قد صار في حكم المفطر وإن لم يأكل وقيل معناه أنه قد دخل في وقت الفطر وحان له أن يفطر كما قيل أصبح الرجل إذا

ومن باب الوصال

دخل في وقت الصبح وأمسى وأظهر كذلك. وفيه دليل على بطلان الوصال. قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا عبد الواحد حدثنا سليمان الشيباني. قال سمعت عبد الله بن أبي أوفى يقول سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صائم فلما غربت الشمس قال يا بلال انزل فاجدح لنا فقال يا رسول الله لو أمسيت قال انزل فاجدح لنا قال يا رسول الله إن عليك نهاراً. قال انزل فاجدح لنا فجدح فشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال إذا رأيتم الليل قد أقبل من ههنا فقد أفطر الصائم وأشار بأصبعه قبل المشرق. قوله أجدح لنا الجدح أن يخاض السويق بالماء ويحرك حتى يستوي وكذلك اللبن ونحوه. والمجدح العود المجنح الرأس الذي يخاض به الأشربة ليرق ويستوي. ومن باب الوصال قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الوصال قالوا فإنك تواصل قال إني لست كهيئتكم أني أطعم وأسقى. قلت الوصال من خصائص ما أبيح لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محظور على أمته ويشبه أن يكون المعنى في ذلك ما يتخوف على الصائم من الضعف وسقوط القوة فيعجزوا عن الصيام المفروض وعن سائر الطاعلت أو يملوها إذا نالتهم المشقة فيكون سببا لترك الفريضة. قوله إني لست كهيئتكم إني أطعم وأسقى يحتمل معنيين أحدهما أني أعان على الصيام وأقوى عليه فيكون ذلك بمنزلة الطعام والشراب لكم. ويحتمل أن يكون قد يؤتى على الحقيقة بطعام وشراب يطعمهما فيكون ذلك خصيصا

ومن باب الغيبة للصائم

كرامة لا يشركه فيها أحد من أصحابه والله أعلم. ومن باب الغيبة للصائم قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي عن مالك، عَن أبي الزناد عن الأعرج، عَن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا كان أحدكم صائما فلا يرفث ولا يجهل فإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم إني صائم. قوله لا يرفث يريد لا يفحش والرفث الخنا والفحش. وقوله فليقل إني صائم يتأول على وجهين أحدهما فليقل ذلك لصاحبه نطقا باللسان يرده بذلك عن نفسه. والوجه الآخر أن يقول ذلك في نفسه أي ليعلم أنه صائم فلا يخوض معه ولا يكافئه على شتمه لئلا يفسد صومه ولا يحبط أجر عمله. ومن باب الاستنشاق للصائم قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا يحيى بن سليم عن إسماعيل بن كثير عن عاصم بن لقيط بن صبرة عن أبيه لقيط بن صبرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغ في الاستنشاق إلاّ أن تكون صائماً. فيه من الفقه أن وصول الماء إلى موضع الدماغ يفطر الصائم إذا كان بفعله وعلى قياس ذلك كل ما وصل إلى جوفه بفعله من حقنة وغيرها سواء كان ذلك في موضع الطعام والغذاء أو في غيره من حشو جوفه، وقد يستدل بذلك من يوجب الاستنشاق في الطهارة قالوا ولولا وجوبه لكان يطرحه عن الصائم أصلا احتياطاً على صومه فلما لم يفعل ذلك دل على أنه واجب لا يجوز تركه وإلى هذا ذهب إسحاق بن راهويه.

ومن باب من أفطر قبل غروب الشمس

ومن باب من أفطر قبل غروب الشمس قال أبو داود: حدثنا هارون بن عبد الله ومحمد بن العلاء المعنى قالا: حَدَّثنا أبو أسامة حدثنا هشام بن عروة عن فاطمة بنت المنذر عن أسماء بنت أيى بكر قالت أفطرنا يوما في رمضان في غيم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم طلعت الشمس وقال أسامة قلت لهشام أمروا بالقضاء قال وبُدَّ من ذلك. قلت اختلف في وجوب القضاء في مثل هذا فقال أكثر أهل العلم القضاء واجب عليه وقال إسحاق بن راهويه وأهل الظاهر لا قضاء عليه ويمسك بقية النهار عن الأكل حتى تغرب الشمس، وروي ذلك عن الحسن البصرى وشبهوه بمن أكل ناسيا في الصوم. قلت الناسي لا يمكنه أن يحترز من الأكل ناسيا وهذا يمكنه أن يمكث فلا يأكل حتى يتيقن غيبوبة الشمس فالنسيان خطأ في الفعل وهذا خطأ في الوقت والزمان والتحرز منه ممكن. ومن باب السواك للصائم قال أبو داود: حدثنا محمد بن الصباح حدثنا شريك (ح) وحدثنا مسدد حدثنا يحيى عن سفيان عن عاصم بن عبيد الله بن عامر بن ربيعة عن أبيه قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستاك وهو صائم زاد مسدد في حديثه ما لا أعُدُ ولا أُحصي. قلت السواك مستحب للصائم والمفطر إلاّ أن قوما من العلماء كرهوا للصائم أن يستاك آخر النهار استبقاء لخلوف فمه، وإلى هذا ذهب الشافعى وهو قول الأوزاعي وروي ذلك عن ابن عمر وإليه ذهب عطاء ومجاهد.

ومن باب الصائم يحتجم

ومن باب الصائم يحتجم قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن هشام، يَعني ابن أبي عبد الله عن يحيى عن ابن أبي كثير، عَن أبي قلابة، عَن أبي أسماء الرحبي عن ثوبان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أفطر الحاجم والمحجوم. قلت اختلف الناس في تأويل هذا الحديث فذهبت طائفة من أهل العلم إلى أن الحجامة تفطر الصائم قولا بظاهر الحديث، هذا قول أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وقالا عليهما القضاء وليست عليهما الكفارة، وعن عطاء قال على من احتجم وهو صائم في شهر رمضان القضاء والكفارة. وروي عن جماعة من الصحابة أنهم كانوا يحتجمون ليلا منهم ابن عمر وأبو موسى الأشعري وأنس بن مالك. وكان مسروق والحسن وابن سيرين لا يرون للصائم أن يحتجم، وكان الأوزاعي يكره ذلك، وقال ابن المسيب والشعبي والنخعي إنما كرهت الحجامة للصائم من أجل الضعف. وممن كان لا يرى بأسا بالحجامة للصائم سفيان الثوري ومالك بن أنس والشافعي وهو قول أصحاب الرأي. وتأول بعضهم الحديث فقال معنى أفطر الحاجم والمحجوم أي تعرضا للإفطار أما المحجوم فللضعف الذي يلحقه من ذلك فيؤديه إلى أن يعجز عن الصوم. وأما الحاجم فلأنه لا يؤمن أن يصل إلى جوفه من طعم الدم أو من بعض أجراحه إذا ضم شفتيه على قصب الملازم وهذا كما يقال للرجل يتعرض للمهالك قد هلك فلان وإن كان باقيا سالما. وإنما يراد به أنه قد أشرف على الهلاك وكقوله صلى الله عليه وسلم من جعل قاضيا فقد ذبح بغير سكين يريد أنه قد تعرض للذبح. وقيل فيه وجه آخر وهو أنه مر بهما مساء فقال أفطر الحاجم والمحجوم كأنه

ومن باب الصائم يستقيء عامدا

عذرهما بهذا القول إذ كانا قد أمسيا ودخلا في وقت الإفطار كما يقال أصبح الرجل وأمسى وأظهر إذا دخل في هذه الأوقات. وأحسبه قد روي في بعض الحديث. وقال بعضهم هذا على التغليظ لهما والدعاء عليهما كقوله فيمن صبام الدهر لا صام ولا أفطر. فمعنى قوله أفطر الحاجم والمحجوم على هذا التأويل أي بطل صيامهما فكأنهما صارا مفطرين غير صائمين، وقيل أيضاً معناه حان لهما أن يفطرا كقولك حصد الزرع إذا حان أن يحصد واركب المهر إذا كان له أن يركب. قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن يزيد بن أبي زياد عن مقسم عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم صائماً محرماً. قلت وهذا يؤكد قول من رخص في الحجامة للصائم ورأى أن الحجامة لا تفسد الصوم. وفيه دليل على أن الحجامة لا تضر المحرم مالم يقطع شعرا، وقد تأول حديث ابن عباس من ذهب إلى أن الحجامة تفطر الصائم، فقال إنما احتجم النبي صلى الله عليه وسلم صائما محرما وهو مسافر لأنا لا نعلمه كان محرما وهو مقيم وللمسافر أن يفطر على ما شاء من طعام وجماع وحجامة وغيرها. قلت وهذا التأويل غير صحيح لأنه قد أثبته حين احتجم صائما ولو كان يفسد صومه بالحجامة لكان يقال أنه أفطر بالحجامة كما يقال أفطر الصائم بشرب الماء وبأكل التمر وما أشبههما ولا يقال شرب ماء صائماً ولا أكل تمراً وهو صائم. ومن باب الصائم يستقيء عامدا قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا عيسى بن يونس حدثنا هشام بن حسان

ومن باب الصائم يحتلم نهارا

عن محمد بن سيرين، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من ذرعه القيء وهو صائم فليس عليه قضاء وإن استقاء فليقض. قال أبو داود سمعت أحمد بن حنبل يقول ليس من ذا شيء. قلت يريد أن الحديث غير محفوظ قال أبو عيسى الترمذي سألت محمد بن إسماعيل البخاري عنه فلم يعرفه إلاّ من طريق عيسى بن يونس وقال ما أراه محفوظا. قال وروى يحيى بن أبي كثير عن عمرو بن الحكم أن أبا هريرة كان لا يرى القيء يفطر الصائم. قلت وذكر أبو داود أن حفص بن غياث رواه عن هشام كما رواه عيسى بن يونس. قلت لا أعلم خلافا بين أهل العلم في أن من ذرعه القيء فإنه لا قضاء عليه ولا في أن من استقاء عامدا أن عليه القضاء، ولكن اختلفوا في الكفارة فقال عامة أهل العلم ليس عليه غير القضاء وقال عطاء عليه القضاء والكفارة وحكي ذلك عن الأوزاعي وهو قول أبي ثور. قلت وفي إسقاط أكثر العلماء الكفارة عن المستقيء عامداً دليل على أن لا كفارة على من أكل عامداً في نهار رمضان، إلاّ أن المستقيء عامدا مشبه بالآكل متعمدا ومن ذرعه القيء مشبه بالآكل ناسيا. قلت ويدخل في معنى من ذرعه القيء كل ما غلب عليه الإنسان من دخول الذباب حلقه ودخول الماء جوفه إذا وقع في ماء غَمْر وما أشبه ذلك فإنه لا يفسد صومه شيء من ذلك. ومن باب الصائم يحتلم نهارا قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن زيد بن أسلم عن رجل

ومن باب القبلة الصائم

من أصحابه عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفطر من قاء ولا من احتلم ولا من احتجم. قلت هذا إن ثبت فمعناه من قاء غير عامد ولكن في إسناده رجل لا يعرف وقد رواه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عطاء بن يسار، عَن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم إلاّ أن عبد الرحمن ضعفه أهل الحديث. وقال أبو عيسى أخطأ فيه عبد الرحمن ورواه غير واحد عن زيد بن أسلم مرسل. اوعبد الرحمن ذاهب الحديث. قلت حدثني محمد بن الحسين الزعفراني حدثنا ابن أبي خيثمة قال: سمعت يحيى بن معين يقول حديث بني زيد بن أسلم ثلاثتهم ليس بشيء. ومن باب القبلة الصائم قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن إبراهيم عن الأسود وعلقمة عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل وهو صائم ويباشر وهو صائم ولكنه كان أملك لإرْبه. قلت هذا يروى على وجهين أرب مفتوحة الألف والراء وإرب مكسورة الألف ساكنة الراء ومعناهما واحد وهو حاجة النفس ووطرها يقال لفلان عند فلان وأرَب وإربه ومأربه أي حاجة والأرب أيضاً العضو. واختلف الناس في جواز القبلة للصائم فكرهتها طائفة نهى عنها ابن عمر ويروى عن ابن مسعود أنه قال من فعل ذلك قضى يوما مكانه وعن ابن المسيب مثل ذلك. وقال ابن عباس يكره ذلك للشاب ويرخص فيه للشيخ.

ومن باب من أصبح جنبا في شهر رمضنان

وإلى هذا ذهب مالك بن أنس ورخص فيها عمر بن الخطاب وأبو هريرة وعائشة وعطاء والشعبي والحسن. وقال الشافعي لا بأس بها إذا لم يحرك منه شهوة، وكذلك قال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وقال الثوري لاتفطره والتنزه أحب إليّ. قال أبو داود: حدثنا أحمد بن يونس حدثنا الليث (ح) وحدثنا عيسى بن حماد أخبرنا الليث بن سعد عن بكير بن عبد الله عن عبد الملك بن سعيد عن جابر بن عبد الله قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه هشِشت فقبلت وأنا صائم قال فقلت يا رسول الله صنعت اليوم أمرا عظيما قبلت وأنا صائم، قال أرأيت لو مضمضت من الماء وأنت صائم. قال عيسى بن حماد في حديثه قلت لا بأس به قال فمه. قلت في هذا إثبات القياس والجمع بين الشيئين في الحكم الواحد لاجتماعهما في الشبه وذلك أن المضمضة بالماء ذريعة لنزوله إلى الحلق ووصوله إلى الجوف فيكون به فساد الصوم كما أن القبلة ذريعة إلى الجماع المفسد للصوم. يقول فإذا كان أحد الأمرين منهما غير مفطر للصائم فالآخر بمثابته. ومن باب من أصبح جنباً في شهر رمضنان قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك (ح) وحدثنا عبد الله بن محمد بن إسحاق الأذرمي حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن مالك عن عبد ربه بن سعيد، عَن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن عائشة وأم سلمة زوحي النبي صلى الله عليه وسلم قالتا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبح جنباً. قال عبد الله الأذرمي في حديثه في رمضان من جماع غير احتلام ثم يصوم.

قال أبو داود ما أقل من يقول هذه الكلمة، يَعني يصبح جنبا في رمضان وإنما الحديث أنه كان يصبح جنبا ًوهو صائم. قلت قد أجمع عامة العلماء على أنه إذا أصبح جنبا في رمضان فإنه يتم صومه ويجزئه غير أن إبراهيم النخعي فرق بين أن يكون ذلك منه في الفرض وبين أن يكون في التطوع فقال يجزئه في التطوع ويقضي في الفريضة. وهذه اللفظة التي زادها الأذرمي إن ثبتت فهي حجة عليه من جهة النص وإلا فسائر الأخبار حجة عليه من جهة العموم وكان أبوهريرة يفتي بأن من أصبح جنبا فلا صوم له وكان يرويه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما بلغه حديث عائشة وأم سلمة قال هما أعلم بذلك إنما أخبرنيه الفضل بن العباس عن النبي صلى الله عليه وسلم فتكلم الناس في معنى ذلك فأحسن ما سمعت في تأويل ما رواه أبو هريرة في هذا أن يكون ذلك محمولا على النسخ وذلك أن الجماع كان في أول الإسلام محرما على الصائم في الليل بعد النوم كالطعام والشراب، فلما أباح الله الجماع إلى طلوع الفجر جاز للجنب إذا أصبح قبل أن يغتسل أن يصوم ذلك اليوم لارتفاع الخطر المتقدم فيكون تأويل قول من أصبح جنبا فلا يصوم أي من جامع في الصوم بعد النوم فلا يجزئه صوم غده لأنه لا يصبح جنبا إلاّ وله أن يطأ قبل الفجر بطرفة عين فكان أبو هريرة يفتي بما سمعه من الفضل بن العباس على الأمرالأول ولم يعلم بالنسخ فلما سمع خبر عائشة وأم سلمة صار إليه. وقد روي عن ابن المسيب أنه قال رجع أبو هريرة عن فتياه فيمن أصبح جنبا أنه لا يصوم. قلت وقد يتأول ذلك أيضاً على وجه آخر من حيث لا يقع فيه النسخ وهو أن يكون معناه من أصبح مجامعا فلا صوم له والشيء قد يسمى بسم غيره إذا

ومن باب كفارة من أتى أهله في شهر رمضان

كان مآله في العاقبة إليه. ومن باب كفارة من أتى أهله في شهر رمضان قال أبو داود: حدثنا مسدد ومحمد بن عيسى المعنى قالا: حَدَّثنا سفيان بن عيينة قال مسدد عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن، عَن أبي هريرة قال أتي رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال هلكت، فقال ما شأنك قال وقعت على امرأتي في رمضان، قال فهل تجد ما تعتق رقبة قال لا، قال فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين قال لا، قال فهل تستطيع أن تطعم ستين مسكينا قال لا، قال اجلس فأتى النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيه تمر قال تصدق به، فقال يا رسول الله ما بين لابتيها أهل بيت أفقر منا قال فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت ثناياه قال فأطعمه إياهم. قال أبو داود: حدثنا جعفر بن مسافر التنيسي حدثنا ابن أبي فديك حدثنا هشام بن سعد عن ابن شهاب، عَن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عَن أبي هريرة بهذا الحديث وقال فأتى بعَرق قدر خمسة عشر صاعا وقال فيه كله أنت وأهل بيتك وصم يوما واستغفر الله. قلت في هذا الحديث من الفقه أن على المجامع متعمدا في نهار شهر رمضان القضاء والكفارة وهو قول عوام أهل العلم غير سعيد بن جبير وإبراهيم النخعي وقتادة فإنهم قالوا عليه القضاء ولا كفارة. ويشبه أن يكون حديث أبي هريرة لم يبلغهم. وفيه أنه من قدر على عتق الرقبة لم يجزئه الصيام ولا الإطعام لأن البيان خرج فيه مرتبا فقدم العتق ثم نسق عليه الصيام ثم الإطعام كما رأيت ذلك في كفارة الظهار وهو قول أكثر العلماء إلا أن مالك بن أنس زعم أنه مخير بين عتق الرقبة وصوم شهرين والإطعام.

وحكي عنه أنه قال الإطعام أحب إلي من العتق. وفيه دلالة من جهة الظاهر أن كفارة الإطعام مد واحد لكل مسكين لأن خمسة عشر صاعا إذا قسمت بين ستين لم يخص كل واحد منهم أكثر من مد وإلى هذا ذهب مالك والشافعي. وقال أصحاب الرأي يطعم كل مسكين نصف صاع. وفي قوله وصم يوماً واستغفر الله بيان أن صوم ذلك اليوم الذي هو القضاء لا يدخل في صيام الشهرين الذي هو الكفارة وهو مذهب عامة أهل العلم غير الأوزاعي فإنه قال يدخل صوم ذلك اليوم في صيام الشهرين قال فإن كفر بالعتق أو بالإطعام صام يوما مكانه. قلت وفي أمره الرجل بالكفارة لما كان منه من الجنابة دليل على أن على المرأة كفارة مثلها لأن الشريعة قد سوت بين الناس في الأحكام إلاّ في مواضع قام عليه دليل التخصيص وإذا لزمها القضاء لأنها أفطرت بجماع متعمد كما وجب على الرجل وجبت عليها الكفارة لهذه العلة كالرجل سواء وهذا مذهب أكثر العلماء. وقال الشافعي يجزيهما كفارة واحدة وهي على الرجل دونها. وكذلك قال الأوزاعي إلاّ أنه قال إن كانت الكفارة بالصيام كان على كل واحد منهما صوم شهرين. واحتجوا لهذا القول بأن قول الرجل أصبت أهلي سؤال عن حكمه وحكمها لأن الإصابة معناها أنه واقعها وجامعها، وإذا كان هذا الفعل قد حصل منه ومنها معاً ثم أجاب النبي صلى الله عليه وسلم عن المسألة فأوجب فيها كفارة واحدة على الرجل ولم يعرض لها بذكر دل أنه لا شيء عليها وأنها مجزئة في الأمرين معاً ألا ترى أنه بعث اُنيساً إلى المرأة التي رميت بالزنا وقال إن اعترفت فارجمها فلم يهمل حكمها لغيبتها عن حضرته فدل هذا على أنه لورأى عليها كفارة لألزمها ذلك

ولم يسكت عنها. قلت وهذا غير لازم وذلك أن هذا حكاية حال لا عموم لها، وقد يمكن أن تكون المرأة مفطرة بعذر من مرض أو سفر أو تكون مكرهة أو ناسية لصومها أو نحو ذلك من الأمور، وإذا كان كذلك لم يكن ما ذكروه حجة يلزم الحكم بها. واحتجوا أيضاً في هذا بحرف لا أزال أسمعهم يروونه في هذا الحديث وهو قوله هلكت وأهلكت، قالوا فدل قوله وأهلكت على مشاركة المرأة إياه في الجنابة لأن الإهلاك يقتضي الهلاك ضرورة كما القطع يقتضي الانقطاع. قلت وهذه اللفظة غير موجودة في شيء من رواية هذا الحديث، وأصحاب سفيان لم يرووها عنه، وإنما ذكروا قوله هلكت حسب. غير أن بعض أصحابنا حدثني أن المعلى بن منصور روى هذا الحديث عن سفيان فذكر هذا الحرف فيه وهو غير محفوظ والمعلى ليس بذاك في الحفظ والاتقان، وفي هذه القصة من رواية عائشة لفظة تدل على صحة ما ذهبنا إليه وقد ذكرها أبو داود في هذا الباب. قال أبو داود: حدثنا سليمان بن داود المهري أخبرنا ابن وهب أخبرنى عمرو بن الحارث أن عبد الرحمن بن القاسم حدثه أن محمد بن جعفر بن الزبير حدثه أن عباد بن عبد الله بن الزبير حدثه أنه سمع عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تقول أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد في رمضان فقال يا رسول الله احترقت فسأله النبي صلى الله عليه وسلم ما شأنك قال أصبت أهلي قال تصدق، قال والله ما لي شيء وما أقدر عليه، قال اجلس فجلس فبينما هو على ذلك إذ أقبل رجل يسوق حماراً عليه طعام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أين المحترق آنفاً فقام الرجل فقال رسول صلى الله عليه وسلم تصدق بهذا

فقال يا رسول الله أعلى غيرنا فوالله إنا لجياع ما لنا شيء قال كلوه. قلت قوله احترقت يدل على أنه المحترق بالجنابة دون غيره وهذا بإزاء قوله هلكت في حديث أبي هريرة. وقد اختلف الناس في تأويل قوله كله وأطعمه أهلك فقال الزهري هذا خاص لذلك الرجل ولو أن رجلاً فعل ذلك اليوم لم يكن له بد من التكفير. قلت وهذا من الزهري دعوى لم يحضر عليها برهاناً ولا ذكر فيها شاهداً، وقال غيره هذا منسوخ ولم يذكر في نسخه خبراً يعلم به صحة قوله وأحسن ما سمعت فيه قول أبي يعقوب البويطي، وذلك أنه قال رجل وجبت عليه الرقبة فلم يكن عنده ما يشتري به رقبة فقيل له صم فلم يطق الصوم فقيل له اطعم ستين مسكينا فلم يجد ما يطعم فأمر له النبي صلى الله عليه وسلم بطعام ليتصدق به فأخبر أنه ليس بالمدينة أحوج منه وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى فلم ير له أن يتصدق على غيره ويترك عياله فلما نقص من ذلك بقدر ما أطعم أهله لقوت يومهم صار طعاما لايكفي ستين مسكيناً فسقطت عنه الكفارة في ذلك الوقت فكانت في ذمته إلى أن يجدها وصار كالمفلس يمهل ويؤجل وليس في الحديث أنه قال لا كفارة عليك. وقد ذهب بعضهم إلى أن الكفارة لا تلزم الفقير واحتج بظاهر الحديث. وأما العَرَق فهو المكتل وأصله السفيفة تنسج من الخوص قبل أن يجعل منها زنبيل فسمي الزنبيل عرقاً لذلك قاله أبوعييد وغيره. وقوله ما بين لابتيها يريد حرتي المدينة واحدة لابة وجمعها لوب. قلت وظاهر هذا الحديث يدل على أن قدر خمسة عشر صاعاً كاف للكفارة

ومن باب من أكل وشرب ناسيا

عن شخص واحد لكل مسكين مد، وقد جعله الشافعي أصلا لمذهبه في أكثر المواضع التي يجب فيها الإطعام إلاّ أنه قد روي في خبر سلمة بن صخر وأوس بن الصامت في كفارة الظهار أنه قال في أحدهما أطعم ستين مسكيناً وسقا ًوالوسق ستون صاعا، وفي الخبر الآخر أنه أتي بعرق. وفسره محمد بن إسحاق بن يسار في روايته ثلاثين صاعا، وإسناد الحديثين لا بأس به وإن كان حديث أبي هريرة أشهر رجالا فالاحتياط أن لا يقتصر على المد الواحد لأن من الجائز أن يكون العرق الذي أتي به النبي صلى الله عليه وسلم المقدر بخمسة عشر صاعا قاصرا في الحكم عن مبلغ تمام الواجب عليه مع أمره إياه أن يتصدق به ويكون تمام الكفارة باقيا عليه إلى أن يؤديه عند اتساعه لوجوده كمن يكون عليه لرجل ستون درهماً فيأتيه بخمسة عشر درهما فيقال لصاحب الحق خذه ولا يكون في ذلك إسقاط ما وراءه من حقه ولا براءة ذمته منه. ومن باب من أكل وشرب ناسيا قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن أيوب وحبيب وهشام عن محمد بن سيرين، عَن أبي هريرة قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أكلت وشربت ناسياً وأنا صائم قال الله أطعمك وسقاك. قوله الله أطعمك وسقاك فيه دليل على أن لا قضاء على المفطر ناسياً وذلك أن النسيان من باب الضرورة والضرورات من فعل الله سبحانه ليست من فعل العباد ولذلك أضاف الفعل إلى الله سبحانه وتعالى. وإلى إسقاط القضاء والكفارة عن الناس ذهب عامة أهل العلم غير مالك بن أنس وربيعة بن أبي عبد الرحمن. فأما إذا وطئ زوجته ناسيا في نهار الصوم

ومن باب تأخير قضاء رمضان

فقد اختلف العلماء في ذلك فقال الثوري وأصحاب الرأي والشافعي وإسحاق مثل قولهم فيمن أكل أو شرب ناسياً، وإليه ذهب الحسن ومجاهد، وقال عطاء والأوزاعي ومالك والليث بن سعد عليه القضاء، وقال أحمد عليه القضاء والكفارة واحتج بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسأل الذي وقع على أهله أنسيت أم عمدت. قلت معناه في هذا اقتضاء العموم من الفعل. والعموم إنما يقتضي من القول دون الفعل. وإنما جاء الحديث بذكر حال وحكاية فعل فلا يجوز وقوعه على العمد والنسيان معاً فبطل أن يكون له عموم. ومن مذهب أبي عبد الله أنه إذا أكل ناسيا لم يفسد صومه لأن الأكل لم يحصل منه على وجه المعصية فكذلك إذا جامع ناسيا. فأما المتعمد لذلك فقد حصل منه الفعل على وجه المعصية فلذلك وجبت عليه الكفارة. ومن باب تأخير قضاء رمضان قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي عن مالك عن يحيى بن سعيد، عَن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه سمع عائشة تقول إن كان ليكون عليّ تعني الصوم من رمضان فما استطيع أن أقضيه حتى يأتي شعبان. قولها فما استطيع أن أقضيه إنما هولاشتغالها بقضاء حق رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوفير الحظ في عشرته. وفيه دلالة على أن من أخر القضاء إلى أن يدخل شهر رمضان من قابل وهو مستطيع له غير عاجز عنه فإن عليه الكفارة ولولا ذلك لم يكن في ذكرها شعبان وحصرها موضع القضاء فيه فائدة من بين سائر الشهور.

ومن باب من مات وعليه صيام

وممن ذهب إلى إيجاب الكفارة على من أخر القضاء إلى أن يدركه شهر رمضان من قابل أبو هريرة وابن عباس وهو قول عطاء والقاسم بن محمد والزهري. وإليه ذهب مالك وسفيان الثوري والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وقال الحسن والنخعي يقضي وليس عليه فدية، وإليه ذهب أصحاب الرأي. وقال سعيد بن جبير وقتادة يطعم ولا يقضي. ومن باب من مات وعليه صيام قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن عبيد الله بن أبي جعفر عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من مات وعليه صيام صام عنه وليه. قلت هذا فيمن لزمه فرض الصوم إما نذراً وإما قضاء عن رمضان فائت مثل أن يكون مسافراً فيقدم وأمكنه القضاء ففرط فيه حتى مات أو يكون مريضاً فيبرأ ولا يقضي. وإلى ظاهر هذا الحديث ذهب أحمد وإسحاق وقالا يصوم عنه وليه، وهو قول أهل الظاهر. وتأوله بعض أهل العلم فقال معناه أن يطعم عنه وليه فإذا فعل ذلك فكأنه قد صام عنه وسمي الإطعام صياما على سبيل المجاز والاتساع إذ كان الطعام قد ينوب عنه، وقد قال سبحانه {أو عدل ذلك صياما} [المائدة: 95] فدل على أنهما يتناوبان. وذهب مالك والشافعي إلى أنه لا يجوز صيام أحد عن أحد وهو قول أصحاب الرأي وقاسوه على الصلاة ونظائرها من أعمال البدن التي لا مدخل للمال فيها واتفق عامة أهل العلم على أنه إذا أفطر في المرض أو السفر ثم لم يفرط في القضاء

ومن باب الصوم في السفر

حتى مات فإنه لا شيء عليه ولا يجب الإطعام عنه. غير قتادة فإنه قال يطعم عنه وقد حكي ذلك أيضاً عن طاوس. ومن باب الصوم في السفر قال أبو داود: حدثنا سليمان بن حرب ومسدد قالا: حَدَّثنا حماد عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن حمزة الأسلمي قال يا رسول الله إني رجل أسرد الصوم أفأصوم في السفر قال صم إن شئت وافطر إن شئت. قلت هذا نص في إثبات الخيار في السفر بين الصوم والإفطار. وفيه بيان جواز صوم الفرض للمسافر إذا صامه، وهو قول عامة أهل العلم إلاّ ما روي عن ابن عمر أنه قال: إن صام في السفر قضى في الحضر. وقد روي عن ابن عباس أنه قال لا يجزئه، وذهب إلى هذا من المتأخرين داود بن علي، ثم اختلف أهل العلم بعد هذا في فضل الأمرين منهما. فقالت طائفة أفضل الأمرين الفطر، وإليه ذهب ابن المسيب والشعبي والأوزاعي وأحمد بن حنبل واسحاق بن راهويه. وقال أنس بن مالك وعثمان بن أبي العاص أفضل الأمرين الصوم في السفر وبه قال التخعي وسعيد بن جبير وهو قول مالك والثوري والشافعي وأصحاب الرأي. وقالت فرقة ثالثة أفضل الأمرين أيسرهما على المرء لقوله عز وجل {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بك العسر} [البقرة: 185] فإن كان الصوم عليه أيسر صامه وإن كان الفطر أيسر فليفطر وإليه ذهب مجاهد وعمر بن عبد العزيز وقتادة. قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح ووهب بن بيان المعنى قالا: حَدَّثنا ابن وهب حدثني معاوية بن صالح عن ربيعة بن يزيد أنه حدثه عن قزعة قال أتيت أبا سعيد

ومن باب اختيار الفطر

الخدري وهو مكثور عليه فانتظرت خلوته فلما خلا سألته عن صيام رمضان في السفر فقال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان عام الفتح فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم ونصوم حتى بلغ منزلاً من المنازل فقال إنكم قد دنوتم من عدوكم والفطر أقوى لكم فأصبحنا منا الصائم ومبنا المفطر قال ثم سرنا فنزنا منزلاً فقال إنكم تُصبحون عدوكم والفطر أقوى لكم فافطروا فكانت عزيمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال أبو سعيد لقد رأيتني أصوم مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك وبعد ذلك. قلت وزعم بعض أهل العلم أنه اذا أنشأ السفر في رمضان لم يجز له أن يفطر واحتج بقوله تعالى {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} [البقرة: 185] وفي هذا الحديث دلالة على غلط هذا القائل، ومعنى الآية شهود الشهر كله. وهم شهد بعضه ولم يشهد كله فإنه لم يشهد الشهر. ومن باب اختيار الفطر قال أبو داود: حدثنا أبو الوليد الطيالسى حدثنا شعبة عن محمد بن عبد الرحمن، يَعني ابن سعد بن زرارة عن محمد بن عمرو بن الحسن عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يُظَلل عليه والزحام عليه قال ليس البر الصيام في السفر. قلت هذا كلام خرج على سبب فهو مقصور على من كان في مثل حاله كأنه قال ليس من البر أن يصوم المسافر إذا كان الصوم يؤديه إلى مثل هذه الحال بدليل صيام النبي صلى الله عليه وسلم في سفره عام الفتح وبدليل خبر حمزة الأسلمي وتخييره بين الصوم والإفطار ولو لم يكن الصوم براً لم يخيره فيه والله أعلم. قال أبو داود: حدثنا شيبان بن فروخ حدثنا أبو هلال الراسبي حدثنبا ابن سوادة

ومن باب متى يفطر الصانم إذا خرج

القشيري عن أنس بن مالك رجل من بني عبد الله بن كعب إخوة بني قشير قال أغارت علي خيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال فانتهيت أو قال فانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يأكل فقال اجلس فأصب من طعامنا هذا، قلت إني صائم فقال اجلس احدثك عن الصلاة وعن الصيام إن الله وضع شطر الصلاة أو نصف الصلاة والصوم عن المسافر وعن المرضع والحبلى والله لقد قالهما جميعا أو أحدهما فلهف نفسي أن لا أكون أكلت من طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم. قلت قد يجسع نظم الكلام أشياء ذات عدد منسوقة في الذكر مفترقة في الحكم وذلك أن الشطر الموضوع من الصلاة يسقط لا إلى قضاء والصوم يسقط في السفر ترخيصا للمسافر ثم يلزمه القضاء إذا أقام. والحامل والمرضع تفطران إبقاء على الولد ثم تقضيان وتطعمان من أجل أن إفطارهما كان من أجل غير أنفسهما. وممن أوجب على الحامل والمرضع مع القضاء الإطعام مجاهد والشافعي وأحمد وقال مالك الحبلى تقضي ولا تكفر لأنها بمنزلة المريض والمرضع تقضي وتكفر وقال الحسن وعطاء تقضيان ولا تطعمان كالمريض وهو قول الأوزاعي والثوري وإليه ذهب أصحاب الرأي. ومن باب متى يفطر الصانم إذا خرج قال أبو داود: حدثنا جعفر بن مسافر حدثنا عبد الله بن يحيى حدثني سعيد بن أبي أيوب والليث بن سعد حدثني يزيد بن أبي حبيب أن كليب بن ذُهل الحضرمي أخبره عن عبيد بن جبر قال كنت مع أبي بصرة الغفاري صاحب النبي صلى الله عليه وسلم في سفينة من الفسطاط في رمضان فرفع ثم قرب غداءه فلم يجاوز البيوت حتى دعا بالسفرة قال اقترب قلت ألست ترى البيوت، قال أبو بصرة

ومن باب مسيرة ما يفطر فيه

أترغب عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكل. قلت فيه حجة لمن رأى للمقيم الصائم إذا سافر من يومه أن يفطر وهوقول الشعبي وإليه ذهب أحمد بن حنبل. وعن الحسن أنه قال يفطر إن شاء في بيته يوم يريد أن يخرج. وقال إسحاق بن راهويه إذا وضع رجله في الرحل فله أن يفطر، وحكاه عن أنس بن مالك وشبهوه بمن أصبح صائما ثم مرض في يومه فان له أن يفطر من أجل المرض قالوا وكذلك من أصبح صائما ثم سافر لأن كل واحد من الأمرين سبب للرخصة حدث بعد مضي شيء من النهار. قلت السفر لا يشبه المرض لأن السفر من فعله وهو الذي ينشئه باختياره والمرض شيء يحدث عليه لا باختياره فهو يعذر فيه ولا يعذر في السفر الذي هو فعل نفسه ولوكان في الصلاة فمرض كان له أن يصلي قاعداً ولو سافر وهو مصل لم يكن له أن يقصر. وقال أصحاب الرأي لا يفطر إذا سافر يومه ذلك وهو قول مالك والأوزاعي والشافعي وروي ذلك عن النخعي ومكحول والزهري. قلت وهذا أحوط الأمرين والإقامة إذا اختلط حكمها بحكم السفر غلب حكم المقام. ومن باب مسيرة ما يفطر فيه قال أبو داود: حدثنا عيسى بن حماد أخبرنا الليث، يَعني ابن سعد عن يزيد بن أبي حبيب، عَن أبي الخير عن منصور الكلبي أن دحية بن خليفة خرج من قريته من دمشق إلى قدر قرية عقبة من الفسطاط وذلك ثلاثة أميال في رمضان ثم إنه أفطر وأفطر معه أناس وكره آخرون أن يفطروا فلما رجع إلى قريته قال

ومن باب صوم يوم الفطر والنحر

والله لقد رأيت اليوم أمراً ما كنت أظن أني أراه إن قوما رغبوا عن هدى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يقول ذلك للذين صاموا ثم قال عند ذلك اللهم اقبضني إليك. قلت في هذا حجة لمن لم يحد السفر الذي يترخص فيه الافطار بحد معلوم ولكن يراعي الاسم ويعتمد الظاهر واحسبه قول داود وأهل الظاهر. فأما الفقهاء فإنهم لا يرون الإفطار إلاّ في السفر الذي يجوز فيه القصر وهو عند أهل العراق ثلاثة أيام وعند أهل الحجاز ليلتان أو نحوهما وليس الحديث بالقوي وفي إسناده رجل ليس بالمشهور، ثم أن دحية لم يذكر فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفطر في قصير السفر إنما قال إن قوما رغبوا عن هدى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولعلهم إنما رغبوا عن قبول الرخصة في الافطار أصلا. وقد يحتمل أن يكون دحية إنما صار في ذلك إلى ظاهر اسم السفر، وقد خالفه غير واحد من الصحابة فكان ابن عمر وابن عباس لا يريان القصر والإفطار في أقل من أربعةُ برد وهما أفقه من دحية وأعلم بالسنة. ومن باب صوم يوم الفطر والنحر قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد وزهير بن حرب وهذا حديثه قالا: حَدَّثنا سفيان عن الزهري، عَن أبي عبيدة قال شهدت العيد مع عمر رضي الله عنه فبدأ بالصلاة قبل الخطبة ثم قال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام هذين اليومين أما يوم الأضحى فتأكلون من لحم نسككم، وأما يوم الفطر ففطركم من صيامكم. قوله أما يوم الفطر ففطركم من صيامكم يدل على أنه من نذر صوم ذلك اليوم لم يلزمه صيامه ولا قضاؤه لأن هذا كالتعليل لوجوب الإفطار فيه،

ومن باب صيام أيام التشريق

وقد وسم هذا اليوم بيوم الفطر والفطر مضاد للصوم ففى إجازة صومه إبطال لمعنى اسمه. وقد ذهب عامة أهل العلم إلى أن الصيام لا يجوز في هذين اليومين غير أن أهل العراق ذهبوا إلى أنه لو نذر صومهما لزمه قضاؤه والنذر إنما يلزم في الطاعة دون المعصية وصيام هذين اليومين معصية لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عنه فالنذر لا ينعقد فيه ولا يصح كما لا يصح من الحائض لو نذرت أن تصوم أيام حيضها. ومن باب صيام أيام التشريق قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي حدثنا وهيب حدثنا موسى بن علي (ح) وحدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا وكيع عن موسى بن علي والأخبار في حديث وهب، قال سمعت أبي أنه سمع عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الاسلام وهي أيام أكل وشرب. قلت وهذا أيضاً كالتعليل في وجوب الإفطار فيها وأنها مستحقة لهذا المعنى فلا يجوز صيامها ابتداء تطوعا ولانذرا ولا عن صوم التمتع إذا لم يكن المتمتع صام الثلاثة الأيام في العشر وهو قول على رضي الله عنه والحسن وعطاء وغالب مذهب الشافعي. وقال مالك والأوزاعي وإسحاق يصوم المتمتع أيام التشريق إذا فاتته الثلاث في العشر وروى ذلك عن ابن عمر وعائشة وعروة بن الزبير رضي الله عنهم. ومن باب صوم تطوع الدهر قال أبو داود: حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد عن غيلان بن جرير عن عبد الله بن معبد الزماني عن أبى قتادة أن رجلا أتي النبي صلى الله عليه وسلم فقال

يا رسول الله كيف تصوم فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله فلما رأى ذلك عمر رضي الله عنه قال رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا نعوذ بالله من غضب الله وغضب رسول فلم يزل عمر يرددها حتى سكن من غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله كيف بمن يصوم الدهر كله قال لا صام ولا أفطر، قال يا رسول الله كيف بمن يصوم يومين ويفطر يوما قال أو يطيق ذلك أحد، قال يا رسول الله كيف بمن يصوم يوما ويفطر يوما قال ذاك صيام داود، قال يا رسول الله فكيف بمن يصوم يوما ويفطر يومين قال وددت أنى أطقت ذلك تم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث من كل شهر ورمضان إلى رمضان فهذا صيام الدهر كله. قلت يشبه أن يكون غضب النبي صلى الله عليه وسلم من مسألته إياه عن صومه كراهة أن يقتدي به السائل في صومه فيتكلفه ثم يعجز عنه فعلا أو يسأمه ويمله بقلبه فيكون صياما عن غير نية وإخلاص وقد كان صلى الله عليه وسلم يواصل وهو محرَّم على أمته وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يترك بعض النوافل خوفا من أن يفرض على أمته إذا فعلوه اقتداء به كما ترك القيام في شهر رمضان بعد أن قام بهم ليلة أو ليلتين ثم لم يخرح إليهم وقال لهم إنه لم يخف علي مكانكم ولكني خفت أن يكتب عليكم ثم لا تقومون أو كما قال. وقوله لا صام ولا أفطر معناه لم يصم ولم يفطر؛ وقد يوضع لا بمعنى لم كقوله تعالى {فلا صدق ولا صلى} [القيامة: 31] أي لم يصدق ولم يصلي وقد يحتمل أن يكون معناه الدعاء

ومن باب صوم أشهر الحرم

عليه كراهة لصنعه وزجرا له عن ذلك ويشبه أن يكون الذي نهى عنه من صوم الدهر هو أن يسرد الصيام أيام السنة كلها لا يفطر فيها الأيام المنهي عن صيامها وقد سرد الصوم دهره أبو طلحة الأنصاري وكان لا يفطر في سفر ولا حضر فلم يعبه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نهاه عن ذلك. وقوله وددت أني أطقت ذلك يحتمل أن يكون إنما خاف العجز عى ذلك للحقوق التى تلزمه لنسائه لأن ذلك يخل بحظوظهن منه لا لضعف جبلته عى احتمال الصيام أو قلة صبره عن الطعام في هذه المدة والله أعلم. ومن باب صوم أشهر الحرم قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن سعيد الجريري، عَن أبي السليل عن مُجيبة الباهلية عن أبيها أوعمها أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم انطلق فأتاه بعد سنة وقد تغيرت حاله وهيئته فقال يا رسول الله أما تعرفني قال ومن أنت قال أنا الباهلي الذي جئتك عام الأول، قال فما غيرك وقد كنت حسن الهيئة، قال ما أكلت طعاما منذ فارقتك إلاّ بليل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لم عذبت نفسك، ثم قال صم شهر الصبر ويوما من كل شهر، قال زدني فإن بي قوة، قال صم يومين، قال زدني قال صم ثلاثة أيام، قال زدني قال صم من الحُرم وأترك، صم من الحرم وأترك، صم من الحرم وأترك. وقال بأصابعه الثلاثة فضمها ثم أرسلها. قلت شهر الصبر هو شهر رمضان، وأصل الصبر الحبس فسمي الصيام صبرا لما فيه من حبس النفس عن الطعام ومنعها عن وطء النساء وغشيانهن في نهار الشهر. وقوله صم من الحرم فإن الحرم أربعة أشهر وهي التي ذكرها الله في كتابه

ومن باب صوم يوم عرفة

فقال {إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم} [التوبة: 36] وهي شهر رجب وذي القعدة وذي الحجة والمحرم، وقيل لأعرابي يتفقه كم الأشهر الحرم قال أربعة ثلاثة سرد وواحد فرد. ومن باب صوم يوم عرفة قال أبو داود: حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حوشب بن عقيل عن مهدي الهجري حدثنا عكرمة قال كنا عند أبي هريرة في بيته فحدثنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم يوم عرفة. قلت هذا نهي استحباب لا نهي إيجاب، وإنما نهى المحرم عن ذلك خوفا عليه أن يضعف عن الدعاء والابتهال في ذلك المقام، فأما من وجد قوة ولا يخاف معها ضعفا فصوم ذلك اليوم أفضل له إن شاء الله، وقد قال صلى الله عليه وسلم صيام يوم عرفة يكفر سنتين سنة قبلها وسنة بعدها. وقد اختلف الناس في صيام الحاج يوم عرفة فروي عن عثمان بن أبي العاص وابن الزبير أنهما كانا يصومانه وقال أحمد بن حنبل إن قدر على أن يصوم صام وإن أفطر فذلك يوم يحتاج فيه إلى قوة. وكان إسحاق يستحب صومه للحاج وكان عطاء يقول أصوم في الشتاء ولا أصوم في الصيف، وكان مالك وسفيان يختاران الإفطار للحاج، وكذلك الشافعي وروي عن ابن عمر أنه قال لم يصمه النبي صلى الله عليه وسلم ولا أبوبكر ولا عمر ولا عثمان ولا أصومه أنا. ومن باب صوم عاشوراء ومن قال هو اليوم التاسع قال أبو داود: حدثنا سليمان بن داود المهري أخبرنا ابن وهب أخبرني يحيى بن أيوب أن إسماعيل بن أمية حدثه أنه سمع أبا غطفان يقول سمعت عبد الله

ومن باب فضل صيامه

بن عباس يقول حين صام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء وأمر بصيامه قالوا يا رسول الله أنه يوم تعظمه اليهود والنصارى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا كان العام المقبل صمنا يوم التاسع فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم. قلت هذا من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتمل وجهين أحدهما أن يكون أراد بذلك مخالفة اليهود وقد روي ذلك في بعض الحديث والوجه الآخر أن يكون قد أثبت عاشوراء على ما كانوا يثبتونه من الوقت ووصله بيوم قبله كأنه كره أن يصوم يوما فردا لا يوصل بصيام قبله ولا بعده كما نهى أن يصام يوم الجمعة لا يوصل بالخميس ولا بالسبت. وفيه وجه آخر وهو أن بعض أهل اللغة زعم أن اسم عاشوراء مأخوذ من أعشار أوراد الإبل والعشر عندهم تسعة أيام وذلك أنهم كانوا يحسبون في الإظماء يوم الورود فإذا وردوا يوما وأقاموا في الرعي يومين ثم أوردوا اليوم الثالث قالوا وردنا أربعا وإنما هو اليوم الثالث في الإظماء وإذا أقاموا في الرعي ثلاثا ووردوا اليوم الرابع قالوا وردنا خمسا وعلى هذا الحساب فعاشوراء على هذا القياس إنما هو اليوم اتاسع. وكان ابن عباس يقول يوم عاشوراء هو اليوم التاسع حدثناه ابن السماك حدثنا إبراهيم بن الوليد الحشاش حدثنا أبو سلمة حدثنا حماد عن علي بن زيد عن عمار بن أبي عمار عن ابن عباس. ومن باب فضل صيامه قال أبو داود: حدثنا محمد بن المنهال حدثنا يزيد حدثنا سعيد عن قتادة عن عبد الرحمن بن مسلمة عن عمه ان أسلم أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقال صمتم يومكم قالوا لا قال فأتموا يومكم واقضوه.

ومن باب النية في الصيام

قلت هذا منه صلى الله عليه وسلم استحباب وليس بايجاب وذلك أن لأوقات الطاعات أذمة ترعى ولا تهمل فأحب النبي صلى الله عليه وسلم أن يرشدهم إلى ما فيه الفضل والحظ لئلا يغفلوه عند مصادفتهم وقته، وقد صار هذا أصلا في مذاهب العلماء في مواضع مخصوصة. قال أصحاب الرأي إذا قدم المسافر في بعض نهار الصوم أمسك عن الأكل بقية يومه. وقال الشافعي فيمن لا يجد ماء ولا ترابا أو كان محبوسا في حش أو مصلوبا على خشبة أنه يصلي على حسب ما يمكنه مراعاة لحرمة الوقت وعليه الإعادة إذا قدر على الطهارة والصلاة. قلت وقد يحتج أصحاب الرأي بهذا الحديث في جواز تأخير نية صيام الفرض عن أول وقته إلاّ أن قوله صلى الله عليه وسلم واقضوه يفسد هذا الاستدلال. ومن باب النية في الصيام قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عبد الله بن وهب حدثني ابن لهيعة ويحيى بن أيوب عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم عن ابن شهابة عن سالم بن عبد الله عن أبيه عن حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من يُجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له. قلت معنى الإجماع أحكام النية والعزيمة، يقال أجمعت الرأي وأزمعت بمعنى واحد. وفي بيان أن تأخرت نيته للصوم عن أول وقته فإن صومه فاسد. وفيه دليل على أن تقديم نية الشهر كله في أول ليلة منه لا يجزئه عن الشهر

كله لأن صيام كل يوم من الشهر صيام منفرد بنفسه متميز عن غيره فإذا لم ينوه في الثاني قبل فجره، وفي الثالث كذلك حصل صيام ذلك اليوم صياما لم يجمع له قبل فجره فبطل وهو قول عمر بن الخطاب وعبد الله بن عمر، وإليه ذهب الحسن البصري وبه قال الشافعي وأحمد بن حنبل. وقال أصحاب الرأي إذا نوى الفرض قبل زوال الشمس أجرأه، وقالوا في صوم النذر والكفاره والقضاء إن عليه تقديم النية قبل الفجر. وقال إسحاق إذا قدم للشهر النية أول ليلة أجزأه للشهر كله وإن لم يجدد النية كل ليلة. وقد زعم بعضهم أن هذا الحديث غير مسند لأن سفيان ومعمرا قد وقفاه عنى حفصة. قلت وهذا لا يضر لأن عبد الله بن عمرو بن حزم قد أسنده وزيادات الثقات مقبولة. قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير أنا سفيان (ح) وحدثنا عثمان بن أبي شيبة أخبرنا وكيع جميعا عن طلحة بن يحيى عن عائشة بنت طلحة عن عائشة أم المؤنين قالت كان النبي إذا دخل عليَّ قال هل عندكم طعام فإذا قلنا لا قال فإني صائم زاد وكيع فدخل علينا يوما آخر فقلنا يا رسول الله اهدي لنا حَيس فحبسناه لك قال ادنيه قال طلحة فأصبح صائما وأفطر. قلت فيه نوعان من الفقه أحدهما جواز تأخير نية الصوم عن أول النهار إذا كان متطوعا به ولم يذكر في الحديث إيجاب القضاء، وكان غير واحد من الصحابة يفعل ذلك منهم ابن مسعود وحذيفة وأبو الدردراء وأبو أيوب الأنصاري وبه قال الشافعي وأحمد. وكان ابن عمر لايصوم تطوعا حتى يجمع من الليل، وقال جابر بن زيد

لا يجزئه في التطوع حتى يبيت النية، وقال مالك في صوم لا أحب أن يصوم أحد إلاّ أن يكون قد نوى الصيام من الليل. قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير بن عبد الحميد عن يزيد بن أبي زياد عن عبد الله بن الحارث عن أم هانىء قالت لما كان يوم فتح مكة جاءت فاطمة فجلست عن يسار رسول الله صلى الله عليه وسلم وأم هانىء عن يمينه قالت فجاءت الوليدة بإناء فيه شراب فناولته فشرب منه ثم ناوله أم هانىء فشربت منه فقالت يا رسول الله لقد أفطرت وكنت صائمة فقال لها كنت تقضين شيئا فقالت لا قال فلا يضرك إن كان تطوعا. قلت في هذا بيان أن القضاء غير واجب عليه إذا أفطر في تطوع وهو قول ابن عباس وإليه ذهب الشافعي وأحمد وإسحاق. وقال أصحاب الرأي يلزمه القضاء إذا أفطر، وقال مالك بن أنس إذا أفطر من غير علة يلزمه القضاء. قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب أخبرني حيوة بن شريح عن ابن الهاد عن زُميل مولى عروة عن عروة بن الزبير عن عائشة قالت اهدي لي ولحفصة طعام وكنا صائمتين فأفطرنا ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا يا رسول الله إنا أهديت لنا هدية فاشتهيناها فافطرنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا عليكما صوما مكانه يوما آخر. قلت قد جاء في هذا الحديث إيجاب القضاء إلاّ أن الحديث إسناده ضعيف وزميل مجهول، والمشهور من هذا الحديث رواية ابن جريج عن الزهري عن عروة، قال ابن جريج قلت للزهري اسمعته من عروة قال لا إنما أخبرنيه رجل

ومن باب المرأة تصوم بغير إذن زوجها

بباب عبد الملك بن مروان فيشبه أن يكون ذلك الرجل هو زميل. هذا ولو ثبت الحديث أشبه أن يكون إنما أمرهما بذلك استحبابا لأن بدل الشيء في أكثر أحكام الأصول يحل محل أصله وهو في الأصل مخير فكذلك في البدل. ومن باب المرأة تصوم بغير إذن زوجها قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن الأعمش، عَن أبي صالح، عَن أبي سعيد قال جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ونحن عنده فقالت يا رسول الله إن زوجي صفوان بن المعطل يضربني إذا صليت ويفطرني إذا صمت ولا يصلي صلاة الفجر حتى تطلع الشمس، قال وصفوان عنده قال فسأله عما قالت، فقال يا رسول الله أما قولها يضربني إذا صليت فإنها تقرأ بسورتين وقد نهيتها، قال فقال لو كانت سورة واحدة لكفت الناس. وأما قولها يفطرني فإنها تنطلق فتصوم وأنا رجل شاب ولا أصبر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ لا تصوم امرأة إلاّ بإذن زوجها، وأما قولها إني لا أصلي حتى تطلع الشمس فانا أهل بيت قد عرف لنا ذلك ولا نكاد نستيقظ حتى تطلع الشمس. قال فإذا استيقظ فصل. قلت في هذا الحديث من الفقه أن منافع المتعة والعشرة من الزوجة مملوكة للزوج في عامة الأحوال وإن حقها في نفسها محصور في وقت دون وقت. وفيه أن للزوج أن يضربها ضربا غير مبرح إذا امتنعت عليه من إيفاء الحق واجمال العشرة. وفيه دليل على أنها لو أحرمت بالحج كان له منعها وحصرها لأن حقه عليها معجل وحق الحج متراخ. وإلى هذا ذهب عطاء بن أبي رباح ولم يختلف العلماء في أن له منعها من حج التطوع.

ومن باب الاعتكاف

وقوله فإذا استيقظت فصل ثم تركه التعنيف له في ذلك أمرعجيب من لطف الله سبحانه بعباده ومن لطف نبيه ورفقه بأمته ويشبه أن يكون ذلك منه على معنى ملكة الطبع واستيلاء العادة فصار كالشيء المعجز عنه وكان صاحبه في ذلك بمنزلة من يغمى عليه فعذر فيه ولم يؤنب عليه ويحتمل أن يكون ذلك إنما كان يصيبه في بعض الأوقات دون بعض وذلك إذا لم يكن بحضرته من يوقظه ويبعثه من المنام فيتمادى به النوم حتى تطلع الشمس دون أن يكون ذلك منه في عامة الأوقات فإنه قد يبعد أن يبقى الإنسان على هذا في دائم الأوقات وليس بحضرته أحد لا يصلح هذا القدر من شأنه ولا يراعي مثل هذا من حاله ولا يجوز أن يظن به الامتناع من الصلاة في وقتها ذلك مع زوال العذر بوقوع التنبيه والإيقاظ ممن يحضره ويشاهده والله أعلم. ومن باب الاعتكاف قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل أخبرنا حماد بن ثابت، عَن أبي رافع، عَن أبي ابن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان ولم يعتكف عاما فلما كان العام المقبل اعتكف عشرين ليلة. قلت فيه من الفقه أن النوافل المعتادة تقضى إذا فاتت كما تقضى الفرائض ومن هذا قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد العصر الركعتين اللتين فاتتاه لقدوم الوفد عليه واشتغاله بهم. وفيه مستدل لمن أجاز الاعتكاف بغير صوم ينشئه له وذلك أن صومه في شهر رمضان إنما كان للشهر لأن الوقت مستحق له. وقد اختلف الناس في هذا فقال الحسن البصري إن اعتكف من غير صيام

أجزأه، وإليه ذهب الشافعي وروي عن علي وابن مسعود أنهما قالا إن شاء صام وإن شاء أفطر، وقال الأوزاعي ومالك لا اعتكاف إلاّ بصوم وهو مذهب أصحاب الرأي وروي ذلك عن ابن عمر وابن عباس وعائشة وهو قول سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير والزهري. قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا أبو معاوية ويعلى بن عبيد عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل معتكفه قالت وإنه أراد مرة أن يعتكف في العشر الأواخر من رمضان قالت فأمر ببنائه فضرب فلما رأيت ذلك أمرت ببنائي فضرب، قالت وأمر غيري من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ببنائه فضرب فلما صلى الفجر نظر إلى الأبنية فقال ما هذا آلبرَّ تردن آلبر تردن قالت فأمر ببنائه فقوض وأمربأبنيتهن فقوضت ثم أخر الاعتكاف إلى العشر الأول من، يَعني من شوال. قلت فيه من الفقه أن المعتكف يبتدىء اعتكافه أول النهار ويدخل في معتكفه بعد أن يصلي الفجر، وإليه ذهب الأوزاعي وبه قال أبو ثور. وقال مالك والشافعي وأحمد يدخل في الاعتكاف قبل غروب الشمس إذا أراد اعتكاف شهر بعينه وهو مذهب أصحاب الرأي. وفيه دليل على أن الاعتكاف إذا لم يكن نذرا كان للمعتكف أن يخرج منه أي وقت شاء، وفيه إباحة ترك عمل البر إذا كان نافلة لآفة يخاف معها حبوط الأجر.

ومن باب المعتكف يدخل البيت للحاجة

قلت وفي الحديث دليل على جواز اعتكاف النساء وعلى أنه ليس للمرأة أن تعتكف إلاّ بإذن زوجها وعلى أن للزوج أن يمنعها من ذلك بعد الإذن فيه. وقال مالك ليس له ذلك وقال الشافعي له أن يمنعها من ذلك بعد الإذن، وفيه كالدلالة على أن اعتكاف المرأة في بيتها جائز. وقد حكي جوازه، عَن أبي حنيفة؛ فأما الرجل فلم يختلفوا أن اعتكلفه في بيته غير جائز وإنما شرع الاعتكاف في المساجد. وكان حذيفة بن اليمان يقول لا يكون الاعتكاف إلاّ في المساجد الثلاثة مسجد مكة والمدينة وبيت المقدس. وقال عطاء لا يعتكف إلاّ في مسجد مكة والمدينة، وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال لا يجوز أن يعتكف إلاّ في الجامع، وكذلك قال الزهري والحكم وحماد. وقال سعيد بن جبير وأبو قلابة والنخعي يعتكف في مساجد القبائل وهو قول أصحاب الرأي وإليه ذهب مالك والشافعي. ومن باب المعتكف يدخل البيت للحاجة قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اعتكف يدني إلي رأسه فأرجله وكان لا يدخل البيت إلاّ لحاجة الإنسان. قلت فيه بيان أن المعتكف لا يدخل بيته إلاّ لغائط أو بول فإن دخله لغيرهما من طعام وشراب فسد اعتكافه. وقد اختلف الناس في ذلك فقال أبو ثور لا يخرج إلاّ لحاجة الوضوء الذي لا بد له منه. وقال إسحاق بن راهويه لا يخرج إلاّ لغائط أو بول غير أنه فرق

بين الواجب من الاعتكاف والتطوع، وقال في الواجب لا يعود مريضا ولا يشهد جنازة وفي التطوع يشترط ذلك حين يبتدىء. وقال الأوزاعي لا يكون في الاعتكاف شرط. وقال أصحاب الرأي ليس ينبغي للمعتكف أن يخرج من المسجد لحاجة ما خلا الجمعة والغائط والبول، فأما ما سوى ذلك من عيادة مريض وشهود جنازة فلا يخرج له. وقال مالك والشافعي لا يخرج المعتكف في عيادة مريض ولا شهود جنازة وهو قول عطاء ومجاهد وقالت طائفة للمعتكف أن يشهد الجمعة ويعود المريض ويشهد الجنازة روي ذلك عن علي رضي الله عنه وهو قول سعيد بن جبير والحسن البصري والنخعي. قال أبو داود: حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد عن هشام بن عروه عن أبيه عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون معتكفا في المسجد فيناولني رأسه من خلل الحجرة فأغسل رأسه. قال مسدد فارجّله وأنا حائض. قلت فيه من الفقه أن المعتكف ممنوع من الخروج من المسجد إلاّ لغائط أو بول، وفيه أن ترجيل الشعر يجوز للمعتكف وفي معناه حلق الرأس وتلقيم الأظفار وتنظيف البدن من الشعث والدرن. وفيه أن بدن الحائض طاهر غير نجس، وفيه أن من حلف لا يدخل بيتا فأدخل رأسه فيه وسائر بدنه خارج لم يحنث. قال أبو داود: حدثنا أحمد بن محمد شبّويه المروزي حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن علي بن حسين عن صفية قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معتكفا فأتيته أزوره فحدثته ثم قمت فانقلبت فقام معي ليقلبني وكان مسكنها

في دار أسامة بن زيد فمر رجلان من الأنصار فلما رأيا النبي صلى الله عليه وسلم أسرعا فقال النبي صلى الله عليه وسلم على رسلكما أنها صفية بنت حُيي قالا سبحان الله يا رسول الله، قال إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم فخشيت أن يقذف في قلوبكما شيئا أو شرا. قلت حكي لنا عن الشافعي أنه قال كان ذلك منه صلى الله عليه وسلم شفقة عليهما لأنهما لو ظنا به ظن سوء كفرا فبادر إلى إعلامهما ذلك لئلا يهلكا. قلت وفيه أنه خرج من المسجد معها ليبلغها منزلها وفي هذا حجة لمن رأى أن الاعتكاف لا يفسد إذا خرج في واجب وأنه لا يمنع المعتكف من إتيان معروف. قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي حدثنا عبد السلام بن حرب أخبرنا الليث بن أبى سليم عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة قال النفيلي قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم يعود المريض وهومعتكف فيمر كما هو فلا يعرج يسأل عنه. قال وحدثنا وهب بن بقية حدثنا خالد عن عبد الرحمن، يَعني ابن إسحاق عن الزهري عن عروة عن عائشة أنها قالت السنة على المعتكف أن لا يعود مريضا ولا يشهد جنازة ولا يمس امرأة ولا يباشرها ولا يخرج لحاجة إلاّ لما لا بد منه ولا اعتكاف إلاّ بصوم ولا اعتكاف إلاّ في مسجد جامع. قلت قولها السنة إن كانت أرادت بذلك إضافة هذه الأمور إلى النبي صلى الله عليه وسلم قولا أو فعلا فهي نصوص لا يجوز خلافها وإن كانت أرادت به الفتيا على معاني ما عقَلت من السنة فقد خالفها بعض الصحابة في بعض هذه الأمور، والصحابة إذا اختلفوا في مسألة كان سبيلها النظر، على أن أبا داود قد ذكر على أثر هذا الحديث أن غير عبد الرحمن بن إسحاق لا يقول فيه إنها قالت السنة فدل ذلك على احتمال أن يكون ما قالته فتوى منها وليس برواية عن النبي صلى الله عليه وسلم ويشبه

أن يكون أرادت بقولها لا يعود مريضا أي لا يخرج من معتكفه قاصدا عيادته وأنه لا يضيق عليه أن يمر به فيسأله غير معرج عليه كما ذكرته عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديب القاسم بن محمد. وقولها لا يمس امرأة تريد الجماع وهذا لا خلاف فيه أنه إذا جامع امرأته فقد بطل اعتكافه. وأما المباشرة فقد اختلف الناس فيها فقال عطاء والشافعي إن باشر أو قبل لم يفسد اعتكافه وإن أنزل. وقال مالك يفسده وكذلك قال أصحاب الرأي. وقولها لا اعتكاف إلاّ بصوم قد ذكرنا الاختلاف في ذلك وقولها لا اعتكاف إلاّ في مسجد جامع فقد يحتمل أن يكون معناه نفي الفضيلة والكمال وإنما يكره الاعتكاف في غير الجامع لمن نذر اعتكافا من جمعة لئلا تفوته صلاة الجمعة فأما من كان اعتكافه دون ذلك فلا بأس به والجامع وغيره سواء في ذلك والله أعلم. قال أبو داود: حدثنا أحمد بن إبراهيم حدثنا أبو داود حدثنا عبد الله بن بديل يعنى ابن ورقاء الليثي عن عمرو بن دينار عن ابن عمر أن عمر جعل عليه أن يعتكف في الجاهلية ليلة أو يوماً عند الكعبة فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال اعتكف وصم. قلت فيه من الفقه أن نذر الجاهلية إذا كان على وفاق حكم الإسلام كان معمولا به. وفيه دليل على أن من حلف في كفره ثم أسلم فحنث أن الكفارة واجبة عليه وهذا على مذهب الشافعي. وقال أبو حنيفة لا تلزمه الكفارة لأن الإسلام قد جب ما قبله.

كتاب المناسك

قلت إذا جاز إيلاؤه في حال الكفر وما كان مأخوذا بحكمه في الإسلام فكذلك سائر إيمانه. وفيه أيضاً دليل على وقوع ظهار الذمي ووجوب الكفارة عليه فيها والله أعلم. كتاب المناسك قال أبو داود: حدثنا زهير بن حرب وعثمان بن أبي شيبة المعنى قالا: حَدَّثنا يزيد بن هارون عن سفيان بن حسين عن الزهري، عَن أبي سنان عن ابن عباس أن الأقرع بن حابس سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله الحج في كل سنة أو مرة واحدة قال بل مرة واحدة فمن زاد فتطوع. قلت لا خلاف بين العلماء في أن الحج لا يتكرر وجوبه إلاّ أن هذا الإجماع إنما حصل منهم بدليل، فأما نفس اللفظ فقد كان موهما التكرار ومن أجله عرض هذا السؤال وذلك أن الحج في اللغة قصد فيه تكرار ومن ذلك قول الشاعر: يحجون سب الزِّبرقان المزعفرا يريد أنهم يقصدونه في أمورهم ويختلفون إليه في حاجاتهم مرة بعد أخرى إذ كان سيداً لهم ورئيسا فيهم وقد استدلوا بهذا المعنى في إيجاب العمرة وقالوا إذا كان الحج قصدا فيه تكرار فإن معناه لا يتحقق إلاّ بوجوب العمرة لأن القصد في الحج إنما هو مرة واحدة لا يتكرر. وفي الحديت دليل على أن المسلم إذا حج مرة ثم ارتد ثم أسلم أنه لا إعادة عليه للحج. وقد اختلف العلماء في الأمر الواحد من قبل الشارع هل يوجب التكرار أم لا على وجهين فقال بعضهم نفس الأمر يوجب التكرار وذهبوا إلى معنى

ومن باب المرأة تحج بغير محرم

اقتضاء العموم منه، وقال الآخرون لا يوجبه ويقع الخلاص منه والخروح من عهدته باستعماله مرة واحدة لأنه إذا قيل له أفعلت ما أمرت به فقال نعم كان صادقاً وإلى هذا ذهب أكثر الناس. ومن باب المرأة تحج بغير محرم قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الليث عن سعيد بن أبي سعيد عن أبيه أن أبا هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحل لامرأة مسلمة تسافر مسيرة ليلة إلاّ ومعها رجل ذو حرمة منها. قلت في هذا بيان أن المرأة لا يلزمها الحج إذا لم تجد رجلا ذا محرم يخرج معها وإلى هذا ذهب النخعي والحسن البصري وهو قول أصحاب الرأي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، وقال مالك تخرج مع جماعة من النساء. وقال الشافعي تخرج مع امرأة حرة مسلمة ثقة من النساء. قلت المرأة الحرة المسلمة الثقة التي وصفها الشافعي لا تكون رجلا ذا حرمة منها وقد حظر النبي صلى الله عليه وسلم عليها أن تسافر إلاّ ومعها رجل ذو محرم منها فإباحة الخروج لها في سفر الحج مع عدم الشريطة التي أثبتها النبي صلى الله عليه وسلم خلاف السنة فإذا كان خروجها مع غير ذي محرم معصية لم يجز إلزامها الحج وهو طاعة بأمر يؤدي إلى معصية. وعامة أصحاب الشافعي يحتجون في هذا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الاستطاعة فقال الزاد والراحلة قالوا فوجب إذا قدرت المرأة على هذه الاستطاعة أن يلزمها الحج ويتأولون خبر النهي على الأسفار التي هي متطوعة بها دون السفر الواجب.

ومن باب لا صرورة

قلت وهذا الحديث إنما رواه إبراهيم بن يزيد الخوزي عن محمد بن عباد بن جعفر عن ابن عمر. وإبراهيم الخوزى متروك الحديث، وقد روي ذلك من طريق الحسن مرسلاً والحجة عند الشافعي لا تقوم بالمراسيل. وشبهها أصحابه بالكافرة تسلم في دار الحرب في أنها تهاجر إلى دار الإسلام بلا محرم وكذلك الأسيرة المسلمة إذا تخلصت من أيدي الكفار قالوا والمعنى في ذلك أنه سفر واجب عليها فكذلك الحج. قلت ولوكانوا سواء لكان يجوز لها أن تحج وحدها ليس معها أحد من رجل ذي محرم أو امرأة ثقة فلما لم يبح لها في الحج أن تخرج وحدها إلاّ مع امرأة حرة ثقه مسلمة دل على الفرق بين الأمرين. ومن باب لا صرورة قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة أبو خالد، يَعني سليمان بن حبان الأحمر عن ابن جريج عن عمر عن عطاء عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا صرورة في الإسلام. قلت الصرورة تفسر تفسيرين أحدهما أن الصرورة هو الرجل الذي قد انقطع عن النكاح وتبتل على مذهب رهبانية النصارى ومنه قول النابغة. لو أنها عرضت لأشمطَ راهبٍ ... عبد الإله صرورةٍ متلبد والوجه الاخر أن الصرورة هو الرجل الذي لم يحج فمعناه على هذا أن سنة الدين أن لا يبقى أحد من الناس يستطيع الحج فلا يحج حتى لا يكون صرورة في الإسلام وقد يستدل به من يزعم أن الصرورة لا يجوز له أن يحج عن غيره

ومن باب الصبي يحج

وتقدير الكلام عنده أن الصرورة إذا شرع في الحج عن غيره صار الحج عنه وانقلب عن فرضه ليحصل معنى النفي فلا يكون صرورة، وهذا مذهب الأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق. وقال مالك والثوري حجه على ما نواه وإليه ذهب أصحاب الرأي، وقد روي ذلك عن الحسن البصري وعطاء والنخعي. ومن باب الصبي يحج قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا سفيان بن عيينة عن إبراهيم بن عقبة عن كريب عن ابن عباس قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالروحاء فلقي ركباً فسلم عليهم فقال من القوم فقالوا المسلمون فقالوا ومن أنتم قال: رسول الله ففزعت امرأة فأخذت بعضد صبي فأخرجته من محفَّتها فقالت يا رسول الله هل لهذا حج قال نعم ولك أجر. قلت إنما كان له من ناحية الفضيلة دون أن يكون ذلك محسوباً عن فرضه لو بقي حتى يبلغ ويدرك مدرك الرجال. وهذا كالصلاة يؤمر بها إذا أطاقها وهي غير واجبة عليه وجوب فرض ولكن يكتب له أجرها تفضيلا من الله ويكتب لمن يأمره بها ومن شده إليها أجر. فإذا كان له حج فقد علم أن من سنته أن يوقف به في المواقف ويطاف به حول البيت محمولا إن لم يطق المشي وكذلك السعي بين الصفا والمروة في نحوها من أعمال الحج. وفي معناه المجنون إذا كان مأيوساً من إفاقته. وفي ذلك دليل على أن حجه إدا فسد أو دخله نقص فإن جبرانه واجب عليه كالكبير وإن اصطاد صيدا لزمه الفداء كما يلزم الكبير.

ومن باب المواقيت

وفي وجوب هذه الغرامات عليه في ماله كما يلزمه لو أتلف مالا لإنسان فيكون غرمه في ماله أو وجوبها على وليه إذ كان هو الحامل له على الحج والنائب عنه في ذلك نظر وفيه اختلاف بين الفقهاء، وقال بعض أهل العراق لا يحج بالصبي الصغير والسنة أولى ما اتبع. ومن باب المواقيت قال أبو داود: حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد عن عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس وعن ابن طاوس عن أبيه قالا وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة ذا الحليفة ولأهل الشام الجحفة ولأهل نجد قرن وقال أحدهما ولأهل لليمن يلملم قال فهن لهم ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن كان يريد الحج والعمرة وقد كان من دون ذلك. قال ابن طاوس من حيث أنشأ قال وكذلك حتى أهل مكة يهلون منها. قلت معنى التحديد في هذه المواقيت أن لا تتعدى ولا تتجاوز إلا باستصحاب الإحرام وقد أجمعوا أنه لو أحرم دونها حتى يوافي الميقات محرماً أجزأه وليس هذا كتحديد مواقيت الصلاة فإنها إنما ضربت حداً لئلا تقدم الصلاة عليها. وفي الحديث بيان أن المدني إذا جاء من الشام على طريق الجحفة فإنه يحرم من الجحفة ويصير كأنه شامي وإذا أتى اليماني على ذى الحليفة أحرم منه وصار كأنه إنما جاء من المدينة. وفيه أن من كان منزله وراء هذه المواقيت مما يلي مكة فإنه يحرم من منزله الذي هو وطنه، وفيه أن ميقات أهل مكة في الحج خاصة مكة. والمستحب للمكي أن يحرم قبل أن يخرج إلى الصحراء إذا بلغ طرف البلد أحرم قبل أن يصحر

فأما إذا أراد العمرة فإنه لا يحرم لها من جوف مكة لكنه يخرج إلى أدنى الحل فيحرم منه ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرعبد الرحمن بن أبي بكر أن يخرج بعائشة فيعمرها من التنعيم. وفي قوله ممن كان يريد الحج والعمرة بيان أن الإحرام من هذه المواقيت إنما يجب على من كان عند مروره بها قاصدا حجا أو عمرة دون من لم يرد شيئا منهما فلو أن مدنيا مر بذي الحليفة وهولا يريد حجا ولا عمرة فسار حتى قرب من الحرم فأراد الحج أو العمرة فإنه يحرم من حيث حضرته النية ولا يجب عليه دم كما يجب على من خرج من بيته يريد الحج والعمرة فطوى الميقات وأحرم بعدما جاوزه. وذهب الأوزاعي وأحمد وإسحاق إلى أن عليه دماً إن لم يرجع إلى الميقات ودلالة الحديث توجب أن لا دم عليه. قال أبو داود: حدثنا هشام بن بهرام المدائني حدثنا المعافى بن عمران عن أفلح عن القاسم بن محمد عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لأهل العراق ذات عِرْق. قال وحدثنا أحمد بن حنبل حدثنا وكيع، حَدَّثنا سفيان عن يزيد بن أبي زياد عن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس عن ابن عباس قال وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المشرق العقيق. قلت الحديث في العقيق أثبت منه في ذات عرق والصحيح منه أن عمر بن الخطاب وقتها لأهل العراق بعد أن فتحت العراق وكان ذلك في التقدير على موازاة قرن لأهل نجد، وكان الشافعي يستحب أن يحرم أهل العراق من العقيق

ومن باب الحائض تهل بالحج

فإن أحرموا من ذات عرق أجزأهم وقد تابع الناس في ذلك عمر بن الخطاب إلى زماننا هذا. قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن أبى فديك عن عبد الله بن عبد الرحمن بن يُحَنِّس عن يحيى بن أبي سفيان الأخنس عن جدته حكيمة عن أم سلمة أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من أهل بحجة أو عمره من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر أو وجبت له الجنة شك عبد الله أيتهما قال. قلت في هذا جواز تقديم الإحرام على الميقات من المكان البعيد مع الترغيب فيه وقد فعله غير واحد من الصحابة وكره ذلك جماعة أنكر عمر بن الخطاب على عمران بن الحصين إحرامه من البصرة وكرهه الحسن البصرى وعطاء بن أبي رباح ومالك بن أنس. وقال أحمد بن حنبل وجه العمل المواقيت وكذلك قال إسحاق قلت يشبه أن يكون عمر إنما كره ذلك شفقا أن يعرض للمحرم إذا بعدت مسافته آفة تفسد إحرامه ورأى أن ذلك في قصير المسافة أسلم. ومن باب الحائض تهل بالحج قال أبو داود: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم أبو معمر حدثنا مروان بن شجاع عن خصيف عن عكرمة ومجاهد عن عطاء عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال النفساء والحائض إذا أتتا على الوقت تغتسلان وتحرمان وتقضيان المناسك كلها غير الطواف بالبيت. قلت فيه من العلم استحباب التشبه من أهل التقصير بأهل الفضل والكمال والاقتداء بأفعالهم طمعا في درك مراتبهم ورجاء لمشاركتهم في نيل المثوبة،

ومن باب الطيب عند الإحرام

ومعلوم أن اغتسال الحائض والنفساء قبل أوان الطهر لا يطهرهما ولا يخرجهما عن حكم الحدث وإنما هو لفضيلة المكان والوقت. ومن هذا الباب أمرالنبي صلى الله عليه وسلم الأسلميين أن يمسكوا بقية نهار عاشوراء عن الطعام وكذلك القادم في بعض نهار الصوم يمسك بقية نهاره في مذاهب الفقهاء. والعادم الماء والتراب والمصلوب على الخشبة والمحبوس في الحش والمكان القذر يصلون على حسب الطاقة عند بعضهم ولا يجزئهم وعليهم الإعادة عند الإمكان وهذا باب غريب من العلم. وفي أمره صلى الله عليه وسلم الحائض والنفساء بالاغتسال دليل على أن الطاهر أولى بذلك. وفيه دليل على أن المحدث إذا أحرم أجزأه إحرامه وفيه بيان أن الطواف لا يجوز إلاّ طاهرا وهو قول عامة أهل العلم إلاّ أنه قد حكي، عَن أبي حنيفة أنه قال إذا طاف جنبا وانصرف من مكة لم يلزمه الإعادة ويجبره بدم وعند الشافعي أن الطواف لا يجزئه إلاّ بما يجزىء به الصلاة من الطهارة وستر العورة فإن ترك شيئا منهما أعاد. ومن باب الطيب عند الإحرام قال أبو داود: حدثنا محمد بن الصباح البزاز حدثنا إسماعيل بن زكريا عن الحسن بن عبيد الله عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة قالت كأني أنظر إلى وبيص المسك في مفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم. قلت وبيص المسك بريقه يقال وبص الشيء وبصّ أيضاً بصيصاً إذا برق وفيه من الفقه أن للمحرم أن يتطيب قبل إحرامه بطيب يبقى أثره عليه بعد الإحرام وإن بقاءه بعد الإحرام لا يضره ولا يوجب عليه فدية وهو مذهب

ومن باب في التلبيد

أكثر الصحابة. روي عن سعد بن أبي وقاص أنه كان يفعل ذلك وأن ابن عباس رئي محرما وعلى رأسه مثل الرُب من الغالية. وقال مسلم بن صُبيح رأيت ابن الزبير وهو محرم وفي رأسه ولحيته من الطيب ما لو كان لرجل لاتخذ عنه رأس مال وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق. وقال مالك بن أنس يكره الطيب للمحرم. وقال أبو حنيفة أن تطيب بما يبقى أثره بعد الإحرام كانت عليه الفدية وشبهوه باللباس يستصحب الإحرام والحديث حجة على من كره ذلك. ومما يفرق به بين الطيب واللباس أن سبيل الطيب الاستهلاك وسبيل الثياب الاستبقاء ولذلك صار إذا حلف أن لا يتطيب وعلى بدنه طيب لا يحنث مع ترك إزالته ولو حلف لا يلبس وعليه ثياب لزمه نزعه عن نفسه وإلا حنث. ومن باب في التلبيد قال أبو داود: حدثنا سليمان بن داود المهري أخبرنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله عن أبيه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يهل ملبّداً. قلت تلبيد الشعر قد يكون بالصمغ وقد يكون بالعسل وإنما يفعل ذلك بالشعر ليجتمع ويتلبد فلا يتخلله الغبار ولا يصيبه الشعث ولا يقع فيه الدبيب. ومن باب الهدي قال أبو داود: حدثنا النفيلي حدثنا محمد بن سلمة حدثنا محمد بن إسحاق قال قال عبد الله بن نجيح حدثني مجاهد عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدي عام الحديبية في هدايا رسول الله صلى الله عليه وسلم جملا كان لأبي جهل في رأسه بُرة من فضة يغيظ بذلك المشركين.

ومن باب هدي البقر

قلت فيه من الفقه أن الذكران في الهدي جائزة وقد روي عن عبد الله بن عمر أنه كان يكره ذلك في الإبل ويرى أن يهدي الإناث منها. وفيه دليل على جواز استعمال اليسير من الفضة في لجم المراكب من الخيل وغيرها، وفى معناه لو كتبت بغلة بحلقة فضة أو نحوها جاز. والبره حلقة تجعل في أنف البعير وتجمع على البرين. وقوله يغيظ بذلك المشركين معناه أن هذا الجمل كان معروفاً بأبي جهل فحازه النبي صلى الله عليه وسلم في سلبه فكان يغيظهم أن يروه في يده وصاحبه قتيل سليب. ومن باب هدي البقر قال أبو داود: حدثنا عمرو بن عثمان، قال: حَدَّثنا محمد بن مهران الرازي حدثنا الوليد عن الأوزاعي عن يحيى، عَن أبي سلمة، عَن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذبح عمن اعتمر من نسائه بقرة بينهن. قلت البقرة تجزي عن سبعة كالبدنة من الإبل، وفيه بيان جواز شركة الجماعة في الذبيحة الواحدة. وممن أجاز ذلك عطاء وطاوس وسفيان الثوري والشافعي. وقال مالك بن أنس لا يشتركون في شيء من الهدي والبدن والنسك. وعن أبي حنيفة أنه قال إن كانوا كلهم يريدون النسك فجائز وإن كان بعضهم يريد النسك وبعضهم اللحم لم يجز وعند الشافعي يجوز على الوجهين معاً. وفيه دليل على أن القارن لا يلزمه أكثر من شاة وذلك أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كن قارنات بدليل قوله لعائشة طوافك بالبيت يكفيك لحجك وعمرتك، ولقولها إن نسائك ينصرفن بحج وعمرة وانصرف بحج. وحكي عن الشعبي أنه

قال على القارن بدنه. وزعم داود أنه لا شيء على القارن وإنما فر بذلك عن القياس وذلك أن أكثر أهل العلم قاسوا دم القران على دم المتعة إذ هو منصوص عليه ولم يكن عنده في القارن نص فأبطله. قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر التمري وأبو الوليد الطيالسي قالا: حَدَّثنا شعبة عن قتادة قال أبو الوليد قال سمعت أبا حسان عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بذي الحليفة ثم دعا ببدنته فأشعرها من صفحة سنامها الأيمن ثم سلت الدم عنها وقلدها نعلين ثم أتى براحلته فلما قعد عليها واستوت به على البيداء أهل بالحج. قلت الإشعار أن يطعن في سنامها بمبضع أو نحو ذلك حتى يسيل دمها فيكون ذلك علَماً أنها بدنه ومنه الشعار في الحروب وهو العلامة التي يعرف بها الرجل صاحبه ويميز بذلك بينه وبين عدوه. وفيه بيان أن الإشعار ليس من جملة ما نهي عنه من المثلة ولا أعلم أحدا من أهل العلم أنكر الإشعار غير أبي حنيفة وخالفه صاحباه وقالا في ذلك بقول عامة أهل العلم، وإنما المثلة أن يقطع عضو من البهيمة يراد به التعذيب أو تبان قطعة منها للأكل كما كانوا يفعلون ذلك من قطعهم أسنمة الإبل واليات الشاء يبينونها والبهيمة حية فتعذب بذلك، وإنما سبيل الإشعار سبيل ما أبيح من الكي والتبزيغ والتوديج في البهائم وسبيل الختان والفصاد والحجامة في الآدميين؛ وإذا جاز الكي واللدغ بالميسم ليعرف بذلك ملك صاحبه جاز الإشعار ليعلم أنه بدنه نسك فتتميز من سائر الإبل وتصان فلا يعرض لها حتى تبلغ المحل وكيف

يجوز أن يكون الإشعار من باب المثلة وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المثلة وأشعر بدنه عام حج وهو متأخر. وفيه أيضاً من السنة التقليد وهو في الإبل كالإجماع من أهل العلم. وفيه أن الإشعار من الشق الأيمن وهو السنة، وقد اختلفوا في ذلك فذهب الشافعي وأحمد بن حنبل إلى أن الاشعار في الشق الأيمن. وقال مالك يشعر في الشق الأيسر وروي ذلك عن ابن عمر. قلت ويشبه أن يكون هذا من المباح لأن المراد به التشهير والإعلام فبأيهما حصل هذا المعنى جاز والله أعلم. وقال الشافعي يشعر البقر كالإبل. وقال مالك تشعر إن كانت لها أسنمة وإلا فلا. وقوله سلت الدم بيده أي أماطه بأصبعه وأصل السلت القطع، ويقال سلت الله أنف فلان أي جدعه. وقوله استوت على البيداء أي علت فوق البيداء. وقال الخليل أتينا أبا ربيعة الأعرابي وهو فوق سطح فلما رآنا قال استووا يريد اصعدوا. قال أبو داود: حدثنا هناد حدثنا وكيع عن سفيان عن منصور والأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدي غنماً مقلدة. فيه من الفقه أن الغنم قد يقع عليها اسم الهدي، وزعم بعضهم أن الغنم لا ينطلق عليها اسم الهدي، وفيه أن الغنم يقلد وبه قال عطاء والشافعي وأحمد بن حنبل واسحاق بن راهويه. وقال أصحاب الرأي لا يقلد الغنم وكذلك قال مالك.

ومن باب من بعث بهديه وأقام

ومن باب من بعث بهديه وأقام قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا بشر بن المفضل حدثنا ابن عون عن القاسم بن محمد وعن إبراهيم زعم أنه سمعه منهما ولم يحفظ حديث هذا من حديث هذا ولا حديث هذا من حديث هذا قالا قالت أم المؤمنين بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهدي وأنا فتلت قلائدها بيدي من عهن كان عندنا ثم أصبح فينا حلالاً يأتي ما يأتي الرجل من أهله. قلت وممن قال بظاهر الحديث فلم ير الرجل يكون بتقليد الهدي محرما حتى يحرم مالك والشافعي، وقال سفيان الثوري وأحمد بن حنبل وإسحاق إذا أراد الحج وقلد فقد وجب عليه. وقال أصحاب الرأي إذا ساق الهدي ثم قلده فقد وجب عليه الإحرام فإن لم تكن له نية فهو بالخيار بين حجة أو عمرة، وروي عن ابن عمر أنه كان يقول إذا قلد هديه فقد أحرم وكذلك قال عطاء، والعهن الصوف المصبوغ ألواناً. ومن باب ركوب البدن قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك، عَن أبي الزناد عن الأعرج، عَن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يسوق بدنه فقال اركبها، فقال إنها بدنه قال اركبها ويلك في الثانية أو الثالثة. قال وحدثنا أحمد بن حنبل حدثنا يحيى بن سعيد عن ابن جريج قال أخبرني أبو الزبير، قال سألت جابر بن عبد الله عن ركوب الهدي فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهراً. قلت اختلف الناس في ركوب البدن فقال أحمد وإسحاق له أن يركبها ولم

ومن باب الهدي إذا عطب قبل أن يبلغ

يشترطا منه حاجة إليها. وقال مالك لا بأس أن يركبها ركوباً غير فادح. وقال الشافعي يركبها إذا اضطر إليها وله أن يحمل المُعْيى والمضطر على هديه وكأنه ذهب إلى حديث جابر. ومن تقدم ذكره ذهبوا إلى حديث أبي هريرة. وقال أصحاب الرأي ليس له أن يركبها وإن فعل ذلك لضرورة ونقصها الركوب شيئاً ضمن ما نقصها وتصدق به وكذلك قال الثوري. ومن باب الهدي إذا عطب قبل أن يبلغ قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن هشام عن أبيه عن ناجية الأسلمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث معه بهدي وقال إن عطب منها شيء فانحره ثم أصبغ نعله في دمه ثم خل بينه وبين الناس. قلت إنما أمره بأن يصبغ نعله في دمه ليعلم المار به أنه هدى فيتجنبه إذا لم يكن محتاجاً ولم يكن مضطراً إلى أكله. وفي قوله خل بينه وبين الناس دلالة على أنه لايحرم على أحد أن يأكل منه إذا احتاج إليه وإنما حظر على سائقه أن يأكل دونهم. وقال مالك بن أنس فإن أكل منها شيئاً كان عليه البدل. قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا عبد الوارث، عَن أبي التيَّاح عن موسى بن سلمة عن ابن عباس قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فلاناً الأسلمي وبعث معه بثماني عشرة بدنه فقال أرأيت أن أُزحف عليّ منها شيء قال تنحرها ثم تصبغ نعلها في دمها ثم اضربها على صفحتها ولا تأكل منها أنت ولا أحد من أصحابك أو قال أهل رفقتك. قوله ازحف معناه أعيى وكلَّ يقال زحف البعير إذا جر فِرسِنه على الأرض

من الإعياء وازحفه السير إذا جهده فبلغ هذه الحال. وقوله لا تأكل منها أنت ولا أحد من أصحابك يشبه أن يكون معناه حرم عليه ذلك وعلى أصحابه ليحسم عنهم باب التهمة فلا يعتلوا بأن بعضها قد زحف فينحروه إذا قرموا إلى اللحم فيأكلوه واله أعلم. قال أبو داود: حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي حدثنا عيسى بن ثور عن راشد بن سعد عن عبد الله بن عامر بن يحيى عن عبد الله بن قرط عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن أعظم الأيام عند الله يوم النحر ويوم القر قال وقرب لرسول الله صلى الله عليه وسلم بدنات خمس أو ست فطفقن يزدلفن إليه بأيتهن يبدأ فلما وجبت جنوبها، قال فتكلم بكلمة خفية لم أفهمها قال قلت ما قال، قال من شاء اقتطع. قلت يوم القر هو اليوم الذي يلي يوم النحر وإنما سمى يوم القر لأن الناس يقرون فيه بمنى. وذلك لأنهم قد فرغوا من طواف الإفاضة والنحر فاستراحوا وقروا. وقوله يزدلفن معناه يقتربن من قولك زلف الشيء إذا قرب، ومنه قوله تعالى {وازلفنا ثم الآخرين} [الشعراء: 64] ومعناه والله أعلم القرب والدنو من الهلاك، وإنما سميت المزدلفة لاقتراب الناس إلى منى بعد الإفاضة من عرفات. وقوله وجبت جنوبها معناه زهقت أنفسها فسقطت على جنوبها، وأصل الوجوب السقوط. وفي قوله من شاء اقتطع دليل على جواز هبة المشاع. وفيه دلالة على جواز أخذ النثار في عقد الإملاك وأنه ليس من باب النهبى، وإنما هو من باب الإباحة وقد كره ذلك بعض العلماء خوفاً أن يدخل فيما نهى عنه من النهبى.

ومن باب كيف تنحر البدن

ومن باب كيف تنحر البدن قال أبو داود: حدثنا عمرو بن عون أخبرنا سفيان عن عبد الكريم الجزري عن مجاهد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن علي رضي الله عنه قال أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقوم على بدنه وأقسم جلودها وجلالها وأمرني أن لا أعطى الجزار منها شيئاً وقال نحن نعطيه من عندنا. قلت قوله أمرني أن لا أعطي الجزار منها شيئا أي لا يعطي على معنى الأجره شيئاً منها، فأما أن يتصدق به عليه فلا بأس به، والدليل على هذا قوله نعطيه من عندنا أي أجرة عمله وبهذا قال أكثر أهل العلم. وروي عن الحسن البصري أنه قال لا بأس أن يعطي الجازر الجلد. وأما الأكل من لحوم الهدي فما كان منها واجباً لم يحل أكل شيء منه وهو مثل الدم الذي يجب في جزاء الصيد وإفساد الحج ودم المتعة والقران وكذلك ما كان نذراً أوجبه المرء على نفسه وما كان تطوعا كالضحايا والهدايا فله أن يأكل منه ويهدي ويتصدق وهذا كله على مذهب الشافعي. وقال مالك يؤكل من الهدي الذي ساقه لفساد حجه ولفوات الحج ومن هدي المتمتع ومن الهدي كله الأفدية الأذى وجزاء الصيد وما نذره للمساكين. وقال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه: لا يؤكل من النذر ولا من جزاء الصيد ويؤكل ما سوى ذلك، وروي ذلك عن ابن عمر، وعند أصحاب الرأى يأكل من هدي المتعة وهدي القران وهدي التطوع لا يأكل مما سواهما. ومن باب الاشتراط في الحج قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا عباد بن العوام عن هلال بن

خباب عن عكرمة عن ابن عباس أن ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إني أريد الحج أَشتَرِطُ قال نعم قالت فكيف أقول. قال قولي لبيك اللهم لبيك ومحلي من الأرض حيث حبستني. قلت قد اختلف الناس في هذا المعنى وفي إثبات الاشتراط في الحج فذهب بعضهم إلى أنه خاص لها، وقال يشبه أن يكون بها مرض أو حال كان غالب ظنها أنها تعوقها عن إتمام الحج فقدمت الاشتراط وأذن لها النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك كما أذن لأصحابه في رفض الحج وليس ذلك لغيرهم، قال هذا القائل وسواء قدم المحرم الشرط أو لم يشترط فإنه لا يحل به عامة المحرمين. وأثبت بعضهم معنى هذا الشرط واستدل بهذا الحديث على أن الإحصار لا يقع إلاّ بعدوّ مانع، وأما المرض وسائر العوائق فلا يقع بها الإحلال قال ولو كان يقع به الاحلال لما احتاجت إلى هذا الشرط. وممن قال لا حصر إلاّ حصر العدو ابن عباس، وروي معناه عن ابن عمر، وإليه ذهب الشافعي وأحمد وإسحاق. وقال أصحاب الرأي لا فرق بين العدو والمرض في أن الإحصار واقع بهما. وقال سفيان الثوري الإحصار بالكسر والمرض والخوف. قلت وفي قوله ومحلي من الأرض حيث حبستني دليل على أن المحصر يحل حيث يحبس وينحر هديه هناك حرما كان أو حلاً وكذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية حين أحصر نحر هديه وحل. وقال أصحاب الرأي دم الإحصار لا يراق إلاّ في الحرم يقيم المحصر على إحرامه ويبعث بالهدي ويواعدهم يوماً يقدر فيه بلوغ الهدي المنسك فإذا كان ذلك الوقت حل.

ومن باب إفراد الحج

ومن باب إفراد الحج قال أبو داود: حدثنا القعنبي حدثنا مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد الحج. قلت لم تختلف الأمة في أن الإفراد والقران والتمتع بالعمرة إلى الحج كلها جائزة غير أن طوائف العلماء اختلفوا في الأفضل منها، فقال مالك والشافعي الافراد أفضل. وقال أصحاب الرأي والثوري القران أفضل. وقال أحمد بن حنبل التمتع بالعمرة إلى الحج هو الأفضل. وكل من هذه الطوائف ذهب إلى حديث، وقد ذكر أبو داود تلك الأحاديث على اختلافها مجملا ومفسرا وعلى حسب ما وقع له من الرواية وسيأتي البيان على شرحها وكشف مواضع الاشكال منها في أماكنها إن شاء الله. غير أن جماعة من الجهال ونفراً من الملحدين طعنوا في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي أهل الرواية والنقل من أئمة الحديث وقالوا لم يحج النبي صلى الله عليه وسلم بعد قيام الإسلام إلاّ حجة واحدة فكيف يجوز أن يكون في تلك الحجة مفردا وقارنا ومتمتعا وأفعال نسكها مختلفة وأحكامها غير متفقة وأسانيدها عند أهل الرواية ونقلة الأخبار جياد صحاح ثم قد وجد فيها هذا التناقض والاختلاف يريدون بذلك توهين الحديث والإزراء به وتصغير شأنه وضعف أمرحملته ورواته. قلت لو يسروا للتوفيق وأعينوا بحسن المعرفة لم ينكروا ذلك ولم يدفعوه وقد أنعم الشافعي بيان هذا المعنى في كتاب اخنلاف الحديث وجود الكلام فيه وفي اقتصاصه على كماله والوجيز المختصر من جوامع ما قاله فيه أن معلوماً في لغة العرب جواز إضافة الفعل إلى الآمر به كجواز إضافته إلى الفاعل له

كقولك بني فلان داراً إذا أمرببنائها وضرب الأمير فلانا إذا أمر بضربه، وروي رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ماعزاً وقطع سارق رداء صفوان، وإنما أمر برجمه ولم يشهده وأمر بقطع يد السارق ومثله كثير في الكلام، وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم المفرد ومنهم القارن والمتمتع وكل منهم يأخذ عنه أمر نسكه ويصدر عن تعليمه فجاز أن يضاف كلها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على معنى أنه أمر بها وأذن فيها وكل قال صدقاً وروى حقا لا ينكره إلاّ من جهل وعاند والله الموفق. قلت وقد يحتمل ذلك وجها آخر وهو أن يكون بعضهم سمعه يقول لبيك بحج فحكى أنه أفردها وخفي عليه قوله وعمرة فلم يحك إلاّ ما سمع وهوعائشة، ووعى غيره الزيادة فرواها وهو أنس حين قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لبيك بحج وعمرة ولا تنكر الزيادات في الأخبار كما لا تنكر في الشهادات وإنما كان يختلف ويتناقض لو كان الزائد نافيا لقول صاحبه فأما إذا كان مثبتا له وزائدا عليه فليس فيه تناقض ولا تدافع. وقد يحتمل أيضاً أن يكون الراوي سمع ذلك يقول على سبيل التعليم لغيره فيقول له لبيك بحجة وعمرة يلقنه ذلك، وأما من روى أنه تمتع بالعمرة إلى الحج فإنه قد أثبت ما حكته عائشة من إحرامه بالحج وأثبت ما رواه أنس من العمرة والحج إلاّ أنه أفاد الزيادة في البيان والتمييز بين الفعلين بإيقاعهما في زمانين وهو ما روته حفصة روى عنها عبد الله بن عمر أنها قالت يا رسول الله ما شأن الناس حلوا ولم تحل أنت من عمرتك فقال إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر فثبت أنه كان هناك عمرة إلاّ أنه أدخل عليها الحج قبل أن يقضي

شيئا من عمل العمرة فصار في حكم القارن وهذه الروايات على اختلافها في الظاهر ليس فيها تكاذب ولا تهاتر والتوفيق بينهما ممكن وهو سهل الخروج غير متعذر والحمد لله. وقد روي في هذا عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم من ذي الحليفة إحراما موقوفا وخرج ينتظر القضاء فنزل عليه الوحي وهو على الصفا فأمررسول الله صلى الله عليه وسلم من لم يكن معه هدي أن يجعله عمرة وأمر من كان معه هدي أن يحج. قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا وهيب عن هشام بن عروه عن أبيه عن عائشة أنها قالت خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم موافين هلال ذي الحجة فلما كان بذي الحليفة قال من شاء أن يهل بحج فليهل ومن شاء أن يهل بعمرة فليهل بعمرة فإني لولا أني أهديت لأهللت بعمرة قالت فكنت فيمن أهل بعمرة قال فلما كان في بعض الطريق حضت فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي فقال ما يبكيك قلت وددت أني لم أكن خرجت العام قال ارفضي عمرتك وانقضي رأسك وامتشطي وأهلي بالحج فلما كان ليلة الصدر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن فذهب بها إلى التنعيم أي فأهلت بعمرة. قلت احتج من رأى التمتع بقوله صلى الله عليه وسلم لولا أني أهديت لأهللت بعمرة قال فالأفضل ما اختاره رسول الله صلى الله عليه وسلم وما تمناه أن يفعله لو كان صادف وقته وزمانه، وقد يحتمل أن يكون معنى قوله لأهللت بعمرة أي لتفردت بعمرة أكون بها متمتعا يطيب بذلك نفوس أصحابه الذين تمتعوا بالعمرة إلى الحج فيكون دلالته حينئذ على معنى الجواز لا على معنى الاختيار.

وقوله ارفضي عمرتك اختلف الناس في معناه فقال بعضهم أتركيها وأخريها على القضاء. وقال الشافعي إنما أمرها أن تترك العمل للعمرة من الطواف والسعي لا أنها تترك العمرة أصلا وإنما أمرها أن تدخل الحج على العمرة فتكون قارنة. قلت وعلى هذا المذهب تكون عمرتها من التنعيم تطوعا لا عن واجب ولكن أراد أن تطيب بنفسها فاعمرها وكانت قتد سألته ذلك وقد روي ما يشبه هذا المعنى في حديث جابر. قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الليث، عَن أبي الزبير عن جابر قال أقبلنا مهلين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج مفردا وأقبلت عائشة مهلة بعمرة حتى إذا كانت بسرف عَرِكت حتى إذا قدمنا طفنا بالكعبة وبالصفا والمروة فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحل منا من لم يكن معه هدي قال فقلنا حِلَّ ماذا قال الحل كله فواقعنا النساء وتطيبنا بالطيب ولبسنا ثيابنا وليس بيننا وبين عرفة إلاّ أربع ليال ثم أهللنا يوم التروية ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على عائشة فوجدها تبكي فقال ما شأنك فقالت شأني أني قد حضت وقد حل الناس ولم أحلل ولم أطف بالبيت والناس يذهبون إلى الحج الآن فقال إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم فاغتسلي ثم أهلي بالحج ففعلت ووقفت المواقف حتى إذا طهرت طافت بالبيت وبالصفا وبالمروة ثم قال قد حللت من حجتك وعمرتك جميعا فقالت يا رسول الله إني أجد في نفسي أني لم أطف بالبيت حتى حججت، قال فاذهب بها عبد الرحمن فاعمرها من التنعيم وذلك ليلة الحَصبة.

قلت هذه القصة كلها تدل على صواب ما تأوله الشافعي من قوله ارفضي عمرتك وعلى أن عمرتها من التنعيم إنما هي تطوع أراد بذلك تطييب نفسها. وفيه دليل على أن الطواف الواحد والسعي الواحد يجزئان القارن عن حجه وعمرته. وقوله عركت معناه حاضت يقال عركت المرأة تعرك إذا حاضت وامرأة عارك، ونساء عوارك. قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة وذكرت القصة في حج رسول الله صلى الله عليه وسلم وخروجها معه وساقت الحديث إلى أن قالت فطاف الذين أهلوا بالعمرة بالبيت وبين الصفا والمروة ثم حلوا ثم طافوا طوافا آخر بعد أن رجعوا من منى لحجهم، فأما الذين كانوا جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافا واحداً. قلت هذا يؤكد معنى ما قلنا من إجزاء الطواف الواحد للقارن وهو مذهب عطاء ومجاهد والحسن وطاوس وبه قال مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه. وعن الشعبي أن القارن يطوف طوافين وهو قول أصحاب الرأي وكذلك قال سفيان الثوري. قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا عبد الوهاب الثقفي حدثنا حبيب، يَعني المعلم عن عطاء حدثني جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل هو وأصحابه بالحج وليس مع أحد منهم يومئذ هدي إلاّ النبي صلى الله عليه وسلم وطلحة وكان علي رضي الله عنه قدم من اليمن ومعه الهدي فقال أهللت بما أهل به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه أن يجعلوها عمرة ويطوفوا ثم يقصروا ويحلوا إلاّ من كان معه هدي فقالوا أننطلق إلى منى

وذكورنا تقطر فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت ولولا أن معي الهدي لأحللت. قلت إنما أراد بهذا القول والله أعلم استطابة نفوسهم وذلك أنه كان يشق عليهم أن يحلوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم محرم ولم يعجبهم أن يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ويتركوا الإيتساء به والكون معه على كل حال من أحواله فقال عند ذلك هذا القول لئلا يجدوا في أنفسهم من ذلك وليعلموا أن الأفضل لهم ما دعاهم إليه وأمرهم به وأنه لولا أن سنة من ساق الهدي أن لا يحل حتى يبلغ الهدي محله لكان أسوتهم في الإحلال يطيب بذلك نفوسهم ويحمد به صنيعهم وفعلهم، وقد يستدل بهذا من هى أن التمتع بالعمرة إلى الحج أفضل. قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة أن محمد بن جعفر حدثهم عن شعبة عن الحكم عن مجاهد عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال هذه عمرة استمتعنا بها فمن لم يكن عنده هدي فليحل الحل كله وقد دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة. قلت قول هذه عمرة استمتعنا بها يحتج به من يذهب إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان متمتعا وتأول من ذهب إلى خلافه على أنه أراد به من تمتع من أصحابه وقد كان فيهم المتمتع والقارن والمفرد وهذا كما يقول الرجل الرئيس في قومه فعلنا كذا وصنعنا كذا وهو لم يباشر بنفسه فعل شيء من ذلك وإنما هوحكاية عن فعل أصحابه يضيفها إلى نفسه على معنى أن أفعالهم صادرة عن رأيه ومنصرفة إلى إذنه. وقوله دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة مختلف في تأويله يتنازعه الفريقان موجبوها ونافوها فرضاً فممن قال إنها واجبة كوجوب الحج عمر وابن عمر وابن

عباس رضي الله عنهم، وبه قال عطاء وطاوس ومجاهد والحسن وابن سيرين والشعبي وسعيد بن جبير وإلى إيجابها ذهب الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو عبيد. وقال الثوري في العمرة سمعنا أنها واجبة. وقال أصحاب الرأي ليست العمرة واجبة. قلت فوجه الاستدلال من قوله دخلت العمرة في الحج لمن ليراها واجبة أن فرضها ساقط بالحج وهومعنى دخولها فيه ومن أوجبها يتأول على وجهين. أحدهما أن عمل العمرة قد دخل في عمل الحج فلا يرى على القارن أكثر من طواف واحد وسعي واحد كما لا يرى عليه أكثر من إحرام واحد. والوجه الآخر أنها قد دخلت في وقت الحج وشهوره، وكان أهل الجاهلية لا يعتمرون في أشهر الحج فأبطل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك بهذا القول. قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عبد الله بن وهب أخبرني حيوة أخبرني أبو عيسى الخراساني عن عبد الله بن القاسم عن سعيد بن المسيب أن رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فشهد عنده أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي قبض فيه ينهى عن العمره قبل الحج. قلت في إسناد هذا الحديث مقال وقد اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرتين قبل حجه والأمر الثابت المعلوم لا يترك بالأمرالمظنون وجواز ذلك إجماع من أهل العلم لم يذكر فيه خلاف، وقد يحتمل أن يكون النهي عنه اختيارا واستحباباً وأنه إنما أمر بتقديم الحج لأنه أعظم الأمرين وأهمهما ووقته محصور. والعمرة ليس لها وقت موقوت وأيام السنة كلها تتسع لها، وقد قدم الله اسم الحج عليها

ومن باب القران

فقال {وأتموا الحج والعمرة لله} [البقرة: 196] . قال أبو داود: حدثنا أبو سلمة موسى حدثنا حماد عن قتادة، عَن أبي الشيخ الهنائي هو خيوان بن خلدة ممن قرأ على أبي موسى الأشعري من أهل البصرة أن معاوية بن أبي سفيان. قال يا أصحاب رسول الله هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كذا وعن ركوب جلود النمور قالوا نعم. قال فتعلمون أنه نهى أن يقرن بين الحج والعمرة فقالوا أما هذا فلا فقال إنها معهن ولكنكم نسيتم. قلت جواز القران بين الحج والعمرة إجماع من الأمة ولا يجوز أن يتفقوا على جواز شيء منهي عنه ولم يوافق الصحابة معاوية على هذه الرواية ولم يساعدوه عليها، ويشبه أن يكون ذهب في ذلك إلى تأويل قوله حين أمر أصحابه في حجته بالإحلال فشق عليهم لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي وكان قارناً. فيما دلت عليه هذه القصة فحمل معاوية هذا الكلام منه على النهي. وفيه وجه آخر وهو أنه قد روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال افصلوا بين الحج والعمرة فإنه أتم لحجكم وعمرتكم، ويشبه أن يكون ذلك على معنى الإرشاد وتحري الأجر ليكثر السعي والعمل ويتكرر القصد إلى البيت كما روي عن عثمان أنه سئل عن التمتع بالعمرة إلى الحج، فقال إن أتم الحج والعمرة أن لا يكونا في أشهر الحج فلو أفردتم هذه العمرة حتى تزوروا هذا البيت زورتين كان أفضل. ومن باب القران قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا هشيم أخبرنا يحيى بن أبي إسحاق وعبد العزيز بن صهيب وحميد الطويل عن أنس بن مالك أنهم سمعوه يقول سمعت

رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي بالحج والعمرة جميعا يقول لبيك عمرة وحجا لبيك عمرة وحجا. قلت في هذا بيان أنه قرن بينهما في وقت واحد وفي حرم واحد وأنه لم يكن على معنى الإحرام بأحدهما وإدخال الأخرى عليها. قال أبو داود: حدثنا يحيى بن معين حدثنا حجاج حدثنا يونس، عَن أبي إسحاق عن البراء بن عازب قال كنت مع علي رضي الله عنه حين أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم على اليمن قال فأصبت معه أواقي فلما قدم علي رضي الله عنه من اليمن على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وجدت فاطمة قد لبست ثياباً صببغا وقد نضحت البيت بنضوح فقالت ما لك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر أصحابه فأحلوا، قال فقلت لها إني أهللت بإهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي كيف صنعت، قال قلت أهللت بإهلال النبي صلى الله عليه وسلم قال فإني قد سقت الهدي وقرنت قال فقال لي انحر من البدن سبعا وستين أو ستا وستين وامسك لنفسك ثلاثا وثلاثين أو أربعا وثلاثين وامسك لي من كل بدنة منها بضعة. قلت وفي هذا صريح البيان أنه كان قارنا لأنه صلى الله عليه وسلم أعلم بما كان نواه وقصده من ذلك. وفيه دليل على أن عقد الإحرام مبهما من غير تعيين جائز وأن صاحبه بالخيار إن شاء صرفه إلى الحج والعمرة معاً وإن شاء صرفه إلى أحدهما دون الآخر وأنه ليس كالصلاة التي لا تجزىء إلاّ بأن يعين مع العقد والإحرام. وقد استدل بعضهم بقوله وامسك لي من كل بدنة منها ببضعة على جواز أكل القارن والمتمتع

من لحم هديه وهو غير دال على ما قاله لأن سُبع بدنه يجزئه عن نسكه ويكون فيه جبران لنقصه فيحصل الأكل من حصة التطوع دون الواجب. قال أبو داود: حدثنا عبد الوهاب بن نجدة حدثنا شعيب بن إسحاق عن ابن جريج أخبرني الحسن بن مسلم عن طاوس عن ابن عباس أن معاوية بن أبي سفيان أخبره قال قصرت عن النبي صلى الله عليه وسلم بمشقص على المروة أو رأيته يقصر عنه على المروة بمشقص. قلت هذا صنيع من كان متمتعا وذلك أن المفرد والقارن لا يحلق رأسه ولا يقصر شعره إلاّ يوم النحر والمعتمر يقصره عند الفراغ من السعي وفي الروايات الصحيحة أنه لم يحلق ولم يقصر إلاّ يوم النحر بعد رمي الجمار وهي أولى. ويشبه أن يكون ما حكاه معاوية إنما هو في عمرة اعتمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم دون الحجة المشهورة له والمشقص نصل عريض. قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر عن حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما شأن الناس حلوا ولم تحلل أنت من عمرتك فقال إني لبدت رأسى وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر. قلت هذا يبين لك أنه قد كانت هناك عمرة ولكنه قد أدخل عليها حجة وصار بذلك قارنا، وهذه الأخبار كلها مؤتلفة غير مختلفة على الوجه الذي ذكرناه ورتبناها. ولم يختلف الناس في أن إدخال الحج على العمرة جائز ما لم يفتتح الطواف بالبيت للعمرة. واختلفوا في إدخال العمرة على الحج فقال مالك والشافعي لا يدخل عمرة

ومن باب الرجل يحج عن غيره

على الحج، وقال أصحاب الرأي إذا أدخل العمرة على الحج صار قارناً. قال أبو داود: حدثنا النفيلي حدثنا عبد العزيز بن محمد أخبرني ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن الحارث بن بلال بن الحارث عن أبيه. قال قلت يا رسول الله فسخ الحج لنا خاصة أو لمن بعدنا قال لكم خاصة. قلت قد قيل إن الفسخ إنما وقع إلى العمرة لأنهم كانوا يحرمون العمرة في أشهر الحج ولا يستبيحونها فيها ففسخ رسول الله صلى الله عليه وسلم الحج عليهم وأمرهم بالعمرة في زمان الحج ليزولوا عن سنة الجاهلية وليتمسكوا بما سن لهم في الإسلام، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أنه ليس لمن بعدهم ممن أحرم بالحج أن يفسخه وقد اتفق عوام أهل العلم على أنه إذا فسد حجه مضى فيه مع الفساد. واختلفوا فيمن أهل بحجتين فقال الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه لا يلزمه إلاّ حجة واحدة. ومن حجتهم في ذلك أن المضي فيهما لا يلزم ولو فعله لم يصح بالإجماع. وقال أصحاب الرأي يرفض إحداهما إلى قابل ويمضي في الأخرى وعليه دم. قلت لو لزمتاه لم يكن له رفض إحداهما إلى قابل لأنه لا يكون في معنى الفسخ وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن فسخ الحج كان لهم خاصا دون من بعدهم. وقال سفيان يلزمه حجة وعمرة من عامه ويهريق دما ويحج من قابل، وحكى عن مالك أنه قال يصير قارناً وعليه دم ولا يلزمه على مذهب الشافعي شيء من عمرة ولا دم ولا قضاء من قابل. ومن باب الرجل يحج عن غيره قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن ابن شهاب عن سليمان بن

يسار عن عبد الله بن عباس قال كان الفضل بن عباس رديف النبي صلى الله عليه وسلم فجاءته امرأة من خثعم تستفتيه فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر فقالت يا رسول الله إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة أفأحج عنه قال نعم وذلك في حجة الوداع. قلت في هذا الحديث بيان جواز حج الإنسان عن غيره حيا وميتا وأنه ليس كالصلاة والصيام وسائر الأعمال البدنية التي لا تجري فيها النيابة وإلى هذا ذهب الشافعي. وكان مالك لا يرى ذلك وقال لا يجزئه إن فعل وهو الذي روى حديث ابن عباس، وكان يقول في الحج عن الميت إن لم يوص به الميت إن تصدق عنه وأعتق أحب إلي من أن يحج عنه. وكان إبراهيم النخعي وابن أبي ذئب يقولان لا يحج أحد عن أحد والحديث حجة على جماعتهم. قلت وفيه دليل على أن فرض الحج يلزم من استفاد مالا في حال كبره وزمانته إذا كان قادرا به على أن يأمر غيره فيحج عنه كما لو قدر على ذلك بنفسه. وقد يتأول بعضهم قولها إن فريضة الله أدركت أبي شيخا فقال معناه أنه أسلم وهو شيخ كبير. وفيه دليل على أن حج المرأة عن الرجل جائز. وقد منع ذلك بعض أهل العلم وزعم أن المرأة تلبس في الإحرام ما لا يلبسه الرجل فلا يحج عنه إلاّ رجل مثله وحكي عن مالك وعن أبي حنيفة أنهما قالا الزمن لا يلزمه فرض الحج إلاّ أن أبا حنيفة قال إن لزمه الفرض في حال الصحة ثم زمن لم يسقط عنه بالزمانة،

وقال مالك يسقط. واستدل الشافعي بخبر الخثعمية على وجوب الحج على المعضوب الزمن إذا وجد من يبذل له طاعته من ولده وولد ولده. ووجه ما استدل به من هذا الحديث أنها ذكرت وجوب فرض الحج على أبيها في حال الزمانة وهو قولها إن فريضة الله على عباده أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يستمسك على الراحلة ولا بد من تعلق وجوبه بأحد أمور أما بمال أو بقوة بدن أو وجود طاعة من ذي قوة وقد علمنا عجزه ببدنه ولم يجر للمال ذكر، وإنما جرى الذكر لطاعتها وبذلها نفسها عنه فدل أن الوجود تعلق به ومعلوم في اللسان أن يقال فلان مستطيع لأن يبني داره إذا كان يجد من يطيعه في ابتنائها كما إذا وجد مالا ينفقه في بنائها وكما لوقدر عليه بنفسه. قال أبو داود: حدثنا إسحاق بن إسماعيل الطالقاني وهناد بن السري المعنى واحد قال إسحاق حدثنا عبدة بن سليمان عن ابن أبي عروبة عن قتادة عن عزرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقول لبيك عن شبرمة قال من شبرمة قال أخ لي أوقريب لي فقال احججت عن نفسك قال لا قال حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة. قلت فيه من الفقه أن الصرورة لا يحج عن غيره حتى يحج عن نفسه، وفيه أن حج المرء عن غيره إذا كان قد حج عن نفسه جائز، وفيه أن من أهل بحجتين لم يلزمه إلاّ واحدة ولو كان لاجتماع وجوبهما مساغ في وقت واحد لأشبه أن يجمع عليه الأمرين فدل على أن الإحرام لا ينعقد إلاّ بواحدة. قلت وقد روي في حديث شبرمة هذا أنه قال له فاجعل هذه عن نفسك

ومن باب كيف التلبية

ثم أحجج عن شبرمة هكذا حدثناه الأصم حدثنا الربيع أخبرنا الشافعي أخبرنا عبد الوهاب الثقفي عن أيوب، عَن أبي قلابة عن ابن عباس وذكر القصة وقال فيها فاجعل هذه عن نفسك ثم احجج عن شبرمة هكذا قال عن ابن عباس لم يذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم وهذا يوجب أن يكون إحرامه عن شبرمة قد انقلب عن فرضه بنفسه، وقد اختلف الناس في هذا. فقال الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه لا يحج عن غيره من لم يحج عن نفسه وهو قول الأوزاعي. وقال أصحاب الرأي له أن يحج عن غيره قبل أن يحج عن نفسه، وقال الثوري نحوا من ذلك وهو قول مالك بن أنس. ومن باب كيف التلبية قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك. قال وكان ابن عمر يزيد فيها لبيك لبيك لبيك وسعديك والخير بيديك والرغباء إليك والعمل. قلت قوله إن الحمد والنعمة لك فيه وجهان كسر إن وفتحها وأجودهما الكسر أخبرني أبو عمر قال: قال أبو العباس أحمد بن يحيى من قال إن بكسر الألف فقد عم ومن قال أن بفتحها فقد خص والرغباء المسألة، وفيه لغتان يقال الرغباء مفتوحة الراء ممدودة والرغبى مضمومة الراء مقصورة. قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن عن خلاد بن السائب الأنصاري عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي

ومن باب متى يقطع التلبية

ومن معي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال أو قال بالتلبية. قلت يحتج به من يرى التلبية واجبة وهو قول أبي حنيفة وقال من لم يلب لزمه دم ولا شيء عند الشافعي على من لم يلب. ومن باب متى يقطع التلبية قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا وكيع أخبرنا ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس عن الفضل بن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لبى حتى رمى جمرة العقبة. قال وحدثنا أحمد بن حنبل حدثنا عبد الله بن نمير حدثنا يحيى عن عبد الله بن أبي سلمة عن عبد الله بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال غدونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من منى إلى عرفات منا الملبي ومنا المكبر. قلت ذهب عامة أهل العلم في هذا إلى حديث الفضل بن عباس دون حديث ابن عمر. وقالوا لا يزال يلبي حتى يرمي جمرة العقبة إلاّ أنهم اختلفوا فقال بعضهم يقطعها مع أول حصاة وهو قول سفيان الثوري وأصحاب الرأي وكذلك قال الشافعي. وقال أحمد واسحاق يلبي حتى يرمي الجمرة ثم يقطعها. وقال مالك يلبي حتى تزول الشمس يوم عرفة فإذا راح إلى المسجد قطعها. وقال الحسن يلبي حتى يصلي الغداة من يوم عرفة فإذا صلى الغداة أمسك عنها. وكره مالك التلبية لغير المحرم ولم يكرهها غيره. ومن باب الرجل يحرم في ثيابه قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير أخبرنا همام سمعت عطاء أخبرنا صفوان بن يعلى بن أمية عن أبيه أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة وعليه أثر

خلوق أوقال صفرة وعليه جبة فقال يا رسول الله كيف تأمرني أن أصنع في عمرتي فأنزل الله عليه الوحي فلما سري عنه قال أين السائل عن العمرة قال اغسل عنك أثر الخلوق أوقال أثر الصفرة واخلع الجبة عنك واصنع في عمرتك ما صنعت في حجتك. قال أبو داود: حدثنا محمد بن عيسى حدثنا أبوعوانة، عَن أبي بشر عن عطاء عن يعلى بن أمية بالقصة قال فيها اخلع جبتك فخلعها من رأسه. قلت فيه من الفقه أن من أحرم وعليه ثياب مخيطة من قميص وجبة ونحوهما لم يكن عليه تمزيقه وإنه إذا نزعه من رأسه لم يلزمه دم. وقد روي عن إبراهيم النخعي أنه قال يشقه وعن الشعبي قال يمزق ثيابه. قلت وهذا خلاف السنة لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بخلع الجبة وخلعها الرجل من رأسه فلم يوجب عليه غرامة، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال. وتمزيق الثوب تضيع له فهوغير جائز، وقد يتوهم من لا يمعن النظر أن أمره إياه بغسل أثر الخلوق والصفرة إنما كان من أجل أن المحرم لا يجوز له أن يتطيب قبل الإحرام بما يبقى أثره بعد الإحرام وليس هذا من أجل ذلك ولكن من قبل أن التضمخ بالزعفران حرام على الرجل في حُرْمه وحله. حدثنا ابن الأعرابي حدثنا موسى بن سهل الوشا حدثنا إسماعيل بن علية عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزعفر الرجل. وفي الحديث دليل أن المحرم إذا لبس ناسيا فلا شيء عليه لأن الناسي في معنى الجاهل وذلك إن هذا الرجل كان حديث العهد بالإسلام جاهلا بأحكامه فعذره النبي صلى الله عليه وسلم فلم يلزمه غرامة.

ومن باب ما يلبس المحرم

ومن باب ما يلبس المحرم قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل ومسدد قالا: حَدَّثنا سفيان عن الزهري عن سالم عن أبيه سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم ما يترك المحرم من الثياب قال لا يلبس القميص ولا البرنس ولا السراويل ولا العمامة ولا ثوبا مسه ورس ولا زعفران ولا الخفين إلاّ أن لا يجد النعلين فمن لم يجد نعلين فليلبس الخفين وليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين. قال وحدثنا قتيبة حدثنا الليث عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم بمعنى هذا الحديث وزاد ولا تتنقب المرأة الحرام ولا تلبس القفازين. قلت قوله لا يلبس البرنس دليل على أن كل شيء غطى رأسه من معتاد اللباس كالعمامة والقلانس ونحوهما ومن نادره كالبرنس أو كالحمل يحمله على رأسه والمكتل يضعه فوقه فكل ما دخل في معناه فإن فيه الفدية. وفيه أن المحرم منهي عن الطيب في بدنه وفي لباسه وفي معناه الطيب في طعامه لأن بغية الناس في تطييب الطعام كبغيتهم في تطييب اللباس. وفيه أنه إذا لم يجد نعلين ووجد خفين قطعهما ولم يكن ذلك من جملة ما نهي عنه من تضييع المال لكنه مستثنى منه. وكل إتلاف من باب المصلحة فليس بتضييع. وليس في أمرالشريعة إلاّ الاتباع. وقد اختلف الناس في هذا فقال عطاء لا يقطعهما لأن في قطعهما فسادا، وكذلك قال أحمد بن حنبل وممن قال يقطع كما جاء في الحديث مالك وسفيان والشافعي وإسحاق. قلت أنا أتعجب من أحمد في هذا فإنه لا يكاد يخالف

سنة تبلغه وقلت سنة لم تبلغه ويشبه أن يكون إنما ذهب إلى حديث ابن عباس وليست هذه الزيادة فيه إنما رواها ابن عمر إلاّ أن الزيادات مقبولة. وقول عطاء إن قطعهما فساد يشبه أن يكون لم يبلغه حديث ابن عمر، وإنما الفساد أن يفعل ما نهت عنه الشريعة فأما ما أذن فيه الرسول صلى الله عليه وسلم فليس بفساد وهذا في الرجال دون النساء فأما النساء فإن حرمهن في الوجه والكفين. وإذا لبست المرأة القفازين فقد اختلفوا في ذلك هل يجب عليها شيء أم لا فذكر أكثر أهل العلم أنه لا شيء عليها وعللوا حديث ابن عمر بأن ذكر القفازين إنما هو من قول ابن عمر ليس عن النبي صلى الله عليه وسلم وعلق الشافعي القول في ذلك، وقد قال في المرأة إذا اختضبت أنه لا شيء عليها فإن لفت على يديها خرقة لزمتها الفدية. واختلفوا فيه إذا قطع الخفين هل يلزمه دم أم لا، فقال بعضهم لا شيء عليه لأنه صار بذلك في معنى النعل، وقال آخرون يلزمه الدم لأنه لم يأذن له فيه إلاّ عند عدم النعل. قال أبو داود: حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد عن عمرو بن دينار عن جابر بن زيد عن ابن عباس قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول السراويل لمن لا يجد الإزار والخف لمن لا يجد النعلين. قلت وفيه دليل على أنه إذا لم يجد الإزار فلبس السراويل لم يكن عليه شيء وإلى هذا ذهب عطاء والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق وحكي ذلك عن الثوري. وقال مالك ليس له أن يلبس السراويل، وكذلك قال أبو حنيفة ويحكى عنه

ومن باب المحرم يحمل السلاح

أنه قال يفتق السراويل ويتزر به وقالوا هذا كما جاء في الخف أنه يقطع. قلت والأصل في المال أن تضيعه حرام والرخصة إذا جاءت في لبس السراويل فظاهرها اللبس المعتاد وستر العورة واجب وإذا فتق السراويل واتزر به لم تستتر العورة، وأما الخف فإنه لا يغطي عورة وإنما هو لباس رفق وزينة فلا يشتبهان ومرسل الإذن في لبس السراويل إباحة لا تقتضي غرامة. ومن باب المحرم يحمل السلاح قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا محمد بن جعفر هوغندر أخبرنا شعبة، عَن أبي إسحاق قال سمعت البراء يقول لما صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الحديبية صالحهم على أن لا يدخلوها إلاّ بجلبان السلاح فسألته ما جلبان السلاح قال القراب بما فيه. هكذا جاء تفسير الجلبان في هذا الحديث ولم أسمع فيه من ثقة شيئا، وزعم بعضهم أنه إنما سمي جلبانا لجفائه وارتفاع شخصه، من قولهم رجل جلبان وامرأة جلبانة إذا كانت جسيمة صافية الخلق. قلت ويشبه أن يكون المعنى في مصالحتهم على أن لا يدخلوها إلاّ بالسيوف في القرب أنهم لم يكونوا يأمنون أهل مكة أن يخفروا الذمة فاشترط حمل السلاح في القرب معهم ولم يشترط شهر السلاح ليكون سمة للصلح وإمارة له. ومن باب المحرمة تغطي وجهها قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا هشيم أخبرنا يزيد بن أبي زياد عن مجاهد عن عائشة قالت كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محرمات فإذا حاذوا بنا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها فإذا جاوزنا كشفناه.

ومن باب المحرم يظلل

قلت قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى المحرمة عن النقاب، فأما سدل الثوب على وجهها من رأسها فقد رخص فيه غير واحد من الفقهاء ومنعوها أن تلف الثوب أو الخمار على وجهها أو تشد النقاب أو تتلثم أو تتبرقع. وممن قال بأن للمرأة أن تسدل الثوب على وجهها من فوق رأسها عطاء ومالك وسفيان الثوري وأحمد بن حنبل وإسحاق وهو قول محمد بن الحسن وقد علق الشافعي القول فيه. ومن باب المحرم يظلل قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا محمد بن سلمة، عَن أبي عبد الرحيم عن زيد بن أبي أنيسة عن يحيى بن الحصين عن أم الحصين جدته قالت حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع فرأيت أسامة وبلالا وأحدهما آخذ بخطام ناقة النبي صلى الله عليه وسلم والآخر رافع ثوبه يستره من الحر حتى رمى جمرة العقبة. قلت فيه من الفقه أن للمحرم أن يستظل بالمظال نازلاً بالأرض وراكباً على ظهور الدواب ورخص فيه أكثر أهل العلم، إلاّ أن مالك بن أنس وأحمد بن حنبل كانا يكرهان للمحرم أن يستظل راكبا. وروى أحمد عن ابن عمر أنه رأى رجلا قد جعل على رحله عوداً له شعبتان وجعل عليه ثوبا يستظل به وهو محرم فقال له ابن عمر اضح للذي أحرمت له أي أبرز للشمس. وحدثنا ابن الأعرابي حدثنا إبراهيم بن حميد القاضي حدثنا الرياشي قال رأيت أحمد بن المعدل في الموقف في يوم شديد الحر وقد ضحى للشمس فقلت له يا أبا الفضل هذا أمر قد اختلف فيه فلو أخذت بالتوسعة فأنشأ يقول: ضحيت له كي أستظل بظله ... إذا الظل أمسى في القيامة قالصا

ومن باب المحرم يحتجم

فوا أسفا إن كان سعيك باطلا ... ويا حسرتا إن كان حجك ناقصا قلت أحمد بن المعدل هذا بصري مالكي المذهب يعد من زهاد البصرة وعلمائها وأخوه عبد الصمد بن المعدل الشاعر. وفي الحديث دليل على جواز الوقوف على ظهور الدواب للحاجة تعرض ريثما تقضى وإن قوله لا تتخذوا ظهور الدواب مقاعد إنما هو أن يستوطن ظهورها لغير أرب في ذلك ولا حاجة إليه. ومن باب المحرم يحتجم قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن عطاء عن طاوس عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهومحرم. قلت لم يكره أكثر من كره من الفقهاء الحجامة للمحرم إلاّ من أجل قطع الشعر فإن احتجم في موضع لا شعر عليه فلا بأس به وإن قطع شعرا افتدى. وممن رخص في الحجامة للمحرم سفيان الثوري وأصحاب الرأي وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق. وقال مالك لا يحتجم المحرم إلاّ من ضرورة لا بد منها. وكان الحسن يرى في الحجامة دما يهريقه. ومن باب هل يكتحل المحرم قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا سفيان عن أيوب عن موسى عن نُبيه بن وهب، قال اشتكى عمر بن عبيد الله بن معمر عينيه فأرسل إلى أبان بن عثمان قال سفيان وهو أمير ما يصنع بهما فقال أضمدهما بالصبر فإني سمعت عثمان يحدث ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قلت الصبر ليس بطيب ولذلك رخص له أن يتعالج به، فأن الكحل الذى

ومن باب الاغتسال المحرم

لا طيب فيه فلا بأس به للرجال. قال الشافعي وأنا له في النساء أشد كراهية مني له في الرجال ولا أعلم على واحد منهما الفدية. ورخص في الكحل للمحرم سفيان الثوري وأصحاب الرأي وأحمد وإسحاق، وكره الإثمد المحرمة سفيان وأحمد وإسحاق. ومن باب الاغتسال المحرم قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي عن مالك عن زيد بن أسلم عن إبراهيم بن عبد الله بن حنين عن أبيه أن عبد الله بن عباس والمسور بن مخرمة اختلفا بالأبواء فقال ابن عباس يغسل المحرم رأسه، وقال المسور بن مخرمة لا يغسل فأرسلني ابن عباس إلى أبي أيوب الأنصاري فوجدته يغتسل بين القرنين وهو يستر بثوب، قال فسلمت عليه فقال من هذا قلت أنا عبد الله بن حنين أرسلني إليك عبد الله بن عباس أسألك كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغسل رأسه وهو محرم قال فوضع أبو أيوب يده على الثوب وطأطأ حتى بدا إلي رأسه ثم قال لإنسان يصب عليه أصبب قال فصب على رأسه ثم حرك أبو أيوب رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر ثم قال هكذا رأيته يفعل صلى الله عليه وسلم. قلت قد رخص للمحرم في غسل رأسه أكثر أهل العلم وكرهه مالك بن أنس وقال يغيب رأسه في الماء ولست أعلم فيه معنى إلاّ أن يكون قد خاف أنه إذا دلك رأسه بيديه انخص شيء من شعره فكره له ذلك من أجله. وأجمعوا أنه إذا احتلم كان عليه الاغتسال عاماً في جميع بدنه، فأما كراهته تغييب الرأس في الماء فلعله شبهه بتغطية الرأس بالثياب ونحوها ومن شبه الماء وما يفعله من مواراة بدن المنغمس فيه وتغطيته بالثياب لزمه أن يجيز للعريان

ومن باب المحرم يتزوج

إذا انغمس في الماء فغمر عورته أن يصلي وهو في الماء بلا ثياب لأن الماء قد ستر عورته عن الأبصار وما أرى أن أحدا من الفقهاء يقول ذلك إلاّ أن بعض من لا يعبأ بقوله قد قال إن ذلك يجزيه، وقد استحب بعض أهل العلم للعريان إذا لم يجد ثوبا ًيصلي فيه أن يطلي موضع العورة من بدنه بالطين ويصلي. وقوله بين القرنين يريد العمودين اللذين يشد فيهما الخشبة التي تعلق عليها البكرة. ومن باب المحرم يتزوج قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن نافع عن نبيه بن وهب أخي بني عبد الدار أن عمر بن عبيد الله أرسل إلى إبان بن عثمان يسأله وإبان يومئذ أمير الحاج وهما محرمان إني أردت أن أنكح طلحة بن عمر بنت شيبة بن جبير وأردت أن تحضر ذلك فأنكر ذلك عليه إبان وقال سمعت أبي عثمان بن عفان يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينكح المحرم ولا ينكح. قلت وقد ذهب إلى ظاهر هذا الحديث مالك والشافعي ورأيا النكاح إذا عقد في الإحرام مفسوخا سواء عقده المرء لنفسه أوكان وليا فعقده لغيره. وقال أصحاب الرأي نكاح المحرم لنفسه وإنكاحه لغيره جائز واحتجوا في ذلك بخبر ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تروج ميمونة وهو محرم. وتأول بعضهم خبر عثمان على معنى أنه إخبار عن حال المحرم وأنه لاشتغاله بنسكه لا يتسع لعقد النكاح ولا يفرغ له. وقال بعضهم معنى لا ينكح أي لا يطأ ليس أنه لا يعقد. قلت الرواية الصحيحة لا ينكح المحرم بكسر الحاء على معنى النهي لا على حكاية الحال وقصة إبان في منعه عمر بن عبيد الله من العقد وإنكاره ذلك عليه وهو راوي

الحديث دليل على أن المعنى في ذلك العقد فأما أن المحرم مشغول بنسكه ممنوع من الوطء فهذا من العلم العام المفروغ من بيانه باتفاق الجماعة والعامة من أهل العلم. والخبر الخاص إنما يساق لعلم خاص ومعنى مستفاد لولا الخبر لم يعلم ولم يستقر فلا معنى لقصره على ما لا فائدة له. وعلم أن الظاهر من لفظ النكاح العقد في عرف الناس ولا شك أن قوله ولا ينكح عبارة عن التزويج بلا إشكال فكذلك لا ينكح عبارة عن العقد لأن المعطوف به لا يخالف معنى المعطوف عليه في حكم الظاهر. قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم. قال أبو داود: حدثنا محمد بن بشار حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا سفيان الثوري عن إسماعيل بن أمية عن رجل عن سعيد بن المسيب قال وهم ابن عباس في تزويج ميمونة وهومحرم. قلت وقد ذكر سعيد بن المسيب أن ما حكاه ابن عباس من ذلك وهم وحديث يزيد بن الأصم وهو ابن أخي ميمونة يؤكد ذلك. قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد حدثنا حبيب بن الشهيد عن ميمون بن مهران عن يزيد بن الأصم عن ميمونة قالت تروجني رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن حلالان بسرف. قلت وميمونة أعلم بشأنها من غيرها وأخبرت بحالها وبكيفية الأمر في ذلك العقد وهو من أدل الدليل على وهم ابن عباس. وذهب الشافعي إلى أن المحرم إذا نكح فالعقد مفسوخ بلا طلقة.

ومن باب ما يقتل المحرم من الدواب

وقال مالك يفسخ بطلقة لأن هذا نكاح مختلف فيه. فيزال الاختلاف بالطلاق احتياطا للفرج. ومن باب ما يقتل المحرم من الدواب قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا سفيان عن الزهري عن سالم عن أبيه سئل النبي صلى الله عليه وسلم عما يقتل المحرم من الدواب فقال خمس لا جناح في قتلهن على من قتلهن في الحل والحرم العقرب والفأرة والغراب والحدأة والكلب العقور. قال وحدثنا علي بن بحر حدثنا حاتم بن إسماعيل حدثنا محمد بن عجلان عن القعقاع بن حكيم، عَن أبي صالح، عَن أبي هريرة فذكر الحية والعقرب والحدأة والفأرة والكلب العقور. وقال وحدثنا أحمد بن حنبل حدثنا هشيم أخبرنا يزيد بن أبي زياد حدثنا عبد الرحمن بن أبي نُعْم (¬1) ، البجلي، عَن أبي سعيد الخدرى أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عما يقتل المحرم قال الحية والعقرب والفوسقة ويرمي الغراب ولا يقتله والكلب العقور والحدأة والسبع العادي. قلت اختلف أهل العلم فيما يقتله المحرم من الدواب فقال الشافعي إذا قتل المحرم شيئا من هذه الأعيان المذكورة في هذه الأخبار فلا شيء عليه وقاس عليها كل سبع ضار وكل شيء من الحيوان لا يؤكل لحمه لأن بعض هذه الأعيان سباع ضارية وبعضها هوام قاتلة وبعضها طير لا يدخل في معنى السباع ولا هي من جملة الهوام وإنما هو حيوان مستخبث اللحم غير مستطاب الأكل وتحريم الأكل يجمعهن كلهن فأعتبره وجعله دليل الحكم. وقال مالك نحوا من قول الشافعي إلاّ أنه قال لا يقتل المحرم الغراب الصغير. ¬

(¬1) تصحف في المطبوع إلى: "عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي نُعَيْمٍ"، انظر: "التاريخ الكبير" 5/1130، و"الجَرح والتعديل" 5/1400، و"ثقات ابن حبان" 5/112، و"تهذيب الكمال" 17/457، و"تهذيب التهذيب" 6/286.

وقال أصحاب الرأي يقتل الكلب وسائر ما جاء في الخبر وقاسوا عليها الذئب ولم يجعلوا على قاتله فدية وقالوا في السبع والنمر والفهد والخنزير عليه الجزاء إن قتلها إلاّ أن يكون قتد ابتدأه شيء منها فدفعه عن نفسه فقتله فلا شيء عليه. وقالوا في السبع إذا ابتدأه المحرم فعليه قيمته إلاّ أن تكون قيمته أكثر من دم فيكون عليه دم ولا يجاوزه. وكان سفيان بن عيينة يقول الكلب العقور هو كل سبع يعقر وقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على عتبة بن أبي لهب فقال اللهم سلط عليه كلبا من كلابك فافترسه الأسد. قلت وفي خبر أبي سعيد الخدري ما يدل على صحة ذلك وهو قوله والسبع العادي فكل ما كان هذا الفعل نعتا له من أسد ونمر وفهد ونحوها فحكمه هذا الحكم. فأما الفويسقة فهى الفأرة وقيل سميت فويسقة لخروجها من حجرها على الناس واغتيالها إياهم في أموالهم بالفساد. وأصل الفسق الخروج ومن هذا سمي الخارج عن الطاعة فاسقا، ويقال فسقت الرطبة عن قشرها إذا خرجت عنه. وقوله في حديث أبي سعيد الخدري ويرمي الغراب ولا يقتله يشبه أن يكون أراد به الغراب الصغير الذي يأكل الحب وهو الذي استثناه مالك من جملة الغربان، وكان عطاء يرى فيه الفدية ولم يتابعه على قوله أحد. وأخبرني أبو محمد الكراني عن الساجي قال: قال النخعي لا يقتل المحرم الفأرة وأراه قال فإن قتلها ففيها فدية. وأخبرني الحسن بن يحيى عن المنذر في كتاب الاختلاف بنحو منه إلاّ أنه لم يذكر الفدية.

ومن باب لحم الصيد المحرم

قلت وهذا القول مخالف للنص خارج عن أقاويل أهل العلم. ومن باب لحم الصيد المحرم قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سليمان بن كثير عن حميد الطويل عن إسحاق بن عبد الله بن الحارث عن أبيه قال وكان الحارث خليفة عثمان رضي الله عنه على الطائف فصنع لعثمان طعاما وضع فيه الحجل واليعاقيب ولحوم الوحش فبعث إلى علي بن أبي طالب فجاءه الرسول وهو يخبط لأباعر له فجاء وهو ينفض من يديه فقالوا له كل قال اطعموه قوما حلالا فأنا حُرُم ثم قال علي رضي الله عنه أنشد الله من كان ههنا من أشجع أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدى إليه رجل حمار وحش وهو محرم فأبى أن يأكله قالوا نعم. قلت يشبه أن يكون علي رضي الله قد علم أن الحارث إنما اتخذ هذا الطعام من أجل عثمان ولم يحضر معه من أصحابه فلم ير أن يأكله هو ولا أحد ممن بحضرته. فأما إذا لم يصد الطير والوحش من أجل المحرم فقد رخص كثير من العلماء في تناوله. ويدل على ذلك حديث جابر وقد ذكره أبو داود على أثره في هذا الباب. قال أبو داود: حدثنا قتيبة حدثنا يعقوب الإسكندراني عن عمرو هو ابن أبي عمرو عن المطلب عن جابر رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يُصد لكم. وممن هذا مذهبه عطاء بن أبي رباح ومالك والشافعي وأحمد، وقال مجاهد وسعيد بن جبير يأكل المحرم ما لم يصده إذا كان قد ذبحه حلال. وإلى نحو من هذا ذهب أصحاب الرأي قالوا لأنه الآن ليس بصيد.

ومن باب الفدية

وكان ابن عباس يحرم لحم الصيد على المحرمين في عامة الأحوال ويتلو قوله عز وجل {وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرماً} [المائدة: 96] ويقول الآية مبهمة. وإلى نحو من ذلك ذهب طاوس وكرهه سفيان الثوري وإسحاق. واليعاقيب ذكور الحجل والخبط أن يضرب ورق الشجر بعصا ونحوها ليتحات فيعلفه الإبل واسمه الخبط. ومن باب الفدية قال أبو داود: حدثنا وهب بن بقية عن خالد الواسطي هو ابن عبد الله الطحان عن خالد الحذاء، عَن أبي قلابة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر به زمن الحديبية فقال قد آذاك هوام رأسك قال نعم. قال فقال النبي صلى الله عليه وسلم احلق ثم أذبح شاة نسكاً أو صم ثلاثة أيام أو اطعم ثلاثة آصع من تمر على ستة مساكين. قلت هذا إنما هو حكم من حلق رأسه لعذر من أذى يكون به وهو رخصة له فإذا فعل ذلك كان مخيراً بين الدم والصدقة والصيام. فأما من حلق رأسه عامداً لغير عذر فإن عليه دماً وهو قول الشافعي وإليه ذهب أبو حنيفة. وقال مالك هو مخير إذا حلق لغير علة كهو إذا حلقه لعذر. وقال سفيان الثوري إذا تصدق بالبر أطعم ثلاثة أصوع بين ستة مساكين لكل واحد منهم نصف صاع فإن أطعم تمراً أو زبيباً أطعم صاعاً صاعاً. قلت هذا خلاف السنة وقد جاء في الحديث ذكر التمر مقدرا بنصف صاع كما ترى فلا معنى لخلافه وقد جاء ذكر الزبيب أيضاً من غير هذا الطريق بنحو هذا التقدير وذكره أبو داود.

ومن باب هدي المحصر

قال أبو داود: حدثنا محمد بن منصور حدثنا يعقوب حدثنا أبي عن ابن إسحاق حدثني أمان، يَعني ابن صالح عن الحكم بن عتيبة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة وذكر الحديث إلى أن قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أحلق رأسك وصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين فرقا من زبيب أو أنسك شاة قال فحلقت رأسي ثم نسكت. والفرَق ستة عشر رطلا وهو ثلاثة أصوع. أمره أن يقسمه بين ستة مساكين فهذا في الزبينب نص كما هو نص في التمر. وقال أصحاب الرأي نحوا من قول سفيان والحجة عليه وعليهم نص الحديث. قلت فإن حلقه ناسياً فإن الشافعي يوجب عليه الفدية كالعمد سواء، وهو قول أصحاب الرأي والثوري ولم يفرقوا بين عمده وخطأه لأنه إتلاف شيء له حرمة كالصيد. وقال الشافعي إن تطيب ناسيا فلا شيء عليه. وسوى أصحاب الرأي في الطيب بين عمده وخطأه ورأوا فيه الفدية كالحلق والصيد. وقال إسحاق بن راهويه لا شيء على من حلق رأسه. ومن باب هدي المحصر قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن حجاج الصواف حدثني يحيى بن أبي كثير عن عكرمة قال سمعت الحجاج بن عمرو الأنصارى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من كسر أو عرج فقد حل وعليه من قابل. قال عكرمة فسألت ابن عباس وأبا هريرة عن ذلك فقالا صدق. قلت في هذا الحديث حجة لمن رأى الاحصار بالمرض والعذر للمحرم

من غير حبس العدو وهو مذهب سفيان الثوري وأصحاب الرأي. وقد روي ذلك عن عطاء وعروة والنخعي. وقال مالك والشافعي وأحمد واسحاق لا حصر إلاّ حصر العدو، وقد روى ذلك عن ابن عباس وروي معناه أيضاً عن ابن عمر وعلل بعضهم حديث الحجاج بن عمرو بأنه قد ثبت عن ابن عباس أنه قال لا حصر إلاّ حصر العدو فكيف يصدق الحجاج فيما رواه من أن الكسر حصر. وتأوله بعضهم على أنه إنما يحل بالكسر والعرج إذا كان قد اشترط ذلك في عقد الإحرام على معنى حديث ضباعة بنت الزبير. قالوا ولو كان الكسر عذرا لم يكن لاشتراطها معنى ولا كانت بها إلى ذلك حاجة. وأما قوله وعليه الحج من قابل فإنما هذا فيمن كان حجه عن فرض، فإنما المتطوع بالحج إذا أحصر فلا شيء عليه غير هدي الإحصار. وهذا على مذهب مالك والشافعي. وقال أصحاب الرأي عليه حجة وعمرة وهو قول النخعي. وعن مجاهد والنشعبي وعكرمة عليه حجة من قابل. قال أبو داود: حدثنا النفيلي حدثنا محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن عمرو بن ميمون قال سمعت أبا حاضر الحميري يحدث عن ميمون بن مهران قال خرجت معتمرا عام حاصر أهل الشام ابن الزبير بمكة وبعث معي رجال من قومي بهدي فلما انتهينا إلى أهل الشام منعونا أن ندخل الحرم فنحرت الهدي بمكاني ثم أحللت ثم رجعت فلما كان العام المقبل خرجت لأقضي عمرتي فأتيت ابن عباس فسألته فقال ابدل الهدي فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه أن يبدلوا الهدي الذي نحروا عام الحديبية في عمرة القضاء.

ومن باب دخول مكة

قلت أما من لا يرى عليه القضاء في غير الفرض فانه لا يلزمه بدل الهدي ومن أوجبه فإنما يلزمه البدل لقوله عز وجل {هديا بالغ الكعبة} [المائدة: 95] ومن نحر الهدي في الموضع الذي أحصر فيه وكان خارجا من الحرم فإن هديه لم يبلغ الكعبة فيلزمه إبداله وإبلاغه الكعبة. وفي الحدديث حجة لهذا القول. ومن باب دخول مكة قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثا حماد بن زيد عن أيوب عن نافع أن ابن عمر كان إذا قدم مكة بات بذي طوى حتى يصبح ويغتسل ثم يدخل مكة نهاراً ويذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعله. قلت دخول مكة ليلا جائز ودخولها نهارا أفضل استناناً بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه دخلها ليلا عام اعتمر من الجعرانة فدل ذلك على جوازه. قال أبو داود: حدثنا هارون بن عبد الله حدثنا أبو أسامة حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح من كُدي من أعلى مكة ودخل في العمرة من كَدَاء. كُدَي وكداء ثنيتان وكداء ممدودة قال الشاعر: أنت ابن معتلج البطاح كديها وكداءها ومن باب رفع اليد إذا رأى البيت قال أبو داود: حدثنا يحيى بن معين أن محمد بن جعفر حدثهم، قال: حَدَّثنا شعبة قال سمعت أبا قزعة يحدث عن المهاجر المكي قال سئل جابر بن عبد الله عن الرجل يرى البيت يرفع يديه فقال ما كنت أرى أحدا يفعل هذا إلاّ اليهود قد حججنا مع

ومن باب تقبيل الحجر

رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يكن يفعله. قلت قد اختلف الناس في هذا فكان ممن يرفع يديه إذا رأى البيت سفيان الثوري وابن المبارك وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه. وضعف هؤلاء حديث جابر لأن مهاجراً راويه عندهم مجهول وذهبوا إلى حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ترفع الأيدي في سبعة مواطن افتتاح الصلاة واستقبال البيت وعلى الصفا والمروة والموقفين والجمرتين. وروي عن ابن عمر أنه كان يرفع اليدين عند رؤية البيت وعن ابن عباس مثل ذلك. ومن باب تقبيل الحجر قال أبو داود: حدثنا ابن كثير أخبرنا سفيان عن الأعمش عن إبراهيم عن عابس بن ربيعة عن عمر رضي الله عنه أنه جاء إلى الحجر فقبله، فقال إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك. قلت فيه من العلم أن متابعة السنن واجبة وإن لم يوقف لها على علل معلومة وأسباب معقولة وأن أعيانها حجة على من بلغته وإن لم يفقه معانيها إلاّ أن معلوماً في الجملة أن تقبيله الحجر إنما هو إكرام له واعظام لحقه وتبرك به وقد فضل الله بعض الأحجار على بعض كما فضل بعض البقاع والبلدان وكما فضل بعض الليالي والأيام والشهور وباب هذا كله التسليم وهو أمرسائغ في العقول جائز فيها غير ممتنع ولا مستنكر. وقد روي في بعض الحديث أن الحجر يمين الله في الأرض والمعنى أن من صافحه في الأرض كان له عند الله عهد فكان كالعهد تعقده الملوك بالمصافحة لمن يريد موالاته والاختصاص به وكما يصفق على أيدي الملوك للبيعة، وكذلك تقبيل اليد من الخدم للسادة والكبراء فهذا كالتمثيل

ومن باب الطواف الواجب

بذلك والتشبيه به والله أعلم. ومن باب الطواف الواجب قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب أخبرنا يونس عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف في حجة الوداع على بعير يستلم الركن بمحجن. قلت معنى طوافه على البعير أن يكون بحيث يراه الناس وأن يشاهدوه فيسألوه عن أمر دينهم ويأخذوا عنه مناسكهم فاحتاج إلى أن يشرف عليهم وقد روي في هذا المعنى عن جابر بن عبد الله. وفيه من الفقه جواز الطواف عن المحمول وإن كان مطيقا للمشي. وقد يستدل بهذا الحديث من يرى بول ما يؤكل لحمه طاهرا لأن البعير إذا بقي في المسجد المدة التي يقضى فيها الطواف لم يكد يخلو من أن يبول فيه فلو كان بوله ينجس المكان لنزه المسجد عن إدخاله فيه. والمحجن عود معقف الرأس مع الراكب يحرك به راحلته. ومن باب الاضطباع في الطواف قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير حدثنا سفيان عن ابن جريج عن ابن يعلى عن يعلى قال طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطبعا ببرد أخضر. قلت الاضطباع أن يدخل طرف رداءه تحت ضبعه والضبع العضد وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه جعلوا أطراف أرديتهم تحت اباطهم ثم ألقوها على الشق الأيسر من عواتقهم.

ومن باب الرمل

ومن باب الرمل قال أبو داود: حدثنا أبو سلمة موسى بن إسماعيل حدثنا حماد أبو عاصم الغنوي، عَن أبي الطفيل قال: قلت لابن عباس يزعم قومك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رمل بالبيت وإن ذلك سنة، قال صدقوا أو كذبوا قلت ما صدقوا وما كذبوا، قال صدقوا قد رمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذبوا ليس بسنه أن قريشا قالت زمن الحديبية دعوا محمداً وأصحابه حتى يموتوا موت النغف فلما صالحوه على أن يجيئوا من العام المقبل فيقيموا بمكة ثلاثة أيام فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمشركون من قبل قُعيقعان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه أرملوا بالبيت ثلاثا وليس بسنة، قلت يزعم قومك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف بين الصفا والمروة على بعير وأن ذلك سنة قال صدقوا وكذبوا قلت ما صدقوا وما كذبوا، قال صدقوا قد طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة على بعير وكذبوا ليست بسنة وكان الناس لا يدفعون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يضربون عنه فطاف على بعير ليسمعوا كلامه وليروا مكانه ولا تناله أيديهم. النغف دود يسقط من أنوف الدواب واحدتها نغفة يقال للرجل إذا استحقر واستضعف ما هو إلاّ نغفة. وقوله ليس بسنة معناه أنه أمر لم يسن فعله لكافة الأمة على معنى القربة كالسنن التي هي عبادات ولكنه شيء فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم لسبب خاص وهو أنه أراد أن يرى الكفار قوة أصحابه وكانوا يزعمون أن أصحاب محمد قد أوهنتهم حمى يثرب ووقذتهم فلم يبق فيهم طرق.

ومن باب الدعاء في الطواف

قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا عبد الملك بن عمروحدثنا هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن أبيه قال سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول فيم الرملان اليوم والكشف عن المناكب وقد اطأ الله الإسلام ونفى الكفر وأهله مع ذلك لا ندع شيئا كنا نفعله على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله أطأ الله الإسلام إنما هو وطأ الله أي ثبته وأرساه والواو قد تبدل همزة. وفيه دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد يسن الشيء لمعنى فيزول ذلك المعنى وتبقى السنة على حالها. وممن كان يرى الرمل سنة مؤكدة ويرى على من تركه دما سفيان الثوري، وقال عامة أهل العلم ليس على تاركه شيء. ومن باب الدعاء في الطواف قال أبو داود: حدثنا ابن السرح حدثنا سفيان، عَن أبي الزبير عن عبد الله بن باباه عن جبير بن مطعم يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال الفضل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحدا يطوف بهذا البيت ويصلي أي ساعة شاء من ليل ونهار. قلت استدل به الشافعي على أن الصلاة جائزة بمكة في الأوقات المنهي فيها عن الصلاة في سائر البلدان. واحتج له أيضاً بحديث أبي ذر وقوله إلا بمكة فاستثناها من بين البقاع.

ومن باب الطواف بين الصفا والمروة

وذهب بعضهم إلى تخصيص ركعتي الطواف من بين الصلوات، وقال إذا كان الطواف بالبيت غير محظور في شيء من الأوقات وكان من سنة الطواف أن تصلى الركعتان بعد فقد عقل أن هذا النوع من الصلاة غير منهي عنه. وقد تأول بعضهم الصلاة في هذا الحديث على معنى الدعاء ويشبه أن يكون هذا معنى الحديث، عَن أبي داود ويدل على ذلك ترجمته الباب بالدعاء في الطواف. ومن باب الطواف بين الصفا والمروة قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أنه قال قلت لعائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وأنا يومئذ حديث السن أرأيت قول الله تعالى {إن الصفا والمروة من شعاتر الله} [البقرة: 158] فما أرى على أحد شيئاً ألا يطوف بهما قالت عائشة كلا لو كان كما تقول كانت «فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما) إنما أنزلت هذه الآية في الأنصار كانوا يهلّون لمناة وكانت مناة حذو قديد وكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة فلما جاء الإسلام سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فأنزل الآية. قال أبو سليمان قد أعلمت عائشة السبب في نزول الآية بنفي الحرج وأن المعنى في ذلك لم ينصرف إلى نفس الفعل لكن إلى محل الفعل، وذلك أنهم كانوا يعبدون في تلك البقعة الأصنام فتحرجوا أن يتخذوها متعبداً لله تعالى، والأنصاب إن كان هذا اللفظ محفوظا جمع النصب وهو ما ينصب من الأصنام فيعبد من دون الله تعالى إلاّ أن في أكثر الروايات الأنصار، وكانت عائشة ترى أن السعي بين الصفا والمروة فرض، وإليه ذهب مالك والشافعي وأحمد

بن حنبل وإسحاق بن راهويه. وروي عن ابن عباس أنه قال السعي بين الصفا والمروة تطوع وكذلك قال ابن سيرين وإليه ذهب سفيان الثوري وأصحاب الرأي، وقال سفيان من تركه فعليه دم وقال أصحاب الرأي أن تركه ناسيا جبر بدم. قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي وعثمان بن أبي شيبة وهبشام بن عمار وسليمان بن عبد الرحمن الدمشقيان وربما زاد بعضهم على بعض الكلمة ونقص، قالوا حدثنا حاتم بن إسماعيل أخبرنا جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد الله وساق الحديث الطويل في قصة حج النبي صلى الله عليه وسلم فالتقطت منه مواضع الحاجة إلى التفسير والتأويل وتركت سائره اختصارا وكراهة للتطويل قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث تسع سنين لم يحج ثم أذن في العاشرة. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حج فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرجنا معه حتى أتينا ذا الحليفة فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف أصنع قال اغتسلي واستثفري بثوب واحرمي فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ثم ركب القصواء حتى استوت به ناقته على البيداء أهل بالتوحيد لبيك اللهم لبيك قال جابر لسنا ننوي إلاّ الحج لسنا نعرف العمرة حتى إذا أتينا البيت استلم الركن فرمل ثلاثا ومشى أربعا ثم تقدم إلى مقام إبراهيم فركع ركعتين ثم رجع إلى البيت فاستلم الركن ثم خرج من الباب إلى الصفا. فلما دنا منه قرأ {إن الصفا والمروة من شعائر الله} [البقرة: 158] نبدأ بما بدأ الله به فبدأ بالصفا فرقي عليها حتى رأى

البيت وكبر الله ووحده وقال لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهوعلى كل شيء قدير، لا إله إلاّ الله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ثم دعا بين ذلك. وقال مثل هذا ثلاث مرات ثم نزل إلى المروة فذكر سعيه بينهما حتى إذا كان آخر طواف على المروة قال إني لو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي ولجعلتها عمرة فمن كان منكم ليس معه هدي فليحلل وليجعلها عمرة فحل الناس كلهم وقصروا إلا النبي صلى الله عليه وسلم ومن كان معه هدي فقام سراقة بن جعشم فقال يا رسول الله ألعامنا هذا أم للأبد فشبك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه في الأخرى ثم قال دخلت العمرة في الحج هكذا مرتين لا بل لأبد أبد لا بل لأبد أبد، قال وقدم علي رضي الله عنه من اليمن ببدن النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ماذا قلت حين فرضت الحج، قال قلت اللهم إني أهل بما أهل به رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فإن معي الهدي فلا تحلل وساق الحديث إلى أن قال فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم عرفة فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له حتى أتى بطن الوادي فخطب الناس فقال إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، إلاّ أن كل شيء من أمرالجاهلية تحت قدمي موضوع ودماء الجاهلية موضوعة وأول دم أضعه دماؤنا قال عثمان دم ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب وربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله وإن لكم عليهن ان لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه فإن فعلن فاضربوهن ضربا غير مبرح وساق الحديث إلى أن قال، ثم أذن بلال ثم أقام فصلى الظهر

ثم أقام فصلى العصر لم يصل بينهما شيئاً ثم ركب القصواء حتى أتى الموقف فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلا فدفع وقد شنق للقصواء الزمام حتى أن رأسها ليصيب مورك رجله ويقول بيده اليمنى السكينة أيها الناس السكينة كلما أتى حبلا من الحبال أرخى لها قليلا حتى يصعد حتى أتى المزدلفة فجمع بين المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين قال عثمان ولم يسبح بينهما شيئا. قالوا ثم اضطجع حتى طلع الفجر فصلى الفجر حين تبين له الصبح ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام فرقي عليه فاستقبل القبلة فحمد الله وكبره وهلله فلم يزل واقفا حتى أسفر جداً ثم دفع قبل أن تطلع الشمس حتى إذا أتى محسراً فحرك قليلا ثم سلك الطريق حتى أتى الجمرة ورماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة ثم انصرف إلى المنحر فنحر بيده ثلاثا وستين وأمرعليا فنحر ما غبر وأشركه في هديه ثم أمر من كل بدنه ببضعة فجعلت في قدر فطبخت فأكلا من لحمها وشربا من مرقها ثم أفاض وذكر بقية الحديث. قوله مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع سنين ثم أذن في العاشرة فيه دليل على أن فرض الحج ليس على الفور والتعجيل وأنه أمر يدخله المهلة ويجوز تأخيره عن أول وقت وجوبه، ولو كان الأمر به على الفور لم يجز له صلى الله عليه وسلم تركه للحج طول هذه المدة وقد كان ظاهراً بالمدينة يمكنه الخروج غير مصدود عنه إلاّ في بعض الأوقات فلم يفعل ذلك إلاّ في السنة العاشرة.

وفي قوله لأسماء وهي نفساء لم تتعل من نفاسها اغتسلي واستثفري دليل على أن من سنة المحرم الاغتسال، وإن الحائض إذا أرادت الإحرام اغتسلت له كالطاهر. ومعلوم أن الاغتسال لا يصح من النفساء ولكن أمرها أن تفعل ذلك اقتداء بالطواهر أو تشبها بهن. والتشكل بأشكال العبادات ممن لا تصح منه العبادة موجود في مواضع من الأصول وقد أمر صلى الله عليه وسلم الأسلميين بصوم بقية النهار من يوم عاشوراء وكانوا مفطرين صدر ذلك اليوم، والصبي مأمور بالصلاة وهي غير لازمة وقد يصلي المصلوب على الخشبة والمحبوس في الحش أو نحوه وإذا قدر على الصلاة أعادها. والاستثفار أن تحتجز بثوب وتشده على موضع الدم ليمنع السيلان وهومشبه بثفر الدابة، والقصواء اسم ناقته وسميت قصواء لما قطع من أذنها، يقال قصوت الناقة فهي مقصوة وقصواء وكان القياس أن يقال في الذكر أقصى فلم يقولوه وإنما جاء في نعت المؤنث خاصا. وفي قوله لما قرأ {إن الصفا والمروة من شعائر الله} [البقرة: 158] نبدأ بما بدأ الله به دليل على أنه قد اعتبر تقديم المبدأ بذكره في التلاوة فقدمه وأن الظاهر في حق الكلام أن المبدوء بذكره مقدم في الحكم على ما بعده. وفيه دليل على أن الطائف إذا بدأ بالمروة على الصفا كان ذلك الشوط ملغى غير معتد به.

وقوله لو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي ولجعلتها عمرة إنما هو استطابة لنفوس أصحابه لئلا يجدوا في أنفسهم أنه يأمرهم بخلاف ما يفعله في نفسه. وفيه بيان جواز الأمرين جميعا وأنه لولا ما سبق من سوقه الهدي لحل معهم إلاّ أن السنة فيمن ساق الهدي أن لا ينحره إلاّ بمنى، وقد تقدم الكلام في هذا الباب وهل كان ذلك فسخا لإحرامهم في الحج أو كان الإحرام وقع مبهما على انتظار القضاء ونزول الوحي فيه فأغنى ذلك عن إعادته هاهنا. وقول سراقة ألعامنا هذا أم للأبد يدل على وجوب العمرة ولولا وجوب أصله لما توهموا أنه يتكرر ولم يحتاجوا إلى المسألة عنه. وقوله دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة قد تقدم ذكره وقلنا أن المراد به دخولها في وقت الحج، وكانت قريش لا تعتمر إلاّ في أشهر الحج وقيل دخل أفعالها في اجزاء أفعال الحج فاتحدتا في العمل فلا يطوف القارن أكثر من طواف واحد لهما وكذلك السعي كما لا يحرم لهما إلاّ إحراماً واحداً. وقوله في وضع دماء الجاهلية ورباهم فإنما بدأ في ذلك بأهل بيته ليعلم أنه حكم عام في جماعة أهل الدين ليس لأحد فيه ترفيه ولا ترخيص. وفيه دليل على أن الإسلام يلقى الماضي من أحكام الكفر بالعفو والباقي بالرد وهو باب كبير من العلم وقد أشبعت بيانه في كتاب البيوع. وقوله استحللتم فروجهن بكلمة الله فيه وجوه أحسنها أن المراد به قوله {فامساك بمعروف أو تسريح بإحسان} [البقرة: 229] . وقوله إن لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه فإن معناه أن لا يأذن

لأحد من الرجال يدخل فيتحدث إليهن. وكان الحديث من الرجال إلى النساء من عادات العرب لا يرون ذلك عيبا ولا يعدونه ريبة، فلما نزلت آية الحجاب وصارت النساء مقصورات نهى عن محادثتهن والقعود إليهن، وليس المراد بوطء الفرش هاهنا نفس الزنا لأن ذلك محرم على الوجوه كلها فلا معنى لاشتراط الكراهية فيه ولو كان المراد به الزنا لكان الضرب الواجب فيه هو المبرح الشديد والعقوبة المؤلمة من الرجم دون الضرب الذي ليس بمبرح. وفيه من الفقه إن صلاتي الظهر والعصر تجمعان بأذان واحد وإقامتين وكذلك المغرب والعشاء تجمعان بالمزدلفة مثل ذلك. وفيه أن السنة أن يقف الإمام بالموقف إلى أن تغرب الشمس ثم يفيض. وقوله شنق لها معناه كفها بزمامها والحبال ما كان دون الجبال في الارتفاع واحدها حبل. وفيه أن الدفع من المزدلفة إنما هو قبل طلوع الشمس. وكان أهل الجاهلية يقفون بها حتى تطلع الشمس ويقولون أشرق ثبير كيما نغير. وفيه أن التكبير عند رمي الجمار سنة وذلك أن التلبية تقطع عند رميها فيكون التكبير بدلا عنها. وفيه أن ذبح الرجل نسيكته بيده مستحب وقد قيل في نحر النبي صلى الله عليه وسلم بيده ثلاثا وستين بدنة أنه إنما بلغ بها هذا العدد لأن سنه كان بلغ عامئذٍ ثلاثاً وستين لتكون لكل سنة بدنة والله أعلم.

ومن باب موضع الوقوف بعرفة

ومن باب موضع الوقوف بعرفة قال أبو داود: حدثنا ابن نفيل حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن عمرو بن عبد الله بن صفوان عن يزيد بن شيبان قال أتانا ابن مربع الأنصاري ونحن بعرفة في مكان يباعده عمرو عن الإمام فقال إني رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم فقال يقول لكم قفوا على مشاعركم فإنكم على إرث من إرث إبراهيم. المشاعر المعالم وأصله من قولك شعرت بالشيء أي علمته وليت شعري ما فعل فلان أي ليت علمي بلغه وأحاط به يريد قفوا بعرفة خارج الحرم فإن إبراهيم هو الذي جعلها مشعرا وموقفا للحاج، وكان عامة العرب يقفون بعرفة وكان قريش من بينها تقف داخل الحرم وهم الذين كانوا يسمون أنفسهم الحمس وهم أهل الصلابة والشدة في الدين والتمسك به، والحماسة الشدة يقال رجل أحمس وقوم حمس. وكانوا يزعمون إنا لا نخرج من الحرم ولا نخليه فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك من فعلهم وأعلمهم أنه شيء قد أحدثوه من قبل أنفسهم وأن الذي أورث إبراهيم من سنته هو الوقوف بعرفة. واختلفوا فيمن وقف من عرفة ببطن عرنة فقال الشافعي لا يجزئه حجه. وقال مالك حجه صحيح وعليه دم. ومن باب الدفع من عرفة قال أبو داود: حدثنا وهب بن بيان حدثنا عبيدة حدثنا سليمان الأعمش عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس قال أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم من عرفة وعليه السكينة ثم أردف الفضل بن عباس وقال أيها الناس إن البر ليس

ومن باب الصلاة بجمع

بإيجاف الخيل والبل فعليكم بالسكينة قال فما رأيتها رافعة يديها حتى أتى منى. قوله أفاض معناه صدر راجعا إلى منى وأصل الفيض السيلان يقال فاض الماء إذا سال وأفضته إذا أسلته، والإيجاف الإسراع في السير يقال وجف الفرس وجيفا وأوجفه الفارس ايجافا قال الله تعالى (فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب} [الحشر: 6] . قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك بن أنس عن هشام بن عروة عن أبيه أنه قال سأل أسامة بن زيد وأنا جالس كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في حجة الوداع حين دفع قال كان يسير العنق فإذا وجد فجوة نص. العنق السير الوسيع والنص أرفع السير وهو من قولهم نصصت الحديث إذا رفعته إلى قائله ونسبته إليه ونصصت العروس إذا رفعتها فوق المنصة. والفجوة الفرجة بين المكانين، وفي هذا بيان أن السكينة والتؤدة المأمور بها إنما هي من أجل الرفق بالناس لئلا يتصادموا فإذا لم يكن زحام وكان في الموضع سعة سار كيف شاء. ومن باب الصلاة بجمع قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن ابن شهاب عن سالم عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى المغرب والعشاء بالمزدلفة جميعا. قلت هذا سنة النبي صلى الله عليه وسلم في الجمع بين هاتين الصلاتين بالمزدلفة في وقت الآخرة منهما كما سن الجمع بين الظهر والعصر بعرفة في وقت الأولى منهما ومعناه الرخصة والترفيه دون العزيمة إلاّ أن المستحب متابعة السنة والتمسك بها. واختلفوا فيمن فرق بين هاتين الصلاتين فصلى كل واحدة منهما في وقتها أو صلاهما قبل أن ينزل المزدلفة، فقال أكثر الفقهاء إن ذلك يجزئه على الكراهة

لفعله. وقال أصحاب الرأي إن صلاهما قبل أن يأتي جمعا كان عليه الإعادة وحكي نحو من هذا عن سفيان الثوري غير أنهم قالوا إن فرق بين الظهر والعصر أجزأه على الكراهة لفعله ولم يروا عليه الإعادة. قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي عن مالك عن موسى بن عقبة عن كريب مولى ابن عباس عن أسامة بن زيد أنه سمعه يقول دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم من عرفة حتى إذا كان بالشعب نزل فبال وتوضأ ولم يسبغ الوضوء فقلت له الصلاة فقال الصلاة أمامك فركب فلما جاء المزدلفة نزل فتوضأ فأسبغ الوضوء ثم أقيمت الصلاة فصلى المغرب ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزل ثم أقيمت العشاء فصلاها ولم يصل بينهما شيئا. قلت قوله الصلاة أمامك يحتج به أصحاب الرأي فيما ذهبوا إليه من إيجاب الإعادة على من صلاها قبل أن يأتي المزدلفة، ومعناه عند من ذهب إلى خلاف مذهبهم الترخيص والترفيه دون العزيمة والإيجاب. قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا حماد بن خالد عن ابن أبي ذئب عن الزهري عن سالم عن ابن عمر قال وجمع بينهما بإقامة. قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا شبابة عن ابن أبي ذئب في هذا الحديث وقال بإقامة لكل صلاة ولم يناد في الأولى ولم يسبح على أثر واحدة منهما. قال وحدثنا ابن كثير أخبرنا سفيان، عَن أبي إسحاق عن عبد الله بن مالك عن ابن عمر رضي الله عنهما قال صليتهما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بإقامة واحدة. قلت اختلف الفقهاء في ذلك فقال الشافعي لا يؤذن ويصليهما بإقامتين وذلك أن الأذان إنما سن لصلاة الوقت. وصلاة المغرب لم تصل في وقتها فلا يؤذن لها

ومن باب يتعجل من جمع

كما لا يؤذن للعصر بعرفة وكذلك قال إسحاق. وقال أصحاب الرأي يؤذن للأولى ويقام لها ثم يقام للأخرى بلا أذان، وقد روي هذا في حديث جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد الله في قصة الحج أنه فعلها بأذان واقامتين. وقال مالك يؤذن لكل صلاة ويقام لها فيصليان بأذانين واقامتين. وقال سفيان الثوري يجمعان بإقامة واحدة على حديث ابن عمر من رواية أبي إسحاق، وقال أحمد أيها فعلت أجزاك. ومن باب يتعجل من جمع قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثيرأخبرنا سفيان حدثني سلمة بن كهيل عن الحسن العرني عن ابن عباس قال قدمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة المزدلفة أغيلمة بني عبد المطلب على جمرات وجعل يلطخ أفخاذنا ويقول أُبيني لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس. اللطخ الضرب الخفيف باليد يقال لطخه بيده لطخا. وهذا رخصة رخصها رسول الله صلى الله عليه وسلم لضعفة أهله لئلا تصيبهم الحطمة وليس ذلك لغيرهم من الأقوياء وعلى الناس عامة أن يبيتوا بالمزدلفة وأن يقفوا بها حتى يدفعوا مع الإمام قبل أن تطلع الشمس من الغد. وفيه بيان أن الجمرة لا ترمى إلاّ بعد طلوع الشمس. وهذا في رمي الجمرة يوم النحر، فأما في سائر الأيام فإنه لا يرميها حتى تزول الشمس. قال أبو داود: حدثنا هارون بن عبد الله أخبرنا ابن أبي فديك عن الضحاك بن عثمان عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها قالت أرسل النبي صلى الله عليه وسلم بأم سلمة ليلة النحر فرمت الجمرة قبل الفجر ثم مضت فأفاضت وكان ذلك

ومن باب يوم الحج الأكبر

اليوم الذي يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم، يَعني عندها. قلت واختلفوا في رمي الجمرة قبل الفجر فأجازه الشافعي ما دام بعد نصف الليل الأول واحتج بحديث أم سلمة. وقال غيره إنما هذا رخصة خاصة لها فلا يجوز أن يرمي قبل الفجر. وقال أصحاب الرأي ومالك وأحمد بن حنبل يجوز أن يرمي بعد الفجر قبل طلوع الشمس ولا يجوز قبل ذلك. قلت والأفضل أن لا يرمي إلاّ بعد طلوع الشمس كما جاء في حديث ابن عباس. ومن باب يوم الحج الأكبر قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا إسماعيل حدثنا أيوب عن محمد، عَن أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب في حجته فقال إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ثلاثة متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان. قوله إن الزمان قد استدار كهيئته معنى هذا الكلام أن العرب في الجاهلية كانت قد بدلت أشهر الحرم وقدمت وأخرت أوقاتها من أجل النسيء الذي كانوا يفعلونه وهو ما ذكر الله سبحانه في كتابه فقال {إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما} [التوبة: 37] الآية. ومعنى النسيء تأخير رجب إلى شعبان والمحرم إلى صفر وأصله مأخوذ من نسأت الشيء إذا أخرته ومنه النسيئة في البيع، وكان من جملة ما يعتقدونه من الدين تعظيم هذه الأشهر الحرم فكانوا يتحرجون فيها عن القتال وعن سفك الدماء ويأمن بعضهم بعضا إلى أن تنصرم هذه الأشهر ويخرجوا إلى أشهر الحل فكان أكثرهم يتمسكون

ومن باب من لم يدرك عرفة

بذلك ولا يستحلون القتال فيها، وكان قبائل منهم يستبيحونها فإذا قاتلوا في شهر حرام حرموا مكانه شهرا آخر من أشهر الحل ويقولون نسأنا الشهر واستمر ذلك بهم حتى اختلط ذلك عليهم وخرج حسابه من أيديهم فكانوا ربما يحجون في بعض السنين في شهر ويحجون من قابل في شهرغيره إلى أن كان العام الذي حج فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فصادف حجهم شهر الحج المشروع وهو ذو الحجة فوقف بعرفة اليوم التاسع منه ثم خطبهم فأعلمهم أن أشهر النسيء قد تناسخت باستدارة الزمان وعاد الأمر إلى الأصل الذي وضع الله حساب الأشهر عليه يوم خلق السموات والأرض وأمرهم بالمحافظة عليه لئلا تتغير أو تتبدل فيما يستأنف من الأيام فهذا تفسيره ومعناه. وقوله رجب مضر إنما أضاف الشهر إلى مضر لأنها كانت تشدد في تحريم رجب وتحافظ على ذلك أشد من محافظة سائر القبائل من العرب فأضيف الشهر إليهم لهذا المعنى. وأما قوله الذي بين جمادى وشعبان فقد يحتمل أن يكون ذلك على معنى توكيد البيان كما قال في أسنان الصدقة فإن لم تكن ابنة مخاض فابن لبون ذكر ومعلوم أن ابن اللبون لا يكون إلاّ ذكرا ويحتمل أن يكون إنما قال ذلك من أجل أنهم قد كانوا نسؤوا رجبا وحولوه عن موضعه وسموا به بعض الشهور الأخرفنحملوه اسمه فبين لهم أن رجبا هو الشهر الذي بين جمادى وشعبان لا ما كانوا يسمونه على حساب النسيء. ومن باب من لم يدرك عرفة قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن إسماعيل حدثنا عامر أخبرني

عروة بن مُضرِّس الطائي قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بالموقف، يَعني بجَمْع فقلت جئت يا رسول الله من جبلي طيء أكللت مطيتي وأتعبت نفسي والله ما تركت من جبل إلاّ وقفت عليه فهل لى من حج قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أدرك معنا هذه الصلاة وأتى عرفات قبل ذلك ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه وقضى تفثه. قلت في هذا الحديث من الفقه أن من وقف بعرفات وقفة ما بين الزوال من يوم عرفة إلى أن يطلع الفجر من يوم النحر فقد أدرك الحج. وقال أصحاب مالك النهار تبع الليل في الوقوف فمن لم يقف بعرفة حتى تغرب الشمس فقد فاته الحج وعليه حج من قابل، وروى عن الحسن أنه قال عليه هدي من الإبل وحجه تام. وقال أكثر الفقهاء من صدر من عرفة قبل غروب الشمس فعليه دم وحجه تام وكذلك قال عطاء وسفيان الثوري وأصحاب الرأي وهو قول الشافعي وأحمد. وقال مالك والشافعي فيمن دفع من عرفة قبل غروب الشمس ثم رجع إليها قبل طلوع الفجر فلا شيء عليه. وقال أصحاب الرأي إذا رجع بعد غروب الشمس ووقف لم يسقط عنه الدم، وظاهر قوله من أدرك معنا هذه الصلاة شرط لا يصح الحج إلاّ بشهوده جمعا وقد قال به غير واحد من أعيان أهل العلم، قال علقمة والشعبي والنخعي إذا فاته جمع ولم يقف به فقد فاته الحج ويجعل إحرامه عمرة وممن تابعهم على ذلك ابو عبد الرحمن الشافعي وإليه ذهب محمد بن إسحاق بن خزيمة وأحسب محمد بن جرير الطبري أيضاً واحتجوا أو من احتج منهم بقوله سبحانه {فاذكروا الله عند المشعر الحرام} [البقرة: 198] وهذا نص والأمر على الوجوب فتركه لا يجوز بوجه.

ومن باب يبيت بمكة ليالي منى

وقال أكثر الفقهاء إن فاته المبيت بالمزدلفة والوقوف بها أجزأه وعليه دم. وقوله فقد تم حجه يريد به معظم الحج وهو الوقوف بعوفه لأنه هو الذي يخاف عليه الفوات، فأما طواف الزيارة فلا يخسى فواته وهذا كقوله الحح عرفة أي معظم الحج هو الوقوف بعرفة. وقوله وقضى تفثه فإن التفث زعم الزجاج أن أهل اللغة لا يعرفونه إلا من التفسير قال وهو الأخذ من الشارب وتقليم الظفر والخروج من الاحرام إلى الإحلال وقال ابن الأعرابي في قوله ثم ليقضوا تفثهم أي قضاء حوائجهم من الحلق والتنظف. ومن باب يبيت بمكة ليالي منى قال أبو داود: حدثنا أبو بكر بن خلاد حدثنا يحيى عن ابن جريج أخبرني جرير أو ابن جرير الشك من يحيى أنه سمع عبد الرحمن بن فروخ يسأل ابن عمر قال إننا نتبايع بأموال الناس فيأتي أحدنا بمكبة فيبيت على المال فقال أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد بات بمنى وظل. قلت واختلف أهل العلم في المبيت بمكة ليالي منى لحاجة من حفظ مال ونحوه وكان ابن عباس يقول لا بأس إذا كان للرجل متاع بمكة يخشى عليه ان يأت عن منى. وقال أصحاب الرأي لا شيء على من كان بمكة أيام منى إذا رمى الجمرة وقد أساء. وقال الشافعي ليست الرخصة في هذا إلاّ لأهل السقاية ومن مذهبه أن في ليلة درهماً وفي ليلتين درهمين وفي ثلاث ليال دم. وكان مالك يرى عليه في ليلة واحدة دماً.

ومن باب الصلاة بمنى

ومن باب الصلاة بمنى قال أبو داود: حدثنا مسدد أن أبا معاوية بن يزيد وحفص بن غياث حدثاهم وحديث أبى معاوية أتم عن الأعمش عن إبراهيم عن عبد الرحمن بن يزيد قال صلى عثمان بمنى أربعا فقال عبد الله صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ركعتين ومع أبي بكر ركعتين ومع عمر ركعتين زاد حفص ومع عثمان رضي الله عنهم صدراً من إمارته ركعتين ثم أتمها. زاد من هنا، عَن أبي معاوية ثم تفرقت بكم الطرق، قال الأعمش وحدثني معاوية بن قرة عن أشياخه أن عبد الله صلى أربعا فقيل له عبت على عثمان ثم صليت أربعا فقال الخلاف شر. قلت لو كان المسافر لا يجوز له الإتمام كما لا يجوز له القصر لما يتابعوا عثمان عليه إذ لا يجوز على الملأ من الصحابة متابعته على الباطل فدل ذلك على أن من رأيهم جواز الإتمام وإن كان الاختيار عند كثير منهم القصر. ألا ترى أن عبد الله أتم الصلاة بعد ذلك واعتذر بقول الخلاف شر فلو كان الإتمام لا جواز له لكان الخلاف له خيراً لا شراً. وفي هذا دليل على ما قلناه إلاّ أنه قد روي عن إبراهيم أنه قال إنما صلى عثمان أربعا لأنه كان اتخذها وطنا، وعن الزهري أنه قال إنما فعل ذلك لأنه اتخذ الأموال بالطائف وأراد أن يقيم بها. قلت وكان من مذهب ابن عباس أن المسافر إذا قدم على أهل أو ماشية أتم الصلاة، وقال أحمد بن حنبل بمثل قول ابن عباس. ومن باب القصر لأهل مكة قال أبو داود: حدثنا النفيلي حدثنا زهير حدثنا أبو إسحاق حدثنا حارثة بن وهب الخزاعي قال صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى والناس أكثر ما كانوا

فصلى بنا ركعتين في حجة الوداع. قال أبو داود حارثة من خزاعة دارهم بمكة. حارثة بن وهب أخو عبيد الله بن عمر بن الخطاب لأمه. قلت ليس في قوله فصلى بنا ركعتين دليل على أن المكي يقصر الصلاة بمنى لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مسافرا بمنى فصلى صلاة المسافر ولعله لو سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاته لأمره بالإتمام وقد يترك صلى الله عليه وسلم بيان الأمور في بعض المواطن اقتصارا على ما تقدم من البيان السابق خصوصا في مثل هذا الأمرالذي هو من العلم الظاهر العام، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يصلي بهم فيقصر فإذا سلم التفت فقال أتموا يا أهل مكة فإنا قوم سَفر. وقد اختلف الناس في هذا فقال الشافعي يقصر الإمام والمسافرون معه ويقوم أهل مكة فيتمون لأنفسهم، وإليه ذهب سفيان وأحمد وهو قول أصحاب الرأي وقد روي ذلك عن عطاء ومجاهد والزهري، وذهب مالك والأوزاعي وإسحاق إلى أن الإمام إذا قصر قصروا معه وسواء في ذلك أهل مكة وغيرهم. وحدثني إسماعيل بن محمد بن خشَك بن محرز حدثنا سلمة بن شبيب قال: قال الوليد بن مسلم وافيت مكة وعليها محمد بن إبراهيم وقد كتب إليه أن يقصر الصلاة بمنى وعرفة فقصر فرأيت سفيان الثوري قام فأعاد الصلاة وقام ابن جريج فبنى على صلاته فأتمها، قال الوليد ثم دخلت المدينة فلقيت مالك بن أنس فذكرت ذلك له وأخبرته بفعل الأمير وفعل سفيان وابن جريج، فقال أصاب الأمير وأخطأ ابن جريج ثم قدمت الشام فلقيت الأوزاعي فذكرت له ذلك فقال أصاب مالك وأصاب الأمير وأخطأ سفيان وابن جريج. قال ثم دخلت مصر فلقيت الشافعي فذكرت ذلك له فقال أخطأ الأمير وأخطأ مالك وأخطأ الأوزاعي

ومن باب رمي الجمار

وأصاب سفيان وأصاب ابن جريج. قلت أما ابن جريج فإنما بنى على صلاته لأن من مذهبه أن المفترض يجوز له أن يصلي خلف المتنفل وأعاد سفيان الصلاة لأنه لا يرى للمفترض أن يصلي خلف المتنفل. وكانت صلاة الأمير عنده نافلة حين قصرها وهو مقيم بمكة والياً عليها فاستأنف سفيان صلاته. وكذلك مذهب أصحاب الرأي في هذا. ومن باب رمي الجمار قال أبو داود: حدثنا ابن السرح أخبرنا ابن وهب أخبرني مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم عن أبيه، عَن أبي البَدَّاح بن عاصم عن أبيه وهو عاصم بن عدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص لرعاء الإبل في البيتوتة يرمون يوم النحر ثم يرمون الغد أو من بعد الغد ليومين ثم يرمون يوم النفر. قلت أراد بيوم النفر هاهنا النفر الكبير وهذا رخصة رخصها رسول الله صلى الله عليه وسلم للرعاء لأنهم مضطرون إلى حفظ أموالهم فلو أخذوا بالمقام والمبيت بمنى ضاعت أموالهم وليس حكم غيرهم في هذا كحكمهم. وقد اختلف الناس في تعيين اليوم الذي يرمي فيه فكان مالك يقول يرمون يوم النحر وإذا مضى اليوم الذي يلي يوم النحر رموا من الغد وذاك يوم النفر الأول يرمون لليوم الذي مضى ويرمون ليومهم ذلك، وذلك أنه لا يقضي أحد شيئا حتى يجب عليه. وقال الشافعي نحواً من قول مالك، وقال بعضهم هم بالخيار إن شاؤوا قدموا وإن شاؤوا أخروا. ومن باب الحلق والتقصير قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول

الله صلى الله عليه وسلم قال: اللهم ارحم المحلقين قالوا يا رسول الله والمقصرين قال اللهم ارحم المحلقين قالوا يا رسول الله والمقصرين قال والمقصرين. قلت كان أكثر من أحرم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصحابة ليس معهم هدي وكان صلى الله عليه وسلم قد ساق الهدي ومن كان معه هدي فإنه لا يحلق حتى ينحر هديه فلما أمر من ليس معه هدي أن يحل وجدوا من ذلك في أنفسهم وأحبوا أن يأذن لهم في المقلم على إحرامهم حتى يكملوا الحج وكانت طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى بهم فلما لم يكن لهم بد من الاحلال كان القصر في نفوسهم أحب من الحلق فمالوا إلى القصر فلما رأى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم أخرهم في الدعاء وقدم عليهم من حلق وبادر إلى الطاعة وقصر بمن تهيبه وحاد عنه ثم جمعهم في الدعوة وعمهم بالرحمة. قال أبو داود: حدثنا محمد بن العلاء حدثنا حفص عن هشام عن ابن سيرين عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى جمرة العقبة يوم النحر ثم رجع إلى منزله بمنى فدعا بذِبح فذبح ثم دعا بالحلاق فأخذ بشق رأسه الأيمن فحلقه فجعل يقسم بين من يليه الشعرة والشعرتين ثم أخذ بشق رأسه الأيسر فحلقه ثم قال هاهنا أبو طلحة فدفعه إليه. قلت فيه من السنة أن يبدأ في الحلاق بالشق الأيمن من الرأس ثم بالشق الأيسر وهو من باب ما كان يستحبه صلى الله عليه وسلم من التيمن في كل شيء من طهوره ولباسه ونعله في نحو ذلك من الأمور. وفيه أن شعر بني آدم طاهر فلا معنى لقول من زعم أن هذا خاص لرسول الله ولو لزم هذا في شعره للزم في منيه مثل ذلك فيقال إن مني سائر الناس

ومن باب العمرة

نجس فلما لم يفترق الأمور في ذلك عنده وجب أن لا يفترق كذلك في الشعر. والذبح مكسورة الذال ما يذبح من الغنم والذَبح الفعل. قلت وفي قوله اللهم ارحم المحلقين وجه آخر وهو أن السنة فيمن لبد رأسه الحلق وإنما يجزىء القصر فيمن لم يلبد وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد لبد رأسه. وروى عنه أنه قال من لبد رأسه فليحلق من طريق عبد الله العمري عن نافع عن ابن عمر، وروي ذلك أيضاً عن عمر بن الخطاب وبه قال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق، وقال أصحاب الرأي إن قصر ولم يحلق أجزأه. ومن باب العمرة قال أبو داود: حدثنا هناد بن السري، عَن أبي زائدة حدثنا ابن جريج ومحمد بن إسحاق عن عبد الله بن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال والله ما أعمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة في ذي الحجة إلاّ ليقطع بذلك أمر أهل الشرك فإن هذا الحي من قريش ومن دان دينهم كانوا يقولون إذا عفا الوبَر وبرأ الدبر ودخل صفر فقد حلت العمرة لمن اعتمر. قوله عفا الوبر معناه كثر واثمر نباته يقال عفا القوم إذا كثر عددهم، ومنه قول الله تعالى {حتى عفوا} [الأعراف: 95] وكانوا لا يعتمرون في الأشهر الحرم حتى تنسلخ. قال أبو داود: حدثنا أبو كامل حدثنا أبو عوانة عن إبراهيم بن مهاجر، عَن أبي بكر بن عبد الرحمن قال أخبرني رسول مروان الذي أرسل إلى أم معقل قال جاء أبو معقل حاجاً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قدم قالت أم معقل قد علمت أن عليَّ حجة فانطلقا يمشيان حتى دخلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إن علي حجة وإن لأبي معقل بكراً فقال أبو معقل صدقت جعلته في سبيل الله

ومن باب الحائض تخرج بعد الإفاضة

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطها فلتحج عليه فإنه في سبيل الله فأعطاها البكر فقالت يا رسول الله إني امرأة قد كبرت وسقمت فهل من عمل يجزىء عني من حجتي فقال عمرة في رمضان تجزء حجة. قلت فيه من الففه جواز احباس الحيوان. وفيه أنه جعل الحج من السبيل، وقد اختلف الناس في ذلك، وكان ابن عباس لا يرى بأسا أن يعطي الرجل من زكاته في الحج وروي مثل ذلك عن ابن عمر، وكان أحمد وإسحاق يقولان يعطي من ذلك في الحج، وقال سفيان وأصحاب الرأي والشافعي لا تصرف الزكاة إلى الحج وسهم السبيل الغزاة والمجاهدون. ومن باب الحائض تخرج بعد الإفاضة قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر صفيه بنت حُيَي فقيل إنها قد حاضت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلها حابستنا فقالوا يا رسول الله إنها قد أفاضت قال فلا إذاً. قلت طواف الإفاضة هو الذي يدعي طواف الزيارة وهو الواجب الذي لا يتم الحج إلاّ به. وفيه دليل على أن طواف الوداع ليس بواجب وأوجبوا على من تركه دما إلاّ الحائض فإنها إذا تركته لم يلزمها شيء. وفيه دليل على أن الطواف لا يصح من الحائض وأنها لا تدخل المسجد ولا تقرب البيت. قال أبو داود: حدثنا عمرو بن عوف أخبرنا أبو عَوانة عن يعلى بن عطاء عن الوليد بن عبد الرحمن عن الحارث بن عبد الله بن أوس قال أتيت عمر بن الخطاب فسألته عن المرأة تطوف بالبيت يوم النحر ثم تحيض، قال ليكن آخر عهدها

ومن باب التحصيب

بالبيت، قال فقال الحارث كذلك أفتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر اربْتَ عن يديك سألتني عن شيء سألت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم لكيما أخالف. قوله اربت دعاء عليه كأنه يقول سقطت آرابه وهي جمع أرب وهو العضو. قلت وهذا على سبيل الاختيار في الحائض إذا كان في الزمان نفَس وفي الوقت مهلة. فأما إذا أعجلها السير كان لها أن تنفر من غير وداع بدليل خبر صفية، وممن قال أنه لا وداع على الحائض مالك والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق وهو قول أصحاب الرأي وكذلك قال سفيان. ومن باب التحصيب قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا يحيى بن سعيد عن هشام عن أبيه عن عائشة قالت إنما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم المحصب ليكون اسمح لخروجه. قلت التحصيب إذا نفر الرجل من منى إلى مكة للتوديع أن يقيم بالشعب الذي يخرجه إلى الأبطح حتى يهجع بها من الليل ساعة ثم يدخل مكة وكان هذا شيئا يفعل ثم ترك. ومن باب من قدم شيئا قبل شيء في حجه قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن ابن شهاب عن عيسى بن طلحة بن عبيد الله عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بمنى يسألونه فجاء رجل فقال يا رسول الله إني لم أشعر فحلقت قبل أن أذبح فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اذبح ولا حرج، وجاء آخر فقال يا رسول الله لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي قال ارم ولا حرج، قال فما سئل يومئذٍ عن شيء قدم أو أخر إلاّ قال اصنع ولا حرج.

قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن الشيباني عن زياد بن علاقة عن أسامة بن شريك قال خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم حاجا فكان الناس يأتونه فمن قائل يا رسول الله سعيت، يَعني قبل أن أطوف وأخرت شيئا أو قدمت شيئا فكان يقول لا حرج لا حرج إلاّ على رجل اقترض من عرض رجل مسلم وهو ظالم فذلك الذي حَرِج وهلَك. قلت ظاهر هذا الحديث أنه إذا حلق رأسه قبل أن يذبح أو نحر قبل أن يرمي فلا شيء عليه، وإلى هذا ذهب مجاهد وطاوس وهو قول الشافعي وسواء عندهم فعله ناسيا أو متعمدا. وقال أحمد وإسحاق فيمن فعل ذلك ساهيا فلا شيء عليه كأنه يرى أن حكم العامد خلاف ذلك ويدل على صحة ما ذهب إليه أحمد قوله في هذا الحديث إني لم أشعر فحلقت. وذهب قوم إلى أنه إذا قدم شيئا أو أخره كان عليه دم. وروي ذلك عن ابن عباس وبه قال سعيد بن جبير وقتادة وإليه ذهب مالك بن أنس. وتأول بعض من ذهب إلى هذا القول من أصحاب الرأي. قوله ارم ولا حرج على أنه أراد رفع الحرج في الإثم دون الفدية، قال وقد يجوز أن يكون هذا السائل مفردا فلا يلزمه دم وإذا كان متطوعاً بالدم لم يلزمه في تقديمه وتأخيره شيء. قلت قوله لا حرج ينتظم الأمرين جميعا الاثم والفدية لأنه كلام عام، وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إما متمتعين أو قارنين على ما دلت عليه الأخبار والدم على القارن والمتمتع واجب. على أن السائل عن هذا الحكم لم يكن رجلا

ومن باب حرم مكة

واحداً فقط إنما كانوا جماعة ألا تراه يقول فمن قائل أخرت شيئا أو قدمت شيئا وهؤلاء لا يتفق أن يكونوا كلهم مفردين فكان هذا الاعتراض غير لازم. وأما قوله سعيت قبل أن أطوف فيشبه أن يكون هذا السائل لما طاف طواف القدوم قرن به السعي، فلما طاف طواف الإفاضة لم يعد السعي فأفتاه بأن لا حرج لأن السعي الأول الذي قرنه بالطواف الأول قد أجزأه. فأما إذا لم يكن سعى إلى أن أفاض فالواجب عليه أن يؤخر السعي عن الطواف لا يجزيه غير ذلك في قول عامة أهل العلم إلاّ في قول عطاء وحده فإنه قال يجزئه وهو قول كالشاذ لا اعتبار له. قوله اقترض معناه اغتاب وأصله من القرض وهو القطع. ومن باب حرم مكة قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا الأوزاعي حدثني يحيى بن أبي كثير، عَن أبي سلمة، عَن أبي هريرة قال لما فتح الله على رسوله صلى الله عليه وسلم مكة قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال إن الله حبس عن مكة الفيل وسلط عليها رسوله والمؤمنين وإنما أحلت لي ساعة من النهار ثم هي حرام إلى يوم القيامة لا يعضد شجرها ولا ينفر صيدها ولا تحل لقطتها إلاّ لمنشد فقام عباس أو قال فقال يا رسول الله إلاّ الاذخر قال وزادنا فيه ابن المصفى عن الوليد فقام أبو شاة رجل من أهل اليمن فقال اكتبوا لي يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اكتبوا لأبي شاة قلت للأوزاعي ما قوله اكتبوا لأبي شاة. قال هذه الخطبة. قوله إن الله حبس عن مكة الفيل وسلط عليها رسوله والمؤمنين. ثم قوله

وإنما أحلت لي ساعة من النهار يستدل بهما من يذهب إلى أن مكة فتحت عنوة لا صلحا. وتأول غيرهم قوله وإنما أحلت لي ساعة من النهار على معنى دخوله إياها من غير إحرام لأنه دخلها وعليه عمامة سوداء. وقيل إنما أحلت له في تلك الساعة إراقة الدم دون الصيد وقطع الشجر وسائر ما حرم على الناس منه. وقد سأل بعض الملحدين عن هذا فقال لم كان حبس الفيل في زمان الجاهلية عنها ومنعه منها ومن الإفساد والإلحاد فيها ولم يمنع الحجاج بن يوسف في زمان الإسلام عنها وقد نصب المنجنيق على الكعبة وأضرمها بالنار وسفك فيها الدم الحرام وقتل عبد الله بن الزبير وأصحابه في المسجد وكيف لم يحبس عنها القرامطة وقد سلبوا الكعبة ونزعوا حليتها وقلعوا الحجر وقتلوا العالم من الحاج وخيار المسلمين بحضرة الكعبة. فأجاب عن مسألته بعض العلماء بأن حبس الفيل عنها في الجاهلية كان علما لنبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتنويها بذكر آبائه إذ كانوا عمار البيت وسكان الوادي فكان ذلك الصنيع ارهاصاً للنبوة وحجة عليهم في إثباتها فلو لم يقع الحبس عنها والذب عن حريمها لكان في ذلك أمران أحدهما فناء أهل الحرم وهم الآباء والأسلاف لعامة المسلمين ولكافة من قام به الدين، والآخر أن الله سبحانه أراد أن يقيم به الحجة عليهم في إثبات نبوة رسوله صلى الله عليه وسلم وأن يجعله مقدمة لكونها وظهورها فيهم فكان مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عامئذ وكانوا قوماً عرباً أهل جاهلية ليست لهم بصيرة في العلم ولا تقدمة في الحكمة وإنما كانوا يعرفون من الأمور ما كان دركه من جهة الحس والمشاهدة فلو لم يجر الأمر في ذلك على الوجه الذي جرى لم يكن يبقى في أيديهم شيء من دلائل النبوة تقوم به الحجة عليهم في ذلك الزمان

فأما وقد أظهر الله الدين ورفع أعلامه وشرح أدلته وأكثر أنصاره فلم يكن ما حدث عليها من ذلك الصنيع أمراً يضر بالدين أو يقدح في بصائر المسلمين وإنما كان ما حدث منه امتحاناً من الله سبحانه لعباده ليبلو في ذلك صبرهم واجتهادهم ولينيلهم من كرامته ومغفرته ما هو أهل التفضيل به والله يفعل ما يشاء وله الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين. وقوله لا يعضد شجرها معناه لا يقطع والعضد القطع قلت وسواء في ذلك ما غرسه الآدميون وما نبت من غير غرس وتنبيت لأن العموم يسترسل على ذلك كله وهو ظاهر مذهب الشافعي، وسمعت أصحاب أبي حنيفة يفرقون بين ما ينبت من الشجر في الحرم وبين ما ينبته الآدميون ويجعلون النهي مصروفا إلى ما أنبته الله تعالى دون غيره. ويحكى عن مالك أنه قال لا شيء على من قطع شيئا من شجر الحرم وهو قول داود وأهل الظاهر وأما الشافعي فإنه يرى فيه الفدية. وقوله لا ينفر صيدها معناه لا يتعرض له بالاصطياد ولا يهاج فينفر. وحكي عن سفيان بن عيينة أنه قال معناه أن يكون الصيد رابضا في ظل الشجرة فلا ينفره الرجل ليقعد فيستظل مكانه وقوله لا تحل لقطتها إلاّ لمنشد فإن المنشد هو المعرف تقول نشدت الضالة إذا طلبتها وأنشدتها إذا عرفتها. وقد اختلف الناس في حكم ضالة الحرم فذهب أكثر أهل العلم إلى أنه لا فرق بينها وبين ضالة الحل. وكان عبد الرحمن بن مهدي يذهب إلى التفرقة بينها وبين ضالة سائر البقاع ويقول ليس لواجدها منها غير التعريف أبدا ولا يملكها بحال ولا يستنفقها ولا يتصدق بها حتى يظفر بصاحبها، وكان يحتج

بقوله لا تحل لقطتها إلاّ لمنشد، ويحكى عن الشافعي نحو من هذا القول. وفي الحديث دليل على أن كتاب العلم وتدوين أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وتخليدها في الصحف جائز وقد رويت الكراهة في ذلك عن بعض السلف. قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن منصور عن مجاهد عن طاوس عن ابن عباس في هذه القصة قال ولا يختلي خلاها. قلت الخلاء الحشيش ومنه سميت المخلاة، وكان الشافعي يقول لا يحتش من الحرم، فأما الرعي فلا بأس به وتفصيل ذلك على مذهبه أن ينظر إلى الحشيش فإن كان يستخلف إذا قطع كان جائزاً قطعه، وكذلك القضيب من أغصان الشجر وإن كان لا يستخلف لم يجز وفيه ما يقصه. ويكره على مذهبه إخراج شيء من أحجار مكة ومن جميع أجزاء أرضها وتربتها لتعلق حرمة الحرم بها إلاّ إخراج ماء زمزم فإنه غير مكروه لما فيه من التبرك والتشفي. وقال أبوحنيفة ومحمد بن الحسن لا يحتش ولا يرعى وقول أبي يوسف قريب من قول الشافعي. قلت فأما الشوك فلا بأس بقطعه لما فيه من الضرر وعدم النفع ولا بأس بأن ينتفع بحطام الشجر وما بلي منه والله أعلم. قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا إسرائيل عن إبراهيم بن مهاجر عن يوسف بن ماهك عن أمه عن عائشة قالت: قلت يا رسول الله ألا نبني لك بيتا أو بناء يظلك من الشمس فقال لا إنما هو مُناخ من سبق إليه. قلت قد يحتج بهذا من لا يرى دور مكة مملوكة لأهلها ولا يرى بيعها وعقد

ومن باب في إتيان المدينة

الإجارة عليها جائز وقد قيل إن هذا خاص للنبي صلى الله عليه وسلم وللمهاجرين من أهل مكة فأنها دار تركوها لله تعالى فلم ير أن يعودوا فيها فيتخذوها وطنا أو يبنوا فيها بناء والله أعلم. ومن باب في إتيان المدينة قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا سفيان عن الزهري عن ابن المسيب، عَن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تشد الرحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد مسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى. قلت هذا في النذر ينذر الإنسان أن يصلي في بعض المساجد فإن شاء وفى به وإن شاء صلى في غيره إلاّ أن يكون نذر الصلاة في واحد من هذه المساجد فإن الوفاء يلزمه بما نذره فيها، وإنما خص هذه المساجد بذلك لأنها مساجد الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين، وقد أمرنا بالاقتداء بهم. وقال بعض أهل العلم لا يصح الاعتكاف إلاّ في واحد من هذه المساجد الثلاثة وعليه تأول الخبر. ومن باب في تحريم المدينة قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير حدثنا سفيان عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن علي رضي الله عنه قال ما كتبنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلاّ القرآن وما في هذه الصحيفة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة حرام ما بين عائر إلى ثور فمن أحدث حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه عدل ولا صرف. ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم فمن أخفر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه عدل ولا صرف ومن والى

قوماً بغير إذن مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه عدل ولا صرف. عائر وثور جبلان وزعم بعض العلماء أن أهل المدينة لا يعرفون بالمدينة جبلا يقال له ثور، وإنما ثور بمكة فيرون أن الحديث إنما أصله ما بين عائر إلى أحد، وأما تحريمه المدينة فإنما هو في تعظيم حرمتها دون تحريم صيدها وشجرها. وقد اختلف الناس في صيد المدينة وشجرها فقال مالك والشافعي وأكثر الفقهاء لا جزاء على من اصطاد في المدينة صيدا واحتجوا بحديث أنس وبقوله صلى الله عليه وسلم يا أبا عمير ما فعل النغير والنغر صيد فلو كان صيد المدينة حراماً لم يجز اصطياده ولا إمساكه في المدينة كهو بمكة، وكان ابن ذئب يرى الجزاء على من قتل صيدا من صيد المدينة أو قطع شجرة من شجرها. وروي أن سعدا وزيد بن ثابت وأبا هريرة كانوا يرون صيد المدينة حراماً فأما إيجاب الجزاء فلا يصح عن أحد منهم. وكان الشافعي يذهب في القديم إلى أن من اصطاد في المدينة صيدا أخذ سلبه وروى فيه أثرا عن سعيد وقال في الجديد بخلافه. وقال ابن نافع سئل مالك عن قطع السدر وما جاء فيه من النهي فقال إنما نهى عن قطع سدر المدينة لئلا توحش وليبقى فيها شجرها فيستأنس بذلك ويستظل بها من هاجر إليها. وقوله من آوى محدثا فعليه لعنة الله فإنه يروى على وجهين محدثا مكسورة الدال وهو صاحب الحدث وجانيه، ومحدثا مفتوحة الدال وهو الأمرالمحدث والعمل المبتدع الذي لم تجر به سنة ولم يتقدم به عمل.

وقوله لا يقبل منه عدل ولا صرف فإنه يقال في تفسير العدل أنه الفريضة والصرف النافلة. ومعنى العدل هو الواجب الذي لا بد منه ومعنى الصرف الربح والزيادة ومنه صرف الدراهم والدنانير والنوافل زيادات على الأصول فلذلك سميت صرفاً. وقوله يسعى بها أدناهم فمعناه أن يحاصر الإمام قوما من الكفار فيعطي بعض أهل عسكر المسلمين أمانا ًلبعض الكفار فإن أمانه ماض وإن كان المجير عبداً وهو أدناهم وأقلهم. وهذا خاص في أمان بعض الكفار دون جماعتهم ولا يجوز لمسلم أن يعطي أماناً عاماً لجماعة الكفار فإن فعل ذلك لم يجز أمانه لأن ذلك يؤدي إلى تعطيل الجهاد أصلا وذلك غير جائز. وقوله فمن أخفر مسلما يريد نقض العهد يقال خفرت الرجل إذا أمنته وأخفرته بالألف إذا نقضت عهده. وقوله من والى قوما بغير إذن مواليه فإن ظاهره يوهم أنه شرط وليس معناه معنى الشرط حتى يجوز له أن يوالي غير مواليه إذا أذنوا له في ذلك وإنما هو بمعنى التوكيد لتحريمه والتنبيه على بطلانه والإرشاد إلى السبب فيه وذلك أنه إذا استأذن أولياءه في موالاة غيرهم منعوه من ذلك، وإذا استبد به دونهم خفي أمره عليهم فربما ساغ له ما تعاطاه من ذلك فإذا تطاول الوقت وامتد به الزمان عرف من لاء من انتقل إليهم فيكون ذلك سببا لبطلان حق مواليه فهذا وجه ما ذكر من إذنهم. قال أبو داود: حدثنا حامد بن يحيى حدثنا عبد الله بن الحارث عن محمد بن عبد الله بن إنسان الطائفي عن أبيه عن عروة بن الزبير قال أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من لية حتى إذا كنا عند السدرة وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم في طرف القرن

الأسود حذوها فاستقبل نخبا ببصره ووقف حتى اتفق الناس كلهم ثم قال إن صيد وجٍّ وعِضاهه حَرَم مُحَرم لله وذلك قبل نزوله الطائف وحصاره ثقيف. قلت القرن جبيل صغير ورابية تشرف على وهدة. وَوَجٍّ ذكروا أنه من ناحية الطائف ونخب أراه جبلا أو موضعا ولست أحقه والعضاه من الشجر ما كان له شوك ويقال للواحدة منه عضة على وزن عوة ويقال عضة وعضاه كما قالوا شفة وشفاه. ولست أعلم لتحريمه وجهاً معنى إلاّ أن يكون ذلك على سبيل الحمى لنوع من منافع المسلمين، وقد يحتمل أن يكون ذلك التحريم إنما كان في وقت معلوم وفي مدة محصورة ثم نسخ. ويدل على ذلك قول وذلك قبل نزول الطائف وحصاره ثقيف ثم عاد الأمر فيه إلى الإباحة كساتر بلاد الحل. ومعلوم أن عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزلوا بحضرة الطائف وحصروا أهلها ارتفقوا بما نالته أيديهم من شجر وصيد ومرفق فدل ذلك على أنها حل مباح وليس يحضرني في هذا وجه غير ما ذكرته إلاّ شيء يروى عن كعب الأحبار لا يعجبني أن أحكيه وأعظم أن أقوله وهو كلام لا يصح في دين ولا نظر والله أعلم.

كتاب الضحايا

كتاب الضحايا قال أبو داود: حدثنا حميد بن مسعدة حدثنا بشر عن عبد الله بن عون عن عامر بن أبي رملة قال أنبأنا مخنف بن سليم قال ونحن وقوف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفات فقال يا أيها الناس إن على كل أهل بيت في كل عام أضحية وعتيرة أتدرون ما العتيرة هذه التي تقول الناس الرجبية. قال أبو داود العتيرة منسوخة. قلت العتيرة تفسيرها في الحديث أنها شاة تذبح في رجب وهذا هو الذي يشبه معنى الحديث ويليق بحكم التدين، فأما العتيرة التي كان يعترها أهل الجاهلية فهي الذبيحة تذبح للصنم فيصب دمها على رأسه، والعتر بمعنى الذبح ومنه قول الحارث بن حلزة: عننا باطلا وظلما كما تعتر عن حجرة الربيض الظباء أي تذبح واختلفوا في وجوب الأضحية فقال أكثر أهل العلم إنها ليست بواجبة ولكنها مندوب إليها. وقال أبو حنيفة هي واجبة وحكاه عن إبراهيم، وقال محمد بن الحسن هي واجبة على المياسير. قلت هذا الحديث ضعيف المخرج وأبو رملة مجهول.

ومن باب الرجل يأخذ من شعره

ومن باب الرجل يأخذ من شعره وهو يريد أن يضحي قال أبو داود: حدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا محمد بن عمرو حدثنا عمرو بن مسلم الليثي قال سمعت سعيد بن المسيب يقول سمعت أم سلمة تقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان له ذِبح يذبحه فإذا أهل هلال ذي الحجة فلا يأخذن من شعره ولا من أظفاره شيئاً حتى يضحي. قلت الذِبح بكسر الذال الضحية التي يذبحها المضحي. واختلف العلماء في القول بظاهر هذا الخبر فكان سعيد بن المسيب يقول به ويمنع المضحي من أخذ أظفاره وشعره أيام العشر من ذي الحجة، وكذلك قال ربيعة بن أبي عبد الرحمن وإليه ذهب أحمد وإسحاق. وكان مالك والشافعي يريان ذلك على الندب والاستحباب. ورخص أصحاب الرأي في ذلك. قلت وفي حديث عائشة دليل على أن ذلك ليس على الوجوب وهو قولها فتلت قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي ثم قلدتها ثم بعث بها ثم لم يحرم عليه شيء كان أحله الله له حتى نحر الهدي. وأجمعوا أنه لا يحرم عليه اللباس والطيب كما يحرمان على المحرم فدل ذلك على سبيل الندب والاستحباب دون الحتم والإيجاب. ومن باب ما يستحب من الضحايا قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عبد الله بن وهب حدثني حياة حدثني أبو صخر عن ابن قسيط عن عروة عن الزبير عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بكبش أقرن يطأ في سواد وينظر في سواد ويبرك في سواد فأتي به

فضحى به، قال فقال يا عائشة هلمي المدية ثم قال أشحثيها بحجر ففعلت فأخذها وأخذ الكبش فأضجعه وذبحه وقال بسم الله اللهم تقبل من محمد وآل محمد ومن أمة محمد ثم ضحى به. قوله يطأ في سواد يريد أن أظلافه ومواضع البروك منه وما أحاط بملاحظ عينيه من وجهه أسود وسائر بدنه أبيض. وقوله أشحثيها إنما هو اشحذيها والثاء والذال قريبا المخرج. وفي قوله تقبل من محمد وآل محمد ومن أمة محمد دليل على أن الشاة الواحدة تجزىء عن الرجل وأهله وإن كثروا وروي، عَن أبي هريرة وابن عمر أنهما كانا يفعلان ذلك وأجازه مالك والأوزاعي والشافعي وأحمد وكره ذلك الثوري وأبو حنيفة. قال أبو داود: حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي حدثنا عيسى حدثنا محمد بن إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب، عَن أبي عياش عن جابر بن عبد الله قال ذبح النبي صلى الله عليه وسلم يوم الذبح كبشين أقرنين أملحين موجبين فلما وجههما قال إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض على ملة إبراهيم حنيفا وما أنا من المشركين إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين اللهم منك ولك عن محمد وأمته بسم الله الله أكبر ثم ذبح. الأملح من الكباش هو الذي في خلال صوفه الأبيض طاقات سود. وقوله موجبين يريد منزوعي الأنثيين والوجاء الخصاء يقال وجأت الدابة فهي موجوءة إذا خصيتها. وفي هذا دليل على أن الخصي في الضحايا غير مكروه، وقد كرهه بعض أهل العلم لنقص العضو وهذا نقص ليس بعيب لأن الخصاء يفيد اللحم طيبا وينفي

ومن باب ما يجوز من السن في الضحايا

منه الزهومة وسوء الرائحة. قال أبو داود: حدثنا يحيى بن معين حدثنا حفص عن جعفرعن أبيه، عَن أبي سعيد قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحي بكبش أقرن فحيل ينظر في سواد ويأكل في سواد ويمشي في سواد. قلت الفحيل الكريم المختار للفحلة، فان الفحل فهو عام في الذكور منها وقالوا في ذكورة النخل فحال فرقا بينه وبين سائر الفحول من الحيوان. ومن باب ما يجوز من السن في الضحايا قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا أبو الأحوص حدثنا منصور عن الشعبي عن البراء قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر بعد الصلاة فقال من صلى صلاتنا ونسك نسكنا فقد أصاب النسك ومن نسك قبل الصلاة فتلك شاة لحم فقام أبو بردة بن نيار فقال يا رسول الله لقد نسكت قبل أن أخرج إلى الصلاة وعرفت أن اليوم يوم أكل وشرب فتعجلت وأكلت وأطعمت أهلي وجيراني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك شاة لحم قال فإن عندي عناقا جذعة وهي خير من شاتي فهل تجزي عني قال نعم ولن تجزي عن أحد بعدك. في هذا بيان أن الجذع من المعز لا تجزي عن أحد ولا خلاف أن الثني من المعز جائز. وقال أكثر أهل العلم إن الجذع من الضأن يجزي غير أن بعضهم اشترط أن يكون عظيماً. وحكي عن الزهري أنه قال لا يجزي من الضأن إلاّ الثني فصاعدا كالإبل والبقر. وفيه من الفقه أن من ذبح قبل الصلاة لم يجزه عن الأضحية. واختلفوا في وقت الذبح فقال كثير من أهل العلم لا يذبح حتى يصلي الإمام

ومن باب ما يكره من الضحايا

ومنهم من شرط انصرافه بعد الصلاة ومنهم من قال حتى ينحر الإمام. وقال الشافعي وقت الأضحى قدر ما يدخل الإمام في الصلاة حين تحل الصلاة وذلك إذا نورت الشمس فيصلي ركعتين ثم يخطب خطبتين خفيفتين فإذا مضى من النهار مثل هذا الوقت حل الذبح. وأجمعوا أنه لا يجوز الذبح قبل طلوع الشمس. وقد استدل بعض من يوجب الأضحية بقوله تجزىء عنك ولن تجزىء عن أحد بعدك. قلت وهذا لا يدل على ما قاله لأن أحكام الأصول مراعاة في إبدالها فرضاً كانت أو نفلا وإنما هو على الندب كما كان الأصل على الندب، ومعناه أنها تجزىء عنك إن أردت الأضحية ونويت الأجر فيها. ومن باب ما يكره من الضحايا قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر النمري حدثنا شعبة عن سليمان بن عبد الرحمن عن عبيد بن فيروز قال سألنا البراء بن عازب ما لا يجوز في الأضاحي فقال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اربع لا يجزي في الأضاحي العوراء بين عورها والمريضة بين مرضها والعرجاء بين ظلعها والكسير التي لا تنقى. قوله لا تنقى أي لا نِقيَ لها وهو المخ، وفيه دليل على أن العيب الخفيف في الضحايا معفو عنه ألا تراه يقول بين عورها وبين مرضها وبين ظلعها فالقليل منه غير بين فكان معفواً عنه. قال أبو داود: حدثنا إبراهيم بن موسى أخبرنا عيسى عن ثور حدثني أبو حميد الرُعيني أخبرني يزيد ذو مُضَر قال أتيت عتبة بن عبد السلمي فسألته فقال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المُصَفّرة والمستأصلة والبخقاء والمشيعة والكسراء. فالمصفرة التي تستأصل أذنها حتى يبدو سماخها والمستأصلة قرنها من أصله والبخقاء التي

تبخق عينها والمشيِّعة التي لا تتبع الغنم عجفاً وضعفاً والكسراء الكسير. قال الشيخ إنما سميت الشاة التي استؤصلت أذنها مصفرة لأن الأذن إذا زالت صفِر مكانها أى خلا والمشيعة هي التي لا تلحق الغنم لضعفها وهزالها فهي تشيعها من ورائها وبَخْق العين فقؤها. قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي حدثنا زهير حدثنا أبو إسحاق عن شريح بن النعمان، وكان رجل صدق عن علي رضي الله عنه قال أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن ولا نضحي بعوراء ولا مقابلة ولا مُدابرة ولا خرقاء ولا شرقاء، قال زهير فقلت لأبي إسحاق أذكر عضباء قال لا قلت فما المقابلة قال يقطع طرف الأذن، قلت فما المدابرة قال يقطع مؤخر الأذن قلت فما الشرقاء قال يشق الأذن قلت فما الخرقاء قال تخرق أذنها السمة. قلت تفسير هذه الحروف عند أهل اللغة كنحو مما ذكر في الحديث، والعضب كسر القرن وكبش أعضب ونعجة عضباء. وقوله نستشرف العين والأذن معناه الصحة والعظم ويقال أذن شُرافية. قال أبو عبيد قال الأصمعي الشرقاء من الغنم المشقوقة الأذنين والخرقاء أن يكون في الأذن ثقب مستدير والمقابلة أن يقطع من مقدم أذنها شيء ثم يترك معلقا كأنه زنمة والمدابرة أن يفعل ذلك بمؤخر الأذن من الشاة. واختلف العلماء في مقادير هذه العيوب وما يجوز منها في الضحايا وما لا يجوز فقال مالك إذا كان القطع قليلا والشق لم يضر فإن كثر لم يجز. وقال أصحاب الرأي إذا بقي أكثر من النصف من الأذن والذنب والعين أجزأ. وقال إسحاق بن راهويه إذا كان الثلث فما دونه أجزأ وإن كان أكثر من الثلث لم يجزه.

ومن باب حبس لحوم الأضاحي

واختلفوا في المكسورة القرن فأجازها مالك والشافعي وكذلك قال أصحاب الرأي، وقال إبراهيم النخعي إن كان قرنها الداخل صحيحا فلا بأس، يَعني المشاش. ومن باب حبس لحوم الأضاحي قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن عبد الله بن أبي بكر عن عمرة بنت عبد الرحمن قالت سمعت عائشة تقول دف ناس من أهل البادية حضرة الأضحى في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ادخروا الثلث وتصدقوا بما بقي قالت فلما كان بعد ذلك قيل يا رسول الله لقد كان الناس ينتفعون من ضحاياهم ويجملون منها الودك ويتخذون منها الأسقية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وما ذاك أو كما قال قالوا يا رسول الله نهيت عن إمساك لحوم الضحايا بعد ثلاث فقال إنما نهيتكم من أجل الدافة التي دفّتْ فكلوا وتصدقوا وادّخروا. قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يزيد بن زريع حدثنا خالد الحذاء، عَن أبي المليح عن نُبيشة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا كنا نهيناكم عن لحومها أن تأكلوها فوق ثلاث لكي تسعكم جاء الله بالسعة فكلوا وادخروا واتجروا الأوان هذه الأيام أيام أكل وشرب وذكر الله. قول دف ناس معناه أقبلوا من البادية والدف سير سريع يقارب فيه بين الخطو يقال دف الرجل دفيفا وهم دافة أي جماعة يدفون وإنما أراد قوماً أقحمتهم السنة وأقدمتهم الجماعة يقول إنما حرمت عليكم الإدخار فوق ثلاث لتواسوهم وتتصدقوا عليهم فأما وقد جاء الله بالسعة فادخروا وما بدا لكم. وقوله واتجروا أصله ايتجروا على وزن افتعلوا يريد الصدقة التي يبتغي أجبرها وثوابها، ثم قيل اتجروا كما قيل اتخذت الشيء وأصله أيتخذته وهو من الأخذ

كتاب الجهاد

كهو من الأجر وليس من باب التجارة لأن البيع في الضحايا فاسد إنما تؤكل ويتصدق منها. وقوله هذه الأيام أيام أكل وشرب فيه دليل على أن صوم أيام التشريق غير جائز لأنه قد وسمها بالأكل والشرب كما وسم يوم العيد بالفطر ثم لم يجز صيامه فكذلك أيام التشريق. وسواء كان ذلك تطوعاً من الصائم أو سيراً أوصامها الحاج عن التمتع. وقوله يجملون الودك معناه يذيبونه قال لبيد: * واشتوى ليلة ريح واجتمل * ومن هذا قيل فلان جميل الوجه يريدون به الحسن والنضارة كأنه دهين صقيل. كتاب الجهاد ومن باب سكنى البدو قال أبو داود: حدثنا مؤمل بن الفضل حدثنا الوليد عن الأوزاعي عن الزهري عن عطاء بن يزيد عن أبى سعيد الخدري أن أعرابيا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الهجرة فقال ويحك إن شأن الهجرة شديد فهل لك من إبل قال نعم، قال فهل تؤدي صدقتها قال: نعم قال فاعمل من وراء البحار فإن الله لن يَتِرك من عملك شيئا. وقوله لن يَتِرك معناه لن ينقصك ومن هذا قوله تعالى {ولن يتركم أعمالكم} [محمد: 35] والمعنى أنك قد تدرك بالنسبة أجر المهاجر وإن أقمت من وراء البحار وسكنت أقصى الأرض.

ومن باب هل انقطعت الهجرة

وفيه دلالة على أن الهجرة إنما كان وجوبها على من أطاقها دون من لا يقدر عليها. قال أبو داود: حدثنا أبو بكر وعثمان ابنا أبى شيبة قالا: حَدَّثنا شريك عن المقدام بن شريح عن أبيه قال سألت عائشة عن البداوه فقالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبدو إلى هذه التِلاع وأنه أراد البداوة مرة فأرسل إلى ناقة مُحرّمة من إبل الصدقة فقال لي يا عائشة ارفقي فإن الرفق لم يكن في شيء إلاّ زانه ولا نزع من شىء قط إلاّ شانه. البداوة الخروج إلى البدو والمقام به وفيه لغتان البداوة بفتح الباء والبداوة بكسرها. والناقة المحرمة هي التى لم تركب ولم تذلل فهي غير وطيئة ويقال أعرابي مُحرَّم إذا كان جلفا لم يخالط أهل الحضر. والتلاع جمع تَلعة وهي ما ارتفع من الأرض وغلظ وكان ما سفل منها مسيلاً لمائها. ومن باب هل انقطعت الهجرة قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن منصور عن مجاهد عن طاوس عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح فتح مكة لا هجرة ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا. قال وحدثنا إبراهيم بن موسى الرازي أخبرنا عيسى عن جرير عن عبد الرحمن بن أبي عوف عن معاوية قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها. قلت كانت الهجرة في أول الإسلام مندوباً إليها غير مفروضة وذلك قوله {ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة} [النساء: 100] نزل حين اشتد أذى المشركين على المسلمين عند انتقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وأمروا

ومن باب سكنى الشام

بالانتقال إلى حضرته ليكونوا معه فيتعاونوا ويتظاهروا إن حزبهم أمر وليتعلموا منه أمر دينهم ويتفقهوا فيه وكان عظم الخوف في ذلك الزمان من قريش وهم أهل مكة فلما فتحت مكة ونخعت بالطاعة زال ذلك المعنى وارتفع وجوب الهجرة وعاد الأمر فيها إلى الندب والاستحباب فهما هجرتان فالمنطقة منهما هي الفرض والباقية هي الندب فهذا وجه الجمع بين الحديثين على أن بين الإسنادين ما بينهما إسناد حديث ابن عباس متصل صحيح واسناد حديث معاوية فيه مقال. وقوله إذا استنفرتم فانفروا فيه إيجاب النفير والخروج إلى العدو إذا وقعت الدعوة وهذا إذا كان فيمن بإزاء العدو كفاية فإن لم يكن فيهم كفاية فهو فرض على المقيمين المطيقين للجهاد والاختيار للمطيق له مع وقوع الكفاية بغيره أن لا يقعد عن الجهاد. قال الله تعالى {لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى} [النساء: 95] . وقد روي عن ابن عباس أنه قال {انفروا خفافا وثقالا} [التوبة: 41] نسخه قوله {وما كان المؤمنون لينفروا كافة} [التوبة: 212] الآية. ومن باب سكنى الشام قال أبو داود: حدثنا عبيد الله بن عمر حدثنا معاذ بن هشام حدثني أبي عن قتادة عن شهر بن حوشب عن عبد الله بن عمرو قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ستكون هجرة بعد هجرة فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم ويبقى في الأرض شرار أهلها تلفظهم أرضوهم تقذَرهم نفسُ الله وتحشرهم النار مع القردة والخنازير.

ومن باب دوام الجهاد

قوله ستكون هجرة بعد هجرة معنى الهجرة الثانية الهجرة إلى الشام يرغب في المقام بها وهي مهاجر إبراهيم صلوات الله عليه. وقوله تقذرهم نفس الله تأويله أن الله يكره خروجهم إليها ومقامهم بها فلا يوفقهم لذلك فصاروا بالرد وترك القبول في معنى الشيء الذي تقذره نفس الإنسان فلا تقبله. وذكر النفس هاهنا مجاز واتساع في الكلام وهذا شبيه بمعنى قوله {ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين} [التوبة: 46] . ومن باب دوام الجهاد قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن قتادة عن مطرف عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناواهم حتى يقاتل آخرهم المسيح الدجال. قلت فيه بيان أن الجهاد لا ينقطع أبدا وإذا كان معقولا لأن الأئمة كلهم لا يتفق أن يكونوا عدلا فقد دل هذا على أن جهاد الكفار مع أئمة الجور واجب كهو مع أهل العدل وإن جورهم لا يسقط طاعتهم في الجهاد وفيما أشبه ذلك من المعروف. وقوله ناواهم يريد ناهضهم للقتال وأصله من ناء ينوء إذا نهض والمناوأة مهموزة مفاعلة منه. ومن باب القفل في سبيل الله قال أبو داود: حدثنا محمد بن المصفى حدثنا علي بن عياش عن الليث بن سعد حدثنا حيوة عن ابن شُفي عن شُفي عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال قفلة كغزوة. قلت هذا يحتمل وجهين أحدهما أن يكون أراد به القفول عن الغزو والرجوع

ومن باب ركوب البحر

إلى الوطن يقول إن أجر المجاهد في انصرافه إلى أهله كأجره في إقباله إلى الجهاد وذلك لأن تجهيز الغازي يضر بأهله وفي قفوله إليهم إزالة الضرر عنهم واستجمام للنفس واستعداد بالقوة للعود، والوجه الآخر أن يكون أراد بذلك التعقيب وهو رجوعه ثانيا في الوجه الذي جاء منه منصرفا وإن لم يلق عدوا ولم يشهد قتالا وقد يفعل ذلك الجيش إذا انصرفوا من مغزاتهم وذلك لأحد أمرين أحدهما أن العدو إذا رأوهم قد انصرفوا عن ساحتهم أمنوهم فخرجوا من مكامنهم فإذا قفل الجيش إلى دار العدو نالوا الفرصة منهم فأغاروا عليهم. والوجه الاخر أنهم إذا انصرفوا من مغزاتهم ظاهرين لم يأمنوا أن يقفو العدو أثرهم فيوقعوا بهم وهم غادون فربما استظهر الجيش أو بعضهم بالرجوع على أدراجهم بغضون الطريق فإن كان من العدو طلب كانوا مستعدين للقائهم وإلا فقد سلموا واحرزوا ما معهم من الغنيمة. ومن باب ركوب البحر قال أبو داود: حدثنا سعيد بن منصور حدثنا إسماعيل بن زكريا عن مطرف عن بشر أبي عبد الله عن بشير بن مسلم عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تركب البحر إلاّ حاجاً أو معتمراً وغازياً في سبيل الله فإن تحت البحر ناراً وتحت النار بحراً. قلت في هذا دليل على أن من لم يجد طريقا إلى الحج غير البحر فإن عليه أن يركبه وقال غير واحد من العلماء إن عليه ركوب البحر إذا لم يكن له طريق غيره.

وقال الشافعي لا يتبين لي أن ذلك يلزمه وقد ضعفوا إسناد هذا الحديث. وقوله إن تحت البحر نارا وتحت النار بحرا تأويله تفخيم أمرالبحر وتهويل شأنه، وذلك لأن الآفة تسرع إلى راكبه ولا يؤمن الهلاك في ملابسة النار ومداخلتها والدنو منها. قال أبو داود: حدثنا محمد بن بكار حدثنا مروان حدثنا هلال بن ميمون الرملى عن يعلى بن شداد عن أم حِرام عن النبي صلى الله عليه وسلم قال المائد في البحر الذي يصيبه القيء له أجر شهيد والغريق له أجر شهيدين. المائد هو الذى يدار برأسه من ريح البحر وصيده يقال ماد الرجل يميد إذا مال وغصن مياد إذا كان يتثنى ويتأود من لينه ومن ذلك قوله سبحانه {وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم} [لقمان: 10] . قال أبو داود: حدثنا عبد السلام بن عتيق الدمشقي حدثنا أبو مسهر حدثنا إسماعيل بن عبد الله حدثنا الأوزاعي حدثني سليمان بن حبيب، عَن أبي أمامة الباهلي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ثلاثة كلهم ضامن على الله رجل خرج غازياً في سبيل الله فهو ضامن على الله حتى يتوفاه فيدخله الجنة أو يرده بما نال من أجر وغنيمة. ورجل راح إلى المسجد فهو ضامن على الله. ورجل دخل بيته بسلام فهو ضامن على الله عز وجل. قلت قوله ضامن على الله معناه مضمون فاعل بمعنى مفعول كقوله سبحانه {في عيشة راضية} [الحاقة: 21] أي مرضية وقوله عز وجل {من ماء دافق} [الطلاق: 6] أي مدفوق ومثله في الكلام كثير. وقوله ثلاثة كلهم ضامن يريد به كل واحد منهم وأنشدني أبو عمر، عَن أبي العباس في كل بمعنى الواحد.

ومن باب من مات غازيا

فكلهم لا بارك الله فيهم …إذا جاء ألقى خده فتسمعا يريد كل واحد منهم. وقوله ورجل دخل بيته بسلام يحتمل وجهين أحدهما أن يسلم إذا دخل منزله كما قال تعالى {فإذا دخلتم بيوتاً فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة} [النور: 61] والوجه الاخر أن يكون أراد بدخول بيته بسلام أي لزم البيت طلب السلامة من الفتن يرغب بذلك في العزلة ويأمره بالإقلال من الخلطة. ومن باب من مات غازياً قال أبو داود: حدثنا عبد الوهاب بن نجدة وهوالحوطي حدثنا بقية بن الوليد عن ابن ثوبان عن أبيه يرده إلى مكحول إلى عبد الرحمن بن غنم الأشعري قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من فصل في سبيل الله فمات أو قتل فهو شهيد أو وقصه فرسه أو بعيره أو لدغته هامة أو مات على فراشه بأي حتف شاء الله فإنه شهيد وأن له الجنة. قوله فصل معناه خرج وقوله وقصه فرسه معناه صرعه فدق عنقه والوقْص الدق والكسر ونحوهما والهامة إحدى الهوام وهي ذوات السموم القاتلة كالحية والعقرب ونحوهما. ومن باب الحرس في سبيل الله قال أبو داود: حدثنا أبو توبة حدثنا معاوية، يَعني ابن سلام عن زيد، يَعني ابن سلام أنه سمع أبا سلام قال حدثني السلولي أنه حدثه سهل بن الحنظلية أنهم ساروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين فأطنبوا السير حتى كان عشية فحضرت صلاة الظهرعند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء رجل فارس فقال يا رسول الله إني انطلقت بين أيديكم حتى طلعت

ومن باب الجرأة والجبن

على جبل كذا وكذا فإذا أنا بهوازن على بكرة أبيهم بظعنهم ونعمهم وشائهم اجتمعوا إلى حنين فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال تلك غنيمة المسلمين غداً إن شاء الله ثم قال من يحرسنا الليلة قال أنس بن أبي مرثد الغنوي أنا يا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال اركب فركب فرساً له وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم استقبل هذا الشعب حتى تكون في أعلاه ولا يُغرن من قبلك الليلة فلما أصبحنا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مصلاه فركع ركعتين ثم قال هل أحسستم فارسكم قالوا يا رسول الله ما أحسسناه فثوب بالصلاة فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وهو يلتفت إلى الشعب حتى إذا قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته قال ابشروا فقد جاءكم فارسكم فجعلنا ننظر إلى خلال الشجر في الشعب فإذا هو قد جاء حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم فقال إني انطلقت حتى كنت في أعلى هذا الشعب حيث أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أصبحت طلعت الشعبين كليهما فنظرت فلم أر أحداً فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم هل نزلت الليلة قال لا إلاّ مصليا أو قاضيا حاجة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أوجبت فلا عليك أن لا تعمل بعدها. قوله على بكرة أبيهم كلمة للعرب يريدون بها الكثرة والوفور في العدد، والظعن النساء واحدتها ظعينة وأصل الظعينة الراحلة التى تظعن وترتحل فقيل للمرأة ظعينة إذا كانت تظعن مع الزوج حيثما ظعن أو لأنها تحمل على الراحلة إذا ظعنت وهذا من باب تسمية الشيء باسم سببه كما سموا المطر سماء إذا كان نزوله من السماء وكما سموا حافر الدابة أرضا لوقوعه على الأرض ومثل هذا كثير. ومن باب الجرأة والجبن قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن الجراح عن عبد الله بن يزيد عن موسى

ومن باب الرمي

بن علي بن رباح عن أبيه عن عبد العزيز بن مروان قال سمعت أبا هريرة يقول سمعت رسون الله صلى الله عليه وسلم يقول شر ما في رجل شح هالع وجُبن خالع. أصل الهلع الجزع والهالع هاهنا ذو الهلع كقول النابغة [كليني لهم يا أميمةُ ناصب] أي ذو نصب ويقال إن الشح أشد من البخل ومعناه البخل يمنعه من إخراج الحق الواجب عليه فإذا استخرج منه هلع وجزع منه. والجبن الخالع هو الشديد الذي يخلع فؤاده من شدقه. ومن باب الرمي قال أبو داود: حدثنا سعيد بن منصور حدثنا عبد الله بن المبارك حدثني عبد الرحمن بن يزيد بن جابر حدثني أبو سلام عن خالد بن زيد عن عقبة بن عامر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر في الجنة صانعه يحتسب في صنعته الخير والرامي به ومُنبله وارموا واركبوا وأن ترموا أحب إلي من أن تركبوا ليس من اللهو إلاّ ثلاث تأديب الرجل فرسه وملاعبته أهله ورميه بقوسه ونبله ومن ترك الرمي بعدما علمه رغبة عنه فإنها نعمة تركها أو قال كفرها. قوله منبله هو الذي يناول الرامي النبل وقد يكون ذلك على وجهين أحدهما أن يقوم مع الرامي بجنبه أو خلفه ومعه عدد من النبل فيناوله واحداً بعد واحد والوجه الآخر أن يرد عليه النبل المرمي به. وقد روي من طريق آخر والممد به وأي الأمرين فعل فهو ممد به والنبل السهام العربية وهي لطاف ليست بطوال كسهام النشاب والحسبان أصغر من النبل

وهي التي ترمي بها على القسي الكبار في مجار من خشب واحدتها حُسبانة. ويقال انبلت الرجل إذا أعطيته نبلا ورجل نابل إذا كان سلاحه النبل كما يقال رامح إذا كان ذا رمح. وقوله ليس من اللهو إلاّ ثلاث يريد ليس المباح من اللهو إلاّ ثلاث، وقد جاء معنى ذلك مفسرا في هذا الحديث من رواية أخرى. حدثنا الأصم حدثنا يحيى بن أبي طالب حدثنا عبد الوهاب بن عطاء أخبرنا هشام الدستوائي عن يحيى بن أبي كثير، عَن أبي سلام عن ابن زيد ان عقبة بن عامر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كل شيء يلهو به الرجل باطل إلاّ رميه بقوسه وتأديبه فرسه وملاعبته امرأته فإنهن من الحق. قلت وفي هذا بيان أن جميع أنواع اللهو محظورة وإنما استثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الخلال من جملة ما حرم منها لأن كل واحدة منها إذا تأملتها وجدتها معينة على حق أو ذريعة إليه ويدخل في معناها ما كان من المثاقفة بالسلاح والشد على الأقدام ونحوهما مما يرتاض به الإنسان فيتوقح بذلك بدنه ويتقوى به على مجالدة العدو. فأما سائر ما يتلهى به البطالون من أنواع اللهو كالنرد والشطرنج والمزاجلة بالحمام وسائر ضروب اللعب مما لا يستعان به في حق ولا يستجم به لدرك واجب فمحظور كله. وقد رخص بعض العلماء في اللعب بالشطرنج وزعم أنه قد يتبصر به في أمر الحرب ومكيدة العدو، فأما من قامر به فهو فاسق ومن لعب به على غير قمار وحمله الولوع بذلك على تأخير الصلاة عن وقتها أو جرى على لسانه الخنا والفحش إذا عالج شيئا منه فهو ساقط المروءة مردود الشهادة.

ومن باب فيمن يغزو يلتمس الدنيا

ومن باب فيمن يغزو يلتمس الدنيا قال أبو داود: حدثنا حياة بن شريح الحضرمي حدثنا بقية حدثني بحير عن خالد بن معدان، عَن أبي بحرية عن معاذ بن جبل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: الغزو غزوان فأما من ابتغى وجه الله وأطاع الإمام وأنفق الكريمة وياسر الشريك واجتنب الفساد فإن نومه ونبهه أجر كله، وأما من غزا فخراً ورياءً وسمعةً وعصى الإمام وأفسد في الأرض فإنه لن يرجع بالكفاف. قوله ياسر الشريك معناه الأخذ باليسر في الأمر والسهولة فيه مع الشريك والصاحب والمعاونة لهما يقال رجل يسر إذا كان سهل الخلق وقوم أيسار. ومن باب فضل الشهادة قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يزيد بن زريع حدثنا عوف حدثتنا خنساء بنت معاوية الصُريمية قالت: حدثنا عمي قال قلت للنبي صلى الله عليه وسلم من في الجنة. قال النبي في الجنة والشهيد في الجنة والمولود في الجنة والوئيد في الجنة. قلت المولود هو الطفل الصغير والسقط ومن لم يدرك الحنث. والوئيد هو الموؤد أي المدفون في الأرض حياً وكانوا يئدون البنات، ومنهم من كان يئد البنين أيضاً عند المجاعة والضيق يصيبهم. ومن هذا قوله سبحانه {وإذا الموؤدة سُئلت بأي ذنبٍ قُتلت} [التكوير: 9] . ومن باب الجعائل في الغزو قال أبو داود: حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي أنا أبو سلمة ح قال وحدثنا عمرو بن عثمان حدثنا محمد بن حرب المعنى وأنا لحديثه أتقن،

ومن باب الرخصة في أخذ الجعائل

عَن أبي سلمة سليمان بن سليم عن يحيى بن جابر الطائي عن ابن أخي أبي أيوب الأنصاري، عَن أبي أيوب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ستفتح عليكم الأمصار وستكون جنود مجندة يقطع عليكم فيها بعوث يتكره الرجل منكم البعث فيها فيتخلص من قومه ثم يتصفح القبائل بعرض نفسه عليهم يقول من أكفيه بعث كذا من أكفيه بعث كذا الا وذلك الأجير إلى آخر قطرة من دمه. قلت فيه دلالة على كراهة الجعائل وفيه دليل على أن عقد الإجارة على الجهاد غير جائز. وقد اختلف الناس في الأجير يحضر الوقعة هل يسهم له فقال الأوزاعي المستأجر على خدمة القوم لا سهم له وكذلك قال إسحاق بن راهويه، وقال سفيان الثوري يسهم له إذا غزا وقاتل، وقال مالك وأحمد يسهم له إذا شهد وكان مع الناس عند القتال. قلت يشبه أن يكون معناه في ذلك أن الإجارة إذا عقدت على أن يجاهد عن المستأجر فإنه إذا صار جهاده لحضور الوقعة فرضاً عن نفسه بطل معنى الإجارة وصار الأجير واحداً من جملة من حضر الوقعة فإنه يعطى سهمه إلاّ أن حصة الأجرة لتلك المدة ساقطة عن المستأجر. ومن باب الرخصة في أخذ الجعائل قال أبو داود: حدثنا إبراهيم بن الحسن المَصِيصي حدثنا حجاج، يَعني ابن محمد عن الليث بن سعد عن حياة بن شريح عن ابن شُفّي عن أبيه عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للغازي أجره وللجاعل أجره وأجر الغازي. قلت في هذا ترغيب للجاعل ورخصة للمجعول له واختلف العلماء في ذلك

ومن باب الرجل يغزو وأبواه كارهان

فرخص فيه الزهري ومالك بن أنس، وقال أصحاب الرأي لا بأس به وكرهه قوم وروي عن ابن عمر أنه قال أرى الغازي يبيع غزوه وأرى هذا يفر من عدوه. وكرهه علقمة. وقال الشافعي لا يجوز أن يغزو بجعل فلو أخذه فعليه رده وعن النخعي أنه قال لا بأس بإعطائه وأكره أخذه للأجر. ومن باب الرجل يغزو وأبواه كارهان قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان حدثنا عطاء بن السائب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو قال جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال جئت أبايعك على الهجرة وتركت أبوي يبكيان فقال ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما. قلت الجهاد إذا كان الخارج فيه متطوعا فإن ذلك لا يجوز إلاّ بإذن الوالدين فأما إذا تعين عليه فرض الجهاد فلا حاجة به إلى إذنهما وإن منعاه من الخروج عصاهما وخرج في الجهاد. وهذا إذا كانا مسلمين فإن كانا كافرين فلا سبيل لهما إلى منعه من الجهاد فرضاً كان أو نفلا وطاعتهما حينئذ معصية الله ومعونة للكفار وإنما عليه أن يبرهما ويطيعهما فيما ليس بمعصية. قلت ولا يخرج إلى الغزو إلاّ بإذن الغرماء إذا كان عليه لهم دين عاجل كما لا يخرج إلى الحج إلاّ بإذنهم فإن تعين عليه فرض الجهاد لم يعرج على الإذن. ومن باب النساء يغزون قال أبو داود: حدثنا عبد السلام بن مظهر حدثنا جعفر بن سليمان عن ثابت عن أنس رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بأم سليم ونسوة من الأنصار فيسقين الماء ويداوين الجرحى.

ومن باب الرجل بغزو يلتمس الأجر والغنيمة

قلت في هذا الحديث دلالة على جواز الخروج بهن في الغزو لنوع من الرفق والخدمة، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في غير هذا الحديث أن نسوة خرجن معه فأمر بردهن. قلت يشبه أن يكون رده إياهن لأحد معنيين إما أن يكون في حال ليس بالمستظهر بالقوة والغلبة على العدو فخاف عليهن فردهن أو يكون الخارجات معه من حداثة السن والجمال بالموضع الذي يخاف فتنتهن. وقد اختلف الناس في النساء هل يسهم لهن من الغنيمة فقال عامة أهل العلم لا يسهم لهن كسهم الرجال، وقال ابن عباس يرضخ لهن وإليه ذهب سفيان الثوري وأصحاب الرأي وكذلك قال الشافعي. وقال مالك لا يسهم لهن ولا يرضخن بشيء. ومن باب الرجل بغزو يلتمس الأجر والغنيمة قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا أسد بن موسى حدثنا معاوية بن صااح حدثني ضمرة أن ابن رغب الإيادي حدثه عن عبد الله بن حوالة الأزدي قال بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لنغنم على أقدامنا فرجعنا فلم نغنم شيئاً وعرف الجهد في وجوهنا فقام فينا فقال اللهم لا تكلهم إليَّ فاضعف عنهم ولا تكلهم إلى أنفسهم فيعجزوا عنها ولا تكلهم إلى الناس فيستأثروا عليهم ثم وضع يده على رأسي أوعلى هامتي ثم قال يابن حوالة إذا رأيت الخلافة قد نزلت الأرض المقدسة فقد دنت الزلازل والبلابل والأمور العظام والساعة يومئذ أقرب من الناس من يدي هذه من رأسك. البلابل الهموم والأحزان، وبلبلة الصدر وسواس الهموم واضطرابها فيه

ومن باب الدعاء عند اللقاء

وإنما أنذر به صلى الله عليه وسلم أيام بني أمية وما حدث من الفتن في زمانهم والله أعلم. ومن باب الدعاء عند اللقاء قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي الحلواني حدثنا ابن أبي مريم حدثنا موسى بن يعقوب الزمَعي، عَن أبي حازم عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثنتان لا تردان أو قل ما تردان عند النداء وعند البأس حين يلحم بعضه بعضا. قوله يلحم معناه حين يشتبك الحرب ويلزم بعضهم بعضاً ويقال لحمت الرجل إذا قتلته ومن هذا قولهم كانت بين القوم ملحمة أي مقتلة. ومن باب فيمن سأل الله الشهادة قال أبو داود: حدثنا هشام بن خالد هو أبو مروان الدمشقي وابن المصفى قالا: حَدَّثنا بقية عن ابن ثوبان عن أبيه يرده إلى مكحول إلى مالك بن يخامر أن معاذ بن جبل حدثهم أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من قاتل في سبيل الله فواق ناقة فقد وجبت له الجنة ومن سأل الله القتل من نفسه صادقا ثم مات أو قتل فإن له أجر شهيد. الفواق ما بين الحلبتين وقيل ما هو بين الشُخبين. الشخبان ما يخرج من اللبن. ومن باب ما يكره من ألوان الخيل قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن سلم هو ابن عبد الرحمن، عَن أبي زرعة، عَن أبي هريرة قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يكره الشِكال في الخيل والشكال أن يكون الفرس في رجله اليمنى بياض وفي يده اليسرى بياض أو في يده اليمنى وفي رجله اليسرى.

ومن باب ما يؤمر من القيام على الدواب والبهائم

قلت هكذا جاء التفسير من هذا الوجه وقد يفسر الشكال بأن يكون يد الفرس واحدى رجليه محجلة والرجل الأخرى مطلقة ولعله سقط من الحديث حرف والله أعلم. ومن باب ما يؤمر من القيام على الدواب والبهائم قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا مهدي حدثنا ابن أبي يعقوب عن الحسن بن سعد مولى الحسن بن علي عن عبد الله بن جعفر قال أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه ذات يوم فأسرّ إلي حديثا لا أحدث به أحدا من الناس وكان أحب ما استتر به رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجته هدفا أو حائش نخل قال فدخل حائطاً لرجل من الأنصار فإذا جمل فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم حن وذرَفت عيناه فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فمسح ذِفراه فسكت وقال من رب هذا الجمل لمن هذا الجمل فجاء فتى من الأنصار فقال لي يا رسول الله قال أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها فإنه شكا إلي أنك تجيعه ويدئبه. قلت الهدف كل ما كان له شخص مرتفع من بناء وغيره وقد استهدف لك الشيء إذا قام وانتصب لك. والحائش جماعة النخل الصغار لا واحد له من لفظه والذفري من البعير مؤخر رأسه وهو الموضع الذي يعرق من قفاه. وقوله تدئبه يريد تكده وتتعبه. قال أبو داود: حدثنا محمد بن المثنى حدثني محمد بن جعفرحدثنا شعبة عن حمزة الضبي سمعت أنس بن مالك قال كنا إذا نزلنا منزلاً لا نُسبح حتى تحل الرحال. يريد لا نصلي سبحة الضحى حتى تحط الرحال ويجم المطي. وكان بعض العلماء يستحب أن لا يطعم الراكب إذا نزل المنزل حتى يعلف الدابة.

ومن باب تقليد الخيل الأوتار

وأنشدني بعضهم فيما يشبه هذا المعنى. حق المطية أن يبدا بحاجتها ... لا أطعم الضيف حتى أعلف الفرسا ومن باب تقليد الخيل الأوتار قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عباد بن تميم أن أبا بشير الأنصاري أخبره أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، قال فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم رسولا قال عبد الله بن أبي بكرحسبت أنه قال والناس في مبيتهم لا تُبقينَّ في رقبة بعير قلادة من وتر ولا قلادة إلاّ قطعت. قال وحدثنا هارون بن عبد الله حدثنا هشام بن سعيد الطالقاني أخبرنا محمد بن المهاجر حدثني عقيل بن شبيب، عَن أبي وهب الجُشمي وكانت له صحبة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ارتبطوا الخيل وامسحوا بنواصيها وإعجازها وقلدوها ولا تقلدوها الأوتار. قلت: أمره صلى الله عليه وسلم بقطع قلائد الخيل يتأول على وجوه؛ قال مالك بن أنس أرى أن ذلك من أجل العين، وقال غيره إنما أمر بقطعها لأنهم كانوا يعلقون فيها الأجراس. وقال بعضهم إنما نهى عن تقليدها الأوتار لئلا تختنق بها عند شدة الركض، وقوله لا تقلدوها الأوتار يحتمل أن يكون أراد عين الوتر خاصة دون غيره من السيور والخيوط وغيرها، وقيل معناه لا تطلبوا عليها الأوتار والذحول ولا تركضوها في درك الثأر على ما كان من عاداتهم في الجاهلية.

ومن باب ركوب الجلالة

ومن باب ركوب الجلالة قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا عبد الوارث عن أيوب عن نافع عن ابن عمر قال نهى عن ركوب الجلالة. الجلالة الإبل التي تأكل العذرة، والجَلة البعر كره صلى الله عليه وسلم ركوبها كما نهى عن أكل لحومها، ويقال إن الإبل إذا اجتلت أنتن روائحها إذا عرقت كما تنتن لحومها. ومن باب الرجل يسمي دابته قال أبو داود: حدثنا هناد بن السري، عَن أبي الأحوص، عَن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون عن معاذ رضي الله عنه قال كنت ردف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار يقال له عُفَير. قلت: عفير تصغير أعفر يحذفون الألف في تصغيره كما حذفوه في تصغير أسود فقالوا سويد وكما قالوا عوير من أعور وكان القياس أن يقال في تصغير أعفر أعيفر كما قالوا أحيمر من أحمر وأصيفر من أصفر. وفيه أن الإرداف مباح إذا كانت الدابة تقوى على ذلك ولا يضربها الضرر البين، وتسمية الدواب شكل من أشكال العرب وعادة من عاداتها، وكذلك تسمية السلاح وأداة الحرب وكان سيفه صلى الله عليه وسلم يسمى ذا الفقار ورايته العُقاب ودرعه ذات الفضول وبغلته دُلدُل وبعض أفراسه السكب وبعضها البحر. ومن باب النهي عن لعن البهيمة قال أبو داود: حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد عن أيوب، عَن أبي قلابة، عَن أبي المهلب عن عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفر فسمع لعنة

ومن باب وسم ادابة

فقال ما هذه قالوا هذه فلانة لعنت راحلتها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ضعوا عنها فإنها ملعونه فوضعوا عنها قال عمران فكأني انظر إليها ناقة ورقاء. قلت زعم بعض أهل العلم أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمرهم بذك فيها لأنه قد استجيب لها الدعاء عليها باللعن واستدل على ذلك بقول فإنها ملعونه. وقد يحتمل أن يكون إنما فعل ذلك عقوبة لصاحبها لئلا تعود إلى مثل قولها ومعنى ضعوا عنها أي ضعوا رحلها وأعروها لئلا تركب. ومن باب وسم ادابة قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن هشام بن زيد عن أنس بن مالك، قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بأخ لي حين ولد ليحنكه فإذا هو في مربد يسِم غنماً أحسبه قال في آذانها. قلت في هذا دلالة على أن الأذن ليس من الوجه لأنه قد نهى صلى الله عليه وسلم عن وسم الوجه وضربه. ومن باب كراهة الحمر تنزى على الخيل قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الليث عن يزيد بن أبي حبيب، عَن أبي الخير عن ابن زُرير عن علي بن أبي طالب، قال: أحديت لرسول الله وص بغلة فركبها فقال عليّ لو حملنا الحمير على الخيل فكانت لنا مثل هذه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون. قلت: يشبه أن يكون المعنى في ذلك والله أعلم، إن الحمر إذا حملت على الخيل تعطلت منافع الخيل وقل عددها وانقطع نماؤها والخيل يحتاج إليها للركوب والركض والطلب وعليها يجاهد العدو وبها تحرز الغنائم ولحمها

ومن باب الوقوف على الدابة

مأكول ويسهم للفرس كما يسهم للفارس وليس للبغل شيء من هذه الفضائل فأحب صلى الله عليه وسلم أن ينمو عدد الخيل ويكثر نسلها لما فيها من النفع والصلاح، ولكن قد يحتمل أن يكون حمل الخيل على الحمر جائزاً لأن الكراهة في هذا الحديث إنما جاءت في حمل الحمر على الخيل لئلا تشغل أرحامها بنجل الحمر فيقطعها ذلك عن نسل الخيل فإذا كانت الفحولة خيلاً والأمهات حمرا فقد يحتمل أن لا يكون داخلا في النهي إلاّ أن يتأول متأول أن المراد بالحديث صيانة الخيل عن مزاوجة الحمر وكراهة اختلاط مائها بمائها لئلا يضيع طرقها ولئلا يكون منه الحيوان المركب من نوعين مختلفين فإن أكثر المركبات المتولدة بين جنسين من الحيوان أخبث طبعا من أصولها التي تتولد منها وأشد شراسة كالسِمع والعسبار ونحوهما، وكذلك البغل لما يعتريه من الشماس والحران والعضاض في نحوها من العيوب والآفات ثم هو حيوان عقيم ليس له نسل ولا نماء ولا يُذكي ولا يزكى. قلت وما أرى هذا الرأي طائلا فإن الله سبحانه قال {والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة} [النحل: 8] فذكر البغال وامتن علينا بها كامتنانه بالخيل والحمير وأفرد ذكرها بالاسم الخاص الموضوع لها ونبه على ما فيها من الأرب والمنفعة. والمكروه من الأشياء مذموم لا يستحق المدح ولا يقع بها الامتنان، وقد استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم البغل واقتناه وركبه حضراً وسفراً وكان يوم حنين على بغلته حين رمى المشركين بالبحصباء وقال شاهت الوجوه فانهزموا ولو كان مكروهاً لم يقتنه ولم يستعمله والله أعلم. ومن باب الوقوف على الدابة قال أبو داود: حدثنا عبد الوهاب بن نجدة حدثنا ابن عياش عن يحيى بن

ومن باب الدابة تعرقب في الحرب

أبي عمرو الشيياني، عَن أبي مريم، عَن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تتخذوا ظهور دوابكم منابر فإن الله إنما سخرها لكم لتبلغكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلاّ بشق الأنفس وجعل لكم الأرض فعليها فاقضوا حاجاتكم. قلت قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خطب على راحلته واقفا عليها فدل ذلك على أن الوقوف على ظهورها إذا كان لأرب أو بلوغ وطر لا يدرك مع النزول إلى الأرض مباح جائز، وأن النهي إنما انصرف في ذلك إلى الوقوف عليها لا لمعنى يوجبه لكن بأن يستوطنه الإنسان ويتخذه مقعداً فيتعب الدابة ويضر بها من غير طائل. ومن باب الدابة تعرقب في الحرب قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي حدثنا محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق حدثني ابن عباد عن أبيه عباد بن عبد الله بن الزبير، قال أبو داود وهو يحيى بن عباد قال حدثني أبي الذي أرضعني وهو أحد بني مرة بن عوف، وكان في تلك الغزاة غزاة مؤتة قال والله لكأني انظر إلى جعفر حين اقتحم عن فرس له شقراء فعقرها ثم قاتل القوم حتى قتل. قلت هذا يفعله الفارس في الحرب إذا أزهق وأيقن أنه مغلوب فينزل ويجالد العدو راجلا وإنما يعقر فرسه لئلا يظفر به العدو فيقوى به على قتال المسلمين. وقد اختلف الناس في الفرس يقف على صاحبه فيعقره لئلا يظفر به العدو فرخص فيه مالك بن أنس. وعن أبي حنيفة أنه قال إذا ظفر السسلمون بدواب ومواش فعجزوا عن حملها ذبحوها وحرقوا لحومها، وكره ذلك الأوزاعي

ومن باب السبق

والشافعى وأحمد بن حنبل، واحتج الشافعي بحديث النبي صلى الله عليه وسلم من قتل عصفوراً فما فوقه بغير حقه سأله الله تعالى عن قتله، واحتج بنهيه عن قتل الحيوان إلا لمأكله، قال وأما أن يعقر بالفارس من المشركين فله ذلك لأن ذلك أمر يجد به السبيل إلى قتل من أمر بقتله. وضعف أبو داود إسناد حديث جعفر وكره أيضاً عقر الدابة. ومن باب السبق قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا المعتمر عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يضمر الخيل يسابق بها. قلت تضمير الخيل أن يعلف الحب والقضيم حتى تسمن وتقوى ثم تغشى بالجلال وتترك حتى تحمى فتعرق ولا تعلف إلاّ قوتا ًحتى تضمر ويذهب رهلها فيخف فإذا فعل ذلك بها فهي مضمرة ومن العرب من يطعمها اللحم واللبن في أيام التضمير. قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل التي قد أضمرت من الحفياء وكان أمدها ثنية الوداع وسابق بين الخيل التي لم تضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق وأن عبد الله ممن سابق بها. الأمد الغاية، قال النابغة: سبق الجواد إذا استولى على الأمد يريد أنه جعل غاية المضامير أبعد من غاية ما لم يضمر منها. قال أبو داود: حدثنا أحمد بن يونس حدثنا ابن أبي ذئب عن نافع بن أبي نافع،

ومن باب المحلل

عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا سبق إلاّ في خف أو حافر أو نصل. السبق بفتح الباء هو ما يجعل للسابق على سبقه من جعل أو نوال. فأما السبق بسكون الباء فهو مصدر سبقت الرجل أسبقه سبقاً، والرواية الصحيحة في هذا الحديث السبق مفتوحة الباء. يريدان الجعل والعطاء لا يستحق إلاّ في سباق الخيل والإبل وما في معناهما، وفي النصل وهو الرمي وذلك لأن هذه الأمور عدة في قتال العدو وفي وبذل الجعل عليها ترغيب في الجهاد وتحريض عليه. ويدخل في معنى الخيل البغال والحمير لأنها كلها ذوات حوافر وقد يحتاج إلى سرعة سيرها ونجائها لأنها تحمل أثقال العساكر وتكون معها في المغازي. وأما السباق بالطير والزجل بالحمام وما يدخل في معناه مما ليس من عدة الحرب ولا من باب القوة على الجهاد فأخذ السبق عليه قمار محظور لا يجوز. ومن باب المحلل قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا حصين بن نمير حدثنا سفيان بن حسين (ح) وحدثنا علي بن مسلم حدثنا عباد بن العوام أخبرنا سفيان بن حسين المعنى عن الزهري عن سعيد بن المسيب، عَن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أدخل فرسا بين فرسين، يَعني وهو لا يؤمن أن يسبق فليس بقمار ومن أدخل فرسا بين فرسين وقد أمن أن يسبق فهو قمار. قلت الفرس الثالث الذي يدخل بينهما يسمى المحلل، ومعناه أنه يحلل للسابق ما يأخذه من السبق فيخرج به عقد التراهن عن معنى القمار الذي إنما هو مواضعة بين اثنين على مال يدور بينهما في الشقين فيكون كل واحد منهما إما غانما أو غارما، ومعنى المحلل ودخوله بين الفرسين المتسابقين هو لأن يكون أمارة

ومن باب الجلب على الخيل في السباق

لقصدهما إلى الجري والركض لا إلى المال فيشبه حينئذ القمار وإذا كان فرس المحلل كفئا لفرسيهما يخافان أن يسبقهما فيحرز السبق اجتهدا في الركض وارتاضا به ومرنا عليه وإذا كان المحلل بليدا أو كؤودا مأموناً أن يسبق غير مخوف أن يتقدم فيحرز السبق لم يحصل به معنى التحليل وصار إدخاله بينهما لغوا لا معنى له وحصل الأمر على رهان بين فرسين لا محلل معهما وهو عين القمار المحرم. وصورة الرهان والمسابقة في الخيل أن يتسابق الرجلان بفرسيهما فيعمدا إلى فرس ثالث كفء لفرسيهما يدخلانه بينهما ويتواضعان على مال معلوم يكون للسابق منهما فمن سبق أحرز سبقه وأخذ سبق صاحبه ولم يكن على المحلل شيء. فإن سبقهما المحلل أحرز السبقين معاً. وإنما يحتاج إلى السحلل فيما كان الرهن فيه دائرا بين اثنين. فأما إذا سبق الأمير بين الخيل وجعل للسابق منهما جعلا أو قال الرجل لصاحبه إن سبقت فلانا فلك عشرة دراهم فهذا جائز من غير محلل والله أعلم. وفي الحديث دليل على أن التوصل إلى المباح بالذرائع جائز وأن ذلك ليس من باب الحيلة والتلجئة المكروهتين. ومن باب الجلب على الخيل في السباق قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا بشر بن المفضل عن حميد الطويل عن الحسن عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا جلب ولا جنب. قلت هذا يفسر على أن الفرس لا يجلب عليه في السباق ولا يزجر الزجر الذي يزيد معه في شأوه وإنما يجب أن يركضا فرسيهما بتحريك اللجام وتعريكهما العنان

ومن باب في السيف يحلى

والاستحثاث بالسوط والمهماز وما في معناهما من غير إجلاب بالصوت، وقد قيل إن معناه أن يجمع قوم فيصطفوا وقوفا من الجانبين ويجلبوا فنهوا عن ذلك. وأما الجنب فيقال أنهم كانوا يجنبون الفرس حتى إذا قاربوا الأمد تحولوا عن المركوب الذي قد كده الركوب إلى الفرس الذي لم يركب فنهي عن ذلك. ومن باب في السيف يحلى قال أبو داود: حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا جرير بن حازم حدثنا قتادة عن أنس قال كانت قبيعة سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فضة. قبيعة السيف هي التَومة التي فوق المقبض ويستدل به على جواز تحلية اللجام باليسير من الفضة وسقوط الزكاة عنه على مذهب من يسقط الزكاة عن الحلي. وقد قيل إنه لا يجوز ذلك لأنه من زينة الدابة، وإنما جاز ذلك في السيف لأنه من زينة الرجل وآلته فيقاس عليه المنطقة ونحوها من أداة الفارس دون أداة الفرس. ومن باب النهي عن السيف يتعاطى مسلولاً قال أبو داود: حدثنا محمد بن بشار حدثنا قريش بن أنس حدثنا أشعث عن الحسن عن سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يقد السير بين إصبعين. قلت إنما نهى عن ذلك لئلا يعقر يده الحديد الذي يُقد السير به وهو شبيه بمعنى نهيه عن تعلطي السيف مسلولاً. ومن باب الرجل ينادى بالشعار قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان، عَن أبي إسحاق عن المهلب

ومن باب ما يقول الرجل إذا سافر

بن أبي صفرة أخبرني من سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إن أبَيَّتم فيلكن شعاركم حّم لا ينصرون. قلت بلغني عن ابن كيسان النحوي أنه سأل أبا لعباس أحمد بن يحيى عنه فقال معناه الخبر ولو كان بمعنى الدعاء لكان مجزوماً أى لا ينصروا، وإنما هو اخبار كأنه قال والله لا ينصرون. وقد روي عن ابن عباس أنه قال حّم اسم من أسماء الله عز وجل فكأنه حلف بالله أنهم لا ينصرون. ومن باب ما يقول الرجل إذا سافر قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يحيى حدثنا محمد بن عجلان حدثني سعيد المقبري، عَن أبي هريرة قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر قال: اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنقلب وسوء المنظر في الأهل والمال. اللهم اطو لنا الأرض وهون علينا السفر. قوله وعثاء السفر، معناه المشقة والشدة وأصله من الوعث وهو أرض فيها رمل تسوخ فيها الأرجل. ومعنى كآبة المنقلب أن ينقلب من سفره إلى أهله كئيباً حزيناً غير مقضي الحاجة أو منكوباً ذهب ماله أو أصابته آفة في سفره أو أن يرد على أهله فيجدهم مرضى أو يفقد بعضهم وما أشبه ذلك من المكروه. ومن باب الدعاء عند الوداع قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا عبد الله بن داود عن عبد العزيز بن عمر عن إسماعيل بن جرير عن قزعة قال: قال لي ابن عمر هلم أودعك كما ودعني رسول الله صلى الله عليه وسلم استودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك. قلت الأمانة هاهنا أهله ومن يخلفه منهم وماله الذي يودعه ويستحفظه أمينه

ومن باب ما يقول إذا نزل المنزل

ووكيله ومن في معناهما وجرى ذكر الدين مع الودائع لأن السفر موضع خوف وخطر وقد تصيبه فيه المشقة والتعب فيكون سببا لإهمال بعض الأمور المتعلقة بالدين فدعا له بالمعونه والتوفيق. ومن باب ما يقول إذا نزل المنزل قال أبو داود: حدثنا عمرو بن عثمان حدثنا بقية حدثني صفوان حدثني شريح بن عبيد عن الزبير بن الوليد عن عبد الله بن عمر قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر فأقبل الليل قال يا أرض ربي وربك الله أعوذ بالله من شرك وشر ما فيك ومن شر ما خلق فيك وشر ما يدب عليك وأعوذ بالله من أسد وأسود ومن الحية والعقرب ومن ساكن البلد ومن والد وما ولد. قوله ساكن البلد يريد به الجن الذين هم سكان الأرض. والبلد من الأرض ما كان مأوى للحيوان وإن لم يكن فيه بناء ومنازل ويحتمل أن يكون أراد بالوالد إبليس وما ولد الشياطين. ومن باب كراهية سير أول الليل قال أبو داود: حدثنا أحمد بن عبد الله بن مسلم يعرف بابن أبي شعيب الحراني حدثنا زهير حدثنا أبو الزبير عن جابر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا ترسلوا فواشيكم إذا غابت الشمس حتى تذهب فحمة العشاء فإن الشياطين تعيث إذا غابت الشمس حتى تذهب فحمة العشاء. قال أبو داود: الفواشي ما يفشو من كل شيء. قلت الفواشي جمع الفاشية وهي ما يرسل من الدواب في الرعي ونحوه فينتشر ويفشو. وفحمة العشاء إقبال ظلمته شبه سواده بالفجر.

ومن باب الرجل يسافر وحده

ومن باب الرجل يسافر وحده قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن عبد الرحمن بن حرملة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الراكب شيطان والراكبان شيطانان والثلاثة ركب. قلت معناه والله أعلم أن التفرد والذهاب وحده في الأرض من فعل الشيطان أو هو شيء يحمله عليه الشيطان ويدعوه إليه فقيل على هذا إن فاعله شيطان، ويقال إن اسم الشيطان مشتق من الشطون وهو البعد والنزوح، يقال بئر شطون إذا كانت بعيدة المهوى فيحتمل على هذا أن يكون المراد أن الممعن في الأرض وحده مضاه للشيطان في فعله وتشبه اسمه وكذلك الاثنان ليس معهما ثالث فإذا صاروا ثلاثة فهم ركب أي جماعة وصحب، وروي عن عمر بن الخطاب أنه قال في رجل سافر وحده أرأيتم إن مات من اسأل عنه. قلت المنفرد وحده في السفر إن مات لم يكن بحضرته من يقوم بغسله ودفنه وتجهيزه ولا عنده من يوصي إليه في ماله ويحمل تركته إلى أهله ويرد خبره عليهم ولا معه في سفره من يعينه على الحمولة فإذا كانوا ثلاثة تعاونوا وتناوبوا المهنة والحراسة وصلوا الجماعة وأحرزوا الحظ منها. ومن باب القوم يسافرون يؤمر أحدهم قال أبو داود: حدثنا علي بن بحر بن بري حدثنا حاتم بن إسماعيل حدثنا محمد بن عجلان عن نافع، عَن أبي سلمة، عَن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم. قلت إنما أمر بذلك ليكون أمرهم جميعا ولا يتفرق بهم الرأي ولا يقع بينهم

ومن باب دعاء المشركين

خلاف فيعنتوا. وفيه دليل على أن الرجلين إذا حكما رجلا بينهما في قضية فقضى بالحق فقد نفذ حكمه. ومن باب دعاء المشركين قال أبو داود: حدثنا محمد بن سليمان الأنباري حدثنا وكيع عن سفيان عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه. قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميراً على سرية أو جيش أوصاه بتقوى الله في خاصة نفسه وبمن معه من المسلمين خيراً. وقال إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى ثلاث خصال أو خلال فأيتهن ما أجابوك إليها فاقبل منهم وكف عنهم. ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين واعلمهم أنهم إن فعلوا ذلك أن لهم ما للمهاجرين وأن عليهم ما على المهاجرين فإن أبوا واختاروا دارهم فاعلمهم أنهم يكونوا مثل أعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي كان يجري على المؤمنين ولا يكون لهم في الفيء والغنيمة نصيب إلاّ أن يجاهدوا في المسلمين فإن هم أبوا فادعهم إلى إعطاء الجزية، فان أجابوا فاقبل منهم وكف عنهم، فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم، وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم فإنكم لا تدرون ما يحكم الله فيهم ولكن أنزلوهم على حكمكم ثم اقضوا فيهم بعد ما شئتم. قلت في هذا الحديث عدة أحكام منها دعاء المشركين قبل القتال، وظاهر الحديث يدل على أن لا يقاتلوا إلاّ بعد الدعاء. وقد اختلف العلماء في ذلك فقال مالك بن أنس لا يقاتلون حتى يدعوا أو يؤذَنوا.

وقال الحسن البصري يجوز أن يقاتلوا قبل أن يدعوا قد بلغتهم الدعوة. وكذلك قال الثوري وأصحاب الرأى، وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق. واحتج الشافعي في ذلك بقتل ابن الحقيق. فأما من لم تبلغه الدعوة ممن بعدت داره ونأى محله فإنه لا يقاتل حتى يدعى فإن قتل منهم أحد قبل الدعوة وجبت فيه الكفارة والدية وفي وجوب الدية اختلاف بين أهل العلم. وأما قوله فأعلمهم أنهم إن فعلوا ذلك أن لهم ما للمهاجرين وأن عليهم ما على المهاجرين فإن المهاجرين كانوا أقواماً من قبائل مختلفة تركوا أوطانهم وهجروها في الله واختاروا المدينة داراً ووطناً ولم يكن لهم أو لأكثرهم بها زرع ولا ضرع فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفق عليهم مما أفاء الله عليه أيام حياته ولم يكن للأعراب وسكان البدو في ذلك حظ إلاّ من قاتل منهم فإن شهد الوقعة أخذ سهمه وانصرف إلى أهله فكان فيهم. وقوله وعليهم ما على المهاجرين أي من الجهاد والنفير أي وقت دعوا إليه لا يتخلفون. والأعراب من أجاب منهم وقاتل أخذ سهمه ومن لم يخرج في البعث فلا شيء له من الفيء ولا عتب عليه ما دام في أهل الجهاد كفاية. وقوله إن أبوا فادعهم إلى إعطاء الجزية فظاهره يوجب قبول الجزية من كل مشرك كتابي أو غير كتابي من عبدة الشمس والنيران والأوثان إذا أذعنوا لها وأعطوها، وإلى هذا ذهب الأوزاعي. ومذهب مالك قريب منه. وحكي عنه أنه قال تقبل من كل مشرك إلاّ المرتد، وقال الشافعي لا تقبل الجزية إلاّ من أهل الكتاب وسواء كانوا عرباً أو عجما وتقبل من المجوس ولا تقبل من مشرك غيرهم.

ومن باب الحرق في بلاد العدو

وقال أبو حنيفة تقبل من كل مشرك من العجم ولا تقبل من مشركي العرب. قلت لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حارب أعجميا قط ولا بعث إليهم جيشا، وإنما كانت عامة حروبه مع العرب، وكذلك بعوثه وسراياه فلا يجوز أن يصرف هذا الخطاب عن العرب إلى غيرهم. قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا يحيى بن آدم وعبيد الله بن موسى عن حسن بن صالح عن خالد بن الفِزْر حدثني أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: انطلقوا باسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله لا تقتلوا شيخا فانياً ولا طفلا ولا صغيرا ولا امرأة ولا تغلوا وضموا غنائمكم وأصلحوا وأحسنوا إن الله يحب المحسنين. قلت نهيه عن قتل النساء والصبيان يتأول على وجهين: أحدهما أن يكون ذلك بعد الأسار نهى عن قتلهم لأنهم غنيمة للمسلمين. والوجه الآخر أن يكون ذلك عاماً قبل الأسار، وبعده نهى أن يقصدوا بالقتل وهم متميزون عن المقاتلة فأما وهم مختلطون بهم لا يوصل إليهم إلاّ بقتلهم فإنهم لا يحاشون. والمرأة إنما لا تقتل إذا لم تكن تقاتل فإن قاتلت قتلت وعلى هذا مذهب أكثر الفقهاء. وقال الشافعي الصبي الذي يقاتل يجوز قتله وكذلك قال الأوزاعي وأحمد. واختلفوا في الرهبان فقال مالك وأهل الرأي لا يجوز قتلهم. وقال الشافعي يقتلون إلاّ أن يسلموا ويؤدوا الجزية. قال أصحاب الرأي لا يقتل شيخ ولا زمن ولا أعمى. وقال الشافعي هؤلاء كلهم يقتلون. ومن باب الحرق في بلاد العدو قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الليث عن نافع عن ابن عمر أن

ومن باب ابن السبيل

رسول الله صلى الله عليه وسلم حرق نخل بني النضير وقطع وهي البويرة فأنزل الله تعالى {ما قطعتم من لينة} [الحشر: 5] الآية. واختلف العلماء في تأويل ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك، فقال بعضهم إنما أمر بقطع النخيل لأنه كان مقابل القوم فأمر بقطعها ليتسع المكان له، وكره هذا القائل قطع الشجر واحتج بنهي أبي بكر عن ذلك، وإلى هذا المعنى ذهب الأوزاعي، وقال الأوزاعي لا بأس بقطع الشجر وتحريقها في بلاد المشركين وبهدم دورهم وكذلك قال مالك. وقال أصحاب الرأي لا بأس به وكذاك قال إسحاق. وكره أحمد تخريب العامر إلاّ من حاجة إلى ذلك. قال الشافعي ولعل أبا بكر إنما أمرهم أن يكفوا عن أن يقطعوا شجراً مثمراً لأنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يخبر أن بلاد الشام يفتح على المسلمين فأراد بقاءها عليهم. ومن باب ابن السبيل يأكل من الثمرة ويشرب من اللبن إذا مر به قال أبو داود: حدثنا عياش بن الوليد الرقام حدثنا عبد الأعلى حدثنا سعيد عن قتادة عن الحسن عن سمرة بن جندب أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا أتي أحدكم على ماشية فإن كان فيها صاحبها فليستأذنه فإن أذن له فليحلب وليشرب، وإن لم يكن فيها فليصوت ثلاثا فإن أجابه فليستأذنه وإلا فليحلب وليشرب ولا يحمل. قلت هذا في المضطر الذي لا يجد طعاماً وهو يخاف على نفسه التلف فإذا كان كذلك جاز له أن يفعل هذا الصنيع. وذهب بعض أصحاب الحديث إلى أن هذا شيء قد ملكه النبي صلى الله عليه وسلم إياه فهو له مباح لا يلزمه له قيمة.

ومن باب من قال لا يحلب

وذهب أكثر الفقهاء إلى أن قيمته لازمة له يؤديها إليه إذا قدر عليها لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يحل مال امرىء مسلم إلاّ بطيبة نفس منه. قال أبو داود: حدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا شعبة، عَن أبي بشر عن عباد بن شرحبيل قال أصابتني سنة فدخلت حائطا من حيطان المدينة ففركت سنبلاً فأكلت وحملت في ثوبي فجاء صاحبه فضربني وأخذ ثوبي فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له ما علّمت إذ كان جاهلاً ولا أطعمت إذ كان جائعاً أو قال ساغبا وأمره فرد عليّ ثوبي وأعطاني وسقا أو نصف وسق من طعام. السنة المجاعة تصيب الناس والساغب الجائع؛ وفيه أنه صلى الله عليه وسلم عذره بالجهل حين حمل الطعام فلام صاحب الحائط إن لم يطعمه إذ كان جائعاً. ومن باب من قال لا يحلب قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمرأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يحلبن أحد ماشية أحد بغير إذنه أيحب أحدكم أن يؤتى مشربته فتكسر خزانته فينتثل طعامه فإنما تخزن لهم ضروع مواشيهم أطعمتَهم فلا يحلبن أحد ماشية أحد إلاّ بإذنه. المشربة كالعرقة يرفع فيها المتاع والشيء. وقوله ينتثل معناه يستخرج ويقال لما يخرج من تراب البئر إذا حفرت نثيل ومن هذا قولهم نثل الرجل كنانته إذا صبها على الأرض فأخرج ما فيها من النبل. وفي هذا إثبات القياس والحكم للشيء بحكم نظيره. وفيه دليل على أن الشاة المبيعة إذا كان لها لبن مقدور على حلبه فإن للبن حصة من الثمن. وهذا يؤيد

ومن باب في الطاعة

خبر المصراة ويثبت حكمها في تقويم اللبن. وفيه دليل على أن السارق إذا سرق من الطعام ما يبلغ قيمته ربع دينار قطع. واللبن وغيره من رطب الطعام ويابسه في ذلك سواء إذا أخذه من حرز. ومن باب في الطاعة قال أبو داود: حدثنا عمرو بن مرزوق أخبرنا شعبة عن زبيد عن سعد بن عبيدة، عَن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث جيشا وأمرعليهم رجلا وأمرهم أن يسمعوا له ويطيعوا فأجج ناراً وأمرهم أن يقتحموا فيها فأبى قوم أن يدخلوها فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال لو دخلوها لم يزالوا فيها وقال لا طاعة في معصية الله إنما الطاعة في المعروف. قلت هذه القصة وما ذكر فيها من شأن النار والوقوخفيها يدل على أن المراد به طاعة الولاة وأنها لا تجب إلاّ في المعروف كالخروج في البعث إذا أمر به الولاة والنفوذ لهم في الأمور التي هي طاعات ومعاون للمسلمين ومصالح لهم. فأما ما كان فيها معصية كقتل النفس المحرمة وما أشبهه فلا طاعة لهم في ذلك. وقد يفسر قوله لا طاعة في معصية الله تفسيراً آخر وهو أن الطاعة لا تسلم لصاحبها ولا تخلص إذا كانت مشوبة بالمعصية، وإنما تصح الطاعات مع اجتناب المعاصي. ومن باب كراهية تمني لقاء العدو قال أبو داود: حدثنا محبوب بن موسى أبو صالح أخبرنا أبو إسحاق الفزاري

ومن باب ما يدعى عند اللقاء

عن موسى بن عقبة عن سالم أبي النَّضر مولى عمر بن عبيد الله بن معمر وكان كاتبا له، قال كتب إليه عبد الله بن أبي أوفى حين خرج إلى الحرورية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أيامه التي لقي فيها العدو، قال يا أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف، ثم قال اللهم منزل الكتاب مجري السحاب وهازم الأحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم. قلت معنى ظلال السيوف الدنو من القرن حتى يعلوه ظل سيفه لا يولي عنه ولا يفر منه وكل شيء دنا منك فقد أظلك كقول الشاعر: ورنَّقت المنية فهي ظل ... على الأقران دانية الجَناح ومن باب ما يدعى عند اللقاء قال أبو داود: حدثنا نصر بن علي أخبرني أبي حدثنا المثنى بن سعيد عن قتادة عن أنس بن مالك قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غزا قال اللهم أنت عضدي ونصيري بك أحول وبك أصول وبك أقاتل. قوله أحول معناه احتال قال ابن الأنباري الحَول معناه في كلام العرب الحيلة، يقال ما للرجل حول وماله محالة، قال ومنه قولك لا حول ولا قوة إلاّ بالله أي لا حيلة في دفع سوء ولا قوة في درك خير إلاّ بالله. وفيه وجه آخر وهو أن يكون معناه المنع والدفع، من قولك حال بين الشيئين إذا منع أحدهما عن الآخر يقول لا أمنع ولا أدفع إلاّ بك. ومن باب دعاء المشركين قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد أخبرنا ثابت عن أنس

ومن باب المكر في الحرب

أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغير عند صلاة الصبح وكان يستمع فإذا سمع أذاناً أمسك وإلا أغار. قلت فيه من الفقه ان إظهار شعار الإسلام في القتال وعند شن الغارة يحقن به الدم وليس كذلك حال السلامة والطمأنينة التي يتسع فيها معرفة الأمور على حقائقها واستيفاء الشروط اللازمة فيها. وفيه دليل على أن قتال الكفار من غير احداث الدعوة جائز، وقد ذكرنا اختلاف أهل العلم في ذلك في باب قبل هذا. وقال الشافعي في هذا الحديث إنما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يغير حتى يصبح ليس لتحريم الغارة ليلاً أو نهارا ولا غارين وفي كل حال ولكنه على أن يكون يبصر من معه كيف يغيرون احتياطاً أن يؤتوا من كمين ومن حيث لا يشعرون وقد يختلط أهل الحرب إذا غاروا ليلا فيقتل بعض المسلمين بعضا. قلت وقد أغار رسول الله على بني المصطلق وهم غارون وأنعامهم على الماء تسقى، وقد ذكره أبو داود في هذا الباب. وقال لأسامة أغر على أُبْنا صباحا وحرق فدل على إباحة البيات والإيقاع بهم وهم غارون. وقال سلمة بن الأكوع أمّرعلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه فغزونا ناسا من المشركين فبيتناهم نقتلهم وكان شعارنا تلك الليلة امِتْ امت. ومن باب المكر في الحرب قال أبو داود: حدثنا محمد بن عبيد حدثنا ابن ثور عن معمر عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد غزوة وَرَّى بغيرها وكان يقول الحرب خَدعة.

ومن باب لزوم الساقة

قوله ورى بغيرها التورية أن يريد إنسان الشيء فيظهر غيره. وقوله الحرب خدعة معناه إباحة الخداع في الحرب وإن كان محظورا في غيرها من الأمور، وهذا الحرف يروى على ثلاثة أوجه خَدْعة بفتح الخاء وسكون الدال، وخُدْعة بضم الخاء وسكون الدال، وخُدَعة الخاء مضمومة والدال منصوبة وأصوبها خَدْعة بفتح الخاء. أخبرني أبو رجاء الغنوي، عَن أبي العباس أحمد بن يحيى، قال خدعة بفتح الخاء بلغنا أنها لغة النبي صلى الله عليه وسلم. قلت معنى الخدعة أنها هي مرة واحدة أي إذا خُدع المقاتل مرة واحدة لم يكن له إقالة، ومن قال خُدْعة أراد الاسم كما يقال هذه لعبة، ومن قال خُدَعة بفتح الدال كان معناه أنها تخدع الرجال وتمنيهم ثم لا تفي لهم كما يقال رجل لعبه إذا كان كثير التلعب بالأشياء. ومن باب لزوم الساقة قال أبو داود: حدثنا الحسن بن شَوكر حدثنا إسماعيل بن علية حدثنا الحجاج بن أبي عثمان، عَن أبي الزبير أن جابر بن عبد الله حدثهم قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخلف في المسير فيزجي الضعيف ويردف ويدعو لهم. قوله يزجي أي يسوق بهم، يقال أزجيت المطية إذا حثثتها في السوق. ومن باب على ما يقاتل المشركون قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي وعثمان بن أبي شيبة المعنى قالا: حَدَّثنا يعلى بن عبيد عن الأعمش، عَن أبي ظبيان حدثنا أسامة بن زيد قال بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى الحُرَقات فنذروا بنا فهر وا فأدركنا رجلاً فلما غشيناه

قال لا إله إلاّ الله فضربناه حتى قتلناه فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم فقال من لك بلا إلّه إلاّ الله يوم القيامة فقلت يا رسول الله إنما قالها مخافة السلاح، قال أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم من أجل ذلك قالها أم لا. من لك بلا إلّه إلاّ الله يوم القيامة فما زال يقولها حتى وددت أني لم أسلم إلاّ يومئذٍ. فيه من الفقه أن الكافر إذا تكلم بالشهادة وإن لم يصف الأيمان وجب الكف عنه والوقوف عن قتله سواء كان بعد القدرة عليه أو قبلها. وفي قوله هلا شققت عن قلبه دليل على أن الحكم إنما يجري على الظاهر وإن السرائر موكولة إلى الله سبحانه. وفيه أنه لم يُلزمه مع إنكاره عليه الدية، ويشبه أن يكون المعنى فيه أن أصل دماء الكفار الإباحة، وكان عند أسامة أنه إنما تكلم بكلمة التوحيد مستعيذا من القتل لا مصدقا به فقتله على أنه كافر مباح الدم فلم تلزمه الدية إذ كان في الأصل مأمورا بقتاله والخطأ عن المجتهد موضوع. ويحتمل أن يكون قد تأول فيه قول الله {فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا} [غافر: 85] وقوله في قصة فرعون {الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين} [يونس: 91] فلم يخلصهم إظهار الإيمان عند الضرورة والارهاق من نزول العقوبة بساحتهم ووقوع بأسه بهم. قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الليث عن ابن شهاب عن عطاء بن زيد الليثي عن عبيد الله بن عدي بن الخيار عن المقداد بن الأسود أنه أخبره أنه قال يا رسول الله أرأيت أن لقيت رجلا من الكفار يقاتلني فضرب إحدى

يدي بالسيف ثم لاذ مني بشجرة فقال أسلمت لله افأقتله يا رسول الله بعد أن قالها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تقتله فقلت يا رسول الله إنه قطع يدي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تقتله فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله وأنت بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال. قلت الخوارج ومن يذهب مذاهبهم في التكفير بالكبائر يتأولونه على أنه بمنزلته في الكفر. وهذا تأويل فاسد وإنما وجهه أنه جعله بمنزلته في إباحة الدم لأن الكافر قبل أن يسلم مباح الدم بحق الدين فإذا أسلم فقتله قاتل فإن قاتله مباح الدم بحق القصاص. قال أبو داود: حدثنا هناد بن السري حدثنا أبو معاوية عن إسماعيل عن قيس عن جرير بن عبد الله قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى خثعم فاعتصم ناس منهم بالسجود فأسرع فيهم القتل، قال فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأمر لهم بنصف العقل وقال أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين قالوا يا رسول الله لِمَ قال لا ترايا ناراهما. قلت إنما أمر لهم بنصف العقل ولم يكمل لهم الدية بعد علمه بإسلامهم لأنهم قد أعانوا على أنفسهم بمقامهم بين ظهراني الكفار فكانوا كمن هلك بجناية نفسه وجناية غيره فسقط حصة جنايته من الدية. وأما اعتصامهم بالسجود فإنه لا يمحص الدلالة على قبول الدين لأن ذلك قد يكون منهم في تعظيم السادة والرؤساء فعذروا لوجود الشبه.

ومن باب التولي من الزحف

وفيه دليل على أنه إذا كان أسيرا في أيديهم فأمكنه الخلاص والانقلاب منهم لم يحل له المقام معهم وإن حلفوه فحلف لهم أن لا يخرج كان الواجب أن يخرج إلاّ أنه إن كان مكرها على اليمين لم تلزمه الكفارة، وإن كان غير مكره كانت عليه الكفارة عن يمينه. وعلى الوجهين جميعا فعليه الاحتيال للخلاص، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه. وقوله لا ترايا ناراهما فيه وجوه أحدها معناه لا يستوي حكماهما قاله بعض أهل العلم. وقال بعضهم معناه أن الله قد فرق بين داري الإسلام والكفر فلا يجوز لمسلم أن يساكن الكفار في بلادهم حتى إذا أوقدوا ناراً كان منهم بحيث يراها. وفيه دلالة على كراهة دخول المسلم دار الحرب للتجارة والمقام فيها أكثر من مدة أربعة أيام. وفيه وجه ثالث ذكره بعض أهل اللغة قال معناه لا يتسم المسلم بسمة المشرك ولا يتشبه به في هديه وشكله والعرب تقول (ما نار بعيرك أي ما سمته) ومن هذا قولهم (نارها نجارها) يريدون أن ميسمها يدل على كومها وعتقها ومنه قول الشاعر: حتى سقوا آبالهم بالنار ... والنار قد تشفي من الأوار يريد أنهم يعرفون الكرام منها بسماتها فيقدمونها في السقي على اللئام. ومن باب التولي من الزحف قال أبو داود: حدثنا أحمد بن يونس حدثنا زهير حدثنا يزيد بن أبي زياد أن عبد الرحمن بن أبي ليلى حدثه أن عبد الله بن عمر حدثه أنه كان في سرية من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فجاض الناس جيضة فكنت فيمن جاض فلما فررنا

ومن باب حكم الجاسوس إذا كان مسلما

قلنا كيف نصنع وقد فررنا من الزحف وبؤنا بالغضب فقلنا ندخل المدينة فنثبت فيها ونذهب فلا يرانا أحد، قال فدخلنا فقلنا لو عرضنا أنفسنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن كان لنا توبة أقمنا وإن كان غير ذلك ذهبنا قال فجلسنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل صلاة الفجر، فلما خرج قمنا إليه فقلنا نحن الفرارون فأقبل إلينا فقال لا بل أنتم العكَّارون قال فدنونا فقبلنا يده فقال أنا فئة المسلمين. يقال جاض الرجل إذا حاد عن طريقه أو انصرف عن وجهه إلى جهة أخرى. وقوله أنتم العكارون، يريد أنتم العائدون إلى القتال والعاطفون عليه، يقال عَكَرت على الشيء إذا عطفت عليه وانصرفت إليه بعد الذهاب عنه. وأخبرني ابن الزيبقي حدثنا الكديمي عن الأصمعي؛ قال رأيت أعرابيا يفلي ثيابه فيقتل البراغيث ويترك القمل فقلت لم تصنع هذا قال اقتل الفرسان ثم أعكر على الرجَّالة. وقوله صلى الله عليه وسلم إنا فئة المسلمين يمهد بذلك عذرهم وهو تأويل قوله أو متحيزا إلى فئة. ومن باب حكم الجاسوس إذا كان مسلما قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا سفيان عن عمرو وحدثه حسن بن محمد بن علي أخبره عبيد الله بن أبي رافع وكان كاتباً لعلي بن أبي طالب، قال سمعت علياً يقول بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد فقال انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها فانطلقنا تتعادى بنا خيلنا حتى أتينا الروضة فإذا نحن بالظعينة فقلنا هلمي الكتاب فقالت ما عندي من كتاب قلت لتخرجن الكتاب أو لتلقين الثياب فأخرجته من عقاصها فأتينا به النبي صلى الله عليه وسلم فإذا هو

من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس من المشركين يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ما هذا يا حاطب فقال يا رسول الله لا تعجل عليَّ فإني كنت امرءاً ملصقاً في قريش ولم أكن من أنفسها وإن قريشا لهم بها قرابات يحمون بها أهليهم فأحببت إذ فاتني ذلك أن اتخذ فيهم يداً يحمون بها قرابتي والله ما كان بي كفر ولا ارتداد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقكم فقال عمر رضي الله عنه دعني اضرب عنق هذا المنافق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قد شهد بدراً وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم. قلت في هذا الحديث من الفقه إن حكم المتأول في استباحة المحظور عليه خلاف حكم المتعمد لاستحلاله من غير تأويل. وفيه أنه إذا تعاطى شيئا من المحظور وادعى أمراً مما يحتمله التأويل كان القول قوله في ذلك وإن كان غالب الظن بخلافه، ألا ترى أن الأمر لما احتمل وأمكن أن يكون كما قال حاطب وأمكن أن يكون كما قاله عمر رضي الله عنه استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم حسن الظن في أمره وقبل ما ادعاه في قوله. وفيه دليل على أن الجاسوس إذا كان مسلما لم يقتل. واختلفوا فيما يفعل به من العقوبة فقال أصحاب الرأي في المسلم إذا كتب إلى العدو ودله على عورات المسلمين يوجع عقوبة ويطال حبسه. وقال الأوزاعي إن كان مسلما عاقبه الإمام عقوبة منكلة وغربه إلى بعض الآفاق في وثاق وإن كان ذميا فقد نقض عهده. وقال مالك لم أسمع فيه شيئا وأرى فيه اجتهاد الإمام. وقال الشافعي إذا كان هذا من الرجل ذي الهيئة بجهالة كما كان من حاطب بجهالة وكان غير متهم

ومن باب الحكم في الجاسوس المستأمن

أحببت أن يتجافى عنه وإن كان من غير ذي الهيئة كان للإمام تعزيره. وفي الحديث من الفقه أيضاً جواز النظر إلى ما ينكشف من النساء لإقامة حد أو إقامة شهادة في إثبات حق إلى ما أشبه ذلك من الأمور. وفيه دليل على أن من كفر مسلما أو نفقه على سبيل التأويل وكان من أهل الاجتهاد لم تلزمه عقوبة. ألا ترى أن عمر رضي الله عنه قال دعني أضرب عنق هذا المنافق وهو مؤمن قد صدقه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ادعاه من ذلك ثم لم يعنف عمر فيما قاله. وذلك أن عمر لم يكن منه عدوان في هذا القول على ظاهر حكم الدين إذ كان المنافق هو الذي يظهر نصرة الدين في الظاهر ويبطن نصرة الكفار وكان هذا الصنيع من حاطب شبيها بأفعال المنافقين إلاّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخبر أن الله تعالى قد غفر له ما كان منه من ذلك الصنيع وعفا عنه فزال عنه اسم النفاق والله أعلم. ومن باب الحكم في الجاسوس المستأمن قال أبو داود: حدثنا هارون بن عبد الله أن هاشم بن القاسم حدثهم عن عكرمة أخبرني إياس بن سلمة قال حدثني أبي قال غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم هوازن قال فبينا نحن نتضحى وعامتنا مشاة وفينا ضعفة إذ جاء رجل على جمل أحمر فانتزع طلقا من حقو البعير فقيد به جمله، ثم جاء يتغدى مع القوم فلما رأى ضعفهم ورقة ظهرهم خرج يعدو إلى جمله فأطلقه ثم أناخه فقعد عليه ثم خرج يركضه وأتبعه رجل من أسلم على ناقة ورقاء هي أمثل ظهر القوم، قال فخرجت أعدو فأدركته ورأس الناقة عند ورك الجمل وكنت عند ورك الناقة ثم تقدمت حتى كنت عند ورك الجمل ثم تقدمت حتى أخذت بخطام الجمل

ومن باب الخيلاء في الحرب

فأنخته فلما وضع ركبته بالأرض اخترطت سيفي فأضرب رأسه فنذر فجئت براحلته وما عليها أقوده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قتل الرجل فقالوا سلمة بن الأكوع قال له سلبه أجمع. قوله نتضحى معناه نتغدى والضحاء ممدود الغداء والطلق سير يقيد به البعير وحقوه مؤخره. وقوله نذر، معناه بان منه وسقط، وفيه إثبات السلب للقاتل وأنه لم يخمسه. ومن باب الخُيَلاء في الحرب قال أبو داود: حدثنا مسلم بن إبراهيم وموسى بن إسماعيل المعنى واحد قالا: حَدَّثنا أبان حدثنا يحيى عن محمد بن إبراهيم عن ابن جابر بن عتيك عن جابر بن عتيك، قال من الغيرة ما يحب الله ومنها ما يبغض الله، فأما التي يحبها الله فالغيرة في الريبة وأما التي بغضها الله فالغيرة في غير ريبة وأن من الخيلاء ما يبغض الله ومنها ما يحب الله، فأما الخيلاء التي يحب الله فاختيال الرجل نفسه عند القتال واختياله عند الصدقة، وأما التي يبغض الله فاختياله في البغي قال موسى والفخر. قلت معنى الاختيال في الصدقة أن يهزه أريحية السخاء فيعطيها طيبة نفسه بها من غير من ولا تصريد. واختيال الحرب أن يتقدم فيها بنشاط نفس وقوة جنان ولا يكبع ولا يجبن. ومن باب الرجل يستأسر قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا إبراهيم بن سعد حدثنا ابن شهاب قال أخبرني عمر بن جارية الثقفي حليف بني زهرة، عَن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة عينا وأمر عليهم عاصم بن ثابت

ومن باب في الكمين

فنفروا لهم هذيل قريب من مائة رجل رام؛ فلما أحس بهم عاصم لجؤوا إلى قَرْدَد فقالوا لهم انزلوا فأعطوا بأيديكم ولكم العهد والميثاق أن لا يقتل منكم أحد، فقال عاصم أما أنا فلا أنزل في ذمة كافر فرموهم بالنبل فقتلوا عاصما في سبعة نفر ونزل إليهم خبيب وزيد بن الدثنة ورجل آخر فلما استمكنوا منهم أطلقوا أوتار قسيهم فربطوهم بها قال الرجل الثالث هذا أول الغدر والله لا أصحبكم إن لي بهؤلاء لأسوة فجرروه فأبى أن يصحبهم فقتلوه فلبث خبيب أسيرا حتى أجمعوا قتله فاستعار موسى يستحد بها فلما أخرجوه ليقتلوه قال لهم خبيب دعوني أركع ركعتين ثم قال والله لولا أن يحسبوا ما بي جزعا لزدت. القردد رابية مشرفة على وهدة قال الشاعر: متى ما تُررنا آخر الدهر تلقنا ... بقرقرةٍ ملساء ليست بقَرْدد وقوله يستحد بها أي يحلق شعر عانته والاستحداد مأخوذ من الحديد. وفيه من العلم أن المسلم يجالد العدو إذا أزهق ولا يستأسر له ما قدر على الامتناع منه، وإنما استحد خبيب خوفا أن تظهر عورته إذا صلبوه، ثم أنه من السنة فاستعمله متجهزا للموت. ومن باب في الكمين قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي حدثنا زهير حدثنا أبو إسحاق قال سمعت البراء يحدث قال جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الرماة يوم أحد وكانوا خمسين رجلا عبد الله بن جبير وقال إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا من مكانكم هذا حتى أرسل إليكم وإن رأيتمونا هزمنا القوم وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم، قال فهزمهم الله قال فأنا والله رأيت النساء يسندن

ومن باب الصفوف

على الجبل فقال أصحاب عبد الله بن جبير الغنيمة أي قوم الغنيمة ظهر أصحابكم فقال عبد الله بن جبير أنسيتم ما قال لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة فأتوهم فصرفت وجوههم وأقبلوا منهزمين. قوله تخطفنا الطير معناه الهزيمة يقول إن رأيتمونا وقد أسرعنا مولين فأثبتوا أنتم ولا تبرحوا، والعرب تقول فلان ساكن الطير إذا كان ركيناً ثابت الجأش وقد طار طير فلان إذا طاش وخف قال لقيط الإيادي. هو الجلاء الذي يجتذ أصلكم ... إن طار طيركم يوماً وإن وقعا وقوله يسندن على الجبل معناه يصعدن فيه يقال سند الرجل في الجبل إذا صعد فيه، والسند ما ارتفع من الأرض، والسناد الطويلة من النوق. ومن باب الصفوف قال أبو داود: حدثنا أحمد بن سنان حدثنا أبو أحمد الزبيري حدثنا عبد الرحمن بن سليمان بن الغسيل عن حمزة بن أبي أسيد عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اصطففنا يوم بدر إذا أكثبوكم فارموهم بالنبل واستبقوا نبلكم. قوله أكثبوكم معناه غشوكم وأصله من الكثب وهو القرب يقول إذا دنوا منكم فارموهم ولا ترموهم على بعد. ومن باب المبارزة قال أبو داود: حدثنا هارون بن عبد الله حدثنا عثمان بن عمر أخبرنا إسرائيل، عَن أبي إسحاق عن حارثة بن مضرب عن علي رضي الله عنه، قال تقدم عتبة بن ربيعة ومعه ابنه وأخوه فنادى من يبارز فانتدب له شباب من الأنصار، فقال من أنتم فأخبروه فقال لا حاجة لنا فيكم إنما أردنا بني عمنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم

ومن باب النهي عن المثلة

قم يا حمزة قم يا علي قم يا عبيدة بن الحارث فأقبل حمزة إلى عتبة وأقبلت إلى شيبة واختلف بين عبيدة والوليد ضربتين فأثخن كل واحد منهما صاحبه ثم ملنا إلى الوليد فقتلناه واحتملنا عبيدة. قلت فيه من الفقه إباحة المبارزة في جهاد الكفار ولا أعلم اختلافا في جوازها إذا أذن الإمام فيها، وإنما اختلفوا فيها إذا لم تكن عن إذن من الإمام فكره سفيان الثوري وأحمد واسحاق أن يفعل ذلك إلاّ بإذن الإمام. وحكي ذلك أيضاً عن الأوزاعي. وقال مالك والشافعي لا بأس بها كانت بإذن الإمام أو بغير إذنه، وقد روي ذلك أيضاً عن الأوزاعي. قلت قد جمع هذا الحديث معنى جوازها بإذن الإمام وبغير إذنه، وذلك أن مبارزة حمزة وعلي رضي الله عنهما كانت بإذن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يذكر فيه إذن من النبي صلى الله عليه وسلم للأنصاريين الذين خرجوا إلى عتبة وشيبة قبل على وحمزة ولا إنكار من النبي صلى الله عليه وسلم عليهم في ذلك. وفي الحديث من الفقه أيضاً أن معونة المبارز جائزة إذا ضعف أو عجز عن قرنه ألا ترى أن عبيدة لما أثخن أعانه علي وحمزة في قتل الوليد. واختلفوا في ذلك فرخص فيه الشافعي وأحمد وإسحاق. وقال الأوزاعي لا يعينونه عليه لأن المبارزة إنما تكون هكذا. ومن باب النهي عن المثلة قال أبو داود: حدثنا محمد بن المثنى حدثنا معاذ بن هشام حدثني أبي عن قتادة عن الحسن عن الهياج بن عمران أن عمران بن حصين أبق له غلام فجعل الله عليه

ومن باب قتل النساء

لئن قدر عليه ليقطعن يده فأرسلني لأسأل فأتيت سمرة بن جندب فقال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحثنا على الصدقة وينهانا عن المثلة. قلت المثلة تعذيب المقتول بقطع أعضائه وتشويه خلقه قبل أن يقتل أو بعده وذلك مثل أن يجدع أنفه أو أذنه أو يفقأ عينه أو ما أشبه ذلك من أعضائه. قلت وهذا إذا لم يكن الكافر فعل مثل ذلك بالمقتول المسلم فإن مثل بالمقتول جاز أن يمثل به ولذلك قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم أيدي العرنيين وأرجلهم وسمر أعينهم وكانوا فعلوا ذلك برعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك هذا في القصاص بين المسلمين إذا كان القاتل قطع أعضاء المقتول وعذبه قبل القتل فإنه يعاقب بمثله وقد قال تعالى {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} . ومن باب قتل النساء قال أبو داود: حدثنا أبو الوليد الطيالسي حدثنا عمر بن المرقع بن صيفي بن رماح حدثني أبي عن جده رماح بن الربيع، قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة فرأى الناس مجتمعين على شيء فبعث رجلا فقال انظر علام اجتمع هؤلاء فجاء فقال على امرأة قتيل، فقال ما كانت هذه لتقاتل قال وعلى المقدمة خالد بن الوليد فبعث رجلا فقال قل لخالد لا تقتلن امرأة ولا عسيفا. قلت فيه دليل على أن المرأة إذا قاتلت قتلت ألا ترى أنه جعل العلة في تحريم قتلها أنها لا تقاتل فإذا قاتلت دل على جواز قتلها. والعسيف الأجير والتابع؛ واختلفوا في جواز قتله فقال الثوري لا يقتل العسيف وهو التابع. وقال الأوزاعي نحوا منه وقال لا يقتل الحراث إذا علم أنه ليس من المقاتلة، قال وكذلك لا يقتل صاحب الصومعة ولا شيخا فانيا ولا صغيرا

قال ويقتل الشاب المريض ويكف عن الأعمى. وقال الشافعي يقتل الفلاحون والشيوخ والأجراء حتى يسلموا أو يؤدوا الجزية. قال أبو داود: حدثنا سعيد بن منصور حدثنا هشيم حدثنا حجاج حدثنا قتادة عن الحسن عن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقتلوا شيوخ المشركين واستبقوا شرخهم. قلت الشرخ هاهنا جمع شارخ وهو الحديث السن، يقال شارخ وشرخ كما قالوا راكب وركب وصاحب وصحب، يريد بهم الصبيان ومن لم يبلغ مبلغ الرجال. والشيوخ هاهنا المسان، فإذا قيل شرخ الشباب كان معناه أول الشباب قال حسان: إن شرخ الشباب والشعر الأسود ... ما لم يعاصِ كان جنونا قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي حدثنا محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق حدثني محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة بن الزبير عن عائشة قالت لم يقتل من نساء بني قريظة إلاّ امرأة إنها لعندي تحدث تضحك ظهرا وبطنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقتل رجالهم بالسيوف إذ هتف بها هاتف باسمها أين فلانه. قالت أنا، قلت وما شأنك قال حدثاً أحدثته، قال فانطلق بها فضربت عنقها فما أنسى عجبا منها أنها تضحك ظهرا وبطنا وقد علمت أنها تقتل. قلت يقال إنها كانت شتمت النبي صلى الله عليه وسلم وهو الحدث الذي أحدثته وفي ذلك دلالة على وجوب قتل من فعل ذلك. ويحكى عن مالك أنه كان لا يرى لمن سب النبي صلى الله عليه وسلم توبة ويقبل توبة من ذكر الله سبحانه بسب أو شتم ويكف عنه.

ومن باب كراهية تحريق العدو بالنار

وأخبرني بعض أهل العلم من أهل الأندلس أن هذه القضية جارية فيما بينهم وإن أمراءهم والقضاة يحكمون بها على من فعل ذلك، وربما بقي أسراء الروم في أيديهم فيطول مقامهم بينهم فيطلبون الخلاص بالموت فيجاهرون بشتم النبي صلى الله عليه وسلم فعند ذلك لا ينهون أن يقتلوا، والغالب على بلاد الأندلس ونواحي المغرب رأي مالك. قال أبو داود: حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح حدثنا سفيان عن الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس عن الصعب بن جثامة أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الدار من المشركين يبيتون فيصاب من ذراريهم ونسائهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم هم منهم. يريد أنهم منهم في حكم الدين وإباحة الدم، وفيه بيان أن قتلهم في البيات وفي الحرب إذا لم يتميزوا من آبائهم وإذا لم يتوصلوا إلى الكبار إلاّ بالإتيان عليهم جائز. وأن النهي عن قتلهم منصرف إلى حال التمييز والتفرق فإن الإبقاء عليهم إنما هو من أجل أنهم فيء للمسلمين لا من جهة أنهم على حكم الإسلام. ومن باب كراهية تحريق العدو بالنار قال أبو داود: حدثنا سعيد بن منصور حدثنا مغيرة بن عبد الرحمن الحزامي، عَن أبي الزناد عن محمد بن حمزة الأسلمي عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره على سرية قال فخرجت فيها، فقال إن وجدتم فلانا ًفأحرقوه بالنار فوليت فناداني فرجعت إليه، قال إن وجدتموه فاقتلوه ولا تحرقوه فانه لا يعذب في النار إلاّ رب النار. قلت هذا إنما يكره إذا كان الكافر أسيرا قد ظفر به وحصل في الكف وقد أباح رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تضرم النار على الكفار في الحرب وقال لأسامة اغز على أُبنا صباحا وحرق. ورخص سفيان الثوري والشافعي في أن يرمي أهل

الحصون بالنيران إلاّ أنه يستحب أن لا يرموا بالنار ما داموا يطاقون إلاّ أن يخافوا من ناحيتهم الغلبة فيجوز حينئذ أن يقذفوا بالنار. قال أبو داود: حدثنا أبو صالح حدثنا محبوب بن موسى أخبرنا أبو إسحاق الفزاري، عَن أبي إسحاق الشيباني عن ابن سعد قال غير أبي صالح الحسن بن سعد عن عبد الرحمن بن عبد الله عن أبيه، قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فانطلق لحاجته فرأينا حمرة معها فرخان فأخذنا فرخيها فجاءت الحمرة فجعلت تفرش قلت أو تعرش فقال النبي صلى الله عليه وسلم من فجع هذه بولدها ردوا ولدها إليها ورأى قرية نمل قد أحرقناها، فقال من حرق هذه قلنا نحن، قال أنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلاّ رب النار. الحمرة طائر قوله تفرش أو تعرش معناه ترفرف. والتفريش مأخوذ من فرش الجناح وبسطه والتعريش أن يرتفع فوقهما ويظلل عليهما، ومنه أخذ العريش يقال عرشت عريشا أعرُشُه واعرَشه. وفيه دلالة على أن تحريق بيوت الزنابير مكروه. وأما النمل فالعذر فيه أقل وذلك أن ضرره قد يمكن أن يزال من غير إحراق. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن نبيا من الأنبياء نزل على قرية نمل فقرصته نملة فأمر بالنمل فأحرقت فأوحي إليه إلاّ نملة واحدة. قلت والنمل على ضربين أحدهما مؤذ ضرار فدفع عاديته جائز. والضرب الآخر لا ضرر فيه وهو الطوال الأرجل لا يجوز قتله.

ومن باب الرجل يكري دابته

ومن باب الرجل يكري دابته على النصف أو بالسهم أو ببعض غنيمة قال أبو داود: حدثنا إسحاق بن إبراهيم الدمشقي أبو النَّضر حدثنا محمد بن شعيب أخبرني أبو زرعة يحيى بن أبي عمرو الشيباني عن عمرو بن عبد الله أنه حدثه عن واثلة بن الأسقع قال نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فخرجت في أهلي. فأقبلت وقد خرج أول صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فطفقت في المدينة أنادي إلاّ من يحمل رجلا له سهمه، قال فإذا شيخ من الأنصار قال لنا سهمه على أن نحمله عقبة وطعامه معنا قلت نعم قال فسر على بركة الله قال فخرجت مع خير صاحب حتى أفاء الله علينا فأصابني قلائص فسقتهن حتى أتيته فخرج فقعد على حقيبة من حقائب إبله ثم قال سقهن مدبرات، ثم قال سقهن معبلات فقال ما أرى قلائصك إلاّ كراماً، فقلت إنما هي غنيمتك التي شرطت لك، قال خذ قلائصك ابن أخي فغير سهمك أردنا. قلت اختلف الناس في هذا فقال أحمد بن حنبل فيمن يعطي فرسه على النصف مما يغنمه في غزاته أرجو أن لا يكون به بأس. وقال الأوزاعي ما أراه إلاّ جائزا وكان مالك بن أنس يكرهه. وفي مذهب الشافعي لا يجوز أن يعطيه فرسا على سهم من الغنيمة فإن فعل فله أجر مثل ركوبه. وقوله فغير سهمك أردنا يشبه أن يكون معناه إني لم أرد سهمك من الغنم إنما أردت مشاركتك في الأجر والثواب والله أعلم. ومن باب الأسير يوثق قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن عمرو بن أبي الحجاج أبو معمر حدثنا

ومن باب الأسير ينال بضرب

عبد الوارث حدثنا محمد بن إسحاق عن يعقوب بن عتبة عن مسلم بن عبد الله عن جندب بن مكيث قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن غالب الليثي في سرية فكنت فيها وأمرهم أن يشنوا الغارة على بني الملوح بالكديد فخرجنا حتى إذا كنا بالكديد لقينا الحارث بن البرصاء الليثي فأخذناه، فقال إنما جئت أريد الإسلام وإنما خرجت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا إن تك مسلما لم يضرك رباطنا يوما وليلة وإن تك غير ذلك نستوثق منك فشددناه وثاقا. قوله فشنوا الغارة معناه بثوها من كل وجه؛ وأصل الشن الصب يقال شننت الماءإذا صببته صبا متفرقا، والشنان ما تفرق من الماء. وفيه دلالة على جواز الاستيثاق من الأسير الكافر بالرباط والقيد والغل وما يدخل في معناها إن خيف انفلاته ولم يؤمن شره إن ترك مطلقا. ومن باب الأسير ينال بضرب قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن ثابت عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ندب أصحابه فانطلق إلى بدر فأذاهم بروايا قريش فيها عبد أسود لبني الحجاج فأخذه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلوا يسألونه اين أبو سفيان فيقول والله ما لي بشيء من أمره علم ولكن هذه قريش قد جاءت فيهم أبو جهل وعتبة وشيبة ابنا ربيعة وأمية بن خلف، فإذا قال لهم ذلك ضربوه فيقول دعوني أخبركم فإذا تركوه قال والله ما لي بأبي سفيان من علم ولكن هذه قريش قد أقبلت فيهم أبوجهل وعتبة وشيبة ابنا ربيعة وأمية بن خلف قد أقبلوا والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي وهو يسمع ذلك فلما انصرف قال والذي نفسي بيده إنكم لتضربونه إذا صدقكم وتدعونه إذا كذبكم هذه قريش قد أقبلت لتمنع

ومن باب الأسير يكره على الإسلام

أبا سفيان، قال أنس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا مصرع فلان غدا ووضع يده على الأرض، وهذا مصرع فلان غدا ووضع يده على الأرض، وهذا مصرع فلان غدا ووضع يده على الأرض، فقال والذي نفسي بيده ما جاوز أحد منهم عن موضع يد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بأرجلهم فسحبوا فألقوا في قليب بدر. السحب الجر العنيف والقليب البئر التي لم تطو وإنما هي حفيرة قلب ترابها فسميت قليبا، والروايا الإبل التي يستقى عليها واحدتها راوية وأصل الراوية المزادة فقيل للبعير راوية لحملها المزادة. وفيه دليل على جواز ضرب الأسير الكاقر إذا كان في ضربه طائل. ومن باب الأسير يكره على الإسلام قال أبو داود: حدثنا محمد بن بشار حدثنا محمد بن أبي عدي عن شعبة، عَن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال كانت المرأة تكون مقلاتاً فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوده، فلما أجليت بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار فقالوا لا ندع أبناءنا فأنزل الله عز وجل {لا إكراه في الدين} [البقرة: 256] الآية. قلت المقلات هي المرأة التي لا يعيش لها ولد وأصله من القلت وهو الهلاك قال الشاعر: بغاث الطير أكثرها فراخا ... وأم الطير مقلات نزور وفيه دليل على أن من انتقل من كفر وشرك إلى يهودية أو نصرانية قبل مجيء دين الإسلام فإنه يقر على ما كان انتقل إليه وكان سبيله أهل الكتاب في أخذ الجزية منه وجواز مناكحته واستباحة ذبيحته. فأما من انتقل عن شرك

ومن باب قتل الأسير ولا يعرض عليه الإسلام

إلى يهودية أو نصرانية بعد وقوع نسخ اليهودية وتبديل ملة النصرانية فإنه لا يقر على ذلك، وأما قوله سبحانه {لا إكراه في الدين} [البقرة: 256] فإن حكم الآية مقصور على ما نزلت فيه من قصة اليهود، فأما إكراه الكفار على دين الحق فواجب ولهذا قاتلناهم على أن يسلموا أو يؤدوا الجزية ويرضوا بحكم الدين عليهم. ومن باب قتل الأسير ولا يعرض عليه الإسلام قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا أحمد بن المفضل حدثنا إسباط بن نصر قال زعم السدي عن مصعب بن سعد عن سعد، قال لما كان يوم فتح مكة أمن رسول الله الناس إلاّ أربعة أنفس وامرأتين فذكر منهم ابن أبي السرح قال وكان قد اختبأ عند عثمان، فلما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى البيعة جاء به حتى وقفه على النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا نبي الله بايع عبد الله فرفع رأسه فنظر إليه ثلاثا كل ذلك يأبى. فبايعه بعد ثلاث ثم أقبل على أصحابه، فقال أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حين رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله، فقالوا ما ندري يا رسول الله ما في نفسك أفلا أومأت إلينا بعينك، قال أنه لا ينبغي لنبي أن يكون له خائنة الأعين. قلت معنى خائنة الأعين أن يضمر بقلبه غير ما يظهره للناس فإذا كف بلسانه وأومأ بعينه إلى خلاف ذلك فقد خان. وكان ظهور تلك الخيانة من قبل عينيه فسميت خائنة الأعين، ومعنى الرشد هاهنا الفطنة لصواب الحكم في قتله. وفيه دليل على أن ظاهر السكوت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشيء يراه يصنع بحضرته يحل محل الرضا به والتقرير له. قلت عبد الله بن أبي السرح كان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم فارتد عن الدين فلذلك

ومن باب المن على الأسير بغير فداء

غلّظ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر مما غلظ على غيره من المشركين. قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن ابن شهاب عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة عام الفتح وعلى رأسه المغفر فلما نزعه جاءه رجل فقال ابن خطل متعلق بأستار الكعبة فقال اقتلوه. قلت في كون المغفر على رأسه دليل على جواز ترك الإحرام للخائف على نفسه إذا دخل مكة وعلى أن صاحب الحاجة إذا أراد دخول الحرم لم يلزمه الإحرام إذا لم يرد حجا أوعمرة، وكان ابن خطل بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجه مع رجل من الأنصار وأمر الأنصاري عليه، فلما كان ببعص الطريق وثب على الأنصاري فقتله وذهب بماله فلم ينفذ رسول الله صلى الله عليه وسلم له الأمان وقتله بحق ما جناه في الإسلام. وفيه دليل على أن الحرم لا يعصم من إقامة حكم واجب ولا يؤخره عن وقته. ومن باب المن على الأسير بغير فداء قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد حدثنا ثابت عن أنس أن ثمانين رجلاً من أهل مكة هبطوا على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من جبال التنعيم عند صلاة الفجر ليقتلوهم فأخذهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سلما فأعتقهم فأنزل الله تعالى {وهوالذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة} [الفتح: 24] إلى آخر الآية. قوله سلما، يَعني اسراء، يقال رجل سلَم أي أسير وقوم سلم الواحد والجماعة سواء قال الشاعر: فاتقين مروان في القوم السلَم قال أبو داود: حدثنا محمد بن يحيى بن فارس حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر

عن الزهري عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأسارى بدر لو كان مطعم بن عدي حيا ثم حكمني في هؤلاء النتنى لأطلقتهم له. النتنى جمع النتن وهو المنتن، يقال نتن الشيء ينتن فهو نتن ويجمع على النتنى كما يقال زمن الرجل يزمن فهو زمن ويجمع على الزمنى. وفيه دليل على جواز إطلاق الأسير والمن عليه من غير فداء. قال أبو داود: حدثنا عبد الرحمن بن المبارك العيشى حدثنا سفيان بن حبيب حدثنا شعبة عن أبى العبس، عَن أبي الشعثاء عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل فداء أهل الجاهلية يوم بدر أربعمائة. قال أبو داود: حدثنا علي بن الحسين الرقي حدثني عبد الله بن جعفر الرقي أخبرني عبيد الله بن عمرو عن زيد بن أبي أنيسة عن عمرو بن مرة عن إبراهيم عن مسروق عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد قتل عقبة بن أبي مُعَيط قال من للصبية قال النار. قلت في هذه الأحاديث الثلاثة حديث جبير بن مطعم وحديث ابن عباس وحديث عبد الله بن مسعود دليل على أن الإمام مخير في الأسارى البالغين إن شاء من عليهم وأطلقهم من غير فداء وإن شاء فاداهم بمال معلوم وإن شاء قتلهم أي ذلك كان أصلح ومن أمر الدين وإعزاز الإسلام أوقع. وإلى هذا ذهب الشافعي وأحمد وهو قول الأوزاعي وسفيان الثوري.

وقال أصحاب الرأي إن شاء قتلهم وإن شاء فاداهم وإن شاء استرقهم ولا يمن عليهم فيطلقهم بغير عوض فيكون فيه تقوية للكفار وزيادة في عددهم. وزعم بعضهم أن المن كان خاصا للنبي صلى الله عليه وسلم دون غيره. قلت التخصيص في أحكام الشريعة لا يكون إلاّ بدليل والنبي صلى الله عليه وسلم إذا حكم بحكم في زمانه كان ذلك سنة وشريعة في سائر الأزمان وقد قال سبحانه {فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما مناً بعد وإما فداء} [محمد: 4] الآية. وهذا خطاب لجماعة الأمة كلهم ليس فيه تخصيص للنبي صلى الله عليه وسلم وإنما كان فعله امتثالا للآية، وأما الذين اعتلوا به من تقوية الكفر فإن الإمام إذا رأى أن يعطي كافرا عطية يستميله بها إلى الإسلام كان ذلك جائزا وإن كان في ذلك تقوية لهم فكذلك هذا. وقد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم رجلا من الكفار غنما بين جبلين. حدثناه ابن الأعرابي حدثنا عبد الرحمن بن منصور الحارثي حدثنا عبد الرحمن بن يحيى بن سعيد العذري عن مالك بن أنس، عَن أبي الزناد عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه، قال جاء رجل من العرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل شيئا بين جبلين فكتب له بها فأسلم ثم أتى قومه فقال لهم أسلموا فقد جئتكم من عند رجل يعطي عطاء من لا يخاف الفاقة. وفي أخذه في الفداء المال دليل على فساد قول من يقول أنه يفادي بالرجال ولا يفادي بالمال ويحكى نحو هذا القول عن مالك بن أنس. قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن محمد بن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده في قصة سبي هوازن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ردوا عليهم نساءهم وأبنائهم فمن مسَّك بشيء من هذا الفيء فإن له علينا به ست

فرائض من أول شيء يفيئه الله علينا ثم دنا من بعير فأخذ وبرة من سنامه ثم قال يا أيها الناس أنه ليس لي من هذا الفيء ولا هذا ورفع أصبعيه إلاّ الخمس والخمس مردود عليكم فأدوا الخياط والمخيط فقام رجل في يده كُبّة من شعر فقال أخذت هذه لأصلح بها برذعة لي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لك فقال أما إذا بلغت ما أرى فلا ارب لي فيها ونبذها. قوله من مسَّك يريد أمسك، مسّكت بالشيء وأمسكته بمعنى واحد وفيه إضمار وهو الرد كأنه قال من أصاب شيئا من هذا الفيء فأمسكه ثم رده وقوله من أول شيء يفيئه الله علينا فإنه يريد الخمس الذي جعله الله له من الفيء وكان الخمس من الفيء لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة ينفق منه على أهله ويجعل الباقي في مصالح الدين وسد حاجة المسلمين، وذلك معنى قوله إلاّ الخمس والخمس مردود عليكم. وقد استدل بعض أهل العلم بهذا على أن سهم النبي صلى الله عليه وسلم ساقط بعد موته ومردود على شركائه المذكورين معه في الآية، وكذلك سهم ذي القربى وإلى هذا ذهب أصحاب الرأي. وقال بعضهم هو للخليفة بعده يصرفه فيما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصرفه فيه أيام حياته. وقال الشافعي هو موضوع في كل أمر حصن به الإسلام وأهله من سد ثغر وإعداد كراع وسلاح وما دعا إلى مصلحة فيه. وفي قوله ادوا الخياط والمخيط دليل على أن قليل ما يغنم وكثيره مقسوم بين من شهد الوقعة ليس لأحد أن يستبد بشيء منه وإن قل إلاّ الطعام الذي قد وردت فيه الرخصة وهذا قول الشافعي.

ومن باب التفريق بين السبي

وقال مالك إذا كان شيئا خفيفا فلا أرى به بأسا أن يرتفق به آخذه دون أصحابه. ومن باب التفريق بين السبي قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا إسحاق بن منصور حدثنا عبد السلام بن حرب عن يزيد بن عبد الرحمن عن الحكم عن ميمون بن أبي شيبة عن علي رضي الله عنه أنه فرق بين جارية وولدها فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فرد البيع. قال أبو داود ميمون لم يدرك علياً. قلت لم يختلف أهل العلم في أن التفريق بين الولد الصغير وبين والدته غير جائز، إلاّ أنهم اختلفوا في الحد بين الصغير الذي لا يجوز معه التفريق وبين الكبير الذي يجوز معه. فقال أصحاب الرأي الحد في ذلك الاحتلام. وقال الشافعي إذا بلغ سبعا أو ثمانياً. وقال الأوزاعي إذا استغنى عن أمه فقد خرج من الصغر. وقال مالك إذا ثغر. وقال أحمد لا يفرق بينهما بوجه وإن كبر الولد واحتلم. قلت ويشبه أن يكون المعنى في التفريق عند أحمد قطيعة الرحم. وصلة الرحم واجبة مع الصغر والكبر. ولا يجوز عند أصحاب الرأي التفريق بين الأخوين إذا كان أحدهما صغيرا والاخر كبيرا فإن كانا صغيرين جاز. وأما الشافعي فإنه يرى التفريق بين المحارم في البيع ويجعل المنع في ذلك مقصورا على الولد. ولا يختلف مذاهب العلماء في كراهة التفريق بين الجارية وولدها الصغير سواء كادت مسبية من بلاد الكفر أو كان الولد من زنا أو كان زوّجها أهلها في الإسلام فجاءت بولد ولا أعلمهم يختلفون في أن التفرقة بينهما في العتق جائز وذلك أن العتق لا يمنع من الحضانة كما يمنع منها البيع. والرهن

ومن باب الرخصة في المدركات يفرق بينهن

في ذلك بمعنى البيع. واختلفوا في البيع إذا وقع على التفريق فقال أبو حنيفة هو ماض وإن كرهناه وغالب مذهب الشافعي أن البيع مردود. وقال أبو يوسف البيع مردود. واحتجوا بخبر علي رضي الله عنه هذا إلاّ أن إسناده غير متصل كما ذكره أبو داود. ومن باب الرخصة في المدركات يفرق بينهن قال أبو داود: حدثنا هارون بن عبد الله حدثنا هاشم بن القاسم حدثنا عكرمة حدثني إياس بن سلمة حدثني أبي قال خرجنا مع أبي بكر رضي الله عنه وأمّره علينا رسول الله فغزونا فزارة فشننا الغارة ثم نظرت إلى عُنق من الناس فيه الذرية والنساء فرميت بسهم فوقع بينهم وبين الجبل فقاموا فجئت بهم إلى أبي بكر رضي الله عنه فيهم امرأة من فزارة عليها قشع من أدم معها ابنة لها من أحسن العرب فنفلني أبو بكر رضي الله عنه ابنتها فقدمت المدينة فلقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي يا سلمة هب لي المرأة، فقلت والله لقد أعجبتني وما كشفت لها ثوباً فسكت حتى إذا كان من الغد لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم في السوق فقال يا سلمة هب لي المرأة لله أبوك فقلت يا رسول الله والله ما كشفت لها ثوباً وهي لك فبعث بها إلى أهل مكة وفي أيديهم أسارى ففداهم بتلك المرأة. قوله عنق من الناس يريد جماعة منهم ومن هذا قوله تعالى {فظلت أعناقهم لها خاضعين} [الشعراء: 4] أي جماعاتهم ولو كان المراد به الرقاب لقيل خاضعات والله أعلم. والقشع الجلد وفيه لغتان، يقال قَشْع وقِشْع ومنه قولك قشعت الشيء إذا أخذت قشره والقشاعة ما أخذته من جلدة وجه الأرض. وفي قوله نفلني أبو بكر ابنتها دليل على أن النفل قبل الخمس.

ومن باب المال يصيبه العدو من المسلمين

وفيه دليل على جواز التفريق بين الأم وولدها الكبير خلاف ما ذهب إليه أحمد بن حنبل. وفي قوله ما كشفت لها ثوباً وسكوت النبي صلى الله عليه وسلم وتركه الإنكار عليه دليل على أنهم كانوا يستبيحون إذ ذاك وطء الوثنيات وذلك قبل نزوله من الحديبية ولولا إقامة هذه الجارية على كفرها لما ردت إلى أهل مكة وهم كفار إذ ذاك. ومن باب المال يصيبه العدو من المسلمين ثم يدركه صاحبه في الغنيمة قال أبو داود: حدثنا صالح بن سهيل حدثنا يحيى بن أبي زائدة عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر أن غلاماً لابن عمر ابق إلى العدو فظهر عليه المسلمون فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ابن عمر ولم يقسم. قلت في هذا دليل على أن المشركين لا يحرزون على مسلم مالاً بوجه. وإن المسلمين إذا استنقذوا من أيديهم شيئا كان للمسلم وكان عليهم رده عليه ولا يغنمونه. واختلفوا في هذا فقال الشافعي صاحب الشيء أحق به قسم أو لم يقسم وقال الأوزاعي والثوري إن أدركه صاحبه قبل أن يقسم فهو له وإن لم يدركه حتى قسم كان أحق به، وكذلك قال أبو حنيفة إلاّ أنه فرق بين المال يغلب عليه العدو وبين العبد يأبق فيأسره العدو فقال في المال مثل قول الأوزاعي، وقال في العبد مثل قول الشافعي. ومن باب عبيد المشركين يلحقون بالمسلمين فيسلمون قال أبو داود: حدثنا عبد العزيز بن يحيى الحراني حدثنا محمد، يَعني ابن سلمة

ومن باب إباحة الطعام في أرض العدو

عن محمد بن إسحاق عن أبان بن صالح عن منصور بن المعتمر عن ربعي بن حراش عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه. قال خرج عبدان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يَعني يوم الحديبية قبل الصلح فكتب إليه مواليهم قالوا يا محمد والله ما خرجوا إليك رغبة في دينك وإنما خرجوا هرباً من الرق فقال ناس صدقوا يا رسول الله ردهم إليهم فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال ما أراكم تنتهون يا معشر قريش حتى يبعث الله عليكم من يضرب رقابكم على هذا وأبى أن يردهم وقال هم عتقاء الله. قلت هذا أصل في أن من خرج من دار الكفر مسلماً وليس لأحد عليه يد قدرة فأنه حر وإنما يعتبر أمره بوقت الخروج منها إلى دار الإسلام. فأما الحالة المتقدمة فلا عبرة بها وحكمها مهدوم بما تجدد له من الملكة في الإسلام. فلو أن رجلا من الكفار خرج إلينا وفي يده عبد له فأسلما جميعا قبل أن يقدر عليهما كان الحر منهما حراً والعبد عبداً وملك السيد مستقر عليه كما كان، فلو أن العبد غلب على سيده في دار الحرب ثم خرجا إلينا مسلمين ويد العبد ثابتة على السيد كان السيد مملوكا والمملوك مالكا وعلى هذا القياس. ومن باب إباحة الطعام في أرض العدو قال أبو داود: حدثنا إبراهيم بن حمزة الزبيري حدثنا أنس بن عياض عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر أن جيشاً غنموا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم طعاما وعسلا فلم يؤخذ منهم الخمس. قلت لا أعلم خلافاً بين الفقهاء في أن الطعام لا يخمس في جملة ما يخمس من الغنيمة وإن لواجده أكله ما دام الطعام في حد القلة وعلى قدر الحاجة وما دام صاحبه مقيما في دار الحرب وهو مخصوص من عموم الآية ببيان النبي صلى الله عليه وسلم

ومن باب النهي عن النهبى

كما خص منها السلب وسهم النبي صلى الله عليه وسلم والصفي ورخص أكثر العلماء في علف الدواب ورأوه في معنى الطعلم للحاجة إليه. وقال الشافعي فإن أكل فوق الحاجة أدى ثمنه في المغنم، وكذلك إن شرب شيئا من الأشربة والأدوية التي لا تجرى مجرى الأقوات أو أطعم صقوره أو بزاته لحماً منه أدى قيمته في المغنم، وإنما يحل له قدر الحاجة حسب وليست يده على الطعام في دار الحرب يد ملك حقيقة وإنما له يد الارتفاق والانتفاع به قدر الحاجة وهذا على أحد قولي الشافعي. ومن باب النهي عن النُهْبى قال أبو داود: حدثنا سليمان بن حرب حدثنا جرير، يَعني ابن حازم عن يعلى بن حكيم، عَن أبي لبيد، قال كنا مع عبد الرحمن بن سمرة بكابل فأصاب الناس غنيمة فانتهبوها فقام خطيباً فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن النهبي فردوا ما أخذوه فقسمه بينهم. قلت النهبي اسم مبني على فعلى من النهب كالرغبى من الرغبة، وإنما نهي عن النهب، لأن الناهب إنما يأخذ ما يأخذه على قدر قوته لا على قدر استحقاقه فيؤدي ذلك إلى أن يأخذ بعضهم فوق حظه وأن يبخس بعضهم حقه وإنما لهم سهام معلومة للفرس سهمان وللراجل سهم، فإذا انتهبوا الغنيمة بطلت القسمة وعدمت التسوية. ومن باب حمل الطعام من أرض العدو قال أبو داود: حدثنا سعيد بن منصور حدثنا عبد الله بن وهب أخبرني عمرو بن الحارث أن ابن خُرشف الأزدي حدثه عن القاسم مولى عبد الرحمن عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال كنا نأكل الجزر في الغزو ولا نقسمه حتى

ومن باب بيع الطعام إذا فضل

إن كنا لنرجع إلى رحالنا وأخرجتنا منه مُمْلأة. واختلفوا فيما يخرج به المرء من الطعام من دار الحرب فقال سفيان يريد ما أخذ منه إلى الإمام، وكذا قال أبو حنيفة وهو أحد قولي الشافعي، وقال في موضع آخر. له أن يحمله لأنه إذا ملكه في دار الحرب فقد صار له فلا معنى لمنعه من الخروج به، وإلى هذا ذهب الأوزاعي إلاّ أنه قال لا يجوز له أن يبيعه إنما له الأكل فقط. فإن باعه وضع ثمنه في مغانم المسلمين. وكان مالك بن أنس يرخص في القليل منه كاللحم والخبز ونحوهما. قال لا بأس أن يأكل في أهله وكذلك قال أحمد. ومن باب بيع الطعام إذا فضل عن الناس في أرض العدو قال أبو داود: حدثنا محمد بن المصفى حدثنا محمد بن المبارك عن يحيى بن حمزة قال حدثني أبو عبد العزيز شيخ من أهل الأردن عن عبادة بن نُسيّ عن عبد الرحمن بن غنم قال رابطنا مدينة قنسرين مع شرحبيل بن السمط فلما فتحها أصاب فيها غنماً وبقراً فقسم فينا طائفة منها وجعل بقيتها في المغنم. فلقيت معاذ بن جبل فحدثته فقال معاذ غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر فأصبنا فيها غنماً فقسم فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم طائفة وجعل بقيتها في المغنم. قوله قسم فينا طائفة أي قدر الحاجة للطعام وقسم البقية بينهم على السهام. والأصل أن الغنيمة مخموسة ثم الباقي بعد ذلك مقسوم، إلاّ أن الضرورة لما دعت إلى إباحة الطعام للجيش والعلف لدوابهم صار قدر الكفاية منها مستثنى ببيان النبي صلى الله عليه وسلم ومازاد على ذلك مردود إلى المغنم لا يجوز بيعه لآخذه والاستيثار بثمنه.

ومن باب الرجل ينتفع من الغنيمة بشيء

ومن باب الرجل ينتفع من الغنيمة بشيء قال أبو داود: حدثنا سعيد بن منصور وعثمان بن أبي شيبة المعنى وأنا لحديثه أتقن قالا: حَدَّثنا أبومعاوية عن محمد بن إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب، عَن أبي مرزوق مولى تجيب عن حنش الصنعاني عن رويفع بن ثابت الأنصاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من كان يؤمن بالله واليوم الاخر فلا يركب دابة من فيء المسلمين حتى إذا أعجفها ردها فيه. ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يلبس ثوباً من فيء المسلمين حتى إذا أخلقه رده فيه. قلت أما في حال الضرورة وقيام الحرب فلا أعلم بين أهل العلم اختلافاً في جواز استعمال سلاح العدو ودوابهم، فأما إذا انقضت الحرب فإن الواجب ردها في المغنم. فأما الثياب والخُرثيّ والأدوات فلا يجوز أن يستعمل شيء منها إلاّ أن يقول قائل الثياب أنه إذا احتاج إلى شيء منها حاجة ضرورة كان له أن يستعمله مثل أن يشتد البرد فيستدفي بثوب ويتقوى به على المقام في بلاد العدو مرصداً لقتالهم، وسئل الأوزاعي عن ذلك فقال لا يلبس الثوب للبرد إلاّ أن يخاف الموت. ومن باب الرخصة في السلاح يقاتل به في المعركة قال أبو داود: حدثنا محمد بن العلاء أخبرنا إبراهيم بن يوسف قال أبو داود وهو إبراهيم بن يوسف بن أبي إسحاق السبيعي عن أبيه، عَن أبي إسحاق قال حدثني أبو عبيدة عن أبيه قال مررت فإذا أبوجهل صريع قد ضربت رجله فقلت يا عدو الله يا أبا جهل قد أخزى الله الأخِر قال ولا أهابه عند ذلك فقال أبعد

ومن باب عقوبة الغال

من رجل قتله قومه فضربته بسيف غير طائف فلم يغن شيئا حتى سقط سيفه من يده فضربته حتى برد. قوله أبعد من رجل هكذا رواه أبو داود وهو غلط إنما هو أعمد من رجل بالميم بعد العين وهي كلمة للعرب معناها كأنه يقول هل زاد على رجل قتله قومه يهون على نفسه ما حل به من الهلاك حكاها أبو عبيد، عَن أبي عبيدة معمر بن المثنى وأنشد لابن ميّادة: وأعمد من قوم كفاهم أخوهم ... صِدام الأعادي حين قلت ينوبها يقول هل زادنا على أن كفانا إخواننا. وقوله برد يريد مات واصل الكلمة من الثبوت يريد سكون الموت وعدم حركة الحياة، ومن ذلك قولهم برد لي على فلان حق أي ثبت. وقوله غير طائل أي غير ماض، وأصل الطائل النفع والعائدة يقال أتيت فلاناً فلم أر عنده طائلا. وفيه أنه قد استعمل سلاحه في قتله وانتفع به قبل القسم. ومن باب عقوبة الغال قال أبو داود: حدثنا النفيلي وسعيد بن منصور قالا: حَدَّثنا عبد العزيز بن محمد عن صالح بن محمد بن زائدة قال دخلت مع مسلمة أرض الروم فأتي برجل قد غل فسأل سالما عنه فقال سمعت أبي يحدث عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا الرجل قد غل فاحرقوا متاعه واضربوه؛ قال فوجدنا في متاعه مصحفاً فسأل سالما عنه فقال بعه وتصدق بثمنه. قلت أما تأديبه عقوبة في نفسه على سوء فعله فلا أعلم بين أهل العلم فيه خلافا وأما عقوبته في ماله فقد اختلف العلماء في ذلك، فقال الحسن البصري يحرق

ومن باب السلب يعطي القاتل

من ماله إلاّ أن يكون حيوانا أو مصحفا وقال الأوزاعي يحرق متاعه وكذلك قال أحمد وإسحاق قالوا ولا يحرق ما غل لأنه حق الغانمين يرد عليهم فإن استهلكه غرم قيمته. وقال الأوزاعي يحرق متاعه الذي غزا به وسرجه وأكافه ولا يحرق دابته ولا نفقته إن كانت معه ولا سلاحه ولا ثيابه التي عليه. وقال الشافعي لا يحرق رحله ولا يعاقب الرجل في ماله إنما يعاقب في بدنه جعل الله الحدود على الأبدان لا على الأموال، وإلى هذا ذهب مالك ولا أراه إلاّ قول أصحاب الرأي، ويشبه أن يكون الحديث عندهم معناه الزجر والوعيد لا الإيجاب والله أعلم. ومن باب السلب يعطي القاتل قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي عن مالك عن يحيى بن سعيد عن عمر بن كثير بن أفلح، عَن أبي محمد مولى أبي قتادة، عَن أبي قتادة أنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عام حنين قال فلما التقينا كانت للمسلمين جولة، قال فرأيت رجلا من المشركين قد علا رجلا من المسلمين، قال فاستدرت له حتى أتيته من ورائه فضربته بالسيف على حبل عاتقه فأقبل عليّ فضمني ضمة وجدت منها ريح الموت ثم أرسلني فلحقت عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقلت له ما بال الناس، قال أمر الله ثم إن الناس رجعوا وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال من قتل قتيلاً له عليه بينة فله سلبه، قال فقمت ثم قلت من يشهد لي ثم جلست ثم قال الثانية من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه، قال فقمت ثم قلت من يشهد لي ثم جلست، ثم قال ذلك الثالثة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لك يا أبا قتادة

فاقتصصت عليه القصة، فقال رجل من القوم صدق يا رسول الله وسلب ذلك القتيل عندي فأرضه منه، فقال أبو بكر الصديق لاها الله إذاً يعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله وعن رسوله فيعطيك سلبه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم صدق فأعطه إياه، قال أبو قتادة فأعطانيه فبعت الدرع فابتعت به مَخْرِفاً في بني سلمة وأنه لأول مال تأثلته في الإسلام. قلت حبل العاتق وصلة ما بين العنق والكاهل. وقوله لاها الله إذاً هكذا يروى والصواب لا هآ الله ذا بغير ألف قبل الذال، ومعناه في كلامهم لا والله يجعلون الهاء مكان الواو ومعناه لا والله لا يكون ذا. والمخرف بفتح الميم البستان يريد حائط نخل منه الثمر، فأما المخرف بكسر الميم فالوعاء الذي يخترف فيه الثمر. وقوله تأثلته معناه تملكته فجعلته أصل مال واثلة كل شيء أصله ويقال تأثل ملك فلان إذا كثر. وفيه من الفقه أن السلب لا يخمس وأنه يجعل للقاتل قبل أن يقسم الغنيمة وسواء كان الإمام قاله ونادى به قبل الوقعة أو لم يفعل ذلك وسواء بارز القاتل المقتول أو لم يبارزه لأن هذا القول من رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم شرع كقوله للفارس سهمان وللراجل سهم، فسواء قاله الإمام يوم الحرب أو لم يقله فإن الحكم به ماض والعمل به واجب. وقد اختلف الناس في السلب فقال قوم السلب للقاتل سواء قتل القتيل مقبلا أو مدبراً بارزه أو لم يبارزه نادى به الإمام أو لم يناد كانت الحرب قائمة أو لا وعلى أي جهة قتل فالسلب لقاتله على ظاهر الحديث وهو قول جماعة

من أصحاب الحديث وإليه ذهب أبو ثور. وقال الشافعي إنما يكون السلب للقاتل إذا قتل والحرب قائمة والمشرك مقبل غير مدبر لأنه عطية أعطاها إياه لإبلائه في الحرب. فأما من أجهز على جريح فلا معنى لتخصيصه بالعطاء من غير إبلاء كان منه وسواء عنده بارز أو لم يبارز نادى الإمام به أو لم يناد. وقال أحمد إنما يعطى السلب من بارز فقتل قِرنه دون من لم يبارز. وقال مالك لا يكون السلب له إلاّ بإذن الإمام ولا يكون ذلك من الإمام إلاّ على وجه الاجتهاد. وعن أبي حنيفة أنه قال إذا قتل الرجل وأخذ سلبه فإنه لا ينبغي للإمام أن ينفله إياه لأنه صار في الغنيمة. وعن يعقوب أنه قال إذا قال الإمام من قتل قتيلا فله سلبه ومن أسر أسيرا فله سلبه فهو جائز وهذا هو النفل. فأن إذا لم ينفله الإمام فلا نفل. واختلفوا فيما يستحقه القاتل من السلب فقال الأوزاعي له فرسه الذي قاتل عليه وسلاحه وسرجه ومنطقته وخاتمه وما كان في سرجه وسلاحه من حلية ولا يكون له الهميان فإن كان مع العلج دراهم أو دنانير ليس مما يتزين به لحربه فلا شيء له من ذلك وهومغنم للجيش. وقال الشافعي للقاتل كل ثوب عليه وكل سلاح ومنطقة وفرسه الذي هوراكبه أوممسكه، فأما التاج والاسوار من الذهب والفضة وما ليس من آلة الحرب فقد علق القول فيها، وقال إن ذهب ذاهب إلى أنها من سلبه كان مذهباً وإن ذهب إلى خلافه كان وجهاً.

ومن باب الإمام يمنع القاتل السلب إن رأى

وقال أحمد بن حنبل في المنطقة فيها الذهب والفضة هي من السلب وقال في الفرس ليس من سلبه، وسئل عن السيف فقال لا أدري وقيل للأوزاعي يسلبون حتى يتركوا عراة فقال ابعد الله عورتهم. وكره الثوري أن يتركوا عراة. ومن باب الإمام يمنع القاتل السلب إن رأى قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا الوليد بن مسلم حدثني صفوان بن عمرو عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه عن عوف بن مالك الأشجعي قال خرجت مع زيد بن حارثة في غزوة مؤتة ورافقني مَدَديّ من أهل اليمن ليس معه غير سيفه فنحر رجل من المسلمين جزورا فسأله المددي طائفة من جلده فأعطاه إياه فاتخذم كهيئة الدرق ومضينا فلقينا جموع الروم وفيهم رجل على فرس أشقر عليه سرج مذهب وسلاح مذهب فجعل الرومي يفري بالمسلمين فقعد له المدديّ خلف صخرة فمر به الرومي فعرقب فرسه فخر وعلاه فقتله وحاز فرسه وسلاحه، فلما فتح الله على المسلمين بعث إليه خالد بن الوليد فأخذ السلب قال عوف فأتيته فقلت يا خالد أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالسلب للقاتل، قال بلى ولكني استكثرته قلت لتردنه عليه أو لأعرفنكها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبى أن يرد عليه، قال عوف فاجتمعنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقصصت عليه قصة المددي وما فعل خالد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا خالد ما حملك على ما صنعت قال يا رسول الله استكثرته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا خالد رد عليه ما أخذت منه، قال عوف فقلت دونك يا خالد ألم اف لك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وما ذاك، قال فأخبرته فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا خالد لا ترد عليه هل أنتم تاركون لي امرائي لكم ِصفوة أمرهم وعليهم كدره.

قوله يفري بالمسلمين معناه شدة النكاية فيهم، يقال فلان يفري الفري إذا كان يبالغ في الأمر، وأصل الفري القطع. وقوله لأعرفنكها يريد لأجازينك بها حتى تعرف صنيعك، قال الفراء العرب تقول للرجل إذا أساء إليه رجل لأعرفن لك عن هذا أي لأجازينك عليه، تقول هذا لمن تتوعده قد علمت ما علمت وعرفت ما صنعت، ومعناه سأجازيك عليه لا أنك تقصد إلى أن تعرفه أنك قد علمت فقط، ومنه قول الله عز وجل {عرف بعضه واعرض عن بعض} [التحريم: 3] قراءة الكسائي بالتخفيف. وقد روي ذلك أيضاً عن عاصم في إحدى الروايتين، قال ومعنى عرف جازى قال ومثله قوله {وما تفعلوا من خير يعلمه الله} [البقرة: 197] وتأويله يعلمه الله فيجازي عليه. وفي الحديث من الفقه أن الفرس من السلب؛ وأن السلب ما كان قليلا أو كثيرا فإنه للقاتل لا يخمس، ألا ترى أنه أمر خالدا برده عليه مع استكثاره إياه، وإنما كان رده إلى خالد بعد الأمر الأول بإعطائه القاتل نوعا من التكبر على معروف وردعاً له وزجرا لئلا يتجرأ الناس على الأئمة ولئلا يتسرعوا إلى الوقيعة فيهم، وكان خالد مجتهداً في صنيعه ذلك إذ كان قد استكثر السلب فأمضى له رسول الله صلى الله عليه وسلم اجتهاده لما رأى في ذلك من المصلحة العامة بعد أن كان خطأه في رأيه الأول والأمر الخاص مغمور بالعام واليسير من الضرر محتمل للكثير من النفع والصلاح، ويشبه أن يكون النبي قد عوض المددي من الخمس الذي هوله وترضى خالدا بالنصح عنه وتسليم الحكم له في السلب. وفيه دليل على أن نسخ الشيء قبل الفعل جائز، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بإمساكه قبل أن يرده فكان في ذاك نسخ لحكمه الأول.

ومن باب من جاء بعد الغنيمة لا سهم له

والصفوة مكسورة الصاد خلاصة الشيء وما صفا منه. إذا أثبت الهاء قلت صفوة بكسر الصاد وإذا حذفتها قلت صفو بفتحها. ومن باب من جاء بعد الغنيمة لا سهم له قال أبو داود: حدثنا سعيد بن منصور حدثنا إسماعيل بن عياش عن محمد بن الوليد الزبيدي عن الزهري أن عنبسة بن سعيد أخبره أنه سمع أبا هريرة يحدث سعيد بن العاص أن رسول الله بعث أبان بن سعيد بن العاص على سرية من المدينة قِبل نجد فقدم أبان وأصحابه على رسول الله صلى الله عليه وسلم إن بخيبر بعد أن فتحها وإن حزم خيلهم ليف؛ فقال أبان أقسم لنا يا رسول الله قال أبوهريرة فقلت لا تقسم لهم يا رسول الله فقال أبان أنت بها يا وَبْر تحدر علينا من رأس ضال فقال النبي صلى الله عليه وسلم أجلس يا أبان ولم يقسم لهم. قوله أنت بها فيه اختصار واضمار ومعناه أنت المتكلم بهذه الكلمة. وكان ابن عمر يرمي فإذا أصاب الخصل قال أنا بها أي أنا الفائز بالإصابة، والوبر دويبة في قد السنور أو نحوه، وضال يقال أنه جبل أو موضع يريد بهذا الكلام تصغير شأنه وتوهين أمره. وفيه من الفقه أن الغنيمة لمن شهد الوقعة دون من لحقهم بعد إحرازها. وقال أبو حنيفة من لحق الجيش بعد أخذ الغنيمة قبل قسمها في دار الحرب فهو شريك الغانمين. وقال الشافعي الغنيمة لمن حضر الوقعة أو كان ردأً لهم فأما من لم يحضرها فلا شيء له منها وهوقول مالك وأحمد. وكان الشافعي يقول إن مات قبل القتال فلا شيء له ولا لورثته، وإن مات بعد القتال وقبل القسم

كان سهمه لورثته. وكان الأوزاعي يقول إذا أدرب قاصداً في سبيل الله أسهم له شهد القتال أو لم يشهد. وقوله أدرب يريد دخل الدرب. قال أبو داود: حدثنا محمد بن العلاء حدثنا أبو أسامة حدثنا يزيد، عَن أبي بردة، عَن أبي موسى قال قدمنا فوافقنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين افتتح خيبر فأسهم لنا أو قال فأعطانا منها وما قسم لأحد غاب عن فتح خيبر منها شيئا إلاّ لمن شهد معه إلاّ أصحاب سفينتنا جعفر وأصحابه أسهم له معهم. قلت يشبه أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم إنما أعطاهم من الخمس الذي هو حقه دون حقوق من شهد الوقعة وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى أبا موسى وأصحابه بإذن أهل الحديبية ولم يتخلف عن خيبر أحد من أهل الحديبية. قال أبو داود: حدثنا محبوب بن موسى الأنطاكي أبو صالح حدثنا أبو إسحاق الفزاري عن كليب بن وائل عن هانىء بن قيس عن حبيب بن أبي مليكة عن ابن عمر قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام، يَعني يوم بدر فقال إن عثمان انطلق في حاجة الله وحاجة رسوله وإني أبايع له فضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهم ولم يضرب لأحد غاب غيره. قلت هذا خاص لعثمان رضي الله عنه لأنه كان ممرض ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهومعنى قوله حاجة الله وحاجة رسوله يريد بذلك حاجة عثمان في حق الله وحق رسوله وهذا كقوله سبحانه {إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون} [الشعراء: 27] وإنما هو رسول الله إليهم، ومن احتج بهذا في وجوب القسم لمن لحق الجيش قبل القسم فهو غير مصيب وذلك أن عثمان رضي الله عنه كان بالمدينة وهذا القائل لا يقسم لمن كان في المصر فلا موضع لاستدلاله فيه.

ومن باب المرأة والعبد يحذيان من الغنيمة

ومن باب المرأة والعبد يحذيان من الغنيمة قال أبو داود: حدثنا سعيد بن منصور حدثنا أبو معاوية عن الأعمش، عَن أبي سفيان عن جابر قال كنت أميح أصحابي الماء يوم بدر. المائح هو الذي ينزل إلى أسفل البئر فيملأ الدلو ويرفعها إلى الماتح وهو الذي ينزع الدلو. قال أبو داود: حدثنا إبراهيم بن سعيد حدثنا زيد بن الحباب حدثنا رافع بن سلمة بن زياد حدثني حشرج بن زياد عن جدته أم أبيه أنها خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة خيبر سادس ست نسوة فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث إلينا فجئنا فرأينا فيه الغضب فقال مع من خرجتن وبإذن من خرجتن فقلنا يا رسول الله خرجنا نغزل الشعر ونعين في سبيل الله ومعنا دواء للجرحى ونناول السهام ونسقي السويق فقال قمن به. حتى إذا فتح الله عليه خيبر أسهم لنا كما أسهم للرجال، قال فقلت لها يا جدة وما كان ذلك قالت تمراً. قلت قد ذهب أكثر الفقهاء إلى أن النساء والعبيد والصبيان لا يسهم لهم. وإنما يرضخ لهم، إلاّ أن الأوزاعي قال يسهم لهن وأحسبه ذهب إلى هذا الحديث واسناده ضعيف لا تقوم الحجة بمثله، وقد قيل أيضاً إن المرأة إذا كانت تقاتل أسهم لها، وكذلك المراهق إذا قوي على القتال أسهم له. وذهب بعض الفقهاء إلى أنه لا يرضخ للنساء من الغنيمة، وإنما يرضخ لهن من خمس الخمس سهم النبي صلى الله عليه وسلم وقد روي في هذا الحديث أنها قالت أسهم لنا تمرا والتمر طعام وليس الطعام كسائر الأموال. وقال مالك بن أنس لا يسهم للنساء ولا يرضخ لهن شيئا.

ومن باب سهمان الخيل

ومن باب سهمان الخيل قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا أبو معاوية حدثنا عبيد الله عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسهم لرجل ولفرسه ثلاثة أسهم سهما له وسهمين لفرسه. قلت قوله سهما له اللام في هذه الإضافة لام التمليك. وقوله وسهمين لفرسه عطف على الكلام الأول، إلاّ أن اللام فيه لام التسبيب. وتحرير الكلام أنه أعطى الفارس ثلاثة أسهم سهما له وسهمين لأجل فرسه أي لغنائه في الحرب ولما يلزمه من مؤونته إذ كان معلوماً أن مؤنة الفرس متضاعفة على مؤنة صاحبه فضوعف له العرض من أجله، وهذا قول عامة العلماء إلاّ أن أبا حنيفة قال للفارس سهمان، وحكي أنه قال لا أفضل بهيمة على مسلم وخالفه صاحباه فكانا مع جماعة العلماء. قلت وقد روى هذا الحديث من طريق عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر فقال فيه للفارس سهمان وللراجل سهم وعبيد الله احفظ من عبد الله وأثبت باتقان أهل الحديث كلهم. قال أبو داود: حدثنا محمد بن عيسى حدثنا مجمع بن يعقوب بن مجمع بن يزيد الأنصاري. قال سمعت أبي يعقوب بن مجمع يذكر عن عمه عبد الرحمن بن يزيد الأنصاري عن عمه مجمع بن جارية الأنصاري قال وكان أحد القراء الذين قرؤوا القرآن، قال شهدنا الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما انصرفنا عنها إذا الناس يهزون الأباعر، فقال بعض الناس لبعض ما بال الناس قالوا أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرجنا نوجف فوجدنا النبي صلى الله عليه وسلم واقفا على راحلته عند كراع الغميم، فلما اجتمع عليه الناس قرأ عليهم {انا فتحنا لك فتحاً مبيناً} [الفتح: 1]

ومن باب النفل

فقال رجل يا رسول الله أفتح هو، قال نعم والذي نفس محمد بيده أنه لفتح فقسمت خيبر على أهل الحديبية فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثمانية عشر سهما وكان الجيش ألفاً وخمسمائة، فيهم ثلاثمائة فارس فأعطى الفارس سهمين وأعطى الراجل سهما. قال أبو داود وحديث أبي معاوية أصح والعمل عليه. قال والوهم في حديث مجمع أنه قال كان الجيش ألفا وخمسمائة فيهم ثلاثمائة فارس وإنما كانوا مائتي فارس. قوله يهزون أي يحركون رواحلهم، والهز كالضغط للشيء وشدة الاعتماد عليه والايجاف الركض والإسراع يقال وجف البعير وجيفاً فأوجفه راكبه إيجافاً. ومن باب النفل قال أبو داود: حدثنا وهب بن بقية حدثنا خالد عن داود عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر من فعل كذا وكذا فله من النفل كذا وكذا، قال فتقدم الفتيان ولزم المشيخة الرايات فلم يبرحوها، فلما فتح الله عليهم قالت المشيخة كنا ردءاً لكم لو انهزمتم فئتم إلينا فلا تذهبوا بالمغنم ونبقى فأبى الفتيان وقالوا جعله الله صلى الله عليه وسلم لنا فأنزل الله سبحانه {يسألونك عن الأنفال} إلى قوله {كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون} [الأنفال: 1-5] يقول فكان ذلك خيرا لهم فكذلك أيضاً فأطيعوني فإني أعلم بعاقبة هذا منكم. قلت النفل ما زاد من العطاء على القدر المستحق منه بالقسمة ومنه النافلة وهي الزيادة من الطاعة بعد الفرض وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفل الجيوش والسرايا تحريضا على القتال وتعويضا لهم عما يصيبهم من المشقة والكآبة ويجعلهم أسوة

ومن باب نفل السرية تخرج من العسكر

الجماعة في سهمان الغنيمة فيكون ما يخصهم به من النفل كالصلة والعطية المستأنفة ولا يفعل ذلك إلاّ بأهل الغناء في الحروب وأصحاب البلاء في الجهاد. وقد اختلف مذاهب العلماء في هذا الباب وفي تأويل ما روي فيه من الأخبار فكان مالك بن أنس لا يرى النفل ويكره أن يقول الإمام من قاتل في موضع كذا، أو قتل من العدو عدداً فله كذا، أو يبعث سرية في وجه من الوجوه فيقول ما غنمتم من شيء فلكم نصفه، ويكره أن يقاتل الرجل ويسفك دم نفسه في مثل هذا، وأثبت الشافعي النفل، وقال به الأوزاعي وأحمد بن حنبل. وقال الثوري إذا قال الإمام من جاء برأسٍ فله كذا، ومن أخذ شيثا فهو له ومن جاء بأسير فله كذا جاز. ومن باب نفل السرية تخرج من العسكر قال أبو داود: حدثنا عبد الوهاب بن نجدة حدثنا الوليد عن شعيب بن أبي حمزة عن نافع عن ابن عمر، قال بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في جيش قِبَل نجد وانبعث سرية من الجيش فكان سهمان الجيش اثني عشر بعيراً، إثني عشر بعيراً ونفّل أهل السرية بعيرا بعيرا، فكانت سهمانهم ثلاثة عشر ثلاثة عشر. قلت في هذا من الفقه أن السرية إذا انفصلت من الجيش فجاءت بغنيمة فإنها تكون مشتركة بينهم وبين الجيش لأنهم ردءٌ لهم. واختلفوا في هذه الزيادة التي هي النفل من أين أعطاهم إياها فكان ابن المسيب يقول إنما ينفل الإمام من الخمس، يَعني سهم النبي صلى الله عليه وسلم وهوخمس الخمس من الغنيمة وإلى هذا ذهب الشافعي وأبو عبيد وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يضعه حيث أراه الله عز وجل في مصالح أمر الدين ومعاون المسلمين.

ومن باب من قال الخمس قبل النفل

قال الشافعي فإذا كثر العدو واشتدت شوكتهم وقل من بإزائهم من المسلمين نفل منه الإمام اتباعاً للسنة وإذا لم يكن ذلك لم ينفل. وقال أبو عبيد الخمس مفوض إلى الإمام ينفل منه إن شاء، ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم ما لي مما أفاء الله عليكم إلاّ الخمس والخمس مردود عليكم. وقال غيرهم إنما كان النبي صلى الله عليه وسلم ينفلهم من الغنيمة التي يغنمونها كما نفل القاتل السلب من جملة الغنيمة. قلت وعلى هذا دل أكثر ما روي من الأخبار في هذا الباب. قال أبو داود: حدثنا هناد بن السري حدثنا عبدة عن محمد بن إسحاق عن نافع عن ابن عمر قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى نجد فخرجت معها فأصبنا نعماً كثيراً فنفلنا أميرنا بعيرا بعيرا لكل إنسان؛ ثم قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقسم بيننا غنيمتنا فأصاب كل رجل منا اثني عشر بعيراً بعد الخمس، وما حاسبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي أعطانا صاحبنا ولا عاب عليه ما صنع فكان لكل رجل منا ثلاثة عشر بعيراً بنفله. قلت في هذا بيان واضح أن النفل إنما أعطاهم من جملة الغنيمة لا من الخمس الذي هو سهمه ونصيبه، وظاهر حديث ابن عمر أنه أعطاهم هذا النفل قبل الخمس كما نفلهم السلب قبل الخمس، وإلى هذا ذهب أبو ثور. ومن باب من قال الخمس قبل النفل قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيلن عن يزيد بن يزيد بن جابر الشامي عن مكحول عن زياد بن جارية التميمي عن حبيب بن مسلمة الفهري أنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفل الثلث بعد الخمس.

قلت وفي هذا الحديث أنه أعطاهم ذلك بعد أن خمس الغنيمة فيشبه والله أعلم أن يكون الأمران معاً جائزين، وفيه أنه قد بلغ بالنفل الثلث. وقد اختلف العلماء في ذلك فقال مكحول والأوزاعي لا يجاوز بالنفل الثلث. وقال الشافعي ليس في النفل حد لا يجاوز وإنما هو إلى اجتهاد الإمام. قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن أحمد بن بشير بن ذكوان ومحمود بن خالد الدمشقيان المعنى قالا: حَدَّثنا مروان بن محمد حدثنا يحيى بن حمزة قال سمعت أبا وهب يقول سمعت مكحولا يقول كنت عبداً بمصر لامرأة من بني هذيل فأعتقتني فما خرجت من مصر وبها علم إلاّ حويت عليه فيما أرى، ثم أتيت الحجاز فما خرجت منها وبها علم إلاّ حويت عليه فيما أرى، ثم أتيت العراق فما خرجت منها وبها علم إلاّ حويت عليه فيما أرى، ثم أتيت الشام فغربلتها كل ذلك أسأل عن النفل فلم أجد أحداً يخبرني فيه بشيء حتى لقيت شيخاً يقال له زياد بن جارية التميمي فقلت له هل سمعت في النفل شيئا، قال نعم سمعت حبيب بن مسلمة الفهري يقول شهدت النبي صلى الله عليه وسلم نفل الربع في البدأة والثلث في الرجعة. قلت: أخبرني الحسن بن يحيى عن ابن المنذر، وروي هذا الحديث ثم قال قد قيل أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما فرق بين البدأة والقفول حتى فضل إحدى العطيتين على الأخرى لقوة الظهر عند دخولهم وضعفه عند خروجهم لأنهم وهم داخلون انشط وأشهى للسير والإمعان في بلاد العدو وأجم، وهم عند القفول تضعف دوابهم وهم أشهى للرجوع إلى أوطانهم وأهاليهم لطول عهدهم بهم وحبهم للرجوع إليهم فنرى أنه زادهم في القفول لهذه العلل. قلت كلام ابن المنذر في هذا ليس بالبين لأن فحواه يوهم أن معنى الرجعة

ومن باب السرية ترد على أهل العسكر

هو القفول إلى أوطانهم، وليس هو معنى الحديث، والبدأة إنما هي ابتداء سفر الغزو إذا نهضت سرية من جملة العسكر فأوقعت بطائفة العدو. فما غنموا كان لهم منه الربع ويشركهم سائر العسكر في ثلاثة أرباعه. فإن قفلوا من الغزاة ثم رجعوا فأوقعوا بالعدو ثانية كان لهم مما غنموا الثلث لأن نهوضهم بعد القفل أشق والخطر فيه أعظم. ومن باب السرية ترد على أهل العسكر قال أبو داود: حدثنا عبيد الله بن عمر حدثني هشيم عن يحيى بن سعيد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمون تتكافأ دماؤهم، يسعى بذمتهم أدناهم، ويجير عليهم أقصاهم، وهم يد على من سواهم؛ يرد مُشدهم على مُضعفهم، ومتسريهم على قاعدهم، لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده. قلت قوله تتكافأ دماؤهم معناه أن أحرار المسلمين دماؤهم متكافئة في وجوب القصلص والقود لبعضهم من بعض لا يفضل منهم شريف على وضيع. فإذا كان المقتول وضيعا وجب القصاص على قاتله. إن كان شريفا لم يسقط القود عنه شرفه، وإن كان القتيل شريفا لم يقتص له إلاّ من قاتله حسب. وكان أهل الجاهلية لا يرضون في دم الرجل الشريف بالاستقادة من قاتله ولا يرونه بَوآءً به حتى يقتصوا من عدة من قبيلة القاتل فأبطل الإسلام حكم الجاهلية وجعل المسلمين على التكافؤ في دمائهم وإن كان بينهم تفاضل وتفاوت في معنى آخر.

وقوله يسعى بذمتهم أدناهم، يريد أن العبد ومن كان في معناه من الطبقة الدنيا كالنساء والضعفاء الذين لا جهاد عليهم إذا أجاروا كافراً أمضي جوارهم ولم تخفر ذمتهم. وقوله ويجير عليهم أقصاهم معناه أن بعض المسلمين وإن كان قاصي الدار إذا عقد للكافر عقداً لم يك لأحد منهم أن ينقضه وإن كان أقرب دارا من المعقود له. قلت وهذا إذا كان العقد والذمة منه لبعض الكفار دون عامتهم فإنه لا يجوز له عقد الأمان لجماعتهم، وإنما الأمر في بذل الأمان وعقد الذمة للكافة منهم إلى الإمام على سبيل الاجتهاد وتحري المصلحة فيه دون غيره. ولوجعل لأفناء الناس ولآحادهم أن يعقدوا لعامة الكفار كلما شاؤوا صار ذلك ذريعة إلى إبطال الجهاد وذلك غير جائز. وقوله وهم يد على من سواهم فإن معنى اليد المعاونة والمظاهرة إذا استنفروا وجب عليهم النفير وإذا استنجدوا انجدوا ولم يتخلفوا ولم يتخاذلوا والمُشِد المقوي والمضعف من كانت دوابه ضعافاً، وجاء في بعض الحديث المضعف أمير الرفقة. يريد أن الناس يسيرون بسير الضعيف لا يتقدمونه فيتخلف عنهم ويبقى بمضيعة والمتسري هو الذي يخرج في السرية، ومعناه أن يخرج الجيش فينيخوا بقرب دار العدو ثم ينفصل منهم سرية فيغنموا فإنهم يردون ما غنموه على الذين هم ردء لهم لا ينفردون به، فأما إذا كان خروج السرية من البلد فأنهم لا يردون على المقيمين في أوطانهم شيئا. وقوله لا يقتل مؤمن بكافر فإنه قد دخل فيه كل كافر له عهد وذمة أو لا عهد له ولا ذمة.

وقوله ولا ذو عهد في عهده فإن العهد للكفار على ضربين، أحدهما عهد متأبد كمن حقن دمه للجزية، والآخر من كان له عهد إلى مدة فإذا انقضت تلك المدة عاد مباح الدم كما كان. وقد تأوله من ذهب من الفقهاء إلى أن المسلم يقتل بالذمي على أن قوله ولا ذو عهد في عهده معطوف على قوله لا يقتل مؤمن بكافر ويقع في الكلام على مذهبه تقديم وتأخير فيصير كأنه قال لا يقتل مؤمن ولا ذو عهد في عهده بكافر، وإلى هذا ذهب أصحاب الرأي. وقال الشافعي لا يقتل مسلم بوجه من الوجوه بأحد من الكفار على ظاهر الحديث وعمومه قال وقوله لا يقتل مسلم بكافر كلام تام بنفسه، ثم قال على أثره ولا ذو عهد في عهده أي لا يقتل معاهد ما دام في عهده، قال وإنما احتيج إلى أن يجري ذكر المعاهد ويؤكد تحريم دمه هاهنا لأن قوله لا يقتل مؤمن بكافر قد يوهم ضعفاً وتوهينا لشأنه ويوقع شبهة في دمه فلا يؤمن أن يستباح إذا علم أن لا قود على قاتله فوكد تحريمه بإعادة البيان لئلا يعرض الاشكال في ذلك. قال أبو داود: حدثنا هارون بن عبد الله حدثنا هاشم بن القاسم حدثنا عكرمة حدثني إياس بن سلمة عن أبيه قال أغار عبد الرحمن بن عيينة على إيل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتل راعيها وخرج يطردها هو وأناس معه في خيل فجعلت وجهي قبل المدينة ثم ناديت ثلاث مرات يا صباحاه ثم اتبعت القوم فجعلت ارمي واعقرهم وساق الحديث والقصة إلى أن قال ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على الماء الذي حلأتهم عنه ذو قرد قال ونبي الله صلى الله عليه وسلم في خمسمائة فأعطاني سهم الفارس والراجل.

ومن باب يستجن بالإمام في العهد

قوله حلأتهم عنه معناه طردتهم عنه وأصله الهمز، يقال حلأت الرجل عن الماء إذا منعته الورود؛ ورجل محلأ أي مذود عن الماء مصدود عن وروده، ومنه قول الشاعر: لحائِم حام حتى لا حراك به محلأ!!! ... عن سبيل الماء مطرود وقوله أعطاني سهم الفارس والراجل فإنه يشبه أن يكون إنما أعطاه من الغنيمة سهم الراجل حسب. لأن سلمة كان راجلاً في ذلك اليوم وأعطاه الزيادة نفلاً لما كان من حسن بلاءه. ومن باب يستجن بالإمام في العهد قال أبو داود: حدثنا محمد بن الصباح البزاز حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن الأعرج، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما الإمام جنة يقاتل به. قلت معناه أن الإمام هو الذي يعقد العهد والهدنة بين المسلمين وبين أهل الشرك فإذا رأى ذلك صلاحاً وهادنهم فقد وجب على المسلمين أن يجيزوا أمانه وأن لا يعرضوا لمن عقد لهم في نفس أومال، ومعنى الجنة العصمة والوقاية وليس لغير الإمام أن يجعل الأمة بأسرها من الكفار أماناً، وإنما معنى قوله صلى الله عليه وسلم يسعى بذمتهم أدناهم أن يكون ذلك في الأفراد والآحاد أو في أهل حصن أو قلعة ونحوها. فأما أن يجوز ذلك في جيل وأمة منهم فلا يجوز. وقد ذكرنا هذا فيما مضى. قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عبد الله بن وهب أخبرني عمرو عن بكير بن الأشج عن الحسن بن علي بن أبي رافع أن أبا رافع أخبره أنه قال بعثتني قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأيته ألقي في قلبي الإسلام فقلت يا رسول الله والله إني لا أرجع إليهم أبداً فقال إني لا أخيس بالعهد ولا أحبس البرد

ومن باب ما يسير في العهد

ولكن ارجع فإن كان في نفسك الذي في نفسك الآن فارجع قال فذهبت ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأسلمت. قلت قوله لا أخيس بالعهد معناه لا أنقض العهد ولا أفسده من قولك خاس الشيء في الوعاء إذا فسد. وفيه من الفقه أن العقد يرعى مع الكافر كما يرعى مع المسلم وأن الكافر إذا عقد لك عقد أمان فقد وجب عليك أن تؤمنه وأن لا تغتاله في دم ولا مال ولا منفعة. وقوله لا أحبس البرد فقد يشبه أن يكون المعنى في ذلك أن الرسالة تقتضي جوابا والجواب لا يصل إلى المرسل إلاّ على لسان الرسول بعد انصرافه فصار كأنه عقد له العهد مدة مجيئه ورجوعه والله أعلم. ومن باب ما يسير في العهد نحو عدو ليقرب منهم فيغير بعد المدة عليهم قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر النمري حدثنا شعبة، عَن أبي الفيض عن سُليم بن عامر عن رجل من حمير، قال كان بين معاوية وبين الروم عهد وكان يسير نحو بلادهم حتى إذا انقضى العهد غزاهم فجاء رجل على فرس أو برذون وهو يقول الله أكبر الله أكبر وفاء لا غدر فنظروا فإذا هو عمرو بن عنبسة فأرسل إليه معاوية فسأله فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من كان بينه وبين قوم عهد فلا يشد عقدة ولا يحلها حتى ينقضي أمدها أو ينبذ إليهم على سواء فرجع معاوية. الأمد الغاية، قال النابغة: سبْق الجواد إذا استولى على الأمد

ومن باب الرسل

ومعنى قوله ينبذ إليهم على سواء أي يعلمهم أنه يريد أن يغذوهم وأن الصلح الذي كان بينهم قد ارتفع فيكون الفريقان في ذلك على السواء. وفيه دليل على أن العهد الذي يقع بين المسلمين وبين العدو ليس بعقد لازم لا يجوز القتال قبل انقضاء مدته، ولكن لا يجوز أن يفعل ذلك إلاّ بعد الإعلام به والإنذار فيه، ويشبه أن يكون عمرو إنما كره مسير معاوية إلى ما يتاخم بلاد العدو والإقامة بقرب دارهم من أجل أنه إذا هادنهم إلى مدة وهو مقيم في وطنه فقد صارت مدة مسيره بعد انقضاء المدة كالمشروط مع المدة المضروبة في أن لا يغزوهم فيها فيأمنونه على أنفسهم. فإذا كان مسيره إليهم في أيام الهدنة حتى ينيخ بقرب دارهم كان إيقاعه بهم قبل الوقت الذي يتوقعونه فكان ذلك داخلا عند عمرو في معنى الغدر. ومن باب الرسل قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان، عَن أبي إسحاق عن حارثة بن مضرّب أنه أتى عبد الله بن مسعود فقال ما بيني وبين أحد من العرب حِنة وإني مررت بمسجد لبني حنيفة فإذا هم يؤمنون بمسيلمة فأرسل إليهم عبد الله فجيء بهم فاستتابهم غير ابن النواحة فقال له سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لولا أنك رسول لضربت عنقك فأنت اليوم لست برسول فأمر قرظة بن كعب فضرب عنقه بالسوق، ثم قال من أراد أن ينظر إلى ابن النواحة قتيلاً بالسوق. قوله حنة يريد الوتر والضغن واللغة الفصيحة احنة بالهمز قال الشاعر: إذا كان في نفس ابن عمك احنة…… فلا تستثرها سوف يبدو دفينها ويقال فلان مواحن لفلان إذا كان مضمراً له على عداوة، ويشبه أن يكون

ومن باب أمان المرأة

مذهب ابن مسعود في قتله من غير استتابة أنه رأى قول النبي صلى الله عليه وسلم لولا أنك رسول لضربت عنقك حكما منه بقتله لولا علة الرسالة، فلما ظفر به وقد ارتفعت العلة أمضاه فيه ولم يستأنف له حكم سائر المرتدين. وفيه حجة لمذهب مالك في قتل المستسر بالكفر وترك استابته ومعلوم أن هؤلاء لا يمكنهم إظهار الكفر بالكوفة في مسجدهم وهي دار الإسلام، وإنما كانوا يستبطنون الكفر ويسرون الإيمان بمسيلمة فاطلع على ذلك منهم حارثة فرفعهم إلى عبد الله وهو وال عليها فاستتاب قوما منهم وحقن بالتوبة دماءهم ولعلهم قد كانت داخلتهم شبهة في أمر مسيلمة ثم تبينوا الحق فراجعوا الدين فكانت توبتهم مقبولة عند عبد الله، ورأى أن أمر ابن النواحة بخلاف ذلك لأنه كان داعية إلى مذهب مسيلمة فلم يعرض عليه التوبة ورأى الصلاح في قتله. وإلى نحو من هذا ذهب بعض العلماء في أمر هولاء القرامطة الذين يلقبون بالباطنية. وأما قوله لولا أنك رسول لضربت عنقك فالمعنى في الكف عن دمه أن الله سبحانه قال {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه} فحقن له دمه حتى يبلغ مأمنه ويعود بجواب ما أرسل به فتقوم به الحجة على مرسله. ومن باب أمان المرأة قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا وهب أخبرني عياض بن عبد الله عن مخرمة بن سليمان عن كريب عن ابن عباس قال حدثتني أم هانئ بنت أبي

ومن باب صلح العدو

طالب أنها أجارت رجلاً من المشركين يوم الفتح فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال قد أجرنا من أجرت وأمّنا من امّنت. قلت في هذا حجة لمن ذهب إلى أن مكة فتحت عنوة لأنه لو كان صلحا لوقع به الأمان العام فلم يحتج إلى إجارة أمان أم هانىء ولا إلى تجديد الأمان من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأجمع عوام أهل العلم أن أمان المرأة جائز وكذلك قال أكثر الفقهاء في أمان العبد؛ غير أن أصحاب الرأي فرقوا بين العبد الذي يقاتل والذي لا يقاتل فأجازوا أمانه إن كان ممن يقاتل ولم يجيزوا أمانه إن كان لم يقاتل، فأما أمان الصبي فأنه لا ينعقد لأن القلم مرفوع عنه. ومن باب صلح العدو قال أبو داود: حدثنا محمد بن عبيد أن محمد بن ثور حدثه عن معمر عن الزهري عن عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة وذكر قصة الحديبية ومصالحة النبي صلى الله عليه وسلم قريشاً. قلت اختصر أبو داود هذا الحد اختصاراً ذهب فيه شطر من فوائد هذا الحديث فرأيت أن أذكر الحديث والقصة على وجهها وأبين ما فيها من السنن والمعاني ليستفاد علمه ويحصر نفعه والله الموفق له. أخبرنا محمد بن هاشم حدثنا الدَبري عن عبد الرزاق عن معمر أخبرني الزهري عن عروة عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم يصدق كل واحد منهما صاحبه قالا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية في بضع عشرة مائة من أصحابه

حتى إذا كانوا بذي الحليفة قلد رسول الله صلى الله عليه وسلم الهدي وأشعره وأحرم بالعمرة وبعث بين يديه عينا له من خزاعة يخبره عن قريش وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بغدير الأشطاط قريباً من عُسفان أتاه عينه الخزاعي فقال إن كعب بن لؤي وعامر بن لؤي قد جمعوا لك الأحابيش وجمعوا لك جموعاً كثيرة وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم أشيروا عليّ أترون أن نميل إلى ذراري هؤلاء الذين أعانوهم فنصيبهم فإن قعدوا قعدوا موتورين محروبين وإن نجوا يكن عنقاً قطعها الله أم ترون أن نؤم البيت فمن صدنا عنه قاتلناه، فقال أبو بكر رضي الله عنه يا نبي الله إنما جئنا معتمرين ولم نجيء لقتال أحد ولكن من حال بيننا وبين البيت قاتلناه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فروحوا إذاً. قال معمر قال الزهري وكان أبو هريرة يقول ما رأيت أحدا قط كان أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الزهري في حديث المسور ومروان بن الحكم فراحوا وساق الحديث قال وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كانوا بالثنية التي يهبط عليهم منها بركت به راحلته، فقال الناس حَل حل فقال خلأت القصواء وما كان لها بخلق ولكن حبسها حابس الفيل ثم قال والذي نفسي بيده لا يسألوني خُطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها ثم زجرها فوثبت به قال فعدل عنهم حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمدَ قليل الماء إنما يتبرضه الناس تبرضاً فلم يلبث الناس أن نزحوه فشُكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش فانتزع سهما من كنانته ثم أمرهم

أن يجعلوه فيه فوالله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه فبيناهم كذلك إذ جاء بُديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه من خزاعة وكانوا عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل تهامة فقال إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي اعداد مياه الحديبية معهم العُوذ المطافيل وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنا لم نجىء لقتال أحد ولكن جئنا معتمرين وإن قريشا قد نهكتهم الحرب واضرت بهم فإن شاؤوا هادنتُهم مدة طويلة ويخلوا بيني وبين الناس فإن أظهر فإن شاؤوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا وإلا قد جموا وإن أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي أو لينفذن الله أمره، فقال بُديل بن ورقاء سأبلغهم ما تقول فانطلق حتى أتى قريشا وساق الحديث إلى أن ذكر مجيء عروة بن مسعود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن قال له قد والله أرى وجوهاً وأوشاباً من الناس خليقاً أن يفروا ويدعوك، فقال أبو بكر رضي الله عنه امصص ببظر اللات انحن نفر منه وندعه، فقال من ذا فقالوا أبوبكر، فقال أما والذي نفسي بيده لولا يد لك عندي لم أجزك بها لأجبتك، قال وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم فكلما كلمه أخذ بلحيته والمغيرة بن شعبة قائم على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه السيف وعليه المغفر فكلما اهوى عروة بيده إلى لحية النبي صلى الله عليه وسلم ضرب يده بنعل السيف وقال أخر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم فرفع عروة رأسه فقال من هذا قالوا المغيرة بن شعبة فقال أي غُدَراء ولست أسعى في غدرتك، وكان المغيرة قد صحب قوما في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم ثم جاء فأسلم

فقال النبي صلى الله عليه وسلم أما الإسلام فأقبل وأما المال فلست منه في شيء، ثم إن عروة جعل يرمق صحابة النبي صلى الله عليه وسلم بعينيه قال فوالله ما تنخم رسول الله صلى الله عليه وسلم نُخامة إلاّ وقعت في يد رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا إلى أمره؛ وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده وما يحدون النظر إليم تعظيماً له، قال فرجع عروة إلى أصحابه فقال أي قوم وذكر القصة إلى أن قال اهم أنه، يَعني النبي صلى الله عليه وسلم قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها منه وساق الحديث إلى أن قال فبينا مِكرز بن حفص يكلمه إذ جاء سهيل بن عمرو، وقال معمر قال أيوب عن عكرمة أنه لما جاء سهيل قال النبي صلى الله عليه وسلم قد سهل لكم من أمركم، قال معمر قال الزهري في حديثه فجاء سهيل بن عمرو فقال هات اكتب بيننا وبينكم كتابا فدعا الكاتب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اكتب بسم الله الرحمن الرحيم فقال سهيل أما الرحمن فوالله ما أدري ما هو ولكن اكتب باسمك اللهم كما كنت تكتب، فقال المسلمون والله لا نكتبها إلاّ بسم الله الرحمن الرحيم فقال النبي صلى الله عليه وسلم اكتب باسمك اللهم ثم قال هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله فقال سهيل والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولكن اكتب محمد بن عبد الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به فقال سهيل والله لا تتحدث العرب إنا أخذنا ضغطة ولكن لك من العام المقبل فكتب قال سهيل وعلى أن لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك الا رددته إلينا فقال المسلمون سبحان الله كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلماً فبينا هو إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في قيوده قد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين فقال سهيل

هذا أول ما نقايضك عليه أن ترده إليّ فقال النبي صلى الله عليه وسلم انا لم نقض الكتاب بعد قال فوالله إذاً لا أصالحك على شيء أبداً قال النبي صلى الله عليه وسلم فأجره لي قال ما أنا بمجير لك قال بلى قال فافعل قال ما أنا بفاعل فقال مكرز بلى قد أجرناه لك فقال أبو جندل أي معاشر المسلمين أُردُ إلى المشركين وقد جئت مسلما ألا ترون ما لقيت وكان قد عذب عذاباً شديداً في الله فقال عمر بن الخطاب والله ما شككت منذ أسلمت إلاّ يومئذ فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت له ألست نبي الله حقاً قال بلى قلت ألسنا على الحق وعدونا على الباطل قال بلى قلت فلم نعطي الدِنْيةَ في ديننا إذاً قال إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري قلت أو لست كنت تحدثنا إنا سنأتي البيت فنطوف به قال بلى افأخبرتك إنك تأتيه العام قلت لا قال فإنك آتيه ومطوف به قال فأتيت أبا بكر، يَعني فقلت له مثل مقالتي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أيها الرجل أنه رسول الله وليس يعصي ربه وهو ناصره فاستمسك بغرزه حتى تموت فوالله إنه لعلى الحق وساق الحديث إلى أن قال فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قوموا فانحروا ثم احلقوا قال فوالله ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات فلما لم يقم أحد منهم قام فدخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس فقالت أم سلمة يا نبي الله أتحب ذلك أخرج ثم لا تكلم أحداً منهم كلمة حتى تنحر بدنك وتدعو بحالقك فيحلقك فقام فخرج فلم يكلم أحداً منهم حتى فعل ذلك نحر بدنه ودعا حالقه فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضا حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً غماً، ثم جاءه نسوة مؤمنات فأنزل الله تعالى {يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات} [الممتحنة: 10]

حتى بلغ [بعصم الكوافر] فطلق عمر يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك فتزوج أحدهما معاوية بن أبي سفيان والأخرى صفوان بن أمية، ثم رجع رسول الله إلى المدينة فجاءه أبو بصير رجل من قريش وهو مسلم فأرسلوا في طلبه رجلين فقالوا العهد الذي جعلت لنا فدفعه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرجلين فخرجا به حتى بلغا ذا الحليفة فنزلوا يأكلون من تمر لهم فأخذ أبو بصير سيف أحدهما فضربه حتى برد وفر الآخر حتى أتى المدينة فدخل المسجد يعدو فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه لقد رأى هذا ذُعراً، فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال قتل والله صاحبي وإني لمقتول فجاء أبو بصير، فقال يا نبي الله قد والله أوفى الله ذمتك قد رددتني إليهم ثم أنجاني الله منهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ويل أمه مسعر حرب لو كان له أحد فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم فخرج حتى أتى سِيف البحر قال وينفلت منهم أبو جندل بن سهيل فلحق بأبي بصير فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلاّ لحق بأبي بصير حتى اجتمعت منهم عصابة، قال فوالله ما يسمعون بعير لقريش إلى الشام إلاّ اعترضوا لها فقتلوهم وأخذوا أموالهم وأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم يناشدونه الله والرحم إلاّ أرسل إليهم فمن أتاه فهو آمن فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليهم فأنزل الله تعالى {وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم} [الفتح: 24] حتى بلغ {حمية الجاهلية} [الفتح: 26] وكانت حميتهم أنهم لم يقروا بأنه نبي الله ولم يقروا ببسم الله الرحمن الرحيم وحالوا بينه وبين البيت. قلت جمع هذا الحديث أنواعا من السنن والآداب وضروباً من الفقه والأحكام وقد تكلم عليها بعض أهل العلم ففسر بعضها وترك بعضها ونحن نقول في ذلك بمبلغ علمنا ومن الله التوفيق.

قوله حتى إذا كانوا بذي الحليفة قلد الهدي وأشعر وأحرم بالعمرة فيه بيان أن ذا الحليفة ميقات أهل المدينة لمن أراد أن يحج أو يعتمر، وفيه بيان أن تقليد الهدي سنة سواء كان عن واجب أو عن نفل. وفيه أن الإشعار سنة وأنه ليس من باب ما نهي عنه من المثلة وقد تكلمنا في هذا في كتاب المناسك. وقوله وبعث بين يديه عينا له من خزاعة فيه استحباب تقديم الطلائع وبعث العيون بين يدي الجيوش والأخذ بالحزم والاحتياط في أمرالعدو لئلا ينالوا فرصة فيهجموا على المسلمين في حال غرة وأوان غفلة. وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل الخزاعي وبعثه عينا ثم صدقه في قوله وقبل خبره وهو كافر وذلك لأن خزاعة كانوا عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤمنهم وكافرهم احلف كانت بينهم في الجاهلية ولعله أيضاً لم يجد من المسلمين من ينوب عنه في تعرف الخبروالتجسس والبحث عن أمر العدو. ثم أن ذلك أمر لا يكاد يتحققه إلا من لابس العدو وداخلهم واستبطن سرهم وهذا المعنى متعذر وجوده غالباً في المسلمين. وفيه دليل على جواز قبول قول المتطبب الكافر فيما يخبر به عن صفة العلة ووجه العلاج إذا كان غير متهم فيما يصفه وكان غير مظنون به الريبة في ذلك. وقوله وجمعوا لك الأحابيش فإن الأحابيش يقال إنهم أحياء من القارة انضموا إلى بني ليث في محاربتهم قريشاً والتحبش التجمع. وفي قوله لأصحابه اشيروا عليّ دليل على استحباب استشارة ذوي الرأي والنصح في الأمور المهمة، وقد كان صلى الله عليه وسلم يستعملها كثيراً فيما لم ينزل عليه فيه وحي. وقد يحتمل أن يكون ذلك ليستن به من بعده في حوادث الأمر فينالوا بركتها وينكشف لهم وجه الرأي الملتبس فيها.

وفي قوله أترون أن نميل إلى ذراري هؤلاء الذين أعانوهم فنصيبهم دليل على جواز سبي ذراري المشركين قبل قتال الرجال. وفي قوله أم ترون أن نؤم البيت فمن صدنا عنه قاتلناه دايل على جواز قتال المحرم من صده عن البيت ومنعه عن بلوغ النسك. وفي القصة أيضاً دليل على أن العدو الذي يريد أن يصدك عن الحج إذا كان كافرا فأنه يجوز ترك الاشتغال بقتاله وطلب الخلاص من يده. فأما إذا كان الصاد لك مسلما فقد قال بعض العلماء يجوز قتاله وتركه أولى. وقوله بركت به راحلته فقال الناس حَلْ حل فإنه كلمة معناها الزجر، يقال في زجر البعير حل بالتخفيف؛ ويقال حَلْحَلتُ الإيل إذا زجرتها لتنبعث. وفي قوله فالحت يريد أنها لزمت المكان فلم تنبعث ويقال تلحلح الرجل بالمكان إذا لزمه فلم يبرح وتحلحل عنه إذا زال وفارقه. وأما قوله خلأت القصواء فإن الخلاء في الإبل كالحران في الخيل، ومنه قول زهير: بارزة الفقارة لم يخنها ... …قطاف في الركاب ولا خِلاء والقصواء اسم ناقته وكانت مقصوة الأذن وهو أن يقطف طرفاً من الأذن يقال ناقة قصواء ولم يقولوا جمل اقصى ومعناه المقصوة جاء بلفظ فاعل ومعناه مفعول. وقوله ما خلأت ولكن حبسها حابس الفيل يريد أن الخِلاء لم يكن لها بخلق فيما مضى ولكن الله حبسها عن دخول مكة كما حبس الفيل حين جاء به أبرهة الحبشي يريد هدم الكعبة واستباحة الحرم، ويشبه أن يكون المعنى في ذلك وفي التمثيل بحبس الفيل أن أصحابه لو دخلوا مكة لوقع بينهم وبين قريش قتال في الحرم وأريق فيه دماء وكان منه الفساد والفناء، ولعل الله سبحانه قد

سبق في علمه ومضى في قضائه أنه سيسلم جماعة من أولئك الكفار في غابر الزمان وسيخرج من أصلابهم قوم مؤمنون يعبدون الله ويوحدونه فلو استبيحت مكة وأتى القتل عليهم لانقطع ذلك النسل ولبطلت تلك العواقب. وقوله والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها يريد والله أعلم المصالحة والجنوح إلى المسالمة وترك القتال في الحرم والكف عن إراقة الدم فيه وهو معنى تعظيم حرمات الله. وقوله حتى نزل على ثمد فالثمَد الماء القليل، ويقال ماء مثمود إذا كثر عليه الشفاه حتى يفنى وينزف. وقوله نتبرضه تبرضاً؛ معناه نأخذه قليلا قليلا، والبرْض اليسير من العطاء. وقوله ما زال يجيش لهم بالري معناه يفور ماؤه ويرتفع كما يجيش المرجل بما فيه. قوله وكان عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أنه موضع سر رسول الله صلى الله عليه وسلم والثقة الذي يستنصحه ويأتمنه على أمره، وذلك أن الرجل إنما يودع عيبته حر المتاع ومصون الثياب ونحو ذلك فوقع التشبيه له بالعيبة من أجل ذلك. وقوله العُوذ المطافيل، فإن معنى العوذ الحديثات النتاج يقال لواحدتها عائذ والمطافيل الأمهات التي معها أطفالها يريد أن هذه القبائل قد احتشدت لحربك ومقارعتك فساقت أموالها مع أنفسها. وقوله نهكتهم الحرب أي أبلغت فيهم واضرت بهم ومن ذلك قولهم نهكته الحمى إذا هزلته وأنحلته. وقوله جَمُوا يريد الجمام والاستراحة. وقوله حتى تنفرد سالفتي، معناه حتى تبين رقبتي، والسالفة مقدمة العنق وسالف كل شيء أوله ومنه سلافة الخمر وهي ما يعصر أولاً منها.

وقوله إني أرى وجوها وأوشاباً من الناس فإن الأوشاب الأخلاط من الناس يقال هم أوشاب وإشابات إذا كانوا من قبائل شتى مختلفين؛ وفي قول أبي بكر رضي الله عنه حين ذكر اللات وسبها ما يدل على أن التصريح باسم الأعضاء التي هي عورات وذكرها عند الحاجة إليه ليس من الفحش ولا قائله خارج عن حد العدالة والمروءة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من تعز بعزاء الجاهلية فأعضوه ولا تكنوا. وأما مس عروة بن مسعود لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم في أثناء مخاطبته وتناوله إياها بيده فإن ذلك شكل من أشكال العرب وعادة من عاداتهم يفعل الرجل ذلك بصاحبه إذا حدثه ويجري ذلك مجرى الملاطفة من بعضهم، وكان صلى الله عليه وسلم لا يدفعه عن ذلك استمالة لقلبه ولما كان يرجوه من إسلامه ثم هداه الله بعد فحسن إسلامه وكان رئيسا في ثقيف وكان المغيرة بن شعبة يمنعه من ذلك الفعل تعظيما لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتوقيراً له وإجلالا لقدره. وإنما يفعل الرجل ذلك لنظيره وخليطه المساوي له في الدرجة والمنزلة. قال أبو سليمان وفي قيام المغيرة على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم دليل على أن إقامة الرئيس الرجال على رأسه في مقام الخوف ومواطن الحروب جائز، وأن الذي نهى عنه وتوعد فيه من قوله صلى الله عليه وسلم من أراد أن يَمْثُل له الرجال صفوفا فليتبوأ مقعده من النار. إنما هو فيمن فعل ذلك قاصداً به الكبر وذاهبا فيه مذاهب النخوة والجبرية. وقوله أي غدر فهو نعت ينعت الرجل به عند المبالغة في الغدر.

وفي قوله صلى الله عليه وسلم للمغيرة أما الإسلام فأقبل، وأما المال فلست منه في شيء دليل على أن أموال أهل الشرك وإن كانت مباحة للمسلمين مغنومة إذا أخذوها منهم قهراً فإنها ممنوعة بالأمان لهم مردودة إلى أربابها إذا أخذت في حال المسالمة والأمان وذلك أن المغيرة إنما صحبهم صحبة الرفقاء في الأسفار والرفيق في السفر يأمن رفيقه على نفسه وماله فكان ما أتاه المغيرة من سفك دمائهم وأخذ أموالهم غدراً منه والغدر محظور غير جائز والأمانة مؤداة إلى البر والفاجر. وفي قوله ما يتنخم نخامة إلاّ وقعت في يد رجل دليل على طهارة النخامة والبزاق. وفيه دليل على طهارة الماء الذي يتطهر به وهو الماء المستعمل. وفي قوله حين جاء سهيل قد سهل لكم من أمركم دليل على استحباب التفاؤل بالاسم الحسن وإنما المكروه من ذلك الطيرة وهو التشاؤم. وفي امتناع سهيل بن عمرو على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصدر كتاب الصلح ببسم الله الرحمن الرحيم ومطالبته إياه أن يكتب باسمك اللهم ومساعدة رسول الله صلى الله عليه وسلم إياه على ذلك باب من العلم فيما يجب من استعمال الرفق في الأمور ومداراة الناس فيما لا يلحق دين المسلم به ضرر ولا يبطل معه لله سبحانه حق، وذلك إن معنى باسمك اللهم هو معنى بسم الله الرحمن الرحيم وإن كان فيها زيادة ثناء. قال النحويون اللهم يجمع نداء ودعاء كأنه يقول يا الله أُمَّ بنا خيراً أو أمنا بخير وما أشبه ذلك فحذف بعض الحروف لما كثر استعماله في كلامهم إرادة التخفف واختصاراً للكلام، وكذلك المعنى في تركه أن يكتب محمد رسول الله واقتصاره على أن يكتب محمد بن عبد الله لأن انتسابه إلى أبيه عبد الله لا ينفي نبوته ولا يسقط رسالته، وفي إجابته صلى الله عليه وسلم إياهم إلى ذلك أن يرد إلى الكفار

من جاءه منهم مسلما دليل على جواز أن يقر الإمام فيما يصالح عليه العدو ببعض ما فيه الضيم على أهل الدين إذا كان يرجو لذلك فيما يستقبله عاقبة حميدة سيما إذا وافق ذلك زمان ضعف المسلمين عن مقاومة الكفار وخوفهم الغلبة منهم. وقد تكلم العلماء في هذا الباب وتأولوا ما كان من رده أبا جندل بن سهيل إليهم على وجهين أحدهما أن الله تعالى قد أباح التقية للمسلم إذا خاف الهلاك على نفسه ورخص له أن يتكلم بالكفر مع التورية وإضمار الإيمان في رده إليهم إسلاماً له للهلاك مع وجوده السبيل إلى الخلاص منه بما رخص له فيه من التقية. والوجه الآخر أنه إنما رده إلى أبيه ومعلوم أن أباه لا يقتله ولكن يستبقيه وينتظر به الرُجعي وفي ذلك أمان له وصلاح لعامة المسلمين ودرك لما راموه في عقد الصلح وقصدوه من البغية فيه وكذلك الأمر في رد أبي بصير إليهم وذلك أنه كان يأوي إلى عشيرة يذبون عنه وموالي يحامون عليه، فأما ما يخاف عليه من الفتنة فإن ذلك امتحان يبتلي الله به صبر عباده ليثيب المجتهدين ويمحص بذلك ما في صدور المسلمين وهو أعلم بالسرائر ولله عاقبة الأمور. وفي مراجعة عمر بن الخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحاجته إياه في رده أبا جندل بن سهيل وقد جاء مسلما وتعجبه من ذلك الصنيع وضيق صدره بما خفي عليه من حكمته ولم يدركه من علم مغيبه وفيما كان من جواب أبي بكر إياه وخروج قوله في ذلك مطابقا لجواب رسول الله صلى الله عليه وسلم دليل واضح على أن أبا بكر أعلم الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم وأعرفهم بمعاني أموره وأشدهم اطلاعاً على ما في نفسه وإنما كانت تلك المحاجة والمساءلة من عمر على وجه الكشف عن الشبهة وعلى سبيل الاستبانة لوجه الحكمة فيما شاهده من ذلك الصنيع ولم يكن ذلك منه

اعتراضاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا اتهاماً له في شيء كان منه، وإنما حرك عمر على ذلك القول شدة حرصه على قوة أمر الدين وغلبة محبته أن يكون الظهور والغلبة للمسلمين، وفي قوله صلى الله عليه وسلم لعمر افخبرتك أنك تأتيه العام وجوابه عنه بلا، وقوله فإنك آتيه ومطوف به دليل على أن من حلف بالله ليفعلن كذا وليطلقن امرأته من غير تحديد له بوقت معلوم أنه لا يحنث مدى عمره ما عاش. وفي قوله هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله دليل على إغفال من زعم أنه لا يصح أن يكتب في كتب الشروط هذا ما اشترى فلان بن فلان وهذا ما شهد عليه الشهود لزعمه أن ما هاهنا بمعنى الجحد وهو يبطل العقد. قلت وهذا شيء قاله بعض الفقهاء من المتأخرين وليس الأمر كما توهمه وجل ما في هذا الموضع محل الاخبار لا محل الجحد. ومعنى قوله قاضى أي فصل الأمر بالقضاء والأحكام له ووزنه فاعل من قضيت الشيء، وفي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بعد فراغه من الكتاب أن ينحروا ويحلقوا رؤ وسهم دليل على أن من أحرم بحج أو عمرة فأحصر بعدو فإنه ينحر الهدي مكانه ويحل وإن لم يكن بلغ هديه الحرم والموضع الذي نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم هديه فيه بالحديبية حِل إذ كان مصدودا عن دخول الحرم. والدليل على ذلك قوله تعالى {والهدي معكوفاً أن يبلغ محله} [الفتح: 25] . وقال الشافعي الشجرة التي بايع الناس تحتها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحل وبني المسجد في موضعها وموضعها باق، وكان سبب البيعة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عثمان إلى أهل مكة فجاء الخبر بأنهم قتلوه فعزم حينئذ على قتالهم وبايعه أصحابه على ذلك تحت تلك الشجرة وهي بيعة الرضوان وهم أصحاب الشجرة وكانوا

ألفا وأربعمائة. وفي قبول رسول الله صلى الله عليه وسلم إشارة أم سلمة عليه بأن يبدأ بنحر هديه وحلق رأسه دليل على جواز مشاورة النساء وقبول قولهن إذا كن مصيبات فيما يشرن به وإنما كان توقف الصحابة عن أمره الأول فلم ينفذوا له انتظاراً أن يحدث الله سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم أمراً خلاف أمره الأول فيتم لهم حُرْمهم وقضاء نسكهم إذ كان لا ينكر في زمانه أن يؤمروا بالشيء ثم يتعقبه النسخ، فلما رأوه قد فعل النحر والحلاق في أمر نفسه علموا أنه ليس وراء ذلك عاقبة تنتظر فبادروا إلى الايتمار لقوله والايتساء بفعله. وقوله في قصة أبي بصير فضربه بالسيف حتى برد معناه حتى مات وسكنت منه حرارة الحياة وأصل البرد السكون والثبوت. وقوله ويل أمه مسعر حرب كلمة تعجب يصفه بالمبالغة في الحروب وجودة معالجتها وسرعة النهوض فيها، يقال فلان مسعر حرب إذا كان أول من يوقد نارها ويصلي حرها من قولك سعرت النار إذا أوقدتها، ومنه السعير وهو النار الموقدة. وفي ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم رد أبي بصير إليهم وهو بناحية سِيف البحر دليل على أن من جاء منهم (إلى غير دار الإمام فليس عليه رده إليهم وإنما عقدوا الصلح على أن من جاءه منهم) رده إليهم فكان في ذلك دليل على الموضع الذي هو فيه مقيم. وأما قوله ثم جاءت نسوة مؤمنات فأنزل الله سبحانه فيهن {يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات} [الممتحنة: 10] الآية فقد اختلف العلماء في هذا على قولين أحدهما أن النساء لم يدخلن في الصلح، وإنما وقع بينهم على رد الرجال. وهذا

أشبه القولين بالصواب وسل على صحة ذلك قوله في هذه الرواية وعلى أنه لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلاّ رددته والقول الآخر أن الصلح كان معقودا بينهم على رد الرجال والنساء معاً لأن في بعض الروايات ولا يأتيك منا أحد إلاّ رددته فاشتمل عمومه على الرجال والنساء، إلاّ أن الله نسخ ذلك بالآية ومن ذهب إلى هذا الوجه أجاز نسخ السنة بالكتاب. وفيه دليل على أن الإمام إذا شرط في العقد ما لا يجوز فعله في حكم الدين فإن ذلك الشرط باطل وقد قال صلى الله عليه وسلم كل شرط ليس في كتاب الله فهوباطل. وفيه على هذا التأويل دليل على جواز وقوع الخطأ من رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض الأمور ولكن لا يجوز تقريره عليه. واختلف في تأويل قوله تعالى {واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا} [الممتحنة: 10] فقال أكثر أهل التفسير معنى النفقة الصدقة. واختلفوا هل يجب العمل به اليوم أم لا إذا شرطه في معاهدة المشركين؛ فقال قوم لا يجب شيء من ذلك، وزعموا أن الآية منسوخة وإذا سقط هذا الحكم من أصله سقط ما تعلق به من العوض، قال الزهري انقطع ذلك يوم الفتح لا يعاض زوجها منها شيئاً، وكذلك قال عطاء وقتادة. وقال الثوري لا يعمل به اليوم، وقال قوم الآية غير منسوخة وروي ذلك عن مجاهد ويعوضون. وقال الشافعي فيها قولان أحدهما سقوط العوض كقول من تقدم، والقول الآخر أن المرأة الحرة من أهل الهدنة إذا جاءت مسلمة مهاجرة من دار الحرب فمن طلبها من ولي سوى زوجها منع منها بلا عوض وإذا طلبها زوجها منعها

وأعطي العوض وهو الصداق وذلك إذا كان الزوج قد دفع إليها صداقها ولايعطى شيئاً إن كان لم يدفعه إليها. واختلفوا في مقدار المدة التي يجوز أن يهادن إليها الكفار. فقال الشافعي أقصاها عشر سنين لا يزاد عليها وما وراءها محظور لأن الله سبحانه أمر بقتال الكفار فاستثنينا ما أباحه رسول الله في قصة الحديبية وما وراء ذلك محظور. وقال قوم لا يجوز ذلك أكثر من أربع سنين وقال قوم ثلاث سنين لأن الصلح لم يبق فيما بينهم أكثر من ثلاث سنين. ثم أن المشركين نقضوا العهد فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة وكان الفتح. وقال بعضهم ليس لذلك حد معلوم وهو إلى الإمام يفعل ذلك على حسب ما يرى من المصلحة فيه. قلت كان سبب نقض العهد إن خزاعة كانت حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقاتلهم بنو بكر فأعانت قريش بني بكر على خزاعة فنقضوا بذلك العهد. قال أبو داود: حدثنا محمد بن العلاء حدثنا ابن إدريس سمعت ابن إسحاق عن الزهري عن عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم أنهم اصطلحوا على وضع الحرب عشر سنين يأمن فيهن الناس وعلى أن بيننا عيبة مكفوفة وأنه لا أسلال ولا أغلال. قال الشيخ عيبة مكفوفة المشرجة وهي المشدودة بشرجها والعيبة هاهنا مثل والمعنى أن بيننا صدوراً سليمة وعقائد صحيحة في المحافظة على العهد الذي عقدناه بيننا، وقد يشبّه صدرَ الإنسان الذي هو مستودع وموضع مكنون أمره بالعيبة التي يودعها حر متاعه ومصون ثيابه قال الشاعر:

ومن باب العدو يؤتى على غرة

وكادت عياب الود منا ومنكم ... وإن قيل أبناء العمومة تَصفِر وقوله لا أسلال ولا أغلال فإن الأسلال من السلة وهي السرقة والأغلال الخيانة، يقال أغل الرجل إذا خان أغلالاً وغل في الغنيمة غلولاً. يقول إن بعضنا يأمن بعضاً في نفسه وماله فلا يتعرض لدمه ولا لماله سراً ولا جراً ولا يخونه في شيء من ذلك. وقال بعضهم معنى الأغلال لبس الدرع للحرب والأسلال من سل السيف وزيف أبو عبيد هذا القول ولم يرتضه. ومن باب العدو يؤتى على غرة قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله فقام محمد بن مسلمة فقال أنا يا رسول الله أتحب أن أقتله قال نعم قال فاذن لي أن أقول شيئاً قال نعم قال فأتاه فقال إن هذا الرجل قد سألنا الصدقة وقد عنّانا قال وأيضاً لَتَملُّنهُ قال فاتبعناه فنحن نكره أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء يصير أمره وقد أردنا أن تسلفنا وسقاً أو وسقين قال كعب أي شيء ترهنوني، قالوا وما تريد منا قال نساءكم، قالوا سبحان الله أنت أجمل العرب نرهنك نساءنا فيكون ذلك عارا علينا، قال فترهنوني أولادكم، قالوا سبحان الله يسب ابن أحدنا فيقال رهنت بوسق أو وسقين، قالوا نرهنك اللامة يريد السلاح، قال نعم فلما أتاه ناداه فخرج إليه وهومتطيب ينضح رأسه فلما أن جلس إليه وقد كان جاء معه بثلاثة نفر أو أربعة فذكروا له فقال عندي فلانة وهي أعطر نساء الناس، فقال تأذن لي فأشم، قال نعم فأدخل يده في رأسه

فشمه فقال أعود قال نعم فأدخل يده في رأسه فلما استمكن منه قال دونكم فضربوه حتى قتلوه. قلت في هذا من الفقه اسقاط الحرج عمن تأول الكلام فأخبر عن الشيء بما لم يكن إذا كان يريد بذلك استصلاح أمر دينه أو الذب عن نفسه وذويه. ومثل هذا الصنيع جائز في الكافر الذي لا عهد له كما جاز البيات والإغارة عليهم في أوقات الغرة وأوان الغفلة وكان كعب هذا قد لهج بسب النبي صلى الله عليه وسلم وهجائه فاستحق القتل مع كفره بسبه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ذهب معنى ذلك على قوم فتوهموا أن ذلك الصنيع من قتله كان غدرا أو فتكاً، وقد حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم الفتك. قال أبو داود: حدثنا محمد بن حُزابة حدثنا إسحاق، يَعني ابن منصور حدثنا أسباط، يَعني الهمداني عن السدي عن أبيه، عَن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الإيمان قيد الفتك لا يفتك مؤمن. قلت الفتك إنما هو فجأة قتل من له أمان وكان كعب بن الأشرف ممن خلع الأمان ونقض العهد وقد روي لنا في أمره قصة عن بعض من داخلته الشبهة فتوهم أن قتله كان غدراً. حدثنا الأصم حدثنا بحر بن نصر الخولاني حدثنا ابن وهب أخبرني سفيان بن عيينة عن محمد بن سعيد أخي سفيان بن سعيد الثوري عن أبيه عن عباية، قال ذكر قتل كعب بن الأشرف عند معاوية فقال ابن يامين كان قتله غدرا فقال محمد بن مسلمة يا معاوية ايُغدّر عندك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لا تنكر والله

ومن باب الطروق

لا يظلني وإياك سقف بيت أبداً ولا يخلو إليَّ دم هذا إلاّ قتلته. قال الشيخ أبعد الله ابن يامين وقبح رأيه هذا. كان كعب بن الأشرف لعنه الله يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحرض عليه فعاهده أن لا يعين عليه ولحق بمكة ثم نقض العهد وجاء معلناً بمعاداة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستحق القتل لغدره ولنقضه العهد مع كفره. حدثنا أحمد بن إبراهيم بن مالك حدثنا الحسن بن علي بن زياد السري حدثنا ابن أبي أويس حدثنا إبراهيم بن جعفر بن محمود عن أبيه عن جابر بن عبد الله أن كعب بن الأشرف عاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يعين عليه ولا يقاتله ولحق بمكة ثم قدم المدينة معلناً بمعاداة النبي صلى الله عليه وسلم فكان أول ما خزع منه قوله: أذاهبٌ أنت لم تحلل بمرقبَة ... وتارك أنت أمّ الفضل بالحرم في أبيات يهجوه بها فعند ذلك ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قتله. قال السيخ قوله خزع معناه قطع عهده وفد فسره في كتاب غريب الحديث. ومن باب الطُروق قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمرو وحدثنا مسلم بن إبراهيم قالا: حَدَّثنا شعبة عن محارب بن دثار عن جابر قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره أن يأتي الرجل أهله طروقاً. قوله طروقا أي ليلا يقال لكل ما أتاك ليلاً طارق، ومنه قوله تعالى {والسماء والطارق} أي النجم لأنه يطرق بطلوعه ليلا. قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا هشيم حدثنا سيار عن الشعبي عن جابر قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فلما تهيأنا لندخل قال امهلوا لكي

ومن باب كراء المقاسم

تمتشط الشعثة وتستحد المُغِيبة. قال الشيخ وتستحد أي تصلح من شأن نفسها والاستحداد مشتق من الحديد ومعناه الاحتلاق بالموسى يقال استحد الرجل إذا احتلق بالحديد واستعان بمعناه إذا حلق عانته. ومن باب كراء المقاسم قال أبو داود: حدثنا جعفر بن مسافر التنيسي حدثنا ابن أبي فديك أخبرنا الزمعي عن الزبير بن عثمان بن عبد الله بن سراقة أن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان أخبره أن أبا سعيد الخدري أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إياكم والقُسامة قالوا وما القسامة قال الشيء يكون بين الناس فينتقص منه. قال الشيخ القسامة مضمومة القاف اسم لما يأخذه القسام لنفسه في القسمة كالنشارة لما ينشر والفصالة لما يفصل والعجالة لما يعجل للضيف من الطعام، وليس في هذا تحريم لأجرة القسام إذا أخذها بإذن المقسوم لهم؛ وإنما جاء هذا فيمن ولى أمر قوم فكان عريفاً عليهم أو نقيباً فإذا قسم بينهم سهامهم أمسك منها شيئاً لنفسه يستأثر به عليهم وقد جاء بيان ذلك في الحديث الآخر. قال أبو داود: حدثنا القعنبي حدثنا عبد العزيز بن محمد عن شريك بن أبي نمرعن عطاء بن يسار عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه، قال فيه الرجل يكون على الفِئام من الناس فيأخذ من حظ هذا وحظ هذا. قال الشيخ الفئام الجماعات. قال الفرزدق نفئام ينهضون إلى فئام. ومن باب حمل السلاح إلى أرض العدو قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا عيسى بن يونس حدثنا أبي، عَن أبي إسحاق

هو السبيعي عن ذي الجوشن رجل من الضباب، قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن فرغ من أهل بدر بفرس لي يقال لها القرحاء، فقلت يا محمد إني قد جئتك لتتخذه فقال لا حاجة لي فيه فإن شثت أن أقيضك به المختارة من دروع بدر فعلت؛ قلت ما كنت لأقيضه اليوم بغُرة قال فلا حاجة لي فيه. قوله أقيضك به معناه أبدلك به وأعوضك منه، والمقايضة في البيوع المعاوضة أن يعطي متاعاً ويأخذ آخر لا نقد فيه، وفيه أنه سمى الفرس غرة وأكثرما جاء ذكر الغرة في الحديث إنما يراد بها النسمة من أولاد آدم عليه السلام عبد أوأمة وعلى ذلك تفسير قوله في الجنين وقضائه فيه بغرة عبد أو أمة، وكان أبو عمرو بن العلاء يقول لا تكون الغرة إلاّ عبداً أبيض أو جارية بيضاء. أخبرني به أبو محمد الكراني حدثنا عبد الله بن شبيب حدثنا زكريا المنقري حدثنا الأصمعي، عَن أبي عمرو، وقد روي حديث الجنين عيسى بن يونس فجاء بزيادة تفرد بها لم يذكرها غيره من رواة الحديث فقال عبد أو فرس أو بغل فجعل الفرس والبغل غرة. تم طبع الجزء الثاني ويليه الجزء الثالث أوله كتاب الإمارة وذلك في الثلاثين من شهر ربيع الأول سنة 1352

كتاب الإمارة والفيء والخراج

الجزء الثالث ******************* بسم الله الرحمن الرحيم كتاب الإمارة والفيء والخراج قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالأمير الذي على الناس راع عليهم وهو مسؤول عنهم، والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عنهم، والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهي مسؤولة عنهم، والعبد راع على مال سيده وهو مسؤول عنه فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته. قال الشيخ: معنى الراعي ههنا الحافظ المؤتمن على ما يليه يأمرهم بالنصيحة فيما يلونه ويحذرهم أن يخونوا فيما وكل إليهم منه أو يضيعوا وأخبر أنهم مسؤولون عنه ومؤاخذون به. وفي قوله المرأة راعية على بيت بعلها دليل على سقوط القطع عن المرأة إذا سرقت من مال زوجها. وفي قوله والرجل راع على أهل بيته دلالة على أن للسيد أن يقيم الحد على عبيده وإمائه وقد جاء أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم. ومن باب الضرير يولى قال أبو داود: حدثنا محمد بن عبد الله المُخرمي حدثنا عبد الرحمن بن مهدي

ومن باب العرافة

حدثنا عمران القطان عن قتادة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم استخلف ابن أم مكتوم على المدينة مرتين. قلت إنما ولاه النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة دون القضايا والأحكام فإن الضرير لا يجوز له أن يقضي بين الناس لأنه لا يدرك الأشخاص ولا يثبت الأعيان ولا يدري لمن يحكم وعلى من يحكم وهومقلد في كل ما يليه من هذه الأمور والحكم بالتقليد غير جائز، وقد قيل أنه صلى الله عليه وسلم إنما ولاه الإمامة بالمدينة إكراماً له وأخذاً بالأدب فيما عاتبه الله عليه من أمره في قوله سبحانه {عبس وتولى أن جاءه الأعمى} [عبس: 1-2] وروي أن الآية نزلت فيه وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم له كلما أقبل ويقول مرحباً بمن عاتبني فيه ربي، وفيه دليل على أن إمامة الضرير غير مكروهة. ومن باب العرافة قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا بشر بن المفضل حدثنا غالب القطان عن رجل عن أبيه عن جده أنهم كانوا على منهل من المناهل فلما بلغهم الإسلام جعل صاحب الماء لقومه مائة من الإبل على أن يسلموا فأسلموا وقسم الإبل بينهم وبدا له أن يرتجعها منهم فأرسل ابنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له ائت النبي صلى الله عليه وسلم فقل له أن أبي شيخ كبير وهو عريف ماء وأنه يسألك أن تجعل لي العرافة بعده فأتاه فقال إن أبي يقرئك السلام فقال عليك وعلى أبيك السلام فقال إن أبي جعل لقومه مائة من الإبل على أن يسلموا فأسلموا وحسن إسلامهم، ثم بدا له أن يرتجعها منهم فهو أحق بها أم هم قال إن بدا له أن يسلمها إليهم فليسلمها وإن بدا له أن يرتجعها منهم فهو أحق بها منهم فإن أسلموا فلهم إسلامهم وإن لم يسلموا قوتلوا على الإسلام. وقال ان أبي شيخ كبير وهو عريف الماء وانه يسألك أن

ومن باب السعاية على الصدقة

تجعل لي العرافة بعده، فقال إن العرافة حق ولا بد للناس من عرفاء ولكن العرفاء في النار. العَريف القيم بأمر القبيلة والمحلة يلي أمورهم ويتعرف الأمير منهم أحوالهم قال الشاعر: أو كلما وردت عكاظ قبيلة ... بعثوا إليَّ عريفهم يتوسم وقوله العرافة حق يريد ان فيها مصلحة للناس ورفقا في الأمور، ألا تراه يقول ولا بد للناس من عرفاء، وقوله العرفاء في النار معناه التحذير من التعرض للرياسة والتأمر على الناس لما في ذلك من المحنة وأنه إذا لم يقم بحقه ولم يؤد الأمانة فيه أثم واستحق من الله سبحانه العقوبة وخيف عليه دخول النار. وفيه من الفقه أن من أعطى رجلاً مالاً على أن يفعل أمراً هو لازم الأخذ له مفروضا عليه فعله فإن للمعطي ارتجاعه منه، وذلك أن الإسلام كان فرضاً واجبا عليهم فلم يجز لهم أن يأخذوا عليه جعلا وهذا مخالف لما أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤلفة قلوبهم، وذلك أنه لم يشارطهم على أن يسلموا فيعطيهم جعلا على الإسلام وإنما أعطاهم عطايا باتة وإن كان في ضمنها استمالة لقلوبهم وتألفهم على الدين وترغيب من وراءهم من قبائلهم في الدخول فيه. ومن باب السعاية على الصدقة قال أبو داود: حدثنا النفيلي حدثنا محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب عن عبد الرحمن بن شماسة عن عقبة بن عامر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يدخل الجنة صاحب مكس. قلت صاحب المكس هو الذي يُعشر أموال المسلمين ويأخذ من التجار

ومن باب الخليفة يستخلف

والمختلفة إذا مروا عليه وعبروا به مكساً باسم العشر وليس هو بالساعي الذي يأخذ الصدقات فقد ولي الصدقات أفاضل الصحابة وكبارهم في زمان النبي صلى الله عليه وسلم وبعده. وأصل المكس النقص ومنه أخذ المِكاس في البيع والشراء وهو أن يستوضعه شيئاً من الثمن ويستنقصه منه قال الشاعر: وفي كل أسواق العراق أتاوة……وفي كل ما باع امرؤ مكس درهم فأما العشر الذي يصالح عليه أهل العهد في تجاراتهم إذا اختلفوا إلى بلاد المسلمين فليس ذلك بمكس ولا آخذه بمستحق للوعيد إلاّ أن يتعدى ويظلم فيخاف عليه الاثم والعقوبة. ومن باب الخليفة يستخلف قال أبو داود: حدثنا محمد بن داود بن سفيان حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن سالم عن ابن عمر قال: قال عمر إنْ لا استخلف فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستخلف وإن استخلف فإن أبا بكر قد استخلف قال فو الله ما هو إلاّ أن ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر فعلمت أنه لا يعدل برسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا وأنه غير مستخلف. قلت معنى قول عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستخلف أي لم يسم رجلا بعينه للخلافة فيقوم بأمر الناس باستخلافه إياه فأما أن يكون أراد به أنه لم يأمر بذلك ولم يرشد إليه وأهمل الناس بلا راع يرعاهم أو قيم يقوم بأمورهم ويمضي أحكام الله فيهم فلا وقد قال صلى الله عليه وسلم الأئمة من قريش فكان معناه الأمر بعقد البيعة لإمام من قريش ولذلك رُئيت الصحابة يوم مات رسول الله صلى الله عليه وسلم لم

ومن باب البيعة

يقضوا شيئا من أمر دفنه وتجهيزه حتى أحكموا أمر البيعة ونصبوا أبا بكر إماما وخليفة وكانوا يسمونه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم طول عمره إذ كان الذي فعلوه من ذلك صادرا عن رأيه ومضافا إليه وذلك من أدل الدليل على وجوب الخلافة وأنه لا بد للناس من إمام يقوم بأمر الناس ويمضي فيهم أحكام الله ويردعهم عن الشر ويمنعهم من التظالم والتفاسد وقد أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم الراية يوم مؤته زيد بن حارثة، وقال إن قتل فأميركم جعفر بن أبي طالب فإن قتل جعفر فأميركم عبد الله بن رواحة فأخذها زيد فاستشهد، ثم أخذها جعفر فاستشهد ثم أخذها عبد الله بن رواحة فاستشهد، ثم أخذها خالد بن الوليد ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم تقدم إليه في ذلك ففتح الله عليه وحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم أثره وأثنى عليه خيراً. وكل ذلك يدل على وجوب الاستخلاف ونصب الإمام، ثم أن عمر لم يهمل الأمر ولم يبطل الاستخلاف ولكن جعله شورى في قوم معدودين لا يعدوهم فكل من أقام بها كان رضاً ولها أهلاً فاختاروا عثمان وعقدوا له البيعة فالاستخلاف سنة اتفق عليها الملأ من الصحابة وهو اتفاق الأمة لم يخالف فيه إلا الخوارج والمارقة الذين شقوا العصا وخلعوا ربقة الطاعة. ومن باب البيعة قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال كنا نبايع النبي صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة ويلقننا فيما استطعت. قلت فيه دليل على أن حكم الإكراه ساقط غير لازم لأنه ليس مما يستطاع دفعه. ومن باب أرزاق العمال قال أبو داود: حدثنا أبو الوليد الطيالسي حدثنا ليث عن بكير بن عبد الله

ومن باب هدايا العمال

بن الأشج عن بسر بن سعيد عن ابن الساعدي قال: استعملني عمر رضى الله عنه على الصدقة فلما فرغت أمر بعُمالة فقلت إنما عملت لله قال خذ ما اعطيت فإني قد عملت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فعملني. قوله عملني معناه أعطاني العمالة. وفيه بيان جواز أخذ العامل الأجرة بقدر مثل عمله فيما يتولاه من الأمر، وقد سمى الله تعالى للعاملين سهما في الصدقة فقال {والعاملين عليها} فرأى العلماء أن يعطوا على قدر غنائهم وسعيهم. قال أبو داود: حدثنا موسى بن مروان الرقي حدثثا المعافى حدثنا الأوزاعي عن الحارث بن يزيد عن جبير بن نفير عن المستورد بن شداد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من كان لنا عاملا فليكتسب زوجة، فإن لم يكن له خادم فليكتسب خادما فإن لم يكن له مسكن فليكتسب مسكنا، قال وقال أبو بكر رضي الله عنه أخبرت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من اتخذ غير ذلك فهو غال أو سارق. قلت وهذا يتأول على وجهين أحدهما: أنه إنما أباح له اكتساب الخادم والمسكن من عمالته التي هي أجر مثله وليس له أن يرتفق بشيء سواها. والوجه الآخر أن للعامل السكنى والخدمة - فإن لم يكن له مسكن وخادم استؤجر له من يخدمه فيكفيه مهنة مثله ويكتري له مسكن يسكنه مدة مقامه في عمله. ومن باب هدايا العمال قال أبو داود: حدثنا ابن السرح وابن أبي خلف لفظه قالا: حَدَّثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن عروة، عَن أبي حميد الساعدي أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل

رجلا من الأزد يقال له ابن المُتبية على الصدقة فجاء فقال هذا لكم وهذا لي فقام النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر فحمد الله وأثنى عليه، وقال ما بال العامل نبعثه فيجيء فيقول هذا لكم وهذا أهدي لي ألا جلس في بيت أمه أو أبيه فينظر أيهدى إليه أم لا، لا يأتي أحد منكم بشيء من ذلك إلاّ جاء به يوم القيامة إن كان بعيرا له رغاء أو بقرة فلها خوار أو شاة تيعر ثم رفع يديه حتى رأينا عفرة إبطيه، ثم قال اللهم هل بلغت اللهم هل بلغت. قلت في هذا بيان أن هدايا العمال سحت وأنه ليس سبيلها سبيل سائر الهدايا المباحة وإنما يهدى إليه المحاباة وليخفف عن المهدي ويسوغ له بعض الواجب عليه وهو خيانة منه وبخس للحق الواجب عليه استيفاؤه لأهله. وفي قوله الا جلس في بيت أمه أو أبيه فينظر أيهدى إليه أم لا دليل على أن كل أمر يتذرع به إلى محظور فهو محظور ويدخل في ذلك القرض يجر المنفعة، والدار المرهونه يسكنها المرتهن بلا كراء، والدابة المرهونه يركبها ويرتفق بها من غير عوض. وفي معناه من باع درهما ورغيفا بدرهمين لأن معلوماً أنه إنما جعل الرغيف ذريعة إلى أن يربح فضل الدرهم الزائد، وكذلك كل تلجئة وكل دخيل في العقود يجري مجرى ما ذكرناه على معنى قول هلا قعد في بيت أمه حتى ينظر أيهدى إليه أم لا فينظر في الشيء وقرينه إذا أفرد أحدهما عن الآخر وفرق بين قِرانها هل يكون حكمه عند الانفراد كحكمه عند الاقتران أم لا والله أعلم.

ومن باب ما يلزم الإمام من أمر الرعية

ومن باب ما يلزم الإمام من أمر الرعية قال أبو داود: حدثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي حدثنا يحيى بن حمزة حدثنا يزيد بن أبي مريم أن القاسم بن مخيمرة أخبره أن أبا مريم الأزدي أخبره قال دخلت على معاوية فقال ما أنعَمنا بك أبا فلان، وهي كلمة تقولها العرب فقلت حديث سمعته أخبرك به سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من ولاه الله شيئا من أمرالمسلمين فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم وفقرهم احتجب الله دون حاجته وخلته وفقره قال فجعل رجلا على حوائج الناس. قول ما أنعمنا بك يريد ما جاءنا بك أو ما أعملك إلينا وأحسبه مأخوذاً من قوله نعم ونُعمة عين أي قرة عين؛ وإنما يقال ذلك لمن يعتد بزيارته ويفرح بلقائه كأنه يقول ما الذي أطلعك علينا وحيانا بلقائك، ومن ذلك قولهم أنعم صباحاً هذا أو ما أشبهه من الكلام والله أعلم. ومن باب قسم الفيء قال أبو داود: حدثنا هارون بن زيد بن أبي الزرقاء حدثنا أبي حدثنا هشام بن سعد عن زيد بن أسلم أن عبد الله بن عمر دخل على معاوية، فقال حاجتك يا أبا عبد الرحمن؛ فقال عطاء المُحَرّرين فأني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أول ما جاء شيء بدأ بالمحررين. ققلت يريد بالمحررين المعتقين وذلك أنهم قوم لا ديوان لهم وإنما يدخلون تبعاً في جملة مواليهم، وكان الديوان موضوعا على تقديم بني هاشم ثم الذين يلونهم في القرابة والسابقة وكان هؤلاء مؤخرين في الذكر فاذكر بهم عبد الله

ومن باب أرزاق الذرية

بن عمر وتشفع في تقديم أعطيتهم لما علم من ضعفهم وحاجتهم. ووجدنا الفيء مقسوما لكافة المسلمين على ما دلت عليه الأخبار إلاّ من استثنى منهم من أعراب الصدقة، وقال عمر بن الخطاب لم يبق أحد من المسلمين إلاّ له فيه حق إلاّ بعض من تملكون من أرقائكم وإن عشت إن شاء الله ليأتين كل مسلم حقه حتى يأتي الراعي بسر وحِمْير لم يعرق فيه جبينه، واحتج عمر رضي الله عنه في ذلك بقوله {والذين جاؤوا من بعدهم} [الحشر: 10] الآية. وقال أحمد وإسحاق الفيء للغني والفقير إلاّ العبيد، واحتج أحمد في ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى العباس من مال البحرين، والعباس رضي الله عنه غني. والمشهور، عَن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه سوى بين الناس ولم يفضل بالسابقة وأعطى الأحرار والعبيد، وعن عمر رضي الله عنه أنه فضل بالسابقة والقدم وأسقط العبيد ثم رد علي بن أبي طالب رضي الله عنه الأمر إلى التسوية بعد، ومال الشافعي إلى التسوية وشبهه بقسم المواريث. ومن باب أرزاق الذرية قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن جعفر عن أبيه عن جابر بن عبد الله قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم من ترك مالا فلأهله ومن ترك دينا أو ضياعاً فإليّ وعليّ. قلت هذا فيمن ترك ديناً لا وفاء له في ماله فإنه يقضي دينه من الفيء، فأما من ترك وفاء فإن دينه مقضي منه ثم بقية ماله بعد ذلك مقسومة بين ورثته، والضَيَاع اسم لكل ما هو معرض أن يضيع إن لم يتعهد كالذرية الصغار والأطفال والزمني الذين لا يقومون بكل أنفسهم وسائر من يدخل في معناهم.

ومن باب كراهية الاقتراض في آخر الزمان

وكان الشافعي يقول ينبغي للإمام أن يحصي جميع من في البلدان من المقاتلة وهم من قد احتلم أو استكمل خمس عشرة سنة من الرجال ويحصي الذرية وهي من دون المحتلم ودون البالغ والنساء صغيرتهن وكبيرتهن ويعرف قدر نفقاتهم وما يحتاجون إليه في مؤناتهم بقدر معايش مثلهم في بلدانهم ثم يعطي المقاتلة في كل عام عطاءهم. والعطاء الواجب من الفيء لا يكون إلاّ لبالغ يطيق مثله الجهاد ثم يعطي الذرية والنساء ما يكفيهم لسنتهم في كسوتهم ونفقتهم. قال ولم يختلف أحد لقيناه في أن ليس للمماليك في العطاء حق ولا للأعراب الذين هم أهل الصدقة، قال وإن فضل من المال فضل بعد ما وصفت وضعه الإمام في إصلاح الحصون والازدياد في الكراع. وكل ما قوي به المسلمون. فإن استغنى المسلمون وكملت كل مصلحة لهم فرق ما يبقى منه بينهم كله على قدر ما يستحقون في ذلك المال. قال ويعطى من الفيء رزق الحكام وولاة الأحداث والصلاة بأهل الفيء وكل من قام بأمر الفيء من وال وكاتب وجندي ممن لا غنى لأهل الفيء عنه رزق مثله. ومن باب كراهية الاقتراض في آخر الزمان قال أبو داود: حدثنا هشام بن عمار حدثنا سليم بن مطير شيخ من أهل وادي القرى عن أبيه أنه حدثه قال سمعت رجلا يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في حجة الوداع أمرالناس ونهاهم ثم قال هل بلغت، قالوا اللهم نعم ثم قال إذا تجاحفت قريش الملك فيما بينهم وعاد العطاءُ رشا فدعوه فقيل من هذا قالوا هذا أبو الزوائد صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله تجاحفت يريد تنازعت الملك حتى تقاتلت عليه وأجحف بعضها ببعض

ومن باب تدوين العطاء

وقوله وعاد العطاء رُشا هو أن يصرف عن المستحقين ويعطى من له الجاه والمنزلة. ومن باب تدوين العطاء قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا إبراهيم بن سعد أخبرنا ابن شهاب عن عبد الله بن كعب بن مالك الأنصاري أن جيشاً من الأنصار كانوا بأرض فارس مع أميرهم، وكان عمر بن الخطاب يُعْقب الجيوش في كل عام فشغل عنهم عمر فلما مر الأجل قفل أهل ذلك الثغر فاشتد عليهم وواعدهم وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا يا عمر إنك غفلت عنا وتركت فينا الذي أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم من أعقاب بعض الغزية بعضاً. الأعقاب أن يبعث الإمام في أثر المقيمين في الثغر جيشا يقيمون مكانهم وينصرف أولئك فإنه إذا طالت عليهم الغيبة والغزية تضرروا به وأضر ذلك بأهليهم، وقد قال عمر رضي الله عنه في بعض كلامه لا تجمروا الجيوش فتفتنوهم يريد لا تطيلوا حبسهم في الثغور. ومن باب صفايا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأموال قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي ومحمد بن يحيى بن فارس المعنى قالا: حَدَّثنا بشر بن عمر الزهراني قال حدثني مالك بن أنس عن ابن شهاب عن مالك بن أوس وهو ابن الحدثان قال أرسل إليّ عمر حين تعالى النهار فجئته فوجدته جالساً على سرير مفضياً إلى رماله فقال حين دخلت عليه يا مال أنه قد دف أهل أبيات من قومك وقد أمرت فيهم بشيء فأقسم فيهم، قلت لو أمرت غيري بذلك فقال خذه فجاء يرفأ فقال يا أمير المؤمنين هل لك في عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص قال نعم فأذن لهم فدخلوا ثم جاءه

يرفأ فقال يا أمير المؤمنين هل لك في العباس وعلي قال نعم فأذن لهما فدخلا فقال العباس يا أمير المؤمنين اقضى بيني وبين هذا، يَعني علياً، فقال بعضهم أجل يا أمير المؤمنين أقض بينهما وارحمهما، قال مالك بن أوس خيل إليَّ أنهما قدما أولئك النفر لذلك فقال عمر اتئدا ثم أقبل على أولئك الرهط، فقال أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا نُورثُ ما تركنا صدقة قالوا نعم ثم أقبل على علي والعباس رضى الله عنهما، فقال أنشدكما بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض هل تعلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا نورث ما تركنا صدقة فقالا نعم، قال فإن الله خص رسول بخاصة لم يخص لها أحداً من الناس فقال {وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله على كل شيء قدير} [الحشر: 6] وكان الله أفاء على رسول بني النضير فوالله ما استأثر بها عليكم ولا أخذها دونكم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ماخذ منها نفقة أهله سنة أو نفقته ونفقة أهله سنة ويجعل ما بقي أسوة المال، ثم أقبل على أولئك الرهط، فقال أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض هل تعلمون ذلك قالوا نعم. ثم أقبل على العباس وعلى رضي الله عنهما فقال أنشدكما بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض هل تعلمان ذلك قالا نعم فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو بكر أنا وليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئت أنت وهذا إلى أبي بكر تطلب أنت ميراثك من ابن أخيك ويطلب هذا ميراث امرأته من أبيها، فقال أبو بكر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا نورث ما تركنا صدقة والله يعلم أنه لصادق بار راشد تابع للحق فوليها أبو بكر فلما توفي قلتُ أنا ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم وولي أبي بكر فوليتها ما شاء الله أن أليها فجئت أنت

وهذا وأنتما جميع وأمركما واحد فسألتمانيها فقلت إن شئتما أن أدفعها إليكما على أن عليكما عهد الله أن تلياها بالذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يليها فأخذتماها مني على ذلك ثم جئتاني لأقضي بينكما بغير ذلك والله لا أقضي بينكما بغير ذلك حتى تقوم الساعة فإن عجزتما عنها فرداها إليّ. قال أبو داود وإنما سألاه أن يصيرها بينهما نصفين فقال عمر رضي الله عنه لا أوقع عليها اسم القسم. قلت ما أحسن ما قال أبو داود وما أشبهه بما تأوله، والذي يدل من نفس الحديث وسياق القصة على ما قال أبو داود قول عمر لهما فجئت أنت وهذا وأنتما جميع وأمركما واحد فهذا يبين أنهما إنما اختصما إليه في رأي حدث لهما في أسباب الولاية والحفظ فرام كل واحد منهما التفرد به دون صاحبه ولا يجوز عليهما أن يكونا طالباه بأن يجعله ميراثاً ويرده ملكا بعد أن كانا سلماه في أيام أبي بكر وتخليا عن الدعوى فيه وكيف يجوز ذلك وعمر رضي الله عنه يناشدهما الله هل تعلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا نورث ما تركنا صدقة فيعترفان به والقوم الحضور يشهدون على رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل ذلك وكل هذه الأمور تؤكد ما قاله أبو داود وتصحح ما تأوله من أنهما إنما طلبا القسمة، ويشبه أن يكون عمر إنما منعهما القسمة احتياطا للصدقة ومحافظة عليها فإن القسمة إنما تجري في الأموال المملوكة وكانت هذه الصدقات متنازعة وقت وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعى فيها الملك والوراثة إلى أن قامت البينة من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تركته صدقة غير موروثة فلم يسمح لهما عمر بالقسمة ولو سمح لهما بالقسمة لكان لا يؤمن أن يكون ذلك ذريعة لمن يريد أن يمتلكها بعد علي والعباس ممن ليس له بصيرتهما

في العلم ولا تقيتهما في الدين فرأى أن يتركها على الجملة التي هي عليها ومنع أن تجول عليها السهام فيتوهم أن ذلك إنما كان لرأي حدث منه فيها أوجب إعادتها إلى الملك بعد اقتطاعها إلى الصدقة، وقد يحتمل ذلك وجهاً آخر وهو أن الأمرالمفوض إلى الاثنين الموكول إليهما وإلى أمانتهما وكفايتهما ليمضياه بمشاركة منهما أقوى في الرأي وأدنى إلى الاحتياط من الاقتصار على أحدهما والاكتفاء به دون مقام الآخر ولو أوصى رجل بوصية إلى عمرو وزيد أو وكل رجل زيداً وعمراً لم يكن لواحد منهما أن يستبد بأمر منهما دون صاحبه فنظر عمر لتلك الأموال واحتاط فيها بأن فوضها إليهما معاً فلما تنازعاها قال لهما إما تلياها جميعا على الشرط الذي عقدته لكما في أصل التولية وإما أن ترداها إلي فأتولاها بنفسي وأجريها على سبلها التي كانت تجري أيام أبي بكر رضي الله عنه. قلت وروي أن علياً رضي الله عنه غلب عليها العباس بعد ذلك فكان يليها أيام حياته ويدل على صحة التأويل الذي ذهب إليه أبو داود أن منازعة علي رضي الله عنه عباساً لم تكن من قبل أنه كان يراها ملكا وميراثا أن الأخبار لم تختلف عن علي رضي الله عنه أنه لما أفضت إليه الخلافة وخلص له الأمر أجراها على الصدقة ولم يغير شيثا من سبلها. وحدثني أبو عمر محمد بن عبد الواحد النحوي أخبرنا أبو العباس أحمد بن يحيى عن ابن الأعرابي قال كان أول خطبة خطبها أبو العباس السفاح في قرية يقال لها العباسية بالأنبار فلما افتتح الكلام وصار إلى ذكر الشهادة من الخطبة قام رجل من آل أبي طالب في عنقه مصحف فقال أذكرك الله الذي ذكرته الا أنصفتني من خصمي وحكمت بيني وبينه بما في هذا المصحف فقال له ومن ظالمك

قال أبو بكر الذي منع فاطمة فدك قال فقال له وهل كان بعده أحد قال نعم، قال من قال عمر، قال وأقام على ظلمكم قال نعم قال وهل كان بعده أحد قال نعم، قال من قال عثمان قال وأقام على ظلمكم قال نعم، قال وهل كان بعده أحد قال نعم قال من قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب قال وأقام على ظلمكم قال فأسكت الرجل وجعل يلتفت إلى ما وراءه يطلب مخلصا فقال له والله الذي لا إله إلاّ هو لولا أنه مقام قمته ثم أني لم أكن تقدمت إليك في هذا قبل لأخذت الذي فيه عيناك أقعد وأقبل على الخطبة. قوله مفضيا إلى رماله يريد أنه كان قاعداً عليه من غير فراش ورمالة ما يرمل وينسج به من شريط ونحوه. وقوله دف أهل أبيات من قومك معناه أقبلوا ولهم دفيف وهو مشي سريع في مقاربة خطو يريد أنهم وردوا المدينة لضر أصابهم في بلادهم، وفي قول عمر إن الله خص رسوله صلى الله عليه وسلم بخاصة لم يخص بها أحدا من الناس وتلا على أثره الآية دليل على أن أربعة أخماس الفيء كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة في حياته. واختلفوا فيمن هي له بعده وأين تصرف وفيمن توضع فقال الشافعي فيها قولان أحدهما أن سبيلها سبيل المصالح فتصرف إلى الأهم فالأهم من مصالح المسلمين ويبدأ بالمقاتلة أولاً فيعطون قدر كفايتهم ثم يبدأ بالأهم فالأهم من المصالح لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذه لفضيلته وليس لأحد من الأئمة بعده تلك الفضيلة فليس لهم أن يمتلكوها. والقول الآخر أن ذلك للمقاتلة كله يقسم فيهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان يأخذه لماله من الرعب والهيبة في طلب العدو والمقاتلة هم القائمون مقامه في إرهاب العدو وإخافتهم.

وكان مالك يرى أن الفيء للمصالح قال وكذلك كان في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وحكي عنه أنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يملك فيه مالا أو كان لا يصح منه الملك. قلت وهذا القول أن صح عنه فهو خطأ، وقال بعض أهل العلم الفيء للأئمة بعده. قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا إسماعيل بن إبراهيم أخبرنا أيوب عن الزهري قال قال عمر رضي الله عنه {وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب} [الحشر: 6] قال الزهري قال عمر هذه لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة قرى عربية فدك وكذا وكذا {ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} [الحشر: 7] و {للفقراء الذين أخرجوا من ديارهم وأ موالهم والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم والذين جاؤوا من بعدهم} [الحشر: 8] فاستوعيت هذه الناس فلم يبق أحد من المسلمين إلاّ له فيها حق أو قال حظ إلاّ بعض من تملكون من أرقائكم. قلت مذهب عمر في تأويل هذه الآيات الثلاث في سورة الحشر أن تكون منسوقة على الآية الأولى منها وكان رأيه في الفيء أن لا يخمس كما تخمس الغنيمة لكن تكون جملته لجملة المسلمين مرصدة لمصالحهم على تقديم كان يراه وتأخير فيها وترتيب لها، وإليه ذهب عامة أهل الفتوى غير الشافعي فإنه كان يرى أن يخمس الفيء فيكون أربعة أخماسه لأرزاق المقاتلة والذرية وفي الكراع والسلاح وتقوية أمر الدين ومصالح المسلمين ويقسم خمسه على خمسة أقسام كما قسم سبى الغنيمة واحتج بقوله تعالى {ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} .

وكان يذهب إلى أن ذكر الله إنما وقع في أول الآية على سبيل التبرك بالافتتاح باسمه وإنما هو سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحقيقة، وإلى هذا ذهب جماعة من أهل التفسير، قال الشعبي وعطاء بن أبي رباح خمس الله وخمس رسوله واحد، وقال قتادة فإن لله خمسه قال هو لله، ثم بين قسم الخمس خمسة أخماس، وقال الحسن بن محمد بن الحنفية هذا مفتاح الكلام لله الدنيا والآخرة. قلت والذي ذهب إليه الشافعي هو الظاهر في التلاوة وقد اعتبره بآية الغنيمة وهو قوله {واعلموا إنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} [الأنفال: 41] فحمل حكم الفيء عليها في إخراج الخمس منه ويشهد له على ذلك أمران أحدهما أن العطف الآخر على الأول لا يكون إلاّ ببعض حروف النسق وحرف النسق معدوم في ابتداء الآية الثانية وهي قوله {للفقراء المهاجرين} [الحشر: 8] وإنما هو ابتداء كلام، والمعنى الآخر أن المسمين في الآية الآخرة وهي قوله {والذين جاؤوا من بعدهم} [الحشر: 10] لو كانوا داخلين في أهل الفيء لوجب أن يعزل حقوقهم ويترك إلى أن يلحقوا كما يفعل ذلك بالوارث الغائب والشريك الظاعن ويحفظ عليه حتى يحضر ولم يكن يجوز أن يستأثر الحاضرون بحقوق الغُيّب إلاّ أن عمر بن الخطاب أعلم بحكم الآية وبالمراد بها، وقد تابعه عامة الفقهاء ولم يتابع الشافعي على ما قاله فالمصير إلى قول الصحابي وهو الإمام العدل المأمور بالاقتداء به في قوله صلى الله عليه وسلم: اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر أولى وأصوب. وما أحسب الشافعي عاقه عن متابعة عمر في ذلك إلاّ ما غلبه من ظاهر الآية وأعوزه من دلالة حرف النسق فيما يعتبر من حق النظم والله أعلم.

وقوله إلاّ بعض من تملكون من أرقائكم يتأول على وجهين أحدهما ما ذهب إليه أبو عبيد فانه روى حديثا عن يحيى ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن الحسن بن محمد بن علي عن مخلد الغفاري أن مملوكين أو ثلاثة لبني غفار شهدوا بدرا فكان عمر يعطي كل رجل منهم في كل سنة ثلاثة آلاف درهم. قال أبوعبيد فاحسب أنه إنما أراد هؤلاء المماليك البدريين بمشهدهم بدرا، ألا ترى أنه خص ولم يعم وقال غيره بل أراد به جميع المماليك وإنما استثنى من جملة المسلمين بعضاً من كل فكان ذلك منصرفا إلى جنس المماليك وقد يوضع البعض في موضع الكل كقول لبيد: * أو يعتلق بعض النفوس حمامها * يريد النفوس كلها. قال أبو داود: حدثنا حجاج بن أبي يعقوب حدثني يعقوب بن إبراهيم بن سعد حدثنا أبي عن صالح عن ابن شهاب قال أخبرني عروة أن عائشة أخبرته بهذا الحديث وذكرت قصة فاطمة وطلبها من أبي بكر ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت فأبى أبو بكر عليها وقال لست تاركا شيئا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل به إلاّ عملت به إني أخشى إن تركت شيئا من أمره أن أزيغ، قال فأما صدقته بالمدينة فدفعها عمر إلى علي والعباس فغلب عليّ عليها، وأما خيبر وفدك فأمسكهما عمر وقال هما صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانتا لحقوقه التي تعروه ونوائبه وأمرهما إلى من ولي الأمرقال فهما على ذلك إلى اليوم. وقوله تعروه أي تغشاه وتنتابه يقال عراني ضيف وعراني هم أي نزل بي.

ومن باب بيان مواضع قسم الخمس

قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن الجراح حدثنا جرير عن المغيرة قال جمع عمر بن عبد العزيز بني مروان حين استخلف فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت له فدك فكان ينفق منها ويعود منها على صغير بني هاشم ويزوج فيه أيمّهم وأن فاطمة سألته أن يجعلها لها فأبى فكانت كذلك في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مضى لسبيله فلما أن ولي عمر عمل فيها بمثل ما عملا حتى مضى لسبيله ثم أقطعها مروان ثم صارت لعمر بن عبد العزيز، قال عمر رأيت أمراً منعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة ليس لي بحق وإني أشهدكم أني قد رددتها على ما كانت. قلت إنما أقطعها مروان في أيام حياة عثمان بن عفان وكان ذلك مما عابوه وتعلقوا به عليه، وكان تأويله في ذلك والله أعلم ما بلغه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله إذا أطعم الله نبيا طعمة فهي للذي يقوم من بعده وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل منها وينفق على عياله قوت سنة ويصرف الباقي مصرف الفيء فاستغنى عثمان عنها بماله فجملها لأقربائه ووصل بها أرحامهم وقد روى أبو داود هذا الحديث. قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا محمد بن الفضيل عن الوليد بن جُميع، عَن أبي الطفيل قال جاءت فاطمة إلى أبي بكر رضي الله عنهما تطلب ميراثها من النبي صلى الله عليه وسلم قال فقال أبو بكر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله إذا أطعم نبيا طعمة فهي للذي يقوم من بعده. قلت وفيه حجة لمن ذهب إلى أن أربعة أخماس الفيء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم للأئمة بعده. ومن باب بيان مواضع قسم الخمس وسهم ذي القربى قال أبو داود: حدثنا عبيد الله بن عمر بن ميسرة حدثنا عبد الرحمن بن مهدي

عن عبد الله بن المبارك عن يونس بن يزيد عن الزهري أخبرني سعيد بن المسيب أخبرني جبير بن مطعم أنه جاء هو وعثمان بن عفان يكلمان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قسم من الخمس في بني هاشم وبني المطلب فقلت يا رسول الله قسمت لاخواننا بني المطلب ولم تعطنا شيئا، يَعني بني عبد شمس وبني نوفل وقرابتنا وقرابتهم منك واحدة فقال النبي صلى الله عليه وسلم إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد، قال جبير ولم يقسم لبني عبد شمس ولا لبني نوفل من ذلك الخمس كما قسم لبني هاشم وبني المطلب، قال وكان أبو بكر يقسم الخمس نحو قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غير أنه لم يكن يعطي قربى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيهم، قال وكان عمر بن الخطاب يعطيهم منه وعثمان بعده. قلت قوله بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد يريد به الحلف الذي كان بين بني هاشم وبين بني المطلب في الجاهلية، وفي غير هذه الرواية أنه قال إنا لم نفترق في جاهلية ولا في إسلام، وكان يحيى بن معين يرويه إنما بنو هاشم وبن المطلب سيّ واحد بالسين غير المعجمة أي مثل سواء يقال هذا سيّ هذا أي مثله ونظيره. وفي الحديث دليل على ثبوت سهم ذي القربى لأن عثمان وجبيرا إنما طالباه بالقرابة، وقد عمل به الخلفاء بعد عمر وعثمان، وجاء في هذه الرواية أن أبا بكر لم يقسم لهم، وقد جاء في غير هذه الرواية عن علي أن أبا بكر قسم لهم وقد رواه أبو داود. قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا ابن نمير حدثنا هاشم بن البريد حدثنا حسين بن ميمون عن عبد الله بن عبد الله عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: سمعت عليا يقول اجتمعت أنا والعباس وفاطمة وزيد بن حارثة عند النبي صلى الله عليه وسلم

فقلت يا رسول الله إن رأيت أن توليني حقنا من هذه الخمس في كتاب الله تعالى فأقسمه في حياتك كي لا ينازعني أحد بعدك فافعل. قال ففعل ذلك فقسمته حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ولانيه أبو بكر حتى كان آخر سنة من سني عمر فإنه أتاه مال كثير فعزل حقنا ثم أرسل إليَّ فقلت بنا عنه العام غنى وبالمسلمين إليه حاجة فأردده عليهم، ثم لم يدعني إليه أحد بعد عمر فلقيت العباس بعدما خرجت من عند عمر فقال يا علي حرمتنا الغداة شيئاً لا يرد علينا أبداً وكان رجلا داهياً. قلت فقد روي عن علي رضي الله عنه أن أبا بكر كان يقسم فيهم وكذلك عمر إلى أن تركوا حقهم منه فدل ذلك على ثبوت حقهم. وقد اختلف العلماء في ذلك فقال الشافعي حقهم ثابت وكذلك مالك بن أنس وقال أصحاب الرأي لا حق لذي القربى وقسموا الخمس في ثلاثة أصناف. وقال بعضهم إنما أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني المطلب للنصرة في القرابة ألا تراه يقول إنا لم نفترق في جاهلية ولا إسلام فنبه على أن سبب الاستحقاق النصرة والنصرة قد انقطعت فوجب أن تنقطع العطية. قلت هذا المعنى بمفرده لا يصح على الاعتبار ولو كان ذلك من أجل النصرة حسب لكان بنو هاشم أولى الناس بأن لا يعطوا شيئا فقد كانوا ألباً واحداً عليه وإنما هو عطية باسم القرابة كالميراث، وقد قيل إنما أعطوه عوضا من الصدقة المحرمة عليهم وتحريم الصدقة باق فليكن السهم باقياً. قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عنبسة حدثنا يونس عن ابن شهاب أخبرني عبد الله بن الحارث بن نوفل الهاشمي أن عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث ابن عبد المطلب أخبره أن أباه ربيعة بن الحارث وعباس بن عبد المطلب قالا

لعبد المطلب بن ربيعة والفضل بن عباس ائتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولا له يا رسول الله قد بلغنا من السن ما ترى وأحببنا أن نتزوج وأنت يا رسول الله أبر الناس وأوصلهم وليس عند أبوينا ما يصَدِقان عنا فاستعملنا يا رسول الله على الصدقات فلنؤد إليك ما يؤدي العمال ولنُصب ما كان فيها من مرفق، قال فأتى علي بن أبي طالب ونحن على تلك الحال فقال لنا ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال والله لا يستعمل منكم أحدا على الصدقة، فقال له ربيعة هذا من أمرك قد نلت صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم نحسدك عليه فألقى علي رضي الله عنه رداءه ثم اضطجع عليه فقال أنا أبو الحسن القَرْم والله لا أريم حتى يرجع إليكما ابناكما بحَوْر ما بعثتما به إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال عبد المطلب فانطلقت أنا والفضل حتى نوافق صلاة الظهر قد قامت فصلينا مع الناس ثم أسرعت أنا والفضل إلى باب حجرة النبي صلى الله عليه وسلم وهو يومئذ عند زينب بنت جحش فقمنا بالباب حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بأذني وأذن الفضل فقال اخرجا ما تصرران ثم دخل فأذن لي وللفضل فدخلنا فتواكلنا الكلام قليلاً ثم كلمته أو كلمه الفضل قد شك في ذلك عبد الله فقال كلمه بالذي أمرنا به أبوانا فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة ورفع بصره قبل سقف البيت حتى طال علينا أنه لا يرجع إلينا شيئا حتى رأينا زينب تلمع من وراء الحجاب بيدها تريد أن لا نعجل وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمرنا، ثم خفض رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه فقال لنا إن هذه الصدقة إنما هي أوساخ الناس وأنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد ادعوا لي نوفل بن الحارث فدعي له نوفل، فقال يا نوفل أنكح عبد المطلب فأنكحني نوفل ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم ادعوا لي مَحْمية بن جزء وهو رجل من بني زبيد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمله على الأخماس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمحمية أنكح الفضل فأنكحه،

ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قم فاصدق عنهما من الخمس كذا وكذا. قوله أنا أبو الحسن القرم هو في أكثر الروايات القوم وكذلك رواه لنا ابن داسة بالواو وهذا لا معنى له وإنما هو القرم وأصل القرم في الكلام فحل الإبل ومنه قيل للرئيس قرم يريد بذلك أنه المقدم في الرأي والمعرفة بالأمور فهو فيهم بمنزلة القرم في الإبل. وقوله بحور ما بعثتما به أي بجواب المسألة التي بعثتما فيها وبرجوعها؛ وأصل الحور الرجوع يقال كلمته فما أحار إليَّ جواباً، أي ما رد إلي جواباً. وقوله اخرجا ما تصرران يريد ما تكتمان أو ما تضمران من الكلام وأصله من الصرر وهو الشد والإحكام. وقوله فتواكلنا الكلام معناه أن كل واحد منا قد وكل الكلام إلى صاحبه يريد أن يبتدئ الكلام صاحبه دونه. وقوله قم فاصدق عنهما من الخمس أى من حصته من الخمس الذي هو سهم النبي صلى الله عليه وسلم وكان يأخذ لطعامه ونفقة أهله قدر الكفاية ويرد الباقي منه على يتامى بني هاشم وأياماهم ويضعه حيث أراه الله من وجوه المصلحة. وهو معنى قوله مالي مما أفاء الله عليّ إلاّ الخمس وهو مردود عليكم، وقد يحتمل أن يكون إنما أمره أن يسوق المهر عنهما من سهم ذي القربى وهو من جملة الخمس والله أعلم. قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عنبسة بن خالد حدثنا يونس عن ابن شهاب أخبرني علي بن الحسين أن حسين بن علي أخبره أن عليا رضي الله عنه قال كانت لي شارف من نصيبي من المغنم يوم بدر وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاني

شارفا من الخمس يومئذ، فلما أردت أن أبني بفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم واعدت رجلا صواغاً من بني قينقاع أن يرتحل معي فنأتي بأذخر أردت أن أبيعه من الصواغين فنستعين به في وليمة عرسي فبينا أنا أجمع لشارفي متاعا من الأقتاب والغرائر والحبال وشارفاي مناخان إلى جنب حجرة رجل من الأنصار أقبلت حين جمعت ما جمعت فإذا شارفاي قد اجتُبْت أسنمتهما وبقرت خواصرهما وأخذ من أكبادهما فلم أملك عيني حين رأيت ذلك المنظر فقلت من فعل هذا قالوا فعله حمزة بن عبد المطلب وهو في هذا البيت في شرب من الأنصار غنته قينته وأصحابه فقالت في غنائها، ألا يا حمز للشُرُف النواء، فوثب إلى السيف فاجتب أسنمتهما وبقر خواصرهما وأخذ من أكبادهما، قال علي رضي الله عنه فانطلقت حتى أدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده زيد بن حارثة، قال فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لقيت فقال مالك فقلت يا رسول الله ما رأيت كاليوم عدا حمزة على ناقتي فاجتب أسنمتهما وبقر خواصرهما وها هو ذا في بيت معه شرب قال فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بردائه فارتدى به ثم انطلق يمشي فاتبعته أنا وزيد بن حارثة حتى جاء إلى البيت الذي فيه حمزة فاستأذن له فإذا هم شَرب فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يلوم حمزة فيما فعل، فإذا حمزة ثمل محمرة عيناه فنظر حمزة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم صعَّد النظر فنظر إلي سرته، ثم صعد النظر فنظر إلى ركبته، ثم صعد النظر فنظر إلى وجهه، ثم قال حمزة وهل أنتم إلاّ عبيد لآبائي فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ثمل فنكص على عقبه القهقرى فخرج وخرجنا معه.

قلت الشارف المسنة من النوق، وقولها (ألا يا حمز للشرف النواء) فإن الشرف جمع الشارف والنواء السمان يقال نوت الناقة تنوي فهي ناوية وهي نواء قال الشاعر: لطال ما جررتكن جرا ... حتى نوى الأعجف واستمرا وتمام البيت: ألا يا حمز للشرف النواء ... وهن معقلات بالفِناء في أبيات تستدعيه فيها نحرهن وأن يطعم لحومهن أصحابه وأضيافه فهزته أريحية الشراب والسماع فكان منه ذلك الصنيع؛ والثمل السكران. وقد احتج يهذا الحديث بعض من ذهب إلى إبطال طلاق السكران وزعم أن أقواله التي تكون منه في حال السكر لا حكم لها قال ولو كان يلزمه أقواله لكان حمزة حين خاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم بما خاطبه به من القول خارجا من الدين. قلت وقد ذهب على هذا القائل أن هذا إنما كان من حمزة قبل تحريم الخمر لأن حمزة قتل يوم أحد وكان تحريم الخمر بعد غزوة أحد فكان معذورا في قوله غير مؤاخذ به وكان الحرج عنه زائلا إذ كان سببه الذي دعاه إليه مباحا كالنائم والمغمى عليه يجري على لسانه الطلاق والقذف فلا يؤاخذ بهما، فأما وقد حرمت الخمر حتى صار شاربها مؤاخذاً بشربها محدودا فيها فقد صار كذلك مؤاخذا بما يجري على لسانه من قول يلزمه به حكم كالطلاق والقذف وسائر جنايات اللسان، وقد أجمعت الصحابة على أن حد السكران حد المفتري قالوا وذلك لأنه إذا سكر هذى فإذا هذى افترى فألزموه حد المفتري. وفي ذلك بيان أنهم جعلوه مؤاخذاً بأقواله معاقبا بجناياته وإنما توقفوا عن قتله إذا ارتد في حال السكر استيناء به ليتوب في صحوه في حال يعقل ما يقوله ويصح منه ما يعتقده من التوبة وهو لو ارتد صاحيا لاستتيب ولم يقتل في فوره

فكذلك إذا ارتد وهو سكران. وقد اختلف العلماء في أقوال السكران، فقال مالك والثوري والأوزاعي والشافعي طلاق السكران لازم وهو قول أصحاب الرأي، وقد روي ذلك عن سعيد بن المسيب وعطاء والحسن والشعبي والنخعي وابن سيرين ومجاهد، وقال ربيعة بن أبي عبد الرحمن والليث بن سعد وإسحاق بن راهويه وأبو ثور والمزني طلاقه غير لازم، وقد روي ذلك عن عثمان بن عفان وابن عباس وهو قول القاسم بن حد وعمر بن عبد العزيز وطاوس. ووقف أحمد بن حنبل عن الجواب في هذه المسألة وقال لا أدري. قال أبو داود: حدثنا يحيى بن خلف حدثنا عبد الأعلى عن سعيد الجريري، عَن أبي الورد عن ابن أعبد قال: قال لي عليّ ألا أحدثك عني وعن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت من أحب أهله إليه قلت بلى قال أنها جرت بالرحى حتى أثر في يدها واستقت بالقربة حتى أثرت في نحرها وكنست البيت حتى اغبرت ثيابها فأتى النبي صلى الله عليه وسلم خدم فقلت لو أتيت أباك فسألتيه خادما فأتته فوجدت عنده حُدّاثاً فرجعت فأتته من الغد فقال ما كان حاجتك فسكتت فقلت أنا أحدثك يا رسول الله جرت بالرحى حتى أثر في يدها وحملت القربة حتى أثرت في نحرها، فلما أن جاءك الخدم أمرتها أن تأتيك فتستخدمك خادما يقيها حر ما هي فيه، قال اتقي الله يا فاطمة وأدي فريضة ربك واعملي عمل أهلك وإذا أخذت مضجعك فسبحي ثلاثا وثلاثين، واحمدي ثلاثا وثلاثين، وكبري أربعا وثلاثين فتلك مائة فهي خير لك من خادم قالت رضيت عن الله وعن رسوله. قلت فيه من الفقه أن المرأة ليس لها أن تطالب زوجها بخادم كما لها أن تطالبه

ومن باب سهم الصفي

بالنفقة والكسوة وإنما لها عليه أن يكفيها الخدمة حسب ولو كان ذلك واجبا لها عليه لأشبه أن يلزمه رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً أو يخبره من جه الحكم في ذلك وإن كانت الحال بين علي وفاطمة ألطف من أن يجري بينهما المناقشة في الحقوق الواجبة على الزوجين. قال أبو داود: حدثنا محمد بن عيسى حدثنا عنبسة بن عبد الواحد القرشي حدثنا الدخيل بن أياس بن نوح بن مُجَّاعة عن هلال بن سر اج بن مجاعة عن أبيه عن جده مجاعة أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم يطلب دية أخيه قتلته بنو سدوس من بني ذهل فقال النبي صلى الله عليه وسلم لو كنت جاعلاً لمشرك دية جعلتها لأخيك ولكن سأعطيك منها عقبى فكتب له النبي صلى الله عليه وسلم بمائة من الإبل من أول خمس يخرج من مشركي بني ذهل. قلت معنى العقبى العوض ويشبه أن يكون إنما أعطاه ذلك تألفاً له أو لمن وراءه من قومه على الإسلام. ومن باب سهم الصفيّ قال أبو داود: حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا قرة قال سمعت يزيد بن عبد الله قال كنا بالمربد فجاء رجل أشعث الرأس بيده قطعة أديم أحمر فقلنا كأنك من أهل البادية؛ قال أجل قلنا ناولنا هذه القطعة الأديم التي في يدك فناولناها فقرأنا ما فيها فإذا فيها: من محمد رسول الله إلى بني زهير بن أُقيش أنكم إن شهدتم أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله وأقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وأديتم الخمس من المغنم وسهم النبي وسهم الصفيّ أنتم آمنون بأمان الله ورسوله، فقلنا من كتب لك هذا الكتاب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. قلت أما سهم النبي صلى الله عليه وسلم فإنه كان يسهم له كسهم رجل ممن شهد الوقعة

ومن باب خبر النضير

حضرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أوغاب عنها. وأما الصفي فهو ما يصطفيه من عرض الغنيمة من شيء قبل أن يخمس عبد أو جارية أو فرس أو سيف أو غيرها وكان النبي صلى الله عليه وسلم مخصوصا بذلك مع الخمس الذي له خاصة. ومن باب خبر النضير قال أبو داود: حدثنا محمد بن داود بن سفيان حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الأنصار أن كفار قريش كتبوا إلى اليهود أنكم أهل الحلقة والحصون وأنكم لتقاتلن صاحبنا أو لنفعلن كذا ولا يحول بيننا وبين خَدم نسائكم شيء فلما بلغ كتابهم النبي صلى الله عليه وسلم أجمعت بنو النضير بالغدر فأرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أخرج إلينا في ثلاثين رجلا من أصحابك وليخرج منا ثلاثون حبرا نلتقي بمكان المنصف فيسمعوا منك فإن صدقوك وآمنوا بك آمنا بك، فلما كان الغد غدا عليهم بالكتائب فحصرهم وذكر القصة. قوله إنكم أهل الحلقة والحصون يريد بالحلقة السلاح، وقيل أراد بها الدرع لأنها حَلق مسلسلة وخَدَم النساء خلاخيلهن واحدتها خَدَمة والمخدّم موضع الخلخال من الرجل والكتائب الجيوش المجتمعة واحدتها كتيبة ومنها الكتاب المكتوب، ومعناه الحروف المضمومة بعضها إلى بعض. ومن باب حكم أرض خيبر قال أبو داود: حدثنا هارون بن زيد بن أبي الزرقاء حدثنا أبي حدثنا حماد بن سلمة عن عبيد الله بن عمر قال أحسبه عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنه

أن النبي صلى الله عليه وسلم قاتل أهل خيبر فغلب على الأرض والنخل وألجأهم إلى قصرهم فصالحوه على أن لرسول الله الصفراء والبيضاء والحلقة ولهم ما حملت ركابهم على أن لا يكتموا ولا يغيبوا شيئا فان فعلوا فلا ذمة لهم ولا عهد فغيبوا مَسْكاً لحُيي بن أخطب وقد كان قتل قبل خيبر كان احتمله معه يوم بني النضير حين أجليت النضير فيه حليهم قال فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لسَعنة أين مَسك حُيي بن أخطب قال أذهبته الحروب والنفقات فوجدوا المسك فقتل ابنَ أبي الحقيق وسبى نساءهم وذراريهم وأراد أن يجليهم فقالوا يا محمد دعنا نعمل في هذه الأرض ولنا الشطر ما بدا لك ولكم الشطر، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي كل امرأة من نسائه ثمانين وسقا من تمر وعشرين وسقا من شعير. قلت مسك حيي بن أخطب ذخيرة من صامت وحليّ كانت له وكانت تدعى مسك الحمل ذكروا أنها قومت عشرة آلاف دينار فكانت لا تزف امرأة إلاّ استعاروا لها ذلك الحلي وكان شارطهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا يكتموه شيئا من الصفراء والبيضاء فكتموه ونقضوا العهد وظهر عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان من أمره فيهم ما كان. قال أبو داود: حدثنا الربيع بن سليمان المؤذن حدثنا أسد بن موسى حدثنا يحيى بن زكرياء حدثني سفيان عن يحيى بن سعيد عن بُشير بن يسار عن سهل بن أبي حثمة قال قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر نصفين نصفا لنوائبه ولحاجته ونصفا بين المسلمين قسمها بينهم على ثمانية عشر سهماً. قلت فيه من الفقه أن الأرض إذا غنمت قسمت كما يقسم المتاع، والخُرثي

لا فرق بينهما وبين غيرهما من الأموال. والظاهر من أمر خيبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فتحها عنوة وإذا كانت عنوة فهي مغنومة، وإذا صارت غنيمة فإنما حصته من الغنيمة خمس الخمس وهو سهمه الذي سماه الله له في قوله {واعلموا إنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} [الأنفال: 41] فكيف يكون له النصف منها أجمع حتى يصرفه في حوائجه ونوائبه على ظاهر ما جاء في هذا الحديث. قلت وإنما يشكل هذا على من لا يتتبع طرق الأخبار المروية في فتوح خيبر حتى يجمعها ويرتبها فمن فعل ذلك تبين أمر صحة هذه القسمة من حيث لا يشكل معناه، وبيان ذلك أن خيبر كانت لها قرى وضياع خارجة عنها منها الوطيحة والكتيبة والشق والنطاة والسلاليم وغيرها من الأسماء فكان بعضها مغنوما وهو ما غلب عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم كان سبيلها القسم، وكان بعضها فيئا لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب فكان خاصا لرسول الله يضعه حيث أراه الله من حاجته ونوائبه ومصالح المسملين فنظروا إلى مبلغ ذلك كله فاستوت القسمة فيها على النصف والنصف وقد بين ذلك الزهري. قال أبو داود: قرئ على الحارث بن مسكين وأنا شاهد أخبركم ابن وهب حدثني مالك عن ابن شهاب أن خيبر كان بعضها عنوة وبعضها صلحاً والكتيبة أكثرها عنوة وفيها صلح، قلت لمالك وما الكتيبة قال أرض خيبر وهي أربعون ألف عذق. قلت العَذق النخلة مفتوحة العين والعِذق بكسرها الكباسة.

ومن باب خبر مكة

ومن باب خبر مكة قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا يحيى بن آدم حدثنا ابن إدريس عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح جاءه العباس بن عبد المطلب بأبي سفيان بن حرب فأسلم بمرّ الظهران، فقال له العباس يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يحب هذا الفخر فلو جعلت له شيئا، فقال نعم من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن. قلت فيه من الفقه أن المشرك إذا خرج من دار الكفر وأسلم وبقيت زوجته في دار الكفر لم تسلم فإن الزوجية بينهما لا تنفسخ ما اجتمعا على الإسلام قبل انقضاء العدة، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن ظهر على مكة بعد وأسلم أبو سفيان بمرّ الظهران وبقيت هند بمكة وهي دار كفر بعد ثم اجتمعا في الإسلام قبل انقضاء العدة فكانا على نكاحهما. واحتج بقوله من دخل دار أبي سفيان فهو آمن من زعم أن فتح مكة كان عنوة لا صلحا وأن للإمام إذا ظهر على قوم كفار أن يؤمن من شاء منهم فيمنَّ عليه ويقتل من شاء منهم وله أن يترك الأرض في أيدي أهلها لا يقسمها بين الغانمين وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك أرض مكة ودورها في أيدي أهلها ولم يقسمها. وممن قال أنه فتحها عنوة الأوزاعي وأبو يوسف وأبو عبيد القاسم بن سلام إلاّ أن أبا عبيد زعم أنه منّ على أهلها فردها عليهم ولم يقسمها ولم يجعلها فيئا، وكان هذا خاصا لرسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة ليس لغيره من الأئمة أن يفعل ذلك في شيء من البلدان غيرها وذلك أنها مسجد لجماعة المسلمين وهي مناخ من سبق.

وأجور بيوتها لا تطيب ولا تباع رباعها وليس هذا لغيرها من البلدان. وقال الشافعي فتحت مكة صلحا وقد سبق لهم أمان فمنهم من أسلم قبل أن يظهر لهم على شيء، ومنهم من لم يسلم وصار إلى قبول الأمان بالقاء السلاح ودخول داره فكيف يغنم مال مسلم أو مال من بذل له الأمان. قال أبو داود: حدثنا مسلم بن إبراهيم بن مسكين حدثنا ثابت البناني عن عبد الله بن رباح الأنصاري، عَن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة سرح الزبير بن العوام وأبا عبيدة الجراح وخالد بن الوليد على الخيل فقال يا أبا هريرة اهتف بالأنصار اسلكوا هذا الطريق فلا يشرفن لكم أحد إلاّ انمتموه فنادى مناد لا قريش بعد اليوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن، فعمد صناديد قريش فدخلوا الكعبة فغص بهم وطاف النبي صلى الله عليه وسلم وصلى خلف المقام ثم أخذ بجنبتي الباب فخرجوا فبايعوا النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام. قلت في قوله لا يشرفن لكم أحد إلاّ انمتموه دليل على أنه إنما عقد لهم الأمان على شرط أن يكفوا عن القتال وأن يلقوا السلاح فإن تعرضوا له أولأصحابه زال الأمان وحل دماؤهم له. وجملة الأمر في قصة فتح مكة أنه لم يكن أمراً منبرماً في أول ما بذل الأمان لهم ولكنه كان أمرا مظنوناً مترددا بين أن يقبلوا الأمان ويمضوا على الصلح وبين أن يحاربوا فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم أهبة القتال ودخل مكة وعلى رأسه المغفر إذ لم يكن من أمرهم على يقين ولا من وفائهم على ثقة فلذلك عرض الالتباس في أمرها والله أعلم.

ومن باب خبر الطائف

وقد اختلف الناس في ملك دور مكة ورباعها وكراء بيوتها فروي عن عمر بن الخطاب أنه ابتاع دار السجن بأربعة آلاف درهم وأباح طاوس وعمرو بن دينار بيع رباع مكة وكراء منازلها، وإليه ذهب الشافعي واحتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم وهل ترك لنا عقيل منزلاً، وذلك أن عقيلا قد كان باع منازل آبائه فرأى النبي صلى الله عليه وسلم بيعها ماضيا. وقالت طائفة لا يحل بيع دور مكة ولا كراؤها، وروي ذلك عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وروي عن عطاء وعمر بن عبد العزيز النهي عن كراء بيوتها. وقال أحمد بن حنبل إني لأتوقى الكراء، يَعني أجور بيوت مكة، وأما الشراء فقد اشترى عمر دار السجن. وقال إسحاق كل شيء من دور مكة فإن بيعها وشراءها وإجارتها مكروهة ولكن الشراء أهون. ومن باب خبر الطائف قال أبو داود: حدثنا أحمد بن علي بن سويد حدثنا أبو داود عن حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن عن عثمان بن أبي العاص أن وفد ثقيف لما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنزلهم المسجد ليكون أرق لقلوبهم، فاشترطوا أن لا يحشروا وأن لا يعشروا ولا يجبّوا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لكم أن لا تحشروا ولا تعشروا ولا خير في دين ليس فيه ركوع. قوله لا تحشروا، معناه الحشر في الجهاد والنفير له وقوله وأن لا تعشروا معناه الصدقة أي لا يؤخذ عشر أموالهم وقوله أن لا يجبوا معناه لا يصلوا وأصل التجبية أن يكب الإنسان على مقدّمه ويرفع مؤخره. قلت ويشبه أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم إنما سمح لهم بالجهاد والصدقة لأنهما لم يكونا

ومن باب إيقاف أرض السواد وأرض العنوة

واجبين في العاجل، لأن الصدقة إنما تجب بحلول الحول، والجهاد إنما يجب لحضور العدو، فأما الصلاة فهي راهنة في كل يوم وليلة في أوقاتها الموقوتة ولم يجز أن يشترطوا تركها، وقد سئل جابر بن عبد الله عن اشتراط ثقيف أن لا صدقة عليها ولا جهاد، فقال علم أنهم سيتصدقون ويجاهدون إذا أسلموا. وفي هذا الحديث من العلم أن الكافر يجوز له دخول المسجد لحاجة له فيه أو للمسلم إليه. ومن باب إيقاف أرض السواد وأرض العنوة قال أبو داود: حدثنا أحمد بن يونس حدثنا زهير حدثنا سهيل بن أبي صالح عن أبيه، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم منعت العراق قفيزها ودرهمها ومنعت الشام مديها ودينارها، ومنعت مصر أردّبها ودينارها، ثم عدتم من حيث بدأتم قالها زهير ثلاث مرات شهد على ذلك لحم أبي هريرة ودمه. قلت المدي مكيال أهل الشام، يقال أنه يسع خمسة عشر أو أربعة عشر مكوكا، والأردب مكيال لأهل مصر ويقال أنه يسع أربعة وعشرين صاعا ومعنى الحديث أن ذلك كائن، وأن هذه البلاد تفتح للمسلمين ويوضع عليها الخراج شيئا مقدراً بالمكاييل والأوزان، وأنه سيمنع في آخر الزمان. وخرج الأمر في ذلك على ما قاله صلى الله عليه وسلم وبيان ذلك ما فعله عمر رضي الله عنه بأرض السواد فوضع على كل جريب عامر أو غامر درهما وقفيزاً؛ وقد روي عنه اختلاف في مقدار ما وضعه عليها، وفيه مستدل لمن ذهب إلى أن وجوب الخراج لا ينفي وجوب العشر، وذلك لأن العشر إنما يؤخذ بالقفزان والخراج نقداً إما دراهم وإما دنانير.

ومن باب أخذ الجزية

قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن همام بن منبه، قال هذا ما حدثنا به أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيما قرية أتيتموها وأقمتم فيها فسهمكم فيها، وأيما قرية عصت الله ورسوله فإن خمسها لله ولرسوله ثم هي لكم. قلت فيه دليل على أن أراضي العنوة حكمها حكم ساتر الأموال التي تغنم وأن خمسها لأهل الخمس وأربعة أخماسها للغانمين. ومن باب أخذ الجزية قال أبو داود: حدثنا العباس بن عبد العظيم حدثنا سهل بن محمد حدثنا يحيى بن أبي زائدة عن محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث خالد بن الوليد إلى أكيدر دومة فأخذوه فأتوا به فحقن له دمه وصالحه على الجزية. قلت أكيدر دومة رجل من العرب يقال هو من غسان ففي هذا من أمره دلالة على جواز أخذ الجزية من العرب كجوازه من العجم؛ وكان أبو يوسف يذهب إلى أن الجزية لا تؤخذ من عربي. وقال مالك والأوزاعي والشافعي، العربي والعجمي في ذلك سواء. وكان الشافعي يقول إنما الجزية على الأديان لا على الأنساب. ولولا أن نأثم بتمني الباطل وددنا أن الذي قال أبو يوسف كما قال وأن لا يجري على عربي صغار ولكن الله أجل في أعيننا من أن نحب غير ما قضى به. قال أبو داود: حدثنا النفيلي حدثنا أبو معاوية عن الأعمش، عَن أبي وائل عن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم لما وجهه إلى اليمن أمره أن يأخذ من كل حالم،

يَعني محتلما ديناراً أو عدله من المعافر ثياب تكون باليمن. قلت في قوله من كل حالم دليل على أن الجزية إنما تجب على الذكران منه دون الإناث، لأن الحالم عبارة عن الرجل فلا وجوب لها على النساء ولا على المجانين والصبيان. وفيه بيان أن الدينار مقبول من جماعتهم أغنياؤهم وأوساطهم في ذلك سواء لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه إلى اليمن وأمره بقتالهم ثم أمره بالكف عنهم إذا أعطوا ديناراً وجعل بذل الدينار حاقنا لدمائهم فكل من أعطاه فقد حقن دمه، وإلى هذا ذهب الشافعي، قال وإنما هو على كل محتلم من الرجال الأحرار دون العبيد. وقال أصحاب الرأي وأحمد بن حنبل يوضع على الموسر منهم ثمانية وأربعون درهما وأربعة وعشرون واثنا عشر. وقال أحمد على قدر ما يطيقون، قيل له فيزداد في هذا اليوم وينقص، قال نعم على قدر طاقتهم وعلى قدر ما يرى الإمام، وقد علق الشافعي القول في إلزام الفقير الجزية. قال أبو داود: حدثنا مصرف بن عمرو اليامي حدثنا يونس بن بكير حدثنا اسباط بن نصر الهمداني عن إسماعيل بن عبد الرحمن القرشي عن ابن عباس قال صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل نجران على ألفي حلة النصف في صفر والنصف في رجب يؤدونها إلى المسلمين وعارية ثلاثين درعاً وثلاثين فرسا وثلاثين بعيرا وثلاثين من كل صنف من أصناف السلاح يغزون فيها والمسلمون ضامنون لها حتى يردوها عليهم أن كان باليمن كيد ذات غدرة. قلت هذا وقع في كتابي، وفي رواية غيرها كيد ذات غدر، وهذا أصوب

ومن باب أخذ الجزية من المجوس

على أن لا تهدم لهم بيعة ولا يخرج لهم قس ولا يفتنون عن دينهم ما لم يحدثوا حدثاً أو يأكلوا الربا. قلت في هذا دليل على أن للإمام أن يزيد وينقص فيما يقع عليه الصلح من دينار وأكثر على قدر طاقتهم ووقوع الرضا منهم به. وفيه دليل على أن العارية مضمونة. وقوله كيد ذات غدر يريد الحرب. أخبرني أبو عمر قال: قال ابن الأعرابي الكيد الحرب، ومنه ما جاء في بعض الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج في بعض مغازيه فلم يلق كيداً أي حرباً. ومن باب أخذ الجزية من المجوس قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار سمع بجالة يحدث عمرو بن أوس وأبا الشعثاء كنت كاتباً لجزء بن معاوية عم الأحنف بن قيس إذ جاءنا كتاب عمر قبل موته بسنة اقتلوا كل ساحر وفرقوا بين كل ذي محرم من المجوس وانهوهم عن الزمزمة، فقتلنا في يوم ثلاث سواحر وفرقنا بين كل رجل من المجوس وحريمه في كتاب الله وصنع طعاماً كثيراً فدعاهم فعرض السيف على فخذه فأكلوا ولم يزمزموا وألقوا وقر بغل أو بغلين من الورق ولم يكن عمر أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر. قوله ألقوا وقر بغل أو بغلين من الورق يريد أخِلة من الورق يأكلون بها، قلت ولم يحملهم عمر على هذه الأحكام فيما بينهم وبين أنفسهم إذا خلوا، وإنما منعهم من إظهار ذلك للمسلمين وأهل الكتاب لا يكشفون عن أمورهم

ومن باب تعشير أهل الذمة إذا اختلفوا بالتجارات

التي يتدينون بها ويستعملونها فيما بينهم إلاّ أن يترافعوا إلينا في الأحكام. فإذا فعلوا ذلك فإن على حاكم المسلمين أن يحكم فيهم بحكم الله المنزل وإن كان ذلك في الأنكحة فرق بينهم وبين ذوات المحارم كما يفعل ذلك في المسلمين. وفي امتناع عمر من أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر دليل على أن رأي الصحابة أنه لا تقبل الجزية من كل مشرك كما ذهب إليه الأوزاعي وإنما تقبل من أهل الكتاب. وقد اختلف العلماء في المعنى الذي من أجله أخذت منهم الجزية فذهب الشافعي في أغلب قوليه إلى أنها إنما قبلت منهم لأنهم من أهل الكتاب، وروي ذلك عن علي بن أبي طالب. وقال أكثر أهل العلم انهم ليسوا من أهل الكتاب، وإنما أخذت الجزية من اليهود والنصارى بالكتاب ومن المجوس بالسنة. واتفق عامة أهل العلم على تحريم نكاح نسائهم وذبائحهم وسمعت ابن أبي هريرة يحكي عن إبراهيم الحربي أنه قال لم يزل الناس متفقين على تحريم نكاح المجوس حتى جاءنا خلاف من الكرخ، يَعني أبا ثور. ومن باب تعشير أهل الذمة إذا اختلفوا بالتجارات قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا أبو الأحوص حدثنا عطاء بن السائب عن حرب بن عبيد الله عن جده أبي أمه عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما العشور على اليهود والنصارى وليس على المسلمين عشور. قوله ليس على المسلمين عشور يريد عشور التجارات والبياعات دون عشور الصدقات.

ومن باب الذمي يسلم في بعض السنة

قلت والذي يلزم اليهود والنصارى من العشور هو ما صالحوا عليه وقت العقد فإن لم يصالحوا عليه فلا عشور عليهم ولا يلزمهم شيء أكثر من الجزية فأما عشور غلات أرضيهم فلا تؤخذ منهم، وهذا كله على مذهب الشافعي. وقال أصحاب الراي إن أخذوا منا العشورفي بلادهم إذا اختلف المسلمون إليهم في التجارات أخذناها منهم وإلا فلا. ومن باب الذمي يسلم في بعض السنة هل عليه الجزية قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن الجراح عن جرير عن قابوس عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس على مسلم جزية. قلت هذا يتأول على وجهين أحدهما أن معنى الجزية الخراج فلو أن يهوديا أسلم وكانت في يده أرض صولح عليها وضعت عن رقبته الجزية وعن أرضه الخراج وهو قول سفيان والشافعي، قال سفيان وإن كانت الأرض مما أخذ عنوة ثم أسلم صاحبها وضعت عنه الجزية وأقر على أرضه الخراج. والوجه الآخر أن الذمي إذا أسلم وقد مر بعض الحول لم يطالب بحصة ما مضى من السنة كما لا يطالب المسلم بالصدقة إذا باع الماشية قبل مضي الحول لأنها حق يجب باستكمال الحول. واختلفوا فيه إذا أسلم بعد استكمال الحول فقال أبو عبيد لا يستأدي الجزية لما مضى واحتج فيه بالأثر عن عمر بن الخطاب. وقال أبو حنيفة إذا مات أحد منهم وعليه شيء من جزية رأسه لم يؤخذ بذلك ورثته ولم يؤخذ ذلك من تركته. لأن ذلك ليس بدين عليه وإن أسلم أحد منهم وقد بقي عليه شيء منها سقط عنه ولم يؤخذ منه.

ومن باب الإمام يقبل هدايا المشركين

وعند الشافعي يطالب به ويراه كالدين لا يسقط عنه إلاّ بالأداء؛ وقد علق القول فيه أيضاً، وقوله مع الجماعة أولى والله أعلم. ومن باب الإمام يقبل هدايا المشركين قال أبوداود: حدثنا هارون بن عبد الله حدثنا أبو داود حدثنا عمران عن قتادة عن يزيد بن عبد بن الشخير عن عياض بن حماد، قال أهديت للنبي صلى الله عليه وسلم ناقة فقال هل أسلمت قلت لا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم إني نهيت عن زبد المشركين. الزبد العطاء، وفي رده هديته وجهان أحدهما أن يغيظه برد الهدية فيمتعض منه فيحمله ذلك على الاسلام. والآخر أن للهدية موضعاً من القلب، وقد روي تهادوا تحابوا، ولا يجوز عليه صلى الله عليه وسلم أن يميل بقلبه إلى مشرك فرد الهدية قطعاً لسبب الميل. وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل هدية النجاشي وليس ذلك بخلاف لقوله نهيت عن زبد المشركين لأنه رجل من أهل الكتاب ليس بمشرك، وقد أبيح لنا طعام أهل الكتاب ونكاحهم وذلك خلاف حكم أهل الشرك. ومن باب إقطاع الأرضين قال أبو داود: حدثنا العباس بن محمد بن حاتم حدثنا الحسين بن محمد أخبرنا أبو أويس حدثني كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم اقطع بلال بن الحارث معادن القبليّة جلسيها وغورّيها وحيث يصلح الزرع من قدس ولم يعطه حق مسلم، وكتب له النبي صلى الله عليه وسلم بذلك كتاباً؛ قال أبو أويس وحدثني ثور بن زيد مولى بني الديل عن عكرمة عن ابن عباس مثله.

قلت يقال إن معادن القبلية من ناحية القُرُع. وقوله جلسيها يريد نجديها ويقال لنجد جَلْس. قال الأصمعي وكل مرتفع جلس، والغور ما انخفض من الأرض يريد أنه اقطعه وِهادها ورُباها. قلت إنما يقطع الناس من بلاد العنوة ما لم يحزه ملك مسلم فإذا اقطع رجلاً بياض أرض فإنه يملكها بالعمارة والاحياء ويثبت ملكه عليها فلا تتزع من يده أبدا. فإذا اقطعه معدنا نظر فإن كان المعدن شيئا ظاهرا كالنفط والقير ونحوهما فإنه مردود لأن هذه الأشياء منافع حاصلة وللناس فيها مرفق وهي لمن سبق إليها ليس لأحد أن يتملكها فيستأثر بها على الناس، وإن كان لها معدن من معادن الذهب والفضة أو النحاس وسائر الجواهر المستكنة في الأرض المختلطة بالتربة والحجارة التي لا تستخرج إلاّ بمعاناة ومؤنة فإن العطية ماضية إلاّ أنه لا يملك رقبتها حتى يحظرها على غيره إذا عطلها وترك العمل فيها، إنما له أن يعمل فيها ما بدا له أن يعمل فإذا ترك العمل خلي بينه وبين الناس، وهذا كله على معاني الشافعي. وفي قوله ولم يعطه حق مسلم دليل على أن من ملك أرضا مرة ثم عطلها أو غاب عنها فإنها لا تملك عليه باقطاع أو احياء وهي باقية على ملكه الأول. قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد ومحمد بن المتوكل العسقلاني المعنى واحد إن محمد بن يحيى بن قيس المازني حدثهم قال أخبرني أبي عن ثمامة بن شراحيل عن سُمي بن قيس عن شمير قال ابن المتوكل بن عبد المدان عن أبيض بن حمال أنه وفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستقطعه الملح الذي بمأرب فقطعه له فلما أن ولى قال رجل من المجلس: أتدري ما اقطعت له إنما اقطعت له الماء العِدّ قال فانتزع منه، قال وسأل عما يحمي من الأراك قال ما لم تنله اخفاف الإبل.

قلت وهذا يبين ما قلنا من أن المعدن الظاهر الموجود خيره ونفعه لا يقطعه أحد، والماء العد هو الماء الدائم الذي لا ينقطع. وفيه من الفقه أن الحاكم إذا تبين الخطأ في حكم نقضه وصار إلى ما استبان من الصواب في الحكم الثاني. وقوله ما لم تنله اخفاف الإبل ذكر أبو داود عن محمد بن الحسن المخزومي أنه قال معناه أن الإبل تأكل منتهى رؤوسها ويحمي ما فوقه. وفيه وجه آخر وهو أنه إنما يحمي من الأراك ما بعد عن حضرة العمارة فلا تبلغه الإبل الرائحة إذا أرسلت في الرعي. وفي هذا دليل على أن الكلأ والرعي لا يمنع من السارحة وليس لأحد أن يستأثر به دون سائر الناس. قال أبو داود: حدثنا محمد بن أحمد القرشي حدثنا عبد الله بن الزبير حدثنا فرج بن سعيد حدثني عمي ثابت بن سعيد عن أبيه عن جده عن أبيض بن حمال أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حمى الأراك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا حمى في الأراك قال أراكة في حظاري، قال فرج، يَعني بحظاري الأرض التي فيها الزرع المحاط عليها. قلت يشبه أن يكون هذه الأراكة يوم إحياء الأرض وحظر عليها قائمة فيها فملك الأرض بالاحياء ولم يملك الأراكة إذ كانت مرعى السارحة، فأما الأراك إذا نبت في ملك رجل فإنه محمي لصاحبه غير محظور عليه يملكه والتصرف فيه ولا فرق بينه وبين سائر الشجر الذي يتخذه الناس في أراضيهم. قال أبو داود: حدثنا عمر بن الخطاب حدثنا الفريابي حدثنا أبان قال عمر وهو

ابن عبد الله بن أبي حازم قال حدثني عثمان بن أبي حازم عن أبيه عن جده صخر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا ثقيفا، فلما أن سمع ذلك صخر ركب في خيل يُمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد نبي الله صلى الله عليه وسلم قد انصرف ولم يفتح فجعل صخر يومئذ عهد الله وذمته أن لا يفارق هذا القصر حتى ينزلوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يفارقهم حتى نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فكتب إليه صخر: أما بعد؛ فإن ثقيفا قد نزلت على حكمك يا رسول الله وأنا مقبل إليهم وهم في خيل فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة جامعة فدعا لأحمس عشر دعوات، اللهم بارك لأحمس في خيلها ورجالها، فأتاه القوم فتكلم المغيرة بن شعبة، قال يا نبي الله إن صخرا قد أخذ عمتي وقد أسلمت ودخلت فيما دخل فيه المسلمون، فدعاه فقال يا صخر إن القوم إذا أسلموا أحرزوا دماءهم وأموالهم فادفع إلى المغيرة عمته فدفعها إليه وسأل النبي صلى الله عليه وسلم ما لبني سليم قد هربوا عن الإسلام وتركوا ذلك الماء، فقال يا نبي الله أنزلنيه أنا وقومي، قال نعم فأنزله وأسلم السُلميون فأتوا صخراً فسألوه أن يدفع إليهم الماء فأبى فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا يا نبي الله أسلمنا وأتينا صخرا ليدفع إلينا ماءنا فأبى علينا، فدعاه فقال يا صخر إن القوم إذا أسلموا أحرزوا أموالهم ودماءهم فادفع إلى القوم ماءهم، قال نعم يا نبي الله فرأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتغير عند ذلك حمرة حياء من أخذه الجارية وأخذه الماء. قلت يشبه أن يكون أمره برد الماء عليهم إنما هوعلى معنى استطابة النفس عنه ولذلك كان يظهر في وجهه أثر الحياء، والأصل أن الكافر إذا هرب عن مال له فإنه يكون فيئا فإذا صار فيئا وقد ملكه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جعله لصخر فانه لا ينتقل عنه ملكه إليهم باسلامهم فيما بعد ولكنه استطاب نفس

صخر عنه ثم رده عليهم تألفا لهم على الإسلام وترغيبا لهم في الدين والله أعلم. وأما رده المرأة فقد يحتمل أن يكون على هذا المعنى أيضاً كما فعل ذلك في سبي هوازن بعد أن استطاب أنفس الغانمين عنها، وقد يحتمل أن يكون ذلك الأمر فيها بخلاف ذلك لأن القوم إنما نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان السبي والدماء والأموال موقوفة على ما يريه الله فيهم فرأى صلى الله عليه وسلم أن ترد المرأه وأن لا تسيى. قال أبو داود: حدثنا حسين بن علي حدثنا يحيى بن آدم حدثنا أبو بكر بن عياش عن هشام بن عروة عن أبيه عن أسماء بنت أبي بكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اقطع الزبير نخلاً. قلت النخل مال ظاهر العين حاضر النفع كما المعادن الظاهرة فيشبه أن يكون إنما أعطاه ذلك من الخمس الذي هو سهمه، وكان أبو إسحاق المروزي يتأول اقطاع النبي صلى الله عليه وسلم المهاجرين الدور على معنى العارية. قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر وموسى بن إسماعيل المعنى واحد قالا: حَدَّثنا عبد الله بن حسان العنبري حدثتني جدتاي صفية ودُحيبة ابنتا عُليبة وكانتا ربيبتي قيلة بنت مخرمة وكانت جدة أبيهما أنها أخبرتهما، قالت قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت وتقدم صاحبي تعني حريث بن حسان وافد بكر بن وائل فبايعه على الإسلام عليه وعلى قومه، ثم قال يا رسول الله اكتب بيننا وبين بني تميم بالدهناء أن لا يجاوزها إلينا منهم إلاّ مسافر أو مجاور، قال اكتب له يا غلام بالدهناء، فلما رأيته قد أمر له بها شخص بي وهي وطني وداري

ومن باب احياء الموات

فقلت له يا رسول الله أنه لم يسألك السوية من الأرض إذ سألك إنما هو هذه الدهناء مقيد الجمل ومرعى الغنم ونساء تميم وأبناؤها وراء ذلك، فقال امسك ياغلام صدقت المسكينة المسلم أخو المسلم يسعهما الماء والشجر ويتعاونان على الفَتّان. قوله مقيد الجمل أي مرعى الجمل ومسرحه فهولا يبرح منه ولا يتجاوزه في طلب المرعى فكأنه مقيد هناك كقول الشاعر: خليليّ بالموماة عُوجا فلا أرى ... بها منزلاً إلاّ جَريب المقيّد وفيه من الفقه أن المرعى لا يجوز إقطاعه وأن الكلأ بمنزلة الماء لا يمنع. وقوله يسعهما الماء والشجر يأمرهما بحسن المجاورة وينهاهما عن سوء المشاركة وقوله ويتعاونا على الفتان، يقال معناه الشيطان الذي يفتن الناس عن دينهم ويضلهم ويروى الفتان بضم الفاء وهو جماعة الفاتن كما قالوا كاهن وكهان. ومن باب احياء الموات قال أبو داود: حدثنا محمد بن المثنى حدثنا عبد الوهاب حدثنا أيوب عن هشام بن عروة عن أبيه عن سعيد بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من أحيى أرضاً ميتة فهي له وليس لعرق ظالم حق. قلت إحياء الموات إنما يكون بحفره وتحجيره وبإجراء الماء إليه وبنحوها من وجوه العمارة، فمن فعل ذلك فقد ملك به الأرض سواء كان ذلك بإذن السلطان أو بغير إذنه، وذلك لأن هذا كلمة شرط وجزاء فهو غير مقصور على عين دون عين ولا على زمان دون زمان، وإلى هذا ذهب أكثر أهل العلم. وقال أبو حنيفة لا يملكها بالاحياء حتى يأذن له السلطان في ذلك وخالفه صاحباه فقالا كقول عامة العلماء.

وقوله ليس لعرق ظالم حق هو أن يغرس الرجل في غير أرضه بغير إذن صاحبها فإنه يؤمر بقلعه إلاّ أن يرضى صاحب الأرض بتركه. قال أبو داود: حدثنا هناد بن السري حدثنا عبدة عن محمد بن إسحاق عن يحيى بن عروة عن أبيه قال ولقد خبرني الذي حدثني هذا الحديث أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم غرس أحدهما نخلا في أرض الآخر فقضى لصاحب الأرض بأرضه وأمر صاحب النخل أن يخرج نخله منها، قال فلقد رأيتها وانها لتضرب أصولها بالفؤوس وأنها لنخل عُم حتى أخرجت منها. قوله نخل عم أي طوال واحدها عميم ورجل عميم إذا كان تام الخلق. قال أبو داود: حدثنا عبد الواحد بن غياث حدثنا عبد الواحد بن زياد حدثنا الأعمش عن جامع بن شداد عن كلثوم عن زينب أنها كانت تفلي رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده امرأة عثمان بن عفان ونساء من المهاجرات وهن يشتكين منازلهن أنها تضيق عليهن ويخرجن منها فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تورث دور المهاجرين النساء فمات عبد الله بن مسعود فورثته امرأته داراً بالمدينة. قلت قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أقطع المهاجرين الدور بالمدينة فتأولوها علي وجهين أحدهما أنه إنما كان أقطعهم العَرصة ليبتنوا فيها الدور، فعلى هذا الوجه يصح ملكهم في البناء الذي أحدثوه في العرصة. والوجه الآخر أنهم إنما أقطعوا الدور عارية، وإليه ذهب أبو إسحاق المروزي، وعلى هذا الوجه لا يصح الملك فيها وذلك أن الميراث لا يجري إلاّ في فيما كان الموروث مالكاً له وقد وضعه أبو داود في باب احياء الموات، فقد يحتمل أن يكون إنما أحيا تلك البقاع بالبناء فيها إذ كانت غير مملوكة لأحد قبل والله أعلم.

ومن باب الدخول في أرض الخراج

وقد يكون نوع من الاقطاع ارفاقاً من غير تمليك وذلك كالمقاعد في الأسواق والمنازل في الأسفار إنما يرتفق بها ولا تملك. فأما توريثه الدور نساء المهاجرين خصوصا؛ فيشبه أن يكون ذلك على معنى القسمة بين الورثة، وإنما خصصهن بالدور لأنهن بالمدينة غرائب لا عشيرة لهن بها فجاز لهن الدور لما رأى من المصلحة في ذلك. وفيه وجه آخر وهو أن تكون تلك الدور في أيديهن مدة حياتهن على سبيل الإرفاق بالسكنى دون الملك كما كانت دور النبي صلى الله عليه وسلم وحجره في أيدي نسائه بعده لا على سبيل الميراث فإنه صلى الله عليه وسلم قال نحن لا نورث ما تركناه صدقة. ويحكى عن سفيان بن عيينة أنه قال كان نساء النبي صلى الله عليه وسلم في معنى المعتدات لأنهن لا ينكحن وللمعتدة السكنى فجعل لهن سكنى البيوت ما عشن ولا يملكن رقابها. ومن باب الدخول في أرض الخراج قال أبو داود: حدثنا حيوة بن شريح الحضرمي الحمصي حدثنا بقية حدثني عمارة بن أبي الشعثاء حدثني سنان بن قيس حدثني شبيب بن نعيم حدثني يريد بن خمير حدثني أبو الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أخذ أرضا بجزيتها فقد استقال حجرته، ومن نزع صغار كافر من عنقه فجعله في عنقه فقد ولى الإسلام ظهره. قلت معنى الجزية ههنا الخراج، ودلالة الحديث أن المسلم إذا اشترى أرضا خراجية من كافر فإن الخراج لا يسقط عنه، وإلى هذا ذهب أصحاب الرأي إلاّ أنهم لم يروا فيما أخرجت من حب عشراً، وقالوا لا يجتمع الخراج مع العشر. وقال عامة أهل العلم العشر عليه واجب فيما أخرجته الأرض من حب إذا

ومن باب الأرض يحميها الرجل

بلغ خمسة أوساق. والخراج عند الشافعي على وجهين: أحدهما جزية والآخر بمعنى الكراء والأجرة. فإذا فتحت الأرض صلحاً على أن أرضها لأهلها فما وضع عليها من خراج فمجراها مجرى الجزية التي تؤخذ من رؤوسهم، فمن أسلم منهم سقط ما عليه من الخراج كما يسقط ما على رقبته من الجزية ولزومه العشر فيما أخرجت أرضه وإن كان الفتح إنما وقع على أن الأرض للمسلمين ويؤدى في كل سنة عنها شيئا فالأرض للمسلمين وما يؤخذ منهم عنها فهو أجرة الأرض فسواء من أسلم منهم أو أقام على كفره فعليه أداء ما اشترط عليه ومن باع منهم شيئا من تلك الأرضين فبيعه باطل لأنه باع ما لا يملك. وهذا سبيل أرض السواد عنده. ومن باب الأرض يحميها الرجل قال أبو داود: حدثنا ابن السرح أخبرنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس عن الصعب بن جثامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا حمى إلاّ لله ولرسوله قال ابن شهاب وبلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حمى النقيع. قلت قوله لا حمى إلاّ لله ولرسوله، يريد لا حمى إلاّ على معنى ما أباحه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى الوجه الذي حماه، وفيه إبطال ما كان أهل الجاهلية يفعلونه من ذلك وكان الرجل العزيز منهم إذا انتجع بلداً مخصباً أوفى بكلب على جبل أوعلى نشر من الأرض ثم استعوى الكلب ووقف له من يسمع منتهى صوته بالعواء فحيث انتهى صوته حماه من كل ناحية لنفسه ومنع الناس منه.

ومن باب الركاز

فأما ما حماه رسول الله صلى الله عليه وسلم لمهازيل إبل الصدقة ولضعفى الخيل كالنقيع وهو مكان معروف مستنقع للمياه ينبت فيه الكلأ، وقد يقال أنه مكان ليس بحد واسع يضيق بمثله على المسلمين المرعى فهو مباح وللأئمة أن يفعلوا ذلك على النظر ما لم يضق منه على العامة المرعى، وهذا الكلام الذي سقته معنى كلام الشافعي في بعض كتبه. ومن باب الركاز قال أبو داود: حدثنا جعفر بن مسافر حدثنا ابن أبي فديك الزَمعي عن عمته قريبة بنت عبد الله بن وهب عن أمها كريمة بنت المقداد عن ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب أنها أخبرته؛ قالت ذهب المقداد لحاجته ببقيع الخبخبة فإذا جرذ يخرج من جحر ديناراً ثم لم يزل يخرج ديناراً دينارا ختى أخرج سبعة عشر دينارا ثم أخرج خرقة حمراء، يَعني فيها دينارا فكانت ثمانية عشر دينارا فذهب بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره وقال له خذ صدقتها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم هل أهويت للجحر، قال لا فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم بارك الله لك فيها. قوله هل أهويت للجحر يدل على أنه لو أخذها من الجحر لكان ركازاً يجب في الخمس. وقوله بارك الله لك فيها لا يدل على أنه جعلها له في الحال ولكنه محمول على بيان الأمر في اللقطة التي إذا عرفت سنة فلم تعرف كانت لآخذها. قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا سفيان عن الزهري عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة سمعا أبا هريرة رضي الله عنه يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الركاز الخمس. قال أبو داود: حدثنا يحيى بن أيوب حدثنا عباد بن العوام عن هشام عن الحسن

ومن باب نبش القبور العادية

قال الركاز الكنز العادي. قلت الركاز على وجهين فالمال الذي يوجد مدفونا لا يعلم له مالك ركاز لأن صاحبه قد كان ركزه في الأرض أي أثبته فيها. والوجه الثاني من الركاز عروق الذهب والفضة فتستخرج بالعلاج ركزها الله في الأرض ركزاً، والعرب تقول أركز المعدن إذا أنال الركاز. والحديث إنما جاء في النوع الأول منهما وهو الكنز الجاهلي على ما فسره الحسن، وإنما كان فيه الخمس لكثرة نفعه وسهولة نيله والأصل إن ما خفت مؤونته كثر مقدار الواجب فيه وما كثرت مؤونته قل مقدار الواجب فيه كالعشر فيما سقي بالأنهار ونصف العشر فيما سقي بالدواليب. واختلفوا في مصرف الركاز، فقال أبو حنيفة يصرف مصرف الفيء، وقال الشافعي يصرف مصرف الصدقات، واحتجوا لأبي حنيفة بأنه مال مأخوذ من أيدي المشركين، واحتجوا للشافعي بأنه مال مستفاد من الأرض كالزرع وبأن الفيء يكون أربعة أخماسه للمقاتلة وهذا المال يختص به الواجد له كمال الصدقة. ومن باب نبش القبور العادية يكون فيها المال قال أبو داود: حدثنا يحيى بن معين حدثنا وهب بن جرير حدثنا أبي قال سمعت محمد بن إسحاق يحدث عن إسماعيل بن أمية عن بجير بن أبي بجير، قال سمعت عبد الله بن عمرو يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرجنا معه إلى الطائف فمررنا بقبر

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا قبر أبي رغال وكان بهذا الحرم يُدفع عنه فلما خرج أصابته النقمة التي أصابت قومه بهذا المكان فدفن فيه. وآية ذلك أنه دفن معه غصن من ذهب إن أنتم نبشتم عنه أصبتموه معه فابتدره الناس فاستخرجوا الغصن. قلت هذا سبيله سبيل الركاز لأنه مال من دفن الجاهلية لا يعلم مالكه، وكان أبو رغال من بقية قوم عاد أهلكهم الله فلم يبق لهم نسل ولا عقب فصار حكم ذلك المال حكم الركاز. وفيه دليل على جواز نبش قبور المشركين إذا كان فيه أرب أو نفع للمسلمين وان ليست حرمتهم في ذلك كحرمة المسلمين.

كتاب البيوع

كتاب البيوع من باب التجارة يخالطها الحلف والكذب أخبرنا الشيخ الإمام أبو المحاسن عبد الواحد بن إسماعيل بن محمد الروياني بقراءتي عليه بآمد طبرستان فأقر به في شهور سنة تسع وتسعين وأربعمائة قال أخبرنا أبو نصر أحمد بن محمد البلخي، قال أخبرنا أبو سليمان حمد بن محمد الخطابي البستي،، قال: حَدَّثنا أبو بكر محمد بن بكر بن داسة قال: حدثنا أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني رحمه الله؛، قال: حَدَّثنا مسدد، قال: حَدَّثنا أبو معاوية عن الأعمش، عَن أبي وائل عن قيس بن أبي غرزة قال كنا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم نسمى السماسرة فمر بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمانا باسم هو أحسن منه فقال يا معشر التجار أن البيع يحضره اللغو والحلف فشوبوه بالصدقة. قال الشيخ أبو سليمان السمسار أعجمي وكان كثير ممن يعالج البيع والشراء فيهم عجما فتلقنوا هذا الاسم عنهم فغيره رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى التجارة التي هي من الأسماء العربية، وذلك معنى قول فسمانا باسم هو أحسن منه. وقد تدعو العرب التاجر أيضاً الرّقاحي والترقيح في كلامهم إصلاح المعيشة. وقد احتج بهذا الحديث بعض أهل الظاهر ممن لا يرى الزكاة في أموال التجارة وزعم أنه لو كان تجب فيها صدقة كما تجب في سائر الأموال الظاهرة لأمرهم

ومن باب استخراج المعادن

النبي صلى الله عليه وسلم بها ولم يقتصر على قوله فشوبوه بالصدقة أو بشيء من الصدقه. قال الشيخ وليس فيما ذكروه دليل على ما ادعوه لأنه إنما أمرهم في هذا الحديث بشيء من الصدقه غير معلوم المقدار في تضاعيف الأيام ومر الأوقات ليكون كفارة عن اللغو والحلف. فأما الصدقة المقدرة التي هي ربع العشر الواجبة عند تمام الحول فقد وقع البيان فيها من غير هذه الجهة، وقد روى سمرة بن جندب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمرهم أن يخرجوا الصدقة عن الأموال التي يعدونها للبيع، وقد ذكره أبو داود في كتاب الزكاة ثم هو عمل الأمة وإجماع أهل العلم فلا يعد قول هؤلاء معهم خلافا. ومن باب استخراج المعادن قال أبو داود: حدثنا القعنبي، قال: حَدَّثنا عبد العزيز بن محمد عن عمرو، يَعني ابن أبي عمرو عن عكرمة عن ابن عباس أن رجلا لزم غريماً له بعشرة دنانير فقال والله ما أفارقك حتى تقضيني أو تأتيني بحميل قال فتحمل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاه بقدر ما وعده، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم من أين أصبت هذا الذهب قال من معدن، قال لا حاجة لنا فيها ليس فيها خير فقضاها عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الشيخ في هذا الحديث إثبات الحمالة والضمان وفيه إثبات ملازمة الغريم ومنعه من التصرف حتى يخرج من الحق الذي عليه. وأما رده الذهب الذي استخرجه من المعدن، وقوله لا حاجة لنا فيه ليس فيه خير فيشبه أن يكون ذلك لسبب علمه فيه خاصة لا من جهة أن الذهب المستخرج من المعدن لا يباح تموله وتملكه، فإن عامة الذهب والورق مستخرجة من المعادن، وقد اقطع

رسول الله صلى الله عليه وسلم بلال بن الحارث المعادن القبليه وكانوا يؤدون عنها الحق وهو عمل المسلمين وعليه أمرالناس إلى اليوم. ويحتمل أن يكون ذلك من أجل أن أصحاب المعادن يبيعون ترابها ممن يعالجه فيحصل ما فيه من ذهب أو فضفه وهوغرر لا يدرى هل يوجد فيه شيء منهما أم لا. وقد كره بيع تراب المعادن جماعة من العلماء منهم عطاء والشعبي وسفيان الثوري والأوزاعي والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه. وفيه وجه آخر وهو أن مع قوله لا حاجة لنا فيها ليس لنا فيها خير، أي ليس لها رواج ولا لحاجتنا فيها نجاح، وذلك أن الذي كان تحمله عنه دنانير مضروبة، والذي جاء به تبر غير مضروب وليس بحضرته من يضربه دنانير وإنما كان تحمل إليهم الدنانير من بلاد الروم، وأول من وضع السكة في الإسلام وضرب الدنانير عبد الملك بن مروان، وقد يحتمل ذلك أيضاً وجها آخر وهو أن يكون إنما كرهه لما يقع فيه من الشبهة ويدخله من الغرر عند استخراجهم إياه من المعدن وذلك أنهم إنما استخرجوه بالعشر أو الخمس أو الثلث مما يصيبونه وهو غرر لا يدرى هل يصيب العامل فيه شيئا أم لا، فكان ذلك بمنزلة العقد على رد الآبق والبعير الشارد لأنه لا يدرى هل يظفر بهما أم لا. وفيه أيضاً نوع من الخطر والتغرير بالأنفس لأن المعدن ربما انهار على من يعمل فيه فكره من أجل ذلك معالجته واستخراج ما فيه. وكانت الدنانير تحمل إليهم في زمان النبي صلى الله عليه وسلم من بلاد الروم وكان أول من ضربها في الإسلام عبد الملك بن مروان فهي تدعي المروانية إلى هذا الزمان.

ومن باب في اجتناب الشبهات

ومن باب في اجتناب الشبهات قال أبو داود: حدثنا أحمد بن يونس، قال: حَدَّثنا أبو شهاب، قال: حَدَّثنا ابن عون عن الشعبي قال سمعت النعمان بن بشير يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما أمور مشتبهات. أحيانا يقول مشتبهة وسأضرب في ذلك مثلا ان الله تعالى حمَى حِمىً وإن حمى الله ما حرم وأنه من يرعى حول الحمى يوشك أن يخالطه وأنه من يخالط الريبة يوشك أن يجسر. قال أبو داود: حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي،، قال: حَدَّثنا عيسى حدثنا زكريا عن عامر، قال سمعت النعمان بن بشير يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في هذا الحديث قال وبينهما مشتبهات ولا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى الشبهات استبرى دينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام. قال الشيخ هذا الحديث أصل في الورع وفيما يلزم الإنسان اجتنابه من الشبهة والريب. ومعنى قوله وبينهما أمور مشتبهات أي أنها تشتبه على بعض الناس دون بعض وليس أنها في ذوات أنفسها مشتبهة لا بيان لها في جملة أصول الشريعة فان الله تعالى لم يترك شيئا يجب له فيها حكم إلاّ وقد جعل فيه بياناً ونصب عليه دليلا ولكن البيان ضربان، بيان جلي يعرفه عامة الناس كافة، وبيان خفي لا يعرفه إلاّ الخاص من العلماء الذين عنوا بعلم الأصول فاستدركوا معاني النصوص، وعرفوا طرق القياس والاستنباط ورد الشيء إلى المثل والنظير. ودليل صحة ما قلناه وإن هذه الأمور ليست في أنفسها مشتبهة قوله لا يعرفها

كثير من الناس وقد عقل ببيان فحواه أن بعض الناس يعرفونها وإن كانوا قليلي العدد فإذا صار معلوماً عند بعضهم فليس بمشتبه في نفسه ولكن الواجب على من اشتبه عليه أن يتوقف ويستبري الشك ولا يقدم إلاّ على بصيرة فإنه إن أقدم على الشيء قبل التثبت والتبين لم يأمن أن يقع في المحرم عليه وذلك معنى الحمى وضربه المثل به. وقوله الحلال بين والحرام بين أصل كبير في كثير من الأمور والأحكام إذا وقعت فيها الشبهة أو عرض فيها الشك ومهما كان ذلك فإن الواجب أن ينظر فإذا كان للشيء أصل في التحريم والتحليل فإنه يتمسك به ولا يفارقه باعتراض الشك حتى يزيله عنه يقين العلم، فالمثال في الحلال الزوجة تكون للرجل والجارية تكون عنده يتسرى بها ويطأها فيشك هل طلق تلك أوأعتق هذه فهما عنده على أصل التحليل حتى يتيقن وقوع طلاق أو عتق، وكذلك الماء يكون عنده وأصله الطهارة فيشك هل وقعت فيه نجاسة أم لا فهو على أصل الطهارة حتى يتيقن أن قد حلته نجاسة، وكالرجل يتطهر للصلاة ثم يشك في الحدث فإنه يصلي ما لم يعلم الحدث يقينا على هذا المثال. وأما الشيء إذا كان أصله الحظر وإنما يستباح على شرائط وعلى هيئات معلومة كالفروج لا تحل إلاّ بعد نكاح أو ملك يمين وكالشاة لا يحل لحمها إلا بذكاة فأنه مهما شك في وجود تلك الشرائط وحصولها يقيناً على الصفة التي جعلت علما للتحليل كان باقيا على أصل الحظر والتحريم، وعلى هذا المثال فلو اختلطت امرأته بنساء أجنبيات أو اختلطت مذكاة بميتات ولم يميزها بعينها وجب عليه

أن يجتنبها كلها ولا يقربها وهذان القسمان حكمهما الوجوب واللزوم. وها هنا قسم ثالث وهو أن يوجد الشيء ولا يعرف له أصل متقدم في التحريم ولا في التحليل، وقد استوى وجه الإمكان فيه حلا وحرمة فان الورع فيما هذا سبيله الترك والاجتناب وهو غير واجب عليه وجوب النوع الأول، وهذا كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مرّ بتمرة ملقاة في الطريق؛ فقال لولا إني أخاف أن تكون صدقة لأكلتها وقدم له الضب فلم يأكله، وقال إن أُمه مسخت فلا أدري لعله منها أوكما قال. ثم إن خالد بن الوليد أكله بحضرته فلم ينكره ويدخل في هذا الباب معاملة من كان في ماله شبهة أو خالطه ربى فإن الاختيار تركها إلى غيرها وليس بمحرم عليك ذلك ما لم يتيقن أن عينه حرام أو مخرجه من حرام، وقد رهن رسول الله صلى الله عليه وسلم درعه من يهودي على أصوع من شعير أخذها لقوت أهله، ومعلوم أنهم يربون في تجاراتهم ويستحلون أثمان الخمور، ووصفهم الله تعالى بأنهم سماعون للكذب أكالون للسحت، فعلى هذه الوجوه الثلاثة يجري الأمر فيما ذكرته لك. وقوله من اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه أصل في باب الجرح والتعديل وفيه دلالة على أن من لم يتوق الشبهات في كسبه ومعاشه فقد عرض دينه وعرضه للطعن وأهدفهما للقول. وقوله من وقع في الشبهات وقع في الحرام يريد أنه إذا اعتادها واستمر عليها أدته إلى الوقوع في الحرام بأن يتجاسر عليه فيواقعه بقول فليتق الشبهة ليسلم من الوقوع في المحرم.

ومن باب وضع الربى

ومن باب وضع الربى قال أبو داود: حدثنا مسدد، قال: حَدَّثنا أبو الأحوص، قال: حَدَّثنا شبيب بن غرقدة عن سليمان بن عمرو عن أبيه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في حجة الوداع إلا أن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون إلاّ وإن كل دم من دم الجاهلية موضوع وأول دم أضع منها دم الحارث بن عبد المطلب كان مسترضعا في بني ليث فقتلته هذيل اللهم قد بلغت، قالوا نعم ثلاثاً، قال اللهم أشهد ثلاث مرات. قال الشيخ في هذا من الفقه أن ما أدركه الإسلام من أحكام الجاهلية فإنه يلقاه بالرد والنكير، وأن الكافر إذا أربى في كفره ولم يقبض المال حتى أسلم فإنه يأخذ رأس ماله ويضع الربا؛ فأما ما كان قد مضى من أحكامهم فإن الإسلام يلقاه بالعفو فلا يعترض عليهم في ذلك ولا يتبع أفعالهم في شيء منه فلو قتل في حال كفره وهو في دار الحرب ثم أسلم فإنه لا يتبع بما كان فيه في حال الكفر. ولو أسلم زوجان من الكفار وتحاكما إلينا في مهر من خمر أو خنزيراً أو ما أشبههما من المحرم فإنه ينظر فإن كانت لم تقبضه منه كله فإنا نوجب لها عليه مهر المثل ولو قبضت نصفه وبقي النصف فإنا نوجب عليه للباقي منه نصف المهر ونجعل الفائت من النصف الاخر كأن لم يكن، وعلى هذا إن كان نكاحاً يريدون أن يستأنفوا عقده فإنا لا نجيز من ذلك إلاّ ما أباح حكم الإسلام، فإن كان أمرا ماضيا فإنا لا نفسخه ولا نعرض له وعلى هذا القياس جميع هذا الباب. وقوله دم الحارث بن عبد المطلب فإن أبا داود هكذا روى، وإنما هو في سائر الروايات دم ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب وحدثني عبد الله بن محمد المكي،

ومن باب الرجحان في الوزن

قال: حَدَّثنا علي بن عبد العزيز، عَن أبي عبيدة قال أخبرني ابن الكلبي أن ربيعة بن الحارث لم يقتل وقد عاش بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلى زمن عمر وانما قتل له ابن صغير في الجاهلية فأهدر النبي صلى الله عليه وسلم فيما أهدر ونسب الدم إليه لأنه ولي الدم. ومن باب الرجحان في الوزن قال أبو داود: حدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا سفيان عن سماك بن حرب قال حدثني سويد بن قيس قال جلبت أنا ومخرمة العبدي بُراً من هجر فأتينا به مكة فجاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي فساومنا بسراويل فبعناه وثم رجل يزن بالأجر فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم زن وارجح. قوله زن وارجح فيه دليل على جواز هبة المشاع، وذلك أن مقدار الرجحان هبة منه للبائع وهو غير متميزمن جملة الثمن. وفيه دليل على جواز أخذ الأجرة على الوزن والكيل وفي معناهما أجرة القسام والحاسب وكان سعيد بن المسيب ينهى عن أجرة القسام وكرهها أحمد بن حنبل. قال الشيخ وفي مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم وأمره إياه به كالدليل على أن وزن الثمن على المشتري فإذا كان الوزن عليه لأن الإيفاء يلزمه فقد دل على أن أجرة الوزان عليه فإذا كان ذلك على المشتري فقياسه في السلعة المبيعة أن تكون على البائع. ومن باب قول النبي صلى الله عليه وسلم المكيال مكيال أهل المدينة قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، قال: حَدَّثنا ابن دكين، قال: حَدَّثنا سفيان عن حنظلة عن طاوس عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الوزن وزن أهل مكة والمكيال مكيال أهل المدينة. قال الشيخ هذا حديث قد تكلم فيه بعض الناس وتخبط في تأويله فزعم أن

النبي صلى الله عليه وسلم أراد بهذا القول تعديل الموازين والأرطال والمكاييل وجعل عيارها أوزان أهل مكة ومكاييل أهل المدينة ليكون عند التنازع حكما بين الناس يحملون عليها إذا تداعوا، فادعى بعضهم وزناً أوفى أو مكيالا أكبر وادعى الخصم أن الذي يلزمه هو الأصغر منها دون الأكبر، وهذا تأويل فاسد خارج عما عليه أقاويل أكثر الفقهاء وذلك أن من أقر لرجل مكيلة بُر أو بعشرة أرطال من تمر أو غيره واختلفا في قدر المكيلة والرطل فأنهما يحملان على مجرف البلد وعادة الناس في المكان الذي هو به ولا يكلف أن يعطي برطل مكة ولا بمكيال المدينة، وكذلك إذا أسلفه في عشرة مكاييل قمح أو شعير وليس هناك إلاّ مكيلة واحدة معروفة فإنهما يحملان عليها فإن كان هناك مكاييل مختلفة فأسلفه في عشرة مكاييل ولم يصف الكيل بصفة يتميز بها عن غيره فالسلم فاسد وعليه رد الثمن. وإنما جاء الحديث في نوع ما يتعلق به أحكام الشريعة في حقوق الله سبحانه دون ما يتعامل به الناس في بياعاتهم وأمور معاشهم. فقوله الوزن وزن أهل مكة يريد وزن الذهب والفضة خصوصا دون سائر الأوزان ومعناه أن الوزن الذي يتعلق به حق الزكاة في النقود وزن أهل مكة وهي دراهم الإسلام المعدلة منها العشرة بسبعة مثاقيل فإذا ملك رجل منها مائتي درهم وججبت فيها الزكاة، وذلك أن الدراهم مختلفة الأوزان في بعض البلدان والأماكن فمنها البغلي ومنها الطبري ومنها الخوارزمي وأنواع غيرها، والبغلي ثمانية دوانيق والطبري أربعة دوانيق والدرهم الوزان الذي هو من دراهم الإسلام الجائزة بينهم في عامة البلدان ستة دوانيق وهو نقد أهل مكة ووزنهم الجائز بينهم، وكان أهل المدينة يتعاملون بالدراهم عددا وقت مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم

إياها، والدليل على صحة ذلك أن عائشة رضي الله عنها قالت فيما روي عنها من قصة بريرة إن شاء أهلك أن أعدها لهم عدة واحدة فعلت تريد الدراهم التي هي ثمنها فأرشدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الوزن فيها وجعل العيار وزن أهل مكة دون ما يتفاوت وزنه منها في سائر البلدان. وقد تكلم الناس في هذا الباب وهل كانت هذه الدراهم لم تزل في الجاهلية على هذا العيار والوزن فذهب بعضهم إلى أن الوزن فيها لم يزل على هذا العيار وإنما غيروا الشكل منها ونقشوا فيها اسم الله عز وجل وقام الإسلام. والأوقية وزنها أربعون درهما، لحلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس فيما دون خمس أواقي صدقة وهي مائتا درهم، وهذا المعنى بلغني، عَن أبي العباس بن شريح أنه كان يقوله ويذهب إليه وحكوا، عَن أبي عبيد القاسم بن سلام ما يخالف هذا. قال أبو عبيد حدثني رجل من أهل العلم والعناية بأمر الناس ممن يعنى بهذا الشأن أن الدراهم كانت في الجاهلية على دربين البغلية السوداء التي في كل واحد منها أربعة دوانيق وكانوا يستعملونها على النصف والنصف مائة بغلية طبرية فكان في المائتين منها من الزكاة خمسة دراهم، فلما كان زمان بني أمية قالوا إن ضربنا البغلية ظن الناس أن هذه التي تجب فيها الزكاة المشروعة فيضر ذلك بالفقراء وإن ضربنا الطبرية أضر ذلك بأرباب الأموال فجمع بين الدراهم البغلية والطبرية فكان في أحدهما ثمانية دوانيق وفي الآخر أربعة دوانيق وجملتها اثنا عشر دانقاً فقسموها نصفين وضربوا الدراهم على ستة دوانيق. وأما الدنانير فمشهور من أمرها أنها كانت تحمل إليهم من بلاد الروم وكانت العرب تسميها الهرقلية وقد ذكره كثير في شعره فقال:

يروق العيون الناظرات كأنه ... هرقلي وزن أحمر التبر راجح ثم ضرب الدنانير في عهد الإسلام عبد الملك بن مروان فحدثني أحمد بن عبد العزيز بن شابور، قال: حَدَّثنا علي بن عبد العزيز، قال: حَدَّثنا الزبير بن بكار، قال: حَدَّثنا عمر بن عثمان عن إسحاق بن عبد الله بن كعب بن مالك قال لما أراد عبد الملك بن مروان ضرب الدنانير والدراهم سأل عن أوزان الجاهلية فأجمعوا له على أن المثقال اثنان وعشرون قيراطا إلاّ حبة بالشامي، وأن العشرة دراهم وزن سبعة مثاقيل فضربها على ذلك. فأما أوزان الأرطال والأمناء فهو بمعزل عن هذا وللناس فيها عادات مختلفة في البلدان قد أقروا عليها مع تباينها واختلافها كالشامي والحجازي والعراقي وأرطال أهل أذربيجان مضاعفة وأرطال أهل الري وأصبهان دون الأردبيلي وفوق الحجازي والعراقي منه ادة كثيرة وكل من أهل هذه البلدان محمول على عرف بلده وعادة قومه لا ينقل عنها ولا يحمل على ما سواها وليست كالدراهم والدنانير التي حمل الناس فيها على عيار واحد وحكم سواء إلاّ أن الدراهم قد يختلف حكمها في شيء واحد وهو أن رجلا لو باع ثوباً بعشرة دراهم في بلدة يتعاملون فيها بالدراهم الطبرية أو الخوارزمية لم يلزم المشتري أن يدفع في ثمنه الوازنة، وإنما يلزمه نقد البلد ولكن إن كان أقر له بعشرة دراهم لزمته الوازنة لأنه ليس في الأ قرار عرف يتغير به الحكم في بلد دون بلد ألا ترى أن رجلاً من أهل خوارزم لو أقر عند حاكم بغداد بمائة درهم لرجل من خوارزم أنه يلزمه الدراهم الوازنة إن ادعاها المقر له بها فباب الاقرار خلاف باب المعاملات على ما بيناه والله أعلم. وأما قوله والمكيال مكيال أهل المدينة فإنما هو الصاع الذي يتعلق به وجوب

ومن باب التشديد في الدين

الكفارات ويجب إخراج صدقة الفطر به ويكون تقدير النفقات وما في معناها بعياره والله أعلم. وللناس صيعان مختلفة فصاع أهل الحجاز خمسة أرطال وثلث بالعراقي وصاع أهل البيت فيما يذكره زعماء الشيعة تسعة أرطال وثلث ينسبونه إلى جعفر بن محمد وصاع أهل العراق ثمانية أرطال وهو صاع الحجاج الذي سعر به على أهل الأسواق، ولما ولي خالد بن عبد الله القسري العراق ضاعف الصاع فبلغ به ستة عشر رطلا فإذا جاء باب المعاملات حملنا العراقي على الصاع المتعارف المشهوو عند أهل بلاده والحجازي على الصاع المعروف ببلاد الحجاز، وكذلك كل أهل بلد على عرف أهله وإذا جاءت الشريعة وأحكامها فهو صاع المدينة فهو معنى الحديث ووجهه عندي والله أعلم. ومن باب التشديد في الدين قال أبو داود: حدثنا محمد بن المتوكل العسقلاني، قال: حَدَّثنا عبد الرزاق، قال: حَدَّثنا معمر عن الزهري، عَن أبي سلمة عن جابر قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصلي على رجل مات وعليه دين فأتي بميت، فقال أعليه دين قالوا نعم ديناران فقال صلوا على صاحبكم فقال أبو قتادة الأنصاري هما عليّ يا رسول الله فصلى عليه، فلما فتح الله على رسوله قال أنا أولى بكل مؤمن من نفسه فمن ترك دينا فعليّ قضاؤه ومن ترك مالا فلورثته. قال الشيخ فيه من الفقه جواز الضمان عن الميت ترك وفاء بقدر الدين أو لم يترك وهذا قول الشافعي وإليه ذهب ابن أبي ليلى. وقال أبو حنيفة إذا ضمن عن الميت شيئا لم يترك له وفاء لم يلزم الضامن لأن

ومن باب في المطل

الميت منه بريء وإن ترك وفاء لزمه ذلك، وإن ترك وفاء ببعضه لزمه بقدر ذلك. قال الشنيخ ويشبه أن يكون هذا الحديث لم يبلغه وقد روي في هذه القصة من غير هذا الطريق أنه لم يترك لهما وفاء. وروى محمد بن عمرو عن سعيد بن أبي سعيد عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه قال أتي النبي صلى الله عليه وسلم بجنازة ليصلي عليها فقال عليه دين، قال نعم ديناران، قال فهل ترك لهما وفاء، قالوا لا، قال فصلوا على صاحبكم، وذكر حديث الضمان حدثناه الحسن بن يحيى، قال: حَدَّثنا ابن المنذر، قال: حَدَّثنا محمد بن عبد الوهاب، قال: حَدَّثنا يعلى بن عبيد عن محمد بن عمرو. ومن باب في المطل قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن ابن أبي الزناد عن الأعرج، عَن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال مطل الغني ظلم فإذا اتْبع أحدكم على ملي فليتبع. قال الشيخ قوله مطل الغني ظلم دلالته أنه إذا لم يكن غنيا يجد ما يقضيه لم يكن ظالما، وإذا لم يكن ظالما لم يجز حبسه لأن الحبس عقوبة ولا عقوبة على غير الظالم. وقوله اتبع يريد إذا أحيل وأصحاب الحديث يقولون إذا اتبع بتشديد التاء وهو غلط وصوابه اتبع ساكنة التاء على وزن أفعل ومعناه إذا أحيل أحدكم على مليّ فليحتل، يقال تبعت الرجل بحقي اتبعه تباعة إذا طالبته وأنا تبيعه، ومنه قوله تعالى {ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا} [الإسراء: 69] . وفيه من الفقه إثبات الحوالة وفيه دليل على أن الحق يتحول بها إلى المحال

عليه ويسقط عن المحيل ولا يكون عليه للمحتال سبيل عند موت المحال عليه وإفلاسه، وذلك لأنه قد اشترط عليه الملاة والحوالة قد تصح حكما على الملي فكان فائدة الشرط ما قلناه والله أعلم. وقد يستدل بهذا الحديث من يذهب إلى أن له الرجوع على المحيل إذا مات أو أفلس المحال عليه، ويتأوله على غير وجه الأول بان يقول إنما أمر بأن يتبعه إذا كان ملياً والمفلس غير ملي فليكن غير متبع به. قال الشيخ والدلالة على الوجه الأول هي الصحيحة لأنه إنما اشترط له الملاة وقت الحوالة لا فيما بعدها لأن إذا كلمة شرط موقت فالحكم يتعلق بتلك الحال لا بما بعدها والله أعلم. وقوله فليتبع معناه فليحتل وهذا ليس على الوجوب وإنما هو على الاذن له والإباحة فيه إن اختار ذلك وشاءه، وزعم داود أن المحال عليه إن كان مليا كان واجبا على الطالب أن يحول ما له عليه ويكره على ذلك أن أباه. وقد اختلف العلماء في عود الحق إلى ذمة الغريم إذا مات المحال عليه أو أفلس فقال أصحاب الرأي إذا مات ولم يترك وفاء أو أفلس حيا فإن المحتال يرجع به على الغريم. وقال مالك والشافعي وأحمد وأبو عبيد وأبو ثور لا يرجع واحتجوا كلهم بهذا الحديث، وفيه قول ثالث ذكره ابن المنذر عن بعضهم فلا أحفظه أنه لا يرجع عليه ما دام حيا فإن الرجل يوسر ويعسر ما دام حيا فإذا مات ولم يترك وفاء رجع به عليه.

ومن باب في حسن القضاء

ومن باب في حسن القضاء قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار، عَن أبي رافع قال استسلف رسول الله صلى الله عليه وسلم بكراً فجاءته إبل الصدقة فأمرني أن أقضي الرجل بكره فقلت لم أجد في الإبل إلا جملاً خياراً رباعيا فقال النبي صلى الله عليه وسلم أعطه إياه فإن خيار الناس أحسنهم قضاء. قال الشيخ البكر في الإبل بمنزلة الغلام من الذكور والقلوص بمنزلة الجارية من الإ ناث والرباعي من الإبل هو الذي أتت عليه ستة سنين ودخل في السنة السابعة فإذا طلعت رباعيته قيل للذكر رباع والأنثى رباعية خفيفة الياء. وفيه من الفقه جواز تقديم الصدقة قبل محلها، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يحل له الصدقة فلا يجوز أن يقضي من أهل الصدقة شيئاً كان لنفسه فدل أنه إنما استسلف لأهل الصدقة من أرباب الأموال وهو استدلال الشافعي. وقد اختلف العلماء في جواز تقديم الصدقة على محل وقتها فأجازه الأوزاعي وأصحاب الرأي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه. وقال الشافعي يجوز أن يعجل صدقة سنة واحدة. وقال مالك لا يجوز أن يخرجها قبل حلول الحول وكرهه سفيان الثوري. ومن باب الصرف قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي عن مالك عن ابن شهاب عن مالك بن أوس عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الذهب بالورق ربى إلاّ هاء وهاء، والشعير بالشعير ربى الاها وها. قال السيخ ها وها معناه التقابض وأصحاب الحديث يقولون ها وها مقصورين

والصواب مدهما ونصب الألف منهما. وقوله ها إنما هو قول الرجل لصاحبه إذا ناوله الشيء هاك أي خذ فأسقطوا الكاف منه وعوضوه المد بدلا من الكاف يقال للواحد ها والاثنين ها وما بزيادة الميم وللجماعة هاؤم؛ قال الله تعالى {هاؤم اقرؤوا كتابيه} [الحاقة: 19] . وهذا قول الليث بن المظفر. قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي حدثنا بشر بن عمر، قال: حَدَّثنا همام عن قتادة، عَن أبي الخليل عن مسلم المكي، عَن أبي الأشعث الصنعاني عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الذهب بالذهب تبرها وعينها والفضة بالفضة تبرها وعينها والبر بالبر مدي بمدي والملح بالملح مدي بمدي فمن زاد أو ازداد فقد أربى ولا بأس ببيع الذهب بالفضة والفضة أكثرهما يدا بيد وأما نسيئة فلا. قال أبو داود ورواه ابن أبي عروبة وهشام الدستوائي عن قتادة عن مسلم بن يسار. قال الشيخ قوله تبرها وعينها التبر قطع الذهب والفضة قبل أن تضرب وتطبع دراهم ودنانير واحدتها تبرة، ومن هذا قوله تعالى {إن هؤلاء متبَّر ماهم فيه وباطل ما كانوا يعملون} [الأعراف: 139] والله أعلم. والعين المضروب من الدراهم والدنانير والمدي مكيال يعرف ببلاد الشام وبلاد مصر به يتعاملون وأحسبه خمسة عشر مكوكا والمكوك صاع ونصف وحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يباع مثقال ذهب عين بمثقال وشيء من تبر غير مضروب وكذلك حرم التفاوت بين المضروب من الفضة وغير المضروب، وذلك معنى قوله تبرها وعينها أي كلاهما سواء، وهذا من باب معقول الفحوى

ثم زاده بيانا بما نسق عليه من قوله ولا بأس ببيع الذهب بالفضة والفضة أكثرهما يدا بيد، وكان ذلك من باب دليل الخطاب ومفهومه وكلا الوجهين بيان وأهل اللغة يتفاهمون بها، ثم هو قول عامة المسلمين إلاّ ما روي عن أسامة بن زيد وابن عباس في جواز بيع الدرهم بالدرهمين، وقد روي عن ابن عباس أنه رجع عنه. قال الشيخ وقد روى غير أبي داود هذا الحديث فقال إلاّ سواء بسواء مثلاً بمثل. حدثنا محمد بن المكي، قال: حَدَّثنا محمد بن علي بن زيد الصائع، قال: حَدَّثنا سلمة بن علقمة عن محمد بن سيرين، قال حدثني مسلم بن يسار عن عبادة بن الصامت قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الذهب بالذهب والورق بالورق والتمر بالتمر والبر بالبر والشعير بالشعير إلا سواء بسواء مثلا بمثل. وفيه دليل على أن الدراهم والدنانير إذا بيع بعض جنسها ببعض منه فلم يكونا معاً ذهبا محضا أو فضة محضة حتى يتعادلا في الوزن أو كان في أحدهما شوب أو حملان أن البيع فاسد والصرف منتقض وذلك لوجود التفاوت وعدم التساوي. وفيه بيان أن التقابض شرط لصحة البيع في كل ما يجري فيه الربا من ذهب وفضة وغيرهما من المطعوم وإن اختلف الجنسان، ألا تراه يقول فلا بأس ببيع البر بالشعير والشعير أكثرهما يدا بيد وأما النسيئة فلا قبض عليه كما ترى. وجوز أهل العراق بيع البر بالشعير من غير تقابض وصاروا إلى أن القبض إنما يجب في الصرف دون ما سواه وقد جمعت بينهما السنة فلا معنى للتفريق بينهما جملته أن الجنس الواحد مما فيه الربا لا يجوز فيه التفاضل نسيئا ولا نقدا. وفيه دليل على أن خيار الثلث لا يدخل في بيوع الصرف كما يدخل في سائر البيوع وذلك لأنه قد اشترط فيه التقابض لئلا تبقى بينهما علاقة فلو جاز أن

يكون هناك علاقة باقية لجاز أن يبقى علاقة القبض كما جاز في ساتر العقود. وفيه أن البر جنس والشعير جنس غيره ولولا أنهما جنسان مختلفان لم يجز التفاضل بينهما يداً بيد كما لا يجوز ذلك في الجنس الواحد. وقال مالك البر والشعير جنس واحد وزعم أن البر لا يكاد يخلص من الشعير فلولا أنهما جنس واحد لم يجز بيع البر بالبر، وفيه شيء من الشعير لأنه لا بد من تفاوتهما. قال الثنيخ وهذا خلاف النص والحديث حجة عليه وقد أباحه صلى الله عليه وسلم مع علمه بما يخالطه من يسير الشعير وجعله كالبيع له ولم يعتد به ثم فرق بين جنس البر والشعير وأباح التفاضل فيهما يدا بيد فثبت جوازه وفساد قول من ذهب إلى الجمع بينهما. وفيه دليل على أنه لا يجوز بيع البر بالبر وزناً بوزن مثلاً بمثل وذلك لأنه قال والبر بالبر مدي بمدي، وفي غير هذه الرواية كيلا بكيل فعلق المماثلة بالمكيال دون غيره من أنواع العيار وباب الربى غير معقول المعنى فيجري فيه القياس كما يجري في سائر الأحكام فلا يجوز مفارقة أمثلته إلى غيره والله أعلم. وفي الخبر دليل على أن القوت ليس بعلة الربا لأنه ذكر الملح مع البر ومعلوم أنه لا يقتات، وإنما يصلح به القوت ولو جاز أن يكون الربا فيما يصلح به القوت لجاز أن يكون في الماء الربا على مذهب أصحاب مالك؛ وقد يصلح القوت أيصا بالحطب والوقود ثم لا ربا فيه بالإجماع. وقد استدل أصحاب الشافعي بذكره الملح مع البر على أن العلة في الربا الطعم لأنه لما ضم جنس أدنى ما يطعم إلى جنس أعلى ما يؤكل دل على أن ما بين

ومن باب السيف المحلا والقلادة فيها الذهب والفضة

النوعين لا حق بهما وداخل في حكمهما. ومن باب السيف المحلاً والقلادة فيها الذهب والفضة قال أبو داود: حدثنا محمد بن عيسى وأبو بكر بن أبي شيبة وأحمد بن منيع قالوا حدثنا ابن المبارك (ح) حدثنا ابن العلاء أخبرنا ابن المبارك عن سعيد بن زيد قال حدثني خالد بن أبي عمران عن حنش عن فضالة بن عبيد قال أتى النبي النبي صلى الله عليه وسلم عام خيبر بقلادة فيها ذهب وخرز، قال أبو بكر وابن منيع فيها خرز معلقة بذهب ابتاعها رجل بتسعة دنانير أو بسبعة دنانير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا حتى تميز بينه وبينه، فقال إنما أردت الحجارة وقال ابن عيسى التجاره فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا حتى تميز بينهما قال فرده حتى ميز بينهما. قال الشيخ في هذا الحديث أنه نهى عن بيع الذهب بالذهب مع أحدهما شىء غير الذهب وممن قال هذا البيع فاسد شريح ومحمد بن سيرين والنخعي، وإليه ذهب الشافعي وأحمد وإسحاق بن راهويه وسواء عندهم كان الذهب الذي هو الثمن أكثر من الذهب الذي مع السلعة أو أقل. وقال أبو حنيفة إن كان الثمن أكثر مما فيه من الذهب جاز وإن كان مثله أو أقل منه لم يجز. وذهب مالك إلى نحو من هذا في القلة والكثرة إلاّ أنه حد الكثرة بالثلثين والقلة بالثلث. وقال حماد بن أبي سليمان لا بأس بأن تشتريه بالذهب كان الثمن أقل أو أكثر. قال الشيخ قول حماد منكر لمخالفته الحديث وأقاويل عامة العلماء وفساده غير مشكل لما فيه من صريح الربا.

فأما ما ذهب إليه أبو حنيفة فإنه يخرج على القياس لأنه يجعل الذهب بالذهب سواء ويجعل ما فضل عن الثمن بازاء السلعة، غير أن السنة قد منعت هذا القياس أن يجري؛ ألا تراه يقول إنما أردت الحجارة أو التجارة فقال لا حتى تميز بينهما فنفى صحة هذا البيع مع قصده إلى أن يكون الذهب الذي هو الثمن بعضه بإزاء الذهب الذي هو مع الخرز مصارفة وبعضه بإزاء الحجارة التي هي الخرز بيعا وتجارة حتى يميز بينهما فتكون حصة المصارفة متميزة بينهما فتكون حصة المصارفة متميزة عن حصة المتاجر فدل على أن هذا البيع على الوجهين فاسد. وبيان فساد هذا البيع من جهة المعنى على وجوه: أحدهما أنه عقد تضمن بيعاً وصرفاً ومتى جهل التماثل في الذهب بالذهب وقت العقد بطل الصرف ولا سبيل إلى معرفة التماثل إلاّ بعد التمييز والتفضيل فتكون التسوية حينئذ بينهما بالوزن فروى أصحاب أبي حنيفة عنه أنه قال إذا باع صبرة من الطعام بصبرة من جنسه جزافاً لم يجز وإن خرجا عند الكيل متساويين وفي هذا اعتبار التماثل حال العقد وهو نظير مسألة الصرف. والوجه الثاني أن الصفقة إذا تضمنت شيئين مختلفين في الجنس كان الثمن مفضوضا عليهما بالقيمة، وإذا كان كذلك وأردنا أن نسقط الثمن عليها بالقيمة وأسقطنا قيمة الخرز من جملة الثمن لم ندر كم مقدار ما يبقى منه وهل يكون مثل الذهب المشترى مع الخرز أو أقل منه أو أكثر فبطل العقد للجهالة. والوجه الثالث أن أحكام عقد الصرف لا تلائم أحكام سائر العقود لأن من شرطه التقابض قبل التفرق وانقطاع شرط الخيار وسائر العقود تصح من غير تقابض ويدخلها شرط الخيار فلم نجز الجمع بينهما في صفقة واحدة لتنافي معانيهما

ومن باب اقتضاء الذهب

ولأن حكم أحدهما لا يبتني على حكم الاخر. قال الشيخ وهذا معنى قوله لا حتى تميز وتأويله تميز العقدين لا تميز المبيع وعلى هذا القليل لا يجوز بيع فضة وسلعة معها بدينار وقد ذهب إليه بعض الفقهاء. وأما الشافعي فقد أجاز ذلك وهو قول أكثر أهل العلم، إلاّ أن مالكا قال لا يجوز دراهم وسلعة بدينار إلاّ أن تكون الدراهم يسيرة فإن كانت أكثر من قيمة السلعة لم يجز. قال الشيخ وهذا قول لا وجه له ولا فرق بين القليل والكثير فيما يدخله الربا لأن أحداً لم يجوز الحبة من الذهب بالحبتين لأنهما يسيرة كما لا يجوز الدينار بالدينارين والدرهم بالدرهمين. ومن باب اقتضاء الذهب قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل ومحمد بن محبوب المعنى واحد قالا: حَدَّثنا حماد عن سماك بن حرب عن سعيد بن جبير عن ابن عمر قال كنت أبيع الإبل بالبقيع فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير آخذ هذه من هذه وأعطي هذه من هذه فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يَعني فذكرت له فقال لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء. قال الشيخ اقتضاء الذهب من الفضة والفضة من الذهب عن أثمان السلعة هو في الحقيقة بيع ما لم يقبض فدل جوازه على أن النهي عن بيع ما لم يقبض إنما ورد في الأشياء التي يبتغى ببيعها وبالتصرف فيها الربح كما روي أنه نهى عن ربح ما لم يضمن واقتضاء الذهب من الفضة خارج عن هذا المعنى لأنه إنما يراد به

ومن باب الحيوان بالحيوان

التقابض والتقابض من حيث لا يشق ولا يتعذر دون التصارف والترابح، ويبين لك صحة هذا المعنى قوله لا بأس أن تأخذها بسعر يومها أي لا تطلب فيها الربح ما لم تضمن واشترط أن لا يتفرقا وبينهما شيء لأن اقتضاء الدراهم من الدنانير صرف وعقد الصرف لا يصح إلاّ بالتقابض. وقد اختلف الناس في اقتضاء الدراهم من الدنانير فذهب أكثر أهل العلم إلى جوازه ومنع من ذلك أبو سلمة بن عبد الرحمن وابن شبرمة، وكان ابن أبي ليلى يكره ذلك إلاّ بسعر يومه ولم يعتبر غيره السعر ولم يتأولوا كان ذلك بأغلى أو بأرخص من سعر اليوم والصواب ما ذهبت إليه وهومنصوص في الحديث ومعناه ما بينته لك فلا تذهب عنه فإنه لا يجوز غير ذلك والله أعلم. ومن باب الحيوان بالحيوان قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل، قال: حَدَّثنا حماد عن قتادة عن الحسن عن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة. قال الشيخ وجهه عندي أن يكون إنما نهى عما كان منه نسيئة في الطرفين فيكون من باب الكالىء بالكالىء بدليل حديث عبد الله بن عمرو بن العاص الذي يليه. ومن باب الرخصة قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمرو، قال: حَدَّثنا حماد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب عن مسلم بن جبير، عَن أبي سفيان عن عمرو بن حريث عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يجهز جيشا فنفدت الإبل فأمره أن يأخذ على قلائص الصدقة فكان يأخذ البعير بالبعيرين

إلى إبل الصدقة. قال الشيخ هذا يبين لك أن النهي عن بيع الحيوان نسيئة إنما هو أن يكون نسئاً في الطرفين، جمعاً بين الحديثين وتوفيقاً بينهما وحديث سمرة يقال أنه صحيفة والحسن عن سمرة مختلف في اتصاله عند أهل الحديث، أخبرنا ابن الأعرابي،، قال: حَدَّثنا عباس الدوري عن يحيى بن معين قال حديث الحسن عن سمرة صحيفة وقال محمد بن إسماعيل حديث النهي عن بيع الحيوان نسيئة من طريق عكرمة عن ابن عباس رواه الثقاة عن ابن عباس موقوفا أو عكرمة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل قال وحديث زياد بن جبير عن ابن عمر إنما هو زياد بن جبير عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل وطرق هذا الحديث واهية ليست بالقوية وتأويله إذا ثبت على ما قلنا والله أعلم. وفي الحديث دليل على جواز السلم في الحيوان لأنه إذا باع بعير أو بعيرين فقد صار ذلك حيواناً مضموناً عليه في ذمته. واختلف أهل العلم في بيع الحيوان بالحيوان نسيئة فكره ذلك عطاء بن أبي رباح ومنع منه سفيان الثوري وهو مذهب أصحاب الرأي ومنع منه أحمد واحتج بحديث سمرة، وقال مالك إذا اختلف أجناسها جاز بيعها نسيئة وإن شابهت لم يجز. وجوز الشافعي بيعها نسيئة كانت جنساً واحداً أو أجناسا مختلفة إذا كان أحد الحيوانين نقدا. قال الشيخ في إسناد حديث عبد الله بن عمرو أيضاً مقال وقد أثبت أحمد حديث سمرة.

ومن باب بيع التمر بالتمر

ومن باب بيع التمر بالتمر قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن عبد الله بن زيد أن زيداً أبا عياش أخبره أنه سأل سعد بن أبي وقاص عن البيضاء بالسلت فقال له سعد أيهما أفضل قال البيضاء قال فنهاه عن ذلك وقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن شراء التمر بالرطب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أينقص الرطب إذا يبس قالوا نعم فنهى عن ذلك. قال الشيخ البيضاء نوع من البر أبيض اللون وفيه رخاوة يكون ببلاد مصر والسلت نوع غير البر وهوأدق حبا منه، وقال بعضهم البيضاء هو الرطب من السلت والأول أعرف، إلاّ أن هذا القول اليق بمعنى الحديث وعلته تبين موضع التشبيه من الرطب بالتمر وإذا كإن الرطب منهما جنسا واليابس جنسا آخر لم يصح التشبيه. وقوله (اينقص الرطب إذا يبس) لفظه لفظ الاستفهام ومعناه التقرير والتنبيه فيه على نكتة الحكم وعلته ليعتبروها في نظاترها وأخواتها وذلك أنه لا يجوز أن يخفى عليه صلى الله عليه وسلم أن الرطب إذا يبس نقص وزنه فيكون سؤاله عنه سؤال تعرف واستفهام وإنما هو على الوجه الذي ذكرته وهذا كقول جرير: الستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح ولو كان هذا استفهاما لم يكن فيه مدح وإنما معناه أنتم خير من ركب المطايا. وهذا الحديث أصل في أبواب كثيرة من مسائل الربا وذلك أن كل شيء من المطعوم مما له نداوة ولجفافه نهاية فانه لا يجوز رطبه بيابسه كالعنب والزبيب واللحم النيء بالقديد ونحوهما، وكذلك لا يجوز على هذا المعنى منه الرطب بالرطب كالعنب بالعننب والرُطَب بالرطب لأن اعتبار المماثلة إنما يصح فيهما

عند أوان الجفاف وهما إذا تناهى جفافهما كانا مختلفين لأن أحدهما قد يكون أرق رقة وأكثر مائية من الآخر، فالجفاف ينال منه أكثر ويتفاوت مقاديرهما في الكيل عند المماثلة. وفي معنى ما ذكرنا المطبوخ بالنيء كالعصير الذي أغلي بالنار بما لم يطبخ منه وكاللبن الذي عقد بالنار واللبن الحليب ونحوهما، ولا يجوز على هذا القياس بيع حنطة بدقيق ولا حنطة بسويق ولا بيع خبز بخبز، وهذا كله على مذهب الشافعي، فأما العصير النيء بالعصير النيء والشيرج بالشيرج واللبن الحليب باللبن الحليب فجائز عند الشافعي، وكذلك خل العنب بخل العنب فإن كان في أحد النوعين ما لم يجز ولا يجوز عنده بيع أصل شيء فيه الربا بفرعه كبيع الزبد باللبن وبيع الزيت بالزيتون والشيرج بالسمسم وعلى هذا المعنى عنده بيع اللحم بالحبيوان. وقد ذهب أكثر الفقهاء إلى أن بيع الرطب بالتمر غير جائز، وهو قول مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وبه قال أبو يوسف ومحمد بن الحسن وعن أبي حنيفة جواز بيع الرطب بالتمر نقدا، ويشبه أن يكون تأويل الحديث عنده على النسيئة دون النقد، قال ابن المنذر وأحسب أبا ثور وافقه على ذلك. قال الشيخ ولفظ الحديث عام لم يستثن فيه نسيئة من نقد والمعنى الذى نبه عليه في قوله أينقص الرطب إذا يبس يمنع من تخصيصه وذلك كأنه قال إذا علمتم أنه ينقص في المتعقب فلا تبيعوه وهذا المعنى قائم في النقد والنسيئة معاً. وأجاز أبو حنيفة بيع العنب بالزبيب واللحم النيء بالقديد والعصير المطبوخ بالنيء منه نقدا. وقال مالك بن أنس لا بأس ببيع الدقيق بالبر مثلاً بمثل لأن الدقيق إنما هو

حنطة فرقت أجزاؤها وبيع الحنطة بالحنطة جائز متساويين، وقال مثل ذلك في الحنطة بالسويق والسويق بالدقيق، وقال في الخبز بالخبز لا بأس به إذا تحرى أن يكون مثلاً بمثل وإن لم يوزن، وقال أحمد وإسحاق لا بأس ببيع الدقيق بالقمح وزناً بوزن، وقال الأوزاعى الخبز بالخبز جائز وهو قول أبي ثور. وحكى أبو ثور، عَن أبي حنيفة أنه قال لا بأس به قرصا بقرصين، وروى حرملة عن الشافعي أنه أباح بيع الخبز اليابس مثلا بمثل وأصحاب الشافعي ينكرون ذلك فلا يعدونه قولا صحيحاً له وهو خلاف قياس أصله والخبز يدخله الماء والملح وفيهما عنده الربا ومبلغهما يتفاوت في الخبز وليس هذا كاللحوم يجوز بعضها ببعض يابسين لأن اللحم نوع واحد لا يدخله غيره. قال الشيخ قد تكلم بعض الناس في إسناد حديث سعد بن أبي وقاص، وقال زيد أبو عياش راويه ضعيف، ومثل هذا الحديث على أصل الشافعي لا يجوز أن يحتج به. قال الشيخ وليس الأمر على ما توهمه، وأبو عياش هذا مولى لبني زهرة معروف، وقد ذكره مالك في الموطأ وهولا يروي عن رجل متروك الحديث بوجه، وهذا من شأن مالك وعادته معلوم، وقد روى أبو داود في هذا الباب مثل حديث سعد من طريق ابن عمر. ، قال: حَدَّثنا أبو بكر بن أبى شيبة، قال: حَدَّثنا ابن أبي زائدة عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع التمر بالتمر وعن بيع العنب بالزبيب كيلاً وعن الزرع بالحنطة كيلاً.

ومن باب العرايا

ومن باب العرايا قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح، قال: حَدَّثنا ابن وهب أخبرنا يونس عن ابن شهاب أخبرني خارجه بن زيد بن ثابت عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في بيع العرايا بالتمر والرطب. قال العرية فسرها محمد بن إسحاق بن يسار فقال هي النخلات يهبها الرجل للرجل فيشق عليه أن يقوم عليها فيبيعها قبل خرصها، وقد ذكر أبو داود هذا التفسير عنه. وروى الشافعي خبراً فيه قلت لمحمود بن لبيد أو قال محمود بن لبيد لرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إما زيد بن ثابت وإما غيره ما عراياكم فقال أو سمى رجالا محتاجين من الأنصار شكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن الرطب يأتي ولا نقد بأيديهم يبتاعون به رطبا يأكلونه مع الناس وعندهم فضول من قوتهم من التمر فرخص لهم أن يبتاعوا العرايا خرصاً من التمر في أيديهم يأكلونها رطبا. فأما أصلها في اللغة فإنهم ذكروا في معنى اشتقاقها قولين: أحدهما أنها مأخوذة من قول القائل: أعريت الرجل النخلة أي أطعمته ثمرها يعروها متى شاء أي يأتيها فيأكل رطبها، يقال عروت الرجل إذا أتيته تطلب معروفه كما يقال طلب إلي فأطلبته وسألني فأسألته. والقول الآخر إنما سميت عرية لأن الرجل يعريها من جملة نخله أي يستثنيها لا يبيعها مع النخل فربما أكلها وربما وهبها لغيره أو فعل بها ما شاء. قال الشيخ العرايا ما كاننت من هذه الوجوه فإنها مستثناة من جملة النهي عن المزابنة والمزابنة بيع الرطب بالتمر ألا تراه يقول رخص في بيع العرايا

والرخصة إنما تقع بعد الحظر وورود الخصوص على العموم لا ينكر في أصول الدين وسبيل الحديثين إذا اختلفا في الظاهر وأمكن التوفيق بينهما وترتيب أحدهما على الآخر أن لا يحملا على المنافاة ولا يضرب بعضها ببعض لكن يستعمل كل واحد منهما في موضعه وبهذا جرت قضية العلماء في كثير من الحديث ألا ترى أنه لما نهى حكيما عن بيع ما ليس عنده ثم أباح السلم كان السلم عند جماعة العلماء مباحا في محله وبيع ما ليس عند المرء محظورا في محله وذلك أن أحدهما وهو السلم من بيوع الصفات والاخر من بيوع الأعيان، وكذلك سبيل ما يختلف إذا أمكن النوفيق فيه لم يحمل على النسخ ولم يبطل العمل به وإنما جاء تحريم المزابنة فيما كان من التمر موضوعا على وجه الأرض وجاءت الرخصة في بيع العرايا فيما كان منها على رؤوس الشجر في مقدار معلوم منه بكمية لا يزاد عليها وذلك من أجل ضرورة أو مصلحة فليس أحدهما مناقضاً للآخر أو مبطلا له، وقد قال بهذه الجملة في معناها أكثرالفقهاء مالك والأوزاعي والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو عبيد، وامتنع من القول به أصحاب الرأي وذهبوا إلى جملة النهي الوارد في تحريم المزابنة وفسروا العرية تفسيرا لا يليق بمعنى الحديث وصورتها عندهم أن يعري الرجل من حائطه نخلات ثم يبدوله فيها فيبطلها ويعطيه مكانها تمرا فسمى هذا بيعا في التقدير على المجاز وحقيقة الهبة عندهم. قال الشيخ والحديث إنما جاء بالرخصة في البيع كما ذكرناه عن زيد بن ثابت ويزيده بياناً حديث سهل بن أبي حثمة ذكره أبو داود في هذا الباب. ، قال: حَدَّثنا عثمان بن أبي شيبة، قال: حَدَّثنا ابن عيينة عن يحيى بن سعيد

ومن باب مقدار العرية

عن بشير بن يسار عن سهل بن أبي حثمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع التمر بالتمر ورخص في العرية أن تباع بخرصها فيأكلها أهلها رطباً. فهذا يبين لك أنه قل استثنى العرية من جملة ما اقتضاه تحريم النهي عن بيع التمر بالتمر، والظاهر أن المستثنى إنما هو من جنس المستثنى منه والرخصة إنما يلقى المحظور؛ والمحظور ها هنا البيع المنهي عنه، ولو كان الأمر على ما تأولوه من الهبة ما كان للخرص معنى ولا لقوله رخص معنى ولا وجه لبيع ملكه في نفسه لأن الهبة يتعلق صحتها بالاقباض والاقباض لم يقع فلم يزل الملك، والاسم ما وجد له مساغ في الحقيقة لم يجز حمله على المجاز، وقد جاءت هذه الرخصة في غير رواية أبي داود مقرونا ذكرها بتحريم المزابنة باسمها الخاص وإن كان معناه معنى أبي داود لا فرق بينهما حدثناه محمد بن عبد الواحد،، قال: حَدَّثنا الحارث بن أبي أسامة،، قال: حَدَّثنا يزيد بن هارون، قال: حَدَّثنا محمد بن إسحاق عن نافع عن ابن عمر عن زيد بن ثابت قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة ورخص في العرايا فدل أن الرخصة إنما وقعت في نوع من المزابنة وإلا لم يكن لذكرها معنى والله أعلم. ومن باب مقدار العرية قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي عن مالك عن داود بن الحصين، عَن أبي سفيان مولى أبي أحمد، قال أبو داود وهذا اسمه قُزمان، عَن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص في بيع العرايا فيما دون خمسة أوسق أو في خمسة أوسق شك داود. وقال أبو داود حديث جابر إلى أربعة أوسق.

ومن باب بيع الثمر قبل أن يبدو صلاحه

قال الشيخ هذا يبين لك أن معنى الرخصة في العرية هو البيع المعروف ولو كان غير ذلك لم يكن لتحديدها بأربعة أو خمسة لا يجاوزها معنى إذ لا حظر في شيء مما ذهبوا إليه، في تفسيرها فيحتاج إلى الرخصه في رفعه. وأما جواز البيع في خمسة أوسق منها فقد أباحه مالك على الإطلاق في هذا القدر، وقال الشافعي لا أفسخ البيع في مقدار خمسة أوسق، وأفسخه فيما وراء ذلك. قال ابن المنذر الرخصة في الخمسة الأوساق مشكوك فيها، والنهي عن المزابنة ثابت فالواجب أن لا يباح منها إلاّ القدر المتيقن إباحته، وقد شك الراوي وهو داود بن الحصين، وقد رواه جابر فانتهى به إلى أربعة أوساق فهو مباح وما زاد عليه محظور. قال الشيخ هذا القول صحيح وقد ألزمه المزني الشافعي وهو لازم على أصله ومعناه. ومن باب بيع الثمر قبل أن يبدو صلاحه قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها نهى البائع والمشتري. قال الشيخ الثمرة إذا بدا صلاحها أمنت العاهة غالبا وما دامت وهي رخوة رخصة أى رطبة قبل أن يشتد حبها أو يبدو صلاحها فإنها بعرض الآفات، وكان نهيه البائع عن ذلك لأحد وجهين أحدهما احتياطاً له بأن يدعها حتى يتبين صلاحها فيزداد قيمتها ويكثر نفعه منها وهو إذا يعجل ثمنها لم يكن فيها طائل لقلته فكان ذلك نوعاً من إضاعة المال. والوجه الآخر أن يكون ذلك مناصحة لأخيه المسلم واحتياطاً لمال المشتري لئلا ينالها الآفة فيبور ماله أو يطالبه برد الثمن من أجل الجائحة فيكون بينهما

في ذلك الشر والخلاف، وقد لا يطلب للبائع مال أخيه منه في الورع إن كان لا قيمة له في الحال إذ لا يقع له قيمة فيصير كأنه نوع من أكل المال بالباطل. وأما نهيه المشتري فمن أجل المخاطرة والتغرير بماله لأنها ربما تلفت بأن تنالها العاهة فيذهب ماله فنهى عن هذا البيع تحصينا للأموال وكراهة للتغرير. ولم يختلف العلماء أنه إذا باعها أو شرط عليه القطع جاز بيعها وإن لم يبد صلاحها، وإنما انصرف النبي إلى البيع قبل بدو الصلاح من التبقية إلاّ أن الفقهاء اختلفوا فيما إذا باعها بعد بدو الصلاح، فقال أبو حنيفة البيع جائز على الإطلاق وعليه القطع فيكون في معنى من شرط القطع، وقال الشافعي البيع جائز وعلى البائع تركها على الشجر حتى تبلغ أناها وجعل العرف فيها كالشرط واستدل بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق حميد عن أنس أنه نهى عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها، وقال أرأيت ان منع الله الثمرة فبم يأخذ أحدكم مال أخيه، ققال فدل ذلك على أن حكم الثمرة التبقية ولو كان حكمها القطع لم يكن يقع معه منع الثمرة. قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي، قال: حَدَّثنا ابن علية عن أيوب عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع النخل حتى تزهو وعن السنبل حتى يبيض ويأمن العاهة نهى البائع والمشتري. وقوله حتى يزهو هكذا يروى والصواب في العرية حتى تزهى الأزهار في الثمر أن يحمر أو يصفر وذلك أمارة الصلاح فيها ودليل خلاصها من الآفة. وقوله عن السنبل حتى يبيض فإن ظاهره يوجب جواز بيع الحب في سنبله إذا اشتد وابيض لأنه حرمه إلى غاية فحكمه بعد بلوغ الغاية بخلاف حكمه قبلها

وإليه ذهب أصحاب الرأي ومالك بن أنس وشبهوه بالجوز واللوز يباعان في قشرهما. وقال الشافعي لا يجوز بيع الحب في السنبل لأنه غرر وقد نهى عن بيع الفرد والمقصود من السنبل حبه وهو مجهول بينك وبينه لا يدري هل هو سليم في باطنه أم لا فيفسد البيع من أجل الجهالة والغرر كبيع لحم المسلوخة في جلدها واحتج بأن النهي عن بيع الحب في السنبل معلول بعلتين: أن قبل أن يبيض ويشد فلأجل الآفات والجوائح، وأما بعد ذلك فلأجل الجهالة وعدم المعرفة به وقد يتوالى على الشيء علتان وموجبهما واحد فترتفع احداهما وهو بحاله غير منفك عنه وذلك كقوله تعالى {فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره} [البقرة: 230] وكان معلوماً أن تحليلها للزوج الأول لا يقع بنفس نكاح الزوج الثاني وبعقده عليها حتى يدخل بها ويصيبها ثم يطلقها وتنقضي عدتها منه كقوله تعالى {ولا تقربوهن حتى يطهرن} [البقرة: 222] فكان ظاهره أن انقطاع الدم رافع للحظر ولم يمنع ذلك من ورود دليل المنع إلاّ بوجود شرط ثانٍ وذلك قوله {فإذا تطهرن} [البقرة: 222] يريد والله أعلم طهارة الاغتسال بالماء. وأما بيع الجوز في قشره فإنه غرر معفو عنه لما فيه من الضرورة وذلك أنه لو نزع لبه عن قشره أسرع إليه الفساد والعفن، وليس كذلك البر والشعير وما في معناهما لأن هذه الحبوب تبقى بعد التذرية والتنقية المدة الطويلة من الأيام والسنين. فأما ما لا ضرورة فيه من بقاء قشره الأعلى فإن البيع غير جائز معه حتى ينزع فكذلك قياس الحب في السنبل والله أعلم. قال أبو داود: حدثنا أبو بكر محمد بن خلاد الباهلي، قال: حَدَّثنا يحيى بن سعيد عن سليم بن حيان، قال: حَدَّثنا سعيد بن مينا قال سمعت جابر بن عبد الله يقول

نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يباع التمر حتى تشقح، قيل وما تشقح، قال تحمار وتصفار ويؤكل منها. قال الشيخ التشقيح تغير لونها إلى الصفرة والحمرة والشقحة لون غير خالص في الحمرة والصفرة وإنما هي تغير لونه في كموده ومنه قيل قبيح شقيح أي تغير اللون إلى السماجة والقبح. وإنما قال يحمار ويصفار لأنه لم يرد به اللون الخالص وإنما يستعمل ذلك في اللون المتميل يقال ما زال يحمار وجهه ويصفار إذا كان يضرب مرة إلى الصفرة ومرة إلى الحمرة فإذا أرادوا أنه قد تمكن واستقر قالوا تحمرّ وتصفرَّ. وفي قوله حتى تشقح دليل على أن الاعتبار في بدو الصلاح إنما هو بحدوث الحمرة في الثمرة دون إتيان الوقت الذي يكون فيه صلاح الثمار غالبا، فقد ذهب بعض أهل العلم إلى اعتباره بالزمان، واحتج بما روي في بعض الحديث أنه قيل متى يبدو صلاحها، ققال إذا طلع النجم، يَعني الثريا والذي في حديث جابر أولى لأن اعتباره بنفسه أولى من اعتباره بغيره. وفي هذا الباب حرف غريب من جهة اللغة في حديث زيد بن ثابت قال كان الناس يبتاعون الثمار قبل أن يبدو صلاحها فإذا جد الناس قال المبتاع أصاب الثمر الذمار وأصابه قشام هكذا هو في رواية ابن داسة. وقال ابن الأعرابي في روايته، عَن أبي داود الدمان بالنون، قال الأصمعي القشام أن ينتقص ثمر النخل قبل أن يصير بلحاً، قال الدمان مفتوحة الدال أن تنشق النخلة أول ما يبدو قلبها عن عفن وسواد، فأما الذمار فليس بشيء.

ومن باب بيع السنين

ومن باب بيع السنين قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل ويحيى بن معين قالا: حَدَّثنا سفيان عن حميد عن الأعرج عن سليمان بن عتيق عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع السنين ووضع الجوائح. قال الشيخ بيع السنين هو أن يبيع الرجل ما تثمره النخلة أو النخلات بأعيانها سنين ثلاثا أو أربعا أو أكثر منها، وهذا غدر لأنه يبيع شيئاَ غير موجود ولا مخلوق حال العقد ولا يدري هل يكون ذلك أم لا وهل يتم النخل أم لا وهذا في بيوع الأعيان، فأما في بيوع الصفات فهوجائز مثل أن يسلف في الشيء إلى ثلاث سنين أو أربع أو أكثر ما دامت المدة معلومة إذا كان الشيء المسلف فيه غالبا وجوده عند وقت محل السلف. وأما قوله وضع الجوائح هكذا رواه أبو داود ورواه الشافعي عن سفيان بإسناده فقال وأمره بوضع الجوائح والجوائح هى الآفات التي تصيب الثمار فتهلكها، يقال جاحهم الدهر يجوحهم واجتاحهم الزمان إذا أصابهم بمكروه عظيم. قال الشيخ وأمره بوضع الجوائح عند أكثر الفقهاء أمر ندب واستحباب من طريق المعروف والإحسان لا على سبيل الوجوب والإلزام. وقال أحمد بن حنبل وأبو عبيد في جماعة من أصحاب الحديث وضع الجائحة لازم للبيع إذا باع الثمرة فأصابته الآفة فهلكت، وقال مالك يوضع في الثلث فصاعداً ولا يوضع فيما هو أقل من الثلث، قال أصحابه ومعنى هذا الكلام أن الجائحة إذا كانت دون الثلث كان من مال المشترى وما كان أكثر من الثلث فهو من مال البائع.

ومن باب بيع المضطر

واستدل من تأول الحديث على معنى الندب والاستحباب دون الإيجاب بأنه أمرحدث بعد استقرار ملك المشتري عليها فلو أراد أن يبيعها أو يهبها لصح ذلك منه فيها، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربح ما لم يضمن فإذا صح بيعها ثبت أنها من ضمانه؛ وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها فلو كانت الجائحة بعد بدو الصلاح من مال البائع لم يكن لهذا النهي فائده. ومن باب بيع المضطر قال أبو داود: حدثنا محمد بن عيسى، قال: حَدَّثنا هشيم أخبرنا صالح بن عامر قال أبو داود قال محمد حدثنا شيخ من بني تميم قال خطبنا على بن أبي طالب رضي الله عنه أو قال: قال علي قال قال محمد هكذا حدثنا هشيم قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع المضطر وبيع الغرر وبيع الثمرة قبل أن تدرك. قال الشيخ بيع المضطر يكون من وجهين أحدهما أن يضطر إلى العقد من طريق الإكراه عليه فهذا فاسد لا ينعقد. والوجه الاخر أن يضطر إلى البيع لدين يركبه أو مؤنة ترهقه فيبيع ما في يده بالوكس من أجل الضرورة فهذا سبيله في حق الدين والمروءة أن لا يبايع على هذا الوجه وأن لا يفتات عليه بمثله ولكن يعان ويقرض ويستمهل له إلى الميسرة حتى يكون له في ذلك بلاغ فإن عقد البيع مع الضرورة على هذا الوجه جاز في الحكم ولم يفسخ. وفي إسناد الحديث رجل مجهول لا ندري من هو، إلاّ أن عامة أهل العلم قد كرهوا البيع على هذا الوجه. قال أبو داود: حدثنا أبو بكر وعثمان ابنا أبي شيبة قالا: حَدَّثنا ابن إدريس عن عبيد الله، عَن أبي الزناد عن الأعرج، عَن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن

بيع الغرر زاد عثمان والحصاة. قال الشيخ أصل الغرر هو ما طوي عنك علمه وخفى عليك باطنه وسره وهو مأخوذ من قولك طويت الثوب على غره أي على كسره الأول وكل بيع كان المقصود منه مجهولاً غير معلوم ومعجوزاً عنه غير مقدور عليه فهو غرر وذلك مثل أن يبيعه سمكاً في الماء أو طيراً في الهواء أو لؤلؤة في البحر أو عبداً آبقاً أو جملاً شارداً أو ثوباً في جراب لم يره ولم ينشره أو طعاماً في بيت لم يفتحه أو ولد بهيمة لم تولد أو ثمر شجرة لم تثمر في نحوها من الأمور التي لا تعلم ولا يدري هل تكون أم لا فإن البيع فيها مفسوخ. وإنما نهى صلى الله عليه وسلم عن هذه البيوع تحصينا للأموال أن تضيع وقطعاً للخصومة والنزاع أن يقعا بين الناس فيها. وأبواب الغرر كثيرة وجماعها ما دخل في المقصود منه الجهل. وأما بيع الحصاة فإنه يفسر على وجهين أحدهما أن يرمي بالحصاة ويجعل رميها إفادة للعقد فإذا سقطب وجب البيع ثم لا يكون للمشتري فيه الخيار. والوجه الاخر أن يعترض الرجل القطيع من الغنم فيرمي فيها بحصاة فأية شاة منها أصابتها الحصاة فقد استحقها بالبيع، وهذا من جملة الغرر المنهي عنه. قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد وأحمد بن عمرو بن السرح وهذا لفظه قالا: حَدَّثنا سفيان عن الزهري عن عطاء بن يزيد الليثي، عَن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعتين وعن لبستين، أما البيعتان فالملامسة والمنابذة، وأما اللبستان فاشتمال الصماء وأن يحتبي الرجل في ثوب واحد كاشفاً عن فرجه أو ليس على فرجه منه شيء.

ومن باب المضارب إذا خالف

قال الشيخ الملامسة أن تلمس الثوب الذي تريد شراءه أي يمسه بيده ولا ينشره ولا يتأمله ويقول إذا لمسته بيدي فقد وجب البيع ثم لا يكون له فيه خيار إن وجد فيه عيبا، وفي نهيه عن بيع الملامسة مستدل لمن أبطل بيع الأعمى وشراءه لأنه إنما يستدل ويتأمل باللمس فيما سبيله أن يستدرك بالعيان وحس البصيرة. والمنابذة أن يقول إذا نبذت إليك الثوب فقد وجب البيع، وقد جاء بهذا التفسير في الحديث وقال أبو عبد الله المنابذة أن ينبذ الحجر ويقول إذا وقع الحجر فهو لك وهذا نظير بيع الحصاة. وأما اشتمال الصماء فهو أن يشتمل في ثوب واحد يضع طرفي الثوب على عاتقه الأيسر ويسدل شقه الأيمن هكذا جاء تفسيره في الحديث. وأما الاحتباء في الثوب الواحد ليس على فرجه منه شيء فهو أن يقعد على إليتيه، وقد نصب ساقيه وهوغير متزر ثم يحتبي بثوب يجمع بين طرفيه ويشدهما على ركبتيه وإذا فعل ذلك بقيت فرجة بينه وبين الهواء تنكشف منها عورته. قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع حبل الحبلة. قال الشيخ حبل الحبلة هو نتاج النتاج، وقد جاء تفسيره في الحديث هو أن ينتج الناقة بطنها ثم تحمل التي نتجت وهذه بيوع كانوا يتبايعونها في الجاهلية وهي كلها يدخلها الجهل والغرر فنهوا عنها وأرشدوا إلى الصواب حكم الإسلام فيها. ومن باب المضارب إذا خالف قال أبو داود: حدثنا مسدد قال أخبرنا سفيان عن شبيب بن غرقدة قال

حدثني الحيّ عن عروة البارقي قال أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم دينارا يشتري به أضحية أو شاة فاشترى ثنتين فباع أحدهما بدينار فأتاه بشاة ودينار فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم بالبركة في بيعه فكان لو اشترى ترابا لربح فيه. قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير العبدي قال أخبرنا سفيان قال حدثني أبوحصين عن شيخ من أهل المدينة عن حكيم بن حزام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث معه بدينار ليشتري له أضحية فاشتراها بدينار وباعها بدينارين فرجع فاشترى أضحية بدينار وجاء بدينار إلى النبي صلى الله عليه وسلم فتصدق به النبي صلى الله عليه وسلم ودعا له أن يبارك له في تجارته. قال الشيخ هذا الحديث مما يحتج به أصحاب الرأي لأنهم يجيزون بيع مال زيد من عمرو بغير إذن منه أو توكيل ويتوقف البيع على إجازة المالك فإذا أجازه صح، إلاّ أنهم لم يجيزوا الشراء بغير إذنه وأجاز مالك بن أنس الشراء والبيع معاً. وكان الشافعي لا يجيز شيئا من ذلك لأنه غرر لا يدري هل يجيزه أم لا، وكذلك لا يجيز النكاح الموقوف على رضا المنكوحة أو إجازة الولي غير أن الخبرين معاً غير متصلين لأن في أحدهما وهو خبر حكيم بن حزام رجلا مجهولاً لا يدري من هو، وفي خبر عروة أن الحي حدثوه وما كان هذا سبيله من الرواية لم تقم به الحجة. وقد ذهب بعض من لم يجز البيع الموقوف من تأويل هذا الحديث إلى أن وكالته كانت وكالة تفويض واطلاق وإذا كانت الوكالة مطلقة فقد حصل البيع والشراء عن إذن. قال الشيخ وهذا لا يستقيم لأن في خبر حكيم أنه تصدق بالدينار فلو كانت

ومن باب الرجل يتجر في مال الرجل بغير إذنه

الوكالة مطلقة طابت له الزيادة والله أعلم. وقد جعل غير واحد من أهل العلم هذا أصلا في أن من وصل إليه مال من شبهة وهو لا يعرف له مستحقا فإنه يتصدق به. واختلف الفقهاء في المضارب إذا خالف رب المال فروي عن ابن عمر أنه قال الربح لرب المال وعن أبي قلابة ونافع أنه ضامن والربح لرب المال وبه قال أحمد وإسحاق وكذلك الحكم عند أحمد في من استودع مالاً فاتجر فيه بغير إذن صاحبه أن الربح لرب المال. وقال أصحاب الرأي الربح للمضارب ويتصدق به والوضيعة عليه وهو ضامن لرأس المال في الوجهين معاً. وقال الأوزاعي إن خالف وربح فالربح له في القضاء ويتصدق به في الورع والفتيا ولا يصلح لواحد منهما. وقال الشافعي إذا خالف المضارب نُظِرَ فإن اشترى السلعة التي لم يؤمر بها بغير المال فالبيع باطل وإن اشتراها بغير العين، فالسلعة ملك للمشتري وهو ضامن للمال. ومن باب الرجل يتجر في مال الرجل بغير إذنه قال أبو داود: حدثنا محمد بن العلاء، قال: حَدَّثنا أبو أسامة، قال: حَدَّثنا محمد بن حمزة قال أخبرنا سالم بن عبد الله عن أبيه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من استطاع منكم أن يكون مثل صاحب فرق الأرز فليكن مثله، قالوا ومن صاحب الأرز يا رسول الله فذكر حديث الغار حين سقط عليهم الجبل فقال كل واحد منهم اذكروا أحسن عملكم إلى أن قال:

ومن باب الشركة على غير رأس مال

وقال الثالث منهم اللهم تعلم أني استأجرت أجيراً بفرق أرز فلما أمسيت عرضت عليه حقه فأبى أن يأخذه وذهب فثَمَّرتُه له حتى جمعت له بقراً ورعاءها فلقيني فقال أعطني حقي فقلت اذهب إلى تلك البقر ورعاءها فخذها فذهب فاستاقها. قال الشيخ قد احتج به أحمد بن حنبل لقوله الذي حكيناه عنه في الباب الأول، ويشبه على مذهبه أن يكون هذا الرجل إنما كان استأجره على فرق أرز معلوم بعينه حتى يكون التجارة وقعت بمال الأجير، فأما إذا كانت الأجرة في الذمة غير معينة فإنما وقعت التجارة في مال المستأجر لأنها من ضمانه فالربح له لأنه المالك والعامل المتصرف فيه، إلاّ أنه لا حجة له في واحد من الأمرين أيهما كان لأن هذا قول ثناء ومدح استحضه هذا الرجل في أمر تبرع به لم يكن يلزمه من جهة الحكم فحمد عليه، وإنما هو الترغيب في الإحسان والندب إليه وليس من باب ما يجب ويلزم في شيء. ومن باب الشركة على غير رأس مال قال أبو داود: حدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا يحيى، قال: حَدَّثنا سفيان، عَن أبي إسحاق، عَن أبي عبيدة قال اشتركت أنا وعمار وسعد فيما يصيب يوم بدر قال فجاء سعد بأسيرين ولم أجىء أنا وعمار بشيء. قال الشيخ شركة الأبدان صحيحة في مذهب سفيان الثوري وأصحاب الرأي وهذا الحديث حجة لهم، وقد احتج به أحمد بن حنبل وأثبت شركة الأبدان وهو أن يكونا خياطين وقصارين فيعملان أو يعمل كل واحد منهما منفردا أو يكون أحدهما خياطاً والآخر خزَّازاً أو حداداً سواء اتفقت الصناعات

ومن باب المزارعة

أو اختلفت فكل ما أصاب أحدهما من أجرة عن عمله كان صاحبه شريكه فيها، أو يشتركان على أن ما يكتسبه كل واحد منهما كان بينهما إن لم يكن العمل معلوماً، إلاّ أن بعضهم قال لا يدخل فيها الاصطياد والاحتشاش. وحكي عن أحمد أنه قال يدخل فيها الصيد والحشيش ونحوهما وقاسوها على المضاربة قالوا إذا كان العمل فيها أحد رأسي المال جاز أن يكون في الشقين مثل ذلك وأبطلها الشافعي وأبو ثور. فأما شركة المفاوضة فهي عند الشافعي رضي اله عنه فاسدة ووافق في ذلك أحمد وإسحاق وأبو ثور وجوزها الثوري وأصحاب الرأي وهو قول الأوزاعي وابن أبي ليلى، وقال أبو حنيفة وسفيان وأبو يوسف لا يكون شركة مفاوضة حتى يكون رأس أمواهما سواء. ومن باب المزارعة قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير قال أخبرنا سفيان عن عمرو بن دينار قال سمعت ابن عمر يقول أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها فذكرته لطاوس فقال قال ابن عباس إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينه عنها ولكن قال لأن يمنح أحدكم أرضه خير من أن يأخذ خراجاً معلوماً. قال الشيخ خبر رافع بن خديج من هذا الطريق خبر مجمل يفسره الأخبار التي رويت عن رافع بن خديج وعن غيره من طرق أخر، وقد عقل ابن عباس معنى الخبر وأن ليس المراد به تحريم المزارعة شطر ما تخرجه الأرض، وإنما أريد بذلك أن يتمانحوا أرضهم وأن يرفق بعضهم بعضا، وقد ذكر رافع بن خديج في رواية أخرى عنه النوع الذي حرم منها والعلة التي من أجلها نهى

عنها، وذكره أبو داود في هذا الباب. ، قال: حَدَّثنا إبراهيم بن موسى قال أخبرنا عيسى، قال: حَدَّثنا الأوزاعي عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن قال حدثني حنظلة بن قيس الأنصاري قال سألت رافع بن خديج عن كراء الأرض بالذهب والورق، فقال لا بأس بها إنما كان الناس يؤاجرون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بما على الماذيانات وإقبلل الجداول وأشياء من الزرع فيهلك هذا ويسلم هذا أو يسلم هذا ويهلك هذا ولم يكن للناس كراً إلاّ هذا فلذلك زجر عنه، فأما شيء مضمون معلوم فلا بأس به. فقد أعلمك رافع في هذا الحديث أن المنهي عنه هو المجهول منه دون المعلوم وأنه كان من عادتهم أن يشترطوا فيها شروطا فاسدة وأن يستثنوا من الزرع ما على السواقي والجداول فيكون خاصا لرب المال والمزارعة شركة، وحصة الشريك لا تجوز أن تكون مجهولة، وقد يسلم ما على السواقي ويهلك سائر الزرع فيبقى المزارع لا شيء له وهذا غرر وخطر. وإذا اشترط رب المال على المضارب دراهم لنفسه زيادة على حصة الربح المعلومة فسدت المضاربة، وهذا وذلك سواء وأصل المضاربة في السنة المزارعة المساقاة فكيف يجوز أن يصح الفرع ويبطل الأصل. والماذيانات: الأنهار وهي من كلام العجم صارت دخيلا في كلامهم. قال الشيخ وقد ذكر زيد بن ثابت العلة والسبب الذي خرج عليه الكلام في ذلك وبين الصفة التي وقع عليها النهي ورواه أبو داود في هذا الباب. ، قال: حَدَّثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا ابن علية (ح) وحدثنا مسدد، قال: حَدَّثنا بشر المعنى عن عبد الرحمن بن إسحاق، عَن أبي عبيدة بن محمد بن عمار عن

الوليد بن أبي الوليد عن عروة بن الزبير قال: قال زيد بن ثابت يغفر الله لرافع بن خديج أنا والله أعلم بالحديث منه إنما أتاه رجلان من الأنصار قد اقتتلا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كان هذا شأنكم فلا تكروا المزارع فسمع قوله لا تكروا المزارع. وضعف أحمد بن حنبل حديث رافع وقال هو كثير الألوان يريد اضطراب هذا الحديث واختلاف الروايات عنه فمرة يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومرة يقول حدثني عمومتي عنه. وجوز أحمد المزارعة واحتج بأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى اليهود أرض خيبر مزارعة ونخلها مساقاة وأجازها ابن أبي ليلى ويعقوب ومحمد وهو قول ابن المسيب وابن سيرين والزهري وعمر بن عبد العزيز وأبطلها أبو حنيفة ومالك والشافعي. قال الشيخ فإنما صار هؤلاء إلى ظاهر الحديث من رواية رافع بن خديج ولم يقفوا على علته كما وقف عليه أحمد: وقد أنعم بيان هذا الباب محمد بن إسحاق بن خزيمة وجوزه وصنف في المزارعة مسألة ذكر فيها علل الأحاديث التي وردت فيها فالمزارعة على النصف والثلث والربع وعلى ما تراضى به الشريكان جائزة إذا كانت الحصص معلومة والشروط الفاسدة معدومة وهي عمل المسلمين من بلدان الإسلام وأقطار الأرض شرقها وغربها لا أعلم أني رأيت أو سمعت أهل بلد أو صقع من نواحي الأرض التي يسكنها المسلمون يبطلون العمل بها. ثم ذكر أبو داود على أثر هذه الأحاديث باباً في تشديد النهي عن المزارعة وذكر فيه طرقا لحديث رافع بن خديج بألفاط مختلفة كرهنا ذكرها لئلا يطول الكتاب وسبيلها كلها أن يرد المجمل منها إلى المفسر من الأحاديث التي مر

ومن باب إذا زرع الأرض بغير إذن صاحبها

ذكرها وقد بينا عللها. وفي هذا الباب ألفاط يحتاج إلى تفسير وشرح منها، قوله أفقر أخاك أو أكره بالدراهم، ومعنى أفقر أخاك أي أعِرْهُ إياها، وأصل الإفقار في إعارة الظهر، يقال أفقرت الرجل بعيري إذا أعرته ظهره للركوب. ومنها الحقل وهو الزرع الأخضر والحقل أيضاً القراح الذي يُعَد للمزارعة وفي بعض الأمثال لا تنبت البقلة إلاّ الحقلة، ومنه أخذت المحاقلة ومنها المخابرة وهي المزارعة على النصف والثلث ونحوهما والخبير والنصيب والخبير الأكار. ومن باب إذا زرع الأرض بغير إذن صاحبها قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا شريك، عَن أبي إسحاق عن عطاء عن رافع بن خديج قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من زرع في أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شيء وله نفقته. قال الشيخ هذا الحديث لا يثبت عند أهل المعرفة بالحديث وحدثني الحسن بن يحيى عن موسى بن هارون الجمال أنه كان ينكر هذا الحديث ويضعفه ويقول لم يروه، عَن أبي إسحاق غير شريك ولا عن عطاء غير أبى إسحاق وعطاء لم يسمع من رافع بن خديج شيئاً وضعفه البخاري أيضاً، وقال تفرد بذلك شريك، عَن أبي إسحاق وشريك يَهِمُ كثيراً أو أحياناً. ويشبه أن يكون معناه لو صح وثبت على العقوبة والحرمان للغاصب والزرع في قول عامة الفقهاء لصاحب البذر لأنه تولد من غير ماله وتكوَّن معه وعلى الزارع كراء الأرض، غير أن أحمد بن حنبل كان يقول إذا كان الزرع قائماً فهو لصاحب الأرض فأما إذا حصد فإنما يكون له الأجرة.

ومن باب في المخابرة

وحكى ابن المنذر، عَن أبي داود قال سمعت أحمد بن حنبل وسئل عن حديث رافع فقال عن رافع ألوان ولكن أبا إسحاق زاد فيه زرع بغير إذنه وليس غيره ينكر هذا الحرف. ومن باب في المخابرة قال أبو داود: حدثنا مسدد أن حماداً وعبد الوارث حدثاهم عن أيوب، عَن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة والمخابرة والمعاومة وعن الثنيا ورخص في العرايا. قال الشيخ المحاقلة قد مر تفسيرها فيما مضى وأنها بيع الزرع بالحب والمخابرة هي المزارعة والخبير الأكار. والمزابنة بيع الرطب بالتمر، وأما المعاومة فهي بيع السنين ومعناه أن يبيعه سنة أو سنتين أو أكثر إما ثمرة نخلة بعينها أو نخلات وهو بيع فاسد لأنه بيع ما لم يوجد ولم يخلق ولا يدرى هل يثمر أو لاً يثمر. وبيع الثنيا المنهي عنه أن يبيعه ثمرحائطه ويستثني منه جزءاً غير معلوم قيبطل لأن المبيع حينئذ يكون مجهولا فإذا كان ما يستثنيه شيئا معلوماً كالثلث والربع ونحوه كان جائزا فكذلك إذا باعه صبرة طعام جزافاً واستثني منه قفيزاً أو قفيزين كان جائزا لأنه استثنى معلوماً من معلوم؛ وقد تقدم ذكر تفسير العرايا. ومن باب المساقاة قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل، قال: حَدَّثنا يحيى عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عامل خيبر بشطر ما يخرج من ثمر أو زرع. قال الشيخ في هذا إثبات المزارعة على ضعف خبر رافع بن خديج في النهي

عن المزارعة بشطر ما تخرجه الأرض، وإنما صار إليه ابن عمر تورعاً واحتياطاً وهو راوي خبر أهل خيبر، وقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرهم عليها أيام حياته ثم أبا بكر ثم عمر إلى أن أجلاهم عنها. وفيه إثبات المساقاة وهي التي تسميها أهل العراق المعاملة وهي أن يدفع صاحب النخل نخله إلى الرجل ليعمل بما فيه صلاحها أو صلاح ثمرها ويكون له الشطر من ثمرها وللعامل الشطر فيكون من أحد الشقين رقاب الشجر، ومن الشق الآخر العمل كالمزارعة يكون فيها من قبل رب المال الدراهم والدنانير ومن العامل التصرف فيها وهذه لها في القياس سواء. والعمل بالمساقاة ثابت في قول أكثر الفقهاء ولا أعلم أحداً منهم أبطلها إلاّ أبا حننفة. وخالفه صاحباه فقالا بقول جماعة أهل العلم. واختلفوا فيما يصح فيه المساقاة من الشجر والثمر فكان الشافعي يقول إنما تصح المساقاة في النخل والكرم لأنهما يخرصان وثمرهما بادٍ بارز يدركه البصر وعلق القول فيما يتفرق ثمره في الشجر ويغيب عن البصر تحت الورق كالتين والزيتون والتفاح ونحوها من الفواكه. وكان مالك وأبو يوسف ومحمد بن الحسن يجيزونها في كل شجر له أصل قائم. وقال مالك لا بأس بالمساقاة في القثاء والبطيخ وشرط فيها شروطا لا يكاد يتبين صحة معناه فيها، وقال أبو ثور تجوز المساقاة في النخل والكرم والرطاب والباذنجان وما يكون له ثمرة قائمة إذا كان دفعه إليه أرضا ومنها النخل والرطاب. واحتج في ذلك بخبر أرض خيبر أن النبي صلى الله عليه وسلم عاملهم وفى أرضهم النخل والزرع ونحوه.

ومن باب كسب المعلم

ومن باب كسب المعلم قال أبو داود: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: حَدَّثنا وكيع وحميد بن عبد الرحمن الرُّواسي عن مغيرة بن زياد عن عبادة بن نسى عن الأسود بن ثعلبة عن عبادة بن الصامت قال علمت ناساً من أهل الصفة الكتاب والقرآن فأهدى إلي رجل منهم قوسا فقلت ليست بمال فأرمي عليها في سبيل الله لآتين رسول الله صلى الله عليه وسلم فلأسألنه فأتيته فقلت يا رسول الله رجل أهدى إلي قوساً ممن كنت أعلمه الكتاب والقرآن وليست بمال فأرمي عنها في سبيل الله فقال إن كنت تحب أن تطوق طوقاً من نار فاقبلها. قال الشيخ اختلف الناس في معنى هذا الحديث وتأويله فذهب قوم من العلماء إلى ظاهره فرأوا أن أخذ الأجرة والعوض على تعليم القرآن غير مباح، وإليه ذهب الزهري وأبو حنيفة وإسحاق بن راهويه. وقالت طائفة لا بأس به ما لم يشترط وهو قول الحسن البصري وابن سيرين والشعبي وأباح ذلك آخرون وهو مذهب عطاء ومالك والشافعي وأبي ثور واحتجوا بحديث سهل بن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للرجل الذي خطب المرأة فلم يجد لها مهراً زوجتكها على ما معك من القرآن، وقد ذكره أبو داود في موضعه من هذا الكتاب، وتأولوا حديث عبادة على أنه أمر كان تبرع به ونوى الاحتساب فيه ولم يكن قصده وقت التعليم إلى طلب عوض ونفع فحذره النبي صلى الله عليه وسلم إبطال أجره وتوعده عليه، وكان سبيل عبادة في هذا سبيل من رد ضالة الرجل أو استخرج له متاعاً قد عرف تبرعاً وحسبة فليس له أن يأخذ عليه

ومن باب كسب المعالجين من الطب

عوضاً ولو أنه طلب لذلك أجرة قبل أن يفعله حسبة كان ذلك جائزاً. وأهل الصفة قوم فقراء كانوا يعيشون بصدقة الناس فأخذ الرجل المال منهم مكروه ودفعه إليهم مستحب. وقال بعض العلماء أخذ الأجرة على تعليم القرآن له حالات فإذا كان في المسلمين غيره ممن يقوم به حل له أخذ الأجرة عليه لأن فرض ذلك لا يتعين عليه. وإذا كان في حال أو موضع لا يقوم به غيره لم يحل له أخذ الأجرة وعلى هذا تأول اختلاف الأخبار فيه. ومن باب كسب المعالجين من الطب قال أبو داود: حدثنا مسدد، قال: حَدَّثنا أبو عوانه، عَن أبي شر، عَن أبي المتوكل عن أب سعيد الخدري أن رهطاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلقوا في سفرة سافروها فنزلوا بحي من أحياء العرب فاستضافوهم فأبوا أن يضيفوهم، قال فلدغ سيد ذلك الحي فشفوا له بكل شيء لا ينفعه شيء، فقال بعضهم لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين نزلوا بكم لعل أن يكون عند بعضهم شيء ينفع صاحبكم، فقال بعضهم إن سيدنا لدغ فهل عند أحد منكم رقية، فقال رجل من القوم أني لأرقي ولكن استضفناكم فأبيتم أن تضيفونا ما أنا براق حتى تجعلوا لي جعلاً فجعلوا له قطيعا من الشاء فأتاه فقرأ عليه بأم الكتاب ويتفل حتى برأ كأنما أنشط من عقال فأوفاهم جُعلهم الذي صالحوهم عليه فقالوا اقتسموا، فقال الذي رقى لا تفعلوا حتى نأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فنستأمره فغدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له،

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أين علمتم أنها رقية أحسنتم واضربوا لي معكم بسهم. قال الشيخ وفي هذا بيان جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن ولو كان ذلك حراماً لأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم برد القطيع، فلما صوب فعلهم وقال لهم أحسنتم ورضي الأجرة التي أخذوها لنفسه فقال اضربوا لي معكم بسهم ثبت أنه طِلْق مباح وأن المذهب الذي ذهب إليه من جمع بين أخبار الإباحة والكراهة في جواز أخذ الأجرة على ما لا يتعين الفرض فيه على معلمه ونفى جوازه على ما يتعين فيه التعليم مذهب سديد وهو قول أبي سعيد الأصطخري. وفي الحديث دليل على جواز بيع المصاحف وأخذ الأجرة على كتبها، وفيه إباحة الرقية بذكر الله في أسمائه، وفيه إباحة أجر الطبيب والمعالج وذلك أن القراءة والرقية والنفث فعل من الأفعال المباحة، وقد أباح له أخذ الأجرة عليها فكذلك ما يفعله الطبيب من قول ووصف وعلاج فعل لا فرق بينهما. وقد تكلم الناس في جواز بيع المصاحف فكرهت طائفة بيعها، روي عن ابن عمر أنه كان يقول وددت أن الأيدي تقطع في بيع المصاحف وكره بيعها شريح وابن سيرين ورخص في شرائها روي ذلك عن ابن عباس وسعيد بن جبير. وقال أحمد بن حنبل الأمر في شرائها أهون، قال وما أعلم في البيع رخصة. ورخص أكثر الفقهاء في بيعها وشرائها وهو قول الحسن والشعبي وعكرمة والحكم وسفيان الثوري وأصحاب الرأي والنخعي وكرهت، وإليه ذهب مالك والشافعي. وقوله فشفوا له بكل شيء، معناه عالجوه بكل شىء مما يستشفى به والعرب تضع الشفاء موضع العلاج قال الشاعر: جعلت لعراف اليمامة حكمه ... وعراف حجر إن هما شفياني

ومن باب كسب الحجام

وقوله أنشط من عقال أي حل من وثاق، يقال نشطت الشيء إذا شددته وأنشطته إذا فككته والأنشوطة الحبل الذي يشد به الشيء. ومن باب كسب الحجام قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل، قال: حَدَّثنا أبان، قال: حَدَّثنا يحيى، يَعني ابن أبي كثير عن إبراهيم بن عبد الله بن قارظ عن السائب بن يزيد عن رافع بن خديج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كسب الحجام خبيث وثمن الكلب خبيث ومهر البغي خبيث. قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن ابن شهاب عن ابن محيصة عن أبيه أنه استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في إجارة الحجام فنهاه فلم يزل يسأله ويستأذنه حتى أمره أن أعلفه ناضحك أو رقيقك. قال الشيخ حديث محيصة يدل على أن أجرة الحجام ليست بحرام وأن خبثها من قبل دناءة مخرجها، وقال ابن عباس احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطى الحجام أجره ولو علمه محرما لم يعطه. قال الشيخ وقوله أعلفه ناضحك أو رقيقك يدل على صحة ما قلناه وذلك أنه لا يجوز له أن يطعم رقيقه إلاّ من مال قد ثبت له ملكه، وإذا ثبت له ملكه فقد ثبت أنه مباح، وإنما وجهه التنزيه عن الكسب الدنىء والترغيب في تطهير الطعم والإرشاد فيها إلى ما هو أطيب وأحسن وبعض الكسب أعلى وأفضل وبعضه أدنى وأوكح. وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن كسب الحجام إن كان حراً فهو محرم، واحتج بهذا الحديث بقوله إنه خبيث وإن كان عبدا فإنه يعلفه ناضحه وينفقه

ومن باب كسب الإماء

على دوابه. قال الشيخ وهذا القائل يذهب في التفريق بينهما مذهباً ليس له معنى صحيح وكل شيء حلّ من المال للعبيد حل للأحرار. والعبد لا ملك له ويده يد سيده وكسبه كسبه، وإنما وجه الحديث ما ذكرته لك، وأن الخبيث معناه الدنيء كقوله تعالى {ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون} [البقرة: 267] أي الدون. فأما قوله ثمن الكلب خبيث، ومهر البغي خبيث فإنهما على التحريم، وذلك أن الكلب نجس الذات محرم الثمن، وفعل الزنا محرم وبدل العوض عليه وأخذه في التحريم مثله لأنه ذريعة إلى التوصل إليه، والحجامة مباحة، وفيها نفع وصلاح الأبدان. وقد يجمع الكلام بين القرائن في اللفظ الواحد ويفرق بينهما في المعاني وذلك على حسب الأغراض والمقاصد فيها، وقد يكون الكلام في الفصل الواحد بعضه على الوجوب وبعضه على الندب وبعضه على الحقيقة وبعضه على المجاز وإنما يعلم ذلك بدلائل الأصول وباعتبار معانيها. والبغي الزانية وفعلها البغاء، ومنه قوله تعالى {ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء} [النور: 33] . ومن باب كسب الإماء قال أبو داود: حدثنا عبيد الله بن معاذ، قال: حَدَّثنا أبي، قال: حَدَّثنا شعبة عن محمد بن جحادة قال سمعت أبا حازم سمع أبا هريرة قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كسب الإماء. قال الشيخ كانت لأهل مكه ولأهل المدينة إماء عليهن ضرائب تخدمن الناس تخبزن وتسقين الماء وتصنعن غير ذلك من الصناعات ويؤدين الضريبة

ومن باب حلوان الكاهن

إلى ساداتهن. والإماء إذا دخل تلك المداخل وتبذلن ذلك التبذل وهن مخارجات وعليهن ضرائب لم يؤمن أن يكون منهن أو من بعضهن الفجور وأن يكسبن بالسفاح فأمر صلى الله عليه وسلم بالتنزه عن كسبهن ومتى لم يكن لعملهن وجه معلوم يكتسبن به فهو أبلغ في النهي وأشد في الكراهة. وقد جاءت الرخصة في كسب الأمة إذا كانت في يدها عمل، ورواه أبو داود في هذا الباب. ، قال: حَدَّثنا هارون بن عبد الله، قال: حَدَّثنا هاشم بن القاسم، قال: حَدَّثنا عكرمة بن عمار قال أخبرني طارق بن عبد الرحمن القرشري؛ قال جاء رافع بن رفاعة إلى مجلس الأنصار فقال لقد نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر أشياء ونهى عن كسب الأمة إلاّ ما عملت بيدها، وقال هكذا بأصابعه نحو الخبز والغزل والنفش. النفش نتف الصوف أو ندفه وفي حديث آخر أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن كسب الأمة حتى يعلم من أين هو أخرجه أبو داود من حديث رافع بن خديج. ومن باب حلوان الكاهن قال أبو داود: حدثنا قتيية بن سعيد عن سفيان عن الزهري، عَن أبي بكر بن عبد الرحمن، عَن أبي مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن. قال الشيخ حلوان الكاهن هو ما يأخذه المتكهن عن كهانته وهو محرم وفعله با طل؛ يقال حلوت الرجل شيئا، يَعني رشوته وأخبرنى أبو عمر، قال: حَدَّثنا أبو العباس عن ابن الأعرابي قال: ويقال لحلوان الكاهن الشنع والصهيم. قال الشيخ وحلوان العرّاف حرام كذلك والفرق بين الكاهن والعراف

ومن باب عسب الفحل

أن الكاهن إنما يتعاطى الخبر عن الكوائن في مستقبل الزمان ويدعي معرفة الأسرار، والعراف هو الذي يتعاطى معرفة الشيء المسروق ومكان الضالة ونحوهما من الأمور. ومن باب عسب الفحل قال أبو داود: حدثنا مسدد بن مسرهد، قال: حَدَّثنا إسماعيل عن علي بن الحكم عن نافع عن ابن عمر قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عسب الفحل. قال الشيخ عسب الفحل الذكر الذي يؤخذ على ضرابه وهو لا يحل، وفيه غرر لأن الفحل قد يضرب وقد لا يضرب، وقد تلقح الأنثى وقد لا تلقح فهو أمر مظنون والغرر فيه موجود. وقد اختلف في ذلك أهل العلم فروى عن جماعة من الصحابة تحريمه، وهو قول أكثر الفقهاء. وقال مالك لا بأس به إذا استأجروه ينزونه مدة معلومة، وإنما يبطل إذا شرطوا أن ينزوه حتى تعلق الر_ّ_مكة. وشبهه بعض أصحابه بأجرة الرضاع وابار النخل وزعم أنه من المصلحة ولو منعنا منه لانقطع النسل. قال الشيخ وهذا كله فاسد لمنع السنة منه، وإنما هومن باب المعروف فعلى الناس أن لا يتمانعوا منه. فأما أخذ الأجرة عليه فمحرم وفيه قبح وترك مروءة. وقد رخص فيه أيضاً الحسن وابن سيرين، وقال عطاء لا بأس به إذا لم يجد من يطرقه.

ومن باب الصائغ

ومن باب الصائغ قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل، قال: حَدَّثنا حماد، قال: حَدَّثنا محمد بن إسحاق عن العلاء بن عبد الرحمن، عَن أبي ماجدة عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إني وهبت لخالتي غلاماً وإني أرجو أن يبارك لها فيه فقلت لها لا تسلميه حجاماً ولا صائغا ولا قصَّاباً. قال الشيخ يشبه أن يكون إنما كره كسب الصائغ لما يدخله من الربا ولما يجري على ألسنتهم من المواعيد في رد المتاع، ثم يقع في ذلك الخلف، وقد يكثر هذا في الصاغة حتى صار ذلك كالسمة لهم وإن كان غيرهم قد يشركهم في بعض ذلك. وقد روي في حديث أكذب النلس الصباغون والصواغون وإن لم يكن إسناده بذلك، وأما القصاب فعمله غير نظيف، وثوبه الذي يعالج فيه صناعته غير طاهر في الأغلب والحجامة أمر مشهور، وقد تقدم ذكره فيما مضى. ومن باب العبد يباع وله مال قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل، قال: حَدَّثنا سفيان عن الزهري عن سالم عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من باع عبدا وله مال فماله للبائع إلاّ أن يشترط المبتاع ومن باع نخلاً مؤبراً فالثمرة للبائع إلاّ أن يشترط المبتاع. قال الشيخ في هذا الحديث من الفقه أن العبد لا يملك مالاً بحال، وذلك لأنه جعله في أرفع أحواله وأقواها في إضافة الملك إليه مملوكاً عليه ماله ومنتزعاً من يده فدل ذلك على عدم الامتلاك أصلاً وإلى هذا ذهب أصحاب الرأي والشافعي. وقال مالك العبد يملك إذا ملكه صاحبه، وكذا قال أهل الظاهر. وفائدة

هذا الخلاف والموضع الذي تبين أثره فيه مسألتان أحدهما هل له أن يتسرى أم لا فمن جعل له ملكاً أباح له ذلك ومن لم يره يملك لم يبح له الوطء بملك اليمين. والمسألة الأخرى أن يكون في يده نصاب من الماشية فيمر عليه الحول ثم يبيعه سيده ولم يشترط المبتاع ماله، فإذا عاد إلى السيد هل يلزمه الزكاة فيه أم لا فمن لم يثبت له ملكاً أوجب زكاته على سيده ومن جعل للعبد ملكاً أسقط الزكاة عنه لأن ملكه ناقص كملك المكاتب ويستأنف السيد به الحول. وممن ذهب إلى ظاهر الحديث في أن ماله للبائع إلاّ أن يشترط المبتاع مالك والشافعي وأحمد واسحاق. وروي عن الحسن والنخعي أنهما قالا فيمن باع وليدة قد زينت أن ما عليها للمشتري إلاّ أن يشترط الذي باعها ما عليها. قال الشيخ ولا يجوز على مذهب الشافعي أن يكون ماله الذي يشترطه المبتاع إلاّ معلوماً فإن كان مجهولاً لم يجز لأنه غرر وللثمن منه حصة فإذا لم يكن معلوماً جهل الثمن فيه فبطل البيع. وإن كان المال الذي في يد العبد شيئاً مما يدخله الربا لم يجز بيعه إلاّ بما يجوز فيه بيوع الأشياء التي يدخلها الربا ولا يتم إلاّ بالتقابض. وإن كان ماله ديناً لم يجز أن يشتري بدين. وعلى هذا قياس هذا الباب في مذهبه وقوله الجديد، فأما مالك فإنه يجعل ماله تبعاً لرقبته إذا شرطه المبتاع في الصفقة وسواء عنده كان المال نقدا أو عرضا أو دينا أو كان مال العبد أكثر من الثمن أو أقل ويجعل تبعاً للعبد بمنزلة حمل الشاة ولبنها. وأما قوله من باع نخلا مؤبراً فالثمرة للبائع إلاّ أن يشترط المبتاع فيه بيان أن التأبير حد في كون الثمرة تبعاً للأصل، فإذا أبرت تفرد حكمها بنفسها

ومن باب التلقي

وصارت كالولد بائن الأم فلم يكن لها تبعاً في البيع إلاّ أن يقصد بنفسه وما دام غير مؤبر فهو كبعض أغصان الشجرة وجريدة النخلة في كونها تبعاً للأصل. والتأبير هو التلقيح، وهو أن يؤخذ طلع محال النخل فيؤخذ شعب منه فيودع الثمر أول ما ينشف الطلع فيكون لقاحاً بإذن الله تعالى. وقد اختلف الناس في هذا فقال مالك والشافعي وأحمد بن حنبل الثمر تبع للنخل ما لم تؤبر فإذا أبر لم يدخل في البيع إلاّ أن يشترط قولاً بظاهر الحديث. وقال أصحاب الرأي الثمر للبائع أبر أو لم يؤبر إلاّ أن يشترط المبتاع كالزرع. وقال ابن أبي ليلى الثمر للمشتري أبر أو لم يؤبر شرط أو لم يشترط لأن الثمر من النخل. ومن باب التلقي قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يبع بعضكم على بيع بعض ولا تلقوا السلع حتى يهبط بها الأسواق. قال أبو داود: حدثنا الربيع بن نافع حدثنا أبو توبة، قال: حَدَّثنا أبو عبيد الله، يَعني ابن عمر والرقي عن أيوب عن ابن سيرين، عَن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تلقي الجلب فإن تلقى متلق فاشتراه فصاحب السلعة بالخيار إذا ورد السوق. قال الشيخ قوله لا يبع بعضكم على بيع بعض هو أن يكون المتبايعان قد تواجبا الصفقة وهما في المجلس لم يتفرقا بعد وخيارهما باق فيجيء الرجل فيعرض عليه مثل سلعته أو أجود منه بمثل الثمن أو أرخص منه فيندم المشتري فيفسخ البيع فيلحق البائع منه الضرر، فأما مادام المتبايعان يتساومان ويتراودان البيع ولم يتواجباها بعد فإنه لا يضيق ذلك، وقد باع رسول الله صلى الله عليه وسلم الحِلس والقدح

ومن باب النجش

فيمن يزيد. وأما النهي عن تلقي السلع قبل ورودها السوق فالمعنى في ذلك كراهة الغبن ويشبه أن يكون قد تقدم من عادة أولئك أن يتلقوا الركبان قبل أن يقدموا البلد ويعرفوا سعر السوق، فيخبروهم أن السعر ساقطة والسوق كاسدة والرغبة قليلة حتى يخدعوهم عما في أيديهم ويبتاعوه منهم بالوكس من الثمن فنهاهم صلى الله عليه وسلم عن ذلك وجعل للبائع الخيار إذا قدم السوق فوجد الأمر بخلاف ما قالوه. وقد كره التلقي جماعة من العلماء منهم مالك والأوزاعي والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق ولا أعلم أحدا منهم أفسد البيع، غير أن الشافعي أثبت الخيار للبائع قولا بظاهر الحديث وأحسبه مذهب أحمد أيضاً، ولم يكره أبو حنيفة التلقي ولا جعل لصاحب السلعة الخيار إذا قدم السوق. وكان أبو سعيد الاصطخري يقول إنما يكون للبائع الخيار إذا كان المتلقي قد ابتاعه بأقل من الثمن فإذا ابتاعه بثمن مثله فلا خيار له. قال الشيخ وهذا قول قد خرج على معاني الفقه. ومن باب النجش قال أبو داود: حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح، قال: حَدَّثنا سفيان عن الزهري عن سعيد بن المسيب، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تناجشوا. قال الشيخ النجش أن يرى الرجل السلعة تباع فيزيد في ثمنها وهو لا يريد شراءها، وإنما يريد بذلك ترغيب السُوام فيها ليزيدوا في الثمن، وفيه غرور للراغب فيها وترك لنصيحته التي هي مأمور بها، ولم يختلفوا أن البيع لا يفسد عقده بالنجش، ولكن ذهب بعض أهل العلم إلى أن الناجش إذا فعل ذلك بإذن

ومن باب النهي عن بيع حاضر لباد

البائع فللمشتري فيه الخيار. ومن باب النهي عن بيع حاضر لباد قال أبو داود: حدثنا محمد بن عبيد، قال: حَدَّثنا محمد بن ثور عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيع حاضر لباد فقلت ما يبيع حاضر لباد قال لا يكون له سمساراً. قال الشيخ قوله لا يبيع حاضر لباد كلمة تشتمل على البيع والشراء، يقال بعت الشيء بمعنى اشتريت، قال طرفة: ويأتيك بالأخبار من لم تبع له ... بتاتاً ولم تضرب له وقت موعد أي لم تشتر له متاعاً، يقال شريت الشيء بمعنى بعته والكلمتان من الأضداد قال ابن مفرْع الحميري: وشريت برداً ليتني ... من بعد بردٍ كنت هامه يريد بعت برداً وبرداً غلامه باعه فندم عليه، وفسر ابن سيرين قوله لا يبيع حاضر لباد على المعنيين جميعاً، وقال هي كلمة جامعة لا يبيع له شيئا ولا يشتري له شيئا، ولذلك قال لا يكون له سمساراً لأن السمسار يبيع ويشتري للناس. ومعنى هذا النهي أن يتربص له سلعته لا أن يبيعه بسعر اليوم، وذلك أن البدوي إذا جلب سلعة إلى السوق وهو غريب غير مقيم باعها بسعر يومه فينال الناس فيها رفقا ومنفعة، فإذا جاءه الحضري فقال له أنا أتربص لك وأبيعها، وحرم الناس ذلك النفع فاتهم ذلك الرفق؛ وقد قيل إن ذلك إنما يحرم عليه إذا كان في بلد ضيق الرقعة إذا باع الجالب متاعه اتسع أهلها وارتفقوا به. فإذا لم يبعه تبين به أثر الضيق عليهم وخيف منه غلاء السعر فيهم، فأما إذا كان البلد واسعا

ومن باب من اشترى مصراة وكرهها

لا يتضرر به الناس ولا يتبين بذلك عليهم أثره فلا بأس به والله أعلم. قال أبو داود: حدثنا النفيلي، قال: حَدَّثنا زهير، قال: حَدَّثنا أبو الزبير عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يبيع حاضر لباد وذروا الناس يرزق الله بعضهم من بعض. قال الشيخ في هذا دليل على أن عقد البيع لا يفسد إذا فعل ذلك ولو كان يقع فاسداً لم يكن فيه منع من أن يرتفق الناس ومن تزق بعضهم من بعضهم. وقد كره بيع الحاضر للبادي أكثر أهل العلم وكان مجاهد يقول لا بأس به في هذا الزمان، وإنما كان النهي وقع عنه في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان الحسن البصري يقول لا تبع للبدوي ولا تشتر له، وذهب بعضهم إلى أن النهي فيه بمعنى الإرشاد دون الإيجاب والله أعلم. ومن باب من اشترى مصراة وكرهها قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك، عَن أبي الزناد عن الأعرج، عَن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تصروا الإبل والغنم فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها فإن رضيها أمسكها وإن سخطها ردها وصاعاً من بر. قال وحدثنا موسى بن إسماعيل، قال: حَدَّثنا حماد عن أيوب عن محمد بن سيرين، عَن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من اشترى مصراة فهو بالخيار ثلاثة أيام إن شاء ردها وصاعاً من طعام لا سمراء. قال الشيخ اختلف أهل العلم واللغة في تفسير المصراة ومن أين أخذت واشتقت، فقال الشافعي التصرية أن تربط أخلاف الناقة والشاة وتترك من الحلب اليومين والثلاثة حتى يجتمع لها لبن فيراه مشتريها كثيرا ويزيد في ثمنها لما يرى من كثرة لبنها فإذا حلبها بعد تلك الحلبة حلبة أو اثنتين عرف أن ذلك

ليس بلبنها وهذا غرر للمشتري. وقال أبو عبيد المصراة الناقة أو البقرة أو الشاة التي قد صرى اللبن في ضرعها، يَعني حقن فيه وجمع أياماً فلم يحلب، وأصل التصرية حبس الماء وجمعه يقال منه صريت الماء، ويقال إنما سميت الصراة كأنها مياه اجتمعت. قال أبو عبيد ولو كان من الربط لكان مصرورة أو مصررة، قال الشيخ كأنه يريد به رداً على الشافعي، قال الشيخ قول أبي عبيد حسن وقول الشافعي صحيح والعرب تصر ضروع الحلوبات إذا أرسلتها تسرح وسنمون ذلك الرباط صراراً فإذا راحت حلت تلك الأصرة وحلبت، ومن هذا حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يحل لرجل يؤمن بالله وباليوم الآخر أن يحل صرار ناقة بغير إذن صاحبها فإنه خاتم أهلها عليها، ومن هذا قول عنترة: …العبد لا يحسن الكر ... إنما يحسن الحلب والصر وقال مالك بن نويرة وكان بنو يربوع جمعوا صدقاتهم ليوجهوا بها إلى أبي بكر رضي الله عنه فمنعهم من ذلك ورد على رجل منهم صدقته، وقال أنا جنة لكم مما تكرهون وقال: وقلت خذوها هذه صدقاتكم …مصررة أخلافها لم تجدَّدِ سأجعل نفسي دون ما تجدونه …وأرهنكم يوماً بما قلته يدي قال الشيخ وقد يحتمل أن يكون المصراة، أصله المصرورة أبدل احدى الراءين ياءً كقولهم تقضي البازي وأصله تقضض كرهوا اجتماع ثلاثة أحرف من جنس واحد في كلمة واحدة فأبدلوا حرفا منها بحرف آخر ليس من جنسها؛ قال العجاج: * تقضي البازي إذا البازي كسر *

ومن هذا الباب قول الله تعالى {وقد خاب من دساها} [الشمس: 10] أي أخملها بمنع الخير وأصله من دستها، ومثل هذا في الكلام كثير. وقد اختلف الناس في حكم المصراة فذهب جماعة من الفقهاء إلى أنه يردها ويرد معها صاعا من تمر قولا بظاهر الحديث، وهو قول مالك والشافعي والليث بن سعد وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبي عبيد وأبي ثور، وقال ابن أبي ليلى وأبو يوسف برد قيمة اللبن، وقال أبو حنيفة إذا حلب الشاة فليس له أن يردها ولكن يرجع على البائع بأرشها ويمسكها. واحتج من ذهب إلى هذا القول بأنه خبر مخالف للأصول لأن فيه تقويم المتلف بغير النقود، وفيه إبطال رد المثل فيما له مثل، وفيه تقويم القليل والكثيرمن اللبن بقيمة واحدة وبمقدار واحد واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم: الخراج بالضمان. قال الشيخ والأصل أن الحديث إذا ثبت عن رسول الله وجب القول به وصار أصلاً في نفسه وعلينا قبول الشريعة المبهمة كما علينا قبول الشريعة المفسرة والأصول إنما صارت أصولاً لمجيء الشريعة بها. وخبر المصراة قد جاء به الشرع من طرق جياد أشهرها هذا الطريق، فالقول فيه واجب وليس تركه لسائر الأصول بأولى من تركها له على أن تقويم المتلف بغير النقد موجود في بعض الأصول منها الدية في النفس مائة من الإبل، ومنها الغرة في الجنين. وقد جاء أيضاً تقويم القليل والكثير بالقيمة الواحدة كأرش الموضحة فإنها ربما أخذت أكثر من مساحة الرأس فيكون فيها خمس من الإبل وربما كانت قدر الأنملة فيجب الخمس من الإبل سواء. وكذلك الدية في الأصابع سواء على اختلاف

مقادير جمالها ومنفعتها. وجاءت السنة بالتسوية بين دية اللسان والعينين واليدين والرجلين. وأوجب أصحاب الرأي في الحاجبين وأهداب العينين وفي اللحية الدية الكاملة وأين منافع الحاجبين من اللسان واليدين والرجلين وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم على من وجبت عليه في إبله ابنة مخاض وليس عنده إلاّ ابنة لبون أن يعطي المصدق شاتين أو عشرين درهماً جبراناً لنقصان ما بين السنين، ومعلوم أن ذلك قد يتفاوت ولا يتعدل في التقويم بكل مكان وكل زمان. وقد جعلوا أيضاً الحد في المهر عشرة دراهم على تسوية فيه بين الشريفة والوضيعة، وفي رد الآبق أربعين درهما ولم يفرقوا بين من رده من مسافة ثلاثة أيام وبين من رده من مسافة شهر، وليس في شيء من هذا سنة ولا خبر عن النبي صلى الله عليه وسلم فكيف يجوز رد السنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم من أجل أن بينها وبين بعض السنن مخالفة في بعض أحكامها وقد قالوا بخبر الوضوء بالنبيذ وبخبر القهقهة ونقضها الطهارة في الصلاة مع مخالفتها الأصول وهما خبران ضعيفان عند أهل المعرفة بالحديث. ثم أن تقويم المتلفات على ضربين أحدهما أن تقوم قيمة تعديل، والآخرأن تقوم قيمة توقيف؛ فقيمة التعديل ترتفع وتنخفض على قدر ارتفاع الشيء وانخفاضه وقيمة التوقيف هو ما جعل بإزاء الشيء الذي لا يكاد يضبط بمقدار معلوم واللبن غير معلوم المقدار، وقد يقل مرة ويكثر أخرى ويختلط باللبن الذي يحدث في ملك المشتري ولا يتميز منه. وإذا صار مجهولاً لا يضبط وكان لا يؤمن وقوع التنازع فيه بين البائع والمشتري وردت الشريعة فيه بتوقيف معلوم يفصل فيه بين المتبايعين ويكفيهما مؤنة الاجتهاد ويقطع به مادة النزاع كما وردت في الجنين إذ كانت بمنزلة المصراة في معنى الجهالة، وأما خبر الخراج

بالضمان فمخرجه مخرج العموم، وخبر المصراة إنما جاء خاصا في حكم بعينه، والخاص يقضي على العام ولو جاء الخبران معاً مقترنين في الذكر لصح الترتيب فيهما ولاستقام الكلام ولم يتناقض عند تركيب أحدهما على الآخر، فكذلك إذا جاءا منفصلين غير مقترنين لأن مصدرهما عن قول من تجب طاعته ولا تجوز مخالفته. قال الشيخ وقد أخذ كل واحد من أبي حنيفة ومالك بطرف من الحديث وترك الطرف الآخر، فقال أبو حنيفة لا خيار أكثر من ثلاث، واحتج بهذا الحديث ولم يقل برد الصاع، وقال مالك برد الصاع ولم يأخذ بالتوقيف في خيار الثلاث وصار إلى أن يرد متى وقف على العيب كان ذلك قبل الثلاث أو بعدها فكان أصح المذاهب قول من استعمل الحديث على وجهه وقال بجملة ما فيه. وفي الحديث دليل على أنه لا يجوز بيع شاة لبون بلبن ولا بشاة لبون، وذلك لأنه قد جعل للبن المصراة قسطاً من الثمن إذ كان كالشيء المودع في الشاة المقدور على استخراجه فإذا باع لبوناً بلبون فقد باع لبناً بلبن غير متساويبن، فأما بيع سمسم بسمسم فجائز، وإن كان العلم قد يحيط بأن في كل واحد منهما دهناً، الأ أنه غير مقدور على استخراجه كما كان مقدوراً على استخراج اللبن مع بقاء العين بهيئته فصار تبعاً للمبيع. قال الشيخ ويدخل في هذا كل مصراة من الإبل والغنم والبقر والآدميات فلو اشترى رجل جارية ذات لبن لترضع ولده فوجدها مصراة كان هذا حكمها سواء لا فرق بينها وبين غيرها من الحيوان في هذا المعنى. وقد اختلف النلس في مدة الخيار المشروط في البيع، فقال أبو حنيفة لا يجوز أكثر من ثلاث وهو قول الشافعي، وقال ابن أبي ليلى وأبو يوسف ومحمد

ومن باب النهي عن الحكرة

قليله وكثيره جائز، وقال مالك هو على قدر الحاجة إليه فخيار الثوب يوم ويومان وفي الحيوان أسبوع ونحوه وفي الدور شهر وشهران وفي الضيعة سنة ونحوها. وفي قوله لا سمراء دليل على أنه لا يلزمه أن يعطيه غير التمر، وذهب بعضهم إلى أن كل إنسان يعطي من قوته فمن كان قوته التمر أعطى صاعا من تمر، ومن كان قوته الشعير أعطى صاعا من شعير، ومن كان قوته السمراء وهي الحنطة أعطى صاعا منها، وهذا خلاف ظاهر الحديث؛ إلاّ أن أبا داود وقد روي في هذا الحديث من طريق جميع بن عمير عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من باع محفلة فهو بالخيار ثلاثة أيام، فإن ردها رد معها مثل أو مثلي لبنها قمحاً وليس إسناده بذاك. والمحفلة أي المصراة، وسميت محفلة لحصول اللبن واجتماعه في ضرعها. ومن باب النهي عن الحكرة قال أبو داود: حدثنا وهب بن بقية، قال: حَدَّثنا خالد عن عمرو بن يحيى عن محمد بن عمرو بن عطاء عن سعيد بن المسيب عن معمر بن أبي معمر أحد بني عدي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يحتكر إلا خاطىء فقلت لسعيد فإنك تحتكر قال ومعمر كان يحتكر. قال الشيخ قوله ومعمر كان يحتكر يدل على أن المحظور فيه نوع دون نوع ولا يجوزعلى سعيد بن المسيب في علمه وفضله أن يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثا ثم يخالفه كفاحاً وهو على الصحابي أقل جوازاً وأبعد إمكاناً. وقد اختلف الناس في الاحتكار فكرهه مالك والثوري في الطعام وغيره من السلع، وقال مالك يمنع من احتكار الكتان والصوف والزيت وكل شيء

ومن باب كسر الدراهم

أضر بالسوق، إلاّ أنه قال ليست الفواكه من الحكرة. وقال أحمد بن حنبل ليس الاحتكار إلاّ في الطعام خاصة لأنه قوت الناس وقال إنما يكون الاحتكار في مثل مكة والمدينة والثغور، وفرق بينهما وبين بغداد والبصرة وقال ان السفن تخترقها، وقال أحمد إذا دخل الطعام من ضيعته فحبسه فليس بحكرة، وقال الحسن والأوزاعي من جلب طعاما من بلد إلى بلد فحبسه ينتظر زيادة السعر فليس بمحتكر وإنما المحتكر من اعترض سوق المسلمين. وقال الشيخ واحتكار معمر وابن المسيب متأول على مثل هذا الوجه الذي ذهب إليه أحمد بن حنبل، وإنما هذا الحديث جاء باللفظ العام والمراد منه معنى خاص، وقد روي عن ابن المسيب أنه كان يحتكر الزيت. ومن باب كسر الدراهم قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل قال أخبرنا معمر قال سمعت محمد بن فضاء يحدث عن أبيه عن علقمة بن عبد الله عن أبيه قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تكسر سكة المسلمين الجائزة بينهم إلاّ من بأس. قال الشيخ أصل السكة الحديدة التي يطبع عليها الدراهم والنهي إنما وقع عن كسر الدراهم المضروبة على السكة. وقد اختلف الناس في المعنى الذي من أجله وقع النهي عنه فذهب بعضهم إلى أنه كره لما فيه من ذكر اسم الله سبحانه وتعالى، وذهب بعضهم إلى أنه كره من أجل الوضيعة وفيه تضييع للمال، وبلغني، عَن أبي العباس بن شريح أنه قال كانوا يقرضون الدراهم ويأخذون أطرافها فنهوا عنه. وحدثني اسماعيل بن أسيد قال سمعت إسحاق بن إبراهيم يقول سمعت أبا داود يقول سألت أحمد بن حنبل

ومن باب خيار المتبابعين

أو سأل حضري سائل ومعي درهم صحيح فقلت اكسره له قال لا. وزعم بعض أهل العلم أنه كره قطعها وكسرها من أجل التدنيق. وقال الحسن لعن الله الدانق وأول من أحدث الدانق. 41!!! /50م ومن باب النهي عن الغش قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل، قال: حَدَّثنا سفيان بن عيينة عن العلاء عن أبيه، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس منا من غش. قال الشيخ قوله ليس منا من غش معناه ليس على سيرتنا ومذهبنا يريد أن من غش أخاه وترك مناصحته فإنه قد ترك اتباعي والتمسك بسنتي. وقد ذهب بعضهم إلى أنه أراد بذلك نفيه عن دين الإسلام، وليس هذا التأويل بصحيح، وإنما وجهه ما ذكرت لك، وهذا كما يقول الرجل لصاحبه أنا منك وإليك يريد بذلك المتابعة والموافقة. ويشهد بذلك قوله تعالى {فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم} [إبراهيم: 36] . ومن باب خيار المتبابعين قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال المتبايعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يتفرقا إلاّ بيع الخيار. قال وحدثنا موسى بن إسماعيل، قال: حَدَّثنا حماد عن أيوب عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم بمعناه قال أو يقول أحدهما لصاحبه اختر. قال الشيخ اختلف الناس في التفرق الذي يصح بوجوده البيع فقالت طائفة هو التفرق بالأبدان، وإليه ذهب عبد الله بن عمر بن الخطاب وأبو برزة

الأسلمي رضي الله عنه، وبه قال شريح وسعيد بن المسيب والحسن البصري وعطاء بن أبي رباح والزهري وهو قول الأوزاعي والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق وأبي عبيد وأبي ثور. وقال النخعي وأصحاب الرأي إذا تعاقدا صح البيع، وإليه ذهب مالك. قال الشيخ وظاهر الحديث يشهد لمن ذهب إلى أن التفرق هو تفرق البدن وعلى هذا فسره ابن عمر وهو راوي الخبر، وكان إذا بايع رجلاً فأراد أن يستحق الصفقة مشى خطوات حتى يفارقه، وكذلك تأول أبو برزة في شأن الفرش الذي باعه الرجل من صاحبه وهما في المنزل، وقد ذكر القصة في هذا الباب أبو داود. قال الشيخ وعلى هذا وجدنا أمرالناس في عرف اللغة وظاهر الكلام إذا قيل تفرق الناس كان المفهوم منه التمييز بالأبدان وإنما يعقل ما عداه من التفرق في الرأي والكلام بقيد وصله. وحكى أبو عمر الزاهد أن أبا موسى النحوي سأل أبا العباس أحمد بن يحيى هل بين يتفرقان ويفترقان فرق، قال نعم أخبرنا ابن الأعرابي عن المفضل قال يفترقان بالكلام ويتفرقان بالأبدان. قال الشيخ ولو كان تأويل الحديث على الوجه الذي صار إليه النخعي لخلا الحديث عن الفائدة وسقط معناه، وذلك أن العلم محيط بأن المشتري ما لم يوجد منه قبول البيع فهو بالخيار، وكذلك البائع خياره ثابت في ملكه قبل أن يعقد البيع وهذا من العلم العام الذي قد استقر بيانه من باب أن الناس مُخَلَّون وأملاكهم لا يكرهون على إخراجها من أيديهم ولا يملك عليهم إلاّ بطيب

أنفسهم، والخبر الخاص إنما يروى في الحكم الخاص، وثبت أن المتبايعين هما المتعاقدان والبيع من الأسماء المشتقة من أفعال الفاعلين وهي لا تقع حقيقة إلاّ بعد حصول الفعل منهم، كقولك زان وسارق وإذا كان كذلك فقد صح أن المتبايعين هما المتعاقدان، وإذا كان كذلك فليس بعد العقد تفرق إلاّ التمييز بالأبدان. ويشهد لصحة هذا الباب قول إلاّ بيع الخيار ومعناه أن تخيره قبل التفرق وهما بعدُ في المجلس فيقول له اختر. وبيان ذلك في رواية أيوب عن نافع وهو قوله إلاّ أن يقول لصاحبه اختر. وقد تأول بعضهم إلاّ بيع الخيار على معنى خيار الشرط، وهذا تأويل فاسد وذلك أن الاستثناء من الاثبات نفي ومن النفي إثبات، والأول إثبات الخيار فلا يجوز أن يكون ما استثني منه أيضاً إثباتاً مثله، على أن قوله إلاّ أن يقول أحدهما لصاحبه اختر يقيد ما قاله هذا القائل ويهدمه. واحتج بعض من ذهب إلى أن التفرق هو تفرق البدن بأن المتبايعين إنما يجتمعان بالإيجاب والقبول لأنهما كانا قبل ذلك متفرقين فلا يجوز أن يحصلا مفترقين بنفس الشيء الذي به وقع اجتماعهما عليه. وأما مالك فإن أكثر شيء سمعت أصحابه يحتجون به في رد الحديث هو أنه قال ليس العمل عليه عندنا وليس للتفرق حد محدود يعلم. قال الشيخ وليس هذا بحجة، أما قوله ليس العمل عليه عندنا فإنما هو كأنه قال أنا أرد هذا الحديث ولا أعمل به فيقال له الحديث حجة فلم رددته ولِمَ لم تعمل به وقد قال الشافعي رحم الله مالكاً لست أدري من اتهم في إسناد

هذا الحديث اتهم نفسه أو نافعاً وأعظم أن أقول اتهم ابن عمر، فأما قوله ليس للتفرق حد يعلم فليس الأمر على ما توهمه والأصل في هذا ونظائره أن يرجع إلى عادة الناس وعرفهم ويعتبر حال المكان الذي هما فيه مجتمعان، فإذا كانا في بيت فإن التفرق إنما يقع بخروج أحدهما منه ولوكانا في دار واسعة فانتقل أحدهما عن مجلسه إلى بيت أو صفة أو نحو ذلك فإنه قد فارق صاحبه، وإن كانا في سوق أو على حانوت فهو بأن يولي عن صاحبه ويخطو خطوات ونحوها، وهذا كالعرف الجاري والعادة المعلومة في التقابض وهو يختلف في الأشياء، فمنها ما يكون بالتقابض فيه بأن يجعل الشيء في يده، ومنها ما يكون بالتخلية بينه وبين المبيع، وكذلك الأمر في الحرز الذي يتعلق به وجوب قطع اليد فإن منه ما يكون بالاغلاق والاقفال، ومنه ما يكون بيتا وحجاباً، ومنها ما يكون بالشرائح ونحوها وكل منها حرز على حسب ما جرت به العادة، والعرف أمر لا ينكره مالك بل يقول به وربما ترقى في استعماله إلى أشياء لا يقول بها غيره وذلك من مذهبه معروف فكيف صار إلى تركه في أحق المواضع به حتى يترك له الحديث الصحيح والله يغفر لنا وله وإن كان ابن أبي ذئب يستعظم هذا الصنيع من مالك وكان يتوعده بأمر لا أحب أن أحكيه والقصة في ذلك عنه مشهورة. قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد، قال: حَدَّثنا الليث عن محمد بن عجلان عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا إلاّ أن تكون صفقة خيار ولا يحل له أن يفارق صاحبه خشية أن يستقيله.

ومن باب من باع بيعتين في بيعة

قال الشيخ وهذا قد يحتج به من يرى أن التفرق إنما هو بالكلام، قال وذلك أنه لو كان له الخيار في فسخ البيع لما احتاج إلى أن يستقيله. قال الشيخ هذا الكلام وإن خرج بلفظ الاستقالة فمعناه الفسخ وذلك أنه قد علقه بمفارقته. والاستقالة قبل المفارقة وبعدها سواء لا تأثير لعدم التفرق بالأبدان فيها والمعنى أنه لا يحل له أن يفارقه خشية أن يختار فسخ البيع فيكون ذلك بمنزلة الاستقالة والدليل على ذلك ما تقدم من الأخبار والله أعلم. ومن باب من باع بيعتين في بيعة قال أبو داود: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: حَدَّثنا يحيى بن زكريا عن محمد بن عمرو، عَن أبي سلمة، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من باع بيعتين في بيعة فله أوكسها أو الربا. قال الشيخ رحمه الله لا أعلم أحداً من الفقهاء قال بظاهر هذا الحديث أو صحح البيع بأوكس الثمنين إلاّ شيء يحكى عن الأوزاعي وهو مذهب فاسد وذلك لما يتضمنه هذه العقدة من الغرر والجهل، وإنما المشهور من طريق محمد بن عمرو، عَن أبي سلمة، عَن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيعتين في بيعة حدثنا الأصم،، قال: حَدَّثنا الربيع،، قال: حَدَّثنا الشافعي،، قال: حَدَّثنا الدراوردي عن محمد بن عمرو. وحدثونا عن محمد بن إدريس الحنظلي حدثنا الأنصاري عن محمد بن عمرو، فأما رواية يحيى بن زكريا عن محمد بن عمرو على الوجه الذي ذكره أبو داود فيشبه أن يكون ذلك في حكومة في شيء بعينه كأنه أسلفه ديناراً في قفيزين إلى شهر فلما حل الأجل وطالبه بالبر، قال له بعني القفيز الذي لك علي بقفيزين إلى شهر فهذا بيع ثان قد دخل على البيع الأول فصار بيعتين

في بيعة فيردان إلى أوكسهما وهو الأصل، فان تبايعا المبيع الثاني قبل أن يتناقضا الأول كانا مرتبين. قال الشيخ وتفسير ما نهي عنه من بيعتين في بيعة على وجهين: أحدهما أن يقول بعتك هذا الثوب نقداً بعشرة ونسيئة بخمسة عشر فهذا لا يجوز لأنه لا يدري أيهما الثمن الذي يختاره منهما فيقع به العقد وإذا جهل الثمن بطل البيع. والوجه الاخر: أن يقول بعتك هذا العبد بعشرين ديناراً على أن تبيعني جاريتك بعشرة دنانير، فهذا أيضاً فاسد لأنه جعل ثمن العبد عشرين ديناراً وشرط عليه أن يبيعه جاريته بعشرة دنانير، وذلك لا يلزمه وإذا لم يلزمه سقط بعض الثمن وإذا سقط بعضه صار الباقي مجهولا. ومن هذا الباب أن يقول بعتك هذا الثوب بدينارين على أن تعطيني بهما دراهم صرف عشرين أو ثلاثين بدينار، فأما إذا باعه شيئين بثمن واحد كدار وثوب أو عبد وثوب فهذا جائز وليس من باب البيعتين في البيعة الواحدة، وإنما هي صفقة واحدة جمعت شيئين بثمن معلوم. وعقد البيعتين في بيعة واحدة على الوجه اللذين ذكرناهما عند أكثر الفقهاء فاسد. وحكي عن طاوس أنه قال لا بأس أن يقول له هذا الثوب نقدا بعشرة وإلى شهر بخمسة عشر فيذهب به إلى أحدهما. وقال الحكم وحماد لا بأس به ما لم يفترقا. وقال الأوزاعي لا بأس بذلك ولكن لا يفارقه حتى يُباته بأحد المعنيين فقيل له فإنه ذهب بالسلعة على ذينك الشرطين، فقال هي بأقل الثمنين إلى أبعد الأجلين. قال الشيخ هذا ما لا يشك في فساده فإما إذا باته على أحد الأمرين في مجلس العقد فهو صحيح لا خلف فيه وذكر ما سواه لغو لا اعتبار به.

ومن باب السلف

ومن باب السلف قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي، قال: حَدَّثنا سفيان عن ابن أبي نجيح عن عبد الله بن كثير، عَن أبي المنهال عن عبد الله بن عباس قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون في التمر السنة والسنتين والثلاث، فقال من أسلف في تمر فليسلف في كيل معلوم أو وزن معلوم إلى أجل معلوم. قال الشيخ في هذا الحديث بيان أن السلف يجب أن يكون معلوماً بالأمر الذي يضبط ولا يختلف وأنه مهما كان مجهولاً بطل. وفيه دليل على أنه قد يجوز السلم إلى سنة في الشيء الذي لا وجود له في أيام السنة إذا كان موجوداً في الغالب وقت محل الأجل، وذلك أن التمر اسم للرطب واليابس في قول أكثر أهل العلم. وعند بعض أهل اللغة اسم للرطب لا غير وعلى هذا ما جاء من النهي عن بيع التمر بالتمر وعلى الوجهين معاً، فقد أجاز السلم فيه السنة والسنتين والثلاث إذ كان قد وجدهم يفعلون ذلك فلم ينكره عليهم فكان تقريره ذلك إذناً لهم فيه وإجازة له، ومعلوم أن الرطب لا يوجد في وقت معلوم من السنة وهو معدوم في أكثر أيام السنة. وفيه أن السلم جائز وزناً في الشيء الذي أصله الكيل لأنه عم ولم يخص، فقال في كيل معلوم أو وزن معلوم فخيره بين الأمرين فإذا صار الشيء المسلم فيه معلوماً بأحدهما جاز فيه السلم. وفيه أن الآجال المجهولة كالحصاد وإلى العطاء وإلى قدوم الحاج يبطل السلم وأنها لا تجوز إلاّ أن تكون معلومة بالأمر الذي لا يختلف كالسنين والشهور والأيام المعلومة.

ومن باب من أسلف في شيء ثم حوله إلى غيره

وقد يحتج بهذا الحديث من لا يجيز السلم حالا وهو مذهب أبي حنيفة ومالك قالوا وذلك لقوله إلى أجل معلوم فشرط الأجل كما شرط الكيل والوزن. وقال الشافعي إذا جاء أجلاً فهو حالاً أجود ومن الغرر أبعد، وليس ذكر الأجل عنده بمعنى الشرط وإنما هو أن يكون إلى أجل معلوم غير مجهول إذ كان مؤجلاً كما ليس ذكر الكيل والوزن شرطاً وإنما هو أن يكون معلوم الكيل والوزن إذ كان مكيلا أو موزونا ألست ترى أن السلم في المزروع جائز بالزرع وليس بمكيل ولا موزون فعلمت أنه إنما أراد الحصر له بما يضبط بمثله حتى يخرج من حد الجهالة ويسلم من الغرر ولو كان ذكر الكيل والوزن شرطاً في جواز السلم لم يجز إلاّ في مكيل أو موزون فكذلك الأجل والله أعلم. ومن باب من أسلف في شيء ثم حوله إلى غيره قال أبو داود: حدثنا محمد بن عيسى، قال: حَدَّثنا أبو بدر عن زياد بن خيثمة عن سعد الطائي عن عطية بن سعد، عَن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أسلف في شيء فلا يصرفه إلى غيره. قال الشيخ إذا أسلف ديناراً في قفيز حنطة إلى شهر فحل الأجل فأعوزه البر فإن أبا حنيفة يذهب إلى أنه لا يجوز له أن يبيعه عوضا بالدينار ولكن يرجع برأس المال عليه قولا بعموم الخبر وظاهره. وعند الشافعي يجوز له أن يشتري عوضا بالدينار إذا تقايلا السلم وقبضه قبل التفرق لئلا يكون دينارين، فأما الاقالة فلا تجمز وهو معنى النهي عن صرف السلف إلى غيره عنده. ومن باب وضع الجائحة قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد، قال: حَدَّثنا الليث عن بكيرعن عياض

بن عبد الله، عَن أبي سعيد الخدري أنه قال أصيب رجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمار ابتاعها فكثر دينه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تصدقوا عليه فتصدق الناس عليه فلم يبلغ ذلك وفاء دينه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم خذوا ما وجدتم وليس لكم إلاّ ذلك. قال الشيخ قد تقدم الكلام في بيان اختلاف الناس في وضع الجوائح. وأما هذا الحديث فليس فيه ذكر الجائحة، وقد يحتمل أن يكون إنما أصيب في تلك الثمار بعدما جذها وأواها الجرين فطرقها لص أو جرفها سيل أو باعها فافتات الغريم بحقه وكل هذه الوجوه قد يصح رجوع إضافة المصيبة فيها إلى الثمار التي كان ابتاعها وإذا كان كذلك لم يجب الحكم بذهاب حق رب المال. وليس في الحديث أنه أمر أرباب الأموال أن يضعوا عنه شيئا من أثمان الثمار ثلثا أو أقل منه أو أكثر، إنما أمر الناس أن يعينوه ليقضي حقوقهم، فلما أبدع بهم أمرهم بالكف عنه إلى الميسرة وهذا حكم كل مفلس أحاط به الدين وليس له مال. قال أبو داود: حدثنا سليمان بن داود المهري وأحمد بن سعيد الهمداني قالا: حَدَّثنا ابن وهب قال أخبرني ابن جريج وحدثنا محمد بن معمر، قال: حَدَّثنا أبو عاصم عن ابن جريج المعنى أن أبا الزبير المكي أخبره عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن بعت من أخيك ثمراً فأصابتها جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا ثم تأخذ مال أخيك بغير حق. قال الشيخ يشبه أن يكون إنما أراد بهذا القول التخفيف عنه والتسويغ له دون الإيجاب والإلزام ذلك أنه لا خلاف أن للمشتري الثمرة لو أراد بيعها بعد القبض كان له ذلك، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمار قبل بدو

ومن باب منع الماء

صلاحها وقبل أن تأمن العاهة فلو كانت إذا بيعت وقد بدا صلاحها مضمونة على البائع لم يكن لهذا النهي فائدة، وقد يحتمل أن يكون إنما أراد به الثمرة تباع قبل بدو الصلاح فيصيبها الجائحة والله أعلم. ومن باب منع الماء قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، قال: حَدَّثنا جرير عن الأعمش عن أبني صالح، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمنع فضل الماء ليمنع به الكلأ. قال الشيخ هذا في الرجل يحفر البئر في الأرض الموات فيملكها بالاحياء وحول البئر أو بقربها موات فيه كلأ ولا يمكن الناس أن يرعوه إلاّ بأن يبذل لهم ماءه ولا يمنعهم أن يسقوا ماشيتهم منه فأمره صلى الله عليه وسلم أن لا يمنع فضل مائه إياهم لأنه إذا فعل ذلك وحال بينه وبينهم فقد منعهم الكلأ لأنه لا يمكن رعيه والمقام فيه مع منعه الماء، وإلى هذا ذهب في معنى الحديث مالك بن أنس والأوزاعي والليث بن سعد وهو معنى قول الشافعي والنهي في هذا عندهم على التحريم. وقال غيرهم ليس النهي فيه على التحريم لكنه من باب المعروف فإن شح رجل على مائه لم ينتزع من يده والماء في هذا كغيره من صنوف الأموال لا يحل إلاّ بطيبة نفسه. وذهب قوم إلي أنه لا يجوز له منع الماء ولكن يجب له القيمة على أصحاب المواشي وشبهوه بمن يضطر إلى طعام رجل فإن له أكله وعليه أداء قيمته. ولو لزمه بذل الماء بلا قيمة للزمه بذل الكلأ إذا كان في أرضه بلا قيمة وللزمه كذلك

أن لا يمنع الماء زرع غيره إذا كان بقربه زرع لرجل لا يحيى إلاّ به. قال الشيخ أما من تأول الحديث على معنى الاستحباب دون الإيجاب فإنه يحتاج إلى دليل يجوز معه ترك الظاهر، وأصل النهي علىالتحريم فمنع فضل الماء محظور على ما ورد به الظاهر، وأما من أوجب فيه القيمة فقد صار إلى المنع أيضاً وهو خلاف الخبر وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع فضل الماء. وقد ذكره أبو داود العطار عن عمرو بن دينار، عَن أبي المنهال عن إياس بن عبد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع فضل الماء. وأما تشبيهه ذلك بالطعام فإنهما لا يشابهان لأن أصل الماء الإباحة وهو مستخلف ما دام في منعه والطعام متقوم منقطع المادة غير مستخلف، وقد جرت العادة بتمول الطعام سلماً كما يتمول سائر أنواع المال. والماء لا يتمول في غالب العرف وأما الزرع فليس له حرمة وللحيوان حرمة، والحديث إنما جاء في منع الماء الذى يمنع به الكلأ والزرع بمعزل عن ذلك. قال الشيخ رحمه الله وأما الماء إذا جمعه صاحبه في صهريج أو بركة أوخزنه في جب أو قراه في حوض ونحوه فإن له أن يمنعه وهو شيء قد حازه على سبيل الاختصاص لا يشركه فيه غيره، وهو مخالف لماء البئر لأنه لا يستخلف استخلاف ماء الآبار ولا يكون له فضل في الغالب كفضل مياه الآبار، والحديث إنما جاء في منع الفضل دون الأصل ومعناه ما فضل عن حاجته وعن حاجة عياله وماشيته وزرعه والله أعلم. قال أبو داود: حدثنا عبيد الله بن معاذ قال حدثني أبي، قال: حَدَّثنا كهمس عن سيار بن منظور رجل من بني فزارة عن أبيه عن امرأة يقال لها بهيسة عن أبيها

قالت استأذن أبي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا نبي الله ما الشيء الذي لا يحل منعه قال الماء، قال يا نبي الله ما الشيء الذي لا يحل منعه قال الملح. قال الشيخ معناه الملح إذا كان في معدنه في أرض أو جبل غير مملوك فإن أحداً لا يمنع من أخذه، فأما إذا صار في حيز مالكه فهو أولى به وله منعه وبيعه والتصرف فيه كسائر أملاكه. قال أبو داود: حدثنا مسدد، قال: حَدَّثنا عيسى بن يونس، قال: حَدَّثنا حريز بن عثمان قال:، قال: حَدَّثنا أبو خداش أنه سمع رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول المسلمون شركاء في ثلاث في الماء والكلأ والنار. قال الشيخ هذا معناه الكلأ ينبت في موات الأرض يرعاه الناس ليس لأحد أن يختص به دون أحد ويحجزه عن غيره، وكان أهل الجاهلية إذا غزا الرجل منهم حمى بقعة من اللأرض لماشيته ترعاها يذود الناس عنها فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وجعل الناس فيها شِرعاً يتعاورونه بينهم0 فأما الكلأ إذا نبت في أرض مملوكة لمالك بعينه فهو مال له ليس لأحد أن يشركه فيه إلاّ بإذنه. وأما قوله والنار فقد فسره بعض العلماء وذهب إلى أنه أراد به الحجارة التي توري النار يقول لا يمنع أحد أن يأخذ منها حجراً يقتدح به النار، فأما التي يوقدها الإنسان فله أن يمنع غيره من أخذها. وقال بعضهم ليس له أن يمنع من يريد يأخذ منها جذوة من الحطب التي قد احترق فصار جمراً وليس له أن يمنع من أراد أن يستصبح منها مصباحاً أو أدنى منها ضغثاً يشتعل بها لأن ذلك لا ينقص من عينها شيئاً والله أعلم.

ومن باب بيع السنور

ومن باب بيع السنور قال أبو داود: حدثنا الربيع بن نافع أبو توبة وعلي بن بحر، قال: حَدَّثنا عيسى عن الأعمش، عَن أبي سفيان عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن السنور. قال الشيخ النهي عن بيع السنور متأول على أنه إنما كره من أجل أحد معنيين إما لأنه كالوحشي الذي لا يملك قياده ولا يصح التسليم فيه، وذلك لأنه ينتاب الناس في دورهم ويطوف عليهم فيها ثم يكاد ينقطع عنهم، وليس كالدواب التي تربط على الأوادي ولا كالطير الذي يحبس في الأقفاص، وقد يتوحش بعد الأنوسة ويتأبد حتى لا يقرب ولا يقدر عليه. فإن صاب المشتري له إلى أن يحبسه في بيته أو يشده في خيط أو سلسلة لم ينتفع به. والمعنى الآخر أن يكون إنما نهى عن بيعه لئلا يتمانع الناس فيه وليتعاوروا ما يكون منه في دورهم فيرتفقوا به ما أقام عندهم ولا يتنازعوه إذا انتقل عنهم إلى غيرهم تنازع الملاك في النفيس من الأعلاق، وقيل إنما نهى عن بيع الوحشي منه دون الانسي، وقد تكلم بعض العلماء في إسناد هذا الحديث وزعم أنه غير ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم. وممن أجاز بيع السنور ابن عباس وإليه ذهب الحسن البصري وابن سيرين والحكم وحماد، وبه قال مالك بن أنس وسفيان الثورى وأصحاب الرأي وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق. وكره بيعه أبو هريرة وجابر وطاوس ومجاهد. ومن باب ثمن الكلب قال أبو داود: جدثنا قتيبة بن سعيد، قال: حَدَّثنا سفيان عن الزهري، عَن أبي بكر بن عبد الرحمن، عَن أبي مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن ثمن الكلب،

ومهر البغي وحلوان الكاهن. قال الشيخ نهيه عن ثمن الكلب يدل على فساد بيعه لأن العقد إذا صح كان دفع الثمن واجباً مأموراً به لا منهياً عنه فدل نهيه عنه على سقوط وجوبه وإذا بطل الثمن بطل البيع لأن البيع إنما هوعقد على شيء بثمن معلوم، وإذا بطل الثمن بطل المثمن، وهذا لقوله صلى الله عليه وسلم لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فحملوها وباعوها وأكلوا أثمانها فجعل حكم الثمن والمثمن في التحريم سواء. قال أبو داود: حدثنا أبو توبة، قال: حَدَّثنا أبو عبيد الله بن عمرو عن عبد الكريم عن قيس بن حبتر عن عبد الله بن عباس قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب فإن جاء يطلب ثمن الكلب فاملأ كفه تراباً. قال الشيخ وهذا يؤكد معنى ما قلناه في الحديث الأول، ومعنى التراب ههنا الحرمان والخيبة كما يقال ليس في كفه إلاّ التراب، وكقوله صلى الله عليه وسلم وللعاهر الحجر يريد الخيبة إذ لاحظ له في الولد، وكان بعض السلف يذهب إلى استعمال الحديث على ظاهره ويرى أن يوضع التراب في كفه، وروي أن المقداد رأى رجلا يمدح رجلا فقام يحشي التراب بكفه في وجهه، وقال بهذا أمرنا، يَعني قوله صلى الله عليه وسلم إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب. وفي قوله إذا جاء يطلب ثمن الكلب فاملأ كفه تراباً دليل على أن لا قيمة للكب إذا تلف ولا يجب فيه عوض، وقال مالك بن أنس فيه القيمة ولا ثمن له. قال الشيخ الثمن ثمنان ثمن التراضي عن البيوع وثمن التعديل عند الاتلاف وقد أسقطهما النبي صلى الله عليه وسلم بقوله فاملأ كفه تراباً فثبت أن لا عوض له بوجه من الوجوه.

ومن باب ثمن الميتة والخمر والخنزير

قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح، قال: حَدَّثنا ابن وهب قال: حدثني معروف بن سويد الجُذامي عن علي بن رباح اللخمي حدثه أنه سمع أبا هريرة يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحل ثمن الكلب ولا حلوان الكاهن ولا مهر البغي. قال الشيخ إذا لم يحل ثمن الكلب لم يحل بيعه لأن البيع إنما هو على ثمن ومثمن فإذا فسد أحد الشقين فسد الشق الآخر وفي ذلك تحريم العقد من أصله. وقد اختلف الناس في جواز بيع الكلب فروي، عَن أبي هريرة أنه قال هو من السحت وروي عن الحسن والحكم وحماد، وإليه ذهب الأوزاعي والشافعي وأحمد بن حنبل، وقال أصحاب الرأي جائز بيع الكلب، وقال قوم ما أبيح اقتناؤه من الكلاب فبيعه جائز وما حرم اقتناؤه منها فبيعه محرم يحكى ذلك عن عطاء والنخعي، وقد حكينا عن مالك أنه كان يحرم ثمن الكلب ويوجب فيه القيمة لصاحبه على من أتلفه قالوا وذلك لأنه أبطل عليه منفعته وشبهوه بأم الولد لا يحل ثمنها وفيها القيمة على من أتلفها. قال الشيخ جواز الانتفاع بالشيء إذا كان لأجل الضرورة لم يكن دالاً على جواز بيعه كالميتة يجوز الانتفاع للمضطر ولا يجوز بيعها. ومن باب ثمن الميتة والخمر والخنزير قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح، قال: حَدَّثنا عبد الله بن وهب، قال: حَدَّثنا معاوية بن صالح عن عبد الوهاب بن بخت، عَن أبي الزناد عن الأعرج، عَن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن الله تعالى حرم الخمر وثمنها وحرم الميتة وثمنها وحرم الخنزير وثمنه. قال الشيخ فيه دليل على أن من أراق خمر البنصراني أو قتل خنزيراً له فإنه

لا غرامة عليه لأنه لا ثمن لها في حكم الدين. وفيه دليل على فساد بيع السرقين وبيع كل شيء نجس العين، وفيه دليل على أن بيع شعر الخنزير لا يجوز. واختلفوا في جواز الانتفاع به فكرهت طائفة ذلك وممن منع منه ابن سيرين والحكم وحماد والشافعي وأحمد وإسحاق وقال أحمد وإسحاق الليف أحب إلينا وقد رخص فيه الحسن والأوزاعي ومالك وأصحاب الرأي. قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد، قال: حَدَّثنا الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن عطاء بن أبي رباح عن جابر بن عبد الله أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عام الفتح وهو بمكة إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام فقيل يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة فإنه يطلى بها السفن ويدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس فقال هو حرام، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك لعن الله اليهود إن الله لما حرم عليهم شحومها جملوها ثم باعوها فأكلوا أثمانها. قال الشيخ قوله جملوها معناها أذابوها حتى تصير ودكاً فيزول عنها اسم الشحم يقال جملت الشحم واجتملته إذا أذبته قال لبيد: فاشتوى ليلة ريح واجتمل وفي هذا بيان بطلان كل حيلة يحتال بها توصل إلى محرم وأنه لا يتغير حكمه بتغير هيئته وتبديل اسمه. وفيه دليل على جواز الاستصباح بالزيت النجس فإن بيعه لا يجوز، وفي تحريمه ثمن الأصنام دليل على تحريم بيع جميع الصور المتخذة من الطين والخشب والحديد والذهب والفضة وما أشبه ذلك من اللعب ونحوها.

وفي الحديث دليل على وجوب العبرة واستعمال القياس وتعدية معنى الاسم إلى المثل أو النظير خلاف قول من ذهب من أهل الظاهر إلى إبطالها، ألا تراه كيف ذم من عدل عن هذه الطريقة حتى لعن من كان عدوله عنها تذرعاً إلى الوصول به إلى محظور. قال أبو داود: حدثنا مسدد أن بشر بن المفضل وخالد بن عبد الله حدثاهم المعنى عن خالد الحذاء عن بركة أبي الوليد عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعن الله اليهود ثلاثاً إن الله حرم عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها وأن الله إذا حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه. قال الشيخ هذا يؤكد ما مضى من القول على معنى الأحاديث المتقدمة وفيه دليل على فساد بيع الزيت الذي قد أصابته نجاسة. قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، قال: حَدَّثنا ابن إدريس ووكيع عن طعمة بن عمرو الجعفري عن عمرو بن بيان التغلبي عن عروة بن المغيرة بن شعبة عن المغيرة بن شعبة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من باع الخمر فليشقص الخنازير. قال الشيخ قوله فليشقص معناه فليستحل أكلها، والتشقيص يكون من وجهين أحدهما أن يذبحها بالمشقص وهو نصل عريض. والوجه الآخر أن يجعلها أشقاصا وأعضاء بعد ذبحها كما تُعضى أجزاء الشاة إذا أرادوا اصلاحها للأكل، ومعنى الكلام إنما هو توكيد التحريم والتغليظ فيه يقول من استحل بيع الخمر فليستحل أكل الخنزير فانهما في الحرمة والاثم سواء أي إذا كنت لا تستحل أكل لحم الخنزير فلا تستحل ثمن الخمر.

ومن باب بيع الطعام قبل أن يستوفى

ومن باب بيع الطعام قبل أن يستوفى قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتى يستوفيه. قال الشيخ أجمع أهل العلم على أن الطعام لا يجوز بيعه قبل القبض. واختلفوا فيما عداه من الأشياء فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ما عدا الطعام بمنزلة الطعام إلاّ الدور والأرضون فإن بيعها قبل قبضها جائز. وقال الشافعي ومحمد بن الحسن الطعام وغير الطعام من السلع والدور والعقار في هذا سواء لا يجوز بيع شيء منها حتى تقبض وهو قول ابن عباس. وقال مالك بن أنس ما عدا المأكول والمشروب جائز أن يباع قبل أن يقبض، وقال الأوزاعي وأحمد بن حنبل وإسحاق يجوز بيع كل منها ما خلا المكيل والموزون وروي ذلك عن ابن المسيب والحسن البصري والحكم وحماد. قال أبو داود: حدثنا مسدد، قال: حَدَّثنا أبو عَوانة عن عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشترى أحدكم طعاما فلا يبعه حتى يقبضه، قال: وقال ابن عباس أحسب كل شيء مثل الطعام. قال الشيخ يشبه أن يكون ابن عباس إنما قاس ما عدا الطعام على الطعام بعلة أنه عين مبيعه لم يقبض أو لأنه بلغه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ربح ما لم يضمن، والشيء المبيع ضمانه قبل القبض على البائع فلم يجز للمشتري ربحه. واحتج بعض من ذهب إلى جواز بين ما عدا الطعام قبل أن يقبض بخبر ابن عمر أنهم كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يبيعون الإبل بالبقيع بالدنانير فيأخذون الدراهم وبالدراهم ويأخذون الدنانير فأجازه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وقع

التقابض قبل التفرق قالوا وهذا بيع الثمن الذي وقع به العقد قبل قبضه فدل أن النهي مقصور على الطعام وحده وقالوا إن الملك ينتقل بنفس العقد بدليل أن المبيع لو كان عبداً فأعتقه المشتري قبل القبض عتق، وإذا ثبت الملك جاز التصرف ما لم يكن فيه إبطال حق لغيره. قال الشيخ وقد يقال على الفرق بين الدراهم والدنانير إذا كانت أثماناً وبين غيرها أن معنى النهي أن تقصد بالتصرف في السلعة الربح وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن ربح ما لم يضمن ومقتضي الدراهم من الدنانيرلا يقصد به الربح إنما يريد به الاقتضاء والنقود مخالفة لغيرها من الأشياء لأنها أثمان وبعضها ينوب عن بعض وللحاكم أن يحكم على من أتلف على إنسان مالاً بأيهما شاء فكانا كالنوع الواحد من هذا المعنى. وأما العتق فانه اتلاف واتلاف المشتري عين المبيع يقوم مقام القبض. قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن نافع عن ابن عمر أنه قال كنا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم نبتاع الطعام فيبعث علينا من يأمرنا بانتقاله من المكان الذي ابتعناه فيه إلى مكان سواه قبل أن نبيعه، يَعني جزافاً. قال السيخ القبوض تختلف في الأشياء حسب اختلافها في أنفسها وحسب اختلاف عادات الناس فيها فمنها ما يكون بأن يوضع المبيع في يد صاحبه ومنها ما يكون بالتخلية بينه وبين المشتري، ومنها ما يكون بالنقل من موضعه ومنها ما يكون بأن يكتال وذلك فيما بيع من المكيل كيلاً، فأما ما يباع منه جزافا صبرة مصمومة على الأرض فالقبض فيه أن ينقل ويحول من مكانه. فإن ابتاع طعاما كيلاً ثم أراد أن يبيعه بالكيل الأول لم يجز حتى يكيله على

المشتري ثانيا، وذلك لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان صاع البائع وصاع المشتري. وممن قال أنه لا يجوز بيعه بالكيل الأول حتى يكال ثانيا أبو حنيفة وأصحابه والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق وهو مذهب الحسن البصري ومحمد بن سيرين والشعبي، وقال مالك إذا باعه نسيئة فهو المكروه فأما إذا باعه نقداً فلا بأس أن يبيعه بالكيل الأول، وروي عن عطاء أنه أجاز بيعه نساء كان أو نقداً. قال أبو داود: حدثنا أبو بكر وعثمان ابنا أبي شيبة قالا: حَدَّثنا وكيع عن سفيان عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتى يكتاله، زاد أبو بكر قلت لابن عباس لم قال ألا ترى أنهم يتبايعون بالذهب والطعام مرجى. قال الشيخ قوله والطعام مُرجى أي مؤجل وكل شيء أخرته فقد أرجيته يقال أرجيت الشيء ورجيته أي أخرته؛ وقد يتكلم به مهموزاً وغير مهموز وليس هذا من باب الطعام الحاضر ولكنه من باب السلف وذلك مثل أن يشتري منه طعاماً بدينار إلى أجل فيبيعه قبل أن يقبضه منه بدينارين وهو غير جائز لأنه في التقدير بيع ذهب بذهب والطعام مؤجل غائب غير حاضر وإنما صار ذلك بيع ذهب بذهب على معناه لأن المسلف إذا باعه الطعام الذي لم يقبضه وأخذ منه ذهبا فإن البيع لا يصح فيه إذ كان الطعام الذي باعه منه مرجى مضموناً على غيره وإنما تقايل الذهبان في التقدير فكأنه إنما باعه ديناره الذي كان قد أسلفه في الطعام بدينارين وهو فاسد من وجهين أحدهما

ومن باب الرجل يقول عند البيع لا خلابة

لأنه دينار بدينارين والآخر لأنه ناجز بغائب في بيع سبيله سبيل المصارفة. ومن باب الرجل يقول عند البيع لا خلابة قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر أن رجلاً ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يخدع في البيع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بايعت فقل لا خلابة. قال الشيخ الخلابة مصدر خلبت الرجل إذا خدعته واخلُبه خلبا وخِلابة قال الشاعر: شر الرجال الخالب المخلوب ويستدل بهذا الحديث من يرى أن الكبير لا يحجر عليه إذ لو كان إلى الحجر عليه سبيل لحجر عليه ولأمر أن لا يبايع ولم يقتصرعلى قوله لا خلابة. قال الشيخ والحجر على الكبير إذا كان سفيها مفسداً لماله واجب كهو على الصغير، وهذا الحديث إنما جاء في قصة حبان بن منقذ ولم يذكر صفة سفه ولا اتلافاً لماله وإنما جاء أنه كان يخدع في البيع وليس كل من غبن في شيء يجب أن يحجر عليه وللحجر حد فإذا لم يبلغ ذلك الحد لم يستحق الحجر. وقد اختلف الناس في تأويل هذا الحديث فذهب بعضهم إلى أنه خاص في أمرحبان بن منقذ وأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل هذا القول شرطاً له في بيوعه ليكون له الرد به إذا تبين الغبن في صفقته فكان سبيله سبيل من باع أو اشترى على شرط الخيار، وقال غيره الخبر على عمومه في حبان وغيره. وقال مالك بن أنس في بيع المغابنة إذا لم يكن المشتري ذا بصيرة كان له فيه الخيار.

ومن باب في العربان

وقال أحمد في بيع المسترسل يكره غابنه وعلى صاحب السلعة أن يستقصي له وقد حكي عنه أنه قال إذا بايعه وقال لا خلابة فله الرد، وقال أبو ثور البيع إذا غبن فيه أحد المتبايعين غبناً لا يتغابن الناس فيما بينهم بمثله فاسد كان المتبايعان خابري الأمر أو محجوراً عليهما. وقال أكثر الفقهاء إذا تصادر المبايعان عن رضا وكانا عاقلين غير محجورين فغبن أحدهما فلا يرجع فيه. ومن باب في العُربان قال أبو داود: حدثنا القعنبي قال قرأت على مالك بن أنس أنه بلغه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع العربان قال مالك وذلك فيما نرى والله أعلم، أن يشتري الرجل العبد أو يتكارى الدابة ثم يقول أعطيك ديناراً على أني إن تركت السلعة أو الكراء فما أعطيتك لك. قال الشيخ هكذا تفسير بيع العربان وفيه لغتان عربان وأربان ويقال أيضل عربون وأربون. وقد اختلف الناس في جواز هذا البيع فأبطله مالك والشافعي للخبر ولما فيه من الشرط الفاسد والغرر ويدخل ذلك في أكل المال بالباطل وأبطله أصحاب الرأي. وقد روي عن ابن عمر أنه أجاز هذا البيع ويروي ذلك أيضاً عن عمر. ومال أحمد بن حنبل إلى القول بإجازته وقال أي شيء أقدر أن أقول وهذا عمر رضي الله عنه، يَعني أنه أجازه وضعف الحديث فيه لأنه منقطع وكأن رواية مالك فيه عن بلاغ.

ومن باب الرجل يبيع ما ليس عنده

ومن باب الرجل يبيع ما ليس عنده قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا أبو عوانة، عَن أبي بشر عن يوسف بن ماهك عن حكيم بن حزام قال يا رسول الله يأتيني الرجل فيريد مني البيع ليس عندي افأبتاعه له من السوق قال لا تبع ما ليس عندك. قوله لا تبع ما ليس عندك يريد بيع العين دون بيع الصفة، ألا ترى أنه أجاز السلم إلى الآجال وهو بيع ما ليس عند البائع في الحال وإنما نهى عن بيع ما ليس عند البائع من قبل الغرر وذلك مثل أن يبيعه عبده الآبق أو جمله الشارد ويدخل في ذلك كل شيء ليس بمضمون عليه مثل أن يشتري سلعة فيبيعها قبل أن يقبضها ويدخل في ذلك بيع الرجل مال غيره موقوفاً على إجازة المالك لأنه يبيع ما ليس عنده ولا في ملكه وهو غرر لأنه لا يدري هل يجيزه صاحبه أم لا والله أعلم. ومن باب شرط في بيع قال أبو داود: حدثنا زهير بن حرب، قال: حَدَّثنا إسماعيل عن أيوب قال حدثني عمرو بن شعيب قال حدثني أبي عن أبيه حتى ذكر عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع ولا ربح ما لم تضمن ولا تبع ما ليس عندك. قال أبو داود: حدثنا مسدد، قال: حَدَّثنا يحيى بن سعيد عن زكريا عن عامر عن جابر، قال بعته، يَعني بعيراً من النبي صلى الله عليه وسلم فاشترطت حملانه إلى أهلي قال في آخره تراني إنما ماكستك لأذهب بجملك خذ جملك وثمنه فهما لك. قال الشيخ أما الحديث وقوله لا يحل سلف وبيع فهو من نوع ما تقدم

بيانه فيما مضى عن نهيه عن بيعتين في بيعة وذلك مثل أن يقول له أبيعك هذا العبد بخمسين دينارا على أن تسلفني ألف درهم في متاع أبيعه منك إلى أجل أو يقول أبيعكه بحذا على أن تقرضي ألف درهم، ويكون معنى السلف القرض وذلك فاسد لأنه إنما يقرضه على أن يحابيه في الثمن فيدخل الثمن في حد الجهالة ولأن كل قرض جَرَّ منفعة فهو ربا. وأما ربح ما لم يضمن فهو أن يبيعه سلعة قد اشتراها ولم يكن قبضها فهي من ضمان البائع الأول ليس من ضمانه فهذا لا يجوز بيعه حتى يقبضه قيكون من ضمانه. وقوله لا تبع ما ليس عندك فقد فسرناه قبل. وأما قوله ولا شرطان في بيع فإنه بمنزلة بيعتين وهو أن يقول بعتك هذا الثوب نقداً بدينار ونسيئة بدينارين فهذا بيع واحد تضمن شرطين يختلف المقصود منه باختلافهما وهو الثمن، ويدخله الغرر والجهالة ولا فرق في مثل هذا بين شرط واحد وبين شرطين أو شروط ذات عدد في مذاهب أكثر العلماء. وفرق أحمد بن حنبل بين شرط واحد وبين شرطين اثنين فقال إذا اشترى منه ثوباً واشترط قصارته صح البيع فان شرط عليه مع القصارة الخياطة فسد البيع، قال الشيخ ولا فرق بين أن يشترط عليه شيئا واحداً أو شيئين لأن العلة في ذلك كله واحدة وذلك لأنه إذا قال بعتك هذا الثوب بعشرة دراهم على أن تقصره لي فان العشرة التي هي الثمن تنقسم على الثوب وعلى أجرة القصارة فلا يدري حينئذ كم حصة الثوب من حصة الإجارة وإذا صار الثمن مجهولاً بطل البيع. وكذلك هذا في الشرطين وأكثر. وكل عقد جمع تجارة

وإجارة فسبيله في الفساد هذا السبيل وفي معناه أن تبتاع منه قفيز حنطة بعشرة دراهم على أن يطحنه. أو أن تشتري منه حمل حطب على أن ينقله إلى منزله وما أشبه ذلك مما يجمع بيعا وإجارة. والشروط على ضروب فمنها ما يناقض البيوع ويفسدها ومنها ما لا يلائمها ولا يفسدها، وقد روي المسلمون عند شروطهم وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم كل شرط ليس في كتاب الله فهوباطل. فعلم أن بعض الشروط يصح وبعضها يبطل، وقال صلى الله عليه وسلم من باع عبداً وله مال فماله للبائع إلاّ أن يشترط المبتاع. فهذه الشروط قد أثبتها رسول الله صلى الله عليه وسلم في عقد البيع ولم يرد العقد يفسد بها فعلمت أن ليس كل شرط مبطلاً للبيع. وجماع هذا الباب أن ينظر فكل شرط كان من مصلحة العقد أو من مقتضاه فهو جائز مثل أن يبيعه على أن يرهنه داره أو يقيم له كفيلاً بالثمن فهذا من مصلحة العقد والشرط فيه جائز. وأما مقتضاه فهو مثل أن يبيعه عبداً على أن يحسن إليه وأن لا يكلفه من العمل ما لا يطيقه وما أشبه ذلك من الأمور التي يجب عليه أن يفعلها، وكذلك لو قال له بعتك هذه الدار على أن تسكنها أو تسكنها من شئت وتكريها وتتصرف فيها بيعاً وهبة وما أشبه ذلك مما له أن يفعله في ملكه فهذا شرط لا يقدح في العقد لأن وجوده ذكراً له وعدمه سكوتاً عنه في الحكم سواء. وأما ما يفسد البيع من الشروط فهو كل شرط يدخل الثمن في حد الجهالة أو يوقع في العقد أو في تسليم المبيع غرراً أو يمنع المشتري من اقتضاء حق الملك من المبيع.

فأما ما يدخل الثمن في حد الجهالة فهو أن يشتري منه سلعة ويشترط عليه نقلها إلى بيته أو ثوباً ويشترط عليه خياطته في نحو ذلك من الأمور، وكذلك إذا باعه عبدا على أن لا خسارة عليه، وأما ما يجلب الغرر مثل أن يبيعه داره بألف درهم ويشترط فيه رضاء الجيران أو رضاء زيد أو عمرو أو يبيعه دابة على أن يسلمها إليه بالري أو بأصبهان فهذا غرر لا يدري هل يسلم الحيوان إلى وقت التسليم وهل يرضى الجيران أم لا أو المكان الذي شرط تسليمه فيه أو لا، وأما منع المشتري من مقتضى العقد فهو أن يبيعه جارية على أن لا يبيعها أو لا يستخدمها أو لا يطأها ونحو ذلك من الأمور فهذه شروط تفسد البيع لأن العقد يقتضي التمليك واطلاق التصرف في الرقبة والمنفعة وهذه الشروط تقتضي الحجر الذي هو مناقض لموجب الملك فصار كأنه لم يبعه منه أو لم يملكه إياه. وأما حديث جابر وقوله واشترطت حملانه إلى أهلي فسنقول في تخرجه والتوفيق بينه وبين الحديث الأول ما يزول معه الخلاف على معاني ما قلناه إن شاء الله وذلك أنه قد اختلف الرواية فيه فروى شعبة بن المغيرة عن الشعبي عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم أعاره ظهر الجمل إلى المدينة. وحدثنيه إبراهيم بن عبيد الله القصار، قال: حَدَّثنا محمد بن إسحاق بن خزيمة، قال: حَدَّثنا يحيى بن محمد بن السكن، قال: حَدَّثنا يحيى بن كثير أبو غسان العنبري، قال: حَدَّثنا شعبة عن المغيرة عن الشعبي عن جابر قال بعت النبي صلى الله عليه وسلم جملاً فافقرني ظهره إلى المدينة. قال الشيخ الافقار إنما هو في كلام العرب إعارة الظهر للركوب فدل هذا على أنه لم يكن عقد شرط في نفس البيع وقد يحتمل أن يكون ذلك عدة

منه أي وعده له بالركوب والعقد إذا تجرد عن الشروط لم يضره ما يعقبه بعد ذلك من هذه الأمور، ويشبه أن يكون إنما رواه من رواه بلفظ الشرط لأنه إذا وعده الافقار والإعارة كان ذلك منه أمراً لا يشك الوفاء فيه فحل محل الشروط المذكورة والأمور الواجبة التي لا خلف فيها فعبر عنه بالشرط على هذا المعنى. على أن قصة جابر إذا تأملتها علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستوف فيها أحكام البيوع من القبض والتسليم وغيرهما، وإنما أراد أن ينفعه ويهب له فاتخذ بيع الجمل ذريعة إلى ذلك ومن أجل ذلك جرى الأمر فيها على المساهلة ألا ترى أنه قد دفع إليه الثمن الذي سماه ورد إليه الجمل يدل على صحة ذلك؛ قوله أتراني إنما ماكستك لأخذ جملك. وقد اختلف الناس فيمن اشترى دابة فاشترط فيها حملاناً للبائع، فقال أصحاب الرأي البيع باطل، وإليه ذهب الشافعي، وقال الأوزاعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه البيع جائز والشرط ثابت على ظاهر حديث جابر بن عبد الله. وفرق مالك بن أنس بين المكان القريب والبعيد فقال إن اشترط مكاناً قريبا فهو جائز وإن كان بعيداً فهو مكروه، وكذلك قال فيمن باع داراً على أن له سكناها مدة، فقال إن كان ذلك نحو الشهر والشهرين جاز، وإن كان المدة الطويلة لم يجز. قال الشيخ وقد بقي في هذا الباب قسم ثالث من الشروط وهو بيع الرقبة بشرط العتق، وقد اختلف العلماء في ذلك، فقال إبراهيم النخعي كل شرط في بيع فإن البيع يهدمه إلا أن يكون عتاقة، وإلى هذا ذهب الشافعي في أظهر قوليه وهو مذهبه الجديد فقال إذا باع الرجل النسمة واشترط على المشتري

عتقها أن البيع جائز والشرط ثابت، وقال في القديم البيع جائز والشرط باطل وهو مذهب ابن أبي ليلى وأبي ثور، وقال أبو حنيفة وأصحابه البيع فاسد، غير أنهم قالوا إن أعتقه جاز ولزمه الثمن في قول أبي حنيفة دون القيمة، وقال صاحباه يلزمه القيمة وهذا أقيس. قال الشيخ وإنما فرق بين العتق وبين غيره من الشروط الخصوصية بالعتق من الغلبة في الأصول والسراية في ملك الغير، ألا ترى أن ملك المالك يمتنع على غيره من التصرف فيه ثم لا يمتنع من التصرف في العتق وهو إذا كان بينه وبين آخر عبد فأعتق نصيبه منه عتق نصيب شريكه عليه، وأيضاً فإنه لا يجوز أن يبيع الرجل ملكه من ملكه ثم جازت الكتابة لما تضمنه من العتق. فإذا كانت أحكامه تجري على التخصيص لم ينكر أن تجري شروطه على التخصيص كذلك، وحديث النهي عن بيع شرط عام وخبر العتق خاص والعام ينبىء على الخاص ويخرج عليه والله أعلم. وحدثني محمد بن هاشم بن هشام، قال: حَدَّثنا عبد الله بن فيروز الديلمي، قال: حَدَّثنا محمد بن سليم الذهلي،، قال: حَدَّثنا عبد الوارث بن سعيد قال قدمت مكة فوجدت بها أبا حنيفة وابن أبي ليلى وابن شبرمة فسألت أبا حنيفة عن رجل باع بيعاً وشرط شرطاً فقال البيع باطل والشرط باطل. ثم أتيت ابن أبي ليلى فسألته فقال البيع جائز والنشرط باطل. ثم أتيت ابن شبرمة فسألته فقال البيع جائز والشرط جائز فقلت يا سبحان الله ثلاثة من الفقهاء فقهاء العراق اختلفوا علي في مسألة واحدة فأتيت أبا حنيفة فأخبرته فقال ما أدري ما قالا حدثني عمرو بن شعيب عن أبيه

ومن باب عهدة الرقيق

عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وشرط البيع باطل والشرط باطل وأتيت ابن أبي ليلى وأخبرته فقال ما أدري ما قالا حدثني هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالث أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أشتري بريرة فأعتقها وقال يعنى اشترطي الولاء لأهلها البيع جائز والشرط باطل. ثم أتيت ابن شبرمة فأخبرته فقال ما أدري ما قالا حدثني مسعر بن كدام عن محارب بن دثار عن جابر بن عبد الله قال بعت النبي صلى الله عليه وسلم ناقة أو جملاً وشرط لي حملاناً إلى المدينة البيع جائز والشرط جائز. قال الشيخ هذه الأحاديث كلها متفقة على معاني ما قدمنا من البيان في ترتيب الشرائط ولخصناه من وجوهها في مواضعها. فأما حديث بريرة فسنتكلم عليه في موضعه من كتاب العتق فإن ذلك المكان أملك به وروايته من طريق ابن أبي ليلى ههنا مختلفة وألفاظه منتجة وقد ذكره أبو داود على وجهه في كتاب العتق وسنبين معناه هناك ونوضحه إن شاء الله. ومن باب عهدة الرقيق قال أبو داود: حدثنا مسلم بن إبراهيم، قال: حَدَّثنا أبان عن قتادة عن الحسن عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عهدة الرقيق ثلاثة أيام. قال الشيخ معنى عهدة الرقيق أن يشتري العبد أو الجارية ولا يشترط البائع البراءة من العيب فما أصاب المشتري من عيب في الأيام الثلاثة لم يرد إلاّ ببينة وهكذا فسره قتادة فيما ذكره أبو داود عنه. قال الشيخ وإلى هذا ذهب مالك بن أنس وقال هذا إذا لم يشترط البائع

ومن باب فيمن اشترى عبدا فاستعمله ثم رأى فيه عيبا

البراءة من العيب. قال وعهدة السنة من الجنون والجذام والبرص فإذا مضت السنة فقد برىء البائع من العهدة كلها قال ولا عهدة إلاّ في الرقيق خاصة، وهذا قول أهل المدينة ابن المسيب والزهري أعني عهدة السنة في كل داء عضال أي صعب، وكان الشافعي لا يعتبر الثلاث والسنة في شيء منها وينظر إلى العيب فان كان مما يحدث مثله في مثل المدة التي اشتراه فيها إلى وقت الخصومة فالقول قول البائع مع يمينه وإن كان لا يمكن حدوثه في تلك المدة رده على البائع. وضعف أحمد بن حنبل عهدة الثلاث في الرقيق، وقال لا يثبت في العهدة حديث. وقالوا لم يسمع الحسن من عقبة بن عامر شيئاً والحديث مشكوك فيه فمرة قال عن سمرة ومرة قال عن عقبة. ومن باب فيمن اشترى عبداً فاستعمله ثم رأى فيه عيباً قال أبو داود: حدثنا أحمد بن يونس، قال: حَدَّثنا ابن أبي ذئب عن مخلد بن خفاف عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الخراج بالضمان. قال الشيخ معنى الخراج الدخل والمنفعة ومن هذا قوله تعالى {أم تسألهم خرجاً فخراج ربك خير} [المؤمنون: 72] ويقال للعبد إذا كان لسيده عليه ضريبة مخارج، ومعنى قوله الخراج بالضمان المبيع إذا كان مما له دخل وغلة فإن مالك الرقبة الذي هو ضامن الأصل يملك الخراج بضمان الأصل فإذا ابتاع الرجل أرضاً فأشغلها أو ماشية فنتجها أودابة فركبها أو عبداً فاستخدمه ثم وجد به عيباً فله أن يرد الرقبة ولا شيء عليه فيما انتفع به لأنها لوتلفت ما بين مدة العقد والفسخ لكانت من ضمان المشتري فوجب أن يكون الخراج من حقه،

واختلف أهل العلم في هذا فقال الشافعي ما حدث في ملك المشتري من غلة ونتاج ماشية وولد أمة فكل ذلك سواء لا يرد منه شيئا ويرد المبيع إن لم يكن ناقصا عما أخذه. وقال أصحاب الرأي إذا كان ماشية فحلبها أو نخلاً أو شجراً فأكل ثمرها لم يكن له أن يرد بالعيب ويرجع بالأرش، وقالوا في الدار والدابة والعبد الغلة له ويرد بالعيب. وقال مالك في أصواف الماشية وشعورها أنها للمشتري ويرد الماشية إلى البائع فأما أولادها فإنه يردها مع الأمهات. واختلفوا في المبيع إذا كان جارية فوطئها المشتري ثم وجد بها عيبا، فقال أصحاب الرأي تلزمه ويرجع على البائع بأرش العيب، وكذلك قال الثوري وإسحاق بن راهويه، وقال ابن أبي ليلى يردها ويرد معها مهر مثلها. وقال مالك إن كانت ثيبا ردها ولا يرد معها شيئاً وإن كانت بكراً فعليه ما نقص من ثمنها. وقال الشافعي إن كانت ثيباً ردها ولا شيء عليه، وإن كانت بكراً لم يكن له ردها ورجع بما نقصها العيب من أصل الثمن. وقال أصحاب الرأي الغصوب على البيوع من أجل أن ضمانها على الغاصب فلم يجعلوا عليه رد الغلة واحتجوا بالحديث وعمومه. قال الشيخ والحديث إنما جاء في البيع وهو عقد يكون بين المتعاقدين بالتراضي وليس الغصب يعقد عن تراض من المتعاقدين، وإنما هو عدوان وأصله وفروعه سواء في وجوب الرد ولفظ الحديث مبهم لأن قوله الخراج بالضمان

ومن باب إذا اختلف المتبايعان

يحتمل أن يكون المعنى أن ضمان الخراج بضمان الأصل. واقتضاء العموم من اللفظ المبهم ليس بالبين الجواز والحديث في نفسه ليس بالقوي، إلاّ أن أكثر العلماء قد استعملوه في البيوع فالأحوط أن يتوقف عنه فيما سواه. وقال محمد بن إسماعيل هذا حديث منكر ولا أعرف لمخلد بن خفاف غير هذا الحديث. قال أبو عيسى الترمذي فقلت له فقد روي هذا عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها فقال إنما رواه مسلم بن خالد الزنجي وهو ذاهب الحديث. قال أبو داود: حدثنا محمود بن خالد الفريابي،، قال: حَدَّثنا سفيان عن محمد بن عبد الرحمن عن مخلد الغفاري، قال كان بيني وبين أناس شركة في عبد فأقتويته وبعضنا غائب وذكر الحديث. قال الشيخ قوله اقتويته، معناه استخدمته. ومن باب إذا اختلف المتبايعان قال أبو داود: حدثنا محمد بن يحيى بن فارس، قال: حَدَّثنا عمر بن حفص بن غياث، قال: حَدَّثنا أبي، عَن أبي عميس قال أخبرني عبد الرحمن بن قيس بن محمد بن الأشعث عن أبيه عن جده، قال اشترى الأشعث بن قيس رقيقاً من رقيق الخمس من عبيد الله بعشرين ألفاً فأرسل عبد الله إليه في ثمنهم، فقال إنما أخذتهم بعشرة آلاف، فقال عبد الله فاختر رجلاً يكون بيني وبينك فقال الأشعث أنت بيني وبين نفسك، قال عبد الله فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا

اختلف البيعان وليس بينهما بيِّنة فهو ما يقول رب السلعة أو يتتاركان. قال وحدثنا عبد الله بن محمد النفيلي،، قال: حَدَّثنا هشيم، قال: حَدَّثنا ابن أبي ليلى عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن ابن مسعود فذكر معناه. قال الشيخ قول أو يتتاركان معناه أو يتفاسخان العقد. واختلف أهل العلم في هذه المسألة فقال مالك والشافعي يقال للبائع احلف بالله ما بعت سلعتك إلاّ بما قلت، فان حلف البائع قيل للمشتري إما أن تأخذ السلعة بما قال البائع وإما أن تحلف ما اشتريتها إلاّ بما قلت فإن حلف برىء منها وردت السلعة على البائع وسواء عند الشافعي كانت السلعة قائمة أو تالفة فإنهما يتحالفان ويترادان. وكذلك قال محمد بن الحسن ومعنى يترادان أي قيمة السلعة عند الاستملاك. وقال النخعي والثوري والأوزاعي وأبو حنيفة وأبو يوسف القول قول المشتري مع يمينه بعد الاستملاك، وقول مالك قريب من قولهم بعد الاستملاك في أشهر الروايتين عنه. واحتج لهم بأنه قد روي في بعض الأخبار إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة فالقول ما يقول البائع ويترادان قالوا فدل اشتراطه قيام السلعة على أن الحكم عند استهلاكها بخلاف ذلك. قال الشيخ وهذه اللفظة لا تصح من طريق النقل إنما جاء بها ابن أبي ليلى وقيل إنها من قول بعض الرواة، وقد يحتمل أن يكون إنما ذكر قيام السلعة بمعنى التغليب لا من أجل التفريق لأن أكثر ما يعرض فيه النزاع ويجب معه التحالف هو حال قيام السلعة وهذا كقوله تعالى {وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن} [النساء: 23] .

فذكره الحجور ليس بشرط يتغير به الحكم ولكنه غالب الحال وكقوله {إلاّ أن يخافا ألا يقيما حدود الله} [البقرة: 229] ولم يجز ذكر الخوف من مذهب أكثر الفقهاء للفرق ولكن لأنه الغالب ولم يفرقوا في البيوع الفاسدة بين القائم والتالف منها فيما يجب من رد السلعة إن كانت قائمة والقيمة إن كانت تالفة. وهذا البيع مصيره إلى الفساد لأنا نرفعه من أصله إذا تحالفا ونجعله كأنه لم يقع ولسنا نثبته ثم نفسخه ولوكنا فعلنا ذلك لكان في ذلك تكذيب أحد الحالفين ولا معنى لتكذيبه مع إمكان تصديقه ويخرج ذلك على وجه يعذر فيه مثل أن يحمل أمره على الوهم وغلبة الظن في نحو ذلك. واحتجوا فيه أيضاً بقوله اليمين على المدعى عليه، وهذا لا يخالف حديث التحالف لأن كل واحد منهما مدع من وجه ومدعى عليه من وجه آخر وليس اقتضاء أحد الحكمين منه بأولى من الآخر، وقد يجمع بين الخبرين أيضاً بأن يجعل اليمين على المدعى عليه إذ كانت يمين نفي وهذه يمين فيها إثبات. قال الشيخ وأبو حنيفة لا يرى اليمين في الاثبات، وقد قال به ههنا مع قيام السلعة، وقد خالف أبو ثور جماعة الفقهاء في هذه المسألة فقال القول قول المشتري مع قيام السلعة، ويقال إن هذا خلاف الإجماع مع مخالفته الحديث والله أعلم. وقد اعتذر له بعضهم أن في إسناد هذا الحديث مقالاً فمن أجل ذلك عدل عنه. قال الشيخ هذا حديث قد اصطلح الفقهاء على قبوله وذلك يدل على أن له أصلاً كما اصطلحوا على قبول قوله لا وصية لوارث، وفي إسناده ما فيه. قال الشيخ وسواء عند الشافعي كان اختلافهما في الثمن أو في الأجل أو

ومن باب الشفعة

في خيار الشرط أو في الرهن أو في الضمين فإنهما يتحالفان قولاً بعموم الخبر وظاهره إذ ليس فيه ذكر حال من الاختلاف دون حال. وعند أصحاب الرأي لا يتحالفان إلاّ عند الاختلاف في الثمن. ومن باب الشفعة قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل، قال: حَدَّثنا إسماعيل بن إبراهيم عن ابن جريج، عَن أبي الزببر عن جابر، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الشفعة في كل شرك ربعة أو حائط لا يصلح أن يبيع حتى يؤذن شريكه فإن باع فهو أحق به حتى يؤذنه. قال الشيخ الربع والربعة المنزل الذي يربع به الإنسان ويتوطنه، يقال هذا ربع وهذه ربعة بالهاء كما قالوا دار ودارة. وفي هذا الحديث إثبات الشفعة في الشركة وهو اتفاق من أهل العلم وليس فيه عن المقسوم من جهة اللفظ ولكن دلالته من طريق المفهوم أن لا شفعة في المقسوم كقوله الولاء لمن أعتق دلالته أنه لا ولاء إلاّ للمعتق. وفيه دليل على أن الشفعة لا تجب إلاّ في الأرض والعقار دون غيرهما من العروض والأمتعة والحيوان ونحوها. قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل، قال: حَدَّثنا عبد الرزاق، قال: حَدَّثنا معمر عن الزهري، عَن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن جابر قال إنما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الشفعة في كل مال لم يقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة. قال الشيخ هذا الحديث أبين في الدلالة على نفي الشفعة لغير الشريك من مثبته من الحديث الأول وكلمة إنما تعمل بركنيها فهي مثبتة للشيء نافية لما سواه،

فثبت أنه لا شفعة في المقسوم. وأما قوله فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة فقد يحتج بكل لفظة منها قوم، أن اللفظة الأولى ففيها حجة لمن لم ير الشفعة في المقسوم، وأما اللفظة الأخرى فقد يحتج بها من يثبت الشفعة بالطريق وإن كان المبيع مقسوماً. قال الشيخ ولا حجة لهم عندي في ذلك وإنما هو الطريق إلى المشاع دون المقسوم وذلك أن الطريق يكون في المشاع شائعاً بين الشركاء قبل القسمة وكل واحد منهم يدخل من حيث شاء ويتوصل إلى حقه من الجهات كلها، فإذا قسم العقار بينهم منع كل واحد منهم أن يتطرق شيئاً من حق صاحبه وأن يدخل إلى ملكه إلاّ من حيث جعل له فمعنى صرف الطرق هو هذا والله أعلم. ثم إنه علق الحكم فيه بمعنيين أحدهما وقوع الحدود وصرف الطرق معاً فليس لهم أن يثبتوه بأحدهما وهو نفي صرف الطرق دون نفي وقوع الحدود. قال أبو داود: حدثنا محمد بن يحيى بن فارس، قال: حَدَّثنا الحسن بن الربيع، قال: حَدَّثنا ابن إدريس عن ابن جريج عن ابن شهاب، عَن أبي سلمة أو عن سعيد بن المسيب أو عنهما جميعاً، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قسمت الأرض وحدت فلا شفعة فيها. قال الشيخ وفي هذا بيان أن الشفعة تبطل بنفس القسمة والتمييز بين الحصص بوقوع الحدود ويشبه أن يكون المعنى الموجب للشفعة دفع الضرر بسوء المشاركة والدخول في ملك الشريك، وهذا المعنى يرتفع بالقسمة وأملاك

الناس لا يجوز الاعتراض عليها بغير حجة. قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي، قال: حَدَّثنا سفيان عن إبراهيم بن ميسرة سمع عمرو بن الشريد سمع أبا رافع سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول الجارأحق بسقبه. قال الشيخ السقب القرب يقال ذلك بالسين والصاد حميعاً قال الشاعر: لا صقب دارها ولا أمم وقد يحتج بهذا من يرى الشفعة بالجوار وإن كان مقاسماً، إلاّ أن هذا اللفظ مبهم يحتاج إلى بيان وليس في الحديث ذكر الشفعة فيحتمل أن يكون أراد الشفعة، وقد يحتمل أن يكون أراد أنه أحق بالبر والمعونه وما في معناهما، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلاً قال إن لي جارين إلى أيهما أهدي قال إلى أقربهما منك داراً أو باباً. وقد يحتمل أن يجمع بين الخبرين فيقال إن الجار أحق بسقبه إذا كان شريكاً فيكون معنى الحديثين على الوفاق دون الاختلاف واسم الجار قد يقع على الشريك لأنه قد يجاور شريكه ويساكنه في الدار المشتركة كالمرأة تسسى جارة لهذا المعني ويدل على ذلك قول الأعشى يريد زوجته: أجارتنا بيني فإنك طالقه…… كذاك أمور الناس تغدو وطارقه وقد تكلم أهل الحديث في إسناد هذا الحديث واضطراب الرواة فيه، فقال بعضهم عن عمرو بن الشريد، عَن أبي رافع، وقال بعضهم عن أبيه، عَن أبي رافع وأرسله بعضهم. وقال فيه قتادة عن عمرو بن شعيب عن الشريد والأحاديث التي جاءت في أن لا شفعة إلاّ للشريك أسانيدها جياد ليس في شيء منها اضطراب.

قال أبو داود: حدثنا أبو الوليد الطيالسي، قال: حَدَّثنا شعبة عن قتادة عن الحسن عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال جار الدار أحق بدار الجار والأرض. قال الشيخ وهذا أيضاً قد يحتمل أن يتأول على الجار المشارك دون المقاسم كما قلناه في الحديث الأول وقد تكلموا في إسناده، قال يحيى بن معين لم يسمع الحسن من سمرة وإنما هو صحيفة وقعت إليه أو كما قال، وقال غيره سمع الحسن من سمرة حديث العقيقة حسب. قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل، قال: حَدَّثنا هشيم قال أخبرنا عبد الملك عن عطاء عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الجار أحق بشفعة جاره ينتظر بها وإن كان غائبا إذا كان طريقهما واحداً. قال الشيخ عبد الملك بن أبي سليمان لين الحديث وقد تكلم الناس في هذا الحديث. وقال الشافعي نخاف أن لا يكون محفوظاً وأبو سلمة حافظ، وكذلك أبو الزبير ولا يعارض حديثهما بحديث عبد الملك. وحكي عن شعبة أنه أنكر هذا الحديث وقال إن روى عبد الملك حديثا آخر مثل هذا تركت حديثه وجعله بعضهم رأياً لعطاء أدرجه عبد الملك في الحديث، وقال أبو عيسى الترمذي قلت لمحمد بن إسماعيل في هذا فقال تفرد به عبد الملك، وروي عن جابر خلاف هذا. وحكي عن أمية بن خالد عن شعبة قال قلت له ما لك لا تحدث عن عبد الملك وأنت تحدث عن محمد بن عبيد الله العرزمي وسيع عبد الملك بن أبي سليمان وأنه كان حسن الحديث قال من حسنه فرقت. قال الشيخ قد يحتمل أيضاً أن يوفق بينه وبين الأحاديث المتقدمة فيتأول

ومن باب الرجل يفلس فيجد الرجل متاعه بعينه عنده

على المشاع لأن الطريق إنما يكون واحداً على الحقيقة في المشاع دون المقسوم. وقد اختلف الناس في هذه المسألة فذهب أكثر العلماء إلى أن لا شفعة في المقسوم وهو قول عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان رضي الله عنهما؛ وإليه ذهب أهل المدينة سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وعمر بن عبد العزيز والزهري وربيعة بن أبي عبد الرحمن ومالك بن أنس وهو مذهب الأوزاعي والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبي ثور. وقال أصحاب الرأي الشفعة واجبة للجار وإن كان مقاسماً على اختلاف بينهم في ترتيب الجوار، إلاّ أنهم لم يختلفوا أن الشريك مقدم على الجار المقاسم، وقالوا إن سلم الشريك في الدار فالشريك في الطريق أحق من جار الدار. قال الشيخ وفي هذا ترك للقول بالشفعة لأن الجار الملاصق أقرب من الشريك في الطريق، واستدل مالك والشافعي بقوله والشفعة فيما لم يقسم على أن ما لا يحتمل القسم كالبئر ونحوها لا شفعة فيه. وقال أبو حنيفة والثورى الشفعة فيها قائمة. قال الشيخ وهذا أولى لأن القصد بقول الشفعة فيما لم يقسم ليس بيان ما تجب فيه الشفعة مما ينقسم أو لا ينقسم؛ إنما هو بيان سقوط الشفعة فيما قد قسم، فإذا كان معنى الشفعة إزالة الضرر فإن هذا المعنى قائم في البئر وفيما أشبهها، وإلى هذا ذهب أبو العباس بن سريج، فقال إذا كان إزالة الضرر فيما يمكن إزالته واجبة ففيما لا يمكن إزالته أولى. ومن باب الرجل يفلس فيجد الرجل متاعه بعينه عنده قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي عن مالك عن يحيى بن سعيد،

عَن أبي بكر بن محمد عن عمرو بن حزم عن عمر بن عبد العزيز، عَن أبي بكر بن عبد الرحمن، عَن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أيما رجل أفلس فأدرك الرجل متاعه بعينه فهو أحق به من غيره. قال الشيخ وهذه سنة النبي صلى الله عليه وسلم قد قال بها كثير من أهل العلم، وقد قضى بها عثمان رضي الله عنه وروي ذلك عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ولا يعلم لهما مخالف في الصحابة وهو قول عروة بن الزبير وبه قال مالك والأوزاعي والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق. وقال إبراهيم النخعي وأبو حنيفة وابن شبرمة هو أسوة الغرماء. وقال بعض من يحتج لقولهم هذا مخالف للأصول الثابتة ولمعانيها والمبتاع قد ملك السلعة وصارت من ضمانه فلا يجوز أن ينقض عليه ملكه، وتأولوا الخبر على الودائع والبيوع الفاسدة ونحوها. قال الشيخ والحديث إذا صح وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس إلاّ التسليم له وكل حديث أصل برأسه ومعتبر بحكمه في نفسه فلا يجوز أن يعترض عليه بسائر الأصول المخالفة أو يتذرع إلى إبطاله بعدم النظير له وقلة الاشباه في نوعه وههنا أحكام خاصة وردت بها أحاديث، فصارت أصولاً كحديث الجنين وحديث القسامة والمصراة. وروى أصحاب الرأي حديث النبيذ وحديت القهقهة في الصلاة وهما مع ضعف سندهما مخالفان للأصول فلم يمتنعوا من قبولها لأجل هذه العلة وأما نقض ملك المالك فقد جاء في غير موضع من الأصول، كالمشتري الشقص يملكه بالعقد ثم ينقض حق الشفيع ملكه فيسترجعه، وتملك المرأة الصداق بنفس

العقد بدليل أنه لو كان عبداً فأعتقته أو باعته كان العتق نافذاً والبيع جائزاً ثم أنه إذا طلقها الزوج قبل الدخول انتقض الملك عليها في نصفه. وقد يختلف المتبايعان في الثمن بعد العقد فيتحالفان ويعود الملك إلى البائع وقد يؤجر داره سنة بأجرة معلومة فتهدم الدار فيرد المؤاجر الأجرة ويكاتب عبده ثم يعجز فيبطل العقد ويعود ملكاً يتصرف فيه كما كان، وقد يقدم المرتهن بما في يده من الرهن على سائر الغرماء فيكون أحق به ولم يستنكر شيء من هذه الأمور ولم يعبأ بمخالفتها سائر الأصول، وكذلك الحكم في المفلس. وقد قال الكوفيون لو وهب عبداً له على عوض فأفلس المرتهن فإن رب الهبة أحق بعين ماله، والموهوب منه المال مالك عندهم ملكاً تاماً، ولكن لأجل تعلقه بالعوض ينفق عليه ملكه، وهذا بعينه هو حكم الإفلاس على معنى ما ورد به الخبر. وكذلك قالوا في المحال عليه إذا أفلس رجع المحتال على المحيل. وأما تأويل من تأول الحديث وخرجه على الودائع ونحوها فإنه غير مستقيم لأن ذلك يعطل فائدة الخبر إذ كان ذلك أمراً معلوماً من طريق العلم العام من جهة الإجماع، والخبر الخاص إنما يرد لبيان حكم خاص، وأبو هريرة راوي الحديث قد تأوله على البيع الصحيح لما جاءه خصمان، فقال هذا الذي قضى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فدل على صحة ما ذهبنا إليه والله أعلم. قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن ابن شهاب، عَن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أيما رجل باع متاعاً فأفلس الذي ابتاعه ولم يقبض الذي باعه من ثمنه شيئاً فوجد متاعه بعينه فهو أحق به وإن مات المشتري فصاحب المتاع أسوة الغرماء.

قال الشيخ ذهب مالك إلى جملة ما في هذا الحديث، وقال إن كان قبض شيئاً من ثمن السلعة فهو أسوة الغرماء. وقال الشافعي لا فرق بين أن يكون قبض شيئاً أو لم يقبضه في أنه إذا وجد عين ماله كان أحق به. وقال مالك إذا مات المبتاع فوجد البائع عين سلعته لم يكن أحق بها. وعند الشافعي إذا مات المبتاع مفلساً والسلعة قائمة فلصاحبها الرجوع فيها. وقد روي، عَن أبي هريرة من غير هذا الطريق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من أفلس أو مات فوجد رجل متاعه بعينه فهو أحق به. وقد ذكره أبو داود في هذا الباب. ، قال: حَدَّثنا محمد بن بشار، قال: حَدَّثنا ابن أبي ذئب، عَن أبي المعتمر عن عمر بن خَلْده، عَن أبي هريرة. وحديث مالك الذي احتج به مرسل غير متصل. قال أبو داود: حدثنا محمد بن عوف الطائي،، قال: حَدَّثنا عبد الله بن عبد الجبار الخبايري،، قال: حَدَّثنا إسماعيل بن عياش عن الزبيدي عن الزهري، عَن أبي بكر بن عبد الرحمن، عَن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وذكر الحديث وقال فيه فإن كان قضاه من ثمنها شيئاً فما بقي فهو أسوة الغرماء وأيما امرىء هلك وعنده متاع بعينه اقتضى منه شيئاً أو لم يقتض فهو أسوة الغرماء. قال الشيخ وهذا الحديث مسنداً من هذا الطريق يضعفه أهل النقل في رجلين من رواته ورواه مالك مرسلا فدل أنه لا يثبت مسنداً ولو صح لكان

ومن باب من أحيا حسيرا

متأولاً على أن البائع مات موسراً بدليل الخبر المتقدم الذي رواه عمر بن خلدة وأما إذا كان قد اقتضى شيئاً من الثمن فان الشافعي لا يجعله في بقية الثمن أسوة الغرماء وذلك لأن هذا الخبر لما لم يصح عنده متصلا صار إلى القياس فجمع بين الأمرين ولم يفرق لأن الذي له الارتجاع في كل الشيء كان له ذلك في بعضه كالشفيع إذا كان له أن يأخذ الشقص كله كان له أن يأخذ البعض الباقي بعد تلف البعض. ومن باب من أحيا حسيراً قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل، قال: حَدَّثنا حماد قال وحدثنا موسى، قال: حَدَّثنا أبان عن عبيد الله بن حميد بن عبد الرحمن الحميري عن الشعبي قال عن أبان أن عامر الشعبي حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من وجد دابة قد عجز عنها أهلها أن يعلفوها فسيبوها فأخذها فأحياها فهي له قال في حديث أبان قال عبيد الله فقلت عمن قال عن غير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. قال الشيخ وهذا الحديث مرسل وذهب أكثر الفقهاء إلى أن ملكها لم يزل عن صاحبها بالعجز عنها وسبيله سبيل اللقطة فإذا جاء ربها وجب على واجدها رد ذلك عليه. وقال أحمد بن حنبل وإسحاق هي لمن أحياها إذا كان صاحبها تركها مهلكة واحتج إسحاق بحديث الشعبي هذا وقال عبيد الله بن الحسن قاضي البصرة فيها وفي النواة التي يلقيها من يأكل التمران قال صاحبها لم أبحها للناس فالقول قوله ويستحلف إن لم يكن أباحها للناس.

ومن باب الرهن

ومن باب الرهن قال أبو داود: حدثنا هناد عن ابن المبارك عن زكريا عن الشعبي، عَن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبن الدر يحلب بنفقته إذا كان مرهوناً وعلى الذي يركب ويحلب النفقة. قال الشيخ قوله وعلى الذي يحلب ويركب النفقة كلام مبهم ليس في نفس اللفظ منه بيان من يركب ويحلب من الراهن أو المرتهن أو العدل الموضوع على يده الرهن. وقد اختلف أهل العلم في تأويله فقال أحمد بن حنبل للمرتهن أن ينتفع من الرهن بالحلب والركوب بقدر النفقة، وكذلك قل له إسحاق بن راهويه. وقال أحمد بن حنبل ليس له أن ينتفع منه بشيء غيرهما. وقال أبو ثور إذا كان الراهن ينفق عليه لم ينتفع به المرتهن وإن كان الراهن لا ينفق عليه وتركه في يد المرتهن فأنفق عليه فله ركوبه واستخدام العبد، قال وذلك لقوله وعلى الذي يحلب ويركب النفقة. وقال الشافعي منفعة الرهن للراهن ونفقته عليه، والمرتهن لا ينتفع بشيء من الرهن خلا الاحتفاط به للوثيقة. وعلى هذا تأول قوله الرهن مركوب ومحلوب يرى أنه منصرف إلى الراهن الذي هو مالك الرقبة. وقد روى نحو من هذا عن الشعبي وابن سيرين. وفي قوله الرهن مركوب ومحلوب دليل على أنه من اعار الراهن أو أكراه

من صاحبه لم يفسخ الرهن. قال الشيخ رحمه الله وهذا أولى وأصح لأن الفروع تابعة لأصولها والأصل ملك الراهن، ألا ترى أنه لو رهنه وهو يسوى مائة، ثم زاد حتى صار يسوى مائتين ثم رجعت قيمته إلى عشرة إن ذلك كله في ملك الراهن. ولم يختلفوا أن للمرتهن مطالبة الراهن بحقه مع قيام الرهن في يده ولأنه لا يجوز للمرتهن أن يجحد المال في هذه الحال ولو كان الرهن عبداً فمات كان على الراهن كفنه، فدل ذلك على ثبوت ملكه عليه وإن كان ممنوعا من إتلافه لما يتعلق به من حق المرتهن ولو جاز للمرتهن أن يركب ويحلب بقدر النفقة لكان ذلك معاوضة مجهول بمجهول وذلك غير جائز فدل على صحة تأول من تأوله على الراهن. وقد روى الشافعي في هذا ما يؤكد قوله حديث الأصم. قال أخبرنا الربيع، قال: حَدَّثنا الشافعي، قال: حَدَّثنا محمد بن إسماعيل بن أبى فديك عن ابن أبي ذئب عن الزهري عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه له غنمه وعليه غرمه، قال ووصله ابن المسيب، عَن أبي هريرة من حديث ابن أبي أنيسة. ففي هذا ما دل على صحة قول من ذهب إلى أن دره وركوبه للراهن دون المرتهن، فأما قوله لا يغلق الرهن معناه أنه لا يستغلق ولا ينعقد حتى لا يفك والغَلق الفكاك، وحقيقته أن الرهن وثيقة في يد المرتهن يترك في يده إلى غاية

يكون مرجعها إلى الراهن وليس كالبيع يستغلق فيملك حتى لا يفك. وقوله الرهن من صاحبه، معناه الرهن لصاحبه، والعرب تضع من موضع اللام قال الشاعر: أمن آل ليلى عرفت الديارا ... أبجنب الشقيق خلا قفارا وكقول زهير: * أمن أم أوفى دِمنَة لم تكلم * وإذا كان الرهن من ملك صاحبه كان تلفه من ملكه دون ملك المرتهن. وفي قوله له غنمه دليل على أنه يملك من غنمه وهو دره وولده وسائرمنافعه ما لا يملك من الأصل في الحال، ولولا ذلك لم يكن لهذا التفصيل معنى ولا كان فيه فائدة إذ كان معلوماً أن الفروع تابعة في الملك لأصولها ولاحقة في الحكم بها. وفيه دليل على أن المنافع غير داخلة في الرهن. وفيه دليل أن استدامة القبض ليس بشرط في الرهن، وذلك أن الراهن لا يركبها إلاّ وهي خارجة من قبض المرتهن غير أنه لا يركبها إلاّ نهاراً ويردها بالليل إلى المرتهن ولا يسافر بها. وقد اختلف الفقهاء فيما يحدث للرهن من نماء أو نتاج وثمرة هل يدخل في الرهن أم لا. فقال أصحاب الرأي الولد والنتاج والثمرة رهن مع الأصل، إلاّ أنهم فرقوا بين الرهن والولد في الضمان فقالوا الرهن مضمون والولد الحادث بعد الرهن غير مضمون. وقال الشافعي النماء المتميز من الرهن لا يدخل في الرهن. وفي قوله وعليه غرمه دليل على أن الرهن غير مضمون، وفيه دليل على أن

مؤنته على الراهن، ومعنى الغرم النقص ههنا. وقد اختلف الناس في هذا فقال الشافعي وأحمد بن حنبل هو غير مضمون وقال مالك هو غير مضمون فيما يظهر هلاكه من عقار وحيوان ونحوهما، وما كان مما لا يظهر فهو مضمون. وقال أصحاب الرأي إن كان الرهن أكثر مما رهن به فهلك بما فيه والمرتهن أمين في الفضل، وإن كان أقل رد عليه النقصان وكذلك قال سفيان الثوري وهو قول النخعي، واحتجوا بما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال في الرهن يترادان الفضل فإن أصابته جائحة برئ. وليس يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في ضمان الرهن حديث، وقد روى شريح والحسن والشعبي ذهبت الرهان بما فيها. قال الشيخ ذكر أبو داود في هذا الباب حديثا لا يدخل في أبواب الرهن. ، قال: حَدَّثنا زهير بن حرب وعثمان بن أبي شيبة قالا: حَدَّثنا جرير عن عمارة بن القعقاع، عَن أبي زرعة بن عمرو بن جرير أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن من عباد الله لأناساً ما هم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة مكانهم من الله، قالوا يا رسول الله صلى الله عليه وسلم فخبرنا من هم، قال هم قوم تحابوا بروح الله على غير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطونها وذكر الحديث.

ومن باب الرجل يأكل من مال ولده

قال الشيخ قوله تحابوا بروح الله فسروه القرآن، وعلى هذا يتأول قوله: {وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا} [الشورى: 52] وسماه روحاً والله أعلم لأن القلوب تحيى به كما تكون حياة النفوس والأبدان بالأرواح. ومن باب الرجل يأكل من مال ولده قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير قال أخبرنا سفيان عن منصور عن إبراهيم عن عمارة بن عمير عن عمته عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن من أطيب ما أكل الرجل من كسبه وولده من كسبه. قال الشيخ فيه من الفقه أن نفقة الوالدين واجبة على الولد إذا كان واجداً لها، واختلفوا في صفة من تجب لهم النفقة من الآباء والأمهات، فقال الشافعي إنما يجب ذلك للأب الفقير الزمن فإن كان له مال أو كان صحيح البدن غير زمن فلا نفقة له عليه. وقال سائر الفقهاء نفقة الوالدين واجبة على الولد ولا أعلم أحدا منهم اشترط فيها الزمانة كما اشترطها الشافعي. قال أبو داود: حدثنا محمد بن المنهال حدثنا يزيد بن زريع، قال: حَدَّثنا حبيب المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لي مالاً وولداً وإن والدي يجتاح مالي، قال أنت ومالك لوالدك إن أولادكم من أطيب كسبكم فكلوا من كسب أولادكم. قال الشيخ قوله يجتاح مالي، معناه يستأصله ويأتي عليه، والعرب تقول جاحهم الزمان، واجتاحهم إذا أتى على أموالهم، ومنه الجائحة وهي الآفة التي تصيب المال فتهلكه.

ومن باب الرجل يجد عين ماله عند رجل

ويشبه أن يكون ما ذكره السائل من اجتياح والده مآله إنما هو سبب النفقة عليه، وإن مقدارما يحتاج إليه للنفقة عليه شيء كثير لا يسعه عفو ماله والفضل منه إلاّ بأن يجتاح أصله ويأتي عليه فلم يعذره النبي صلى الله عليه وسلم ولم يرخص له في ترك النفقة عليه، وقال له أنت ومالك لوالدك، على معنى أنه إذا احتاج إلى مالك أخذ منك قدر الحاجة كما يأخذ من ماله نفسه وإذا لم يكن لك مال وكان لك كسب لزمك أن تكتسب وتنفق عليه، فإما أن يكون أراد به إباحة ماله وخلاه واعتراضه حتى يجتاحه ويأتي عليه لا على هذا الوجه فلا أعلم أحداً ذهب إليه من الفقهاء والله أعلم. ومن باب الرجل يجد عين ماله عند رجل قال أبو داود: حدثنا عمرو بن عوف،، قال: حَدَّثنا هشيم عن موسى بن السائب عن قتادة عن الحسن عن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجد عين ماله عند رجل فهو أحق به ويتبع البيع من باعه. قال الشيخ هذا في الغصوب ونحوها إذا وجد ماله المغصوب والمسروق عند رجل كان له أن يخاصمه فيه ويأخذ عين ماله منه ويرجع المأخوذ منه على من باعه إياه. ومن باب الرجل يأخذ حقه من تحت يده قال أبو داود: حدثنا أحمد بن يونس،، قال: حَدَّثنا زهير،، قال: حَدَّثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أن هنداً أم معاوية جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت إن أبا سفيان رجل شحيح وأنه لا يعطيني ما يكفيني وبني فهل علي من جناح أن آخذ من ماله شيئا قال خذي

ما يكفيك وبنيك بالمعروف. قال الشيخ فيه من الفقه وجوب نفقة النساء على أزواجهن ووجوب نفقة الأولاد على الآباء، وفيه أن النفقة إنما هي على قدر الكفاية، وفيه جواز أن يحكم الحاكم بعلمه وذلك أنه لم يكلفها البينة فيما أدعته من ذلك إذ كان قد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بينهما من الزوجية وأنه كان كالمستفيض عندهم بخل أبي سفيان وما كان نسب إليه من الشح. وفيه جواز الحكم على الغائب، وفيه جواز ذكر الرجل ببعض ما فيه من العيوب إذا دعت الحاجة إليه. وفيه جواز أن يقضي الرجل حقه من مال عنده لرجل له عليه حق يمنعه منه وسواء كان ذلك من جنس حقه أو من غير جنس حقه وذلك لأن معلوماً أن منزل الرجل الشحيح لا يجمع كل ما يحتاج إليه من النفقة والكسوة وسائر المرافق التي تلزمه لهم ثم أطلق أذنها في أخذ كفايتها وكفاية أولادها من ماله ويدل على صحة ذلك قولها في غير هذه الرواية أن أبا سفيان رجل شحيح وأنه لا يدخل على بيتي ما يكفيني وولدي. قال الشيخ وقد استدل بعضهم من معنى هذا الحديث على وجوب نفقة خادم المرأة على الزوج قال وذلك أن أبا سفيان رجل رئيس في قومه ويبعد أن يتوهم عليه أن يمنع زوجته نفقتها ويشبه أن يكون ذلك منه في نفقة خادمها فوقعت الإضافة في ذلك إليها إذ كانت الخادم داخلة في ضمنها ومعدودة في جملتها والله أعلم. قال أبو داود: حدثنا محمد بن العلاء وأحمد بن إبراهيم قالا: حَدَّثنا طلق بن غنام عن شريك قال ابن العلاء وقيس، عَن أبي حصين، عَن أبي صالح، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ادِّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا

ومن باب قبول الهدايا

تخن من خانك. قال الشيخ وهذا الحديث يعد في الظاهر مخالفاً لحديث هند وليس بينهما في الحقيقة خلاف وذلك لأن الخائن هو الذي يأخذ ما ليس له أخذه ظلماً وعدواناً فأما من كان مأذوناً له في أخذ حقه من مال خصمه واستدراك ظلامته منه فليس بخائن وإنما معناه لا تخن من خانك بأن تقابله بخيانة مثل خيانته وهذا لم يخنه لأنه يقبض حقاً لنفسه والأول يغتصب حقاً لغيره. وكان مالك بن أنس يقول إذا أودع رجل رجلاً ألف درهم فجحدها المودع ثم أودعه الجاحد ألفاً لم يجز له أن يجحده. قال ابن القاسم صاحبه أظنه ذهب إلى هذا الحديث. وقال أصحاب الرأي يسعه أن يأخذ الألف قصاصاً عن حقه لو كان بدله حنطة أو شعيراً لم يسعه ذلك لأن هذا بيع وأن إذا كان مثله فهو قصاص. وقال الشافعي يسعه أن يأخذه عن حقه في الوجهين جميعاً واحتج بخبر هند. ومن باب قبول الهدايا قال أبو داود: حدثنا علي بن بحر، قال: حَدَّثنا عيسى بن يونس عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل الهدية ويثيب عليها. قال الشيخ قبول النبي صلى الله عليه وسلم الهدية نوع من الكرم وباب من حسن الخلق يتألف به القلوب، وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال تهادوا تحابوا، وكان أكل الهدية شعاراً له وأمارة من أماراته ووصف في الكتب المتقدمة بأنه قبل الهدية ولا يأكل الصدقة، وإنما صانه الله سبحانه عن الصدقة وحرمها عليه لأنهأ أوساخ الناس وكان صلى الله عليه وسلم إذا قبل الهدية أثاب عليها لئلا يكون لأحد عليه يد

ولا يلزمه له منة، وقد قال الله عز وجل {لا أسألكم عليه أجراً} [الشورى: 23] فلو كان يقبلها ولا يثيب عليها لكانت في معنى الأجر، وهدية الولاة والحكام رشوة وهو صلى الله عليه وسلم رئيسهم وسيدهم فلم يجز له أن يأخذ ولا يعطي وأن يقبل ولا يثيب. وقال بعض العلماء في قول الله تعالى {فلا تمنن تستكثر} [المدثر: 6] هذا خاص للنبي صلى الله عليه وسلم، قال ومعناه أن يهدي الشيء ليعتاض أكثر منه، قال وهذا لا يحرم على غيره كما يحرم عليه صلى الله عليه وسلم. وقد ذهب غير واحد من الفقهاء إلى أن الهدية تقتضي الثواب وإن لم يشترط واستدل في ذلك بالحديث الذي يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أهدى له أعرابي فأثابه فلم يرض، فقال صلى الله عليه وسلم لقد هممت أن لا اتهب إلاّ من قرشي أو أنصاري أو دوسي، وقد ذكره أبو داود بمعناه في هذا الباب. ومنهم من حمل أمر الناس في الهدية على وجوه وجعلهم في ذلك على ثلاث طبقات، فقال هبة الرجل ممن هو دونه كالخادم ونحوه إكرام له والطاف، وذلك غير مقتض ثواباً، وهبة الصغير لكبير طلب رفد ومنفعة والثواب فيها واجب، وهبة النظير لنظيره والغالب فيها معنى التودد والتقرب، وقد قيل إن فيها ثواباً فأما إذا وهب هبة واشترط فيها الثواب فهو لازم. وقد ذهب بعض العلماء في ذلك إلى أنها عقد من عقود المعاوضات، وقال يجب أن يكون العوض معلوماً وأثبت فيها شرائط المبايعات من خيار الثلاث والرد بالعيب ونحوه.

ومن باب الرجوع في الهدية

ومن باب الرجوع في الهدية قال أبو داود: حدثنا مسلم بن إبراهيم، قال: حَدَّثنا أبان وهمام وشعبة قالوا حدثنا قتادة عن سعيد بن المسيب عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال العائد في هبته كالعائد في قيئه. قال همام قال قتادة ولا نعلم القيء إلاّ حراماً. قال الشيخ هذا الحديث لفظه في التحريم عام ومعناه خاص وتفسيره في حديث ابن عمر الذي عقبه أبو داود بذكره. ، قال: حَدَّثنا مسدد قال، حَدَّثنا حسين المعلم، قال: حَدَّثنا عمرو بن شعيب عن طاوس عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يحل لرجل أن يعطي عطية أو يهب هبة فيرجع فيها إلاّ الوالد فيما يعطي ولده. قال الشيخ وإنما استثنى الوالد لأنه ليس كغيره من الأجانب والأباعد، وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم للأب حقا في مال ولده قال أنت ومالك لأبيك وهو إذا سرق ماله مع الغنى عنه لم يقطع ولو وطىء جاريته لم يحد وجعلت يده في ولايه مال الولد كيده، ألا ترى أنه يلي عليه البيع والشراء ويقبض له وإذا كان كذلك صار في الهبة منه والاسترجاع عنه في معنى من وهب ولم يقبض إذا كانت يده كيده وهو مأمون عليه غير متهم فيما يسترده منه فأمره محمول في ذلك على أنه نوع من السياسة وباب من الاستصلاح، وليس كذلك الأجنبي ومن ليس بأب من ذوي الأرحام وقد يظن به التهمة والعداوة وأن يكون إنما دعا إلى ارتجاعها عبث أو موجدةٌ في نحوها من الأمور. وقد اختلف الناس في هذا فقال الشافعي بظاهر هذا الحديث وجعل للأب

ومن باب الرجل يفضل بعض ولده على بعض في النحل

الرجوع فيما وهب لابنه ولم يجعل له الرجوع فيما وهب للأجنبي. وقال مالك له الرجوع فيما وهب له إلاّ أن يكون الشيء قد تغير في حاله فإن تغير لم يكن له أن يرتجعه. وقال أبو حنيفة ليس للأب الرجوع فيما وهب لولده ولكل ذي رحم من ذوي أرحامه وله الرجوع فيما وهب للأجانب وتأولوا خبر ابن عمر على أن له الرجوع عند الحاجة إليه والمعنى في ذلك عند الشافعي أنه جعل ذلك بحق الأبوة والشركة التي له في ماله. ومن باب الرجل يفضل بعض ولده على بعض في النحل قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل، قال: حَدَّثنا هشيم قال أخبرنا يسار قال وأخبرنا مغيرة قال وأخبرنا داود عن الشعبي ومجالد وإسماعيل بن سالم عن الشعبي عن النعمان بن بشير قال نحلني أبي نحلاً. قال إسماعيل نحله غلاماً له قال فقالت له أمي عمرة بنت رواحة ايت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشهده فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك لم، فقال إني نحلت ابني النعمان نحلاً وأن عمرة سألتني أن أشهدك على ذلك، فقال ألك ولد سواه، قال قلت نعم قال فكلهم أعطيته مثل ما أعطيت النعمان، قال قلت لا قال فقال بعض هؤلاء المحدثين هذا جور وقال بعضهم هذا تلجئة فأشهد على هذا غيري. قال الشيخ واختلف أهل العلم في جواز تفضيل بعض الأبناء على بعض في النحل والبر، فقال مالك والشافعي التفضيل مكروه فإن فعل ذلك نفذ، وكذلك قال أصحاب الرأي. وعن طاوس أنه قال إن فعل ذلك لم ينفذ وكذلك قال إسحاق بن راهويه

وهو قول داود. وقال أحمد بن حنبل لا يجوز التفضيل، ويحكى ذلك أيضاً عن سفيان الثوري واستدل بعض من منع ذلك بقوله هذا جور، وبقوله هذا تلجئة والجور مردود والتلجئة غير جائز ويدل على ذلك حديثه الآخر. حدثنا عثمان بن أبي شيبة، قال: حَدَّثنا جرير عن هشام بن عروة عن أبيه قال حدثني النعمان بن بشير قال أعطاه أبوه غلاماً فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هذا الغلام، قال غلام أعطانيه أبي، قال فكل إخوتك أعطى كما أعطاك، قال لا قال فاردده. واستدل من أجازه من رواية مالك عن الزهري عن ابن النعمان أن أباه بشير أتى به النبي صلى الله عليه وسلم فقال إني نحلت ابني هذا غلاماً؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم أكل ولدك نحلت مثله، قال لا، قال فارجعه. حدثناه الأصم حدثنا الربيع، قال أخبرنا الشافعي عن مالك. قالوا فقوله ارجعه يدل بظاهره على أنه قد رده بعد خروجه عن ملكه وأن للأب أن يرجع فيما وهبه لابنه بعد القبض. ويدل على ذلك أيضاً قوله أيسرك أن يكونوا في البر سواء فدل أن ذلك من قبيل البر واللطف لا من قبيل الوجوب واللزوم. قالوا ويدل على ذلك أيضاً قوله أشهد على هذا غيري ولو لم يكن جائزاً لكانت الشهادة عليها باطلة من الناس كلهم. وفي الخبر دليل على ثبوت ولاية الأب على ابنه الصغير وعلى جواز بيعه وشرائه وقبضه له وجواز بيع ماله من نفسه.

ومن باب عطية المرأة بغير إذن زوجها

وفيه دليل على جواز دخول الحاكم في الشهادات لأنهم إنما جاؤوا النبي صلى الله عليه وسلم ليشهدوه على ذلك. وفيه دليل على جواز حكمه بعلمه لأن ذلك هو فائدة إشهاده، فأما قوله هذا جور فمعناه هذا ميل عن بعضهم إلى بعض وعدول عن الفعل الذي هو أفضل وأحسن، ولا خلاف أنه لو آثر بجميع ماله أجنبيا وحرمه أولاده أن فعله ماض فكيف يرد فعله في إيثار بعض أولاده على بعض. وقد فضل أبو بكر عائشة عنهما بجداد عشرين وسقاً ونحلها إياها دون أولاده وهم عدد فدل ذلك على جوازه وصحة وقوعه. وقد قال بعض أهل العلم إنما كره ذلك لأنه يقع في نفس المفضول بالبر شيء فيمنعه ذلك من حسن الطاعه والبر، وربما كان سببا لعقوق الولد وقطيعة الرحم بينه وبين اخوته. وذهب قوم إلى أنه لا يجوز أن يسوي بين أولاده الذكران والإناث في البر والصلة أيام حياته ولكن يفضل ويقسم على سهام الميراث وروي ذلك عن شريح. وإليه ذهب أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه واحتج من رأى التسوية بين الذكر والانثى بقوله أليس يسرك أن يكونوا في البر واللطف سواء قال نعم أي فسو كذلك في العطية بينهم وقالوا ولم يستثن ذكراً من أنثى. قال الشيخ ونقل محمد بن إسحاق في سيره أن بشيراً لم يكن له ابنة يومئذ وفعل أبي بكر في تقديم عائشة وتفضيلها بعشرين وسقا يؤيد المذهب الأول. ومن باب عطية المرأة بغير إذن زوجها قال أبو داود: حدثنا أبو كامل، قال: حَدَّثنا

ومن باب العمرى والرقبى

خالد بن الحارث، قال: حَدَّثنا حسين عن عمرو بن شعيب أن أباه أخبره عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يجوز لامرأة عطية إلاّ بإذن زوجها. قال الشيخ هذا عند أكثر العلماء على معنى حسن العشرة واستطابة نفس الزوج بذلك إلاّ أن مالك بن أنس قال ترد ما فعلت من ذلك حتى يأذن الزوج. قال الشيخ ومحتمل أن يكون ذلك في غير الرشيد وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال للنساء تصدقن فجعلت المرأة تلقي القرط والخاتم وبلال يتلقاها بكسائه وهذه عطية بغير إذن أزواجهن. ومن باب العمرى والرقبى قال أبو داود: حدثنا مؤمل بن الفضل الحراني قال، حَدَّثنا محمد بن شعيب قال أخبرني الأوزاعي عن الزهري عن عروة عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من أعمر عمرى فهي له ولعقبه يرثها من يرثه من عقبه. قال الشيخ العمرى أن يقول الرجل لصاحبه أعمرتك هذه الدار ومعناه جعلتها لك مدة عمرك فهذا إذا اتصل به القبض كان تمليكاً لرقبة الدار وإذا ملكها في حياته وجاز له التصرف فيها ملكها بعده وارثه الذي يرث سائر أملاكه وهذا قول الشافعي وقول أصحاب الرأي. ويحكى عن مالك أنه قال العمرى تمليك المنفعة دون الرقبة فإن جعلها عمرى له فهي له مدة عمره لا تورث فان جعلها له ولعقبه بعده كانت منفعته ميراثا لأهله. قال الشيخ وفي قوله صلى الله عليه وسلم فهي له ولعقبه بيان وقوع الملك في الرقبة والمنفعة معاً ويؤكد ذلك حديث الآخر من طريق مالك نفسه وقد رواه أبو داود في هذا الباب.

ومن باب تضمين العارية

، قال: حَدَّثنا محمد بن يحيى ومحمد بن المثنى قالا: حَدَّثنا بشر بن عمر، قال: حَدَّثنا مالك عن ابن شهاب، عَن أبي سلمة عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أيما رجل أعمر عمرى له ولعقبه فإنها للذي يعطاها لا ترجع إلى الذي أعطاها لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث. قال الشيخ لا عذر لمالك بعد هذا والله أعلم. قال أبو داود: حدثنا إسحاق بن إسماعيل، قال: حَدَّثنا سفيان عن ابن جريج عن عطاء عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا ترقبوا ولا تعمروا فمن ارقب شيئاً أو اعمره فهو لورثته. قال الشيخ والرقبى أن يرقب كل واحد منهما موت صاحبه فيكون الدار التي جعلها رقبي لآخر من بقي منهما. وقال أبو حنيفة العمرى موروثة والرقبى عارية وعند الشافعي الرقبى موروثة كالعمرى وهو حكم ظاهر الحديث. ومن باب تضمين العارية قال أبو داود: حدثنا مسدد، قال: حَدَّثنا يحيى عن ابن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال على اليد ما أخذت حتى تؤدي ثم إن الحسن نسي قال هو أمينك لا ضمان عليه. قال الشيخ في هذا الحديث دليل على أن العارية مضمونة وذلك أن على كلمة الزام وإذا حصلت اليد أخذه صار الأداء لازماً لها والأداء قد يتضمن العين إذا كادت موجودة والقيمة إذا صارت مستهلكة ولعله أملك بالقيمة منه بالعين. قال أبو داود: حدثنا الحسن بن محمد وسلمة بن شبيب قالا: حَدَّثنا يزيد بن

هارون قال أخبرنا شريك عن عبد العزيز بن رفيع عن أمية بن صفوان بن أمية عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعار منه ادراعاً يوم حنين فقال اغصباً يا محمد قال لا بل عارية مضمونة. قال الشيخ وهذا يؤكد ضمان العارية وفي قوله عارية مضمونة بيان ضمان قيمتها إذا تلفت لأن الأعيان لا تضمن ومن تأوله على أنها تؤدي ما دامت باقية فقد ذهب عن فائدة الحديث. وقال قوم إذا اشترط ضمانها صارت مضمونة فان لم يشترط لم يضمن وهذا القول غير مطابق لمذاهب الأصول والشيء إذا كان حكمه في الأصل على الأمانة فإن الشرط لا يغيره عن حكم أصله ألا ترى أن الوديعة لما كانت أمانة كان شرط الضمان فيها غير مخرج لها عن حكم أصلها وإنما كان ذكر الضمان في حديث صفوان لأنه كان حديث العهد بالإسلام جاهلاً بأحكام الدين فأعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن من حكم الإسلام أن العواري مضمونة ليقع له الوثيقة بأنها مردودة عليه غير ممنوعة منه في حال. قال أبو داود: حدثنا عبد الوهاب بن نجدة الحوطي، قال: حَدَّثنا ابن عياش عن شرحبيل بن مسلم قال سمعت أبا أمامة يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول العارية مؤداة والمنحة مردودة والدين مقضي والزعيم غارم. قال الشيخ قوله مؤداة قضية الزام في أدائها عيناً حال القيام وقيمة عند التلف وقوله المنحة مردودة فإن المنحة هي ما يمنحه الرجل صاحبه من أرض يزرعها مدة ثم يردها أو شاة يشرب درها ثم يردها على صاحبها أو شجرة يأكل ثمرتها وجملتها أنها تمليك المنفعة دون الرقبة وهي من معنى العواري وحكمها الضمان كالعارية.

ومن باب من أفسد شيئا يضمن مثله

وفيه دليل على أن المنحة إذا كانت مما ينقل ويلزم في نقلها مؤنة من كراء أو أجرة فإن جميع ذلك على الممنوح له لأنه قد إشترط عليه ردها وهي لا تكون مردودة حتى تصل إلى صاحبها. والزعيم الكفيل والزعامة الكفالة ومنه قيل لرئيس القوم الزعيم لأنه هو المتكفل بأمورهم. وقد اختلف الناس في تضمين العارية فروي عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما سقوط الضمان فيها وقال شريح والحسن وإبراهيم لا ضمان فيها وإليه ذهب سفيان الثوري وأصحاب الرأي واسحاق بن راهويه. وروي عن ابن عباس وأبي هريرة أنهما قالا هي مضمونة وبه قال عطاء والشافعي وأحمد بن حنبل. وقال مالك بن أنس ما ظهر هلاكه كالحيوان ونحوه غير مضمون وما خفي هلاكه من ثوب ونحوه فهو مضمون. ومن باب من أفسد شيئاً يضمن مثله قال أبو داود: حدثنا مسدد، قال: حَدَّثنا يحيى عن سفيان قال حدثني فليت العامري عن جسرة بنت دجاجة قالت: قالت عائشة رضي الله عنها ما رأيت صانعاً طعاماً مثل صفية صنعت طعاماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم فبعثت به فأخذني أفْكَل فكسرت الإناء فقلت يا رسول الله ما كفارة ما صنعت قال إناء مثل إناء وطعام مثل طعام. قال الشيخ يشبه أن يكون هذا من باب المعونة والاصلاح دون بت الحكم بوجوب المثل فإن القصعة والطعام المصنوع ليس لهما مثل معلوم. ثم ان هذا طعام وإناء حملا من بيت صفية وما كان في بيوت أزواجه من طعام ونحوه فإن

ومن باب المواشي تفسد زرع قوم

الظاهر منه والغالب عليه أنه ملك رسول الله صلى الله عليه وسلم وللمرء أن يحكم في ملكه وفيما تحت يده مما يجري مجرى الأملاك فيما يراه أرفق إلى الصلاح وأقرب وليس ذلك من باب ما يحمل عليه الناس من حكم الحكام في أبواب الحقوق والأموال، وفي إسناد الحديث مقال ولا أعلم أحداً من الفقهاء ذهب إلى أنه يجب في غير المكيل والموزون مثل إلاّ أن داود يحكى عنه أنه أوجب في الحيوان المثل وأوجب في العبد العبد، وفي العصفور العصفور وشبهه بحمار الصيد. قال الشيخ والذي ذهب إليه في ذلك خلاف مذاهب عامة العلماء والحكم في جزاء الصيد حكم خاص في التقييد وحقوق الله تعالى تجري فيها المساهلة ولا تحمل على الاستقصاء وكمال الاستيفاء كحقوق الآدميين، وقد أوجب النبي صلى الله عليه وسلم في المعتق شركاً له في عبد القيمة لا المثل فدل هذا على فساد ما ذهب إليه والأفْكَل الرِعدة. ومن باب المواشي تفسد زرع قوم قال أبو داود: حدثنا أحمد بن محمد بن ثابت المروزي،، قال: حَدَّثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن حرام بن محيصة عن أبيه أن ناقة للبراء بن عازب دخلت حائط رجل فأفسدت فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل الأموال حفظها بالنهار وعلى أهل المواشي حفظها بالليل. قال الشيخ وهذه سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة في هذا الباب، ويشبه أن يكون إنما فرق بين الليل والنهار في هذا لأن في العرف أن أصحاب الحوائط والبساتين يحفظونها بالنهار ويوكلون بها الحفاظ والنواطير. ومن عادة أصحاب المواشي أن يسرحوها بالنهار ويردونها مع الليل إلى المراح فمن خالف هذه العادة

كتاب النكاح

كان به خارجاً عن رسوم الحفظ إلى حدود التقصير والتضييع فكان كمن ألقى متاعه في طريق شارع أو تركه في غير موضع حرز فلا يكون على آخذه قطع. وبالتفريق بين حكم الليل والنهار قال الشافعي. وقال أصحاب الرأي لا فرق بين الأمرين ولم يجعلوا على أصحاب المواشي غرماً، واحتجوا بقول العجماء جبار. قال الشيخ وحديث العجماء جبار عام وهذا حكم خاص والعام ينبئ على الخاص. ويرد إليه فالمصير في هذا إلى حديث البراء والله أعلم. كتاب النكاح ومن باب التحريض على النكاح قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، قال: حَدَّثنا جرير عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة قال إني لأمشي مع عبد الله بن مسعود بمنى إذ لقيه عثمان فاستحلاه فلما رأى عبد الله أن ليست له حاجة قال لي تعال يا علقمة فجئت فقال له عثمان ألا نزوجك يا أبا عبد الرحمن بجارية بكراً لعله يرجع إليك عن نفسك ما كنت تعهد، فقال عبد الله لئن قلت ذلك لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من استطاع منكم الباءة فليزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع منكم فعليه بالصوم فإنه له وجاء. قال الشيخ الباءة كناية عن النكاح، وأصل الباءة الموضع الذي يأوي إليه الإنسان، ومنه اشتق مباءة الغنم وهو المراح الذي تأوي إليه عند الليل، والوجاء رض الأنثيين والخصا نزعهما.

ومن باب ما يؤمر من ترويج ذات الدين

وفيه من الفقه استحباب النكاح لمن تاقت إليه نفسه، وفيه دليل على أن النكاح غير واجب، ويحكى عن بعض أهل الظاهر أنه كان يراه على الوجوب وفيه دليل على جواز التعالج لقطع الباءة بالأدوية ونحوها. وفيه دليل على أن المقصود في النكاح الوطء وأن الخيار في العُنَّة واجب. ومن باب ما يؤمر من ترويج ذات الدين قال أبو داود: حدثنا مسدد، قال: حَدَّثنا يحيى بن سعيد قال حدثني عبيد الله قال حدثني سعيد بن أبي سعيد عن أبيه، عَن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال تنكح النساء لأربع لمالها ولحسبها ولدينها ولجمالها فاظفر بذات الدين تربت يداك. قال الشيخ فيه من الفقه مراعاة الكفاءة في المناكح وأن الدين أولى ما اعتبر فيها. وقوله تربت يداك كلمة معناها الحث والتحريض وأصل ذلك في الدعاء على الإنسان، يقال ترب الرجل إذا افتقر وأترب إذا أثرى وأيسر، والعرب تطلق ذلك في كلامها ولا يقصد بها وقوع الأمر. وزعم بعض أهل العلم إن القصد به في هذا الحديث وقوع الأمر وتحقيق الدعاء. وأخبرني بعض أصحابنا عن ابن الأنباري أحسبه رواه عن الزهري أنه قال إنما قال النبي صلى الله عليه وسلم له ذلك لأنه رأى أن الفقر خير من الغنى. واختلف العلماء في تحديد الكفاءة فقال مالك بن أنس الكفاءة في الدين وأهل الإسلام كلهم بعضهم لبعض أكفاء وهو غالب مذهب الشافعي، وقد اعتبر فيها أيضاً الحرية وربما اعتبر غير ذلك أيضاً. وقد روي معنى قول مالك عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود وعبيد بن عمير وعمر بن عبد العزيز وابن سيرين وابن عون وحماد بن أبي سليمان.

ومن باب تزويج الابكار

وقال سفيان الثوري الكفاءة الدين والحسب، وكان يرى التفريق إذا نكح المولى عربية، وكذلك قال أحمد بن حنبل. وقال أصحاب الرأي قريش بعضهم لبعض أكفاء وكل من كان من الموالي له أبوان أو ثلاثة في الإسلام فبعضهم لبعض أكفاء، وإذا أعتق عبد أو أسلم ذمي فإنه ليس بكفؤ لامرأة لها أبوان أو ثلاثة في الإسلام من الموالي. وإذا تزوجت المرأة غير كفؤ فسلم أحد من الأولياء فليس لمن بقي من الأولياء أن يفرقوا بينهما. وروي عن ابن عباس أنه لم ير المولى كفؤاً للعربية، وروي مثل ذلك عن سلمان الفارسي. ومن باب تزويج الابكار قال أبو داود: كتب إلي حسين بن حريث المروزي حدثنا الفضل بن موسى عن الحسين بن واقد عن عمارة بن أبي حفصة عن عكرمة عن ابن عباس قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن امرأتي لا تمنع يد لامس، قال غربها قال أخاف أن تتبعها نفسي، قال فاستمتع منها. قال الشيخ قوله لا تمنع يد لامس، معناه الريبة وأنها مطاوعة لمن أرادها لا ترد يده وقوله غربها معناه أبعدها يريد الطلاق وأصل الغرب البعد. وفيه دليل على جواز نكاح الفاجرة وإن كان الاختيار غير ذلك. وأما قوله {والزانية لا ينكحنها إلاّ زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين} [النور: 3] فإنما نزلت في امرأة من الكفار خاصة وهي بغي بمكة يقال لها عناق، فأما الزانية المسلمة فإن العقد عليها لا يفسخ. ومعنى قوله فاستمتع منها أي لا تسمها إلاّ بقدر ما تقضي متعة النفس منها

ومن باب الرجل يعتق أمته ثم يتزوجها

ومن وطئها والاستمتاع من الشيء الانتفاع به إلى مدة، ومن هذا نكاح المتعة الذي حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنه قوله تعالى {إنما هذه الحياة الدنيا متاع} [غافر: 39] أي متعة إلى حين ثم تنقطع. ومن باب الرجل يعتق أمته ثم يتزوجها قال أبو داود: حدثنا عمر بن عون، قال: حَدَّثنا أبو عَوانة عن قتادة وعبد العزيز بن صهيب عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم أعتق صفية وجعل عتقها صداقها. قال الشيخ قد ذهب غير واحد من العلماء إلى ظاهر هذا الحديث ورأوا أن من أعتق أمة كان له أن يتزوجها بأن يجعل عتقها عوضاً عن بعضها، وممن قال ذلك سعيد بن المسيب والحسن البصري وإبراهيم النخعي والزهري وهو قول أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه ويحكى ذلك أيضاً عن الأوزاعي. وكره ذلك مالك بن أنس وقال هذا لا يصلح، وكذلك قال أصحاب الرأي. وقال الشافعي إذا قالت الأمة أعتقني على أن أنكحك وصداقي عتقي فأعتقها على ذلك فلها الخيار في أن تنكح أو تدع ويرجع عليها بقيمتها فإن نكحته ورضيت بالقيمة التي عليها فلا بأس. وتأول هذا الحديث من لم يجز النكاح على أنه خاص للنبي صلى الله عليه وسلم إذ كانت له خصائص في النكاح ليست لغيره وقال بعضهم معناه أنه لم يجعل لها صداقا؛ وإنما كانت في معنى الموهونه التي كان النبي صلى الله عليه وسلم مخصوصا بها، إلاّ أنها لما استبيح نكاحها بالعتق صار العتق كالصداق لها وهذا كقول الشاعر: * وأُمهرن أرماحاً من الحظ ذبلاُ * أي استبحن بالرماح فصرن كالمهيرات، وكقول الفرزدق.

ومن باب من قال يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب

وذات حليل أنكحتنا رماحنا ... حلالاً لمن يَبني بها لم تطلق واحتج أهل المقالة الأولى بأنها لو قالت طلقني على أني أخيط لك ثوباً لزمها ذلك إذا طلقها: فكذلك إذا قالت أعتقني على أن أنكحك. وحكوا عن أحمد بن حنبل أنه قال لا خلاف أن صفية كانت زوجة النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينقل من نكاحها غير هذه اللفظة فدل أنها سبب النكاح. قال الشيخ وأجاب عن الفصل الأول بعض من خالفهم فقال إنما صح هذا في الثوب لأنه فعل والفعل يثبت في الذمة كالعين والنكاح عقد والعقد لا يثبت في الذمة والعتق على النكاح كالسلم فيه ولو أسلم رجل امرأة عشرة دراهم على أن يتزوج بها لم يصح كذلك هذا. فأما الفصل الاخر وهو ما حكي عن أحمد فقد يحتمل أن يكون ذلك خصوصاً للنبي صلى الله عليه وسلم ويحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم قد استأنف عقد النكاح عليها ولم ينقل ذلك مقروناً بالحديث لأن من سنته صلى الله عليه وسلم أن النكاح لا ينعقد إلاّ بالكلام أو بما يقوم مقامه من الإيماء في الأخرس ونحوه، ويحمل ما خفي من ذلك على حكم ما ظهر، وروي أنه نكحها وجعل عتقها صداقها فإن ثبت ذلك فلا حاجة بنا معه إلى التأويل والله أعلم. ومن باب من قال يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن عبد الله بن دينار عن سليمان بن يسار عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يحرم من الرضاع ما يحرم من الولادة. وفي هذا الحديث بيان أن حرمة الرضاع في المناكح كحرمة الأنساب وأن

ومن باب لبن الفحل

المرتضعين من الرجال والنساء باللبن الواحد كالمنتسبين منهم إلى النسب الواحد وهذا قد يجري على عمومه في تحريم المرضعة وذوي أرحامها على المرضع مجرى النسب، وذلك أنه إذا أرضعته صارت أماً له فحرم عليه نكاحها ونكاح ذات محارمها، وهي لا تحرم على أبيه ولا على أخيه ولا على ذوي أنسابه غير أولاده وأولاد أولاده. وفيه دليل على أن الرضاع بلبن السفاح لا يوقع الحرمة بين الرضيع وبين المسافح وأولاده كما تقع الحرمة من لادته ولا يثبت به النسب. وفيه أن ما يلحق به النسب من نكاح صحيح أونكاح بشبهة من مسلمة أو ذمية فإنه يحرم بالرضاع فيه النكاح. وفيه أن الجمع بين الأختين من الرضاع محرم، وكذلك بين المرأة وعمتها أو خالتها من الرضاع. وفيه أن لبن الضِرار محرم كغيره من اللبن الذي ليس بضرار، وكان ابن أبي ذئب يقول لبن الضرار لا يحرم من النكاح وعامة أهل العلم على خلافه. ومن باب لبن الفحل قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير العبدي قال أخبرنا سفيان عن هشام بن عروة عن عروة عن عائشة قالت دخل عليّ أفلح بن أبي القعيس فاستترت منه فقال تستترين مني وأنا عمك، قالت قلت من أين، قال أرضعتك امرأة أخي قالت إنما أرضعتني المرأة ولم يرضعني الرجل فدخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنه عمك فليلج عليك. قال الشيخ تنزيل هذا الباب أن يجعل المرضع بمنزلة الولد من زوج المرضعة

ومن باب رضاعة الكبير

وهو لوكان ولد من مائه حرم على أخيه إذ كان له عما، فكذلك إذا رضع من لبن كان حدوثه بفعله لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الرضاع في التحريم كالولادة، وقد قال عامة الفقهاء بتحريم لبن الفحل وانتشار الحرمة به إلاّ نفر يسير منهم إسماعيل بن علية وداود الأصفهاني، وقد روي ذلك عن ابن المسيب. ومن باب رضاعة الكبير قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر، قال: حَدَّثنا شعبة قال وحدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن أشعث بن سليم عن أبيه عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها المعنى واحد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها رجل قال حفص فشق ذلك عليه وتغير وجهه ثم اتفقا قالت يا رسول الله إنه أخي من الرضاعة، فقال، يَعني انظرن من أخوانكن فإنما الرضاعة من المجاعة. قال الشيخ معناه أن الرضاعة التي تقع بها الحرمة هي ما كان في الصغر، والرضيع طفل يقوته اللبن ويسد جوعه؛ وأما ما كان منه بعد ذلك في الحال التي لا تسد جوعه اللبن ولا يشبعه إلاّ الخبز واللحم وما في معناهما من الثقل فلا حرمة له. وقد اختلف العلماء في تحديد مدة الرضاع فقالت طائفة منهم أنها حولان، وإليه ذهب سفيان الثوري والأوزاعي والشافعي وأحمد بن حنبل واسحاق بن راهويه، واحتجوا بقوله تعالى {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة} [البقرة: 233] قالوا فدل أن مدة الحولين إذا انقضت فقد انقطع حكمها ولا عبرة لما زاد بعد تمام المدة.

وقال أبو حنيفة حولان وستة أشهر وخالفه صاحباه، وقال زفر بن الهذيل ثلاث سنين. ويحكى عن مالك أنه جعل حكم الزيادة على الحولين إذا كانت يسيراً حكم الحولين. قال أبو داود: حدثنا محمد بن سليمان الأنباري، قال: حَدَّثنا وكيع عن سليمان بن المغيرة، عَن أبي موسى الهلالي عن أبيه عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا رضاع إلاّ ما أنشر العظم وأنبت اللحم. قال الشيخ أنشر العظم معناه ما شد العظم وقواه، والإنشار بمعنى الإحياء في قوله تعالى {ثم إذا شاء أنشره} [عبس: 22] ويروى أنشز العظم بالزاي معجمة ومعناه زاد في حجمه فنشره. قال أبو داود: حدثنا أحمد بن أبي صالح حدثنا عنبسة قال حدثني يونس عن ابن شهاب قال حدثني عروة بن الزبير عن عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما أن أبا حذيفة بن عتبة بن عبد شمس تبنىَّ سالماً وأنكحه ابنة أخيه هند بنت الوليد بن عتبة بن ربيعة وهو مولى لامرأة من الأنصار كما تبنى رسول الله صلى الله عليه وسلم زيداً وكان من تبنى رجلا في الجاهلية دعاه الناس إليه وورث ميراثه حتى أنزل الله تعالى في ذلك {ادعوهم لآبائهم} [الأحزاب: 5] إلى قوله {فاخوانكم في الدين ومواليكم} [الأحزاب: 5] فردوا إلى آبائهم فمن لم يعلم أن له أباً كان مولى وأخاً في الدين فجاءت سهلة بنت سهيل بن عمرو القرشي ثم العامري وهي امرأة أبي حذيفة فقالت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إنا كنا نرى سالماً ولداً فكان يأوي معي ومع أبي حذيفة في بيت واحد ويراني فُضُلاً وقد أنزل الله تعالى فيهم ما قد علمت فكيف ترى فيه فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم

ومن باب هل يحرم ما دون خمس رضعات

أرضعيه فأرضعته خمس رضعات فكان بمنزلة ولدها من الرضاعة فبذلك كانت عائشة تأمر بنات أخواتها وبنات إخوتها أن يرضعن من أحبت عائشة أن يراها ويدخل عليها وإن كان كبيراً خمس رضعات ثم يدخل عليها وأبت أم سلمة وسائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يدخلن عليهن بتلك الرضاعة أحداً من الناس حتى ترضع في المهد، وقلن لعائشة والله ما ندري لعلها كانت رخصة من النبي صلى الله عليه وسلم لسالم دون الناس. قال الشيخ ذهب عامة أهل العلم في هذا إلى قول أم سلمة وحملوا الأمر في ذلك على أحد الوجهين إما على الخصوص وإما على النسخ ولم يروا العمل به. وقد استدل الشافعي بهذا الحديث على أن العدد الذي يقع به حرمة الرضاع هو الخمس وهو مع ذلك لا يقول برضاع الكبير فكأنه يقول إن الخبر تضمن أمرين رضاع الكبير وتعليق الحكم على عدد الخمس فإذا جرى النسخ في أحدهما لمعنى لم يوجب نسخ الآخر مع عدم ذلك المعنى، وقد يصح الاستدلال للواجب بما ليس بواجب ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم حين مر به الرجل فسلم عليه وهو يبول لم يرد عليه السلام حتى تيمم بالتراب فضرب كفيه فمسح بهما وجهه ثم ضرب ضربة أخرى فمسح بها ذراعيه فاتخذه العلماء أصلا في إيجاب الضربتين في التيمم ومسح الذراعين وإن كان ذلك منه في غير موضع الوجوب. وقولها ويراني فضلاً أي يراني مبتذلة في ثياب مهنتي، يقال تفضلت المرأة إذا تبذلت في ثياب مهنتها. ومن باب هل يحرم ما دون خمس رضعات قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي عن مالك عن عبد الله بن

أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت كان فيما أنزل الله عز وجل من القرآن عشر رضعات يحرمن ثم نسخن بخمس معلومات يحرمن فتوفي النبي صلى الله عليه وسلم وهن مما يقرأ من القرآن. قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا إسماعيل عن أيوب عن ابن أبي مليكة عن عبد الله بن الزبير عن علئشه رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تحرم المصة ولا المصتان. قال الشيخ وهذا يؤيد ما ذهب إليه الشافعي من اعتبار عدد الخمس في التحريم إلاّ أن أكثر الفقهاء قد ذهبوا إلى أن القليل من الرضاع وكثيره محرم وهو قول سفيان الثوري ومالك والأوزاعي وإليه ذهب أصحاب الرأي. وقال أبو عبيد لا يحرم أقل من ثلاث رضعات كأنه ذهب إلى استعمال دليل الخطاب من قوله لا يحرم المصة والمصتان فكان ما زاد على المصتين وهو الثلاث بخلاف حكم ما دونها وهو قول أبي ثور وداود. وقد حكي عن بعضهم أن التحريم لا يقع بأقل من عشر رضعات وهو قول شاذ لا اعتبار به. وأما قولها فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مما يقرأ من القرآن فإنها تريد بذلك قرب عهد النسخ من وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صار بعض من لم يبلغه النسخ يقرأه على الرسم الأول. وفيه دليل على جواز نسخ رسم التلاوة وبقاء الحكم ونظيره نسخ التلاوة في الرجم وبقاء حكمه، إلاّ أن القرآن لا يثبت بأخبار الآحاد فلم يجز أن يثبت ذلك بين الدفتين والأحكام تثبت بأخبار الآحاد فجاز أن يقع العمل بها والله أعلم.

ومن باب الرضخ عند الفصال

ومن باب الرضخ عند الفصال قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن محمد بن النفيلي، قال: حَدَّثنا أبو معاوية وحدثنا ابن العلاء، قال: حَدَّثنا ابن إدريس عن هشام بن عروة عن أبيه عن حجاج بن حجاج عن أبيه، قال قلت يا رسول الله ما يذهب عني مذَمة الرضاع قال الغرة العبد أو الأمة. قوله مذمة الرضاع يريد ذمام الرضاع وحقه، وفيه لغتان مَذَمَّة ومَذِمَّة بكسر الذال وفتحها تقول أنها قد خدمتك وأنت طفل وحضنتك وأنت صغير فكافئها بخادم يخدمها تكفيها المهنة قضاء لذمامها وجزاء لها على إحسانها. ومن باب ما يكره الجمع بينهن من النساء قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي حدثنا زهير حدثنا داود بن أبي هند عن عامر، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تنكح المرأة على عمتها ولا العمة على ابنة أخيها ولا المرأة على خالتها ولا الخالة على بنت أختها ولا تنكح الكبرى على الصغرى ولا الصغرى على الكبرى. قال الشيخ يشبه أن يكون المعنى في ذلك ما يخاف من وقوع العداوة بينهن ما لأن المشاركة في الحظ من الزوج توقع المنافسة بينهن فيكون منها قطيعة الرحم، وعلى هذا المعنى تحريم الجمع بين الأختين المملوكتين في الوطء وهو أكثر قول أهل العلم. وقياسه أن لا يجمع بين الأمة وبين عمتها أو خالتها في الوطء. قال أبو داود: حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح المصري، قال: حَدَّثنا ابن وهب قال أخبرني يونس عن ابن شهاب قال أخبرني عروة بن الزبير أنه سأل عائشة

ومن باب نكاج المتعة

رضي الله عنها عن قول الله تعالى {وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء} [النساء: 3] الآية قالت يا ابن أخي هي اليتيمة تكون في حجر وليها فتشاركه في ماله فيعجبه مالها وجمالها فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها. قوله بغير أن يقسط في صداقها، معناه بغيرأن يعدل فيه فيبلغ به سنة مهر مثلها، يقال أقسط الرجل في الحكم اذا عدل، وقسط إذا جار قال الله تعالى {واقسطوا إن الله يحب المقسطين} [الحجرات: 9] وقال {وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطباً} [الجن: 15] قال وتأويل الآية وبيان معناها أن الله تعالى خاطب أولياء اليتامى فقال {وإن خفتم من أنفسكم المشاحة في صدقاتهن وأن لا تعدلوا فتبلغوا بهن صداق أمثالهن فلا تنكحوهن وانكحوا غيرهن من الغائب اللواتي أحل الله لكم خطبتهن من واحدة إلى أربع وإن خفتم أن تجوروا إذا نكحتم من الغرائب أكثر من واحدة فانكحوا منهن واحدة أو ما ملكتم من الإماء} . ومن باب نكاج المتعة قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا عبد الوارث عن إسماعيل بن أمية عن الزهري، قال كنا عند عمر بن عبد العزيز فتذاكرنا متعة النساء فقال له رجل يقال له الربيع بن سبرة أشهد على أبي أنه حدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها في حجة الوداع. قال الشيخ تحريم نكاح المتعة كالإجماع بين المسلمين وقد كان ذلك مباحاً في صدر الإسلام ثم حرمه في حجة الوداع وذلك في آخر أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يبق اليوم فيه خلاف بين الأئمة إلاّ شيئا ذهب إليه بعض الروافض.

ومن باب في الشغار

وكان ابن عباس يتأول في إباحته للمضطر إليه بطول العزبة وقلة اليسار والجدة ثم توقف عنه وأمسك عن الفتوى به. حدثنا ابن السماك، قال: حَدَّثنا الحسن بن سلام السواق، قال: حَدَّثنا الفضل بن دكين، قال: حَدَّثنا عبد السلام عن الحجاج، عَن أبي خالد عن المنهال عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس هل تدري ما صنعت وبما أفتيت قد سارت بفتياك الركبان وقالت فيه الشعراء، قال وما قالت، قلت قالوا: قد قلت للشيخ لما طال مجلسه ... يا صاح هل لك في فتيا ابن عباس هل لك في رخصة الأطراف آنسة ... تكون مثواك حتى تصدر الناس فقال ابن عباس إنا لله وإنا إليه راجعون، والله ما بهذا أفتيت ولا هذا أردت ولا حللت إلاّ مثل ما أحل الله من الميتة والدم ولحم الحنزير وما تحل إلاّ للمضطر وما هي إلاّ كالميتة والدم ولحم الخنزير. قال الشيخ فهذا يبين لك أنه إنما سلك فيه مذهب القياس وشبهه بالمضطر إلى الطعام وهو قياس غير صحيح لأن الضرورة في هذا الباب لاتتحقق كهي في باب الطعام الذي به قوام النفس وبعدمه يكون التلف، وإنما هذا من باب غلبة الشهوة ومصابرتها ممكنة وقد تحسم حدتها بالصوم والعلاج فليس أحدهما في حكم الضرورة كالآخر. ومن باب في الشغار قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك وحدثنا مسدد،، قال: حَدَّثنا يحيى عن عبيد الله كلاهما عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الشغار قال مسدد في حديثه قلت لنافع ما الشغار، قال ينكح ابنة الرجل وينكحه ابنته بغير

صداق وينكح أخت الرجل وينكحه أخته بغير صداق. قال الشيخ تفسير الشغار ما بينه نافع، وقد روى أبو داود أيضاً في هذا الباب بإسناده عن الأعرج أن العباس بن عبد الله بن العباس أنكح عبد الرحمن بن الحكم ابنته وأنكحه عبد الرحمن ابنته وكانا جعلاه صداقاً فأمر معاوية بالتفرقة بينهما وقال هذا الشغار الذي نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه. قال الشيخ فإذا وقع النكاح على هذه الصفة كان باطلاً لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه، وأصل الفروج على الحظر والحظر لا يرتفع بالحظر وإنما يرتفع بالإباحة. ولم يختلف الفقهاء أن نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن نكاح المرأة على عمتها أو خالتها على التحريم، وكذلك نهيه عن نكاح المتعة فكذلك هذا. وممن أبطل هذا النكاح مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو عبيد. وقال أصحاب الرأي وسفيان الثوري النكاح جائز ولكل واحدة منهما مهر مثلها، ومعنى النهي في هذا عندهم أن يستحل الفرج بغير مهر. وقال بعضهم أصل الشغر في اللغة الرفع، يقال شغر الكلب برجله إذا رفعها عند البول قال فإنما يسمى هذا النكاح شغاراً لأنهما رفعا المهر بينهما. قال الشيخ وهذا القائل لا ينفصل ممن قال بل سمي شعارا لأنه رفع العقد من أصله فارتفع النكاح والمهر معاً ويبين لك أن النهي قد انطوى على الأمرين معاً أن البدل ههنا ليس شيئاً غير العقد ولا العقد شيئاً غير البدل فهو إذا فسد مهراً فسد عقداً وإذا أبطلته الشريعة فإنما أفسدته على الجهة التي كانوا يوقعونه وكانوا يوقعونه مهراً وعقدا فوجب أن يفسدا معاً.

ومن باب في التحليل

وكان ابن أبي هريرة يشبهه برجل تروج امرأة واستثنى عضوا من أعضائها وهو ما لا خلاف في فساده. قال فكذلك الشغار لأن كل واحد منهما قد زوج وليته واستثنى بعضه حتى جعله مهراً لصاحبتها. وعلله بعضهم فقال لأن المعقود له معقود به وذلك لأن العقد لها وبها فصار كالعبد تزوج على أن يكون رقبته صداقا للزوجة. ومن باب في التحليل قال أبو داود: حدثنا أحمد بن يونس، قال: حَدَّثنا زهير قال حدثني إسماعيل عن عامر عن الحارث عن علي قال إسماعيل وأراه قد رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لعن المحلل والمحلل له. قال الشيخ أما إذا كان ذلك عن شرط بينهما فالنكاح فاسد لأنه عقد تناهى إلى مدة كنكاح المتعة، وإذا لم يكن ذلك شرطاً وكان نية وعقيدة فهو مكروه، فإن أصابها الزوج ثم طلقها وانقضت العدة فقد حلت للزوج الأول وقد كره غير واحد من العلماء أن يضمرا أو ينويا أو أحدهما التحليل وإن لم يشترطاه. وقال إبراهيم للنخعي لا يحللها لزوجها الأول إلاّ أن يكون نكاح رغبة فإن كان نية أحد الثلاثة الزوج الأول أو الثانى أو المرأة أنه محلل فالنكاح باطل ولا تحل للأول. وقال سفيان الثوري إذا تزوجها وهو يريد أن يحلها لزوجها ثم بدا له أن يمسكها

ومن باب نكاج العبد بغير إذن سيده

لا يعجبني إلاّ أن يفارقها ويستأنف نكاحاً جديداً، وكذلك قال أحمد بن حنبل، وقال مالك بن أنس يفرق بينهما على كل حال. ومن باب نكاج العبد بغير إذن سيده قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة عن وكيع،، قال: حَدَّثنا الحسن بن صالح عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أيما عبد تروج بغير إذن مواليه فهو عاهر. قال الشيخ العاهر الزاني والعهر الزنى، وإنما بطل نكاح العبد من أجل أن رقبته ومنفعته مملوكتان لسيده وهو إذا اشتغل بحق الزوجة لم يتفرغ لخدمة سيده وكان في ذلك ذهاب حقه فأبطل النكاح إبقاء لمنفعته على صاحبه، وممن أبطل عقد هذا النكاح الأوزاعي والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه. وقال مالك وأصحاب الرأي إن أجازه السيد جاز وإن أبطله بطل، وعند الشافعي لا يثبت النكاح وإن أجازه السيد لأن عقد النكاح لا يقع عنده موقوفاً على إجازة الولي. ومن باب الرجل يخطب على خطبة أخيه قال أبو داود: حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح أخبرنا سفيان عن الزهري عن سعيد بن المسيب، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يخطب الرجل على خطبة أخيه. قال الشيخ نهيه عن ذلك نهي تأديب وليس بنهي تحريم يبطل العقد، وهو قول أكثر العلماء، إلاّ أن مالك بن أنس قال إن خطبها على خطبة أخيه فملكها فرق بينهما إلاّ أن يكون قد دخل بها فلا يفرق بينهما. وقال داود إن خطبها رجل بعد الأول وعقد عليها فالنكاح باطل.

وفي قوله على خطبة أخيه دليل على أن ذلك إنما نهي عنه إذا كان الخاطب الأول مسلماً ولا يضيق ذلك إذا كان الخاطب الأول يهودياً أو نصرانياً لقطع الله الأخوة بين المسلمين وبين الكفار. وقال الشافعي إنما نهي عن ذلك في حال دون حال وهو أن تأذن المخطوبة في إنكاح رجل بعينه فلا يحل لأحد أن يخطبها في تلك الحالة حتى يأذن الخاطب له واحتج بحديث فاطمة بنت قيس. حدثناه الأصم حدثنا الربيع أخبرنا الشافعي أخبرنا مالك عن عبد الله بن يزيد مولى الأسود بن سفيان، عَن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن فاطمة بنت قيس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها في عدتها من طلاق زوجها إذا حللت فآذنيني، قالت فلما حللت أخبرته أن معاوية وأبا جهم خطباني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما معاوية فصعلوك لا مال له، وأما أبو جهم فلا يضع عصاه على عاتقه أنكحي أسامة، قالت ففعلت فاغتبطت به. قال الشيخ فخطبته إياها لأسامة على خطبة معاوية وأبي جهم تدل على جواز ذلك إن لم يكن وقع الركون منها إلى الخاطب الأول أو الإذن منها فيه. وفي هذا الحديث أنواع من الفقه منها جواز التعريض للمرأة بالخطبة في عدتها وفيه أن المال معتبر في بعض أنواع المكافأة. وفيه دليل على جواز نكاح المولى القرشية. وفيه دليل على جواز تأديب الرجل امرأته. وفيه دليل على أن المستشار إذا ذكر الخاطب عند المخطوبة ببعض ما فيه من العيوب على وجه النصيحة لها والإرشاد إلى ما فيه حظها لم يكن ذلك غيبة يأثم فيها. وقوله لا يضع عصاه عن عاتقه يتأول على وجهين أحدهما التأديب والضرب لها والآخر أن يكون معناه الأسفار والظعن عن وطنه، يقال رفع الرجل عصاه

ومن باب الرجل ينظر إلى المرأة

إذا سار ووضع عصاه إذا نزل وأقام. ومن باب الرجل ينظر إلى المرأة وهو يريد أن يتزوجها قال أبو داود: حدثنا مسدد، قال: حَدَّثنا عبد الواحد بن زياد، قال: حَدَّثنا محمد بن إسحاق عن داود بن الحصين عن واقد بن عبد الرحمن، يَعني ابن سعد بن معاذ عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل. قال الشيخ إنما أبيح له النظر إلى وجهها وكفيها فقط ولا ينظر إليها حاسراً ولا يطلع على شيء من عورتها وسواء كانت أذنت له في ذلك أو لم تأذن وإلى هذه الجملة ذهب الشافعي وأحمد بن حنبل، وإلى نحو هذا أشار سفيان الثوري. ومن باب الولي قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان، قال: حَدَّثنا ابن جريج عن سليمان بن موسى عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أيما امرأة نكحت بغير إذن مواليها فنكاحها باطل ثلاث مرات فإن دخل بها فالمهر لها بما أصاب منها فإن تشاجروا فالسلطان ولي من لا ولي له. قوله أيما امرأة كلمة استيفاء واستيعاب، وفيه إثبات الولاية على النساء كلهن ويدخل فيها البكر والثيب والشريفة والوضيعة والمولى ههنا العصبة. وفيه بيان أن المرأة لا تكون ولية نفسها وفيه دليل على أن ابنها ليس من أوليائها إذا لم يكن عصبة لها.

وفيه بيان أن العقد إذا وقع لا بإذن الأولياء كان باطلاً، وإذا وقع باطلاً لم يصححه إجازة الأولياء، وفي إبطال هذا النكاح وتكراره القول ثلاثاً تأكيد لفسخه ورفعه من أصله، وفيه إبطال الخيار في النكاح. وفيه دليل على أن وطء الشبهة يوجب المهر وايجاب المهر إيجاب درء الحدود وإثبات النسب ونشر الحرمة. وفي قوله فالمهر لها بما أصاب منها دليل على أن المهر إنما يجب بالإصابة فإن الدخول إنما هو كناية عنها. وقوله فإن تشاجروا فالسلطان ولي من لا ولي له، يريد به تشاجر العضل والممانعة في العقد دون تشاجر المشاحة في السبق إلى العقد، فأما إذا تشاجروا في العقد ومراتبهم في الولاية سواء فالعقد لمن سبق إليه منهم إذا كان ما فعل من ذلك نظراً لها. ومعنى قوله بغير إذن مواليها هو أن يلي العقد الولي أو يوكل بتزويجها غيره فيأذن له في العقد عليها. وزعم أبو ثور أن الولي إذا أذن للمرأة في أن تعقد على نفسها صح عقدها النكاح على نفسها، واستدل بهذه اللفظة في الحديث، ومعناه التوكيل بدليل ما روي أن النساء لا تلين عقد النكاح. وقد تكلم بعض أهل العلم في إسناد هذا الحديث وضعفه بشيء حدثنيه الحسن بن يحيى بن حمويه عن علي بن عبد العزيز، عَن أبي عبيد،، قال: حَدَّثنا إسماعيل بن إبراهيم عن ابن جريج عن سليمان بن موسى، وذكر الحديث قال وزاد في آخره شيئا ما أرى أحداً يذكره غيره.

قال ابن جريج ثم لقيت الزهري فذكرت ذلك له فلم يعرفه. قال الشيخ ذكر أبو عيسى الترمذي عن يحيى بن معين أنه قال لم يذكر هذا الحديث عن ابن جريج إلاّ إسماعيل بن علية، قال يحيى وسماع إسماعيل من ابن جريج ليس بذلك إنما صحح كتبه على كتب عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد فيما سمع من ابن جريج وضعف يحيى رواية إسماعيل عن ابن جريج. قال أبوعيسى وحديث عائشة رضي الله عنها هذا عندي حديث حسن صحيح وقد رواه الحجاج بن أرطاة وجعفر بن ربيعة عن الزهري عن عروة عن عائشة ورواه هشام بن عروة أيضاً. قال أبو داود: حدثنا محمد بن قدامة بن أعين،، قال: حَدَّثنا أبو عبيدة الحداد عن يونس وإسرائيل، عَن أبي إسحاق، عَن أبي بردة، عَن أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا نكاح إلاّ بولي. قال الشيخ قوله لا نكاح إلاّ بولي فيه نفي ثبوت النكاح على معمومه ومخصوصه إلاّ بولي. وقد تأوله بعضهم على نفي الفضيلة والكمال وهذا تأويل فاسد لأن العموم يأتي على أصله جوازاً أو كمالاً، والنفي في المعاملات يوجب الفساد لأنه ليس لها إلاّ جهة واحدة، وليس كالعبادات والقرب التي لها جهتان من جواز ناقص وكامل، وكذلك تأويل من زعم أنها ولية نفسها. وتأول معنى الحديث على أنها إذا عقدت على نفسها فقد حصل نكاحها بولي، وذلك أن الولي هو الذي يلي على غيره، ولو جاز هذا في الولاية لجاز مثله في الشهادة فتكون هي الشاهدة

ومن باب في العضل

على نفسها فلما كان في الشاهد فاسداً كان في الولي مثله. قال أبو داود: حدثنا محمد بن يحيى بن فارس،، قال: حَدَّثنا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عروة بن الزبير عن أم حبيبة أنها كانت عند ابن جحش فهلك عنها، وكان فيمن هاجر إلى أرض الحبشة فزوجها النجاشي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي عندهم. قال الشيخ إنما ساق النجاشي المهر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأضيف التزويج إليه وكان الذي عقد عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري ووكله بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعث به إلى الحبشة في ذلك، وقد روي أن الذي ولي تزويجها بالعقد عليها خالد بن سعيد بن العاص وهو ابن عم أبي سفيان إذ كان أبوها أبو سفيان كافراً لا ولاية له على مسلمة. وقد يحتمل أيضاً أن يكون النجاشي قد عقد أولاً فكان ذلك بمعنى التسمية فلم يعتبر صحته ثم أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري فاستأنف العقد وألزمه والله أعلم. ومن باب في العضل قال أبو داود: حدثنا محمد بن المثنى قال حدثني أبو عامر عبد الملك بن عمرو، قال: حَدَّثنا عباد بن راشد عن الحسن قال حدثني معقل بن يسار، قال كانت لي أخت تخطب إليّ فأتاني ابن عم لي فأنكحتها إياه ثم طلقها طلاقا له رجعة ثم تركها حتى انقضت عدتها، فلما خطبت إلي أتاني يخطبها فقلت والله لا أنكحها أبداً، قال ففيّ نزلت هذه الآية {وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا

ومن باب إذا نكح الوليان

تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن} [البقرة: 232] الاية قال فكفرت عن يميني فأنكحتها إياه. قال الشيخ هذا أدل آية في كتاب الله تعالى على أن النكاح لا يصح إلاّ بعقد ولي ولو كان لها سبيل إلى أن تنكح نفسها لم يكن للعضل معنى ولا كان المنع يتحقق من جهة الولي. ولو كان عقد المرأه على نفسها يصح إذا تروجها كفء لم يتعذر عليها أن تفعل ذلك، وقد كان الذي خطبها إنما هو ابن عمها المكافىء لها في النسب المتقدم لها في الصحبة فدل ما قلناه على صحة ما ذهبنا إليه والله أعلم. وقد اختلف الناس في عقد النكاح بغير ولي، فقال بظاهر الحديث جماعة منهم سفيان الثوري وابن أبي ليلى وابن شبرمة والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو عبيد، وروي هذا القول عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود وابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهم، وبه قال ابن المسيب والحسن البصري وعمر بن عبد العزيز وقتادة. وفرق مالك بن أنس بين المرأة الشريفة والدنيئة فقال لا بأس أن تستخلف المرأه الدنيئة على نفسها من يزوجها، فأما على امرأة لها قدر وغنى فإن تلك لا ينبغى أن يزوجها إلاّ الأولياء أو السلطان. وقال أبو حنيفة إذا زوجت المرأة نفسها بشاهدين من كفوٍ فهو جائز. وقال يعقوب ومحمد النكاح موقوف حتى يجيزه الولي والحاكم. ومن باب إذا نكح الوليان قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل،، قال: حَدَّثنا حماد عن قتادة عن الحسن عن سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال أيما امرأة زوجها وليان فهي للأول منهما.

ومن باب الاستئمار

قال الشيخ اتفق أهل العلم على هذا ما لم يقع الدخول من الثاني بها فإن وقع الدخول بها فإن مالكاً زعم أنه لا يفرق بينهما، وكذلك روي عن عطاء، وهذا إذا كان قد علم نكاح المتقدم منهما من المتأخر فإن زوجاها معاً هذا من زيد وهذا من عمرو ولا يعلم أيهما المتقدم فالنكاح مفسوخ في قول أكثر الفقهاء. وزعم بعضهم أنه يفرق بينهما ويقال لهما طلقاها جميعاً حتى تبين ممن كانت زوجة له، وهو قول أبي ثور. قال أبو داود: حدثنا أحمد بن محمد بن ثابت المروزي، قال حدثني علي بن الحسين بن واقد عن أبيه عن يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى {لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلاّ أن يأتين بفاحشة مبينة} [النساء: 19] وذلك أن الرجل كان يرث امرأة ذي قرابة فيعضلها حتى تموت أو ترد إليه صداقها فاحكم الله عن ذلك أو نهى عن ذلك. قال الشيخ قوله أحكم الله معناه منع، قال جرير بن الخَطَفي: ابني حنيفة أحكموا سفهاءكم ... إني أخاف عليكم أن أغضبا ومن باب الاستئمار قال أبو داود: حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا أبان، قال حدثني يحيى، عَن أبي سلمة، عَن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تنكح الثيب حتى تستأمر، ولا البكر إلاّ بإذنها، قالوا يا رسول الله وما إذنها قال: أن تسكت. قال ظاهر الحديث يدل على أن البكر إذا أنكحت قبل أن تستأذن فتصمت أن النكاح باطل كما يبطل نكاح الثيب قبل أن تستأمر فتأذن بالقول،

وإلى هذا ذهب الأوزاعي وسفيان الثوري وهو قول أصحاب الرأي. وقال مالك بن أنس وابن أبي ليلى والشافعي وأحمد بن حنبل واسحاق بن راهويه إنكاح الأب البكر البالغ جائز وإن لم تستأذن، ومعنى استئذانها عندهم إنما هو على استطابة النفس دون الوجوب كما جاء الحديث باستئمار أمهاتهن وليس ذلك بشرط في صحة العقد. قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل، قال: حَدَّثنا حماد (ح) وحدثنا أبو كامل حدثنا يزيد بن زريع المعنى قال حدثني محمد بن عمرو، قال: حَدَّثنا أبو سلمة، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تستأمر اليتيمة في نفسها فإن سكتت فهو إذنها وإن أبت فلا جواز عليها. قال الشيخ فيه دليل على أن الصغيرة لا يزوجها غير الأب وذلك لأنها لا تستأمر إلاّ بعد البلوغ إذ لا معنى لإذنها ولا عبرة لإبائها قبل ذلك فثبت أنها لا تزوج حتى تبلغ الوقت الذي يصح منها الإذن أو الامتناع، واليتيمة ههنا هي البكر البالغ التي مات أبوها قبل بلوغها فلزمها اسم اليتم فدعيت به وهي بالغ، والعرب ربما ادعت الشيء بالاسم الأول الذي إنما سمي به لمعنى متقدم ثم ينقطع ذلك المعنى ولا يزول الاسم من ذلك أنهم يسمون الرجل المستجمع السن غلاماً وحد الغلومة ما بين أيام الصبى إلى أوقات الشباب. وقد روي عن ابن عباس أنه قال كان الغلام الذي قتله الخضر رجلاً مستجمع السن وقالت ليلى الأخيلية: إذا ورد الحجاج أرضاً مريضة ... تتبع أقصى دائها فشفاها شفاها من الداء العقام الذي بها ... غلام إذا هز القناة سقاها

ومن باب البكر يزوجها أبوها ولا يستأمرها

فجعلته غلاماً وهو رجل محتنك السن وكذلك مذهبهم في نسبة الشيء واضافته إلى من كان مرة يملكه، كقولهم دار عمرو بن حُريث، وبستان ابن عامر، وقصر أوس، وقبة الحجاج. وقد يلي الرجل الإمارة والقضاء زماناً ثم يعزل فيدعى أميراً أو قاضياً، ومثل هذا كثير في كلامهم. وكذلك اليتيمة المذكورة في هذا الحديث هي التي قد لزمها اسم اليتم في صغرها بموت أبيها فاشتهرت به ثم دعيت بذلك في الكبر على هذا المعنى الذي وصفناه بدليل ما تقدم ذكره من الكلام في أول الفصل والله أعلم. وقد اختلف أهل العلم في جواز نكاح غير الأب الصغيرة، فقال الشافعي لا يزوجها غير الأب والجد، ولا يزوجها الأخ ولا العم ولا الوصي. وقال الثوري لا يزوجها الوصي. وقال حماد بن أبي سليمان ومالك بن أنس للوصي أن يزوج اليتيمة قبل البلوغ، وروي ذلك عن شريح. وقال أصحاب الرأي لا يزوجها الوصي حتى يكون ولياً لها. وللولي أن يزوجها وإن لم يكن وصياً إلاّ أن لها الخيار إذا بلغت. ومن باب البكر يزوجها أبوها ولا يستأمرها قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، قال: حَدَّثنا حسين بن محمد، قال: حَدَّثنا جرير بن حازم عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس أن جارية بكراً أتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم. قال الشيخ ففى هذا الحديث حجة لمن لم ير نكاح الأب ابنته البكر جائزاً إلا يإذنها. وفيه أيضاً حجة لمن رأى عقد النكاح يثبت مع الخيار؛ غير أن أبا داود ذكر على أثره في هذا الباب أن المعروف من هذا الحديث أنه مرسل غير

ومن باب الثيب

متصل؛ كذا رواه حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة عن النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيه ابن عباس. قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا معاوية بن هشام عن سفيان عن إسماعيل بن أمية، قال أخبرني الثقة عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: آمروا النساء في بناتهن. قال الشيخ مؤامرة الأمهات في بضع البنات ليس من أجل أنهن تملكن من عقد النكاح شيئاً، ولكن من جهة استطابة أنفسهن وحسن العشرة معهن، ولأن ذلك أبقى للصحبة وأدعى إلى الإلفة بين البنات وأزواجهن إذا كان مبدأ العقد برضاء من الأمهلت ورغبة منهن، وإذا كان بخلاف ذلك لم يؤمن تضريتهن ووقوع الفساد من قبلهن والبنات إلى الأمهات أميل ولقولهن أقبل، فمن أجل هذه الأمور يستحب مؤامرتهن في العقد على بناتهن والله أعلم. وقد يحتمل أن يكون ذلك لعلة أخرى غير ما ذكرناه، وذلك أن المرأة ربما علمت من خاص أمر ابنتها ومن سر حديثها أمراً لا يستصلح لها معه عقد النكاح، وذلك مثل العلة تكون بها، والآفة تمنع من إيفاء حقوق النكاح وعلى نحو هذا يتأول قوله ولا تزوج البكر إلاّ بإذنها وإذنها سكوتها، وذلك أنها قد تستحي من أن تفصح بالإذن وأن تظهر الرغبة في النكاح فيستدل بسكوتها على سلامتها من آفة تمنع الجماع، أو بسبب لا يصلح معه النكاح لا يعلمه غيرها والله أعلم. ومن باب الثيب قال أبو داود: حدثنا أحمد بن يونس وعبد الله بن مسلمة قالا: حَدَّثنا مالك

عن عبد الله بن الفضل عن نافع بن جبير عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الأيّم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأمر في نفسها واذنها صماتها. قال الشيخ قد استدل أصحاب الشافعي بقوله الأيم أحق بنفسها من وليها، على أن ولي البكر أحق بها من نفسها، وذلك من طريق دلالة المفهوم لأن الشيء إذا قيد بأخص أوصافه دل على أن ما عداه بخلافه، وقالوا والأسماء للتعريف والأوصاف للتعليل. قالوا والمراد بالأيم ههنا الثنيب لأنه قابلها بالبكر فدل على أنه أراد بالأيم الثيب. وقد جاء ذكر الثيب في هذا الحديث من رواية زياد بن سعد عن عبد الله بن الفضل بإسناده، قال الثيب أحق بنفسها من وليها والبكر يستأمرها أبوها. قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا سفيان بن زياد عن زياد بن سعد عن عبد الله بن الفضل بإسناده، قال الثيب أحق بنفسها من وليها، والبكر يستأمرها أبوها، قال أبو داود أبوها ليس بمحفوظ. قالوا فقوله الثيب أحق بنفسها من وليها يجمع نصاً ودلالة والعمل واجب بالدلالة وجوبه بالنص ودلالته أن غير الثيب وهي البكر حكمها خلاف حكم الثيب في كونها أحق بنفسها، وتأولوا استئمار البكر على معنى استطابة النفس دون الوجوب. قالوا ومعنى قوله أحق بنفسها أي في اختيار الغير لا في العقد بدليل أنها لو عقدت على نفسها لغير كفوء رد النكاح من غير خلاف فيه. وقد استدل به أصحاب أبي حنيفة في أن للمرأة أن تعقد على نفسها بغيرإذن الولي، إلاّ أنهم لم يفرقوا بين البكر البالغ والثيب في ذلك، وقد دل الحديث

ومن باب الاكفاء

على التفرقة. وقد يحتج به أصحاب داود أيضاً لمذهبهم أن البكر لا يزوجها غير الولي، وأن للثيب أن تعقد على نفسها. وفيه حجة لمن رأى الإشارة والإيماء من الصحيح الناطق يقوم مقام الكلام. وعند الشافعي أن إذن البكر والاستدلال بصماتها على رضاها إنما هو بمعنى الاستحباب دون الوجوب وذلك خاص في الأب والجد فإن زوجها غير أبيها فإنه لا يرى صماتها إذناً في النكاح. قال أبو داود: حدثنا القعنبي عى مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عبد الرحمن ومجمع ابني يزيد الأنصاريين عن خنساء بنت خدام الأنصارية أن أباها زوجها وهي ثيب فكرهت ذلك فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت له فرد نكاحها. قال الشيخ ذكرها الثيوبة في هذا الحديث يدل على أن حكم البكر بخلاف ذلك، والأوصاف إنما تذكر تعليلاً. وأما خبر عكرمة أن جارية بكراً أتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم فقد ذكر أبو داود أنه خبر مرسل. وإسناد حديث خنساء بنت خدام إسناد جيد متصل وقد قيل أنه كان نكاح ضرار ورووا فيه سبباً لم يحضرني إسناده. ومن باب الاكفاء قال أبو داود: حدثنا عبد الواحد بن غياث، قال: حَدَّثنا حماد، قال: حَدَّثنا محمد بن عمرو، عَن أبي سلمة، عَن أبي هريرة أن أبا هند حجم النبي صلى الله عليه وسلم في اليافوخ

ومن باب تزويج من لم تولد

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا بني بياضة انكحوا أبا هند وانكحوا إليه، قال وإن كان في شيء مما تداوون به خير فالحجامة. قال الشيخ في هذا الحديث حجة لمالك ولمن ذهب مذهبه في أن الكفاءة بالدين وحده دون غيره وأبو هند مولى بني بياضة ليس من أنفسهم. والكفاءة معتبرة في قول أكثر العلماء بأربعة أشياء بالدين والحرية والنسب والصناعة، ومنهم من اعتبر فيها السلامة من العيوب واليسار فيكون جماعها ست خصال. ومن باب تزويج من لم تولد قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي ومحمد بن المثنى قالا: حَدَّثنا يزيد بن هارون أخبرنا عبد الله بن يزيد بن مِقْسَم الثقفي من أهل الطائف، قال حدثتني سارة بنت مقسم أنها سمعت ميمونه بنت كَرْدَمٍ قالت خرجت مع أبي في حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فدنا إليه أبي وهو على ناقة له ومعه درة كدرة الكتاب فسمعت الأعراب والناس وهم يقولون الطبطبية الطبطبية الطبطبية فدنا إليه أبي فأخذ بقدمه فأقرَّ له ووقف عليه واستمع منه فقال إني حضرت جيش عِثران قال ابن المثنى جيش غثران فقال طارق بن المرقع من يعطيني رمحاً بثوابه، فقلت وما ثوابه، قال أزوجه أول بنت تكون لي فأعطيته رمحي ثم غبت عنه حتى علمت أنه قد ولد له جارية وبلغت ثم جئته فقلت له أهلي جهزهن إليّ فحلف أن لا يفعل حتى أصدقه صداقاً جديداً غير الذي كان بيني وبينه وحلفت أن لا أصدق غير الذي أعطيته، فقال رسول

ومن باب في الصداق

الله صلى الله عليه وسلم: وبقرن أيّ النساء هي اليوم، قال قد رأت القتير قال أرى أن تتركها قال فراعني ذلك ونظرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأى ذلك مني، قال: لا تأثم ولا يأثم صاحبك. قال الشيخ قولها يقولون الطبطبية يحتمل وجهين أحدهما أن يكون أرادت بها حكاية وقع الأقدام أي يقولون بأرجلهم على الأرض طب طب. والوجه الآخر أن يكون كناية عن الدرة يريد صوتها إذا خفقت. وقوله بقرن أي النساء يريد سن أي النساء هي، والقرن بنو سنٍ واحد، يقال هؤلاء قرن زمان كذا، وأنشدني أبو عمر قال أنشدنا أبو العباس أحمد بن يحيى: إذا مضى القرن الذي أنت فيهم …وخلفت في قرن فأنت غريب والقتير الشيب، ويشبه أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم إنما أشار عليه بتركها لأن عقد النكاح على معدوم العين فاسد، وإنما كان ذلك منه موعداً له، فلما رأى أن ذلك لا يفي بما وعد وأن هذا لا يقلع عما طلب أشار عليه بتركها والإعراض عنها لما خاف عليهما من الإثم إذا تنازعا وتخاصما إذ كان كل واحد منهما قد حلف أن يفعل غير ما حلف عليه صاحبه وتلطف صلى الله عليه وسلم في صرفه عنها بالمسألة عن سنها حتى قرر عنده أنها قد رأت القتير أي الشيب وكبرت وأنه لا حظ له في نكاحها. وفيه دليل على أن للحاكم أن يشير على أحد الخصمين بما هو أدعى إلى الصلاح وأقرب إلى التقوى. ومن باب في الصداق قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي، قال: حَدَّثنا عبد العزيز بن محمد، قال: حَدَّثنا يزيد بن الهاد عن محمد بن إبراهيم، عَن أبي سلمة قال سألت عائشة

ومن باب أقل المهر

رضي الله عنها عن صداق النبي صلى الله عليه وسلم فقالت ثنتا عشرة أوقية ونَش فقلت وما نش قالت نصف أوقية. قال الشيخ الأوقية أربعون درهماً والنش عشرون درهماً، وهو اسم موضوع لهذا القدر من الدراهم غير مشتق من شيء سواه والله أعلم. قال أبو داود: حدثنا حجاج بن أبي يعقوب الثقفي، قال: حَدَّثنا مُعلى بن منصور، قال: حَدَّثنا ابن المبارك،، قال: حَدَّثنا معمر عن الزهري عن عروة عن أم حبيبة أنها كانت تحت عبيد الله بن جحش فمات بأرض الحبشة فزوجها النجاشي النبي صلى الله عليه وسلم وأمهرها عنه أربعة آلاف وبعث بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع شرحبيل بن حسنة. قال الشيخ معنى قوله زوجها النجاشي أي ساق إليها المهر فأضيف عقد النكاح إليه لوجود سببه منه وهو المهر. وقد روى أصحاب السير أن الذي عقد النكاح عليها خالد بن سعيد بن العاص وهو أبو عمر بن أبي سفيان وأبو سفيان إذ ذلك مشرك وقبل نكاحها عمرو بن أمية الضمري وكله رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك وقد ذكرنا هذا فيما تقدم. ومن باب أقل المهر قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل، قال: حَدَّثنا حماد عن ثابت البناني وحميد عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى عبد الرحمن بن عوف وعليه ردغ زعفران فقال النبي صلى الله عليه وسلم: مَهيم فقال يا رسول الله تزوجت امرأة قال ما أصدقتها، قال وزن نواة من ذهب قال أولم ولو بشاة.

ومن باب التزويج على العمل يعمل

قال الشيخ ردغ الزعفران أثر لونه وخضابه، وقوله مَهيم كلمة يمانية معناه مالك وما شأنك، ويشبه أن يكون المسألة إنما عرضت من حاله من أجل الصفرة التي رآها عليه من ردغ الزعفران، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزعفر الرجل فأنكرها، ويشبه أن يكون ذلك شيئاً يسيراً فرخص له فيه لقلته. ووزن نواة من ذهب فسروها خمسة دراهم من ذهب وهو اسم معروف لمقدار معلوم. وقوله أولم ولو بشاة من الوليمة وهو طعام الأملاك. قال أبو داود: حدثنا إسحاق بن جبريل البغدادي أخبرنا يزيد أخبرنا موسى بن مسلم بن رومان، عَن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أعطى في صداق امرأة ملء عكفيه سويقاً أو تمراً فقد استحل. قال الشيخ فيه دليل على أن أقل المهر غير موقت بشيء معلوم وإنما هو على ما تراضى به المتناكحان. وقد اختلف الفقهاء في ذلك فقال سفيان الثوري والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه لا توقيت في أقل المهر وأدناه هو ما تراضوا به. قال سعيد بن المسيب لو أصدقها سوطاً لحملت له. وقال مالك أقل المهر ربع دينار. وقال أصحاب الرأي أقله عشرة دراهم، وقدروه بما يقطع فيه يد السارق عندهم، وزعموا أن كل واحد منهما إتلاف عضو. ومن باب التزويج على العمل يعمل قال أبو داود: حدثنا القعنبي، عَن أبي حازم بن دينار عن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءته امرأة فقالت يا رسول الله إني قد وهبت نفسي لك

فقامت قياما طويلاً، فقام رجل فقال يا رسول الله زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل عندك من شيء تصدقها إياه فقال ما عندي إلاّ إزاري هذا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنك إن أعطيتها إزارك جلست ولا إزار لك فالتمس شيئاً، قال لا أجد شيئاً، قال فالتمس ولو خاتما من حديد فالتمس فلم يجد شيئا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فهل معك من القرآن شيء قال نعم سورة كذا وسورة كذا لسور سماها، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد زوجتكها بما معك من القرآن. قال الشيخ فيه من الفقه أن منافع الحر قد يجوز أن يكون صداقاً كأعيان الأموال ويدخل فيه الإجارة وما كان في معناها من خياطة ثوب ونقل متاع ونحو ذلك من الأمور. وفيه دليل على جواز الأجرة على تعليم القرآن والباء في قوله بما معك باء التعويض كما تقول بعتك هذا الثوب بدينار أو بعشرة دراهم؛ ولو كان معناها ما تأوله بعض أهل العلم من أنه إنما زوجه إياها لحفظه القرآن تفضيلاً له لجعلت المرأة موهوبة بلا مهر وهذه خصوصية ليست لغير النبي صلى الله عليه وسلم ولولا أنه أراد به معنى المهر لم يكن لسؤاله إياها هل معك من القرآن شيء معنى لأن التزويج ممن لا يحسن القرآن جائز جوازه ممن يحسنه. وليس في الحديث أنه جعل المهر ديناً عليه إلى أجل فكان الظاهر أنه جعل تعليمه القرآن إياها مهراً لها. وفي للخبر دليل على أن المكافأة إنما هي في حق الدين والحرية دون النسب والمال، ألا ترى أنه لم يسأل هل هو كفؤ لها أم لا، وقد علم من حاله أنه لا مال له. وفيه دليل على أنه لا حد لأقل المهر، وفيه أنه لم يسألها هل أنت في عدة من

ومن باب من تزوج ولم يفرض

زوج أو وطء شبهة أو نحو ذلك أم لا، وهذا شيء يفعله الحكام احتياطاً فلو ترك تارك وحمل الأمر على ظاهر الحال وصدقها على قولها كان ذلك جائزاً ما لم يعلم خلافه. وقد اختلف الناس في جواز النكاح على القرآن، فقال الشافعي بجوازه على ظاهر الحديث، وقال مالك لا يجوز وهو قول أصحاب الرأي. وقال أحمد بن حنبل أكرهه، وكان مكحول يقول ليس لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعله. وقال الشافعي فيمن نكح هذا النكاح إذا طلقها قبل أن يدخل بها ففيه قولان أحدهما أن لها نصف المثل والآخر أن لها نصف أجر التعليم. ومن باب من تزوج ولم يفرض لها صداقاً ومات عنها قال أبو داود: حدثنا عبيد الله بن عمر بن ميسرة، قال: حَدَّثنا يزيد بن زريع، قال: حَدَّثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن خلاس وأبي حسان عن عبد الله بن عتبة بن مسعود أن عبد الله بن مسعود أتى في رجل تزوج امرأة فمات عنها ولم يدخل بها ولم يفرض لها الصداق فاختلفوا إليه شهراً أو قال مرات؛ قال فإني أقول فيها إن لها صداقا كصداق نسائها لا وكس ولا شطط وإن لها الميراث وعليها العدة فإن يكن صواباً فمن الله عز وجل، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان. والله ورسواه بريئان، فقام ناس من أشجع فيهم الجراح وأبو سنان فقالوا يا ابن مسعود نحن نشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضاها فينا في بروع بنت واشق بمثل ما قضيت ففرح بها ابن مسعود فرحاً شديداً. قال الشيخ قوله لا وكس ولا شطط الوكس، النقصان والشطط العدوان

ومن باب في تزويج الصغار

وهو الزيادة على قدر الحق، يقال أشط الرجل في الحكم إذا تعدى الحق وجاوزه قال الشاعر: ألا يا لقومي قد أشطت عواذلي …فيزعمن أن أودي بحقي باطل وفيه من الفقه جواز الاجتهاد في الحوادث من الأحكام فيما لم يوجد فيه نص مع إمكان أن يكون فيها نص وتوقيف. وقوله فإن يكن صواباً فمن الله أي من توفيق الله وان يكن خطأ فمني ومن تسويل الشيطان وتلبيسه على وجه الحق فيه. وقوله والله ورسوله بريئان، يريد أن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم لم يتركا شيئاً لم يبينّاه في الكتاب أو في السنة ولم يرشدا إلى صواب الحق فيه إما نصاً وإما دلالة فهما بريئان من أن يضاف إليهما الخطأ الذي يؤتي المرء فيه من جهة عجزه وتقصيره. وفيه بيان أن المفوضة إذا مات عنها زوجها قبل الدخول بها كان لها مهر المثل وإليه ذهب أصحاب الرأي وهو أصح قولين للشافعي فإن طلقها قبل الدخول فلها المتعة ولها نصف مهر، واعتبر الشافعي مهر المثل بنساء عصبتها اختها وعمتها وبنات أعمامها وليست أمها ولا خالتها من نسائها. ومن باب في تزويج الصغار قال أبو داود: حدثنا سليمان بن حرب وأبو كامل قالا: حَدَّثنا حماد بن زيد عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا بنت سبع سنين، قال سليمان أو ست ودخل بي وأنا بنت تسع. قال الشيخ في هذا دلالة على أن البكر التي أمر باستئذانها في النكاح إنما هي البالغ دون الصغيرة التي لم تبلغ لأنه لا معنى لاذن من لم تكن بالغاً ولا

ومن باب المقام عند البكر

اعتبار برضاها ولا بسخطها. وكان أحمد بن حنبل يجعل هذا حداً في تزويج الأبكار لغير الآباء والأجداد ويقول لا أرى للولي ولا للقاضي أن يزوج اليتيمة حتى تبلغ تسع سنين فإذا بلغت تسع سنين فرضيت فلا خيار لها. قال الشيخ ولعله قد بلغه أن نساء العرب أو أكثرهن يدركن إذا بلغن هذا السن والله أعلم. ومن باب المقام عند البكر قال أبو داود: حدثنا زهير بن حرب قال حدثني يحيى عن سفيان قال حدثني محمد بن أبي بكر عن عبد الملك بن أبي بكر عن أبيه عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تزوج أم سلمة أقام عندها ثلاثا، ثم قال ليس لك على أهلك هوان إن شئت سبعت لك وإن سبعت لك سبعت لنسائي. قال الشيخ اختلف العلماء في تأويل ذلك، فقال بعضهم الثلاث تخصيص للثيب لا يحتسب بها عليها ويستأنف القسم فيما يستقبل، وكذلك السبع للبكر وإلى هذا ذهب مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، وقد روي ذلك عن الشعبي. وقال أصحاب الرأي البكر والثيب في القسم سواء وهو قول الحكم وحماد. وقال الأوزاعي إذا تزوج البكر على الثيب مكث ثلاثا وإذا تزوج الثيب على البكر يمكث يومين. قال الشيخ السبع في البكر والثلاث في الثيب حق العقد خصوصاً لا يحاسبان على ذلك ولكن يكون لهما عفواً بلا قصاص.

ومن باب الرجل يدخل بامرأته قبل أن ينقد

وقوله إن شئت سبعت لك، وإن سبعت لك سبعت لنسائي ليس فيه دليل على سقوط حقها الواجب لها إذا لم يسبع لها وهو الثلاث التي هي بمعنى التسويغ لها ولو كان ذلك بمعنى التبدئة ثم يحاسب عليها لم يكن للتخيير معنى لأن الإنسان لا يخير بين جميع الحق وبين بعضه فدل على أنه بمعنى التخصيص. قال الشيخ ويشبه أن يكون هذا من المعروف الذي أمر الله تعالى به في قوله {وعاشروهن بالمعروف} [النساء: 19] وذلك أن البكر لما فيها من الخفر والحياء تحتاج إلى فضل إمهال وصبر وحسن تأن ورفق ليتوصل الزوج إلى الأرب منها، والثيب قد جربت الأزواج وارتاضت بصحبة الرجال فالحاجة إلى ذلك في أمرها أقل إلاّ أنها تخص بالثلاث تكرمة لها وتأسيساً للإلفة فيما ببنه وبينها والله أعلم. ومن باب الرجل يدخل بامرأته قبل أن ينقد قال أبو داود: حدثنا إسماعيل بن اسحاق الطالقاني، قال: حَدَّثنا عبدة، قال: حَدَّثنا سعيد عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس قال لما تزوج عليٌ فاطمة رضي الله عنهما، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطها شيئاً، قال ما عندي شيء، قال أين درعك الحُطمية. قال الشيخ الحطمية منسوبة إلى حطمة بطن من عبد القيس كانوا يعملون الدروع. ويقال إنها الدرع السابغة التي تحطم السلاح. وقد اختلف الناس في الدخول قبل أن يعطي من المهر شيئاً فكان ابن عمر يقول لا يحل لمسلم أن يدخل على امرأته حتى يقدم إليها حقل أو كثر. وروي عن ابن عباس الكراهية في ذلك وكذلك عن قتادة والزهري. وقال مالك بن أنس لا يدخل حتى يقدم شيئاً من صداقها أدناه ربع دينار

ومن باب ما يقال للمتزوج

أو ثلاثة دراهم سواء فرض لها أو لم يكن فرض. وكان الشافعي يقول في القديم إن لم يسم لها مهراً كرهت أن يطأها قبل أن يسمي أو يعطيها شيئاً، وقول سفيان الثوري قريب من هذا ورخص في ذلك سعيد بن المسيب والحسن البصري والنخعي وهو قول أحمد وإسحاق. قال أبو داود: حدثنا محمد بن معمر، قال: حَدَّثنا محمد بن بكر البرساني قال أخبرنا ابن جريج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيما امرأة نكحت على صداق أو حباء أو عدة قبل عصمة النكاح فهو لها وما كان بعد عصمة النكاح فهو لمن أعطيه وأحق ما أكرم عليه الرجل ابنته أو أخته. قال الشيخ وهذا يتأول على ما يشترطه الولي لنفسه سوى المهر، وقد اختلف الناس في وجوبه فقال سفيان الثوري ومالك بن أنس في الرجل ينكح المرأة على أن لأبيها كذا وكذا شيئاً اتفقا عليه سوى المهر أن ذلك كله للمرأة دون الأب وكذلك روي عن عطاء وطاوس، وقال أحمد هو للأب ولا يكون ذلك لغيره من الأولياء لأن يد الأب مبسوطة في مال الولد. وروي عن علي بن الحسين أنه زوج ابنته رجلاً واشترط لنفسه مالاً، وعن مسروق أنه زوج ابنته رجلاً واشترط لنفسه عشرة آلاف درهم يجعلها في الحج والمساكين. وقال الشافعي إذا فعل ذلك فلها مهر المثل ولا شيء للولي. ومن باب ما يقال للمتزوج قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد، قال: حَدَّثنا عبد العزيز بن محمد عن سهيل عن أبيه، عَن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رفأ الإنسان إذا تزوج قال: بارك الله لك وبارك

ومن باب من تزوج امرأة فوجدها حبلى

عليك وجمع بينكما في خير. قال الشيخ قوله رفأ يريد هناه ودعا له وكان من عادتهم أن يقولوا بالرفاء والبنين وأصله من الرفىء وهو على معنيين أحدهما التسكين؛ يقال رفوت الرجل إذا سكنت ما به من روع قال الشاعر: رفوني وقالوا يا خويلد لم تُرع …فقلت وأنكرت الوجوه هم هم والآخر أن يكون بمعنى الموافقة والملائمة ومنه رفوت الثوب، وفيه لغتان يقال رفوت الثوب ورفأته وأنشد أبو زيد: عمامة غير جد واسعة …أخيطها تارة وأرفأها وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن يقال للمتزوج بالرفاء والبنين. ومن باب من تزوج امرأة فوجدها حبلى قال أبو داود: حدثنا مخلد بن خالد والحسن بن علي وابن أبي السري العسقلاني المعنى قالوا أخبرنا عبد الرزاق، قال: حَدَّثنا ابن جريج عن صفوان بن سليم عن سعيد بن المسيب عن رجل من الأنصار قال ابن أبي السري من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقل من الأنصار ثم اتفقوا يقال له بصرة، قال تزوجت امرأة بكراً في سترها فدخلت عليها فإذا هي حبلى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لها الصداق بما استحللت من فرجها والولد عبد لك فإذا ولدت فاجلدوها أو قال فحدوها. قال أبو داود: روى هذا الحديث قتادة عن سعيد بن يزيد عن ابن المسيب ويحيى بن أبي كثير عن يزيد بن نعيم عن ابن المسيب وعطاء الخراساني عن ابن المسيب أرسلوه عن النبي صلى الله عليه وسلم.

ومن باب في القسم بين النساء

قال الشيخ هذا الحديث لا أعلم أحداً من الفقهاء قال به وهو مرسل ولا أعلم أحداً من العلماء اختلف في أن ولد الزنا حر إذا كان من حرة فكيف يستعبده ويشبه أن يكون معناه أن ثبت الخبر أنه أوصاه به خيراً أو أمره باصطناعه وتربيته واقتنائه لينتفع بخدمته إذا بلغ فيكون كالعبد له في الطاعة مكافأة له على إحسانه وجزاء لمعروفه. وفيه حجة إن ثبت الحديث لمن رأى الحمل من الفجور يمنع عقد النكاح وهو قول سفيان الثوري وأبي يوسف وأحمد بن حنبل وإسحاق. وقال أبو حنيفة ومحمد بن الحسن النكاح جائز وهو قول الشافعي والوطء على مذهبه مكروه ولا عدة عليها في قول أبي يوسف وكذلك عند الشافعي. قال الشيخ ويشبه أن يكون إنما جعل لها صداق المثل دون المسمى لأن في هذا الحديث من رواية زيد بن نعيم عن ابن المسيب أنه فرق بينهما ولو كان النكاح وقع صحيحاً لم يجب التفريق لأن حدوث الزنا بالمنكوحة لا يفسخ النكاح ولا يوجب للزوج الخيار. ويحتمل أن يكون الحديث إن كان له أصل منسوخا والله أعلم. ومن باب في القسم بين النساء قال أبو داود: حدثنا أبو الوليد الطيالسي، قال: حَدَّثنا همام، قال: حَدَّثنا قتادة عن النضر بن أنس عن بشير بن نهيك، عَن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل. قال الشيخ في هذا دلالة على توكيد وجوب القسم بين الضرائر الحرائر وإنما المكروه من الميل هو ميل العشرة الذي يكون معه بخس الحق دون ميل

ومن باب الرجل يتزوج امرأة ويشرط لها دارها

القلوب فإن القلوب لا تملك فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسوي في القسم بين نسائه ويقول اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تواخذني فيما لا أملك، وفي هذا نزل قوله تعالى {ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولوحرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة} [النساء: 129] . قال أبو داود: حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح، قال: حَدَّثنا ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب أن عروة بن الزبير حدثه أن عائشة رضي الله عنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد السفر أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه، وكان يقسم لكل امرأة منهن يومها وليلتها غيرأن سودة بنت زمعة وهبت يومها لعائشة. قال الشيخ فيه إثبات القرعة وفيه أن القسم قد يكون بالنهار كما يكون بالليل وفيه أن الهبة قد تجري في حقوق عشرة الزوجية كما تجري في حقوق الأموال. واتفق أكثر أهل العلم على أن المرأة التي تخرج بها في السفر لا يحسب عليها بتلك المدة للبواقي ولا تقاص بما فاتهن في أيام الغيبة إذا كان خروجها بقرعة. وزعم بعض أهل العلم أن عليه أن يوفي للبواقي ما فاتهن أيام غيبته حتى يساوينها في الحظ. والقول الأول أولى لاجتماع عامة أهل العلم عليه، ولأنها إنما أرفقت بزيادة الحظ بما يلحقها من مشقة السفر وتعب السير والقواعد خليات من ذلك فلو سوى بينها وبينهن لكان في ذلك العدول عن الانصاف والله أعلم. ومن باب الرجل يتزوج امرأة ويشرط لها دارها قال أبو داود: حدثنا عيسى بن حماد المصري، قال: حَدَّثنا اليث عن يزيد بن أبي حبيب، عَن أبي الخير عن عقبة بن عامر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: أحق

ومن باب في ضرب النساء

الشروط أن يوفى به ما استحللتم به الفروج. قال الشيخ كان أحمد بن حنبل واسحاق بن راهويه يريان أن من تزوج امرأة على أن لا يخرجها من دارها أو لا يخرج بها إلى البلد أو ما أشبه ذلك أن عليه الوفاء بذلك وهو قول الأوزاعى وقد روي معناه عن عمر رضي الله عنه. وقال سفيان وأصحاب الرأي إن شاء ينقلها عن دارها كان له؛ وكذلك قال الشافعي ومالك، وقال النخعي كل شرط في نكاح فإن النكاح يهدمه إلاّ الطلاق وهو مذهب عطاء والشعبي والزهري وقتادة وابن المسيب والحسن وابن سيرين قال وتأويل الحديث على مذهب هؤلاء أن يكون ما يشترطه من ذلك خاصاً في المهر والحقوق الواجبة التي هي مقتضى العقد دون غيرها مما لا يقتضيه والله أعلم. ومن باب في ضرب النساء قال أبو داود: حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح، قال: حَدَّثنا سفيان عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن أياس بن عبد الله بن أبي ذباب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تضربوا إماء الله فجاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ذئِرن النساء على أزواجهن فرخص في ضربهن فأطاف بآل رسول الله صلى الله عليه وسلم نساء كثير يشكون أزواجهن فقال صلى الله عليه وسلم: لقد طاف بآل محمد نساء كثير يشكون أزواجهن ليس أولئك بخياركم. قوله ذئرن معناه سوء الخلق والجرأة على الأزواج والذائر المغتاظ على خصمه المستعد للشر، ويقال اذرأت الرجل بالشر إذا اغريته به فيكون معناه على هذا أنهن أغرين بأزواجهن واستخففن بحقوقهم. وفي الحديث من الفقه أن ضرب النساء في منع حقوق النكاح مباح إلاّ أنه ضرب غير مبرح.

ومن باب حق المرأة على الزوج

وفيه بيان أن الصبر على سوء أخلاقهن والتجافي عما يكون منهن أفضل. ومن باب حق المرأة على الزوج قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل، قال: حَدَّثنا حماد قال أخبرنا أبو قزعة سويد بن حجر الباهلي عن حكيم بن معاوية القشيري عن أبيه قال قلت يا رسول الله ما حق زوجة أحدنا عليه، قال أن تطعمها إذا طعمت وتكسوها إذا اكتسيت ولا تضرب الوجه ولا تقبح ولا تهجر إلاّ في البيت. قال الشيخ في هذا إيجاب النفقة والكسوة لها وليس في ذلك حد معلوم، وإنما هو على المعروف وعلى قدر وسع الزوج وجِدته وإذا جعله النبي صلى الله عليه وسلم حقا لها فهولازم للزوج حضر أو غاب وإن لم يجده في وقته كان ديناً عليه إلى أن يؤديه إليها كسائر الحقوق الواجبة، وسواء فرض لها القاضي عليه أيام غيبته أو لم يفرض. وفي قوله ولا تضرب الوجه دلالة على جواز الضرب على غير الوجه إلاّ أنه ضرب غير مبرح، وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن ضرب الوجه نهياً عاماً لا تضرب آدمياً ولا بهيمة على الوجه. وقوله ولا تقبح معناه لا يسمعها المكروه ولا يشتمها بأن يقول قبحك الله وما أشبهه من الكلام. وقوله لا تهجر إلاّ في البيت أي لا تهجرها إلاّ في المضجع ولا تتحول عنها أو تحولها إلى دار أخرى. ومن باب ما يؤمر به من غض البصر قال أبو داود: حدثنا إسماعيل بن موسى الفزاري قال أخبرنا شريك، عَن أبي

ربيعة الإيادي عن ابن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه لا تتبع النظرة النظرة فإن لك الأولى وليس لك الآخرة. قال الشيخ النظرة الأولى إنما تكون له لا عليه إذا كانت فجأة من غير قصد أو تعمد وليس له أن يكرر النظر ثانية ولا له أن يتعمده بدءا كان أو عودا. قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير، قال: حَدَّثنا سفيان، قال: حَدَّثنا يونس بن عبيد عن عمرو بن سعيد، عَن أبي زرعة عن جرير، قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفجأة فقال اصرف بصرك. قال الشيخ ويروى اطرق بصرك حدثنا ابن الأعرابي، قال: حَدَّثنا علي بن عبد العزيز، قال: حَدَّثنا أبو نعيم حدثنا سفيان عن يونس بن عبيد عن عمر بن سعيد، عَن أبي زرعة عن جرير، قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفجأة فقال اطرق بصرك. قال الشيخ الأطراق أن يقبل ببصره إلى صدره والصرف أن يقبله إلى الشق الآخر أو الناحية الأخرى. قال أبو داود: حدثنا مسدد، قال: حَدَّثنا أبو عَوانة عن الأعمش، عَن أبي وائل، عَن أبي مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تباشر المرأة المرأة لتنعتها لزوجها كأنما ينظر إليها. قال الشيخ فيه دلالة على أن الحيوان قد يضبط بالصفة ضبط حصر وإحالة واستدلوا به على جواز السلم في الحيوان. قال أبو داود: حدثنا محمد بن عبيد، قال: حَدَّثنا أبو ثور عن معمر قال أخبرنا طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال ما رأيت شيئا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة

ومن باب وطء السبايا

عن النبي صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة فزنا العينين النظر، وزنا اللسان النطق تمنّى وتشتهي والفرج يصدق ذلك ويكذبه. قال الشيخ قوله اشبه باللمم يريد بذلك ما عفا الله عنه من صغائر الذنوب وهو معنى قوله تعالى {الذين يجتنبون كبائر الاثم والفواحش إلاّ اللمم} [الشورى: 37] وهو ما يلم به الإنسان من صغائر الذنوب التي لا يكاد يسلم منها إلاّ من عصمه الله تعالى وحفظه وإنما سمي النظر زنا والقول زنا لأنهما مقدمتان للزنا فإن البصر رائد واللسان خاطب والفرج مصدق للزنا ومحقق له بالفعل. وفي قوله والفرج يصدق ذلك ويكذبه مستدل لمن جعل المتلوط زانياً يجلد أو يرجم كسائر الزناة وذلك أنه قد واقع الفرج بفرجه وهو صورة الزنا حقيقة. ومن باب وطء السبايا قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن عمر بن ميسرة، قال: حَدَّثنا يزيد بن زريع، قال: حَدَّثنا سعيد عن قتادة عن صالح بن أبي الخليل، عَن أبي علقمة الهاشمي، عَن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث يوم حنين بعثاً إلى أوطاس فلقوا العدو فقاتلوهم وظهروا عليهم وأصابوا لهم سبايا فكأن أناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تحرجوا من غشيانهن من أجل أزواجهن من المشركين فأنزل الله في ذلك {والمحصنات من النساء إلاّ ما ملكت أيمانكم} [النساء: 24] أي فهن لهم حلال إذا انقضت عدتهن. قال الشيخ المحصنات من النساء معناه المتزوجات، وفيه بيان أن الزوجين إذا سبيا معاً فقد وقعت الفرقة بينهما كما لو سبي أحدهما دون الآخر. وإلى هذا ذهب مالك والشافعي وأبو ثور واحتجوا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم السبي، وأمر أن لا توطأ حامل حتى تضع ولا حائض حتى تحيض، ولم

يسأل عن ذات زوج وغيرها ولا عمن كانت سبيت منهن مع الزوج أو وحدها فدل أن الحكم في ذلك واحد. وقال أبو حنيفة إذا سبيا جميعاً فهما على نكاحهما الأول وقال الأوزاعي ما كان في المقاسم فهما على نكاحهما فإن اشتراهما رجل فشاء أن يجمع بينهما جمع وإن شاء فرق بينهما واتخذها لنفسه بعد أن يستبرئها بحيضة. وفي قوله إذا انقضت عدتهن دليل على ثبوت أنكحة أهل الشرك ولولا ذلك لم يكن للعدة معنى. وقد تأول ابن عباس الاية في الأمة يشتريها ولها زوج، فقال بيعها طلاقها وللمشتري اتخلذها لنفسه وهو خلاف أقاويل عامة العلماء، وحديث بريرة يدل على خلاف قوله. قال أبو داود: حدثنا النفيلي، قال: حَدَّثنا مسكين، قال: حَدَّثنا شعبة عن يزيد بن خمير عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه، عَن أبي الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في غزوة فرأى امرأة مُخجاً فقال لعل صاحبها ألمَّ بها قالوا نعم، قال لقد هممت أن ألعنه لعنة تدخل معه في قبره كيف يورثه وهولا يحل له. قال الشيخ المخج الحامل المقرب، وفيه بيان أن وطئ الحبالى من النساء لا يجوز حتى يضعن حملهن. وقوله كيف يورثه وهو لا يحل له أم كيف يستخدمه وهو لا يحل له، يريد أن ذلك الحمل قد يكون من زوجها المشرك فلا يحل له استلحاقه وتوريثه، وقد يكون منه إذا وطئها أن ينفش ما كان في الظاهر حملاً وتعلق من وطئه فلا يجوز له سبيه واستخدامه.

وفي هذا دليل على أنه لا يجوز استرقاق الولد بعد الوطء إذا كان وضع الحمل بعده بمدة تبلغ أدنى مدة الحمل وهو ستة أشهر. قال أبو داود: حدثنا عمرو بن عون، قال: حَدَّثنا شريك عن قيس بن وهب، عَن أبي الودّاك، عَن أبي سعيد الخدري ورفعه أنه صلى الله عليه وسلم قال في سبايا أوطاس لا توطأ حامل حتى تضع ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة. قال الشيخ فيه من الفقه أن السبي ينقض الملك المتقدم ويفسخ النكاح. وفيه دليل على أن استحداث الملك يوجب الاستبراء في الإماء فلا توطأ ثيب ولا عذراء حتى تستبري بحيضة ويدخل في ذلك المكاتبة إذا عجزت فعادت إلى الملك المطلق؛ وكذلك من رجعت إلى ملكه بإقالة بعد البيع وسواء كانت الأمة مشتراة من رجل أو امرأة لأن العموم يأتي على ذلك أجمع. وفي قوله حتى تحيض دليل على أنه إذا اشتراها وهي حائض فإنه لا يعتد بتلك الحيضة حتى تستبرىء بحيضة مستأنفة. وقد يستدل بهذا الحديث من يى أن الحامل لا تحيض وأن الدم الذي ترام أيام حيضها غير محكوم له بحكم الحيض في ترك الصلاة والصيام، قال وذلك لأنه جعل الحيض دليل براءة الرحم فلو صح وجوده مع الحمل لانتقضت دلالته في الاستبراء ولم يكن للفرق الذي جاء في هذا الحديث بينهما معنى، وإلى هذا ذهب أصحاب الرأي. وقال الشافعي الحامل تحيض وإذا رأت الدم المعتاد أمسكت عن الصلاة وإنما جعل الحيض في الحامل علماً لبراءة الرحم من طريق الظاهر فإذا جاء ما هو

ومن باب جامع النكاج

أظهر منه وأقوى في الدلالة سقط اعتباره ويأمرها بأن تمسك عن الصلاة ولا تنقضي عدتها إلاّ بوضع الحمل، وذهب إلى أن وجود الدم لا يمنع من وجود الاعتداد بالحمل كما لم يمنع وجوده في المتوفى عنها زوجها من الاعتداد بالأربعة الأشهر والعشر. قال أبو داود: حدثنا النفيلي، قال: حَدَّثنا محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق، قال حدثني يزيد بن أبي حبيب، عَن أبي مرزوق عن حنش الصنعاني عن رويفع بن ثابت الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين لا يحل لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسقي ماءه زرع غيره، يَعني اتيان الحبالى. قال الشيخ شبه صلى الله عليه وسلم الولد إذا علق بالرحم بالزرع إذا نبت ورسخ في الأرض وفيه كراهة وطء الحبلى إذا كان الحبل من غير الواطىء على الوجوه كلها، وقد يستدل به من يرى الحاق الولد بالواطئين إذا كان ذلك منهما، وقالوا قد شبه النبي صلى الله عليه وسلم الولد بالزرع أي كما يزيد الماء في الزرع كذلك يزيد المني في الولد. قال الشيخ وهذا تشبيه علي معنى التقريب وهو في قوله زرع غيره قطع إضافة ملك الزرع عن الساقى وإثباته لرب الزرع وهو الزارع فقياسه في التشبيه به أن لا يكون الولد لهما جميعاً وإنما يكون لأحدهما. ومن باب جامع النكاج قال أبو داود: حدثنا عبد العزيز بن يحيى أبو الأصبغ قال حدثني محمد بن يونس بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن أبان بن صالح عن مجاهد عن ابن عباس قال إن ابن عمر والله يغفر له. أوهم إنما كان هذا الحي من الأنصار وهم أهل وثن مع هذا الحي من يهود وهم أهل كتاب وكانوا يرون لهم فضلاً عليهم

في العلم فكانوا يقتدون بكثير من فعلهم، وكان من أمر أهل الكتاب أن لا يأتوا النساء إلاّ على حرف واحد، وذلك أستر ما تكون المرأة فكان هذا الحي من الأنصار قد أخذوا بذلك من فعلهم، وكان هذا الحي من قريش يشرحون النساء شريحاً منكراً ويتلذذون منهن مقبلات ومدبرات ومستلقيات فلما قدم المهاجرون المدينة تزوج رجل منهم امرأة من الأنصار فذهب يصنع بها ذلك فأنكرته عليه وقالت إنما كنا نؤتى على حرف فأصنع ذلك وإلا فاجتنبني حتى شرى أمرهما فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى {نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم} [البقرة: 223] أي مقبلات ومدبرات، يَعني بذلك موضع الولد. قال الشيخ قوله أوهم ابن عمر هكذا وقع في الرواية والصواب وهم بغير ألف يقال وهم الرجل إذا غلط في الشيء، ووهم مفتوحة الهاء إذا ذهب وهمه إلى الشيء وأوهم بالألف إذا أسقط من قراءته أو كلامه شيئاً، ويشبه أن يكون قد بلغ ابن عباس عن ابن عمر في تأويل الآية شيء خلاف ما كان يذهب إليه ابن عباس. وقوله يشرحون النساء أصل الشرح في اللغة البسط ومنه انشراح الصدر بالأمر وهو انفتاحه ومن هذا قولهم شرحت المسألة إذا فتحت المنغلق منها وبينت المشكل من معناها. وقوله حتى شرى أمرهما أي ارتفع وعظم، وأصله من قولك شرى البرق إذا لج في اللمعان واستشرى الرجل إذا لج في الأمر. وفيه بيان تحري إتيان النساء في أدبارهن مع ما جاء في النهي في ذلك في سائر الأخبار.

ومن باب في اتيان الحائض

ومن باب في اتيان الحائض قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل، قال: حَدَّثنا حماد، قال: حَدَّثنا ثابت البناني عن أنس بن مالك أن اليهود كانت إذا حاضت منهم امرأة اخرجوها من البيت ولم يواكلوها ولم يشاربوها ولم يجامعوها في البيت فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فأنزل الله تعالى {ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض} [البقرة: 222] إلى آخر الآية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم جامعوهن في البيوت واصنعوا كل شيء غير النكاح، فقالت اليهود ما يريد هذا الرجل أن يدع شيئاً من أمرنا إلا خالفنا فيه فجاء أُسيد بن حضير وعباد بن بشر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالا يا رسول الله إن اليهود تقول كذا وكذا أفلا ننكحهن في المحيض فتمعر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظننا أنه قد وجد عليهما فخرجا فاستقبلتهما هدية من لبن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث في آثارهما فظننا أنه لم يجد عليهما. معناه علمناه وذلك أنه لا يدعوهما إلى مجالسته ومواكلته إلاّ وهو غير واجد عليهما والظن يكون بمعنيين أحدهما بمعنى الحسبان والآخر بمعنى اليقين فكان اللفظ الأول منصرفاً إلى الحسبان والآخر إلى العلم وزوال الشك كقول دريد بن الصمة: فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج ... سراتهم بالفارسي المسردد قال أبو داود: حدثنا محمد بن العلاء ومسدد قالا: حَدَّثنا حفص عن الشيباني عن عبد الله بن شداد عن خالته ميمونه بنت الحارث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يباشر امرأة من نسائه وهي حائض أمرها أن تتزر ثم يباشرها. قال الشيخ في هذا دليل على أن ما تحت الازار من الحيض حمى لا يقرب،

ومن باب في العزل

وإليه ذهب مالك بن أنس وأبو حنيفة وهو قول سعيد بن المسيب وشريح وعطاء وطاوس وقتادة. ورخص بعضهم في اتيانها دون الفرج وهو قول عكرمة، وإلى نحو من هذا أشار الشافعي. وقال إسحاق إن جامعها دون الفرج لم يكن به بأس، وقول أبي يوسف ومحمد قريب من ذلك. ومن باب في العزل قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، قال: حَدَّثنا الفضل بن دُكين، قال: حَدَّثنا زهير، عَن أبي الزبير عن جابر، قال جاء رجل من الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن لي جارية أطوف عليها وأنا أكره أن تحمل، فقال أعزل عنها إن شئت فأنه سيأتيها ما قدر لها، قال فلبث الرجل ثم أتاه فقال إن الجارية قد حملت، قال قد أخبرتك أنه سيأتيها ما قدر لها. قال في هذا الحديث من العلم اباحة العزل عن الجواري، وقد رخص فيه غير واحد من الصحابة والتابعين وكرهه بعض الصحابة. وروي عن ابن عباس أنه قال تستأمر الحرة في العزل ولا تستأمر الجارية وإليه ذهب أحمد بن حنبل. وقال مالك لا يعزل عن الحرة إلاّ بإذنها ولا يعزل عن الجارية إذا كانت زوجة إلاّ بإذن أهلها ويعزل عن أمته بغير إذن. وفي الحديث دلالة على أنه إذا أقر بوطء أمته وادعى العزل فان الولد لاحق به إلاّ أن يدعي الاستبراء وهذا على قول من يرى الأمة فراشاً وإليه ذهب الشافعي.

ومن باب ما يكره من ذكر الرجل

ومن باب ما يكره من ذكر الرجل ما يكون بينه وبين أهله قال أبو داود: حدثنا مسدد، قال: حَدَّثنا بشر، قال: حَدَّثنا الجريري، عَن أبي نضرة قال حدثني شيخ من طفاوة قال تثوّيت أبا هريرة بالمدينة فلم أر رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أشد تشميراً وأقوم على ضيف منه وساق الحديث إلى أن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن نَّساني الشيطان شيئاً من صلواتي فليسبح القوم وليصفق النساء. قوله تثويت أبا هريرة معناه جئته ضيفاً، والثوى معناه الضيف وهذا كما تقول تضيفته إذا ضفته وقوله فليسبح القوم يريد الرجال دون النساء ومرسل اسم القوم في اللغة إنما ينطلق على الرجال دون النساء قال زهير: وما أدري وسوف أخال أدري ... أقوم آل حصن أم نساء ويدل على ذلك قوله وليصفق النساء فقابل النساء فدل أنهن لم يدخلن فيهم. كتاب الطلاق ومن باب المرأة تسأل زوجها طلاق امرأة له قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك، عَن أبي الزناد عن الأعرج، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تسأل المرأة طلاق أختها لتستفرغ صَحْفَتَها ولتنكح فإنما لها ما قدر لها. قال الشيخ قوله لتستفرغ صحفتها مثل يريد بذلك الاستئثار عليها بحظها فتكون كمن أفرغ صحفة غيره فكفأ ما في انائه فقلبه في إناء نفسه.

ومن باب كراهية الطلاق

ومن باب كراهية الطلاق قال أبو داود: حدثنا كثير بن عبيد، قال: حَدَّثنا محمد بن خالد عن معروف بن واصل عن محارب بن دثار عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ابغض الحلال إلى الله الطلاق. قال الشيخ المشهور في هذا عن محارب بن دثار مرسل عن النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيه ابن عمر، ومعنى الكراهة فيه منصرف إلى السبب الجالب للطلاق وهو سوء العشرة وقلة الموافقة لا إلى نفس الطلاق فقد أباح الله الطلاق وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه طلق بعض نسائه ثم راجعها، وكانت لابن عمر امرأة يحبها وكان عمر رضي الله عنه يكره صحبته إياها فشكاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا به وقال يا عبد الله طلق امرأتك فطلقها وهو لا يأمر بأمر يكرهه الله. ومن باب طلاق السنة قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل عمر بن الخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم أن شاء أمسك بعد ذلك وإن شاء طلق قبل أن يمس فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء. قال الشيخ قوله فتلك العدة التي أمرالله أن يطلق لها النساء، فيه بيان أن الاقراء التي تعتد بها هي الاطهار دون الحيض، وذلك أن قوله فتلك إشارة إلى ما دل الكلام المتقدم. وقد تقدم ذكر الحيض قبل ذلك فلم يعلق الحكم عليه ثم أتبعه ذكر الطهر

وقال عند ذلك فتلك العدة التي أمر الله فعلم أنه وقت العدة وزمانه. ومعنى الكلام في قوله لها معنى في يريد إنهاء العدة التي يطلق فيها النساء كما يقول القائل كتبت لخمس خلون من الشهر أي وقت خلا فيه من الشهر خمس ليال وإذا كان وقت الطلاق الطهر ثبت أنه محل العدة، وهو معنى قوله فطلقوهن لعدتهن أي في وقت عدتهن. وبيان ذلك قوله واحصوا العدة فعلم أن العدة التي أمر أن يطلق لها هي التي تحيضها، ومما يؤكد ذلك قوله ثم إن شاء أمسك بعد ذلك وإن شاء طلق فدل أن الطهر هو المعتد به في الاقراء ولولا أنه كذلك لأمره بأن يهل حتى يكون آخر وقت الطهر وتشارف الحيض فيقول له حينئذ طلق لأنه إنما نهى عن الطلاق في الحيض لئلا يطول عليها العدة فلم يكن ليجوزه في هذا وذلك المعنى بعينه موجود. وفي الحديث دليل على أن الطلاق في الحيض بدعة وأن من طلق في الحيض وكانت المرأة مدخولاً بها وقد بقي من طلاقها شيء فان عليه أن يراجعها. وفي قوله وإن شاء طلق قبل أن يمس دليل على أن من طلق امرأته في طهر كان أصابها فيه فإن عليه مراجعتها لأن كل واحد منهما مطلق لغير السنة وإذا اجتمعا في هذه العلة وجب أن يجتمعا في وجوب حكم الرجعة وهذا على معنى وجوب استعمال حكم السنة فيه. وقال مالك بن أنس يلزمه لزوماً لا يسعه غير ذلك. وفيه دليل على أن طلاق البدعة يقع كوقوعه للسنة إذ لو لم يكن واقعاً لم يكن لمراجعته إياها معنى. وقالت الخوارج والروافض إذا طلق في وقت الحيض لم تطلق.

وفيه دلالة على أنه لا يحتاج في مراجعتها إلى إذن الولي أو رضاء المرأة لأنه أمره بمراجعتها وأطلق فعلها له من غير شرط قرنه به. وفيه مستدل لمن ذهب إلى أن السنة أن لا يطلق أكثر من واحدة فان جمع بين التطليقتين أو الثلاثة فهو بدعة، وهو قول مالك وأصحاب الرأي. ووجه الاستدلال منه أنه لما أمره أن لا يطلق في الطهر الذي يلي الحيض علم أنه ليس له أن يطلقها بعد الطلقة الأولى حتى يستبرئها بحيضة فيخرج من هذا ان ليس للرجل إيقاع تطليقتين في قرء واحد. وقال الشافعي إنما هي في الوقت دون العدد وله أن يطلقها واحدة وثنتين وثلاثاً، وتأول أصحابه الخبر على أنه إنما منعه من طلاقها في ذلك الطهر لئلا تطول عليها العدة لأن المراجعة لم تكن تنفعها حينئذ فإذا كان كذلك كان يجب عليه أن يجامعها في الطهر ليتحقق معنى المراجعة، وإذا جامعها لم يكن له أن يطلق لأن الطلاق السني هو الذي يقع في طهر لم يجامع فيه على أن أكثر الروايات أنه قال مرة فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم إن شاء أمسك وإن شاء طلق، هكذا رواية يونس بن جبير عن ابن عمر وكذلك رواية أنس بن سيرين وزيد بن أسلم وأبو وائل، وكذلك رواه سالم عن ابن عمر من طريق محمد بن عبد الرحمن عن سالم وإنما روى هذه الزيادة نافع عنه، وقد روي أيضاً عن سالم من طريق الزهري. وقد زعم بعض أهل العلم أن من قال لزوجته وهي حائض إذا طهرت فأنت طالق فإنه غير مطلق للسنة، واستدل بقوله ثم إن شاء أمسك وإن شاء طلق،

قال فالمطلق للسنة هو الذي يكون مخيراً في وقت طلاقه بين إيقاع الطلاق وتركه ومن سبق منه هذا القول في وقت الحيض زائل عنه الخيار في وقت الطهر. قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، قال: حَدَّثنا وكيع عن سفيان عن محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة عن سالم عن ابن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض فذكر ذلك عمر رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مره فليراجعها ثم ليطلقها إذا طهرت أو وهي حامل. قال الشيخ في هذا بيان أنه إذا طلقها وهي حامل فهو مطلق للسنة ويطلقها أي وقت شاء في الحمل وهو قول عامة العلماء، إلاّ أن أصحاب الرأي اختلفوا فيها فقال أبو حنيفة وأبو يوسف يجعل بين وقوع التطليقتين شهراً حتى يستوفي الطلقات الثلاث. وقال محمد بن الحسن وزفر لا يوقع عليها وهي حامل أكثر من تطليقة واحدة ويتركها حتى تضع حملها ثم يوقع سائر التطليقات. قال أبو داود: حدثنا القعنبي قال حدثني يزيد بن إبراهيم عن محمد بن سيرين قال حدثني يونس بن جبير قال سألت عبد الله بن عمر قال قلت رجل طلق امرأته وهي حائض، قال تعرف عبد الله بن عمر قلت نعم، قال فإن عبد الله بن عمر طلق امرأته وهي حائض فأتى عمر النبي صلى الله عليه وسلم فسأله فقال مره فليراجعها ثم ليطلقها في قبل عدتها، قال فقلت فيعتد بها قال فمه أرأيت إن عجز واستحمق. قال الشيخ فيه بيان إن الطلاق في الحيض واقع ولولا أنه قد وقع لم يكن لأمره بالمراجعة معنى. وفي قوله أرأيت إن عجز واستحمق حذف واضمار كأنه يقول أرأيت إن

ومن باب نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث

عجز واستحمق أسقط عنه الطلاق حمقه أو يبطله عجزه. وفي قوله ثم ليطلقها في قبل عدتها بيان أنها تستقبل عدتها وتنشئها من لدن وقت وقوع الطلاق وهي حال الطهر. قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح، قال: حَدَّثنا عبد الرزاق قال أخبرنا ابن جريج قال أخبرني أبو الزبير أنه سمع عبد الرحمن بن أيمن مولى عروة يسأل ابن عمر وأبو الزبير يسمع قال كيف ترى في رجل طلق امرأته، حائضاً قال طلق عبد الله بن عمر امرأته وهي حائض فسأل عمر رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن عبد الله بن عمر طلق امرأته وهي حائض، فقال عبد الله فردها عليّ ولم يرها شيئاً. قال الشيخ حديث يونس بن جبير أثبت من هذا، وقال أبو داود جاءت الأحاديث كلها بخلاف ما رواه أبو الزبير، وقال أهل الحديث لم يرْو أبو الزبير حديثا أنكر من هذا، وقد يحتمل أن يكون معناه أنه لم يره شيئا باتاً يحرم معه المراجعة ولا تحل له إلاّ بعد زوج أو لم يره شيئاً جائزاً في السنة ماضياً في حكم الاختيار وإن كان لازماً على سبيل الكراهة والله أعلم. ومن باب نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح، قال: حَدَّثنا عبد الرزاق قال أخبرنا ابن جريج قال أخبرني بعض بني رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم عن عكرمة عن ابن عباس قال طلق عبد يزيد أبو ركانة أم ركانة ونكح امرأة من مزينة فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت ما يغني عني إلاّ كما تغني هذه الشعرة لشعرة أخذتها من رأسها ففرق بيني وبينه فأخذت النبي صلى الله عليه وسلم حمية فدعا بركانة واخوته ثم قال لجلسائه

أترون فلاناً يشبه منه كذا أو كذا من عبد يزيد، قالوا نعم قال لعبد يزيد طلقها ففعل، ثم قال راجع امرأتك أم ركانة، فقال إني طلقتها ثلاثاً يا رسول الله ققال قد علمت ارجعها وتلا {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن} [الطلاق: 1] الآية. قال الشيخ في إسناد هذا الحديث مقال لأن ابن جريج إنما رواه عن بعض بني أبي رافع ولم يسمعه والمجهول لا يقوم به الحجة. وقد روى أبو داود هذا الحديث بإسناد أجود منه أن ركانة طلق امرأته البتة فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أردت إلاّ واحدة فقال ركانة والله ما أردت إلاّ واحدة فردها إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فطلقها الثانية في زمان عمر والثالثة في زمان عثمان رضي الله عنهما. قال أبو داود: حدثنا ابن السرح وإبراهيم بن خالد الكلبي في آخرين قالوا حدثنا الشافعي قال حدثني عمي محمد بن علي بن شافع عن عبد الله بن علي بن السائب عن نافع بن عجير بن عبد يزيد بن ركانة وذكر الحديث، قال أبو داود وهذا أولى لأنهم ولد الرجل وأهله وهم أعلم به. قال الشيخ قد يحتمل أن يكون حديث ابن جريج إنما رواه الراوي على المعنى دون اللفظ وذلك أن الناس قد اختلفوا في البتة، فقال بعضهم هي ثلاثة، وقال بعضهم هي واحدة وكأن الراوي له ممن يذهب مذهب الثلاث فحكي أنه قال إني طلقتها ثلاثا يريد البتة التي حكمها عنده حكم الثلاث والله أعلم. وكان أحمد بن حنبل يضعف طرق هذه الأحاديث كلها. قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح، قال: حَدَّثنا عبد الرزاق قال أخبرنا ابن جريج، قال أخبرني ابن طاوس عن أبيه أن أبا الصهباء قال لابن عباس أتعلم إنما

كانت الثلاث تجعل واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وثلاثاً إمارة عمر قال ابن عباس نعم. قال الشيخ اختلف الناس في تأويل ما روي من هذا عن ابن عباس فقال بعضهم قد كان هذا في الصدر الأول ثم نسخ. قال الشيخ وهذا لا وجه له لأن النسخ إنما يكون في زمان النبي صلى الله عليه وسلم والوحي غير منقطع فأما في زمان عمر رضي الله عنه فلا معنى للنسخ، وقد استقرت أحكام الشريعة وانقطع الوحي وإنما هو زمان الاجتهاد والرأي فيما لم يبلغهم عن النبي صلى الله عليه وسلم نص وتوقيف وحدثني الحسن بن يحيى عن ابن المنذر، وروى هذا الحديث، ثم روي عن ابن عبد الحكم عن ابن وهب عن سفيان الثوري عن عمرو بن مرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال لرجل طلق امرأته ثلاثا حرمت عليك، قال ابن المنذر فغير جائز أن يظن بابن عباس أن يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً ثم يفتي بخلافه. قال الشيخ ويشبه أن يكون معنى الحديث منصرفا إلى طلاق البتة، لأنه قد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ركانة أنه جعل البتة واحدة وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يراها واحدة، ثم تتابع الناس في ذلك فألزمهم الثلاث وإليه ذهب غير واحد من الصحابة رضي الله عنهم، روى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه جعلها ثلاثاً، وكذلك روي عن ابن عمر وكان يقول ابت الطلاق طلاق البتة، وإليه ذهب سعيد بن المسيب وعروة وعمر بن عبد العزيز والزهري، وبه قال مالك والأوزاعي وابن أبي ليلى وأحمد بن حنبل. وهذا كصنيعه بشارب الخمر فإن الحد كان في زمان النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر أربعين

ثم ان عمر لما رأى الناس تتابعوا في الخمر واستخفوا بالعقوبة فيها، قال أرى أن تبلغ فيها حد المفتري لأنه إذا سكر هذى، وإذا هذي افترى وكان ذلك عن ملأ من الصحابة فلا ينكر أن يكون الأمر في طلاق البتة على شاكلته. وفيه وجه آخر ذهب إليه أبو العباس بن شريح قال يمكن أن يكون ذلك إنما جاء في نوع خاص من الطلاق الثلاث وهو أن يفرق بين اللفظ كأنه يقول أنت طالق أنت طالق أنت طالق فكان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر والناس على صدقهم وسلامتهم ولم يكن ظهر فيهم الخب والخداع، فكانوا يصدقون أنهم أرادوا به التوكيد ولا يريدون الثلاث، فلما رأى عمر رضي الله عنه في زمانه أموراً ظهرت وأحوالاً تغيرت منه من حمل اللفظ على التكرار وألزمهم الثلاث. قال أبو داود: حدثنا محمد بن عبد الملك بن مروان،، قال: حَدَّثنا أبو النعمان، قال: حَدَّثنا حماد بن زيد عن أيوب عن غير واحد عن طاوس أن رجلا يقال له أبو الصهباء كان كثير السؤال لابن عباس؛ قال أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثاً قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدراً من إمارة عمر؛ فلما رأى الناس تتابعوا فيها قال أجيزوهن عليهم. قال الشيخ وهذا تأويل ثالث وهو أن ذلك إنما جاء في طلاق غير المدخول بها، وقد ذهب إلى هذا الرأي جماعة من أصحاب ابن عباس منهم سعيد بن جبير وطاوس وأبو الشعثاء وعطاء وعمرو بن دينار وقالوا من طلق البكر ثلاثاً فهي واحدة. وعامة أهل العلم على خلاف قولهم. وقال ربيعة بن أبي عبد الرحمن وابن أبي ليلى والأوزاعي والليث بن سعد

ومن باب في سنة طلاق العبد

ومالك بن أنس فيمن تابع بين كلامه فقال لإمرأته التي لم يدخل بها أنت طالق أنت طالق أنت طالق ثلاثاً لم يحل له حتى تنكح زوجا غيره، غير أن مالكاً قال إذا لم يكن له نية، وقال سفيان الثوري وأصحاب الرأي والشافعي وأحمد وإسحاق تبين بالأولى ولا حكم لما بعدها. ومن باب في سنة طلاق العبد قال أبو داود: حدثنا زهير بن حرب قال حدثني يحيى بن سعيد، قال: حَدَّثنا علي بن المبارك قال حدثني يحيى بن كثير أن عمر بن معتب أخبره أن أبا حسن مولى بني نوفل أخبره أنه استفتى ابن عباس في مملوك كانت تحته مملوكة فطلقها تطليقتين ثم أعتقها بعد ذلك هل يصلح له أن يخطبها قال نعم قضى بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الشيخ لم يذهب إلى هذا أحد من العلماء فيما أعلم، وفي إسناده مقال، وقد ذكرأبو داود عن أحمد بن حنبل عن عبد الرزاق أن ابن المبارك قال (¬1) أبوالحسن هذا قال لقد تحمل صخرة عظيمة. قال الشيخ يريد بذلك إنكار ما جاء به من الحديث ومذهب عامة الفقهاء أن المملوكة إذا كانت تحت مملوك فطلقها تطليقين أنها لا تحل له إلاّ بعد زوج. قال أبو داود: حدثنا محمد بن مسعود، قال: حَدَّثنا أبو عاصم عن ابن جريج عن مظاهر عن القاسم بن محمد عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال طلاق الأمة تطليقتان وقرؤها حيضتان قال أبو داود الحديثان جميعا ليس العمل عليهما. قال الشيخ اختلف العلماء في هذا فقالت طائفة الطلاق بالرجال والعدة بالنساء ¬

(¬1) هنا بياض في النسخة المصرية قدر كلمة وهي محررة في الطرطوشية (ص298) إلا أن معظمها قد أكلتها الأرضة وتعسر عليّ فهمها ولعلها لما سمع إلخ آدم.

ومن باب الطلاق قبل النكاح

روي ذلك عن ابن عمر وزيد بن ثابت وابن عباس وإليه ذهب عطاء بن أبي رباح وهو قول مالك والشافعي وأحمد وإسحاق. وإذا كانت أمة تحت حر فطلاقها ثلاث وعدتها قرءان وإن كانت حرة تحت عبد فطلاقها اثنتان وعدتها ثلاثة اقراء في قول هؤلاء. وقال أبو حنيفة وأصحابه وسفيان الثوري الحرة تعتد ثلاثة اقراء كانت تحت حر أو عبد وطلاقها ثلاث كالعدة، والأمة تعتد قرأين وتطلق بطلقتين سواء كانت تحت حر أو عبد. قال الشيخ والحديث حجة لأهل العراق إن ثبت ولكن أهل الحديث ضعفوه ومنهم من تأوله على أن يكون الزوج عبداً. ومن باب الطلاق قبل النكاح قال أبو داود: حدثنا مسلم بن إبراهيم، قال: حَدَّثنا هشام قال وحدثنا عبد الله بن الصباح العطار، قال: حَدَّثنا عبد العزيز بن عبد الصمد قالا: حَدَّثنا الوراق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا طلاق إلاّ فيما تملك ولا عتق إلاّ فيما تملك، ولا بيع إلاّ فيما تملك، زاد ابن الصباح ولا وفاء نذر فيما لا تملك. قال الشيخ قوله لا طلاق ومعناه نفي حكم الطلاق المرسل على المرأة قبل أن تملك بعقد النكاح وهويقتضي نفي وقوعه على العموم سواء كان في امرأة بعينها أو في نساء لا بأعيانهن. وقد اختلف الناس في هذا فروي عن علي وابن عباس وعائشة رضي الله عنهم أنهم لم يروا طلاقاً إلاّ بعد النكاح، وروي ذلك عن شريح وابن المسيب وعطاء

وطاوس وسعيد بن جبير وعروة وعكرمة وقتادة وإليه ذهب الشافعي. وروي عن ابن مسعود إيقاع الطلاق قبل النكاح وبه قال الزهري وإليه ذهب أصحاب الرأي. وقال مالك والأوزاعي وابن أبي ليلى إن خص امرأة بعينها أو قال من قبيلة أو بلد بعينه جاز وإن عم فليس بشيء، وكذلك قال ربيعة بن أبي عبد الرحمن. وقال سفيان الثوري نحواً من ذلك إذا قال إلى سنة أو وقت معلوم. وقال أحمد بن حنبل وأبو عبيد إن كان نكح لم يؤمر بالفراق وإن لم يكن نكح لم يؤمر بالتزويج، وقد روي نحواً من هذا عن الأوزاعي. قال الشيخ وأسعد الناس بهذا الحديث من قال بظاهره وأجراه على عمومه إذ لا حجة مع من فرق بين حال وحال والحديث حديث حسن. وقال أبو عيسى الترمذي سألت محمد بن إسماعيل فقلت أي شيء أصح في الطلاق قبل النكاح فقال حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وسئل ابن عباس عن هذا فقرأ قوله عز وجل {يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن} [الأحزاب: 49] الآية. وقوله ولا بيع إلاّ فيما تملك لا أعلم خلافاً أنه لوباع سلعة لا يملكها ثم ملكها أن البيع لا يصح فيها، فكذلك إذا طلق امرأة لم يملكها ثم ملكها وكذلك هذا في النذر وسنذكر الخلاف فيه في موضعه إن شاء الله. قال أبو داود: حدثنا محمد بن العلاء، قال: حَدَّثنا أبو أسامة عن الوليد بن كثير قال حدثني عبد الرحمن بن الحارث عن عمرو بن شعيب بإسناده ومعناه زاد ومن

ومن باب الطلاق على إغلاق

حلف على قطيعة رحم فلا يمين له. قال الشيخ هذا يحتمل وجهين أحدهما أن يكون أراد به اليمين المطلقة من الايمان فيكون معنى قوله لا يمين له أي لا يبر في يمينه ولكنه يحنث ويكفر كما روي أنه قال من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه. والوجه الآخر أن يكون أراد به النذر الذي مخرجه مخرج اليمين كقوله إن فعلت كذا فلله عليّ أن أذبح ولدي فإن هذه يمين باطلة لا يلزم الوفاء بها ولا يلزمه فيها كفارة ولا فدية، وكذلك هذا فيمن نذر أن يذبح ولده على سبيل التبرر والتقرب فالنذر لا ينعقد فيه والوفاء لا يلزم به وليس فيه كفارة والله أعلم. ومن باب الطلاق على إغلاق قال أبو داود: حدثنا عبيد الله بن سعد الزهري أن يعقوب بن إبراهيم حدثهم قال حدثني أبي، عَن أبي إسحاق عن ثور بن يزيد الحمصي عن محمد بن عبيد الله بن صالح الذي كان يسكن إيلياء عن صفية بنت شيبة عن عائشة رضي الله عنها قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا طلاق ولا عتاق في اغلاق. قال الشيخ معنى الإغلاق الإكراه وكان عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم لا يرون طلاق المكره طلاقاً. وهو قول شريح وعطاء وطاوس وجابر بن زيد والحسن وعمر بن عبد العزيز والقاسم وسالم. وإليه ذهب مالك بن أنس والأوزاعي والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه. وكان الشعبي والنخعي والزهري وقتادة يرون طلاق المكره جائزاً.

ومن باب الطلاق على الهزل

وإليه ذهب أصحاب الرأي وقالوا في بيع المكره أنه غير جائز. وقال شريح القيد كره والوعيد كره، وقال أحمد بن حنبل الكره إذا كان القتل أو الضرب الشديد. وقال أصحاب الشافعي في الكره إنما لا يمضي طلاقه إذا ورى عنه بشيء مثل أن ينوي طلاقاً من وثاق أو نحوه كما يكره على الكفر فيؤدي وهويعتقد بقلبه الايمان. ومن باب الطلاق على الهزل قال أبو داود: حدثنا القعنبي، قال: حَدَّثنا عبد العزيز، يَعني ابن محمد عن عبد الرحمن بن حبيب عن عطاء بن أبي رباح عن ابن ماهك، عَن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ثلاث جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق والرجعة. قال الشيخ اتفق عامة أهل العلم على أن صريح لفظ الطلاق إذا جرى على لسان البالغ العاقل فإنه مؤاخذ به ولا ينفعه أن يقول كنت لاعباً أو هازلاً أو لم أنو به طلاقاً أو ما أشبه ذلك من الأمور. واحتج بعض العلماء في ذلك بقول الله تعالى {ولا تتخذوا آيات الله هزواً} [البقرة: 231] وقال لو أطلق للناس ذلك لتعطلت الأحكام ولم يشأ مطلق أو ناكح أو معتق أن يقول كنت في قولي هازلاً فيكون في ذلك إبطال أحكام الله سبحانه وتعالى وذلك غير جائز فكل من تكلم بشيء مما جاء ذكره في هذا الحديث لزمه حكمه ولم يقبل منه أن يدعى خلافه وذلك تأكيد لأمر الفروج واحتياط له والله أعلم. واختلفوا في الخطأ والنسيان في الطلاق فقال عطاء وعمرو بن دينار فيمن

ومن باب ما عنى به الطلاق والنيات فيه

حلف على أمرلا يفعله بالطلاق ففعله ناسياً أنه لا يحنث. وقال الزهري ومكحول وقتادة يحنث وإليه ذهب مالك وأصحاب الرأي وهو قول الأوزاعي والثوري وابن أبي ليلى. وقال الشافعي يحنث في الحكم وكان أحمد بن حنبل يحنثه في الطلاق ويقف عند إيجاب الحنث في سائر الايمان إذا كان ناسياً. ومن باب ما عنى به الطلاق والنيات فيه قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير، قال: حَدَّثنا سفيان، قال: حَدَّثنا يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم التيمي عن علقمة بن وقاص الليثي قال سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه. قال الشيخ قوله إنما الأعمال بالنيات معناه أن صحة الأعمال ووجوب أحكامها إنما يكون بالنية فإن النية هي المصرفة لها إلى جهاتها ولم يرد به أعيان الأعمال لأن أعيانها حاصلة بغير نية ولو كان المراد به أعيانها لكان خلفاً من القول وكلمة إنما مرصدة لإثبات الشيء ونفي ما عداه. وفي الحديث دليل على أن المطلق إذا طلق بصريح لفظ الطلاق أو ببعض المكاني التي يطلق بها ونوى عدداً من أعداد الطلاق كان ما نواه من العدد واقعا واحدة أو اثنتين أو ثلاثا، وإلى هذه الجملة ذهب الشافعي. وصرف الألفاظ على مصارف النيات، وقال في الرجل يقول لامرأته أنت طالق ونوى به ثلاثاً إنما تطلق ثلاثاً، وكذلك قال مالك بن أنس وإسحاق بن راهويه وأبو عبيد

وقد روي ذلك عن عروة بن الزبير. وقال أصحاب الرأي واحدة وهو أحق بها وكذلك قال سفيان الثوري والأوزاعي وأحمد بن حنبل. وقال أصحاب الرأي في المكانى مثل قوله أنت بائن أو بتة فإنه يسأل عن نيته فإن لم ينو الطلاق لم يقع عليها طلاق وإن نوى الطلاق فهو ما نوى إن أراد واحدة فواحدة وإن نوى ثنتين فهي واحدة بائنة لأنها كلمة واحدة ولا يقع على اثنتين وإن نوى ثلاثا فهو ثلاث. وإن نوى الطلاق ولم ينو عدداً منه فهي واحدة بائنة، وكذلك كل كلام يشبه الفرقة مما أراد به الطلاق فهو مثل هذا كقوله حبلك على غاربك أو قد خليت سبيلك ولا ملك لي عليك والحقي بأهلك واستبري واعتدي. قال الشيخ وهذا كله عند الشافعي سواء فإن كان لم يرد به طلاقاً فليس بطلاق وإن أراد طلاقاً ولم ينو عدداً فهو تطليقة واحدة يملك فيها الرجعة وإن نوى ثنتين فهو ثنتان وإن نوى ثلاثاً فهو ثلاث وهذا أشبه بمعنى الحديث والله أعلم. قال أبو داود: حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح وسليمان بن داود المهري قالا: حَدَّثنا ابن وهب قال أخبرني يونس عن ابن شهاب قال أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك أن عبد الله بن كعب بن مالك وكان قائد كعب من بنيه حين عمى، قال سمعت كعب بن مالك فساق قصته في تبوك قال حتى إذا مضت أربعون من الخمسين إذا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك قال فقلت أطلقها أم ماذا أفعل بها، قال لا بل اعتزلها فلا تقربها، فقلت لامرأتي الحقي بأهلك وكوني عندهم حتى يقضي

ومن باب في الخيار

الله في هذا الأمر. قال الشيخ في هذا دلالة على أنه قال لها الحقي بأهلك ولم يرد به طلاقا فإنه لا يكون طلاقا والكنايات كلها على قياسه. وقال أبو عبيد في قوله الحقي بأهلك هو تطليقة يكون فيها البعل مالكاً للرجعة الا أن يكون أراد ثلاثاً. ومن باب في الخيار قال أبو داود: حدثنا مسدد، قال: حَدَّثنا أبو عَوانة عن الأعمش، عَن أبي الضحى عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها؛ قالت خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخترناه فلم يعد ذلك شيئا. قال الشيخ فيه دلالة على أنهن لو كن اخترن أنفسهن كان ذلك طلاقاً. وقد اختلف أهل العلم فيمن يخير امرأته فقال أكثر الفقهاء أمرها بيدها ما لم تقم من محلها فإن قامت ولم تطلق نفسها فقد خرج الأمر من يدها فيما بعد وإلى هذا ذهب مالك والثوري والأوزاعي وأصحاب الرأي وهو قول الشافعي وقد روي ذلك عن شريح ومسروق وعطاء ومجاهد والشعبي والنخعي. وقال الزهري وقتادة والحسن أمرها بيدها في ذلك المجلس وفي غيره ولا يبطل خيارها بقيامها من المجلس. واختلفوا فيه إذا اختارت نفسها فروي عن عمر وابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم أنهم قالوا هي واحدة وهي أحق بها وهو قول عمر بن عبد العزيز وابن أبي ليلى وسفيان الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق.

ومن باب في البتة

وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال هي واحدة بائنة وبه قال أصحاب الرأي. وقال مالك بن أنس إذا اختارت نفسها فهي ثلاث وإن اختارت زوجها يكون واحدة وهو أحق بها وروي ذلك عن الحسن البصري. ومن باب في البتة قال أبو داود: حدثنا ابن السرح وإبراهيم بن خالد والكلبي وأبو ثور في آخرين قالوا حدثنا محمد بن إدريس الشافعي حدثني عمي محمد بن علي بن شافع عن عبد الله بن علي بن السائب عن نافع بن عجير بن عبد يزيد بن ركانة أن ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته سهيمة البتة فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك وقال والله ما أردت إلاّ واحدة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والله ما أردت إلاّ واحدة، فقال ركانة والله ما أردت إلاّ واحدة فردها إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وطلقها الثانية في زمان عمر رضي الله عنه، والثالثة في زمان عثمان رضي الله عنه. قال أبو داود أول لفظ إبراهيم وآخره لفظ ابن السرح. قال الشيخ فيه بيان أن طلاق البتة واحدة إذا لم يرد بها أكثر من واحدة وأنها رجعية غير بائن. وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم حلفه في الطلاق فدل أن للايمان مدخلاً في الأنكحة وأحكام الفروج كهو في الأموال. وفيه أن يمين الحكم إنما تصح إذا كان باستحلاف من الحاكم دون ما كان تبرعاً منها من قبل الحالف. وفيه أن اليمين باسم النساء كاف على التجريد وإن لم يصلها بالتغليظ مثل

ومن باب الوسوسة في الطلاق

أن يقول بالله العظيم أو بالله الذي لا إله إلاّ هو الرحمن الرحيم الطالب الغالب مع سائر ما يقرن به من الألفاط التي قد جرت به عادة بعض الحكام. وقد اختلف الناس في البتة فذهب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أنها واحدة يملك الرجعة فيها، وروي نحوه عن سعيد بن جبير. وقال عطاء يدين فإن أراد واحدة فهي واحدة وإن أراد ثلاثا فثلاث، وهو قول الشافعي، وقال في البتة أنها ثلاث وروي ذلك عن ابن عمر أيضاً وهو قول ابن المسيب وعروة بن الزبير والزهري. وبه قال مالك وابن أبي ليلى والأوزاعي. وقال أحمد بن حنبل أخشى أن يكون ثلاثاً ولا أجترىء أفتي به. وقال أصحاب الرأي هي واحدة بائنة إن لم يكن له نية وإن نوى ثلاثاً فهو ثلاث. ومن باب الوسوسة في الطلاق قال أبو داود: حدثنا مسلم بن إبراهيم، قال: حَدَّثنا هشام عن قتادة عن زرارة بن أوفى، عَن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الله تعالى تجاوز لأمتي ما لم تتكلم به أو تعمل به وبما حدثت به أنفسها. قال الشيخ في هذا الحديث من الفقه أن حديث النفس وما يوسوس به قلب الإنسان لا حكم له في شيء من أمور الدين. وفيه أنه إذا طلق امرأته بقلبه ولم يتكلم به بلسانه فإن الطلاق غير واقع، وإلى هذا ذهب عطاء بن أبي رباح وسعيد بن جبير وقتادة والثوري وأصحاب الرأي وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق. وقال الزهري إذا عزم على ذلك وقع الطلاق لفظ به أو لم يلفظ، وإلى هذا

ومن باب الرجل يقول لامرأته يا اختي

ذهب مالك بن أنس والحديث حجة عليه. وقد أجمعوا على أنه لوعزم على الظهار لم يلزمه حتى يلفظ به وهوبمعنى الطلاق وكذلك لو حدث نفسه بالقذف لم يكن قذفاً ولو حدث نفسه في الصلاة لم يكن عليه إعادة وقد حرم الله تعالى الكلام في الصلاة فلو كان حديث النفس بمعنى الكلام لكانت صلاته تبطل. وإما إذا كتب بطلاق امرأته فقد يحتمل أن يكون ذلك طلاقاً لأنه قال ما لم تتكلم به أو تعمل به والكتابة نوع من العمل. إلاّ أنه قد اختلف العلماء في ذلك، فقال محمد بن الحسن إذا كتب بطلاق امرأته فقد لزمه الطلاق. وكذلك قال أحمد بن حنبل، وقال مالك والأوزاعي إذا كتب وأشهد عليه فله أن يرجع ما لم يوجه الكتاب، وإذا وجه الكتاب إليها فقد وقع الطلاق عند الشافعي وإذا كتب ولم يرد به طلاقا لم يقع. وفرق بعضهم بين أن يكتبه في بياض وبين أن يكتبه على الأرض فأوقعه إذا كتب فيما يكتب فيه من ورق أو لوح ونحوهما وأبطله إذا كتب على الأرض. ومن باب الرجل يقول لامرأته يا اختي قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل، قال: حَدَّثنا حماد عن خالد، عَن أبي تميمة الهجيمي أن رجلاً قال لامرأته يا أخية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أختك هي فكره ذلك ونهى عنه. قال الشيخ إنما كره ذلك من أجل أنه مظنة التحريم وذلك أن من قال لامرأته أنت كأختي وأراد به الظهار كان ظهاراً كما تقول أنت كأمي، وكذلك هذا

ومن باب في الظهار

في كل امرأة من ذوات المحارم، وعامة أهل العلم أو أكثرهم متفقون على هذا إلاّ أن ينوي بهذا الكلام الكرامة فلا يلزمه الظهار، وإنما اختلفوا فيه إذا لم يكن له نية، فقال كثير منهم لا يلزمه شيء. وقال أبو يوسف إذا لم يكن له نية فهو تحريم. وقال محمد بن الحسن هو ظهار إذا لم يكن له نية فكره له رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا القول لئلا يلحقه بذلك ضرر في أهل أو يلزمه كفارة في مال. ومن باب في الظهار قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة ومحمد بن العلاء المعني قالا: حَدَّثنا ابن إدريس عن محمد بن إسحاق عن محمد بن عمرو عن عطاء قال ابن العلاء بن علقمة بن عياش عن سليمان بن يسار عن سلمة بن صخر؛ قال ابن العلاء البياضي كنت امرأً أصيب من النساء ما لا يصيب غيري، فلما دخل شهر رمضان خفت أن أصيب من امرأتي شيئاً حتى يتابع بي حتى أصبح فظاهرت منها حتى انسلخ شهر رمضان فبينما هي تخدمني ذات ليلة إذ تكشف لي منها شيء فلم ألبث أن نزوت عليها، فلما أصبحت خرجت إلى قومي فأخبرتهم الخبر وقلت امشوا معي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا لا والله؛ فانطلقت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال أنت بذلك يا سلمة، قلت أنا بذلك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين وأنا صابر لأمر الله عز وجل فأحكم فيّ بما أراك الله سبحانه وتعالى، قال حرر رقبة، قلت والذي بعثك بالحق ما أملك رقبة غيرها وضربت صفحة رقبتي، قال فصم شهرين متتابعين، فقال وهل أصبت الذي أصبت إلاّ من الصيام، قال فأطعم وسقاً من تمر بين ستين مسكيناً، قلت والذي بعثك بالحق لقد بتنا وحِشين

ما أملك لنا طعاماً، قال فانطلق إلى صاحب صدقة بني زريق فليدفعها إليك فأطعم ستين مسكيناً وسقاً من تمر وكل أنت وعيالك بقيتها فرجعت إلى قومي فقلت وجدت عندكم الضيق وسوء الرأي ووجدت عند النبي صلى الله عليه وسلم السعة وحسن الرأي وقد أمرني أو أمر لي بصدقتكم. قال الشيخ قوله أنت بذاك يا سلمة معناه أنت الملم طاك والمرتكب له، وقوله بتنا وحِشين معناه بتنا مقفرين لا طعام لنا يقال رجل وحش وقوم أوحاش قال الشاعر: وإن بات وحشاً ليلة لم يضق بها ... ذراعاً ولم يصبح لها وهو خاشع ويقال لصاحب الدواء توحش أي احتم. وفيه دليل على أن الظهار الموقت ظهار كالمطق منه وهو إذا ظاهر من امرأته إلى مدة ثم أصابها قبل أنقضاء تلك المدة. واختلفوا فيه إذا بر فلم يحنث، فقال مالك بن أنس وابن أبي ليلى إذا قال لامرأته أنت عليّ كظهر أمي إلى الليل لزمته الكفارة وإن لم يقربها. وقال أكثر أهل العلم لا شيء عليه إذا لم يقربها وللشافعي في الظهار الموقت قولان أحدهما أنه ليس بظهار. وفيه دليل على أن معنى العود لما قال في الظهار ليس بأن يكرر اللفظ فيظاهر منها مرتين كما ذهب إليه بعض أهل الظاهر. وفيه حجة لمن ذهب إلى جواز أن يضع الرجل صدقته في صنف واحد من الأصناف الستة ولا يفرقها على السهام. وفي قوله أعتق رقبة دليل على أنه إذا أعتق رقبة ما كانت من صغير أوكبير أعور كان أو أعرج فإنها تجزيه إلاّ ما منع دليل الاجماع منه وهو الزمن الذي لا حراك به.

وفيه حجة لأبي حنيفة في أن خمس عشرة صاعاً لا يجزىء عن الكفارة في الظهار، غير أنه قال يجزيه ثلاثون صاعاً من البر لكل مسكين نصف صاع. قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي، قال: حَدَّثنا يحيى بن آدم، قال: حَدَّثنا ابن إدريس عن محمد بن إسحاق عن معمر بن عبد الله بن حنظلة عن يوسف بن عبد الله بن سلام عن خويلة بنت مالك بن ثعلبة، قالت ظاهر مني زوجي أوس بن الصامت فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم أشكو إليه فأنزل عز وجل آية الظهار فقال يعتق رقبة، قالت لا يجد قال يصوم شهرين متتابعين قالت يا رسول الله إنه شيخ كبير ما به من صيام، قال فليطعم ستين مسكيناً، قالت ما عنده من شيء يتصدق به قال فأتي ساعتئذ بعرق من تمر، قلت يا رسول الله وأنا أعينه بعرق آخر، قال قد أحسنت اذهبي فأطعمي بهما عنه ستين مسكيناً وارجعي إلى ابن عمك. قالت والعرق ستون صاعاً. قال الشيخ أصل العرق السفيفة التي تنسج من الخوص فتتخذ منها المكاتل والزبل، وقد جاء تفسيره في هذا الحديث أنه ستون صاعاً. وروى أبو داود عن محمد بن إسحاق أن العرق مكتل يسع ثلاثين صاعاً. وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن أن العرق زنبيل يسع خمسة عشر صاعاً فدل على أن العرق قد يختلف في السعة والضيق فيكون بعض الأعراق أكبر وبعضها أصغر فذهب الشافعي منها إلى التقدير الذي جاء في خبر أبي هريرة من رواية أبي سلمة وهو خمسة عشر صاعاً في كفارة المجامع في شهر رمضان، وكذلك قال الأوزاعي وأحمد بن حنبل لكل مسكين مد، وكذلك قال مالك إلاّ أنه قال بعد هشام وهو مد وثلث.

وذهب سفيان الثوري وأصحاب الرأي إلى حديث سلمة بن صخر وهو أحوط الأمرين، وقد يحتمل أن يكون الواجب عليه ستين صاعاً ثم يؤتى بخمسة عشر صاعاً فيقول له تصدق بها ولا يدل ذلك على أنها تجزيه عن جميع الكفارة ولكنه يتصدق بها في الوقت ويكون الباقي ديناً عليه حتى يجده كما يكون للرجل على صاحبه ستون صاعاً فيجيئه بخمسة عشر صاعاً فإنه يأخذها منه ويطالبه بخمسة وأربعين، إلاّ أن إسناد حديث أبي هريرة أجود وأحسن اتصالاً من حديث سلمة بن صخر. وقال أبو عيسى سألت محمد بن إسماعيل عن حديث محمد بن إسحاق عن سليمان بن يسار فقال هو مرسل سليمان بن يسار لم يدرك سلمة بن صخر. وقد روى أبو داود حديث سلمة بن صخر من غير طريق ابن إسحاق وذكر فيه العرق مقداراً لنحو خمسة عشر صاعاً على وفاق حديث أبي هريرة ورواه أبو داود في هذا الباب. ، قال: حَدَّثنا ابن السرح، قال: حَدَّثنا ابن وهب قال أخبرني ابن لهيعة وعمرو بن الحارث عن بكير بن الأشج عن سليمان بن يسار، وذكر الحديث قال فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بتمر فأعطاه إياه وهو قريب من خمسة عشر صاعاً فقال تصدق بها فقال يا رسول الله على أفقر مني ومن أهلي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كله أنت وأهلك. قال الشيخ وقد ذكرت معنى قوله كله أنت وأهلك في كتاب الصيام وكرهت إعادته ههنا. قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل، قال: حَدَّثنا حماد عن هشام بن عروة أن جميلة كانت تحت أوس بن الصامت وكان رجل به لمم فإذا اشتد لممه ظاهر

ومن باب الخلع

من امرأته فأنزل الله عز وجل فيه كفارة الظهار. قال الشيخ معنى اللمم ههنا الإلمام بالنساء وشدة الحرص والتوقان إليهن يدل على ذلك قوله في هذا الحديث من الرواية الأولى كنت امرأً أصيب من النساء ما لا يصيب غيري، وليس معنى اللمم ههنا الخبل والجنون ولو كان به ذلك ثم ظاهر في تلك الحالة لم يكن يلزمه شيء من كفارة ولا غيرها والله أعلم. ومن باب الخلع قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن يحيى بن سعيد عن عمرة بنت عبد الرحمن أنها أخبرته عن حبيبة بنت سهل الأنصارية أنها كانت تحت ثابت بن قيس بن الشماس وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الصبح فوجد حبيبة بنت سهل عند بابه في الغلس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه، فقالت أنا حبيبة بنت سهل، فقال ما شأنك، قالت لا أنا ولا ثابت بن قيس لزوجها، فلما جاء ثابت قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه حبيبة بنت سهل وذكرت ما شاء الله أن تذكر، وقالت حبيبة يا رسول الله كل ما أعطاني عندي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خذ منها فأخذ منها وجلست في أهلها. قال الشيخ في هذا الحديث دليل على أن الخلع فسخ وليس بطلاق ولو كان طلاقا لاقتضي فيه شرائط الطلاق من وقوعه في طهر لم تمس فيه المطلقة ومن كونه صادراً من قبل الزوج وحده من غير مرضاة المرأة فلما لم يتعرف النبي صلى الله عليه وسلم الحال في ذلك فأذن له في مخالعتها في مجلسه ذلك دل على أن الخلع فسخ وليس بطلاق، ألا ترى أنه لما طلق ابن عمر زوجته وهي حائض أنكر عليه ذلك وأمر بمراجعتها وامساكها حتى تطهر فيطلقها طاهراً قبل أن يمسها.

وإلى هذا ذهب ابن عباس واحتج بقول الله تعالى {الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} [البقرة: 229] قال ثم ذكر الخلع فقال {فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به} [البقرة: 229] ثم ذكر الطلاق فقال {فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره} [البقرة: 230] فلو كان الخلع طلاقاً لكان الطلاق أربعاً وإلى هذا ذهب طاوس وعكرمة وهو أحد قولي الشافعي وبه قال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو ثور. وروي عن علي وعثمان وابن مسعود رضي الله عنهم أن الخلع تطليقة بائنة، وبه قال الحسن وإبراهيم النخعي وعطاء وابن المسيب وشريح والشعبي ومجاهد ومكحول والزهري وهو قول سفيان وأصحاب الرأي، وكذلك قال مالك والأوزاعي والشافعي في أحد قوليه وهو أصحهما والله أعلم. وفي الخبر دليل على أن الخلع جائز على أثر الضرب وإن كان مكروهاً مع الأذى، وفيه أنه قد أخذ منها جميع ما كان أعطاها. وقد اختلف الناس في هذا فكان سعيد بن المسيب يقول لا يأخذ منها جميع ما أعطاها ولا يزيد على ما ساق إليها شيئاً، وذهب أكثر الفقهاء إلى أن ذلك جائز على ما تراضيا عليه قل ذلك أو كثر. وفيه دليل على أنه لا سكنى للمختلعة على الزوج. قال أبو داود: حدثنا محمد بن عبد الرحمن البزار، قال: حَدَّثنا علي بن بحر القطان، قال: حَدَّثنا هشام بن يوسف عن معمر عن عمر بن مسلم عن عكرمة عن ابن عباس أن امرأة ثابت بن قيس بن شماس اختلعت منه فجعل النبي صلى الله عليه وسلم عدتها حيضة.

ومن باب المملوكة تحت الرجل

قال الشيخ هذا أدل شيء على أن الخلع فسخ وليس بطلاق وذلك أن الله تعالى قال {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} [البقرة: 228] فلو كانت مطلقة لم يقتصر لها على قرء واحد. ومن باب المملوكة تحت الرجل قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل، قال: حَدَّثنا حماد عن خالد الحذاء عن عكرمة عن ابن عباس أن مغيثاً كان عبداً فقال يا رسول الله اشفع إليها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بريرة اتقي الله فإنه زوجك وأبو ولدك، فقالت يا رسول الله تأمرني بذلك قال لا إنما أنا شافع وكان دموعه تسيل على خده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس: ألا تعجب من حب مغيث بريرة وبغضها إياه. قال الشيخ كان الشافعي يقول حديث بريرة هو الأصل في باب المكافأة في النكاح ولا أعلم خلافاً أن الأمة إذا كانت تحت عبد فعتقت أن لها الخيار وإنما اختلفوا فيها إذا كانت تحت حر، فقال مالك والشافعي والأوزاعي وابن أبي ليلى وأحمد واسحاق لا خيار لها. وقال الشعبي والنخعي وحماد وأصحاب الرأي وسفيان الثوري لها الخيار وأصل هذا الباب حديث بريرة. وقد اختلفت الروايات فيه عن عائشة رضي الله عنها فروى عنها أهل الحجاز أنها قالت كان زوج بريرة عبداً كذلك رواه عروة بن الزبير والقاسم بن محمد

ومن باب المملوكين يعتقان معا هل تخير المرأة

وروى أهل الكوفة أن زوجها كان حراً كذلك رواه الأسود بن يزيد عنها وقد ذكر أبو داود هذه الأحاديث في هذا الباب فكانت رواية أهل الحجاز أولى لأن عائشة رضي الله عنها عمة القاسم وخالة عروة وكانا يدخلان عليها بلا حجاب والأسود يسمع كلامها من وراء حجاب. وقد قيل ان قوله كان زوجها حراً إنما هو من كلام الأسود لا من قول عائشة وحديث ابن عباس هذا لم يعارضه شيء وهو يخبر أنه كان عبداً وقد ذكر اسمه وأثبت صفته فدل ذلك على صحة رواية أهل الحجاز. وفي قولها تأمرني بذلك دليل على أن أصل أمره صلى الله عليه وسلم على الحتم والوجوب. ومن باب المملوكين يعتقان معاً هل تخير المرأة قال أبو داود: حدثنا زهير بن حرب، قال: حَدَّثنا عبيد الله بن عبد المجيد، قال: حَدَّثنا عبيد الله بن عبد الرحمن بن وهب عن القاسم عن عائشة رضي الله عنها أنها أرادت أن تعتق مملوكين لها، يَعني زوجين فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فأمرها أن تبدأ بالرجل قبل المرأة. قال الشيخ وفي هذا دلالة على أن الخيار بالعتق إنما يكون للأمة إذا كانت تحت عبد ولوكان لها خيار إذا كانت تحت حر لم يكن لتقديم عتق الزوج عليها معنى ولا فيه فائدة. ومن باب إذا اسلم أحد الزوجين قال أبو داود: حدثنا نصر بن علي قال أخبرني أبو أحمد عن إسرائيل عن سماك

ومن باب إلى متى ترد عليه امرأته إذا أسلم بعدها

عن عكرمة عن ابن عباس قال أسلمت امرأة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فتزوجت فجاء زوجها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني قد أسلمت وعلمت بإسلامي فانتزعها رسول الله صلى الله عليه وسلم من زوجها الآخر وردها إلى زوجها الأول. قال الشيخ وفي هذا دليل على أن النكاح متى علم بين زوجين فادعت المرأة الفرقة فإن القول في ذلك قول الزوج وإن قولها في إبطال النكاح غير مقبول والشك لا يزحم اليقين. ولا أعلم خلافاً أنه إذا لم يتقدم إسلام أحد الزوجين إسلام الآخر وكانت المرأة مدخولاً بها ثم أسلم الآخر قبل انقضاء العدة فهما على الزوجية في قول الزهري والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه. وقال مالك بن أنس إذا أسلم الرجل قبل امرأته وقعت الفرقة إذا عرض عليها الإسلام فلم تقبل. وقال سفيان الثوري في المرأة إذا أسلمت عرض على زوجها الإسلام فان أسلم فهما على نكاحهما وإن أبى أن يسلم فرق بينهما؛ وكذلك قال أصحاب الرأي إذا كان في دار الإسلام. وإن أسلمت المرأة ثم لحق الزوج بدار الكفر فقد بانت منه لافتراق الدين فإن أسلمت وهما في دار الحرب ولم يخرجا أو واحد منهما إلى دار الإسلام فهو أحق بها إن أسلم قبل أن تنقضي العدة فإذا انقضت العدة فلا سبيل له عليها. وقال ابن شبرمة تبين منه كما تسلم ولا سبيل له عليها إلاّ بخطبة، وبه قال أبو ثور وروي ذلك عن الحسن وعكرمة وعمر بن عبد العزيز وعطاء وطاوس. ومن باب إلى متى ترد عليه امرأته إذا أسلم بعدها قال أبو داود: حدثنا محمد بن عمرو الرازي، قال: حَدَّثنا سلمة بن الفضل قال

وحدثنا الحسن بن علي، قال: حَدَّثنا يزيد المعنى، عَن أبي إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس قال رد رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنته زينب رضي الله عنها علي أبي العاص بالنكاح الأول لم يحدث شيئا، قال محمد بن عمرو في حديثه بعد ست سنين، وقال الحسن بن علي بعد سنتين. قال الشيخ وهذا إن صح فإنه يحتمل أن يكون عدتها قد تطاولت لاعتراض سبب حتى بلغت المدة المذكورة في الحديث إما الطولى منهما وإما القصرى، إلاّ أن حديث داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس نسخه، وقد ضعف أمره علي بن المديني وغيره من علماء الحديث وقد حدثونا عن محمد بن إسماعيل الصائغ،، قال: حَدَّثنا سعيد بن منصور، قال: حَدَّثنا أبو معاوية، قال: حَدَّثنا الحجاج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد ابنته زينب على أبي العاص بن الربيع بنكاح جديد، فقد عارض هذه الرواية رواية داود بن الحصين وفيها زيادة ليست في رواية داود بن الحصين والمثبت أولى من النافي غير أن محمد بن إسماعيل قال حديث ابن عباس أصح في هذا الباب من حديث عمرو بن شعيب، وقال أبو عيسى الترمذي قال زيد بن هارون العمل في هذا على حديث عمرو بن شعيب وإن كان إسناد حديث ابن عباس أجود. قال الشيخ وإنما ضعفوا حديث عمرو بن شعيب من قبل الحجاج بن أرطاة لأنه معروف بالتدليس. وحكي عن محمد بن عقيل أن يحيى بن سعيد قال لم يسمعه حجاج من عمرو. قال الشيخ وفي الحديث دليل أن افتراق الدارين لا تأثير له في إيقاع الفرقة وذلك أن أبا العاص كان بمكة بعد أن أطلق عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وفكه عن أسره

ومن باب من أسلم وعنده نساء أكثر من أربع أو أختان

وكان قد أخذ عليه أن يجهز زينب إليه ففعل ذلك وقدمت زينب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقامت بها. وقد روي أن جماعة من النساء ردهن النبي صلى الله عليه وسلم على أزواجهن بالنكاح الأول منهن امرأة عكرمة بن أبي جهل وكان خرج إلى اليمن وهند بنت عتبة أسلم أبو سفيان خارج الحرم وهي مقيمة بمكة وهي دار حرب لم يستول عليها النبي صلى الله عليه وسلم بعد فلما عاد إليها وأسلمت هند كانا على نكاحهما. وقد تكلم الناس في ترويج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب من أبي العاص ومعلوم أنها لم تزل مسلمة وكان أبو العاص كافراً ووجه ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما زوجها منه قبل نزول قوله عز وجل {ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا} [البقرة: 221] ثم أسلم أبو العاص فردها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجتمعا في الإسلام والنكاح معاً. ومن باب من أسلم وعنده نساء أكثر من أربع أو أختان قال أبو داود: حدثنا مسدد، قال: حَدَّثنا هشيم قال وحدثنا وهب بن بقية قال أخبرنا هشيم عن ابن أبي ليلى عن حميضة بنت الشمردل عن الحارث بن قيس قال مسدد بن عميرة وقال وهب الأسدي قال، أسلمت وعندي ثماني نسوة فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: اختر منهن أربعاً، وقال بعضهم في إسناده قيس بن الحارث. قال الشيخ قوله اختر منهن أربعاً، ظاهره يدل على أن الاختيار في ذلك إليه يمسك من شاء منهن سواء كان عقد عليهن في عقد واحد أو متفرقات

لا يعتبر المتقدمة في العقد ولا المتأخرة منهن لأن الأمر قد فوض إليه في الاختيار من غير استفصال، وإلى هذا ذهب مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأراه قول محمد بن الحسن، وقد روي ذلك عن الحسن البصري. وقال أبو حنيفة وسفيان الثوري إن نكحهن في عقد واحد فرق بينه وبينهن وإن كان نكح واحدة بعد الأخرى حبس أربعا منهن الأولى فالأولى وترك سائرهن. قال الشيخ معنى الاختيار المذكور في الحديث يبطل إذا لم يكن له إلاّ حبس الأوليات فدل ذلك على أنه يختار من شاء منهن الأولى والأخرى في ذلك سواء ومن اعتبر فيهن هذا المعنى لزمه أن يعتبر أوصاف عقودهن فيما مضى فلا يجيز منهل العقود التي خلت عن الشهود والأولياء ولا العقود التي وقعت في أيام العدة من الزوج الأول فإذا لم يكن هذا معتبراً فيها لأنه حكم ثابت من أحكام الجاهلية وقد لقيه الإسلام بالعفو، فكذلك التقديم والتأخير لا فرق بين الأمرين في ذلك فأما الأعيان فإنها قائمة غير فائتة وليست كالأوصاف التى قد فاتت بفوات الزمان الذي قد وقع فيه العقد فلا يقر الزوج على نكاح امرأة من ذوات المحارم اللاتي لو أراد ابتداء العقد عليهن في حال الإسلام لم يحللن. قال أبو داود: حدثنا يحيى بن معين، قال: حَدَّثنا وهب بن جرير عن أبيه قال سمعت يحيى بن أيوب يحدث عن يزيد بن أيى حبيب، عَن أبي وهب الجيشاني عن الضحاك بن فيروز عن أبيه قال: قلت يا رسول الله إني أسلمت وتحتي أختان قال طلق أيتهما شئت. قال الشيخ في هذا بيان أن الاختيار إليه في إمساك من شاء منهن من المتقدمة

ومن باب إذا أسلم أحد الأبوين مع من يكون الولد

والمتأخرة. وفيه حجة لمن ذهب إلى أن اختيار إحداهما لا يكون فسخاً لنكاح الأخرى حتى يطلقها. ومن باب إذا أسلم أحد الأبوين مع من يكون الولد قال أبو داود: حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي، قال: حَدَّثنا عيسى، قال: حَدَّثنا عبد الحميد بن جعفر قال أخبرني أبي عن جدي رافع بن سنان أنه أسلم وأبت امرأته أن تسلم فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت ابنتي وهي فطيم أو شبهه، وقال رافع ابنتي فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقعد ناحيه وقال لها اقعدي ناحية، قال وأقعد الصبية بينهما؛ ثم قال ادعواها فمالت الصبية إلى أمها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم اهدها فمالت إلى أبيها فأخذها. قال الشيخ في هذا بيان أن الولد الصغير إذا كان بين المسلم والكافر فإن المسلم أحق به، وإلى هذا ذهب الشافعي. وقال أصحاب الرأي في الزوجين يفترقان بالطلاق والزوجة ذمية ان الأم أحق بأولادها ما لم تزوج ولا فرق في ذلك بين الذمية والمسلمة. ومن باب اللعان قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي عن مالك عن ابن شهاب أن سهل بن سعد الساعدي أخبره أن عويمر بن أشقر العجلاني جاء إلى عاصم بن عدي، فقال له يا عاصم أرأيت رجلاً وجد مع امرأته رجلاً أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل سل لي يا عاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل عاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها حتى كبر على عاصم ما سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عويمر والله لا أنتهي حتى أسأل عنها، فأقبل عويمر حتى أتى

رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد أنزل فيك وفي صاحبتك قرآن فاذهب فأت بها، فقال سهل فتلاعنا وأنا مع الناس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما فرغا قال عويمر كذبت عليها يا رسول الله ان أمسكتها فطلقها عويمر ثلاثاً قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ابن شهاب فكانت تلك سنة المتلاعنين. قال الشيخ قوله كره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها يريد به المسألة عما لا حاجة بالسائل إليها دون ما به إليه الحاجة، وذلك أن عاصماً إنما كان يسأل لغيره لا لنفسه فأظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم الكراهة في ذلك إيثاراً لستر العورات وكراهة لهتك الحرمات. وقد وجدنا المسألة في كتاب الله عز وجل على وجهين أحدهما ما كان على وجه التبين والتعلم فيما يلزم الحاجة إليه من أمر الدين. والآخر ما كان على طريق التكلف والتعنت فأباح النوع الأول وأمر به وأجاب عنه فقال تعالى {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} [الأنبياء: 7] وقال {فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك} [يونس: 94] وقال في قصة موسى والخضر {فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا} [الكهف: 70] وقال {لتبيننه للناس ولا تكتمونه} [آل عمران: 187] فأوجب على من يسأل عن علم أن يجيب عنه وأن يبين ولا يكتم، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من سئل عن علم فكتمه ألجم بلجام من نار، وقال عز وجل {يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج} [البقرة: 189] {ويسألونك عن المحيض قل هو أذى} [البقرة: 222] {يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول} [الأنفال: 1] ، وقال في النوع الاخر {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي} [الإسراء: 85] ، {يسألونك عن الساعة أيان مرساها فيم

أنت من ذكراها إلى ربك منتهاها} [النازعات: 43] وعاب مسألة بني إسرائيل في قصة البقرة لما كان على سبيل التكلف لما لا حاجة بهم إليه، وقد كانت الغنية وقعت بالبيان المتقدم فيها وكل ما كان من المسائل على هذا الوجه فهو مكروه، فإذا وقع السكوت عن جوابه فإنما هو زجر وردع للسائل؛ وإذا وقع الجواب فهو عقوبة وتغليظ. وفي قوله هي طالق ثلاثا دليل على أن إيقاع التطليقات الثلاث مباح ولو كان محرماً لأشبه أن يرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله في ذلك ويبين بطلانه لمن بحضرته لأنه لا يجوز عليه أن يجري بحضرته باطل فلا ينكره ولا يرده. وقد يحتج به من يرى أن الفرقة لا تقع بنفس اللعان حتى يفرق بينهما الحكام وذلك أن الفرقة لوكانت واقعة بينهما لم يكن للتطليقات الثلاث معنى. وقد يحتج بذلك أيضاً من يرى الفرقة بنفس اللعان على وجه آخر وذلك أن الفرقة لو لم تكن واقعة باللعان لكانت المرأة في حكم المطلقات ثلاثاً. وقد أجمعوا على أنها ليست في حكم المطلقات ثلاثاً تحل له بعد زوج فدل على أن الفرقة واقعة قبل، ويشبه أن يكون إنما دعاه إلى هذا القول أنه لما قيل له لا سبيل لك عليها وجد من ذلك في نفسه فقال كذبت عليها إن أمسكتها هي طالق ثلاثاً يريد بذلك تحقيق ما مضى من الفرقة وتوكيده. وقوله فكانت سنة المتلاعنين يريد التفريق بينهما. وقد اختلف في الوقت الذي يزول فيه فراش المرأة وتقع فيه الفرقة، فقال مالك والأوزاعي إذا التعن الرجل والمرأة جميعاً وقعت الفرقة، وروي ذلك عن ابن عباس.

وقال الشافعي إذا التعن الرجل وقعت الفرقة وإن لم تكن المرأة التعنت بعد. وقال أصحاب الرأي الفرقة إنما تقع بتفريق الحاكم بينهما بعد أن يتلاعنا معا. قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، قال: حَدَّثنا جرير عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله، قال إنا لليلة جمعة في المسجد إذ دخل رجل من الأنصار في المسجد، فقال لو أن رجلاً وجد مع امرأته رجلاً فتكلم به جلدتموه أو قتل قتلتموه وإن سكت سكت على غيظ والله لأسألن عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما كان من الغد أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله، فقال اللهم افتح وجعل يدعو فنزلت آية اللعان {والذين يرمون أزواحهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم} [النور: 6] هذه الاية فابتلى به ذلك الرجل من بين الناس فجاء هو وامرأته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلاها فشهد الرجل أربع شهادات بالله أنه لمن الصادقين ثم لعن الخامسة عليه إن كان من الكاذبين، قال فذهبت لتلتعن فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم مه فأبت ففعلت، فلما أدبرا قال لعلها أن تجيء به أسود جعداً فجاءت به أسود جعداً. قوله اللهم افتح اللهم احكم أو بين الحكم فيه، والفتاح الحاكم ومنه قوله تعالى {ثم افتح بيننا بالحق. وهو الفتاح العليم} [سبأ: 26] وفي قوله لعلها أن تجيء به أسود جعداً دليل على أن المرأة كانت حاملاً وأن اللعان وقع على الحمل. وممن رأى اللعان على نفي الحمل مالك والأوزاعي وابن أبي ليلى والشافعي. وقال أبو حنيفه لا يلاعن بالحمل لأنه لا يدري لعله ريح. قال أبو داود: حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح، قال: حَدَّثنا ابن وهب عن عياض

بن عبد الله الفهري وغيره عن ابن شهاب عن سهل بن سعد في هذا الخبر قال فطلقها ثلاث تطليقات عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنفذه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان ما صنع عند رسول الله صلى الله عليه وسلم سنه، قال سهل حضرت هذا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فمضت السنة بعد في المتلاعنين أن يفرق بينهما ثم لا يجتمعان أبداً. قوله فأنفذه رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتمل وجهين أحدهما إيقاع الطلاق وانفاذه وهذا على قول من زعم أن اللعان لا يوجب الفرقة، وأن فراق العجلاني امرأته إنما كان بالطلاق، وهو قول عثمان البتي. والوجه الآخر أن يكون معناه انفاذ الفرقة الداائمة المتأبدة، وهذا على قول من لا يراها تصلح للزوج بحال وإن أكذب نفسه فيما رماها به. وإلى هذا ذهب الثسافعي ومالك والأوزاعي والثوري ويعقوب وأحمد وإسحاق وشهد لذلك قوله ولا يجتمعان أبداً. وقال الشافعي إن كانت زوجته أمة فلاعنها ثم اشتراها لم تحل له إصابتها لأن الفرقة وقعت متأبدة فصارت كحرمة الرضاع. ومذهب أبي حنيفة ومحمد بن الحسن أنه إدا كذب نفسه ثبت النسب ولحقه الولد. وفيه دليل على أن الزوج إذا طلقها قبل العان لم يكن ذلك مانعاً من وجوب اللعان عليه. وقال الحسن والشعبي والقاسم بن محمد في الرجل يقذف زوجته ثم يطلقها ثلاثاً أن يلاعنها، وإليه ذهب مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وذلك أن القذف كان وهي زوجة. وقال أصحاب الرأي لا حد ولا لعان في ذلك، وهو قول حماد بن أبى سليمان وحكي عن الثوري.

قال أبو داود: حدثنا محمد بن بشار، قال: حَدَّثنا ابن أبي عدي قال أخبرنا هشام بن حسان قال حدثني عكرمة عن ابن عباس أن هلال بن أمية قذف امرأته عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بشريك بن سحماء فقال النبي صلى الله عليه وسلم البينة أو حد في ظهرك قال يا رسول الله إذا رأى أحدنا رجلاً على امرأته يلتمس البينة فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول البينة وإلا فحد في ظهرك، فقال هلال والذي بعثك بالحق نبياً إني لصادق ولينزلن الله عز وجل في أمري ما يبرىء ظهري من الحد فنزلت {والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلاّ أنفسهم} [النور: 6] فقرأ حتى بلغ من الصادقين فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليهما فجاءا، فقام هلال بن أمية فشهد والنبي صلى الله عليه وسلم يقول إن الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما من تائب ثم قامت فشهدت فلما كان عند الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين وقالوا لها إنها موجبة؛ قال ابن عباس فتلكأت ونكصت حتى ظننا أنها سترجع وقالت لا أفضح قومي سائر اليوم فمضت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم أبصروها فإن جاءت به أكحل العينين سابغ الاليتين خدلج الساقين فهو لشريك بن سحماء فجاءت به كذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن. قال الشيخ فيه من الفقه أن الزوج إذا قذف امرأته برجل بعينه ثم تلاعنا فإن اللعان يسقط عنه الحد فيصير في التقدير ذكره المقذوف به تبعاً لا يعتبر حكمه وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم قال لهلال بن أمية البينة أو حد في ظهرك فلما تلاعنا لم يعرض لهلال بالحد ولا روي في شيء من الأخبار أن شريكاً بن سحماء عفا عنه فعلم أن الحد الذي كان يلزمه بالقذف سقط عنه باللعان وذلك لأنه مضطر إلى ذكر من يقذفها به لإزالة الضرر عن نفسه فلم يحمل أمره على القصد له بالقذف

وادخال الضرر عليه. وقال الشافعي وإنما يسقط الحد عنه إذا ذكر الرجل وسماه في اللعان فإن لم يفعل ذلك حد له. وقال أبو حنيفة الحد لازم له وللرجل مطالبته به وقال مالك يحد للرجل ويلاعن للزوجة. وفي قوله البينة وإلا حد في ظهرك دليل على أنه إذا قذف زوجته ثم لم يأت بالبينة ولم يلاعن كان عليه الحد. وقال أبو حنيفة إذا لم يلتعن الزوج فلا شيء عليه. وفي قوله عند الخامسة إنها موجبة دليل على أن اللعلن لا يتم إلاّ باستيفاء عدد الخمس. وإليه ذهب الشافعي. وقال أبو حنيفة إذا جاء بأكثر العدد ناب عن الجميع، وقوله الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل من تائب فيه دليل على أن البينتين إذا تعارضتا تهاترتا وسقطتا. وفيه دليل على أن الإمام إنما عليه أن يحكم بالظاهر وإن كانت هناك شبهة تعترض وأمور تدل على خلافه، ألا تراه يقول لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن. والخدلج الساقين هو الغليظه. قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي، قال: حَدَّثنا يزيد بن هارون قال أخبرنا عباد بن منصور عن عكرمة عن ابن عباس، وذكر قصة هلال بن أمية وساقها بطولها وقال بعد أن ذكر التلاعن ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما وقضى أن لا يدعى ولدها لأب ولا يرمي ولدها ومن رماها أو رمى ولدها فعليه الحد وقضى أن لا بيت لها عليه ولا قوت من أجل أنهما يتفرقان من غير طلاق ولا متوفى عنها

وقال إن جاءت به أصيهب أريصح أثيبج حمش الساقين سابغ الاليتين فهو للذي رميت به. قال الشيخ وفيه من الفقه بيان أن اللعان فسخ وليس بطلاق وأنه ليس للملاعنة على زوجها سكنى ولا نفقة، وإليه ذهب الشافعي. وقال أبو حنيفة ومحمد بن الحسن اللعان تطليقة بائنة ولها السكنى والنفقة في العدة. قال الشيخ وفيه بيان أن من رمى الملاعنة أو ولدها إن عليه الحد وهو قول أكثر العلماء. وقال أصحاب الرأي إن كان جرى اللعان بينهما بالقذف لا على نفي الولد فإن قاذفها يحد، وإن كان لاعنها على ولد نفاه لم يكن على الذي يقذفها حد. وقال أبوعبيد القاسم بن سلام بعد أن حكى هذا المذهب عنهم وحجتهم فيه ان قالوا معها ولد لا أب له قالوا فإن مات ذلك الولد كان على من يرميها بعده الحد، وتعجب أبو عبيد من سقوط الحد وثبوته لحياة رجل ووفاته وقال لا يصح في رأي ولا نظر. وفيه دلالة على جواز الاستدلال بالشبه. وفيه بيان أن من لا يجوز الاستدلال به لا يحكم به إذا كان هناك ما هو أقوى منه في الدلالة على ضد موجبه ولو كان للشبه هنا حكم لوجب عليها الحد إذا جاءت به على النعت المكروه. وفيه من العلم أن التحلية بالنعوت المعيبة إذا أريد بها التعريف لم تكن غيبه يأثم بها قائلها. والاصيهب تصغير الأصهب وهو الذي يعلوه صهبة وهي كالشقرة

والأريصح تصغير الأرسح وهو خفيف الاليتين أبدلت السين منه صادا، وقد يكون أيضاً تصغير الأرصع أبدلت عينه حاء. قال الأصمعي الأرصع الأرسخ والأشيج تصغير الأشج وهو الناتىء الثبج والثبج ما بين الكاهل ووسط الظهر والحمش الدقيق الساقين والخدلج العظيم الساقين والجمالي العظيم الخلق شبه خلقه بخلق الجمل، يقال ناقة جمالية إذا شبهت بالفحل من الإبل في عظم الخلق. قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي عن مالك عن نافع عن ابن عمر أن رجلاً لاعن امرأته في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتفى من ولدها ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما وألحق الولد بالمرأة. قال الشيخ يحتج به من لا يرى البينونه تقع بين المتلاعنين إلاّ بتفريق الحاكم وذلك لإضافة التفريق بينهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد استشهدوا في ذلك أيضاً بالفسوخ التي يحتاج فيها إلى حضرة الحكام فإنها لا يقع إلاّ بهم. وذهب الشافعي إلى أن التفريق بينهما واقع بنفس اللعان أو بنفس اللعن، إلاّ أنه لما جرى التلاعن بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم أضيف التفريق ونسب إلى فعله كما تقوم البينة إما بالشهادة أو بإقرار المدعى عليه فيثبت الحق بهما عليه ثم يضاف الأمر في ذلل إلى قضاء القاضي ولو وجب أن لا يكون التفرقة إلاّ بأمر الحاكم لوجب أن لا ينفى الولد عن الزوج إلاّ بحكم الحاكم لأنه قد نسق عليه في الدكر فقيل فرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المتلاعنين وألحق الوك بالأم فإذا جاز أن يلحق الولد بالأم وينقطع نسبه عن الأب من غير صنع للحاكم فيه جاز أن يقع الفرقة بينهما من غير صنع له فيه والله أعلم.

قال وانما معنى قوله فرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المتلاعنبن أي بين أن الفرقة وقعت بينهم باللعان. قال أبو داود: حدثنا محمد بن جعغر الوركاني، قال: حَدَّثنا إبراهيم بن سعد عن الزهري عن سهل بن سعد في خبر المتلاعنين قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ابصروها فإن جاءت به أدعج العينين عظيم الاليتين فلا أراه إلاّ قد صدق، وإن جاءت به أحيمر كأنه وحرة فلا أراه إلاّ كاذباً. قال الشيخ الوحرة دويبة وجمعها وحر، ومنه قيل فلان وحر الصدر إذا دبت العداوه في قلبه كدبيب الوحر. قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل قال0 حدثنا سفيان بن عيينة قال سمع عمر وسعيد بن جبير يقول سمعت ابن عمر يقول، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمتلاعنين: حسابكما على الله أحدكما كاذب لا سبيل لك عليها، قال يا رسول الله مالي قال لا مال لك إن كنت صدقت عليها فهو بما استحللت من فرجها وإن كذبت عليها فذلك أبعد لك. قال الشيخ قوله لا سبيل لك عليها فيه بيان وقوع الفرقة بينهما باللعان خلاف قول عثمان البتي أن اللعان لا يوجب الفرقة. وفيه دلالة على أن الفرقة باللعان متأبدة ولو كان له عليها سبيل إذا كذب نفسه لاستثناه، فقال إلاّ أن تكذب نفسك فيكون لك عليها حينئذ سبيل فلما أطلق الكلام دل على تأبيد الفرقة. وفيه بيان أن زوج الملاعنة لا يرجع عليها بالمهر وإن أقرت المرأة بالزنا أو قامت عليها البينة بذلك.

ومن باب إذا شك في الولد

قال الشيخ وهذا في المدخول بها، ألا تراه يقول فهو بما استحللت من فرجها فأما غير المدخول بها فقد اختلف الناس فيها، فقال الحسن وقتادة وسعيد بن جبير يلاعنها ولها نصف الصداق، وإليه ذهب مالك والأوزاعي. وقال الحكم وحماد لها الصداق كاملاً، وقال الزهري يتلاعنان ولا صداق لها. ومن باب إذا شك في الولد قال أبو داود: حدثنا ابن أبي خلف، قال: حَدَّثنا سفيان عن الزهري عن سعيد، عَن أبي هريرة قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن امرأتي جاءت بولد أسود فقال هل لك من إبل، قال نعم، قال فما ألوانها، قال حمر، قال فهل لك فيها من أورق، قال إن فيها لورقاً، قال فأنّى تراه، قال عسى أن يكون نزعه عرق، قال وهذا عسى أن يكون نزعه عرق. قال الشيخ هذا القول من السائل تعريض بالريبة كأنه يريد نفي الولد بحكم النبي صلى الله عليه وسلم فإن الولد للفراش ولم يجعل خلاف الشبه واللون دلالة يجب الحكم بها وضرب له المثل بما يوجد من اختلاف الألوان في الإبل وفحلها ولقاحها واحد. وفي هذا إثبات القياس وبيان أن المتشابهين حكمهما من حيث اشتبها واحد. وفيه دليل على أن الرجل إذا ولدت له امرأته ولداً فقال ليس مني لم يصر قاذفاً لها بنفس هذا القول لجواز أن يكون ليس منه لكن لغيره بوطء شبهة أو من زوج متقدم. وفيه دليل على أن الحد لا يجب في المكاني وإنما يجب بالقذف الصريح. ومن باب ادعاء ولد الزنا قال أبو داود: حدثنا يعقوب بن إبراهيم، قال: حَدَّثنا معمر عن سليم، يَعني

ابن أبي الذيال قال حدثني بعض أصحابنا عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا مساعاة في الإسلام من ساعى في الجاهلية فقد لحق بعصبته ومن ادعى ولداً لغير رشدة فلا يرث ولا يورث. قال الشيخ المساعاة الزنا، وكان الأصمعي يجعل المساعاة في الإماء دون الحرائر وذلك لأنهن يسعين لمواليهن فيكتسبن لهم بضرائب كانت عليهن فأبطل صلى الله عليه وسلم المساعاة في الإسلام ولم يلحق النسب لها وعفا عما كان منها في الجاهلية وألحق النسب به؛ ويقال هذا ولد رِشدة ورَشدة لغتان. قال أبو داود: حدثنا شيبان بن فروخ، قال: حَدَّثنا محمد بن راشد قال وحدثنا الحسن بن علي، قال: حَدَّثنا يزيد بن هارون، قال: حَدَّثنا محمد بن راشد وهو أشبع عن سليمان بن موسى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى أن كل مستلحق استلحق بعبد أبيه الذي يدعى له ادعاه وورثته فقضى أن من كان من أمة يملكها يوم أصابها فقد لحق بمن استلحق وليس له مما قسم قبله من الميراث شيء وما أدرك من ميراث لم يقسم فله نصيبه ولا يلحق إذا كان أبوه الذي يدعى له أنكره، فإن كان من أمة لم يملكها أو من حرة عاهر بها فإنه لا يلحق ولا يورث، وإن كان الذي يدعى له وهو ادعاه فهو ولد زنية من حرة كانت أو أمة. قال الشيخ هذه أحكام وقعت في أول زمان النشريعة وكان حدوثها بين الجاهلية وبين قيام الإسلام، وفى ظاهر هذا الكلام تعقد وإشكال، وتحرير ذلك وبيانه أن أهل الجاهلية كانت لهم إماء تساعين وهن البغايا اللواتى ذكرهن

الله تعالى في قوله {ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء} [النور: 33] إذ كان ساداتهن يلمون بهن ولا يجتنبوهن فإذا جاءت الواحدة منهن بولد وكان سيدها يطأها وقد وطئها غيره بالزنا فربما ادعاه الزاني وادعاه السيد فحكم صلى الله عليه وسلم بالولد لسيدها لأن الأمة فراش له كالحرة ونفاه عن الزاني فإن دعى للزاني مدة وبقي على ذلك إلى أن مات السيد ولم يكن ادعاه في حياته ولا أنكره، ثم ادعاه ورثته بعد موته واستلحقوه فإنه يلحق به ولا يرث أباه ولا يشارك إخوته الذين استلحقوه في ميراثهم من أبيهم إذا كانت القسمة قد مضت قبل أن يستلحقه الورثة وجعل حكم ذلك حكم ما مضى في الجاهلية فعفا عنه ولم يرد إلى حكم الإسلام، فإن أدرك ميراثا لم يكن قد قسم إلى أن ثبت نسبه باستلحاق الورثة إياه كان شريكهم فيه أسوة من يساويه في النسب منهم فإن مات من إخوته بعد ذلك أحد ولم يخلف من يحجبه عن الميراث ورثه فإن كان سيد الأمة أنكر الحمل وكان لم يدعه فإنه لا يلحق به وليس لورثته أن يستلحقوه بعد موته، وهذا شبيه بقصة عبد بن زمعة وسعد بن مالك ودعواهما في ابن أمة زمعة، فقال سعد ابن أخي عهد إليّ فيه أخي، وقال عبد بن زمعة أخي ولد على فراش أبي فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالولد للفراش فصار ابناً لزمعة. وسنذكر هذا الحديث في موضعه من هذا الكتاب ونورده هناك شرحاً وبياناً إن شاء الله تعالى.

ومن باب القافة

ومن باب القافة قال أبو داود: حدثنا مسدد وعثمان بن أبي شيبة المعنى وابن السرح قالوا حدثنا سفيان عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال مسدد وابن السرح يوماً مسروراً، وقال عثمان يعرف أسارير وجهه، فقال أي عائشة ألم تري أن مجززاً المدلجي رأى زيداً وأسامة قد غطيا رؤوسهما بقطيفة وبدت أقدامهما، فقال إن هذه الأقدام بعضها من بعض. قال أبو داود كان أسامة أسود وكان زيد أبيض. قال الشيخ فيه دليل على ثبوت أمرالقافة وصحة لقولهم في إلحاق الولد وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يظهر السرور إلاّ بما هو حق عنده، وكان الناس قد ارتابوا بأمر زيد بن حارثة وابنه أسامه وكال زيد أبيض وجاء أسامة أسود، فلما رأى الناس في ذلك وتكلموا بقول كان يسوء رسول الله صلى الله عليه وسلم سماعه فلما سمع هذا القول من مجزز فرح به وسري عنه. وممن أثبت الحكم بالقافة عمر بن الخطاب وابن عباس وعطاء ومالك والأوزاعي

ومن باب من قال في القرعة إذا تنازعوا في الولد

والشافعي وأحمد وعامة أهل الحديث. وقال أهل الرأي في الولد المشكل يدعيه اثنان يقضى به لهما وأبطلوا الحكم بالقافة. واختلفت أقاويلهم في ذلك فقال أبو حنيفة يلحق الولد برجلين وكذلك بامرأتين. وقال أبو يوسف يلحق برجلين ولا يلحق بامرأتين. وقال محمد يلحق بالآباء وإن كثروا، ولا يلحق إلاّ بأم واحدة. واختلف القائلون بالقافة إذا قالت إن الولد منهما جميعاً. قال الشافعي إذا كان الولد كبيراً قيل له انتسب إلى أيهما شئت. وقال أبو ثور يلحق بهما (برهما وبزناته) (¬1) وقاله عمر. وقوله تعرف أسارير وجهه، قال أبو عبيد الأسارير الخطوط في الوجه والجبهة. ومن باب من قال في القرعة إذا تنازعوا في الولد قال أبو داود: حدثنا مسدد، حَدَّثنا يحيى عن الأجلح عن الشعبى عن عبد الله بن الخليل عن زيد بن أرقم قال: كنت جالساً عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاء رجل من اليمن فقال إن ثلاثة نفر من أهل اليمن أتوا علياً يختصمون إليه في ولد وقد وقعوا على امرأة في طهر واحد، فقال لاثنين طيبا بالولد لهذا فغليا، ثم قال لاثنين طيبا بالولد لهذا فغليا، ثم قال لاثنين طيبا بالولد لهذا فغليا، فقال أنتم شركاء متشاكسون إني مقرع بينكم فمن قرع فله الولد وعليه لصاحبيه ثلثا الدية فأقرع بينهم فجعله لمن قرع فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت أضراسه أو نواجذه. قال الشيخ: فيه دليل على أن الولد لا يلحق بأكثر من أب واحد؛ وفيه إثبات القرعة في أمر الولد وإحقاق القارع وللقرعة مواضع غير هذا في العتق ¬

(¬1) كذا في الأصل.

ومن باب وجوه النكاج التي كان يتناكح بها أهل الجاهلية

وتساوي البينتين في الشيء يتداعاه اثنان فصاعداً. وفي الخروج بالنساء في الأسفار وفي قسم المواريث وإفراز الحصص بها. وقد قال بجميع وجوهها نفر من العلماء ومنهم من قال بها في بعض هذه المواضع ولم يقل بها في بعض. وممن ذهب إلى ظاهره إسحاق بن راهويه وقال هو السنة في دعوى الولد. وقال به الشافعي قديماً وقيل لأحمد في حديث زيد هذا فقال حديث القافة أحب إليَّ وقد تكلم بعضهم في إسناده. ومن باب وجوه النكاج التي كان يتناكح بها أهل الجاهلية قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح، حَدَّثنا عنبسة بن خالد حدثني يونس بن يزيد قال: قال محمد بن مسلم بن شهاب أخبرني عروة بن الزبير أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته أن النكاح في الجاهلية على أربعة أنحاء فنكاح منها نكاح الناس اليوم يخطب الرجل إلى الرجل وليته فيصدقها ثم ينكحها. ونكاح آخر كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه ويعتزلها زوجها ولا يمسها أبداً حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه، فإذا تبين حملها أصابها زوجها إن أحب وإنما يفعل رغبة في نجابة الولد فكان هذا النكاح يسمى نكاح الاستبضاع. ونكاح آخر يجتمع الرهط دون العشرة فيدخلون على المرأة كلهم يصيبها فإذا حملت ووضعت ومر ليال بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها فتقول لهم قد عرفتم الذى كان من أمركم وقد ولدت وهو ابنك يا فلان فتسمي من أحبت منهم باسمه فيلحق به ولدها.

ومن باب الولد للفراش

ونكاح رابع يجتمع الناس الكثير لا تمتنع ممن جاءها وهن البغايا كن ينصبن على أبوابهن رايات يكنّ علماً لمن أرادهن دخل عليهن، فإذا حملت فوضعت حملها أجمعوا لها ودعوا لهم القافة ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون فالتاطه ودعى ابنه لا يمتنع من ذلك، فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم هدم نكاح أهل الجاهلية كله إلاّ نكاح أهل الإسلام اليوم. قال الشيخ الطمث دم الحيض، وقولها التاطه معنى استلحقته، وأصل اللواط الإلصاق. ومن باب الولد للفراش قال أبو داود: حدثنا سعيد بن منصور ومسدد قالا: حَدَّثنا سفيان عن الزهري عن عروة عن عائشة اختصم سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في ابن أمة زمعة، فقال سعد أوصاني أخي عتبة إذا قدمت مكة أن انظر إلى ابن أمة زمعة فأقبضه فإنه ابنه. وقال عبد بن زمعة أخي ابن أمة أبي ولد على فراش أبي فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم شبهاً بيناً بعتبة فقال الولد للفراش واحتجبي منه يا سودة، زاد مسدد وقال هو أخوك يا عبد. قال الشيخ: قد ذكرنا أن أهل الجاهلية كانوا يقتنون الولائد ويضربون عليهم الضرائب فيكتسبن بالفجور، وكان من سيرتهم إلحاق النسب بالزناة إذا ادعوا الولد كهو في النكاح، وكانت لزمعة أمة كان يلم بها وكانت له عليها ضريبة فظهر بها حمل كان يظن أنه من عتبة بن أبي وقاص وهلك عتبة كافراً لم يسلم فعهد إلى سعد أخيه أن يستلحق الحمل الذي بان في زمعة وكان لزمعة ابن يقال له عبد فخاصم سعد عبد بن زمعة في الغلام الذي ولدته الأمة

فقال سعد هو ابن أخي على ما كان عليه الأمر في الجاهلية. وقال عبد بن زمعه بل هو أخي ولد على فراش أبي على ما استقر حكم الإسلام فقضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد بن زمعة وأبطل دعوى الجاهلية. قال الشيخ فيه إثبات الدعوى في الولد كهي في الأملاك والأموال وأن الأمة فراش كالحرة، وأن للورثة أن يقروا بوارث لم يكن وأنهم إذا اجتمعوا على ذلك ثبت نسبه ولحق بأبيهم، فإن قيل إن جميع ورثة زمعة لم يقروا بأن هذا الغلام ابن لزمعة، وإنما جرى في هذه القصة ذكر عبد بن زمعة فقد قيل قد روي أنه لم يكن لزمعة معه يوم مات وارث غير عبد بن زمعة وكان عبد بمنزلة جميع الورثة، وقد لا ينكر أنه إن ثبت كون سودة من الورثة أن تكون قد وكلت أخاها بالدعوى أو تكون قد أقرت بذلك عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن لم يذكر في القصة. قال الشيخ: والاعتبار في هذا إنما هو بقول من استحق المال بالإرث سواء كان ذلك من نسب أو زوجية فلو كان له ابن واحد فادعى أخاً ألق به لأنه جميع الورثة وإن كانت معه زوجة فأنكرت لم يثبت النسب ولو كان الوارث بنتاً واحدة فأقرت به لم تلحو لأنها لا ترث جميع المال إلاّ ان تكون معتقة فتلحق لأنها ترث جميع المال نصف بالنسب والباقي بالولاء، كل هذا على مذهب الشافعي. وفى قوله احتجبي منه يا سودة حجة لمن ذهب إلى أن من فجر بامرأة حرمت على أولاده، واليه ذهب أهل الرأي وسفيان الثوري والأوزاعى وأحمد لأنه لما رأى الشبه بعتبة علم أنه من مائه فأجراه في النحريم مجرى النسب وأمرها

بالاحتجاب منه. وقال مالك والشافعي وأبو ثور لا تحرم عليه، وتأولوا قوله لسودة احتجبي منه على معنى الاستحباب والاستظهار بالتنره عن الشبه وقد كان جائزاً أن لا يردها لو كان أخاً لها ثابت النسب. ولأزواج النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب ماليس لغيرهن من النساء لقوله تعالى {يا نساء النبي لستن كأحد من النساء} [الأحزاب: 32] الآية. ويستدل بالشبه في بعض الأمور لنوع من الاعتبار ثم لا يقطع الحكم به، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في قصة الملاعنة إن جاءت به كذا وكذا فما أراه إلاّ كذب عليها، وإن جاءت به كذا وكذا فما اراه إلا صدق عليها فجاءت به على النعت المكروه ثم لم يحكم به، وإنما حكم بالشبه في موضع لم يوجد منه شيء أقوى منه كالحاكم بالفاقة. وأبطل معنى الشبه في الملاعنة لأن وجود الفراش أقوى منه. وهذا كما يحكم في الحادثة بالقياس إذا لم يكن فيها نص في هذا الباب فإذا وجد فيها ظاهر ترك له القياس. وفي قوله هو أخوك يا عبد بن زمعة ما قطع الشبه ورفع الأشكال. وفي بعض الروايات احتجبي منه فإنه ليس لك بأخ وليس بالثابت. قال أبو داود: حدثنا زهير بن حرب حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا حسين المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قام رجل فقال يا رسول الله إن فلاناً ابني عاهرت بأمه في الجاهلية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا دعوة في الإسلام ذهب أمر الجاهلية الولد للفراش وللعاهر الحجر. قال الشيخ: الدعوة بكسر الدال ادعاء الولد. وقوله الولد للفراش يريد

لصاحب الفراش. وقوله وللعاهر الحجر يحسب أكثر الناس أن معنى الحجر هنا الرجم بالحجارة، وليس الأمر كذلك لأنه ليس كل زان يرجم وإنما يرجم بعض الزناة وهوالمحصن؛ ومعنى الحجر هنا الحرمان والخيبة كقولك إذا خيبت الرجل وآيسته من الشيء ما لك غير التراب وما في يدك غير الحجر ونحوه. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا جاءك صاحب الكلب يطلب ثمنه فاملأ كفه تراباً، يريد أن الكلب لا ثمن له فضرب المثل بالتراب الذي ليست له قيمة ومثله قول الشاعر: تراب لأهلي لا ولا نعمةً لهم……لشد إذا ما قد تعبدني أهلي أي لا طاعة لهم ولا قبول لقولهم ولذلك عطف عليه بلا، ولو كان معناه الإثبات لم يسبق عليه بحرف النفي. قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا مهدي بن ميمون أبو يحيى حدثنا محمد بن عبد الله بن أبي يعقوب عن الحسن بن سعد مولى الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن رباح قال زوجني أهلي أمة لهم رومية فوقعت عليها فولدت غلاماً أسود مثلي فسميته عبد الله، ثم وقعت عليها فولدت غلاماً أسود مثلي فسميته عبيد الله، ثم طبن لها غلام لأهلي رومي يقال له يوحنا فراطنها بلسانه فولدت غلاماً كأنه وزغة من الوزغات فقلت لها ما هذا فقالت هذا ليوحنه فرفعنا إلى عثمان أحسبه قال مهدي قال فسألهما فاعترفا فقال لهما أترضيان أن أقضي بينكما بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، قضى أن الولد للفراش وأحسبه قال فجلدها وجلده وكانا مملوكين.

ومن باب من هو أحق بالولد

قال الشيخ: قوله طِبن معناه فطن يقال طبن الرجل للشيء وتبن طبناً وطبانة إذا فطن له ومعناه أنه فطن للشر وخبثها، قال كثير: طبن العدو لها فغير حالها. ومن باب من هو أحق بالولد قال أبو داود: حدثنا محمود بن خالد السلمي حدثنا الوليد، عَن أبي عمرو، يَعني الأوزاعي حدثني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو أن امرأة قالت يا رسول الله إن ابني هذا كان بطني له وعاء وثديي له سقاء وحجري له حواء وإن أباه طلقني وأراد أن ينتزعه مني، فقان لها رسول الله صلى الله عليه وسلم أنت أحق به ما لم تنكحي. قال الشيخ: الحواء اسم للمكان الذي يحوي الشيء، والحواء أيضاً أخبية تضرب ويدانى بينها يقال هذا حواء واحدة، ومعنى هذا الكلام معنى الادلاء بزيادة الحرمة وذلك أنها شاركت الأب في الولادة ثم استبدت بهذه الأمرر خصوصاً وهى معاني الحضانة من حيث لا شركة للأب فيها فاستحقت التقدم عند المنازعة في أمر الولد. ولم يختلفوا أن الأم أحق بالولد الطفل من الأب ما لم تتزوج فإذا فإذا تزوجت فلا حق لها في حضانة، فإن كانت لها أم فأمها تقوم مقامها ثم الجدات من قبل الأم أحق به ما بقيت منهن واحدة. قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي حدثنا عبد الرزاق وأبو عاصم عن ابن جريج أخبرني زياد عن هدل بن أسامة أن أبا ميمونه سلمى مولى من أهل المدينة رجل صدق قال بينما أنا جالس مع أبي هريرة جاءته امرأة فارسية معها ابن لها فادعياه وقد طلقها زوجها، فقالت يا أبا هريرة ورطنت بالفارسيه زوجى

ومن باب في نفقة المبتوتة

يريد أن يذهب بابني فقال أبو هريرة استهما عليه ورطن لها بذلك فجاء زوجها فقال من يحاقنى في ولدي فقال أبو هريرة اللهم إني لا أقول هذا إلاّ أني سمعت امرأة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا قاعد عنده فقالت يا رسول الله إن زوجي يريد أن يذهب بابني وقد سقاني من بئر أبي عنبة وقد نفعني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: استهما عليه فقال زوجها من يحاقني في ولدي فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هذا أبوك وهذه أمك فخذ بيد أيهما شئت فأخذ بيد أمه فانطلقت به. قال الشيخ: وهذا في الغلام الذي قد عقل واستغنى عن الحضانة فإذا كان كذلك خير بين أبويه. واختلف فيه فقال الشافعي إذا صار ابن سبع أو ثماني سنين خير، وقال أحمد يخير إذا كبر. وقال أهل الرأي والثوري الأم أحق بالغلام حتى يأكل وحده ويلبس وحده والجارية حتى تحيضى ثم الأب أحق الوالدين. وقال مالك الأم أحق بالجواري وإن حضن حتى ينكحن والغلمان فهي أحق بهم حتى يحتلموا. ويشبه أن يكون من ترك التخيير وصار إلى أن الأب أحق به إذا استغنى عن الحضانة إنما ذهب إلى أن الأم إنما حظها الحضانة لأنها أرفق به فإذا جاوز الولد حق المحضانة فإنه إلى الأب أحوج للمعاش والأدب، والأب أبصر بأسبابهما وأوفى له من الأم ولو ترك الصبي واختياره مال إلى البطالة. ومن باب في نفقة المبتوتة قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن عبد الله بن يزيد مولى الأسود بن سفيان، عَن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن فاطمة بنت قيس أن أبا عمرو بن

حفص طلقها البتة وهو غائب فأرسل إليها وكيله بشعير فتسخطته فقال والله ما لك علينا من شيء فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال لها ليس لك عليه نفقة وأمرها أن تعتد في بيت أم شريك ثم قال إن تلك امرأة يغشاها أصحابي اعتدي في بيت ابن أم مكتوم فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك وإذا حللت فآذنيني قالت فلما حللت ذكرت له أن معاوية بن أبي سفيان وأبا جهم خطاني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه وأما معاوية فصعلوك لا مال له انكحي أسامة بن زيد قالت فكرهته ثم قال انكحي أسامة بن زيد فنكحته فجعل الله فيه خيراً كثيراً واغتبطت. قال الشيخ: معنى البتة هنا الطلاق وقد روي أنها كانت آخر تطليقة بقيت لها من الثلاث. وفيه دليل أن المطلقة ثلاثاً لا نفقة لها، واختلف فيها فقالت طائفة لا نفقة لها ولا سكنى إلاّ أن تكون حاملاً وروي ذلك عن ابن عباس وأحمد وروي عن فاطمة أنها قالت لم يجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم سكنى ولا نفقة. وقالت طائفة لها السكنى والنفقة حاملاً كانت أو غير حامل. وقاله عمر وسفيان وأهل الرأي. وقالت طائفة لها السكنى ولا نفقة قاله مالك والأوزاعي وابن أبي ليلى والشافعي وابن المسيب والحسن وعطاء والشعبي، واحتجوا بقوله {أسكنوهن} الآية فأوجب السكنى عاماً، وأن نقل النبي صلى الله عليه وسلم إياها من بيت أحمائها إلى بيت ابن أم مكتوم فليس فيه إبطال السكنى بل فيه إثباته وإنما هو اختيار لموضع السكنى. واختلف في سبب ذلك فقالت عائشة كانت فاطمة في مكان وحش فخيف

ومن باب المبتوتة تخرج بالنهار

عليها فرخص لها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الانتقال. وقال ابن المسيب إنما نقلت عن بيت حمائها لطول لسانها وهو معنى قوله {ولا يخرجن إلاّ أن يأتين بفاحشة مبينة} [الطلاق: 1] الآية وقد بيناه. ومن باب المبتوتة تخرج بالنهار قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا يحيى بن سعيد عن ابن جريج قال أخبرني أبو الزبير عن جابر قال طلقت خالتي ثلاثاً فخرجت تجّد نخلاً لها فلقيها رجل فنهاها فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك فقال لها: اخرجي فجدي نخلك لعلك ان تصدقي منه أو تفعلي خيراً. قال الشيخ: وجه استدلال أبي داود منه في أن للمعتدة من الطلاق أن تخرج بالنهار هو أن النخل لا يجد عادة إلاّ نهاراً، وقد نهي عن جداد الليل ونخل الأنصار قريب من دورهم فهي إذا خرجت بكرة للجداد رجعت إلى بيتها للمبيت. وهذا في المعتدة من التطليقات الثلاث. فأما الرجعية فإنها لا تخرج ليلاً ولا نهاراً. وقال أبو حنيفة لا تخرج المبتوتة ليلاً ولا نهاراً كالرجعية. وقال الشافعي تخرج نهاراً لا ليلاً على ظاهر الحديث. ومن باب احداد المتوفى عنها قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن عبد الله بن أبي بكر عن حميد عن نافع عن زينب بنت أبي سلمة، قالت سمعت أمي أم سلمة تقول جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إن ابنتي توفي عنها زوجها وقد اشتكت عينها أفنكحلها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا مرتين أو ثلاثا كل ذلك

ومن باب في المتوفى عنها تنتقل

يقول لا ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هي أربعة أشهر وعشر وقد كانت احداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة على رأس الحول، قال حميد فقلت لزينب وما ترمى بالبعرة على رأس الحول، فقالت زينب كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها دخلت حشاً ولبست شر ثيابها ولم تمس طيباً ولا شيئاً حتى تمر بها سنة ثم تؤتى بدابة حمار أو شاة أو طائر فتفتض به فقلما تفتض بشيء إلا مات ثم تخرج فتعطى بعره فترمى بها ثم تراجع بعد ما شاءت من طيبب أو غيره. قال الشيح: قال القعنبي تفتض هو من فضضت الشيء إذا كسرته أو فرقته ومنه فض خاتم الكتاب {ولانفضوا من حولك} [آل عمران: 159] أي تكسر ما كانت فيه من العدة وتخرج منه بالدابة. والحش البيت الصغير، ومعنى رميها بالبعرة أى كأنها تقول كان جلوسها بالبيت وحبسها نفسها سنة كالرمية بالبعير في جنب ما كان يجب في حق الزوج. ومن باب في المتوفى عنها تنتقل قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي عن مالك عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عميرة عن عمته زينب بنت كعب بن عجرة أن الفريعة بنت مالك بن سنان وهي أخت أبي سعيد الخدري أخبرتها أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأله أن ترجع إلى أهلها في بني خدرة فإن زوجها خرج في طلب أعبد له أبقوا حتى إذا كانوا بطرف القدوم لحقهم فقتلوه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أرجع إلى أهلي فإني لم يتركني في مسكن يملكه ولا نفقة قالت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم قالت فخرجت حتى إذا كنت في الحجرة أو في المسجد دعاني أو أمر بي فدعيت له فقال كيف قلت فرددت عليه القصة التي ذكرت من شأن زوجي قالت

ومن باب ما تجتنب المعتدة

فقال امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله، قالت فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشراً قالت فلما كان عثمان بن عفان أرسل الي فسألني عن ذلك فأخبرته فاتبعه وقضى به. قال الشيخ: فيه أن للمتوفى عنها زوجها السكنى وأنها لا تعتد إلاّ في بيت زوجها. وقال أبو حنيفة لها السكنى ولا تبيت إلاّ في بيتها وتخرج نهاراً إذا شاءت. وبه قال مالك والثوري والشافعي وأحمد وقال محمد (ابن الحسن) المتوفى عنها لا تخرج في العدة. وعن عطاء وجابر والحسن وعلي وابن عباس وعائشة تعتد حيث شاءت. وفي قوله لا حتى يبلغ الكتاب أجله بعد إذنه لها في الانتقال دليل على جواز وقوع نسخ النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يفعل. ومن باب ما تجتنب المعتدة قال أبو داود: حدثنا يعقوب بن إبراهيم الدورقي حدثنا يحيى بن أبي بكير حدثنا إبراهيم بن طهمان حدثني هشام بن حسان (ح) وحدثنا عبد الله بن الجراح القهستاني عن عبد الله، يَعني ابن أبي بكر السهمي عن هشام وهذا لفظ ابن الجراح عن حفصة عن أم عطية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تحد المرأة فوق ثلاث إلاّ على زوج فانها تحد عليه أربعة أشهر وعشراً ولا تلبس ثوباً مصبوغاً إلاّ ثوب عصب ولا تكتحل ولا تمس طيباً إلاّ أدنى طهرتها إذا طهرت من محيضها نبيذة من قسط أو أظفار قال يعقوب مكان عصب إلاّ مغسولاً وزاد يعقوب ولا تختضب. قال أبو داود: حدثنا زهير بن حرب حدثنا يحيى بن أبي بكير حدثنا إبراهيم بن طهمان حدثني بديل عن الحسن بن مسلم عن صفية بنت شيبة عن أم سلمة

زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال المتوفى عنها زوجها لا تلبس المعصفر من الثياب ولا المشقة ولا الحلي ولا تختضب ولا تكتحل. العصب من الثياب ما عصب غزله فصبغ قبل أن ينسج كالبرود والحبر ونحوه والممشق ما صبغ بالمنشق وهو يشبه المغرة. وقوله بنبذة من قسط يريد اليسير منه والنبيذ القليل من الشيء والنبيذة تصغيره وظهور الهاء فيه لأنه نوى بها القطعة منه. واختلف فيما تجتنبه المحد من الثياب فقال الشافعي كل صبغ كانت زينة أو وشي كان لزينة في ثوب أو يلمع كان من العصب والحبرة فلا تلبسه الحاد غليظاً كان أو رقيقاً. وقال مالك لا تلبس مصبوغاً بعصفر أو ورس أو زعفران. قال الشيخ ويشبه أن لا يكره على مذهبهم لبس العصب والحبر ونحوه وهو أشبه بالحديث من قول من منع منه. وقالوا لا تلبس شيئا من الحلي وقال مالك لا خاتماً ولا حلة. والخضاب مكروه في قول الأكثر. قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب أخبرني مخرمة عن أبيه قال سمعت المغيرة بن الضحاك يقول أخبرتني أم حكيم بنت أسيد عن أمها أن زوجها توفي وكانت تشتكي عينيها فتكتحل بالجلاء قال أحمد الصواب بكحل الجلاء فأرسلت مولاة لها إلى أم سلمة فسألتها عن كحل الجلاء فقالت لا تكتحلي به إلاّ من أمر لا بد منه يشتد عليك فتكتحلين بالليل وتمسحينه بالنهار ثم قالت عند ذلك أم سلمة دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم

ومن باب في عدة الحامل

حين توفي أبو سلمة وقد جعلت على عيني صبراً فقال ما هذا يا أم سلمة فقلت إنما هو صبر يا رسول الله ليس فيه طيب قال أنه يشب الوجه فلا تجعليه إلاّ بالليل وتنزعينه بالنهار ولا تمتشطي بالطيب ولا بالحناء فإنه خضاب قالت قلت بأي شيء امتشط يا رسول الله قال: بالسدر تغلفين به رأسك. قال الشيخ: كحل الجلاء هو الاثمد لجلوه البصر ومعنى يشب الوجه أي يوقد اللون وأصله من نشبت النار أنشبها إذا أوقدتها. واختلف في الكحل فقال الشافعي كل كحل كان زينة لا خير فيه كالاثمد ونحوه مما يحسن موقعه في عينها، فأما الكحل الفارسي ونحوه إذا احتاجت إليه فلا بأس إذ ليس فيه زينة بل يزيد العين مَرَهاً وقبحاً. ورخص في الكحل عند الضرورة أهل الرأي ومالك بالكحل الأسود ونحوه عن عطاء والنخعي. ومن باب في عدة الحامل قال أبو داود: حدثنا سليمان بن داود المهري أخبرنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب حدثني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن أباه كتب إلى عمر بن عبد الله بن الأرقم الزهري يأمره أن يدخل على سبيعة بنت الحارث الأسلمية فيسألها عن حديثها وعما قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استفتته فكتب عمر بن عبد الله بن عتبة يخبره أن سبيعة أخبرته أنها كانت تحت سعد بن خولة وهو من بني عامر بن لؤي وهو ممن شهد بدراً فتوفي عنها في حجة

الوداع وهي حامل فلم تنشب ان وضعت حملها بعد وفاته فلما تعالت من نفاسها تجملت للخطاب فدخل عليها أبو السنابل بن بعكك رجل من بني عبد الدار فقال لها مالي أراك متجملة لعلك ترتجين النكاح إنك والله ما أنت بناكح حتى يمر عليك أربعة أشهر وعشر، قالت سبيعة فلما قال لي ذلك جمعت علي ثيابي حين أمسيت فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته عن ذلك فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي وأمرني بالتزويج إن بدا لي. قال الشيخ: تعالت من نفاسها أي طهرت من دمها واختلف العلماء فيه فقال علي وابن عباس تنتظر المتوفى عنها آخر الأجلين، ومعناه أن تمكث حتى تضع حملها فإن كانت مدة الحمل من وقت وفاة زوجها أربعة أشهر وعشراً فقد حلت وإن وضعت قبل ذلك تربصت إلى أن تستوفي المدة. وقال عامة العلماء انقضاء عدتها من ضع الحمل طالت المدة أو قصرت، وهو قول عمر وابن مسعود وابن عمر وأبي هريرة وغيرهم من الصحابة ومالك والأوزاعي والثوري وأهل الرأي والشافعي. قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة ومحمد بن العلاء قال عثمان حدثنا وقال ابن العلاء أخبرنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن مسلم عن مسروق عن عبد الله، قال من شاء لاعنته لأنزلت سورة النساء القصرى بعد الأربعة الأشهر وعشر. قال الشيخ: يريد سورة الطلاق إذ أن نزول هذه السورة كان بعد نزول البقرة فقال في الطلاق {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملن} [الطلاق: 4] وفي البقرة {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً} [البقرة: 234] الآية فظاهر كلامه يدل على أنه

ومن باب في عدة أم الولد

حمله على النسخ فذهب إلى أن ما في سورة الطلاق ناسخ لما في سورة البقرة، وعامة العلماء لا يحملونه على النسخ بل يرتبون إحدى الآيتين على الأخرى فيجعلون التي في سوره البقرة في عدد الحوابل وهذه في الحوامل. ومن باب في عدة أم الولد قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد أن محمد بن جعفر حدثهم (ح) وحدثنا ابن المثنى حدثنا عبد الأعلى عن سعيد عن مطر عن رجاء بن حيوة عن قبيصة بن ذؤيب عن عمرو بن العاص قال لا تلبسوا علينا سنة قال ابن مثنى سنة نبينا صلى الله عليه وسلم عدة المتوفى عنها أربعة أشهر وعشر، يَعني أم الولد. قال الشيخ: لا تلبسوا علينا سنة نبينا يحتمل وجهين أحدهما أن يريد بذلك سنة كان يرويها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نصاً والآخر أن يكون ذلك منه على معنى السنة في الحرائر ولو كان معنى السنة التوقيف لأشبه أن يصرح به وأيضاً فإن التلبيس لا يقع في النصوص إنما يكون غالبا في الرأي. وتأوله بعضهم على أنه إنما جاء في أم ولد بعينها كان أعتقها صاحبها ثم تزوجها وهذه إذا مات عنها مولاه الذي هو زوجها كانت عدتها أربعة أشهر وعشراً إن لم تكن حاملاً بلا خلاف بين العلماء. واختلف في عدة أم الولد فذهب الأوزاعي وإسحاق في ذلك إلى حديث عمرو بن العاص وقالا تعتد أم الولد أربعة أشهر وعشراً كالحرة. وقال ابن المسيب وابن جبير والحسن وابن سيرين. وقال الثوري وأهل الرأي عدتها ثلاث حيض وقاله علي وابن مسعود وعطاء والنخعي. وقال مالك والشافعي وأحمد عدتها حيضة، وقاله ابن عمر وعروة والقاسم

ومن باب المبتوتة

والشعبي والزهري. ومن باب المبتوتة لا يرجع إليها زوجها حتى تنكح غيره قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة قالت سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل طلق امرأته فتزوجت زوجاً غيره فدخل بها ثم طلقها قبل أن يواقعها أتحل لزوجها الأول قالت قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تحل للأول حتى تذوق الآخر ويذوق عسيلتها. قال الشيخ: العسيلة تصغير العسل وقيل إن الهاء إنما ثبتت فيها على نية اللذة. وقيل إن العسل تؤنث وتذكر. وقال ابن المنذر فيه دلالة على أنه إن واقعها وهي نائمة أو مغمى عليها لا تحس باللذة فإنها لا تحل للزوج الأول لأنها لم تذق العسيلة، وإنما يكون ذواقها بأن تحس باللذة. كتاب الحدود قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا إسماعيل بن إبراهيم حدثنا أيوب عن عكرمة أن علياً كرم الله وجهه أحرق ناساً ارتدوا عن الإسلام فبلغ ذلك ابن عباس رضي الله عنه فقال لم أكن لأحرقهم بالنار ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تعذبوا بعذاب الله وكنت قاتلهم بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه قال: من بدل دينه فاقتلوه فبلغ ذلك علياً فقال ويح أم ابن عباس. قوله ويح أم ابن عباس لفظه لفظ الدعاء عليه ومعناه المدح له والإعجاب

بقوله وهذا كقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في أبي بصير ويل أمه مسعر حرب وكقول عمر رضي الله عنه حين أعجبه قول الوادعي في تفضيل سهمان الخيل على المقاديف هبلت الوادعي أمه يريد ما أعلمه أو ما أصوب رأيه أو ما أشبه ذلك الكلام وكقول الشاعر: هوت أمه ما يبعث الصبح غاديا …وماذا يرد الليل حين يؤوب ويقال ويح وويس بمعنى واحد وقيل ويح كلمة رحمة وروي ذلك عن الحسن. وقد اختلف الناس فيما كان من علي كرم الله وجهه في أمر المرتدين فروى عكرمة أنه أحرقهم بالنار، وزعم بعضهم أنه لم يحرقهم بالنار ولكنه حفر لهم أسراباً ودخن عليهم واستتابهم فلم يتوبوا حتى قتلهم الدخان، واحتج أهل الروية الأولى بقول الشاعر فيهم. انشدنا ابن الأعرابي، عَن أبي ميسرة عن الحميدي عن سفيان بن عيينة عن بعضهم في هذه القصة. لترم بي المنايا حيث شاءت ... إذا لم ترم بي في الحضرتين إذا ما قربوا حطباً وناراً ... فذاك الموت نقداً غير دين زعموا أنه حفر لهم حفراً وأشعل النار وأمر أن يرمى بهم فيها. واختلف أهل العلم فيمن قتل رجلاً بالنار فأحرقه بها هل يفعل به مثل ذلك أم لا، فقال غير واحد من أهل العلم يحرق القاتل بالنار، وكذلك قال مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، وروي معنى ذلك عن الشعبي وعمر بن عبد العزيز. وقال سفيان الثوري وأبو حنيفة وأصحابه يقتل بالسيف وروي ذلك عن عطاء.

قال أبو داود: حدثنا محمد بن سنان الباهلي حدثنا إبراهيم بن طهمان عن عبد العزيز بن رفيع عن عبيد بن عمير عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحل دم امرىء مسلم يشهد أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله إلاّ في إحدى ثلاث زنى بعد إحصان فإنه يرجم. ورجل خرج محارباً لله ورسوله فإنه يقتل أو يصلب أو ينفى من الأرض. أو يقتل نفساً فيقتل بها. قلت في هذا الحديث دلالة على أن الإمام بالخيار في أمرالمحاربين بين أن يقتل أو يصلب أو ينفي من الأرض، وإلى هذا ذهب مالك بن أنس وأبو ثور. وروي عن الحسن ومجاهد وعطاء والنخعي، وقال الشافعي تقام عليهم الحدود بقدر جناياتهم لمن قتل منهم وأخذ مالاً قتل وصلب، وإذا قتل ولم يأخذ مالاً قتل ولم يصلب ودفع إلى أوليائه ليدفنوه. ومن أخذ مالاً ولم يقتل قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى وخلي، ومن حضر وهيّب وكثر أو كان ردءاً يدفع عنهم عزر وحبس، وروي معنى ذلك عن ابن عباس إلاّ أنه قال إن لم يقتل ولم يأخذ مالاً بقي، وممن ذهب إلى قول ابن عباس قتادة والنخعي. وقال الأوزاعى نحواً من ذلك ومذهب أبي حنيفة وأصحابه قريب من ذلك. وفي قوله أويقتل نفساً فيقتل بها مستدل من جهة العموم لمن رأى قتل الحر بالعبد. قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يحيى بن سعيد حدثنا قرة بن خالد حدثنا حميد بن هلال حدثنا أبو بردة، عَن أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إلى اليمن ثم أتبعه معاذ بن جبل، قال فلما قدم عليه معاذ قال انزل وألقى له وسادة وإذا رجل عنده موثق؛ قال ما هذا قال هذا كان يهودياً فأسلم ثم راجع دينه دين السوء قال لا أجلس حتى يقتل قضاء الله ورسول، قال اجلس نعم قال لا أجلس

ومن باب من سب النبي صلى الله عليه وسلم

حتى يقتل قضاء الله ورسوله ثلاث مرات فأمر به فقتل. قلت الظاهر من هذا الخبر أنه رأى قتله من غير استتابة ولا استتابة (¬1) وذهب إلى هذا الرأي عبيد بن عمير وطاوس، وقد روى ذلك أيضاً عن الحسن البصري. وروي عن عطاء أنه قال إن كان أصله مسلماً فارتد فإنه لا يستتاب وإن كان مشركاً فأسلم ثم ارتد فإنه يستتاب. وقال أكثر أهل العلم لا يقتل حتى يستتاب إلا أنهم اختلفوا في مدة الاستتابة فقال بعضهم يستتاب ثلاثة أيام فإن تاب وإلا قتل، روي ذلك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وبه قال أحمد وإسحاق؛ وقال مالك بن أنس أرى الثلاث حسناً وإنه ليعجبني. وقال أبو حنيفة وأصحابه يستتاب ثلاث مرات في ثلاث أيام. وقال الشافعي في أحد قوليه يستتاب فإن تاب وإلا قتل مكانه، قال وهذا أقيس في النظر وعن الزهري يستتاب ثلاث مرات فإن تاب وإلا ضربت عنقه. قلت وروى أبو داود هذه القصة من طريق الحماني عن يزيد بن أبي بردة عن أبيه، عَن أبي موسى فقال فيها وكان قد استتيب قبل ذلك فرواها من طريق المسعودي عن القاسم قال فلم يترك حتى ضرب عنقه وما استتابه. ومن باب من سب النبي صلى الله عليه وسلم قال أبو داود: حدثنا عباد بن موسى الختلي حدثنا إسماعيل بن جعغر المدني عن إسرائيل عن عثمان الشحام عن عكرمة حدثنا ابن عباس رضي الله عنه أن أعمى كانت له أم ولد تشتم النبي صلى الله عليه وسلم وتقع فيه فنهاها فلا تنتهي فلما كان ذات ليلة جعلت تقع في النبي صلى الله عليه وسلم وتشتمه فأخذ المعول فوضعه في بطنها واتكأ عليها ¬

(¬1) هكذا في الأصل.

فقتلها فأهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمها. المعول شبه المشمل ونصنله دقيق ماض، وفيه بيان ان ساب النبي صلى الله عليه وسلم مقتول وذلك أن السب منها لرسول الله صلى الله عليه وسلم ارتداد عن الدين ولا أعلم أحداً من المسلمين اختلف في وجوب قتله ولكن إذا كان الساب ذمياً فقد اختلفوا فيه فقال مالك بن أنس من شتم النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى قتل إلاّ أن يسلم وكذلك قال أحمد بن حنبل، وقال الشافعي يقتل الذمي إذا سب النبي صلى الله عليه وسلم وتبرأ منه الذمة. واحتج في ذلك بخبر كعب بن الأشرف وقد ذكرناه في كتاب الجهاد. وحكي، عَن أبي حنيفة أنه قاله لا يقتل الذمي بشتم النبي صلى الله عليه وسلم ما هم عليه من الشرك أعظم. قال أبو داود: حدثنا هارون بن عبد الله ونصر بن الفرج قالا: حَدَّثنا أبو أسامة عن يزيد بن زريع عن يونس بن عبيد عن حميد بن هلال عن عبد الله بن مطرف عن ابن أبي برزة قال كنت عند أبي بكر رضي الله عنه فتغيظ على رجل فاشتد عليه فقلت تأذن لى يا خليفة رسول الله فاضرب عنقه قال فأذهب كلمتي غضبه فقام فدخل فأرسل إليّ فقال ما الذي قلت آنفاً، قلت ائذن لي اضرب عنقه قال أكنت فاعلاً لو أمرتك قال نعم؛ قال لا والله ما كانت لبشر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. قلت أخبرني الحسن بن يحيى عن ابن المنذر قال: قال أحمد بن حنبل في معنى هذا الحديث أي لم يكن لأبي بكر أن يقتل رجلاً إلا بإحدي الثلاث التي قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم كفر بعد إيمان، وزنا بعد إحصان، وقتل نفس بغير نفس

ومن باب في المحاربة

وكان للنبي صلى الله عليه وسلم أن يقتل. قلت وفيه دليل على أن التعزير ليس بواجب وللإمام أن يعزر فيما يستحق به التأديب وله أن يعفو فلا يفعل ذلك. ومن باب في المحاربة قال أبو داود: حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد عن أيوب، عَن أبي قلابة عن أنس أن قوماً من عكل أو قال من عرينة قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجتووا المدينة فأمر لهم النبي صلى الله عليه وسلم بلقاح وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها فانطلقوا فلما صحوا قتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستاقوا النعم فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم خبرهم في أول النهار فأرسل في اثارهم فما ارتفع النهار حتى جيء بهم فأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم وسمر أعينهم وألقوا في الحرة يستسقون فلا يسقون. قال أبو قلابة وهؤلاء قوم قتلوا وكفروا بعد إيمانهم وحاربوا الله ورسوله. قوله فاجتووا المدينة معناه عافوا المقام بالمدينة وأصابهم بها الجوى في بطونهم يقال اجتويت المكان إذا كرهت الإقامة به لضرر يلحقك فيه واللقاح ذوات الدر من الإبل واحدتها لقحة. قوله سمر أعينهم يريد أنه كحلهم بمسامير محماة والمشهور من هذا في أكثر الروايات سمل باللام أي فقأ أعينهم قال أبو ذؤيب. فالعين بعدهم كأن حداقها …سملت بشوك فهي عور تدمع وفي الحديث من الفقه أن إبل الصدقة قد تجوز لأبناء السبيل شرب ألبانها وذلك أن هذه اللقاح كانت من إبل الصدقة، روي ذلك في هذا الحديث من غير

هذا الطريق حدثناه ابن الأعرابي حدثنا الزعفراني حدثنا عمر حدثنا حماد حدثنا حميد وقتادة وثابت عن أنس فذكر القصة وقال فبعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في إيل الصدقة وفيه إباحة التداوي بالمحرم عند الضروري لأن الأبوال كلها نجسة من مأكول اللحم وغير مأكوله. قال أبو داود: حدثنا عمر بن عثمان حدثنا الوليد عن الأوزاعي عن يحيى، عَن أبي قلابة عن أنس بن مالك وذكر القصة وقال فيها فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم قافة فأتي بهم فأنزل الله عز وجل {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً} [المائدة: 33] الآية. القافة جمع القائف وهو الذي يتبع الأثر ويطلب الضالة والهارب. قلت وقد اختلف الناس فيمن نزلت فيه هذه الآية فروي مدرجاً في هذا الخبر أنها نزلت في هؤلاء، وقد ذكر أبو قلابة أن هؤلاء قوم سرقوا وقتلوا وكفروا بعد إيمانهم وحاربوا الله ورسوله. وذهب الحسن البصري أيضاً إلى أن الآية إنما نزلت في الكفار دون المسلمين وذلك أن المسلم لا يحارب الله ورسوله، وقال أكثر العلماء نزلت الآية في أهل الإسلام، والدليل على ذلك قوله {إلاّ الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم} [المائدة: 34] والإسلام يحقن الدم قبل القدرة وبعدها فعلم أن المراد به المسلمون، فأما قوله يحاربون الله ورسوله فمعناه يحاربون المسلمين الذين هم حزب الله وحزب رسوله فأضيف ذلك إلى الله وإلى الرسول إذ كان هذا الفعل في الخلاف لأمرهما راجعاً إلى مخالفتهما، وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم من آذى لي ولياً فقد بادرني بالمحاربة.

ومن باب الحد يشفع فيه

قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد أخبرنا ثابت عن أنس وذكر الحديث قال ولقد رأيت أحدهم يكدم الأرض بفيه عطشاً حتى ماتوا. قوله يكدم الأرض أي يتناولها بفمه ويعض عليها بأسنانه؛ وأصل الكدم العض والعرب تقول في قلة المرعى ما بقيت عندنا إلا كدامة ترعاها الإبل أي مقدار ما تتناولها بمقاديم أسنانها. وقد اختلف الناس في تأويل هذا الصنيع من رسول الله صلى الله عليه وسلم فروي عن ابن سيرين أن هذا إنما كان منه قبل أن تنزل الحدود وعن أبي الزناد أنه قال: لما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك بهم أنزل الله الحدود فوعظه ونهاه عن المثلة فلم يعد. قلت وروى سليمان التيمي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما سمل أولئك لأنهم سملوا أعين الرعاة، حدثنيه الحسن بن يحيى، عَن أبي المنذر عن الفضل بن سهل الأعرج عن يحيى بن غيلان عن يزيد بن زريع عن سليمان التيمي يريد أنه إنما اقتص منهم على أمثال فعلهم. ومن باب الحد يشفع فيه قال أبو داود: حدثنا يزيد بن خالد بن عبد الله بن موهب الهمداني وقتيبة بن سعيد قالا: حَدَّثنا الليث عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أن قريشاً أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت فقالوا من يكلم فيها فقالوا ومن يجترىء إلاّ أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه أسامة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أسامة أتشفع في حد من حدود الله ثم قام فاختطب فقال إنما هلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد وايم الله لو أن فاطمة بنت

ومن باب التلقين في الحد

رسول الله صلى الله عليه وسلم سرقت لقطعت يدها. إنما أنكر عليه الشفاعة في الحد لأنه إنما تشفع إليه بعد أن بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتفعوا إليه فيه فأما قبل أن يبلغ الإمام فإن الشفاعة جائزة والستر على المذنبين مندوب إليه، وقد روي ذلك عن الزبير بن العوام وابن عباس رضي الله عنهما وهو مذهب الأوزاعي. وقال أحمد بن حنبل تشفع في الحد ما لم يبلغ السلطان. وقال مالك بن أنس من لم يعرف بأذى الناس وإنما كانت تلك منه زلة فلا بأس أن يشفع له ما لم يبلغ الإمام. وفيه دليل على أن القطع لا يزول عن السارق بأن يوهب له المتاع ولو كان ذلك مسقطاً عنه الحد لأشبه أن يطلب أسامة إلى المسروق منه أن يهبه منها فيكون ذلك أعود عليها من الشفاعة. قال أبو داود: حدثنا محمد بن جعفر بن مسافر ومحمد بن سليمان الأنباري قالا: حَدَّثنا ابن أبي فديك عن عبد الملك بن زيد نسبه جعفر إلى سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل عن محمد بن أبي بكر عن عمرة عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلاّ الحدود. قلت قال الشافعي في تفسير الهيئة من لم يظهر منه ريبة. وفيه دليل على أن الإمام مخير في التعزير إن شاء عزر وإن شاء ترك ولو كان التعزير واجبا كالحد لكان ذو الهيئة وغيره في ذلك سواء. ومن باب التلقين في الحد قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن إسحاق بن

ومن باب ما يقطع فيه السارق

عبد الله بن أبي طلحة، عَن أبي المنذر مولى أبي ذر، عَن أبي أمية المخزومي أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بلص قد اعترف اعترافاً ولم يوجد معه متاع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أخالك سرقت قال بلى فأعاد عليه مرتين أو ثلاثاً فأمر به فقطع. قلت وجه هذا الحديت عندي والله أعلم أنه ظن بالمعترف بالسرقة غفلة أو يكون قد ظن أنه لا يعرف معنى السرقة ولعله قد كان مالاً له أو اختلسه أو نحو ذلك مما يخرج من هذا الباب عن معاني السرقة والمعترف به قد يحسب أن حكم ذلك حكم السرقه فوافقه رسول الله صلى الله عليه وسلم واستثبت الحكم فيه إذ كان من سنته أن الحدود تدرأ بالشبهات، وروي عنه أنه قال: ادرؤوا الحدود ما استطعتم وأمرنا بالستر على المسلمين فكره أن يهتكه وهو يجد السبيل إلى ستره فلما تبين وجود السرقة منه يقيناً أقام الحد عليه وأمر بقطعه. على أن في إسناد هذا الحديث مقالاً والحديث إذا رواه رجل مجهول لم يكن حجة ولم يجب الحكم به. وقد روي تلقين السارق عن جماعة من الصحابة وأتي عمر بن الخطاب رضي الله عنه برجل فسأله أسرقت قل لا قال فقال لا فتركه ولم يقطعه. وروي مثل ذلك، عَن أبي الدرداء وأبي هريرة، وكان أحمد وإسحاق لا يريان بأساً بتلقين السارق إذا أتي به، وكذلك قال أبو ثور إذا كان السارق امرأة أو مصعوقاً. ومن باب ما يقطع فيه السارق قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا سفيان عن الزهري قال سمعته منه عن عمرة عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقطع في

ربع دينار فصاعداً قال وحدثنا أحمد بن صالح، قال: حَدَّثنا ابن وهب قال أخبرني يونس عن ابن شهاب عن عروة وعمرة عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم القطع في ربع دينار فصاعداً. قوله القطع في ربع دينار فصاعداً معناه القطع الذي أوجبه الله في السرقة إنما يجب فيما بلغ منها ربع دينار وكان مورده مورد التهديد ولذلك عرفه بالألف واللام ليعقل أنه إشارة إلى معهود، وهذا الحديث هو الأصل فيما يجب فيه قطع الأيدي وبه تعتبر السرقات وإليه ترد قيمتها ما كانت من دراهم أو متاع أو غيرها. وروى ذلك عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وعائشة رضي الله عنها، وبه قال عمر بن عبد العزيز وهو مذهب الأوزاعي والشافعي، وفيه إبطال مذهب أهل الظاهر فيما ذهبوا إليه من إيجاب القطع في الكثير والقليل وهو مذهب الخوارج. قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع في مجن قيمته ثلاثة دراهم. قلت وذهب مالك إلى هذا وجعل الحد فيما يجب فيه القطع ثلاثة دراهم، ورد إليها قيم السرقات مما كانت ذهباً أو متاعاً أو ما كان من شيء. وقال أحمد بن حنبل إن سرق ذهباً فبلغ ربع دينار قطع وإن سرق فضة كان مبلغها ثلاثة دراهم قطع وإن سرق متاعاً بلغ قيمته ربع دينار أو ثلاثة دراهم قولاً بالخبرين معاً. قلت المذهب الأول في رد القيم إلى ربع الدينار أصح وذلك إن أصل النقد

في ذلك الزمان الدنانير فجاز أن يقوم بها الدراهم ولم يجز أن يقوم الدنانير بالدراهم ولهذا كتب في الصكوك قديماً عشرة دراهم وزن سبعة فصرفت الدراهم بالدنانير وحصرت بها والدنانير لا تختلف فيها اختلاف الدراهم، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ خذ من كل حالم ديناراً. وقد روي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه قطع سارقاً في أترجة قومت ثلاثة دراهم من صرف اثني عشر درهماً فدل على أن العبرة للذهب ومن أجل ذلك قومت الدراهم بها فقيل من صرف اثني عشر درهما بدينار. وأما تقويم المجن بالدراهم فقد يحتمل أن يكون ذلك من أجل أن الشيء التافه قد جرت العادة بتقويمه بالدراهم، وإنما تقوم الأشياء النفيسة بالدنانير لأنها أنفس من النقود وأكرم جواهر الأرض فتكون هذه الدراهم الثلاثة التي هي ثمن المجن قد تبلغ قيمتها ربع دينار والله أعلم. قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة ومحمد بن السري العسقلاني وهذا لفظه قالا: حَدَّثنا ابن نمير عن محمد بن إسحاق عن أيوب بن موسى عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنه قال قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم يد رجل في مجن قيمته دينار أو عشرة دراهم. قلت وإلى هذا ذهب أبو حنيفة وأصحابه وجعلوه حداً فيما يقطع فيه اليد وهو قول سفيان الثوري، وقد روى ذلك عن ابن مسعود رضي الله عنه. قلت وهذا حكم تنفيذ وليس في موضع التحديد لأنه إذا كان السارق مقطوعاً في ربع دينار فلأن يكون مقطوعاً في دينار أولى وكذلك إذا قطع في ثلاثة دراهم يبلغ قيمتها ربع دينار فهو بأن يقطع في عشرة دراهم أولى.

ومن باب ما لا قطع فيه

وقال ابن أبي ليلى وابن شبرمة لا يقطع الخمس إلاّ في خمسة دراهم وقد روي ذلك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خلاف الرواية الأولى. ومن باب ما لا قطع فيه قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك بن أنس عن يحيى بن سعيد عن محمد بن يحيى بن حبان أن عبداً سرق ودياً من حائط رجل فغرسه في حائط سيده فاستعدى صاحب الودي على العبد مروان بن الحكم فسجن مروان العبد وأراد قطع يده فانطلق سيد العبد إلى رافع بن خديج فسأله عن ذلك فأخبره أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا قطع في ثمر ولا كثر ومشى معه إلى مروان فحدثه بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر مروان بالعبد فأرسل. الودي صغار النخل واحدتها ودية والكثر جمار النخل ومعنى الثمر في هذا الحديث ما كان معلقاً بالنخل قبل أن يجذ ويحرز وقد تأوله الشافعي قال حوائط المدينة ليست بحرز وأكثرها يدخل من جوانبها ومن سرق من حائط شيئاً من ثمر معلق لم يقطع فإذا أواه الجرين قطع ولم يفرق بين الفاكهة والطعام الرطب وبين الدراهم والدنانير وسائر الأمتعة في السارق إذا سرق منها شيئاً من حرز أو غير حرز فبلغت قيمته ما يقطع فيه اليد فإنه مقطوع. وقال مالك في الثمر مثل قول الشافعي. وقال أبو حنيفة بظاهر حديث رافع بن خديج فأسقط القطع عمن سرق ثمراً أو كثراً من حرز أو غير حرز وقاس عليهما سائر الفواكه الرطبة واللحوم والجبون والألبان والأشربة وسائر ما كان في معناها.

ومن باب القطع في الخيانة والخلسة

قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الليث عن ابن عجلان عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سأل عن الثمر المعلق قال ما أصاب منه من ذي حاجة غير متخذ خبنة فلا شيء عليه ومن خرج بشيء منه فعليه غرامة مثله والعقوبة ومن سرق منه شيئاً بعد أن يؤويه الجرين فبلغ ثمن المجن فعليه القطع. قلت هذا يؤيد ما ذهب إليه الشافعي في معنى الحديث الأول ويليق أن الحال لا تختلف في الأموال من جهة أعيانها لكن تفترق من جهة مواضعها التي تؤويها وتحرزها، وأما الخبنة فهو ما يحمله الرجل في ثوبه، ويقال أصل الخبنة ذلاذل الثوب. والجرين البيدر وهو حرز الثمار وما كان في مثل معناها كما كان المراح حرز الغنم. وإنما تحرز الأشياء على قدر الإمكان فيها وجريان العادة في الناس في مثلها. ويشبه أن يكون إنما أباح لذي الحاجة الأكل منه لأن في المال حق العشر فإذا أدته الضرورة إليه أكل منه وكان محسوباً لصاحبه مما عليه من الصدقة وصارت يده في التقدير كيد صاحبها لأجل الضرورة؛ فأما إذا حمل منه في ثوب أو نحوه فإن ذلك ليس من باب الضرورة إنما هو من باب الاستحلال فيغرم ويعاقب، إلاّ أنه لا قطع لعدم الحرز ومضاعفة الغرامة نوع من الردع والتنكيل، وقد قال به غير واحد من الفقهاء وقد بينا أقاويلهم في ذلك في باب الزكاة. ومن باب القطع في الخيانة والخلسة قال أبو داود: حدثنا نصر بن علي حدثنا محمد بن بكر حدثنا ابن جريج حدثنا

ومن باب من سرق من حرز

الزبير قال جابر بن عبد الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس على المنتهب قطع ومن انتهب نهبة مشهورة فليس منا. وبهذا الإسناد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس على الخائن قطع. قال أبو داود: حدثنا نصر بن علي أخبرنا عيسى بن يونس عن ابن جريج، عَن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله فزاد ولا على المختلس قطع. قلت أجمع عامة أهل العلم على أن المختلس والخائن لا يقطعان وذلك أن الله سبحانه إنما أوجب القطع على السارق. والسرقة إنما هي أخذ المال المحفوظ سراً عن صاحبه والاختلاس غير محترز منه فيه. وقد قيل إن القطع إنما سقط عن الخائن لأن صاحب المال قد أعان على نفسه في ذلك بائتمانه إياه وكذلك المختلس وقد يحتمل أن يكون إنما سقط القطع عنه لأن صاحبه قد يمكنه رفعه عن نفسه بمجاهدته وبالاستغاثة بالناس فإذا قصر في ذلك ولم يفعل صار كأنه أتي من قبل نفسه. وحكي عن إياس بن معاوية أنه قال يقطع المختلس، ويحكى عن داود أنه كان يرى القطع على من أخذ مالاً لغيره سواء أخذه من حرز أو غير حرز وهذا الحديث حجة عليه. ومن باب من سرق من حرز قال أبو داود: حدثنا محمد بن يحيى بن فارس حدثنا عمرو بن حماد بن طلحة حدثنا اسباط عن سماك بن حرب عن حميد ابن أخت صفوان عن صفوان بن أمية قال كنت نائماً في المسجد على خميصة لي ثمن ثلاثين درهماً فجاء رجل فاختلسها مني فأخذ الرجل فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم فأمر به ليقطع فأتيته، فقلت

أتقطعه من أجل ثلاثين درهماً أنا أبيعه وأنسئه ثمنها، قال فهلا كان هذا من قبل أن تأتيني به. قلت في هذا دليل على أن الحرز معتبر في الأشياء حسب ما تعارفه الناس في حرز مثلها وذلك أن النائم في المسجد الذي ينتابه الناس ولا يحجب عن دخوله أحد لا يقدر من الاحتراز والتحفظ في ثوبه على أكثر من أن يبسطه فينام عليه أو يتوسده فيضع رأسه عليه أو يشد طرفاً منه في طرف يديه إلى نحو ذلك من الأمور فإذا اغتاله مغتال فذهب به كان سارقاً له من حرز يجب عليه ما يجب على سارق الأموال من الخزائن المستوثق منها بالاغلاق والاقفال، وفي معناه من وضع نفقته في كمه فطرّه إنسان فإنه سارق يقطع يده كما لو أخذها من صندوق أو خزانة وكذلك هذا فيمن وضع ثوبه بين يديه واستنقع في ماء فأخذه آخذ على وجه السرقة ويدخل في ذلك من أخرج متاعاً من جوالق أو حل بعيراً من قطار أو أخذ متاعاً من فسطاط مضروب أو من خيمة ضربها صاحبها فنام فيها أو على بابها فهذا كله حرز وإنما ينظر في هذا الباب إلى سيرة الناس وعاداتهم في إحراز أنواع الأموال على اختلاف أماكنها فكل ما كان مأخوذاً من حرز مثله وكان مبلغه ما يجب فيه القطع وجب قطع يد سارقه. واحتج من رأى أن المتاع المسروق لا قطع فيه إذا ملكه السارق قبل أن يرفع إلى الإمام بقوله فهلا كان هذا قبل أن تأتيني به، قالوا فقد دل هذا على أنه لو وهبه منه أو أبرأه من ذلك قبل أن يرفعه إلى الإمام سقط عنه القطع. واختلف الفقهاء في هذا فقال مالك والشافعي وأحمد بن حنبل لا يسقط عنه القطع وإن وهب منه المتاع أو باعه منه أو أبرأه.

ومن باب القطع في العارية إذا جحدت

وقال أبو حنيفة وأصحابه إذا رد السرقة إلى أهلها قبل أن يرفع إلى الإمام ثم أتي به الإمام فشهد عليه الشهود لم يقطع. وقال أبو حنيفة إذا وهب له السرقة لم يقطع وأحسبه لا يفرق بين ذلك كان قبل رفعه إلى الإمام أو بعده. ومن باب القطع في العارية إذا جحدت قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي ومخلد بن خالد المعنى قالا: حَدَّثنا عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنه أن امرأة مخزومية كانت تستعير المتاع وتجحده فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بها فقطعت يدها. قلت مذهب عامة أهل العلم أن المستعير إذا جحد العارية لم يقطع لأن الله سبحانه إنما أوجب القطع على السارق وهذا خائن ليس بسارق. وفي قوله لا قطع على الخائن دليل على سقوط القطع عنه، وذهب إسحاق بن راهويه إلى إيجاب القطع عليه قولاً بظاهر الحديث. وقال أحمد بن حنبل لا أعلم شيئاً يدفعه، يَعني حديث المخزومية. قلت وهذا الحديث مختصر وليس مستقصى لفظه وسياقه وإنما قطعت المخزومية لأنها سرقت وذلك بين في حديث عائشة رحمها الله الذي رواه أبو داود في باب قبل هذا. قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن الليث عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أن قريشاً أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت فقالوا من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر القصة. قولها أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت يفصح بالسرقة ويصرح بذكرها

ومن باب المجنون يسرق أو يصيب حدا

ويثبت أنها سبب القطع لا جحد العارية وإنما ذكرت الاستعارة والجحد في هذه القصة تعريفاً لها بخاص صفتها إذ كانت كثيرة الاستعارة حتى عرفت بذلك كما عرفت بأنها مخزومية إلاّ أنها لما استمر بها هذا الصنع ترقت إلى السرقة وتجرأت حيث سرقت فأمرالنبي صلى الله عليه وسلم بقطعها. وقد روى مسعود بن الأسود عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا الخبر قال سرقت قطيفة من بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم. قلت وبيان هذا الحديث في حديث عائشة رضي الله عنها من رواية الليث عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إنما هلك من كان قبلكم بأنه إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد وايم الله لو أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم سرقت لقطعت يدها. أفلا تراه يتمثل بالسرقة ويذكرها مرة بعد أخرى وفي ذلك بيان لما قلناه وإنما خلا بعض الروايات عن ذكر السرقة لأن القصد إنما كان في سياق هذا الحديث إلى إبطال الشفاعة في الحدود والتغليظ لمن رام تعطيلها ولم يقع العناية بذكر السرقة وبيان حكمها وما يجب على السارق من القطع إذ كان ذلك من القطع إذ كان ذلك من العلم المشهور المستفيض في الخاص والعام وقد أتى ما يجب على السارق من القطع إذ كان أتى الكتاب على بيانه فلم يضر ترك ذكره والسكوت عنه ههنا والله أعلم. ومن باب المجنون يسرق أو يصيب حداً قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن الأعمش، عَن أبي ظبيان عن ابن عباس رضي الله عنه قال أتي عمر رضي الله عنه بمجنونة قد زنت فاستشار فيها أناساً فأمر بها عمر رضي الله عنه أن ترجم فمر بها على علي كرم الله وجهه، فقال ما شأن هذه فقالوا مجنونة بني فلان زنت فأمر بها أن ترجم، فقال ارجعوا بها ثم أتاه فقال يا أمير المؤمنين أما علمت أن القلم رفع عن ثلاثة عن المجنون حتى يبرأ وعن النائم حتى يستيقظ وعن الصبي حتى يعقل قال بلى قال فما بال هذه ترجم قال لا شيء قال فأرسلها قال فأرسلها قال فجعل يكبر. قلت لم يأمر عمررضي الله عنه برجم مجنونه مطبق عليها في الجنون ولا يجوز أن يخفى هذا ولا على أحد ممن بحضرته، ولكن هذه امرأة كانت تجن مرة وتفيق أخرى فرأى عمر رضي الله عنه أن لا يسقط عنها الحد لما يصيبها من الجنون إذ كان الزنا منها في حال الإفاقة، ورأى علي كرم الله

ومن باب الغلام يصيب الحد

وجهه أن الجنون شبهة يدرأ بها الحد عمن يبتلي به والحدود تدرأ بالشبهات لعلها قد أصابت ما أصابت وهي في بقية من بلائها فوافق اجتهاد عمر رضي الله عنه اجتهاده في ذلك فدرأ عنها الحد والله أعلم بالصواب. ومن باب الغلام يصيب الحد قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير حدثنا سفيان حدثنا عبد الملك بن عمير حدثنا عطية القرظي قال كنت من سبي قريظة وكانوا ينظرون فيمن أنبت الشعر قتل ومن لم ينبت لم يقتل فكنت فيمن لم ينبت. قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا يحيى عن عبيد الله أخبرني نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عرضه يوم أحد وهو ابن أربع عشرة سنة فلم يجزه وعرضه يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة فأجازه. قلت اختلف أهل العلم في حد البلوغ الذي إذا بلغه الصبي أقيم عليه الحد، فقال الشافعي إذا احتلم الغلام أو بلغ خمس عشرة سنة فإن حكمه حكم البالغين

ومن باب الرجل يسرق في الغزو أيقطع

في إقامة الحد عليه وكذلك الجارية إذا بلغت خمس عشرة سنة أوحاضت. وأما الانبات فإنه لا يكون حداّ للبلوغ وإنما يفصل به بين أهل الشرك فيقتل مقاتليهم ويترك غير مقاتليهم بالإنبات. وقال الأوزاعي وأحمد بن حنبل في بلوغ الغلام خمس عشرة سنة مثل قول الشافعي. وقال أحمد وإسحاق الإنبات بلوغ يقام به الحد على من أنبت. وحكي مثل ذلك عن مالك بن أنس في الإنبات فاما في السن فإنه قال إذا احتلم الغلام أو بلغ من السن ما لا يتجاوزه غلام إلاّ احتلم فحكمه حكم الرجال ولم يجعل الخمس عشرة سنة حداً في ذلك. وقال سفيان سمعنا أن الحلم أدناه أربع عشرة وأقصاه ثماني عشرة سنة فإذا جاءت الحدود أخذنا بأقصاها. وذهب أبو حنيفة إلى أن حد البلوغ في استكمال ثماني عشرة سنة إلاّ أن يحتلم قبل ذلك، وفي الجارية استكمال سبع عشرة سنة إلاّ أن تحيض قبل ذلك. قلت يشبه أن يكون المعنى عند من فرق بين أهل الإسلام وبين أهل الكفر حين جعل الإنبات في الكفار بلوغاً ولم يعتبره في المسلمين هو أن أهل الكفر لا يوقف على بلوغهم من جهة السن ولا يمكن الرجوع إلى قولهم لأنهم متهمون في ذلك لدفع القتل عن أنفسهم، فأما المسلمون وأولادهم فقد يمكن الوقوف على مقادير أسنانهم لأن أسنانهم محفوظة وأوقات المواليد فيهم مؤرخة. ومن باب الرجل يسرق في الغزو أيقطع قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عبد الله بن وهب أخبرني حيوة عن عياش بن عباس القتباني عن شنم بن تبيان ويزيد بن صبح الأصبحي

ومن باب الحجة في قطع النباش

عن جنادة بن أبي أمية قال كنا مع بسر بن أرطأة في البحر فأتي بسارق يقال له مصدر قد سرق بُختية فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا تقطع الأيدي في السفر ولولا ذلك لقطعته. قلت يشبه أن يكون هذا إنما سرق البختية في البر ورفعوه إليه في البحر فقال عند ذلك هذا القول. وهذا الحديث إن ثبت فإنه يشبه أن يكون إنما أسقط عنه الحد لأنه لم يكن إماماً وإنما كان أميراً أو صاحب جيش وأمير الجيش لا يقيم الحدود في أرض الحرب على مذاهب بعض الفقهاء إلاّ أن يكون الإمام أو يكون أميراً واسع المملكة كصاحب العراق والشام أو مصر ونحوها من البلدان، فإنه يقيم الحدود في عسكره وهو قول أبي حنيفة. وقال الأوزاعي لا يقطع أمير العسكر حتى يقفل من الدرب فإذا قفل قطع وأما أكثر الفقهاء فإنهم لا يفرقون بين أرض الحرب وغيرها، ويرون إقامة الحدود على من ارتكبها كما يرون وجوب الفرائض والعبادات عليهم في دار الإسلام والحرب سواء. ومن باب الحجة في قطع النباش قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا حماد بن زيد، عَن أبي عمران عن المشعث بن طريف عن عبد الله بن الصامت، عَن أبي ذر قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا ذر قلت لبيك يا رسول الله وسعديك قال كيف أنت إذا أصاب الناس موت يكون فيه البيت بالوصيف، يَعني القبر، قلت الله ورسوله أعلم، قال أو ما خار الله لي ورسوله قال عليك بالصبر أو قال تصبر.

ومن باب إذا سرق أربع مرار

قلت موضع استدلال أبي داود من الحديث أنه سمى القبر بيتاً والبيت حرز والسارق من الحرز مقطوع إذا بلغت سرقته مبلغ ما يقطع فيه اليد. والوصيف العبد يريد أن الفضاء من الأرض يضيق عن القبور ويشتغل الناس بأنفسهم عن الحفر لموتاهم حتى تبلغ قيمة القبر قيمة العبد. وقد اختلف الناس في قطع النباش فذهب مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق إلى أنه يقطع إذا أخذ من القبر ما يكون فيه القطع؛ وبه قال أبو يوسف وروي ذلك عن عمر بن عبد العزيز والحسن والشعبي والنخعي وقتادة وحماد بن أبي سليمان. وقال أبو حنيفة وسفيان الثوري لا قطع عليه. ومن باب إذا سرق أربع مرار قال أبو داود: حدثنا محمد بن عبد الله بن عبيد بن عقيل الهلالي حدثنا جدي عن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال جيء بسارق إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال اقتلوه فقالوا يا رسول الله إنما سرق قال اقطعوه قال فقطع ثم جيء به الثانية، فقال اقتلوه فقالوا يا رسول الله إنما سرق قال اقطعوه قال فقطع ثم جيء به الثالثة فقال اقتلوه قالوا يا رسول الله إنما سرق قال اقطعوه ثم أتي به الرابعة فقال اقتلوه قالوا يا رسول الله إنما سرق فقال اقطعوه فأتي به الخامسة فقال اقتلوه، قال جابر فانطلقنا به فقتلناه ثم ألقيناه في بئر ورمينا عليه الحجارة. قلت هذا في بعض إسناده مقال وقد عارض الحديث الصحيح الذي بإسناده

وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يحل دم امرىء مسلم إلاّ بإحدى ثلاث كفر بعد إيمان وزنى بعد إحصان أو قتل نفس بغير نفس والسارق ليس بواحد من الثلاثة فالوقوف عن دمه واحب. ولا أعلم أحداً من الفقهاء يبيح دم السارق وإن تكررت منه السرقة مرة بعد أخرى إلاّ أنه قد يخرج على مذاهب بعض الفقهاء أن يبح دمه وهو أن يكون هذا من المفسدين في الأرض في أن للإمام أن يجتهد في تعزير المفسدين ويبلغ به ما رأى نن العقوبة وإن زاد على مقدار الحد وجاوزه وإن رأى القتل قتل. ويعزى هذا الرأي إلى مالك بن أنس وهذا الحديث إن كان له أصل فهو يؤيد هذا الرأي؛ وقد يدل على ذلك من نفس الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قد أمر بقتله لما جيء به أول مرة ثم كذا في الثانية والثالثة والرابعة إلى أن قتل في الخامسة فقد يحتمل أن يكون هذا رجلاً مشهوراً بالفساد مخبوراً بالشر معلوماً من أمره أنه سيعود إلى سوء فعله ولا ينتهي عنه حتى ينتهي خبره ويحتمل أن يكون ما فعله إن صح الحديث فإنما فعله بوحي من الله سبحانه واطلاع منه على ما سيكون منه فيكون معنى الحديث خاصا فيه والله أعلم. وقد اختلف الناس في السارق إذا سرق مرة فقطعت يده اليمنى ثم سرق مرة فقطعت رجله اليسرى. فقال مالك والشافعي وإسحاق بن راهويه إن سرق الثالثة قطعت يده اليسرى، وإن سرق الرابعة قطعت رجله اليمنى، وإن سرق بعد ذلك عزر وحبس وقد حكي مثال ذلك عن قتادة. وقال الشعبي والنخعي وحماد بن أبي سليمان والأوزاعي وأحمد بن حنبل إذا

ومن باب في الرجم

سرق قطعت يده اليمنى فإن سرق الثانية قطعت رجله اليسرى فإن سرق الثالثة لم يقطع واستودع السجن. وقد روي مثل ذلك عن علي كرم الله وجهه. قال أبو داود: حدثنا موسى حدثنا أبو عَوانة عن عمر بن أبي سلمة عن أبيه، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سرق المملوك فبعه ولو بنش. قلت النش وزن عشرين درهما هكذا يفسر. وفيه دليل على أن السرقة عيب في المماليك يردون بها ولذلك وقع الحط من ثمنه والنقص من قيمته وليس في هذا الحديث دلالة على سقوط القطع عن المماليك إذا سرقوا من غير ساداتهم. وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم. وقال عامة الفقهاء يقطع العبد إذا سرق، وإنما قصد بالحديث إلى أن العبد السارق لا يمسك ولا يصحب ولكن يباع ويستبدل به من ليس بسارق. وقد روى عن ابن عباس رضي الله عنه أن العبد لا يقطع إذا سرق وحكي مثل ذلك عن شريح وسائر الناس على خلافه. ومن باب في الرجم قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن عن حطان بن عبد الله الرقاشي عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا الثيب بالثيب جلد مائة ورمياً بالحجارة والبكر بالبكر جلد مائة وسبي سنة. قوله خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا إشارة إلى قوله سبحانه {أو يجعل الله

لهن سبيلا} [النساء: 15] ثم فسر السبيل فقال الثيب بالثيب يريد إذا زنى الثيب بالثيب وكذلك قوله البكر بالبكر يريد إذا زنى البكر بالبكر. واختلف العلماء في تنزيل هذا الكلام ووجه ترتيبه على الآية وهل هو ناسخ للآية أو مبين لها فذهب بعضهم إلى النسخ، وهذا على قول من يرى نسخ الكتاب بالسنة. وقال آخرون بل هو مبين للحكم الموعود بيانه في الآية فكأنه قال عقوبتهن الحبس إلى أن يجعل الله لهن سبيلا فوقع الأمر بحبسهن إلى غاية فلما انتهت مدة الحبس وحان وقت مجيء السبيل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم خذوا عني تفسير السبيل وبيانه ولم يكن ذلك ابتداء حكم منه، وإنما هو بيان أمر كان ذكر السبيل منطوياً عليه فأبان المبهم منه وفصل المجمل من لفظه فكان نسخ الكتاب بالكتاب لا بالسنة وهذا أصوب القولين والله أعلم. وفي قوله جلد مائة ورمياً بالحجارة حجة لقول من رأى الجمع بين الحد والرجم على الثيب المحصن إذا زنى. وقد روي ذلك عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وقد استعمل ذلك في بعض النزناة، وقال جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإلى هذا ذهب الحسن البصري وبه قال إسحاق بن راهويه وهو قول داود وأهل الظاهر. وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه رجم ولم يجلد، وإليه ذهب عامة الفقهاء ورأوا أن الجلد منسوخ بالرجم. وقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ماعزاً ولم يجلده ورجم اليهوديين ولم يجلدهما،

واحتج الشافعي في ذلك بحديث أبي هريرة في الرجل الذي استفتى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ابنه الذي زنى بامرأة الرجل، فقال له على ابنك جلد مائة وتغريب عام وعلى المرأة الرجم واغد يا أنيس على المرأة فإن اعترفت فارجمها فغدا عليها فاعترفت فرجمها. قال فهذا الحديث آخر الأمرين لأن أبا هريرة قد رواه وهو متأخر الإسلام ولم يعرض للجلد بذكر، وإنما هو الرجم فقط وكان فعله ناسخاً لقوله الأول. قال أبو داود: حدثنا محمد بن سليمان الأنباري حدثنا وكيع عن هشام بن سعد أخبرني يزيد بن نعيم بن هزال، قال كان ماعز بن مالك يتيما في حجر أبي فأصاب جارية من الحي فقال له أبي ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بما صنعت لعله يستغفر لك، وإنما يريد بذلك رجاء أن يكون له مخرج فأتاه فقال يا رسول الله إني زنيت فأقم علي كتاب الله فأعرض عنه، فعاد فقال يا رسول الله إني زنيت فأقم علي كتاب الله حتى قالها أربع مرات، قال صلى الله عليه وسلم إنك قد قلتها أربع مرات فبمن، قال بفلانة، قال هل ضاجعتها، قال نعم، قال هل جامعتها قال نعم، قال فأمر به فأخرج إلى الحرة، فلما رجم فوجد مس الحجارة فخرج يشتد فلقيه عبد الله بن أنيس وقد عجز أصحابه فنزع له بوظيف بعير فرماه به فقتله ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكرذلك له فقال هلا تركتموه لعله أن يتوب فيتوب الله عليه. قلت اختلف أهل العلم في هذه الأقارير المكررة منه هل كانت شرطاً في صحة الأقارير بالزنى حتى لا يجب الحكم إلاّ بها، أم كانت زيادة في التبين والاستثبات لشبهة عرضت في أمره.

فقال قوم هي شرط في صحة الإقرار لا يجب الحكم عليه بتكريره أربع مرات، وإليه ذهب الحكم بن عيينة وابن أبي ليلى وأبو حنيفة وأصحابه وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه واحتج من احتج منهم بقوله إنك قد قلتها أربع مرات، إلاّ أنهم اختلفوا فيه إذا كان كله في مجلس واحد. فقال أبو حنيفة وأصحابه إقراره أربع مرات في مجلس واحد بمنزلة إقراره مرة وا حدة. وقال ابن أبي ليلى وأحمد بن حنبل إذا أقر أربع مرات في مجلس واحد رجم. وقال مالك والشافعي وأبو ثور إذا أقر مرة واحدة رجم كما إذا أقر مرة واحدة بالقتل قتل وبالسرقة قطع. وروي ذلك عن الحسن البصري وحماد بن أبي سليمان. وذهب هؤلاء إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما رده مرة بعد أخرى للشبهة التي داخلته في أمره ولذلك سأل هل به جنة أوخبل وقال لهم استنكهوه أي لعله شرب ما أذهب عقله وجعل يستفسره الزنا فقال لعلك قبلت لعلك لمست إلى أن أقر بصريح الزنا فزالت عند ذلك الشبهة فأمر برجمه وإنما لزم الحكم عنده بإقراره في الرابعة لأن الكشف إنما وقع به ولم يتعلق بما قبله. واستدلوا في ذلك بقول الجهينية لعلك تريد أن ترددني كما رددت ماعزاً فعلم أن الترديد لم يكن شرطاً في الحكم وإنما كان من أجل الشبهة. قالوا وأما قوله قد قلتها أربع مرات فقد يحتمل أن يكون معناه أنك قلتها أربع مرات فتبينت عند إقرارك في الرابعة أنك صحيح العقل ليست بك آفة تمنع من قبول قولك فيكون معنى التكرار راجعاً إلى هذا.

في قوله هلا تركتموه دليل على أن الرجل إذا أقر بالزنا رجع عنه دفع عنه الحد سواء وقع به الحد أو لم يقع. وإلى هذا ذهب عطاء بن أبي رباح والزهري وحماد بن أبي سليمان وأبو حنيفة وأصحابه. وكذلك قال الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه. وقال مالك بن أنس وابن أبي ليلى وأبو ثور لا يقبل رجوعه ولا يدفع عنه الحد وكذلك قال أهل الظاهر. وروي ذلك عن الحسن البصري وسعيد بن جبير، وروي معنى ذلك عن جابر بن عبد الله. وتأولوا قوله هلا تركتموه أي لينظر في أمره ويستثبت المعنى الذي هرب من أجله. قالوا ولو كان القتل عنه ساقطاً لصار مقتولاً خطأ وكانت الدية على عواقلهم فلما لم تلزمهم ديته دل على أن قتله كان واجباً. قلت وفي قوله هلا تركتموه على معنى المذهب الأول دليل على أنه لا شيء على من رمى كافراً فأسلم قبل أن يقع السهم، وكذلك المأذون له في قتل رجل قصاصاً فلما تنحى عنه عفا ولي الدم عنه. وكذلك قال هؤلاء في شارب الخمر إذا قال كذبت فإنه يكف عنه. وكذلك السارق إذا قال كذبت لم تقطع يده ولكن لا تسقط الغرامة عنه لأنها حق الآدمي. قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا أبو عوانة عن سماك عن جابر بن سمرة وذكر قصة ماعز ورجمه، قال ثم خطب النبي صلى الله عليه وسلم إلاّ كلما سيرنا في سبيل الله

خلف أحدهم له نبيب كنبيب التيس يمنح إحداهن الكثبة أما أن الله أن يمكني من أحدهم إلاّ نكلته. معناه نكلته عليهن. الكثبة القليل من اللبن، وقوله نكلته معناه ردعته بالعقوبة، منه والنكول في اليمين وهو أن يرتدع فلا يحلف يقال نكل يُنكل ونكل ينكَل لغتان. قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي حدثنا عبد الرزاق عن ابن جريج أخبرني أبو الزبير أن عبد الرحمن بن الصامت ابن عم أبي هريرة في قصة ماعز أن النبي صلى الله عليه وسلم قال والذي نفسي بيده أنه الآن لفي أنهار الجنة يتقمس فيها. قوله يتقمس معناه ينغمس ويغوص فيها؛ والقاموس معظم الماء ومنه قاموس البحر. قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري، عَن أبي سلمة عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له ابك جنون قال لا قال أحصنت قال نعم فأمر به فرجم في المصلي فلما أذلقته الحجارة فر. قوله أذلقته الحجارة معناه أصابته بحدها فعقرته وذلق كل شيء حده يقال أذلقت السنان إذا أرهفته، والذلاقة في اللسان خفته وسرعة مروره على الكلام، ويقال لسان ذلق طلق، والاذلاق أيضاً سرعة الرمي فيكون معناه على هذا أنه لما تتابع عليه وقع الحجارة وتناولته من كل وجه فر. وفي قوله ابك جنون دليل على أنه قد ارتاب بأمره ولذلك كان ترديده إياه وترك الاقتصار به على إقراره الأول.

ومن باب رجم المرأة الجهنية

وفيه دليل على أن المحصن يرجم ولا يجلد. قال أبو داود: حدثنا محمد بن أبي بكر بن أبي شيبة حدثنا يحيى بن يعلى بن الحارث حدثنا أبي عن غيلان عن علقمة بن مرثد عن ابن بريدة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم استنكه ماعزاً. قلت وفيه دلالة على أنه قد ارتاب بأمره وفيه حجة لمن لم ير طلاق السكران طلاقاً وهو قول مالك بن أنس والمزني. قال أبو داود: حدثنا أبو كامل حدثنا يزيد بن زريع عن داود، عَن أبي نضرة، عَن أبي سعيد وذكر القصة قال فرميناه بجلاميد الحرة حتى سكت. قوله سكت يريد مات قال الشاعر عدي بن زيد: ولقد شفى نفسي وأبرأ داءها …أخذ الرجال بحلقه حتى سكت ومن باب رجم المرأة الجهنية قال أبو داود: حدثنا مسلم بن إبراهيم أن هشاماً الدستوائي حدثهم عن يحيى، عَن أبي قلابة، عَن أبي المهلب عن عمران بن حصين أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت إنها زنت وهي حبلى فدعى النبي صلى الله عليه وسلم ولياً لها فقال له أحسن إليها فإذا وضعت فجىء بها فلما أن وضعت جاء بها فأمرالنبي صلى الله عليه وسلم فشكت عليها ثيابها ثم أمر بها فرجمت. قوله شكت ثيابها أي شدت عليها لئلا تتجرد فتبدو عورتها. قال أبو داود: حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي أخبرنا عيسى عن بشير بن المهاجر حدثنا عبد الله بن بريدة عن أبيه أن امرأة، يَعني من غامد أتت النبي صلى الله عليه وسلم

فقالت إني قد فجرت فقال ارجعي فرجعت، فلما كان الغد أتته فقالت لعلك إن ترددني كما رددت ماعز بن مالك فوالله أني لحبلى، فقال لها ارجعي فرجعت فلما كان الغد أتته فقال لها ارجعي حتى تلدي فرجعت فلما ولدت أتته بالصبي فقالت هذا قد ولدته قال ارجعي فأرضعيه حتى تفطميه فجاءت به وقد فطمته وفي يده شيء يأكله فأمر بالصبي فدفع إلى رجل من المسلمين وأمر بها فحفر لها فرجمت. قلت أما الحديث الأول الذي رواه عمران بن حصين ففيه أنه لم يستأن بها إلى أن ترضع ولدها ولكنه أمر برجمها حين وضعت. وكذلك روي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أنه فعل بشراحة رجمها لما وضعت حملها، وإلى هذا ذهب مالك والشافعي وهو قول أبي حنيفة وأصحابه. وقال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه تترك حتى تضع ما في بطنها ثم تترك حولين حتى تفطمه. ويشبه أن يكون قد ذهبا إلى هذا الحديث، إلاّ أن إسناد الحديث الأول أجود وبشير بن المهاجر ليس بذاك. وقال أحمد بن حنبل هو منكر الحديث وقال في أحاديث ماعز كلها إن ترديده إنما كان في مجلس واحد إلاّ ذلك الشيخ بشير بن مهاجر وذلك عندي منكر الحديث. قلت قد ذكر في هذا الحديث أنه قد حفر لها وقد اختلفوا في ذلك فقال بعضهم لا يحفر للرجل ويحفر للمرأة وهو قول أبي يوسف وأبي ثور. وقال قتادة يحفر للرجل والمرأة جميعاً. وقال أحمد أكثر الأحاديث أن

لا يحفر له وقد قيل يحفرله. قال أبو داود: حدثنا محمد بن عبد الله بن مسلمة عن مالك عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عَن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني أنهما أخبراه أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أحدهما يا رسول الله اقضى بيننا بكتاب الله، وقال الآخر وكان أفقههما أجل يا رسول الله فاقضى بيننا بكتاب الله وائذن لي أن أتكلم قال تكلم، قال إن ابني كان عسيفاً على هذا، والعسيف الأجير فزنا بامرأته فأخبروني أن على ابني الرجم فافتديت منه بمائة شاة وجارية ثم إني سألت أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام وإنما الرجم على امرأته فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله عز وجل أما غنمك وجاريتك فرد عليك وجلد ابنه مائة وغربه عاماً وأمر أنيساً الأسلمي أن يأتي بامرأة الآخر فإن اعترفت رجمها فاعترفت فرجمها. قوله والله لأقضين بينكما بكتاب الله يتأول على وجوه أحدها أن يكون معنى الكتاب الفرض والايجاب يقول لأقضين بينكما بما فرضه الله وأوجبه إذ ليس في كتاب الله ذكر الرجم منصوصا متلوا كذكر الجلد والقطع والقتل في الحدود والقصاص. وقد جاء في الكتاب بمعنى الفرض كقوله عز وجل {كتاب الله عليكم} النساء: 24] وكقوله {كتب عليكم القصاص} [البقرة: 178] أي فرض، وقال عز وجل {وكتبنا عليهم فيها} [المائدة: 45] أي فرضنا وأوجبنا. ووجه آخر وهو أن ذكر الرجم وإن لم يكن منصوصاً عليه باسمه الخاص

فانه مذكور في الكتاب على سبيل الإجمال والإبهام ولفظ التلاوة منطو عليه وهو قوله {واللذان يأتيانها منكم فآذوهما} [النساء: 16] والأذى يتسع في معناه للرجم ولغيره من العقوبة. وقد قيل إن هذه الآية لما نسخت سقط الاستدلال بها وبمعناها. وفيه وجه آخر وهو أن الأصل في ذلك قوله {أو يجعل الله لهن سبيلا} النساء: 15] فضمن الكتاب أن يكون لهن سبيل فيما بعد ثم جاء بيانه في السنة، وهو قوله صلى الله عليه وسلم خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا؛ البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم. ووجه رابع وهو ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال قرأناها فيما أنزل الله الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة وهو ما رفعت تلاوته وبقي حكمه والله أعلم. وفي الحديث من الفقه أن الرجم إنما يجب على المحصن دون من لم يحصن. وفيه دليل على أن للحاكم أن يبدأ باستماع كلام أي الخصمين شاء. وفيه أن البيع الفاسد والصلح الفاسد وما جرى مجراهما من العقود منتقض وأن ما أخذ عليها مردود إلى صاحبه. وفيه أنه لم ينكر عليه قوله فسألت أهل العلم ولم يعب الفتوى عليهم في زمانه وهو مقيم بين ظهرانيهم. وفيه إثبات النفي على الزاني والتغريب له سنة وهو قول عامة العلماء من السلف وأكثر الخلف وإنما لم ير التغريب منهم أبو حنيفة ومحمد بن الحسن. وفيه أنه لم يجمع على المحصن الرجم والجلد.

ومن باب رجم اليهود

وفيه أنه لما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم مستفتياً عن ابنه مخبراً عنه إن زنا بامرأته لم يجعله قاذفاً لها. وفيه أنه لم يوقع الفرقة بالزنا بينها وبين زوجها. وفيه أنه لم يشترط عليها في الاعتراف بالزنا التكرار وإنما علق الحكم بوجود الاعتراف حسب. وفيه دليل على جواز الوكالة في إقامة الحدود وقد اختلف العلماء فيها. وفيه دليل على أنه لا يجب على الإمام حضور المرجوم بنفسه. وفيه إثبات الإجارة والحديث فيها قليل وقد أبطلها قوم لأنها زعموا ليست بعين مرئية ولا صفة معلومة. وفي الحديث دليل على قبول خبر الواحد. ومن باب رجم اليهود قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة قال قرأت على مالك بن أنس عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال إن اليهود جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا أن رجلاً منهم وامرأة زنيا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تجدون في التوراة في شأن الزناة فقالوا نفضحهم ويجلدون فقال عبد الله بن سلام كذبتم إن فيها الرجم فأتوا بالتوراة فنشروها فجعل أحدهم يده على آية الرجم ثم جعل يقرأ ما قبلها وما بعدها فقال له عبد الله بن سلام ارفع يدك فرفعها فإذا فيها آية الرجم فقالوا صدق يا محمد فيها آية الرجم فأمر بهما رسول الله فرجما قال ابن عمر رضي الله عنه فرأيت الرجل يجنأ على المرأة يقيها الحجارة. قلت هكذا قال يجنأ والمحفوط يحنا أي يكب عليها، يقال حنا الرجل

يحنا حنوا إذا أكب على الشيء قال كثير: أعزة لو شهدت غداة بنتم ... حنوء العائدات على وسادي فيه من الفقه ثبوت أنكحة أهل الكتاب وإذا ثبتت أنكحتهم ثبت طلاقهم وظهارهم وإيلاؤهم. وفيه دليل على أن نكاح أهل الكتاب يوجب التحصين إذ لا رجم إلاّ على المحصن. ولو أن مسلماً تزوج يهودية أو نصرانية ودخل بها ثم زنا كان عليه الرجم وهو قول الزهري، وإليه ذهب الشافعي. وقال أبو حنيفة وأصحابه الكتابية لا تحصن المسلم وتأول بعضهم معنى الحديث على أنه إنما رجمهما بحكم التوراة ولم يحملهما على أحكام الإسلام وشرائطه. قلت وهذا تأويل غير صحيح لأن الله سبحانه يقول {وأن احكم بينهم بما أنزل الله} [المائدة: 49] وإنما جاءه القوم مستفتين طمعاً في أن يرخص لهم في ترك الرجم ليعطلوا به حكم التوراة فأشار عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كتموه من حكم التوراة ثم حكم عليهم بحكم الإسلام على شرائطه الواجبة فيه. وليس يخلو الأمر فيما صنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك عن أن يكون موافقاً لحكم الإسلام أو مخالفا له فإن كان مخالفاً فلا يجوز أن يحكم بالمنسوخ ويترك الناسخ. وإن كان موافقاً له فهو شريعته والحكم الموافق لشريعته لا يجوز أن يكون مضافاً إلى غيره ولا أن يكون فيه تابعاً لمن سواه. وفيه دليل على أن المرجوم لا يشد ولا يربط ولو كان مربوطاً لم يمكنه أن يحنا عليها ويقيها الحجارة.

قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عنبسة حدثنا يونس قال: قال محمد بن مسلم سمعت رجل من مزينة ممن يتبع العلم ويعيه ونحن عند ابن المسيب، عَن أبي هريرة، قال زنا رجل من اليهود وامرأة فقال بعضهم لبعض اذهبوا بنا إلى هذا النبي فإنه نبي بعث بالتخفيف فإن أفتانا بفتيا دون الرجم قبلناها واحتججنا بها عند الله عز وجل قلنا فتيا نبي من أنبيائك قال فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المجلس في أصحابه فقالوا يا أبا القاسم ما ترى في رجل وامرأة منهم زنيا فلم يكلمهم بكلمة حتى أتى بيت مدراسهم فقام على الباب فقال أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ما تجدون في التوراة على من زني إذا أحصن قالوا يحمم ويُجبَّه ويجلد والتجبية أن يحمل الزانيان على حمار فيقابل أقفيتهما ويطاف بهما قال وسكت شاب منهم فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم سكت الظّ به النشدة فقال اللهم إذ نشدتنا فإنا نجد في التوراة الرجم قال النبي صلى الله عليه وسلم فما أول ما ارتخصتم في أمر الله قال زنا ذو قرابة من ملك ملوكنا فأخر عنه الرجم، ثم زنا رجل في أسرة من الناس فأراد رجمه فحال قومه دونه فقالوا لا يرجم صاحبنا حتى تجيء بصاحبك فترجمه فاصطلحوا على هذه العقوبة بينهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم فإني أحكم بما في التوراة ثم أمر بهما فرجمهما. التحميم تسويد الوجه بالحمم والتجبية مفسر في الحديث ويشبه أن يكون أصله الهمز وهو يجبأ من التجبئة وهو الردع والزجر، يقال جبأته فجبأ أي ارتدع فقلبت الهمزة هاء، والتجبية أيضاً أن تنكس رأسه فيحتمل أن يكون المحمول على الحمار إذا فعل ذلك به نكس رأسه فسمي ذلك الفعل تجبية. وقد يحتمل أيضاً أن يكون ذلك من الجبه وهو الاستقبال بالمكروه،

ومن باب الرجل يزني بحريمه

وأصل الجبه إصابة الجبهة يقال جبهت الرجل إذا أصبت جبهته كما تقول رأسته أصبت رأسه. وقوله ألظّ به النشدة معناه القسم وألح عليه في ذلك ومنه قوله صلى الله عليه وسلم ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام أي سلوا الله بهذه الكلمة وواظبوا على المسألة بها. والأسرة عشيرة الرجل وأهل بيته. وفي قوله فإني أحكم بما في التوراة حجة لمن قال يقول أبي حنيفة إلاّ أن الحديث عن رجل لا يعرف، وقد يحتمل أن يكون معناه أحكم بما في التوراة احتجاجاً به عليهم وإنما حكم بما كان في دينه وشريعته فذكره التوراة لا يكون علة للحكم. ومن باب الرجل يزني بحريمه قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا خالد بن عبد الله حدثنا مطرف، عَن أبي الجهم عن البراء بن عازب قال بينما أنا أطوف على إبل لي ضلت إذ أقبل ركب أو فوارس معهم لواء فجعل الأعراب يطيفون بي لمنزلتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أتوا قبة فاستخرجوا منها رجلاً فضربوا عنقه فسألت عنه فذكروا أنه أعرس بامرأة أبيه. قوله أعرس كناية عن النكاح والبناء على الأهل وحقيقته الإلمام بالعرس. وفيه بيان أن نكاح ذوات المحارم بمنزلة الزنى وأن اسم العقد فيه لا يسقط الحد. قال أبو داود: حدثنا عمرو بن قسيط الرقي حدثنا عبيد الله بن عمرو عن زيد بن أبي أنيسة عن عدي بن ثابت عن يزيد بن البراء عن أبيه قال لقيت عمي ومعه راية فقلت أين تريد قال بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل نكح امرأة أبيه فأمرني أن أضرب عنقه وآخذ ماله.

قلت وفي هذا التصريح بذكر النكاح وظاهره العقد وقد تأوله بعضهم على الوطء بلا عقد، وهذا تأويل فاسد ويدل على ذلك ما حدثنا أحمد بن هشام الحضرمي حدثنا أحمد بن عبد الجبار العطاردي حدثنا حفص بن غياث عن أشعث بن سواد عن عدي بن ثابت عن البراء بن عازب قال مر بي خالى ومعه لواء فقلت أين تذهب فقال بعثني النبي صلى الله عليه وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه آتيه برأسه. قلت فهذا جاء بلفظ التزويج كما ترى. ومن ادعى أن هذا النكاح شبهة فسقط من أجلها الحد فقد أبعد لأن الشبهة إنما تكون في أمر يشبه الحلال من بعض الوجوه وذوات المحارم لا تحل بوجه من الوجوه ولا في حال من الأحوال، وإنما هو زنا محض وإن لقب بالنكاح كمن استأجر أمة فزنى بها فهو زنا وإن لقب باسم الاجارة ولم يكن ذلك مسقطاً عنه الحد وإن كانت المنافع قد تستباح بالإجارات. وزعم بعضهم أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمر بقتله لاستحلال نكاح امرأة أبيه، وكان ذلك مذهب أهل الجاهلية كان الرجل منهم يرى أنه أولى بامرأة أبيه من الأجنبي فيرثها كما يرث ماله وفاعل هذا على الاستباحة له مرتد عن الدين فكان هذا جزاؤه القتل لردته. قلت وهذا تأويل فاسد ولو جاز أن يتأول ذلك في قتله لجاز أن يتأول مثله في رجم من رجمه صلى الله عليه وسلم من الزناة فيقال إنما قتله بالرجم لاستحلال الزنا وقد كان أهل الجاهلية يستحلون الزنا فلا يجب على من زنى الرجم حتى يعتقد هذا الرأي وهذا ما لا خفاء بفساده وإنما أمر صلى الله عليه وسلم بقتله لزناه ولتخطيه الحرمة في أمه.

ومن باب الرجل يزني بجارية امرأته

وقد أوجب بعض الأئمة تغليظ الدية على من قتل ذا محرم، وكذلك أوجبوا على من قتل في الحرم فألزموه دية وثلثاً وهو قول عثمان بن عفان رضي الله عنه. وروي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أنه أتي بشارب في رمضان فضربه حد السكر وزاده عشرين لارتكابه ما حرم الله عليه في ذلك الشهر. وقد اختلف العلماء فيمن نكح ذات محرم فقال الحسن البصري عليه الحد وهو قول مالك بن أنس والشافعي. وقال أحمد بن حنبل يقتل ويؤخذ ماله، وكذلك قال إسحاق على ظاهر الحديث وقال سفيان يدرأ عنه الحد إذا كان التزويج بشهود. وقال أبو حنيفة يعزر ولا يحد. وقال صاحباه أما نحن فنرى عليه الحد إذا فعل ذلك متعمداً. ومن باب الرجل يزني بجارية امرأته قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا أبان حدثنا قتادة عن خالد بن عرفطة عن حبيب بن سالم أن رجلاً يقال له عبد الرحمن بن حنين وقع على جارية امرأته فرفع إلى النعمان بن بشير وهو أمير على الكوفة فقال لأقضين فيك بقضية رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كانت احلتها لك جلدتك مائة، وإن لم تكن أحلتها لك رجمتك بالحجارة فوجدوه أحلتها له فجلدوه مائة، قال قتادة كتبت إلى حبيب بن سالم فكتب إليَّ بهذا. قلت هذا الحديث غير متصل وليس العمل عليه. قال أبو عيسى سألت محمد بن إسماعيل عنه فقال أنا أنفي هذا الحديث. وقد روي عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما إيجاب الرجم

على من وطىء جارية امرأته، وبه قال عطاء بن أبي رباح وقتادة ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق. وقال الزهري والأوزاعي يجلد ولا يرجم. وقال أبو حنيفة وأصحابه فيمن أقر أنه زني بجارية امرأته يحد وإن قال ظننت أنها تحل لي لم يحده. وعن الثوري أنه قال إذا كان يعرف بالجهالة يعزر ولا يحد، وقال بعض أهل العلم في تخريج هذا الحديث أن المرأة إذا أحلتها له فقد أوقع ذلك شبهة في الوطء فدرىء عنه الرجم، وإذا درأنا عنه حد الرجم وجب عليه التعزير لما أتاه من المحظور الذي لا يكاد يعذر بجهله أحد نشأ في الإسلام أو عرف شيئا من أحكام الدين فزيد في عدد التعزير حتى بلغ به حد الزنا للبكر ردعاً له وتنكيلاً. وكأنه نحا في هذا التأويل نحو مذاهب مالك فإنه يرى للإمام أن يبلغ بالتعزير مبلغ الحد وإن رأى أن يزيد عليه فعل. قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن قتادة عن الحسن عن قبيصة بن حريث عن سلمة بن المحبق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في رجل وقع على جارية امرأته إن كان استكرهها فهي حرة وعليه لسيدتها مثلها وإن طاوعته فهي له وعليه لسيدتها مثلها. قلت هذا حديث منكر وقبيصة بن حريث غير معروف والحجة لا تقوم بمثله، وكان الحسن لا يبالي أن يروي الحديث ممن سمع. وقد روي عن الأشعث صاحب الحسن أنه قال بلغني أن هذا كان قبل الحدود. قلت لا أعلم أحداً من الفقهاء يقول به، وفيه أمور تخالف الأصول.

ومن باب من عمل عمل قوم لوط

منها إيجاب المثل في الحيوان ومنها استجلاب الملك بالزنا. ومنها إسقاط الحد عن البدن وايجاب العقوبة في المال. وهذه كلها أمور منكرة لا تخرج على مذهب أحد من الفقهاء وخليق أن يكون الحديث منسوخاً إن كان له أصل في الرواية والله أعلم. ومن باب من عمل عمل قوم لوط قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي حدثنا عبد العزيز بن محمد عن عمرو عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به. قال أبو داود: حدثنا إسحاق بن راهويه أخبرنا عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج أخبرني ابن خثيم قال سمعت سعيد بن جبير ومجاهد يحدثان عن ابن عباس رضى الله تعالى عنه في البكر يوجد على اللوطية قال يرجم. قلت في هذا الصنع هذه العقوبة العظيمة وكأن معنى الفقهاء فيه أن الله سبحانه أمطر الحجارة على قوم لوط فقتلهم بها ورتبوا القتل المأمور به على معاني ما جاء فيه في أحكام الشريعة فقالوا يقتل بالحجارة رجماً إن كان محصناً ويجلد مائة إن كان بكراً ولا يقتل. وإلى هذا ذهب سعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح والنخعي والحسن وقتادة وهو أظهر قولي الشافعي. وحكي ذلك أيضاً، عَن أبي يوسف ومحمد. وقال الأوزاعي حكمه حكم الزاني، وقال مالك بن أنس وإسحاق بن راهويه يرجم إن أحصن أو لم يحصن وروى ذلك عن الشعبي.

ومن باب فيمن أتى بهيمة

وقال أبو حنيفة يعزر ولا يحد وذلك أن هذا الفعل ليس عندهم زنا. وقال بعض أهل الظاهر لا شيء على من فعل هذا الصنيع. قلت وهذا أبعد الأقاويل من الصواب وأدعاها إلى إغراء الفجار به وتهوين ذلك بأعينهم وهو قول مرغوب عنه. ومن باب فيمن أتى بهيمة قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي حدثنا عبد العزيز بن محمد حدثني عمرو بن أبي عمرو عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أتي بهيمة فاقتلوه واقتلوها معه، قال قلت ما شأن البهيمة قال ما أراه قال ذلك إلاّ أنه كره أن يؤكل لحمها وقد عمل بها ذلك العمل. قال أبو داود: حدثنا أحمد بن يونس أن شريكاً وأبا الأحوص وأبا بكر بن عياش حدثوهم عن عاصم عن ابن رزين عن ابن عباس رضي الله عنه قال: ليس على الذي يأتي بهيمة حد. قال أبو داود وحديث عاصم يضعف حديث عمرو بن أبي عمرو. قلت يريد أن ابن عباس لو كان عنده في هذا الباب حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخالفه. وقال يحيى بن معين عمرو بن أبي عمرو ليس به بأس وليس بالقوي. وقال محمد بن إسماعيل عمرو صدوق ولكن روى عن عكرمة مناكير ولم يذكر في شيء عمن حديثه أنه سمع من عكرمة. قلت وقد عارض هذا الحديث نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل الحيوان إلاّ لمأكلة. وقد اختلف العلماء فيمن أتي هذا الفعل فقال إسحاق بن راهويه يقتل إذا تعمد ذلك

ومن باب الأمة تزني ولم تحصن

وهو يعلم ما جاء فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن درأ عنه إمام القتل فلا ينبغي أن يدرأ عنه جلد مائة تشبيهاً بالزنا. وروي عن الحسن أنه قال يرجم إن كان محصناً ويجلد إن كان بكراً. وقال الزهري يجلد مائة أحصن أو لم يحصن. وقال أكثر الفقهاء يعزر وكذلك قال عطاء والنخعي وبه قال مالك وسفيان الثوري وأحمد بن حنبل، وكذلك قال أبو حنيفة وأصحابه وهو أحد قولي الشافعي وقوله الآخر إن حكمه حكم الزاني. ومن باب الأمة تزني ولم تحصن قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عَن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن، قال إن زنت فاجلدوها ثم إن زنت فاجلدوها ثم إن زنت فبيعوها ولو بضفير، قال ابن شهاب لا أدري في الثالثة أو الرابعة والضفير الحبل. فيه من الفقه وجوب إقامة الحد على المماليك إلاّ أن حدودهم على النصف من حدود الأحرار اقوله تعالى {فلهن نصف ما على المحصنات من العذاب} [النساء: 25] . ولا يرجم المماليك وإن كانوا ذوي أزواج لأن الرجم لا يتنصف فعلم أنهم لم بدخلوا في الخطاب ولم يعنوا بهذا الحكم. وأما قوله إذا زنت ولم تحصن فقد اختلف الناس في هذه اللفظة فقال بعضهم إنها غير محفوظة. وقد روي هذا الحديث من طريق غير هذا ليس فيه ذكر الإحصان. وقال بعضهم إنما هو مسألة عن أمة زنت ولا زوج لها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: تجلد أي

كما تجلد ذوات الزوج وإنما هو اتفلق حال في المسؤول عنه وليس بشرط يتعلق به في الحكم فيختلف من أجل وجوده وعدمه. وقد اختلف الناس في المملوكة إذا زنت ولا زوج لها، فروي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال لا حد عليها حتى تحصن وكذلك قال طاوس. وقرأ ابن عباس {فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب} [النساء: 25] وقرأها أحصن بضم الألف. وقال أكثر الفقهاء تجلد وإن لم تتزوج ومعنى الإحصان فيهن الإسلام. وقرأها عاصم والأعمش وحمزة والكسائي أحصن مفتوحة الألف بمعنى أسلمن. والضفير الحبل المفتول. وفيه دليل على أن الزنا عيب في الرقيق يرد به ولذلك حط من القيمة وهضم من الثمن. وفيه دليل على جواز بيع غير المحجورعليه ماله بما لا يتغابن به الناس. قال أبو داود: حدثنا ابن نفيل حدثنا محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه، عَن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث، وقال إن زنت فليضربها كتاب الله ولا يثرّب عليها. معنى التثريب التعيير والتبكيت يقول لا يقتصر على أن يبكتها بفعلها أو يسبها ويعطل الحد الواجب عليها. وفيه دليل على أن للسيد أن يقيم الحد على مملوكه دون السلطان. وروي ذلك عن ابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهما والحسن البصري والزهري، وبه قال سفيان الثوري ومالك والأوزاعي والشافعي.

ومن باب إقامة الحد على المريض

وقال أبو حنيفة وأصحابه يرفعها إلى السلطان ولا يتولى إقامة الحد عليها. في قوله فليضربها كتاب الله دليل على أن الضرب المأمور به هو تمام الحد المذكور في الكتاب الذي هو عقوبة الزاني دون ضرب التعزير والتأديب. وقال أبو ثور في هذا الحديث إيجاب الحد وإيجاب للبيع أيضاً لا يمسكها إذا زنت أربعاً. ومن باب إقامة الحد على المريض قال أبو داود: حدثنا أحمد بن سعيد الهمداني حدثنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب أخبرني أبو أمامة عن سهل بن حنيف أنه أخبره بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار أنه اشتكى رجل منهم حتى أضني فعاد جلدة على عظم فدخلت عليه جارية لبعضهم فهش لها فوقع عليها، فلما دخل عليه رجال من قومه يعودونه أخبرهم بذلك وقال استفتوا لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فإني قد وقعت على جارية دخلت علي فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا ما رأينا بأحد من الناس من الضر مثل الذي هو به لو حملناه إليك لتفسخت عظامه ما هو إلاّ جلد على عظم فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذوا له مائة شمراخ فيضربوه بها ضربة واحدة. قوله أضني معناه أصابه الضنى وهو شدة المرض وسوء الحال حتى ينحل بدنه ويهزل، ويقال إن النضى انتكاس العلة. وفيه من الفقه أن المريض إذا كان ميؤوساً منه ومن معاودة الصحة والقوة إياه وقد وجب عليه الحد فإنه يتناول بالضرب الخفيف الذي لا يهده. وممن قال من العلماء بظاهر هذا الحديث الشافعي، وقال إذا ضربه ضربة واحدة بما يجمع له من الشماريخ فعلم أن قد وصلت كلها إليه ووقعت به أجزأه ذلك.

ومن باب الحد في الخمر

وكان بعض أصحاب الشافعي يقول إذا كان السارق ضعيف البدن فخيف عليه من القطع التلف لم يقطع. وقال بعضهم هذا الحديث أصل في وجوب القصاص على من قتل رجلاً مريضا بنوع من الضرب لو ضرب بمثله صحيحاً لم يهلك فإنه يعتبر خلقة المقتول في الضعف والقوة وبنيته في احتمال الألم فإن من الناس من لو ضرب الضرب المبرح الشديد لاحتمله بدنه وسلم عليه، ومنهم من لا يحتمله ويسرع إليه التلف بالضرب الذي ليس بالمبرح الشديد فإذا مات هذا الضعيف كان ضاربه قاتلاً له وكان حكم الآخر بخلافه لقوة هذا وضعف ذلك. قلت وهذا قول فيه نظر وضبط ذلك غير ممكن واعتباره متعذر والله أعلم. وقال مالك وأبو حنيفة وأصحابه لا نعرف الحد إلاّ حداً واحداً الصحيح والزمن فيه سواء. قالوا ولو جاز هذا لجاز مثله في الحامل أن تضرب بشماريخ النخل ونحوه، فلما أجمعوا أنه لا يجري ذلك في الحامل كان الزمن مثل ذلك. ومن باب الحد في الخمر قال أبو داود: حدثنا الحسن بن على ومحمد بن المثنى وهذا حديثه قالا: حَدَّثنا أبو عاصم عن ابن جريج عن محمد بن علي بن ركانة عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يَقِت في الخمر حداً. وقال ابن عباس شرب رجل فسكر فلقي يميل في الفج فانطلق به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلما حاذى بدار العباس رضي الله عنه انفلت فدخل على العباس فالتزمه فذكر

ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فضحك وقال أفعلها ولم يأمر فيه بشيء. قلت في هذا دليل على أن حد الخمر أخف الحدود وإن كان الخطب فيه أيسر منه في سائر الفواحش. وقد يحتمل أن يكون إنما لم يتعرض له بعد دخوله دار العباس رضي الله عنه من أجل أنه لم يكن ثبت عليه الحد بإقرار منه أو شهادة عدول، وإنما لقي في الفج يميل فظن به السكر فلم يكشف عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركه على ذلك والله أعلم. والفج الطريق. وقوله لم يقت أي لم يوقت يقال وقت يقت ومنه قول الله تعالى {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتا} [النساء: 103] . قال أبو داود: حدثنا مسدد وموسى بن إسماعيل المعنى قالا: حَدَّثنا عبد العزيز بن المختار حدثنا عبد الله الداناج حدثني حضين بن المنذر الرقاشي هو أبو ساسان قال شهد عثمان بن عفان رضي الله عنه وأتي بالوليد بن عتبة فشهد عليه حمران ورجل آخر فشهد أحدهما أنه رآه يشربها، يَعني الخمر، وشهد الآخر أن رآه يتقاياها، قال عثمان رضي الله عنه أنه لم يتقاياها حتى شربها وقال لعلي كرم الله وجهه أقم عليه الحد فقال علي للحسين رضي الله عنهما أقم عليه الحد فقال الحسن رضي الله عنه ولِّ حارَّها من تولى قارَّها، فقال علي كرم الله وجهه لعبد الله بن جعفر أقم عليه الحد فأخذ السوط فجلده وعليّ يعد فلما بلغ أربعين قال حسبك جلد النبي صلى الله عليه وسلم أربعين وجلد أبو بكر رضي الله عنه أربعين وجلد عمر رضي الله عنه ثمانين وكلٌ سنة وهذا أحب إليَّ منه. قوله ول حارها من تولى قارها مَثَل أي ول العقوبة والضرب من توليه العمل والنفع. والقار البارد.

وقال الأصمعي معناه ولِّ شديدها من تولى هينها وكلاهما قريب. وفي قول علي رضي الله عنه عند الأربعين حسبك دليل على أن أصل الحد في الخمر إنما هو أربعون وما وراءها تعزير. وللإمام أن يزيد في العقوية إذا أداه اجتهاده إلى ذلك، ولو كانت الثمانون حداً ما كان لأحد فيه الخيار، وإلى هذا ذهب الشافعي. وقال مالك وأبو حنيفة وأصحابه الحد في الخمر ثمانون ولا خيار للإمام فيه. وقوله وكل سنة يريد أن الأربعين سنة قد عمل بها النبي صلى الله عليه وسلم في زمانه، والثمانون سنة رآها عمر رضي الله عنه ووافقه من الصحابة علي فصارت سنة. وقد قال صلى الله عليه وسلم اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر. قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا أبان عن عاصم، عَن أبي صالح عن معاوية بن أبي سفيان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا شربوا الخمر فاجلدوهم ثم إن شربوا فاجلدوهم ثم إن شربوا فاجلدوهم ثم إن شربوا فاقتلوهم. قلت قد يرد الأمر بالوعيد ولا يراد به وقوع الفعل فإنما يقصد به الردع والتحذير كقوله صلى الله عليه وسلم من قتل عبده قتلناه ومن جذع عبده جذعناه وهو لو قتل عبده لم يقتل به في قول عامة العلماء، وكذلك لو جذعه لم يجذع له بالاتفاق. وقد يحتمل أن يكون القتل في الخامسة واجبا ثم نسخ لحصول الإجماع من الأمة على أنه لا يقتل. وقد روي عن قبيصة بن ذؤيب ما يدل على ذلك. قال أبو داود: حدثنا أحمد بن عبدة الضبي حدثنا سفيان حدثنا الزهري أخبرنا قبيصة بن ذؤيب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من شرب الخمر فاجلدوه فإن عاد فاجلدوه فإن عاد فاجلدوه فإن عاد في الثالثة أو الرابعة فاقتلوه فأتي برجل قد شرب فجلده ثم أتي به فجلده ثم أتي به فجلده ثم أتي فجلده ورفع القتل وكانت رخصة.

ومن باب في التعزير

قال أبو داود: حدثنا سليمان بن داود المهري حدثنا ابن وهب أخبرني أسامة بن زيد أن ابن شهاب حدثه عن عبد الرحمن بن أزهر قال كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الآن وهو في الرحال يلتمس رحل خالد بن الوليد فبينما هو كذلك إذ أتي برجل قد شرب الخمر فقال للناس اضربوه فمنهم من ضربه بالنعال ومنهم من ضربه بالعصا ومنهم من ضربه بالميتخة. قال ابن وهب الجريدة الرطبة. قلت هكذا قال الميتخة الياء قبل التاء وهي اسم للعصا الخفيفة وهي أيضاً المتيخة التاء المعجمة من فوق قبل الياء وسميت متيخة لأنها تتوخ أي تأخذ في المضروب من قولك تاخت أصبعي في الطين. ومن باب في التعزير قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن بكير بن عبد الله الأشج عن سليمان بن يسار عن عبد الرحمن بن جابر بن عبد الله، عَن أبي بردة الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: لا يجلد فوق عشر جلدات إلاّ في حد من حدود الله. قلت قد اختلفت أقاويل العلماء في مقدار التعزير ويشبه أن يكون السبب في اختلاف مقاديره عندهم ما رواه من اختلاف مقادير الجنايات والأجرام فزادوا في الأدب ونقصوا منه على حسب ذلك. وكان أحمد بن حنبل يقول للرجل أن يضرب عبده على ترك الصلاة وعلى المعصية فلا يضرب فوق عشر جلدات، وكذلك قال إسحاق بن راهويه. وكان الشعبي يقول التعزير ما بين سوط إلى ثلاثين. وقال الشافعي لا يبلغ بعقوبته أربعين وكذلك قال أبو حنيفة ومحمد بن الحسن.

وقال أبو يوسف التعزير على قدر عظم الذنب وصغره على قدر ما يرى الحاكم من احتمال المضروب فيما بينه وبين أقل من ثمانين. وعن ابن أبي ليلى إلى خمسة وسبعين سوطاً. وقال مالك بن أنس التعزير على قدر الجرم فإن كان جرمه أعظم من القذف ضرب مائة أو أكثر. وقال أبو ثور التعزير على قدر الجناية وتسرع الفاعل في الشر وعلى ما يكون أنكل وأبلغ في الأدب وإن جاوز التعزير الحد إذا كان الجرم عظيماً مثل أن يقتل الرجل عبده أو يقطع منه شيئا أو يعاقبه عقوبة يسرف فيها فيكون العقوبة فيه على قدر ذلك وما يراه الإمام إذا كان مأموناً عدلاً. وقال بعضهم لا يبلغ بالأدب عشرين لأنها أقل الحدود وذلك أن العبد يضرب في شرب الخمر عشرون. وقد تأول بعض أصحاب الشافعي قوله في جواز الزيادة على الجلدات العشر إلى ما دون الأربعين أنها لا تزداد بالأسواط ولكن بالأيدي والنعال والثياب ونحوها على ما يراه الإمام كما روي فيه حديث عبد الرحمن بن الأزهر. قلت التعزير على مذاهب أكثر الفقهاء إنما هو أدب يقصر على مقدار أقل الحدود إذا كانت الجناية الموجبة للتعزير قاصرة عن مبلغ الجناية الموجبة للحد كما أن أرش الجناية الواقعة في العضو أبداً قاصر عن كمال ذلك العضو وذلك أن العضو إذا كان في كله شيء معلوم فوقعت الجناية على بعضه كان معقولاً أنه لا يستحق فيه كل ما في العضو.

كتاب الديات

الجزء الرابع **************** بسم الله الرحمن الرحيم كتاب الديات ومن باب الإمام يأمر بالعفو في الدم قال أبو داود: حدثنا عبيد الله بن عمر بن ميسرة الجشمي حدثنا يحيى بن سعيد عن عوف حدثنا حمزة أبو عمر العائذي حدثني علقمة بن وائل حدثني وائل بن حجر قال كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جيء برجل قاتل في عنقه النِّسعة قال فدعا ولي المقتول، فقال أتعفو، قال لا، فتأخذ الدية قال لا، قال افتقتل، قال نعم، قال اذهب به فلما كان في الرابعة قال أما إنك إن عفوت عنه يبوء بإثمه واثم صاحبه قال فعفا عنه قال وانا رأيته يجر النِّسعة. قلت فيه من الفقه أن الولي مخير بين القصاص أو أخذ الدية. وفيه دليل على أن دية العمد تجب حالة في مال الجاني. وفيه دليل على أن للإمام أن يتشفع إلى ولي الدم في العفو بعد وجوب القصاص. وفيه إباحة الاستيثاق بالشد والرباط ممن يجب عليه القصاص إذا خشي انفلاته وذهابه. وفيه جواز قبول إقرار من جيء به في حبل أو رباط. وفيه دليل على أن القاتل إذا عفا عنه لم يلزمه التعزير.

وحكي عن مالك بن أنس أنه قال يضرب بعد العفو مائة ويحبس سنة. وقوله فإنه يبوء باثمه واثم صاحبه، معناه أنه يتحمل إثمه في قتل صاحبه فأضاف الإثم إلى صاحبه إذ صار بكونه محلاً للقتل سبباً لإثمه، وهذا كقوله سبحانه {إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون} [الشعراء: 27] فأضاف الرسول إليهم وإنما هو في الحقيقة رسول الله عز وجل أرسله إليهم. وأما الإثم المذكور ثانيا فهو إثمه فيما قارفه من الذنوب التي بينه وبين الله عز وجل سوى الإثم الذي قارفه من القتل فهو يبوء به إذا أعفي عن القتل ولو قل لكان القتل كفارة والله أعلم. قال أبو داود: حدثنا محمد بن عوف حدثنا عبد القدوس بن الحجاج حدثنا يزيد بن عطاء الواسطي عن سماك عن علقمة بن وائل عن أبيه قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بحبشي فقال إن هذا قتل ابن أخي قال فكيف قتلته قال ضربت رأسه بالفأس ولم أرد قتله، قال هل لك مال تؤدي ديته قال لا، قال أفرأيت إن أرسلتك تسأل الناس تجمع ديته، قال لا، قال فمواليك يعطونك ديته، قال لا قال للرجل خذه فخرج به ليقتله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما إنه إن قتله كان مثله فبلغ الرجل قوله فقال هو ذا فمر به ما شئت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسله قال مرة دعه يبوء بإثم صاحبه وإثمه فيكون من أصحاب النار قال فأرسله. قال الشيخ قول أما أنه إن قتله كان مثله يحتمل وجهين. أحدهما أنه لم ير لصاحب الدم أن يقتله لأنه ادعى أن قتله كان خطأ أو كان شبه العمد فأورث ذلك شبهة في وجوب القتل. والوجه الآخر أن يكون معناه أنه إذا قتله كان مثله في حكم البواء فصارا

متساويين لا فضل للمقتص إذا استوفى حقه على المقتص منه. قال أبو داود: حدثنا وهب بن بيان حدثني ابن وهب حدثني عبد الرحمن بن أبي الزناد عن عبد الرحمن بن الحارث عن محمد بن جعفر بن الزبير أنه سمع زياد بن سعد بن ضميرة السلمى يحدث عن عروة بن الزبير عن أبيه أن محلِّم بن جثامة الليثي قتل رجلاً من أشجع في الإسلام وذلك أول غِيَرٍ قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فتكلم عيينة في قتل الأشجعي لأنه من غطفان، وتكلم الأقرع بن حابس دون محلم لأنه من خندف، قال فارتفعت الأصوات وكثرت الخصومة واللغط فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا عيينة ألا تقبل الغير، قال عيينة لا والله حتى أدخل على نسائه الحرب والحزن ما أدخل على نسائي ثم ارتفعت الأصوات وكثرت الخصومة واللغط، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا عيينة ألا تقبل الغير فقال عيينة مثل ذلك أيضاً إلى أن قام رجل من بني ليث يقال له مُكيتل عليه شِكة وفي يده دَرِقة، فقال يا رسول الله إني لا أجد لما فعل هذا في غرة الإسلام مثلاً إلاّ غنماً وردت فرُمي أولها فنفر آخرها اسنن اليوم وغير غداً وذكر باقي الحديث. الغير الدية والشكة السلاح وغرة الإسلام أوله. وقوله اسنن اليوم وغير غداً مثل يقول إن لم تقتص منه اليوم لم تثبت سننك غداً ولم ينفذ حكمك بعدك وإن لم تفعل ذلك وجد القائل سبيلاً إلى أن يقول مثل هذا القول، أعني قوله اسنن اليوم وغير غداً فتتغير لذلك سنتك وتتبدل أحكامها. وفيه دليل على أن ولي الدم مخير بين القصاص وأخذ الدية وأن للإمام أن يطلب إلى ولي الدم في العفوعن القود على أخذ الدية.

ومن باب ولي العبد يرضى بالدية

ومن باب ولي العبد يرضى بالدية قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يحيى بن سعيد حدثنا ابن أبي ذئب حدثني سعيد بن أبي سعيد قال سمعت أبا شريح الكعبي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلاّ أنكم معشر خزاعة قد قتلتم هذا القتيل من هذيل وإني عاقله فمن قتل له بعد مقالتي هذه قتيل فأهله بين خيرتين بين أن يأخذوا العقل وبين أن يَقتلوا. قلت وفيه بيان أن الخيار إلى ولي الدم في القصاص وأخذ الدية وأن القاتل إذا قال لا أعطيكم المال فاستقيدوا مني واختار أولياء الدم المال كان لهم مطالبته به. ولو قتله جماعة كان لولي الدم أن يقتل منهم من شاء ويطالب بالدية من شاء وإلى هذا ذهب الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه. وقد روي هذا المعنى عن ابن عباس رضي الله عنه وهو قول سعيد بن المسيب والشعبي وابن سيرين وعطاء وقتادة. وقال الحسن والنخعي ليس لأولياء الدم إلاّ الدم إلاّ أن يشاء القاتل أن يعطي الدية. وقال أبو حنيفة وأصحابه ليس له إلاّ القود فإن عفا فلا يثبت له المال إلاّ برضا القاتل. وكذلك قال مالك بن أنس. وفي قوله فأهله بين خيرتين دليل على أن الدية مستحقة لأهله كلهم ويدخل في ذلك الرجال والنساء والزوجات لأنهم جميعاً أهله.

ومن باب فيمن سقى رجلا سما

وفيه دليل على أن بعضهم إذا كان غائباً أو طفلاً لم يكن للباقين القصاص حتى يبلغ الطفل ويقدم الغائب لأن من كان له خيار في أمر لم يجز أن يفتات عليه قبل أن يختار لأن في ذلك إبطال خياره، وإلى هذا ذهب أبو يوسف ومحمد بن الحسن وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق. وقال مالك وأبو حنيفة للكبار أن يستوفوا حقوقهم في القود ولا ينتظر بلوغ الصغار. وفيه دليل على أن القاتل إذا مات فتعذر القود فإن للأولياء أن يأخذوا الدية من ورثته وذلك لأنهم خيروا بين أن يعلقوا حقوقهم في الرقبة أو الذمة فمهما فات أحد الأمرين كان لهم استيفاء الحق من الآخر. وقال أبو حنيفة إذا مات فلا شيء لهم لأن حقهم إنما كان في الرقبة وقد فاتت فلا سبيل لهم على ورثته فيما صار من ملكه إليهم. ومن باب فيمن سقى رجلاً سَمّاً أو أطعمه شيئاً فمات قال أبو داود: حدثنا سليمان بن داود المهري حدثنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب قال كان جابر بن عبد الله يحدث أن يهودية من أهل خيبر سمت شاة مصلية ثم أهدتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الذراع فأكل منها وأكل رهط من أصحابه معه ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ارفعوا أيديكم وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليهودية فدعاها فقال لها سممت هذه الشاة، قالت اليهودية من أخبرك، قال أخبرتني هذه الذراع، قالت نعم، قال فما أردت إلى ذلك، قالت قلت إن كان نبياً فلن يضره، وإن لم يكن نبياً استرحنا منه، فعفا عنها

رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعاقبها وتوفي بعض أصحابه الذين أكلوا من الشاة واحتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم على كاهله من أجله. قال أبو داود: حدثنا وهب بن بقية عن خالد عن محمد بن عمر وعن أبي سلمة وذكر نحو حديث جابر وقال فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتلت ولم يذكر أمرالحجامة. قال الشيخ قوله مصلية هي المشوية بالصلأ. وقد اختلف الناس فيما يجب على من جعل في طعام رجل سماً فأكله فمات فقال مالك بن أنس عليه القود وأوجب الشافعي في أحد قوليه إذ جعل في طعامه سماً وأطعمه إياه أو في شرابه فسقاه ولم يعلمه أن فيه سماً. قال الشافعي وإن خلطه بطعام فوضعه ولم يقل له فأكله أو شربه فمات فلا قود عليه. قلت والأصل أن المباشرة والسبب إذا اجتمعا كان حكم المباشرة مقدماً على السبب كحافر البئر والدافع فيها. فأما إذا استكرهه على شرب السم فعليه القود في مذهب الشافعي ومالك. وعن أبي حنيفة إن سقاه السم فمات لم يقتل به وإن أوجره إيجاراً كان على عاقلته الدية. قلت أما حديث اليهودية فقد اختلفت الرواية فيه وأما حديث أبي سلمة فليس بمتصل. وحديث جابر أيضاً ليس بذاك المتصل لأن الزهري لم يسمع من جابر شيئاً. ثم أنه ليس في هذا الحديث أكثر من أن اليهودية أهدتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم

ومن باب من قتل عبده أو مثل به أيقاد

بأن بعثت بها إليه فصارت ملكاً له وصارت أصحابه أضيافاً له، ولم تكن هي التي قدمتها إليهم واليه وما هذا سبيله فالقود ساقط لما ذكرنا من علة المباشرة وتقديمها على السبب. وفي الحديث دليل على إباحة أكل طعام أهل الكتاب وجواز مبايعتهم ومعاملتهم مع إمكان أن يكون في أموالهم الربا ونحوه من الشبهة. وفيه حجة لمن ذهب إلى أن الهدية توجب العوض وذلك أنه صلى الله عليه وسلم لا يقبل الهدية من يهودية إلاّ من حيث يرى فيها التعويض فيكون ذلك عنده بمنزلة المعاوضة بعقد البيع والله أعلم. ومن باب من قتل عبده أو مثل به أيقاد قال أبو داود: حدثنا علي بن الجعد حدثنا شعبة قال وحدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن قتادة عن الحسن عن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من قتل عبده قتلناه. قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي حدثنا سعيد بن عامر، عَن أبي عامر، عَن أبي عروبة عن قتادة بإسناد شعبة مثله. وزاد أن الحسن نسي هذا الحديث، فكان يقول لا يقتل حر بعبد. قلت قد يحتمل أن يكون الحسن لم ينس الحديث ولكنه كان يتأوله على غير معنى الإيجاب ويراه نوعاً من الزجر ليرتدعوا فلا يقدموا على ذلك كما قال صلى الله عليه وسلم في شارب الخمر إذا شرب فاجلدوه فإن عاد فاجلدوه، ثم قال في الرابعة والخامسة فإن عاد فاقتلوه ثم لم يقتله حتى جيء به قد شرب رابعاً أو خامساً.

ومن باب القسامة

وقد تأوله بعضهم على أنه إنما جاء في عبد كان يملكه مرة فزال عنه ملكه وصار كفأً له بالحرية فإذا قتله كان مقتولاً به. وهذا كقوله {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً} [البقرة: 234] أي من كن له أزواجاً قبل الموت. وقد اختلف الناس فيما يجب على من قتل عبده أو قتل عبد غيره فروي، عَن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أنه لا يقتص منه إذا فعل ذلك وكذلك روي عن ابن الزبير رضي الله عنه وهو قول الحسن وعطاء وعكرمة وعمر بن عبد العزيز وبه قال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق. وقال ابن المسيب والشعبي والنخعي وقتادة القصاص بين الأحرار والعبيد ثابت في النفس. وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه. وهذا فيمن قتل عبداً لغيره عمداً وقال سفيان الثوري إذا قتل عبده أو عبد غيره عمداً قتل به، وقد اختلف عنه في ذلك. وحكي أنه قال مثل قول أبي حنيفة وأصحابه وأجمعوا أن القصاص بين الأحرار وبين العبيد ساقط في الأطراف، وإذا منعوا منه في القليل كان منعه في الكبير أولى. وذهب بعض أهل العلم إلى أن حديث سمرة منسوخ وقال لما ثبتا ثبتا معاً فلما نسخا نسخا معاً يريد لما سقط الجدع بالإجماع سقط القصاص كذلك. ومن باب القسامة قال أبو داود: حدثنا عبيد الله بن عمر بن ميسرة ومحمد بن عبيد المعنى قالا: حَدَّثنا حماد بن زيد عن يحيى بن سعيد عن بشير بن يسار عن سهل بن أبي حثمة ورافع

بن خديج أن مُحيِّصة بن مسعود وعبد الله بن سهل انطلقا قبل خيبر فتفرقا في النخل فقتل عبد الله بن سهل فاتهموا اليهود فجاء أخوه عبد الرحمن بن سهل وابنا عمه حويصة ومحيصة فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فتكلم عبد الرحمن في أمر أخيه وهو أصغرهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الكُبَر الكُبر وقال ليبدأ الأكبر فتكلما في أمر صاحبهما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته قالوا أمر لم نشهده كيف نحلف قال فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم قالوا يا رسول الله قوم كفار فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبله. قال أبو داود: ورواه بشر بن المفضل ومالك عن يحيى قالا فيه يحلفون خمسين يميناً ويستحقون دم صاحبكم أو قاتلكم، وقال عبدة عن يحيى كما قال حماد. قال الشيخ قوله الكبر الكبر إرشاد إلى الأدب في تقديم ذوي السن والكبر. وفيه من الفقه جواز الوكالة في المطالبة بالحدود. وفيه جواز وكالة الحاضر وذلك أن ولي الدم إنما هو عبد الرحمن بن سهل أخو القتيل وحويصة ومحيصة أبناء عمه. وفيه من الفقه أن الدعوى في القسامة مخالفة لساتر الدعاوى وأن اليمين يبدأ فيها المدعي قبل المدعى عليه. وفيه دلالة على وجوب رد اليمين على المدعي عند نكول المدعى عليه. وقد اختلف الناس فيمن يبدأ به في القسامة فقال مالك والشافعي وأحمد بن حنبل يبدأ بالمدعي قولاً بظاهر الحديث. وقال أبو حنيفة وأصحابه يبدأ بالمدعى عليه على قضية سائر الدعاوى. قلت وهذا حكم خاص جاءت به السنة لا يقاس على سائر الأحكام وللشريعة

أن تخص كما لها أن تعم ولها أن تخالف بين سائر الأحكام المتشابهة في الصفة كما أن لها أن توفق بينها ولها نظائر كثيرة في الأصول. وقال أبو حنيفة وأصحابه أن المدعى عليهم يحلفون ويغرمون الدية وليس في شيء من الأصول اليمين مع الغرامة، وإنما جاءت اليمين في البراءة أو الاستحقاق على مذهب من قال باليمين مع الشاهد وقد بدىء في اللعان بالمدعي وهو الزوج وأنما هو أيمان، ألا ترى أن المتلاعنين يقولان نشهد بالله فلو كان معنى اللعان معنى الشهادة لجاز فيه حذف الاسم واقتصر فيه على مجرد قولهما نشهد وقد قال صلى الله عليه وسلم في حديث الملاعنة لولا الايمان لكان لي ولها شأن فثبت أن اللعان ايمان ثم كان مبدوءاً فيه بالمدعي كما ترى. قلت وفي إلزامه اليهود بقوله فيدفع برمته دليل على أن الدية تجب على سكان المحلة دون أرباب الخطة لأن خيبر كانت للمهاجرين والأنصار. وفيه دليل على أن المدعى عليهم إذا حلفوا برئوا من الدم وهو قوله فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم. وفيه أن الحكم بين المسلم والذمي كالحكم بين المسلمين في الاحتساب بيمينه وإبرائه بها عن الحق المدعى قبله. وفيه أن يمين المشرك مسموعة على المسلم كيمين المسلم عليه، وقال مالك لا تسمع ايمانهم على المسلمين كشهاداتهم. وظاهر لفظ هذا الحديث حجة لمن رأى وجوب القتل بالقسامة وهو قوله ويستحقون دم صاحبكم. وقوله فيدفع برمته وإليه ذهب مالك وأحمد بن حنبل وأبو ثور، وروي

ذلك عن ابن الزبير وعمر بن عبد العزيز. وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والشافعي وإسحاق بن راهويه لا يقاد بالقسامة إنما تجب بها الدية. وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله عنه والحسن البصري وابراهيم النخعي. وقد روي ذلك أيضاً عن النخعي أنه قال القسامة جور شاهدان يشهدان. وكان الحكم لا يرى القسامة شيئاً. قلت وتأويل هؤلاء قوله ويستحقون دم صاحبكم أي دية صاحبكم لأنهم يأخذونها بسبب الدم فصلح أن يسمى ذلك دماً. وقد روى من غير هذا الطريق إما أن تدوا صاحبكم وإما أن تؤذنوا بحرب فدل ذلك على صحة هذا التأويل. قلت ويشبه أن يكون إنما وداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبله للعهد الذي كان جعله لليهود فلم يحب أن يبطله ولم يحب أن يهدر دم القتيل فوداها من قبله وتحملها للإصلاح بينهم. قال أبو داود: حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح أخبرنا ابن وهب أخبرني مالك، عَن أبي ليلى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سهل عن سهل بن أبي حثمة أنه أخبره هو ورجال من كبراء قومه أن عبد الله بن سهل ومحيصة خرجا إلى خيبر من جهد أصابهم فأتي محيصة فأخبر أن عبد الله بن سهل قد قتل وطرح في قفير أو عين وساق بعض الحديث إلى أن قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إما أن تدوا صاحبكم واما أن تؤذنوا بحرب. قال الشيخ: قوله إما أن تدوا، فيه دليل على أن الواجب بالقسامة الدية

وقد كني بالدم عنها إذ كانا يتعاقبان في الحكم فجاز أن يعبر بأحدهما عن الآخر. وقد أنكر بعض الناس قوله. وإما أن تؤذنوا بحرب، وقال إن الأمة على خلاف هذا القول فدل على أن خبر القسامة غير معمول به. قلت ووجه الكلام بين وتأويله صحيح وذلك أنهم إذا امتنعوا من القسامة ولزمتهم الدية فأبوا أن يؤدوها إلى أولياء الدم أوذنوا بحرب كما يؤذنون بها إذا امتنعوا من اداء الجزية. قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري، عَن أبي سلمة عن عبد الرحمن وسليمان بن يسار عن رجال من الأنصار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لليهود وبدأ بهم يحلف منكم خمسون رجلاً فأبوا وذكر الحديث. قال الشيخ في هذا حجة لمن رأى أن اليمين على المدعى عليهم، إلاّ أن أسانيد الأحاديث المتقدمة أحسن اتصالاً وأوضح متوناً. وقد روى ثلاثة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه بدأ في اليمين بالمدعين سهل بن أبي حثمة ورافع بن خديج وسويد بن النعمان. وقال الشافعي لا يحلف في القسامة إلاّ وارث لأنه لا يملك بها إلاّ دية القتيل ولا يحلف الإنسان إلاّ على ما يستحقه الورثة يقسمون على قدر موارثيهم. قال أبو داود: حدثنا محمد بن الصباح بن سفيان أنبأنا الوليد وحدثنا محمود بن خالد حدثنا الوليد، عَن أبي عمرو عن عمرو بن شعيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل بالقسامة رجلاً من بني نصر بن مالك ببَحْرة الرُّغاء على شط لية. قال الشيخ البحرة البلدة تقول العرب هذه بحرتنا أي بلدتنا قال الشاعر: كأن بقاياه ببحرة مالك ... بقية سحق من رداء محبّر

ومن باب يقاد من القاتل بحجر مثل ما قتل

ومن باب يقاد من القاتل بحجر مثل ما قتل قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير أخبرنا همام عن قتادة عن أنس أن جارية رض رأسها بين حجرين فقيل لها من فعل بك هذا أفلان أفلان حتى سُمي اليهودي فأومأت برأسها فأخذ اليهودي فاعترف فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يرض رأسه بالحجارة. قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا ابن إدريس عن شعبة عن هشام ابن زيد عن جده أنس أن جارية كان عليها أوضاح لها وذكر الحديث. قال الشيخ يريد بالأوضاح حلياً لها. وفيه دليل على وجوب قتل الرجل بالمرأة وهو قول عامة أهل العلم إلاّ الحسن البصري وعطاء فإنهما زعما أن الرجل لا يقتل بالمرأة. وفيه دليل على جواز اعتبار القتل فيقتص من القاتل بمثل ما فعله، وإلى هذا ذهب مالك والشافعي وأحمد بن حنبل، وروي ذلك عن الشعبي وعمر بن عبد العزيز. وقال سفيان الثوري وأبو حنيفة وأصحابه لا يقتص منه إلاّ بالسيف وكذلك قال عطاء. قال الشيخ: ما يوجد في هذا الحديث بهذه اللفظة، أعني قوله فاعترف فقتل وفيها الشفاء والبيان أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتل اليهودي بإيماء المدعي أو بقوله. وقد شغب بعض الناس في هذا حين وجد أكثر الروايات خالياً عن هذه اللفظة فقال كيف يجوز أن يقتل أحد بقول المدعي وبكلامه فضلاً عن إيمائه برأسه وأنكروا هذا الحديث وأبطلوا الحكم في اعتبار جهة المماثلة. قال الشيخ وهذه اللفظة لو لم تكن مرورية في هذه القصة لم يكن ضائراً لأن من العلم الشائع المستفيض على لسان الأمة خاصهم وعامهم أنه لا يستحق

مال ولا دم إلاّ ببينة، وقد يروى كثير من الأحاديث على الاختصار اعتماداً على إفهام السامعين والمخاطبين به. وقد احتج بعض من لا يرى اعتبار جهة المماثلة نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن المثلة، وهذا معارضة لا تصح لأن النهي عن المثلة إنما هو في ابتداء العقوبة بها فأما القصاص فلا يتعلق بالمثلة؛ ألا ترى أن من جدع أذناً أو فقأ عيناً من كفؤ له اقتص منه ولم يكن ذلك مثلة وعارضوا أيضاً بنهي النبي صلى الله عليه وسلم أن يعذب أحد بعذاب الله، فقالوا إذا أحرق رجلاً بالنار فإنه لا يحرق بها قصاصاً ويقتل بالسيف. وهذا مثل الأول وباب القصاص من هذا بمعزل، وقد قال صلى الله عليه وسلم لأسامة اغد على أُبْنى صباحاً وحرق. وأجاز عامة الفقهاء أن يرمى الكفار بالنيران إذا خافوهم ولم يطيقوا دفعهم عن أنفسهم إلاّ بها فعلم أن طريق النهي عن استعمال النار خارج عن باب القصاص المباح وعن باب الجهاد المأمور به وإن من قتل رجلاً بالإحراق بالنار فإن للولي أن يقتل القاتل بالنار كذلك. وقد تمثلوا أيضاً في هذا بأمور كمن قتل رجلاً بالسحر وكمن سقى رجلاً خمراً أو والى عليه بهما حتى مات، وكمن ارتكب فاحشة من إنسان فكان فيها تلفه وليس يلزم شيء من هذا والأصل فيه الحديث. ثم العقوبات على ضربين أحدهما مأذون فيه أن يستعمل فيمن استحقه على وجه من الوجوه، والآخر محظور من جميع الوجوه، وقد أمرنا بجهاد الكفار ومعاقبتهم على كفرهم ضرباً بالسلاح ورمياً بالحجارة وإضراماً عليهم بالنيران ولم يبح لنا أن نقتلهم بسقي الخمر وركوب الفاحشة منهم فأما السحر فهو أمر يلطف ويدق والتوصل إلى علمه يصعب ومباشرته محظورة على الوجوه كلها فإذا تعذرت

ومن باب إيقاد المسلم بالكافر

علينا معرفة جهة الجناية وكيفيتها صرنا إلى استيفاء الحق منه بالسيف إذ هو دائرة القتل وكان سبيله سبيل من ثبت عند الحاكم أنه قتل فلاناً عمداً ولم يبين جهة القتل وكيفيته فإنه يقتل بالسيف، كذلك إذا تعذرت جهة المماثلة قتل بالسيف والله أعلم. ومن باب إيقاد المسلم بالكافر قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل ومسدد قالا: حَدَّثنا يحيى بن سعيد بن أبي عروبة حدثنا قتادة عن الحسن عن قيس بن عُبَاد قال انطلقت أنا والأشتر إلى علي كرم الله وجهه، فقلنا هل عهد إليك نبي الله شيئاً لم يعهده إلى الناس قال لا إلاّ ما في كتابي هذا، قال مسدد فأخرج كتاباً. وقال أحمد كتاباً من قراب سيفه فإذا فيه: المؤمنون تكافأ دماؤهم وهم يد على من سواهم ويسعى بذمتهم أدناهم إلاّ لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده من أحدث حدثاً فعلى نفسه، ومن أحدث حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. قال أبو داود: حدثنا عبيد الله بن عمر حدثنا هشيم عن يحيى بن سعيد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر نحو حديث علي زاد فيه ويجير عليهم اقصاهم ويرد مُشدهم على مضعفهم ومتسريهم على قاعدهم. قال الشيخ: قوله المؤمنون تكافأ دماؤهم، يريد أن دماء المسلمين متساوية في القصاص والقود، يقاد الشريف منهم بالوضيع، والكبير بالصغير، والعالم بالجاهل والرجل بالمرأة. وفيه مستدل لمن رأى أن يقتل الحر بالعبد لأن قضية العموم تعطي ذلك.

قوله وهم يد على من سواهم معناه النصرة والمعونة من بعضهم لبعض. قوله يسعى بذمتهم أدناهم معناه أن الواحد منهم إذا أجار كافراً وآمنه على دمه حرم دمه على المسلمين كافة وإن كان المجير أدناهم مثل أن يكون عبداً أو امرأة أو عسيفاً تابعاً أو نحو ذلك ليس لهم أن يخفروا ذمته. قوله لا يقتل مؤمن بكافر فيه البيان الواضح أن المسلم لا يقتل بأحد من الكفار كان المقتول منهم ذمياً أو معاهداً أو مستأمناً أو ما كان. وذلك أنه نفي في نكرة فاشتمل على جنس الكفار عموماً، وقد قال صلى الله عليه وسلم لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم فكان الذمي والمستأمن في ذلك سواء. وقد اختلف الناس في هذا فقال بظاهر الحديث جماعة من الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار ثبت ذلك عن عمر وعثمان وزيد بن ثابت. وروي ذلك عن علي كرم الله وجهه ورضي عنهم أجمعين، وهو قول عطاء وعكرمة والحسن البصري وعمر بن عبد العزيز وبه قال سفيان الثوري وابن شبرمة وهو قول مالك والأوزاعي والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق. وقال الشعبي والنخعي يقتل المسلم بالذمي، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه وتأولوا قوله لا يقتل مؤمن بكافر أي بكافر حربي دون من له عهد وذمة من الكفار وادعوا في نظم الكلام تقديماً وتأخيراً كأنه قال لا يقتل مؤمن ولا ذو عهد في عهده بكافر، وقالوا ولولا أن المراد به هذا لكان الكلام خالياً عن الفائدة لأن معلوماً بالإجماع أن المعاهد لا يقتل في عهده فلم يجز حمل الخبر الخاص على شيء قد استفيد معرفته من جهة العلم العام المستفيض.

واحتجوا أيضاً بخبر منقطع عن ابن السلماني أن النبي صلى الله عليه وسلم أقاد مسلماً بكافر. قلت لا يقتل مؤمن بكافر كلام تام مستقل بنفعه فلا وجه لتضمينه بما بعده وإبطال حكم ظاهره وحمله على التقديم والتأخير وإنما يفعل ذلك عند الحاجة والضرورة في تكميل ناقص وكشف عن مبهم ولا ضرورة بنا في هذا الموضع إلى شيء من ذلك. فأما تحديده ذكر المعاهد وأنه لا يقتل ما دام مقيماً على عهده فإن للنبي صلى الله عليه وسلم أن يكرر البيان وأن يظاهر بذكر الشيء مرة بعد أخرى إشباعاً في البيان وإفهاما للمخاطبين بالكلام. وقد يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم لما أسقط القصاص عن المسلم إذا قتل كافراً احتاج إلى أن يؤكد حق دم المعاهد فيجدد القول فيه لأن ظاهر ذلك يوجب توهين حرمة دم الكفار ولا يؤمن أن يكون في ذلك الإغراء بهم فخشي إقدام المتسرع من المسلمين إلى دمائهم إذا أمن القود فأعاد القول في حظر دمائهم رفعاً للشبهة وقطعاً لتأويل متأول والله أعلم. وقد يحتمل ذلك وجهاً آخر وهو أن يكون معناه لا يقتل مؤمن بأحد من الكفار ولا يقتل معاهد ببعض الكفار وهو الحربي ولا ينكر أن لفظة واحد يعطف عليها شيئان فيكون أحدهما راجعاً على جميعها والاخر راجعاً إلى بعضها. وقوله من أحدث حدثاً فعلى نفسه يريد أن من جنى جناية كان مأخوذاً بها لا يؤخذ بجرمه غيره، وهذا في العمد الذي يلزمه في ماله دون الخطأ الذي يلزم عاقلته. وقوله من آوى محدثا فعليه لعنة الله يريد من آوى جانياً أو أجاره من خصمه

ومن باب فيمن وجد رجلا مع أهله فقتله

وحال بينه وبين أن يقتص منه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. وقوله يرد مشدهم على نعفهم ومتسريهم على قاعدهم مفسر في كتاب الجهاد من هذا الكتاب. ومن باب فيمن وجد رجلاً مع أهله فقتله قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد وعبد الوهاب بن نجدة الحوطي المعنى قالا: حَدَّثنا عبد العزيز بن محمد عن سهيل عن أبيه، عَن أبي هريرة أن سعد بن عبادة قال يا رسول الله الرجل يجد مع أهله رجلاً أيقتله، قال لا، قال سعد بلى والذي أكرمك بالحق ينتظر فيه إلى أن يأتي بأربعة شهداء، قال النبي صلى الله عليه وسلم اسمعوا إلى ما يقول سيدكم، قال عبد الوهاب انظروا إلى ما يقول سعد. قال الشيخ: يشبه أن يكون مراجعة سعد النبي صلى الله عليه وسلم طمعاً في الرخصة لا رداً لقوله صلى الله عليه وسلم، فلما أبى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنكر عليه قوله سكت سعد وانقاد. وقد اختلف الناس في هذه المسألة فكان علي بن أبي طالب كرم الله وجهه يقول إن لم يأت بأربعة شهداء أعطى برمته أي أقيد به. وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أهدر دمه ولم ير فيه قصاصاً. قلت ويشبه أن يكون إنما رأى دمه مباحاً فيما بينه وبين الله عز وجل إذا تحقق الزنا منه فعلاً وكان الزاني محصناً. وذكر الشافعي حديث علي رضي الله عنه ثم قال وبهذا نأخذ غير أنه قال: ويسعه فيما بينه وبين الله عز وجل قتل الرجل وامرأته إذا كانا ثيبين وعلم أنه قد نال منها ما يوجب الغسل ولا يسقط عنه القود في الحكم.

ومن باب العامل يصاب على يديه خطأ

وكذلك قال أبو ثور، وقال أحمد بن حنبل إن جاء ببينة أنه قد وجده مع امرأته في بيته فقتله يهدر دمه، وكذلك قال إسحاق. ومن باب العامل يصاب على يديه خطأ قال أبو داود: حدثنا محمد بن داود بن سفيان حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا جهم بن حذيفة مصدقاً فلاجّه رجل أو لاحاه في صدقته فضربه أبو جهم فشجه فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا القود يا رسول الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم لكم كذا وكذا فلم يرضوا، فقال لكم كذا وكذا فرضوا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم إني خاطب العشية على الناس ومخبرهم برضاكم، قالوا نعم فخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن هؤلاء الليثيين أتوني يريدون القود فعرضت عليهم كذا وكذا فرضوا أرضيتم قالوا لا فهم المهاجرين بهم فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكفوا عنهم فكفوا ثم دعاهم فزادهم قال أرضيتم قالوا نعم قال إني خاطب على الناس فمخبرهم برضاكم قالوا فخطب النبي صلى الله عليه وسلم فقال أرضيتم قالوا نعم. قال الشيخ: في هذا الحديث من الفقه وجوب الإقادة من الوالي والعامل إذا تناول دماً بغير حقه كوجوبها على من ليس بوال. وفيه دليل على جواز إرضاء المشجوج بأكثر من دية الشجة إذا طلب المشجوج القصاص. وفيه دليل على أن القول في الصدقة قول رب المال وأنه ليس للساعي ضربه وإكراهه على ما لم يظهر له من ماله. وفيه حجة لمن رأى وقوف الحاكم عن الحكم بعلمه لأنهم لما رضوا بما أعطاهم

ومن باب عفو النساء عن الدم

النبي صلى الله عليه وسلم ثم رجعوا عنه فلم يلزمهم برضاهم الأول حتى كان ما رضوا به ظاهراً. وقوله فلاحاه معناه نازعه وخاصمه، وفي بعض الأمثال عاداك من لاحاك. وروي، عَن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أنهما أقادا من العمال. وممن رأى عليهم القود الشافعي وأحمد وإسحاق بن راهويه. ومن باب عفو النساء عن الدم قال أبو داود: حدثنا داود بن رشيد حدثنا الوليد عن الأوزاعي سمع حصناً أنه سمع أبا سلمة يخبر عن عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال على المقتتلين أن ينحجزوا الأول فالأول وإن كانت امرأة. قال الشيخ: قوله ينحجزوا معناه يكفوا عن القتل وتفسيره أن يقتل رجل وله ورثة رجال ونساء فأيهم عفا وإن كانت امرأة سقط القود وصار دية. وقوله الأول فالأول يريد الأقرب فالأقرب. قلت يشبه أن يكون معنى المقتتلين ههنا أن يطلب أولياء القتيل القود فيمتنع القتلة فينشأ بينهم الحرب والقتال من أجل ذلك فجعلهم مقتتلين بنصب التاءين يقال اقتتل فهومقتتل، غير أن هذا إنما يستعمل أكثره فيمن قتله الحُب. وقد اختلف الناس في عفو النساء فقال أكثر أهل العلم عفو النساء عن الدم جائز كعفو الرجال. وقال الأوزاعي وابن شبرمة ليس للنساء عفو، وعن الحسن وإبراهيم النخعي ليس للزوج ولا للمرأة عفو في الدم. ومن باب من قتل في عِمِيّا بين قوم قال أبو داود: حدثنا محمد بن عبيد حدثنا حماد قال وحدثنا ابن السرح حدثنا سفيان وهذا حديثه عن عمرو عن طاوس قال من قتل، وقال ابن عبيد قال: قال

ومن باب في الدية كم هي

رسول الله صلى الله عليه وسلم من قتل في عِمِيّا في رمي يكون بينهم بحجارة أو بالسياط أو ضرب بعصا فهو خطأ وعقله عقل الخطأ، ومن قتل عمداً فهو قود، ومن حال دونه فعليه لعنة الله وغضبه لا يقبل منه صرف ولا عدل. قال الشيخ: قوله عميا وزنه فعيلا من العمى كما يقال بينهم رميا أي رمى، ومعناه أن يترامى القوم يوجد بينهم قتيل لا يدرى من قاتله ويعمى أمره فلا يتبين ففيه الدية. واختلف العلماء فيمن تلزمه دية هذا القتيل؛ فقال مالك بن أنس ديته على الذين نازعوهم. وقال أحمد بن حنبل ديته على عواقل الآخرين إلاّ أن يدعوا على رجل بعينه فيكون قسامة، وكذلك قال إسحاق. وقال ابن أبي ليلى وأبو يوسف ديته على عاقلة الفريقين اللذين اقتتلوا معاً. وقال الأوزاعي عقله على الفريقين جميعاً إلاّ أن تقوم بينة من غير الفريقين أن فلاناً قتله فعليه القود والقصاص. وقال الشافعي هو قسامة إن ادعوه على رجل بعينه أو طائفة بعينها وإلا فلا عقل ولا قود. وقال أبو حنيفة هو على عاقلة القبيلة التي وجد فيهم إذا لم يدع أولياء القتيل على غيرهم. وقوله لا يقبل منه صرف ولا عدل فسروا العدل الفريضة، والصرف التطوع. ومن باب في الدية كم هي قال أبو داود: حدثنا هارون بن زيد بن أبي الزرقاء حدثنا أبي حدثنا محمد بن راشد عن سليمان بن موسى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله

صلى الله عليه وسلم قضى أن من قتل خطأ فديته مائة من الإبل ثلاثون بنت مخاض وثلاثون بنت لبون وثلاثون حقة وعشر ابن لبون ذكر. قال الشيخ: هذا الحديث لا أعرف أحداً قال به من الفقهاء، وإنما قال أكثر العلماء إن دية الخطأ أخماس، كذلك قال أبو حنيفة وأصحابه والثوري. وكذلك قال مالك وأصحابه وأحمد بن حنبل خمس بنو مخاض، وخمس بنات مخاض وخمس بنات لبون وخمس حقاق وخمس جذاع. وروي هذا القول عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وقال مالك والشافعي خمس جذاع وخمس حقاق وخمس بنات لبون وخمس بنات مخاض وخمس بنو لبون. وحكي هذا القول عن عمر بن عبد العزيز وسليمان بن يسار والزهري وربيعة بن عبد الرحمن والليث بن سعد ولأبي حنيفة وأصحابه فيه أثر، إلاّ أن راويه عن عبد الله عن خشف بن مالك وهو مجهول لا يعرف إلاّ بهذا الحديث. وعدل الشافعي عن القول به لما ذكرنا من العلة في راويه ولأن فيه بني مخاض ولا مدخل لبني مخاض في شيء من أسنان الصدقات. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة أنه ودى قتيل خيبر بمائة من إبل الصدقة وليس في أسنان إبل الصدقة ابن مخاض. وقد روي عن نفر من العلماء أنهم قالوا دية الخطأ أرباع وهم الشعبي والنخعي والحسن البصري. وإليه ذهب إسحاق بن راهويه إلا أنهم قالوا خمس وعشرون جذعة وخمس وعشرون حقة وخمس وعشرون بنات لبون وخمس وعشرون بنات مخاض. وقد روي ذلك عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.

قال أبو داود: حدثنا يحيى بن حكيم حدثنا عبد الرحمن بن عثمان حدثنا حسين المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال كانت قيمة الدية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانمائة دينار وثمانية آلاف درهم، ودية أهل الكتاب يومئذ على النصف من دية المسلم، قال فكان ذلك كذلك حتى استخلف عمر رضي الله عنه فقام خطيباً فقال: إلاّ ان الإبل قد غلت. قال ففرضها عمر على أهل الذهب ألف دينار وعلى أهل الورق اثني عشر ألفا؛ وعلى أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الشاة ألفي شاة، وعلى أهل الحلل مائتي حلة، قال وترك دية أهل الذمة لم يرفعها فيما رفع من الدية. قال الشيخ: قوله كانت قيمة الدية، يريد قيمة الإبل التي هي الأصل في الدية وإنما قومها رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل القرى لعزة الإبل عندهم فبلغت القيمة فى زمانه من الذهب ثمانمائة دينار ومن الورق ثمانية آلاف درهم فجرى الأمر بذلك إلى أن كان عمر رضي الله عنه وعزت الإبل في زمانه فبلغ بقيمتها من الذهب ألف دينار ومن الورق اثني عشر ألفاً. وعلى هذا بنى الشافعي أصل قوله في دية العمد فأوجب فيها الإبل وأن لا يصار إلى النقود إلاّ عند اعواز الإبل فإذا أعوزت كان فيها قيمتها بالغة ما بلغت، ولم يعتبر قيمة عمر رضي الله عنه التي قومها في زمانه لأنها كانت قيمة تعديل في ذلك الوقت والقيم تختلف فتزيد وتنقص باختلاف الأزمنة وهذا على قوله الجديد. وقال في قوله القديم بقيمة عمر وهي اثنا عشر ألفاً أو ألف دينار. وقد روي مثل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في الورق.

قال أبو داود: حدثنا محمد بن سليمان الأنباري حدثنا زيد بن الحباب عن محمد بن مسلم عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه أن رجلاً من بني عدي قتل فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ديته اثني عشر ألفاً. قال الشيخ: وقد اختلف الناس فيما يجب في دية العمد، فقال الشافعي يجب فيها مائة من الإبل، ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة في بطونها أولادها. وروي ذلك عن زيد بن ثابت، وقال مالك وأحمد بن حنبل تجب الدية أرباعاً؛ خمس وعشرون ابنة مخاض، وخمس وعشرون ابنة لبون، وخمس وعشرون حقة، وخمس وعشرون جذعة، وهو قول سليمان بن يسار والزهري وربيعة بن أبي عبد الرحمن. وقد روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه جعل في شبه العمد مائة من الإبل أرباعاً وعدد هذه الأصناف. قلت ودية شبه العمد مغلظة كدية العمد، فيشبه أن يكون أحمد إنما ذهب إليه لأنه لم يجد فيها سنة فصار إلى أثر في نظيرها وقاسها عليه. وعند أبي حنيفة دية العمد من الذهب ألف دينار ومن الدراهم عشرة آلاف ولم يذكر فيها الإبل. وكذلك قال سفيان الثوري، وحكي ذلك عن ابن شبرمة. وقال مالك وأحمد وإسحاق في الدية إذا كانت نقداً هي من الذهب ألف دينار ومن الورق اثنا عشر ألفاً، وروي ذلك عن الحسن البصري وعروة بن الزبير. وقال مالك لا أعرف البقر والغنم والحلل.

وقال يعقوب ومحمد على أهل البقر مائتا بقرة وعلى أهل الغنم ألفا شاة وعلى أهل الحلل مائتا حلة. وكذلك قال أحمد وإسحاق في البقر والغنم. قال أبو داود: حدثنا سليمان بن حرب ومسدد المعنى قالا: حَدَّثنا حماد عن خالد عن القاسم بن ربيعة عن عقبة بن أوس عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب يوم الفتح بمكة فكبر ثلاثاً وقال إلاّ أن كل مأثرة كانت في الجاهلية تذكر وتدعي من دم أو مال تحت قدمي إلاّ ما كان من سقاية الحاج وسدانة البيت، ثم قال إلاّ ان دية الخطأ شبه العمد ما كان بالسوط والعصا مائة من الإبل منها أربعون في بطونها أولادها. وحديث مسدد أتم. قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا عبد الوارث عن علي بن زيد عن القاسم بن ربيعة عن ابن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بمعناه. قال الشيخ: المأثرة كل ما يؤثر ويذكر من مكارم أهل الجاهلية ومفاخرهم وقوله تحت قدمي معناه إبطالها وإسقاطها. وأما سدانة البيت فهي خدمته والقيام بأمره وكانت الحجابة في الجاهلية في بني عبد الدار والسقاية في بني هاشم فأقرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فصار بنو شيبة يحجبون البيت وبنو العباس يسقون الحجيج. وفي الحديث من الفقه إثبات قتل شبه العمد، وقد زعم بعض أهل العلم أن ليس القتل إلاّ العمد المحض أو الخطأ المحض. وفيه بيان أن دية شبه العمد مغلظة على العاقلة. وقد يستدل بهذا الحديث على جواز السلم في الحيوان إلى مدة معلومة وذلك لأن الإبل على العاقلة مضمونة في ثلاث سنين.

ومن باب الأعضاء

وفيه دلالة على أن الحمل في الحيوان صفة تضبط وتحصر. وقد اختلف الناس في دية شبه العمد فقال بظاهر الحديث عطاء والشافعي وإليه ذهب محمد بن الحسن. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه هي أرباع. وقال أبو ثور دية شبه العمد أخماس. وقال مالك بن أنس ليس في كتاب الله عز وجل إلاّ الخطأ المحض والعمد فأما شبه العمد فلا نعرفه. قلت يشبه أن يكون الشافعي إنما جعل الدية في العمد أثلاثاً بهذا الحديث، وذلك أنه ليس في العمد حديث مفسر، والدية في العمد مغلظة وهي في شبه العمد كذلك فحمل إحداهما على الأخرى. وهذه الدية تلزم العاقلة عند الشافعي لما فيه من شبه الخطأ كدية الجنين. ومن باب الأعضاء قال أبو داود: حدثنا إسحاق بن إسماعيل حدثنا عبدة، يَعني ابن سليمان حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن غالب التمار عن حميد بن هلال عن مسروق بن أوس، عَن أبي موسى هو الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الأصابع سواء عشر عشر من الإبل. قال وحدثنا عباس العنبري حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث حدثني شعبة عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله الأصابع سواء والأسنان سواء الثنية والضرس سواء هذه وهذه سواء. قال وحدثنا زهير بن حرب حدثنا يزيد بن هارون قال أنبأنا حسين المعلم

عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الأسنان خمس خمس. قال الشيخ: سوى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الأصابع في دياتها فجعل في كل اصبع عشراً من الإبل وسوى بين الأسنان وجعل في كل سن خمساً من الإبل وهي مختلفة الجمال والمنفعة ولولا أن السنة جاءت بالتسوية لكان القياس أن يفاوت بين دياتها كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبل أن يبلغه الحديث فإن سعيد بن المسيب رضي الله عنه روى عنه أنه كان يجعل في الإبهام خمس عشرة، وفي السبابة عشراً، وفي الوسطى عشراً، وفي البنصر تسعاً، وفي الخنصر ستاً حتى وجد كتاباً عند أبي عمرو بن حزم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الأصابع كلها سواء فأخذ به، وكذلك الأمر في الأسنان كان يجعل فيما أقبل من الأسنان خمسة أبعرة، وفي الأضراس بعيراً بعيراً. قال ابن المسيب فلما كان معاوية وقعت أضراسه فقال أنا أعلم بالأضراس من عمر فجعلهن سواء، قال ابن المسيب فلو أصيبت الفم كلها في قضاء عمر رضي الله عنه لنقصت الدية ولو أصيبت في قضاء معاوية لزادت الدية، ولو كنت أنا لجعلتها في الأضراس بعيرين بعيرين. واتفق عامة أهل العلم على ترك التفضيل وإن في كل سن خمسة أبعرة، وفي كل اصبع عشراً من الإبل خناصرها وأباهمها سواء، وأصابع اليد والرجل في ذلك سواء كما جعل في الجسد دية كاملة؛ الصغير الطفل، والكبير المسن، والقوي العَبَل، والضعيف النضو في ذلك سواء. ولو أخذ على الناس أن يعتبروها بالجمال والمنفعة لاختلف الأمر في ذلك اختلافاً لا يضبط ولا يحصر فحمل على الأسامي وترك ما وراء ذلك من الزيادة والنقصان في المعاني.

ولا أعلم خلافاً بين الفقهاء أن من قطع يد رجل من الكوع فإن عليه نصف الدية، إلاّ أن أبا عبيد بن حرب زعم أن نصف الدية إنما تستحق في قطعها من المنكب لأن اسم اليد على الشمول والاستيفاء إنما يقع على ما بين المناكب إلى أطراف الأنامل. قال أبو داود: وجدت في كتابي عن شيبان ولم أسمعه منه فحدثناه أبو بكر صاحب لنا ثقة حدثنا شيبان حدثنا محمد بن راشد حدثنا سليمان بن موسى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، قال قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنف إذا جدع الدية كاملة وإن جدعت ثُندوته فنصف العقل خمسون من الإبل أو عدلها من الذهب والورق أو مائة بقرة أو ألف شاة، وفي اليد إذا قطعت نصف العقل، وفي الرجل إذا قطعت نصف العقل، وفي المأمومة ثلث العقل ثلاث وثلاثون من الإبل أو قيمتها من الذهب أو الورق أو البقر أو الشاة والجائفة مثل ذلك. وفي الأصابع في كل اصبع عشر من الإبل، وفي الأسنان خمس من الإبل في كل سن وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عقل المرأة بين عصبتها من كانوا لا يرثون منها شيئاً إلاّ مما فضل عن ورثتها، وإن قتلت فعقلها بين ورثتها وهم يقتلون قاتلهم وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس للقاتل شيء وإن لم يكن له وارث فوارثه أقرب الناس إليه ولا يرث القاتل شيئاً. قال الشيخ لم يختلف العلماء في أن الأنف إذا استوعب جدعاً ففيه الدية كاملة، فأما الثندوة المذكورة في هذا الحديث فإن كان يراد بها روبة الأنف فقد قال أكثر الفقهاء أن فيها ثلث الدية، وروي ذلك عن زيد بن ثابت؛ وكذلك قال مجاهد ومكحول، وبه قال أحمد بن حنبل وإسحاق.

وقال بعضهم في الروبة النصف على ما جاء في الحديث، وحكاه ابن المنذر في الاختلاف ولم يسم قائله، ولم يختلفوا أن في اليدين الدية وإن في كل يد نصف الدية، وفي الرجل الواحدة كذلك. واختلفوا في اليد الشلاء فروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال فيها ثلث ديتها، وكذلك قال مجاهد وهو قول أحمد وإسحاق. وقال الشافعي فيها حكومة، وكذلك قال أبو حنيفة وأصحابه وأجمعوا أنه إذا ضرب يده الصحيحة فشلت إن فيها دية اليد كاملة ولم يختلفوا في أن في المأمومة ثلث الدية. والمأمومة ما كان من الجراح في الرأس وهي ما بلغت أم الدماغ. وكذلك الجائفة فيها ثلث الدية في قول عامة أهل العلم فإن نفذت الجائفة حتى خرجت من الجانب الآخر فإن فيها ثلثي الدية لأنهما حينئذ جائفتان. وأما قوله إن عقل المرأة بين عصبتها من كانوا لا يرثون منها شيئاً إلاّ ما فضل عن ورثتها فإنه يريد العقل الذي يجب بسبب جنايتها على عاقلتها، يقول إن العصبة يتحملون عقلها كما يتحملونه عن الرجل وانها ليست كالعبد الذي لا تحتمل العاقلة جنايته وإنما هي في رقبته. وفيه دليل على أن الأب والجد لا يدخلان في العاقلة لأنه قد يسهم لهما السدس وإنما العاقلة للأعمام وأبناء العمومة ومن كان في معناهم من العصبة. وأما قوله فإن لم يكن له وارث فوارثه أقرب الناس إليه فإنه يريد أن بعض الورثة إذا قتل الموروث حرم ميراثه وورثه من لم يقتل من سائر الورثة فإن لم يكن له وارث إلاّ القاتل حرم الميراث ويدفع تركته إلى أقرب الناس منه

بعد القاتل، وهذا كالرجل يقتله ابنه وليس له وارث غير ابنه القاتل وللقاتل ابن فإن ميراث المقتول يدفع إلى ابن القاتل ويحرمه القاتل. وقوله فإن قتلت فعقلها بين ورثتها، يريد أن الدية موروثة كسائر الأموال التي تملكها أيام حياتها يرثها زوجها، وقد ورث النبي صلى الله عليه وسلم امرأة أشيم الصنابي من دية زوجها. قال أبو داود: حدثنا أبو كامل فضيل بن حسين أن خالد بن الحارث حدثهم، قال: حَدَّثنا حسين، يَعني المعلم عن عمرو بن شعيب أن أباه أخبره عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في المواضح خمس. قال الشيخ: الموضحة ما كان في الرأس والوجه وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم فيهل خمساً من الإبل وعلق الحكم بالاسم فإذا شجه موضحة صغرت أم كبرت ففيها خمس من الإبل، فإن شجه موضحتين ففيهما عشر من البل وعلى هذا القياس. وأنكر مالك موضحة الأنف وأثبتها الشافعي وغيره، فأما الموضحة في غير الوجه والرأس ففيها حكومة. قال أبو داود: حدثنا محمود بن خالد السُلمي حدثنا مروان، يَعني ابن محمد حدثني الهيثم بن حميد حدثني العلاء بن الحارث حدثني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في العين القائمة السادَّة لمكانها بثلث الدية. قال الشيخ: يشبه أن يكون والله أعلم إنما أوجب فيها الثلث على معنى الحكومة كما جعل في اليد الشلاء الحكومة. وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في العين القائمة واليد الشلاء ثلث الدية وذهب أكثر الفقهاء إلى أن ذلك على معنى الحكومة.

ومن باب دية الجنين

وقد ذهب إسحاق بن راهويه إلى أن فيها ثلث الدية بمعنى العقل. ومن باب دية الجنين قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة وهارون بن عباد الأزدي المعنى قالا: حَدَّثنا وكيع عن هشام عن عروة عن المسور بن مخرمة أن عمر رضي الله عنه استشار الناس في املاص المرأة، فقال المغيرة بن شعبة شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى فيها بغرة عبد أو أمة فقال ائتني بمن يشهد معك، قال فأتاه محمد بن مسلمة فشهد له. قال الشيخ: إملاص المرأة إسقاطها الولد، وأصل الإملاص الازلاق وكل شيء يزلق من اليد ولا يثبت فيها فهو مَلَص. ومنه قول الشاعر: فرَّ وأعطاني رشاً مِلَّصاً والغرة النسمة من الرقيق ذكراً كان أو أنثى، وكان أبو عمرو بن العلاء يقول الغرة عبد أبيض أو أمة بيضاء، وإنما سمي غرة لبياضه لا يقبل في الدية عبد أسود أو جارية سوداء. حدثني بذلك أبو محمد الكُرابي حدثنا عبد الله بن شبيب حدثنا زكريا بن يحيى المنقري عن الأصمعي، عَن أبي عمرو ويرى أن عمر إنما استشهد مع المغيرة بغيره استثباتاً في القضية واستبراء للشبهة، وذلك أن الديات إنما جاء فيها الإبل والذهب والورق. وقد ذكر أيضاً في بعض الروايات البقر والغنم والحلل ولم يأت في شيء منها في الرقيق فاستنكر عمر رضي الله عنه ذلك في بدأة الرأي فاستزاده في البيان حتى جاء الثبت والله أعلم.

قال أبو داود: حدثنا محمد بن مسعود حدثنا أبو عاصم عن ابن جريج أخبرني عمرو بن دينار سمع طاوساً عن ابن عباس عن عمر أنه سأل عن قضية النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، فقام حمل بن مالك بن النابغة فقال كنت بين امرأتين فضربت إحداهما الأخرى بمسطح فقتلتها وجنينها فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنينها بغرة وأن تقتل. قال الشيخ: المسطح عود من عيدان الخباء، وفيه دليل على أن القتل إذا وقع بما يقتل مثله غالباً من خشب أو حجر أو نحوهما ففيه القصاص كالحديث إلاّ أن قوله وأن تقتل لم يذكر في غير هذه الرواية. قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا يونس بن محمد حدثنا عبد الواحد بن زياد، قال: حَدَّثنا مجالد قال حدثنى الشعبي عن جابر بن عبد الله أن امرأتين من هذيل قتلت إحداهما الأخرى ولكل واحدة منهما زوج وولد قال فجعل النبي صلى الله عليه وسلم دية المقتولة على عاقلة القاتلة وبرأ زوجها وولدها، قال فقال عاقلة المقتولة ميراثها لنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ميراثها لزوجها وولدها. قال الشيخ: دلالة هذا الحديث أن القتل كان يشبه الخطأ فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ديتها على عاقلة القاتلة. وفيه بيان أن الولد ليس من العاقلة وأن العاقلة لا ترث إلاّ ما فضل عن أصحاب السهام. قال أبو داود: حدثنا وهب بن بيان وابن السرح قالا: حَدَّثنا ابن وهب خبرني يونس عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة، عَن أبي هريرة قال:

اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم دية جنينها غرة عبد أو أمة وليدة وقضى بدية المرأة على عاقلتها وورثها ولدها ومن معهم، فقال حَمَل بن النابغة الهذلي كيف أغرم دية من لا شرب ولا أكل، ولا نطق ولا استهل، فمثل ذلك يطل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هذا من إخوان الكهان من أجل سجعه الذي سجع. قال الشيخ: قوله وورثها ولدها ومن معهم يريد الدية. وفيه بيان أن الدية موروثة كسائر مالها الذي كانت تملكه أيام حياتها. وفيه دليل على أن الجنين يورث وتكون ديتها على سهام الميراث وذلك أن كل نفس تضمن بالدية فإنه يورث كما لو خرج حياً ثم مات. وقوله ولا استهل، الاستهلال رفع الصوت، يريد أنه تعلم حياته بصوت نطقٍ أو بكاء أو نحو ذلك. وقوله ذلك يطل، يروى هذا الحرف على وجهين: أحدهما بطل على معنى الفعل الماضي من البطلان والآخر يطل على مذهب الفعل الغائب من قولهم طُل دمه إذا اهدر يُطل. وقوله صلى الله عليه وسلم هذا من إخوان الكهان من أجل سجعه الذي سجع فإنه لم يعبه بمجرد السجع دون ما تضمنه سجعه من الباطل. وانما ضرب المثل بالكهان لأنهم كانوا يروجون أقاويلهم الباطلة بأسجاع تروق السامعين فيستميلون القلوب ويستصغون الأسماع إليها. فأما إذا وضع السجع في موضع حق فإنه ليس بمكروه وقد تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسجع في مواضع من كلامه كقوله للأنصار، إما أنكم تقلون عند الطمع وتكثرون عند الفزع.

وروي عنه أنه قال خير المال سكة مأبورة أو مهرة مأمورة. وقال أبا عمير ما فعل النغير. وقال في دعائه اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، وقوله لا يسمع، وقلب لا يخشع، ونفس لا تشبع. أعوذ بك من هؤلاء الأربع. ومثل ذلك في الكلام كثير. وفي الخبر دليل على أن الدية في شبه الخطأ على العاقلة. قلت والغرة إنما تجب في الجنين إذا سقط ميتاً فإن سقط حياً ثم مات ففيه الدية كاملة. وفيه بيان أن الأجنة وإن كثرت ففي كل واحد منها غرة. واختلفوا في سن الغرة التي يجب قبولها ومبلغ قيمتها، فقال أبو حنيفة وأصحابه عبد أو أمة تعدل خمسمائة درهم، وقال مالك ستمائة درهم، وقصد كل واحد من الفريقين نصف عشر الدية، لأن الدية عند العراقي عشرة آلاف درهم، وعند المدني اثنا عشر ألفاً. وقيل خمسون ديناراً وهي أيضاً نصف العشر من دية الحر لأنهم لم يختلفوا أن الدية من الذهب ألف دينار. وقد استدل بعض الفقهاء من قوله قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنينها بغرة على أن دية الأجنة سواء ذكراناً كانت أو اناثاً لأنه أرسل الكلام ولم يقيده بصفة. قال ولو كان يختلف الأمر في ذلك بالأنوثة والذكورة لبينه كما بين الدية في الذكر والأنثى من الأحرار البالغين. قلت وهذه القضية صادقة في الحكم، إلاّ أن الاستدلال فيه بهذا اللفظ من

هذا الحديث لا يصح لأنه حكاية فعل ولا عموم لحكاية الفعل. وإنما يصح هذا الاستدلال من رواية من روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في الجنين بغرة من غير تفصيل والله أعلم. ومذهب الشافعي في دية الجنين قريب من مذاهب من تقدم ذكرهم، إلاّ أنه قومها من الإبل، فقال خمس من الإبل خمساها وهو بعيران قيمة خَلَفتين وثلاثة أخماسها قيمة ثلاث جذاع وحقاق، وذلك لأن دية شبه العمد عنده مغلظة منها أربعون خلفة وثلاثون حقة وثلاثون جذعة، فإن أعطى الغرة دون القيمة لم يقبل حتى يكون ابن سبع سنين أو ثمان. ويقبل عند أبي حنيفة الطفل وما دون السبع كالرقبة المستحقة في الكفارات. قال أبو داود: حدثنا إبراهيم بن موسى أنبأنا عيسى عن محمد، يَعني ابن عمرو، عَن أبي سلمة، عَن أبي هريرة قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنين بغرة عبد أو أمة أو فرس أو بغل. قال أبو داود روى هذا الحديث حماد وخالد الواسطي عن محمد، يَعني ابن عمرو ولم يذكرا فيه بفرس أو بغل. قال الشيخ: يقال إن عيسى بن يونس قد وهم فيه وهو يغلط أحياناً فيما يرويه إلاّ أنه قد روى عن طاوس ومجاهد وعروة بن الزبير أنهم قالوا الغرة عبد أو أمة أو فرس. ويشبه أن يكون الأصل عندهم فيما ذهبوا إليه حديث أبي هريرة هذا والله أعلم. وأما البغل فأمره أعجب ويحتمل أن تكون هذه الزيادة إنما جاءت من قبل بعض الرواة على سبيل القيمة إذا عدمت الغرة من الرقاب والله أعلم.

ومن باب دية المكاتب

ومن باب دية المكاتب قال أبو داود: حدثنا مسدد عن يحيى بن سعيد واسماعيل عن هشام قال وحدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا يعلى بن عبيد حدثنا الحجاج الصواف عن يحيى بن أبي كثير عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه قال قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في دية المكاتب يقتل يُوَدي ما أدَّى من مكاتبته دية الحر وما بقي ديه المملوك. قال الشيخ: أجمع عامة الفقهاء على أن المكاتب عبد ما بقي عليه درهم في جنايته والجناية عليه. ولم يذهب إلى هذا الحديث من العلماء فيما بلغنا إلاّ إبراهيم النخعي. وقد روي في ذلك أيضاً شيء عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وإذا صح الحديث وجب القول به إذا لم يكن منسوخاً أو معارضاً بما هو أولى منه والله أعلم. ومن باب دية الذمي قال أبو داود: حدثنا يزيد بن خالد بن موهب الرملي حدثنا عيسى بن يونس عن محمد بن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: دية المعاهد نصف دية الحر. قال الشيخ: ليس في دية أهل الكتاب شيء أبين من هذا، وإليه ذهب عمر بن عبد العزيز وعروة بن الزبير، وهو قول مالك وابن شبرمة وأحمد بن حنبل غير أن أحمد قال إذا كان القتل خطأ. فإن كان عمداً لم يقد به ويضاعف عليه باثني عشر ألفاً. وقال أبو حنيفة وأصحابه وسفيان الثوري ديته دية المسلم؛ وهو قول الشعبي والنخعي ومجاهد، وروي ذلك عن عمر وابن مسعود رضي الله عنهما.

ومن باب الرجل يقاتل الرجل فيدفع عن نفسه

وقال الشافعي وإسحاق بن راهويه ديته الثلث من دية المسلم وهو قول ابن المسيب والحسن وعكرمة. وروي ذلك أيضاً عن عمر رضي الله عنه خلاف الرواية الأولى وكذلك عن عثمان بن عفان رضي الله عنه. قلت وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى ولا بأس بإسناده، وقد قال به أحمد ويعضده حديث آخر وقد رويناه فيما تقدم من طريق حسين المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، قال كانت قيمة الدية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانمائة دينار وثمانية آلاف درهم، ودية أهل الكتاب يومئذ النصف. ومن باب الرجل يقاتل الرجل فيدفع عن نفسه قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن ابن جريج أخبرني عطاء عن صفوان بن يعلى عن أبيه، قال قاتل أجير لي رجلاً فعض يده فانتزعها فندرت ثنيته فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأهدرها وقال أتريد أن يضع يده في فيك تقضمها كالفحل. قال الشيخ: فيه بيان أن دفع الرجل عن نفسه مباح وأن ذلك إذا أتى على نفس العادي عليه كان دمه هدراً إذا لم يكن له سبيل إلى الخلاص منه إلاّ بقتله. واستدل به الشافعي في صول الفحل قال إذا دفعه فأتى عليه لم تلزمه قيمته. ومن باب فيمن تطبب ولا يعلم منه طب قال أبو داود: حدثنا نصر بن عاصم الأنطاكي أن الوليد أخبرهم حدثني ابن جريج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من تطبب ولم يعلم منه طِب فهو ضامن.

ومن باب ما يكون جبارا لا يضمن صاحبه

قال الشيخ: لا أعلم خلافاً في المعالج إذا تعدى فتلف المريض كان ضامناً والمتعاطي علماً أو عملاً لا يعرفه متعدي، فإذا تولد من فعله التلف ضمن الدية وسقط عنه القود لأنه لا يستبد بذلك دون إذن المريض، وجناية الطبيب في قول عامة الفقهاء على عاقلته. ومن باب ما يكون جباراً لا يضمن صاحبه قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا محمد بن يزيد حدثنا سفيان بن حسين عن الزهري عن سعيد بن المسيب، عَن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الرجْل جُبار. قال الشيخ: معنى الجبار الهدر، وقد تكلم الناس في هذا الحديث وقيل إنه غير محفوظ وسفيان بن حسين معروف بسوء الحفظ. قالوا وإنما هوالعجماء جرحها جبار ولو صح الحديث لكان القول به واجباً. وقد قال به أبو حنيفة وأصحابه. وذهبوا إلى أن الراكب إذا رمحت دابته إنساناً برجلها فهو هدر فإن نفحته بيدها فهو ضامن. قالوا وذلك أن الراكب يملك تصريفها من قدامها ولا يملك منها فيما وراءها. وقال الشافعي اليد والرجل سواء لا فرق بينهما وهو ضامن والملكة منه قائمة في الوجهين إن كان فارساً. قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة سمعا أبا هريرة يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: العجماء جرحها جُبار، والمعدِن جبار، والبئر جبار، وفي الركاز الخمس. قوله العجماء جرحها جبار، العجماء البهيمة وسميت عجماء لعجمتها وكل من لم

يقدر على الكلام فهو أعجم. ومعنى الجبار الهدر، وإنما يكون جرحها هدْر إذا كانت منفلتة غائرة على وجهها ليس لها قائد ولا سائق. أما البئر فهو أن يحفر بئراً في ملك نفسه فيتردى فيها إنسان فإنه هدر لا ضمان عليه فيه. وقد يتأول أيضاً على البئر أن تكون بالبوادي يحفرها الإنسان فيحييها بالحفر والإنباط فيتردى فيها إنسان فيكون هدراً. والمعدن ما يستخرجه الإنسان من معادن الذهب والفضة ونحوها، فيستأجر قوماً يعملون فيها فربما انهارت على بعضهم يقول فدماؤهم هدر لأنهم أعانوا على أنفسهم فزال العتب عمن استأجرهم. قال أبو داود: حدثنا محمد بن المتوكل حدثنا عبد الرزاق قال وأنبأنا جعفر بن مسافر حدثنا يزيد بن المبارك حدثنا عبد الملك الصنعاني كلاهما عن معمر عن همام بن منبه، عَن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: النار جبار. قال الشيخ: لم أزل أسمع أصحاب الحديث يقولون غلط فيه عبد الرزاق إنما هو البئر جبار حتى وجدته لأبي داود عن عبد الملك الصنعاني عن معمر، فدل أن الحديث لم ينفرد به عبد الرزاق، ومن قال هو تصحيف البئر احتج في ذلك بأن أهل اليمن يسمون النار يكسرون النون منها فسمع بعضهم على الإمالة فكتبه بالياء ثم نقله الرواة مصحفاً. قلت إن صح الحديث على ما روي فإنه متأول على النار يوقدها الرجل في ملكه لأرب له فيها فتطير بها الريح فتشعلها في بناء أو متاع لغيره من حيث

ومن باب جناية العبد

لا يملك ردها فيكون هدراً غير مضمون عليه والله أعلم. ومن باب جناية العبد قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا معاذ بن هشام حدثني أبي عن قتادة، عَن أبي نضرة عن عمران بن حصين أن غلاماً لأناس فقراء قطع أذن غلام لأناس أغنياء فأتى أهله النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا يا رسول الله إنا أناس فقراء فلم يجعل عليه شيئاً. قال الشيخ: معنى هذا أن الغلام الجاني كان حراً وكانت جنايته خطأ وكانت عاقلته فقراء وإنما تواسي العاقلة عن وُجْد وسعة ولا شيء على الفقير منهم. ويشبه أن يكون الغلام المجني عليه أيضاً حراً لأنه لو كان عبداً لم يكن لاعتذار أهله بالفقر معنى لأن العاقلة لا تحمل عبداً كما لا تحمل عمداً ولا اعترافاً وذلك في قول أكثر أهل العلم. فأما الغلام المملوك إذا جنى على عبد أو حرٍّ فجنايته في رقبته في قول عامة الفقهاء. واختلفوا في كيفية أخذ أرش الجناية من رقبته فقال سفيان الثوري ومحمد بن الحسن إذا كانت الجناية خطأ فإن شاء مولاه فداه وإن شاء دفعه. وكذلك قال أحمد بن حنبل وإسحاق، وقد روي ذلك عن علي رضي الله عنه، وهو قول الشعبي وعطاء والحسن وعروة بن الزبير ومجاهد والزهري. وإذا كان القتل عمداً فإن أبا حنيفة وسفيان الثوري يقولان إن شاؤوا قتلوا وإن شاؤوا عقلوا، فإن عفوا فلا سبيل عليه في شيء بعد العفو وليس لهم أن يسترقوه.

ومن باب القصاص في السن

وقال مالك إن شاؤوا قتلوا، وإن شاؤوا عفوا فلهم قيمة العبد ولسيد العبد إن شاء يعطي قيمته وإن شاء سلم العبد وليس عليه غير ذلك. وقال الشافعي إذا قتل عبد عبد رجل فسيد العبد المقتول بالخيار بين أن يقتل أو يكون له قيمة العبد المقتول في رقبة العبد القاتل فإن أداها سيد العبد القاتل متطوعاً فليس لسيد العبد المقتول إلاّ ذلك إذا عفا عن القصاص. وإن رأى سيد العبد القاتل أن يؤديها لم يجبر عليه وبيع العبد القاتل، فإن وفى ثمنه بقيمة العبد المقتول فهو له وإن نقص فليس له غير ذلك وإن زاد كان الفضل لسيده. ومن باب القصاص في السن قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا المعتمر عن حميد الطويل عن أنس بن مالك قال كسرت الرُّبَيّع أخت أنس بن النَّضر ثنية امرأة، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقضى بكتاب الله عز وجل القصاص، فقال أنس بن النَّضر والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها اليوم، فقال يا أنس كتاب الله القصاص فرضوا بأرش أخذوه فعجب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن من عباد الله من لوأ قسم على الله لأبره. قال الشيخ: قوله كتاب الله القصاص معناه فرض الله الذي فرضه على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم وأنزله من وحيه. وقال بعضهم أراد به قول الله عز وجل {وكتبنا عليهم} إلى قوله {والسن بالسن} [المائدة: 45] وهذا على قول من يقول إن شرائع الأنبياء لازمة لنا وأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يحكم بما في التوراة. وقيل هذا إشارة إلى قوله تعالى {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} [النحل: 126] إلى قوله {والجروح قصاص} [المائدة: 45] والله أعلم.

كتاب الأيمان والنذور

كتاب الأيمان والنذور قال أبو داود: حدثنا هناد بن السري حدثنا أبو الأحوص عن سماك عن علقمة بن وائل بن حجر الحضرمي عن أبيه قال جاء رجل من حضرموت ورجل من كندة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الحضرمي يا رسول الله إن هذا غلبني على أرض كانت لأبي، فقال الكندي هي أرضي في يدي أزرعها ليس له فيها حق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للحضرمي ألك بينة قال لا، قال فلك يمينه، فقال يا رسول الله إنه فاجر ليس يبالي ما حلف عليه ليس يتورع من شيء، فقال ليس لك منه إلاّ ذلك فانطلق ليحلف له فلما أدبر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما لئن حلف على مال ليأكله ظالماً ليلقين الله وهو عنه معرض. قال الشيخ: في هذا الحديث دليل على أن ما يجري بين المتخاصمين من كلام تشاجر وتنازع وإن خرج بهما الأمر في ذلك إلى نسب كل واحد منهما صاحبه فيما يدعيه قبله إلى خيانة وفجور واستحلال في نحو ذلك من الأمور، فإنه لا حكومة بينهما في ذلك. وفيه دليل على أن الصالح المظنون به الصدق والطالح الموهوم منه الكذب في الحكم سواء، وإنه لا يحكم لهما ولا عليهما إلاّ بالبينة العادلة. وفي قوله فانطلق ليحلف له، وقوله فلما أدبر دليل على أن اليمين إنما كانت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عند المنبر، ولولا ذلك لم يكن لانطلاقه في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وإدباره عنه معنى ويشهد لذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم من حلف عند منبري ولو على سواك أخضر تبوأ مقعده من النار.

ومن باب الحلف بالأنداد

وفي قول الكندي هي أرضي في يدي أزرعها، دليل على اليد تثبت على الأرض بالزراعة وعلى الدار بالسكنى وبعقد الإجارة عليهما وبما أشبههما من وجوه التصرف والتدبير. قال أبو داود: حدثنا محمد بن الصباح البزاز حدثنا يزيد بن هارون أنبأنا هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من حلف على يمين مصبورة كاذباً فليتبوأ بوجهه مقعده من النار. قال الشيخ: اليمين المصبورة هي اللازمة لصاحبها من جهة الحكم فيصبر من أجلها أي يحبس وهي يمين الصبر، وأصل الصبر الحبس، ومن هذا قولهم قتل فلان صبرا ً، أي حبساً على القتل وقهراً عليه. وقال هدبة بن خشرم وكان قتل رجلاً فطلب أولياء القتيل القصاص وقدموه إلى معاوية رضي الله عنه فسأله عما ادعى عليه فأنشأ يقول: رُمينا فرامينا فصادف رمينا ... منية نفس في كتاب وفي قدر وأنت أمير المؤمنين فما لنا ... وراءك من مفدى ولا عنك من قصر فإن يك في أموالنا لم نضق بها……ذرعاً وإن صبراً فنصبر للدهر يريد بالصبر القصاص، وقيل لليمين مصبورة وإن كان صاحبها في الحقيقة هو المصبور لأنه إنما صبر من أجلها فأضيف الصبر إلى اليمين مجازاً واتساعاً. ومن باب الحلف بالأنداد قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي حدثنا عبد الرزاق أنبأنا معمر عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من حلف

ومن باب الحلف بالآباء

على يمين فقال في حلفه واللات فليقل لا إله إلاّ الله، ومن قال لصاحبه تعال أقامرك فليتصدق، يَعني بشيء. قال الشيخ: فيه دليل على أن الحلف باللات لا يلزمه كفارة اليمين وإنما يلزمه الإنابة والاستغفار، وفي معناها إذا قال أنا يهودي أو نصراني أو بريء من الإسلام إن فعلت كذا وكذا وهو قول مالك والشافعي وأبي عبيد. وقال النخعي وأبو حنيفة وأصحابه إذا قال هو يهودي إن فعل كذا فحنث كان عليه الكفارة، وكذلك قال الأوزاعي وسفيان الثوري وقول أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه نحو من ذلك. وقوله من قال لصاحبه تعال أقامرك قليتصدق، معناه فليتصدق بقدر ما جعله خطراً في القمار. ومن باب الحلف بالآباء قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن سالم عن أبيه عن عمر رضي الله عنه، قال سمعني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أقول وأبي فقال إن الله عز وجل ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم؛ قال عمر فوالله ما حلفت بها ذاكراً ولا آثراً. قال الشيخ: قوله آثراً يريد مخبرا به من قولك آثرت الحديث آثره إذا رويته يقول ما حلفت ذاكراً عن نفسي ولا مخبراً به عن غيري. قال أبو داود: حدثنا سليمان بن داود العتكي حدثنا إسماعيل بن جعفر المدني، عَن أبي سهيل نافع بن مالك بن أبي عامر عن أبيه أنه سمع طلحة بن عبيد الله في حديث قصة الأعرابي فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أفلح وأبيه إن صدق.

ومن باب كراهية الحلف بالأمانة

قال الشيخ: قد ذكرنا هذا الحديث في كتاب الصلاة وأشبعنا بيانه هناك وليس بين هذا وبين حديث عمر خلاف على الوجه الذى تأولناه عليه فأغنى ذلك عن إعادته ههنا والله أعلم. ومن باب كراهية الحلف بالأمانة قال أبو داود: حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس حدثنا زهير حدثنا الوليد بن ثعلبة الطائي عن ابن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من حلف بالأمانة فليس منا. قال الشيخ: هذا يشبه أن تكون الكراهة فيها من أجل أنه إنما أمر أن يحلف بالله وبصفاته وليست الأمانة من صفاته، وإنما هي أمر من أمره وفرض من فروضه فنهوا عنه لما في ذلك من التسوية بينها وبين أسماء الله عز وجل وصفاته. وقال أبو حنيفة وأصحابه إذا قال وأمانة الله كان يميناً ولزمته الكفارة فيها، وقال الشافعي لا يكون ذلك يميناً ولا يكون فيها كفارة. ومن باب يحلف بالبراءة أو بملة غير الإسلام قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا زيد بن الحباب حدثنا حسين بن واقد حدثني عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من حلف فقال إني بريء من الإسلام فإن كان كاذباً فهو كما قال، وإن كان صادقاً فلن يرجع إلى الإسلام سالماً. قال الشيخ فيه دليل على أن من حلف بالبراءة من الإسلام فإنه يأثم ولا يلزمه الكفارة وذلك لأنه إنما جعل عقوبتها في دينه ولم يجعل في ماله شيئاً.

ومن باب الاستثناء في اليمين

ومن باب الاستثناء في اليمين قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا عبد الوارث عن أيوب عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من حلف فاستثنى فإن شاء رجع وإن شاء ترك غير حنث. قال الشيخ: معنى قوله فاستثنى هو أن يستثنى بلسانه نطقاً دون الاستثناء بقلبه لأن في هذا الحديث من غير رواية أبي داود من حلف فقال إن شاء الله معلقة بالقول. وقد دخل بهذا كل يمين كانت بطلاق أو عتاق أو غيرهما لأنه صلى الله عليه وسلم عم ولم يخص. ولم يختلف الناس في أنه إذا حلف بالله ليفعلن كذا أو لا يفعل كذا، واستثنى ان الحنث عنه ساقط، فأما إذا حلف بطلاق أو عتاق واستثنى، فإن مالك بن أنس والأوزاعي ذهبا إلى أن الإستثناء لا يغني عنه شيئاً، والعتق والطلاق واقعان، وعلة أصحاب مالك في هذا أن كل يمين تدخلها الكفارة فإن الإستثناء يعمل فيها وما لا مدخل للكفارة فيه فالإستئناء فيه باطل. وقال مالك إذا حلف بالمشي إلى بيت الله واستثنى فإن الاستثناء ساقط والحنث له لازم. ومن باب بكون القسم يميناً قال أبو داود: حدثنا محمد بن يحيى بن فارس حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهرى عن عبيد الله عن ابن عباس، قال كان أبو هريرة يحدث، أن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إني أرى الليلة فذكر رؤيا فعبرها أبو بكر فقال النبي وص أصبت بعضاً وأخطأت بعضاً، فقال أقسمت عليك يا رسول الله

ومن باب اليمين في الغضب وقطيعة الرحم

لتحدثني ما الذي أخطأت، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم لا تقسم. قال الشيخ: فيه مستدل لمن ذهب إلى أن القسم لا يكون يميناً بمجرده حتى يقول أقسمت بالله، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بإبرار القسم فلو كان قوله أقسمت يميناً لأشبه أن يبره، وإلى هذا ذهب مالك والشافعي. وقد استدل من يرى القسم يميناً على وجه آخر فيقول لولا أنه يمين ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول لا تقسم، وإلى هذا ذهب أبو حنيفة وأصحابه. ومن باب اليمين في الغضب وقطيعة الرحم قال أبو داود: حدثنا محمد بن المنهال حدثنا يزيد بن زريع حدثنا حبيب المعلم عن عمرو بن شعيب عن سعيد بن المسيب أن أخوين من الأنصار كان بينهما ميراث فسأل أحدهما صاحبه القسمة، فقال إن عدت تسألني القسمة فكل مالي في رتاج الكعبة، فقال له عمر رضي الله عنه إن الكعبة غنية عن مالك كفر عن يمينك وكلم أخاك. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا يمين عليك ولا نذر في معصية الرب ولا في قطيعة الرحم ولا فيما لا يملك. قال الشيخ: قوله رتاج الكعبة، أصل الرتاج الباب وليس يراد به الباب نفسه، وإنما المعنى أن يكون ماله هدياً إلى الكعبة أو في كسوة الكعبة والنفقة عليها أو نحو ذلك من أمرها. وفيه من الفقه أن النذر إذا خرج مخرج اليمين كان بمنزلة اليمين في أن الكفارة تجزي عنه وهو قول الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق. وعن عائشة رضي الله عنها والحسن وطاوس أنهم قالوا فيما هذا معناه كفارة يمين. وقال الشعبي والحكم وحماد فيمن حلف بصدقة ماله لا شيء عليه.

ومن باب الكفارة قبل الحنث

وقال مالك إذا حلف بصدقة ماله يخرج ثلث ماله. وقال أبو حنيفة وأصحابه ينصرف ذلك إلى ما فيه الزكاة من المال دون ما لا زكاة فيه من العقار والخرثى والدواب. وفيه بيان أن النذر إذا كان في معصية لم يلزم. قال أبو داود: حدثنا المنذر بن الوليد الجارودي حدثنا عبد الله بن بكر حدثنا عبيد الله بن الأخنس عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نذر ولا يمين فيما لا يملك ابن آدم ولا في معصية الله ولا في قطيعة رحم. ومن حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليدعها وليأت الذي هو خير فإن تركها كفارتها. قال الشيخ قد نطقت الأخبار الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الكفارة لازمة لمن حنث في يمينه وهو حديث عبد الرحمن بن سمرة، وحديث أبي موسى الأشعري وحديث أبي هريرة، وقال أبو داود وكذلك جاءت الأحاديث بذكر الكفارة إلاّ ما لا يعبأ به. وقد روي عن بعضهم أنه رأى هذا من لغو اليمين، وقال لا كفارة فيه إذا كان معصية. وحكي معنى ذلك عن مسروق بن الأجدع وسعيد بن جبير. ومن باب الكفارة قبل الحنث قال أبو داود: حدثنا يحيى بن خلف حدثنا عبد الأعلى حدثنا سعيد عن قتادة عن الحسن عن عبد الرحمن بن سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له يا عبد الرحمن إذا حلفت

ومن باب الرقبة المؤمنة

على يمين فرأيت غيرها خيراً منها فكفر عن يمينك وائت الذي هو خير. قال الشيخ: فيه دليل على جواز تقديم الكفارة على الحنث وهو قول أكثر أهل العلم، وروي ذلك عن ابن عمر وابن عباس وعائشة رضي الله عنهم. وهو مذهب الحسن البصري وابن سيرين، وإليه ذهب مالك والأوزاعي والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق؛ إلاّ أن الشافعي قال وإن كفر بالصوم قبل الحنث لم يجزه وإن كفر بالطعام أجزأه. واحتج أصحابه في ذلك بأن الصيام مرتب على الاطعام فلا يجوز إلاّ مع عدم الأصل كالتيمم لما كان مرتباً على الماء لم يجز إلاّ مع عدم الماء. وقال أبو حنيفة وأصحابه لا تجزيه الكفارة قبل الحنث على وجه من الوجوه لأنها لا تجب عليه بنفس اليمين وإنما يكون وجوبها بالحنث وأجازوا تقديم الزكاة قبل الحول، ولم يجوز مالك تقديمها قبل الحول كما جوز تقديم الكفارة قبل الحنث وأجازهما الشافعي معاً على الوجه الذي ذكرته لك. ومن باب الرقبة المؤمنة قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن الحجاج الصواف حدثنا يحيى بن أبي بكير عن هلال بن أبي ميمونه عن عطاء بن يسار عن معاوية بن الحكم السلمي قال قلت يا رسول الله جارية لي صككتها صكة فعظم ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت أفلا أعتقها؛ قال ائتني بها، قال فجئت بها، فقال أين الله، قالت في السماء، قال من أنا، قالت أنت رسول الله، قال أعتقها فإنها مؤمنة. قال الشيخ: قوله أعتقها فإنها مؤمنة، خرج مخرج التعليل في كون الرقبة مجزية في الكفارات بشرط الإيمان لأن معقولاً أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمره بعتقها

ومن باب يستثني في اليمين من بعد ما سكت

على سبيل الكفارة عن ضربها، ثم اشترط أن تكون مؤمنة فكذلك في كل كفارة. وقد اختلف الناس في هذا فقال مالك والأوزاعي والشافعي وأبو عبيد لا يجزيه إلاّ رقبة مؤمنة في شيء من الكفارات. وقال أبو حنيفة وأصحابه يجزيه غير المؤمنة إلاّ في كفارة القتل، وحكي ذلك عن عطاء أيضاً. ومن باب يستثني في اليمين من بعد ما سكت قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا شريك عن سماك عن عكرمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال والله لأغزون قريشاً والله لأغزون قريشاً والله لأغزون قريشاً، ثم قال إن شاء الله. قال أبو داود قد أسند هذا الحديث غير واحد عن شريك بإسناد أسنده إلى النبي صلى الله عليه وسلم. قال الشيخ: في هذا دليل على أن الاستثناء المعقب به الفصول المتصلة من الكلام راجعة إلى جميع ما تقدم منها. وقال أبو حنيفة وأصحابه إذا حلف بالله وبالحج والعمرة ثم استثنى كان الاستثناء عاماً فيها كلها، فأما إذا قال عبدي حر إن كلمت فلاناً عبدي الآخر حر ان كلمت فلاناً إن شاء الله ثم كلمه فإن عبده في اليمين الأولى حر في القضاء ولا يدين في ذلك إلاّ فيما بينه وبين الله تعالى، وكذلك لو قال لامرأته إن كلمت فلاناً فأنت طالق إن كلمت فلاناً فأنت طالق إن شاء الله، ثم كلمت فلاناً كانت التطليقة الأولى واقعة عليها في القضاء إذا كلمت فلان. فأما فيما بينه وبين الله فلا يقع عليها.

كتاب النذر

قال أبو داود: حدثنا محمد بن العلاء أخبرنا ابن بشر عن مسعر عن سماك عن عكرمة يرفعه قال والله لأغزون قريشاً ثم قال إن شاء الله، ثم قال والله لأغزون قريشاً إن شاء الله ثم قال والله لأغزون قريشاً ثم سكت ثم قال إن شاء الله. قال الشيخ لم يختلف العلماء في أن استثناءه إذا كان متصلاً بيمينه فإنه لا يلزمه كفارة. وقال بعضهم له أن يستثني ما دام في مجلسه روي ذلك عن طاوس والحسن البصري. وقال قتادة إذا استثنى قبل أن يقوم أو يتكلم فله ثنياه. وقال أحمد بن حنبل يكون الاستثناء مادام في ذلك الأمر، وعن ابن عباس أنه قال. له استثناؤه بعد حين. وعن مجاهد له أن يستثني بعد سنين وعن سعيد بن جبير بعد أربعة أشهر. قلت وعامة أهل العلم على خلاف قول ابن عباس وأصحابه ولو كان الأمر على ما ذهبوا إليه لكان للحالف المخرج من يمينه حتى لا يلزمه كفارة بحال، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير وليكفرعن يمينه. كتاب النذر ومن باب النهي عن النذر قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير بن عبد الحميد وحدثنا مسدد حدثنا أبو عوانة عن منصور بن المعتمر عن عبد الله بن مرة قال عثمان الهمداني عن عبد الله بن عمر قال أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن النذر ثم اتفقا

ويقول أنه لا يرد شيئاً وإنما يستخرج به من البخيل. قال الشيخ: معنى نهيه عن النذر إنما هو تأكيد لأمره وتحذير التهاون به بعد إيجابه، ولو كان معناه الزجر عنه حتى لا يفعل لكان في ذلك إبطال حكمه واسقاط لزوم الوفاء به إذ كان بالنهي عنه قد صار معصية فلا يلزم الوفاء به، وإنما وجه الحديث أنه قد أعلمهم أن ذلك أمر لا يجلب لهم في العاجل نفعاً، ولا يصرف عنهم ضراً، ولا يرد شيئاً قضاه الله. يقول فلا تنذروا على أنكم تدركون بالنذر شيئاً لم يقدره الله لكم أو تصرفون عن أنفسكم شيئاً جرى القضاء به عليكم، فإذا فعلتم فاخرجوا عنه بالوفاء فإن الذي نذرتموه لازم لكم، هذا معنى الحديث ووجهه. وقد أجمع المسلمون على وجوب النذر إذا لم يكن معصية ويؤكده قوله أنه يستخرج به من البخيل فيثبت بذلك وجوب استخراجه من ماله ولو كان غير لازم لم يجز أن يكره عليه والله أعلم. وفي قوله إنه لا يرد شيئاً دليل على أن النذر إنما يصح إذا كان معلقاً بشيء كما تقول إن شفا الله مريضي فلله عليّ أن أتصدق بالف درهم أو أن يقدم غائبي أو يسلم مالي أو نحو ذلك من الأمور. فأما إذا قال لله علي أن أتصدق بالف درهم فليس هذا بنذر، وإلى هذا ذهب الشافعي في أحد قوليه وهو غالب مذهبه. وحكى أبو عمر، عَن أبي العباس أحمد بن يحيى قال النذر وعد بشرط. وقال أبو حنيفة النذر لازم وإن لم يعلق بشرط.

ومن باب النذر في معصية

ومن باب النذر في معصية قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن طلحة بن عبد الملك الايلي عن القاسم عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه. قال الشيخ: في هذا بيان أن النذر في المعصية غير لازم وإن صاحبه منهي عن الوفاء به، وإذا كان كذلك لم تجب فيه كفارة ولو كان فيه كفارة لأشبه أن يجري ذكرها في الحديث وأن يوجد بيانها مقروناً به، وهذا على مذهب مالك والشافعي. وقال أبو حنيفة وأصحابه وسفيان الثوري إذا نذر في معصية فكفارته كفارة يمين، واحتجوا في ذلك بحديث الزهري وقد رواه أبو داود في هذا الباب. قال أبو داود: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم حدثنا عبد الله بن المبارك عن يونس عن الزهري، عَن أبي سلمة عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين. قال الشيخ: لو صح هذا الحديث لكان القول به واجباً والمصير إليه لازماً إلاّ أن أهل المعرفة بالحديث زعموا أنه حديث مقلوب وهم فيه سليمان بن أرقم فرواه عن يحيى بن أبي كثير، عَن أبي سلمة عن عائشة فحمله عن الزهري وأرسله، عَن أبي سلمة ولم يذكر فيه سليمان بن أرقم ولا يحيى بن أبي كثير. وبيان ذلك ما رواه أبو داود حدثنا أحمد بن محمد المروزي حدثنا أيوب بن سليمان، عَن أبي بكر بن أبي أويس عن سليمان بن بلال، عَن أبي عتيق وموسى بن عقبة عن ابن شهاب عن سليمان بن أرقم أن يحيى بن أبي كثير أخبره، عَن أبي سلمة

عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله. قال أبو داود: قال أحمد وإنما الحديث حديث ابن المبارك عن يحيى بن أبي كثير عن محمد بن الزبير عن أبيه عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم فوهم فيه سليمان بن أرقم. قلت وقالوا إن محمد بن الزبير هو الحنظلي وأبوه مجهول لا يعرف والحديث من طريق الزهري مقلوب، ومن هذا الطريق فيه رجل مجهول فالاحتجاج به ساقط والله أعلم. قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يحيى بن سعيد الأنصاري حدثني عبيد الله بن زحران أنبأنا سعيد وهو الرعيني أخبره أن عبد الله بن مالك أخبره أن عقبة بن عامر أخبره أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أخت له نذرت أن تحج حافية غير مختمرة فقال مروها فلتختمر ولتركب ولتصم ثلاثة أيام. قال الشيخ: أن أمره إياها بالاختمار فلأن النذر لم ينعقد فيه لأن ذلك معصية والنساء مأمورات بالاختمار والاستتار، وأما نذرها المشي حافية فالمشي قد يصح فيه النذر على صاحبه أن يمشي ما قدر عليه فإذا عجز ركب وأهدى هدياً. وقد يحتمل أن تكون أخت عقبة كانت عاجزة عن المشي بل قد روي ذلك من رواية ابن عباس رضي الله عنه وقد ذكره أبو داود. قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حفص بن عبد الله السلمي حدثني أبي حدثني إبراهيم بن طهمان عن مطر عن عكرمة عن ابن عباس أن أخت عقبة بن عامر نذرت أن تحج ماشية وأنها لا تطيق ذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن الله لغنى عن مشي

ومن باب النذر فيما لا يملك.

أختك فلتركب ولتهد بدنة. قال الشيخ: فأما قوله فلتصم ثلاثة أيام فإن الصيام بدل من الهدي خيرت فيه كما خير قاتل الصيد أن يفديه بمثله إذا كان له مثل وإن شاء قومه وأخرجه إلى المساكين وإن شاء صام بدل كل مد من الطعام يوماً وذلك قوله سبحانه وتعالى {أو عدل ذلك صياماً} [المائدة: 95] والله أعلم. وقد اختلف الناس فيمن نذر المشي إلى بيت الله فقال الشافعي يمشي إن أطاق المشي فإن عجز أراق دماً وركب. وقال أبو حنيفة وأصحابه يركب ويريق دماً سواء أطاق أو لم يطق. ومن باب النذر فيما لا يملك. قال أبو داود: حدثنا سليمان بن حرب ومحمد بن عيسى قالا: حَدَّثنا حماد عن أيوب، عَن أبي قلابة عن ابن المهلب عن عمران بن حصين قال كانت العضباء لرجل من عقيل وكانت من سوابق الحاج قال فأسر فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم وهو في وثق والنبي صلى الله عليه وسلم على حمار عليه قطيفة فقال يا محمد علام تأخذني وتأخذ سابقة الحاج قال نأخذك بجريرة حلفائك ثقيف وكان ثقيف قد أسروا رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال وقد قال فيما قال وأنا مسلم أو قال قد أسلمت فلما مضى النبي صلى الله عليه وسلم قال ابن عيسى ثم ناداه يا محمد يا محمد قال وكان النبي صلى الله عليه وسلم رحيماً رفيقاً، فرجع إليه فقال ما شأنك؟ قال إني مسلم قال لو قلتها وأنت تملك أمرك أفلحت كل الفلاح، ثم رجعت إلى حديث سليمان فقال يا محمد إني جائع فأطعمني إني ظمآن فاسقني، قال فقال النبي صلى الله عليه وسلم هذه حاجتك أو قال هذه حاجته، قال فودي الرجل بعد بالرجلين قال وحبس رسول الله صلى الله عليه وسلم العضباء

لرحله، قال فأغار المشركون على سرح المدينة فذهبوا به وذهبوا بالعضباء، قال فلما ذهبوا به وأسروا امرأة أبي ذر، قال وكانوا إذا كانوا من الليل يريحون إبلهم فبم في أفنيتهم، قال فنوموا ليلة فقامت المرأة فجعلت لا تضع يدها على بعير إلاّ رغا حتى أتت العضباء، قال فأتت على ناقة دلول مجرَّشة. قال ابن عيسى فلم ترغ فركبتها ثم جعلت لله عليها إن نجاها لتنحرنها، قال فلما قدمت المدينة عرفت الناقة فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فأرسل إليها فجيء بها وأخبر بنذرها، فقال بئس ما جزرتها أو جزيتها إن الله أنجاها عليها لتنحرنها لا وفاء لنذر في معصية ولا فيما لا يملك ابن آدم. قال الشيخ: قوله أخذت بجريرة حلفائك ثقيف اختلفوا في تأويله، فقال بعضهم هذا يدل على أنهم كانوا عاقدوا بني عقيل أن لا يعرضوا للمسلمين ولا أحد من حلفائهم فنقض حلفاؤهم العهد ولم ينكره بنو عقيل فأخذوا بجريرتهم. وقال آخرون هذا رجل كافر لا عهد له، وقد يجوز أخذه وأسره وقتله؛ فإذا جاز أن يؤخذ بجريحة نفسه وهي كافرة جاز أن يؤخذ بجريرة غيره ممن كان على مثل حاله من حليف وغيره. ويحكى معنى هذا عن الشافعي، وفيه وجه ثالث وهو أن يكون في الكلام إضمار يريد أنك إنما أخذت ليدفع بك جريرة حلفائك ثقيف فيفدى بك الأسراء الذين أسرهم ثقيف، ألا تراه يقول ففودي الرجل بعد بالرجلين. وقوله إني مسلم ثم لم يخله النبي صلى الله عليه وسلم مع ذلك لكنه رده إلى دار الكفر فإنه يتأول على أنه قد كان أطلعه الله سبحانه على كذبه وأعلمه أنه تكلم به على التقية

ومن باب النذر في معصية

دون الإخلاص، ألا تراه يقول له هذه حاجتك حين قال إني جائع فأطعمني وظمآن فاسقني، وليس هذا لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا قال الكافر إني مسلم قبل منه إسلامه ووكلت سريرته إلى ربه وقد انقطع الوحي وانسد علم باب الغيب. وقوله لو كنت قلت ذلك وأنت تملك أمرك أفلحت كل الفلاح يريد أنك لو تكلمت بكلمة الإسلام طائعاً راغباً فيه قبل الأسار أفلحت في الدنيا بالخلاص من الرق وأفلحت في الآخرة بالنجاة من النار. وفيه دليل على أن المسلم إذا حاز الكافر ماله ثم ظفر به المسلمون فإنه يرد إلى صاحبه المسلم ولا يغنمه آخذه ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لا نذر في معصية ولا فيما لا يملك ابن آدم. قوله مجرَّشة معناها الوطية المذللة، يقال فلان جرشته الأمور أي راضته وذللته. وفي الحديث دليل على أن النهي عن أن تسافر المرأة إلاّ مع ذي محرم إنما جاء في الأسفار المباحة دون السفر الواجب اللازم لها بحق الدين. ومن باب النذر في معصية قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا وهيب حدثنا أيوب عن عكرمة عن ابن عباس قال بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إذ هو برجل قائم في الشمس فسأل عنه فقال هذا أبو إسرائيل نذر أن يقوم ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم فقال مروه فليتكلم وليقعد وليستظل وليتم صومه. قال الشيخ: قد تضمن نذره نوعين من طاعة ومعصية فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالوفاء بما كان منهما طاعة وهو الصوم وأن يترك ما ليس بطاعة من القيام

ومن باب ما يؤمر بوفائه من النذور

في الشمس وترك الكلام وترك الاستظلال بالظل وذلك لأن هذه الأمور مشاق تتعب البدن وتؤذيه وليس في شيء منها قربة إلى الله سبحانه، وقد وضعت عن هذه الأمة الآصار والأغلال التي كانت على من قبلهم. فأما المشي إلى بيت الله فالنذر فيه لازم لأن ذلك من المقدور عليه ولم يزل الناس يحجون مشاة كما يحجون ركباناً، وقال سبحانه {يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق} [الحج: 27] . فأما إذا تجاوز المشي والرحلة إلى أن يبلغ به الحفا والوجا وما أشبه ذلك فإنه خروج إلى المشقة التي تتعب الأبدان وربما أتلفتها فتخرج حينئذ عن أن تكون قربة وتنقلب النذور فيه معصية فلا يلزم الوفاء ولا يجب الكفارة فيه والله أعلم. ومن باب ما يؤمر بوفائه من النذور قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا عبد الله بن يزيد بن مقسم الثقفي من أهل الطائف، قال حدثتني سارة بنت مقسم أنها سمعت ميمونة بنت كرده، قالت خرجت مع أبي في حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمعت الناس يقولون رسول الله فجعلت أبده بصري فدنا إليه أبي وهو على ناقة له معه درة كدرة للكتاب فسمعت الأعراب والناس يقولون الطبطبية الطبطبية، فقال أبي يا رسول الله إني نذرت إن ولد لي ذكر أن أنحر على رأس بوانة في عقبة من الثنايا عدة من الغنم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هل بها من هذه الأوثان، قال لا، قال فأوف بما نذرت به لله. قال الشيخ: قولها ابده بصري معناه اتبعه بصري وألزمه إياه لا أقطعه عنه

ومن باب النذر عن الميت

يقال ابد فلان فلاناً بصره وأباده بصره بمعنى واحد. والطبطبية حكاية وقع الأقدام. وفيه دليل على أن من نذر طعاماً أو ذبحاً بمكة أو في غيره من البلدان لم يجز أن يجعله لفقراء غير أهل هذا المكان وهذا على مذهب الشافعي وأجازه غيره لغير أهل ذلك المكان. قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا الحارث بن عبيد أبو قدامة عن عبيد الله بن الأخنس عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إني قد نذرت أن أضرب على رأسك بالدف، فقال أوفي بنذرك. قال الشيخ: ضرب الدف ليس مما يعد في باب الطاعات التي يتعلق بها النذور وأحسن حال أن يكون من باب المباح، غير أنه لما اتصل بإظهار الفرح بسلامة مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة من بعض غزواته وكانت فيه مساءة الكفار وإرغام المنافقين صار فعله كبعض القرب التي هي من نوافل الطاعات ولهذا أبيح ضرب الدف واستحب في النكاح لما فيه من الإشاعة بذكره والخروج به عن معنى السفاح الذي هو استسرار به واستتار عن الناس فيه والله أعلم. ومما يشبه هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم لحسان حين استنشده وقال له كأنما ينضح به وجوه القوم النبل وكذلك استنشاده عبد الله بن رواحة وكعب بن مالك وغيرهما. ومن باب النذر عن الميت قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة قال قرأت على مالك عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه أن سعد بن عبادة

ومن باب من مات وعليه الصيام

استفتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن أمي ماتت وعليها نذر لم تقضه فقال اقض عنها. قال الشيخ: في هذا بيان أن النذور التي نذرها الميت وكفارات الأيمان التي لزمته قبل الموت مقضية من ماله كالديون اللازمة له، وهذا على مذهب الشافعي وأصحابه؛ وعند أبي حنيفة لا تقضى إلاّ أن يوصي بها. ومن باب من مات وعليه الصيام قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن عبيد الله بن أبي جعفر عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من مات وعليه صيام صام عنه وليه. قال الشيخ: قوله صام عنه وليه يحتمل وجهين أحدهما مباشرة فعل الصيام وقد ذهب إليه قوم من أصحاب الحديث. والوجه الآخر أن يكون معناه الكفارة فعبر بالصوم عنها إذ كانت بدلاً عنه وعلى هذا قول أكثر الفقهاء. قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا يحيى عن عبيد الله حدثني نافع عن ابن عمر عن عمر رضي الله عنهما أنه قال يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف في المسجد الحرام ليلة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم أوف بنذرك. قال الشيخ: إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمره بالوفاء فيما نذره في الجاهلية فقد دل على تعلق ذمته به. وفيه دليل على أنه مؤاخذ بموانع الأحكام التي كانت مباديها في حال الكفر

كتاب العتق

فلو حلف في الجاهلية وحنث في الإسلام لزمته الكفارة وهذا على أصل الشافعي ومذهبه، وعند أبي حنيفة لا تلزمه الكفارة بالحنث. وفيه دلالة على أن الكفار مخاطبون بالفرائض مأمورون بالطاعات. وفيه دليل على أن الاعتكاف جائز بغير صوم لأنه إنما كان نذر اعتكاف ليلة والليل ليس بمحل للصوم. كتاب العتق قال أبو داود: حدثنا هارون بن عبد الله حدثنا أبو بدر حدثني أبو عتبة حدثني سليمان بن سليم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال المكاتب عبد ما بقي عليه من مكاتبته درهم. قال الشيخ: في هذا حجة لمن رأى بيع المكاتب جائزاً لأنه إذا كان عبداً فهو مملوك وإذا كان باقياً على أصل الملك لم يحدث لغيره فيه ملك كان غيرممنوع من بيعه، واحتج من أجاز بيعه بأنه لا خلاف أن أحكامه أحكام المماليك في شهاداته وجناياته والجناية عليه وفي ميراثه وحدوده وسهمه إن حضر القتال. وممن ذهب إلى إجازة بيعه إبراهيم النخعي وأحمد بن حنبل وهو قول مالك بن أنس على نوع من الشرط فيه، وكان الشافعي يقول به في القديم ثم رجع أن بيعه غير جائز وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، وقال الأوزاعى يكره بيع المكاتب قبل عجزه للخدمة، وقال لا بأس أن يباع للعتق. قلت كل ما أجاز بيعه فإنما أجازه على إثبات الكتابة له فيقوم المشتري مقام الذي كاتبه فيه أن يؤدي إليه عتق.

فأما بيعه على أن يبطل كتابته وهو ماض فيها مؤد ما يجب عليه من نجومه فلا أعلم أحداً ذهب إليه إلاّ أن يعجز المكاتب عن اداء نجومه فيجوز عندئذ بيعه لأنه قد عاد رقيقاً كما كان قبل الكتابة. وفي قوله المكاتب عبد ما بقي عليه درهم دليل على أن المكاتب إذا مات قبل أن يؤدي نجومه بكمالها لم يكن محكوماً بعتقه وإن ترك وفاء لأنه إذا مات وهو عبد لم يصر حراً بعد الموت ويأخذ المال سيده ويكون أولاده رقيقا له. وقد روي هذا القول عن عمر بن الخطاب وزيد بن ثابت، وإليه ذهب عمر بن عبد العزيز والزهري وقتادة وهو قول الشافعي وأحمد بن حنبل. واستدل بعضهم في ذلك بأن تلف المبيع قبل القبض يبطل حكم العقد والمكاتب مبيع تلف قبل أن يقبض فيملك نفسه ونزول يد السيد عنه. وروي عن علي وابن مسعود أنهما قالا إذا ترك المكاتب وفاء بما بقي عليه من الكتابة عتق، وإن ترك زيادة كانت لولده الأحرار، وهو قول عطاء وطاوس والنخعي والحسن وبه قال أبو حنيفة وأصحابه وقال مالك نحواً من ذلك. وفيه دليل على أن ليس للمكاتب أن يكاتب عبده لأنه عبد وأداء الكتابة توجب الحرية والحرية توجب الولاء، وليس المكاتب ممن يثبت له الولاء لأن الولاء بمنزلة النسب، وإلى هذا ذهب الشافعي في أحد قوليه، وفي قوله الآخر يجوز له أن يكاتبه لأنه من باب المكاسب وهو قول أبي حنيفة وأصحابه. قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا سفيان عن الزهري عن نبهان مكاتب لأم سلمة، قال سمعت أم سلمة تقول: قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان لإحداكن مكاتب وكان عنده ما يؤدي فلتحتجب منه.

ومن باب بيع المكاتب إذا فسخت المكاتبة

قال الشيخ: وهذا كالدلالة على أنه إذا مات وترك الوفاء بكتابته كان حراً. وقد يتأول أيضاً على أنه أراد به الاحتياط في أمره لأنه بعرض أن يعتق في كل ساعة بأن يعجل نجومه إذا كان واجداً لها والله أعلم. ومن باب بيع المكاتب إذا فسخت المكاتبة قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد وحدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي قالا: حَدَّثنا الليث عن ابن شهاب عن عروة أن عائشة أخبرته أن بريرة جاءت عائشة تستعينها في كتابتها ولم تكن قضت من كتابتها شيئاً، فقالت لها عائشة ارجعي إلى أهلك فإن أحبوا أن أقضي عنك كتابتك ويكون ولاؤك لي فعلت، فذكرت ذلك بريرة لأهلها فأبوا وقالوا إن شاءت أن تحتسب عليك فلتفعل ويكون ولاؤك لنا، فذكرت ذلك عائشة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتاعي فأعتقى فإنما الولاء لمن أعتق، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ما بال أناس يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله من اشترط شرطاً ليس في كتاب الله فليس له وإن شرط مائة شرط شرط الله أحق وأوثق. قال الشيخ: في خبر بريرة دليل على أن بيع المكاتب جائز وذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أذن لعائشة في ابتياعها وهي إنما جاءتها للأداء ولتستعين بها في ذلك، ولا دلالة في الحديث على أنها كانت قد عجزت عن أداء نجومها. وتأول الخبر من منع من بيع المكاتب على أن بريرة قد رضيت أن تباع وأن بيعها للعتق كان فسخاً للكتابة ولم يكن بيعها بيع مكاتبة. وزعم بعضهم أنهم إنما باعوا نجوم كتابتها واستدل على ذلك بقول عائشة

رضي الله عنها فإن أحبوا أن أقضي عنك كتابتك، وهذا لا يدل على جواز بيع نجوم الكتابة، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع ما لم يقبض وربح ما لم يضمن. ونجوم الكتابة غير مقبوضة وهي كالسلم لا يجوز بيعه، وإنما معنى قضاء الكتابة هو الثمن الذي يعطيهم على البيع عوضاً عن الرقبة. والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم ابتاعي فأعتقي فدل أن الأمر قد استقر على البيع الذي هو العقد على الرقبة. وقوله إنما الولاء لمن أعتق دليل على أنه لا ولاء لغير معتق وإن من أسلم على يدي رجل لم يكن له ولاؤه لأنه غير معتق. وكلمة إنما تعمل في الإيجاب والسلب جميعاً. وقد توهم بعض الناس أن في قوله ابتاعي فأعتقي خلفاً لما اشترطوه على عائشة ورد الحديث من أجل ذلك، وقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأمر بغرور الإنسان. أخبرني أبو رجاء الغنوي حدثني أبي عن يحيى بن أكثم أنه كان يقول ذلك في هذا الحديث. قلت وليس في الحديث شيء مما يشبه معنى الغرور والخلف وإنما فيه أن القوم كانوا قد رغبوا في بيعها فأجازه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأذن لعائشة في امضائه وكانوا جاهلين بحكم الدين في أن الولاء لا يكون إلاّ لمعتق وطمعوا أن يكون الولاء لهم بلا عتق، فلما عقدوا البيع وزال ملكهم عنها ثبت ملك رقبتها لعائشة فأعتقتها وصار الولاء لها لأن الولاء من حقوق العتق وتوابعه فلما تنازعوه قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فبين أن الولاء في قضية الشريعة إنما هو لمن أعتق وأن من شرط

شرطاً لا يوافق حكم كتاب الله عز وجل فهو باطل. وقد روى من طريق عروة بن هشام في هذه القصة زيادة لم يتابع عليها ولم يذكرها أبو داود وهي أنه قال اشترطي لهم الولاء، وهذه اللفظة يقال إنها غير محفوظة ولو صحت تأولت على معنى أن لا تبالي بما يقولون ولا تعبئي بقولهم فإن الولاء لا يكون إلاّ لمعتق وليس ذلك على أن يشترطه لهم قولاً ويكون خلفاً لموعود شرط وإنما هو على المعنى الذي ذكرته من أنهم يحلّون، وقولهم ذلك لا يلتفت إليه إذا كان لغواً من الكلام خلفاً من القول. وكان المزني يتأوله فيقول قوله اشترطي لهم الولاء معناه اشترطي عليهم الولاء كما قال سبحانه {أولئك لهم اللعنة} [الرعد: 25] بمعنى عليهم اللعنة. وقوله ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله يريد أنها ليست من حكم كتاب الله تعالى وعلى موجب قضاياه ولم يرد أنها ليست في كتاب الله مذكوراً، ولكن الكتاب قد أمر بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم واعلم أن سنته بيان له، وقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم الولاء لمن أعتق فكان ذلك منصرفاً إلى الكتاب ومضافاً إليه على هذا المعنى والله أعلم. وقد استدل الشافعي من هذا الحديث على أن بيع الرقبة بشرط العتق جائز وموضع هذا الدليل ليس بالبين في صريح لفظ الحديث وإنما هو مستنبط من حكمه، وذلك أن القوم لا يشترطون الولاء إلا وقد تقدمه شرط العتق فثبت أن هذا الشرط على هذا المعنى في العقد والله أعلم. وفي قوله صلى الله عليه وسلم من رواية الليث عن ابن شهاب عن عروة ابتاعي وأعتقي بيان

ومن باب العتق على شرط

هذا المعنى، وقد روي أيضاً صريحاً من طريق الأسود. حدثناه إبراهيم بن عبد الرحيم العنبري حدثنا يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الضبي حدثنا عفان حدثنا شعبة عن الحكم عن إبراهيم عن الأسود أن عائشة رضي الله عنها أرادت أن تشتري بريرة تعتقها فاشترطوا ولاءها فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال اشتريها وأعتقيها فإن الولاء لمن أعطى الثمن. قال أبو داود: حدثنا عبد العزيز بن يحيى أبو الأصبغ الحراني حدثنا محمد بن سلمة عن ابن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها، قالت وقعت جويرية بنت الحارث بن المصطلق في سهم ثابت بن قيس بن شماس أو ابن عم له فكاتبت على نفسها وكانت امرأة ملاَحة وذكرت القصة في تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها. قال الشيخ: قوله ملاحة، يقال جارية مليحة وملاحة وفعالة يجيء في النعوت بمعنى التوكيد، فإذا شدد كان أبلغ في التوكيد كقوله سبحانه {ومكروا مكراً كباراً} [نوح: 22] . وقال الشماخ: يا ظبية عطلاً حسانة الجيد ومن باب العتق على شرط قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا عبد الوارث عن سعيد بن جهمان عن سفينة قال كنت مملوكاً لأم سلمة فقالت اعتقك واشترط عليك أن تخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما عشت فقال إن لم تشترطي علي ما فارقت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما عشت فأعتقتنى واشترطت عليَّ. قال الشيخ: هذا وعد عبر عنه باسم الشرط، وأكثر الفقهاء لا يصححون إيقاع الشرط بعد العتق لأنه شرط لا يلاقي ملكاً ومنافع الحر لا يملكها غيره

ومن باب من أعتق نصيبا له من مملوك

إلاّ بإجازة أو ما في معناها. وقد اختلفوا في هذا فكان ابن سيرين يثبت الشرط في مثل هذا، وسئل أحمد بن حنبل عنه، فقال يشتري هذه الخدمة من صاحبه الذي اشترط له قيل له تشترى بالدراهم قال نعم. ومن باب من أعتق نصيباً له من مملوك قال أبو داود: حدثنا أبو الوليد الطيالسي حدثنا همام قال وحدثنا محمد بن كثير المعنى أنبأنا همام عن قتادة، عَن أبي المليح، قال أبو الوليد عن أبيه أن رجلاً أعتق شقصاً من غلام فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال ليس لله شريك، زاد ابن كثير في حديثه فأجاز النبي صلى الله عليه وسلم عتقه. قال الشيخ: فيه دليل على أن المملوك يعتق كله إذا أعتق الشقص منه ولا يتوقف على عتق الشريك الآخر وأداء القيمة ولا على الاستسعاء، ألا تراه يقول فأجاز النبي صلى الله عليه وسلم عتقه وقال ليس لله شريك فنفى أن يقارّ الملك العتق وأن يجتمعا في شخص واحد، وهذا إذا كان المعتق موسراً فإذا كان معسراً فإن الحكم بخلاف ذلك على ما ورد بيانه في السنة وسيجيء ذكره فيما بعد إن شاء الله تعالى. وقد اختلف العلماء في ذلك فذهب ابن أبي ليلى وابن شبرمة وسفيان الثوري والشافعي في أظهر قوليه إلى أن العتق إذا وقع من أحد الشريكين في شقصه وكان موسراً سرى في كله وعتق العبد ثم غرم المعتق لشريكه قيمة نصفه ويكون الولاء كله للمعتق. وقال مالك بن أنس نصيب الشريك لا يعتق حتى يقوم العبد على المعتق

ويؤمر بأداء حصته من القيمة إليه فإذا أداها عتق العبد كله، وهو أحد قولي الشافعي القديم وهذا القول مبني على النظر للشريك والقول الأول مبني على النظر للعبد. ويحكى عن الشافعي فيه قول ثالث وهو أن يكون العتق موقوفاً على الأداء وهذا مبني على النظر للشريك والعبد معاً. وقال أبو حنيفة إذا أعتق أحد الشريكين نصيبه وهو موسر فشريكه الذي لم يعتق بالخيار إن شاء أعتق كما أعتق وكان الولاء بينهما نصفين، وإن شاء استسعى العبد في نصف قيمته ورجع شريكه بما ضمن على العبد فاستسعاه فيه فإذا أداه عتق وكان الولاء كله للمعتق. وخالفه أصحابه وقالوا بمثل قول الثوري وسائر أهل العلم. قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير أنبأنا همام عن قتادة عن النضر بن أنس عن بشير بن نهيك، عَن أبي هريرة أن رجلاً أعتق شقصاً من غلام فأجاز النبي صلى الله عليه وسلم عتقه وغرمه بقية ثمنه. قال الشيخ: وهذا يبين لك أن العتق قد كمل له بإعتاق الشريك الأول نصيبه منه فلولا أنه قد استهلكه لم يكن لقوله وغرمه بقية ثمنه معنى لأن الغرم إنما يقع في الشيء المستهلك. قال أبو داود: حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا أبان حدثنا قتادة عن النضر بن أنس عن بشير بن نهيك، عَن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم من أعتق شقصاً في مملوك فعليه أن يعتقه كله إن كان له مال وإلا استسعى العبد غير مشقوق عليه. قال الشيخ: هذا الكلام لا يثبته أكثر أهل النقل مسنداً عن النبي صلى الله عليه وسلم ويزعمون أنه من كلام قتادة.

وأخبرني الحسن بن يحيى عن ابن المنذر فقال هذا الكلام من فتيا قتادة ليس من متن الحديث. قال وحدثنا علي بن الحسين حدثنا المقري حدثنا همام عن عمارة عن النضر بن أنس عن رجل، عَن أبي هريرة أن رجلاً أعتق شريكاً له في مملوك فغرمه النبي صلى الله عليه وسلم بقية ثمنه. وكان قتادة يقول إن لم يكن له مال استسعى قال ابن المنذر وقد أخبر همام ان ذكر السعاية من قول قتادة، قال وألحق سعيد بن أبي عروبة الذي ميزه همام من قول قتادة فجعله متصلاً بالحديث. قلت وقد تأول بعض الناس فقال معنى السعاية أن يُستسعى العبد لسيده أي يستخدم ولذلك قال غير مشقوق عليه أي لا يحمل فوق ما يلزمه من الخدمة بقدر ما فيه من الرق لا يطالب باكثر منه. قال أبو داود: حدثنا على بن عبد الله حدثنا محمد بن بشر عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن النضر بن أنس عن بشير بن نَهيك، عَن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من أعتق شِقصاً أو شقيصاً له في مملوك فخلاصه عليه في ماله إن كان له مال فإن لم يكن له مال قوم العبد قيمة عدل ثم استُسعي لصاحبه في قيمته غير مشقوق عليه. قال أبو داود ورواه يحيى بن سعيد وابن أبي عدي عن سعيد بن أبي عروبة لم يذكرا فيه السعاية. ورواه يزيد بن زريع عن سعيد فذكر فيه السعاية. وقال محمد بن إسماعيل ورواه شعبة عن قتادة فلم يذكر السعاية. قال الشيخ: اضطراب سعيد بن أبي عروبة في السعاية مرة يذكرها ومرة

ومن باب من رأى من لم يكن له مال لم يستسع

لا يذكرها فدل على أنها ليست من متن الحديث عنده وإنما هو من كلام قتادة وتفسيره على ما ذكره همام وبينه. ويدل على صحة ذلك حديث ابن عمر رضي الله عنه وقد ذكره أبو داود في هذا الباب الذي يليه. ومن باب من رأى من لم يكن له مال لم يستسع قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من أعتق شقصاً له في مملوك أقيم عليه قيمة العدل فأعطى شركاؤه حصصهم وأعتق عليه العبد وإلا فقد عتق عليه ما عتق. قال الشيخ: قوله وإلا فقد عتق عليه ما عتق يدل على أنه لا عاقبة وراء ذلك، وفيه سقوط السعاية وهو أثبت شيء روي من الحديث في هذا الباب. قال أبو داود قال أيوب وروي هذا الحديث عن نافع فقال كان نافع ربما قال فقد عتق منه ما عتق وربما لم يقله. قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا سفيان عن عمروعن سالم عن أبيه يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان العبد بين اثنين فأعتق أحدهما نصيبه فان كان موسراً يقوم عليه قيمة لا وَكس ولا شطط ثم يعتق. قال الشيخ في قوله ثم يعتق حجة لمن ذهب إلى أن العتق لا يقع بنفس الكلام ولكنه بعد التقويم والأداء، وهو قول مالك بن أنس وربيعة بن عبد الرحمن. قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن خالد، عَن أبي بشر العنبري، عَن أبي التَّلِب عن أبيه أن رجلاً أعتق نصيباً له في مملوك فلم يضمنه النبي صلى الله عليه وسلم.

ومن باب من ملك ذا رحم محرم

قال الشيخ: هذا غير مخالف للأحاديث المتقدمة وذلك لأنه إذا كان معسراً لم يضمن وبقي الشقص مملوكاً كما كان. ومن باب من ملك ذا رحم محرم قال أبو داود: حدثنا مسلم بن إبراهيم وموسى بن إسماعيل قالا: حَدَّثنا حماد بن سلمة عن قتادة عن الحسن عن سمرة فيما يحسب حماد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من ملك ذا رحم محرم فهو حر. قال أبو داود لم يحدث هذا الحديث إلاّ حماد بن سلمة وقد شك فيه. قال أبو داود: قال وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو أسامة عن شعبة عن قتادة عن جابر بن زيد والحسن مثله. قال أبو داود وشعبة احفظ من حماد بن سلمة. قال الشيخ: قلت الذي أراد أبو داود من هذا أن الحديث ليس بمرفوع أو ليس بمتصل إنما هو عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقد اختلف الناس في هذا فذهب أكثر أهل العلم إلى أنه إذا ملك ذا رحم محرم عتق عليه، روي ذلك عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما ولا يعرف لهما مخالف في الصحابة وهو قول الحسن وجابر بن زيد وعطاء والشعبي والزبير والحكم وحماد وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه وسفيان وأحمد وإسحاق. وقال مالك بن أنس يعتق عليه الولد والوالد والإخوة ولا يعتق عليه غيرهم. وقال الشافعي لا يعتق عليه إلاّ أولاده وآباؤه وأمهاته ولا يعتق عليه إخوته ولا أحد من ذوي قرابته ولحمته. وأما ذوو المحارم من الرضاعة فإنهم لا يعتقون في قول أكثر أهل العلم،

ومن باب في أمهات الأولاد

وكان شريك بن عبد الله القاضي يعتقهم. وذهب أهل الظاهر وبعض المتكلمين إلى أن الأب لا يعتق على الابن إذا ملكه واحتجوا بقوله لا يجزي ولد والده إلاّ أن يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه قالوا وإذا صح الشراء فقد ثبت الملك ولصاحب الملك التصرف، وحديث سمرة غير ثابت. ومن باب في أمهات الأولاد قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن قيس عن عطاء عن جابر بن عبد الله قال بعنا أمهات الأولاد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه فلما كان عمر رضي الله عنه نهانا فانتهينا. قال الشيخ: ذكر أبو داود في صدر هذا الباب حديثاً ليس إسناده بذاك. ، قال: حَدَّثنا النفيلي عن محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن خطاب بن صالح مولى الأنصار عن أمه عن سلامة بنت معقِل امرأة من قيس عيلان أن عمها قدم بها المدينة في الجاهلية فباعها من الحُبَاب بن عمرو فولدت له عبد الرحمن بن الحباب. قال الشيخ:، يَعني ثم هلك فأرادوا بيعها فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بإعتاقها وعوضهم منها غلاماً. وذهب عامة أهل العلم إلى أن بيع أم الولد فاسد وإنما روي الخلاف عن علي رضي الله عنه فقط. وعن ابن عباس رضي الله عنه أنها تعتق في نصيب ولدها. وقد روى حماد بن زيد عن أيوب عن محمد بن سيرين أنه قال لأبي معشر

إني اتهمكم في كثير مما تروون عن علي رضي الله عنه لأني قال لي عبيدة بعث إليّ عليّ وإلى شريح يقول إني أبغض الاختلاف فاقضوا كما كنتم تقضون،، يَعني في أم الولد حتى يكون للناس جماعة أو أموت كما مات صاحباي، قال فقتل علي رضي الله عنه قبل أن يكون للناس جماعة حدثونا بذلك عن علي بن عبد العزيز، عَن أبي النعمان عن حماد. قلت واختلاف الصحابة إذا ختم بالاتفاق وانقرض العصر عليه صار إجماعاً وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال نحن لا نورث ما تركنا صدقة. وقد خلف صلى الله عليه وسلم أم ولده مارية فلو كانت مالاً لبيعت وصار ثمنها صدقة. وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن التفريق بين الأولاد والأمهات وفي بيعهن تفريق بينهن وبين أولادهن، ووحدنا حكم الأولاد وحكم أمهاتهم في الحرية والرق، وإذا كان ولدها من سيدها حراً دل على حرية الأم. وقال بعض أهل العلم ويحتمل أن يكون هذا الفعل منهم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وهو لا يشعر بذلك لأنه أمر يقع نادراً، وليست أمهات الأولاد كسائر الرقيق التي يتداولها الأملاك فيكثر بيعهن وشراؤهن فلا يخفى الأمر على العامة والخاصة في ذلك. وقد يحتمل أن يكون ذلك مباحاً في العصر الأول ثم نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك قبل خروجه من الدنيا ولم يعلم به أبو بكر رضي الله عنه لأن ذلك لم يحدث في أيامه لقصر مدتها ولاشتغاله بأمور الدين ومحاربة أهل الردة واستصلاح أهل الدعوة ثم بقي الأمر على ذلك في عصر عمر رضي الله عنه مدة من الزمان، ثم نهى عنه عمر حين بلغه ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فانتهوا عنه والله أعلم.

ومن باب في بيع المدبر

ومن باب في بيع المدبر قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا هشيم عن عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء وإسماعيل بن أبي خالد عن سلمة بن كُهيل عن عطاء عن جابر بن عبد الله أن رجلاً أعتق غلاماً له عن دُبُر منه لم يكن له غيره فأمره النبي صلى الله عليه وسلم فبيع بسبعمائة أو تسعمائة. قال الشيخ: قد اختلف مذاهب الناس في بيع المدبر واختلف أقاويلهم في تأويل هذا الحديث، فأجاز الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه بيع المدبر على الأحوال كلها، وروي ذلك عن مجاهد وطاوس. وكان الحسن يرى بيعه إذا احتاج صاحبه إليه، وكان مالك يجيز بيع الورثة إذا كان على الميت دين يحيط برقبته ولا يكون للميت مال غيره. وكان الليث بن سعد يكره بيع المدبر ويجيز بيعه إذا أعتقه الذي ابتاعه. وكان ابن سيرين يقول لا يباع إلاّ من نفسه. ومنع من بيع المدبر سعيد بن المسيب والشعبي والنخعي والزهري وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، وإليه ذهب سفيان والأوزاعي. وتأول بعض أهل العلم الحديث في بيع المدبر على التدبير المعلق، قال وهو أن يقول لمملوكه إن مت من مرضي هذا فأنت حر، قال وإذا كان كذلك جاز بيعه، قال وأما إذا قال أنت حر بموتي أو بعد موتي فقد صار المملوك مدبراً على الإطلاق ولا يجوز بيعه. قلت ليس في الحديث بيان ما ذكره من تعليق التدبير، وإنما جاء الحديث ببيع المدبر. واسم التدبير إذا أطلق كان على هذا المعنى لا على غيره.

ومن باب فيمن أعتق عبيدا له لم يبلغوا الثلث

وقد باعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان ظاهره جواز بيع المدبر؛ والمدبر هو من أعتق عن دبر. ولم يختلفوا في أن عتق المدبر من الثلث فكان سبيله سبيل الوصايا وللموصي أن يعود فيما أوصى به وإن كان سبيله سبيل العتق بالصفة فهو أولى بالجواز ما لم يوجد الصفة المعلق بها العتق والله أعلم. ومن باب فيمن أعتق عبيداً له لم يبلغوا الثلث قال أبو داود: حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد عن أيوب، عَن أبي قلابة، عَن أبي المهلب عن عمران بن حصين أن رجلاً أعتق ستة أعبد عند موته لم يكن له مال غيرهم فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال له قولاً شديداً ثم دعاهم فجزأهم ثلاثة أجزاء فأقرع بينهم فأعتق اثنين وأَرَقَّ أربعة. قال الشيخ: في هذا بيان أن حكم عتق البتات في المرض الذي يموت به المعتق حكم الوصايا وإن ذلك من ثلث ماله. وفيه إثبات القرعة في تمييز العتق الشائع في الأعيان وجمعه في بعض دون بعض. وقوله فجزأهم ثلاثة أجزاء يريد أنه جزأهم على عبرة القيم دون عدد الرؤوس إلاّ أن القيم قد تساوت فيهم فخرج عدد الرؤوس على مساواة القيم وعبيد أهل الحجاز إنما هم الزنوج والحبش والقيم قد تتساوى فيها غالباً أو تتقارب. وتفريق العتق في أجزاء العبيد يؤدي إلى الضرر في الملاك والمماليك معاً وجمع العتق يرفع الضرر وينفي سوء المشاركة. وأما الاستسعاء فقد ذكرنا فيما تقدم أن الحديث فيه غير صحيح فجمع الحرية به متعذر غير متيسر.

وقد اعترض على هذا قوم فقالوا في هذا ظلم للعبيد لأن السيد إنما قصد إيقاع العتق عليهم جميعاً، فلما منع حق الورثة من استغراقهم وجب أن يقع الجائز منه شائعاً فيهم لينال كل واحد منهم حصته منه كما لو وهبهم ولا مال له غيرهم وكما لو كان أوصى بهم فإن الهبة والوصية قد تصح في الجزء في كل واحد منهم. قلت هذا قياس ترده السنة، وإذا قال صاحب الشريعة قولاً وحكم بحكم لم يجز الاعتراض عليه برأي ولا مقابلة بأصل آخر ويجب تقريره على حاله واتخاذه أصلاً في بابه. والوصايا والهبات مخالفة للعتق لأن الورثة لا يتضررون بوقوع الهبة والوصية شائعين في العبد ويتضررون بوقوع العتق شائعاً، وأمرالعتق مبني على التغليب والتكميل إذا وجد إليه السبيل وحكم الدين قد منع من إكمال في جماعتهم فأكمل لمن خرجت له القرعة منهم. قال الشافعي وهذا الحديث أصل في جواز الوصية في المرض بالثلث للأجانب لأن عتقه إياهم في معنى الوصية لهم وهم أجانب، قال وكانت العرب لا تستعبد من بينها وبينه نسب تريد بهذا أن الوصية للأقربين منسوخة بآية الميراث. وقد اختلف العلماء في هذه المسألة فقال بظاهر الحديث مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، وقد روى ذلك عن عمر بن عبد العزيز. وقال أبو حنيفة وأصحابه يعتق من كل واحد منهم الثلث ويستسعى في ثلثيه للورثة ويتق، ويروى ذلك عن الشعبي والنخعي، وعلى هذا القياس إذا اعتق في المرض الذي مات فيه عبداً لم يكن له مال غيره فإنه يعتق منه الثلث ويكون ثلثاه رقيقا للورثة في قول مالك والشافعي، وعند أبي حنيفة وأصحابه يعتق ثلثه ويستسعى في ثلثيه للورثة ويعتق.

وتأول بعضهم الحديث على أنه إنما أراد بالتجزئة إفراز حصة الورثة من حصة العبيد دون تجزئة الأعيان وهذا تأويل فاسد. وقد أخبر عمران بن حصين في هذا الحديث أنه أعتق اثنين منهم وأرق أربعة فصرح بوقوع القسمة في الأعيان دون الأجزاء ولو أراد الأجزاء لقال فأعتق الثلث وأرق الثلثين وما أشبه ذلك من الكلام والله أعلم. وفي قوله فاعتق اثنين بيان صحة وقوع العتق لهما والرق لمن عداهما. وفي قول من يرى استسعاء كل واحد منهما في ثلثي قيمته ترك للأمرين معاً لأنه لا يعتق أحداً منهم ولا يرقّه وفي ذلك مخالفة للحديث على وجهه، وقد جاء بيان ما قلناه صريحاً من رواية الحسن عن عمران بن حصين. حدثناه إبراهيم بن فراس حدثنا أحمد بن علي بن سهل حدثنا عبد الأعلى بن حماد النرسي حدثنا حماد بن سلمة عن عطاء الخراساني عن سعيد بن المسيب، وأيوب عن محمد بن سيرين عن عمران بن حصين وقتادة وحميد وسماك بن حرب عن الحسن عن عمران بن حصين أن رجلاً أعتق ستة مملوكين له عند موته وليس له مال غيرهم فأقرع رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم فأعتق اثنين ورد أربعة في الرق. قوله ورد أربعة في الرق يبطل كل تأويل يتأول بخلاف ظاهر الحديث. قال ابن فراس قوله عن سعيد بن المسيب هو مرسل عن النبي صلى الله عليه وسلم وحديث أيوب عن ابن سيرين غريب والمشهور عن الحسن. ومن باب من أعتق عبداً وله مال قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب أخبرني ابن لهيعة والليث بن سعد عن عبيد الله بن أبي جعفر عن بكير بن الأشجع عن نافع عن عبد الله

ومن باب عتق ولد الزنا

بن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أعتق عبداً وله مال فمال العبد له إلاّ أن يشترط السيد. قال الشيخ: الأصل أن مال العبد لسيده كما أن رقبته له وإنما أضيف إليه المال مجازاً على معنى أنه يتولى حفظه ويتصرف فيه بإذن سيده كما قيل غنم الراعي وصبيان المعلم، والعبد لا يملك في قول أكثر العلماء، وقد قال مالك إذا ملكه سيده ملك. وحكي ذلك أيضاً عن الحسن البصري ولا أعلم خلافاً في أنه لا يرث، وإذا كان أصح وجوه الملك وأقواها الميراث وهو لا يملكه بلا خلاف فما عداه أولى بذلك. وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من باع عبداً وله مال فمال للبائع إلاّ أن يشترط المبتاع فجعل المال مردوداً على البائع إلاّ أن يبتاعه المشتري كما يبتاع رقبته فيكون عبداً ومالاً معلوماً بثمن معلوم، وإذا كان كذلك وجب أن يكون ما قاله في مال العبد المعتق متأولاً على وجه الندب والاستحباب لأن يسمح به للعبد إذ كان العتق منه إنعاماً عليه ومعروفاً اصطنعه إليه فندب إلى مسامحته فيما في يده من المال ليكون إتماماً للصنيعة ورباً للنعمة التي أسداها إليه، وقد جرى من عادة السادة أن يحسنوا إلى مماليكهم إذا أرادوا إعتاقهم وأن يرضخوا لهم فكان أقرب ذلك أن يتجافى له عما في يده والله أعلم. وحكى حمدان بن سهل عن إبراهيم النخعي أنه كان يرى المال للعبد إذا أعتقه السيد، وإليه كان يذهب حمدان قولاً بظاهر الحديث. ومن باب عتق ولد الزنا قال أبو داود: حدثنا إبراهيم بن موسى أنبأنا جرير عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ولد الزنا شر الثلاثة.

قال الشيخ: اختلف الناس في تأويل هذا الكلام فذهب بعضهم إلى أن ذلك إنما جاء في رجل بعينه كان موسوماً بالشر، وقال بعضهم إنما صار ولد الزنا شراً من والديه لأن الحد قد يقام عليهما فيكون العقوبة تمحيصاً لهما؛ وهذا في علم الله لا يدري ما يصنع به وما يفعل في ذنوبه. وأنبأنا أبو هاشم حدثنا الدبري عن عبد الرزاق عن ابن جريج عن عبد الكريم قال كان أبو ولد الزنا يكثر أن يمر بالنبي صلى الله عليه وسلم فيقولون هو رجل سوء يا رسول الله فيقول صلى الله عليه وسلم: هو شر الثلاثة، يَعني الأب فحول الناس الولد شر الثلاثة، وكان ابن عمر رضي الله عنه إذا قيل ولد الزنا شر الثلاثة قال بل هو خير الثلاث. قلت هذا الذي تأوله عبد الكريم أمر مظنون لا يدرى صحته والذي جاء في الحديث الذي رواه أبو هريرة إنما هو ولد الزنا شر الثلاثة فهو على ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد قال بعض أهل العلم أنه شر الثلاثة أصلاً وعنصراً ونسباً ومولوداً وذلك لأنه خلق من ماء الزاني والزانية وهو ماء خبيث. وقد روي في بعض الحديث العرق دساس فلا يؤمن أن يؤثر ذلك الخبث فيه ويدب في عروقه فيحمله على الشر ويدعوه إلى الخبث، وقد قال سبحانه في قصة مريم {ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغياً} [مريم: 28] فقضوا بفساد الأصل على فساد الفرع. وقد روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه في قوله تعالى {ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس} [الأعراف: 179] أنه قال ولد الزنا مما ذرىء لجهنم. وعن سعيد بن جبير أنه قال ولد الزنا ذرىء لجهنم. وكان مالك لا يجيز شهادة ولد الزنا على الزنا خاصة دون غيره من الشهادات للتهمة.

ومن باب في ثواب العتق

وروى بعض من احتج له في ذلك عن عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه أنه قال ودت الزانية أن النساء كلهن زنين. وحكى ابن المنذر، عَن أبي حنيفة رصي الله عنه في كتاب الاختلاف أن من ابتاع غلاماً فوجده ابن زنا كان له أن يرده بالعيب. فأما قول ابن عمر أنه خير الثلاثة فإنما وجهه أنه لا إثم له في الذنب الذي باشره والده فهو خير منهما لبراءته من ذنبهما والله أعلم. ومن باب في ثواب العتق قال أبو داود: حدثنا عيسى بن محمد الرملي حدثنا ضمرة عن ابن أبي عبلة عن العَريف بن الديلمي عن واثلة بن الأسقع قال أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في صاحب لنا أوجب، يَعني النار بالقتل، فقال اعتقوا عنه يعتق الله بكل عضو منه عضواً من النار. قال الشيخ: كان بعض أهل العلم يستحب أن لا يكون العبد المعتق خصياً لئلا يكون ناقص العضو ليكون معتقه قد نال الموعود في عتق أعضائه كلها من النار بإعتاقه إياه من الرق في الدنيا. كتاب الوصايا ومن باب ما يؤمر به من الوصية قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يحيى بن سعيد عن عبيد الله حدثني نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما حق امرىء مسلم

له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلاّ ووصيته مكتوبة عنده. قال الشيخ: قوله ما حق امرىء مسلم معناه ما حقه من جهة الحزم والاحتياط إلاّ أن تكون وصيته مكتوبة عنده إذا كان له شيء يريد أن يوصي فيه فإنه لا يدري متى توافيه منيته فتحول بينه وبين ما يريد من ذلك. وفيه دليل على أن الوصية غير واجبة وهو قول عامة الفقهاء، وقد ذهب بعض التابعين إلى إيجابها وهو قول داود. وفيه أن الوصية إنما تستحب لمن له مال يريد أن يوصي فيه دون من ليس له فضل مال، وهذا في الوصية التي هو متبرع بها من نحو صدقة وبر وصلة دون الديون والمظالم التي يلزمه الخروج عنها، فإن من عليه ديناً أو قبله تبعة لأحد من الناس فالواجب عليه أن يوصي فيه وأن يتقدم إلى أوليائه فيه، لأن أداء الأمانة فرض واجب عليه. قال أبو داود: حدثنا مسدد ومحمد بن العلاء قالا: حَدَّثنا أبو معاوية عن الأعمش، عَن أبي وائل عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها، قالت ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم ديناراً ولا درهماً ولا بعيراً ولا شاة ولا أوصى بشيء. قال الشيخ: قولها ولا أوصى بشيء تريد وصية المال خاصة لأن الإنسان إنما يوصي في مال سبيله أن يكون موروثا وهو صلى الله عليه وسلم لم يترك شيئاً يورث فيوصي فيه، وقد أوصى بأمور منها ما روي أنه كان عامة وصيته عند الموت الصلاة وما ملكت أيمانكم. وقال ابن عباس رضي الله عنه أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موته اخرجوا اليهود عن جزيرة العرب وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم.

ومن باب ما يجوز للموصي في ماله

ومن باب ما يجوز للموصي في ماله قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة وابن أبي خلف قالا: حَدَّثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن عامر بن سعد عن أبيه قال مرض سعد مرضاً اشفى منه، قال ابن أبي خلف بمكة فعاده رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إن لي مالاً كثيراً وليس يرثني إلاّ ابنة لي أفأتصدق بالثلثين، قال لا، قال فبالشطر قال لا، قال فبالثلث، قال الثلث والثلث كثير إنك إن تترك ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس وإنك لن تنفق نفقة إلاّ أجرت فيها حتى اللقمة ترفعها إلي في امرأتك، قلت يا رسول الله أتخلّف عن هجرتي قال ان تُخلَّف بعدي فتعمل عملاً تريد به وجه الله تبارك وتعالى لا تزداد به إلاّ رفعة ودرجة ولعلك أن تخلف حتى ينتفع بك أقوام ويُضر بك آخرون، ثم قال اللهم امض لأصحابي هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم، لكن البائس سعد بن خولة يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مات بمكة. قال الشيخ: قوله وليس يرثني إلاّ ابنة لي يريد أنه ليس يرثني ذو سهم إلاّ ابنة دون من يرثه بالتعصيب لأن سعداً رجل من قريش من زهرة وفى عصبته كثرة. وفي ذلك دليل على أن لمن مات وقد خلف من الورثة من يستوعب جميع ماله أن يوصي بالثلث منه. وقد زعم بعض أهل العلم أن الثلث إنما هو لمن ليس له وارث يستوفي تركته. وفي قوله الثلث كثير دليل على أنه لا يجوز مجاوزته ولا أن يوصي بأكثر من الثلث سواء كان له ورثة أو لم يكن. وقد زعم قوم أنه إذا لم يكن له ورثة وضع جميع ماله حيث شاء، وإليه

ومن باب كراهية الإضرار في الوصية

ذهب إسحاق بن راهويه، وروي ذلك عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه. وقد اختلف أهل العلم في جواز الوصية بالثلث فذهب بعضهم إلى أن قوله والثلث كثير منعاً من الوصية به وأن الواجب أن يقصر عنه وأن لا يبلغ بوصيته تمام الثلث. وروي عن ابن عباس أنه قال الثلث جنف والربع جنف. وعن الحسن البصري أنه قال يوصي بالثلث أو الخمس أو الربع. وقال إسحاق بن راهويه السنة في الربع لما قال النبي صلى الله عليه وسلم والثلث كثير إلاّ أن يكون رجلاً يعرف في ماله شبهات فعليه استغراق الثلث. وقال الشافعي إذا ترك ورثته أغنياء لم يكره له أن يستوعب الثلث فإذا لم يدعهم أغنياء اخترت له أن لا يستوعبه. وقوله عالة يتكففون الناس يريد فقراء يسألون الصدقة، يقال رجل عائل أي فقير وقوم عالة والفعل منه عال يعيل إذا افتقر. ومعنى يتكففون يسألون الصدقة بأكفهم. وقوله أتخلف عن هجرتي معناه خوف الموت بمكة وهي دار تركوها لله عز وجل وهاجروا إلى المدينة فلم يحبوا أن تكون مناياهم فيها. ومن باب كراهية الإضرار في الوصية قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا عبد الواحد بن زياد حدثنا عمارة بن القعقاع، عَن أبي زرعة عمرو بن جرير، عَن أبي هريرة قال: قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم يا رسول الله أى الصدقة أفضل؛ قال ان تصدق وأنت صحيح حريص تأمل البقاء وتخشى الفقر ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم، قلت لفلان كذا ولفلان

ومن باب الوصية للوارث

كذا وقد كان لفلان. قال الشيخ: فيه من الفقه أن للصحيح أن يضع ماله حيث شاء من المباح وله أن يشح به على من لا يلزمه فرضه. وفيه المنع من الإضرار في الوصية عند الموت. وفي قوله وقد كان لفلان دليل على أنه إذا أضر في الوصية كان للورثة أن يبطلوها لأنه حينئذ مالهم، ألا تراه يقول وقد كان لفلان يريد به الوارث والله أعلم. ومن باب الوصية للوارث قال أبو داود: حدثنا عبد الوهاب بن نجدة حدثنا ابن عياش عن شرحبيل بن مسلم قال سمعت أبا أمامة، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث. قال الشيخ: قوله أعطى كل ذي حق حقه إشارة إلى آية المواريث وكانت الوصية قبل نزول الآية واجبة للأقربين وهو قوله تعالى {كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين} [البقرة: 18] ثم نسخت بآية الميراث. وإنما تبطل الوصية للوارث في قول أكثر أهل العلم من أجل حقوق سائر الورثة فإذا أجازوها جازت كما إذا أجازوا الزيادة على الثلث للأجنبي جاز. وذهب بعضهم إلى أن الوصية للوارث لا تجوز بحال وإن أجازها سائر الورثة لأن المنع منها إنما لحق الشرع فلو جوزناها لكنا قد استعملنا الحكم المنسوخ وذلك غير جائز كما أن الوصية للقاتل غير جائزة وإن أجازها الورثة.

ومن باب ما لولي اليتيم أن ينال من مال اليتيم

ومن باب ما لولي اليتيم أن ينال من مال اليتيم قال أبو داود: حدثنا حميد بن مسعدة أن خالد بن الحارث حدثهم، قال: حَدَّثنا حسين، يَعني المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إني فقير ليس لي شيء ولي يتيم قال فقال كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مباذر ولا متأثل. قال الشيخ: قوله غير متأثل أي غير متخذ منه أصل مال واثلة الشيء أصله. ووجه إباحته الأكل من مال اليتيم أن يكون ذلك على معنى ما يستحقه من العمل فيه والاستصلاح له وأن يأخذ منه بالمعروف على قدر مثل عمله. وقد اختلف الناس في الأكل من مال اليتيم فروي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال يأكل منه الوصي إذا كان يقوم عليه، وإليه ذهب أحمد بن حنبل. وقال الحسن والنخعي يأكل ولا يقضي، وقال عبيدة السلماني وسعيد بن جبير ومجاهد يأكل ويؤديه إليه إذا كبر وهو قول الأوزاعي. ومن باب متى ينقطع اليتم قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا يحيى بن محمد المديني حدثنا عبد الله بن خالد بن سعيد بن أبي مريم عن أبيه عن سعيد بن عبد الرحمن بن رقيش أنه سمع شيوخا من بني عمرو بن عوف ومن خاله عبد الله بن أبي أحمد قال: قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يتم بعد احتلام ولا صمات يوم إلى الليل. قال الشيخ: ظاهر هذا القول يوجب انقطاع أحكام اليتم عنه بالاحتلام

ومن باب الدليل على أن الكفن من جميع المال

وحدوث أحكام البالغين له فيكون للمحتلم أن يبيع ويشتري ويتصرف في ماله ويعقد النكاح لنفسه وإن كانت امرأة فلا تزوج إلاّ بإذنها. ولكن المحتلم إذا لم يكن رشيداً لم يفك الحجر عنه وقد يحظر الشيء بشيئين فلا يرتفع بارتفاع أحدهما مع بقاء السبب الآخر وقد أمر الله تعالى بالحجر على السفيه فقال {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً} [النساء: 5] وقال {فإن كان الذي عليه الحق سفيهاً أو ضعيفاً} [البقرة: 282] فأثبت الولاية على السفيه كما أثبتها على الضعيف، فكان معنى الضعيف راجعاً إلى الصغير، ومعنى السفيه إلى الكبير البالغ لأن السفه اسم ذم ولا يذم الإنسان على ما لم يكتسب والقلم مرفوع عن غير البالغ فالجرح والذم مرفوعان عنه؛ وقال سبحانه {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم} [النساء: 6] فشرط في دفع المال إليهم شيئين الاحتلام والرشد. والحكم إذا كان وجوبه معلقاً بشيئين لم يجب إلاّ بورودهما معاً. وقوله لا صمات يوم إلى الليل وكان أهل الجاهلية من نسكهم الصمات، وكان الواحد منهم يعتكف اليوم والليلة فيصمت ولا ينطق فنهوا عن ذلك وأمروا بالذكر والنطق بالخير. ومن باب الدليل على أن الكفن من جميع المال قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير حدثنا سفيان عن الأعمش، عَن أبي وائل عن خباب، قال مصعب بن عمير قتل يوم أحد ولم يكن له إلاّ نمرة كنا إذا غطينا بها رأسه خرجت رجلاه وإذا غطينا رجله خرج رأسه، فقال صلى الله عليه وسلم غطوا بها رأسه واجعلوا على رجليه من الاذخر.

ومن باب الرجل يهب الهبة ثم يوصى له بها أو يرثها

قال الشيخ: قلت فيه دلالة على أن الكفن من رأس المال وأنه إذا استغرق الكفن جميع المال كان الميت أولى به من الورثة. ومن باب الرجل يهب الهبة ثم يوصى له بها أو يرثها قال أبو داود: حدثنا أحمد بن يونس حدثنا زهير حدثنا عبد الله بن عطاء عن عبد الله بن بريدة عن أبيه بريدة أن امرأة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: كنت تصدقت على أمي بوليدة وأنها ماتت وتركت تلك الوليدة، قال قد وجب أجرك ورجعت إليك في الميراث. قالت وأنها ماتت وعليها صوم شهر أفيجزي أو يقضي عنها أن أصوم عنها، قال: نعم. قال الشيخ: الوليدة الجارية المملوكة ومعنى الصدقة ههنا العطية وإنما جرى عليها اسم الصدقة لأنها بر وصلة فيها أجر فحلت محل الصدقة. وفيه دليل على أن من تصدق على فقير بشيء فاشتراه منه بعد أن قبضه إياه فإن البيع جائز وإن كان يستحب له أن لا يرجعه إلى ملكه بعد أن أخرجه بمعنى الصدقة. وقولها أصوم عنها يحتمل أن يكون أرادت الكفارة عنها فيحل محل الصوم ويحتمل أن يكون أرادت الصيام المعروف. وقد ذهب إلى جواز الصوم عن الميت بعض أهل العلم، وذهب أكثر العلماء إلى أن عمل البدن لا يقع فيه النيابة كما لا يقع فيه الصلوات. ومن باب الصدقة عن الميت قال أبو داود: حدثنا الربيع بن سليمان حدثنا ابن وهب عن سليمان، يَعني ابن بلال عن العلاء بن عبد الرحمن أراه عن أبيه، عَن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

كتاب الفرائض

إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلاّ من ثلاثة أشياء من صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له. قال الشيخ: فيه دليل على أن الصوم والصلاة وما دخل في معناهما من عمل الأبدان لا تجري فيها النيابة. وقد يستدل به من يذهب إلى أن من حج عن ميت فإن الحج في الحقيقة يكون للحاج دون المحجوج عنه وإنما يلحقه الدعاء ويكون له الأجر في المال الذي أعطى ان كان حج عنه بمال. كتاب الفرائض قال أبو داود: حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح أخبرنا ابن وهب حدثني عبد الرحمن بن زياد عن عبد الرحمن بن رافع التنوخي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: العلم ثلاثة وما سوى ذلك فهو فضل آية محكمة أو سنة ماضية أو فريضة عادلة. قال الشيخ: في هذا حث على تعلم الفرائض وتحريض عليه وتقديم تعلمه. والآية المحكمة هي كتاب الله واشترط فيها الاحكام لأن من الآي ما هو منسوخ لا يعمل به وإنما يعمل بناسخه. والسنة القائمة هي الثابتة بما جاء عنه صلى الله عليه وسلم من السنن المروية، وأما قوله أو فريضة عادلة فإنه يحتمل وجهين من التأويل أحدهما أن يكون من العدل في القسمة فيكون معدله على السهام والأنصباء المذكورة في الكتاب والسنة.

والوجه الآخر أن تكون مستنبطة من الكتاب والسنة ومن معانيهما فتكون هذه الفريضة تعدل بما أخذ عن الكتاب والسنة إذ كانت في معنى ما أخذ عنهما نصاً. وقد اختلف الصحابة في مسائل من الفرائض وتناظروا فيها وتحروا تعديلها فاعتبروها بالنصوص كمسألة الزوج والأبوين. حدثنا إبراهيم بن فراس حدثنا محمد بن علي بن زيد الصائغ حدثنا موسى بن محمد بن حبان البصري حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا سفيان عن عبد الرحمن بن الأصفهاني عن عكرمة قال أرسل ابن عباس رضي الله عنهما إلى زيد بن ثابت فسأله عن امرأة تركت زوجها وأبويها، قال للزوج النصف وللأم ثلث ما بقي، فقال تجده في كتاب الله أو تقوله برأيك، قال أقوله برأيي لا أفضل أماً على أب. قلت فهذا من باب تعديل الفريضة إذا لم يكن فيها نص وذلك أنه اعتبرها بالمنصوص عليه وهو قوله تعالى {وورثه أبواه فلأمه الثلث} [النساء: 11] فلما وجد نصيب الأم الثلث وكان باقي المال وهو الثلثان للأب قاس النصف الفاضل من المال بعد نصيب الزوج على كل المال إذ لم يكن مع الوالدين ابن أو ذو سهم فقسمه بينهما على ثلاثة أسهم للأم سهم والباقي وهو سهمان للأب، وكان هذا أعدل في القسمة من أن يعطي الأم من النصف الباقي ثلث جميع المال وللأب ما بقي وهو السدس فيفضلها عليه فيكون لها وهي مفضولة في أصل المورث أكثر مما للأب وهو المقدم والمفضل في الأصل، وذلك أعدل مما ذهب إليه ابن عباس من توفير الثلث على الأم وبخس الأب حقه برده إلى السدس فترك قوله عليه وصار عامة الفقهاء إلى قول زيد.

ومن باب من ليس له ولد وله أخوات

ومن باب من ليس له ولد وله أخوات قال أبو داود: حدثنا منصور بن أبي مزاحم حدثنا أبو بكر، عَن أبي إسحاق عن البراء بن عازب قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله يستفتونك في الكلالة ما الكلالة قال تجزيك آية الصيف، قلت لأبي إسحاق هو من مات ولم يدع ولداً ولا والداً قال كذلك ظنوا أنه كذلك. قال الشيخ: وقد روي أن الرجل الذي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه ويشبه أن يكون والله أعلم إنما لم يفته عن مسألته ووكل الأمر في ذلك إلى بيان الآية اعتماداً على علمه وفقهه ليتوصل إلى معرفتها بالاجتهاد الذى هو طريق التبين ولو كان السائل غيره ممن ليس له مثل علمه وفهمه لأشبه أن لا يفتصر في مسألته على الإشارة إلى ما أجمل في الآ ية من الحكم دون البيان الشافي في التسمية له والنص عليه والله أعلم. وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يقرأ هذه الآية فإذا صار إلى قوله {يبين الله لكم أن تضلوا} [النساء: 176] قال اللهم من بينت له فإن عمر لم يتبين. واختلفوا في الكلالة من هو فقال أكثر الصحابة من لا ولد له ولا والد. وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيه اختلاف فروي أنه قال الكلالة من لا ولد له ولا والد مثل قول سائر الصحابة. وروي عنه أنه قال الكلالة من لا ولد له، ويقال إن هذا آخر قوليه. حدثنا محمد بن هاشم حدثنا الدبري عن عبد الرزاق حدثنا ابن جريج أخبرني ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أوصى عند موته فقال الكلالة كما قلت، قال ابن عباس وما قلت قال من لا ولد له.

وأنبأنا بن الأعرابي حدثنا سعدان حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن الحسن قال سألت ابن عباس رضي الله عنه فقال هو ما عدا الوالد والولد، قال قلت فإن الله عز وجل يقول {إن امرؤ هلك ليس له ولد} [النساء: 176] قال فغضب وانتهرني. قلت إنما أشكل هذا من قبل أن المسمى في الآية والمشروط فيها هو من لا ولد له وليس للوالد فيها ذكر. وقيل إن بيان الشرط الآخر الذي هو الوالد مأخوذ من حديث جابر بن عبد الله وفيه أنزلت الآية، وكان ذلك من باب زيادة السنة على الكتاب وكان جابر يوم نزول الآية لا ولد له ولا والد، وقد ذكر أبو داود قصة جابر في هذا الباب قال: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا كثير بن هشام حدثنا هشام، يَعني الدستوائي، عَن أبي الزبير عن جابر، قال اشتكيت وعندي سبع أخوات فدخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فنفخ في وجهي فأفقت فقلت يا رسول الله ألا أوصي لأخواتي بالثلثين، قال أحسن قلت الشطر، قال أحسن، ثم خرج وتركني، فقال يا جابر ألا أراك ميتاً من وجعك هذا وإن الله قد أنزل فبين الذي لأخواتك فجعل لهن الثلثين، قال وكان جابر يقول أنزل في هذه الآية {يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة} [النساء: 176] . قال الشيخ: روي أن عبد الله بن حرام أبا جابر قتل يوم أحد ونزلت آية الكلالة في آخر عمر النبي صلى الله عليه وسلم ويقال أنه آخر ما نزل من القرآن فكان جابر يوم نزول الآية لا ولد له ولا والد فصار شأنه بيانا لمراد الآية فهذا قول بعض العلماء في بيان معنى الكلالة. قلت وفيه وجه آخر وهو أشبه بمعنى الحديث وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال السائل

عن الكلالة تجزيك آية الصيف فوقعت الإحالة منه على الآية في بيان معنى الكلالة فوجب أن يكون ذلك مستنبطاً من نفس الآية دون غيرها. ووجه ذلك وتحريره أن الولد والوالد اسمان مشتقان من الولادة فكل واحد منهما يتعلق بالآخر ويتعدى إليه من طريق الدلالة فكل من انتظمه اسم الولادة من أعلى وأسفل فإنه قد يحتمل أن يدعى ولداً فالوالد يسمى ولداً لأنه قد وَلَد والمولود يسمى ولداً لأنه قد وُلِد. وهذا كالذرية وهو اسم مشتق من ذرأ الله الخلق فالولد ذرية لأنهم ذرئوا أي خلقوا والأب ذرية لأن الولد ذرىء منه ويدل على صحة ذلك قوله سبحانه وتعالى {وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون} [يّس: 41] يريد والله أعلم نوحاً ومن معه فجعل الآباء ذرية كالأولاد لصدور الاسمين معاً عن الذرء، وفي لغة العرب توسع وانبساط ويقع ذلك فيها من وجوه منها الاشتقاق والتركيب ومنها المجاز والتشبيه ومنها الاستعارة والتقريب إلى وجوه غيرها وكل ذلك بيان وأدلتها مستعملة حيثما وجدت. فعلى هذا قد يصح أن يكون المراد بقوله {إن امرؤ هلك ليس لم ولد} [النساء: 176] أي ولادة في الطرفين من أعلى وأسفل، وهو معنى قول الصحابة وعامة الفقهاء أن الكلالة من ليس له ولد ولا والد. واسم الكلالة في اللغة مشتقة من تكلل النسب وذلك أن الإخوة إنما يتكللون الميت من جوانبه ويلقونه من نواحيه والولد والوالد إنما يأتيانه من تلقاء النسب ويجتمعان معه في نصابه وعموده. وأما قوله تجزيك آية الصيف فإن الله سبحانه أنزل في الكلالة آيتين احداهما في الشتاء وهي الآية التي نزلت في سورة النساء وفيها إجمال وإبهام لا يكاد

ومن باب ما جاء في الصلب

يتبين هذا المعنى من ظاهرها ثم أنزل الآية الأخرى في الصيف وهي في آخر سورة النساء وفيها من زيادة البيان ما ليس في آية الشتاء فأحال السائل عليها ليستبين المراد بالكلالة المذكورة فيها والله أعلم. وقد أفردت مسألة في الكلالة وتفسيره وأودعتها من الشرح والبيان أكثر من هذا وهو من غريب العلم ونادره وفيما أوردناه ههنا كفاية إن شاء الله عز وجل. ومن باب ما جاء في الصلب قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن عامر بن زرارة حدثنا علي بن مُسهر عن الأعمش، عَن أبي قيس الأودي عن هزيل بن شُرَحبيل الأودي قال جاء رجل إلى أبي موسى الأشعري وسلمان بن ربيعة فسألهما عن ابنة وابنة ابن وأخت لأب وأم فقالا لابنته النصف وللأخت من الأب والأم النصف ولم يورثا ابنة الابن شيئاً وأت ابن مسعود فإنه سيتابعنا فأتاه الرجل فسأله وأخبره بقولهما، فقال لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين، ولكني أقضي فيها بقضاء النبي صلى الله عليه وسلم لابنته النصف ولابنة الابن سهم تكملة الثلثين وما بقي فللأخت من الأب والأم. قال الشيخ: في هذا بيان أن الأخوات مع البنات عصبة وهو قول جماعة الصحابة والتابعين وعامة فقهاء الأمصار إلاّ ابن عباس رضي الله عنه فإنه قد خالف عامة الصحابة في ذلك وكان يقول في رجل مات وترك ابنة وأختاً لأبيه وأمه إن النصف للابنة وليس للأخت شيء، وقيل له إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قضى بخلاف ذلك جعل للأخت النصف وللابنة النصف فقال أهم اعلم أم الله، يريد قوله سبحانه {إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك} [النساء: 176] فإنما جعل للأخت الميراث بشرط عدم الولد.

وروي عنه أنه كان يقول وددت أني وهؤلاء الذين يخالفونني في الفريضة نجتمع فنضع أيدينا على الركن ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين. قلت وجه ما ذهب إليه الصحابة من الكتاب مع بيان السنة التي رواها عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم أجمعين، أن الولد المذكور في الآية إنما هو الذكور من الأولاد دون الإناث وهو الذي يسبق إلى الأوهام ويقع في المعارف عندما يقرع السمع فقيل ولد فلان وإن كان الإناث أيضاً أولاداً في الحقيقة كالذكور. ويدل على ذلك قول الله سبحانه حكاية عن بعض الكفار {لأوتين مالاً وولداً} [مريم: 77] وقوله تعالى {لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم} [الممتحنة: 3] وقوله {إنما أموالكم وأولادكم فتنة} [التغابن: 15] فكان معلوماً أن المراد بالولد في هذه الآي كلها الذكور دون الإناث إذ كان مشهوراً من مذاهب القوم أنهم لا يتكثرون بالبنات ولا يرون فيهن موضع نفع وعز، بل كان مذاهبهم وأدهن ودفنهن أحياء والتعفية لآثارهن. وجرى التخصيص في هذا الاسم كما جرى ذلك في اسم المال إكا أطلق في الكلام فإنما يختص عرفاً بالإبل دون سائر أنواع المال ومشهور في كلامهم أن يقال غدا مال فلان وراح يريدون سارحة الإبل والمواشي دون ما سواها من أصناف المال. وإذا ثبت أن المراد بالولد المذكور في قوله سبحانه {إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك} [النساء: 176] الذكور من الأولاد دون الإناث لم يمنع الأخوات الميراث مع البنات. قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا بشر بن الفضل حدثنا عبد الله بن محمد بن

عقيل عن جابر بن عبد الله قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جئنا امرأة من الأنصار في الأسواف فجاءت المرأة بابنتين لها فقالت يا رسول الله هاتان ابنتا ثابت بن قيس قتل معك يوم أحد وقد استفاء عمهما مالهما وميراثهما كله فلم يدع لهما مالاً إلاّ أخذه فما ترى يا رسول الله فوالله لا تنكحان أبداً إلاّ ولهما مال، قال فنزلت سورة النساء {يوصيكم الله في أولادكم} [النساء: 11] الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ادعوا لي المرأة وصاحبها، فقال لعمهما أعطهما الثلثين وأعط أمهما الثمن وما بقي فلك. قال الشيخ: قوله استفاء ما لهما معناه استرد واسترجع حقهما من الميراث فافتات به عليهما وأصله من الفيء وهو الرجوع، ومنه الفيء الذي يؤخذ من أموال الكفار إنما هو مال رده الله إلى المسلمين كان في أيدي الكفار. وقولها وهاتان ابنتا ثابت بن قيس قد قتل معك يوم أحد غلط من بعض الرواة وإنما هي امرأة سعد بن الربيع وابنتاه قتل سعد بأحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وبقي ثابت بن قيس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شهد اليمامة في عهد أبي بكر الصديق. وكذلك رواه عبيد الله بن عمرو عن عبد الكريم عن ابن عقيل عن جابر. حدثناه أحمد بن سليمان البخاري حدثنا هلال بن العلاء بن هلال حدثنا أبي حدثنا عبيد الله بن عمرو عن عبد الكريم عن ابن عقيل عن جابر، قال جاءت امرأة سعد بن الربيع مع ابنتي سعد فقالت يا رسول الله هاتان ابنتا سعد بن الربيع قد قتل أبوهما معك يوم أحد شهيداً وقد أخذ عمهما كل شيء ترك أبوهما وذكر الحديث.

ومن باب ميراث العصبة

ومن باب ميراث العصبة قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح ومخلد بن خالد وهذا حديث مخلد وهو أشبع، قال: حَدَّثنا عبد الرزاق أنبأنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اقسم المال بين أهل الفرائض على كتاب الله عز وجل فما تركت الفرائض فلأولى ذكر. قلت معنى أولى ههنا أقرب والولي القرب يريد أقرب العصبة إلى الميت كالأخ والعم فإن الأخ أقرب من العم، وكالعم وابن العم فالعم أقرب من ابن العم، وعلى هذا المعنى ولو كان قوله أولى بمعنى أحق لبقي الكلام مبهماً لا يستفاد منه بيان الحكم إذ كان لا يدرى من الأحق ممن ليس بأحق فعلم أن معناه أقرب النسب على ما فسرناه والله أعلم. ومن باب ميراث ذوي الأرحام قال أبو داود: حدثنا سليمان بن حرب في آخرين قالوا حدثنا حماد عن بديل، يَعني ابن ميسرة عن علي بن أبي طلحة عن راشد بن سعد، عَن أبي عامر الهَوزني عن المقدام الكندي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا أولى بكل مؤمن من نفسه فمن ترك ديناً أو ضيعة فإليَّ ومن ترك مالاً فلورثته وأنا مولى من لا مولى له ارث ماله وافك عانه، والخال مولى من لا مولى له يرث ماله ويفك عانه. قال وحدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن بديل بإسناده نحوه، وقال والخال وارث من لا وارث له يعقل عنه ويرثه. قال أبو داود: حدثنا عبد السلام بن عتيق الدمشقي حدثنا محمد بن المبارك

حدثنا إسماعيل بن عياش عن يزيد بن حجر عن صالح بن يحيى بن المقدام عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الخال وارث من لا وارث له يفك عُنِيَّه ويرث ماله. قال الشيخ: قوله يفك عانه يريد عانيه فحذف الياء والعاني الأسير. وكذلك قوله يفك عنيه إنما هو مصدر عنا الرجل يعنو عنواً وعنياً، وفيه لغة أخرى عنى، يَعني. ومعنى الاسار ههنا هو ما تتعلق به ذمته ويلزمه بسبب الجنايات التي سبيلها أن تتحملها العاقلة. وبيان ذلك قوله في الحديث من رواية شعبة عن بديل بن ميسرة يعقل عنه ويرث ماله. والحديث حجة لمن ذهب إلى توريث ذوي الأرحام، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه وسفيان الثوري وأحمد بن حنبل، وقد روي ذلك عن علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما. وكان مالك والأوزاعي والشافعي لا يورثون ذوي الأرحام وهو قول زيد بن ثابت وتأول هؤلاء حديث المقدام على أنه طعمة أطعمها الخال عند عمد الوارث لا على أن يكون للخال ميراث راتب، ولكنه لما جعله يخلف الميت فيما يصير إليه من المال سماه وارثاً على سبيل المجاز كما قيل الصبر حيلة من لا حيلة له والجوع طعام من لا طعام له وما أشبه ذلك من الكلام. وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يدفع مال رجل لم يدع ولاء حميماً إلى رجل من أهل قريته. وروي أن رجلاً جاءه فقال عندي ميراث رجل من الأزد

ومن باب ميراث ابن الملاعنة

ولست أجد أزدياً أدفعه إليه، فقال له انطلق فانظر أول خزاعي تلقاه فادفعه إليه أو قال ادفعه إلى كُبْر خزاعة. وروي أن رجلاً جاءه وقال توفي ابن ابني قال لك السدس، فلما ولى دعاه وقال له خذ سدساً آخر وهو طعمة لك. وروي أن رجلاً مات ولم يدع وارثاً إلاّ غلاماً له كان أعتقه فجعل النبي صلى الله عليه وسلم ميراثه له. وقد روى أبو داود هذه الأخبار كلها على وجوهها في هذا الباب وقالوا ومعلوم أن الخال لا يعقل ابن اخته فكذلك لا يكون وارثاً له فلو صح أحدهما لصح الآخر، وقال بعضهم إنما جاء ذلك خاصاً في خال يكون عصبة فيكون عاقلة كما يكون وارثاً والله أعلم. ومن باب ميراث ابن الملاعنة قال أبو داود: حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي حدثنا محمد بن حرب عن عمرو بن رؤبة التغلبي عن عبد الواحد بن عبد الله النصري عن واثلة بن الأسقع عن النبي صلى الله عليه وسلم قال المرأة تحرز ثلث مواريث عتيقها ولقيطها وولدها الذي لاعنت عنه. قال الشيخ: أما اللقيط فإنه في قول عامة الفقهاء حر وإذا كان حراً فلا ولاء عليه لأحد والميراث إنما يستحق بنسب أو ولاء وليس بين اللقيط وملتقطه واحد منهما، وكان إسحاق بن راهويه يقول ولا اللقيط لملتقطه ويحتج بحديث واثلة وهذا الحديث غير ثابت عند أهل النقل وإذا لم يثبت الحديث لم يلزم القول به وكان ما ذهب إليه عامة العلماء أولى. وقال بعضهم لا يخلو اللقيط من أن يكون حراً فلا ولاء عليه أو يكون ابن

ومن باب هل يرث المسلم الكافر

أمة قوم فليس لملتقطه أن يسترقه. قال أبو داود: حدثنا محمود بن خالد وموسى بن عامر قالا: حَدَّثنا الوليد حدثنا ابن جابر حدثنا مكحول قال: جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ميراث ابن الملاعنة لأمه ولورثتها من بعدها. قال الشيخ: جعل ابن الملاعنة لأمه ولورثتها من بعدها ظاهره أن جميع ماله لأمه في حياتها ولورثتها إن كانت أمه قد ماتت، وإلى هذا ذهب مكحول والشعبي وهو قول سفيان الثوري. وقال أحمد بن حنبل ترثه أمه وعصبة أمه، وقد روي عن ابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهما قالا الأم عصبة من لا عصبة له. وقال مالك والشافعي إن كانت أمه مولاة كان ما فضل عن سهمها لمواليها وإن كانت عربية فإن ما بقي لبيت المال وهو قول الزهري. وقال أبو حنيفة وأصحابه ميراث ابن الملاعنة كميراث غيره فمن يموت ولا عصبة له فإن ترك أصحاب فرائض اعطوا فرضهم ويرد ما فضل عليهم على قدر سهامهم فإن يترك وارثاً ذا سهم وترك قرابات ليسوا بأصحاب فرائض فإنهم يرثون كما يرث ذوو الأرحام في غير باب ابن الملاعنة ولا يكون عصبة أمه عصبة له. ومن باب هل يرث المسلم الكافر قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا سفيان عن الزهري عن علي بن حسين عن عمرو بن عثمان عن أسامة بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يرث الكافر المسلم ولا المسلم الكافر. قال الشيخ: عموم هذا الحديث يوجب منع التوارث بين كل مسلم وكافر سواء

كان الكافر على دين يقر عليه أو كان مرتداً يجب قتله. ومن لم يورث كافراً من مسلم لزمه أن لا يورث مسلماً من كافر. وقد اختلف الناس في هذا فقال إسحاق بن راهويه يرث المسلم الكافر ولا يرثه الكافر، وروي ذلك عن معاذ بن جبل ومعاوية بن أبي سفيان. وقد حكي ذلك أيضاً عن إبراهيم النخعي وقالوا نرثهم ولا يرثوننا كما ننكح نساءهم ولا ينكحون نساءنا، وقال عامة أهل العلم بخلاف ذلك. واختلفوا في ميراث المرتد فقال مالك بن أنس وابن أبى ليلى والشافعي ميراث المرتد فيء ولا يرثه أهله وكذلك قال ربيعة بن أبي عبد الرحمن. وقال سفيان الثوري ماله التليد لورثته المسلمين وما اكتسبه وأصابه في ردته فهو فيء للمسلمين وهو قول أبي حنيفة. وقال الأوزاعي وإسحاق بن راهويه ماله كله لورثته المسلمين، وقد روي ذلك عن علي كرم الله وجهه وعبد الله وهو قول الحسن البصري والشعبي وعمر بن عبد العزيز. قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن حبيب المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتوارث أهل ملتين شتى. قال الشيخ: عموم هذا الكلام يوجب أن لا يرث اليهودي النصراني ولا المجوسي اليهودي، وكذلك قال الزهري وابن أبي ليلى وأحمد بن حنبل. وقال أكثر أهل العلم الكفر كله ملة واحدة يرث بعضهم بعضاً، واحتجوا بقول الله سبحانه {الذين كفروا بعضهم أولياء بعض} [الأنفال: 73] وقد علق الشافعي القول

ومن باب من أسلم على ميراث

في ذلك وغالب مذهبه أن ذلك كله سواء. قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا عبد الرزاق أنبأنا معمر عن الزهري عن علي بن حسين عن عمرو بن عثمان عن أسامة بن زيد، قال قلت يا رسول الله أين تنزل غداً في حجته قال وهل ترك لنا عقيل منزلاً. قال الشيخ: موضع استدلال أبي داود من هذا الحديث في أن المسلم لا يرث من الكافر أن عقيلاً لم يكن أسلم يوم وفاة علي بن أبي طالب فورثه وكان علي وجعفر رضي الله عنهما مسلمين فلم يرثاه، ولما ملك عقيل رباع عبد المطلب باعها فذلك معنى قوله وهل ترك عقيل منزلاً. ومن باب من أسلم على ميراث قال أبو داود: حدثنا حجاج بن أبي يعقوب حدثنا موسى بن داود حدثنا محمد بن مسلم عن عمرو بن دينار، عَن أبي الشعثاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كل قسم قسم في الجاهلية فهو على ما قسم وكل قسم أدركه الإسلام فإنه على قسم الإسلام. قال الشيخ: فيه أن أحكام الأموال والأنساب والأنكحة التي كانت في الجاهلية ماضية على ما وقع الحكم منهم فيها أيام الجاهلية لا يرد منها شيء في الإسلام وإن ما حدث من هذه الأحكام في الإسلام فإنه يستأنف فيه حكم الإسلام. ومن باب في الولاء قال أبو داود: حدثنا قتيبة قال قرىء على مالك وأنا حاضر قال مالك عرض عن نافع عن ابن عمر أن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أرادت أن تشتري جارية فتعتقها، فقال أهلها نبيعكها على أن ولاءها لنا فذكرت عائشة لرسول الله صلى الله عليه وسلم

ومن باب الرجل يسلم على يدي الرجل

فقال لا يمنعك ذلك فإن الولاء لمن أعتق. قال وحدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا وكيع بن الجراح عن سفيان الثوري عن منصور عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة قالت: قال رسول الله الولاء لمن أعطى الثمن ووَلِي النعمة. قال الشيخ: في حديث ابن عمر دليل على أن بيع المملوك بشرط العتق جائز. وقوله لا يمنعك ذلك معناه إبطال ما شرطوه من الولاء لغير المعتق. وفي قوله الولاء لمن أعطى الثمن وولي النعمة دليل على أن لا ولاء إلا لمعتق وذلك أن دخول الألف واللام في الاسم مع الإضافة يعطي السلب والإيجاب كقولك الدار لزيد والمال للورثة فيه إيجاب ملك الدار وإيجاب المال للورثة وقطعهما عن غيرهما، وإذا كان كذلك ففيه دليل على أن من أسلم على يدي رجل فانه لا يرثه ولا يكون له ولاؤه لأنه لم يعتقه. ومن باب الرجل يسلم على يدي الرجل قال أبو داود: حدثنا يزيد بن خالد الرملي وهشام بن عمار الدمشقي قالا: حَدَّثنا يحيى وهو ابن حمزة عن عبد العزيز بن عمر قال سمعت عبد الله بن موهب يحدث عمر بن عبد العزيز عن قبيصة بن ذؤيب عن تميم الداري أنه قال يا رسول الله ما السنة في الرجل يسلم على يدي الرجل من المسلمين قال هو أولى الناس بمحياه ومماته. قال الشيخ: قد احتج به من يرى توريث الرجل ممن يسلم على يده من الكفار وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه، إلاّ أنهم قد زادوا في ذلك شرطاً وهو أن يعاقده ويواليه فإن أسلم على يده ولم يعاقده ولم يواله فلا شيء له.

ومن باب بيع الولاء

وقال إسحاق بن راهويه كقول أبي حنيفة وأصحابه إلاّ أنه لم يذكر الموالاة. قلت ودلالة الحديث مبهمة وليس فيه أن يرثه إنما فيه أنه أولى الناس بمحياه ومماته، وقد يحتمل أن يكون ذلك في الميراث ويحتمل أنه يكون ذلك في رعي الذمام والايثار بالبر وما أشبههما من الأمور، وقد عارضه قوله صلى الله عليه وسلم الولاء لمن أعتق، وقال أكثر الفقهاء لا يرثه وضعف أحمد بن حنبل حديث تميم الداري هذا وقال: عبد العزيز راويه ليس من أهل الحفظ والاتقان. ومن باب بيع الولاء قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر رضي الله عنهما قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الولاء وعن هبته. قال الشيخ: قال ابن الأعرابي محمد بن زياد كانت العرب تبيع ولاء مواليها وتأخذ عليه المال وأنشد في ذلك: فباعوه مملوكاً وباعوه معتقاً ... فليس له حتى الممات خلاص فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك. قلت وهذا كالإجماع من أهل العلم؛ إلاّ أنه قد روي عن ميمونه أنها كانت وهبت ولاء مواليها من العباس أو من ابن عباس رضي الله عنهما. قال الشيخ: وسمعت أبا الوليد حسان بن محمد يذكر أن الذي وهبته ميمونه من الولاء كان ولاء سابية. وولاء السابية قد اختلف فيه أهل العلم. ومن باب المولود يستهل ثم يموت قال أبو داود: حدثنا حسين بن معاذ حدثنا عبد الأعلى حدثنا محمد، يَعني ابن إسحاق عن يزيد بن عبد الله بن قُسيط، عَن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا استهل المولود وُرِّث.

ومن باب في الحلف

قال الشيخ: قوله استهل معناه رفع صوته بأن يصرخ أو يبكي وكل من رفع صوته بشيء فقد استهل به. قلت ومعنى الاستهلال ههنا أن يوجد مع المولود أمارة الحياة فلو لم يتفق أن يكون منه الاستهلال وهو رفع الصوت وكان منه حركة أو عطاس أو تنفس أو بعض ما لا يكون ذلك إلاّ من حي فانه يورث لوجود ما فيه من دلالة الحياة. إلى هذا ذهب سفيان الثوري والأوزاعي والشافعي وأحسبه قول أبي حنيفة وأصحابه وقال مالك بن أنس لا ميراث له وإن تحرك أو عطس ما لم يستهل. وروي عن محمد بن سيرين والشعبي والزهري وقتادة أنهم قالوا لا يورث المولود حتى يستهل. ومن باب في الحِلْفِ قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا سفيان عن عاصم الأحول قال سمعت أنس بن مالك يقول حالف رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار في دارنا مرتين أو ثلاثاً. قال الشيخ: كان سفيان بن عيينة يقول معنى حالف آخى ولا حلف في الإسلام كما جاء في الحديث. ومن باب المرأة ترث من دية زوجها قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا سفيان عن الزهري عن سعيد قال كان عمر بن الخطاب رضى الله عنه يقول الدية للعاقلة لا ترث المرأه من دية زوجها حتى قال له الضحاك بن سفيان كتب إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أورث امرأة أشْيم

كتاب الأدب

الضبابي من دية زوجها فرجع عمر عنه. قال الشيخ: فيه من الفقه أن دية القتيل كسائر ماله يرثها من يرث تركته وإذا كان كذلك ففيه دليل على أن القتيل إذا عفا عن الدية كان عفوه جائزاً في ثلث ماله لأنه قد ملكه، وهذا إنما يجور في قتل الخطأ لأن الوصية بالدية إنما تقع للعاقلة الذين يغرمون الدية دون قتل العمد لأن الوصية فيه إنما تقع للقاتل ولا وصية لقاتل كالميراث. وإنما كان يذهب عمر رضي الله عنه في قوله الأول إلى ظاهر القياس وذلك أن المقتول لا تجب ديته إلاّ بعد موته وإذا مات فقد بطل ملكه، فلما بلغته السنة ترك الرأي وصار إلى السنة، وكان مذهب عمر رضي الله عنه أن الدية للعاقلة الذين يعقلون عنه إلى أن بلغه الخبر فانتهى إليه. كتاب الأدب ومن باب في الوقار قال أبو داود: حدثنا النفيلي حدثنا زهير حدثنا قابوس بن أبي ظبيان أن أباه حدثه حدثنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال إن الهَدْي الصالح والسمْت الصالح والاقتصاد جزء من خمسة وعشرين جزءاً من النبوة. قال الشيخ: هدي الرجل حاله ومذهبه وكذلك سمته. وأصل السمت الطريق المنقاد والاقتصاد سلوك القصد في الأمر والدخول فيه برفق وعلى سبيل يمكن الدوام عليه كما روي أنه قال خير الأعمال أدومها وإن قل. يريد أن هذه الخلال من شمائل الأنبياء صلوات الله عليهم ومن الخصال

المعدودة من خصالهم وأنها جزء من أجزاء فضائلهم فاقتدوا بهم فيها وتابعوهم عليها، وليس معنى الحديث أن النبوه تتجزأ ولا أن من جمع هذه الخلال كان فيه جزء من النبوة مكتسبة ولا مجتلبة بالأسباب، وإنما هي كرامة من الله سبحانه وخصوصية لمن أراد إكرامه بها من عباده والله يعلم حيث يجعل رسالاته وقد انقطعت النبوة بموت محمد صلى الله عليه وسلم. وفيه وجه آخر وهو أن يكون معنى النبوة ههنا ما جاءت به النبوة ودعت إليه الأنبياء صلوات الله عليهم. يريد أن هذه الخلال جزء من خمسة وعشرين جزءاً مما جاءت به النبوات ودعا إليه الأنبياء صلوات الله عليهم. وقد أمرنا باتباعهم في قوله عز وجل {فبهداهم اقتده} [الأنعام: 9] . وقد يحتمل وجهاً آخر وهو أن من اجتمعت له هذه الخلال لقيه الناس بالتعظيم والتوقير وألبسه الله لباس التقوى الذي يلبسه أنبياؤه فكأنها جزء من النبوة والله أعلم. قال أبو داود: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن الحارث بن سويد عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تعدون الصُّرَعَة فيكم قالوا الذي لا يصرعه الرجال، قال لا ولكنه الذي يملك نفسه عند الغضب. قال الشيخ: الصرعة مفتوحة الراء هو الذي يصرع الرجال ويغلبهم في الصراع ومثله رجل خدعة إذا كان خداعاً للناس ولعبة إذا كان كثير اللعب، فأما اللعبة ساكنة العين فهو اسم الشيء الذي يلعب به، واللعبة مكسورة اللام الحال والهيئة في اللعب كالجلسة والقعدة والركبة ونحوها.

ومن باب حسن العشرة

قال أبو داود: حدثنا يوسف بن موسى حدثنا جرير بن عبد الحميد عن عبد الملك بن عمير عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن معاذ بن جبل قال استب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم فغضب أحدهما غضباً شديداً حتى يخيل إلي أن أنفه يتمزع من شدة غضبه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم إني لأعلم كلمة لوقالها لذهب عنه ما يجد من الغضب فقال ما هي يا رسول الله، قال يقول أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. قال الشيخ: قوله يتمزع أي يتشقق ويتقطع والمزعة القطعة من الشيء. قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا أبو معاوية حدثنا داود بن أبي هند، عَن أبي حرب بن أبي الأسود، عَن أبي ذر قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع. قال الشيخ: القائم متهيىء للحركة والبطش والقاعد دونه في هذا المعنى والمضطجع ممنوع منهما، فيشبه أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمره بالقعود والاضطجاع لئلا تبدر منه في حال قيامه وقعوده بادرة يندم عليها فيما بعد والله أعلم. ومن باب حسن العشرة قال أبو داود: حدثنا محمد بن المتوكل العسقلاني حدثنا عبد الرزاق حدثنا بشر بن أبي رافع عن يحيى بن أبي كثير، عَن أبي سلمة، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمن غِر كريم والفاجر خَب لئيم. قال الشيخ: معنى هذا الكلام أن المؤمن المحمود هو من كان طبعه وشيمته الغرارة وقلة الفطنة للشر وترك البحث عنه وإن ذلك ليس منه جهلاً لكنه كرم وحسن خلق وإن الفاجر من كانت عادته الخب والدهاء والوغول في معرفة الشر وليس ذلك منه عقلاً لكنه خب ولؤم.

ومن باب في الحياء

قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن محمد بن عمرو، عَن أبي سلمة عن عائشة رضي الله عنها أن رجلاً استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم بئس أخو العشيرة، فلما دخل انبسط إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلمه فلما خرج قلت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم لما استأذن قلت بئس أخو العشيرة، فلما دخل انبسطت إليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا عائشة إن الله عز وجل لا يحب الفاحش المتفحش. قال الشيخ: أصل الفحش زيادة الشيء على مقداره ومن هذا قول الفقهاء يصلي في الثوب الذي أصابه الدم إذا لم يكن فاحشاً أي كثيراً مجاوزاً للقدر الذي يتعافاه الناس فيما بينهم. يقول صلى الله عليه وسلم إن استقبال المرء صاحبه بعيوبه افحاش والله لا يحب الفحش، ولكن الواجب أن يتأنى له ويرفق به ويكني في القول ويوري ولا يصرح. وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قد ذكره بالعيب الذي عرفه به قبل أن يدخل وهذا من النبي صلى الله عليه وسلم لا يجري مجرى الغيبة، وإنما فيه تعريف الناس أمره وزجرهم عن مثل مذهبه، ولعله قد تجاهر بسوء فعاله ومذهبه ولا غيبة لمجاهر والله أعلم. ومن باب في الحياء قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن شعبة عن منصور عن رِبْعِيّ بنِ حِِرَاش عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت. قال الشيخ: معنى قوله النبوة الأولى أن الحياء لم يزل أمره ثابتاً واستعماله واجباً منذ زمان النبوة الأولى وأنه ما من نبي إلاّ وقد ندب إلى الحياء وبعث عليه وأنه لم ينسخ فيما نسخ من شرائعهم ولم يبدل فيما بدل منها؛ وذلك أنه أمر

ومن باب حسن الخلق

قد علم صوابه وبان فضله واتفقت العقول على حسنه وما كان هذا صفته لم يجز عليه النسخ والتبديل. وقوله فافعل ما شئت فيه ثلاثة أقوال: أحدها أن يكون معناه الخبر وإن كان لفظه لفظ الأمر كأنه يقول إذا لم يمنعك الحياء فعلت ما شئت أي ما تدعوك إليه نفسك من القبيح، وإلى نحو من هذا ذهب أبو عبيد القاسم بن سلام رحمة الله عليه. وقال أبو العباس أحمد بن يحيى معناه الوعيد كقوله تعالى {اعملوا ما شئتم} [فصلت: 40] . وقال أبو إسحاق المروزي فقيه الشافعية معناه أن ينظر فإذا كان الشيء الذي يريد أن يفعله مما لا يستحى منه فافعله، يريد أن ما يستحى منه فلا يفعله. ومن باب حسن الخلق قال أبو داود: حدثنا محمد بن عثمان الدمشقي حدثنا أبو كعب أيوب بن محمد السعدي حدثنا سليمان بن حبيب المحاربى، عَن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه. قال الشيخ: الزعيم الضامن والكفيل والزعامة الكفالة ومنه قول الله سبحانه {وأنا به زعيم} [يوسف: 72] والبيت ههنا القصر أخبرني أبو عمر أخبرنا أبو العباس عن ابن الأعرابي، قال البيت القصر يقال هذا بيت فلان أي قصره. قال أبو داود: حدثنا أبو بكر وعثمان ابنا أبي شيبة قالا: حَدَّثنا وكيع عن سفيان عن معبد بن خالد عن حارثة بن وهب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدخل الجنة الجَوَّاظ ولا الجَعْظَرِي. قال والجواظ الغليظ الفظ. قال الشيخ: الجعظري فسره أبو زيد فقال هو الذي يتنفخ بما ليس عنده

ومن باب كراهية التمادح

وهو إلى القصر ما هو، قال الأصمعي وهو الجمظار أيضاً، قال أبو زيد والجواظ الكثير اللحم المختال في مشيه. قلت وهو معنى ما جاء من تفسيره في الحديث أو قريب منه. ومن باب كراهية التمادح قال أبو داود: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن منصور عن إبراهيم عن همام قال جاء رجل فأثنى على عثمان رضي الله عنه في وجهه فأخذ المقداد بن الأسود تراباً فحثا في وجهه وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لقيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب. قال الشيخ: المداحون هم الذين اتخذوا مدح الناس عادة وجعلوه بضاعة يستأكلون به الممدوح ويفتنونه، فأما من مدح الرجل على الفعل الحسن والأمر المحمود يكون منه ترغيباً له في أمثاله وتحريضاً للناس على الاقتداء به في اشباهه فليس بمداح وإن كان قد صار مادحاً بما تكلم به من جميل القول فيه. وقد استعمل المقداد الحديث على ظاهره وحمله على وجهه في تناول عين التراب بيده وحثيه في وجه المادح. وقد يتأول أيضاً على وجه آخر وهو أن يكون معناه الخيبة والحرمان أي من تعرض لكم بالثناء والمدح فلا تعطوه واحرموه. كني بالتراب عن الحرمان كقولهم ما له غير التراب وما في يده غير التَيْرب، وكقوله صلى الله عليه وسلم إذا جاءك يطلب ثمن الكلب فاملأ كفه تراباً، وكقوله وللعاهر الحجر ومثله كثير في الكلام. قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا بشر، يَعني ابن المفضل حدثنا أبو مسلمة سعيد

بن يزيد، عَن أبي نضرة عن مطرف قال: قال أبي انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا أنت سيدنا، فقال السيد الله عز وجل قلنا وافضلنا فضلاً وأعظمنا طَولاً، قال فقولوا بقولكم أو بعض قولكم ولا يستجرينكم الشيطان. قال الشيخ: قوله السيد الله يريد أن السؤدد حقيقة لله عز وجل وأن الخلق كلهم عبيد له، وإنما منعهم فيما نرى أن يدعوه سيداً مع قوله أنا سيد ولد آدم وقوله لبني قريظة قوموا إلى سيدكم يريد سعد بن معاذ من أجل أنهم قوم حديث عهدهم بالإسلام وكانوا يحسبون أن السيادة بالنبوة كهي بأسباب الدنيا وكان لهم رؤساء يعظمونهم وينقادون لأمرهم ويسمونهم السادات فعلمهم الثناء عليه وأرشدهم إلى الأدب في ذلك. فقال قولوا بقولكم. يريد قولوا بقول أهل دينكم وملتكم وادعوني نبياً ورسولاً كما سماني الله عز وجل في كتابه فقال «يا أيها النبي، يا أيها الرسول» ولا تسموني سيداً كما تسمون رؤساءكم وعظماءكم ولا تجعلوني مثلهم فإني لست كأحدهم إذ كانوا يَسُودونكم بأسباب الدنيا وأنا أسودكم بالنبوة والرسالة فسموني نبياً ورسولاً. وقوله بعض قولكم فيه حذف واختصار ومعناه دعوا بعض قولكم واتركوه يريد بذلك الاقتصار في المقال. قال الشاعر: فبعض القول عاذلتي فإني ... سيكفيني التجارب وانتسابي وقوله لا يستجرينكم الشيطان، معناه لا يتخذنكم جَرِيّاً والجري الوكيل ويقال الأجير أيضاً.

ومن باب في الرفق

ومن باب في الرفق قال أبو داود: حدثنا أبو بكر وعثمان ابنا أبي شيبة ومحمد بن الصباح البزاز قالوا حدثنا شريك عن المقدام بن شريح عن أبيه قال: سألت عائشة رضي الله عنها عن البداوة فقالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبدو إلى هذه التِّلاع وأنه أراد البداوة مرة فأرسل إليَّ ناقة مُحرَّمة من إبل الصدقة فقال لي يا عائشة ارفقي فإن الرفق لم يكن في شيء قط إلاّ زانه ولا نزع من شيء قط إلاّ شانه. قال الشيخ: البداوة الخروج إلى البادية والمقام بها وفيها لغتان فتح الباء وكسرها والتلاع مجاري الماء من فوق إلى أسفل واحدتها تلعة. والمحرمة هي التي قد اقتضبت ركوبها لم تذلل ولم ترض، ومن هذا قولهم أعرابي محرم إذا كان أول ما يدخل المصر لم يخالط الناس ولم يجالسهم. ومن باب شكر المعروف قال أبو داود: حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا الربيع بن مسلم عن محمد بن زياد، عَن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يشكر الله من لا يشكر الناس. قال الشيخ: هذا الكلام يتأول على وجهين أحدهما أن من كان طبعه وعادته كفران نعمة الناس وترك الشكر لمعروفهم كان من عادته كفران نعمة الله وترك الشكر له سبحانه. والوجه الاخر أن الله سبحانه لا يقبل شكر العبد على إحسانه إليه إذا كان العبد لا يشكر إحسان الناس ويكفر معروفهم لاتصال أحد الأمرين بالآخر. قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن الجراح حدثنا جرير عن الأعمش، عَن أبي

ومن باب في التحلق

سفيان عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من أُبلي فذكره فقد شكره وإن كتمه فقد كفره. الإبلاء الانعام ويقال أبليت الرجل وأبليت عنده بلاء حسناً قال زهير: فأبلاهما خير البلاء الذي يبلوا ومن باب في التحلق قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن الأعمش حدثنا المسيب بن رافع عن تميم بن طَرفة عن جابر بن سمرة قال دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد وهم حِلَق فقال ما لي أراكم عِزينَ. قال الشيخ: قوله عزين يريد فرقاً مختلفين لا يجمعكم مجلس واحد. وواحد العزين عزة يقال عزة وعزون كما قالوا ثِبة وثبون، ويقال أيضاَ ثبات وهي الجماعات المتميزة بعضها عن بعض. قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا أبان حدثنا قتادة حدثني أبو مجلز عن حذيفة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن من جلس وسط الحلقة. قال الشيخ: هذا يتأول فيمن يأتي حلقة قوم فيتخطى رقابهم ويقعد وسطها ولا يقعد حيث ينتهي به المجلس فلعن للأذى، وقد يكون في ذلك أنه إذا قعد وسط الحلقة حال بين الوجوه وحجب بعضهم من بعض فيتضررون بمكانه وبمقعده هناك. ومن باب من يؤمر أن يُجالس قال أبو داود: حدثنا عمرو بن عون أنبأنا ابن المبارك عن حيْوة بن شُريح عن سالم بن غَيلان عن الوليد بن قيس عن أبى سعيد أو، عَن أبي الهيثم، عَن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تصاحب إلاّ مؤمناً ولا يأكل طعامك إلاّ تقي.

قال الشيخ: هذا إنما جاء في طعام الدعوة دون طعام الحاج وذلك أن الله سبحانه قال {ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً} [الإنسان: 8] ومعلوم أن أسراهم كانوا كفاراً غير مؤمنين ولا أتقياء. وإنما حذر من صحبة من ليس بتقي وزجر عن مخالطته ومؤاكلته فان المطاعمة توقع الالفة والمودة في القلوب يقول لا تؤالف من ليس من أهل التقوى والورع ولا تتخذه جليساً تطاعمه وتنادمه. قال أبو داود: حدثنا هارون بن زيد بن أبي الزرقاء حدثنا أبي حدثنا جعفر، يَعني ابن برقان عن يزيد بن الأصم، عَن أبي هريرة يرفعه قال: الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف. قال الشيخ: معنى الحديث الاخبار عن مبدأ كون الأرواح وتقدمها الأجساد التي هي ملابستها على ما روي في الحديث ان الله خلق الأرواح قبل الأجساد بكذا كذا عاماً فأعلم النبي صلى الله عليه وسلم أنها خلقت أول ما خلقت على قسمين من ائتلاف أو اختلاف كالجنود المجندة إذا تقابلت وتواجهت. ومعنى تقابل الأرواح ما جعلها الله عليه من السعادة والشقاوة في مبدأ الكون والخلقة كما روي في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الملك إذا أراد أن ينفخ الروح في النسمة قال يا رب أسعيد أم شقي، أكافر أم مؤمن. يقول صلى الله عليه وسلم إن الأجساد التي فيها الأرواح تلتقي في الدنيا فتأتلف وتختلف على حسب ما جعلت عليه من التشاكل أو التنافر في بدء الخلقة ولذلك ترى البَر الخير يحب شكله ويحن إلى قربه وينفر عن ضده، وكذلك الرَّهِق الفاجر يألف شِكله ويستحسن فعله وينحرف عن ضده.

ومن باب في كراهية المراء

وفي هذا دليل على أن الأرواح ليست بأعراض وأنها كانت موجودة قبل الأجساد وأنها تبقى بعد فناء الأجساد ويؤيد هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم أرواح الشهداء في صور طير خضر تَعلق من ثمر الجنة. ومن باب في كراهية المراء قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن سفيان حدثني إبراهيم بن المهاجر عن مجاهد عن قائد السائب قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فجعلوا يثنون عليّ ويذكرونني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا أعلمكم، يَعني به فقلت صدقت بأبي وأمي كنت شريكي فنعم الشريك كنت لا تُداري ولا تُماري. قال الشيخ: قوله لا تداري، يَعني لا تخالف ولا تمانع، وأصل الدرء الدفع يصفه صلى الله عليه وسلم بحسن الخلق والسهولة في المعاملة. وقوله لا تماري يريد المراء والخصومة. ومن باب الهدي في الكلام قال أبو داود: حدثنا أبو توبة قال زعم الوليد عن الأوزاعي عن قُرة عن الزهري، عَن أبي سلمة، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كل كلام لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم. قال الشيخ: قوله أجذم معناه المنقطع الأبتر الذي لا نظام له وفسره أبوعبيد فقال الأجذم المقطوع اليد. وقال ابن قتيبة الأجذم بمعنى المجذوم في قوله صلى الله عليه وسلم من تعلم القرآن ثم نسيه لقي الله وهو أجذم.

ومن باب جلوس الرجل

ومن باب جلوس الرجل قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر وموسى بن إسماعيل قالا: حَدَّثنا عبد الله بن حسان العنبري حدثتني جدتاي صفية ودُحيبة ابنتا عليبة وكانتا ربيبتي قيلة بنت مخرمة وكانت جدة أبيهما أنها أخبرتهما أنها رأت النبي صلى الله عليه وسلم وهو قاعد القرفصاء وذكر الحديث. القرفصاء جلسة المحتبي وليس هو الذي يحتبي بثوبه لكنه الذي يحتبي بيديه. ومن باب التناجي قال أبو داود: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو معاوية عن شقيق عن الأعمش عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتناجى اثنان دون صاحبهما فإن ذلك يحزنه. قال الشيخ: إنما يحزنه ذلك لأحد معنيين إحداهما أنه ربما يتوهم أن نجواهما إنما هو لتبييت رأي فيه أو دسيس غائلة له. والمعنى الآخر أن ذلك من أجل الاختصاص بالكرامة وهو محزن صاحبه. وسمعت ابن أبي هريرة يحكي، عَن أبي عبيد بن حرب أنه قال هذا في السفر وفي الموضع الذي لا يأمن الرجل فيه صاحبه على نفسه. فأما في الحضر وبين ظهراني العمارة فلا بأس به والله أعلم. ومن باب إذا قام من مجلسه ثم رجع قال أبو داود: حدثنا قتيبة حدثنا الليث عن ابن عجلان عن سعيد المقبري، عَن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال من قعد مقعداً لم يذكر الله فيه كانت عليه من الله تِرة.

ومن باب في الحذر

قال الشيخ: أصل الترة النقص ومعناها ههنا التبعة يقال وترت الرجل ترة على وزن وعدته عدة، ومنه قول الله سبحانه {ولن يتركم أعمالكم} [محمد: 35] . وقد روي في هذا الحديث من طريق آخر ما من قوم يقومون عن مجلس لا يذكرون الله إلاّ قاموا عن مثل جيفه وكان لهم حسرة. ومن باب في الحذر قال أبو داود: حدثنا محمد بن يحيى بن فارس حدثنا نوح بن يزيد بن سيار المؤدب حدثنا إبراهيم بن سعد قال حدثنيه ابن إسحاق عن عيسى بن معمر عن عبد الله بن عمر بن الفغواء الخزاعي عن أبيه قال دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أراد أن يبعثني بمال إلى أبي سفيان يقسمه في قريش بمكة بعد الفتح، فقال التمس صاحباً قال فجاءني عمرو بن أمية الضمري فقال بلغني أنك تريد الخروج وتلتمس صاحباً قلت أجل قال فأنا لك صاحب، قال فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال إذا هبطت بلاد قومه فاحذره فإنه قد قال القائل أخوك البكري فلا تأمنه وذكر القصة إلى أن قال فشددت على بعيري حتى خرجت أوضعه حتى إذا كنت بالأصافر إذا هو يعارضني في رهط قال وأوضعت فسبقته. قال الشيخ: الإيضاع الاسراع في السير، وقوله أخوك البكري فلا تأمنه مثل مشهور للعرب. وفيه إثبات الحذر واستعمال سوء الظن وأن ذلك إذا كان على وجه طلب السلامة من شر الناس لم يأثم به صاحبه ولم يحرج فيه. قال أبو داود: حدثنا قتيبة حدثنا الليث عن عقيل عن الزهري عن سعيد بن المسيب، عَن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يلدغ المؤمن

ومن باب في هدي الرجل

من جحر واحد مرتين. قال الشيخ: هذا يروى على وجهين من الإعراب أحدهما بضم الغين على مذهب الخبر ومعناه أن المؤمن الممدوح هو الكيس الحازم الذي لا يؤتى من ناحية الغفلة فيخدع مرة بعد أخرى وهو لا يفطن بذلك ولا يشعر به. وقيل أنه اراد به الخداع في أمر الاخرة دون أمر الدنيا. والوجه الآخر أن يكون الرواية بكسر الغين على مذهب النهي يقول لا يخدعن المؤمن ولا يؤتين من ناحية الغفلة فيقع في مكروه أو شر وهو لا يشعر وليكن متيقظاً حذراً، وهذا قد يصلح أن يكون في أمر الدنيا والآخرة معاً والله أعلم. ومن باب في هدي الرجل قال أبو داود: حدثنا حسين بن معاذ حدثنا عبد الأعلى حدثنا سعيد الجريري، عَن أبي الطفيل قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت كيف رأيته قال كان أبيض مليحاً إذا مشى كأنما يهوي في صَبُوب. قال الشيخ: الصبوب إذا فتحت الصاد كان اسماً لما يصب على الإنسان من ماء ونحوه ومما جاء على وزسنه الطهور والغسول والفطور لما يفطر. ومن رواه الصبوب بضم الصاد على أنه جمع الصبب وهو ما انحدر من الأرض فقد خالف القياس لأن باب فعل لا يجمع على فعول وإنما يجمع على أفعال كسبب وأسباب وقتب وأقتاب، وقد جاء في أكثر الروايات كأنه يمشي في صبب وهو المحفوط. وقوله يهوي معناه ينزل ويتدلى وذلك مشية القوي من الرجال يقال هوى

ومن باب الرجل يضع إحدى رجليه على الأخرى

الشيء يهوي إذا نزل من فوق إلى أسفل وهوى يهوي بمعنى صعد، وإنما يختلفان في المصدر فيقال هَوى هوياً بفتح الهاء إذا نزل وهُوياً بضمها إذا صعد. أنشدني أبو رجاء الغنوي قال أنشدني أبو العباس أحمد بن يحيى. والدلو في اصعادها عجل الهوي ومن باب الرجل يضع إحدى رجليه على الأخرى قال أبو داود: حدثنا قتيبة حدثنا الليث، عَن أبي الزبير عن جابر قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرفع إحدى رجليه على الأخرى وهو مستلق على ظهره. قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن ابن شهاب أراه عن سعيد بن المسيب عن عبادة بن تميم عن عمه أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم مستلقياً في المسجد واضعاً إحدى رجليه على الأخرى. قال الشيخ: يشبه أن يكون إنما نهى عن ذلك من أجل انكشاف العورة إذ كان لباسهم الازر دون السراويلات. والغالب أن ازرهم غير سابغة والمستلقي إذا رفع إحدى رجليه على الأخرى مع ضيق الإزار لم يسلم أن ينكشف شيء من فخذه والفخذ عورة، فأما إذا كان الإزار سابغاً أو كان لابسه عن التكشف متوقياً فلا بأس به وهو وجه الجمع بين الخبرين والله أعلم. ومن باب في القتات قال أبو داود: حدثنا مسدد وأبو بكر بن أبي شيبة قالا: حَدَّثنا أبو معاوية عن الأعمش عن إبراهيم عن همام عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدخل الجنة قتات. قال الشيخ: القتات النمام وهو للقساس أيضاً، والنميمة نقل الحديث على وجه

ومن باب الانتصار

التضرية بين المرء وصاحبه. قلت وإذا كان الناقل لما يسمعه آثماً فالكاذب القائل ما لم يسمعه أشد إثماً وأسوأ حالاً. ومن باب الانتصار قال أبو داود: حدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا ابن عون حدثني علي بن زيد بن جدعان عن أم محمد امرأة أبيه عن عائشة رضي الله عنها أن زينب بنت جش أقبلت تقحم لعائشة رضي الله عنها فنهاها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبت فقال لعائشة سبيها فسبتها فغلبتها. قال الشيخ: قولها تقحم معناه تعرض لشتمها وتتدخل عليها، ومنه قولهم فلان يتقحم في الأمور إذا كان يقع فيها من غير تثبت ولا روية. وفيه من العلم إباحة الانتصار بالقول ممن سبك من غير عدوان في الجواب. ومن باب الحسد قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عبد الله بن وهب أخبرني سعيد بن عبد الرحمن بن أبي العمياء أن سهل بن أبي أمامة حدثه أنه دخل هو وأبوه على أنس بن مالك بالمدينة فإذا هو يصلي صلاة خفيفة ذفيفة وذكر الحديث. قال الشيخ: والذفيفة الخفيفة يقال رجل خفيف ذفيف وخفاف ذفاف بمعنى واحد. ومن باب الرجل يدعو على من ظلمه قال أبو داود: حدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا سفيان عن حبيب

ومن باب النهي عن التهاجر

عن عطاء عن عائشة رضي الله عنها أنها سُرق لها شيء فجعلت تدعو عليه فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تسبخي عنه. قال الشيخ: قوله لا تسبخي معناه لا تخففي عنه العقوبة بدعائك عليه، ومن هذا سبائخ القطن وهي القطع المتطايرة عن الندف، وقال أعرابي في كلامه الحمد لله على تسبيخ العروق وإساغة الريق. ومن باب النهي عن التهاجر قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن ابن شهاب عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال. قال الشيخ: قوله لا تدابروا معناه التهاجر والتصارم مأخوذ من تولية الرجل دبره أخاه إذا رآه وإعراضه عنه. وقال مؤرخ قوله ولا تدابروا معناه آسوا ولا تستأثروا واحتج بقول الأعشى: ومستدبر بالذي عنده ... عن العاذلات وارشادها وقال بعضهم إنما قيل للمستاثر مستدبر لأنه يولي أصحابه إذا استأثر بشيء دونهم. وأما الهجران أكثر من ذلك فإنما جاء ذلك في هجران الرجل أخاه في عتب وموجدة أو لنبوة تكون منه فرخص له في مدة ثلاث لقلتها وجعل ما وراءها تحت الحظر. فأما هجران الولد الوالد والزوج الزوجة ومن كان في معناهما فلا يضيق أكثر من ثلاث وقد هجر رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه شهرا.

ومن باب الظن

ومن باب الظن قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك، عَن أبي الزناد عن الأعرج، عَن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ولا تجسسوا ولاتحسسوا. قال الشيخ: قوله إياكم والظن يريد إياكم وسوء الظن وتحقيقه دون مبادىء الظنون التي لا تملك. وقوله لا تجسسوا معناه لا تبحثوا عن عيوب الناس ولا تتبعوا أخبارهم، والتحسس بالحاء طلب الخبر ومنه قوله سبحانه {يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه} [يوسف: 87] ويقال تجسست الخبر وتحسست بمعنى واحد. ومن باب اصلاح ذات البين قال أبو داود: حدثنا الربيع بن سليمان الجيزي حدثنا أبو الأسود عن نافع يعنى ابن يزيد عن ابن الهاد أن عبد الوهاب بن أبي بكر حدثه عن ابن شهاب عن حميد بن عبد الرحمن عن أمه أم كلثوم بنت عقبة قالت ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرخص في شيء من الكذب إلاّ في ثلاث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا أعده كذباً الرجل يصلح بين الناس ويقول القول لا يريد به إلاّ الإصلاح والرجل يقول في الحرب والرجل يحدث امرأنه والمرأة تحدث زوجها. قال الشيخ: هذه أمور قد يضطر الإنسان فيها إلى زيادة القول ومجاوزة الصدق طلباً للسلامة ودفعاً للضرر عن نفسه، وقد رخص في بعض الأحوال في اليسير من الفساد لما يؤمل فيه من الصلاح. والكذب في الإصلاح بين اثنين هو أن ينمي من أحدهما إلى صاحبه خيراً أو يبلغه جميلاً وإن لم يكن سمعه منه ولا كان إذناً له فيه يريد بذلك الإصلاح. والكذب في الحرب هو أن يظهر

ومن باب كراهية الغناء والزمر

من نفسه قوة ويتحدث بما يشحذ به بصيرة أصحابه ويقوي منتهم ويكيد به عدوهم في نحو ذلك من الأمور. وقد روي عن النبي وص أنه قال الحرب خدعة وكان علي بن أبي طالب كرم الله وجهه كثيرا ما يقول في حروبه صدق الله ورسوله فيتوهم أصحابه أنه يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يقول إنما أنا رجل محارب. فأما كذب الرجل زوجته فهو أن يعدها ويمنيها ويظهر لها من المحبة أكثر مما في نفسه يستديم بذلك محبتها ويستصلح به خلقها. ومن باب كراهية الغناء والزمر قال أبو داود: حدثنا أحمد بن عبد الله الغداني حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا سعيد بن عبد العزيز عن سليمان بن موسى عن نافع قال سمع ابن عمر رضي الله عنه مزماراً فوضع اصبعيه في أذنيه ونأى عن الطريق، فقال يا نافع هل تسمع شيئاً قال فقلت لا، قال فرفع اصبعيه من أذنيه وقال إذ كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم فسمع مثل هذا صنع مثل هذا. قال الشيخ: المزمار الذي سمعه ابن عمر رضي الله عنه هو صفارة الرعاة، وقد جاء ذلك مذكوراً في هذا الحديث من غير هذه الرواية، وهذا وإن كان مكروهاً فقد دل هذا الصنع على أنه ليس في غلظ الحرمة كسائر الزمور والمزاهر والملاهي التي يستعملها أهل الخلاعة والمجون ولو كان كذلك لأشبه أن لا يقتصر في ذلك على سد المسامع فقط دون أن يبلغ فيه من النكير مبلغ الردع والتنكيل والله أعلم.

ومن باب اللعب بالبنات

ومن باب اللعب بالبنات قال أبو داود: حدثنا محمد بن عوف حدثنا سعيد بن أبي مريم حدثنا يحيى بن أيوب حدثنا عمارة بن غزية أن محمد بن إبراهيم حدثه، عَن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة رضي الله عنها قالت قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك أو خيبر وفي سهوتها ستر. وذكر الحديث. قال الشيخ: السهوة عن الأصمعي كالصفة تكون بين يدي البيت، وقال غيره السهوة شبيهة بالرف والطاق يوضع فيه الشيء. ومن باب الأرجوحة قال أبو داود: حدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا محمد، يَعني ابن عمرو عن يحيى بن عبد الرحمن قال قالت عائشة رضي الله عنها قدمنا المدينة فنزلنا في بني الحارث بن الخزرج قالت فوالله إني لعلى أرجوحة بين عذقين فجاءتني أمي فأنزلتني ولي جميمة وذكر الحديث. قال الشيخ: تريد بالعذقين نخلتين، والعذق بفتح العين النخلة؛ العذق بكسرها الكباسة والجميمة تصغير الجمة من الشعر. ومن باب النصيحة قال أبو داود: حدثنا أحمد بن يونس حدثنا زهير حدثنا سهيل بن أبي صالح عن عطاء بن يزيد عن تميم الداري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الدين النصيحة إن الدين النصيحنة، إن الدين النصيحة، قالوا لمن يا رسول الله قال: لله ولكتابه ورسوله وأئمة المؤمنين وعامتهم. قال الشيخ: النصيحة كلمة يعبر بها عن جملة هي إرادة الخير للمنصوح له وليس

ومن باب تغيير الأسماء

يمكن أن يعبر هذا المعنى بكلمة واحدة تحصرها وتجمع معناها غيرها، وأصل النصح في اللغة الخلوص يقال نصحت العسل إذا خلصته من الشمع. فمعنى نصيحة لله سبحانه صحة الاعتقاد في وحدانيته وإخلاص النية في عبادته والنصيحة لكتاب الله الإيمان به والعمل بما فيه، والنصيحة لرسوله التصديق بنبوته وبذل الطاعة له فيما أمر به ونهى عنه والنصيحة لأئمة المؤمنين أن يطيعهم في الحق وأن لا يرى الخروج عليهم بالسيف إذا جاروا والنصيحة لعامة المسلمين إرشادهم إلى مصالحهم. ومن باب تغيير الأسماء قال أبو داود: حدثنا هارون بن عبد الله حدثنا هشام بن سعيد الطالقاني أنبأنا محمد بن المهاجر حدثني عقيل بن شبيب، عَن أبي وهب الجشمي وكانت له صحبة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تسموا بأسماء الأنبياء وأحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن وأصدقها حارث وهمام وأقبحها حرب ومرة. قال الشيخ: إنما صار الحارث من أصدق الأسماء من أجل مطابقة الاسم معناه الذي اشتق منه وذلك أن معنى الحارث الكاسب يقال حرث الرجل إذا كسب واحتراث المال كسبه ومنه قول امرىء القيس: ومن يحترث حرثي وحرثك يُهزل وقال سبحانه {من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها} [الشورى: 20] . وأما همام فهو من هممت بالشيء إذا أردته وليس من أحد إلاّ وهو يهتم بشيء وهو معنى الصدق الذي وصف به هذان الاسمان، وأقبحها حرب لما في الحرب

ومن باب تغيير الاسم القبيح

من المكاره وفي مرة من البشاعة والمرارة، وكان صلى الله عليه وسلم يحب الفأل الحسن والاسم الحسن. قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن ثابت عن أنس قال ذهبت بعبد الله بن أبي طلحة إلى النبي صلى الله عليه وسلم حين ولد والنبي صلى الله عليه وسلم في عباءة يهنأ بعيراً له وذكر الحديث. قال الشيخ: قوله يهنأ معناه يطليه بالقطران ويعالجه به والهناء القطران. ومن باب تغيير الاسم القبيح قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا بشر حدثني بشير بن ميمون عن عمه أسامة بن اخدري أن رجلاً يقال له اصرم كان في النفر الذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما اسمك قال أنا أصرم قال بل أنت زرعة. قال الشيخ: إنما غير اسم الأصرم لما فيه من معنى الصرم وهو القطيعة يقال صرمت الحبل إذا قطعته وصرمت النخلة إذا جذذت ثمرها. قال أبو داود: وغير النبي صلى الله عليه وسلم اسم العاص وعزيز وعتلة وشيطان والحكم وغراب وحُباب وشهاب وارض تسمى عفرة فسماها خضرة. قال الشيخ: أما العاص فانما غيره كراهة لمعنى العصيان وإنما سمة المؤمن الطاعة والاستسلام، وعزيز إنما غيره لأن العزة لله سبحانه وشعار العبد الذلة والاستكانة وقد قال سبحانه عندما يقرع بعض أعدائه {ذق إنك أنت العزيز الكريم} [الدخان: 49] وعتلة معناها الشدة والغلظة، ومنه قولهم رجل عتل أي شديد غليظ ومن صفة المؤمن اللين والسهولة، وقال صلى الله عليه وسلم المؤمنون هينون، وشيطان اشتقاقه من الشطن وهو البعد من الخير، وهو اسم المارد الخبيث من الجن والانس،

والحكم هو الحاكم الذي إذا حكم لم يرد حكمه، وهذه الصفة لا تليق بغير الله سبحانه ومن أسمائه الحكم. وغراب مأخوذ من الغرب وهو البعد. ثم هوحيوان خبيث الفعل خبيث الطعم وقد أباح رسول الله صلى الله عليه وسلم قتله في الحل والحرم. وحباب نوع من الحيات وقد روي أن الحباب اسم الشيطان فقيل أنه أراد به المارد الخبيث من شياطين الجن، وقيل إن نوعاً من الحيات يقال لها الشياطين ومن ذلك قوله تبارك وتعالى {طلعها كأنه رؤوس الشياطين} [الصافات: 65] والشهاب شعلة من النار والنار عقوبة الله سبحانه وهي محرقة مهلكة. وأما عفرة فهي نعت للأرض التي لا تنبت شيئاً أخذت من العفرة وهي لون الأرض فسماها خضرة على معنى التفاؤل لتخضر وتمرع. قال أبو داود: حدثنا النفيلي أنبأنا زهير حدثنا منصور بن المعتمر عن هلال بن يساف عن ربيع بن عميلة عن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تسمين غلامك يساراً ولا رباحاً ولا نجيحاً ولا أفلح فانك تقول اثم هو فيقول لا إنما هن أربع فلا تزيدن عليّ. قال الشيخ: قد بين النبي صلى الله عليه وسلم المعنى في ذلك وذكر العلة التي من أجلها وقع النهي عن التسمية بها وذلك أنهم كانوا يقصدون بهذه الأسماء وبما في معانيها أما التبرك بها أو التفاؤل بحسن ألفاظها فحذرهم أن يفعلوه لئلا ينقلب عليهم ما قصدوه في هذه التسميات إلى الضد وذلك إذا سألوا، فقالوا اثم يسار اثم رباح فإذا قيل لا تطيروا بذلك وتشاءموا به واضمروا على الأياس من اليسر والرباح، فنهاهم عن السبب الذي يجلب لهم سوء الظن بالله سبحانه ويورثهم الأياس من خيره.

ومن باب الرجل يتكنى وليس له ولد

قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا سفيان بن عيينة، عَن أبي الزناد عن الأعرج، عَن أبي هريرة يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم أخنع اسم عند الله يوم القيامة رجل تسمى بملك الأملاك. قال الشيخ: قوله أخنع معناه أوضع وأذل والخنوع الذلة والاستكانة. وأخبرني أبو محمد عبد الله بن شبيب حدثنا زكريا المنقري حدثنا الأصمعي قال سمعت أعرابياً يدعو فيقول: اللهم إني أعوذ بك من الخنوع والقنوع وما يغض طرف المرء ويغري به لئام الناس، فالخنوع الذل والقنوع المسألة. ومنه قول الله تعالى {وأطعموا القانع والمعتر} [الحج: 36] . ومن باب الرجل يتكنى وليس له ولد قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد أنبأنا ثابت عن أنس قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل علينا ولي أخ صغير يكنى أبا عمير وكان له نُغر يلعب به فمات فدخل النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم فرآه حزيناً فقال ما شأنه قالوا مات نغره فقال يا أبا عمير ما فعل النغير. قال الشيخ: النغر طائر صغير ويجمع على النغران وأنشدني أبو عمر: يحملن أوعية السلاف كأنما ... يحملنه بأكارع النغران وفيه من الفقه أن صيد المدينة مباح، وفيه إباحة السجع في الكلام. وفيه جواز الدعابة ما لم يكن آثماً. وفيه إباحة تصغير الأسماء. وفيه أنه كناه ولم يكن له ولد فلم يدخل في باب الكذب. وقوله يلعب به أي يتلهى بحبسه وإمساكه.

ومن باب الرجل يقول زعموا

ومن باب الرجل يقول زعموا قال أبو داود: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا وكيع عن الأوزاعي عن يحيى، عَن أبي قلابة قال: قال أبو مسعود لأبي عبد الله أو قال أبو عبد الله لأبي مسعود ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول في زعموا قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: بئس مطية الرجل زعموا. قال الشيخ: أصل هذا أن الرجل إذا أراد الظعن في حاجة والمسير إلى بلد ركب مطيته وسار حتى يبلغ حاجته فشبه النبي صلى الله عليه وسلم ما يقدمه الرجل أمام كلامه ويتوصل به إلى حاجته من قولهم زعموا بالمطية التي يتوصل بها إلى الموضع الذي يؤمه ويقصده، وإنما يقال زعموا في حديث لا سند له ولا ثبت فيه وإنما هو شيء يحكى عن الألسن على سبيل البلاغ فذم صلى الله عليه وسلم من الحديث ما كان هذا سبيله وأمر بالثبت فيه والتوثق لما يحكيه من ذلك فلا يرويه حتى يكون معزياً إلى ثبت ومروياً عن ثقة وقد قيل الراوية أحد الكاذبين. ومن باب في حفظ المنطق قال أبو داود: حدثنا سليمان بن داود حدثنا ابن وهب أخبرني الليث بن سعد عن جعفر بن ربيعة عن الأعرج، عَن أبي هريرة عن رسول الله قال: لا يقولن أحدكم الكرم فإنما الكرم الرجل المسلم ولكن قولوا حدائق الأعناب. قال الشيخ: إنما نهاهم عن تسمية هذه الشجرة كرماً لأن هذا الاسم عندهم مشتق من الكرم، والعرب يقول رجل كرم بمعنى كريم وقوم كرم أي كرام ومنه قول الشاعر: فتنبو العين عن كرم عجاف ثم تسكن الراء منه فيقال كرم فأشفق صلى الله عليه وسلم أن يدعوهم حسن اسمها إلى شرب

ومن باب لا يقال خبثت نفسي

الخمر المتخذة من ثمرها فسلبها هذا الاسم وجعله صفة للمسلم الذي يتوقى شربها ويمنع نفسه الشهوة فيها عزة وتكرماً، وقد ذكرت هذا في كتاب غريب الحديث وأشبعت شرحه هناك. ومن باب لا يقال خبثت نفسي قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب، عَن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يقولن أحدكم خبثت نفسي وليقل لقِست نفسي. قال الشيخ: قوله لقست نفسي وخبثت معناهما واحد وإنما كره من ذلك لفظ الخبث وبشاعة الاسم منه وعلمهم الأدب في المنطق وأرشدهم إلى استعمال الحسن وهجران القبيح منه. قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن سفيان بن سعيد حدثني عبد العزيز بن رفيع عن تميم الطائي عن عدي بن حاتم أن خطيباً خطب عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال من يطع الله ورسوله ومن يعصهما فقال قم أو قال اذهب فبئس الخطيب أنت. قال الشيخ: إنما كره من ذلك الجمع بين الاسمين تحت حرفي الكناية لما فيه من التسوية. قال أبو داود: حدثنا أبو الوليد الطيالسي حدثنا شعبة عن منصور عن عبد الله بن بشار عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء فلان. قال الشيخ: فهذا قريب المعنى من الأول وذلك أن الواو حرف الجمع والتشريك وثم حرف النسق بشرط التراخي فأرشدهم إلى الأدب في تقديم

ومن باب في صلاة العتمة

مشيئة الله سبحانه على مشيئة من سواه. قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن سهيل بن صالح، عَن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا قال الرجل هلك الناس فهو أهلكهم. قال الشيخ: معنى هذا الكلام أن لا يزال الرجل يعيب الناس ويذكر مساويهم ويقول قد فسد الناس وهلكوا ونحو ذلك من الكلام يقول صلى الله عليه وسلم إذا فعل الرجل ذلك فهو أهلكهم وأسوأهم حالاً مما يلحقه من الإثم في عيبهم والازراء بهم والوقيعة فيهم، وربما أداه ذلك إلى العجب بنفسه فيرى أن له فضلاً عليهم وأنه خير منهم فيهلك. ومن باب في صلاة العتمة قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا سفيان عن ابن أبي لبيد، عَن أبي سلمة قال سمعت ابن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم الا وأنها العشاء ولكنهم يعتمون بالإبل. قال الشيخ: قوله يعتمون معناه يؤخرون حلب الإبل ويسمون الصلاة باسم وقت الحلاب، ويقال فلان عاتم القرى إذا كان إذا نزل به الأضياف لم يعجل قراهم. قال أبو داود: حدثنا عمرو بن مرزوق أخبرنا شعبة عن قتادة عن أنس قال كان فزع بالمدينة فركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرساً لأبي طلحة، فقال ما رأينا شيئاً أو ما رأينا من فزع وإن وجدناه لبحراً. قال الشيخ: في هذا إباحة التوسع في الكلام وتشبيه الشيء بالشيء الذي له تعلق ببعض معانيه وإن لم يستوف أوصافه كلها.

ومن باب التشديد في الكذب

وقال إبراهيم بن محمد بن عرفة النحوي إنما شبه الفرس بالبحر لأنه أراد أن جريه كجري ماء البحر أو لأنه أراد أن جريه كجري ماء البحر أو لأنه يسبح في جريه كالبحر إذا ماج فعلا بعض مائه فوق بعض. قلت: ويقال في نعوت الفرس بحر وحت وسكب إذا كان واسع الجري قاله الأصمعي. ومن باب التشديد في الكذب قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا عبد الله بن داود (ح) قال وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا وكيع عن الأعمش، عَن أبي وائل عن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار، وعليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة. قال الشيخ: هذا تأويل قوله سبحانه {إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم} [الانفطار: 14] . وأصل الفجور الميل عن الصدق والانحراف إلى الكذب، ومنه قول الاعرابي في عمر بن الخطاب رضي الله عنه. أقسم بالله أبو حفص عمر ... ما أن بها من نقَب ولا دبر * اغفر له اللهم إن كان فجر * يريد إن كان مال عن الصدق فيما قاله. ومن باب في حسن الظن قال أبو داود: حدثنا أحمد بن محمد المروزي حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر

ومن باب من تشبع بما لم يعط

عن الزهري عن علي بن حسين عن صفية قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معتكفاً فأتيته أزوره ليلاً فحدثته وقمت فانقلبت فقام معي ليقلبني وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد فمر رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبي صلى الله عليه وسلم أسرعا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: على رسلكما انها صفية بنت حيي، فقالا سبحان الله برسول الله، قال الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم فخشيت أن يقذف في قلوبكما شيئاً أو قال شراً. قال الشيخ: فيه من العلم استحباب أن يتحرز الإنسان من كل أمر من المكروه مما تجري به الظنون ويخطر بالقلوب وأن يطلب السلامة من الناس بإظهار البراءة من الريب. ويحكى عن الشافعي رحمه الله في هذا أنه قال خاف النبي صلى الله عليه وسلم أن يقع في قلوبهما شيء من أمره فيكفرا وإنما قال ذلك لهما شفقة عليهما لا على نفسه. ومن باب من تشبع بما لم يُعط قال أبو داود: حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد عن هشام بن عروة عن فاطمة بنت المنذر عن أسماء بنت أبي بكر أن امرأة قالت يا رسول الله إن لي جارة تعني ضرة فهل عليّ جناح إن تشبعت لها بما لم يعط زوحي قال المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور. قال الشيخ: العرب تسمي امرأة الرجل جارته وتدعو الزوجتين الضرتين جارتين وذلك لقرب أشخاصهما كالجارتين المتصاقبتين في الدارين تسكنانهما، ومن هذا قول الأعشى لامرأته: أجارتنا بيني فإنك طالقة ومن هذا النحو قول امرىء القيس:

ومن باب في المزاج

أجارتنا إنا غريبان ههنا ... وكل غريب للغريب نسيب وقوله كلابس ثوبي زور يتأول على وجهين أحدهما أن الثوبين ههنا كأنه كناية عن حاله ومذهبه، وقد تكني العرب بالثوب عن حال لابسه وعن طريقه ومذهبه كقول الشاعر: وإني بحمد الله لا ثوب غادر ... لبست ولا من ريبة أتقنع والمعنى أن المتشبع بما لم يعط بمنزلة الكاذب القائل ما لم يكن. والوجه الآخر ما يروى عن فلان أنه كان يكون في الحي الرجل له هيئة ونبل فإذا احتيج إلى شهادة زور شهد بها فلا يرد من أجل نبله وحسن ثوبيه فأضيف الشهادة إلى ثوبيه إذ كانا سبب جوازها ورواجها. ومن باب في المزاج قال أبو داود: حدثنا إبراهيم بن مهدي حدثنا شريك عن عاصم عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا ذا الأذنين. قال الشيخ: كان مزح النبي صلى الله عليه وسلم مزحاً لا يدخله الكذب والتزيد وكل إنسان له أذنان فهو صادق في وصفه إياه بذلك. وقد يحتمل وجهاً آخر وهو أن لا يكون قصد بهذا القول المزاح وإنما معناه الحض والتنبيه على حسن الاستماع والتلقف لما يقوله ويعلمه إياه، وسماه ذا الأذنين إذ كان الاستماع إنما يكون بحاسة الأذن، وقد خلق الله تعالى له أذنين يسمع بكل واحدة منهما وجعلهما حجة عليه فلا يعذر معهما إن أغفل الاستماع له ولم يحسن الوعي له والله أعلم. قال أبو داود: حدثنا محمد بن بشار حدثنا يحيى عن ابن أبي ذئب عن عبد الله

ومن باب تعليم الخطب

بن السائب بن يزيد عن أبيه عن جده أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يأخذن أحدكم متاع أخيه لاعباً جاداً. قال الشيخ: معناه أن يأخذه على وجه الهزل وسبيل المزح ثم يحبسه عنه ولا يرده فيصير ذلك جداً. ومن باب تعليم الخطب قال أبو داود: حدثنا ابن السرح حدثنا ابن وهب عن عبد الله بن المسيب عن الضحاك بن شرحبيل، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من تعلم صرف الكلام ليسبي به قلوب الرجال والناس لم يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً. قال الشيخ: صرف الكلام فضله وما يتكلفه الإنسان من الزيادة فيه من وراء الحاجة ومن هذا سمي الفضل بين النقدين صرفاً. وإنما كره رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك لما يدخله من الرياء والتصنع ولما يخالطه من الكذب والتزيد وأمر صلى الله عليه وسلم أن يكون الكلام قصداً تلو الحاجة غير زائد عليها يوافق ظاهره باطنه وسره علنه. ومن باب في الشعر قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا أبو عوانة عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجعل يتكلم بكلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن من البيان سحراً وإن من الشعر حُكْمًا. قال الشيخ: اختلف الناس في هذا وفي تأويله فقال بعضهم وجهه أنه ذم التصنع في الكلام والتكلف لتحسينه وتزويقه ليروق السامعين قوله ويستميل به قلوبهم فيحيل الشيء عن ظاهره ويزيله عن موضوعه إرادة التلبيس عليهم

فيصير ذلك بمنزلة السحر الذي هو أو نوع منه تخييل لما لا حقيقة له وتوهيم لما ليس له محصول والسحر منه مذموم وكذلك المشبه به. وقال آخرون بل القصد به مدح البيان والحث على تخير الألفاظ والتأنق في الكلام. واحتج لذلك بقوله إن من الشعر لحكماً وذلك ما لا ريب فيه أنه على طريق المدح له وكذلك مصراعه الذي بإزائه لأن عادة البيان غالباً أن القرينين نظماً لا يفترقان حكماً. وروي عن عمر بن عبد العزيز أن رجلاً طلب إليه حاجة كان يتعذر عليه إسعافه بها فرقق له الكلام فيها حتى استمال به قلبه فأنجزها له ثم قال هذا هو السحر الحلال. قال أبو داود: حدثنا محمد بن يحيى بن فارس حدثنا سعيد بن محمد حدثنا أبو تميلة حدثنا أبو جعفر النحوي عبد الله بن ثابت حدثني صخر بن عبد الله بن بريدة عن أبيه عن جده قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن من البيان سحراً وإن من العلم جهلاً، وإن من الشعر حُكْمًا، وإن من القول عيالاً. فقال صعصعة بن صوحان صدق نبي الله صلى الله عليه وسلم. قال الشيخ: أما قوله إن من البيان سحراً فالرجل يكون عليه الحق وهو ألحن بحجته من صاحب الحق فيسحر القوم ببيانه فيذهب بالحق. وأما قوله إن من العلم جهلاً فيتكلف العالم إلى علمه ما لا يعلم فيجهله ذلك. وأما قوله إن من الشعر حُكْمًا فهي هذه المواعظ والأمثال التي يتعظ بها الناس. وأما قوله إن من القول عيالاً فعرض كلامك أوحديثك على من ليس

ومن باب الرؤيا

من شأنه ولا يريده. قلت هكذا رواه أبو داود من القول عيالاً ورواه غيره أن من القول عَيَلاً هكذا ذكره الأزهري عن المنذري. قال حدثنا يعقوب بن إسحاق المخرمي حدثنا سعيد بن محمد الجرمي حدثنا أبو تميلة بإسناده، قال الأزهري قوله عيلاً من قولك علت الضالة أعيل عَيْلا وعَيَلا إذا لم تدر أي جهة تبغيها. قال أبوزيد كأنه لم يهتد لمن يطلب علمه فعرضه على من لا يريده. قال أبو داود: حدثنا محمد بن سليمان المصيصي لوين حدثنا ابن أبي الزناد عن أبيه عن عروة وهشام بن عروة عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع لحسان منبراً في المسجد فيقوم عليه يهجو من قال في رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن روح القدس مع حسان ما نافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الشيخ: قوله ما نافح معناه دافع، ومن هذا قولهم نفحت الرجل بالسيف إذا تناولته من بعد ونفحته الدابة إذا أصابته بحد حافرها. ومن باب الرؤيا قال أبو داود: حدثعا محمد بن كثير حدثنا شعبة عن قتادة عن أنس عن عبد الله بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة. قال الشيخ: معنى هذا الكلام تحقيق أمرالرؤيا وتأكيده وإنما كانت جزءاً من أجزاء النبوة في الأنبياء صلوات الله عليهم دون غيرهم وكان الأنبياء يوحى إليهم في منامهم كما يوحى إليهم في اليقظة.

وأنبأنا ابن الأعرابي حدثنا ابن أبي ميسرة حدثنا الحميدي حدثنا سفيان بن عيينة قال: قال عمرو بن دينار عن عبيد بن عمير رؤيا الأنبياء وحي وقرأ قوله تعالى {إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر} [الصافات: 120] . فأما تحديد أجزائها بالعدد المذكور فقد قال في ذلك بعض أهل العلم قولاً زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بقي منذ بدء الوحي إلى أن مات ثلاثاً وعشرين سنة أقام بمكة منها ثلاث عشرة سنة وبالمدينة عشر سنين وكان يوحى إليه في منامه في أول الأمر بمكة ستة أشهر وهي نصف سنة فصارت هذه المدة جزءاً من ستة وأربعين جزءاً من النبوة. وقال بعض العلماء معناه أن الرؤيا تجيء على موافقة النبوة لا أنها جزء باق من النبوة. وقال آخر معناه أنها جزء من أجزاء علم النبوة باق والنبوة غير باقية بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم ذهبت النبوة وبقيت المبشرات الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو تُرى له. قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا عبد الوهاب عن أيوب عن محمد، عَن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب فأصدقهم رؤيا أصدقهم حديثاً. قال الشيخ: في اقتراب الزمان قولان أحدهما أنه قرب زمان الساعة ودنو وقتها. والقول الآخر أن معنى اقتراب الزمان اعتداله واستواء الليل والنهار والمعبرون يزعمون أن أصدق الرؤيا ما كان في أيام الربيع ووقت اعتدال الليل والنهلر. قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا هشيم أخبرنا يعلى بن عطاء عن وكيع

بن عُدْس عن عمه أبي رزين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الرؤيا على رجل طائر ما لم تعبر فإذا عبرت وقعت قال وأحسبه قال ولا يقصها إلاّ على وادٍّ أو ذي رأي. قال الشيخ: معنى هذا الكلام حسن الارتياد لموضع الرؤيا واستعبارها العالم بها الموثوق برأيه وأمانته. وقوله على رجل طائر مثل ومعناه أنها لا تستقر قرارها ما لم تعبر. وقال أبو إسحاق الزجاج في قوله لا يقصها إلاّ على وادٍ أو ذي رأي الواد لا يحب أن يستقبلك في تفسيرها إلاّ بما تحب وإن لم يكن عالماً بالعبارة ولم يعجل لك بما يغمك لا أن تعبيره يزيلها عما جعله الله عليه. وأما ذو الرأي فمعناه ذو العلم بعبارتها فهو يخبرك بحقيقة تفسيرها أو بأقرب ما يعلم منها ولعله أن يكون في تفسيره موعظة تردعك عن قبيح أنت عليه أو تكون فيها بشرى فتشكر الله على النعمة فيها. قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا حماد حدثنا أيوب عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من صور صورة عذبه الله بها يوم القيامة حتى ينفخ فيها وليس بنافخ، ومن تحلّم كلف أن يعقد شعيرة ومن استمع إلى حديث قوم يفرون به منه صب في أذنه الآنك يوم القيامة. قال الشيخ: قوله تحلم معناه تكذب بما لم يره في منامه يقال حلم الرجل يحملم إذا رأى حلماً. وحلم بالضم إذا صار حليماً وحلم الأديم بكسر اللام حلماً. ومعنى عقد الشعيرة أنه يكلف ما لا يكون ليطول عذابه في النار. وذلك أن عقد ما بين طرفي الشعيرة غير ممكن. والآنك الأسرب.

ومن باب التثاؤب

ومن باب التثاؤب قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبيه، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله يحب العطاس ويكره التثاؤب فإذا تثاءب أحدكم فليرده ما استطاع ولا يقول هاه هاه فإنما ذلكم من الشيطان يضحك منه. قال الشيخ: معنى حب العطاس وحمده وكراهة التثاؤب وذمه أن العطاس إنما يكون مع أنفتاح المسام وخفة البدن وتيسير الحركات. وسبب هذه الأمور تخفيف الغذاء والإقلال من المطعم والاجتزاء باليسير منه، والتثاؤب إنما يكون مع ثقل البدن وامتلائه وعند استرخائه للنوم وميله إلى الكسل فصار العطاس محموداً لأنه يعين على الطاعات والتثاؤب مذموماً لأنه يثبطه عن الخيرات وقضاء الواجبات. ومن باب تشميت العاطس قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير أنبأنا سفيان حدثنا سليمان التيمي عن أنس قال: عطس رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم فشمت أحدهما وترك الاخر فقيل يا رسول الله رجلان عطسا فشمت أحدهما وتركت الاخر، فقال إن هذا حمد الله وإن هذا لم يحمد الله. قال الشيخ: يقال شمت وسمت بمعنى واحد وهو أن يدعو للعاطس بالرحمة وفيه بيان أن تشميت من لم يحمد الله غير واجب. وحكي عن الأوزاعي أنه عطس رجل بحضرته فلم يحمد الله، فقال له الأوزاعي كيف تقول إذا عطست، فقال أقول الحمد لله فقال له يرحمك الله وانما أراد

ومن باب ينبطح على بطنه

بذلك أن يستخرج منه الحمد ليستحق التشميت. ومن باب ينبطح على بطنه قال أبو داود: حدثنا محمد بن المثنى حدثنا معاذ بن هشام حدثني أبي عن يحيى ابن أبي كثير حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن عن يعيش بن طخفة بن قيس الغفاري قال كان أبي من أصحاب الصفة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: انطلقوا بنا إلى بيت عائشة فانطلقنا فقال يا عائشة أطعمينا فجاءت بجشيشة فأكلنا، ثم قال يا عائشة أطعمينا فجاءت بحيسة مثل القطا فأكلنا وذكر الحديث. قال الشيخ: الحيس أخلاط من تمر وسمن وسويق وإقط يجمع فيؤكل والجشيشة ما يجش من الحب فيطبخ، والجش طحن خفيف وهو ما كان فوق الدقيق، وفيها لغة أخرى وهي الدشيشة، فأما الجذيذة فهي السويق. ومن باب النوم على سطح ليس له ستر قال أبو داود: حدثنا ابن المثنى حدثنا سالم بن نوح عن عمر بن جابر الحنفي عن وعلة بن عبد الرحمن بن وثاب عن عبد الرحمن بن علي بن شيبان عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من بات على ظهر بيت ليس عليه حَجاً فقد برئت منه الذمة. قال الشيخ: هذا الحرف يروى بفتح الحاء وكسرها، ومعناه معنى الستر والحجاب فمن قال الحجا بكسر الحاء شبهه بالحجا الذي هو بمعنى العقل وذلك أن العقل يمنع الإنسان من الردى والفساد ويحفظه من التعرض للهلاك فشبه الستر الذي يكون على السطح المانع للإنسان من التردي والسقوط بالعقل المانع له من أفعال السوء المؤدية له إلى الردى والهلاك.

ومن باب النوم على طهارة

ومن رواه بفتح الحاء ذهب إلى الطرف والناحية، واحجاء الشيء نواحيه واحدها حجا مقصور. ومن باب النوم على طهارة قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد أنبأنا عاصم بن بهدلة عن شهر بن حوشب، عَن أبي ظبية عن معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما من مسلم يبيت على ذكر طاهراً فيتعارّ من الليل فيسأل الله خيراً من الدنيا والاخرة إلاّ أعطاه إياه. قال الشيخ: قوله يتعار معناه يستيقظ من النوم، وأصل التعار السهر والتقلب على الفراش، يقال إن التعار لا يكون إلاّ مع كلام وصوت وهو مأخوذ من عِرار الظليم. ومن باب ما يقول عند النوم قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا المعتمر قال سمعت منصور بن الحارث عن سعد بن عبيدة قال حدثني البراء بن عازب قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ثم اضطجع على شقك الأيمن وقل اللهم أسلمت وجهي إليك وفوضت أمري إليك وألجأت ظهري إليك رغبة ورهبة إليك لا ملجأ ولا منجا منك إلاّ إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت ونبيك الذي أرسلت فإن مُت مت على الفطرة. قال الشيخ: الفطرة ههنا فطرة الدين والإسلام وقد تكون الفطرة أيضاً بمعنى السنة وهي ما جاء في الحديث أن عشراً من الفطرة فذكر منها المضمضة والاستنشاق مع سائر الخصال.

ومن باب في التسبيح عند النوم

قال أبو داود: حدثنا جعفر بن مسافر التنيسي حدثنا يحيى بن حسان حدثنا يحيى بن حمزة عن ثور عن خالد بن معدان، عَن أبي الأزهر الأنماري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أخذ مضجعه من الليل قال بسم الله وضعت جنبي اللهم اغفر لي ذنبي واخسأ شيطاني وفكَّ رهاني واجعلني في الندى الأعلى. قال أبو داود: رواه أبو همام الأهوازي عن ثور فقال أبو زهير الأنماري. قال الشيخ: الندى القوم المجتمعون في مجلس ومثله النادي ويجمع على الأندية. قال الراجز: إني إذا ما القوم كانوا أندية يريد بالندى الأعلى الملأ الأعلى من الملائكة. ومن باب في التسبيح عند النوم قال أبو داود: حدثنا مؤمل بن هشام حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن الجُريري، عَن أبي الورد بن ثمامة قال: قال علي كرم الله وجهه وذكر فاطمة عليها السلام أنها جرت بالرحى حتى أثرت بيدها واستقت بالقربة حتى أثرت في نحرها وقمَّت البيت حتى اغبرت ثيابها وأوقدت في القدر حتى دكنت ثيابها وأصابها من ذلك ضُر. وساق الحديث إلى أن قال: فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في لِفاعنا وذكرت الحديث. قال الشيخ: قوله قمت البيت معناه كنسته ومن ذلك سميت الكناسة قماماً واللفاع اللحطف وهو كل ما يتلفع به من كساء ونحو ذلك. ومعنى التلفع الاشتمال بالثوب. ومن باب ما يقول إذا أصبح قال أبو داود: حدثنا أحمد بن يونس حدثنا زهير حدثنا الوليد بن ثعلبة الطائي

ومن باب ما يقول إذا هاجت الريح

عن ابن بريدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من قال حين يصبح وحين يمسي اللهم أنت ربي لا إله إلاّ أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء بنعمتك وأبوء بذنبي فاغفر لي أنه لا يغفر الذنوب إلاّ أنت. فمات من يومه أو من ليلته دخل الجنة. قال الشيخ: قوله أبوء بنعمتك معناه الاعتراف بالنعمة والإقرار بها وأبوء بذنبي معناه الإقرار بها أيضاً كالأول، ولكن فيه معنى ليس في الأول تقول العرب باء فلان بذنبه إذا احتمله كرهاً لا يستطيع دفعه عن نفسه. قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عبد الله بن وهب أخبرني سليمان بن بلال عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه، عَن أبي هريرة قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان في سفر فأسحر يقول سمع سامع بحمد الله ونعمته وحسن بلائه علينا اللهم صاحِبْنا فأفضل علينا عائذاً بالله من النار. قال الشيخ: قوله سمع سامع معناه شهد شاهد وحقيقته ليسمع السامع وليشهد الشاهد على حمدنا لله سبحانه على نعمه وحسن بلائه. وقوله عائذاً بالله يحتمل وجهين أحدهما أن يريد أنا عائذ بالله، والوجه الآخر أن يريد متعوذاً بالله كما يقال مستجار بالله بوضع الفاعل مكان المفعول كقولهم سر كاتم وماء دافق بمعنى مدفوق ومسكوب. ومن باب ما يقول إذا هاجت الريح قال أبو داود: حدثنا ابن بشار حدثنا عبد الرحمن حدثنا سفيان عن المقدام بن شريح عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى ناشئاً

ومن باب المولود

في أفق السماء ترك العمل وإن كان في صلاة ثم يقول اللهم إني أعوذ بك من شرها، فإن مطرت قال اللهم صيباً هنيئاً. قال الشيخ: الصيب ما سال من المطر وجرى، وأصله من صاب يصوب إذا نزل قال الله تعالى {أو كصيبٍ من السماء} [البقرة: 19] ووزنه فيعل من الصوب. قال أبو داود: حدثنا قتيبة حدثنا الليث عن خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن سعيد بن زياد عن حابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقلوا الخروج بعد هدأة الرَّجل. قال الشيخ: هدأة الرجل يريد به انقطاع الأرجل عن المشي في الطريق ليلاً وأصل الهدوء السكون. ومن باب المولود قال أبو داود: حدثنا ابن المثنى حدثنا إبراهيم بن أبي الوزير حدثنا داود بن عبد الرحمن العطار عن ابن جريج عن أبيه عن أم حميد عن عائشة رضي الله عنها قالت قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل رئي أو كلمة غيرها فيكم المغّرَّبون، قلت وما المغربون قال: الذين يشترك فيهم الجن. قال الشيخ: إنما سموا مغربين لانقطاعهم عن أصولهم وبعد مناسبتهم وأصل الغرب البعد، ومنه قيل عنقاء مغرب أي جائية من بعد، ومنه سمي الغريب غريباً وذلك لبعده عن أهله وانقطاعه عن وطنه فسمي هؤلاء الذين اشترك فيهم الجن مغربين لما وجد فيهم من شبه الغرباء بمداخلة من ليس من جنسهم ولا على طباعهم وشكلهم.

ومن باب في رد الوسوسة

ومن باب في رد الوسوسة قال أبو داود: حدثنا أحمد بن يونس حدثنا زهير حدثنا سهيل عن أبيه، عَن أبي هريرة قال جاءه أناس من أصحابه قالوا يا رسول الله نجد في أنفسنا الشيء نعظم أن نتكلم به أو الكلام به قال أو قد وجدتموه قالوا نعم قال ذاك صريح الإيمان. قال الشيخ: قوله ذاك صريح الإيمان، معناه أن صريح الإيمان هو الذي يمنعكم من قبول ما يلقيه الشيطان في أنفسكم والتصديق به حتى يصير ذلك وسوسة لا يتمكن في قلوبكم ولا تطمئن إليه أنفسكم وليس معناه أن الوسوسة نفسها صريح الإيمان وذلك أنها إنما تتولد من فعل الشيطان وتسويله فكيف يكون إيماناً صريحاً، وقد روي في حديث آخر أنهم لما شكوا إليه ذلك قال الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة. قال أبو داود: حدثنا حجاج بن أبي يعقوب حدثنا معاوية بن عمرو حدثنا زائدة عن الأعمش، عَن أبي صالح، عَن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من تولى قوماً بغير إذن مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه يوم القيامة عدل ولا صرف. قال الشيخ: قوله بغير إذن مواليه ليس بشرط في جواز أن يفعل ذلك أو يستبيحه إذا أذن مواليه في ذلك، وإنما معناه أنه ليس له أن يوالي غير مواليه بحال ولا يجوز له أن يخونهم في نفسه وأن يقطع حقوقهم من ولائه مستسراً له يقول فليستأذنهم إذا سولت له نفسه فعل هذا الصنيع فإنهم إذا علموا ذلك منعوه ولم يأذنوا له فيه فلا يمكنه حينئذ أن يوالي غيرهم وأن يحول ولاءه إلى قوم سواهم، وإنما لا يجوز ذلك لأن الولاء لحمة كلحمة النسب لا ينتقل بحال

ومن باب التفاخر

كما لا ينتقل النسب إلاّ ما جاء في أن الولاء للكبر وهذا ليس فيه نقل للولاء عن أصله إنما هو تنزيل وترتيب له فيما بين ورثة المعتق وتقديم الأقرب منه على الأبعد. ومن باب التفاخر قال أبو داود: حدثنا أحمد بن سعيد الهمذاني أنبأنا ابن وهب عن هشام بن سعد عن سعيد بن أبي سعيد عن أبيه، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله قد أذهب عنكم عُبِيَّة الجاهلية وفخرها بالآباء مؤمن تقي وفاجر شقي أنتم بنو آدم وآدم من تراب. قال الشيخ: العبية الكبر والنخوة وأصله من العب وهو الثقل يقال عُبِية وعِبية بضم العين وكسرها. وقوله مؤمن تقي وفاجر شقي معناه أن الناس رجلان مؤمن تقي وهو الخير الفاضل وإن لم يكن حسيباً في قومه وفاجر شقي فهو الدني وإن كان في أهله شريفاً رفيعاً. ومن باب في العصبية قال أبو داود: حدثنا النفيلي حدثنا زهير حدثنا سماك بن حرب عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه رضي الله عنه قال من نصر قومه على غير الحق فهو كالبعير الذي رُدِّي فهو ينزع بذنبه ورفعه من رواية سفيان عن سماك. قال الشيخ: معناه أنه قد وقع في الإثم وهلك كالبعير إذا تردى في بئر فصار ينزع بذنبه ولا يقدر على خلاصه.

ومن باب الرجل يحب الرجل يخبره

ومن باب الرجل يحب الرجل يخبره قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن ثور حدثني حبيب بن عبيد عن المقدام بن معديكرب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا أحب الرجل أخاه فليخبره أنه يحبه. قال الشيخ: معناه الحث على التودد والتألف وذلك أنه إذا أخبره بأنه يحبه استمال بذلك قلبه واجتلب به وده. وفيه أنه إذا علم أنه محب له وواد قبل نصحه ولم يرد عليه قوله في عيب إن أخبره به عن نفسه أو سقطة إن كانت منه فإذا لم يعلم ذلك منه لم يؤمن أن يسوء ظنه فيه فلا يقبل قوله ويحمل ذلك منه على العداوة والشنآن والله أعلم. ومن باب المشورة قال أبو داود: حدثنا محمد بن المثنى حدثنا يحيى بن أبي بكير حدثنا شيبان عن عبد الملك بن عمير، عَن أبي سلمة، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المستشار مؤتمن. قال الشيخ: فيه دليل على أن الإشارة غير واجبه على المستشار إذا استشير. وفيه دليل على أن عليه الاجتهاد في الصلاح وأنه لا غرامة عليه إذا وقعت الإشارة خطأ. ومن باب الدال على الخير قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير أنبأنا سفيان عن الأعمش، عَن أبي عمرو الشيباني، عَن أبي مسعود الأنصاري قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني أبدع بي فأحملني قال لا أجد ما أحملك عليه ولكن ائت فلاناً لعله يحملك فأتاه فحمله فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من دل على خير فله

ومن باب في بر الوالدين

مثل أجر فاعله. قال الشيخ: قوله ابدع بي معناه إنقطع بي ويقال أبدعت الركاب إذا كلت وانقطعت. ومن باب في بر الوالدين قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير أنبأنا سفيان حدثني سهيل بن أبي صالح عن أبيه، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يجزي ولد والده إلاّ أن يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه. قال الشيخ: قوله فيعتقه ليس معناه استئناف العتق فيه بعد الملك لأن العلماء قد أجمعوا على أن الأب يعتق على الابن إذا ملكه في الحال، وإنما وجهه أنه إذا اشتراه فدخل في ملكه عتق عليه فلما كان الشراء سبباً لعتقه أضيف العتق إلى عقد الشراء إذا كان تولد منه ووقوعه به، وإنما صار هذا جزاء له وأداء لحقه لأن العتق أفضل ما ينعم به أحد على أحد لأنه يخلصه بذلك من الرق ويجبر منه النقص الذي فيه ويكمل فيه أحكام الأحرار في الأملاك والأنكحة وجواز الشهاده ونحوها من الأمور. قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير أنبأنا سفيان عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يسأل رجل مولاه من فضل هو عنده فيمنعه إياه إلاّ دعي له يوم القيامة فضله الذي منع شجاعاً أقرع. قال الشيخ: الشجاع الحية والأقرع الذي انحسر الشعر عن رأسه من كثرة سمه.

ومن باب فضل من عال يتامى

ومن باب فضل من عال يتامى قال أبو داود: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو معاوية، عَن أبي مالك الأشجعي عن ابن حُدير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كانت له أنثى فلم يئدها ولم يهنها ولم يؤثر ولده عليها، قال، يَعني الذكور ادخله الله الجنة. قال الشيخ: قوله لم يئدها معناه لم يدفنها حية وكانوا يدفنون البنات أحياء يقال منه وأد يئد وأداً ومنه قول الله سبحانه {وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت} . قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يزيد بن زريع حدثنا النهاس حدثني شداد أبو عمار عن عوف بن مالك الأشجعي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا وامرأة سفعاء الخدين كهاتين يوم القيامة يريد السبابة والوسطى. قال الشيخ: السفعاء هي التي تغير لونها إلى الكمودة والسواد من طول الإيمة وكأنه مأخوذ من سفع النار وهو أن يصيب لفحها شيئاً فيسود مكانه يريد بذلك أن هذه المرأة قد حبست نفسها على أولادها ولم تتزوج فتحتاج إلى أن تتزين وتصنع نفسها لزوجها. ومن باب حق المملوك قال أبو داود: حدثنا محمد بن المثنى حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه، عَن أبي مسعود الأنصاري قال كنت أضرب غلاماً لي فسمعت من خلفي صوتاً: اعلم أبا مسعود لله أقدر عليك منك عليه فالتفت فإذا هو النبي صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله هو حر لوجه الله، فقال أما لو لم تفعل للفعتك النار أو لمستك النار.

ومن باب من خبب مملوكا

قال الشيخ: قوله لفعتك معناه شملتك من نواحيك، ومنه قولهم تلفع الرجل بالثوب إذا اشتمل به. ومن باب من خبب مملوكاً قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي حدثنا زيد بن حباب عن عمار بن زريق عن عبد الله بن عيسى عن عكرمة عن يحيى بن يعمر، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من خبب زوجة امرىء أو مملوكه فليس منا. قال الشيخ: قوله خبب يريد أفسد وخدع وأصله من الخب وهو الخداع ورجل خب ويقال فلان خب صب إذا كان فاسداً مفسداً. ومن باب في الاستئذان قال أبو داود: حدثنا محمد بن عبيد حدثنا حماد عن عبيد الله بن أبي بكر عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجلاً اطلع في بعض حجر النبي صلى الله عليه وسلم فقام إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشقص أو مشاقص قال فكأنى انظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يختله ليطعنه. قال الشيخ: المشقص نصل عريض، وقوله يختله معناه يراوده ويطلبه من حيث لا يشعر. قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن سهيل عن أبيه حدثنا أبو هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من اطلع في دار قوم بغير إذنهم ففقؤوا عينه فقد هدرت عينه. قال الشيخ: في هذا بيان إبطال القود واسقاط الدية عنه، وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أهدرها وعن أبي هريرة مثل ذلك وإليه ذهب الشافعي

ومن باب الرجل يستأذن بالدق

وقال أبو حنيفة إذا فعل ذلك ضمن الجناية وذلك لأنه قد يمكنه أن يدفعه عن النظر والاطلاع عليه بالاحتجاب عنه وسد الخصاص والتقدم إليه بالكلام ونحوه فإذا لم يفعل ذلك وعمد إلى فقء عينه كان ضامناً لها وليس النظر بأكثر من الدخول عليه بنفسه وتأول الحديث على معنى التغليظ والوعيد. وقد قال بعض من ذهب إلى الحديث إنما يكون له فقء عينه إذا كان قد زجره وتقدم إليه فلم ينصرف عنه، كاللص إنما يباح له قتاله ودفعه عن نفسه وإن أبى ذلك عليه إذا لم ينصرف عنه بدون ذلك. قال أبو داود: حدثنا محمد بن بشار حدثنا أبو عاصم حدثنا ابن جريج أخبرني عمرو بن أبي سفيان أن عمرو بن عبيد الله بن صفوان أخبره عن كلدة بن حنبل أن صفوان بن أمية بعثه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بلبن وجداية وضغابيس وذكر حديثاً. قال الشيخ: الجداية الصغير من الظباء يقال الذكر والأنثى جداية أنشدني أبو عمرو قال أنشدنا أبو العباس: يريح بعد النفس المحفوز ... إراحة الجداية النفوز والضغابيس صغار القثاء واحدها ضغبوس، ومنه قيل للرجل الضعيف ضغبوس تبشبيهاً له به. ومن باب الرجل يستأذن بالدق قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا بشر عن شعبة عن محمد بن المنكدر عن جابر أنه ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم في دين أبيه فدققت الباب فقال من هذا، قلت أنا قال أنا أنا كأنه كرهه.

ومن باب السلام على أهل الذمة

قال الشيخ: قوله أنا ليس بجواب لقوله من هذا لأن الجواب هو ما كان بياناً للمسألة. وإنما تكون المكاني جواباً وبياناً عند المشاهدة لا مع المغايبة، وإنما كان قوله من هذا هو ما كان استكشافاً للابهام، فأجابه بقوله أنا فلم يزل الإبهام وكان وجه البيان أن يقول أنا جابر ليقع به التعريف ويزول معه الاشكال والابهام، وقد يكون ذلك من أجل تركه الاستئذان بالسلام والله أعلم. قال أبو داود: حدثنا عباس العنبري حدثنا أسود بن عامر حدثنا حسن بن صالح عن أبيه عن سلمة بن كهيل عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن عمر رضي الله عنهما أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مشربة له فقال السلام عليك يا رسول الله أيدخل عمر. قال الشيخ: قد جمع الاستئذان بالسلام والإبانة عن الاسم والتعريف وهو كمال الاستئذان، والمشربة كالخزانة تكون للإنسان مرتفعة عن وجه الأرض. ومن باب السلام على أهل الذمة قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة حدثنا عبد العزيز، يَعني ابن مسلم عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن اليهود إذا سلم عليكم أحدهم فإنما يقول السام عليكم فقولوا وعليكم. قال الشيخ: هكذا يرويه عامة المحدثين وعليكم بالواو، وكان سفيان بن عيينة يرويه عليكم بحذف الواو وهو الصواب، وذلك أنه إذا حذف الواو صار قولهم الذي قالوه بعينه مردوداً عليهم وبإدخال الواو يقع الاشتراك معهم والدخول فيما قالوه لأن الواو حرف العطف والجمع بين الشيئين، والسام فسروه الموت. ومن باب القيام قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن سعد بن إبراهيم، عَن أبي

ومن باب في قبلة الجسد

أمامة بن سهل بن حنيف، عَن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن أهل قريظة لما نزلوا على حكم سعد أرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم فجاء على حمار أقمر فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قوموا إلى سيدكم أو إلى خيركم فجاء حتى قعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الشيخ: فيه من العلم أن قول الرجل لصاحبه يا سيدي غير محظور إذا كان صاحبه خيراً فاضلاً وإنما جاءت الكراهة في تسويد الرجل الفاجر. وفيه أن قيام المرؤوس للرئيس الفاضل وللولي العادل، وقيام المتعلم للعالم مستحب غير مكروه، وإنما جاءت الكراهة فيمن كان بخلاف أهل هذه الصفات. ومعنى ما روي من قوله من أحب أن تستجم له الرجال صفوفاً هو أن يأمرهم بذلك ويلزمه إياهم على مذهب الكبر والنخوة. وفيه دليل على أن من حكم رجلاً في حكومة بينه وبين غيره فرضيا بحكمه كان ما حكم به ماضياً عليهما إذا وافق الحق. ومن باب في قبلة الجسد قال أبو داود: حدثنا عمرو بن عون أنبأنا خالد عن حصين عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أسيد بن حضير رجل من الأنصار قال بينما هو يحدث القوم وكان فيه مزاح بيننا يضحكهم فطعنه النبي صلى الله عليه وسلم في خاصرته بعود فقال أصبرني فقال اصطبر، قال ان عليك قميصاً وليس عليّ قميص فرفع النبي صلى الله عليه وسلم عن قميصه فاحتضه وجعل يقبل كشحه وقال إنما أردت هذا يا رسول الله. قال الشيخ: قوله اصبرني يريد اقدني من نفسك، وقوله اصطبر معناه استقد قال هدبة بن خشرم: فإن يك في أموالنا لم نضق بها …ذرعاً وإن صبراً فنصبر للدهر

ومن باب الرجل يقوم للرجل يعظمه بذلك

يريد بالصبر القود وفيه حجة لمن رأى القصاص في الضربة بالسوط واللطمة بالكف ونحو ذلك مما لا يوقف له على حد معلوم ينتهى إليه. وقد روي ذلك، عَن أبي بكر وعمر وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب كرم الله وجوههم ورضي عنهم. وممن ذهب إليه شريح والشعب وبه قال ابن شبرمة، وقال الحسن وقتادة لا قصاص في اللطمة ونحوها وإليه ذهب أصحاب الرأي وهو قول مالك والشافعي. ومن باب الرجل يقوم للرجل يعظمه بذلك قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن حبيب بن الشهيد، عَن أبي مجلز عن معاوية قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من أحب أن يمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار. قال الشيخ: قوله يمثل معناه يقوم وينتصب بين يديه وقد ذكرنا وجهه في الباب الذي قبله. ومن باب إماطة الأذى عن الطريق قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا حماد عن واصل عن يحيى بن عقيل عن يحيى بن يعمر، عَن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يصبح على كل سلامى من ابن آدم صدقة وذكر الحديث. السلامي عظم فرس البعير ويجمع على السلاميات هذا أصله. قال الشيخ: وليس المراد بهذا عظام الرجل خاصة ولكنه يراد به كل عظم ومفصل يعتمد في الحركة ويقع به القبض والبسط والله أعلم.

ومن باب قتل الحيات

ومن باب قتل الحيات قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا سفيان عن الزهري عن سالم عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اقتلوا الحيات وذا الطفيتين والأبتر فإنهما يلتمسان البصر ويسقطان الحَبَل. قال الشيخ: فسره أبو عبيدة وحكي عن الأصمعي قال الطفية خوصة المقل وجمعها طفى، قال وأراه شبه الخطين اللذين على ظهره بخوصتين من خوص المقل قال، وقال غيره الأبتر القصير الذنب من الحيات. ومعنى قوله يلتمسان البصر قيل فيه وجهان: أحدهما أنهما يخطفان البصر ويطمسانه وذلك لخاصية في طباعهما إذا وقع بصرهما على بصر الإنسان وقيل معناه أنهما يقصدان البصر باللسع والنهش. وقد روي في هذا الحديث من رواية أبي أمامة فإنهما يخطفان البصر ويطرحان ما في بطون النساء وهو يؤكد التفسير الأول. ومن باب قتل الذر قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا عبد الرزاق أنبأنا معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل أربع من الدواب النملة والنحلة والهدهد والصُّرَد. قال الشيخ: يقال إن النهي إنما جاء في قتل النمل في نوع منه خاص وهو الكبار منها ذوات الأرجل الطوال وذلك أنها قليلة الأذى والضرر ونهى عن قتل النحلة لما فيها من المنفعة، فأما الهدهد والصرد فنهيه في قتلهما يدل على تحريم لحومهما، وذلك أن الحيوان إذا نهي عن قتله ولم يكن ذلك لحرمته ولا لضرر

ومن باب الختان

فيه كان ذلك لتحريم لحمه، ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهى عن ذبح الحيوان إلاّ لمأكلة، ويقال إن الهدهد منتن اللحم فصار في معنى الجلالة المنهي عنها، وأما الصرد فإن العرب تتشاءم به وتتطير بصوته وشخصه، ويقال إنهم إنما كرهوا من اسمه معنى التصريد أنشدني بعض أصحابنا عن ابن الأنباري، عَن أبي العباس: غراب وظبي أعضب القرن باديا …بصرم وصِردان العشي تصيح ومن باب الختان قال أبو داود: حدثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي حدثنا مروان، قال: حَدَّثنا محمد بن حسان حدثنا عبد الوهاب الكوفي عن عبد الملك بن عمير عن أم عطية الأنصارية أن امرأة كانت تختن بالمدينة فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: لا تُنْهكي فإن ذلك أحظى للمرأة وأحب إلى البعل. قال الشيخ: قوله لا تنهكي معناه لا تبالغي في الخفض والنهك المبالغة في الضرب والقطع والشتم وغير ذلك، وقد نهكته الحمى إذا بلغت منه وأضرت به. ومن باب الرجل يسب الدهر قال أبو داود: حدثنا محمد بن الصباح حدثنا سفيان عن الزهري عن سعيد بن المسيب، عَن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يقول الله عز وجل يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر بيدي الأمر أقلب الليل والنهار. قال الشيخ: تأويل هذا الكلام أن العرب إنما كانوا يسبون الدهر على أنه هو الملم بهم في المصائب والمكاره ويضيفون الفعل فيما ينالهم منها إليه ثم يسبون فاعلها فيكون مرجع السب في ذلك إلى الله سبحانه إذ هو الفاعل لها فقيل على ذلك لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر، أي إن الله هو الفاعل لهذه الأمور التي

كتاب القضاء

تضيفونها إلى الدهر. وكان ابن داود ينكر رواية أصحاب الحديث هذا الحرف مضمومة ويقول لو كان كذلك لكان الدهر اسماً معدوداً من أسماء الله عز وجل، وكان يرويه وأنا الدهر أقلب الليل والنهار مفتوحة الراء على الظرف يقول أنا طول الدهر والزمان أقلب الليل والنهار. والمعنى الأول هو وجه الحديث. كتاب القضاء قال أبو داود: حدثنا نصر بن علي أخبرنا فضيل بن سليمان حدثنا عمرو بن أبي عمرو عن سعيد المقبري، عَن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من ولي القضاء فقد ذبح بغير سكين. قال الشيخ: معناه التحذير من طلب القضاء والحرص عليه يقول من تصدى للقضاء فقد تعرض للذبح فليحذره وليتوقه. وقوله بغير سكين يحتمل وجهين: أحدهما أن الذبح إنما يكون في ظاهر العرف بالسكين فعدل به عليه السلام عن غير ظاهر العرف وصرفه عن سنن العادة إلى غيرها ليعلم أن الذي أراده بهذا القول إنما هو ما يخاف عليه من هلاك دينه دون هلاك بدنه. والوجه الآخر أن الذبح الوجيء الذي يقع به إزهاق الروح واراحة الذبيحة وخلاصها من طول الألم وشدته إنما يكون بالسكين لأنه يجهز عليه، وإذا ذبح بغير السكين كان ذبحه خنقاً وتعذيباً فضرب المثل في ذلك ليكون أبلغ

ومن باب القاضي يخطىء

في الحذر والوقوع فيه. ومن باب القاضي يخطىء قال أبو داود: حدثنا عبيد الله بن عمر بن ميسرة حدثنا عبد العزيز يعنى ابن محمد أخبرني يزيد بن عبد الله بن الهاد عن محمد بن إبراهيم عن بُسر بن سعيد، عَن أبي قيس مولى عمرو بن العاص عن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر فحدثت به أبا بكر بن حزم فقال هكذا حدثني أبوسلمة، عَن أبي هريرة. قال الشيخ: قوله إذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر إنما يؤجر المخطىء على اجتهاده في طلب الحق لأن اجتهاده عبادة ولا يؤجر على الخطأ بل يوضع عنه الإثم فقط. وهذا فيمن كان من المجتهدين جامعاً لآلة الاجتهاد عارفاً بالأصول وبوجوه القياس. فأما من لم يكن محلاً للاجتهاد فهومتكلف ولا يعذر بالخطأ في الحكم بل يخاف عليه أعظم الوزر بدليل حديث ابن بريدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: القضاة ثلاثة واحد في الجنة واثنان في النار، أما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به ورجل عرف الحق فجار في الحكم ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار. وفيه من العلم ليس كل مجتهد مصيباً، ولو كان كل مجتهد مصيباً لم يكن لهذا التفسير معنى، وإنما يعطى هذا أن كل مجتهد معذور لا غير، وهذا إنما هو في الفروع المحتملة للوجوه المختلفة دون الأصول التي هي أركان الشريعة وأمهات الأحكام التي لا تحتمل الوجوه ولا مدخل فيها للتأويل. فإن من أخطأ فيها كان غير معذور في الخطأ وكان حكمه في ذلك مردوداً.

ومن باب كراهية الرشوة

ومن باب كراهية الرشوة قال أبو داود: حدثنا أحمد بن يونس حدثنا ابن أبي ذئب عن الحارث بن عبد الرحمن، عَن أبي سلمة عن عبد الله بن عمرو قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي. قال الشيخ: الراشي المعطي، والمرتشي الآخذ، وإنما يلحقهما العقوبة معاً إذا استويا في القصد والإرادة فرشا المعطي لينال به باطلاً ويتوصل به إلى ظلم، فأما إذا أعطى ليتوصل به إلى حق أو يدفع عن نفسه ظلماً فإنه غير داخل في هذا الوعيد. وروي أن ابن مسعود أخذ في شيء وهو بأرض الحبشة فأعطى دينارين حتى خُلي سبيله. وروي عن الحسن والشعبي وجابر بن زيد وعطاء أنهم قالوا لا بأس أن يصانع الرجل عن نفسه وماله إذا خاف الظلم. وكذلك الآخذ إنما يستحق الوعيد إذا كان ما يأخذه اما على حق يلزمه اداؤه فلا يفعل ذلك حتى يُرشا أو عمل باطل يجب عليه تركه فلا يتركه حتى يصانع ويرشا. ومن باب كيف القضاء قال أبو داود: حدثنا عمرو بن عون قال أخبرنا شريك عن سماك عن حنش عن علي عليه السلام قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قاضياً فقلت يا رسول الله ترسلني وأنا حديث السن ولا علم لي بالقضاء، فقال إن الله سيهدي قلبك ويثبت لسانك فإذا جلس بين يديك الخصمان فلا تقضين حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول فإنه أحرى أن يتبين لك القضاء، قال فما زلت قاضياً أو ما

أشككت في قضاء بعد. قال الشيخ: فيه دليل على أن الحاكم لا يقضي على غائب وذلك لأنه إذا منعه أن يقضي لأحد الخصمين وهما حاضران حتى يسمع كلام الآخر فقد دل على أنه في الغائب الذي لم يحضره ولم يسمع قوله أولى بالمنع، وذلك لإمكان أن يكون معه حجة تبطل دعوى الحاضر. وممن ذهب إلى أن الحاكم لا يقضي على غائب شريح وعمر بن عبد العزيز وأبو حنيفة وابن أبي ليلى. وقال مالك والشافعي يجوز القضاء على الغائب إذا تبين للحاكم أن فراره واستخفاءه إنما هو فرار من الحق ومعاندة للخصم. واحتج لهذه الطائفة بعضهم بخبر هند، وقوله عليه السلام لها خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف؛ وقال إذا كان الخصم حاضر زمانه لا يحكم على أحدهما قبل أن يسمع من صاحبه لجواز أن يكون مع خصمه حجة يدفع بها بينته، فإذا كان الخصم غائباً لم يجز أن يترك استماع قول خصمه الحاضر إلاّ أنه يكتب في القضية أن الغائب على حقه إذا حضر وأقام بينته أو جاء بحجته وهو إذا فعل ذلك فقد استعمل معنى الخبر في استماع قول الخصم الآخر كاستماعه قول الأول. ولو ترك الحكم على الغائب لكان ذلك ذريعة إلى إبطال الحقوق. وقد حكم أصحاب الرأي على الغائب في مواضع. منها الحكم على الميت وعلى الطفل وقال في الرجل يودع الرجل وديعة ثم يغيب فإذا ادعت امرأته النفقة وقدمت المودَع إلى الحاكم قضى لها عليه بها. وقالوا إذا ادعى للشفيع على الغائب أنه باع عقاره وسلم واستوفى الثمن فإنه يقضى له بالشفعة وكل هذا حكم على الغائب.

ومن باب قضاء القاضي إذا أخطأ

ومن باب قضاء القاضي إذا أخطأ قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن هشام بن عروة عن عروة عن زينب بنت أم سلمة عن أم سلمة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إليَّ ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو مما أسمع منه فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذ منه شيئاً فإنما أقطع له قطعة من النار. قال الشيخ: قوله ألحن بحجته أي أفطن لها، واللحن مفتوحة الحاء الفطنة؛ يقال لحنت الشيء ألحن له لحَناً ولحن الرجل في كلامه لحناً بسكون الحاء. وفيه من الفقه وجوب الحكم بالظاهر وأن حكم الحاكم لا يحل حراماً ولا يحرم حلالاً وأنه متى أخطأ في حكمه فمضى كان ذلك في الظاهر فأما في الباطن وفي حكم الآخرة فإنه غير ماض. وفيه أنه لا يجوز للمقضي له بالشيء أخذه إذا علم أنه لا يحل له فيما بينه وبين الله، ألا تراه يقول فلا يأخذ منه شيئاً فإنما اقطع له قطعة من النار. وقد يدخل في هذا الأموال والدماء والفروج كان ذلك كله حق أخيه وقد حرم عليه أخذه. وقد أجمع العلماء في هذا في الدماء والأموال وإنما الخلاف في أحكام الفروج فقال أبو حنيفة إذا ادعت المرأة على زوجها الطلاق وشهد لها شاهدان فقضى الحاكم بالتفرقة بينهما وقعت الفرقة فيما بينها وبين الله وإن كانا شاهدي زور، وجاز لكل واحد من الشاهدين أن ينكحها، وخالفه أصحابه في ذلك. قال وقد تعرض في هذا الباب أمور مما يختلف فيه اعتقاد القاضي وصاحب القضية المحكوم له بها كالرجل يذهب إلى أن الطلاق قبل النكاح لازم فيتزوج المرأة فيحكم له الحاكم بجواز النكاح فلا يسعه فيما بينه وبين الله المقام عليه ويلزمه نصف المهر بالعقد إذا

ومن باب القاضي يقضي وهو غضبان

حكم به الحاكم عليه. ولو أن رجلاً مات ابن أبيه وخلف أخاه لأبيه وأمه وخلف مالاً فقدم إلى قاض يقول بقول أبي بكر في توريث الجد والجد يرى رأي زيد لم يسعه أن يستبد بالمال دون الاخوة ولا يبيح له القاضي شيئاً هو في علمه أنه حرام عليه. وكذلك هذا فيمن لا يرى توريث ذوي الأرحام في نحو هذا من الأمور. قال أبو داود: حدثنا الربيع بن نافع أبو توبة حدثنا ابن المبارك عن أسامة بن زيد عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة قالت أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان يختصمان في مواريث لهما لم تكن لهما بينة إلاّ دعواهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم فذكر مثله فبكى الرجلان وقال كل واحد منهما حقي لك، فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم: أما إذا فعلتما ما فعلتما فاقتسما وتوخيا الحق ثم استَهَما ثم تحالا. قال الشيخ: قوله استهما معناه اقترعا والاستهام الاقتراع ومنه قوله تعالى {فساهم فكان من المدحضين} [الصافات: 411] وفيه دليل على أن الصلح لا يصح إلاّ في الشيء المعلوم ولذلك أمرهما بالتوخي في مقدار الحق ثم لم يقنع فيه بالتوخي حتى ضم إليه القرعة، وذلك أن التوخي إنما هو أكثر الرأي وغالب الظن والقرعة نوع من البينة فهي أقوى من التوخي ثم أمرهما بعد ذلك بالتحليل ليكون تصادرهما عن تعين براءة وافتراقهما عن طيب نفس ورضى. وفيه دليل على أن التحليل إنما يصح فيما كان معلوم المقدار غير مجهول الكمية. ومن باب القاضي يقضي وهو غضبان قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن عبد الملك بن عمير حدثنا عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه أنه كتب إلى ابنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

ومن باب اجتهاد الرأي في القضاء

لا يقضي الحاكم بين اثنين وهو غضبان. قال الشيخ: الغضب يغير العقل ويحيل الطباع عن الاعتدال فلذلك أمرالحاكم بالتوقف في الحكم ما دام به الغضب. فقياس ما كان في معناه من جوع مفرط وفزع مدهش ومرض موجع قياس الغضب في المنع من الحكم. ومن باب اجتهاد الرأي في القضاء قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر عن شعبة، عَن أبي عون عن الحارث بن عمرو ابن أخي المغيرة بن شعبة عن أناس من أهل حمص من أصحاب معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يبعث معاذاً إلى اليمن قال: كيف تقضي إذا عرض لك قضاء قال أقضي بكتاب الله، قال فإن لم تجد في كتاب الله، قال فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال فإن لم تجد في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا في كتاب الله، قال اجتهد برأيي ولا آلو فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره وقال الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله. قال الشيخ: قوله اجتهد برأيي يريد الاجتهاد في رد القضية من طريق القياس إلى معنى الكتاب والسنة ولم يرد الرأي الذي يسنح له من قبل نفسه أو يخطر بباله عن غير أصل من كتاب أو سنة. وفي هذا إثبات القياس وإيجاب الحكم به. وفيه دليل على أنه ليس للحاكم أن يقلد غيره فيما يريد أن يحكم به وإن كان المقلد أعلم منه وافقه حتى يجتهد فيما يسمعه منه فإن وافق رأيه واجتهاده أمضاه وإلا توقف عنه لأن التقليد خارج من هذه الأقسام المذكورة في الحديث. وقوله لا آلو معناه لا أقصر في الاجتهاد ولا أترك بلوغ الوسع فيه.

ومن باب في الصلح

ومن باب في الصلح قال أبو داود: حدثنا سليمان بن داود المهري أخبرنا ابن وهب أخبرني سليمان بن بلال (ح) وحدثنا أحمد بن عبد الواحد الدمشقي حدثنا مروان، يَعني ابن محمد حدثنا سليمان بن بلال أو عبد العزيز بن محمد شك الشيخ عن كثير بن زيد عن الوليد بن رباح، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الصلح جائز بين المسلمين زاد أحمد إلاّ صلحاً حرم حلالاً أو أحل حراماً، زاد سليمان بن داود وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المسلمون على شروطهم. قال الشيخ: الصلح يجري مجرى المعاوضات ولذلك لا يجوز إلاّ فيما أوجب المال ولا يجوز في دعوى القذف ولا على دعوى الزوجية وعلى مجهل ولا أن يصالحه من دين له على مال نسيه لأنه من باب الكال بالكال ولا يجوز الصلح في قول مالك على الأقرار، ولا يجوز في قول الشافعي على الإنكار. وجوزه أصحاب الرأي على الأقرار والإنكار معاً. ونوع آخر من الصلح وهو أن يصالحه في مال على بعضه نقداً وهذا من باب الحظ والإبراء وإن كان يدعي صلحاً. وقوله المسلمون على شروطهم فهذا في الشروط الجائزة في حق الدين دون الشروط الفاسدة وهذا من باب ما أمرالله تعالى من الوفاء بالعقود. قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب قال أخبرني عبد الله بن كعب أن كعب بن مالك أخبره أنه تقاضى ابن أبي حدرد ديناً كان له عليه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد فارتفعت أصواتهما حتى سمعهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيته فخرج إليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كشف سجف حجرته ونادى كعب بن مالك فقال يا كعب، فقال لبيك يا رسول الله

ومن باب في الشهادات

فأشار له بيده أن ضع الشطر من دينك، قال كعب قد فعلت يا رسول الله قال النبي صلى الله عليه وسلم: قم فاقضه. قال الشيخ: فيه من الفقه أن للقاضي أن يصلح بين الخصمين وأن الصلح إذا كان على وجه الحط والوضع من الحق يجب نقداً. وفيه جواز ملازمة الغريم واقتضاء الحق منه في المسجد. ومن باب في الشهادات قال أبو داود: حدثنا ابن السرح وأحمد بن سعيد الهمداني قالا أخبرنا ابن وهب قال أخبرني مالك بن أنس عن عبد الله بن أبي بكر أن أباه أخبره أن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان أخبره أن عبد الرحمن بن أبي عمرة الأنصاري أخبره أن زيد بن خالد الجهني أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ألا أخبركم بخير الشهداء الذي يأتي بشهادته أو يخبر بشهادته قبل أن يُسألها شك عبد الله بن أبي بكر ايتهما قال. قال الشيخ: أما الشهادة في الحق يدعيه الرجل قبل صاحبه فيخبر بها الشاهد قبل أن يسألها فإنه لا قرار لها ولا يجب تنجيز الحكم بها حتى يستشهده صاحب الحق فيقيمها عند الحاكم، وإنما هذا في الشهادة تكون عند الرجل ولا يعلم بها صاحب الحق فيخبره بها ولا يكتمه إياها. وقيل هذا في الأمانة والوديعة تكون لليتيم لا يعلم بمكانها غيره فيخبره بما يعلمه من ذلك، وقيل هذا مثل في سرعة إجابة الشاهد إذا استشهد لا يمنعها ولا يؤخرها. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: يأتي أقوام فيحلفون ولا يستحلفون ويشهدون ولا يستشهدون

ومن باب فيمن يعين على خصومة من غير أن يعلم أمرها

فإنما هو إذا كان على المعنى الأول. وقيل أراد بها الشهادات التي يقطع بها على المغيب فيقال فلان في الجنة وفلان في النار. وفيه معنى التألي على الله تعالى ولذلك ذم وزجر عنه. ومن باب فيمن يعين على خصومة من غير أن يعلم أمرها قال أبو داود: حدثنا أحمد بن يونس حدثنا زهير حدثنا عمارة بن غزية عن يحيى بن راشد قال جلسنا لعبد الله بن عمر فخرج إلينا فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من قال في مؤمن ما ليس فيه أسكنه الله ردغة الخبال حتى يخرج مما قال. قال الشيخ: الردغة الوحل الشديد، ويقال ارتدغ الرجل إذا ارتطم في الوحل. وجاء في تفسير ردغة الخبال أنها عصارة أهل النار. ومن باب من ترد شهادته قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر حدثنا محمد بن راشد حدثنا سليمان بن موسى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد شهادة الخائن والخائنة وذي الغِمر على أخيه ورد شهادة القانع لأهل البيت وأجازها لغيرهم. قال الشيخ: قال أبو عبيد لا نراه خص به الخيانة في أمانات الناس دون ما فرض الله على عباده وائتمنهم عليه فإنه قد سمى ذلك كله أمانة فقال تعالى {يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون} [الأنفال: 27] فمن ضيع شيئاً مما أمر الله أو ركب شيئاً مما نهاه الله عنه فليس بعدل لأنه قد لزمه اسم الخيانة.

ومن باب شهادة البدوي على أهل الأمصار

وأما ذو الغمر فهو الذي بينه وبين المشهود عليه عداوة ظاهرة فرد شهادته للتهمة. وقال أبو حنيفة شهادد على العدو مقبولة إذا كان عدلاً. والقانع السائل والمستطعم وأصل القنوع السؤال، ويقال إن القانع المنقطع إلى القوم لخدمتهم ويكون في حوائجهم كالأجير والوكيل ونحوه. ومعنى رد هذه الشهادة التهمة في جر النفع إلى نفسه لأن التابع لأهل البيت ينتفع بما يصير إليهم من نفع وكل من جر إلى نفسه بشهادته نفعاً فهي مردودة كمن شهد لرجل على شراء دار وهو شفيعها، وكمن حكم له على رجل بدين وهو مفلس فشهد للمفلس على رجل بدين ونحوه. ومن رد شهادة القانع لأهل البيت بسبب جر المنفعة فقياس قوله أن يرد شهادة الزوج لزوجته لأن ما بينهما من التهمة في جر النفع أكثر، وإلى هذا ذهب أبو حنيفة. والحديث أيضاً حجة على من أجاز شهادة الأب لابنه لأنه يجر به النفع لما جبل عليه من حبه الميل إليه ولأنه يملك عليه ماله، وقد قال عليه السلام لرجل أنت ومالك لأبيك، وذهب شريح إلى جواز شهادة الأب للابن وهو قول المزني وأبو ثور وأحسبه قول داود. ومن باب شهادة البدوي على أهل الأمصار قال أبو داود: حدثنا أحمد بن سعيد الهمداني أخبرنا ابن وهب أخبرني يحيى بن أيوب ونافع بن يزيد عن ابن الهاد عن محمد بن عمرو عن عطاء بن يسار، عَن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا تجوز شهادة بدوي على صاحب قرية.

ومن باب الشهادة في الرضاع

قال الشيخ: يشبه أن يكون إنما كره شهادة أهل البدو لما فيهم من الجفاء في الدين والجهالة بأحكام الشريعة ولأنهم في الغالب لا يضبطون الشهادة على وجهها ولا يقيمونها على حقها لقصورعلمهم عما يحيلها ويغيرها على جهتها. وقال مالك لا تجوز شهادة البدوي على القروي لأن في الحضارة من يغنيه عن البدوي إلاّ أن يكون في بادية أوقرية. والذي يشهد بدوياً ويدع جيرته من أهل الحضر عندي مريب. وقال عامة العلماء شهادة البدوي إذا كان عدلاً يقيم الشهادة على وجهها جائزة. ومن باب الشهادة في الرضاع قال أبو داود: حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن ابن أبي مليكة قال حدثني عقبة بن الحارث وحدثنيه صاحب لي عنه وأنا لحديث صاحبي احفظ، قال تزوجت أم يحيى بنت أبي أهاب فدخلت علينا امرأة سوداء فزعمت أنها ارضعتنا جميعاً فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فأعرض عني فقلت يا رسول الله إنها لكاذبة، قال وما يدريك وقد قالت ما قالت دعها عنك. قال الشيخ: قوله وما يدريك تعليق منه القول في أمرها، وقوله دعها عنك إشارة منه بالكف عنها من طريق الورع لا من طريق الحكم، وليس في هذا دلالة على وجوب قبول قول المرأة الواحدة في هذا وفيما لا يطلع عليه الرجال من أمر النساء لأن من شرط الشاهد من كان من رجل أو امرأة أن يكون عدلاً وسبل الشهادات أن تقام عند الأئمة والحكام وإنما هذه امرأة جاءته فأخبرته بأمر هو من فعلها وهو بين مكذب لها ولم يكن هذا القول منها

ومن باب شهادة أهل الذمة في الوصية في السفر

شهادة عند النبي صلى الله عليه وسلم فتكون سبباً للحكم والاحتجاج به في إجازة شهادة المرأة الواحدة في هذه وفيما أشبهه من الباب ساقط. واختلف في عدد من تقبل شهادته من النساء في الرضاع. فقال ابن عباس شهادة المرأة الواحدة تقبل فيما لا يطلع عليه الرجال. وأجاز شهادة القابلة وحدها في الاستهلال، وقد روي عن الشعبي والنخعي. وقال عطاء وقتادة لا تجوز في ذلك أقل من أربع نسوة وإليه ذهب الشافعي. وقال مالك تجوز شهادة امرأتين وهو قول ابن أبي ليلى وابن شبرمة. ومن باب شهادة أهل الذمة في الوصية في السفر قال أبو داود: حدثنا زياد بن أيوب حدثنا هشيم أخبرنا زكريا عن الشعبي أن رجلاً من المسلمين حضرته الوفاة بدَقوقاء هذه ولم يجد أحداً من المسلمين يشهده على وصيته فأشهد رجلين من أهل الكتاب فقدما الكوفة فأتيا أبا موسى الأشعري فأخبراه وقدما بتركته ووصيته فقال الأشعري هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحلَفَهما بعد العصر بالله ما خانا ولا كذبا ولا بدلا ولا كتما ولا غيرا وأنها لوصية الرجل وتركته فأمضى شهادتهما. قال الشيخ: فيه دليل على أن شهادة أهل الذمة مقبولة على وصية المسلم في السفر خاصة وممن روي عنه أنه قبلها في مثل هذه الحالة شريح وإبراهيم النخعي وهو قول الأوزاعي. وقال أحمد لا تقبل شهادتهم إلاّ في مثل هذا الموضع للضرورة. وقال الشافعي لا تقبل شهادة الذمي من جه لا على مسلم ولا على كافر وهو قول مالك. وقال أحمد لا تجوز شهادة أهل الكتاب بعضهم على بعض.

وقال أصحاب الرأي شهادة بعضهم على بعض جائزة والكفر كله ملة واحدة. وقال آخرون شهادة اليهودي على اليهودي جائزة ولا تجوز على النصراني والمجوسي لأنها ملل مختلفة ولا تجوز شهادة أهل ملة على ملة أخرى. هذا قول الشعبي وابن أبي ليلى وإسحاق بن راهويه، وحكي ذلك عن الزهري قال وذلك للعداوة التي ذكرها الله بين هذه الفرق. قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي حدثنا يحيى بن آدم حدثنا ابن أبي زائدة عن محمد بن أبي القاسم عن عبد الملك بن سعيد بن جبير عن أبيه عن ابن عباس قال خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري وعدي بن بَدَّاء فمات السهمي بأرض ليس فيها مسلم، فلما قدما بتركته فقدوا جام فضة مخوَّصاً بالذهب فأحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم وجد الجام بمكة فقالوا اشتريناه من تميم وعدي فقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا لشهادتنا أحق من شهادتهما وإن الجام لصاحبنا قال فنزلت فيهم {يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت} الآية [المائدة: 106] . قال الشيخ: فيه حجة لمن رأى رد اليمين على المدعي والآية محكمة لم تنسخ في قول عائشة والحسن البصري وعمرو بن شرحبيل، وقالوا المائدة آخر ما نزل من القرآن لم ينسخ منها شيء؛ وتأول من ذهب إلى خلاف هذا القول الآيه على الوصية دون الشهادة لأن نزول الآية إنما كان في الوصية، وتميم الدارى وصاحبه عدي بن بداء إنما كانا وصيين لا شاهدين والشهود لا يحلفون، وقد حلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما عبر بالشهادة عن الأمانة التي تحملاها وهو معنى قوله تعالى {ولا نكتم شهادة الله} [المائدة: 106] أي أمانة الله، وقالوا معنى قوله {أو آخران من غيركم} [المائدة: 06 1] أي من غير قبيلتكم وذلك أن الغالب في الوصية أن الموصي يشهد

ومن باب إذا علم الحاكم صدق شهادة الواحد

أقربائه وعشيرته دون الأجانب والأباعد، ومنهم من زعم أن الآية منسوخة والقول الأول أصح والله أعلم. ومن باب إذا علم الحاكم صدق شهادة الواحد يجوز له أن يقضي به قال أبو داود: حدثنا محمد بن يحيى بن فارس أن الحكم بن نافع حدثهم قال أخبرنا شعيب عن الزهري عن عمارة بن خزيمة أن عمه حدثه وهو من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتاع فرساً من أعرابي فاستتبعه النبي صلى الله عليه وسلم ليقضيه ثمن فرسه فأسرع رسول الله صلى الله عليه وسلم المشى وابطأ الأعرابي فطفق رجال يعترضون الأعرابي فيساومونه الفرس ولا يشعرون أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتاعه فنادى الأعرابي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن كنت مبتاعاً هذا الفرس وإلا بعته فقام النبي صلى الله عليه وسلم حين سمع نداء الأعرابي فقال أو ليس قد ابتعته منك، قال الأعرابي لا والله ما بعتكه فقال النبي صلى الله عليه وسلم بلى قد ابتعته منك فطفق الأعرابي يقول هلم شهيداً فقال خزيمة بن ثابت أنا أشهد أنك قد بايعته فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم على خزيمة فقال بم تشهد فقال بتصديقك يا رسول الله فجعل النبي صلى الله عليه وسلم شهادة خزيمة بشهادة رجلين. قال الشيخ: هذا حديث يضعه كثير من الناس غير موضعه وقد تذرع به قوم من أهل البدع إلى استحلال الشهادة لمن عرف عنده بالصدق على كل شىء ادعاه، وإنما وجه الحديث ومعناه أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما حكم على الأعرابي بعلمه إذ كان النبي صلى الله عليه وسلم صادقاً باراً في قوله وجرت شهادة خزيمة في ذلك مجرى التوكيد لقوله والاستظهار بها على خصمه فصارت في التقدير شهادته له وتصديقه إياه على قوله كشهادة رجلين في سائر القضايا.

ومن باب القضاء باليمين والشاهد

ومن باب القضاء باليمين والشاهد قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة والحسن بن علي أن زيد بن الحباب حدثهم، قال: حَدَّثنا سيف المكي قال عثمان عن سيف بن سليمان عن قيس بن سعد عن عمرو بن دينار عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بيمين وشاهد. قال الشيخ: يريد أنه قضى للمدعي بيمينه مع شاهد واحد كأنه أقام اليمين مقام شاهد آخر فصار كالشاهدين. وهذا خاص في الأموال دون غيرها لأن الراوي وقفه عليها، والخاص لا يتعدى به محله ولا يقاس عليه غيره واقتضاء العموم منه غير جائز لأنه حكاية فعل والفعل لا عموم له فوجب صرفه إلى أمر خاص فلما قال الراوي هو في الأموال كان مقصوراً عليه. وقد رأى الحكم باليمين مع الشاهد الواحد أجلة الصحابة وأكثر التابعين. وفقهاء الأمصار، وأباه أصحاب الرأي وابن أبي ليلى، وقد حكي ذلك أيضاً عن النخعي والشعبي. واحتج بعضهم في ذلك بقوله عليه السلام البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه، وهذا ليس بمخالف لحديث اليمين مع الشاهد، وإنما هو في اليمين إذا كان مجرداً وهذه يمين مقرونه ببينة فكل واحد منهما غير الأخرى فإذا تباين محلاهما جاز أن يختلف حكماهما. قال أبو داود: حدثنا أحمد بن عبدة حدثنا عمار بن شعيث بن عبد الله بن الزُّبَيب العنبري حدثني أبي قال سمعت جدي الزبيب يقول بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشاً إلى بني العنبر فأخذوهم برُكْبة من ناحية الطائف فاستاقوهم إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم فركبت فسبقتهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقلت السلام عليك يا نبي الله ورحمة الله

وبركاته أتانا جندك فأخذونا وقد كنا أسلمنا وخضرمنا آذان النعم فلما قدم بَلْعنبر قال لي نبي الله صلى الله عليه وسلم هل لكم بينة على أنكم أسلمتم قبل ان تؤخذوا في هذه الأيام، قلت نعم قال من بينتك قلت سمره رجل من بني العنبر ورجل آخر سماه له فشهد الرجل وأبى سمرة أن يشهد، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم قد أبى أن يشهد لك فتحلف مع شاهدك الآخر فقلت نعم فاستحلفني فحلفت بالله لقد أسلمنا يوم كذا وكذا وخضرمنا آذان النعم فقال النبي صلى الله عليه وسلم اذهبوا فقاسموهم أنصاف الأموال ولا تمسوا ذراريهم لولا أن الله تعالى لا يحب ضلالة العمل ما رزيناكم عِقالاً. قال الزبيب فدعتني أمي فقالت هذا الرجل أخذ زِربيتي فانصرفت إلى نبي الله، يَعني فأخبرته فقال لي احبسه فأخذت بتلبيبه وقمت معه مكاننا ثم نظر إلينا نبي الله صلى الله عليه وسلم قائمين، فقال ما تريد بأسيرك فأرسلته من يدي فقام نبي الله صلى الله عليه وسلم فقال للرجل رد على هذا زِربية أمه التي أخذت منها قال يا نبي الله إنها خرجت من يدي قال فاختلع نبي الله صلى الله عليه وسلم سيف الرجل فأعطانيه فقال للرجل اذهب فزده آصعا من طعام، قال فزادني آصعا من شعير. قال الشيخ: قوله خضرمنا آذان النعم أي قطعنا أطراف آذانها وكان ذلك في الأموال علامة بين من أسلم وبين من لم يسلم. والمخضرمون قوم أدركوا الجاهلية وبقوا إلى أن أسلموا ويقال إن أصل الخضرمة خلط الشيء بالشيء. وضلالة العمل بطلانه وذهاب نفعه ويقال ضل اللبن في الماء إذا بطل وتلف. وقوله ما رزيناكم عقالاً اللغة الفصيحة ما رزأناكم بالهمز يريد ما أصبنا من أموالكم عقالاً، ويقال ما رزأته زبالاً أي ما أصبت منه ما تحمله نملة، والزربية الطنفسة.

ومن باب الرجلين يدعيان شيئا وليس بينهما بينة

وفي الحديث استعمال اليمين مع الشاهد في غير الأموال إلاّ أن إسناده ليس بذاك. وقد يحتمل أيضاً أن يكون اليمين قد قصد بها ههنا الأموال لأن الإسلام يعصم المال كما يحقن الدم. وقد ذهب قوم من العلماء إلى إيجاب اليمين مع البينة العادلة. كان شريح والشعبي والنخعي يرون أن يستحلف الرجل مع بينته، واستحلف شريح رجلاً فكأنه تأبى لليمين فقال بئس ما تثني على شهودي وهو قول سوار بن عبد الله القاضي. وقال إسحاق إذا استراب الحاكم أوجب ذلك. ومن باب الرجلين يدعيان شيئاً وليس بينهما بينة قال أبو داود: حدثنا محمد بن منهال الضرير حدثنا يزيد بن زريع حدثنا ابن أبي عروبة عن قتادة عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه عن جده أبي موسى الأشعري أن رجلين ادعيا بعيراً أو دابة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليس لواحد منهما بينة فجعله النبي صلى الله عليه وسلم بينهما. قال الشيخ: يشبه أن يكون هذا البعير أو الدابة كان في أيديهما معاً فجعله النبي صلى الله عليه وسلم بينهما لاستوائهما في الملك باليد ولولا ذلك لم يكونا بنفس الدعوى يستحقانه لو كان الشيء في يد غيره. قال أبو داود: حدثنا محمد بن بشار حدثنا حجاج بن منهال حدثنا همام عن قتادة بمعنى إسناده أن رجلين ادعيا بعيراً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فبعث كل واحد منهما شاهدين فقسمه النبي صلى الله عليه وسلم بينهما نصفين. قال الشيخ: وهذا مروي بالإسناد الأول، إلاّ أن الحديث المتقدم أنه لم يكن لواحد منهما بينة وفي هذا إن كل واحد منهما قد جاء بشاهدين فاحتمل

أن يكون القصة واحدة، إلاّ أن الشهادات لما تعارضت تساقطت فصارا كمن لا بينة له وحكم لهما بالشيء نصفين بينهما لاستوائهما في اليد. ويحتمل أن يكون البعير في يد غيرهما، فلما أقام كل واحد منهما شاهدين على دعواه نزع الشيء من يد المدعى عليه ودفع إليهما. وقد اختلف العلماء في الشيء يكون في يدي الرجل فيتداعاه اثنان ويقيم كل واحد منهما بينة فقال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه يقرع بينهما فمن خرجت له القرعة صار له. وكان الشافعي يقول به قديماً ثم قال في الجديد فيه قولان أحدهما يقضي به بينهما نصفين وبه قال أصحاب الرأي وسفيان الثوري. والقول الآخر يقرع بينهما وأيهما خرج سهمه حلف لقد شهد شهوده بحق ثم يقضي له به. وقال مالك لا أحكم به لواحد منهما إذا كان في يد غيرهما، وحكي عنه أنه قال هو لأعدلهما شهوداً وأشهرهما بالصلاح. وقال الأوزاعي يؤخذ بأكثر البينتين عدداً، وحكي عن الشعبي أنه قال هو بينهما على حصص الشهود. قال أبو داود: حدثنا محمد بن منهال حدثنا يزيد بن زريع حدثنا ابن أبي عروبة عن قتادة عن خِلاس عن أبى رافع، عَن أبي هريرة أن رجلين اختصما في متاع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليس لواحد منهمإ بينة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم استهما على اليمين ما كان أحبا ذلك أو كرها. قال الشيخ: معنى الاستهام هنا الاقتراع يريدا أنهما يقترعان فأيهما خرجت

ومن باب الرجل يحلف على علمه فيما غاب عنه

له القرعة حلف وأخذ ما ادعاه، وروي ما يشبه هذا عن علي رضي الله عنه قال حنش بن المعتمر أتي علي ببغل وجد في السوق يُباع، فقال رجل هذا بغلي لم ابع ولم أهب ونزع على قال بخمسة يشهدون، قال وجاء آخر يدعيه يزعم أنه بغله وجاء بشاهدين، فقال علي رضي الله عنه إن فيه قضاءً وصلحاً وسوف أبين لكم ذلك كله، أما صلحه أن يباع البغل فيقسم ثمنه على سبعة أسهم لهذا خمسة ولهذا اثنان، وإن لم يصطلحوا إلاّ القضاء فإنه يحلف أحد الخصمين أنه بغله ما باعه ولا وهبه فإن تشاححتما أيكم يحلف أقرعنا بينكما على الحلف فأيكما قرع حلف قال فقضى بهذا وأنا شاهد. ومن باب الرجل يحلف على علمه فيما غاب عنه قال أبو داود: حدثنا هناد بن السري حدثنا أبو الأحوص عن سماك عن علقمة بن وائل بن حجر الحضرمي عن أبيه قال جاء رجل من حضرموت ورجل من كندة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الحضرمي يا رسول الله إن هذا غلبني على أرض كانت لأبي، فقال الكندي هي أرضي في يدي أزرعها ليس له فيها حق فقال النبي صلى الله عليه وسلم للحضرمي ألك بينة قال لا، قال فلك يمينه، قال يا رسول الله أنه فاجر ليس يبالي ما حلف ليس يتورع من شيء، فقال ليس لك منه إلاّ ذلك. قال الشيخ: فيه من الفقه أن المدعى عليه يبرأ باليمين من دعوى صاحبه، وفيه أن يمين الفاجر كيمين البر في الحكم. وفيه دليل على سقوط التباعة فيما يجري بين الخصمين من التشاجر والتنازع إذا ادعى على الآخر الظلم والاستحلال ما لم يعلم خلافه.

ومن باب الحبس في الدين وغيره

ومن باب الحبس في الدين وغيره قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن محمد النفيلى حدثنا عبد الله بن المبارك عن وَبْر بن أبي دُليلة عن محمد بن ميمون عن عمرو بن الشريد عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ليُّ الواجد يُحِل عرضه وعقوبته. قال ابن المبارك يحل عرضه أي يغلظ له، وعقوبته يحبس له. قال الشيخ: في الحديث دليل على أن المعسر لا حبس عليه لأنه إنما أباح حبسه إذا كان واجداً والمعدم غير واجد فلا حبس عليه. وقد اختلف الناس في هذا فكان شريح يرى حبس الملي والمعدم، وإلى هذا ذهب أصحاب الرأي. وقال مالك لا حبس على معسر إنما حظه الإنظار. ومذهب الشافعي ان من كان ظاهر حاله العسر فلا يحبس، ومن كان ظاهر حاله اليسار حبس إذا امتنع من أداء الحق. ومن أصحابه من يدعي فيه زيادة شرط وقد بينه. قال أبو داود: حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي أخبرنا عبد الرزاق عن معمر عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس رجلاً في تهمة. قال الشيخ: فيه دليل على أن الحبس على ضربين حبس عقوبة وحبس استظهار. فالعقوبة لا تكون إلاّ في واجب. وأما ما كان في تهمة فإنما يستظهر بذلك ليستكشف به عما وراءه. وقد روي أنه حبس رجلاً في تهمة ساعة من نهار ثم خلى سبيله. ومن باب القضاء قال أبو داود: حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا المثنى بن سعيد عن قتادة عن بشير

بن كعب العدوي، عَن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا تدارأتم في طريق فاجعلوه سبعة أذرع. قال الشيخ: هذا في الطرق الشارعة والسلُك النافذة التي كثر فيها المارة أمر بتوسعتها لئلا تضيق عن الحمولة دون الأزقة الروابع التي لا تنفذ ودون الطرق التي يدخل منها القوم إلى بيوتهم إذا اقتسم الشركاء بينهم ربعا وأحرزوا حصصهم وتركوا بينهم طريقاً يدخلون منه إليها. ويشبه أن يكون هذا على معنى الارفاق والاستصلاح دون الحصر والتحديد. قال أبو داود: حدثنا مسدد وابن أبي خلف قالا: حَدَّثنا سفيان عن الزهري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استأذن أحدكم أخاه أن يغرز خشبة في جداره فلا يمنعه. فنكَسوا فقال مالي أراكم قد أعرضتم لألقينها بين أكتافكم. قال الشيخ: عامة العلماء يذهبون في تأويله إلى أنه ليس بإيجاب يحمل عليه الناس من جهة الحكم، وإنما هو من باب المعروف وحسن الجوار، إلاّ أحمد بن حنبل فإنه رآه على الوجوب وقال على الحكام أن يقضوا به على الجار ويمضوه عليه إن امتنع منه. قال أبو داود: حدثنا سليمان بن داود العتَكي حدثنا حماد حدثنا واصل مولى أبي عيينة، قال سمعت أبا جعفر محمد بن علي يحدث عن سمرة بن جندب أنه كانت له عَضدُ من نخل في حائط رجل من الأنصار قال ومع الرجل أهله قال فكان سمرة يدخل إلى نخله فيتأذى به ويشق عليه فطلب إليه يبيعه فأبى، فطلب إليه أن يناقله فأبى فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فطلب إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيعه فأبى فطلب إليه أن يناقله فأبى، قال فهبه له ولك كذا وكذا أمراً رغبه فيه فأبى

فقال أنت مُضار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصاري اذهب فاقلع نخله. قال الشيخ: رواه أبو داود عُضداً وإنما هو عضيد من نخيل يريد نخلا لم تنسق ولم تطل، قال الأصمعي إذا صار للنخلة جذعة يتناول منه المتناول فتلك النخلة العضيد وجمعه عضيدات. وفيه من العلم أنه أمر بإزالة الضرر عنه وليس في هذا الخبر أنه قلع نخله. ويشبه أن يكون أنه إنما قال ذلك ليردعه به عن الأضرار. قال أبو داود: حدثنا أبو الوليد الطيالسي حدثنا الليث عن الزهري عن عروة أن عبد الله بن الزبير حدثه أن رجلاً خاصم الزبير في شِراج الحرة التي يسقون بها فقال الأنصاري سرح الماء فأبى عليه الزبير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للزبير اسق يا زبير ثم أرسل إلى جارك، قال فغضب الأنصاري فقال يا رسول الله إن كان ابن عمتك. فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال اسق ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجَدْر، فقال الزبير فوالله إني لأحسب هذه الآية نزلت في ذلك {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما} [النساء: 65] . قال الشيخ: شراج الحرة مجاري الماء الذي يسيل منها واحده شَرْج، ومنه قول الشاعر يصف دلواً: قد سقطت في قصة من شرج ... ثم استقلت مثل شدق العلج وفيه من الفقه أن أصل المياه الأودية والسيول التي لا تملك منابعها ولم تستنبط بحفر وعمل الإباحه وأن الناس شرع سواء في الارتفاق بها، وأن من سبق إلى شيء منها فأحرزه كان أحق به من غيره.

كتاب العلم

وفيه دليل على أن أهل الشرب الأعلى مقدمون على من هو أسفل لسبقه إليه وأنه ليس للأعلى أن يحبسه عن الأسفل إذا أخذ حاجته منه. فأما إذا كان أصل منبع الماء ملك لقوم وهم فيه شركاء أو كانت أيديهم عليه معاً فإن الأعلى والأسفل فيه سواء، فإن اصطلحوا على أن يكون نوباً بينهم فهو على ما تراضوا به وإن تشاحوا اقترعوا فمن خرجت له القرعة كان مبدوءاً به. وقد اختلف الناس في تأويل هذا الحديث فذهب بعضهم إلى أن القول الأول إنما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجه المشورة للزبير وعلى سبيل المسألة في أن يطيب نفساً لجاره الأنصاري دون أن يكون ذلك منه حكماً عليه، فلما خالفه الأنصاري حكم عليه بالواجب من حكم الدين. وذهب بعضهم إلى أنه قد كفر حين ظن برسول الله صلى الله عليه وسلم المحاباة للزبير إذ كان ابن عمته وإن ذلك القول منه كان ارتداداً عن الدين، وإذا ارتد عن الإسلام زال ملكه وكان فيئاً فصرفه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الزبير إذ كان له أن يضع الفيء حيث أراه الله تعالى. وفيه مسند لمن رأى جواز نسخ الشيء قبل العمل به. كتاب العلم ومن باب فضل العلم قال أبو داود: حدثنا مسدد بن مسرهد حدثنا عبد الله بن داود قال سمعت عاصم بن رجاء بن حيوة يحدث عن داود بن جميل عن كثير بن قيس قال كنت جالساً مع أبي الدرداء في مسجد دمشق فجاءه رجل فقال با أبا الدرداء إني

جئتك من مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم لحديث بلغني أنك تحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جئت لحاجة، قال فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله به طريقاً من طرق الجنة وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضىً لطالب العلم وإن العالم ليستغفر له من في السموات والأرض والحيتان في جوف الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب وأن العلماء ورثة الأنبياء؛ وأن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً ورَّثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر. قال الشيخ: قوله إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم يتأول على وجوه أحدها أن يكون وضعها الأجنحة بمعنى التواضع والخشوع تعظيماً لحقه وتوقيراً لعلمه كقوله تعالى {واخفض لهما جناح الذل من الرحمة} [الإسراء: 24] وقيل وضع الجناح معناه الكف عن الطيران للنزول عنده كقوله ما من قوم يذكرون الله إلاّ حفت بهم الملائكة وغشيتهم الرحمة. وقيل معناه بسط الجناح وفرشها لطالب العلم لتحمله عليها فتبلغه حيث يؤمه ويقصده من البقاع في طلبه ومعناه المعونه وتيسير الننبعي له في طلب العلم والله أعلم. وقيل في قوله وتستغفر له الحيتان في جوف الماء إن الله قد قيض للحيتان وغيرها من أنواع الحيوان بالعلم على ألسنة العلماء أنواعاً من المنافع والمصالح والارفاق فهم الذين بينوا الحكم فيها فيما يحل ويحرم منها وارشدوا إلى المصلحة في بابها وأوصوا بالإحسان إليها ونفي الضرر عنها فألهمها الله الاستغفار للعلماء مجازاة على حسن صنيعهم بها وشفقتهم عليها.

ومن باب كتابة العلم

ومن باب كتابة العلم قال أبو داود: حدثنا مسدد وأبو بكر بن أبي شيبة قالا: حَدَّثنا يحيى عن عبيد الله بن الأخنس عن الوليد بن عبد الله بن أبي مغيث عن يوسف بن ماهك عن عبد الله بن عمرو قال كنت اكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه فنهتني قريش وقالوا تكتب كل شيء تسمعه ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر يتكلم في الغضب والرضا فأمسكت عن الكتاب فذكرت ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأومأ بأصبعه إلى فيه فقال اكتب فو الذي نفسي بيده ما يخرج منه إلاّ حق. قال أبو داود: حدثنا نصر بن علي أخبرنا أبو أحمد حدثنا كثير بن زيد عن المطلب بن عبد الله بن حنطب قال دخل زيد بن ثابت على معاوية فسأله عن حديث فأمر إنساناً فيكتبه، فقال له زيد إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا أن لا نكتب شيئاً من حديثه فمحاه. قال الشيخ: يشبه أن يكون النهي متقدماً وآخر الأمرين الإباحة، وقد قيل أنه إنما نهى أن يكتب الحديث مع القرآن في صحيفة واحدة لئلا يختلط به ويشتبه على القارىء فأما أن يكون نفس الكتاب محظوراً وتقييد العلم بالخط منهياً عنه فلا. وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته بالتبليغ وقال ليبلغ الشاهد الغائب فإذا لم يقيدوا ما يسمعونه منه تعذر التبليغ ولم يؤمن ذهاب العلم وأن يسقط أكثر الحديث فلا يبلغ آخر القرون من الأمة، وللنسبان من طبع أكثر البشر والحفظ غير مأمون عليه الغلط، وقد قال صلى الله عليه وسلم لرجل شكى إليه سوء الحفظ استعن بيمينك، وقال اكتبوها لأبى شاه خطبة خطبها فاستكتبها وقد كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتباً في الصدقات والمعاقل والديات أو كتبت عنه فعمل بها

ومن باب كراهية منع العلم

الأمة وتناقلتها الرواة ولم ينكرها أحد من علماء السلف والخلف فدل ذلك على جواز كتابة الحديث والعلم والله أعلم. ومن باب كراهية منع العلم قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد أخبرنا علي بن الحكم عن عطاء، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة. قال الشيخ: الممسك عن الكلام مُمَثَّل بمن ألجم نفسه كما يقال التقى ملجم وكقول الناس كلم فلان فلاناً فاحتج عليه بحجة ألجمته أي أسكتته. والمعنى أن الملجم لسانه عن قول الحق والاخبار عن العلم والاظهار له يعاقب في الآخرة بلجام من نار. وخرج هذا على معنى مشاكلة العقوبة الذنب كقوله تعالى {الذين يأكلون الربا لا يقومون إلاّ كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس} [البقرة: 275] . قال وهذا في العلم الذي يلزمه تعليمه إياه ويتعين عليه فرضه كمن رأى كافراً يريد الإسلام يقول علموني ما الإسلام وما الدين. وكمن يرى رجلاً حديث العهد بالإسلام لا يحسن الصلاة وقد حضر وقتها يقول علموني كيف أصلي. وكمن جاء مستفتياً في حلال أو حرام يقول افتوني وارشدوني فإنه يلزم في مثل هذه الأمور أن لا يمنعوا الجواب عما سألوا عنه من العلم، فمن فعل ذلك آثماً مستحقاً للوعيد والعقوبة وليس كذلك الأمر في نوافل العلم التي لا ضرورة بالناس إلى معرفتها.

ومن باب توقي الفتيا

وسئل الفضيل بن عياض عن قوله صلى الله عليه وسلم طلب العلم فريضة على كل مسلم، فقال كل عمل كان عليلت فرضاً فطلب علمه عليك فرض،، وما لم يكن العمل به عليك فرضاً فليس طلب علمه عليك بواجب. ومن باب توقي الفتيا قال أبو داود: حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي حدثنا عيسى عن الأوزاعي عن عبد الله بن سعد عن الصنابحي عن معاوية أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الغَلوطات. قال الشيخ: وقد روي أنه نهى عن الأغلوطات، قال الأوزاعي هي شرار المسائل. والأغلوطات واحدها أغلوطة وزنها افعولة من الغلط كالأحموقة من الحُمق والأسطورة من السطر، فأما الغلوطات فواحدها غَلوطة اسم مبني من الغلط كالحلوبة والركوبة من الحلب والركوب. والمعنى أنه نهى أن يعترض العلماء بصعاب المسائل التي يكثر فيها الغلط ليُستزلوا بها ويستسقط رأيهم فيها. وفيه كراهية التعمق والتكلف كما لا حاجه للإنسان إليه من المسألة ووجوب التوقف عما لا علم للمسؤول به. وقد روينا، عَن أبي بن كعب أن رجلاً سأله عن مسألة فيها غموض فقال هل كان هذا بعد قال لا فقال امهلني إلى أن يكون. وسأل رجل مالك بن أنس عن رجل شرب في الصلاة ناسياً فقال ولم لم يأكل ثم.، قال: حَدَّثنا الزهري عن علي بن حسين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن من حسن إسلام المرء تركه ما لايعنيه. ومن باب نشر العلم قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن شعبة حدثني عمر بن سليمان من

ومن باب الحديث عن بني إسرائيل

ولد عمر بن الخطاب عن عبد الرحمن بن أبان عن أبيه عن زيد بن ثابت قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: نضر الله امرأً سمع منا حديثا فحفظه حتى يبلغه فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه. قال الشيخ: قوله نضر الله معناه الدعاء له بالنضارة وهي النعمة والبهجة يقال بتخفيف الضاد وتثقيلها وأجودهما التخفيف. وفي قوله رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه دليل على كراهة اختصار الحديث لمن ليس بالمتناهي في الفقه لأنه إذا فعل ذلك فقد قطع طريق الاستنباط والاستدلال لمعاني الكلام من طريق التفهم وفي ضمنه وجوب التفقه والحث على استنباط معاني الحديث واستخراج المكنون من سره. ومن باب الحديث عن بني إسرائيل قال أبو داود: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثني علي بن مُسهر عن محمد بن عمرو، عَن أبي سلمة، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج. قال الشيخ: ليس معناه إباحة الكذب في أخبار بني إسرائيل ورفع الحرج عمن نقل عنهم الكذب، ولكن معناه الرخصة في الحديث عنهم على معنى البلاغ وإن لم يتحقق صحة ذلك بنقل الإسناد، وذلك لأنه أمر قد تعذر في اخبارهم لبعد المسافة وطول المدة ووقوع الفترة بين زماني النبوة. وفيه دليل على أن الحديث لا يجوز عن النبي صلى الله عليه وسلم إلاّ بنقل الإسناد والتثبت فيه. وقد روى الدراوردي هذا الحديث عن محمد بن عمرو بزيادة لفظ دل بها على صحة هذا المعنى ليس في رواته علي بن مسهر الذي رواها أبو داود، عَن أبي هريرة

ومن باب في القصص

قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج حدثوا عني ولا تكذبوا علي. ومعلوم أن الكذب على بني إسر ائيل لا يجوز بحال فإنما أراد بقول وحدثوا عني ولا تكذبوا عليّ أي تحرزوا من الكذب عليّ بأن لا تحدثوا عني إلاّ بما يصح عندكم من جهة الإسناد الذي به يقع التحرز عن الكذب عليّ. ومن باب في القصص قال أبو داود: حدثنا محمود بن خالد حدثنا أبو مسهر حدثنا عباد بن عباد الخواص عن يحيى بن أبي عمرو السيباني عن عمرو بن عبد الله السيباني عن عوف بن مالك الأشجعي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يقص إلاّ أمير أو مأمور أو مختال. قال الشيخ: بلغني عن ابن سريج أنه كان يقول هذا في الخطبة وكان الأمراء يتلون الخطب فيعظون النلس ويذكرونهم فيها فأما المأمور فهو من يقيمه الإمام خطيباً فيعظ الناس ويقص عليهم. فأما المختال فهو الذي نصب لذلك نفسه من غير أن يؤمر له ويقص على الناس طلباً للرياسة فهو يرائي بذلك ويختال. وقد قيل إن المتكلمين على الناس ثلاثة أصناف مذكر، وواعظ، وقاص. فالمذكر الذي يذكر الناس آلاء الله ونعماءه ويبعثهم به على الشكر له. والواعظ يخوفهم بالله وينذرهم عقوبته فيردعهم به عن المعاصي. والقاص هو الذي يروي لهم أخبار الماضين ويسرد عليهم القصص فلا يأمن أن يزيد فيها أو ينقص. والمذكر والواعظ مأمون عليهما هذا المعنى.

كتاب اللباس

كتاب اللباس ومن باب ما يدعى إذا لبس جديداً قال أبو داود: حدثنا إسحاق بن الجراح الآذني حدثنا أبو النَّضر حدثنا إسحاق بن سعيد عن أبيه عن أم خالد بنت خالد بن سعيد بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بكسوة فيها خميصة صغيرة فقال من ترون أحق بهذه فسكت القوم فقال ائتوني بأم خالد فأتي بها فألبسها ثم قال أبْلي وأخلقي. قال الشيخ: الخميصة قال الأصمعي هي ثياب تكون من خز أو صوف معلمة. ومن باب لبس الشعر والصوف قال أبو داود: حدثنا يزيد بن خالد الرملي وحسين بن علي قالا: حَدَّثنا ابن أبي زائدة عن أبيه عن مصعب بن شيبة عن صفية بنت شيبة عن عائشة رضي الله عنها قالت خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه مِرط مرحَّل من شعر أسود. قال الشيخ: المرط كساء يؤتزر به، قال أبو عبيدة المرط قد يكون من صوف ومن خز، والمرحل هو الذي فيه خطوط، ويقال إنما سمي مرحلاً لأن عليه تصاوير رحل وما يشبهه. ومن باب في الحرير قال أبو داود: حدثنا سليمان بن حرب حدثنا شعبة عن ابن عون قال سمعت أبا صالح يحدث عن علي رضي الله عنه قال أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم حلة سُيَراء فأرسل إلي بها فلبستها فأتيته فرأيت الغضب في وجهه وقال إني لم أرسل بها إليك لتلبسها وأمرني فاطرتها بين نسائي.

ومن باب في الكراهة

قال الشيخ: قوله حلة سيراء هي المضلعة بالحرير، وقوله فاطرتها بين نسائي يريد قسمتها بينهن بأن شققتها وجعلت لكل واحدة منهن سقة، يقال طار لفلان في القسمة سهم كذا أي طار له ووقع في حصته قال الشاعر: فما طار لي في القسم إلاّ ثمينها ومن باب في الكراهة قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن نافع عن إبراهيم بن عبد الله بن حنين عن أبيه عن علي كرم الله وجهه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس القَسيِّ وعن لبس المعصفر وعن تختم الذهب وعن القراءة في الركوع. قال الشيخ: القسي ثياب يؤتى بها من مصر فيها حره، ويقال إنها منسوبة إلى بلاد يقال لها القسي مفتوحة القاف مشددة السين، ويقال إنها القزية أبدلوا الزاي سيناً وإنما حرمت هذه الأشياء على الرجال دون النساء. وأما القراءة في الركوع فإنما نهي من أجل أن الركوع محل التسبيح والذكر بالتعظيم، وإنما محل القراءة القيام فكره أن يجمع بينهما في محل واحد ليكون كل واحد منهما في موضعه الخاص به والله أعلم. وقد كره للنساء أن يتختمن بالفضة لأن ذلك من زي الرجال فإذا لم يجدن ذهباً فليصفرنه بزعفران ونحوه. قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن علي بن زيد عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن ملك الروم أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مُسْتقة من سندس فلبسها فكأني انظر إلى يديه تذبذبان ثم بعث بها إلى جعفر رضي الله عنه. قال الشيخ: قال الأصمعي المساتق فراء طوال الأكمام واحدتها مستقة، قال وأصلها

بالفارسية مشته فعربت. قال الشيخ: ويشبه أن تكون هذه المستقة مكففة بالسندس لأن نفس الفروة لا تكون سندساً. وقوله تذبذبان معناه تحركان وتضطربان يريد الكمين. قال أبو داود: حدثنا مخلد بن خالد حدثنا روح حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن عن عمران بن حصين أن نبى الله صلى الله عليه وسلم قال لا اركب الأُرجُوان ولا ألبس المعصفر ولا ألبس القميص المكفف بالحرير. قال الشيخ: الأرجوان الأحمر وأراه أراد به المياثر الححر وقد تتخذ من ديباج وحرير، وقد ورد فيه النهي لما في ذلك من السرف وليست من لباس الرجال. قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر ومسلم بن إبراهيم قالا: حَدَّثنا شعية، عَن أبي إسحاق عن هُبيرة عن علي كرم الله وجهه قال نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خاتم الذهب وعن لبس القَسِّي والمبثرة. قال الشيخ: إنما سميت هذه المراكب مياثر لوثارتها ولينها وكانت من مراكب العجم، والمكفف من الحرير ما اتخذ جيبه من حرير وكان لذيله وأكمامه كفاف منه. قال أبو داود: حدثنا يزيد بن خالد بن عبد الله بن موهب أخبرنا المفضل بن فضالة عن عياش بن عباس، عَن أبي الحصين الهيثم بن شفي، عَن أبي ريحانة قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عشر عن الوشْر والوشم وعن مكامعة الرجل الرجل بغير شعار وعن مكامعة المرأة المرأة وعن النهبى وركوب النمور ولبوس الخاتم إلاّ لذي سلطان. قال الشيخ: الوشر معالجة الأسنان بما يحددها تفعله المرأة المسنة تشبه بالشواب

ومن باب الحرير للنساء

الحديثات السن، والوشم أن تغرز اليد بالإبرة ثم يحشى كحلاً أو غيره من خضرة أو سواد. وأما المكامعة فهي المضاجعة وروى أبو العباس أحمد بن يحيى عن ابن الأعرابي قال المكامعة مضاجعة العراة المجرمين، والمكاعمة تقبيل أفواه المحظورين، وأخذ الأول من الكميع، والكمع وهو الضجيج، والأخرى من الكعم وهو شد فم البعير لئلا يعض ولئلا ينبح وأنشدنا: هجمنا عليه وهو يكعم كلبه ... دع الكلب ينبح إنما الكلب نابح ونهيه عن ركوب النمور قد يكون لما فيه من الزينة والخيلاء ويكون لأنه غير مدبوغ لأنه إنما يراد لشعره والشعر لا يقبل الدباغ. ويشبه أن يكون إنما كره الخاتم لغير ذي سلطان لأنه يكون حينئذ زينة محضة لا لحاجة ولا لأرب غير الزينة والله أعلم. ومن باب الحرير للنساء قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الليث عن يزيد بن أبي حبيب، عَن أبي أفلح الهمداني، عَن أبي رزين أنه سمع علي بن أبي طالب كرم الله وجهه يقول إن نبي الله صلى الله عليه وسلم أخذ حريراً فجعله في يمينه وأخذ ذهباً فجعله في شماله ثم قال إن هذين حرام على ذكور أمتي. قال الشيخ: قوله إن هذين إشارة إلى جنسهما لا إلى عينهما فقط. ومن باب في الحمرة قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا عيسى بن يونس حدثنا هشام بن الغاز عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال هبطنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من ثنية

ومن باب الرخصة في ذلك

فالتفت إليّ وعليَّ رَيطة مضرجة بالعصفر قال ما هذه الريطة فعرفت ما كره فأتيت أهلي وهم يسجرون تنوراً فقذفتها فيه ثم أتيت من الغد فقال يا عبد الله ما فعلت الريطة فأخبرته، قال أفلا كسوتها بعض أهلك فإنه لا بأس بها للنساء. قال الشيخ: المضرج الذي ليس صبغه بالمشبع العام وإنما هو لطخ علق به، ويقال تضرج الثوب إذا تلطخ بدم ونحوه، والريطة ملاءة ليست بلفقتين إنما هي نسج واحد. ومن باب الرخصة في ذلك قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر النمري حدثنا شعبة، عَن أبي إسحاق عن البراء قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم له شعر يبلغ شحمة أذنيه ورأيته في حلة حمراء لم أر شيئاً أحسن منه. قال الشيخ: قد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجال عن لبس المعصفر وكره لهم الحمرة في اللباس فكان ذلك منصرفاً إلى ما صبغ من الثياب بعد النسج، فأما ما صبغ غزله ثم نسج فغير داخل في النهي. والحلل إنما هي برود اليمن حمر وصفر وخضر وما بين ذلك من الألوان وهي لا تصبغ بعد النسج ولكن يصبغ الغزل ثم يتخذ منه الحلل وهي العصب وسمي عصباً لأن غزله يعصب ثم يصبغ. ومن باب لبسة الصماء قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد، عَن أبي الزبير عن جابر قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصماء والاحتباء في ثوب واحد.

ومن باب إسبال الازار

قال الشيخ: قال الأصمعي اشتمال الصماء عند العرب أن يشتمل الرجل بثوبه فيجلل به جسده كله ولا يرفع منه جانباً فيخرج منه يده وربما اضطجع على هذه الحالة. قال أبو عبيد كأنه يذهب إلى أنه لا يدري لعله يصيبه شيء يريد الاحتراس منه وأن يقيه بيديه ولا يقدر على ذلك بإدخاله إياهما في ثيابه فهذا كلام العرب. وأما تفسير الفقهاء فإنهم يقولون هو أن يشتمل الرجل بثوب واحد ليس عليه غيره ويرفعه من أحد جانبيه فيضعه على منكبه فيبدو منه فرجه، قال والفقهاء اعلم بالتأويل في هذا وذلك أصح في الكلام والله أعلم. وأما نهيه عن الاحتباء في ثوب واحد فإنه إنما يكره ذلك إذا لم يكن بين فرجه وبين السماء شيء يواريه، وقد روي هذا مفسراً في الحديث. ومن باب إسبال الازار قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يحيى، عَن أبي غفار، عَن أبي تميمة الهُجيمي، عَن أبي جُري جابر بن سُليم، قال رأيت رجلاً يصدر الناس عن رأيه لا يقول شيئاً إلاّ صدروا عنه، قلت من هذا قالوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قتلت عليك السلام يا رسول الله مرتين، قال لا تقل عليك السلام، عليك السلام تحية الميت، قل السلام عليك، وذكر الحديث بطوله. قال الشيخ: قوله عليك السلام تحية الميت يوهم أن السنة في تحية الميت أن يقال له عليك السلام كما يفعله كثير من العامة، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه دخل المقبرة، فقال السلام عليكم أهل دار قوم مؤمنين، فقدم الدعاء على اسم المدعو له كهو في تحية الأحياء، وإنما قال ذلك القول منه إشارة إلى ما جرت به العادة

منهم في تحية الأموات إذ كانوا يقدمون اسم الميت على الدعاء وهو مذكور في أشعارهم كقول الشاعر: عليك سلام الله قيس بن عاصم ... ورحمته ما شاء أن يترحما وكقول الشماخ: عليك سلام من أديم وباركت ... يد الله في ذاك الأديم الممزق فالسنة لا تختلف في تحية الأحياء والأموات بدليل حديث أبي هريرة الذي ذكرناه والله أعلم. قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن علي بن مدرك، عَن أبي زرعة بن عمرو بن جرير عن خَرَشة بن الحر، عَن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم، قلت من هم يا رسول الله قد خابوا وخسروا فأعادها ثلاثاً، قلت من هم خابوا وخسروا قال المسبل والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب أو الفاجر. ورواه أبو داود من طريق الأعمش عن سليمان بن مُسهر عن خرشة بن الحر، عَن أبي ذر قال المنان الذي لا يعطي شيئاً إلاّ منَّه. قال الشيخ: إنما نهى عن الإسبال لما فيه من النخوة والكبر. والمنان يتأول على وجهين: أحدهما من المنة وهي إن وقعت في الصدقة أبطلت الأجر، وإن كانت في المعروف كدرت الصنيعة وأفسدتها. والوجه الآخر أن يراد بالمن النقص يريد بالنقص من الحق والخيانة في الوزن والكيل ونحوهما، ومن هذا قول الله سبحانه {وإن لك لأجراً غير ممنون} [القلم: 3] أي غير منقوص. قالوا ومن ذلك سمي الموت منوناً لأنه ينقص الأعداد ويقطع الأعمار.

ومن باب في الكبر

قلت وقد روينا أن أبا بكر رضي الله عنه استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يسقط من الازار فرخص له في ذلك وقال لست منهم، وكان السبب في ذلك ما علمه من نقاء سره وأنه لا يقصد به الخيلاء والكبر، وكان رجلاً نحيفا قليل اللحم وكان لا يستمسك إزاره إذا شده على حقوه فإذا سقط إزاره جره فرخص له رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك وعذره. ومن باب في الكبر قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن عطاء بن السائب عن سلمان الأغر، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله سبحانه الكبرياء ردائي والعظمة ازاري فمن نازعني واحداً منهما قذفته في النار. قال الشيخ: معنى هذا الكلام أن الكبرياء والعظمة صفتان لله سبحانه اختص بهما لا يشركه أحد فيهما ولا ينبغي لمخلوق أن يتعاطاهما، لأن صفة المخلوق التواضع والتذلل، وضرب الرداء والإزار مثلاً في ذلك يقول والله أعلم كما لا يشرك الإنسان في ردائه وإزاره أحد، فكذلك لا يشركني في الكبرياء والعظمة مخلوق والله أعلم. قال أبو داود: حدثنا أحمد بن يونس حدثنا أبو بكر، يَعني ابن عياش عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردلة من كبر، ولا يدخل النار من كان في قلبه مثقال خردلة من إيمان. قال الشيخ: هذا يتأول على وجهين أحدهما أن يكون أراد به كبر الكفر والشرك، ألا ترى أنه قد قابله في نقيضه بالإيمان، فقال لا يدخل النار من كان

ومن باب قدر موضع الإزار

في قلبه مثقال خردلة من إيمان. والوجه آخر أن الله تعالى إذا أراد أن يدخله الجنة نزع ما في قلبه من الكبر حتى يدخلها بلا كبر ولا غل في قلبه كقوله سبحانه {ونزعنا ما في صدورهم من غل} . وقوله لا يدخل النار من كان في قلبه مثقال خردلة من إيمان، معناه أن لا يدخلها دخول تخليد وتأبيد والله أعلم. قال أبو داود: حدثنا محمد بن المثنى حدثنا عبد الوهاب حدثنا هشام حدثنا محمد، عَن أبي هريرة أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم وكان رجلاً جميلاً فقال يا رسول الله إني رجل حبب إليّ الجمال وأعطيت منه ما ترى حتى ما أحب أن يفوقني أحد. إما قال بشراك نعلي وإما قال بشسعي أفمن الكبر ذلك، قال لا ولكن الكبر من بطر الحق وغمط الناس. قال الشيخ: قوله ولكن الكبر من بطر الحق، معناه لكن الكبر كبر من بطر الحق فأضمر كقوله تعالى ولكن البر من آمن بالله أي لكن البّر بّر من آمن بالله. وقوله غمط معناه ازرى بالناس واستخفهم، يقال غمط وغمص بمعنى واحد، وفيه لغة أخرى غَمَط وعَمَص مفتوحة الميم. ومن باب قدر موضع الإزار قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه، عَن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أُزرة المؤمن إلى نصف الساق ولا حرج ولا جناح فيما بينه وبين الكعبين ما كان أسفل من الكعبين فهو في النار، من جر إزاره بطراً لم ينظر الله إليه. قال الشيخ: قوله فهو في النار يتأول على وجهين أحدهما أن ما دون الكعبين

ومن باب يدنين عليهن من جلابيبهن

من قدم صاحبه في النار عقوبة له على فعله. والوجه الآخر أن يكون معناه أن صنيعه ذلك وفعله الذي فعله في النار على معنى أنه معدود ومحسوب من أفعال أهل النار والله أعلم. ومن باب يدنين عليهن من جلابيبهن قال أبو داود: حدثنا أبو كامل حدثنا أبو عَوانة عن إبراهيم بن مهاجر عن صفية بنت شيبة عن عائشة رضي الله عنها أنها ذكرت نساء الأنصار فأثنت عليهن وقالت لهن معروفاً، وقالت لما نزلت سورة النور عمدن إلى حجور أو حجوز شك أبو كامل فشققنهن فاتخذنه خُمُراً. قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح أنبأنا ابن وهب أخبرني قرة بن عبد الرحمن المعافري عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت يرحم الله نساء المهاجرات الأُول لما أنزل الله {وليضربن بخمرهن على جيوبهن} [النور: 31] شققن أكنَف مروطهن فاختمرن بها. قال الشيخ: الحجور لا معنى له ههنا وإنما هو بالزاي معجمة هكذا حدثني عبد الله بن أحمد المسكي،، قال: حَدَّثنا علي بن عبد العزيز، عَن أبي عبيد عن عبد الرحمن بن مهدي، عَن أبي عَوانة وذكر الحديث. فقال عمدن إلى حَجَز أو حجوز مناطقهن فشققنهن، والحجز جمع الحجزة وأصل الحجزة موضع ملاث الإزار ثم قيل للإزار الحجزة، وأما الحجوز فهو جمع الحجز يقال احتجز الرجل بالإزار إذا شده على وسطه. وقولها الأكنف تريد الأستر والأصفق منها ومن هذا قيل للوعاء الذي يحرز فيه الشيء كِنْف والبناء الساتر لما وراءه كنيف، والمروط واحدها مرط

ومن باب في قوله تعالى

وهو كساء يؤتزر به. ومن باب في قوله تعالى {غير أولي الإربة} [النور: 31] قال أبو داود: حدثنا محمد بن عبيد حدثنا محمد بن ثور عن معمر عن الزهري وهشام بن عروة عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت كان يدخل على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مخنث وكانوا يعدونه من غير أولي الاربة فدخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم يوماً وهو عند بعض نسائه وهو ينعت امرأة فقال إنها إذا أقبلت أقبلت بأربع، وإذا أدبرت أدبرت بثمان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ألا أرى هذا يعلم ما ها هنا لا يدخلنَّ عليكن هذا فحجبوه. قال الشيخ: قال أبو عبيده قوله تقبل بأربع، يَعني أربع عكن في بطنها فهي تقبل بهن، وقوله تدبر بثمان، يَعني أطراف هذه العكن الأربع وذلك أنها محيطة بالجنين حتى لحقت بالمتنين من مؤخرها من هذا الجانب أربعة أطراف، ومن الجانب الآخر مثلها فهذه ثمان. ومن باب في الاختمار قال أبو داود: حدثنا زهير بن حرب حدثنا عبد الرحمن قال وحدثنا مسدد حدثنا يحيى عن سفيان عن حبيب عن وهب مولى أبي أحمد عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها وهي تختمر فقال ليّة لا ليَّتين. قال الشيخ: يشبه أن يكون إنما كره لها أن تلوي الخمار على رأسها ليتين لئلا يكون إذا تعصبت بخمارها صارت كالمتعمم من الرجال يلوي أطراف العمامة على رأسه، وهذا على معنى نهيه النساء عن لباس الرجال والرجال عن لباس النساء وقال لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال.

ومن باب إهاب الميتة

قال أبو داود: حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح وأحمد بن سعيد الهمداني قالا أنبأنا ابن وهب أخبرنا ابن لهيعة عن موسى بن جبير أن عبيد الله بن عباس حدثه عن خالد بن يزيد بن معاوية عن دحية بن خليفة الكلبي أنه قال أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بقَباطي فأعطاني قُبطية منها، فقال اصدعها صِدعين فاقطع أحدهما قميصاً وأعط الآخر امرأتك تختمر به. قال الشيخ: القبطية مضمومة القاف الشقة أو الثوب من القباطي وهي ثياب تعمل بمصر؛ فأما القبطية بكسر القاف فهي منسوبة إلى قبط وهم جيل من الناس. وقوله اصدعها يريد شقها نصفين فكل شق منها صدع بكسر الصاد، والصدع مفتوحة الصاد مصدر صدعت الشيء إذا شققته واصدعه صدعاً. ومن باب إهاب الميتة قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير حدثنا سفيان عن زيد بن أسلم عن عبد الرحمن بن وَعْلة عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا دبغ الاهاب فقد طهر. قال الشيخ: الإهاب الجلد ويجمع على الاهب وزعم قوم أن جلد ما لا يؤكل لا يسمى إهاباً، وذهبوا إلى أن الدباغ لا يعمل من الميتة إلاّ في الجنس المأكول اللحم، وهو قول الأوزاعي وابن المبارك وإسحاق بن راهويه وأبي ثور. وذهب أبو حنيفة وأصحابه ومالك والشافعي إلى أن جلد الميتة مما يؤكل لحمه ومما لا يؤكل يطهر بالدباغ، إلاّ أن أبا حنيفة وأصحابه استثنوا منها جلد الخنزير واستثنى الشافعي مع الخنزير جلد الكلب، وكان مالك يكره الصلاة في جلود السباع وإن دبغت ويرىالانتفاع بها ويمتنع من بيعها، وعند الشافعي بيعها

والانتفاع بها على جميع الوجوه جائز لأنها طاهرة، ومما يدل على أن اسم الاهاب يتناول جلد لا يؤكل لحمه كتناول جلد المأكول اللحم قول عائشة رضى الله عنها حين وصفت أباها رضي الله عنهما وحقن الدماء في أهبها تريد به الناس وقال ذو الرمة يصف كلبتين: لا يذخران من الإيغال باقية ... حتى تكاد يفرّى عنهما الأهب قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر وموسى بن إسماعيل قالا: حَدَّثنا همام عن قتادة عن الحسن عن جَوْن بن قتادة عن سلمة بن المِّحبق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء في غزوة تبوك على بيت فإذا قربة معلقة فسأل الماء فقالوا يا رسول الله إنها ميتة قال دباغها طهورها. قال الشيخ: وهذا يدل على بطلان قول من زعم أن إهاب الميتة إذا مسه الماء بعد الدباغ نجس وتبين له أنه طاهر كطهاره المذكى وأنه إذا بسط فصلى عليه أو خرز منه خف فصلى فيه جاز. قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب حدثني عمرو، يَعني ابن الحارث عن كثير بن فرقد عن عبد الله بن مالك بن حذافة عن أمه العالية بنت سبيع عن ميمونة قالت مر على رسول الله صلى الله عليه وسلم رجال من قريش يجرون شاة لهم مثل الحمار، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لو أخذتم إهابها قالوا إنها ميتة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يطهرها الماء والقرظ. قال الشيخ: القرظ شجر تدبغ به الأهب وهو لما فيه من القبض والعفوصة ينشف البلة ويذهب الرخاوة ويحصف الجلد ويصلحه ويطيبه فكل شيء عمل

عمل القرظ كان حكمه في التطهير حكم القرظ. وذكره الماء مع القرظ قد يحتمل أن يكون أراد بذلك أن القرظ يخلط به حتى يستعمل في الجلد، ويحتمل أن يكون إنما أراد أن الجلد إذا خرج من الدباغ غسل بالماء حتى يزول عنه ما خالطه من وضر الدبغ ودرنه. وفيه حجة لمن ذهب إلى أن غير الماء لا يزيل النجاسة ولا يطهرها في حال من الأحوال. قال أبو داود: حدثنا مسدد بن مسرهد أن إسماعيل بن إبراهيم ويحيى بن سعيد حدثاهم المعنى عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة، عَن أبي المليح بن أسامة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن جلود السباع. قال الشيخ: قد يحتج بنهيه صلى الله عليه وسلم عن ذلك من يرى أن الدباغ لا يعمل إلاّ في جلد ما يؤكل لحمه، وهو قول الأوزاعي وسائر من حكينا قولهم بَدِيا هكذا وتأويل الحديث عند غيرهم أن المنهي عنه أن يستعمل قبل الدباغ. وتأوله أصحاب الشافعي ومن ذهب مذهبه في أن الدباغ يطهر جلود السباع ولا يطهر شعورها على أنه إنما نهى عن استعمالها من أجل شعرها لأن جلود النمور والحمر ونحوهما إنما تستعمل مع بقاء الشعر عليها، وشعر الميتة نجس عندهم، وقد يكون النهي عنها أيضاً من أجل أنها مراكب أهل الشرف والخيلاء. وقد جاء النهي عن ركوب جلود النمر نصاً، وقد ذكره أبو داود في هذا الباب فأما إذا دبغ الجلد ونتف شعره فإنه طاهر على مذهبه ولا ينكر تخصيص العموم بدليل يوجبه. قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن الحكم عن عبد الرحمن

ومن باب في النعال

بن أبي ليلى عن عبد الله بن عُكيم قال قدم علينا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأرض جُهينة وأنا غلام شاب أن لا تستمتعوا من الميتة بإهاب ولا عَصب. قال الشيخ: قد ذهب أحمد بن حنبل إلى ظاهر هذا الحديث وزعم أن الأخبار في الدباغ منسوخة به لأن في بعض الروايات أن عبد الله بن عكيم قال أتانا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته بشهر أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب فكان التحريم آخر الأمرين. قال الشيخ: ومذهب عامة العلماء على جواز الدباغ والحكم بطهارة الإهاب إذا دبغ ووهنوا هذا الحديث لأن عبد الله بن عكيم لم يلق النبي صلى الله عليه وسلم وإنما هو حكاية عن كتاب أتاهم فقد يحتمل لو ثبت الحديث أن يكون النهي إنما جاء عن الانتفاع به قبل الدباغ ولا يجوز أن يترك به الأخبار الصحيحة التي قد جاءت في الدباغ وأن يحمل على النسخ والله أعلم. ومن باب في النعال قال أبو داود: حدثنا محمد بن عبد الرحيم أبو يحيى حدثنا أبو أحمد الزبيري حدثنا إبراهيم بن طَهْمان، عَن أبي الزبير عن جابر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينتعل الرجل قائماً. قال الشيخ: يشبه أن يكون إنما نهى عن لبس النعل قائماً لأن لبسها قاعداً أسهل عليه وأمكن له وربما كان ذلك سبباً لانقلابه إذا لبسها قائماً فأمر بالقعود له والاستعانة باليد ليأمن غائلته والله أعلم. قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن الأعرج، عَن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمشي أحدكم في النعل الواحدة

لينتعلهما جميعاً أو ليحفهما جميعاً. قال الشيخ: وهذا قد يجمع أموراً منها أنه قد يشق عليه المشي على هذه الحال لأن وضع أحد القدمين منه على الحفاء إنما يكون مع التوقي والتهيب لأذى يصيبه أو حجر يصدمه ويكون وضعه القدم على خلاف ذلك من الاعتماد به والوضع له من غير محاشاة أو تقية فيختلف من أجل ذلك مشيه ويحتاج معه إلى أن ينتقل عن سجية المشي وعادته المعتادة فيه فلا يأمن عند ذلك العثار والعنت وقد يتصور فاعله عند الناس بصورة من إحدى رجليه أقصر من الأخرى ولا خفاء بقبح منظر هذا الفعل. وكل أمر يشتهره الناس ويرفعون إليه أبصارهم فهو مكروه مرغوب عنه. قلت: وقد يدخل في هذا المعتى كل لباس ينتفع به كالخفين وادخال اليد في الكمين والتردي بالرداء على المنكبين. فلو أرسله على إحدى المنكبين وعرَّى منه الجانب الآخر كان مكروهاَ على معنى الحديث ولو أخرج إحدى يديه من كمه وترك الأخرى داخل الكم الآخر كان كذلك في الكراهة والله أعلم. قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك، عَن أبي الزناد عن الأعرج، عَن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا انتعل أحدكم فليبدأ باليمنى وإذا نزع فليبدأ بالشمال وليكن اليمنى أولهما تُنعل وآخرهما تُنزع. قال الشيخ: إذا كان معلوماً إن لبس الحذاء صيانة للرجل ووقاية لها فقد أعلم أن التبدية به لليمنى زيادة في كرامتها، وكذلك التبقية لها بعد خلع اليسرى وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبدأ في لبوسه وطهوره بميامنه ويقدمها على مياسره.

ومن باب في الفرش

ومن باب في الفُرُش قال أبو داود: حدثنا يزيد بن خالد الهمداني حدثنا ابن وهب، عَن أبي هانىء، عَن أبي عبد الرحمن الحبلي عن جابر بن عبد الله قال ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الفرش فقال فراش للرجل وفراش للمرأة وفراش للضيف والرابع للشيطان. قال الشيخ: فيه دليل على أن المستحب في أدب السنة أن يبيت الرجل وحده على فراش وزوجته على فراش آخر ولو كان المستحب لهما أن يبيتا معاً على فراش واحد لكان لا يرخص له في اتخاذه فراشين لنفسه ولزوجته وهو إنما يحسن له مذهب الاقتصاد والاقتصار على أقل ما تدعو إليه الحاجة والله أعلم. ومن باب في اتخاذ الستور قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا ابن نمير حدثنا فضيل بن غزوان عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى فاطمة عليها السلام فوجد على بابها سِتراً فلم يدخل. قال وقل ما كان يدخل إلاّ بدأ بها قال وجاء علي كرم الله وجهه فرآها مهتمة فقال مالك، قالت جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلي فلم يدخل فأتاه علي فقال يا رسول الله إن فاطمة عليها السلام اشتد عليها أنك جئتها فلم تدخل عليها، فقال وما أنا والدنيا والرقْم، فذهب إلى فاطمة فأخبرها بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت قل لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما تأمرني به قال قل لها فلترسل به إلى بني فلان. قال الشيخ: أصل الرقم الكتابة قال الشاعر: سأرقم في الماء القَراح إليكم ... على بعد أن كان للماء راقم وقال فضيل بن غزوان كان ستراً موشى.

ومن باب التصليب في الثوب

ومن باب التصليب في الثوب قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا أبان حدثنا يحيى حدثنا عمران بن حِطان عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يترك في بيته شيئاً فيه تصليب إلاّ قضبه. قال الشيخ: قوله قضبه معناه قطعه والقضب القطع، والتصليب ما كان على صورة الصليب. ومن باب في الصورة قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن علي بن مدرك، عَن أبي زرعة بن عمرو بن جرير عن عبد الله بن نُجَي عن أبيه عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تدخل الملائكة بيتاً فيه صورة ولا كلب ولا جُنُب. قال الشيخ: قد فسرنا هذا فيما تقدم من الكتاب، وذكرنا عن بعض العلماء أنه قال إن الجنب في هذا الحديث هو الذي يترك الاغتسال من الجنابة ويتخذه عادة وأن الكلب إنما يكره إذا كان اتخذه صاحبه للهو ولعب لا لحاجة وضرورة كمن اتخذه لحراسة زرع أو غنم أو لقنيص وصيد. فأما الصورة فهو كل ما تصور من الحيوان سواء في ذلك الصورة المنصوبة القائمة التي لها أشخاص وما لا شخص له من المنقوشة في الجدر والمصورة فيها وفي الفرش والأنماط، وقد رخص بعض العلماء فيما كان منها في الأنماط التي توطأ وتداس بالأرجل. قال أبو داود: حدثنا وهب بن بقية حدثنا خالد عن سهيل بن أبي صالح عن سعيد بن يسار الأنصاري عن زيد بن خالد الجهني قال: قالت عائشة رضي الله عنها خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض مغازيه وكنت أتحين قفوله فأخذت نمطاً

كان لنا فسترته على العَرَض. فلما جاء استقبلته فقلت السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته الحمد لله الذي أعزك وأكرمك. فنظر إلى البيت فرأى النمط فلم يرد عليّ شيئاً ورأيت الكراهية في وجهه فأتى النمط حتى هتكه ثم قال إن الله لم يأمرنا فيما رزقنا أن نكسو الحجارة واللبن. قالت فقطعته وسادتين وحشوتهما ليفاً فلم ينكر ذلك عليّ. قال الشيخ: العرض هو الخشبة المعترضة يسقف بها البيت ثم يوضع عليها أطراف الخشب الصغار يقال عرضت البيت تعريضاً. قال أبو داود: حدثنا أبو صالح أنبأنا أبو إسحاق عن يونس بن أبي إسحاق عن مجاهد حدثنا أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتاني جبريل فقال لي أتيتك البارحة فلم يمنعني أن أكون دخلت إلاّ أنه كان على الباب تماثيل وكان في البيت قِرام سِترٍ فيه تماثيل وكان في البيت كلب، فمر برأس التمثال الذي على الباب أن يقطع فتصير كهيئة الشجرة ومر بالستر فليقطع فليجعل منه وسادتان منبوذتان توطآن ومر بالكلبب فليخرج ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا الكلب لحسن أو حسين عليهما السلام كانت تحت نَضَد لهم فأمر به فأخرج. قال الشيخ: النضد متاع البيت ينضد بعضبه على بعض أي يرفع بعضه فوق الآخر ومنه قول النابغة: فرفعته إلى السجفين فالنضد والمنبوذتان وسادظن لطيفتان وسميتا منبوذتين لخفتهما ينبذان ويطرحان للقعود عليهما. وفيه دليل على أن الصورة إذا غيرت بأن يقطع رأسها أو تحل أوصالها حتى تغير هيئتها عما كانت لم يكن بها بعد ذلك بأس.

كتاب الترجل

كتاب الترجل قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي حدثنا يزيد حدثنا الجُريري عن عبد الله بن بريدة عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن كثير من الارفاه. قال الشيخ: معنى الارفاه الاستكثار من الزينة وأن لا يزال يهيء نفسه، وأصله من الرفه وهو أن ترد الإبل الماء كل يوم فإذا وردت يوماً ولم ترد يوماً فذلك الغب وقد أغبت فهي مغِبة فإذا جاوز ذلك صار ظمأ وأول الرِّبْع ولا يقال في الإظماء ثلث، ومنه أخذت الرفاهية وهي الخفض والدَّعة. كره رسول الله صلى الله عليه وسلم الإفراط في التنعم والتدلك والدهن والترجيل في نحو ذلك من أمرالناس فأمر بالقصد في ذلك، وليس معناه ترك الطهاره والتنظيف فإن الطهارة والنظافة من الدين والله أعلم. قال أبو داود: حدثنا النفيلي حدثنا محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبى أمامة عن عبد الله بن كعب بن مالك، عَن أبي أمامة قال: ذكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً عنده الدنيا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا تسمعون ألا تسمعون إن البذاذة من الإيمان، إن البذاذة من الإيمان. قال أبو داود، يَعني التقحل. قال الشيخ: البذاذة سوء الهيئة والتجوز في الثياب ونحوهما، يقال رجل باذ الهيئة إذا كان رث الهيئة واللباس.

ومن باب صلة الشعر

ومن باب صلة الشعر قال أبو داود: حدثنا محمد بن عيسى وعثمان بن أبي شيبة المعنى قالا: حَدَّثنا جرير عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله رضي الله عنه أنه قال: لعن الله الواشمات والمستوشمات، قال محمد والواصلات، وقال عثمان والمتنمصات ثم اتفقا والمتفلِّجات للحسن المغيِّرات خلق الله. قال الشيخ: الواشمات من الوشم في اليد وكانت المرأة تغرز معصم يدها بإبرة أومسلة حتى تدميه ثم تحشوه بالكحل فيخضر يفعل ذلك بدارات ونقوش، يقال منه وشمت تشم فهي واشمة، والمستوشمة هي التي تسأل وتطلب أن يفعل ذلك بها، والواصلات هن اللواتي يصلن شعورهن بشعور غيرهن من النساء يردن بذلك طول الشعر يوهمن أن ذلك من أصل شعورهن فقد تكون المرأة زعراء قليلة الشعر أو يكون شعرها أصهب فتصل شعرها بشعر أسود فيكون ذلك زوراً وكذباً فنهى عنه، فأما القرامل فقد رخص فيها أهل العلم وذلك أن الغرور لا يقع بها لأن من نظر إليها لم يشك في أن ذلك مستعار، والمتنمصات من النمص وهو نتف الشعر من الوجه، ومنه قيل للمنقاش المنماص. والنامصة هي التي تنتف الشعر بالمنماص، والمتنمصة هي التي يفعل ذلك بها؛ والمتفلجات هن اللواتي يعالجن أسنانهن حتى يكون لها تحدد واشر يقال ثغر أفلج. ومن باب المرأة تتطيب للخروج قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير أنبأنا سفيان عن عاصم بن عبيد الله عن عبيد مولى أبي رهم، عَن أبي هريرة قال لقِيته امرأة وجد منها ريح الطيب ولذيلها إعصار

ومن باب الخلوق الرجل

فقال يا أمة الجبار جئت من المسجد، قالت نعم، قال وله تطيبت قالت نعم، قال إنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يقبل لامرأة صلاة تطيبت لهذا المسجد حتى ترجع فتغتسل غسلها من الجنابة. قال الشيخ: الاعصار غبار ترفعه الريح. ومن باب الخلوق الرجل قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد أنبأنا عطاء الخراساني عن يحيى بن يعمر عن عمار بن ياسر قال: قدمت على أهلي ليلاً وقد تشققت يداي فخلَّقوني بزعفران فغدوت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه فلم يرد عليَّ السلام ولم يرحب بي وقال اذهب فاغسل هذا عنك فذهبت فغسلته ثم جئت فسلمت عليه فرد عليَّ ورحب بي وقال إن الملائكة لا تحضر جنازة الكافر بخير ولا المتضمخ بالزعفران ولا الجنب. قال ورخص للجنب إذا نام أو أكل أو شرب أن يتوضأ. قال الشيخ: الردغ لطخ من بقية لون الزعفران والمتضمخ المتلطخ به. وفيه دلالة على أن الجنب الذي لا تحضره الملائكة هو الذي لم يتوضأ بعد الجنابة، قيل هو الذي لا يغتسل من الجنابة ويتخذه عادة له فهو في أكثر أوقاته جنب. ومن باب في تطويل الجمة قال أبو داود: حدثنا محمد بن العلاء حدثنا معاوية بن هشام وسفيان بن عقبة السُّوائي هو أخو قبيصة بن عقبة وحميد بن خوار عن سفيان الثوري عن عاصم بن كليب قلت أراه عن أبيه عن وائل بن حجر قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم ولي شعر

ومن باب في الذؤابة

طويل فلما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ذُباب ذُباب، قال فرجعت فجززته ثم أتيته من الغد فقال إني لم أعنك وهذا أحسن. قال الشيخ: أخبرني أبو عمر، عَن أبي العباس أحمد بن يحيى قال الذباب الشؤم. ومن باب في الذؤابة قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد أنبأنا أيوب عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن القزع وقال: وهو أن يحلق الصبي ويترك له ذؤابة. قال الشيخ: هكذا جاء تفسيره في الحديث وأصل القزع قطع السحاب المتفرقة شبه تفاريق الشعر في رأسه إذا حلق بعضه وأبقى بعضه بطخارير السحاب. ومن باب الأخذ من الشارب قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا سفيان عن الزهري عن سعيد، عَن أبي هريرة يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم الفطرة خمس أو خمس من الفطرة الختان والاستحداد ونتف الإبط وتقليم الأظفار وقص الشارب. قال السيخ: معنى الفطرة ههنا السنة والاستحداد حلق العانة بالحديد. قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك، عَن أبي بكر بن نافع عن أبيه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمربإحفاء الشوارب وإعفاء اللحى. قال الشيخ: إحفاء الشارب أن يوخذ منه حتى يحفى ويرق، وقد يكون أيضاً معناه الاستقصاء في أخذه من قولك أحفيت في المسألة إذا استقصيت فيها واعفاء اللحية توفيرها من قولك عفا النبت إذا طال ويقال عفا الشيء بمعنى كثر قال الله تعالى {حتى عفوا} [الأعراف: 95] أي كثروا والله أعلم.

ومن باب الخضاب

ومن باب الخضاب قال أبو داود: حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح وأحمد بن سعيد الهمداني قالا: حَدَّثنا ابن وهب أخبرنى ابن جريج، عَن أبي الزبير عن جابر قال: أُتي بأبي قُحافة يوم فتح مكة ورأسه ولحيته كالثغامة بياضاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: غيروا هذا بشيء واجتنبوا السواد. قال الشيخ: الثغامة نبات له ثمر أبيض. قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن سعيد الجريري عن عبد الله بن بريدة، عَن أبي الأسود الدؤلى، عَن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أحسن ما غير به هذا الشيب الحناء والكتم. قال الشيخ: يقال إن الكتم الوسمة ويشبه أن يكون إنما أراد به استعمال كل واحد منهما منفرداً عن غيره فإن الحناء إذا غل بالكتم جاء أسود، ويقال إن الكتم نوع آخر غير الوسمة. ومن باب الانتفاع بمداهن العاج قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا عبد الوارث بن سعيد عن محمد بن جُحادة عن حميد الشامي عن سليمان المَنْبِهي عن ثوبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: اشتر لفاطمة عليها السلام قلادة من عصْب وسوارين من عاج. قال الشيخ: قال الأصمعي العاج الذبل وهو يقال عظم ظهر السلحفاة البحرية فأما العاج الذي تعرفه العامة فهو عظم أنياب الفيلة وهو ميتة لا يجوز استعماله والعصْب في هذا الحديث إن لم يكن هذه الثياب اليمانية فلست أدري ما هو وما أرى أن القلادة تكون منه.

ومن باب خاتم الذهب

ومن باب خاتم الذهب قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا المعتمر قال: سمعت الركين بن الربيع يحدث عن القاسم بن حسان عن عبد الرحمن بن حرملة أن ابن مسعود رضي الله عنه كان يقول كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره عشرة خلال. الصفرة، يَعني الخلوق وتغيير الشيب وجر الإزار والتختم بالذهب والتبرج بالزينة لغير محلها والضرب بالكعاب والرُّقى إلاّ بالمعوذات وعقد التمائم وعزل الماء لغير محله أو غير محله وفساد الصبي غير محرِّمه. قال الشيخ: أما كراهية الخلوق فإنما هي للرجال خاصة دون النساء وتغيير الشيب إنما يكره بالسواد دون الحمرة والصفرة، والتختم بالذهب محرم على الرجال والتبرج للزينة لغير محلها وهو أن تتزين المرأة لغير زوجها، وأصل التبرج أن تظهر المرأة محاسنها للرجال، يقال تبرجت المرأة، ومنه قوله تبارك وتعالى {ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى} [الأحزاب: 33] . وأما عزل الماء لغير محله فقد سمعت في هذا الحديث عزل الماء عن محله وهو أن يعزل الرجل ماءه عن فرج المرأة وهو محل الماء، وإنما كره ذلك لأن فيه قطع النسل والمكروه منه ما كان من ذلك عن الحرائر بغير إذنهن، فأما المماليك فلا بأس بالعزل عنهن ولا إذن لهن مع أربابهن. وفساد الصبي هو أن يطأ المرأة المرضع فإذا حملت فسد لبنها وكان في ذلك فساد الصبي. وقوله غير محرمه معناه أنه قد كره ذلك ولم يبلغ في الكراهة حد التحريم. ومن باب خاتم الحديد قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي ومحمد بن عبد العزيز بن أبي رِزمة المعنى،

أن زيد بن الحباب أخبرهم عن عبد الله بن مسلم أبي طيبة السَّلمي المروزي عن عبد الله بن بريدة عن أبيه أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعليه خاتم من شَبَه فقال: ما لي أجد منك ريح الأصنام فطرحه ثم جاء وعليه خاتم من حديد فقال ما لي أرى عليك حلية أهل النار فطرحه، فقال يا رسول الله من أي شيء اتخذه قال اتخذه من ورق ولا تتمه مثقالاً. قال الشيخ: إنما قال في خاتم الشبه أجد منك ريح الأصنام لأن الأصنام كانت تتخذ من الشبه، وأما الحديد فقد قيل إنما كره ذلك من سهوكته وريحه ويقال معنى حلية أهل النار أنه زي بعض الكفار وهم أهل النار والله أعلم. قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا بشر بن المفضل حدثنا عاصم بن كليب، عَن أبي بردة عن علي كرم الله وجهه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لي قل اللهم اهدني وسددني واذكر بالهدي هداية الطريق، واذكر بالسداد تسديدك السهم، قال ونهاني أن أضع الخاتم في هذه أو هذه السبابة والوسطى شك عاصم ونهاني عن القَسِية والمِيثرة. قال الشيخ: قوله واذكر بالهدى هداية الطريق، معناه أن سالك الطريق والفلاة إنما يؤم سمت الطريق ولا يكاد يفارق الجادة ولا يعدل عنها يمنة ويسرة خوفاً من الضلال وبذلك يصيب الهداية وينال السلامة يقول إذا سألت الله الهدى فاخطر بقلبك هداية الطريق وسل الله الهدى والاستقامة كما تتحراه في هداية الطريق إذا سلكتها. وقوله واذكر بالسداد تسديدك السهم معناه أن الرامي إذا رمى غرضاً سدد بالسهم نحو الغرض، ولم يعدل عنه يميناً ولا شمالاً ليصيب الرمية فلا يطيش

ومن باب ربط الأسنان بالذهب

سهمه ولا يخفق سعيه يقول فاخطر المعنى بقلبك حين تسأل الله السداد ليكون ما تنويه من ذلك على شاكلة ما تستعمله في الرمي، وقد فسرنا القسية والميثرة فيما مضى من الكتاب. ومن باب ربط الأسنان بالذهب قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل ومحمد بن عبد الله الخزاعي المعني قالا: حَدَّثنا أبو الأشهب عن عبد الرحمن بن طرَفة أن جده عَرْفجة بن أسعد قُطع أنفه يوم الكُلاب فاتخذ أنفاً من ورق فأنتن عليه فأمره النبي صلى الله عليه وسلم فاتخذ أنفاً من ذهب. قال الشيخ: يوم الكلاب يوم معروف من أيام الجاهلية ووقعة مذكورة من وقائعهم، والورق مكسورة الراء الفضة، والورق بفتح الراء المال من الإبل والغنم. وفيه إباحة استعمال اليسير من الذهب للرجال عند الضرورة كربط الأسنان به وما جرى مجراه مما لا يجري غيره فيه مجراه. ومن باب في الذهب للنساء قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا أبان بن يزيد العطار حدثنا يحيى أن محمود بن عمرو الأنصاري حدثه أن أسماء بنت يزيد بن السكن حدثته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أيما امرأة تقلدت قلادة من ذهب قلدت في عنقها قلادة مثله من النار يوم القيامة، وأيما امرأة جعلت في أذنها خرصاً من ذهب جعل الله في أذنها مثله من النار يوم القيامة. قال الشيخ: الخرص الحلقة وهذا يتأول على وجهين: أحدهما أنه إنما قال ذلك

كتاب الطب

في الزمان الأول، ثم نسخ وأبيح للنساء التحلي بالذهب، ققد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قام على المنبر وفي إحدى يديه ذهب وفي الأخرى حرير، فقال هذان حرام على ذكور أمتي حلال لإناثها. والوجه الآخر أن هذا الوعيد إنما جاء فيمن لا يؤدي زكاة الذهب دون من أداها والله أعلم. قال أبو داود: حدثنا حميد بن مسعدة حدثنا إسماعيل حدثنا خالد عن ميمون القنَّاد، عَن أبي قلابة عن معاوية بن أبي سفيان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ركوب النِّمار وعن لُبس الذهب إلاّ مقطعاً. قال الشيخ: أراد بالمقطع الشيء اليسير نحو الشنف والخاتم للنساء وكره من ذلك الكثير الذي هو عادة أهل السرف وزينة أهل الخيلاء والكبر. واليسير هو ما لا يجب فيه الزكاة، ويشبه أن يكون إنما كره استعمال الكثير منه لأن صاحبه ربما ضن بإخراج الزكاه منه فيأثم ويحرج وليس جنس الدهب بمحرم عليهن كما حرم على الرجال قليله وكثيره. كتاب الطب ومن باب الرجل يتداوى قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر النمري حدثنا شعبة عن زياد بن علاقة عن أسامة بن شَريك قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه كأنما على رؤوسهم الطير فسلمت ثم قعدت فجاءت الأعراب من ههنا وههنا، فقالوا يا رسول الله نتداوى قال تداووا فإن الله لم يضع داء الا وضع له دواء غير داء واحد الهرم.

ومن باب الكي

قال الشيخ: في الحديث إثبات الطب والعلاج وأن التداوي مباح غير مكروه كما ذهب إليه بعض الناس. وفيه أنه جعل الهرم داء وإنما هو ضعف الكبر وليس من الأدواء التي هي أسقام عارضة للأبدان من قبل اختلاف الطبائع وتغير الأمزجة، وإنما شبهه بالداء لأنه جالب للتلف كالأدواء التي قد يتعقبها الموت والهلاك وهذا كقول النمر بن تولب: ودعوت ربي بالسلامة جاهداً…… ليصحني فإذا السلامة داء يريد أن العمر لما طال به أداه إلى الهرم فصار بمنزلة المريض الذي قد أدنفه الداء وأضعف قواه وكقول حميد بن ثور الهذلي: أرى بصري قد رابني بعد صحة …وحسبك داء أن تصح وتسلما وحدثنى إبراهيم بن عبد الرحمن العنبري حدثنا ابن أبي قماش حدثنا ابن عائشة عن حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو لم يكن لابن آدم إلاّ السلامة والصحة لكان كفى بهما داء قاضياً. ومن باب الكي قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد حدثنا ثابت عن مطرف عن عمران بن حصين قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكي فاكتوينا فما أفلحنا ولا أنجحنا. قال أبو داود: حدثنا موسى حدثنا حماد، عَن أبي الزبير عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم كوى سعد بن معاذ من رميته.

قال الشيخ: إنما كوى صلى الله عليه وسلم سعدا ليرقأ عن جرحه الدم وخاف عليه أن ينزف فيهلك والكي مستعمل في هذا الباب وهو من العلاج الذي تعرفه الخاصة وأكثر العامة والعرب تستعمل الكي كثيراً فيما يعرض لها من الأدواء وتقول في أمثالها آخر الدواء الكي، وقال شاعرهم في ذلك وهو مما يتمثل به إذا كويت كية فأنضج ... تشف بها الداء ولا تُلهوج فالكي داخل في جملة العلاج والتداوي المأذون فيه المذكور في حديث أسامة بن شريك الذي رويناه في الباب الأول. وأما حديث عمران بن حصين في النهى عن الكي فقد يحتمل وجوهاً: أحدها أن يكون من أجل أنهم كانوا يعظمون أمره ويقولون آخر الدواء الكي ويرون أنه يحسم الداء ويبرئه وإذا لم يفعل ذلك عطب صاحبه وهلك فنهاهم عن ذلك إذا كان على هذا الوجه، وأباح لهم استعماله على معنى التوكل على الله سبحانه وطلب الشفاء والترجي للبرء بما يحدث الله عز وجل من صنعه فيه ويجلبه من الشفاء على أثره فيكون الكي والدواء سبباً لا علة، وهذا أمر قد تكثر فيه شكوك الناس وتخطىء فيه ظنونهم وأوهامهم فما أكثر ما تسمعهم يقولون لو أقام فلان بأرضه وبلده لم يهلك ولو شرب الدواء لم يسقم ونحو ذلك من تجريد إضافة الأمور إلى الأسباب وتعليق الحوادث بها دون تسليط القضاء عليها وتغليب المقادير فيها فتكون الأسباب أمارات لتلك الكوائن لا موجبات لها وقد بين الله جل جلاله ذلك في كتابه حيث قال {أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة} [النساء: 87] وقال تعالى حكاية عن الكفار {وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غُزَّى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك

ومن باب النشرة

حسرة في قلوبهم} [آل عمران: 156] الآية. وسلك الحكماء في هذا طريق الصواب وقيدوا كلامهم في مثله، قال أبو ذؤيب يذكر ابناً له هلك يدعى نبيشة: يقولون لي لو كان بالرمل لم يمت ... نبيشة والكهان يكذب قيلها ولوأنني استودعته الشمس لارتقت ... إليه المنايا عينها ورسولها يريد بالكهان الأطباء، والعرب تدعو الأطباء كهاناً وكل من يتعاطى علماً مغيباً فهو عندهم كاهن، وقال رؤبة في كلمة له: * ولو توقى لوقاه الواقي * ثم خشي أن يكون قد فوض فتداركه فقال على أثره: * وكيف يوقي ما الملاقى لاقى * ومثل هذا في كلامهم كثير وفيه وجه آخر وهو أن يكون معنى نهيه عن الكي هو أن يفعله احترازاً عن الداء قبل وقوع الضرورة ونزول البلية وذلك مكروه وإنما أبيح العلاج والتداوي عند وقوع الحاجة ودعاء الضرورة إليه، ألا ترى أنه إنما كوى سعداً حين خاف عليه الهلاك من النزف. وقد يحتمل أن يكون إنما نهى عمران خاصة عن الكي في علة بعينها لعلمه أنه لا ينجع، ألا تراه يقول فما أفلحنا ولا أنجحنا، وقد كان به الناصور فلعله إنما نهاه عن استعمال الكي في موضعه من البدن والعلاج إذا كان فيه الخطر العظيم كان محظوراً والكي في بعض الأعضاء يعظم خطره وليس كذلك في بعض الأعضاء فيشبه أن يكون النهي منصرفاً إلى النوع المخوف منه والله أعلم. ومن باب النُّشْرة قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا عبد الرزاق حدثنا عَقيل بن مَعقل قال سمعت وهب بن منبه يحدث عن جابر بن عبد الله قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم

ومن باب شرب الترياق

عن النشرة فقال: هو من عمل الشيطان. قال الشيخ: النشرة ضرب من الرقية والعلاج يعالج به من كان يظن به مس الجن وقيل سميت نشرة لأنه ينشر بها عنه أي يحل عنه ما خامره من الداء. وحدثني أبو محمد الكُراني حدثنا عبد الله بن شبيب حدثنا زكريا بن يحيى المنقري حدثنا الأصمعي حدثنا الحكم بن عطية عن الحسن قال: النشرة من السحر، قال وأنشدنا الأصمعي من قول جرير: أدعوك دعوة ملهوف كأن به …مساً من الجن أو ريحاً من النشر ومن باب شرب الترياق قال أبو داود: حدثنا عبيد الله بن عمر بن ميسرة حدثنا عبد الله بن يزيد حدثنا سعيد بن أبي أيوب حدثنا شرحبيل بن يزيد المعافري عن عبد الرحمن بن رافع التنوخي قال: سمعت عبد الله بن عمرو رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما أبالي ما أتيت إن أنا شربت ترياقاً أو تعلقت تميمة أو قلت الشعر من قبل نفسي. قال الشيخ: ليس شرب الترياق مكروهاً من أجل أن التداوي محظور، وقد أباح رسول الله صلى الله عليه وسلم التداوى والعلاج في عدة أحاديث ولكن من أجل ما يقع فيه من لحوم الأفاعي وهي محرمة، والترياق أنواع فإذا لم يكن فيه لحوم الأفاعى فلا بأس بتناوله والله أعلم. والتميمة يقال إنها خرزة كانوا يتعلقونها يرون أنها تدفع عنهم الآفات. واعتقاد هذا الرأي جهل وضلال إذ لا مانع ولا دافع غير الله سبحانه ولا يدخل في هذا التعوذ بالقرآن والتبرك والاستشفاء به لأنه كلام الله سبحانه والاستعاذة

ومن باب الأدوية المكروهة

به ترجع إلى الاستعاذة بالله سبحانه، ويقال بل التميمة قلادة تعلق فيها العُود قال أبو ذؤيب: وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كل تميمة لا تنفع وقال آخر: بلاد بها عق الشباب تميمتي ... وأول أرض مس جلدي ترابها وقد قيل إن المكروه من العوذ هو ما كان بغير لسان العرب فلا يفهم معناه ولعله قد يكون فيه سحر أو نحوه من المحظور والله أعلم. ومن باب الأدوية المكروهة قال أبو داود: حدثنا هارون بن عبد الله حدثنا محمد بن بشر حدثنا يونس بن أبي إسحاق عن مجاهد، عَن أبي هريرة قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدواء الخبيث. قال الشيخ: الدواء الخبيث قد يكون خبثه من وجهين أحدهما خبث النجاسة وهو أن يدخله المحرم كالخمر ونحوها من لحوم الحيوان غير مأكولة اللحم، وقد يصف الأطباء بعض الأبوال وعذرة بعض الحيوان لبعض العلل وهي كلها خبيثة نجسة وتناولها محرم إلاّ ما خصته السنة من أبوال الإبل فقد رخص فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفر من عرينة وعُكْل. وسبيل السنن أن يقر كل شيء منها في موضعه وأن لا يضرب بعضها ببعض؛ وقد يكون خبث الدواء أيضاً من جهة الطعم والمذاق ولا ينكر أن يكون كره ذلك لما فيه من المشقة على الطباع ولنكرة النفس إياه، والغالب أن طعوم الأدوية كريهة، ولكن بعضها أيسر احتمالاً وأقل كراهة. قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير أنبأنا سفيان عن ابن أبي ذئب عن سعيد

بن خالد عن سعيد بن المسيب عن عبد الرحمن بن عثمان أن طبيباً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ضفدع يجعلها في دواء فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن قتلها. قال الشيخ: في هذا دليل على أن الضفدع محرم الأكل وأنه غير داخل في ما أبيح من دواب الماء فكل منهي عن قتله من الحيوان فإنما هو لأحد أمرين اما لحرمته في نفسه كالآدمي وإما لتحريم لحمه كالصرد والهدهد ونحوهما وإذا كان الضفدع ليس بمحترم كالآدمى كان النهي فيه منصرفاً إلى الوجه الاخر، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذبح الحيوان إلاّ لمأكله. قال أبو داود: حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا شعبة عن سماك عن علقمة بن وائل عن أبيه وائل ذكرَ طارقَ بن سويد أو سويد بن طارق سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخمر فنهاه، ثم سأله فنهاه فقال له يا نبي الله إنها دواء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا ولكنها داء. قال الشيخ: قوله لا ولكنها داء إنما سماها داء لما في شربها من الإثم، وقد تستعمل لفظة الداء في الآفات والعيوب ومساوي الأخلاق، وإذا تبايعوا الحيوان قالوا برئت من كل داء يريدون العيب، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبني ساعدة: من سيدكم قالوا جد بن قيس وإنا لنُزِنُّه بشيء من البخل، فقال وأي داء أدوى من البخل والبخل إنما هو طبع أو خلق وقد سماه داء، وقال دب إليكم داء الأمم قبلكم البغي والحسد، فنرى أن قوله في الخمر أنها داء أي لما فيها من الإثم فنقلها صلى الله عليه وسلم عن أمر الدنيا إلى أمر الآخرة وحولها من طب الطبيعة إلى طب الشريعة ومعلوم أنها من جهة الطب دواء في بعض الأسقام، وفيها مصحة للبدن وهذا كقوله عليه الصلاة والسلام حين سئل عن الرقوب، فقال هو الذي لم

يمت له ولد، ومعلوم أن الرقوب في كلام العرب هو الذى لا يعيش له ولد، وكقوله ما تعدون الصُّرَعة فيكم، قال الذي يغلب الرجال، قال بل الذي يملك نفسه عند الغضب، وكقوله من تعدون المفلس فيكم، فقالوا الذي لا مال له، فقال بل المفلس الذي يأتي يوم القيامة وقد ظلم هذا وشتم هذا وضرب هذا فيؤخذ من حسناته لهم ويؤخذ من سيئاتهم فيلقى عليه فيطرح في النار. فكل هذا انما هو على معنى ضرب المثل وتحويله عن أمر الدنيا إلى معنى الاخرة وكذلك تسمية الخمر داء إنما هو في حق الدين وحرمة الشريعة لما يلحق شاربها من الإثم وإن لم يكن داء في البدن ولا سقماً في الجسم. وفي الحديث بيان أنه لا يجوز التداوي بالخمر وهو قول أكثر الفقهاء، وقد أباح التداوي بها عند الضرورة بعضهم، واحتج في ذلك بإباحة رسول الله صلى الله عليه وسلم للعرنيين التداوي بأبوال الإبل وهي محرمة إلاّ أنها لما كانت مما يستشفى بها في بعض العلل رخص لهم في تناولها. قلت وقد فرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الأمرين اللذين جمعهما هذا القائل فنص على أحدهما بالحظر وهو الخمر، وعلى الآخر بالإباحة وهو بول الإبل. والجمع بين ما فرقه النص غير جائز. وأيضاً فإن الناس كانوا يشربون الخمر قبل تحريمها ويشغفون بها ويبتغون لذتها، فلما حرمت صعب عليهم تركها والنزوع عنها فغلظ الأمر فيها بإيجاب العقوبة على متناوليها ليرتدعوا عنها وليكفوا عن شربها وحسم الباب في تحريمها على الوجوه كلها شرباً وتداوياً لئلا يستبيحوها بعلة التساقم والتمارض، وهذا المعنى مأمون في أبوال الإبل لانحسام الدواعي ولما على الطباع من المؤنة في تناولها ولما في النفوس من استقذارها والنكرة لها

ومن باب العجوة

فقياس أحدهما على الآخر لا يصح ولا يستقيم والله أعلم. ومن باب العجوة قال أبو داود: حدثنا إسحاق بن إسماعيل حدثنا سفيان عن ابن أبي نَجيح عن مجاهد عن سعد قال: مرضت مرضاً فأتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني فوضع يده بين ثديي حتى وجدت بردها على فؤادي، وقال: إنك رجل مفؤود فائت الحارث بن كلدة أخا ثقيف فإنه رجل يتطبب فليأخذ سبع تمرات من عجوة المدينة فليجأهن بنواهن ثم ليَلُدَّك بهن. قال الشيخ: المفؤود هو الذي أصيبب فؤاده كما قالوا لمن أصيب رأسه مرؤوس ولمن أصيب بطنه مبطون، ويقال إن الفؤاد غشاء القلب والقلب حبته وسويداؤه. ويشبه أن يكون سعد في هذه العلة مصدوراً إلاّ أنه قد كنى بالفؤاد عن الصدر إذا كان الصدر محلاً للفؤاد ومركزاً له، وقد يوصف التمر لبعض علل الصدر. قوله فليجأهن بنواهن يريد ليرضهن والوجيئة حساء يتخذ من التمر والدقيق فيتحساه المريض. وأما قوله فليلدك بهن فإنه من اللدود وهو ما يسقاه الإنسان في أحد جانبي الفم وأخذ من اللديدين وهما جانبا الوادي. ومن باب العِلاق قال أبو داود: حدثنا مسدد وحامد بن يحيى قالا: حَدَّثنا سفيان عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن أم قيس بنت محصن قالت: دخلتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم بابن لي قد أعلقتُ عليه من العُذْرة، فقال على ما تدغَرن أولادكن بهذا العلاق عليكن بهذا العود الهندي فإن فيه سبعة أشفية منها ذات الجنب يُسعط

ومن باب الغيل

من العُذْرة ويلد من ذات الجنب. قال الشيخ: هكذا يقول المحدثون أعلقت عليه وإنما هو أعلقت عنه، قال الأصمعي الاعلاق أن ترفع العذرة باليد والعذرة وجع يهيج في الحلق، وقد ذكره أبو عبيد في كتابه ولم يفسره ومعنى أعلقت عنه دفعت عنه العذرة بالأصبع. ونحوها قاله ابن الأعرابي. ومن باب الغَيْل قال أبو داود: حدثنا الربيع بن نافع أبو توبة حدثنا محمد بن مهاجر عن أبيه عن أسماء بنت يزيد بن السكن قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تقتلوا أولادكم سراً فإن الغيل يدرك الفارس فيدعثره عن فرسه. قال الشيخ: أصل الغيل أن يجامع الرجل المرأة وهي مرضع، يقال منه أغال الرجل أغيل والولد مُغال ومغيل ومنه قول امرىء القيس: فألهيتها عن ذي تمائم مُغَيل وقوله يدعثره عن فرسه معناه يصرعه ويسقطه، وأصله في الكلام الهدم، يقال في البناء قد تدعثر إذا تهدم وسقط يقول صلى الله عليه وسلم: إن المرضع إذا جومعت فحملت فسد لبنها ونهك الولد إذا اغتذى بذلك اللبن فيبقى ضاوياً فإذا صار رجلاً فركب الخيل فركضها أدركه ضعف الغيل فزال وسقط عن متونها فكان ذلك كالقتل له إلاّ أنه سر لا يرى ولا يشعر به. ومن باب تعليق التمائم قال أبو داود: حدثنا محمد بن العلاء حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن

ومن باب الرقى

عمرو بن مرة عن يحيى بن الجزار عن ابن أخي زينب امرأة عبد الله عن زينب امرأة عبد الله عن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الرقى والتمائم والتولة شرك قالت، قلت لم تقول هذا والله لقد كانت عيني تقذف فكنت اختلف إلى فلان اليهودي يرقيني فإذا رقاني سكنت، قال عبد الله إنما ذلك عمل الشيطان كان ينخسها بيده فإذا رقاها كف عنها إنما كان يكفيك أن تقولي كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اذْهب الباس ربَّ الناس اشف أنت الشافي لا شفاء إلاّ شفاؤك شفاء لا يغادر سقماً. قال الشيخ: التولة يقال أنه ضرب من السحر؛ قال الأصمعي وهو الذي يحبب المرأة إلى زوجها، فأما الرقى فالمنهي عنه هو ما كان منها بغير لسان العرب فلا يدرى ما هو ولعله قد يدخله سحراً أوكفراً، فأما إذا كان مفهوم المعنى وكان فيه ذكر الله تعالى فإنه مستحب متبرك به والله أعلم. ومن باب الرُّقى قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا عبد الله بن داود عن مالك بن مِغْول عن حصين عن الشعبي عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا رقية إلاّ من عين أو حُمة. قال الشيخ: الحمة سم ذوات السموم وقد تسمى إبرة العقرب والزنبور حمة وذلك لأنها مجرى السم وليس في هذا نفي جواز الرقية في غيرهما من الأمراض والأوجاع لأنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رقى بعض أصحابه من وجع كان به وقال للشفاء علمي حفصة رقية النملة، وإنما معناه أنه لا رقية أولى وأنفع من رقية العين والسم وهذا كما قيل لا فتى إلاّ علي ولا سيف إلاّ ذو الفقار.

قال أبو داود: حدثنا إبراهيم بن مهدي المصيصي حدثنا علي بن مُسهر حدثنا عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز عن صالح بن كيسان، عَن أبي بكر بن سليمان، عَن أبي حثمة عن الشفاء بنت عبد الله قالت: دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عند حفصة رضي الله عنها، فقال لي ألا تعلمين هذه رُقية النملة كما علمتيها الكتابة. قال الشيخ: النملة قروح تخرج في الجنبين، ويقال إنها تخرج أيضاً في غير الجنب ترقى فتذهب بإذن الله عز وجل، وفي الحديث دليل على أن تعليم الكتابة للنساء غير مكروه. قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا عبد الواحد بن زياد حدثني عمر بن حكيم قال حدثتني الرَّباب قالت سمعت سهل بن حنيف يقول مررنا بسيل فدخلت فاغتسلت فيه فخرجت محموماً فنمي ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: مروا أبا ثابت يتعوذ قالت فقلت يا سيدي والرقْية صالحة قال لا رقية إلاّ في نفس أو حمة أو لدغة. قال الشيخ: النفس العين، وفيه بيان جواز أن يقول الرجل لرئيسه من الآدميين يا سيدي. قال أبو داود: حدثنا يزيد بن خالد بن موهب الرملي حدثنا الليث عن زياد بن محمد عن محمد بن كعب القرظي عن فضالة بن عبيد، عَن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من اشتكى منكم شيئاً فليقل ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك أمرك في السماء والأرض كما رحمتك في السماء فاجعل رحمتك في الأرض اغفر لنا حُوبَنا وخطايانا أنت رب الطيبين أنزل رحمة من رحمتك وشفاء من شفائك على هذا الوجع فيبرأ.

ومن باب النهي عن إتيان الكاهن

قال الشيخ: الحوب الإثم ومنه قول الله تعالى {إنه كان حوباً كبيراً} [النساء: 2] وهو الحوبة أيضاً مفتوحة الحاء مع إدخال الهاء. قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا أبو عَوانة، عَن أبي بشر، عَن أبي المتوكل، عَن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رهطاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم انطلقوا في سفرة سافروها فنزلوا بحي من أحياء العرب، فقال بعضهم إن سيدنا لدغ فهل عند أحد منكم شيء ينفع صاحبنا، فقال رجل من القوم نعم والله إني لأرقي ولكن استضفناكم فأبيتم أن تضيفونا ما أنا براق حتى تجعلوا لنا جعلاً فجعلوا له قطيعاً من الشاه فأتاه فقرأ عليه أم الكتاب ويتفل حتى برأ كأنما أنشط من عقال قال فأوفاهم جعلهم الذي صالحوهم عليه فقالوا اقتسموا فقال الذي رقى لا تفعلوا حتى نأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فنستأمره فغدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أين علمتم أنها رقية أحسنتم اقتسموا واضربوا لي معكم بسهم. قال الشيخ: قوله أنشط من عقال أي حل من عقال، يقال نشطت الشيء إذا شددته. وأنشطته بالألف إذا حللته. وفيه دليل على أن أخذ الأجرة على تعليم القرآن جائز. ومن باب النهي عن إتيان الكاهن قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن حكيم الأثرم، عَن أبي تميمة، عَن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد برئ مما أنزل الله على محمد. قال الشيخ: الكاهن هو الذي يدعي مطالعة علم الغيب ويخبر الناس عن الكوائن، وكان في العرب كهنة يدعون أنهم يعرفون كثيراً من الأمور،

فمنهم من كان يزعم أن له رؤيا من الجن وتابعة تلقي إليه الأخبار. ومنهم من كان يدعي أنه يستدرك الأمور بفهم أعطيه، وكان منهم من يسمى عرافاً وهو الذي يزعم أنه يعرف الأمور بمقدمات أسباب يستدل بها على مواقعها، كالشيء يسرق فيعرف المظنون به السرقة وتتهم المرأة بالزنية فيعرف من صاحبها ونحو ذلك من الأمور. ومنهم من كان يسمي المنجم كاهناً فالحديث يشتمل على النهي عن إتيان هؤلاء كلهم والرجوع إلى قولهم وتصديقهم على ما يدعونه من هذه الأمور. ومنهم من كان يدعو الطبيب كاهناً وربما دعوه أيضاً عرافاً وقال أبو ذؤيب: يقولون لي لوكان بالرمل لم يمت ... نبيشة والكهان تكذب قيلها وقال آخر: جعلت لعراف اليمامة حكمه ... وعراف نجد إن هما شفياني فهذا غير داخل في النهي وإنما هو مغالطة في الأسماء وقد أثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم الّطب وأباح العلاج والتداوي. وقد تقدم ذكره فيما مضى من أبواب الكتاب. قال أبو داود: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ومسدد المعنى قالا: حَدَّثنا يحيى عن عبيد الله بن الأخنس عن الوليد بن عبد الله عن يوسف بن ماهك عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من اقتبس علماً من النجوم اقتبس شعبة من السحر. قال الشيخ: علم النجوم المنهى عنه هو ما يدعيه أهل التنجيم من علم الكوائن والحوادث التي لم تقع وستقع في مستقبل الزمان كأخبارهم بأوقات هبوب

الرياح، ومجيء المطر، وظهور الحر والبرد وتغير الأسعار وما كان في معانيها من الأمور، يزعمون أنهم يدركون معرفتها بسير الكبواكب في مجاريها وباجتماعها واقترانها ويدعون لها تأثيراً في السفليات وأنها تتصرف على أحكامها وتجري على قضايا موجباتها، وهذا منهم تحكم على الغيب وتعاط لعلم استأثر الله سبحانه به لا يعلم الغيب أحد سواه. فأما علم النجوم الذي يدرك من طريق المشاهدة والحس الذي يعرف به الزوال ويعلم به جهة القبلة فإنه غير داخل فيما نهي عنه. وذلك أن معرفة رصد الظل ليس شيئاً بأكثر من أن الظل ما دام متناقصاً فالشمس بعد صاعدة نحو وسط السماء من الأفق الشرقي وإذا أخذ في الزيادة فالشمس هابطة من وسط السماء نحو الأفق الغربي، وهذا علم يصح دركه من جهة المشاهدة، إلاّ أن أهل هذه الصناعة قد دبروه بما اتخذوا له من الالة التي يستغنى الناظر فيها عن مراعاة مدته ومرا صدته. وأما ما يستدل به من جهة النجوم على جهة القبلة فإنما هي كواكب أرصدها أهل الخبرة بها من الأئمة الذين لا نشك في عنايتهم بأمر الدين ومعرفتهم بها وصدقهم فيما أخبروا به عنها مثل أن يشاهدوها بحضرة الكعبة ويشاهدوها في حال الغيبة عنها فكان إدراكهم الدلالة عنها بالمعاينة وادراكنا لذلك بقبولنا لخبرهم إذ كانوا غير متهمين في دينهم ولا مقصرين في معرفتهم. قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن صالح بن كيسان عن عبيد الله بن عبد الله عن زيد بن خالد الجهني قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية في أثر سماء كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس فقال: هل

ومن باب الخط وزجر الطير

تدرون ما قال ربكم، قالوا الله ورسول أعلم قال: قال أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال مُطرنا بفضل الله وبرحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب وأما من قال مُطرنا بنوء كذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب. قال الشيخ: قوله في أثر سماء أي في أثر مطر، والعرب تسمي المطر سماء لأنه نزل منها قال الشاعر: إذا سقط السماء بأرض قوم ... رعيناه وإن كانوا غضابا والنوء واحد الأنواء وهي الكواكب الثمانية والعشرون التي هي منازل القمر كانوا يزعمون أن القمر إذا نزل بعض تلك الكواكب مطروا فأبطل صلى الله عليه وسلم قولهم وجعل سقوط المطر من فعل الله سبحانه دون فعل غيره. ومن باب الخط وزجر الطير قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يحيى حدثنا عوف حدثنا حيان بن العلاء حدثنا قَطَن بن قَبيصة عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: العيافة والطَّيرَه والطرق من الجبت. قال الشيخ: قد فسره أبو عبيد فقال العيافة زجر الطير يقال منه عفت الطير أعيفها عيافة، قال ويقال في غير هذا عافت الطير تعيف عيفاً إذا كانت تحوم على الماء وعاف الرجل الطعام يعافه عيافاً وذلك إذا كرهه. قال وأما الطرق فإنه الضرب بالحصى ومنه قول لبيد: لعمرك ما تدري الطوارق بالحصى ... ولا زاجرات الطير ما الله صانع قال واصل الطرق الضرب، ومنه سميت مطرقة الصائغ والحداد لأنه يطرق بها أي يضرب بها.

ومن باب الطيرة

قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن الحجاج الصواف حدثني يحيى بن أبي كثير عن هلال بن أبي ميمونه عن عطاء بن يسار عن معاوية بن الحكم السلمي قال: قلت يا رسول الله ومنا رجال يخطون قال كان نبي من الأنبياء يخط فمن وافق خطه فذاك. قال الشيخ: صورة الخط ما قاله ابن الأعرابي ذكره أبو عمر، عَن أبي العباس أحمد بن يحيى عنه، قال يقعد الحازي ويأمر غلاماً له بين يديه فيخط خطوطاً على رمل أو تراب ويكون ذلك منه في خفة وعجلة كي لا يدركها العدّ والإحصاء ثم يأمره فيمحها خطين خطين ابني عيان اسرعا البيان فإن كان آخر ما بقى منها خطين فهو آية النجاح وإن بقي خط واحد فهو الخيبة والحرمان. وأما قوله فمن وافق خطه فذلك فقد يحتمل أن يكون معناه الزجر عنه إذا كان من بعده لا يوافق خطه ولا ينال حظه من الصواب لأن ذلك إنما كان آية لذلك النبي فليس لمن بعده أن يتعاطاه طمعاً في نيله والله أعلم. وقد ذكرنا هذا المعنى أو نحوه فيما مضى من هذا الكتاب. ومن باب الطيرة قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير أنبأنا سفيان عن سلمة بن كُهيل عن عيسى بن عاصم عن زِر بن حبيش عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الطيرة شرك وما منا إلاّ ولكن الله يذهبه بالتوكل. قال الشيخ: قوله وما منا إلاّ معناه إلاّ من يعتريه التطير وسبق إلى قلبه الكراهة فيه فحذف اختصاراً للكلام واعتماداً على فهم السامع، وقال محمد بن إسماعيل كان سليمان بن حرب ينكر هذا ويقول هذا الحرف ليس من قول

رسول الله وكأنه قول ابن مسعود رضي الله عنه. قال أبو داود: حدثنا محمد بن المتوكل العسقلاني والحسن بن علي قالا: حَدَّثنا عبد الرزاق أنبأنا معمر عن الزهري، عَن أبي سلمة، عَن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا عدوى ولا صفر ولا هامة، فقال أعرابي ما بال الإبل تكون في الرمل كأنها الظباء فيخالطها البعير الأجرب فيُجْربها، قال فمن أعدى الأول قال معمر، قال الزهري فحدثني رجل، عَن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يوردن مُمرض على مُصح، ققال فراجعه الرجل فقال أليس قد حدثتنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا عدوى ولا صفر ولا هامة، قال لم أحدثكموه، قال الزهري قال أبو سلمة قد حدث به وما سمعت أبا هريرة نسي حديثاً قط غيره. قال الشيخ: قوله لا عدوى يريد أن شيئاً لا يعدي شيئاً حتى يكون الضرر من قبله وإنما هو تقدير الله جل وعز وسابق قضائه فيه ولذلك قال فمن أعدى الأول. يقول إن أول بعير جرب من الإبل لم يكن قبله بعير أجرب فيعديه وإنما كان أول ما ظهر الجرب في أول بعير منها بقضاء الله وقدره فكذلك ما ظهر منه في سائر الإبل بعد. وأما الصفر فقد ذكره أبو عبيد في كتابه، وحكي عن رؤبة بن العجاج أنه سئل عن الصفر فقال هي حية تكون في البطن تصيب الماشية والناس قال وهي أعدى من الجرب، قال أبو عبيد فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم أنها تعدي قال، وقال غيره في الصفر أنه تأخيرهم المحرم إلى صفر في تحريمه. قال وأما الهامة فإن العرب كانت تقول إن عظام الموتى تصير هامة فتطير أبطل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك من قولهم.

قلت وتطير العامة اليوم من صوت الهامة ميراث ذلك الرأي وهو من باب الطيرة المنهي عنها. وأما قوله لا يوردن مُمرض على مُصح قال الممرض الذي مرضت ماشيته والمصح هو صاحب الصحاح منها، كما قيل رجل مضعف إذا كانت دوابه ضعافاً، ومقوٍ إذا كانت أقوياء، وليس المعنى في النهي عن هذا الصنيع من أن المرضى تعدي الصحاح، ولكن الصحاح إذا مرضت بإذن الله وتقديره وقع في نفس صاحبه أن ذلك إنما كان من قبل العدوى فيفتنه ذلك ويشككه في أمره فأمر باجتنابه والمباعدة عنه لهذا المعنى. وقد يحتمل أن يكون ذلك من قبل الماء والمرعى فتستوبله الماشية فإذا شاركها في ذلك الماء الوارد عليها أصابه مثل ذلك الداء والقوم بجهلهم يسمونه عدوى وإنما هو فعل الله تبارك وتعالى بتأثير الطبيعة على سبيل التوسط في ذلك والله أعلم. قال أبو داود: حدثنا محمد بن عبد الرحيم البرْقي أن سعيد بن الحكم حدثهم أنبأنا يحيى بن أيوب حدثني ابن عجلان حدثني القعقاع بن حكيم وعبيد الله بن مقسم وزيد بن أسلم، عَن أبي صالح، عَن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا غُولَ. قال الشيخ: قوله لا غول ليس معناه نفي الغول عيناً وإبطالها كوناً، وإنما فيه إبطال ما يتحدثون عنها من تغولها واختلاف تلونها في الصور المختلفة واضلالها الناس عن الطريق وساسر ما يحكون عنها مما لا يعلم له حقيقة. يقول لا تصدقوا بذلك ولا تخافوها فإنها لا تقدر عل شيء من ذلك إلاّ بإذن الله عز وجل، ويقال إن الغيلان سحرة الجن تسحر الناس وتفتنهم بالإضلال

عن الطريق والله أعلم. قال أبو داود: حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا هشام عن قتادة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا عدوى ولا طِيَرة ويعجبني الفأل الصالح. والفأل الصالح الكلمة الحسنة. قال الشيخ: قد أعلم النبي صلى الله عليه وسلم أن الفأل إنما هو أن يسمع الإنسان الكلمة الحسنة فيفأل بها أي يتبرك بها ويتأولها على المعنى الذي يطابق اسمها وأن الطيرة بخلافها وإنما أخذت من اسم الطير، وذلك أن العرب كانت تتشاءم ببروح الطير إذا كانوا في سفر أو مسير، ومنهم من كان يتطير بسنوحها فيصدهم ذلك عن المسير ويردهم عن بلوغ ما يمموه من مقاصدهم فأبطل صلى الله عليه وسلم أن يكون لشيء منها تأثير في اجتلاب ضرر أو نفع، واستحب الفأل بالكلمة الحسنة يسمعها من ناحية حسن الظن بالله. وأخبرني الكراني حدثنا عبد الله بن شبيب حدثني المنقري حدثنا الأصمعي قال سألت ابن عون عن الفأل، قال هو أن تكون مريضاً فتسمع يا سالم أو تكون طالباً فتسمع يا واجد. قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا أبان حدثنا يحيى أن الحضرمي بن لاحق حدثه عن سعيد بن المسيب عن سعد بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: لا هامة ولا عدوى ولا طيرة وإن تكن الطيرة في شيء ففي المرأة والفرس والدار. قال الشيخ: معنى الطيرة التشاؤم وهو مصدر التطير، يقال تطير الرجنل طيرة كما قالوا تخيرت الشيء خيرة ولم يجىء من المصادر على هذا القياس غيرهما

وجاء من الأسماء على هذا المثال حرفان التوَلة في نوع من السحر وسبي طيبة يقال هذا سبي طيبة أي طيب. وأما قوله إن تكن الطيرة في شيء ففي المرأة والفرس والدار فإن معناه إبطال مذهبهم في الطير بالسوانح والبوارح من الطير والظباء ونحوها، إلاّ أنه يقول إن كانت لأحدكم دار يكره سكناها أو امرأة يكره صحبتها أو فرس لا يعجبه ارتباطه فليفارقها بأن يتنقل عن الدار ويبيع الفرس، وكان محل هذا الكلام محل استثناء الشيء من غير جنسه. وسبيله سبيل الخروج من كلام إلى غيره، وقد قيل إن شؤم الدار ضيقها وسوء جوارها وشؤم الفرس أن لا يغزى عليها وشؤم المرأة أن لا تلد. قال أبو داود: حدثنا مخلَّد بن خالد وعباس العنبري المعنى قالا: حَدَّثنا عبد الرزاق أنبأنا معمر عن يحيى بن عبد الله عن بحير أخبرني من سمع فروة بن مُسيك قال قلت يا رسول الله أرض عندنا يقال لها أرض أبين هي أرض ميرتنا وريفنا وإنها وبيئة أو قال وباؤها شديد فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دعها عنك فإن من القرف التلف. قال الشيخ: ذكر القتبي هذا الحديث في كتابه وفسره قال: القرف مداناة الوباء ومداناة المرض، ويقال أرض قرف أي محمة، قال وكل شيء قاربته فقد قارفته. قلت وليس هذا من باب العدوى وإنما هو من باب الطب فإن استصلاح الأهوية من أعون الأشياء على صحة الأبدان وفساد الهواء من أضرها وأسرعها إلى اسقام البدن عند الأطباء وكل ذلك بإذن الله ومشيئته لا شريك له فلا حول ولا قوة إلاّ به.

كتاب الأطعمة

قال أبو داود: حدثنا الحسين بن يحيى حدثنا بشر بن عمر عن عكرمة بن عمار عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رجل يا رسول الله إنا كنا في دار كثير فيها عددنا كثير فيها أموالنا فتحولنا إلى دار أخرى فقل فيها عددنا وقلت فيها أموالنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذروها ذميمة. قال الشيخ: قد يحتمل أن يكون إنما أمرهم بتركها والتحول عنها إبطالاً لما وقع في نفوسهم من أن المكروه إنما أصابهم بسبب الدار وسكناها فإذا تحولوا عنها انقطعت مادة ذلك الوهم وزال ما كان خامرهم من الشبهة فيها والله أعلم. كتاب الأطعمة باب ما جاء في إجابة الدعوة قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا دعي أحدكم إلى الوليمة فليأتها. قال الشيخ: إجابة الدعوة في الوليمة خصوصاً واجبة لأمرالنبي صلى الله عليه وسلم بها ولما في إتيان الوليمة من إعلان النكاح والإشادة به وعلى هذا يتأول قول أبي هريرة من لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله، فأما سائر الدعوات فليست كذلك ولا يحرج المرء بالتخلف عنها وقد دعي بعض العلماء فلم يجب فقيل له إن السلف كانوا يدعون فيجيبون، فقال كانوا يدعون للمؤاخاة والمؤاساة وأنتم اليوم تدعون للمباهاة والمكافأة. ومن باب الضيافة قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن سعيد المقبري، عَن أبي شريح الكعبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من كان يؤمن بالله واليوم الاخر فليكرم ضيفه

جائزته يوم وليلة والضيافة ثلاثة أيام وما بعد ذلك فهو صدقة ولا يحل له أن يثوي عنده حتى يحرجه. قال الشيخ: قوله جائزته يوم وليلة سئل مالك بن أنس عنه فقال يكرمه ويتحفه ويخصه ويحفظه يوماً وليلة وثلاثة أيام ضيافة. قلت يريد أنه يتكلف له في اليوم الأول بما اتسع له من بر وألطاف ويقدم له في اليوم الثاني والثالث ما كان بحضرته ولا يزيد على عادته وما كان بعد الثلاث فهو صدقة ومعروف إن شاء فعل وإن شاء ترك. وقوله لا يحل له أن يثوي عنده حتى يحرجه، يريد أنه لا يحل للضيف أن يقيم عنده بعد الثلاث من غير استدعاء منه حتى يضيق صدره فيبطل أجره. وأصل الحرج الضيق. قال أبو داود: حدثنا مسدد وخلف بن هشام المنقري قالا: حَدَّثنا أبو عَوانة عن منصور عن عامر، عَن أبي كريمة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليلة الضيف حق على كل مسلم فمن أصبح بفنائه فهو عليه دين إن شاء اقتضى وإن شاء ترك. قال الشيخ: وجه ذلك أنه رآها حقاً من طريق المعروف والعادة المحمودة ولم يزل قرى الضيف وحسن القيام عليه من شيم الكرام وعادات الصالحين، ومنع القرى مذموم على الألسن وصاحبه ملوم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه. قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن شعبة حدثني أبو الجودي عن سعيد بن أبي المهاجر عن المقدام أبي كريمة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيما رجل ضاف قوماً فاصبح الضيف محروماً فإن نصره حق على كل مسلم حتى يأخذ بقرى

ومن باب نسخ الضيف في الأكل

ليلة من زرعه وماله. قال الشيخ: يشبه أن يكون هذا في المضطر الذي لا يجد ما يطعمه ويخاف التلف على نفسه من الجوع فإذا كان بهذه الصفة كان له أن يتناول من مال أخيه ما يقيم به نفسه، وإذا فعل ذلك فقد اختلف الناس فيما يلزمه له، فذهب بعضهم إلى أنه يؤدي إليه قيمته وهذا يشبه مذاهب الشافعي. وقال آخرون لا يلزمه له قيمة، وذهب إلى هذا القول نفر من أصحاب الحديث واحتجوا بأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه جلب لرسول الله صلى الله عليه وسلم لبناً من غنم لرجل من قريش له فيها عبد يرعاها وصاحبها غائب وشربه صلى الله عليه وسلم وذلك في مخرجه من مكة إلى المدينة. واحتجوا أيضاً بحديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من دخل حائطاً فليأكل منه ولا يتخذ خُبنة. وعن الحسن أنه قال إذا مر الرجل بالإبل وهو عطشان صاح برب الإبل ثلاثاً فإن أجابه وإلا حلب وشرب. وقال زيد بن أسلم ذكروا الرجل يضطر إلى الميتة وإلى مال المسلم، فقال يأكل الميتة، قال عبد الله بن دينار يأكل من مال الرجل المسلم، فقال سعيد أصبت إن الميتة تحل له إذا اضطر إليه ولا يحل له مال المسلم. ومن باب نسخ الضيف في الأكل من مال غيره إلاّ بتجارة قال أبو داود: حدثنا أحمد بن محمد المروزي حدثنا علي بن الحسين بن واقد عن أبيه عن يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عياس رضي الله عنهما قال: كان

ومن باب طعام المتباريين

الرجل الغني يدعو الرجل من أهله إلى الطعام فقال إني لأجَنَّحُ أن آكل منه ويقول المسكين أحق به مني لقوله تعالى {لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلاّ أن تكون تجارة عن تراض منكم} [النساء: 29] فنسخ ذلك بقول {ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم} إلى قول {أشتاتاً} [النور: 6] . قال الشيخ: قوله أجنح أي أرى جناحاً وإثماً أن آكله. ومن باب طعام المتباريين قال أبو داود: حدثنا هارون بن زيد بن أبي الزرقاء حدثنا أبي، قال: حَدَّثنا جرير بن حازم عن الزبير بن خُرّيت قال سمعت عكرمة يقول كان ابن عباس رضي الله عنهما يقول إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن طعام المتباريين أن يؤكل. قال أبو داود أكثر من رواه عن جرير لم يذكر فيه ابن عباس. قال الشيخ: المتباريان المتعارضان بفعلهما، يقال تبارى الرجلان إذا فعل كل واحد منهما مثل فعل صاحبه ليرى أيهما يغلب صاحبه، وإنما كره ذلك لما فيه من الرياء والمباهاة ولأنه داخل في جملة ما نهي عنه من أكل المال بالباطل. ومن باب إجابة الدعوة إذا حضرها مكروه قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن سعيد بن جُهمان عن سفينة أبي عبد الرحمن أن رجلاً ضاف علي بن أبي طالب رضي الله عنه فصنع له طعاماً، فقالت فاطمة عليها السلام لو دعونا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكل معنا فدعوه فجاء ووضع يده على عضادتي الباب فرأى القِرام قد ضرب به في ناحية البيت فرجع فقالت فاطمة لعلي عليه السلام الحقه فانظر ما رجَعَه فتبعته؛ فقلت يا رسول الله ما ردك، قال إنه ليس لي أو لنبي أن يدخل بيتاً مزوَّقاً.

ومن باب إذا حضرت الصلاة والعشاء

قال الشيخ: وفيه دليل على أن من دعى إلى مدعاة يحضرها الملاهي والمنكر فإن الواجب عليه أن لا يجيب. القرام الستر وفي رواية أخرى أنه كان ستراً موشى كره الزينة والتصنع. ومن باب إذا حضرت الصلاة والعشاء قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا يحيى القطان عن عبيد الله حدثني نافع عن ابن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا وضع عشاء أحدكم وأقيمت الصلاة فلا يقم حتى يفرُغ. قال أبو داود: حدثنا محمد بن حاتم بن زريع حدثنا معلى بن منصور عن محمد بن ميمون عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد الله قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يؤخر الصلاة لطعام ولا لغيره. قال الشيخ: وجه الجمع بين الحديثين أن الأول إنما جاء فيمن كانت نفسه تنازعه شهوة الطعام وكان شديد التوقان إليه، فإذا كان كذلك وحضر الطعام وكان في الوقت فضل بدأ بالطعام لتسكن شهوة نفسه فلا يمنعه عن توفية الصلاة حقها وكان الأمر يخف عندهم في الطعام وتقرب مدة الفراغ منه إذ كانوا لا يستكثرون منه ولا ينصبون الموائد ويتناولون الأولوان وإنما هو مذقة من لبن وشربة من سويق أو كف من تمر أو نحو ذلك، ومثل هذا لا يؤخر الصلاة عن زمانها ولا يخرجها عن وقتها. وأما حديث جابر فإنه كان لا يؤخر الصلاة لطعام ولا لغيره فهو مما كان بخلاف ذلك من حال المصلي وصفة الطعام ووقت الصلاة، وإذا كان الطعام

ومن باب طعام الفجاءة

لم يوضع وكان الإنسان متماسكاً في نفسه وحضرت الصلاة وجب أن يبدأ بها ويؤخر الطعام. وهذا وجه بناء أحد الحديثين على الاخر والله أعلم. ومن باب طعام الفجاءة قال أبو داود: حدثنا أحمد بن أبي مريم حدثنا عمي سعيد بن الحكم أنبأنا الليث أخبرني خالد بن يزيد، عَن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله أنه قال أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من شعب من الجبل وقد قضى حاجته وبين أيدينا تمر على ترس أو حَجَفة فدعوناه فأكل معنا وما مس ماء. قال الشيخ: دلالة هذا أن طعام الفجأة غير مكروه إذا كان الآكل يعلم أن صاحب الطعام قد تسره مساعدته إياه على أكله ومعلوم أن القوم كانوا يفرحون بمساعدة رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم ويتبركون بمؤاكلته، وإنما جاءت الكراهة في طعام الفجأة إذا كان لا يؤمن أن يشق ذلك صاحب الطعام ويشق عليه ولعله إنما يعرض طعامه إذا فجأه الداخل عليه استحياء منه لا إيجاباً له والله أعلم. ومن باب الأكل متكئاً قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير أنبأنا سفيان عن علي بن الأقمر قال سمعت أبا جحيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا آكل متكئاً. قال الشيخ: يحسب أكثر العامة أن المتكئ هو المائل المعتمد على أحد شقيه لا يعرفون غيره، وكان بعضهم يتأول هذا الكلام على مذهب الطب ودفع الضرر عن البدن إذ كان معلوماً أن الآكل مائلاً على أحد شقيه لا يكاد يسلم من ضغط يناله في مجاري طعامه فلا يسيغه ولا يسهل نزوله إلى معدته.

ومن باب الأكل من أعلى الصحيفة

قال الشيخ: وليس معنى الحديث ما ذهبوا إليه وإنما المتكئ ههنا هو المعتمد على الوطاء الذي تحته وكل من استوى قاعداً على وطاء فهو متكئ. والاتكاء مأخوذ من الوكاء ووزنه الافتعال منه فالمتكئ هو الذي أوكى مقعدته وشدها بالقعود على الوطاء الذي تحته والمعنى أني إذا أكلت لم أقعد متمكناً على الأوطية والوسائد فعل من يريد أن يستكثر من الأطعمة ويتوسع في الألوان ولكني آكل علقة وآخذ من الطعام بلغة فيكون قعودي مستوفزاً له، وروي أنه كان صلى الله عليه وسلم يأكل مقعياً ويقول أنا عبد آكل كما يأكل العبد. ومن باب الأكل من أعلى الصحيفة قال أبو داود: حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا شعبة عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا أكل أحدكم طعاماً فلا يأكل من أعلى الصحيفة ولكن ليأكل من أسفلها فإن البركة تنزل من أعلاها. قال الشيخ: قد ذكر في هذا الحديث أن النهى إنما كان عن ذلك من أجل أن البركة إنما تنزل من أعلاها، وقد يحتمل أيضاً وجها آخر وهو أن يكون النهي إنما وقع عنه إذا أكل مع غيره، وذلك أن وجه الطعام هو أطيبه وأفضله فإذا قصده بالأكل كان مستأثراً به على أصحابه. وفيه من ترك الأدب وسوء العشرة ما لا خفاء به فأما إذا أكل وحده فلا بأس به والله أعلم. ومن باب كراهية تقذر الطعام قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي حدثنا زهير حدثنا سماك بن حرب حدثني قَبِيصة بن هُلْب عن أبيه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وسأل رجل

ومن باب في أكل الجلالة

فقال إن من الطعام طعاماً أتحرج منه، فقال لا يتحلجن في نفسك شيء ضارعت فيه النصرانية. قال الشيخ: قوله لا يتحلجن معناه لا يقعن في نفسك ريبة منه وأصله من الحلج وهو الحركة والاضطراب، ومنه حلج القطن، ومعنى المضارعة المقاربة في الشبه ويقال للشيئين بينهما مقاربة هذا ضرع هذا أي مثله. ومن باب في أكل الجلالة قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا عبدة عن محمد بن إسحاق عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل الجلالة وألبانها. قال الشيخ: الجلالة هي الإبل التي تأكل الجلة وهي العذرة كره أكل لحومها وألبانها تنزهاً وتنظفاً. وذلك أنها إذا اغتذت بها وجد نتن رائحتها في لحومها، وهذا إذا كان غالب علفها منها. فأما إذا رعت الكلأ واعتلفت الحب وكانت تنال مع ذلك شيئاً من الجلة فليست بجلالة وإنما هي كالدجاج ونحوها من الحيوان الذي ربما نال الشيء منها وغالب غذائه وعلفه من غيرها فلا يكره أكله. واختلف الناس في أكل لحوم الجلالة وألبانها فكره ذلك أبو حنيفة وأصحابه والشافعي وأحمد بن حنبل وقالوا لا تؤكل حتى تحبس أياماً وتعلف علفاً غيرها فإذا طاب لحمها فلا بأس بأكله. وقد روي في حديت أن البقر تعلف أربعين يوماً ثم يؤكل لحمها، وكان ابن عمر رضي الله عنه يحبس الدجاجة ثلاثاً ثم يذبح. وقال إسحاق بن راهويه لا بأس أن يؤكل لحمها بعد أن يغسل غسلاً جيداً.

ومن باب في أكل لحوم الخيل

وكان الحسن البصري لا يرى بأساً بأكل لحوم الجلالة، وكذلك قال مالك بن أنس. ومن باب في أكل لحوم الخيل قال أبو داود: حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد عن عمرو بن دينار عن محمد بن علي عن جابر بن عبد الله قال: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن لحوم الحمر وأذن في لحوم الخيل. قال أبو داود: حدثنا حيوة بن شريح حدثنا بقية عن ثور بن يزيد عن صالح بن يحيى بن المقدام بن معديكرب عن أبيه عن جده عن خالد بن الوليد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل لحوم الخيل والبغال والحمير. قال الشيخ: في حديث جابر بيان إباحة لحوم الخيل واسناده جيد. وأما حديث خالد بن الوليد ففي إسناده نظر وصالح بن يحيى بن المقدام عن أبيه عن جده لا يعرف سماع بعضهم من بعض. وقد اختلف الناس في لحوم الخيل فروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يكره لحوم الخيل، وكرهها أبو حنيفة وأصحابه ومالك. وقال الحكم لحوم الخيل في القرآن حرام ثم تلا {والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة} [النحل: 8] ورخصت طائفة فيها روي ذلك عن شريح والحسن البصري وعطاء بن أبي رباح وسعيد بن جبير، وهو قول حماد بن أبي سليمان، وإليه ذهب الشافعي وأحمد وإسحاق. فأما احتجاج من احتج بقوله عز وجل {والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة} في تحريم لحوم الخيل فإن الآية لا تدل على أن منفعة الخيل مقصورة

ومن باب في أكل الضب

على الركوب دون الأكل، وإنما ذكر الركوب والزينة لأنهما معظم ما يبتغى من الخيل كقوله تعالى {حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير} [المائدة: 3] فنص على اللحم لأنه معظم ما يؤكل منه، وقد دخل في معناه دمه وسائر أجزائه وقد سكت عن حمل الأثقال على الخيل، وقيل في الأنعام {لكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون وعليها وعلى الفلك تحملون} [المؤمنون: 21-22] وقال تعالى {وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلاّ بشق الأنفس} [النحل: 7] ثم لم يدل ذلك على أن حمل الأثقال على الخيل غير مباح كذلك الأكل والله أعلم. ومن باب في أكل الضب قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن ابن شهاب، عَن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عن خالد بن الوليد أنه دخل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت ميمونه فأتي بضب محنوذ فأهوى إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده فقال بعض النسوة اللاتي في بيت ميمونه أخبروا النبي صلى الله عليه وسلم بما يريد أن يأكل منه فقال هو ضب فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده قال: فقلت أحرام هو، قال لا ولكنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه، قال خالد فاجتررته فأكلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر. قال الشيخ: المحنوذ المشوي ويقال هو ما شوي بالرضف وهي الحجارة المحماة ومن هذا قوله سبحانه {فجاء بعجل حنيذ} [هود: 69] . وقوله أعافه معناه أقذره وأتكرهه، يقال عفت الشيء أعافه عيفاً ومن زجر الطير عفته، أعيفه، عيافة. وقد اختلف الناس في أكل الضب فرخص فيه جماعة من أهل العلم، روي

ومن باب في أكل حشرات الأرض

ذلك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وإليه ذهب مالك بن أنس والأوزاعي والشافعي، وكرهه قوم. روي ذلك عن علي رضي الله عنه، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه. وقد روي في النهى عن لحم الضب حديث ليس إسناده بذلك، ذكره أبو داود في هذا الباب. ومن باب في أكل حشرات الأرض قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا غالب بن حجرة حدثني مِلقام بن تَلِّب عن أبيه قال صحبت النبي صلى الله عليه وسلم فلم أسمع لحشرة الأرض تحريماً. قال الشيخ: الحشرة صغار دواب الأرض كاليرابيع والضباب والقنافذ ونحوها، وليس في قوله لم أسمع لها تحريماً دليل على أنها مباحة لجواز أن يكون غيره قد سمعه. وقد حضرنا فيه معنى آخر وهو أنه إنما عنى بهذا القول عادة القوم في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم في استباحة الحشرة وكان يعرفها رسول الله صلى الله عليه وسلم من عاداتهم فلم ينه عن أكلها. وقد اختلف الناس في أن الأشياء أصلها على الإباحة أو على الحظر وهي مسألة كبيرة من مسائل أصول الفقه. فذهب بعضهم إلى أنها على الإباحة، وذهب آخرون إلى أنها على الحظر، وذهبت طائفة إلى أن إطلاق القول بواحد منهما فاسد ولا بد من أن يكون بعضها محظوراً وبعضها مباحاً، والدليل ينبئ عن حكمه في مواضعه. وقد اختلف الناس في اليربوع والوبر ونحوهما من الحشرات فرخص في اليربوع عروة وعطاء والشافعي وأبو ثور. وقال مالك لا بأس بأكل الوبر

ومن باب في أكل الضبع

وكذلك قفال الشافعي، وقد روي عن عطاء ومجاهد وطاوس وكرهها ابن سيرين والحكم وحماد وأبو حنيفة وأصحابه. وكره أبو حنيفة وأصحابه القنفذ وسئل عنه مالك بن أنس فقال لا أدري، وكان أبو ثور لا يرى به بأساً، وحكاه عن الشافعي. وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه رخص فيه، وقد روى أبو داود في تحريمه حديثاً ليس إسناده بذلك. فإن ثبت الحديث فهو محرم. ومن باب في أكل الضبع قال أبو داود: حدثنا محمد بن عبد الله الخزاعي حدثنا جرير بن حازم عن عبد الله بن عبيد عن عبد الرحمن بن أبي عمار عن جابر بن عبد الله قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الضبع فقال هو صيد ويجعل فيه كبش إذا صاده المحرم. قال الشيخ: إذا كان قد جعله صيداً أو رأى فيه الفداء فقد أباح أكله كالظباء والحمر الوحشية وغيرها من أنواع صيد البر، وإنما أسقط الفداء في قتل ما لا يؤكل، فقال خمس لا جناح على من قتلهن في الحل والحرم. الحديث. وفي قوله هو صيد دليل على أن من السباع والوحش ما ليس بصيد فلم يدخل تحت قوله تعالى {وحرم عليكم صيد البر} [المائدة: 96] . وفيه دليل على أن لا شيء على من قتل سبعاً لأنه ليس بصيد. وفيه دليل على المثل المجعول في الصيد إنما هو من طريق الخلقة دون القيمة ولو كان الأمر في ذلك موكولاً إلى الاجتهاد لأشبه أن لا يكون بدله مقدراً، وفي ذلك ما دل على أن في الكبش وفاء لجزائه كانت قيمته مثل قيمة المجزي أو لم يكن.

ومن باب في الحمر الأهلية

وقد اختلف الناس في أكل الضبع فروي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه كان يأكل الضبع، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما إباحة لحم الضبع، وأباح أكلها عطاء والشافعي وأحمد بن حنبل واسحاق بن راهويه وأبو ثور، وكرهه الثوري وأبو حنيفة وأصحابه ومالك، وروي ذلك عن سعيد بن المسيب واحتجوا بأنها سبع، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل ذي ناب من السباع. قلت وقد يقوم دليل الخصوص فينزع الشيء من الجملة وخبر جابر خاص وخبر تحريم السباع عام. ومن باب في الحمر الأهلية قال أبو داود: حدثنا إبراهيم بن الحسن المصيصي حدثنا حجاج عن ابن جريج أخبرني عمرو بن دينار أخبرني رجل عن جابر قال: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نأكل لحوم الحمير وأمرنا بأكل لحوم الخيل، قال عمرو فأخبرت هذا الخبر أبا الشعثاء فقال قد كان الحكم الغفاري فينا يقول هذا وأبى ذلك البحر، يَعني ابن عباس رضى الله عنهما. قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن أبي زياد حدثنا عبيد الله عن إسرائيل عن منصور عن عبيد أبي الحسن عن عبد الرحمن عن غالب بن أبجر قال: أصابتنا سنة فلم يكن في مالي شيء أُطعم أهلي إلاّ شيء من حمر وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم لحوم الحمر الأهلية فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله أصابتنا السنة ولم يكن في مالي ما أطعم أهلي إلا سمان حمر وأنك حرمت لحوم الحمر الأهلية، فقال اطعم أهلك من سمين حمرك فإنما حرمتها من أجل جَوال القرية.

قال أبو داود عبد الرحمن هذا هو ابن معقل. قال الشيخ: لحوم الحمر الأهلية محرمة في قول عامة العلماء، وإنما رويت الرخصة فيها عن ابن عباس رضي الله عنهما ولعل الحديث في تحريمها لم يبلغه، فأما حديث ابن أبجر فقد اختلف في إسناده. قال أبو داود: رواه شعبة عن عبيد أبي الحسن عن عبد الرحمن بن معقل عن عبد الرحمن بن بشر عن ناس من مزينة أن سيد مزينة أبجر أو ابن أبجر سأل النبي صلى الله عليه وسلم ورواه مسعر فقال عن ابن عبيد عن ابن معقل عن رجلين من مزينة أحدهما عن الآخر، وقد ثبت التحريم من طريق جابر متصلاً. والرجل الذي رواه عنه عمرو بن دينار ولم يسمه في رواية أبى داود وهو محمد بن علي حدثونا به عن يحيى بن محمد بن يحيى. حدثنا مسدد حدثنا حماد بن زيد عن عمرو بن دينار عن محمد بن علي عن جابر قال نهان رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحمر الأهلية وأذن في لحوم الخيل. وأما قوله إنما حرمتها من أجل جوال القرية فإن الجوال هي الني تأكل العذره وهي الجله، إلا أن هذا لا يثبت وقد ثبت أنه إنما نهى عن لحموما لأنها رجس. حدثناه ابن مالك حدثنا بشر بن موسى حدثنا الحميدي حدثنا سفيان حدثنا أيوب عن محمد بن سيرين عن أنس بن مالك قال: لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر أصبنا حمراً خارجاً من القرية فنحرنا فطبخنا فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلاّ ان الله ورسوله ينهيانكم عنها وأنها رجس من عمل الشيطان فأكفئت القدور بما فيها وإنها لتفور.

ومن باب الطافي من السمك

ومن باب الطافي من السمك قال أبو داود: حدثنا أحمد بن عبدة أنبأنا يحيى بن سُليم الطائفي حدثنا إسماعيل بن أمية، عَن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ألقاه البحر أو جَزَر عنه فكلوه، وما مات فيه فطفاه فلا تأكلوه. قال أبو داود: روى هذا الحديث سفيان الثوري وأيوب وحماد، عَن أبي الزبير أوقفوه على جابر، وقد أسند هذا الحديث أيضاً من وجه ضعيف عن ابن أبي ذئب، عَن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال الشيخ: قد ثبت عن غير واحد من الصحابة أنه أباح الطافي من السمك ثبت ذلك، عَن أبي بكر الصديق وأبي أيوب الأنصاري رضي الله عنهما، وإليه ذهب عطاء بن أبي رباح ومكحول وإبراهيم النخعي، وبه قال مالك والشافعي وأبو ثور، وروي عن جابر وابن عباس رضي الله عنهما كرها الطافي من السمك وإليه ذهب جابر بن زيد وطاوس وبه قال أبو حنيفة وأصحابه. ومن باب أكل دواب البحر قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي حدثنا زهير حدثنا أبو الزبير عن جابر قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر علينا أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه نتلقى عيراً لقريش وزودنا جراباً من تمر لم نجد غيره وكان أبو عبيدة يعطينا تمرة تمرة كنا نمصها كما يمص الصبي ثم نشرب عليها من الماء فيكفينا يوماً إلى الليل وكنا نضرب بعصينا الخبَط ثم نبله بالماء فنأكله، قال وانطلقنا على ساحل البحر فرفع لنا كهيئة الكثيب الضخم فأتيناه فإذا هو دابة تدعى العنبر، فقال أبو عبيدة رضي الله عنه ميتة ولا تحل لنا، ثم قال لا بل نحن رسل رسول

الله صلى الله عليه وسلم وفي سبيل الله وقد اضطررتم فكلوا فأقمنا عليه شهراً ونحن ثلاثمائة حتى سمنا، فلما قدمنا على رسول الله ذكرنا ذلك له فقال هو رزق أخرجه الله لكم فهل معكم من لحمه شيء فتطعمونا فأرسلنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكل. قال الشيخ: الخبط ورق الشجر يضرب بالعصا فيسقط. وفيه دليل على أن دواب البحر كلها مباحة إلاّ الضفدع لما جاء من النهي وإن ميتتها حلال، ألا تراه يقول هل معكم من لحمه شيء فأرسلنا إليه فأكل وهذا حال رفاهية لا حال ضرورة. وقد روي، عَن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أن كل دابة في البحر فقد ذبحها الله لكم أو ذكاها لكم. وعن محمد بن علي أنه قال كل ما في البحر ذكي، وكان الأوزاعي يقول كل شيء كان عيشه في الماء فهو حلال قيل فالتمساح قال نعم، وغالب مذهب الشافعي إباحة دواب البحر كلها إلاّ الضفدع لما جاء من النهي عن قتلها. وكان أبو ثور يقول جميع ما يأوي إلى الماء فهو حلال فما كان منه يذكى لم يحل إلاّ بذكاة وما كان منه لا يذكى مثل السمك أخذه حياً وميتاً. وكره أبو حنيفة دواب البحر كلها إلاّ السمك. وقال سفيان الثوري أرجو أن لا يكون بالسرطان بأس. وقال ابن وهب سألت الليث بن سعد عن أكل خنزير الماء وكلب الماء وإنسان الماء ودواب الماء كلها، فقال أما إنسان الماء فلا يؤكل على شيء من الحالات، والخنزير إذا سماه الناس خنزيراً فلا يؤكل، وقد حرم الله الخنزير وأما الكلاب فليس بها بأس في البر والبحر.

ومن باب المضطر إلى الميتة

قلت: لم يختلفوا أن المارماهي مباح أكله وهو شبيه بالحيات ويسمى أيضاً حية، فدل ذلك على بطلان اعتبار معنى الأسماء والأشباه في حيوان البحر، وإنما هي كلها سموك وإن اختلفت أشكالها وصورها وقد قال سبحانه {أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعاً لكم} [المائدة: 96] فدخل كل ما يصاد من البحر من حيوانه لا يخص شيء منه إلاّ بدليل، وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ماء البحر فقال طهور ماؤه حلال ميتته فلم يستثن شيئاً منها دون شيء، فقضية العموم توجب فيها الإباحة إلاّ ما استثناه الدليل والله أعلم. ومن باب المضطر إلى الميتة قال أبو داود: حدثنا هارون بن عبد الله حدثنا الفضل بن دكين حدثنا عقبة بن وهب عن عقبة العامري، قال سمعت أبي يحدث عن الفجيع العامري أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ما يحل لنا من الميتة، قال ما طعامكم، قلنا نغتبق ونصطبح، قال أبو نعيم فسره لي عقبة قدح غُدْوة وقدح عَشِية، قال ذاك وأبى الجوع فأحل لهم الميتة على هذه الحال. قال الشيخ: الغبوق العشاء، والصبوح الغداء، والقدح من اللبن بالغداة، والقدح بالعشي يمسك الرمق ويقيم النفس وإن كان لا يغذو البدن ولا يشبع الشبع التام، وقد أباح لهم مع ذلك تناول الميتة فكان دلالته أن تناول الميتة مباح إلى أن تأخذ النفس حاجتها من القوت، وإلى هذا ذهب مالك بن أنس وهو أحد قولي الشافعي، وذلك أن الحاجه منه قائمة إلى الطعام في تلك الحال كهي في الحال المتقدمة فمنعه بعد إباحته له غير جائز قبل أن يأخذ منه حاجته وهذا كالرجل يخاف العنت ولا يحد طولاً لحرة فإذا أبيح له نكاح الأمة وصار

ومن باب في أكل الجبن

إلى أدنى حال التعفف لم يبطل النكاح. وقال أبو حنيفة لايجوز له أن بيتناول منه إلاّ قدر ما يمسك رمقه. وإليه ذهب المزني قالوا وذلك لأنه لو كان في الابتداء بهذا الحال لم يجز له أن يأكل شيئاً منها فكذلك إذا بلغها بعد تناولها. وقد روي نحو من هذا عن الحسن البصري، وقال قتادة لا يتضلع منها. ومن باب في أكل الجبن قال أبو داود: حدثنا يحيى بن موسى البلخي حدثنا إبراهيم بن عيينة عن عمرو بن منصور عن الشعبي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال أتي النبي صلى الله عليه وسلم بجبنة في تبوك فدعا بسكين فسمى وقطع. قال الشيخ: إنما جاء به أبو داود من أجل أن الجبن كان يعمله قوم الكفار لا تحل ذكاتهم وكانوا يعقدونها بالأنافج وكان من المسلمين من يشاركهم في صنعة الجبن فأباحه النبي صلى الله عليه وسلم على ظاهر الحال ولم يمتنع من أكله من أجل مشاركة الكفار المسلمين فيه. ومن باب في الخل قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا معاوية بن هشام حدثنا سفيان عن محارب بن دثار عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال نعم الإدام الخل. قال الشيخ: معنى هذا الكلام الاقتصاد في المأكل ومنع النفس عن ملاذ الأطعمة كأنه يقول ائتدموا بالخل وما كان في معناه مما تخف مؤنته ولا يعز وجوده ولا تتأنقوا في المطعم فإن تناول الشهوات مفسدة للدين مسقمة للبدن. وفيه من الفقه أن من حلف لا يأتدم فأكل خبزة بخل حنث.

ومن باب في الثوم

ومن باب في الثوم قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب حدثني عطاء بن أبي رباح أن جابر بن عبد الله قال، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من أكل ثوماً أو بصلاً فليعتزلنا أو ليعتزل مسجدنا وليقعد في بيته وأنه أُتني ببَدْر فيه خضرات من البقول وذكر الحديث. قال الشيخ: قوله أتي ببدر يريد بطبق وسمي الطبق بدراً لاستدارته، ومنه سمي القمر قبل كماله بدراً وذلك لاستدارته وحسن اتساقه. وقوله فليعتزل مسجدنا إنما أمره باعتزال المسجد عقوبة له وليس هذا من باب الأعذار التي تبيح للمرء التخلف عن الجماعة كالمطر والريح العاصف ونحوهما من الأمور، وقد رأيت بعض الناس صنف في الأعذار المانعة عن حضور الجماعة باباً ووضع فيها أكل الثوم والبصل وليس هذا من ذلك في شيء والله أعلم. ومن باب القران بالتمر عند الأكل قال أبو داود: حدثنا واصل بن عبد الأعلى حدثنا ابن فضيل عن ابن إسحاق عن جبَلة بن سُحيم عن ابن عمر قال نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن القران إلاّ أن تستأذ أصحابك. قال الشيخ: إنما جاء النهي عن القران لمعنى مفهوم وعلة معلومة وهي ما كان القوم من شدة العيش وضيق الطعام واعوازه، وكانوا يتجوزون في المأكل ويواسون من القليل فإذا اجتمعوا على الأكل تجافى بعضهم عن الطعام لبعض وآثر صاحبه على نفسه، غير أن الطعام ربما يكون مشفوهاً. وفي القوم من بلغ به الجوع الشدة فهو يشفق من فنائه قبل أن يأخذ حاجته منه فربما قرن بين التمرتين وأعظم اللقمة ليسد به الجوع وتشفى به القَرَمَ فأرشد

ومن باب الجمع بين الشيئين في الأكل

النبي صلى الله عليه وسلم إلى الأدب فيه وأمر بالاستئذان ليستطيب به نفس أصحابه فلا يجدوا في أنفسهم من ذلك إذا رأوه قد استأثر به عليهم، أما اليوم فقد كثر الخير واتسعت الرحال وصار الناس إذا اجتمعوا تلاطفوا على الأكل وتحاضوا على الطعام فهم لا يحتاجون إلى الاستئذان في مثل ذلك إلاّ أن يحدث حال من الضيق والاعواز تدعو الضرورة فيها إلى مثل ذلك فيعود الأمر إليه إذا عادت العلة والله أعلم. ومن باب الجمع بين الشيئين في الأكل قال أبو داود: حدثنا سعيد بن نصير حدثنا أبو أسامة حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل الطبيخ بالرطب ويقول يكسر حر هذا برد هذا وبرد هذا حر هذا. قال الشيخ: فيه إثبات الطب والعلاج ومقابلة الشيء الضار بالشيء المضاد له في طبعه على مذهب الطب والعلاج؛ ومنه إباحة التوسع من الأطعمة والنيل من الملاذ المباحة، والطبيخ لغة في البطيخ. ومن باب الأكل في آنية أهل الكتاب والمجوس والطبخ فيها قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا عبد الأعلى واسماعيل عن برد بن سنان عن عطاء عن جابر قال: كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنصيب من آنية المشركين واسقيتهم فنستمتع بها فلا يعيب ذلك عليهم. قال الشيخ: ظاهر هذا يبيح استعمال آنية المشركين على الاطلاق من غير غسل لها وتنظيف، وهذه الإباحة مقيدة بالشرط الذي هو مذكور في الحديث الذي يليه في هذا الباب.

ومن باب الفأرة تقع في السمن

قال أبو داود: حدثنا نصر بن عاصم حدثنا محمد بن شعيب أنبأنا عبد الله بن العلاء بن زَبْر، عَن أبي عبيد الله مسلم بن مِشْكم، عَن أبي ثعلبة الخُشني رضي الله عنه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إنا نجاور أهل الكتاب وهم يطبخون في قدورهم الخنزير ويشربون في آنيتهم الخمر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن وجدتم غيرها فكلوا فيها واشربوا وإن لم تجدوا غيرها فارحضوها بالماء وكلوا واشربوا. قال الشيخ: والأصل في هذا أنه إذا كان معلوماً من حال المشركين أنهم يطبخون في قدورهم لحم الخنزير ويشربون في آنيتهم الخمور فإنه لا يجوز استعمالها إلاّ بعد الغسل والتنظيف، فأما مياههم وثيابهم فإنها على الطهارة كمياه المسلمين وثبابهم إلاّ أن يكونوا من قوم لا يتحاشون النجاسات أو كان من عادتهم استعمال الأبوال في طهورهم فإن استعمال ثيابهم غير جائز إلاّ أن لا يعلم أنه لم يصبها شيء من النجاسات والله أعلم. والرحض الغسل. ومن باب الفأرة تقع في السمن قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي حدثنا عبد الرزاق أنبأنا معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وقعت الفأرة في السمن فإن كان جامداً فألقوها وما حولها وإن كان مائعاً فلا تقربوه. قال الشيخ: فيه دليل على أن المائعات لا تزال بها النجاسات وذلك انها إذا لم تدفع عن نفسها النجاسة فلأن لا تدفع عن غيرها أولى. وقوله لا تقربوه يحتمل وجهين أحدهما لا تقربوه أكلاً وطعماً ولا يحرم

ومن باب الذباب يقع في الطعام

الانتفاع به من غير الوجه استصباحاً وبيعاً ممن يستصبح به ويدهن به السفن ونحوها، ويحتمل أن يكون النهي في ذلك عاماً على الوجوه كلها. وقد اختلف الناس في الزيت إذا وقعت فيه نجاسة فذهب نفر من أصحاب الحديث إلى أنه لا ينتفع به على وجه من الوجوه لقوله لا تقربوه. واستدلوا فيه أيضاً بما روي في بعض الأخبار أنه قال أريقوه. وقال أبو حنيفة هو نجس لا يجوز أكله وشربه ويجوز بيعه والاستصباح به. وقال الشافعي لا يجوز أكله ولا بيعه ويجوز الاستصباح به. وقال داود إن كان هذا سمناً فلا يجوز تناوله ولا بيعه وإن كان زيتاً لم يحرم تناوله وبيعه وذلك أنه زعم أن الحديث إنما جاء في السمن وهو لا يعدو لفظه ولا يقبس عليه من طريق المعنى غيره. ومن باب الذباب يقع في الطعام قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا بشر يعنى ابن المفضل عن ابن عجلان، عَن أبي سعيد المقبري، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فامقُلوه فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء وأنه يتقي بجناحه الذي فيه الداء فليغمسه كله. قال الشيخ: فيه من الفقه ان أجسام الحيوان طاهرة إلاّ ما دلت عليه السنة من الكلب وما ألحق به في معناه. وفيه دليل على أن ما لا نفس له سائلة إذا مات في الماء القليل لم ينجسه، وذلك إن غمس الذباب في الإناء قد يأتي عليه فلو كان نجسه إذا مات فيه لم يأمره بذلك لما فيه من تنجيس الطعام وتضييع المال وهذا قول عامة العلماء،

ومن باب اللقمة تسقط

إلاّ أن الشافعي قد علق القول فيه فقال في أحد قوليه إن ذلك ينجسه. وقد روي عن يحيى بن أبي كثير أنه قال في العقرب يموت في الماء أنها تنجسه وعامة أهل العلم على خلافه. وقد تكلم على هذا الحديث بعض من لا خلاق له وقال كيف يكون هذا وكيف يجتمع الداء والشفاء في جناحي الذبابة وكيف تعلم ذلك من نفسها حتى تقدم جناح الداء وتؤخر جناح الشفاء وما أربها إلى ذلك. قلت: وهذا سؤال جاهل أو متجاهل وإن الذي يجد نفسه ونفوس عامة الحيوان قد جمع فيها بين الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة وهي أشياء متضادة إذا تلاقت تفاسدت، ثم يرى أن الله سبحانه قد ألف بينها وقهرها على الاجتماع وجعل منها قوى الحيوان التي بها بقاؤها وصلاحها لجدير أن لا ينكر اجتماع الداء والشفاء في خزأين من حيوان واحد، وأن الذي ألهم النحلة أن تتخذ البيت العجيب الصنعة وأن تعسل فيه، وألهم الذرة أن تكتسب قوتها وتدخره لأوان حاجتها إليه هو الذي خلق الذبابة وجعل لها الهداية إلى أن تقدم جناحاً وتؤخر جناحاً لما أراد من الابتلاء الذي هو مدرجة التعبد والامتحان الذي هو مضمار التكليف وفي كل شيء عبرة وحكمة وما يذكر إلاّ أولو الألباب. ومن باب اللقمة تسقط قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن ثابت عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أكل لعق أصابعه الثلاث، وقال إذا سقطت لقمة أحدكم فليمط عنها الأذى وليأكلها ولا يدعها للشيطان. وأمرنا أن نسلت الصحيفة وقال إن أحدكم لا يدري في أي طعامه يبارك له.

ومن باب اقعاد الخادم على الطعام

قال الشيخ: سلت الصحيفة تتبع ما يبقى فيها من الطعام ومسحها بالإصبع ونحوه، ويقال سلت الرجل الدم عن وجهه إذا مسحه بأصبعه وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم العلة في لعق الأصابع وسلت الصحيفة، وهو قوله فإنه لا يدري في أي طعامه يبارك له. يقول لعل البركة فيما لعق بالأصابع والصحفة من لطخ ذلك الطعام. وقد عابه قوم أفسدت عقولهم الترفه وغير طباعهم الشبع والتخمة وزعموا أن لعق الأصابع مستقبح أو مستقذر كأنهم لم يعلموا أن الذي علق بالإصبع أو الصحفة جزء من أجزاء الطعام الذي أكلوه وازدردوه فإذا لم يكن سائر أجزائه المأكولة مستقذرة لم يكن هذا الجزء اليسير منه الباقي في الصحفة واللاصق بالأصابع مستقذراً كذلك. وإذا ثبت هذا فليس بعده شيء أكثر من مسه أصابعه بباطن شفتيه وهو ما لا يعلم عاقل به بأساً إذا كان المساس والممسوس جميعاً طاهرين نظيفين. وقد يتمضمض الإنسان فيدخل اصبعه في فيه فيدلك أسنانه وباطن فمه فلم ير أحد ممن يعقل أنه قذارة أو سوء أدب فكذلك هذا لا فرق بينهما في منظر حسٍّ ولا مخبر عقل. ومن باب اقعاد الخادم على الطعام قال أبو داود: حدثنا القعنبي حدثنا داود بن قيس عن موسى بن يسار، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صنع لأحدكم خادمُه طعاماً ثم جاءه به فليقعده معه فليأكل فإن كان الطعام مشفوهاً فليضع في يده منه أُكلة أو أكلتين. قال الشيخ: المشفوه القليل وقيل له مشفوه لكثرة الشفاه التي تجتمع على أكله والأكلة مضمومة الألف اللقمة والأكلة بفتحها المرة الواحدة من الأكل.

ومن باب ما يقول الرجل إذا طعم

وفيه دليل على أنه ليس بالواجب على السيد أن يسوي بينه وبين مملوكه وبين نفسه في المأكل إذا كان ممن يعتاد رقيق الطعام ولذيذه وإن كان مستحباً له أن يواسيه منه وإنما عليه أن يشبعه من طعام يقيمه كما ليس عليه أن يكسيه من خير الثياب وثمينه الذي يلبسه وإنما عليه أن يستره بما يقيه الحر في الصيف والبرد في الشتاء وعلى كل حال فإنه لا يخليه من مواساة واتحاف من خاص طعامه إن لم يكن مواساة ومفاوضة والله أعلم. ومن باب ما يقول الرجل إذا طعم قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن ثور عن خالد بن معدان، عَن أبي امامة قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفعت المائدة قال الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه غير مكفي ولا مودع ولا مستغنى عنه ربنا. قال الشيخ: قوله غير مكفي ولا مودع ولا مستغنى عنه ربنا، معناه أن الله سبحانه هو المطعم والكافي وهو غير مطعَم ولا مكفي كما قال سبحانه: {وهو يطعم ولا يطعم} الأنعام: 14] وقوله ولا مودع أي غير متروك الطلب إليه والرغبة فيما عنده، ومنه قوله سبحانه {ما ودعك ربك وما قلى} [الضحى: 3] أي ما تركك ولا أهانك ومعنى المتروك المستغنى عنه. كتاب الأشربة ومن باب تحريم الخمر قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا إسماعيل بن إبراهيم حدثنا أبو حيان حدثني الشعبي عن ابن عمر عن عمر رضي الله عنهما قال نزل تحريم الخمر يوم نزل وهي من خمسة من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير والخمر ما خامر العقل.

ومن باب الخمر مما هي

قال الشيخ: فيه البيان الواضح أن قول من زعم من أهل الكلام أن الخمر إنما هو عصير العنب النيء الشديد منه وإن ما عدا ذلك فليس بخمر باطل. وفيه دليل على فساد قول من زعم أن لا خمر إلاّ من العنب والزبيب والتمر ألا ترى أن عمر ضي الله عنه أخبر أن الخمر حرمت يوم حرمت وهي تتخذ من الحنطة والشعير والعسل كما أخبر أنها كانت تتخذ من العنب والتمر وكانوا يسمونها كلها خمراً، ثم ألحق عمر رضي الله عنه بها كل ما خامر العقل من شراب وجعله خمراً إذ كان في معناها لملابسته العقل ومخامرته إياه، وفيه إثبات القياس والحاق حكم الشيء بنظيره. وفيه دليل على جواز إحداث الاسم للشيء من طريق الاشتقاق بعد أن لم يكن. ومن باب الخمر مما هي قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي حدثنا يحيى بن آدم حدثنا إسرائيل عن إبراهيم بن مهاجر عن الشعبي عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن من العنب خمراً وإن من التمر خمراً وإن من العسل خمراً وإن من البر خمراً وإن من الشعير خمراً. قال الشيخ: فيه تصريح من النبي صلى الله عليه وسلم بما قال عمر رضي الله عنه وأخبر عنه في الحديث الأول من كون الخمر عن هذه الأشياء، وليس معناه أن الخمر لا يكون إلاّ من هذه الخمسة بأعيانها وإنما جرى ذكرها خصوصاً لكونها معهودة في ذلك الزمان فكل ما كان في معناها من ذرة وسلت ولب ثمرة وعصارة شجرة فحكمه حكمها كما قلناه في الربا ورددنا إلى الأشياء الأربعة المذكورة في الخبر كل ما كان في معناها من غير المذكور فيه.

ومن باب في الخمر تتخذ خلا

قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا أبان حدثنا يحيى، عَن أبي كثير وهو يزيد بن عبد الرحمن، عَن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الخمر من هاتين الشجرتين النخلة والعنبة. قال الشيخ: هذا غير مخالف لما تقدم ذكره من حديث النعمان بن بشير وإنما وجهه ومعناه أن معظم ما يتخذ من الخمر إنما هو من النخلة والعنبة وإن كانت الخمر قتد تتخذ أيضاً من غيرهما وإنما هو من باب التأكيد لتحريم ما يتخذ من هاتين الشجرتين لضراوته وشدة سورته وهذا كما يقال الشبع في اللحم والدفء في الوبر ونحو ذلك من الكلام. وليس فيه نفي الشبع عن غير اللحم ولا نفي الدفء عن غير الوبر ولكن فيه التوكيد لأمرهما والتقديم لهما على غيرهما في نفس ذلك المعنى والله أعلم. ومن باب في الخمر تتخذ خلاً قال أبو داود: حدثنا زهير بن حرب حدثنا وكيع عن سفيان عن السدي، عَن أبي هبيرة عن أنس بن مالك أن أبا طلحة سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أيتام ورثوا خمراً قال أهرقها قال أفلا أجعلها خلاً قال لا. قال الشيخ: في هذا بيان واضح أن معالجة الخمر حتى تصير خلاً غير جائز ولو كان إلى ذلك سبيل لكان مال اليتيم أولى الأموال به لما يجب من حفظه وتثميره والحيطة عليه، وقد كان نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال. وفي إراقته إضاعته فعلم بذلك أن معالجته لا تطهره ولا ترده إلى المالية بحال، وهو قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وإليه ذهب الشافعي وأحمد بن حنبل وكره ذلك سفيان وابن المبارك.

ومن باب النهي عن المسكر

وقال مالك لا أحب لمسلم ورث خمراً أن يحبسها يخللها ولكن إن فسدت خمر حتى تصير خلاً لم أر بأكله بأساً؛ وقيل لابن المبارك كيف يتخذ الخل بأن لا يأثم الرجل، قال انظر خلاً نقيفاً فصب عليه قدر ما لا يغلبه العصير، فإن غلبه العصير لم يغل. وقال أحمد نحواً من ذلك، وقال ما يعجبني أن يكون في بيت الرجل المسلم خمر ولكن يصب على العصير من الخل حتى يتغير، ورخص في تخليل الخمر ومعالجتها عطاء بن أبي رباح وعمر بن عبد العزيز، وإليه ذهب أبو حنيفة وشبهه بعضهم بدباغ جلد الميتة، وقال هو محرم يستباح بالعلاج ويستصلح له فكذلك الخمر، وهذا غير مشبه لذلك وإنما يجوز القياس مع عدم النص وههنا نص من السنة وقد منع منه وفي الدباغ نص سنة رخص فيه ودعا إليه فالواجب علينا متابعة كل منهما وترك قياس أحدهما على الآخر. وقد فرق العلماء في الحكم بين أشياء تتغير بذاتها وبين ما يصير منها إلى التغير بفعل فاعل كالرجل يموت حتف أنفه فيرثه ابنه ولو قتله الابن لم يرثه. وقد حرم الله صيد الحرم في الحرم، فلو خرج الصيد فأخذ في الحل جاز أكله ولو أخرجه مخرج فذبحه خارج الحرم لم يحل. ومن باب النهي عن المسكر قال أبو داود: حدثنا سليمان بن داود ومحمد بن عيسى في آخرين قالوا حدثنا حماد، يَعني ابن زيد عن أيوب عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كل مسكر خمر وكل مسكر حرام، ومن مات وهو يشرب الخمر يدمنها لم يشربها في الآخرة. قال الشيخ: قوله كل مسكر خمر يتأول على وجهين أحدهما أن الخمر اسم

لكل ما وجد فيه السكر من الأشربة كلها؛ ومن ذهب إلى هذا زعم أن للشريعة أن تحدث الأسماء بعد أن لم تكن. كما لها أن تضع الأحكام بعد أن لم تكن. والوجه الآخر أن يكون معناه أنه كالخمر في الحرمة ووجوب الحد على شاربه وإن لم يكن عين الخمر، وإنما ألحق بالخمر حكماً إذ كان في معناها. وهذا كما جعل النباش في حكم السارق والمتلوط في حكم الزاني وإن كان كل واحد منهما يختص في اللغة باسم غير الزنى وغير السرقة. وقوله من مات وهو يشرب الخمر يدمنها فإن مدمن الخمر هو الذي يتخذها ويعاقرها، وقال النضر بن شميل من شرب الخمر إذا وجدها فهو مدمن للخمر وإن لم يتخذها. وقوله لم يشربها في الآخرة معناه لم يدخل الجنة لأن شراب أهل الجنة خمر إلاّ أنه لا غول فيها ولا نزف. قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن ابن شهاب، عَن أبي سلمة عن عائشة رضي الله عنها قالت سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البِتْع فقال كل شراب أسكر فهو حرام. قال الشيخ: البتع شراب يتخذ من العسل وفي هذا إبطال كل تأول يتأوله أصحاب تحليل الأنبذة في أنواعها كلها وافساد قول من زعم أن القليل من المسكر مباح، وذلك أنه سئل عن نوع واحد من الأنبذة فأجاب عنه بتحريم الجنس فدخل فيه القليل والكثير منها. ولو كان هناك تفصيل في شيء من أنواعه ومقاديره لذكره ولم يبهمه والله أعلم. قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا إسماعيل، يَعني ابن جعفر عن داود

بن بكر بن الفُرات عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أسكر كثيره فقليله حرام. قال الشيخ: هذا أوضح البيان أن الحرمة شاملة لأجزاء المسكر وأن قليله ككثيره في الحرمة، والاسكار في هذا الحديث وإن كان مضافاً إلى كثيره فان قليله مسكر على سبيل التعاون كالزعفران يطرح اليسير منه في الماء فلا يصبغه حتى إذا أمدَّ بجزء بعد جزء منه فإذا كثر ظهر لونه وكان الصبغ والتلوين مضافاً إلى جميع أجزائه على سبيل التعاون. وتأوله بعضهم تأولاً فاسداً فقال إنما وقعت الإشارة بقول فقليله حرام إلى الشربة الآخرة أو إلى الجرعة التي يحدث السكر عقيب شربها لأن الفعل إنما يضاف إلى سببه وسبب السكر هو الشربة الآخرة التي حدث السكر على أثرها لا ما تقدمها منه حين السكر معدوم. قلت وهذا تأويل فاسد إذ كان مستحيلاً في العقول وشهادات المعارف أن يعجز كثير الشيء عما يقدر عليه قليله. ولو كان الأمر على ما زعموه لكان لقائل أن يقول إن الله حرم علينا شيئاً لم يجعل لنا طريقاً إلى معرفة عينه لأن الشارب لا يعلم متى يقع السكر به ومن أي أجزاء الشراب يحدث فيه وهذا فاسد لا وجه له، ولو توهمنا الجزء الآخر مشروباً مفرداً عن غيره غير مضاف ولا مجموع إلى ما تقدمها لم يتوهم وجود السكر فيه حين انضم إلى سائر الأجزاء توهمنا وجوده فعلمنا أن السكر إنما حصل بمجموع أجزائه والله أعلم. قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا مهدي بن ميمون حدثنا عثمان الأنصاري عن القاسم عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم

يقول كل مسكر حرام وما أسكر منه الفرَق فملء الكف منه حرام. قال الشيخ: الفرق مكيلة تسع ستة عشر رطلاً وفي هذا أبين البيان أن الحرمة شاملة لجميع أجزاء الشراب المسكر. وفيه حجة على من زعم أن الإسكار لا يضاف إلى الشراب لأن ذلك من فعل الله سبحانه. قلت والأمر وإن كان صحيحاً في إضافة الفعل إلى الله عز وجل فإنه قد يصح أن يضاف إلى الشراب على معنى أن الله تعالى قد أجرى العادة بذلك كما أن إضافة الاشباع إلى الطعام والارواء إلى الشراب صحيح إذ كان قد أجرى الله العادة به. قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن محمد بن إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب عن الوليد عن عبيدة عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الخمر والميسر والكوبة والغبيراء وقال كل مسكر حرام. قال الشيخ: الميسر القمار، والكوبة يفسر بالطبل ويقال هو النرد ويدخل في معناه كل وتر ومزهر في نحو ذلك من الملاهي والغناء. قال أبو عبيد الغبيراء هو السُّكُرْكة يعمل من الذرة شراب يصنعه الحبشة. وفي قوله كل مسكر حرام دليل على تحريم الوضوء بالنبيذ المسكر. قال أبو داود: حدثنا سعيد بن منصور حدثنا أبو شهاب عبد ربه بن نافع عن الحسن بن عمرو الفُقيمي عن الحكم بن عتيبة عن شهر بن حوشب عن أم سلمة قالت نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر. قال الشيخ: المفتر كل شراب يورث الفتور والخدر في الأطراف وهو

ومن باب في الأوعية

مقدمة السكر نهى عن شربه لئلا يكون ذريعة إلى السكر والله أعلم. ومن باب في الأوعية قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا عبد الواحد بن زياد حدثنا منصور بن حبان عن سعيد بن جبير عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما قالا نشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الدباء والمزفَّت والحنتم والنَّقير. قال الشيخ: الدباء القرع قال أبو عبيد قد جاء تفسيرها في الحديث، عَن أبي بكرة أنه قال اما الدباء فإنا معاشر ثقيف كنا بالطائف نأخذ الدباء فنخرط فيها عناقيد العنب ثم ندفنها حتى تهدر ثم تموت. وأما النقير فإن أهل اليمامة كانوا ينقرون أصل النخلة ثم ينبذون الرطب والبسر ويدعونه حتى يهدر ثم يموت، وأما الحنتم فجرار كانت تحمل إلينا فيها الخمر وأما المزفت فهذه الأوعية التي فيها الزفت. قلت وإنما نهى عن هذه الأوعية لأن لها ضراوة يشتد فيها النبيذ ولا يشعر بذلك صاحبها فتكون على غرر من شربها. وقد اختلف الناس في هذا فقال قائلون كان هذا في صلب الإسلام ثم نسخ بحديث بريدة الأسلمي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كنت نهيتكم عن الأوعية فاشربوا في كل وعاء ولا تشربوا مسكراً، وهذا أصح الأقاويل. وقال بعضهم الخطر باق وكرهوا أن ينتبذوا في هذه الأوعية وإليه ذهب مالك بن أنس وأحمد بن حنبل وإسحاق، وقد روي ذلك عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما. قال أبو داود: حدثنا وهب بن بقية عن نوح بن قيس حدثنا عبد الله بن عون

ومن باب في الخليطين

عن محمد بن سيرين عن أبى هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لوفد عبد القيس أنهاكم عن النقير والمقيَّر والحنْتم والدُّباء والمزادة المحبوبة ولكن اشرب في سقائك وأوكه. قال الشيخ: قوله اشرب في سقائك وأوكه إنما قال ذلك من أجل أن السقاء الذي يشد ويوكي جلد رقيق فإذا حدثت فيه الشدة تقطع وانشق فلم يخف على صاحبه أمره، وهذه الأوعية صلبة متينة يتغير فيها الشراب وتشتد فلا يشعر صاحبها بذلك. وأما المزادة المحبوبة فهي التي ليست لها عزلاء من أسفلها تتنفس منها فالشراب قد يتغير فيها ولا يشعر به صاحبها. قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا عبد الواحد حدثنا إسماعيل بن سُميع حدثنا مالك بن عمير عن علي رضي الله عنه قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجِعة. قال الشيخ: قال أبو عبيد الجعة نبيذ الشعير. ومن باب في الخليطين قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الليث عن شريك عن عطاء بن أبي رباح عن جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن ينتبذ الزبيب والتمر جميعاً، ونهى أن ينتبذ البسْر والرطب جميعاً. قال الشيخ: قد ذهب غير واحد من أهل العلم إلى تحريم الخليطين وإن لم يكن الشراب المتخذ منهما مسكراً قولا بظاهر الحديث ولم يجعلوه معلولاً بالإسكار، وإليه ذهب عطاء وطاوس. وبه قال مالك وأحمد بن حنبل وإسحاق وعامة أهل الحديث وهو غالب مذهب الشافعي. وقالوا من شرب الخليطين قبل حدوث الشدة فهو آثم من جهة واحدة، وإذا شرب بعد حدوث الشدة كان

ومن باب في نبيذ البسر

آثماً من جهتين أحدهما شرب الخليطين والآخر شرب المسكر، ورخص فيه سفيان الثوري وأبو حنيفة وأصحابه، وقال الليث بن سعد إنما جاءت الكراهة أن ينبذا جميعاً لأن أحدهما يشد صاحبه. قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن ثابت بن عُمارة حدثتني رَبطة عن كبشة بنت أبي مريم قالت، سألت أم سلمة ما كان النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عنه قالت كان ينهانا أن نعجم النوى طبخاً أو نخلط الزبيب والتمر. قال الشيخ: قوله أن نعجُم النوى نريد أن نبلغ به النضيج إذا طبخنا التمر فعصدناه يقال عجمت النوى أعجمه عجماً إذا لكته في فيك، وكذلك إذا أنت طبخته أو أنضجته، ويشبه أن يكون إنما كره ذلك من أجل أنه يفسد طعم التمر أو لأنه علف الدواجن فتذهب قوته إذا هو نضج. قال أبو داود: حدثنا زياد بن يحيى الحساني حدثنا أبو بحر حدثنا عتاب بن عبد العزيز الجِماني قال، حدثتني صفية بنت عطية قالت، دخلت مع نسوة من عبد القيس على عائشة رضي الله عنها فسألناها عن التمر والزبيب فقالت كنت آخذ قبضة من تمر وقبضة من زبيب فألقيه في إناء فأمرسه ثم اسقيه النبي صلى الله عليه وسلم. قال الشيخ: قولها امرسه تريد أنها تدلكه بأصابعها في الماء، والمرس والمرث بمعنى واحد. وفيه حجة لمن رأى الانتباذ بالخليطين. ومن باب في نبيذ البسر قال أبو داود: حدثنا محمد بن بشار حدثنا معاذ بن هشام حدثنا أبي عن قتادة عن جابر بن زيد وعكرمة أنهما كانا يكرهان البسر وحده ويأخذان ذلك عن ابن عباس، وقال ابن عباس رضي الله عنه أخشى أن يكون المُزَّاء التي نهيت

ومن باب صفة النبيذ

عنه عبد القيس، فقلت لقتادة ما المزاء فقال النبيذ في الحنتم والمزفت. قال الشيخ: قد فسر قتادة المزاء وأخبر أنه النبيذ في الحنتم والمزفت، وذكره أبو عبيد فقال: ومن الأشربة المسكرة شراب يقال له المزاء ولم يفسره بأكثر من هذا وأنشد فيه الأخطل: بئس الصحاة وبئس الشرب شربهم ... إذا جرى فيهم المزاء والسكر ومن باب صفة النبيذ قال أبو داود: حدثنا عيسى بن محمد حدثنا ضمرة عن السيباني عن عبد الله بن الديلمي عن أبيه قال: قلت يا رسول الله إن لنا أعناباً ما نصنع بها قال زببوها قال ما نصنع بالزبيب، قال انبذوه على غدائكم واشربوه على عشائكم وانبذوه على عشائكم واشربوه على غدائكم وانبذوه في الشِّنان ولا تنبذوه في القُلل فإنه إذا تأخر عن عصره صار خلاً. قال الشيخ: الشنان الأسقية من الأدم وغيرها واحدها شن، وأكثر ما يقال ذلك في الجلد الرقيق أو البالي من الجلود، والقلل الجرار الكبار واحدتها قلة، ومنه الحديث إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثاً. قال أبو داود: حدثنا محمد بن المثنى حدثنا عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي عن يونس بن عبيد عن الحسن عن أمه عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان ينبذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم في سقاء يُوكأ أعلاه وله عَزلاء ينبذه غُدوة ويشربه عِشاء، وينبذه عشاء فيشربه غدوة. قال الشيخ: العزلاء فم المزادة وقد يكون ذلك للسقاء من أسفله ويجمع على العزالي.

ومن باب شرب العسل

ومن باب شرب العسل قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا حجاج بن محمد قال: قال ابن جريج عن عطاء أنه سمع عبيد بن عمير قال: عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم تخبر ان النبي صلى الله عليه وسلم كان يمكث عند زينب بنت جحش فيشرب عندها عسلاً فتواصيت أنا وحفصة ايتُّنا ما دخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم فلتقل إني أجد منك ريح مغافير، فدخل على إحداهما فقالت ذلك له، فقال بل شربت عسلاً عند زينب بنت جحش ولن أعود له فنزلت {لِمَ ترحم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك - إلى - أن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما} [التحريم: 1] لعائشة وحفصة رضي الله عنهما {وإذ أسرَّ النبي إلى بعض أزواجه حديثاً} [التحريم: 3] لقوله بل شربت عسلاً. قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي حدثنا أبو أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحلواء والعسل فذكر هذا الخبر وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتد عليه أن يوجد منه الريح. قال الشيخ: وفي الحديث قالت سودة بل أكلت مغافير، قال بل شربت عسلاً سقتني حفصة فقالت جرستْ نحله العُرْفُطَ. والمغافير واحدها مغفور، ويقال له أيضاً مغثور، والفاء والثاء يتعاقبان كما قالوا فوم وثوم وجدث وجدف وهو شيء يتولد من العرفط حلو كالناطف وريحه منكر، والعرفط شجر له شوك، وقوله جرست نحلحه العرفط أى أكلت، ويقال للنحل جوارس. وفي هذا الحديث دليل على أن يمين النبي صلى الله عليه وسلم إنما وقعت في تحريم العسل لا في تحريم أم ولده مارية القبطية كما زعمه بعض الناس.

ومن باب الشرب من في السقاء

ومن باب الشرب من في السقاء قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد أنبأنا قتادة عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشرب من في السقاء وعن ركوب الجلاَّلة والمُجثَمَّة. قال الشيخ: المجثمة هي المصبورة وذلك أنها قد جثمت على الموت أي حبست عليه بأن توثق وترمى حتى تموت، وأصل الجثوم في الطير، يقال جثم الطائر وبرك البعير، وربضت الشاة، وبين الجاثم والمجثم فرق. وذلك أن الجاثم من الصيد يجوز لك أن ترميه حتى تصطاده والمجثم هو ما ملكته فجثمته وجعلته غرضاً ترميه حتى تقتله وذلك محرم. وأما الشرب من في السقاء فأما يكره ذلك من أجل ما يخاف من أذى عساه يكون فيه لا يراه الشارب حتى يدخل جوفه فاستحب أن يشربه في إناء طاهر يبصره. وروي أن رجلاً شرب من في سقاء فانساب جان فدخل جوفه. ومن باب اختناث الأسقية قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا سفيان عن الزهري سمع عبيد الله بن عبد الله، عَن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن اختناث الأسقية. قال الشيخ: معنى الاختناث فيها أن يثني رؤوسها ويعطفها ثم يشرب منها ومن هذا سمي المخنث وذلك لتكسره وتثنيه. وقد قيل إن المعنى في النهي عن ذلك أن الشرب إذا دام فيها خنثت وتغيرت رائحتها.

ومن باب الشرب من ثلمة القدح والنفخ في الشراب

وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال اختنث فم الإداوة ثم اشرب من فيها. وقد ذكره أبو داود في هذا الباب فيحتمل أن يكون النهي إنما جاء عن ذلك إذا شرب من السقاء الكبير دون الأداوي ونحوها، ويحتمل أن يكون إنما أباحه للضرورة والحاجة إليه في الوقت، وإنما المنهي عنه أن يتخذه الإنسان دربة وعادة. وقد قيل إنما أمره بذلك لسعة فم السقاء لئلا ينصب عليه الماء والله أعلم. ومن باب الشرب من ثُلمة القدح والنفخ في الشراب قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عبد الله بن وهب أخبرني قرة بن عبد الرحمن عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عَن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشرب من ثلمة القدح وأن ينفخ في الشراب. قال الشيخ: إنما نهى عن الشراب من ثلمة القدح لأنه إذا شرب منها تصبب الماء وسال قطره على وجهه وثوبه لأن الثلمة لا تتماسك عليها شفة الشارب كما تتماسك على الموضع الصحيح من الكوز والقدح. وقد قيل إنه مقعد الشيطان فيحتمل أن يكون المعنى في ذلك أن موضع الثلمة لا ينال التنظيف التام إذا غسل الإناء فيكون شربه على غير نظافة وذلك من فعل الشيطان وتسويله، وكذلك إذا خرج الماء فسال من الثلمة فأصاب وجهه وثوبه فإنما هو من اعنات الشيطان وايذائه إياه والله أعلم. ومن باب الشرب قائماً قال أبو داود: حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا هشام عن قتادة عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يشرب الرجل قائماً.

ومن باب النفخ في الشراب والتنفس فيه

قال الشيخ: هذا نهي تأديب وتنزيه لأنه أحسن وأرفق بالشارب وذلك لأن الطعام والشراب إذا تناولهما الإنسان على حال سكون وطمأنينة كانا أنجع في البدن وأمرأ في العروق، وإذا تناولهما على حال وفاز وحركة اضطربا في المعدة وتخضخضا فكان منه الفساد وسوء الهضم. وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم شرب قائماً. وقد رواه أبو داود في هذا الباب فكان ذلك متأولاً على الضرورة الداعية إليه وإنما فعله صلى الله عليه وسلم بمكة شرب من زمزم قائماً، ومعلوم أن القعود والطمأنينة كالمتعذر في ذلك المكان مع ازدحام الناس عليه وتكابسهم في ذلك المقام ينظرون إليه ويقتدون به في نسكهم وأعمال حجهم؛ فترخص فيه لهذا ولما أشبه ذلك من الأعذار والله أعلم. ومن باب النفخ في الشراب والتنفس فيه قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي حدثنا ابن عيينة عن عبد الكريم عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُتنفس في الإناء أو ينفخ فيه. قال الشيخ: قد يحتمل أن يكون النهي عن ذلك من أجل ما يخاف أن يبدر من ريقه ورطوبة فيه فيقع في الماء وقد تكون النكهة عن بعض من يشرب متغيرة فتعلق الرائحة بالماء لرقته ولطافته فيكون الأحسن في الأدب أن يتنفس بعد إبانة الإناء عن فمه وأن لا يتنفس فيه لأن النفخ إنما يكون لأحد معنيين فإن كان من حرارة الشراب فليصبر حتى يبرد، وإن كان من أجل قذى يبصره فيه فليمطه بإصبع أو بخلال أو نحوه ولا حاجة به إلى النفخ فيه بحال.

ومن باب ما يقول إذا شرب اللبن

ومن باب ما يقول إذا شرب اللبن (1) قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا حماد بن زيد عن علي بن زيد عن عمرو بن حرملة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كنت في بيت ميمونه فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه خالد بن الوليد فجاؤوا بضبين مثسويين على ثُمامتين فتبزَّق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال خالد أخالك تقذره يا رسول الله فقال أجل، وذكر الحديث. قال الشيخ: الثمامتان عودان واحدتهما ثمامة، والثمام شجر دقيق العود ضعيفه قال الشاعر: ولو أن ما أبقيت مني معلق ... بعود ثمام ما تأود عودها (1) كذا في الأصل، والحديث المذكور في الباب يتعلق بأكل الضب وليس بشرب اللبن. ومن باب إيكاء الآنية قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا يحيى عن ابن جريج أخبرني عطاء عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال أغلق بابك واذكر اسم الله فإن الشيطان لا يفتح باباً مغلقاً واطفئ مصباحك واذكر اسم الله وخمر إناءك ولو بعود تعرضه عليه. قال الشيخ: قوله خمر إناءك يريد غطه، ومنه سمي الخمار الذي يقنع به الرأس وسميت الخمر لمخامرتها العقل، والخمر ما واراك من الشجر والأشب. وقوله تعرضه كان الأصمعي يرويه تعرضه بضم الراء. وقال غيره بكسرها. قال أبو داود: حدثنا مسدد وفضيل بن عبد الوهاب السُّكري قالا: حَدَّثنا حماد عن كثير بن شِنظير عن عطاء عن جابر رفعه قال: اكفتوا صبيانكم عند العشاء فإن للجبن انتشاراً أو خطْفة. قال الشيخ: قوله اكفتوا صبيانكم معناه ضموهم إليكم وادخلوهم البيوت

كتاب الذبائح

وكل شيء ضممته إليك فقد كفته، ومن هذا قول الله سبحانه {ألم نجعل الأرض كفاتاً أحياءً وأمواتاً} [المرسلات: 25] أي انها تضمهم إليها ما داموا أحياء على ظهرها فإذا ماتوا ضمتهم إليها في بطنها. كتاب الذبائح قال أبو داود: حدثنا أبو الوليد الطيالسي حدثنا شعبة عن هشام بن زيد قال دخلت مع أنس على الحكم بن أيوب فرأى فتياناً أو غلماناً قد نصبوا دجاجة يرمونها فقال أنس نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تُصْبر البهائم. قال الشيخ: أصل الصبر الحبس ومنه قيل قتل فلان صبراً أي قهراً أو حبساً على الموت. وإنما نهي عن ذلك لما فيه من تعذيب البهيمة وأمر بإزهاق نفسها بأوجأ الذكاة واخفها. ومن باب أكل ذبائح أهل الكتاب قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا عمران بن عيينة عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال جاءت اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنا نأكل مما قتلنا ولا نأكل مما قتل الله، فأنزل الله تعالى {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه} [الأنعام: 121] الآية. قال الشيخ: في هذا دلالة على أن معنى ذكر اسم الله على الذبيحة في هذه الآية ليس باللسان، وإنما معناه تحريم ما ليس بالمذكى من الحيوان، فإذا كان الذابح ممن يعتقد الاسم وإن لم يذكره بلسانه فقد سمى، وإلى هذا ذهب ابن عباس في تأويل الاية.

ومن باب ما جاء في أكل معاقرة الأعراب

ومن باب ما جاء في أكل معاقرة الأعراب قال أبو داود: حدثنا هارون بن عبد الله، قال: حَدَّثنا حماد بن مسعدة عن عوف، عَن أبي ريحانة عن ابن عباس قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن معاقرة الأعراب. قال الشيخ: هو أن يتبارى الرجلان كل واحد منهما يجاود صاحبه فيعقر هذا عدداً من إبله ويعقر صاحبه فأيهما كان أكثر عقراً غلب صاحبه ونفره. كره أكل لحومها لئلا تكون مما أهل به لغير الله، وفي معناه ما جرت به عادة الناس من ذبح الحيوان بحضرة الملوك والرؤساء عند قدومهم البلدان، وأوان حدوث نعمة تتجدد لهم في نحو ذلك من الأمور. ومن باب الذبيحة في المروة قال أبو داود: حدثنا مسدد، قال: حَدَّثنا أبو الأحوص، قال: حَدَّثنا سعيد بن مسروق عن عباية بن رفاعة عن جده رافع بن خديج قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله إنا نلقى العدو غداً وليس معنا مُدَىَّ أفنذبح بالمَرْوة وشقة العصا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أرِنْ أو أعجل ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا ما لم يكن سن أو ظُفر وسأحدثكم عن ذلك. أما السن فعظم وأما الظفر فمُدَى الحبشة وتقدم به سرعان من الناس فتعجلوا فأصابوا من الغنائم ورسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر الناس فنصبوا قدوراً فمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقدور فأمر بها فأكفئت وقسم بينهم فعدل بعير بعشر شياه وند بعير من إبل القوم لم يكن معهم خيل فرماه رجل بسهم فحبسه الله؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش فما فعل منها هذا فافعلوا به مثل هذا. قال الشيخ: قوله أرن صوابه ائرن بهمزة، ومعناه خف واعجل لئلا تخنقها

فإن الذبح إذا كان بغير الحديد احتاج صاحبه إلى خفة يده وسرعته في إمرار الآلة على المري والحلقوم والأوداج كلها والإتيان عليها قطعاً قبل هلاك الدبيحة بما ينالها من ألم الضغط قبل قطع مذابحها وفسر به في غريب الحديث. وفيه دلالة على أن العظم كذلك لأنه لما علل بالسن قال لأنه عظم فكل عظم من العظام يجب أن يكون الذكاة به محرمة غير جائزة. وقال أصحاب الرأي إذا كان العظم والسن بائنين من الأسنان فوقع بها الذكاة حل. وإن ذبحها بسنه أو ظفره وهما غير منزوعين من مكانهما من بدنه فهو محرم. وقال مالك إن ذكى بالعظم فمر مراً أجزأه. وقال بعض أصحاب الشافعي إن العظم إذا كان من مأكول اللحم وقعت الذكاة، وكافة أصحابه على خلاف ذلك، وسواء عندهم كان الظفر والسن منفصلين من الإنسان أو لا. قلت، وهذا خاص في المقدور على ذكاته فإن الذكاة في المقدور عليه ربما وقعت بألسن الكلب المعلم وبأسنان سائر الجوارح المعلمة وبأظفارها ومخالبها. وسرعان الناس هم الذين تقدموا في السير بين أيدي الأصحاب. ويشبه أن يكون إكفاء القدور لأن الذي فيها لم يكن دارت عليه سهام القسمة بعد. وقوله أوابد كأوابد الوحش فالأوابد هي التي قد توحشت ونفرت، يقال أبد الرجل وبوداً إذا توحش وتخلى، ويقال هذه أبدة من الأوابد إذا كانت نادرة في بابها لا نظير لها في حسنها. وفيه بيان أن المقدور عليه من الدواب الانسية إذا توحش فامتنع صار حكمه

ومن باب ذبيحة المتردية

في الذكاة حكم الوحشي غير المقدور عليه. قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل، قال: حَدَّثنا حماد عن سماك بن حرب عن مُرِّي بن قَطَري عن عدي بن حاتم قال: قلت يا رسول الله أرأيت ان أحدُنا أصاب صيداً وليس معه سكين أيذبح بالمروة وشِقة العصا، قال أمرر الدم بما شئت واذكر اسم الله. قال الشيخ: المروة حجارة بيض، قال الأصمعي وهي التي يقدح منها النار. وإنما تجزي الذكاة من الحجر بما كان له حد يقطع. وقوله أمرر الدم أي أسِله وأجره، يقال مريت الدم من عيني أمريه مرياً ومريت الناقة إذا حلبتها وهي مرية، والمري الناقة ذات الدر وهي إذا وضعت أخذوا حُوارها فأكلوه ثم راموها على جلده بعد أن يحشوه بتبن أو مشاقة ونحوها فيبقى لبنها وتدر عليه زماناً طويلاً. وأصحاب الحديث يروونه أمر الدم مشددة الراء وهو خطأ والصواب ساكنة الميم خفيفة الراء. ومن باب ذبيحة المتردية قال أبو داود: حدثنا أحمد بن يونس، قال: حَدَّثنا حماد بن سلمة، عَن أبي العشراء عن أبيه أنه قال يا رسول الله أما تكون الذكاة إلاّ من اللَّبَة أو الحلق قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو طعنت في فخذها لأجزأ عنك. قال الشيخ: هذا في ذكاة غير المقدور عليه فأما المقدور عليه فلا يذكيه إلاّ قطع المذابح لا أعلم فيه خلافاً بين أهل العلم وضعفوا هذا الحديث لأن راويه مجهول وأبو العشراء الدارمي لا يدرى من أبوه ولم يرو عنه غير حماد بن سلمة.

ومن باب المبالغة في الذبح

واختلفوا فيما توحش من الأوانس فقال أكثر العلماء إذا جرحته الرمية فسال الدم فهو ذكي وإن لم يصب مذابحه. وقال مالك لا يكون هذا ذكاة حتى تقطع المذابح، قال وحكم الأنعام لا يتحول بالتوحش. ومن باب المبالغة في الذبح قال أبو داود: حدثنا هناد بن السري والحسن بن عيسى مولى ابن المبارك عن ابن المبارك عن معمر عن عمرو بن عبد الله عن عكرمة عن ابن عباس زاد ابن عيسى وأبي هريرة قالا نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شريطة الشيطان زاد ابن عيسى في حديثه وهي التي تذبح فيقطع الجلد ولا تُفْرى الأوداج ثم تترك حتى تموت. قال الشيخ: إنما سمى هذا شريطة الشيطان من أجل أن الشيطان هو الذي يحملهم على ذلك ويحسن هذا الفعل عندهم. وأخذت الشريطة من الشرط وهو شق الجلد بالمبضع ونحوه كأنه قد اقتصر على شرطه بالحديد دون ذبحه والإتيان بالقطع على حلقه. ومن باب ذكاة الجنين قال أبو داود: حدثنا القعنبي قال أخبرنا ابن المبارك (ح) وحدثنا مسدد، قال: حَدَّثنا هشيم عن مجالد، عَن أبي الودّاك، عَن أبي سعيد قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجنين، فقال كلوه إن شئتم، وقال مسدد قلنا يا رسول الله ننحر الناقة ونذبح البقرة والشاة فنجد في بطنها الجنين أنلقيه أم نأكله، قال كلوه إن شئتم فإن ذكاته ذكاة أمه.

ومن باب أكل اللحم لا يدرى أذكر اسم الله عليه أم لا

قال الشيخ: فيه بيان جواز أكل الجنين إذا ذكيت أمه وإن لم يحدث للجنين ذكاة. وتأوله بعض من لا يرى أكل الجنين على معنى أن الجنين تذكى كما تذكى أمه فكأنه قال ذكاة الجنين كذكاة أمه أي فذكوه على معنى قول الشاعر: فعيناك عيناها وجيدك جيدها أي كأن عينيك عيناها في الشبه وجيدك جيدها. وهذه القصة تبطل هذا التأويل وتدحضه لأن قوله فإن ذكاته ذكاة أمه تعليل لإباحته من غير إحداث ذكاة ثانية فثبت أنه على معنى النيابة عنها. وذهب أكثر العلماء إلى أن ذكاة الشاة ذكاة لجنينها، إلاّ أن بعضهم اشترط فيها الاشعار. وقال أبو حنيفة لا يحل أكل الأجنة إلاّ ما خرج من بطون الأمهات حية فذبحت. قال ابن المنذر لم يرو عن أحد من الصحابة والتابعين وسائر علماء الأمصار أن الجنين لا يؤكل إلاّ باستئناف الذكاة فيه غير ما روي، عَن أبي حنيفة. قال ولا أحسب أصحابه وافقوه عليه. ومن باب أكل اللحم لا يدرى أذكر اسم الله عليه أم لا قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل، قال: حَدَّثنا حماد (ح) وحدثنا القعنبي عن مالك (ح) وحدثنا يوسف بن موسى، قال: حَدَّثنا سليمان بن حبان ومحاضر المعنى عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة ولم يذكرا عن حماد ومالك عن عائشة أنهم قالوا يا رسول الله إن قوماً حديثو عهد بجاهلية يأتون بلحمان لا ندري أذكروا اسم الله عليها أم لم يذكروا أنأكل منها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سموا الله وكلوا.

ومن باب في العتيرة

قال الشيخ: فيه دليل على أن التسمية غير واجبة عند الذبح لأن البهيمة أصلها على التحريم حتى يتيقن وقوع الذكاة فهي لا تستباح بالأمر المشكوك فيه فلو كانت التسمية من شرط الذكاة لم يجز أن يحمل الأمر فيها على حسن الظن بهم فيستباح أكلها كما لو عرض الشك في نفس الذبح فلم يعلم هل وقعت الذكاة أم لا لم يجز أن تؤكل. واختلفوا فيمن ترك التسمية على الذبح عامداً أو ساهياً، فقال الشافعي التسمية استحباب وليس بواجب وسواء تركها عامداً أو ساهياً، وهو قول مالك وأحمد. وقال الثوري وأهل الرأي وإسحاق إن تركها ساهياً حلت وإن تركها عامداً لم تحل. وقال أبو ثور وداود كل من ترك التسمية عامداً كان أو ساهياً فذبيحته لا تحل ومثله عن ابن سيرين والشعبي. ومن باب في العتيرة قال أبو داود: حدثنا مسدد (ح) وحدثنا نصر بن علي عن بشر بن المفضل المعنى، قال: حَدَّثنا خالد الحذاء، عَن أبي قلابة، عَن أبي المليح قال: قال بيشة نادى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم إنا كنا نعتر عتيرة في الجاهلية في رجب فما تأمرنا قال: اذبحوا لله في أي شهر كان وبَّروا الله وأطعموا قال إنا كنا نُفرع فَزَعاً في الجاهلية فما تأمرنا، قال في كل سائمة فرع تغذوه ماشيتك حتى إذا استحمل قال نصر استحمل للحجيج ذبحته فتصدقت بلحمه، قال خالد احسبه قال على ابن السبيل فإن ذلك خير، قال خالد قلت لأبي قلابة كم السائمة قال مائة.

ومن باب العقيقة

قال الشيخ: العتيرة النسيكة التي تعتر أي تذبح وكانوا يذبحونها في شهر رجب ويسمونها الرجبية، والفرَع أول ما تلده الناقة وكانوا يذبحون ذلك لآلهتهم في الجاهلية وهو الفرع مفتوحة الراء ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك. قال أبو داود: حدثنا أحمد بن عبدة قال أخبرنا سفيان عن الزهري عن أبى هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا فرع ولا عتيرة. قال الشيخ: وقال ابن سيرين من بين أهل العلم تذبح العتيرة في شهر رجب وكان روى فيها شيئاً. وقوله استحمل معناه قوي على الحمل. ومن باب العقيقة قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن عطاء عن حبيبة بنت ميسرة عن أم كرز الكعبية قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عن الغلام شاتان مكافئتان وعن الجارية شاة. قال الشيخ: وفسره أبو عبيد قريبا من هذا لأن حقيقة ذلك التكافؤ في السن يريد شاتين مسنتين تجوزان في الضحايا بأن لا تكون إحداهما مسنة والأخرى غير مسنة. والعقيقة سنة في المولود لا يجوز تركها وهوقول أكثرهم، إلاّ أنهم اختلفوا في التسوية بين الغلام والجارية فيها، فقال أحمد بن حنبل والشافعي واسحاق بظاهر ماجاء في الحديث من أن في الغلام شاتين وفي الجارية شاة. وكان الحسن وقتادة لايريان عن الجارية عقيقة. وقال مالك الغلام والجارية شاة واحدة سواء، وقال أصحاب الرأي إن شاء عتق وإن شاء لم يعتق.

قال أبو داود: حدثنا مسدد، قال: حَدَّثنا سفيان عن عبيد الله بن أبي يزيد عن أبيه عن سباع بن ثابت عن أم كُرْز قالت سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: أقروا الطير على مَكِناتها، قالت وسمعته يقول عن الغلام شاتان وعن الجارية شاة لا يضركم ذكراناً كن أم إناثاً. قال الشيخ: قوله مكناتها قال أبو الزناد الكلابي لا نعرف للطير مكنات وإنما هي وُكُنات وهي موضع عش الطائر. وقال أبو عبيد وتفسير المكنات على غير هذا التفسير يقول لا تزجروا الطير ولا تلتفتوا إليها أقروها على مواضعها التي جعلها الله لها من أنها لا تضر ولا تنفع وكلاهما له وجه. وقال الشافعي كانت العرب تولع بالعيافة وزجر الطير فكان العربي إذا خرج من بيته غادياً في بعض حاجته نظر هل يرى طيراً يطير فيزجر سنوحه أو يردعه فإذا لم ير ذلك عمد إلى الطير الواقع على الشجر فحركه ليطير ثم ينظر أي جهة يأخذ فيزجره، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: اقروا الطير على أمكنتها لا تطيروها ولا تزجروها. وقيل قوله أقروا الطير على مكناتها فيه كالدلالة على كراهة صيد الطير بالليل. قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر النمري، قال: حَدَّثنا همام، قال: حَدَّثنا قتادة عن الحسن عن سمرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كل غلام رهينة بعقيقته تذبح عنه يوم السابع ويحلق رأسه ويُدَمَّى. قال الشيخ: قال أحمد هذا في الشفاعة يريد أنه ان لم يعق عنه فمات طفلاً لم يشفع في والديه.

وقوله رهينة بإثبات الهاء معناه مرهون فعيلبمعنى مفعول والهاء تقع في هذا للمبالغة يقال فلان كريمة قومه أي محل العقدة الكريمة عندهم وهذا عقيلة المتاع أي ثمرته. وقيل قوله الغلام مرهون بعقيقته أي بأذى شعره واستدل بقوله فأميطوا عنه الأذى والأذى إنما هو مما علق به من دم الرحم. وفيه من السنة حلق رأس المولود في اليوم السابع، وقوله يدمى اختلف في تدميته بدم العقيقة، فكان قتادة يقول به ويفسره فيقول إذا ذبحت العقيقة يؤخذ منها صوفة واستقبلت بها أوداجها ثم توضع على يافوخ الصبي حتى يسيل على رأسه مثل الخيط ثم يغسل رأسه بعد ويحلق. وقال الحسن يطلى بدم العقيقة رأسه وكره أكثر أهل العلم لطخ رأسه بدم العقيقة وقالوا أنه من كان من عمل الجاهلية كرهه الزهري ومالك وأحمد وإسحاق، وتكلموا في رواية هذا الحديث من طريق همام عن قتادة، فقالوا قوله يدمى غلط وإنما هو يسمى هكذا رواه شعبة عن قتادة وكذلك رواية سلام بن أبي مطيع عن قتادة، وكذلك رواه أشعث عن الحسن عن سمرة بن جندب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كل غلام رهينة بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه ويحلق ويسمى. واستحب غير واحد من العلماء أن لا يسمى الصبي قبل سابعه. وكان الحسن ومالك يستحبان ذلك. قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي حدثنا عبد الرزاق حدثنا هشام بن حسان عن حفصة بنت سيرين عن الرباب عن سلمان بن عامر الضبي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الغلام عقيقة فأهريقوا عنه دماً وأميطوا عنه الأذى.

قال الشيخ: معنى إماطة الأذى حلق الرأس وإزالة ما عليه من الشعر وإذا أمر بإماطة ما خف من الأذى وهو الشعر الذي على رأسه فكيف يجوز أن يأمرهم بلطخه وتدميته مع غلظ الأذى في الدم وتنجيس الرأس به. وهذا يدلك على أن من رواه ويسمى أصح وأولى. قال أبو داود: حدثنا القعنبي، قال: حَدَّثنا داود بن قيس عن عمرو بن شعيب عن أبيه أراه عن جده قال سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن العقيقة فقال لا يحب الله العقوق كأنه كره الاسم وقال من ولد له فأحب أن ينسك عنه فلينسك عن الغلام شاتان مكافئتان وعن الجارية شاة، وسئل عن الفَرع قال: والفرع حق وإن تتركوه حتى يكون بكراً شُغْزُباً ابن مخاض او ابن لبون فتعطيه أرملة أو تحمل عليه في سبيل الله خير من أن تذبحه فيلزق لحمه بوبَره وتَكفأ إناءك وتُولِّه ناقتك. قال الشيخ: قوله لا يحب الله العقوق ليس فيه توهين لأمرالعقيقة ولا إسقاط لوجوبها وإنما استبشع الاسم وأحب أن يسميه بأحسن منه فليسمها النسيكة أو الذبيحة. واختلف أهل اللغة في اشتقاق اسم العقيقة، فقال بعضهم العقيقة اسم الشعر يحلق فسميت الشاة عقيقة على المجاز إذ كانت إنما تذبح بسبب حلاق الشعر. وقال بعضهم بل العقيقة هي الشاة نفسها، وسميت عقيقة لأنها تعق مذابحها أي تشق وتقطع، يقال عق البرق في السحاب والعق إذا تشقق فتشظى له شظايا في وجه السحاب، قالوا ومن هذا عقوق الولد أباه وهو قطيعته وجفوته. وقوله حتى يكون بكراً شغزباً هكذا رواه أبو داود وهو غلط والصواب

كتاب الصيد

حتى يكون بكراً زُخْرُبّاً وهو الغليظ، كذا رواه أبو عبيد وغيره. ويشبه أن يكون حرف الزاي قد أبدل بالسين لقرب مخارجهما وأبدل الخاء غينا لقرب مخرجهما فصار سغرباً فصحفه بعض الرواة فقال شغزباً. وقوله وتكفأ إناءك يريد بالإناء المحلب الذي تحلب فيه الناقة، يقول إذا ذبحت حُوارها انقطع مادة اللبن فتترك الإناء مكفأ ولا يحلب فيه. وقوله توله ناقتك أي تفجعها بولدها وأصله من الوله وهو ذهاب العقل من فقدان إلف؛ وأنشد ابن الأعرابي: وكنا خليطي في الجمال فأصبحت ... جمالي تُوالي وُلهاً من جِمالك كتاب الصيد ومن باب اتخاذ الكلب الصيد قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي حدثنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن الزهري، عَن أبي سلمة، عَن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من اتخذ كلباً إلاّ كلبَ ماشية أو صيد أو زرع انتقص من أجره كل يوم قيراط. قال الشيخ: كان ابن عمر لا يذكر في هذا الحديث كلب الزرع وقيل له إن أبا هريرة ذكر كلب الزرع فقال إن لأبي هريرة زرعاً فتأوله بعض من لم يوفق للصواب على غير وجهه، وذهب إلى أنه قصد بهذا القول إنكاره والتهمة له من أجل حاجته إلى الكلب لحراسة زرعه وليس الأمر كما قال، وإنما أراد ابن عمر تصديق أبي هريرة وتوكيد قوله وجعل حاجته إلى ذلك شاهداً له على علمه ومعرفته به لأن من صدقت حاجته إلى شيء كثرت مسألته عنه ودام

ومن باب في الصيد

طلبه له حتى يدركه ويحكمه، وقد رواه عبد الله بن مغفل المزنى وسفيان بن أبي وهب عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكرا فيه الزرع كما ذكره أبو هريرة. قال أبو داود: حدثنا مسدد، قال: حَدَّثنا يزيد، قال: حَدَّثنا يونس عن الحسن عن عبد الله بن مغفَّل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها فاقتلوا منها الأسود البهيم. قال الشيخ: معناه أنه كره إفناء أمة من الأمم وإعدام جيل من الخلق حتى يأتي عليه كله فلا يبقي منه باقية لأنه ما من خلق لله تعالى إلاّ وفيه نوع من الحكمة وضرب من المصلحة. يقول إذا كان الأمر على هذا ولا سبيل إلى قتلهن كلهن فاقتلوا شرارهن وهي السود البهم وأبقوا ما سواها لتنتفعوا بهن في الحراسة. ويقال إن السود منها شرارها وعُقُرها. وقال أحمد وإسحاق لا يحل صيد الكلب الأسود. ومن باب في الصيد قال أبو داود: حدثنا محمد بن عيسى، قال: حَدَّثنا جرير عن منصور عن إبراهيم عن همام عن عدي بن حاتم قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم قلت إني أرسل الكلاب المعلمة فتمسك عليَّ أفآكل، قال إذا أرسلت الكلاب المعلمة وذكرت اسم الله فكل مما أمسكن عليك، قلت وإن قتلن، قال: وإن قتلن ما لم يشركها كلب ليس منها قلت ارمي بالمعراض فأصيب أفآكل، قال: إذا رميت بالمعراض وذكرت اسم الله فأصاب فخزَق فكل وإن أصاب بعرضه فلا تأكل. قال الشيخ: ظاهره يدل على أنه إذا أرسل الكلب ولم يسم لم يؤكل، وهو

قول أهل الرأي؛ إلاّ أنهم قالوا إن ترك التسمية ناسياً حل. وذهب من لا يرى التسمية شرطاً في الذكاة إلى أن المراد بقوله وذكرت اسم الله ذكر القلب، وهو أن يكون إرساله الكلب قصد الاصطياد به لا يكون في ذلك لاهياً أو لاعباً لا قصد له في ذلك. وقوله ارمي بالمعراض فإن المعراض نصل عريض وفيه إزانة ولعله يقول إن أصابه بحده حتى نفذ في الصيد وقطع سائر جلده فكله، وهو معنى قوله فخزق. وإن كان إنما وقذه بثقله ولم يخزق فهو ميتة. وقوله ما لم يشركها كلب ليس منها أي لعل إتلاف الروح لم يكن من قبل كلبك المعلم إنما كان من قبل الكلب غير المعلم. قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبى شيبة، قال: حَدَّثنا معبد الله بن نمير، قال: حَدَّثنا مجالد عن الشعبي عن عدي بن حاتم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما علمت من كلب أوباز ثم أرسلته وذكرت اسم الله فكل مما أمسك عليك، قلت وإن قتل، قال إذا قتله ولم يأكل منه شيئاً فإنما أمسكه عليك. قال الشيخ: فيه بيان أن البازي والكلب سواء حكمهما في تحريم اللحم إذا أكلا من الصيد، وإلى هذا ذهب الشافعي. وفرق أصحاب الرأي بين الكلب والبازي، فقالوا يحرم في الكلب دون البازي. وإليه ذهب المزني قال وذلك لأن البازي يعلم بالطُّعم والكلب يعلم بترك الطُّعم. وقد علق الشافعي أيضاً قوله في تحريم الصيد الذي قد أكل منه الكلب، فقال مرة أنه لا يحرم وهو قول مالك وأحسبه ذهب إلى حديث أبي ثعلبة. قال أبو داود: حدثنا محمد بن عيسى حدثنا هشيم أخبرث داود بن عمرو عن بسر

بن عبيد الله، عَن أبي إدريس الخَولاني، عَن أبي ثعلبة الخشني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في صيد الكلب: إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله تعالى فكل وإن أكل منه وكل ما ردّت عليك يدك. قال الشيخ: ويمكن أن يوفق بين الحديثين من الروايتين بأن يجعل حديث أبي ثعلبة أصلاً في الإباحة وأن يكون النهي في حديث عدي على معنى التنزيه دون التحريم. ويحتمل أن يكون الأصل في ذلك حديث عدي بن حاتم ويكون النهي على التحريم البات، ويكون المراد بقوله وإن أكل فيما مضى من الزمان وتقدم منه لا في هذه الحال. وذلك لأن من الفقهاء من ذهب إلى أنه إذا أكل الكلب المعلم من الصيد مدة بعد أن كان لا يأكل فإنه يحرم كل صيد كان اصطاده قبل فكأنه قال كل منه وإن كان قد أكل فيما تقدم إذا لم يكن قد أكل في هذه الحالة. قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن عاصم الأحول عن الشعبي عن عدي بن حاتم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا رميت سهمك وذكرت اسم الله فوجدته من الغد ولم تجده في ماء ولا فيه أثر غير سهمك فكل، وإذا اختلط بكلابك كلب من غيرها فلا تأكل لا تدري لعله قتله الذي ليس منها. قال الشيخ: إنما نهاه عن أكله إذا وجده في الماء لإمكان أن يكون الماء غرقه فهلك من الماء لا من قتل الكلب. وكذلك إذا وجد فيه أثر لغير سهمه. والأصل أن الرخص تراعى فيها شرائطها التي لها وقعت الإباحة فمهما أخل بشيء منها عاد الأمر إلى التحريم الأصلي وهذا باب كبير من العلم.

قال أبو داود: حدثنا الحسين بن معاذ بن خليف حدثنا عبد الأعلى حدثنا داود عن عامر عن عدي بن حاتم أنه قال يا رسول الله أحدنا يرمي فنقتفر أثره اليومين والثلاثة ثم يجده ميتاً وفيه سهمه أيأكل قال نعم إن شاء أو قال يأكل إن شاء. قال الشيخ: قوله نقتفر معناه نتبع يقال اقتفرت أثر الرجل إذا تتبعته وقفرته وفيه دليل على أنه إذا علق به سهمه فقد ملكه وصار سهمه كيده فلو أنه رمى صيداً حتى أنشب سهمه فيه ثم غاب عنه فوجده رجل كان سبيله سبيل اللقطة وعليه تعريفه ورد قيمته إن كانت عينه باقية. وفيه أنه قد شرط عليه أن يرمي فيه سهمه وهو أن يثبته بعينه، وقد علم أنه كان قد أصابه قبل أن يغيب عنه فإدا كان كذلك فقد علم أن ذكاته إنما وقعت برميته، فأما إذا رماه فلم يعلم أنه أصابه أم لا فتتبع أثره فوجده ميتاً وفيه سهمه فلا يأكل لأنه يمكن أن يكون غيره قد رماه بسهم فأثبته. وقد يجوز أن يكون ذلك الرامي مجوسياً لا تحل ذكاته أو محرماً أو بعض من لا يستباح الصيد بذكاته. وفي قوله فنقتفر أثره دليل على أنه ان أغفل تتبعه وأتى عليه شيء من الوقت ثم وجده ميتاً فإنه لا يأكله لأنه إذا تتبعه فلم يلحقه إلاّ بعد اليوم واليومين فهو مقدور وكانت الذكاة واقعة بإصابة السهم في وقت كونه ممتنعاً غير مقدور عليه. فأما إذا لم يتبعه وتركه يتحامل بالجراحة حتى هلك، فهذا غير مذكى لأنه لو اتبعه لأدركه قبل الموت فذكاه ذكاة المقدور عليه في الحلق واللبة، فإذا لم يفعل ذلك مع القدرة عليه صار كالبهيمة المقدور على ذكاتها بجرح في بعض

أعضائها وتترك حتى تهلك بألم الجراحة. وقال مالك بن أنس إن أدركه من يومه أكله وإلا فلا. قال أبو داود: حدثنا محمد بن المنهال الضرير قال: حدثنا يزيد بن زريع حدثنا حبيب المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن أعرابياً يقال له أبو ثعلبة قال يا رسول الله إن لي كلياً مكلَّبة فأفتني في صيدها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن كان لك كلاب مكلبة فكل مما أمسكن عليك، قال ذكي وغير ذكي قال نعم قال وإن أكل منه قال وإن أكل منه، قال يا رسول الله أفتني في قوسي، قال كل ما ردت عليك قوسك، قال ذكي وغير ذكي، قال وإن تغيب عني، قال وإن تغيب عنك ما لم يُصَّلَّ أو تجد فيه أثراً غير سهمك. قال افتني في آنية المجوس إذا اضطررنا إليها قال اغسلها وكل فيها. قال الشيخ: المكلبة المسلطة على الصيد المضراة بالاصطياد وقوله ذكي وغير ذكي يحتمل وجهين: أحدهما أن يكون أراد بالذكي ما أمسك عليه فأدركه قبل زهوق نفسه فذكاه في الحلق واللبة، وغير الذكي ما زهقت نفسه قبل أن يدركه. والآخر أن يكون أراد بالذكي ما جرحه الكلب بسنه أو مخالبه فسال دمه وغير الذكي ما لم يجرحه. وقد اختلف العلماء فيما قتله الكلب ولم يدمه فذهب بعضهم إلى تحريمه وذلك أنه قد يمكن أن يكون إنما قتله الكلب بالضغط والاعتماد فيكون في معنى الموقذة، وإلى هذا ذهب الشافعي في أحد قوليه. وقوله ما لم يصل أي ما لم ينتن ويتغير ريحه يقال صلَّ اللحم وأصل لغتان. قلت وهذا على معنى الاستحباب دون التحريم لأن تغيير ريحه لا يحرم أكله

ومن باب الصيد يقطع منه قطعة

وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل اهالة سنخة وهي المتغيرة الريح، وقد يحتمل أن يكون معنى قوله صل بأن يكون قد نهشه هامة فصل اللحم أي تغير لما سرى فيه من سمها فأسرع إليه الفساد. وفيه النهي من طريق الأدب عن أكل ما تغير من اللحم بمرور المدة الطويلة عليه. ومن باب الصيد يقطع منه قطعة قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا هاشم بن القاسم حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار، عَن أبي واقد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما قطع من البهيمة وهي حية فهي ميتة. قال الشيخ: هذا في لحم البهيمة وأعضاءها المتصلة ببدنه دون الصوف المستخلف والشعر ونحوه. وكذلك هذا في الكلب يرسله فينتف من الصيد نتفة قبل أن يزهق نفسه، أو تصيبه الرمية فيكسر عنه عضواً وهو حي فإن ذلك كله محرم لأنه بان من البهيمة وهي حية فصار ميتة، فأما إذا فصده نصفين فإنه بمنزلة الذكاة له ويؤكلان جميعاً. وقال أبو حنيفة إن كان النصف الذي فيه الرأس أصغر كان ميتة، وإن كان الذي يلي الرأس حلت القطعتان. وعند الشافعي لا فرق وكلتاهما حلال لأنه إذا خرج الروح من القطعتين معاً في حالة واحدة فليس هناك إبانة ميتة عن حي بل هو ذكاة الكل لأن الكل صار ميتاً بهذا العقر فليس شيئاً منه تابعاً لشيء بل كله سواء في ذلك.

كتاب شرح السنة

كتاب شرح السنة قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل ومحمد بن يحيى بن فارس قالا: حَدَّثنا أبو المغيرة حدثنا صفوان (ح) قال وحدثنا عمرو بن عثمان حدثنا بقية حدثني صفوان حدثنا أزهر بن عبد الله الحرازي، قال أحمد، عَن أبي عامر الهوزي عن معاوية بن أبي سفيان أنه قام فقال إلاّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فينا فقال الا ان من كان قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة وأن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة، وزاد ابن يحيى وعمرو في حديثهما وأنه سيخرج من أمتي أقوام تجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب لصاحبه، قال عمر والكَلَب بصاحبه لا يبقي منه عرق ولا مفصل إلاّ دخله. قال الشيخ: قوله ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة فيه دلالة على أن هذه الفرق كلها خارجة من الدين إذ قد جعلهم النبي صلى الله عليه وسلم كلهم من أمته. وفيه أن المتأول لا يخرج من المله وإن أخطأ في تأوله. وقوله كما يتجارى الكلب لصاحبه فإن الكلب داء يعرض للإنسان من عضة الكلب الكلِب وهو داء يصيب الكلب كالجنون. وعلامة ذلك فيه أن تحمر عيناه وأن لا يزال يدخل ذنبه بين رجليه وإذا رأى إنساناً ساوره فإذا عقر هذا الكلب إنساناً عرض له من ذلك أعراض رديئه، منها أن يمتنع من شرب الماء حتى يهلك عطشاً ولا يزال يستسقي حتى إذا سقي الماء لم يشربه، ويقال إن هذه العلة إذا استحكمت بصاحبها فقعد للبول خرج منه هنات مثل صورة الكلاب فالكلب

ومن باب مجانية أهل الأهواء وبغضهم

داء عظيم إذا تجارى بالإنسان تمادى وهلك. ومن باب مجانية أهل الأهواء وبغضهم قال أبو داود: حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح أنبأنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب قال وأخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك أن عبد الله بن كعب وكان قائد كعب من بنيه حين عمي قال سمعت كعب بن مالك وذكر ابن السرح قصة تخلفه عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، قال ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا أيها الثلاثة حتى إذا طال عليَّ تسورت جدار حائط أبي قتادة وهو ابن عمي فسلمت عليه فو الله ما رد علي السلام ثم ساق الخبر في نزول توبته. قال الشيخ: فيه من العلم أن تحريم الهجرة بين المسلمين أكثر من ثلاث إنما هو فيما يكون بينهما من قبل عتب وموجدة أو لتقصير يقع في حقوق العشرة ونحوها دون ما كان من ذلك في حق الدين فإن هجرة أهل الأهواء والبدعة دائمة على مر الأوقات والأزمان ما لم تظهر منهم التوبة والرجوع إلى الحق، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم خاف على كعب وأصحابه النفاق حين تخلفوا عن الخروج معه في غزوة تبوك فأمر بهجرانهم وأمرهم بالقعود في بيوتهم نحو خمسين يوماً على ما جاء في الحديث إلى أن أنزل الله سبحانه توبته وتوبة أصحابه فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم براءتهم من النفاق. وفيه دلالة على أنه لا يحرج المرء بترك رد سلام أهل الأهواء والبدع. وفيه دليل على أن من حلف أن لا يكلم رجلاً فسلم عليه أو رد عليه السلام كان حانثاً.

ومن باب النهي عن الجدال في القرآن

ومن باب النهي عن الجدال في القرآن قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا يزيد بن هارون حدثنا محمد بن عمرو، عَن أبي سلمة، عَن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: المراء في القرآن كفر. قال الشيخ: اختلف الناس في تأويله فقال بعضهم معنى المراء هنا الشك فيه كقوله {فلا تك في مرية منه} [هود: 17] أي في شك، ويقال بل المراء هو الجدال المشكك فيه. وتأوله بعضهم على المراء في قرآنه دون تأويله ومعانيه مثل أن يقول قائل هذا قرآن قد أنزله الله تبارك وتعالى، ويقول الآخر لم ينزل الله هكذا فيكفر به من أنكره، وقد أنزل سبحانه كتابه على سبعة أحرف كلها شاف كاف فنهاهم صلى الله عليه وسلم عن إنكار القراءة التي يسمع بعضهم بعضاً يقرؤها وتوعدهم بالكفر عليها لينتهوا عن المراء فيه والتكذيب به إذ كان القرآن منزلاً على سبعة أحرف وكلها قرآن منزل يجوز قراءته ويجب علينا الإيمان به. وقال بعضهم إنما جاء هذا في الجدال بالقرآن في الآي التي فيها ذكر القدر والوعيد وما كان في معناهما على مذهب أهل الكلام والجدل وعلى معنى ما يجري من الخوض بينهم فيها دون ما كان منها في الأحكام وأبواب التحليل والتحريم والحظر والإباحة فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تنازعوها فيما بينهم وتحاجوا بها عند اختلافهم في الأحكام ولم يتحرجوا عن التناظر بها وفيها. وقد قال سبحانه {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} [النساء: 59] فعلم أن النهي منصرف إلى غير هذا الوجه والله أعلم. قال أبو داود: حدثنا عبد الوهاب بن نجدة حدثنا أبو عمرو بن كثير بن دينار

عن حَريز بن عثمان عن عبد الرحمن بن أبي عوف عن المقدام بن معديكرب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إلاّ أني أوتيت الكتاب ومثله معه ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه الا لا يحل لكم الحمار الأهلي ولا كل ذي ناب من السباع ولا لقطة معاهد إلاّ أن يستغني عنها صاحبها ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قِراه. قال الشيخ: قوله أوتيت الكتاب ومثله معه يحتمل وجهين من التأويل: أحدهما أن يكون معناه أنه أوتي من الوحي الباطن غير المتلو مثل ما أعطي من الظاهر المتلو، ويحتمل أن يكون معناه أنه أوتي الكتاب وحياً يتلى، وأوتي من البيان أي أذن له أن يبين ما في الكتاب ويعم ويخص وأن يزيد عليه فيشرع ما ليس له في الكتاب ذكر فيكون ذلك في وجوب الحكم ولزوم العمل به كالظاهر المتلو من القرآن. وقوله يوشك شبعان على أريكته يقول عليكم بهذا القرآن فإنه يحذر بذلك مخالفة السنن التي سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم مما ليس له في القرآن ذكر على ما ذهبت إليه الخوارج والروافض فإنهم تعلقوا بظاهر القرآن وتركوا السنن التي قد ضُمنت بيان الكتاب فتحيروا وضلوا، والأريكة السرير، ويقال أنه لا يسمى أريكة حتى يكون في حجلة وإنما أراد بهذه الصفة أصحاب الترفه والدعة الذين لزموا البيوت ولم يطلبوا العلم ولم يغدوا ولم يروحوا في طلبه في مظانه واقتباسه من أهله. وأما قوله لا تحل لقطة معاهد إلاّ أن يستغني عنها صاحبها فمعناه إلاّ أن يتركها صاحبها لمن أخذها استغناء عنها وهذا كقوله سبحانه {فكفروا وتولوا واستغنى

الله} [التغابن: 6] معناه والله أعلم تركهم الله استغناء عنهم وهو الغني الحميد. وقوله فله أن يعقبهم بمثل قراه معناه له أن يأخذ من مالهم قدر قراه عوضاً وعقبى مما حرموه من القرى. وهذا في المضطر الذي لا يجد طعاماً ويخاف على نفسه التلف، وقد ثبت ذلك في كتاب الزكاة أو في غيره من هذا الكتاب. وفى الحديث دليل على أنه لا حاجة بالحديث أن يعرض على الكتاب وأنه مهما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان حجه بنفسه، وأما ما رواه بعضهم أنه قال إذا جاءكم الحديث فاعرضوه على كتاب الله فإن وافقه فخذوه وإن خالفه فدعوه فإنه حديث باطل لا أصل له. وقد حكى زكريا بن يحيى الساجي عن يحيى بن معين أنه قال هذا حديث وضعته الزنادقة. قلت وقد روى هذا من حديث الشاميين عن يزيد بن ربيعة، عَن أبي الأشعث عن ثوبان ويزيد بن ربيعة هذا مجهول ولا يعرف له سماع من أبي الأشعث، وأبو الأشعث لا يروي عن ثوبان وإنما يروي، عَن أبي أسماء الرحبي عن ثوبان. قال أبو داود: حدثنا محمد بن الصبَّاح البزاز حدثنا إبراهيم بن سعد عن سعد بن إبراهيم عن القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد. قال الشيخ: في هذا بيان أن كل شيء نهى عنه صلى الله عليه وسلم من عقد نكاح وبيع وغيرهما من العقود فإنه منقوض مردود لأن قوله فهو رد يوجب ظاهره إفساده وإبطاله إلاّ أن يقوم الدليل على أن المراد به غير الظاهر فيترك الكلام عليه لقيام الدليل فيه والله أعلم. قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن ابن جريج حدثنا سليمان، يَعني ابن

ومن باب لزوم السنة

عتيق عن طلق بن حبيب عن الأحنف بن قيس عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ألا هلك المتنطعون ثلاث مرات. قال الشيخ: المتنطع المتعمق في الشيء المتكلف البحث عنه على مذاهب أهل الكلام الداخلين فيما لا يعنيهم الخائضين فيما لا تبلغه عقولهم. وفيه دليل على أن الحكم بظاهر الكلام وأنه لا يترك الظاهر إلى غيره ما كان له مساغ وأمكن فيه استعمال. ومن باب لزوم السنة قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا ثور بن يزيد حدثني خالد بن معدان حدثني عبد الرحمن بن عمرو السُّلمي وحُجْر بن حُجْر قالا: أتينا العرباض بن سارية فسلمنا فقلنا أتينا زائرين وعائدين ومقتبسين فقال العرباض صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة ذرَفت منها العيون ووجلت منها القلوب، فقال قائل يا رسول الله كأن هذا موعظة مودع فماذا تعهد إلينا فقال أوصيكم بالسمع والطاعة وإن عبداً حبشياً فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين تمسكوا بها وعَضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة. قال الشيخ: قوله وإن عبداً حبشياً يريد به طاعة من ولاه الإمام عليكم وإن كان عبداً حبشياً، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: الأئمة من قريش، وقد يضرب المثل في الشيء بما لا يكاد يصح منه الوجود كقوله صلى الله عليه وسلم: من بنى لله مسجداً ولو مثل مفحص قطاة بنى الله له بيتاً في الجنة، وقدر مفحص قطاة

لا يكون مسجدا لشخص آدمي وكقوله لو سرقت فاطمة لقطعتها وهي رضوان الله عليها وسلامه لا يتوهم عليها السرقة، وقال لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ونظائر هذا في الكلام كثير، والنواجذ آخر الأضراس واحدها ناجذ، وإنما أراد بذلك الجد في لزوم السنة فعل من أمسك الشيء بين أضراسه وعض عليه منعاً له أن ينتزع وذلك أشد ما يكون من التمسك بالشيء إذ كان ما يمسكه بمقاديم فمه أقرب تناولاً وأسهل انتزاعاً، وقد يكون معناه أيضاً الأمر بالصبر على ما يصيبه من المضض في ذات الله كما يفعله المتألم بالوجع يصيبه. وقوله كل محدثة بدعة فإن هذا خاص في بعض الأمور دون بعض وكل شيء أحدث على غير أصل من أصول الدين وعلى غير عياره وقياسه. وأما ما كان منها مبنياً على قواعد الأصول ومردود إليها فليس ببدعة ولا ضلالة والله أعلم. وفي قوله عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين دليل على أن الواحد من الخلفاء الراشدين إذا قال قولاً، وخالفه فيه غيره من الصحابة كان المصير إلى قول الخليفة أولى. قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شييه حدثنا سفيان عن الزهري عن عامر بن سعد عن أيبه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أعظم المسلمين في المسلمين جرماً من سأل عن أمر لم يحرَّم فحُرِّم على الناس من أجل مسألته. قال الشيخ: هذا في مسألة من يسأل عبثاً وتكلفاً فيما لا حاجة به إليه دون من سأل سؤال حاجة وضرورة كمسألة بني إسرائيل في شأن البقرة وذلك أن الله سبحانه أمرهم أن يذبحوا بقرة فلو استعرضوا البقر فذبحوا منها بقرة لأجزأتهم. كذلك قال ابن عباس رضي الله عنه في تفسير الآية فما زالوا يسألون ويتعنتون

ومن باب التفضيل

حتى غلظت عليهم وأمروا بذبح البقرة على النعت الذي ذكره الله في كتابه فعظمت عليهم المؤنة ولحقتهم المشقة في طلبها حتى وجدوها فاشتروها بالمال الفادح فذبحوها وما كادوا يفعلون. وأما من كان سؤاله استبانة لحكم واجب واستفادة لعلم قد خفي عليه فإنه لا يدخل في هذا الوعيد وقد قال سبحانه {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} [الأنبياء: 7] . وقد يحتج بهذا الحديث من يذهب من أهل الظاهر إلى أن أصل الأشياء قبل ورود الشرع بها على الإباحة حتى يقوم دليل على الحظر وإنما وجه الحديث وتأويله ما ذكرناه والله أعلم. ومن باب التفضيل قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا أسود بن عامر حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال: كنا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لا نعدل بأبي بكر أحداً ثم عمر ثم عثمان رضي الله عنهم، ثم نترك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نفاضل بينهم. قال الشيخ: وجه ذلك والله أعلم أنه أراد به الشيوخ وذوي الأسنان منهم الذين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حز به أمر شاورهم فيه، وكان علي رضوان الله عليه في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث السن ولم يرد ابن عمر الازراء بعلي كرم الله وجهه ولا تأخيره ودفعه على الفضيلة بعد عثمان وفضله مشهور لا ينكره ابن عمر ولا غيره من الصحابة، وإنما اختلفوا في تقديم عثمان عليه فذهب الجمهور من السلف إلى تقديم عثمان عليه وذهب أكثر أهل الكوفة إلى تقديمه على عثمان رضي الله عنهما.

ومن باب ما قيل في الخلفاء

وحدثني محمد بن هاشم حدثنا أبو يحيى بن أبي ميسرة عن عبد الصمد قال: قلت لسفيان الثوري ما قولك في التفضيل، فقال أهل السنة من أهل الكوفة يقولون أبو بكر وعمر وعلي وعثمان، وأهل السنة من أهل البصرة يقولون أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم. قلت فما تقول أنت قال أنا رجل كوفي. قلت وقد ثبت عن سفيان أنه قال آخر قوليه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم. قلت وللمتأخرين في هذا مذاهب، منهم من قال بتقديم أبي بكر من جهة الصحابة وبتقديم علي من جهة القرابة، وقال قوم لا يقدم بعضهم على بعض، وكان بعض مشايخنا يقول أبو بكر خير وعلي أفضل، وقال وباب الخيرية غير باب الفضيلة، قال وهذا كما تقول إن الحر الهاشمي أفضل من العبد الرومي والحبشي وقد يكون العبد الحبشي خيراً من هاشمي في معنى الطاعه لله والمنفعة للناس، فباب الخيرية متعد وباب الفضيلة لازم. وقد ثبت عن علي كرم الله وجهه أنه قال خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر ثم رجل آخر، فقال له ابنه محمد بن الحنفية، ثم أنت يا أبه فكان يقول ما أبوك إلاّ رجل من المسلمين رضوان الله عليهم. ومن باب ما قيل في الخلفاء قال أبو داود: حدثنا محمد بن يحيى بن فارس حدثنا عبد الرزاق أنبأنا معمر عن الزهري عن عبيد الله هو ابن عبد الله عن ابن عباس رضي الله عنهما قال كان أبو هريرة رضي الله عنه يحدث أن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أرى الليلة ظلة ينطِف منها السمن والعسل فأرى الناس يتكففون بأيديهم فالمستكثر والمستقل. وأرى سبباً واصلاً من السماء إلى الأرض فأراك يا رسول الله فأخذته،

يَعني فعلوت به، ثم أخذ به رجل فعلا به، ثم أخذ به رجل آخر فعلا به، ثم أخذ به رجل آخر فانقطع ثم وصل فعلا به، فقال أبو بكر رضي الله عنه بأبي وأمي لتدعني فلأعبرنها، قال فقال اعبرها؛ فقال أما الظلة فظلة الإسلام؛ وأما ما ينطف من السمن والعسل فهو القرآن لينه وحلاوته، وأما المستكثر والمستقل فهو المستكثر من القرآن والمستقل منه؛ وأما السبب الواصل من السماء إلى الأرض فهو الحق الذي أنت عليه تأخذ به فيعليك الله ثم يأخذ به بعدك رجل فيعلو به، ثم يأخذه رجل آخر فيعلو، ثم يأخذ به رجل فينقطع ثم يوصل به فيعلو أي رسول الله لتحدثني أصبت أم أخطأت؛ فقال أصبت بعضاً وأخطأت بعضا فقال أقسمت يا رسول الله لتحدثني ما الذي أخطأت فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تقسم. قال الشيخ: قوله إني أرى الليلة أخبرني أبو عمر، عَن أبي العباس قال: يقول ما بينك من لدن الصباح وبين الظهر رأيت الليلة وبعد الظهر إلى الليل رأيت البارحة، والظلة كل ما أظلك من فوقك وعلاك، وأراد بالظلة ههنا والله أعلم سحابة ينطف منها السمن والعسل أي يقطر والنطف القطر، وقوله يتكففون بأيديهم يريد أنهم يتلقونه بأكفهم، يقال تكفف الرجل الشيء واستكفه إذا مد كفه وتناوله بها، والسبب الحبل والواصل معناه الموصول فاعل بمعنى مفعول وفي قوله لأبي بكر رضي الله عنه لا تقسم ولم يخبره عن مسألته دليل على أن قول القائل أقسمت ليس بيمين حتى يقول أقسمت بالله أو أقسم بالله فيصل القسم باسم الله ولو كان ذلك بمجرده يميناً لكان يبره فيها لأنه صلى الله عليه وسلم قد أمر بإبرار المقسم فدل ذلك على أنه مع التجريد ليس بيمين. وقد اختلف الناس في معنى قوله أصبت بعضاً وأخطأت بعضاً، فقال بعضهم

أراد به الإصابة في عبارة بعض الرؤيا والخطأ في بعضها. وقال آخرون بل أراد بالخطأ ههنا تقديمه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ومسألته للإذن له في تعبير الرؤيا ولم يترك رسول الله صلى الله عليه وسلم ليكون هو الذي يعبرها فهذا موضع الخطأ، وأما الإصابة فهي ما تأوله في عبارة الرؤيا وخروج الأمرفي ذلك على وفاق ما قاله وعبره. وقد بلغني، عَن أبي جعفر الطحاوي رواية عن بعض السلف أنه قال موضع الخطأ في عبارة أبي بكر رضي الله عنه أنه مخطىء أحد المذكورين من السمن والعسل فقال، وأما ما ينطف من السمن والعسل فهو القرآن لينه وحلاوته، وإنما أحدهما القرآن والآخر السنة والله أعلم. قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن علي بن زيد عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه أن رسول الله 0ص قص عليه رؤيا فاستاء لها. قال الشيخ: قوله استاء لها أي كرهها حتى تبينت المساءة في وجهه ووزنه افتعل من السوء. قال أبو داود: حدثنا عمرو بن عون حدثنا محمد بن جرير عن الزبيدي عن ابن شهاب عن عمرو بن أبان بن عثمان عن جابر بن عبد الله أنه كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أُري الليلة رجل صالح أن أبا بكر نيط برسول الله صلى الله عليه وسلم ونيط عمر بأبي بكر ونيط عثمان بعمر قال جابر فلما قمنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قلنا أما الرجل الصالح فرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن تنوط بعضهم ببعض فهم ولاة هذا الأمرالذي بعث الله به نبيه صلى الله عليه وسلم. قال الشيخ: قوله نيط معناه علق، والنوط التعليق، والتنوط التعلق، ومنه

المثل عاط لغير أنواط. قال أبو داود: حدثنا محمد بن المثنى حدثنا عفان بن مسلم حدثنا حماد بن سلمة عن أشعث بن عبد الرحمن عن أبيه عن سمرة بن جندب أن رجلاً قال: يا رسول الله إني رأيت كأن دلواً دلي من السماء فجاء أبو بكر فأخذ بعَرَاقيها فشرب شرباً ضعيفاً، ثم جاء عمر فأخذ بعراقيها فشرب حتى تضلع، ثم جاء عثمان فأخذ بعراقيها فانتشطت وانتضح عليه منه شيء. قال الشيخ: قوله دلي من السماء يريد أرسل، يقال أدليت الدلو إذا أرسلتها في البئر ودلوتها إذا نزعتها والعراقي أعواد يخالف بينها ثم تشد في عرى الدلو ويعلق بها الحبل واحدتها عرقوة. وقوله تضلع يريد الاستيفاء في الشرب حتى روي فتمدد جنبه وضلوعه، وانتشاط الدلو اضطرابها حتى ينتضح ماؤها. وأما قوله في أبي بكر شرب شرباً ضعيفا فإنما هو إشارة إلى قصر مدة أيام ولايته وذلك لأنه لم يعش بعد أيام الخلافة أكثر من سنتين وشيء وبقي عمر عشر سنين وشيئاً فذلك معنى تضلعه والله أعلم. قال أبو داود: حدثنا محمد بن العلاء عن ابن إدريس حدثنا حصين عن هلال بن يساف عن عبد الله بن ظالم المازني قال سمعت سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل قال لما قدم فلان الكوفة أقام خطيباً فأخذ بيدي سعيد بن زيد فقال: ألا ترى إلى هذا الظالم فأشهد على التسعة أنهم في الجنة ولو شهدت على العاشر لم أيثم. قال ابن إدريس والعرب تقول آثم، قلت ومن التسعة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على حراء اثبت حراء أنه ليس عليك إلاّ نبي أو صديق أو شهيد، قلت

ومن التسعة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف، قلت من العاشر، قال فلتكأ هنية ثم قال أنا. قال الشيخ: قوله لم أيثم هو لغة لبعض العرب يقولون أيثم مكان أثم، وله نظائر في كلامهم قالوا تيجع وتيجل مكان يوجع ويوجل، وحراء جبل بمكة وأصحاب الحديث يقصرونه وأكثرهم يفتحون الحاء ويكسرون الراء سمعت أبا عمر يقول حراء اسم على ثلاثة أحرف، وأصحاب الحديث يغلطون منه في ثلاثة مواضع يفتحون الحاء وهي مكسورة ويكسرون الراء وهي مفتوحة ويقصرون الألف وهي ممدودة وأنشد: وراقٍ في حراء ونازل قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر أبو عمر الضرير حدثنا حماد بن سلمة أن سعيد بن إياس الجريري أخبرهم عن عبد الله بن شقيق العُقيلي عن الأقرع مؤذن عمر رضي الله عنه قال بعثني عمر إلى الأسقُف فدعوته، فقال له عمر هل تجدني في الكتاب قال نعم، قال كيف تجدني، قال أجدك قَرْناً فرفع الدرة فقال قرن قال مه، قال قرن حديد أمين شديد، قال كيف تجد الذي يجيء بعدي قال أجده خليفة صالحاً غير أنه يؤثر قرابته، فقال عمر رضي الله عنه يرحم الله عثمان ثلاثاً، قال كيف تجد الذي بعده، قال أجده صداء حديد، قال فوضع عمر يده على رأسه، فقال يا دفراه يا دفراه، فقال يا أمير المؤمنين أنه قال خليفة صالح ولكنه يُستخلف حين يُستخلف والسيف مسلول والدم مُهراق. قال الشيخ: الصدأ ما يعلو الحديد من الدرن ويركبه من الوسخ، وقوله يا دفراه يا دفراه، فإن الدفر بفتح الدال غير المعجمة وسكون الفاء النتن، ومنه قيل للدنيا أم دفر، فأما الذفر بالذال المعجمة وفتح الفاء فإنه يقال لكل

ومن باب النهي عن سب أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم

ريح ذكية شديدة من طيب أو نتن. ومن باب النهي عن سب أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا أبو عَوانة أو أبو معاوية عن الأعمش، عَن أبي صالح، عَن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تسبوا أصحابي فو الذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه. قال الشيخ: النصيف بمعنى النصف كما قالوا الثمين بمعنى الثمن قال الشاعر: فما طار لي في القسم الا ثمينها وقال آخر: لم يعدها مد ولا نصيف والمعغى أن جهد المقل منهم واليسير من النفقة الذي أنفقوه في سبيل الله مع شدة العيش والضيق الذي كانوا فيه أوفى عند الله وأزكى من الكثير الذي ينفقه من بعدهم. ومن باب استخلاف أبي بكر رضي الله عنه قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي حدثنا محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق حدثني الزهري حدثني عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن أبيه عن عبد الله بن زمعة قال: لما استُعز برسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عنده في نفر من المسلمين دعاه بلال إلى الصلاة فقال مروا من يصلي بالناس فخرج عبد الله بن زمعة فإذا عمر في الناس وكان أبو بكر غائباً، فقلت يا عمر قم فصل بالناس فتقدم فكبر، فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته، قال وكان عمر رجلاً مجهراً، قال فأين أبو بكر يأبى الله ذلك والمسلمون، فبعث إلى أبي بكر فجاء بعد أن صلى عمر تلك الصلاة فصلى بالناس.

ومن باب التخيير بين الأنبياء صلوات الله عليهم

قال الشيخ: يقال استعز بالمريض إذا غلب على نفسه من شدة المرض. وأصله من العز وهو الغلبة والاستيلاء على الشيء، ومن هذا قولهم من عزُ بزّ، أي من غلب سلب. وقوله وكان رجلاً مجهراً أي صاحب جهر ورفع لصوته يقال جهر الرجل صوته، ورجل جهير الصوت وجهير المنظر، وأجهر إذا عرف بشدة جهر الصوت فهو مجهر. وفي الخبر دليل على خلافة أبي بكر رضي الله عنه وذلك أن قوله صلى الله عليه وسلم يأبى الله ذلك والمسلمون، معقول منه أنه لم يرد به نفي جواز الصلاة خلف عمر فإن الصلاة خلف عمر رضي الله عنه ومن دونه من المسلمين جائزة، وإنما أراد به الإمامة التي هي دليل الخلافة والنيابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في القيام بأمر الأمة بعده. ومن باب التخيير بين الأنبياء صلوات الله عليهم قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا وهيب حدثنا عمرو، يَعني ابن يحيى عن أبيه، عَن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تُخيِّروا بين الأنبياء. قال الشيخ: معنى هذا ترك التخيير بينهم على وجه الإزراء ببعضهم فإنه ربما أدى ذلك إلى فساد الاعتقاد فيهم والإخلال بالواجب من حقوقهم وبفرض الإيمان بهم، وليس معناه أن يعتقد التسوية بينهم في درجاتهم فإن الله سبحانه قد أخبرأنه قد فاضل بينهم فقال عز وجل {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات} [البقرة: 253] . قال أبو داود: حدثنا عمرو بن عثمان حدثنا الوليد عن الأوزاعي، عَن أبي

عمار عن عبد الله بن فرَّوخ، عَن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا سيد ولد آدم وأول من تنشق عنه الأرض وأول شافع وأول مشفع. قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن قتادة، عَن أبي العالية عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى. قال الشيخ: قد يتوهم كثير من الناس أن بين الحديثين خلافاً وذلك أنه قد أخبر في حديث أبي هريرة أنه سيد ولد آدم والسيد أفضل من المسود. وقال في حديث ابن عباس رضي الله عنهما ما ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى، والأمر في ذلك بين ووجه التوفيق بين الحديثين واضح؛ وذلك أن قوله أنا سيد ولد آدم، إنما هو إخبار عما أكرمه الله به من الفضل والسؤدد وتحدث بنعمة الله عليه واعلام لأمته وأهل دعوته مكانه عند ربه ومحله من خصوصيته ليكون إيمانهم بنبوته واعتقادهم لطاعته على حسب ذلك، وكان بيان هذا لأمته وإظهاره لهم من اللازم له والمفروض عليه. فأما قوله في يونس صلوات الله عليه وسلامه فقد يتأول على وجهين: أحدهما أن يكون قوله ما ينبغي لعبد إنما أراد به من سواه من الناس دون نفسه. والوجه الآخر أن يكون ذلك عاماً مطلقاً فيه وفي غيره من الناس ويكون هذا القول منه على الهضم من نفسه وإظهار التواضع لربه يقول لا ينبغي لي أن أقول أنا خير منه لأن الفضيلة التي نلتها كرامة من الله سبحانه وخصوصية منه لم أنلها من قبل نفسي ولا بلغتها بحولي وقوتي فليس لي أن أفتخر بها وإنما يجب علي أن أشكر عليها ربي، وإنما خص يونس بالذكر فيما نرى والله أعلم لما قصه

ومن باب ما يدل على ترك الكلام في الفتنة الأولى

الله تعالى علينا من شأنه وما كان من قلة صبره على أذى قومه فخرج مغاضباً ولم يصبر كما صبر أولو العزم من الرسل. قلت وهذا أولى الوجهين وأشبههما بمعنى الحديث فقد جاء من غير هذا الطريق أنه قال صلى الله عليه وسلم: ما ينبغي لنبي أن يقول إني خير من يونس بن متى فعم به الأنبياء كلهم فدخل هو في جملتهم، وقد ذكره أبو داود في هذا الباب. ، قال: حَدَّثنا عبد العزيز بن يحيى حدثني محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن إسماعيل بن حكيم عن القاسم بن محمد عن عبد الله بن جعفر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قيل إن قوله أنا سيد ولد آدم إنما أراد به يوم القيامة حين قُدم بالشفاعة وسادهم بها. ومن باب ما يدل على ترك الكلام في الفتنة الأولى قال أبو داود: حدثنا مسدد ومسلم بن إبراهيم قالا: حَدَّثنا حماد عن علي بن زيد عن الحسن، عَن أبي بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للحسن بن علي إن ابني هذا سيد واني أرجو أن يصلح الله به بين فئتين من المسلمين عظيمتين. قال الشيخ: السيد يقال اشتقاقه من السواد أي هو يلي الذي يلي السواد العظيم ويقوم بشأنهم، وقد خرج مصداق هذا القول فيه بما كان من إصلاحه بين أهل العراق وأهل الشام وتخليه عن الأمر خوفاً من الفتنة وكراهية لإراقة الدم ويسمى ذلك العام سنة الجماعة. وفي الخبر دليل على أن واحداً من الفريقين لم يخرج بما كان منه في تلك الفتنة من قول أو فعل عن ملة الإسلام إذ قد جعلهم النبي صلى الله عليه وسلم مسلمين، وهكذا سبيل كل متأول فيما تعاطاه من رأي ومذهب دعا إليه إذا كان فيما تناوله بشبهة

ومن باب الرد على المرجئة

وإن كان مخطئاً في ذلك، ومعلوم أن احدى الفئتين كانت مصيبة والأخرى مخطئة. ومن باب الرد على المرجئة قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد أنبأنا سهيل بن أبي صالح عن عبد الله بن دينار، عَن أبي صالح، عَن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الإيمان بضع وسبعون، يَعني شعبة أفضلها قول لا إله إلاّ الله وأدناها إماطة العظم عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان. قال الشيخ: قوله بضع ذكر أبو عمر، عَن أبي العباس أحمد بن يحيى أحسبه عن ابن الأعرابي قال: يقال بضع فيما بين الثلاثة إلى تمام العشرة ونيف لما زاد على العقد من الواحد إلى الثلاثة. قلت وفي هذا الحديث بيان أن الإيمان الشرعي اسم لمعنى ذي شعب وأجزاء له أعلى وأدنى، فالاسم يتعلق ببعضها كما يتعلق بكلها، والحقيقة تقتضي جميع شعبها وتستوفي جملة أجزائها كالصلاة الشرعية لها شعب وأجزاء والاسم يتعلق ببعضها كما يتعلق بكلها والحقيقة تقتضي جميع أجزائها وتستوفيها ويدل على ذلك قوله الحياء شعبة من الإيمان فأخبر أن الحياء إحدى تلك الشعب. وفي هذا الباب إثبات التفاضل في الإيمان وتباين المؤمنين في درجاته. ومعنى قوله الحياء شعبة من الإيمان أن الحياء يقطع صاحبه عن المعاصي ويحجزه عنها فصار بذلك من الإيمان إذ الإيمان بمجموعه ينقسم إلى ائتمار لما أمر الله به وانتهاء عما نهى عنه. قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثني يحيى بن سعيد عن شعبة حدثني أبو جمرة قال: سمعت ابن عباس رضي الله عنهما قال إن وفد عبد القيس لما قدموا

على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم بالإيمان بالله، قال أتدرون ما الإيمان بالله قالوا الله ورسوله أعلم، قال شهادة أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله، واقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان؛ وأن تعطوا الخمس عن المغنم. قال الشيخ: قد أعلم صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن الصلاة والزكاة من الإيمان وكذلك صوم رمضان واعطاء خمس الغنيمة، وكان هذا جواباً عن مسألة صدرت عن جهالة بالإيمان وشرائطه فأخبرهم عما سألوه وعلمهم ما جهلوه وجعل هذه الأمور من الإيمان كما جعل الكلمة منه وليس بين هذا وبين قوله أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلاّ الله خلاف لأنه كلمة شعار وقعت الدعوة بها إلى الإيمان لتكون إمارة للداخلين في الإيمان والقابلين لأحكامه؛ وهذا كلام قصد فيه البيان والتفصيل له، والتفصيل لا يناقض الجملة لكن يلائمها ويطابقها. وقوله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلاّ بحقها يتضمن جملة ما جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما ويأيي على جميع ما ذكر فيه من الخلال المعدودة إلى سائر ما جاء منها في سائر الأحاديث المروية في هذا الباب وكلها تجري على الوفاق ليس في شيء منها اختلاف، وإنما هو حمله على الوجه الذي ذكرته لك وتفصيل لها على المعنى الذي يقتضيه حكمها والله أعلم. قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا وكيع حدثنا سفيان، عَن أبي الزبير عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة. قال الشيخ: التروك على ضروب منها ترك جحد للصلاة وهو كفر بإجماع الأمة. ومنها ترك نسيان وصاحبه لا يكفر بإجماع الأمة، ومنها ترك عمد من غير

جحد، فهذا قد اختلف الناس فيه فذهب إبراهيم النخعي وابن المبارك وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه إلى أن تارك الصلاة عمداً من غير عذر حتى يخرج وقتها كافر. وقال أحمد لا نكفر أحداً من المسلمين بذنب إلاّ تارك الصلاة. وقال مكحول والشافعي تارك الصلاة مقتول كما يقتل الكافر ولا يخرح بذلك من الملة ويدفن في مقابر المسلمين ويرثه أهله، إلاّ أن بعض أصحاب الشافعي قال: لا يصلي عليه إذا مات. واختلف أصحاب الشافعي في كيفية قتله فذهب أكثرهم إلى أنه يقتل صبراً بالسيف. وقال ابن شريح لا يقتل صبراً بالسيف لكن لا يزال يضرب حتى يصلي أو يأتي الضرب عليه فيموت، وقالوا إذا ترك صلاة واحدة حتى يخرج وقتها قتل، غير أبي سعيد الاصطخري فإنه قال: لا يقتل حتى يترك ثلاث صلوات، واحسبه ذهب في هذا إلى أنه ربما يكون له عذر في تأخير الصلاة إلى وقت الأخرى للجمع بينهما. وقال أبو حنيفة وأصحابه تارك الصلاة لا يكفر ولا يقتل ولكن يحبس ويضرب حتى يصلي، وتأولوا الخبر على معنى الأغلاظ له والتوعد عليه. قال أبو داود: حدثنا مححد بن عبيد حدثنا محمد بن ثور عن معمر قال: وأخبرني الزهري عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال أعطى النبي صلى الله عليه وسلم رجالاً ولم يعط رجلاً منهم شيئاً، فقال سعد رضي الله عنه يا رسول الله أعطيت فلاناً وفلاناً ولم تعط فلاناً شيئاً وهو مؤمن فقال النبي صلى الله عليه وسلم أو مسلم حتى أعادها سعد ثلاثاً والنبي صلى الله عليه وسلم يقول أو مسلم، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: إني أعطي رجالاً وأدع من هو أحب إلي منهم لا أعطيه شيئاً مخافة أن يكبوا في النار على وجوههم. قال أبو داود: حدثنا محمد بن عبيد حدثنا ابن ثور عن معمر قال: قال الزهري

قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا، قال نرى الإسلام الكلمة والإيمان العمل. قال الشيخ: ما أكثر ما يغلط الناس في هذه المسألة، فأما الزهري فقد ذهب إلى ما حكاه معمر عنه واحتج بالآية، وذهب غيره إلى أن الإيمان والإسلام شيء واحد، واحتج بالآية الأخرى وهي قوله {فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين} [الذاريات: 35] قال فدل ذلك على أن المسلمين هم المؤمنون إذ كان الله سبحانه قد وعد أن يخلص المؤمنين من قوم لوط وأن يخرجهم من بين ظهراني من وجب عليه العذاب منهم، ثم أخبر أنه قد فعل ذلك بمن وجده فيهم من المسلمين إنجازاً للموعد، فدل الإسلام على الإيمان فثبت أن معناهما واحد وأن المسلمين هم المؤمنون. وقد تكلم في هذا الباب رجلان من كبراء أهل العلم وصار كل واحد منهما إلى مقالة من هاتين المقالتين ورد الآخر منهما على المتقدم وصنف عليه كتاباً يبلغ عدد أوراقه المائتين. قلت والصحيح من ذلك أن يقيد الكلام في هذا ولا يطلق على أحد الوجهين. وذلك أن المسلم قد يكون مؤمناً في بعض الأحوال ولا يكون مؤمناً في بعضها والمؤمن مسلم في جميع الأحوال فكل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمناً، وإذا حملت الأمر على هذا استقام لك تأويل الآيات واعتدل القول فيها ولم يختلف عليك شيء منها، وأصل الإيمان التصديق وأصل الإسلام الاستسلام والانقياد فقد يكون المرء مستسلماً في الظاهر غير منقاد في الباطن ولا يكون صادق الباطن غير منقاد في الظاهر. قال أبو داود: حدثنا أبو الوليد الطيالسي حدثنا شعبة حدثنا واقد بن عبد الله أخبرني عن أبيه أنه سمع ابن عمر رضى الله عنه يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا ترجعوا

بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض. قال الشيخ: هذا يتأول على وجهين: أحدهما أن يكون معنى الكفار المتكفرين بالسلاح يقال تكفر الرجل بسلاحه إذا لبسه فكفر به نفسه أي سترها، وأصل الكفر الستر، ويقال سمي الكافر كافراً لستره نعمة الله عليه أو لستره على نفسه شواهد ربوبية الله ودلائل توحيده. وقال بعضهم معناه لا ترجعوا بعدى فرقاً مختلفين يضرب بعضكم رقاب بعض فتكونوا بذلك مضاهين للكفار فإن الكفار متعادون يضرب بعضهم رقاب بعض والمسلمون متآخون يحقن بعضهم دماء بعض. وأخبرني إبراهيم بن فراس قال: سألت موسى بن هارون عن هذا فقال هؤلاء أهل الردة قتلهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه. قال أبو داود: حدثنا أبو صالح الأنطاكي حدثنا أبو إسحاق، يَعني الفزاري عن الأعمش، عَن أبي صالح، عَن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن والتوبة معروضة بعد. قال الشيخ: الخوارج ومن يذهب مذهبهم ممن يكفر المسلمين بالذنوب يحتجون به ويتألونه على غير وجهه، وتأويله عند العلماء على وجهين: أحدهما أن معناه النهي وإن كانت صورته صورة الخبر يريد لا يزن الزاني بحذف الياء ولا يسرق السارق بكسر القاف على معنى النهي يقول إذ هو مؤمن لا يزني ولا يسرق ولا يشرب الخمر فإن هذه الأفعال لا تليق بالمؤمنين ولا تشبه أوصافهم. والوجه الاخر أن هذا كلام وعيد لا يراد به الإيقاع وإنما يقصد به الردع

ومن باب القدر

والزجر كقوله: المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، وقوله لا إيمان لمن لا أمانة له، وقوله ليس بالمسلم من لم يأمن جاره بوائقه، هذا كله على معنى الزجر والوعيد أو نفي الفضيلة وسلب الكمال دون الحقيقة في رفع الإيمان وابطاله والله أعلم. وقد روي في تأويل هذا الحديث معنى آخر وهو مذكور في حديث رواه أبو داود في هذا الباب قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن سويد الرملي حدثنا ابن أبي مريم أنبأنا نافع، يَعني ابن يزيد أخبرني ابن الهاد أن سعيد بن أبي سعيد المقبري حدثه أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا زنى الرجل خرج منه الإيمان وكان عليه كالظلة فإذا انقلع رجع إليه الإيمان. ومن باب القدر قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال القدَرية مجوس هذه الأمة إن مرضوا فلا تعودوهم وإن ماتوا فلا تشهدوهم. قال الشيخ: إنما جعلهم مجوساً لمضاهاة مذهبهم مذهب المجوس في قولهم بالأصلين وهما النور والظلمة يزعمون إن الخير من فعل النور، والشر من فعل الظلمة فصاروا ثانوية، وكذلك القدرية يضيفون الخير إلى الله عز وجل والشر إلى غيره والله سبحانه خالق الخير والشرلا يكون شيء منهما إلاّ بمشيئته. وخلقه الشر شراً في الحكمة كخلقه الخير خيراً، فالأمران معاً مضافان إليه خلقاً وايجاداً وإلى الفاعلين لهما من عباده فعلاً واكتساباً. قال أبو داود: حدثنا مسدد بن مسرهد حدثنا المعتمر قال سمعت منصور بن المعتمر يحدث عن سعد بن عبيدة عن عبد الله بن حبيب أبي عبد الرحمن عن علي

كرم الله وجهه قال: كنا في جنازة فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ببقيع الغَرْقد فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس ومعه مخصرة فجعل ينكث بالمخصرة في الأرض ثم رفع رأسه فقال ما منكم من أحد ما من نفس منفوسة إلاّ وقد كتب مكانها من النار أو الجنة إلاّ قد كتبت شقية أو سعيدة، قال فقال رجل من القوم يا نبي الله أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل فمن كان من أهل السعادة ليكونن إلى السعادة، ومن كان منا من أهل الشقوة ليكونن إلى الشقوة، قال اعملوا فكل ميسر، أما أهل السعادة فييسرون للسعادة، وأما أهل الشقوة فييسرون للشقوة ثم قرأ نبي الله صلى الله عليه وسلم {أما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى، وأن من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى} [الليل: 5-6-7-8-9-10] . قال الشيخ: المخصرة عصا خفيفة يختصر بها الإنسان يمسكها بيدها والنفس المنفوسة هي المولودة، والمنفوس الطفل الحديث الولادة، يقال نُفست المرأة إذا ولدت، ونفست إذا حاضت، ويقال إنما سميت المرأة نفساً لسيلان الدم، والنفس الدم. قلت فهذا الحديث إذا تأملته أصبت منه الشفاء فيما يتخالجك من أمر القدر وذلك أن السائل رسول الله صلى الله عليه وسلم والقائل له أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل لم يترك شيئاً مما يدخل في أبواب المطالبات والأسئلة الواقعة في باب النجويز والتعديل إلاّ وقد طالب به وسأل عنه فأعلمه صلى الله عليه وسلم أن القياس في هذا الباب متروك والمطالبة عليه ساقطة وأنه أمر لا يشبه الأمور المعلومة التي قد عقلت معانيها وجرت معاملات البشر فيما بينهم عليها وأخبر أنه إنما أمرهم بالعمل ليكون أمارة في الحال العاجلة لما يصيرون إليه في الحال الآجلة فمن تيسر له العمل الصالح

كان مأمولاً له الفوز، ومن تيسر له العمل الخبيث كان مخوفاً عليه الهلاك، وهذه أمارات من جهة العلم الظاهر وليست بموجبات فإن الله سبحانه طوى علم الغيب عن خلقه وحجبهم عن دركه كما أخفى أمر الساعة فلا يعلم أحد متى أبان قيامها؛ ثم أخبر على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض أماراتها وأشراطها فقال من أشراط الساعة أن تلد الأمة ربتها وأن ترى الحفاة العراة العالة يتطاولون في البنيان ومنها كيت وكيت. قال أبو داود: حدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا كهمس، عَن أبي بريدة عن يحيى بن يعمر قال: كان أول من قال بالقدر بالبصرة معبد الجهني فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين أو معتمرين فوفق لنا عبد الله بن عمر رضي الله عنه فقلت أبا عبد الرحمن أنه قد ظهر قبلنا ناس يقرؤون القرآن ويتقفرون العلم يزعمون أن لا قدر والأمر أُنُف فقال إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وهم براء مني والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر. ثم قال حدثني عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا نعرفه حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه وقال يا محمد أخبرني عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام أن تشهد أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا، قال صدقت، قال فعجبنا له يسأله ويصدقه، قال فأخبرني عن الإيمان قال ان تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر

خيره وشره، قال صدقت، قال فأخبرني عن الإحسان قال ان تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، قال فأخبرني عن الساعة، قال ما المسؤول عنها بأعلم من السائل، قال فأخبرني عن أماراتها، قال أن تلد الأمة ربتها وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان، قال ثم انطلق فلبثت ثلاثاً ثم قال يا عمر تدري من السائل، قلت الله ورسوله أعلم، قال فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم. قال الشيخ: قوله يتقفرون العلم معناه يطلبون ويتبعون أثره، والتقفر تتبع أثر الشيء. وقوله والأمر أنف يريد مستأنف لم يتقدم فيه شيء من قدر أو مشيئة، يقال كلأ أنف إذا كان وافياً لم يرع منه شيء. وروضة أنف بمعناه، قال عمر بن أبي ربيعة: في روضة أنف تيممنا بها ... ميثاء رائقة بُعيد سماء وفي قول ابن عمر رضي الله عنهما إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وهم براء مني دلالة على أن الخلاف إذا وقع في أصول الدين وكان مما يتعلق بمعتقدات الإيمان أوجب البراءة وليس كسائر ما يقع فيه الخلاف من أصول الأحكام وفروعها التي موجباتها العمل في أن شيئاً منها لا يوجب البراءة ولا يوقع الوحشة بين المختلفين فقد جاء في هذا الحديث التفريق بين الإسلام والإيمان فجعل الإسلام في العمل والإيمان في الكلمة على ضد ما قاله الزهري في حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه الذي ذكرناه في الباب، فقال يرى الإسلام الكلمة والإيمان العمل. قلت وهذا عندي تفصيل لجملة كلها شيء واحد وليس بتفريق بين شيئين

مختلفين، وقد روينا في باب قبل هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما أن وفد عبد القيس قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرهم بالايمان ثم قال أتدرون ما الإيمان قالوا الله ورسوله أعلم، فقال شهادة أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة؛ وصوم رمضان، وأن تعطوا الخمس من المغنم. فضم هذه الأعمال إلى كلمة الشهادة وجعلها كلها إيماناً، وهذا يبين لك أن اسم الإيمان قد يدخل على الإسلام واسم الإسلام يدخل على الإيمان، وذلك لأن معنى الإيمان التصديق ومعنى الإسلام الاستسلام، وقد يتحقق معنى القول بفعل الجوارح ثم يتحقق الفعل ويصح بتصديق القلب نية وعزيمة، وجماع ذلك كله الدين، وهو معنى قوله جبريل أتاكم يعلمكم دينكم. وأما قوله ما الإحسان فإن معنى الإحسان ههنا الإخلاص وهو شرط في صحة الإيمان والإسلام معاً، وذلك أن من وصف الكلمة وجاء بالعمل من غير نية وإخلاص لم يكن محسناً ولا كان إيمانه في الحقيقة صحيحاً كاملاً وإن كان دمه في الحكم محقوناً وكان بذلك في جملة المسلمين معدوداً. ويحكى عن سفيان بن سعيد الثوري أنه كان يقول في الإيمان قول ومعرفة وعمل ونية، وأحسبه تأول هذا المعنى واعتبره بالحديث. وكان أحمد بن حنبل يزيد فيها شرطاً خامساً وهو السنة فيقول: في الإيمان قول ومعرفة وعمل ونية وسنة. قلت: واسم الإسلام يشتمل على هذه الخصال كلها، ألا تراه يقول هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم، وقد قال سبحانه {إن الدين عند الله الإسلام} [آل عمران: 19] .

وقوله وأن تلد الأمة ربتها معناه أن يتسع الإسلام ويكثر السبي ويستولد الناس أمهات الأولاد فتكون ابنة الرجل من أمته في معنى السيدة لأمها إذ كانت مملوكة لأبيها، وملك الأب راجع في التقدير إلى الولد. وقد يحتج بهذا من يرى بيع أمهات الأولاد ويعتل في أنهن إنما لا يبعن إذا مات السادة لأنهن قد يصرن في التقدير ملكاً لأولادهن فيعتقن عليهم لأن الولد لا يملك والدته وهذا على تخريج قول وأن تلد الأمة ربتها وفيه نظر. والعالة الفقراء واحدهم عائل يقال عال الرجل يعيل إذا افتقر. وعال أهله يعولهم إذا مار أهله، وأعال الرجل يعيل إذا كثر عياله. قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار سمع طاوساً يقول سمعت أبا هريرة يخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال احتج آدم وموسى، فقال موسى يا آدم إنك أبونا خيبتنا وأخرجتنا من الجنة، فقال آدم أنت موسى اصطفاك الله بكلامه وخط لك، يَعني التوراة بيده تلومني على أمر قد قدره الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة فحج آدم موسى. قال الشيخ: قد يحسب كثير من الناس أن معنى القدر من الله والقضاء منه معنى الاجبار والقهر للعبد على ما قضاه وقدره ويتوهم أن فلج آدم في الحجة على موسى إنما كان من هذا الوجه، وليس الأمر في ذلك على ما يتوهمونه، وإنما معناه الاخبار عن تقدم علم الله سبحانه بما يكون من أفعال العباد واكسابهم وصدورها عن تقدير منه وخلق لها خيرها وشرها، والقدر اسم لما صدر مقدراً عن فعل القادر كما الهدم والقبض والنشر أسماء لما صدر عن فعل الهادم والقابض والناشر، يقال قدرت الشيء وقدرت خفيفة وثقيلة بمعنى واحد، والقضاء في

هذا معناه الخلق كقوله عز وجل {فقضاهن سبع سموات في يومين} [فصلت: 12] أي خلقهن وإذا كان الأمر كذلك فقد بقي عليهم من وراء علم الله فيهم أفعالهم واكسابهم ومباشرتهم تلك الأمور وملابستهم إياها عن قصد وتعمد وتقديم ارادة واختيار، فالحجة إنما تلزمهم بها واللائمة تلحقهم عليها. وجماع القول في هذا الباب أنهما أمران لا ينفك أحدهما عن الآخر، لأن أحدهما بمنزلة الأساس والآخر بمنزلة البناء فمن رام الفصل بينهما فقد رام هدم البناء ونقضه، وإنما كان موضع الحجة لآدم على موسى صلوات الله عليهما أن الله سبحانه إذ كان قد علم من آدم أنه يتناول الشجرة ويأكل منها فكيف يمكنه أن يرد علم الله فيه وأن يبطله بعد ذلك. وبيان هذا في قول الله سبحانه {واذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة} [البقرة: 30] فأخبر قبل كون آدم أنه إنما خلقه للأرض وأنه لا يتركه في الجنة حتى ينقله عنها اليها وإنما كان تناول الشجرة سبباً لوقوعه إلى الأرض التي خلق لها وللكون فيها خليفة ووالياً على من فيها فإنما أدلى آدم عليه السلام بالحجة على هذا المعنى ودفع لائمة موسى عن نفسه على هذا الوجه ولذلك قال: اتلومني على أمر قدره الله علي قبل أن يخلقني. فإن قيل فعلى هذا يجب أن يسقط عنه اللوم أصلاً، قيل اللوم ساقط من قبل موسى إذ ليس لأحد أن يعير أحداً بذنب كان منه لأن الخلق كلهم تحت العبودية أكفاء سواء. وقد روي لا تنظروا إلى ذنوب العباد كأنكم أرباب وانظروا إليها كأنكم عبيد، ولكن اللوم لازم لآدم من قبل الله سبحانه إذ كان قد أمره ونهاه فخرج إلى معصيته وباشر المنهي عنه، ولله الحجة البالغة سبحانه لا شريك له.

ومن باب في ذراري المشركين

وقول موسى صلى الله عليه وسلم وإن كان منه في النفوس شبهة وفي ظاهره متعلق لاحتجاجه بالسبب الذي قد جعل أمارة لخروجه من الجنة فقول آدم في تعلقه بالسبب الذي هو بمنزلة الأصل أرجح وأقوى، والفلج قد يقع مع المعارضة بالترجيح كما يقع بالبرهان الذي لا معارض له والله أعلم. قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر النمري حدثنا شعبة (ح) قال وحدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن الأعمش حدثنا زيد بن وهب حدثنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم مضغة وذكر الحديث. قال الشيخ: قوله يجمع في بطن أمه قد روى في تفسيره عن ابن مسعود حدثناه الأصم حدثنا السري بن يحيى أبو عبيدة حدثنا عمار بن زريق قال: قلت للأعمش ما يجمع في بطن أمه قال حدثني خيثمة قال: قال عبد الله، إن النطفة إذا وقعت في الرحم فأراد الله أن يخلق منها بشراً طارت في بشر المرأة تحت كل ظفر وشعر ثم يمكث أربعين ليلة ثم ينزل دماً في الرحم فذلك جمعها. ومن باب في ذراري المشركين قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا أبو عَوانة، عَن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل عن أولاد المشركين قال الله أعلم بما كانوا عاملين. قال الشيخ: ظاهر هذا الكلام يوهم أنه صلى الله عليه وسلم لم يفت السائل عنهم ولأنه رد الأمرفي ذلك إلى علم الله جل وعز ومن غير أن يكون قد جعلهم من المسلمين

أو ألحقهم بالكافرين وليس هذا وجه الحديث، وإنما معناه أنهم كفار ملحقون في الكفر بآبائهم لأن الله سبحانه قد علم أنهم لو بقوا أحياء حتى يكبروا لكانوا يعملون عمل الكفار. يدل على صحة التأويل قوله في حديث عائشة قالت قلت يا رسول الله ذراري المؤمنين فقال من آبائهم فقلت يا رسول الله بلا عمل قال الله أعلم بما كانوا عاملين، قلت يا رسول الله فذراري المشركين قال من آبائهم، قلت بلا عمل قال الله أعلم بما كانوا عاملين. وقد ذكره أبو داود في هذا الباب فقال: حدثنا عبد الوهاب بن نجدة حدثنا بقية حدثنا محمد بن حرب عن محمد بن زياد عن عبد الله بن أبي قيس عن عائشة رضي الله عنها. فهذا يدل على أنه قد أفتى عن المسألة ولم يعقل الجواب عنها على حسب ما توهمه من ذهب إلى الوجه الأول في تأويل الحديث. قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك، عَن أبي الزناد عن الأعرج، عَن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يُهوِّدانه ويُنَصرانه كما تناتج الابل من بهيمة جمعاء هل تُحس من جدعاء. قالوا يا رسول الله أفرأيت من يموت وهو صغير قال الله أعلم ما كانوا عاملين. ذكر أبو داود في تفسيره عن حماد بن سلمة أنه كان يقول هذا عندنا حيث أخذ الله عليهم العهد في أصلاب آبائهم فقال {ألست بربكم قالوا بلى} [الأعراف: 712] . قلت معنى قول حماد في هذا حسَن وكأنه ذهب إلى أنه لاعبرة للإيمان الفطري في أحكام الدنيا، وإنما يعتبر الإيمان الشرعي المكتسب بالإرادة والفعل ألا ترى أنه يقول فأبواه يهودانه وينصرانه فهو من وجود الإيمان الفطري فيه محكوم له بحكم الأبوين الكافرين.

وفيه وجه ذهب إليه عبد الله بن المبارك حين سأل عنه، فقال تفسير قوله حين سأل عن الأطفال فقال الله أعلم بما كان عاملين، يريد والله أعلم أن كل مولود من البشر إنما يولد على فطرته التي جبل عليها من السعادة والشقاوة وعلى ما سيق له من قدر الله وتقدم من مشيئته فيه من كفر أوإيمان فكل منهم صائر في العاقبة إلى ما فطر عليه وخلق له وعامل في الدنيا بالعمل المشاكل لفطرته في الشقاوة والسعادة، فمن أمارات الشقاوة للطفل أن يولد بين يهوديين أو نصرانيين فيحملانه لشقائه على اعتقاد دين اليهود أو النصارى أو يعلمانه اليهودية أو النصرانية أو يموت قبل أن يعقل فيصف الدين فهو محكوم له بحكم والديه إذ هو في حكم الشريعة تبع لوالديه، وذلك معنى قوله فأبواه يهودانه وينصرانه. ويشهد لهذا المذهب حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بصبي من الأنصار يصلي عليه، فقلت يا رسول الله طوبى لهذا لم يعمل شيئاً ولم يُدر به قال أو غير ذلك ذلك يا عائشة ان الله خلق الجنة وخلق لها أهلاً، وخلقها لهم وهم في أصلاب آبائهم، وخلق النار وخلق لها أهلاً وخلقها لهم وهم في أصلاب آبائهم، وقد ذكره أبو داود في هذا الباب. حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن طلحة بن يحيى عن عائشة بنت طلحة عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها. ويشهد له أيضاً حديث أبي بن كعب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في قوله تعالى: {وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين} [الكهف: 80] وكان طبع يوم طبع كافراً. قلت: وفيه وجه ثالت وهو أن يكون معناه أن كل مولود من البشر إنما يولد في مبدأ الخلقة وأصل الجبلة على الفطرة السليمة والطبع المتهيىء لقبول

الدين فلو ترك عليها وخلى وسومها لاستمر على لزومها ولم يفارقها إلى غيرها، لأن هذا الدين موجود حسنه في العقل يسره في النفوس وإنما يعدل عنه من يعدل إلى غيره ويؤثر عليه لآفة من آفات النشوء والتقليد، فلو سلم المولود من تلك الآفات لم يعتقد غيره ولم يختر عليه ما سواه، ثم يمثل بأولاد اليهود والنصارى في اتباعهم لابائهم والميل إلى أديانهم فيزولون بذلك عن الفطرة السليمة وعن المحجة المستقيمة. وفيه أقاويل أخر قد ذكرتها في مسألة أفردتها في تفسير الفطرة وفيما أوردته ههنا كفاية على ما شرطناه من الاختصار في هذا الكتاب. وأصل الفطرة في اللغة ابتداء الخلق، ومنه قول الله سبحانه {الحمد لله فاطر السموات والأرض} [فاطر: 1] أي مبتديها، ومن هذا قولهم فطر ناب البعير إذا طلع. ويروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال لم أعلم ما فاطر السموات حتى اختصم إليَّ اعرابيان في بئر، فقال أحدهما أنا فاطرها أي حافرها ومقترحها. وقوله من بهيمة جمعاء فإن الجمعاء هي السليمة سميت بذلك لاجتماع السلامة لها في أعضائها يقول إن البهيمة أول ما تولد تكون سليمة من الجدع والخرم ونحو ذلك من العيوب حتى يحدث فيها أربابها هذه النقائص كذلك الطفل يولد مفطوراً على خلقه ولو ترك عليها لسلم من الآفات، إلاّ أن والديه يزينان له الكفر ويحملانه عليه. قلت وليس في هذا ما يوجب حكم الإيمان له إنما هو ثناء على هذا الدين واخبار عن محله من العقول وحسن موقعه من النفوس والله أعلم.

ومن باب الرد على الجهمية والمعتزلة

ومن باب الرد على الجهمية والمعتزلة قال أبو داود: حدثنا عبد الأعلى بن حماد ومحمد بن المثنى ومحمد بن بشار وأحمد بن سعيد الرباطي قالوا حدثنا وهب بن جرير حدثنا أبي قال: سمعت محمد بن إسحاق يحدث عن يعقوب بن عتبة عن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده قال أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابي، فقال يا رسول الله جُهدت الأنفس وضاع العيال ونهكت الأموال وهلكت الأنعام فاستسق الله لنا فإنا نستشفع بك على الله ونستشفع بالله عليك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحك أتدري ما تقول وسبح رسول الله صلى الله عليه وسلم فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه؛ ثم قال ويحك انه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه شأن الله أعظم من ذلك؛ ويحك أتدري ما الله إن عرشه على سمواته لهكذا وقال بأصابعه مثل القبة عليه وإنه ليئط به أطيط الرحل بالراكب. قال الشيخ: هذا الكلام إذا جرى على ظاهره كان فيه نوع من الكيفية والكيفية عن الله وصفاته منفية فعقل أن ليس المراد منه تحقيق هذه الصفة ولا تحديده على هذه الهيئة، وإنما هو كلام تقريب أريد به تقرير عظمة الله وجلاله سبحانه، وإنما قصد به إفهام السائل من حيث يدركه فهمه إذ كان اعرابياً جلفاً لا علم له بمعاني ما دق من الكلام وبما لطف منه عن درك الافهام. وفي الكلام حذف واضمار فمعنى قوله أتدري ما الله معناه أتدري ما عظمة الله وجلاله. وقوله أنه ليئط به معناه أنه ليعجز عن جلاله وعظمته حتى يئط به إذ كان معلوماً أن أطيط الرحل بالراكب إنما يكون لقوة ما فوقه ولعجزه عن احتماله فقرر بهذا النوع من التمثيل عنده معنى عظمة الله وجلال وارتفاع عرشه ليعلم أن الموصوف بعلو الشأن وجلالة القدر وفخامة الذكر لا يجعل شفيعاً إلى من هو دونه في القدر

ومن باب في الرؤية

وأسفل منه في الدرجة وتعالى الله أن يكون مشبهاً بشيء أو مكيفاً بصورة خلق أو مدركاً بحد ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. وذكر البخاري هذا الحديث في التاريخ من رواية جبير بن محمد بن جبير عن أبيه عن جده ولم يدخله في الجامع الصحيح. ومن باب في الرؤية قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير ووكيع وأبو أسامة عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن جرير بن عبد الله قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جلوساً فنظر إلى القمر ليلة البدر ليلة أربع عشرة فقال إنكم سترون ربكم كما ترون هذا لا تُضامُّون في رؤيته. قال الشيخ: قوله تضامون هو من الانضمام يريد أنكم لا تجتمعوا للنظر وينضم بعضكم إلى بعض فيقول واحد هو ذاك ويقول الاخر ليس بذاك على ما جرت به عادة الناس عند النظر إلى الهلال أول ليلة من الشهر، ووزنه تفاعلون وأصله تتضامون حذفت منه إحدى التاءين. وقد رواه بعضهم تضامون بضم التاء وتخفيف الميم فيكون معناه على هذه الرواية أنه لا يلحقكم ضيم ولا مشقة في رؤيته. وقد تخيل إلى بعض السامعين أن الكاف في قوله كما ترون كاف التشبيه للمرئي وإنما هو كاف التشبيه للرؤية وهو فعل الرائي، ومعناه ترون ربكم رؤية ينزاح معها وتنتفي معها المرية كرؤيتكم القمر ليلة البدر لا ترتابون به ولا تمترون فيه.

قال أبو داود: حدثنا إسحاق بن إسماعيل حدثنا سفيان عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه أنه سمعه يحدث، عَن أبي هريرة قال: قال ناس يا رسول الله أنرى ربنا يوم القيامة، قال هل تُضارون في رؤية الشمس في الظهيرة ليست في سحابة قالوا لا، قال هل تُضارون في رؤية القمر ليلة البدر ليس في سحابة قالوا لا، قال والذي نفسي بيده لا تضارون في رؤيته إلاّ كما تضارون في رؤية أحدهما. قال الشيخ: وهذا والأول سواء في ادغام أحد الحرفين في الآخر وفتح التاء من أوله ووزنه تفاعلون من الضرار، والضرار أن يتضار الرجلان عند الاختلاف في الشيء فيضار هذا ذلك وذلك هذا، فيقال قد وقع الضرار بينهما أي الاختلاف. قال أبو داود: حدثنا علي بن نصر ومحمد بن يونس النسائي، والمعنى قالا: حَدَّثنا عبد الله بن يزيد حدثنا حرملة، يَعني ابن عمران حدثني أبو يونس سليم بن جبير مولى أبي هريرة قال سمعت أبا هريرة يقرأ هذه الآية {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها} [النساء: 58] إلى قوله سميعاً بصيراً. قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع إبهامه على أذنه والتي تليها على عينه. قال الشيخ: وضعه اصبعه على أذنه وعينه عند قراءته سميعاً بصيراً، معناه اثبات صفة السمع والبصر لله سبحانه لا إثبات الأذن والعين لأنهما جارحتان والله سبحانه موصوف بصفاته منفي عنه ما لا يليق به من صفات الآدميين ونعوتهم ليس بذي جوارح ولا بذي أجزاء وأبعاض ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن ابن شهاب، عَن أبي سلمة بن عبد الرحمن وعن أبي عبد الله الأغر، عَن أبي هريرة رضي الله عنه أن

رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ينزل الله تبارك وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له. قال الشيخ: وقد رواه الأعمش، عَن أبي صالح، عَن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه حدثناه إسماعيل الصفار حدثنا محمد بن جعفر الوراق حدثنا محاضر عن الأعمش قال وأرى أبا سفيان ذكره عن جابر قال وذلك في كل ليلة. قلت مذهب علماء السلف وأئمة الفقهاء أن يجروا مثل هذه الأحاديث على ظاهرها وأن لا يريغوا لها المعاني ولا يتأولوها لعلمهم بقصور علمهم عن دركها. حدثنا الزعفراني حدثنا ابن أبي خيثمة حدثنا عبد الوهاب بن نجدة الحوطي حدثنا بقية عن الأوزاعي، قال كان مكحول والزهري يقولان أمروا الأحاديث كما جاءت. قلت وهذا من العلم الذي أمرنا أن نؤمن بظاهره وأن لا نكشف عن باطنه وهو من جملة المتشابه الذي ذكره الله عز وجل في كتابه فقال {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات} [آل عمران: 7] الآية؛ فالمحكم منه يقع به العلم الحقيقي والعمل، والمتشابه يقع به الإيمان والعلم بالظاهر ونوكل باطنه إلى الله سبحانه؛ وهو معنى قوله {وما يعلم تأويله إلاّ الله} [آل عمران: 7] وإنما حظ الراسخين في العلم أن يقولوا {آمنا به كل من عند ربنا} [آل عمران: 7] وكذلك كل ما جاء من هذا الباب في القرآن كقوله {هل ينظرون إلاّ أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضي الأمر} [البقرة: 210] وقوله {وجاء ربك والملك صفاً صفاً} [الفجر: 22] والقول في جميع ذلك عند علماء السلف هو ما قلنا، وقد روي مثل ذلك عن جماعة من الصحابة.

ومن باب في القرآن

وقد زل بعض شيوخ أهل الحديث ممن يرجع إلى معرفته بالحديث والرجال فحاد عن هذه الطريقة حين روى حديث النزول ثم أقبل يسأل نفسه عليه فقال إن قال قائل كيف ينزل ربنا إلى السماء قيل له ينزل كيف شاء فإن قال هل يتحرك إذا نزل أم لا، فقال إن شاء تحرك وإن شاء لم يتحرك. قلت وهذا خطأ فاحش والله سبحانه لا يوصف بالحركة لأن الحركة والسكون يتعاقبان في محل واحد، وإنما يجوز أن يوصف بالحركة من يجوز أن يوصف بالسكون وكلاهما من أعراض الحدث وأوصاف المخلوقين والله جل وعز متعال عنهما ليس كمثله شيء، فلو جرى هذا الشيخ عفا الله عنا وعنه على طريقة السلف الصالح ولم يدخل نفسه فيما لا يعنيه لم يكن يخرج به القول إلى مثل هذا الخطأ الفاحش، وإنما ذكرت هذا لكي يتوقى الكلام فيما كان من هذا النوع فإنه لا يثمر خيراً ولا يفيد رشداً ونسأل الله العصمة من الضلال والقول بما لا يجوز من الفاسد المحال. ومن باب في القرآن قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبه حدثنا جرير عن منصور عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوذ الحسن والحسين عليهما السلام أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة، ثم يقول كان أبوكم يعوذ بها إسماعيل وإسحاق. قال الشيخ: الهامة إحدى الهوام وذوات السموم كالحية والعقرب ونحوهما وقوله من كل عين لامة معناه ذات لمم كقول النابغة: (كليني لهمٍّ يا اميمة ناصب) أي ذونصب. وكان أحمد بن حنبل يستدل بقوله بكلمات الله التامة، على أن القرآن غير

ومن باب في الحوض

مخلوق وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يستعيذ بمخلوق وما من كلام مخلوق إلاّ وفيه نقص والموصوف منه بالتمام هو غير المخلوق وهو كلام الله سبحانه. ومن باب في الحوض قال أبو داود: حدثنا عاصم بن النَّضر حدثنا المعتمر قال سمعت أبي حدثنا قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لما عرج نبي الله صلى الله عليه وسلم في الجنة أو كما قال عرض له نهر حافتاه الياقوت المجيب أو قال المجوف وذكر الحديث. قال الشيخ: المجيب هو الأجوف وأصله من جبيت الشيء إذا قطعته والشيء مجيب ومجبوب كما قالوا مشيب ومشبوب وانقلاب الياء عن الواو كثير في كلامهم. ومن باب المسألة في القبر قال أبو داود: حدثنا محمد بن سليمان الأنباري حدثنا عبد الوهاب الخفاف عن سعيد عن قتادة عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الكافر إذا وضع في قبره أتاه ملك بمنهرة فيقول له ما كنت تعبد فيقول لا أدري فيقال له لا دريت ولا تليت. قال الشيخ: هكذا يقول المحدثون وهو غلط، وقد ذكره القتيبي في كتاب غريب الحديث، وقال فيه قولان بلغني عن يونس البصري أنه قال هو لا دريت ولا اتليت ساكنة التاء يدعو عليه بأن لا تتلى إبله أي يكون لها أولاد تتلوها أي تتبعها، يقال للناقة قد اتليت فهي متلية وتلاها ولدها إذا تبعها، قال وقال غيره هو لا دريت ولا ايتليت، تقدير افتعلت من قولك ما الوت هذا ولا

ومن باب في الخوارج

استطيعه كأنه يقول لا دريت ولا استطعت. ومن باب في الخوارج قال أبو داود: حدثنا أحمد بن يونس حدثنا زهير وأبو بكر بن عياش ومندل عن مطرف، عَن أبي جهم عن خالد بن وهبان، عَن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه. قال الشيخ: الربقة ما يجعل في عنق الدابة كالطوق يمسكها لئلا تشرد، يقول من خرج عن طاعة الجماعة وفارقهم في الأمر المجمع عليه فقد ضل وهلك وكان كالدابة إذا خلعت الربقة التي هي محفوظة بها فإنها لا يؤمن عليها عند ذلك الهلاك والضياع. قال أبو داود: حدثنا محمد بن عبيد ومحمد بن عيسى المعنى قالا: حَدَّثنا حماد عن أيوب عن محمد عن عبيدة أن علياً عليه السلام ذكر أهل النهروان فقال فيهم رجل مُوذَن اليد أو مُخدج اليد أو مثدَّن اليد. قال الشيخ: قال أبو عبيد عن الكسائي المؤذن اليد القصير اليد، قال وفيه لغة أخرى وهو المودون، والمخدج القصير أيضاً أخذ من اخداج الناقة ولدها، وهو أن تلده وهو لغير تمام في خلقه، والمثدن يقال أنه شبه يده في قصرها بثندوة الثدي وهي أصله، وكان القياس أن يقال مثند لأن النون قبل الدال في الثندوة إلاّ أنه قلب والمقلوب كثير في الكلام. قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثيرأخبرنا سفيان عن أبيه عن ابن أبي نعم، عَن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم قسماً قال فأقبل رجل غائر العينين مشرف الوجنتين ناتئ الجبين كث اللحية محلوق فقال اتق

ومن باب قتال اللصوص

الله يا محمد، قال فلما ولى عنه، قال إن من ضئضئ هذا وفي عقب هذا قوم يقرؤون القرآن لا يتجاوز حناجرهم يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية. قال الشيخ: الضئضئ الأصل يريد أنه يخرج من نسله الذي هو أصلهم أو يخرج من أصحابه وأتباعه الذين يقتدون به ويبنون رأيهم ومذهبهم على أصل قوله. والمروق الخروج من الشيء والنفوذ إلى الطرف الأقصى منه؛ والرمية هي الطريدة التي يرميها الرامي. قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي حدثنا عبد الرزاق عن عبد الملك بن أبي سليمان عن سلمة بن كهيل أخبرني زيد بن وهب الجهني قال، كنت مع علي كرم الله وجهه حين سار إلى الخوارج فلما التقينا وعلى الخوارج عبد الله بن وهب الراسبي، فقال لهم القوا الرماح وسلوا السيوف من جفونها فإني أخاف أن يناشدوكم كما ناشدوكم يوم حروراء، قال فوحَّشوا برماحهم واستلوا السيوف وشجرهم الناس برماحهم فقتلوا بعضهم على بعض. قال الشيخ: فوحشوا برماحهم معناه رموا بها على بعد، يقال للإنسان إذا كان في يد شيء فرمى به على بعد قد وحش به ومنه قول الشاعر: إن أنتم لم تطلبوا بأخيكم ... فضعوا السلاح ووحشوا بالأبرق وقوله شجرهم الناس برماحهم يريد أنهم دافعوهم بالرماح وكفوهم عن أنفسهم بها، يقال شجرت الدابة بلجامها إذا كففتها به، وقد يكون أيضاً معناه أنهم شبكوهم بالرماح فقتلوهم من الاشتجار وهو الاختلاط والاشتباك. ومن باب قتال اللصوص قال أبو داود: حدثنا هارون بن عبد الله حدثنا أبو داود الطيالسي حدثنا

كتاب الفتن

إبراهيم بن سعد عن أبيه، عَن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر عن طلحة بن عبد الله بن عوف عن سعيد بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون أهله أو دون دمه أو دون دينه فهو شهيد. قال الشيخ: قد طب الله سبحانه في غير آية من كتابه إلى التعرض للشهادة وإذا سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا شهيداً، فقد دل ذلك على أن من دافع عن ماله أو عن أهله أو دينه إذا أربد على شيء منها فأتي القتل عليه كان مأجوراً فيه نائلاً به منازل الشهداء. وقد كره ذلك قوم زعموا أن الواجب عليه أن يستسلم ولا يقاتل عن نفسه وذهبوا في ذلك إلى أحاديث رويت في ترك القتال في الفتن وفي الخروج على الأئمة، وليس هذا من ذلك في شيء، إنما جاء هذا في قتال اللصوص وقطاع الطريق، وأهل البغي والساعين في الأرض بالفساد ومن دخل في معناهم من أهل العيث والافساد. كتاب الفتن قال أبو داود: حدثنا يحيى بن عثمان بن سعيد الحمصي حدثنا أبو المغيرة حدثني عبد الله بن سالم حدثني العلاء بن عتبة عن عمير بن هانىء العنسي قال: سمعت عبد الله بن عمر رضي الله عنه يقول كنا قعوداً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الفتن فأكثر في ذكرها حتى ذكر فتنة الأحلاس، فقال قائل يا رسول الله وما فتنة الأحلاس، قال هي هرَب وحرَب، ثم فتنة السراء دخنُها من تحت قدمَي رجل من أهل بيتي يزعم أنه مني وليس مني إنما أوليائي المتقون، ثم يصطلح الناس

على رجل كَوَرِك على ضِلع ثم فتنة الدهيماء لا تدع أحداً من هذه الأمة إلاّ لطمته لطمة وذكر الحديث. قال الشيخ: قوله فتنة الاحلاس إنما أضيفت الفتنة إلى الاحلاس لدوامها وطول لبثها يقال للرجل إذا كان يلزم بيته لا يبرح منه هو حلس بيته، لأن الحلس يفترش فيبقى على المكان ما دام لا يرفع. وقد يحتمل أن تكون هذه الفتنة إنما شبهت بالاحلاس لسواد لونها وظلمتها، والحرب ذهاب المال والأهل، يقال حرب الرجل فهو حريب إذا سلب أهله وماله. والدخن الدخان يريد أنها تثور كالدخان من تحت قدميه. وقوله كورك على ضلع مثل، ومعناه الأمرالذي لا يثبت ولا يستقيم، وذلك أن الضلع لا يقوم بالورك ولا يحمله، وإنما يقال في باب الملامة والموافقة إذا وصفوا هو ككف في ساعد وكساعد في ذراع أو نحو ذلك يريد أن هذا الرجل غير خليق للملك ولا مستقل به والدهيماء تصغير الدهماء وصغرها على مذهب المذمة لها والله أعلم. قال أبو داود: حدثنا مسدد وحدثنا قتيبة بن سعيد دخل حديث أحدهما في الآخر قالا: حَدَّثنا أبو عوانة عن قتادة عن نصر بن عاصم عن سُبيع بن خالد قال أتيت الكوفة فدخلت مسجداً فإذا صدْع من الرجال إذا رأيته كأنه من رجال

أهل الحجاز، قال قلت من هذا قال فتجهمني القوم، وقالوا ما تعرف هذا، هذا حذيفة بن اليمان صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال حذيفة إن الناس كانوا يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر، فقلت يا رسول الله أرأيت هذا الخير الذي أعطانا الله أيكون بعده شر كما كان قبله، قال نعم قلت، ثم ماذا قال هدنة على دخن، قال قلت يا رسول الله ثم ماذا قال إن كان لله خليفة في الأرض فضرب ظهرك وأخذ مالك فأطعه وإلا فمت وأنت عاض بجذل شجرة. قال الشيخ: وروى أبو داود في غير هذه الرواية أنه قال هدنة على دخن وجماعة على اقذاء، الصدع من الرجال مفتوحة الدال هو الشاب المعتدل القناة ومن الوعول الفتي. وقوله هدنة على دخن معناه صلح على بقايا من الضغن، وذلك أن الدخان أثر من النار دال على بقية منها. وقوله جماعة على اقذاء يؤكد ذلك وقد جاء تفسيره في الحديث قال: قلت يا رسول الله الهدنة على الدخن ما هي، قال لا ترجع قلوب أقوام على الذي كانت عليه. وأخبرني إسماعيل بن راشد عن إسحاق بن إبراهيم عن بعض رجاله أو عن نفسه قال قلت لأعرابي كيف بينك وبين قومك فأنشدني: وبين قومي ورجالها أحن ... إذا التقوا تحاملوا على ضغن * تحامل النبت علي وعس الدمن * والجذل أصل الشجرة إذا قطع أغصانها، ومنه قول القائل من الأنصار أنا جذيلها المحكك. وكان قتادة يتأول هذا الحديث فيجعله على الردة في زمن أبي بكر رضي الله عنه.

قال أبو داود: حدثنا سليمان بن حرب ومحمد بن عيسى قالا: حَدَّثنا حماد عن أيوب، عَن أبي قلابة، عَن أبي أسماء عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله زوى لي الأرض أو قال إن ربي زوى لي الأرض فأريت مشارقها ومغاربها وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوي لي منها وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض واني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة عامَّة ولا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، وذكر حديثاً فيه طول. قوله زوى لي الأرض معناه قبضها وجمعها، ويقال انزوى الشيء إذا انقبض وتجمع وقوله ما زوي لي منها يتوهم بعض الناس أن حرف من ههنا معناه التبعيض فيقول كيف اشترط في أول الكلام الاستيعاب ورد آخره إلى التبعيض، وليس ذلك على ما يقدرونه؛ وإنما معناه التفصيل للجملة المتقدمة والتفصيل لا يناقض الجملة ولا يبطل شيئاً منها لكنه يأتي عليها شيئاً شيئاً ويستوفيها جزءاً حزءاً، والمعنى أن الأرض زويت جملتها له مرة واحدة فرآها ثم يفتح له جزء جزء منها حتى يأتي عليها كلها فيكون هذا معنى التبعيض فيها، والكنزان هما الذهب والفضة.

وقوله لا يهلكها بسنة عامة فإن السنة القحط والجدب، وإنما جرت الدعوة بأن لا تعمهم السنة كافة فيهلكوا عن آخرهم، فأما أن يجدب قوم ويخصب آخرون فإنه خارج عما جرت به الدعوة، وقد رأينا الجدب في كثير من البلدان وكان عام الرمادة في زمان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ووقع الغلاء بالبصرة أيام زياد ووقع ببغداد في عصرنا الغلاء فهلك خلق كثير من الجوع، إلاّ أن ذلك لم يكن على سبيل العموم والاستيعاب لكافة الأمة فلم يكن في شيء منها خلف الخبر. قال أبو داود: حدثنا محمد بن سليمان الأنباري حدثنا عبد الرحمن عن سفيان عن منصور عن ربعي بن حراش عن البراء بن ناجية عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال تدور رحى الإسلام بخمس وثلاثين أو ست وثلاثين أو سبع وثلاثين فإن يهلكوا فسبيل من هلك وإن يقم لهم دينهم يُقم لهم سبعين عاماً، قال قلت مما بقي أومما مضى قال مما مضى. قال الشيخ: قوله تدور رحى الإسلام دوران الرحى كناية عن الحرب والقتال شبهها بالرحى الدوارة التي تطحن الحب لما يكون فيها من تلف الأرواح وهلاك الأنفس قال الشاعر يصف حرباً: فدارت رحانا واستدارت رحاهم …سراة النهار ما تولى المناكب وقال زهير: فتعرككم عرك الرحى بثفالها ... وتلقح كشافاً ثم تنتج فتيتم وقال صعصعة جد الفرزدق أتيت علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم وجهه حين رفع يده عن مرحى الجمل يريد حرب الجمل.

وقوله وإن يقم لهم دينهم يريد بالدين ههنا الملك، قال زهير: لئن حللت بجوٍ في بني أسد ... في دين عمرو وحالت بيننا فدك يريد ملك عمرو. ولايته. قلت ويشبه أن يكون أريد بهذا ملك بني أمية وانتقاله عنهم إلى بني العباس رضي الله عنه وكان ما بين أن استقر الأمر لبني أمية إلى أن ظهرت الدعاة بخراسان وضعف أمر بني أمية ودخل الوهن فيهم نحواً من سبعين سنة. قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عنبسة حدثني يونس عن ابن شهاب حدثني حميد بن عبد الرحمن أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يتقارب الزمان وينقص العلم وتظهر الفتن ويلقى الشح ويكثر الهرج قيل يا رسول الله أيُّمَ هو قال القتل. قال الشيخ: قوله يتقارب الزمان معناه قصر زمان الأعمار وقلة البركة فيها. وقيل هو دنو زمان الساعة، وقيل هو قصر مدة الأيام والليالي على ما روي أن الزمان يتقارب حتى تكون السنة كالشهر؛ والشهر كالجمعة والجمعة كاليوم، واليوم كالساعة، والساعة كاحتراق السعفة، والهرج أصله القتال، يقال رأيتهم يتهارجون أي يتقاتلون، وقوله أيم هو يريد ما هو، وأصله أيما هو فخفف الياء وحذف الألف كما قيل أيش ترى في أي شيء ترى. قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا حماد بن زيد، عَن أبي عمران الجوني عن المشعَّث بن طريف عن عبد الله بن الصامت، عَن أبي ذر قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا ذر قلت لبيك وسعديك، وذكر الحديث قال فيه كيف أنت إذا أصاب الناس موت يكون البيت فيه بالوصيف، قلت الله ورسوله أعلم أو قال

ماخار الله لي ورسوله قال عليك بالصبر أو قال تصبر، ثم قال لي يا أبا ذر قلت لبيك وسعديك، قال كيف أنت إذا رأيت أحجار الزيت قد غرقت بالدم قلت ما خار الله لي ورسوله، قال عليك بمن أنت منه قال قلت يا رسول الله أفلا آخذ سيفي وأضعه على عاتقي، قال شاركت القوم إذن، قلت فما تأمرني قال تلزم بيتك، قلت فإن دخل على بيتي، قال فإن خشيت أن يبهَرَك شعاع السيف فألق ثوبك على وجهك يبوء بإثمك وإثمه. قال أبو داود لم يذكر المشعث في هذا الحديث غير حماد بن زيد. قال الشيخ: البيت ههنا القبر والوصيف الخادم يريد أن الناس يشغلون عن دفن موتاهم حتى لا يوجد فيهم من يحفر قبراً لميت ويدفنه إلاّ أن يعطي وصيفاً أو قيمته والله أعلم. وقد يكون معناه أن مواضع القبور تضيق عنهم فيبتاعون لموتاهم القبور كل قبر بوصيف، وقوله يبهرك شعاع السيف معناه يغلبك ضوءه وبريقه والباهر المضيء الشديد الاضاءة قال الشاعر: بيضاء مثل القمر الباهر وقد يحتج بهذا الحديث من يذهب إلى وجوب قطع النباش وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى القبر بيتاً فدل على أنه حرز كالبيوت. قال أبو داود: حدثنا إبراهيم بن الحسن حدثنا حجاج بن محمد حدثنا الليث بن سعد حدثني معاوية بن صالح أن عبد الرحمن بن جبير حدثه عن أبيه عن المقداد بن الأسود قال ايْمُ الله لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن السعيد لمن جنب الفتن ولمن ابتلي فصبر فواهاً. قال الشيخ: واهاً كلمة معناها التلهف وقد يوضع أيضاً موضع الإعجاب

ومن باب تعظيم دم المؤمن

بالشيء فإذا قلت ويهاً كان معناها الإغراء. قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسلمة عن عبد الرحمن بن أبي صعصعة عن أبيه، عَن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوشك أن يكون خير مال المسلم غنماً يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن. قال الشيخ: شعف الجبال أعاليها، وفيه الحث على العزلة أيام الفتن. ومن باب تعظيم دم المؤمن قال أبو داود: حدثنا مؤمل بن الفضل حدثنا محمد بن شعيب عن خالد بن دهقان عن هانىء بن كلثوم، قال سمعت محمود بن الربيع يحدث عن عبادة بن الصامت أنه سمعه يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من قتل مؤمناً فاعتبط قتله لم يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً. قال خالد وحدثنا عبد الله بن أبي زكريا عن أم الدرداء، عَن أبي الدرداء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا يزال المؤمن مُعنقاً صالحاً ما لم يصب دماً حراماً فإذا أصاب دماً حراماً بلَّح. قال الشيخ: قوله فاعتبط قتله يريد أنه قتله ظلماً لا عن قصاص، يقال عبطت الناقة واعتبطتها إذا نحرتها من غير داء أو آفة تكون بها ومات فلان عبطة إذا مات شاباً واحتضر قبل أوان الشيب والهرم قال أمية بن أبي الصلت: من لم يمت عبطة يمت هرما وقوله معنقاً يريد خفيف الظهر يعنق في مشيه سير المخف؛ والعنق ضرب من السير وسيع يقال أعنق الرجل في سيره فهو معنق، ورجل معنق وهو من

كتاب المهدي

نعوت المبالغة، وبلح معناه أعيا وانقطع، ويقال بلح عليَّ الغريم إذا قام عليك فلم يعطك حقك وبلحت الركية إذا انقطع ماؤها. كتاب المهدي ومن باب في المهدي قال أبو داود: حدثنا أحمد بن إبراهيم حدثنا عبد الله بن جعفر الرقي حدثنا أبو المليح الحسن بن عمر عن زياد بن بيان عن علي بن نفيل عن سعيد بن المسيب عن أم سلمة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول المهدي من عترتي من ولد فاطمة. قال الشيخ: العترة ولد الرجل لصلبه، وقد يكون العترة الأقرباء وبني العمومة، ومنه قول أبي بكر رضي الله عنه يوم السقيفة نحن عترة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال أبو داود: حدثنا سهل بن تمام بن بزيع حدثنا عمران القطان عن قتادة، عَن أبي نضرة، عَن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم المهدي مني أجلى الجبهة أقنى الأنف. قال الشيخ: الجلاء هو انحسار الشعر عن مقدم الرأس، ويقال رجل أجلن وهوأبلغ في النعت من الأملح قال العجاج: مع الجلا ولائح القتير قال أبو داود: حدثنا محمد بن المثنى حدثنا معاذ بن هشام حدثني أبي عن قتادة عن صالح أبي الخليل عن صاحب له عن أم سلمة في قصة المهدي قال ويعمل في الناس بسنة نبيهم ويُلقي الإسلام بجِرانه إلى الأرض فيلبث سبع سنين ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون. قال الشيخ: الجران مقدم العنق وأصلمفي البعير إذا مد عنقه على وجه الأرض فيقال القى البعير جرانه، وإنما يفعل ذلك إذا طال مقامه في مناخه فضرب الجران مثلاً للإسلام إذا استقر قراره فلم يكن فتنة ولا هيج وجرت أحكامه على العدل والاستقامة.

كتاب الملاحم

كتاب الملاحم ومن باب في قتال الترك قال أبو داود: حدثنا قتيبة وابن السرح وغيرهما قالوا حدثنا سفيان عن الزهري عن سعيد بن المسيب، عَن أبي هريرة رواية، وقال ابن السرح عن النبي صلى الله عليه وسلم لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قوماً نعالهم الشعر، ولا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قوماً صغار العيون ذُلْف الأنُف كأن وجوههم المَجَان المطرَّقة. قال الشيخ: قوله ذلف يقال أنف أذلف إذا كان فيه غلظ وانبطاح وأنوف ذلف. والمجان جمع المجن وهو الترس، والمطرقة التي قد عوليت بطراق وهو الجلد الذي يغشاه. وشبه وجوههم في عرضها ونتو وجناتها بالترسة قد البست الأطرقة. قال أبو داود: حدثنا جعفر بن مسافر حدثنا خلاد بن يحيى حدثنا بشير بن المهاجر حدثنا عبد الله بن بريدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث قتال الترك قال تسوقونهم ثلاث مرات ويُصطلمون في الثالثة. قال الشيخ: الاصطلام الاستئصال وأصله من الصلم وهو القطع. ومن باب في ذكر البصرة قال أبو داود: حدثنا محمد بن يحيى بن فارس حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث حدثني أبي حدثنا سعيد بن جُمهان حدثنا مسلم بن أبي بكرة قال: سمعت أبي يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ينزل أناس من أمتي بغائط يسمونه البصرة عند نهر يقال له دجلة يكون عليه جسر يكثر أهلها ويكون من أمصار المهاجرين فإذا كان في آخر الزمان جاء بنو قنطوراء حتى ينزلوا على شط النهر، وذكر الحديث.

ومن باب ذكر الحبشة

قال الشيخ: الغائط البطن المطمئن من الأرض، والبصرة الحجارة الرخوة وبها سميت البصرة وبنو قنطوراء هم الترك، يقال إن قنطوراء اسم جارية كانت لإبراهيم صلوات الله عليه ولدت له أولاداً جاء من نسلهم الترك. ومن باب ذكر الحبشة قال أبو داود: حدثنا القاسم بن أحمد حدثنا أبو عامر عن زهير بن محمد عن موسى بن جبير، عَن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال اتركوا الحبشة ما تركوكم فإنه لا يستخرج كنز الكعبة إلاّ ذو السويقتين من الحبشة. قال الشيخ: ذو السويقتين هما تصغير الساق والساق مؤنث فلذلك ادخل في تصغيرها التاء وعامة الحبشة في سوقهم دقة وحموشة. ومن باب ذكر الدجال قال أبو داود: حدثنا حيْوة بن شريح حدثنا بقية حدثني بَحير هو بحير بن سعد عن خالد بن معدان عن عمرو بن الأسود عن جنادة بن أبي أمية عن عبادة بن الصامت أنه حدثهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إني قد حدثتكم عن الدجال حتى خشيت أن لا تعقلوا. إن المسيح الدجال قصير افحج جعد أعور مطموس العين ليست بناتئة ولا جحراء. قال الشيخ: الأفحج الذي إذا مشى باعد بين رجليه. والجحراء الذي قد انخسفت فبقى مكانها غائراً كالجحر. يقول إن عينه سادة لمكانها مطموسة أي ممسوحة ليست بناتئة ولا منخسفة. قال أبو داود: حدثنا هدبة بن خالد حدثنا همام بن يحيى أظنه عن قتادة عن

ومن باب في خبر الجساسة

عبد الرحمن بن آدم، عَن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر عيسى صلوات الله عليه ونزوله وقال إذا رأيتموه فاعرفوه رجل مربوع إلى الحمرة والبياض بين ممصَّرتين كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل فيقاتل الناس على الإسلام فيدق الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية وتهلك في زمانه الملل كلها إلاّ الإسلام. قال الشيخ: الممصر من الثياب الملون بالصفرة وليست صفرته بالمشبعة. وقوله ويقتل الخنزير فيه دليل على وجوب قتل الخنازير وبيان أن أعيانها نجسة وذلك أن عيسى صلوات الله عليه إنما يقتل الخنزير في حكم شريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لأن نزوله إنما يكون في آخر الزمان وشريعة الإسلام باقية. وقوله ويضع الجزية معناه أنه يضعها عن النصارى وأهل الكتاب ويحملهم على الإسلام ولا يقبل منهم غير دين الحق فذلك معنى وضعها والله أعلم. ومن باب في خبر الجساسة قال أبو داود: حدثنا حجاج بن أبي يعقوب حدثنا عبد الصمد حدثني أبي قال سمعت حسين المعلم حدثنا عبد الله بن بريدة حدثنا عامر بن شراحيل الشعبي عن فاطمة بنت قيس قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر إن تميماً الداري حدثني أنه ركب في سفينة بحرية مع ثلاثين رجلاً من لخم وجُذام قلعت بهم الموج شهراً في البحر فأرفؤوا إلى جزيرة حين تغرب الشمس فجلسوا في أقرب السفينة فدخلوا الجزيرة فلقيتهم دابة أهلَب كثيرة الشعر قالوا ويلكِ ما أنت قالت أنا الجساسة انطلقوا إلى هذا الرجل في هذا الدير فإنه إلى خبركم بالأشواق وساق الحديث. قال الشيخ: قوله أرفؤوا إلى جزيرة معناه أنهم قربوا السفينة إليها يقال ارفأت السفينة إذا قربتها من الساحل وهذا مرفأ السفن، وأقرب السفينة يريد بها

باب خبر ابن الصائد

القوارب وهن سفن صغار تكون مع السفن البحرية كالجنائب لها تتخذ لحوائجهم واحدها قارب، وأما الأقرب فإنه جمع على غير قياس، والجساسة يقال إنها تجسس الأخبار للدجال وبه سميت جساسة، والأهلب الكثير الهلب والشعر. باب خبر ابن الصائد قال أبو داود: حدثنا أبو عاصم خُشيش بن أصرم حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن سالم عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ بابن صياد في نفر من أصحابه فيهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يلعب مع الغلمان عند أُطُم بني مَغالة وهو غلام فلم يشعر حتى ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ظهره بيده، ثم قال أتشهد أني رسول الله فنظر إليه ابن صياد فقال: أشهد أنك رسول الأميين، ثم قال ابن صياد للنبي صلى الله عليه وسلم أتشهد أني رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم آمنت بالله ورسله، ثم قال له النبي صلى الله عليه وسلم ما يأتيك قال يأتيني صادق وكاذب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم خُلط عليك الأمر، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إني قد خبأت لك خبيئةً وخبأ له {يوم تأتي السماء بدخان مبين} [الدخان: 10] قال ابن صياد هو الدُّخ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اخس فلن تعدو قدرك، فقال عمر رضي الله عنه يا رسول الله ائذن لي فأضرب عنقه فقال صلى الله عليه وسلم إن يكن فلن تسلط عليه، يَعني الدجال وإن لا يكن هو فلا خير في قتله. قال الشيخ: الأُطم بناء من الحجارة مرفوع كالقصر وآطام المدينة حصونها والدخ الدخان، وقال الشاعر: عند رواق البيت يغشى الدخا وقد اختلف الناس في ابن صياد اختلافاً شديداً وأشكل أمره حتى قيل فيه كل قول، وقد يسأل عن هذا فيقال كيف يقار رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يدعي

النبوة كاذباً ويتركه بالمدينة يساكنه في داره ويجاوره فيها وما معنى ذلك وما وجه امتحانه إياه بما خبأه له من أنه الدخان. وقوله بعد ذلك اخس فلن تعدو قدرك. والذي عندي أن هذه القصة إنما جرت معه أيام مهادنة رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود وحلفائهم وذلك أنه بعد مقدمه المدينة كتب بينه وبين اليهود كتاباً صالحهم فيه على أن لا يهاجوا وأن يتركوا على أمرهم، وكان ابن صياد منهم أو دخيلاً في جملتهم وكان يبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره وما يدعيه من الكهانة ويتعاطاه من الغيب فامتحنه بذلك ليزور به أمره ويخبر شأنه فلما كلمه علم أنه مبطل وأنه من جملة السحرة أو الكهنة أو ممن يأتيه رؤى من الجن أو يتعاهده شيطان فيلقي على لسانه بعض ما يتكلم به فلما سمع منه قول الدخ زبره فقال اخس فلن تعدو قدرك. يريد أن ذلك شيء اطلع عليه الشيطان فألقاه إليه وأجراه على لسانه وليس ذلك من قبل الوحي السماوي إذا لم يكن له قدر الأنبياء الذين علم الغيب ولا درجة الأولياء الذين يلهمون العلم فيصيبون بنور قلوبهم، وإنما كانت له تارات يصيب في بعضها ويخطىء في بعض، وذلك معنى قوله يأتيني صادق وكاذب فقال له عند ذلك قد خلط عليك، والجملة أنه كان فتنة قد امتحن الله به عباده المؤمنين ليهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حيى على بينة، وقد امتحن قوم موسى عليه السلام في زمانه بالعجل فافتتن به قوم وهلكوا ونجا من هداه الله وعصمه منهم. وقد اختلفت الروايات في أمره وما كان من شأنه بعد كبره فروي أنه قد تاب عن ذلك القول ثم أنه مات بالمدينة وأنهم لما أرادوا الصلاة عليه كشفوا عن وجهه حتى رآه الناس وقيل لهم اشهدوا.

ومن باب الأمر والنهي

وروي، عَن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال شتمت ابن صياد فقال ألم تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا يدخل الدجال مكة وقد حججت معك وقال لا يولد له وقد ولد لي؛ وكان ابن عمر وجابر بن عبد الله رضي الله عنهما فيما روي عنهما يحلفان أن ابن صياد هو الدجال لا يشكان فيه، فقيل لجابر إنه اسلم فقال وإن أسلم، فقيل أنه دخل مكة وكان بالمدينة قال وإن دخل. وقد روي عن جابر أنه قال فقدنا ابن صياد يوم الحرة. قلت وهذا خلاف رواية من روى أنه مات بالمدينة والله أعلم. ومن باب الأمر والنهي قال أبو داود: حدثنا محمد بن عبادة الواسطي حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا إسرائيل حدثنا محمد بن جحادة عن عطية العوفي، عَن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر أو أمير جائر. قال الشيخ: إنما صار ذلك أفضل الجهاد لأن من جاهد العدو وكان متردداً بين رجاء وخوف لا يدري هل يغلب أو يغلب وصاحب السلطان مقهور في يده فهو إذا قال الحق وأمره بالمعروف فقد تعرض للتلف وأهدف نفسه للهلاك فصار ذلك أفضل أنواع الجهاد من أجل غلبة الخوف والله أعلم. قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي حدثنا يونس بن راشد عن علي بن بذيمة، عَن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر بني إسرائيل وتلا قوله {لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم} [المائدة: 78] إلى قوله فاسقون، ثم قال {كلا والله لتأمرن

بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يدي الظالم ولتأطرنهه على الحق أطراً} . قال الشيخ: قوله لتأطرنه معناه لتردنه عن الجور، وأصل الأطر العطف أو الثني ومنه تأطر العصي وهو تثنيه، قال عمر بن أبي ربيعة: خرجت تأطر في الثياب كأنها ... أيم تسيب علا كثيباً أهيلا قال أبو داود: حدثنا سليمان بن حرب وحفص بن عمر قالا: حَدَّثنا شعبة عن عمرو بن مرة، عَن أبي البختري أخبرني من سمع النبي صلى الله عليه وسلم وقال سليمان أخبرني رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: لن يهلك الناس حتى يَعذِروا أو يعذروا من أنفسهم. قال الشيخ: فسره أبو عبيد في كتابه، وحكي، عَن أبي عبيدة أنه قال معنى يعذروا أي تكثر ذنوبهم وعيوبهم، قال وفيه لغتان، يقال أعذر الرجل إعذاراً إذا صار ذا عيب وفساد، قال وكان بعضهم يقول عذر يعذر بمعناه ولم يعرفه الأصمعي، قال أبو عبيد وقد يكون يعذروا بفتح الياء بمعنى يكون لمن بعدهم العذر في ذلك، والله أعلم. هنا في نسخة الأحمدية: آخر الكتاب والحمد لله وصلواته على سيدنا محمد النبي وآله وأصحابه، وسلام على عباد الله الصالحين ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم كتبه عفيف بن المبارك بن الحسين بن محمود الوراق رحمهم الله وهنا في النسخة الطرطوشية: كتبه جميعه أبو بكر محمد بن الوليد ببغداد في المدرسية النظامية في شهر رمضان من سنة ثمان وسبعين وأربعمائة والله وليه وحافظه. اهـ.

خطأ عثرت عليه في هذا الجزء: صحيفة سطر الخطأ الصواب الكتاب المكاتب سطع سطح وكذلك عثرت على خطأ في الجزء الأول: صحيفة سطر الخطأ الصواب ابروا ابردوا هذه القسم هذه القسمة رسول الله رسول رسول الله في الجزء الثالث: في صحيفة 99 آخر سطر , كلمة عرف , صوابها غرق , والبياض التي تركته هو في بحر كما وجدته في عون المعبود شرح سنن ابي داود للعلامة الشيخ محمد شمس حق العظيم أبادي الهندي المطبوع في الهند ولم يكن وقتئذ عندي , وقد تفضل بإرساله الينا اعارة من دمشق الأستاذ الفاضل الشيخ بهجة البيطار حفيد العلامة الشيخ عبد الرزاق البيطار رحمه الله تعالى , فله مني عظيم الشكر ومن الله تعالى جزيل الأجر.

كلمه للناشر أيضا قلت في ذيل الصحيفة الثامنة من الجزء الأول , كتب لي شيخنا بالإجازة حافظ المغرب الشيخ محمد عبد الحي الكتاني الفاسي ان لهذه المقدمة النفيسة شرحا للإمام الحافظ أبي طاهر السلفي لكني لم أطلع عليه ولا أعلم منه نسخة في مكتبة من المكاتب. فاطلع على ذلك الشيخ سليمان بن عبد الرحمان الصنيع وهو من أهل العلم بمكة المشرفة فكتب لي كتابا مؤرخا في 3 ذي الحجة 1351 جاء فيه أن شرح هذه المقدمة يوجد في مدرسة ديوبند (السند) وقد كتبت بواسطة شيخي عالم ديوبند ومحدثها ونزيل مكة الآن اطلب هذا الشرح وسأرسله لكم إذا وصلني وفقكم الله لنشر كتب السنة. وفي غرة ربيع الأول من سنة 1353 وصلتني هذه الرسالة بوسطة الوجيه المفاضل الشيخ محمد أفندي نصيف عين أعيان جدة وأماثلها , وأني شاكر لهما ولمن توسط بأرسالها من بلاد السند هذا العمل المبرور جزى الله الجميع خير الجزاء. وبعد تلاوتها لم أجدها شرحا للمقدمة بل هي مقدمه حافلة للحافظ الموما اليه نوه بها بجلالة الامام ابي داود وما صنفه وفضل الشارح الإمام الخطابي املاها قبل املائه معالم السنن , وقد جاء فيها من الفوائد والأخبار ما لا ذكر له في مقدمتي فألحقتها بآخر الكتاب تتميما للفائدة وحرصا على احيائها. وقد علق عليها هذان الفاضلان بعض تعليقات واقتفيت انا اثرهما ونسجت

على منوالهما ايضا وعزوت كل تعليقة لصاحبها. وقد ذيل المقدمة الشيخ سليمان الموما اليه بقوله فرغ بحمد الله واعانته وحوله وقوله الفقير الى الله تعالى سليمان بن عبد الرحمان بن محمد بن علي بن عبد الله بن حمد الصنيع من رقم هذه المقدمة يوم الأربعاء التاسع من شهر صفر الخير سنة ثلاث وخمسين وثلاثماية والف بمكة المكرمة , ونقلت هذه المقدمة عن نسخة نسخت لي في السند في العم الماضي من نسخة مخطوطة مع معالم السنن للخطابي وكلاهما بخط واحد من اولها الى آخرها , الا أن معالم السنن مخرومة من آخرها بقدر الكراس او الكراسين , ولهذا جهل تاريخ النسخة وهي من مخطوطات القرن التاسع أو العاشر , واصل النسخة هذه من الحجاز وهي في مكتبة الشيخ صبغة الله بن محمد بن راشد الحسيني السندي وبيتهم بيت علم وصلاح وامر بالمعروف ونهي عن المنكر. وكان هذا الشيخ ممن صحب السيد احمد الدهلوي الشهيد هكذا افادني شيخنا العلامة الكبير المحدث الفقيه الشيخ عبيد الله بن الاسلام السندي ثم الدهلوي الديوبندي جزاه الله خيرا ونفعنا بعلومه آمين. هذا وأني قد صححت الأصل بقدر الإمكان وعلقت على بعض المواضع بقدر الحاجة وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم اهـ.

مقدمة الحافظ الكبير أبي طاهر السلفي المتوفى سنة 576 رحمه الله تعالى بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. أخبرنا الشيخ الفقيه الإمام شيخ الإسلام الحافظ الصدر بقية السلف أبو طاهر أحمد بن محمد بن إبراهيم السِّلفي الأصبهاني رضي الله عنه قراءة عليه في منزله وأنا أسمع فأقرَّ به رضي الله عنه قال: أما بعد حمد الله تعالى على كل حال، والصلاة على المصطفى محمد وآله خير آل والمرتضين أصحابه في مقال وفعال، فقد اقترح عليَّ في ذي قعدة سنة ست وأربعين وخمسمائة جماعة من أعيان فقهاء الثغر المحروس أن أملي عليهم شيئاً من الحديث في خلال الدروس من غير اخلال بها وتقصير يلحقها ومداومة يذهب بها بهاؤها ورونقها، فاستجدت مقالهم وأجبت سؤالهم، وعينت عليّ يومين الخميس والاثنين، وأمليت من رواياتي عن مشايخي مجالس تحتوي على الصحيح من الحديث والغريب وبعيد الإسناد والقريب؛ وحكايات في أواخرها ومن الأشعار فاخرها كما جرت به العادة وسنة قبلنا الحفاط القادة في أماليهن ورواية عواليهم، ثم قطعتها

معولاً على إملاء كتاب جامع يتضمن أحاديث الأحكام على أقصى غاية من الأحكام، يصلح الأئمة الكبار؛ وفحول الفقهاء النظار، عرى عن المعهود في الأمالي، ويكون ذلك من رواياتي العوالي، فلم أتمكن مما عولت عليه وقصدته لبعد مسموعي عني الذي في حضري وسفري حصلته فدعتني الضرورة حينئذ إلى العدول عن ذلك إلى إملاء كتاب مصنفه مشهور، وبالحفظ والثقة مذكور ويستغني بشهرته عن مدح مادح، ولا يتطرق إليه قدح قادح، وينتفع بما فيه اعلام العلماء، وكافة الفقهاء، ولا يخلو عن الحديث المعنعن كما يحتوي على الفقه المستنبط من نصوص الكتاب والسنن، فلولا الإسناد لقال من شاء ما شاء، ولم يبال أحسن أم أساء، فلم أر ما هو باملاء أولى، وعند الانتقاء أعلى وأجلى من موطأ الإمام مالك بن أنس الأصبحي الألمعي الثقة المتفق شرقاً وغرباً على تقدمه وإمامته وديانته فيما يرويه وأمانته وعلى ما رزق من الاتقان والضبط والبعد من التخليط والخبط، فعند استقراره والثبوت على استمراره، سئلت في إبانة ما عسى يتبين في لفظه أو معناه إشكال ويتعين عنه سؤال، فتأبيت هنالك عجزاً عن ذلك على ما بينته مبسوطاً، وما يكون به منوطاً في مقدمة كتاب الاستذكار لابن عبد البر في شرحه المستحق للمبالغة في تقريظه ومدحه وملت إلى املائه في أبرك الأوقات بعون الله تعالى والقائه إذ ليس في الشروحات على كثرتها مثله، وقد بان من تأليفه البديع علمه وفضله فتصديت له وشرعت فيه شروعاً ارتضيه، وهو كتاب كبير في إحدى النسخ ثلاثون مجلداً لكن بخط واضح أنيق، وفي أخرى أحد عشر بخط دقيق، وقد كتب به إلىَّ أبو عمران موسى بن عبد الرحمن بن أبي تليد الشاطبي رواية، عَن أبي عمر مؤلفه

في الأندلس سنة ثلاث عشرة وخمسمائة. وكان ابتداء الشروع في الالقاء على الأصحاب الفقهاء وفقهم الله وأعانهم على تحصيل العلم الذي زانهم في المدرستين إما العادلية أو الصالحية نفع الله منشيهما بالإنشاء واثابنا نحن بالإملاء على ما كان يتفق ويتسهل في كل أسبوع يومين الخميس على ما ذكرته آنفاً والاثنين في شهور سنة إحدى وخمسين وخمسمائة ووقع الفراغ منه في أواخر ذي القعدة سنة إحدى وستين فحمدت الله تعالى على إفضاله وإنعامه وإكمال الكتاب واتمامه وهو تعالى المسؤول في نفعنا بالعلم وحمله وضبطه ونقله وجعلنا من بررة أهله بسعة فضله وطوله. واخترت بعد استخارة الله سبحانه في هذا الأوان الشروع في إملاء ديوان آخر شرعي يصلح للفقهاء الأعيان وينتفع به كذلك المتفقه فيما يكون بصدده ويعده من أوفى عدده ولا يخلو من الإسناد الذي عليه جل الاعتماد بل يكون به منوطاً ووجوداً مشروطاً، فلم أر أحسن من شرح أبى سليمان الخطابي البستي لكتاب أبي داود السجزي فهو كتاب جليل، وفي إلقائه عاجلاً ذكر جميل، وآجلاً إن شاء الله تعالى ثواب جزيل. وقد أردت أن أقدم ههنا أيضاً فصلاً في التنبيه على جلالة أبي داود وما صنفه، وفضل أبي سليمان وشرحه الذي ألفه كما فعلت في مقدمة الاستذكار الكبير المقدار، وإن كان أبو سليمان قد كفانا ذلك بما ذكره في خطبة كتابه بحسن خطابته وخطابه. أما كتاب أبي داود فهو أحد الكتب الخمسة التي اتفق أهل الحل والعقد من الفقهاء وحفاط الحديث النبهاء على قبولها والحكم بصحة أصولها وما ذكره في أبوابها وفصولها بعد الموطأ المتفق على الصحة وعلو درجة مصنفه ورتبته،

وحين عرض كتاب أبي داود على أحمد بن حنبل ورآه استحسنه وارتضاه، وحسبه ذلك فخراً. قال إبراهيم بن إسحاق الحربي وأحْرِ به حراً حين وقف عليه وصح ما فيه لديه، ألين لأبي داود الحديث كما ألين لداود الحديد. وروي مثل هذا القول عن محمد بن إسحاق الصغاني فيه وقد يقع الحافر على الحافر، ويوافق قول الأول قول الآخر، وقد قرأت أنا هذه الحكاية وفوائد أُخر من الكتاب على الإمام أبي المحاسن الطبري قاضي قضاة طبرستان بالري سنة إحدى وخمسمائة، وناولني الكتاب جميعه من يده إلى يدي وأذن لي في روايته عنه على جري العادة ومذهب الفقهاء السادة وحفاط الحديث في القديم والحديث. وكان من غرضي كتابته ومن بعد الكتابة قراءته فمنعني عن بلوغ الغرض عارض من المرض، والله أحمد على ما سرّ وساء وأشكره على قضاء قد قدر وشاء. وكان ينفرد به وإليه يرحل من كل قطر بسببه. وشيخُه فيه أبو نصر البلخي الذي بغزنة رواه عنه عن المؤلف عالياً رواه سوى أبواب يسيرة سقطت على أبي نصر فأخذها، عَن أبي الحسن اللبان الدينوري نازلاً بغزنة أيضاً، عَن أبي مسعود الكرابيسي، عَن أبي سليمان. وقد كتبه الفقيه أبو بكر الطرطوشي ببغداد بخطه في المدرسة النظامية سنة ثمان وسبعين وأربعمائة صحيفة من غير سماع إذ لم يجد من يرويه له بالعراق

وإنما كان ينفرد به أبو المحاسن كما ذكرته ولم يتيسر إلاّ عنه ولا أخذ رواية إلاّ منه. وأصل كتاب الطرطوشي هو الآن في ملكي. واستيفاء ذكر أبي داود وفضله وتقدمه في علم الحديث عند أهله ومعرفته بكل نقلته ورواته وجل حملته ووعاته يتعذر في هذه المقدمة فيقتصر على القليل منه الذي لا يستغنى عنه. فأما نسبه فقد قال ابن أبي حاتم الرازي في كتاب الجرح والتعديل سليمان بن الأشعث بن شداد بن عمرو بن عامر. وقال محمد بن عبد العزيز الهاشمي فيما روى عنه ابن جميع الصيداوي سليمان بن الأشعث بن بشير بن شداد، وروى أبو بكر بن داسة وأبو عبيد الآجري البصريان فقالا سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير بن شداد، وكذلك نسبه أبو بكر الخطيب في تاريخ بغداد. وقال ابن شداد بن عمرو بن عمران أبو داود الأزدي السجستاني زاد بعد شداد عمر أو عمران، وهذا القول في نسبه أمثل والقلب إليه أميل ثم الله تعالى أعلم. وشيوخه كثيرون ومنهم عبد الله بن مسلمة القعنبي وأبو الوليد الطيالسي وأبو عمر الحوضي وسليمان بن حرب الواشحي وأبو سلمة التبوذكي وأحمد بن يونس اليربوعي وهشام بن عمار الظفري وأبو الجماهر التنوخي وأبو طاهر بن السرح وقتيبة بن سعيد وآخرون من أهل العراق والشام ومصر وخراسان وقد تلمذ على أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وعنهما أخذ علم الحديث وعلق عنه أحمد حديثا واحداً وأثبته بخطه في دفتر وأفاده لابن أبي سمينة أبي جعفر

وحدث عنه من أقرانه الحافظ أبو عبد الرحمن النسوي وأبو عيسى الترمذي وأبو محمد الجواليقي قاضي الأهواز وأبو بشر الدولابي الرازي وآخرون من المتأخرين قد ذكرناهم في غير هذا الموضع، فأذكر الآن ههنا مما قرأت على أبي المحاسن من الكتاب؛ ويعد من لباب اللباب أعني كتاب الخطابي فوائد لتقع من طلاب الحديث العارفين بقوانين التحديث في كل موضع أحسن موقع ولأميزها كذلك عن المناولة من الكتاب إذ ذلك عين الصواب فالمناولة بالإجماع لا تبلغ درجة السماع، ولهذا يجب تعيين المسموع من المجاز وتبيين الحقيقة من المجاز عند من له بالمجازات إيمان وإيقان، ولديه فيما يعانيه خوفاً من الله ضبط واتقان. والموعود بإيراده معنعناً بأسناده وإن ليس من إعادته بد في أثناء خطبة الكتاب على نص ما ذكره مؤلفه للطلاب ما أخبرني القاضي أبو المحاسن الروياني بقراءتي عليه بالري نا أبو نصر البلخي بغزنة أنا أبو سليمان الخطابي أخبرني أبو عمر محمد بن عبد الواحد الزاهد صاحب أبي العباس أحمد بن يحيى قال: قال إبراهيم الحربي لما صنف أبو داود هذا الكتاب، يَعني كتاب السنن ألين لأبي داود الحديث كما ألين لداود النبي صلى الله عليه وسلم الحديد، فنظمت أنا هذا الكلام المنقول عن الحربى بثغر سَلَماس بعد سماعي من أبي المحاسن بالري لاستحساني ما ماس وقلت:

لان الحديث وعلمه بكماله ... لإمام أهله أبي داودا مثل الذي لان الحديد وسبكه ... لنبي أهل زمانه داودا هكذا كتبناه، عَن أبي المحاسن في صدر معالم السنن للخطابي من قول إبراهيم بن إسحاق الحربي. وقد أخبرنا محمد بن طاهر بن علي المقدسي بهمذان أنا أبو القاسم علي بن عبد العزيز الخشاب بنيسابور أنا محمد بن عبد الله بن البيع فيما أذن لنا قال سمعت أبا سليمان الخطابي يقول سمعت إسماعيل بن محمد الصفار يقول سمعت محمد بن إسحاق الصغانى يقول الين لأبي داود السجستاني الحديث كما الين لداود النبي الحديد. وسمعت القاضي أبا المحاسن الروياني يقول سمعت أبا نصر البلخي بغزنة يقول سمعت أبا سليمان الخطابي يقول سمعت أبا سعيد بن الأعرابي ونحن نسمع منه هذا الكتاب، يَعني كتاب السنن لأبي داود وأشار إلى النسخة وهي بين يديه ولو أن رجلاً لم يكن عنده من العلم إلاّ المصحف الذي فيه كتاب الله تعالى ثم هذا الكتاب لم يحتج معهما إلى شيء من العلم بتة. أخبرني القاضي أبو المحاسن بالري، حَدَّثنا أبو نصر البلخي بغزنة أنا أبو سليمان الخطابي حدثني عبد الله بن محمد المسكي حدثني أبو بكر بن جابر خادم أبي داود قال: كنت معه ببغداد فصلينا المغرب إذ قرع الباب ففتحته فإذا خادم يقول هذا الأمير أبو أحمد الموفق يستأذن؛ فدخلت إلى أبي داود فأخبرته بمكانه فأذن له فدخل وقعد ثم أقبل عليه أبو داود وقال ماجاء بالأمير في مثل هذا الوقت فقال: خلال ثلاث، قال: وما هي؟ قال: تنتقل إلى البصرة فتتخذها وطناً فترحل إليك طلبة العلم من أقطار الأرض فتعمر بك، فإنها قد خربت وانقطع عنها

الناس لما جرى عليها من محن الزنج، فقال هذه واحدة فهات الثانية، قال وتروي لأولادي السنن، فقال نعم هات الثالثة، قال وتفرد لهم مجلساً للرواية فإن أولاد الخلفاء لا يقعدون مع العامة، فقال أما هذه فلا سبيل إليها لأن النلس شريفهم ووضيعهم في العلم سواء. قال ابن جابر فكانوا يحضرون بعد ذلك ويقعدون في كمحيرى ويضرب بينهم وبين الناس ستر فيسمعون مع العامة. وهذه جملة ما قرأته على أبي المحاسن من صدر الكتاب سوى ما لعله من أثنائه أودعه تخريجاً له وسمعته عليه وسأعيدها عند املاء الكتاب إن شاء الله تعالى أعني كتاب معالم السنن. وأما السنن فكتاب له صيت في الآفاق، ولا يرى مثله على الإطلاق، وهو كما ذكرت فيما تقدم أحد الكتب الخمسة التي اتفق على صحتها علماء الشرق والغرب والمخالفون لهم كالمتخلفين عنهم بدار الحرب وكل من رد ما صح من قول الرسول ولم يتلقه بالقبول ضل وغوى، إذ كان عليه الصلاة والسلام ما ينطق عن الهوى ومشاققته الرسول الأمين واتباعه غير سبيل المؤمنين قد رفض الدين وأسخط الله وأرضى إبليس اللعين، وفي الكتاب العزيز الذي عجز الفصحاء عن الإتيان بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نواه ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً} [النساء: 155] . وحيث فرغنا من هذا الباب نذكر إسنادنا في الكتاب وقد رواه عنه أبو علي اللؤلؤي وأبو بكر بن داسة البصريان وغيرهما من الرواة الأعيان. ومنهم وراقه

أبو عيسى إسحاق بن موسى بن سعيد الرملي. فأما رواية اللؤلؤي فقد كتب إليَّ أبو طاهر جعفر بن محمد بن الفضل العباداني من البصرة على يدي صاحبنا أبي نصر اليونارتي رحمه الله، قال أخبرنا أبو عمر القاسم بن جعفر الهاشمي، حَدَّثنا أبو علي محمد بن أحمد بن عمرو وأحمد بن محمد بشرويه وآخرون بأصبهان، قالوا أنبأنا أبو نعيم أحمد بن عبد الله بن إسحاق الحافظ قال: كتب إلي أبو بكر محمد بن بكر بن داسة البصري، حَدَّثنا أبو داود. وقد سمعت الإمام أبا الطيب حبيب بن أبي مسلم الطهراني بأصبهان سنة ثلاث وسبعين وأربعمائة يقول سمعت أبا بكر بن علي المديني يقول سمعت المحسن بن محمد بن إبراهيم الواذري يقول رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقال: من أراد أن يستمسك بالسنن فليقرأ سنن أبي داود. هذا المنام كما ترى ورؤيا المؤمن عند من قرأ العلم ودرى هي في الصحة والقوة كجزء من النبوة. وطهران والمدينة وواذار ثلاثتها من قطر أصبهان، والمدينة هي المعروفة بشهرستان بلدة كبيرة عامرة بالخلق وطهران وواذار ضيعتان من ضياعها كبيرتان والمحسن يكنى أبا العلاء ولأبي سعيد الرستمي وكان من مجيدي شعراء أصبهان (*)

ابن قحطان قصيدة طويلة (*) أبيات يذكر فيها (*) الدنيا (*) القاضي أبو طاهر أحمد الجربدقاني أنبأنا أبو الفضل إسماعيل الجربادقاني الكاتب أنبأنا (*) المظفر ابن شهدان الأصبهاني أنشدنا الرستمي لنفسه: حجي إلى الباب الجديد وكعبتي ... الباب العتيق وبالمصلى الموقف والله لو عرف الحجيج مكاننا ... من زندروز وجسره ما عرفوا أو شاهدوا زمن الربيع طوافنا ... بالخندقين عشية ما طوفوا زار الحجبج مني وزار ذوو الهوى ... جسر الحسين وشعبه واستشرفوا ورأوا ظباء الخيف في جنباته ... فرموا هنالك بالجمار وخيفوا أرض حصاها جوهر وترابها ... مسك وماء المد فيها قرقف هذا قد مضى، وفرغ وانقضى، ونرجع إلى السنن فكتاب السنن أخبرنا أبو الفضل محمد بن طاهر بن علي المقدسي بهمذان أنا أبو القاسم عبد الله بن طاهر التميمي الفقيه قدم علينا الري حاجاً أنا علي بن محمد بن نضرة الدينوري، حَدَّثنا القاضى أبو الحسن علي بن الحسن بن محمد المالكي، حَدَّثنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن أحمد حدثني أبو بكر محمد بن إسحاق، حَدَّثنا الصولي قال: سمعت أبا يحيى زكريا بن يحيى الساجي يقول كتاب الله عز وجل الإسلام، وكتاب السنن لأبي داود عهد الإسلام. وسمعت أبا الحسن علي بن مسلم بن الفتح السلمي الفقيه بدمشق يقول سمعت أبا نصر الحسين بن محمد بن طلاب القرشي يقول سمعت أبا الحسين محمد بن أحمد بن جميع الغساني بصيدا يقول سمعت أبا بكر محمد بن عبد العزيز بن محمد بن الفضل بن يحيى بن القاسم بن عون بن عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث

بن عبد المطلب بمكة يقول سمعت أبا داود سليمان بن الأشعث بن بشير بن شداد السجستاني بالبصرة وسئل عن رسالته التي كتبها إلى أهل مكة وغيرها جواباً لهم فأملى عليهم: سلام عليكم، فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلاّ هو، وأسأله أن يصلي على محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم أما بعد؛ عافانا الله وإياكم فهذه الأربعة الآلاف والثمانمائة الحديث كلها في الأحكام، فأما أحاديث كثيرة من الزهد والفضائل وغيرها من غير هذا فلم أخرجها والسلام عليكم ورحمة الله، وصلى الله على محمد النبي وآله هذا آخر ما أخبرنا به الفقيه أبو الحسن بدمشق. وقد سمعت أبا الفضل محمد بن طاهر بن علي المقدسي الحافظ بهمذان في كتاب اليواقيت من تأليفه يقول: قال أبو داود في رسالته إلى أهل مكة، وربما اختصرت الحديث الطويل لأني لوكتبته بطوله لم يعلم بعض من يسمعه ولا يعلم موضع الفقه منه فاختصرته لذلك. وسمعت أبا الفضل المقدسي بهمذان يقول: حكى أبو عبد الله بن منده الحافظ الأصبهاني أن شرط أبي داود والنسائي إخراج أحاديث أقوام لم يجمع على تركهم إذا صح الحديث باتصال الإسناد من غير قطع ولا إرسال. وأخبرنا أبو محمد عبد الله بن علي بن عبد الله بن الأبنوسي ببغداد أنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الحافظ حدثني أبو بكر محمد بن علي بن إبراهيم القاري الدينوري بلفظه قال سمعت أبا بكر بن داسة يقول سمعت أبا داود يقول كتبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسمائة ألف حديث انتخبت منها ما ضمنته هذا الكتاب، يَعني كتاب السنن جمعت فيه أربعة آلاف وثمانمائة حديث ذكرت الصحيح وما يشبهه ويقاربه ويكفي الإنسان لدينه أربعة أحاديث أحدها قوله صلى الله عليه وسلم الأعمال بالنيات، والثاني قوله من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه، والثالث قوله لا يكون المؤمن مؤمنا

حتى يرضى لأخيه ما يرضاه لنفسه، والرابع قوله الحلال بين والحرام بين وبين ذلك أمور مشتبهات الحديث. . أبو داود سليمان بن الأشعث قال أقمت بطرسوس عشرين سنة كتبت المسند وكتبت أربعة آلاف حديث لمن وفقه الله فأولها ما رواه الشعبي عن النعمان عن النبي صلى الله عليه وسلم الحلال بين والحرام بين، لم يذكر أبو نعيم في روايته هذه عن العثماني غير هذا القدر لا أزيد. وقد رواه عنه ابن فارس اللغوي مؤلف مجمل اللغة فذكر الأحاديث الثلاثة الباقية وبينها وعين عليها وأثبتها، وابن فارس وأبو نعيم في درجة واحدة في رواية هذا الكلام وإن كان ابن فارس أقدم وفاة وأعلى إسناداً، وقد وقعت الحكاية لنا عالية من رواية أبي نعيم ورواية ابن فارس النازلة فأنبأنا ابن السراج البغدادي ببغداد وابن بعلان الكبير الحنوي بحاني قالا كتب إلينا أبو الفتح سليم بن أيوب بن سليم الرازي من ثغر صور أبا أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا القزويني حدثني أبو عمرو عثمان بن محمد العثماني، حَدَّثنا أبو القاسم يعقوب بن محمد بن صالح القرشي، حَدَّثنا محمد بن صالح الهاشمي، حَدَّثنا ابن الأشعث قال أقمت بطرسوس عشرين سنة كتبت المسند فكتبت أربعة آلاف حديث ثم نظرت فإذا مدار أربعة آلاف على أربعة أحاديث لمن وفقه الله جل ثناءه فأولها حديث النعمان بن بشير الحلال بين والحرام بين، وثانيها حديث عمر الأعمال بالنيات، وثالثها حديث أبي هريرة إن الله طيب لا يقبل إلاّ الطيب، ورابعها حديث أبي هريرة أيضاً من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه. أخبرنا محمد بن طاهر المقدسي بهمذان أنا أبو بكر أحمد بن علي الشيرازي

بنيسابور أنا الحاكم أبو عبد الله في كتابه، قال سمعت الزبيري عبد الله بن موسى الثوري يقول سمعت أبا عبد الله بن مخلد يقول كان أبو داود سليمان بن الأشعث يفي بمذاكرة مائة ألف حديث ولما صنف كتاب السنن وقرأه على الناس صار كتابه لأصحاب الحديث كالمصحف يتبعونه ولا يخالفونه وأقر له أهل زمانه بالحفظ والتقدم فيه. كتب إليَّ أبو مكتوم عسيى بن أبي ذر الهروي من مكه قال أنبأنا أبو ذر قال أجاز لي أبو علي أحمد بن عبد الله بن محمد الأصبهاني بالري، قال أجاز لي أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حائم!!! ، قال سليمان بن الأشعث بن شداد بن عمرو بن عامر الأزدي أبو داود السجستاني روى عن عبد الله بن مسلمة القعنبي وموسى بن إسماعيل التبوذكي ومحمد بن كثير العبدي وأحمد بن حنبل ومسدد بن مسرهد رأيته ببغداد وجاء إلى أبي مسلماً وهو ثقة. وأنبأنا أبو الحسين المبارك بن عبد الجبار بن أحمد الصيرفي ببغداد وآخرون قالوا أنبأنا أبو إسحاق إبراهيم بن عمر البرمكي أنبأنا أبو الحسين محمد بن العباس بن الفرات الحافظ أنا محمد بن العباس بن أحمد بن محمد بن عُصم الضبي، حَدَّثنا أحمد بن محمد بن ياسين الهروي، قال سليمان بن الأشعث أبو داود السجزي كان أحد حفاظ الإسلام لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلمه وعلله وسنده في أعلى درجة النسك والعفاف والصلاح والورع من فرسان الحديث. أخبرنا أبو الفضل محمد بن طاهر المقدسي بهمذان أنا أبو عمرو عبد الوهاب بن محمد بن إسحاق بن منده العبدي بأصبهان قال: قال أبي أبو عبد الله بن منده الحفاظ الذين أخرجوا الصحيح وميزوا الثابت من المعلول والخطأ من الصواب

أربعة أبو عبد الله البخاري وأبو الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري وبعدهما أبو داود السجستاني وأبو عبد الرحمن النسائي سمعت القاضي أبا الفتح إسماعيل بن عبد الجبار بن محمد المالكي بقزوبن، قال سمعت أبا يعلى الخليل بن عبد الله بن أحمد الخليلي الحافظ املاءً في كتاب الإرشاد في معرفة علماء الحديث من تأليفه قال أبو بكر عبد الله بن سليمان بن الأشعث السجستاني الحافظ الإمام ببغداد في وقته عالم متفق عليه إمام ابن امام له كتاب المصابيح شارك أباه بمصر والشام في شيوخه سمع عيسى بن حماد وأحمد بن صالح المصري الحافظ وأيوب العسقلاني والأئمة بمصر وجميع الشام وبغداد وأصبهان وسجستان وشيراز وخراسان مات سنة ست عشرة وثلاثمائة أدركت من أصحابه جماعة. واحتج به من صنف الصحيح أبو علي الحافظ النيسابوري وابن حمزة الأصبهاني وكان يقال أئمة ثلاثة في زمان واحد ابن أبي داود ببغداد وابن خزيمة بنيسابور وابن أبي حاتم بالري، قال الخليلي ورابعهم ببغداد أبو محمد يحيى بن محمد بن صاعد مولى ابن هاشم ثقة إمام يفوق في الحفظ أهل زمانه ارتحل إلى مصر والشام والحجاز والعراق منهم من تقدمه في الحفظ على أقرانه منهم أبو الحسن الدارقطني الحافظ ومات ابن صاعد سنة ثماني عشرة وثلاثمائة، هذا ما ذكره الخليلي في كتابه وكان من حفاط زمانه متفقاً عليه في حفظه وإتقانه. وقال الحاكم أبو عبد الله النيسابوري الحافظ في كتاب معرفة علوم الحديث من تأليفه الذي قرأته على أبي القاسم إسماعيل بن محمد بن الفضل الحافظ بأصبهان سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة، عَن أبي بكر أحمد بن علي بن خلف الشيرازي عنه، وذكر في باب منه نفراً من الحفاظ، ثم قال قد اختصرت هذا الباب

وتركت أسامي جماعة من أئمتنا كان من حقهم أن أذكرهم في هذا الموضع فمنهم أبو داود السجستاني، وقرأت على أبي الحسين علي بن الحسن بن الحسين الطائي بدمشق، عَن أبي علي الحسن بن علي بن إبراهيم المقري الأهوازي، قال سمعت أبي يقول سمعت أبا بكر محمد بن بكر بن عبد الرزاق المعروف بابن داسة يقول كنت يوماً سائراً إلى الأُبُلَّة لالقى أبا داود السجستاني فجعلت طريقي على سهل بن عبد الله فلما دخلت إليه رأى معي المحبرة، فقال لي تكتب الحديث فقلت نعم وتمضي إلى أبي داود وتسمع منه، قلت نعم، قال هب أنك أبو داود السجستاني وكتبت ما كتب وجمعت ما جمع وعشت ما عاش وصارت الرحلة إليك كما الرحلة إلى أبي داود لا ينفعك شيء من ذلك أو تعمل به، قال أبو بكر بن داسة فجرح قلبي كلام الشيخ وتألم سري فجئت أبا داود وأنا منكسر فقال لي مالك، فقلت له آذى بشري هذا العجمي أعني سهلاً وذكرت ما جرى لي معه، فقال لي أبو داود قم بنا إليه فجاء معي إليه، فلما رآه سهل قام له قائماً وكان سهل لا يقوم لأحد وقبله وأجلسه إلى جنبه وتنحى له من بعض مقعده وتذاكرا، فقال له أبو داود فيما جرى بينهما حديث كتبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أعياني فقال له سهل ما هو فقال له أبو داود قول النبي صلى الله عليه وسلم كل مولود يولد على فطرة الإسلام فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه، فقال له سهل: نعم، معنى قوله: كل مولود يولد على فطرة الإسلام، يَعني عل خلقة الإسلام، ومعنى قوله فأبواه يهودانه، يَعني يحسنان له اليهودية والنصرانية والمجوسية ويحملانه إلى بيوت عبادتهم، ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلم: بعثت داعياً وليس إليَّ من الهداية شيء وخلق

إبليس مذنباً وليس إليه من الضلالة شيء، قال: فانكب أبو داود فباس رجل سهل؛ قال أبو علي قال لي أبي قلت لابن داسة كنت تخرج إلى أبي داود إلى الأبلة فقال لي أقمت أربع سنين أخرج إليه في كل يوم أمر وأجيء، قال لي أبي وكان ابن داسة له بستان حسن فكان ربما يقعد في البستان عمداً لأصحاب الحديث حتى إذا جئنا إليه إلى البستان أطعمنا شيئاً وقدم لنا من الثمر الذي في البستان في كل حين ما حضر. أخبرنا أبو بكر أحمد بن محمد بن زنجويه المفتي بزنجان أنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن شبيب الشيرازي بنيسابور حدثني إسحلق بن إبراهيم الحافظ، قال سمعت الخليل بن أحمد القاضي يقول سمعت أبا محمد أحمد بن محمد بن الليث قاضي بلدنا يقول جاء سهل بن عبد الله التستري إلى أبي داود السجستاني؛ فقال يا أبا داود لي إليك حاجة قال وما هي قال حتى تقول قد قضيتها مع الإمكان، قال قد قضيتها مع الإمكان، قال اخرج إلي لسانك الذي حدثت به أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أقبله فأخرج إليه لسانه فقبله. لم يسهل على سهل هذا الفعل مع انقباضه عن الناس وانزوائه عنهم ميلاً منه إلى اليأس وايثاره الخمول وتركه الفضول إلاّ لاحياء أبي داود الحديث والشرع الشريف بالبصرة عقيب ما جرى عليها من الزنوج القائمين مع القرمطي وخرابها وقتل علماءها وأعيانها ما جرى واشتهر عند الخاص والعام من الورى واتيان الموفق إليه وسؤاله إياه على التوجه في الانتقال إليها ليرحل إليه ويؤخذ عنه كتابه في السنن وغير ذلك من علومه وتتعمر به كما تقدم فيما أمليناه إذ تحقق أن مقامه بها وكونه بين أهليها يقوم مقام كماة انجاد وحماة أمجاد وقليل ما فعله

سهل في حقه حين رأى الحق المستحق والله تعالى يثيب الجميع بنياتهم الجميلة وما قد حازوه من الفضيلة وينفعنا باتباعهم ومحبتهم ويحشرنا بمنه وكرمه في زمرتهم. وفضائل أبي داود كثيرة ورتبته بين أهل الرتب كبيرة وما أوردته ههنا من فضله، وقول كبير بعد كيير فقليل من كثير، وغرضا التقليل والاختصار لا التطويل وا لاكثار. وقد ذكرت الطرق العالية التي وقعت لي إليه في بعض تخريجاتي على وجه يعول عليه ومن أعزها وجوداً وأحسنها وروداً رواية أبي بكر الصولي فهو قديم الوفاة يذكر مع الأنباري وابن دريد ونفطويه وأقرانهم لكونه في زمانهم توفي سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة وقيل سنة ست بالبصرة لإضاقة لحقته ببغداد فانحدر إليها على ما الخطيب في تاريخه رواها: ومن قضيت منيته بأرض ... فليس يموت في أرض سواها أخبرنا أبو عبد الله القاسم بن الفضل بن محمود الثقفي رئيس أصبهان سنة ثمان وثمانين وأربعمائة، أنبأنا أبو عبد الله الحسين بن الحسن بن محمد الغضائري ببغداد سنة ثلاث عشرة وأربعمائة،، حَدَّثنا أبو بكر محمد بن يحيى الصولي سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة، أنا أبو داود سليمان بن الأشعث، حَدَّثنا أحمد بن محمد بن حنبل، حَدَّثنا يحيى عن عبد الملك عن عطاء عن جابر قال: كسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان ذلك في اليوم الذي مات فيه إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الناس إنما كسفت الشمس لموت إبراهيم فقام النبي صلى الله عليه وسلم فصلى بالناس ست ركعات في أربع سجدات كبر، ثم قرأ فأطال القراءة ثم ركع نحواً مما قام ثم رفع رأسه فقرأ دون القراءة الأولى ثم ركع نحواً مما قام ثم رفع رأسه فقرأ

القراءة الثالثة دون القراءه الثانية، ثم ركع نحواً مما كان ثم رفع رأسه وانحدر للسجود فسجد سجدتين ثم قام فركع ثلاث ركعات قبل أن يسجد ليس فيها ركعة إلاّ والتي قبلها أطول منها إلاّ أن يكون ركوعه نحواً من قيامه ثم تأخر في صلاته فتأخرت الصفوف معه ثم تقدم فقام في مقامه وتقدمت الصفوف معه فقضى بعض الصلاة وقد طلعت الشمس، فقال يا أيها الناس إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت بشر فإذا رأيتم من ذلك شيئاً فصلوا حتى تنجلى. هذا الحديث في علوه كما رواه يفتخر به من سمعه ممن بهذا السند في هذا الأوان رواه وتقنع من إيراد طرق حديثه العوالي بهذا الطريق والله تعالى ولي التوفيق. وقد كان رحمه الله في زمانه يراجع في الجرح والتعديل ويدون كلامه ويعول عليه غاية التعويل وعندي من ذلك سؤالات في غاية الجودة مفيدة ممتعة وفي الاعلام لعلة الجسم مقنعة، ومن جملتها ما رواه عند أبو عبيد الآجري في خمسة أجزاء ضخام بخطي في كل جزء ثلاثون ورقة سوى الرابع والخامس فهما انقص من ذلك واذكر ههنا يسيراً منها واجعلها أنموذجاً عنها. أخبرنا أبو الحسين المبارك بن عبد الجبار بن أحمد الصيرفي ببغداد أنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن منصور العتيقي قال كتب إلينا محمد بن عدي بن زحر المنقري من البصرة، حَدَّثنا أبو عبيد محمد بن علي بن عثمان الآجري البصري، قال سأنت أبا داود سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير بن شداد بن عمرو السجستاني عن عروة بن أذينة قال مديني شاعر حدث عنه يحيى بن سعيد وعبيد الله

بن عمر ومالك لا أعلم له إلاّ حديثاً واحداً، وقال سمعت أبا داود يقول: صالح مولى التوأمة هو ابن نبهان والتوأمة امرأة، وقال سألت أبا داود عن المغيرة بن عبد الرحمن المخزومي فقال ضعيف، فقلت إن عباساً حكى عن يحيى أنه يضعف الخزامي ووثق المخزومي فقال غلط عباس، وقال سألت أبا داود عن عبد الله بن سمعان فقال عبد الله بن سمعان كان من الكذابين ولي قضاء المدينة وقال سألت أبا داود عن عبد العزيز الماجشون فقال ثقة قال أبو الوليد كان يصلح للوزارة، وقال قلت لأبي داود أين مات حمزة الزيات قال مات بحلوان قال وسألت أبا داود عن وهب بن كيسان فقال ثقة حدث عنه مالك يكنى أبا نعيم، وقال سئل أبو داود عن نسب مالك فقال سمعت أحمد بن صالح يقول مالك صحيح النسب من ذي أصبح، قال الزهري حدثني أنس بن أبي أنس عديد بني تميم، قال وسمعت أبا داود يقول ولد مالك سنة اثنين وتسعين ومات سنة تسع وسبعين ومائة، وقال سمعت أبا داود يقول ما رأيت أحمد بن حنبل يميل إلى أحد ميله إلى الشافعي. هذا القدر يغني عما هو أكثر ويقتنع به عن الذي منه أوفر ويستدل به على علم أبي داود بالرجال وأنه كان في معرفة الحديث وروايته جبلاً من الجبال. ومما يدل على أنه لم يكن يداهن في دينه عند السؤال بل يصرح بالحق من المقال ما أخبرنا محمد بن أبي العباس الرازي أنا محمد بن الحسين بن محمد النيسابوري

أنا القاضي أبو الطاهر محمد بن أحمد بن نصر الذهلي حدثني أبو العباس محمد بن رجاء البصري، قال قلت لأبي داود السجستاني لم أرك حدثت عن الرمادي فقال رأيته يصحب الواقفة فلم أحدث عنه. الرمادي هذا هو أبو بكر أحمد بن منصور من حفاظ الحديث الاعلام وثقات علماء الإسلام وقد توقف أبو داود عن الرواية عنه لصحبته (¬1) وما ذكره ومن أمره أنكروا. وأما مولده ووفاته فقد أخبرنا المبارك بن عبد الجبار بن أحمد الصيرفي ببغداد أنا أبو إسحاق إبراهيم بن عمر بن أحمد البرمكي أنا أبو الحسين محمد بن العباس بن الفرات في كتابه قال قرىء على أبي عبد الله محمد بن مخلد العطار وأنا أسمع مات أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني في شوال سنة خمس وسبعين ومائتين. أخبرني أبو بكر بن مختار أنه جاءه كتاب من البصرة بذلك وأخبرنا أبو الحسين بن الطيوري بمدينة السلام أنا أبو محمد الجوهري، عَن أبي عمر بن جبويه الخزاز، قال قرىء على أبي الحسين أحمد بن جعفر بن المنادي وأنا أسمع سنة إحدى وثلاثين وثلاثماية، قال جاءنا نعي أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني من البصرة أنه مات سنة خمس وسبعين ومائتين بالبصرة، وقد بلغ سنه ثلاثاً وسبعين سنة وكان ميلاده سنة اثنتين ومائتين فيما أخبرنا بذلك عنه. أخبرنا أبو الحسين القطيعي بقطيعة الربيع أنا أبو الحسن العتيقي قال كتب إلينا ¬

(¬1) بياض في الأصل.

محمد بن عدي بن زحر المنقري من البصرة قال، حَدَّثنا أبو عبيد محمد بن علي بن عثمان الآجري قال سمعت أبا داود السجستاني يقول ولدت سنة اثنتين ومائتين قال أبو عبيد ومات لأربع عشرة بقيت من شوال سنة خمس وسبعين وصلى عليه عباس بن الواحد الهاشمي. وقد نظمت فيه وفي كتابه العظيم الذكر مقطعات من الشعر فمن جملتها أولى كتاب لذي فقه وذي نظر …ومن يكون من الأوزار في وزر ما قد تولى أبو داود محتسباً……تأليفه فأتى كالضوء في القمر لا يستطيع عليه الطعن مبتدع……ولو تقطع من ضغن ومو ضجر فليس يوجد في الدنيا أصح ولا ... أقوى من السنة الغراء والأثر وكل ما فيه من قول النبي ومن ... قول الصحابة أهل العلم والبصر يرويه عن ثقة عن مثله ثقة… …عن مثله ثقة كالأنجم التزهر وكان في نفسه فيما أحق ولا……أشك فيه إماماً عالي الخطر يدري الصحيح من الآثار يحفظه ... ومن روى ذلك من أنثى ومن ذكر محققاً صادقاً فيما يجيء به……قد شاع في البدو عنه ذا وفي الحضر والصدق للمرء في الدارين منقبة ... ما فوقها أبداً فخر لمفتخر هذا ما يتعلق بأبي داود لا اخلاه الله من ثوابه. وأما أبو سليمان الشارح لكتابه إذا وقف مصنف على مصنفاته، واطلع على بديع تصرفاته في مؤلفاته

تحقق إمامته وديانته فيما يورده وأمانته، وكان قد رحل في (طلب) الحديث وقرأ العلوم وطوف، ثم ألف في فنون العلم وصنف، وكان رحمه الله قد أخذ الفقه، عَن أبي بكر القفال الشاشي وأبي علي بن أبي هريرة ونظرائهما من فقهاء أصحاب الشافعي وفي شيوخه كثير وكذلك في تصانيفه، ومنها شرح السنن الذي عولنا على الشروع في إملائه بعون الله تعالى وإلقائه، وهو المسؤل في إتمامه وإكماله بفضله وإفضاله، وإسنادنا فيه كما قدمناه عال، وكتابه في غريب الحديث له ظل، ذكر فيه ما لم يذكره أبو عبيد ولا ابن قتيبة في كتابيهما وهو كتاب ممتع مفيد، ومحصله نبيه جميله موفق سعيد، ناولنيه أيضاً القاضي أبو المحاسن بالري في التاريخ المقدم ذكره وهو سنة إحدى وخمسمائة وأذن لي في روايته عنه وشيخه فيه أبو الحسين عبد الغافر بن محمد بن عبد الغافر الفارسي ثم النيسابوري رواية، عَن أبي سليمان ولم يقع لي من تواليفه بعلوّ سوى هذين الكتابين مناولة لا سماعاً عند اجتماعي بأبي المحاسن لعارضة قد برحت بي وبلغت مني ولولاها لما توانيت بعون الله في سماعهما ولم تفتني لكن من بلغ المنى حتى أبلغها أنا. وقد روى لنا أبو عبد الله الثقفي رئيس أصبهان وابن رئيسها سنة ثمان وثمانين وأربعمائة وتوفي سنة تسع، وكان مولده في أول سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة، وابتداء سماعه على ابن جوله الأبهري أبهر أصبهان سنة ثلاث وأربعمائة في آخرها وهو ابن ست سنين كتابَ العزلة له، عَن أبي عمرو الرزجاهي ثم البسطامي

رواه بنيسابور عنه وأنا أشك هل سمعته كاملاً كما سمعه هو أو بعضه بأصبهان سنة إحدى وتسعين وأربعمائة. أنبأنا أبو عمرو محمد بن عبد الله بن أحمد البسطامي (¬1) إلى تحت يدي خالي عبيد الله في ذي القعدة سنة أربع وعشرين وأربعمائة أن الإمام أبا بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي الجرجاني حدثهم املاء حدثنا محمد بن هارون بن نجدة بن داهر البصري بالأنبار حدثني هدبة بن خالد ما لا أحصي حدثنا حزم بن أبي حزم عن ثابت البناني عن أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من وعده الله عز وجل على عمل ثواباً فهو منجز له، ومن وعده على عمل عقاباً فهو بالخيار، هذا رواه لنا الزكي أبو الفتح عن كتاب أبي عمرو. ولم يرو لنا عنه ممن رآه سوى الرئيس أبي عبد الله رحمه الله. ومن جملة ذلك حديث واحد في الأول من فوائد انتقاء غانم بن محمد بن عبد الواحد، عَن أبي سهل الصعلوكي وحديثان آخران في كتاب الأربعين الذي خرجه لنا صاحبنا أبو نعيم الحداد أحدهما، عَن أبي أحمد بن عدي الجرجاني، والآخر عن الحاكم أبي أحمد النيسابوري. فأما حديث أبي سهل فقال حدثنا الأستاذ أبو سهل محمد بن سليمان العجلي الصعلوكي، حَدَّثنا أبو بكر محمد بن إسحاق هو ابن خزيمة السلمي، حَدَّثنا علي بن حجر، ¬

(¬1) بياض في الأصل.

حَدَّثنا هشيم، عَن أبي الزبير عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخلون رجل بامرأة ثيب إلاّ أن يكون ناكحاً أو ذا محرم. وأما حديث ابن عدي فقال، حَدَّثنا أبو أحمد عبد الله بن عدي الحافظ أبا القاسم هو ابن زكريا المطرز، حَدَّثنا أبو مصعب حدثني علي بن أبي علي الهبي عن محمد بن المنكدر أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنتم اليوم في المضمار وغداً السباق فالسبق الجنة والفائت النار بالعفو تنجون وبالرحمة تديخلون وبأعمالكم تقتسمون. وحديث الحاكم فقال حدثنا أبو أحمد محمد بن محمد الكرابيسي الحافظ بنيسابور سنة ست وستين وثلاثمائة أنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن عبيد الطوايبقي حدثنا الحسن بن عرفة العبدي، حَدَّثنا ابن عياش، يَعني إسماعيل بن عياش عن عبد الرحمن بن زياد الافريقي عن عبد الله بن يزيد يدعى عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤتى برجل يوم القيامة إلى الميزان ويؤتى له بتسعة وتسعين سجلاً كل سجل منها مد البصر، فيها خطاياه وذنوبه فتوضع في كفة ويخرج له قرطاس مثل هذا وقال بيده فوق الأنملة فيها شهادة أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله فيوضع في الكفة الأخرى فيرجح بخطاياه وذنوبه. هذه الأحاديث الثلاثة جميع ما وجدته عندي عن الرئيس أبي عمرو فذكرتها لقلتها وأتيت على جملتها ولم يكن من شيوخه العوالي حتى أجعله من بالي لكن وشحت هذه المقدمة بما رواه من حديث الرسول تبركاً به عليه السلام بقوله المقبول، واتخذته رحمه الله طريقاً لتكثير ما يتعلق بالخطابي إذ لم أظفر الآن في كتبي بما في أثنائه ثناءه، ونستوفي بإيراده أنباءه، وفي شيوخه رضي الله عنهم سفراً وحضراً كثرة كما في تصانيفه؛ وكثير منهم قد وقع لي حديثهم

بعلو كأني أرويه عن الراوية «لعله الرواة» عنه كأبي العباس الأصم واسماعيل الصفار وأبي عمرو بن السماك وأحمد بن سلمان النجاد ومكرم القاضي وجعفر الخلدي وأبي عمر غلام ثعلب وحمزة العقبي وآخرين من نظرائهم. وهؤلاء كلهم من شيوخ بغداد وبها كتب عنهم سوى الأصم فإنه نيسابوري عالي الإسناد جداً يروي عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم وحسن بن نصر الخولاني وغيره من أصحاب ابن وهب وعن نظرائهم بخراسان والعراق والشام، وكذلك في الرواة عنه كثرة كما في شيوخه ومنهم أبو ذر عبد بن أحمد بن الهروي وأبو محمد جعفر بن علي المروزي بالحجاز وأبو مسعود بن محمد الكرابيسي البستي ببست وأبو بكر محمد بن الحسين المقري بغزنة وأبو الحسين علي بن الحسن الفقيه السجزي بسجستان وأبو عبد الله محمد بن علي بن عبد الملك الفسوي بفارس وآخرون. وقد روى عنه الإمام أبو حامد الاسفراييني الفقيه بالعراق والحاكم أبو عبد الله الحافظ النيسابوري بخراسان، وحدث عنه أبو عبيد الهروي في كتاب الغريبين وقال أحمد بن محمد الخطابي ولم يكنه ووافقه على ذلك أبو منصور الثعالبي النيسابوري في كتاب اليتيمة لكنه كناه، وقال أبو سليمان أحمد بن محمد بن إبراهيم البستي صاحب كتاب غريب الحديث، والصواب في اسمه حمد كما قاله الجم الغفير والعدد الكثير لا كما قالاه. وقال أحد الأدباء ممن أخذ عن ابن خرزاد النجيرمي هو أبو سليمان حمد

بن محمد بن إبراهيم بن الخطاب الخطابي البستي من ولد زيد بن الخطاب والذي ذكره فهو صحيح وفي اسمه ونسبه تصريح. وله رحمه الله شعر هو سحر لكنه حلال يثبت له به جمال وجلال وينظم بنظمه ذلك إلى قصد خصال محمودة وخلال، وقد ذكر الثعالبي في كتاب اليتيمة من تأليفه مقطعات منه لم أر لاثباتها كلها ههنا وجهاً ومن جملتها: وما غربة الإنسان في شقة النوى ... ولكنها والله في عدم الشكل وإني غريب بين بست وأهلها ... وإن كان فيها أسرتي وبها أهلي وذكر أبو بكر محمد بن علي بن الحسن بن البسر الغوثي اللغوي بالمغرب أن القاضي عبد الوهاب بن علي بن نصر المالكي البغدادي أنشده بمصر لأبي منصور الثعالبي في أبي سليمان الخطابي: أبا سليمان سر في الأرض أو فأقم ... فأنت جاري دنا مثواك أو شطنا ما أنت غيري فأخشى أن تفارقني ... فديت روحك بل روحي فأنت أنا قال ابن البسر وأنشدني إسماعيل بن محمد بن عبدوس النيسابوري بمصر قال أنشدني أبو منصور الثعالبي بنيسابور لأبي سليمان الخطابي يقول فيه: قلبي رهين بنيسابور عند أخ ... ما مثله حين تستقري البلاد أخ

له صحائف أخلاق مهذبة ... منها التقى والنهى والحلم تنتسخ وقد قلت أنا فيه بثغر خيرة لشغفي بتواليفه ورغبتي في تحصيل تصانيفه سنة خمس وخمسمائة: ظن هذا الخطّاء في الخطابي ... شيخ أهل العلم والآداب من على كتبه اعتماد ذوي الفضل ... ومن قوله كفصل الخطاب أن يحوز الفردوس إذ أتعب النفس ... لها العرش غاية الاتعاب وتعنى في الأخذ جداً وفي ... التتصنيف من بعد رغبة في الثواب نضر الله وجهه من إمام ... ألمعيّ أتى بكل صواب ولعمري قد فاز بالروح والريحان ... من غير شبهة وارتياب فلقد كان شُمس متبعي الشر ... ع على الزائغين سوط عذاب وقلت فيه أيضاً بديار مصر بعد سنين عند إملاء هذه المقدمة سنة اثنتين وستين: لم أطلع فيما اطلعت عليه ... من كلام على حديث النبي كالذي، عَن أبي سليمان قد با……ن الإمام العلامة الألمعي في كتابتيه حين أملاهما ... الأعلام في شرح كل معنى خفي في الصحيح الذي البخاري قد ... صنف قدامنا على أتم روي عدة الموقوف بين يدي خا……لقه الباري العليم العلي وكتاب المعالم المرتضى إذ ... هو يرضاه كل ندب رضي

فاق في شرحه كتاب أبي دا ... ود أصحابه صدور الندي وهما وإن طبق الأرض أعظم ... بهما والمصنف المرضي رضي الله جل عنه وجازا ... هـ عن الدين والمقال التقي الذي ينفع الفقيه مدى الدهر ... وكل امرئ زكي تقي وهذا القدر الذي ذكرناه في حق أبي سليمان أيضاً على اختصاره مقنع، وفي حق المستفيد كذلك ممتع إن شاء الله تعالى وعليه الثقة وهو المسؤول في أن يوفقنا لما يوافق رضاه؛ ويرضينا بما قدره في الأزل وأمضاه، والمقدمة قد نجزت ولم يبق سوى الشروع وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. انتهى الجزء الرابع في يوم مولد خير البشر صلى الله عليه وسلم من سنة 1353 كان تمام طبع الجزء الرابع وهو الجزء الأخير من معالم السنن للإمام الخطابي وهو على ما أعلم اقدم شرح ظهر لعالم المطبوعات من شروح كتب الحديث فله الحمد والمنة على ذلك التوفيق , وأسأله تعالى حسن الختام والهداية لأقوم طريق. خادم السنة النبوية بمدينة حلب محمد راغب الطباخ

§1/1