معالم أصول الدين

الرازي، فخر الدين

خطبة الكتاب

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم خطْبَة الْكتاب الْحَمد الله فالق الإصباح وخالق الْأَرْوَاح والأشباح فاطر الْعُقُول والحواس ومبدع الْأَنْوَاع والأجناس وَالَّذِي لَا بداية لقدمه وَلَا غَايَة لكرمه وَلَا أمد لسلطانه وَلَا عدد لإحسانه خلق الْأَشْيَاء كَمَا شَاءَ بِلَا معِين وَلَا ظهير وأبدع فِي الْإِنْشَاء بِلَا ترو وَلَا تفكير تحلت بعقود حكمته صُدُور الْأَشْيَاء وتجلت بنجوم نعْمَته وُجُوه الْأَحْيَاء جمع بَين الرّوح وَالْبدن بِأَحْسَن تأليف ومزج بقدرته اللَّطِيف بالكثيف قضى كل أَمر مُحكم وأبدع كل صنع مبرم عَجِيب تبصرة وذكرى لكل عبد منيب أَحْمَده وَلَا حمد إِلَّا دون نعمائه وأمجده بأكرم صِفَاته وأشرف أَسْمَائِهِ وأصلي على رَسُوله الدَّاعِي إِلَى الدّين القويم التَّالِي لِلْقُرْآنِ الْعَظِيم المنتظر فِي دَعْوَة إِبْرَاهِيم نَبيا المبشر بِهِ عِيسَى قومه مَلِيًّا الْمُطَرز اسْمه على ألوية الدّين المقرب مَنْزِلَته وآدَم بَين المَاء والطين ذَلِك مُحَمَّد سيد الْأَوَّلين والآخرين وَخَاتم الْأَنْبِيَاء وَالْمُرْسلِينَ صلوَات الله عَلَيْهِ وعَلى آله الطيبين الطاهرين وعَلى أَصْحَابه الْأَنْصَار مِنْهُم والمهاجرين وَسلم عَلَيْهِ وَعَلَيْهِم أَجْمَعِينَ أما بعد فَهَذَا مُخْتَصر يشْتَمل على علم أصُول الدّين وَهُوَ مُرَتّب على أَبْوَاب

الْبَاب الأول فِي المباحث الْمُتَعَلّقَة بِالْعلمِ وَالنَّظَر وَفِيه مسَائِل

المسألة الأولى العلم إما تصور وإما تصديق

الْمَسْأَلَة الأولى الْعلم إِمَّا تصور وَإِمَّا تَصْدِيق فالتصور هُوَ إِدْرَاك الْمَاهِيّة من غير أَن تحكم عَلَيْهَا بِنَفْي أَو إِثْبَات كَقَوْلِك الْإِنْسَان فَإنَّك تفهم أَولا مَعْنَاهُ ثمَّ تحكم عَلَيْهِ إِمَّا بالثبوت وَإِمَّا بالانتفاء فَذَلِك الْفَهم السَّابِق هُوَ التَّصَوُّر والتصديق هُوَ أَن تحكم عَلَيْهِ بِالنَّفْيِ أَو الْإِثْبَات وَهَهُنَا تقسيمان التَّقْسِيم الأول أَن كل وَاحِد من التَّصَوُّر والتصديق قد يكون بديهيا وَقد يكون كسبيا فالتصورات البديهية مثل تصورنا لِمَعْنى الْحَرَارَة والبرودة والتصورات الكسبية مثل تصورنا لِمَعْنى الْملك وَالْجِنّ والتصديقات البديهة كَقَوْلِنَا النَّفْي وَالْإِثْبَات لَا يَجْتَمِعَانِ وَلَا يرتفعان والتصديقات الكسبية كَقَوْلِنَا الْإِلَه وَاحِد والعالم مُحدث والتقسيم الثَّانِي التَّصْدِيق إِمَّا أَن يكون مَعَ الْجَزْم أَو لَا مَعَ الْجَزْم أما الْقسم الأول فَهُوَ على أَقسَام أَحدهَا التَّصْدِيق الْجَازِم الَّذِي لَا

المسألة الثانية لا بد من الاعتراف بوجود تصورات وتصديقات بديهية

يكون مطابقا وَهُوَ الْجَهْل وَثَانِيها التَّصْدِيق الْجَازِم المطابق لمحض التَّقْلِيد وَهُوَ كاعتقاد الْمُقَلّد وَثَالِثهَا التَّصْدِيق الْجَازِم الْمُسْتَفَاد من إِحْدَى الْحَواس الْخمس كعملنا بإحراق النَّار وإشراق الشَّمْس الرَّابِع التَّصْدِيق الْجَازِم الْمُسْتَفَاد ببديهة الْعقل كَقَوْلِنَا النَّفْي وَالْإِثْبَات لَا يَجْتَمِعَانِ وَلَا يرتفعان لَا التَّصْدِيق الْجَازِم الْمُسْتَفَاد من الدَّلِيل وَأما الْقسم الثَّانِي وَهُوَ التَّصْدِيق العاري عَن الْجَزْم فالراجح هُوَ الظَّن والمرجوح هُوَ الْوَهم والمساوي هُوَ الشَّك الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة لَا بُد من الِاعْتِرَاف بِوُجُود تصورات وتصديقات بديهية إِذْ لَو كَانَت بأسرها كسبية لافتقر اكتسابها إِلَى تقدم تصورات وتصديقات أخر وَلزِمَ مِنْهُ التسلسل أَو الدّور وهما محالان فَإِذا عرفت هَذَا فَنَقُول اخْتلف النَّاس فِي حد الْعلم وَالْمُخْتَار عندنَا أَنه غَنِي عَن التَّعْرِيف لِأَن كل وَاحِد يعلم بِالضَّرُورَةِ كَونه عَالما بِكَوْن النَّار محرقة وَالشَّمْس مشرقة وَلَو لم يكن الْعلم بِحَقِيقَة الْعلم ضَرُورِيًّا وَإِلَّا لامتنع أَن يكون الْعلم بِهَذَا الْعلم الْمَخْصُوص ضَرُورِيًّا الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة النّظر والفكر عبارَة عَن تَرْتِيب مُقَدمَات علمية أَو ظنية ليتوصل بهَا إِلَى تَحْصِيل علم أَو ظن مِثَاله إِذا حضر فِي عقلنا أَن هَذِه الْخَشَبَة قد مستها النَّار وَحضر أَيْضا أَن كل خَشَبَة مستها النَّار فَهِيَ محترقة حصل من مَجْمُوع العلمين الْأَوَّلين علم ثَالِث بِكَوْن هَذِه الْخَشَبَة محترقة فاستحضار العلمين الْأَوَّلين لأجل أَن يتَوَصَّل بهما إِلَى تَحْصِيل هَذَا الْعلم الثَّالِث وَهُوَ النّظر

المسألة الرابعة قد يفيد العلم

الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة قد يُفِيد الْعلم لِأَن من حضر فِي عقله أَن هَذَا الْعَالم متغير وَحضر أَيْضا أَن كل متغير مُمكن فمجموع هذَيْن العلمين يُفِيد الْعلم بِأَن الْعَالم مُمكن وَلَا معنى لقولنا النّظر يُفِيد الْعلم إِلَّا هَذَا دَلِيل آخر إبِْطَال النّظر إِمَّا أَن يكون بِالضَّرُورَةِ وَهُوَ بَاطِل وَإِلَّا لما كَانَ مُخْتَلفا فِيهِ بَين الْعُقَلَاء أَو يكون بِالنّظرِ فَيلْزم مِنْهُ إبِْطَال الشَّيْء بِنَفسِهِ وَهُوَ محَال وَاحْتج المنكرون فَقَالُوا إِذا تفكرنا وَحصل عقيب ذَلِك الْفِكر اعْتِقَاد فَعلمنَا يكون ذَلِك الِاعْتِقَاد حَقًا إِن كَانَ ضَرُورِيًّا وَجب أَن لَا تخْتَلف الْعلمَاء فِيهِ وَلَيْسَ كَذَلِك وَإِن كَانَ نظريا افْتقر ذَلِك إِلَى نظر آخر وَلزِمَ التسلسل وَالْجَوَاب أَنه ضَرُورِيّ فَإِن كل مَا أَتَى بِالنّظرِ على الْوَجْه الصَّحِيح علم بِالضَّرُورَةِ كَون ذَلِك الِاعْتِقَاد حَقًا الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة حَاصِل الْكَلَام فِي النّظر هُوَ أَن يحصل فِي الذِّهْن علمَان وهما يوجبان علما آخر فالتوصل بذلك الْمُوجب إِلَى ذَلِك الْمُوجب الْمَطْلُوب هُوَ النّظر وَذَلِكَ الْمُوجب هُوَ الدَّلِيل فَنَقُول ذَلِك الدَّلِيل إِمَّا أَن يكون هُوَ الْعلَّة كالاستدلال بمماسة النَّار على الاحتراق أَو الْمَعْلُول الْمسَاوِي كالاستدلال بِحُصُول الاحتراق على مماسة النَّار وَالِاسْتِدْلَال بِأحد المعلومين على الآخر كالاستدلال بِحُصُول الْإِشْرَاق على حُصُول الإحراق فَإِنَّهُمَا معلولا عِلّة وَاحِدَة فِي الْأَجْسَام السفلية وَهِي الطبيعة النارية

المسألة السادسة لا بد في طلب كل مجهول من معلومين متقدمين

الْمَسْأَلَة السَّادِسَة لَا بُد فِي طلب كل مَجْهُول من معلومين متقدمين فَإِن من أَرَادَ أَن يعلم أَن الْعَالم مُمكن فطريقه أَن يَقُول الْعَالم متغير وكل متغير مُمكن وَأَيْضًا فَلَمَّا كَانَ ثُبُوت ذَلِك الْمَحْمُول لذَلِك الْمَوْضُوع مَجْهُولا فَلَا بُد من شَيْء يتوسطهما بِحَيْثُ يكون ثُبُوت ذَلِك الْمَحْمُول لَهُ مَعْلُوما وَيكون ثُبُوته لذَلِك الْمَوْضُوع مَعْلُوما فَحِينَئِذٍ يلْزم من حُصُولهَا حُصُول ذَلِك الْمَطْلُوب فَثَبت أَن كل مَطْلُوب مَجْهُول لَا بُد لَهُ من معلومين متقدمين ثمَّ نقُول إِن كَانَا معلومين على الْقطع كَانَت النتيجة قَطْعِيَّة وَإِن كَانَ أَحدهمَا مظنونا أَو كِلَاهُمَا كَانَت النتيجة ظنية لِأَن الْفَرْع لَا يكون أقوى من الأَصْل الْمَسْأَلَة السَّابِعَة النّظر فِي الشَّيْء يُنَافِي الْعلم بِهِ لِأَن النّظر طلب والطلب حل حُصُول الْمَطْلُوب محَال وينافي الْجَهْل بِهِ لِأَن الْجَاهِل يعْتَقد كَونه عَالما بِهِ وَذَلِكَ لاعتقاد يصرفهُ عَن الطّلب الْمَسْأَلَة الثَّامِنَة الصَّحِيح أَن النّظر يسْتَلْزم الْعلم اليقيني لما ذكرنَا أَنه مَعَ حُصُول تينك المقدمتين يمْتَنع أَن لَا يحصل الْعلم بالمطلوب إِلَّا انه غير مُؤثر فِيهِ لأَنا سنقيم الْأَدِلَّة على أَن الْمُؤثر لَيْسَ إِلَّا الْوَاحِد وَهُوَ الله تَعَالَى

المسألة التاسعة الدليل إما أن يكون مركبا من مقدمات كلها عقلية وهو موجود أو كلها نقلية وهذا محال

الْمَسْأَلَة التَّاسِعَة الدَّلِيل إِمَّا أَن يكون مركبا من مُقَدمَات كلهَا عقلية وَهُوَ مَوْجُود أَو كلهَا نقلية وَهَذَا محَال لِأَن إِحْدَى مُقَدمَات ذَلِك الدَّلِيل هُوَ كَون ذَلِك النَّقْل حجَّة وَلَا يُمكن إِثْبَات النَّقْل بِالنَّقْلِ أَو بَعْضهَا عَقْلِي وَبَعضهَا نقلي وَذَلِكَ مَوْجُود ثمَّ الضَّابِط أَن كل مُقَدّمَة لَا يُمكن إِثْبَات النَّقْل إِلَّا بعد ثُبُوتهَا فَإِنَّهُ لَا يُمكن إِثْبَاتهَا بِالنَّقْلِ وكل مَا كَانَ إِخْبَارًا عَن وُقُوع مَا جَازَ وُقُوعه وَجَاز عَدمه فَإِنَّهُ لَا يُمكن مَعْرفَته إِلَّا بالحس أَو بِالنَّقْلِ وَمَا سوى هذَيْن الْقسمَيْنِ فَإِنَّهُ يُمكن إثْبَاته بالدلائل الْعَقْلِيَّة والنقلية الْمَسْأَلَة الْعَاشِرَة قيل الدَّلَائِل النقلية لَا تفِيد الْيَقِين لِأَنَّهَا مَبْنِيَّة على نقل اللُّغَات وَنقل النَّحْو والتصريف وَعدم الِاشْتِرَاك وَعدم الْمجَاز وَعدم الْإِضْمَار وَعدم النَّقْل وَعدم التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير وَعدم التَّخْصِيص وَعدم النّسخ وَعدم الْمعَارض الْعقلِيّ وَعدم هَذِه الْأَشْيَاء مظنون لَا مَعْلُوم وَالْمَوْقُوف على المظنون مظنون وَإِنَّمَا ثَبت هَذَا ظهر أَن الدَّلَائِل النقلية ظنية وَأَن الْعَقْلِيَّة قَطْعِيَّة وَالظَّن لَا يُعَارض الْقطع

الْبَاب الثَّانِي فِي أَحْكَام المعلومات وَفِيه مسَائِل

المسألة الأولى صريح العقل حاكم بأن المعلوم إما موجود وإما معدوم

الْمَسْأَلَة الأولى صَرِيح الْعقل حَاكم بِأَن الْمَعْلُوم إِمَّا مَوْجُود وَإِمَّا مَعْدُوم وَهَذَا يدل على أَمريْن الأول أَن تصور مَاهِيَّة الْوُجُود تصور بديهي لِأَن ذَلِك التَّصْدِيق البديهي مَوْقُوف على ذَلِك التَّصَوُّر وَمَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ البديهي أولى أَن يكون بديهيا وَالثَّانِي أَن الْمَعْدُوم مَعْلُوم لِأَن ذَلِك التَّصْدِيق البديهي مُتَوَقف على هَذَا التَّصَوُّر فَلَو لم يكن هَذَا التَّصَوُّر حَاصِلا لامتنع حُصُول ذَلِك التَّصْدِيق الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة مُسَمّى الْوُجُود مُشْتَرك فِيهِ بَين كل الموجودات لأَنا نقسم الْمَوْجُود إِلَى الْوَاجِب والممكن ومورد التَّقْسِيم مُشْتَرك بَين الْقسمَيْنِ أَلا ترى أَنه لَا يَصح أَن يُقَال الْإِنْسَان إِمَّا أَن يكون تركيا أَو يكون حجرا وَلِأَن الْعلم الضَّرُورِيّ حَاصِل بِصِحَّة هَذَا الْحصْر وَأَنه لَا وَاسِطَة بَينهمَا وَلَوْلَا أَن الْمَفْهُوم من الْوُجُود وَاحِد وَإِلَّا لما حكم الْعقل بِكَوْن المتناقضين طرفين فَقَط

المسألة الثالثة الوجود زايد على الماهيات

الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة الْوُجُود زايد على الماهيات لأَنا ندرك التَّفْرِقَة بَين قَوْلنَا السوَاد سَواد وَبَين قَوْلنَا السوَاد مَوْجُود وَلَوْلَا أَن الْمَفْهُوم من كَونه مَوْجُودا زايد على كَونه سوادا وَإِلَّا لما بَقِي هَذَا الْفرق وَلِأَن الْعقل يُمكنهُ أَن يَقُول الْعَالم يُمكن أَن يكون مَوْجُودا وَأَن يكون مَعْدُوما وَلَا يُمكنهُ أَن يَقُول الْمَوْجُود إِمَّا أَن يكون مَوْجُودا أَو مَعْدُوما وَلَوْلَا أَن الْوُجُود مُغَاير للماهية وَإِلَّا لما صَحَّ هَذَا الْفرق الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة الْمَعْدُوم لَيْسَ بِشَيْء وَالْمرَاد مِنْهُ أَن لَا يُمكن تقرر الماهيات منفكة عَن صفة الْوُجُود وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن الماهيات لَو كَانَت متقررة فِي نَفسهَا لكَانَتْ متشاركة فِي كَونهَا متقررة خَارج الذِّهْن ومتخالفة بخصوصياتها وَمَا بِهِ الْمُشَاركَة غير مَا بِهِ الْمُخَالفَة فَكَأَن كَونهَا متقررة خَارج الذِّهْن أمرا مُشْتَركا فِيهِ زَائِدا على خصوصياتها وَلَا معنى للوجود إِلَّا ذَلِك فَيلْزم أَن يُقَال إِنَّهَا حَال عرائها عَن الْوُجُود كَانَت مَوْصُوفَة بالوجود وَهَذَا محَال وَأَيْضًا فَإنَّا ندرك التَّفْرِقَة بَين قَوْلنَا السوَاد سَواد وَبَين قَوْلنَا إِن السوَاد متقرر فِي الْخَارِج وَهَذَا يدل على أَن كَونه متقررا فِي الْخَارِج صفة زَائِدَة على الْمَاهِيّة وَاحْتَجُّوا بِأَن الْمَعْدُوم متميز وكل متميز ثَابت فالمعدوم ثَابت بَيَان الأول من وُجُوه الأول أَنا نميز بَين طُلُوع الشَّمْس غَدا من مشرقها وَبَين طُلُوعهَا غَدا من مغْرِبهَا وَهَذَانِ الطلوعان معدومان فقد حصل الامتياز بَين المعدومات

المسألة الخامسة حكم صريح العقل بأن كل موجود فهو إما واجد لذاته أو ممكن لذاته

وَالثَّانِي أَنا نقدر على الْحَرَكَة يمنة ويسرة وَلَا نقدر على الطيران إِلَى السَّمَاء فَهَذِهِ الْأَشْيَاء مَعْدُومَة مَعَ أَنَّهَا متميزة وَالثَّالِث أَنا نحب حُصُول اللَّذَّات ونكره حُصُول الآلام فقد وَقع حُصُول الامتياز فِي هَذِه المعدومات وَبَيَان أَن كل متميز ثَابت فَهُوَ أَن المتميز هُوَ الْمَوْصُوف بِصفة لأَجلهَا امتاز عَن الآخر وَمَا لم تكن حَقِيقَته متقررة امْتنع كَونهَا مَوْصُوفَة بِالصّفةِ الْمُوجبَة للامتياز وَالْجَوَاب أَن مَا ذكرْتُمْ منقوض بتصور المتنعات وبتصور المركبات كجبل من ياقوت وبحر من زيبق وبتصور الإضافيات ككون الشي حَاصِلا فِي الحيز وَحَالا ومحلا فَإِن هَذِه الْأُمُور متمايزة فِي الْعلم مَعَ إِنَّهَا نفي مَحْض بالِاتِّفَاقِ الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة حكم صَرِيح الْعقل بِأَن كل مَوْجُود فَهُوَ إِمَّا وَاجِد لذاته أَو مُمكن لذاته أما الْوَاجِب لذاته فَلهُ خَواص الأول أَن الشَّيْء الوحيد الَّذِي يُمكن أَن يكون وَاجِبا لذاته وَلغيره مَعًا لِأَن الْوَاجِب لذاته هُوَ الَّذِي لَا يتَوَقَّف على الْغَيْر وَالْوَاجِب لغيره هُوَ الَّذِي يتَوَقَّف على الْغَيْر فكونه وَاجِبا لذاته وَلغيره مَعًا يُوجب الْجمع بَين النقيضين الثَّانِي أَن الْوَاجِب لذاته لَا يكون مركبا لِأَن كل مركب فَإِنَّهُ يفْتَقر إِلَى جزئه وجزؤه غَيره فَكل مركب فَهُوَ مفتقر إِلَى غَيره المفتقر إِلَى الْغَيْر لَا يكون وَاجِبا لذاته على مَا ثَبت تَقْرِيره الثَّالِث الْوُجُوب بِالذَّاتِ لَا يكون مفهوما ثبوتيا وَإِلَّا لَكَانَ إِمَّا تَمام الْمَاهِيّة أَو جُزْءا مِنْهَا أَو خَارِجا عَنْهَا وَالْأول بَاطِل لِأَن صَرِيح الْعقل

نَاطِق بِالْفرقِ بَين الْوَاجِب لذاته وَبَين نفس الْوُجُوب بِالذَّاتِ وَأَيْضًا فكله حَقِيقَة الله تَعَالَى غير مَعْلُوم ووجوبه بِالذَّاتِ مَعْلُوم وَالثَّانِي بَاطِل وَإِلَّا لزم كَون الْوَاجِب لذاته مركبا وَالثَّالِث أَيْضا بَاطِل لِأَن كل صفة خَارِجَة عَن الْمَاهِيّة لاحقة بهَا فَهِيَ مفتقرة إِلَيْهَا وكل مفتقر إِلَى الْغَيْر مُمكن لذاته فَيكون وَاجِبا بِغَيْرِهِ فَيلْزم أَن يكون الْوُجُوب بِالذَّاتِ مُمكنا لذاته وَاجِبا لغيره وَهُوَ محَال وَأما الْمُمكن لذاته فَلهُ خَواص الأول الْمُمكن لذاته لَا بُد وَأَن يكون نِسْبَة الْوُجُود والعدم إِلَيْهِ على السوية إِذْ لَو كَانَ أحد الطَّرفَيْنِ أولى بِهِ فَإِن كَانَ حُصُول تِلْكَ الْأَوْلَوِيَّة يمْنَع من طريان الْعَدَم عَلَيْهِ فَهُوَ وَاجِب لذاته وَإِن كَانَ لَا يمْنَع فليفرض مَعَ حُصُول ذَلِك الْقدر من الْأَوْلَوِيَّة تَارَة مَوْجُودا وَأُخْرَى مَعْدُوما فامتياز أحد الْوَقْتَيْنِ عَن الآخر بالوقوع إِن لم يتَوَقَّف على انضمام مُرَجّح إِلَيْهِ لزم رُجْحَان الْمُمكن المتساوي لَا لمرجح وَإِن توقف على انضمامه إِلَيْهِ لم يكن الْحَاصِل أَولا كَافِيا فِي حُصُول الْأَوْلَوِيَّة وَقد فرضناه كَافِيا هَذَا خلف فَثَبت أَن الشَّيْء مَتى كَانَ قَابلا للوجود والعدم كَانَ نسبتهما إِلَيْهِ على السوية الثَّانِي الْمُمكن المتساوي لَا يتَرَجَّح أحد طَرفَيْهِ على الآخر إِلَّا بمرجح وَالْعلم بِهِ مركوز فِي فطْرَة الْعُقَلَاء بل فِي فطْرَة طباع الصّبيان فَإنَّك لَو لطمت وَجه الصَّبِي وَقلت حصلت هَذِه اللَّطْمَة من غير فَاعل الْبَتَّةَ فَإِنَّهُ لَا يصدقك فِيهِ الْبَتَّةَ بل فِي فطْرَة الْبَهَائِم فَإِن الْحمار إِذا أحس بِصَوْت الْخَشَبَة فزع لِأَنَّهُ تقرر فِي فطرته أَن حُصُول صَوت الْخَشَبَة بِدُونِ الْخَشَبَة محَال وَأَيْضًا فَلَمَّا كَانَ الطرفان بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ على السوية وَجب أَن لَا يحصل الرجحان بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ وَإِلَّا لزم التَّنَاقُض الثَّالِث احْتِيَاج الْمُمكن إِلَى الْمُؤثر لإمكانه لَا لحدوثه لِأَن

المسألة السادسة الممكن أما أن يكون قائما بنفسه أو قائما بغيره

الْحُدُوث كَيْفيَّة لذَلِك الْوُجُود فَهِيَ مُتَأَخِّرَة عَن ذَلِك الْوُجُود بالرتبة والوجود مُتَأَخّر عَن الإيجاد الْمُتَأَخر عَن احْتِيَاج الْأَثر إِلَى الموجد الْمُتَأَخر عَن عِلّة تِلْكَ الْحَاجة عَن جزئها وَعَن شَرطهَا فَلَو كَانَ الْحُدُوث عِلّة لتِلْك الْحَاجة أَو جُزْءا لتِلْك الْعلَّة أَو شرطا لَهَا لزم تَأْخِير الشَّيْء عَن نَفسه بمراتب وَهُوَ محَال الْمَسْأَلَة السَّادِسَة الْمُمكن أما أَن يكون قَائِما بِنَفسِهِ أَو قَائِما بِغَيْرِهِ والقائم بِنَفسِهِ إِمَّا أَن يكون متحيزا أَو لَا يكون متحيزا والمتحيز إِمَّا أَن لَا يكون قَابلا للْقِسْمَة وَهُوَ الْجَوْهَر الْفَرد أَو يكون قَابلا للْقِسْمَة وَهُوَ الْجِسْم والقائم بِالنَّفسِ الَّذِي لَا يكون متحيزا وَلَا حَال فِي المتحيز هُوَ الْجَوْهَر الروحاني وَمِنْهُم من أبْطلهُ فَقَالَ لَو فَرضنَا مَوْجُودا كَذَلِك لَكَانَ مشاركا للباري تَعَالَى فِي كَونه غير متحيز وَغير حَال فِي المتحيز فَوَجَبَ أَن يكون مثلا للباري وَهُوَ ضَعِيف لِأَن الِاشْتِرَاك فِي السلوب لَا يُوجب الِاشْتِرَاك فِي الْمَاهِيّة لِأَن كل ماهيتين مختلفتين بسيطتين فَلَا بُد أَن تشتركا فِي سلب كل مَا عداهما عَنْهُمَا وَأما الْقَائِم بِالْغَيْر فَهُوَ الْعرض فَإِن كَانَ قَائِما بالمتحيزات فَهُوَ الْأَعْرَاض الجسمانية وَإِن كَانَ قَائِما بالمفارقات فَهُوَ الْأَعْرَاض الروحانية الْمَسْأَلَة السَّابِعَة الْأَعْرَاض إِمَّا أَن تكون بِحَيْثُ يلْزم من حُصُولهَا صدق النِّسْبَة أَو صدق قبُول الْقِسْمَة أَو لَا ذَاك وَلَا هَذَا وَالْقسم الأول هُوَ الْأَعْرَاض النسبية وَهِي أَنْوَاع

الأول حُصُول الشَّيْء فِي مَكَانَهُ وَهُوَ الْمُسَمّى بالكون ثمَّ إِن حُصُول الأول فِي الحيز الثَّانِي هُوَ الْحَرَكَة والحصول الثَّانِي فِي الحيز الأول هُوَ السّكُون وَحُصُول الجوهرين فِي حيزين يتخللهما ثَالِث هُوَ الِافْتِرَاق وحصولهما فِي حيزين لَا يتخللهما ثَالِث هُوَ الِاجْتِمَاع الثَّانِي حُصُول الشَّيْء فِي الزَّمَان وَهُوَ المتبع الثَّالِث النِّسْبَة المتكررة كالأبوة والبنوة والفوقية والتحتية وَهِي الْإِضَافَة الرَّابِع تَأْثِير الشَّيْء فِي غَيره وَهُوَ الْفِعْل الْخَامِس اتصاف الشَّيْء بتأثيره عَن غَيره وَهُوَ الانفعال السَّادِس كَون الشَّيْء محاطا بِشَيْء آخر بِحَيْثُ ينْتَقل الْمُحِيط بانتقال المحاطة بِهِ وَهُوَ الْملك السَّابِع الْهَيْئَة الْحَاصِلَة لمجموع الْجِسْم بِسَبَب حُصُول النِّسْبَة بَين أَجْزَائِهِ وبسبب حُصُول النِّسْبَة بَين تِلْكَ الْأَجْزَاء وَبَين الْأُمُور الْخَارِجَة عَنْهَا كالقيام وَالْقعُود وَهُوَ الْوَضع وَمِنْهُم من قَالَ إِن هَذِه النِّسْبَة لَا وجود لَهَا فِي الْأَعْيَان وَإِلَّا لَكَانَ اتصاف محالها بهَا نِسْبَة أُخْرَى مُغَايرَة لَهَا فَيلْزم التسلسل وَالْقسم الثَّانِي من الْأَعْرَاض هِيَ الْأَعْرَاض الْمُوجبَة لقبُول الْقِسْمَة وَهِي إِمَّا أَن تكون بِحَيْثُ يحصل بَين الْأَجْزَاء حد مُشْتَرك وَهُوَ الْعدَد وَإِمَّا أَن لَا يحصل وَهُوَ الْمِقْدَار وَهُوَ إِمَّا أَن يقبل الْقِسْمَة فِي جِهَة وَاحِدَة وَهُوَ الْخط أَو فِي جِهَتَيْنِ وَهُوَ السَّطْح أَو فِي الْجِهَات الثَّلَاث وَهُوَ الْجِسْم وَالْقسم الثَّالِث وَهُوَ الْعرض الَّذِي لَا يُوجب الْقِسْمَة وَلَا النِّسْبَة فَنَقُول إِنَّهَا إِمَّا أَن تكون مَشْرُوطَة بِالْحَيَاةِ وَإِمَّا أَن لَا تكون أما الأول

المسألة الثامنة القول بالجوهر الفرد حق

وَهُوَ الْعرض الْمَشْرُوط بِالْحَيَاةِ فَهُوَ إِمَّا الْإِدْرَاك وَإِمَّا التحرك أما الْإِدْرَاك فَهُوَ إِمَّا إِدْرَاك الجزئيات وَهُوَ الْحَواس الْخمس وَإِمَّا إِدْرَاك الكليات وَهُوَ الْعُلُوم والظنون والجهالات وَيدخل فِيهِ النّظر وَأما التحريك فَهُوَ إِنَّمَا يتم بالإرادة وَالْقُدْرَة والشهوة والنفرة وَأما الْعرض الَّذِي لَا يكون مَشْرُوطًا بِالْحَيَاةِ فَهِيَ الْأَعْرَاض المحسوسة بِإِحْدَى الْحَواس الْخمس أما المحسوسة بِالْقُوَّةِ الباصرة فالأضواء والألوان وَأما المحسوسة بِالْقُوَّةِ السامعة فالأصوات والحروف وَأما المحسوسة بِالْقُوَّةِ الذائقة فالطعوم التِّسْعَة وَهِي المرارة والحلاوة والحرافة والملوحة والدسومة والحموضة والعفوصة وَالْقَبْض والتفاهة وَأما المحسوسة بِالْقُوَّةِ الشامة فالطيب وَالنَّتن وَأما المحسوسة بِالْقُوَّةِ الأمسة فالحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة والخفة والثقل والصلابة واللين فَهَذِهِ جملَة أَقسَام الممكنات الْمَسْأَلَة الثَّامِنَة القَوْل بالجوهر الْفَرد حق وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن الْحَرَكَة وَالزَّمَان كل وَاحِد مِنْهُمَا مركب من أَجزَاء متعاقبة كل وَاحِد مِنْهَا لَا يقبل الْقِسْمَة بِحَسب الزَّمَان فَوَجَبَ أَن يكون الْجِسْم مركبا من أَجزَاء لَا تتجزأ بَيَان الْمقَام الأول فِي الْحَرَكَة وَهُوَ أَنه لَا بُد أَن يحصل من الْحَرَكَة فِي الْحَال بِشَيْء وَإِلَّا لامتنع أَن يصير مَاضِيا ومستقبلا لِأَن الْحَاضِر هُوَ الَّذِي يتَوَقَّع حُضُوره وَلم يحصل فَلَو لم يكن شَيْء مِنْهُ حَاصِلا فِي الْحَال لامتنع كَونه مَاضِيا ومستقبلا فَيلْزم نفي الْحَرَكَة أصلا وَهُوَ محَال ثمَّ نقُول الَّذِي وجد مِنْهَا فِي الْحَال غير منقسم انقساما مَا يكون أحد نصفيه قبل الآخر وَإِلَّا لم يكن كل الْحَاضِر حَاضرا وَهَذَا خلف وَإِذا ثَبت هَذَا فَعِنْدَ انْقِضَاء ذَلِك الْجُزْء الَّذِي لَا يقبل الْقِسْمَة يحصل جُزْء آخر لَا يقبل

المسألة التاسعة حصول الجوهر في الحيز صفة قائمة به

الْقِسْمَة وَكَذَا الثَّالِث وَالرَّابِع فَثَبت أَن الْحَرَكَة مركبة من أُمُور كل وَاحِد مِنْهَا لَا يقبل الْقِسْمَة الَّتِي يكون أحد جزءيها سَابِقًا على الآخر وَأما بَيَان أَن الْأَمر كَذَلِك فِي الزَّمَان فَالْآن الْآن الْحَاضِر الَّذِي هُوَ نِهَايَة الْمَاضِي وبداية الْمُسْتَقْبل لَا يقبل الْقِسْمَة وَإِلَّا لم يكن حَاضرا وَإِذا عدم يكون عَدمه دفْعَة أَيْضا فَإِن الْعَدَم مُتَّصِل بِأَن الْوُجُود وَكَذَا القَوْل فِي الثَّانِي وَالثَّالِث فالزمان مركب من آنات متتالية كل وَاحِد مِنْهَا لَا يقبل الْقِسْمَة وَإِذا ثَبت هَذَا فالقدر الَّذِي يَتَحَرَّك المتحرك عَلَيْهِ بالجزء الَّذِي لَا يتجزء من الْحَرَكَة فِي الْآن الَّذِي لَا يَنْقَسِم إِن كَانَ منقسما كَانَت الْحَرَكَة إِلَى نصفهَا سَابِقَة على الْحَرَكَة من نصفهَا إِلَى آخرهَا فَيكون ذَلِك الْجُزْء من الْحَرَكَة منقسما وَذَلِكَ الْآن من الزَّمَان منقسما وَهُوَ محَال وَإِن لم يكن منقسما فَهُوَ الْجَوْهَر الْفَرد احْتَجُّوا بِأَن قَالُوا إِذا وَضعنَا جَوْهَرَة بَين جوهرين فَالْوَجْه الَّذِي من الْمُتَوَسّط يلاقي الْيَمين غير الْوَجْه الَّذِي مِنْهُ يلاقي الْيَسَار فَيكون منقسما فَنَقُول لم لَا يجوز أَن يُقَال الذَّات وَاحِدَة والوجهان عرضان قائمان بهَا وَهَذَا قَول نَفَاهُ الْجَوْهَر الْفَرد فَإِنَّهُم قَالُوا الْجِسْم إِنَّمَا يلاقي جسما آخر بسطحه ثمَّ يُقَابل سطحه عرض قَائِم بِهِ فَكَذَا هَاهُنَا الْمَسْأَلَة التَّاسِعَة حُصُول الْجَوْهَر فِي الحيز صفة قَائِمَة بِهِ وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن الْوَاحِد منا يقدر على تَحْصِيل الْجِسْم فِي الحيز وَغير قَادر على ذَات الْجِسْم والمقدور غير مَا هُوَ غير مَقْدُور وَلِأَنَّهُ لَو انْتقل ذَلِك الحيز إِلَى حيّز آخر فحصوله فِي الحيز الأول غير بَاقٍ وذاته بَاقِيَة وَغير الْبَاقِي غير مَا هُوَ بَاقِي وَلِأَن ذَات الْجَوْهَر ذَات قَائِمَة بِالنَّفسِ وحصولها فِي الحيز نِسْبَة بَين ذَاته وَبَين الحيز فَوَجَبَ القَوْل بتغايرهما

المسألة العاشرة الحق عندي أن الأعراض يجوز البقاء عليها

الْمَسْأَلَة الْعَاشِرَة الْحق عِنْدِي أَن الْأَعْرَاض يجوز الْبَقَاء عَلَيْهَا بِدَلِيل أَنه كَانَ مُمكن الْوُجُود فِي الزَّمَان الأول فلولا انْتقل إِلَى الِامْتِنَاع الذاتي فِي الزَّمَان الثَّانِي لجَاز أَيْضا أَن ينْتَقل الشَّيْء من الْعَدَم الذاتي إِلَى الْوُجُود الذاتي وَذَلِكَ يلْزم مِنْهُ نفي احْتِيَاج الْمُحدث فِي الْمُؤثر وَأَنه محَال

الْبَاب الثَّالِث فِي إِثْبَات الْعلم بالصانع وَفِيه مسَائِل

المسألة الأولى الأجسام محدثة خلافا للفلاسفة

الْمَسْأَلَة الأولى الْأَجْسَام محدثة خلافًا للفلاسفة لنا وُجُوه الْحجَّة الأولى لَو كَانَ الْجِسْم أزليا لَكَانَ فِي الْأَزَل إِمَّا أَن يكون سَاكِنا أَو متحركا والقسمان باطلان فيعلل القَوْل بِكَوْنِهِ أزليا أما الْحصْر فَظَاهر لِأَن الْجِسْم لَا بُد وَأَن يكون حَاصِلا فِي حيّز فَإِن كَانَ مُسْتَقرًّا فِيهِ فَهُوَ السَّاكِن وَإِن كَانَ متنقلا إِلَى حيّز آخر فَهُوَ المتحرك وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّه يمْتَنع كَونه متحركا كالوجوه أَحدهَا أَن مَاهِيَّة الْحَرَكَة الِانْتِقَال من حَالَة إِلَى حَالَة وَهَذِه الْمَاهِيّة تَقْتَضِي كَونهَا مسبوقة بِالْغَيْر وَالْأَزَلُ عبارَة عَن نفي المسبوقة بِالْغَيْر وَالْجمع بَينهمَا محَال وَثَانِيها أَنه إِن لم يحصل فِي الْأَزَل شَيْء من الحركات فَكلهَا أول وَإِن حصل فَإِن لم يكن مَسْبُوقا بِشَيْء آخر فَهُوَ أول الحركات وَإِن كَانَ مَسْبُوقا بِشَيْء آخر كَانَ الأزلي مَسْبُوقا بِغَيْرِهِ وَهُوَ محَال وَثَالِثهَا إِن كل وَاحِد من تِلْكَ الحركات إِذا كَانَ حَادِثا كَانَ مَسْبُوقا

بِعَدَمِ لَا أول لَهُ فَتلك العدمات بأسرها مجتمعة فِي الْأَزَل فَإِن حصل مَعهَا شَيْء من الموجودات لزم كَون السَّابِق مُقَارنًا للمسبوق وَهُوَ محَال وَإِن لم يحصل مَعهَا شَيْء من الموجودات كَانَت تِلْكَ الحركات أول وَهُوَ الْمَطْلُوب وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّه يمْتَنع كَون الْأَجْسَام سَاكِنة فِي الْأَزَل لأَنا قد دللنا على أَن السّكُون صفة مَوْجُودَة فَنَقُول هَذَا السّكُون لَو كَانَ أزليا امْتنع زَوَاله وَلَا يمْتَنع زَوَاله فَلَا يكون أزليا بَيَان الْمُلَازمَة أَن الأزلي إِن كَانَ وَاجِبا لذاته وَجب أَن يمْتَنع عَدمه وَإِن كَانَ مُمكنا لذاته افْتقر إِلَى الْمُؤثر الْوَاجِب لذاته قطعا للدور والتسلسل وَذَلِكَ الْمُؤثر يمْتَنع أَن يكون فَاعِلا مُخْتَارًا لِأَن الْفَاعِل الْمُخْتَار إِنَّمَا يفعل بِوَاسِطَة الْقَصْد وَالِاخْتِيَار وكل من كَانَ كَذَلِك كَانَ فعله مُحدثا فالأزلي يمْتَنع أَن يكون فعلا للْفَاعِل الْمُخْتَار وَإِن كَانَ ذَلِك الْمُؤثر مُوجبا فَإِن كَانَ تَأْثِيره غير مَوْقُوف على شَرط لزم من وجوب دوَام تِلْكَ الْعلَّة وجوب دوَام ذَلِك الْأَثر وَإِن كَانَ مَوْقُوفا على شَرط فَذَلِك الشَّرْط لَا بُد وَأَن يكون وَاجِبا لذاته أَو مُوجبا لواجب لذاته بِالدَّلِيلِ الَّذِي سبق ذكره فَحِينَئِذٍ تكون الْعلَّة وَشرط تأثيرها وَاجِبا لذاته فَوَجَبَ دوَام الْمَعْلُول فَثَبت أَن هَذَا السّكُون لَو كَانَ أزليا لامتنع زَوَاله وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّه لَا يمْتَنع زَوَاله لِأَن الْأَجْسَام متماثلة وَمَتى كَانَ كَذَلِك كَانَ الْجِسْم جَائِز الْخُرُوج عَن حيزه وَمَتى كَانَ كَذَلِك كَانَ ذَلِك السّكُون جَائِز الزَّوَال وَإِنَّمَا قُلْنَا إِن الْأَجْسَام متماثلة لِأَنَّهَا فِي الجسمية والحجمية والامتداد فِي الْجِهَات فَإِن لم يُخَالف بَعْضهَا بَعْضًا فِي شَيْء من أَجزَاء الْمَاهِيّة فقد ثَبت التَّمَاثُل وَإِن حصلت هَذِه الْمُخَالفَة فَمَا بِهِ الْمُشَاركَة وَهُوَ مَجْمُوع الجسمية مُغَاير لما بِهِ الْمُخَالفَة وَعند هَذَا نقُول وَإِن كَانَ مَا بِهِ الْمُشَاركَة محلا وَمَا بِهِ الْمُخَالفَة حَالا فَهَذَا يَقْتَضِي كَون الذوات الَّتِي هِيَ

الْأَجْسَام متماثلة فِي تَمام الْمَاهِيّة إِلَّا أَنه قَامَت بهَا أَعْرَاض مُخْتَلفَة وَذَلِكَ لَا يضرنا فِي غرضنا وَلَو كَانَ مَا بِهِ الْمُشَاركَة حَالا وَمَا بِهِ الْمُخَالفَة محلا فَهَذَا محَال لِأَن مَا بِهِ الْمُخَالفَة إِن كَانَ فِي نَفسه حجما وذاهبا فِي الْجِهَات كَانَ مَحل الجسمية نفس الجسمية وَهُوَ محَال وَإِن لم يكن حجما وَلَا مُخْتَصًّا بالحيز أصلا لزم أَن يكون الْحَاصِل فِي الحيز حَالا فِيمَا لَا حُصُول لَهُ فِي الحيز وَذَلِكَ محَال وَأما إِن لم يكن أحد هذَيْن الاعتبارين حَالا فِي الآخر وَلَا محلا لَهُ فَحِينَئِذٍ يكون مَا بِهِ الْمُشَاركَة ذَوَات قَائِمَة بأنفسها خَالِيَة عَن جِهَات الاختلافات فَثَبت أَن الْأَجْسَام متماثلة وَإِذا ثَبت هَذَا فَنَقُول لما صَحَّ خُرُوج بعض الْأَجْسَام عَن حيزه وَجب أَن يَصح خُرُوج الْكل عَن حيزه وَبِتَقْدِير خُرُوجه عَن حيزه فقد بَطل ذَلِك السّكُون لِأَنَّهُ لَا معنى للسكون الْمعِين إِلَّا ذَلِك الْحُصُول الْمعِين فِي ذَلِك الحيز فَإِذا لم يبْق ذَلِك الْحُصُول وَجب أَن لَا يبْقى ذَلِك السّكُون فقد ثَبت أَن السّكُون لَو كَانَ أزليا لما زَالَ وَثَبت أَنه زَالَ فَوَجَبَ أَن لَا يكون أزليا فَثَبت أَن الْجِسْم لَو كَانَ أزليا لَكَانَ فِي الْأَزَل إِمَّا أَن يكون متحركا وَإِمَّا سَاكِنا وَثَبت فَسَاد الْقسمَيْنِ فَيمْتَنع كَونه أزليا احْتج الْقَائِلُونَ بقدم الْأَجْسَام بِأَن قَالُوا كل مَا لَا بُد مِنْهُ فِي كَونه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى موجدا للْعَالم كَانَ حَاصِلا فِي الْأَزَل وَمَتى كَانَ كَذَلِك لزم أَن لَا يتَخَلَّف الْعَالم عَن الله تَعَالَى بَيَان الأول أَنه لَو لم يكن كَذَلِك لافتقر حُدُوث ذَلِك الِاعْتِبَار إِلَى مُحدث آخر وَيعود الْكَلَام الأول فِيهِ وَيلْزم التسلسل بَيَان الثَّانِي أَنه لما حصل كل مَا لَا بُد مِنْهُ فِي المؤثرية امْتنع تخلف الْأَثر عَنهُ إِذا لم يكن حُصُول هَذَا التَّخَلُّف مُمْتَنعا كَانَ اخْتِصَاص الْوَقْت الْمعِين بالوقوع إِن كَانَ لأمر زَائِد فَهَذَا يقْدَح فِي قَوْلنَا إِن كل مَا لَا بُد مِنْهُ فِي المؤثرية كَانَ حَاصِلا فِي الْأَزَل وَإِن كَانَ لَا لأمر زَائِد لزم رُجْحَان الْمُمكن المتساوي لَا لمرجح وَذَلِكَ يُوجب نفي الصَّانِع وَهُوَ محَال

المسألة الثانية في إثبات العلم بالصانع

وَالْجَوَاب أَنه لَو صَحَّ مَا ذكرْتُمْ لزم دوَام جَمِيع الموجودات بدوام الْبَارِي فَوَجَبَ أَن لَا يحصل فِي الْعَالم شَيْء من المتغيرات وَلما كَانَ ذَلِك بَاطِلا لزم بطلَان قَوْلكُم الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة فِي إِثْبَات الْعلم بالصانع أعلم أَنه إِمَّا أَن يسْتَدلّ على وجود الصَّانِع بالإمكان أَو بالحدوث وعَلى كلا التَّقْدِيرَيْنِ فإمَّا فِي الذوات أَو فِي الصِّفَات فَهَذِهِ طرق أَرْبَعَة الأول إِمْكَان الذوات فَنَقُول لَا شكّ فِي وجود مَوْجُود فَهَذَا الْمَوْجُود إِن كَانَ وَاجِبا لذاته فَهُوَ الْمَقْصُود وَإِن كَانَ مُمكنا فَلَا بُد لَهُ من مُؤثر وَذَلِكَ الْمُؤثر إِن كَانَ وَاجِبا فَهُوَ الْمَقْصُود وَإِن كَانَ مُمكنا فَلهُ مُؤثر وَذَلِكَ الْمُؤثر إِن كَانَ هُوَ الَّذِي كَانَ أثرا لَهُ لزم افتقار كل وَاحِد مهما إِلَى الآخر فَيلْزم كَون كل وَاحِد مِنْهُمَا مفتقرا إِلَى نَفسه وَهُوَ محَال وَإِن كَانَ شَيْئا آخر فإمَّا أَن يتسلسل أَو يَنْتَهِي إِلَى الْوَاجِب والتسلسل إِلَى غير النِّهَايَة بَاطِل لِأَن ذَلِك الْمَجْمُوع مفتقر إِلَى كل وَاحِد من تِلْكَ الْآحَاد وكل وَاحِد مِنْهُمَا مُمكن والمفتقر إِلَى الْمُمكن أولى بالإمكان فَذَلِك الْمَجْمُوع مُمكن وَله مُؤثر ومؤثره إِمَّا أَن يكون نَفسه وَهُوَ محَال لِأَن الْمُؤثر مُتَقَدم بالرتبة على الْأَثر وَتقدم الشَّيْء على نَفسه محَال أَو جُزْء من الْأَجْزَاء الدَّاخِلَة فِيهِ وَهُوَ أَيْضا محَال لِأَن الْمُؤثر فِي الْمَجْمُوع مُؤثر فِي كل وَاحِد من آحَاد ذَلِك الْمَجْمُوع فَلَو جعلنَا الْمُؤثر فِي الْمَجْمُوع وَاحِدًا من آحاده لزم كَذَلِك الْوَاحِد مؤثرا فِي نَفسه وَهُوَ محَال وَإِمَّا أَن يكون فِيمَا كَانَ مؤثرا فِيهِ وَهُوَ دور وَقد أبطلناه وَإِمَّا أَن يكون الْمُؤثر فِي ذَلِك الْمَجْمُوع أمرا خَارِجا عَن ذَلِك الْمَجْمُوع لَكِن من الْمَعْلُوم أَن الْخَارِج عَن كل الممكنات لَا يكون مُمكنا بل يكون وَاجِبا وَحِينَئِذٍ يلْزم انْتِهَاء جَمِيع الممكنات لذاتها إِلَى وجود وَاجِب الْوُجُود لذاته وَهُوَ الْمَطْلُوب

وَقد ذكرنَا فِي خَواص الْوَاجِب لذاته أَنه يجب كَونه فَردا منزها عَن قبُول الْقِسْمَة وكل جسم وكل قَائِم بالجسم فَإِنَّهُ مركب ومنقسم فَثَبت أَن وَاجِب الْوُجُود لذاته مَوْجُود غير هَذِه الْأَجْسَام وَغير الصِّفَات الْقَائِمَة بالأجسام وَهُوَ الْمَطْلُوب الطَّرِيق الثَّانِي الِاسْتِدْلَال بحدوث الذوات على وجود وَاجِب الْوُجُود فَنَقُول الْأَجْسَام محدثة وكل مُحدث فَلهُ مُحدث وَالْعلم بِهِ ضَرُورِيّ كَمَا بَيناهُ فَجَمِيع الْأَجْسَام لَهَا مُحدث وَذَلِكَ الْمُحدث يمْتَنع أَن يكون جسما أَو جسمانيا وَإِلَّا لزم كَونه مُحدثا لنَفسِهِ وَهُوَ محَال إِلَّا أَنه هَهُنَا أَن يُقَال فَلم لَا يجوز أَن يكون مُحدث الْأَجْسَام مُمكنا لذاته فَحِينَئِذٍ نفتقر فِي إبِْطَال الدّور والتسلسل إِلَى الدَّلِيل الْمُتَقَدّم الطَّرِيق الثَّالِث الِاسْتِدْلَال بِإِمْكَان الصِّفَات فَنَقُول قد دللنا على أَن الْأَجْسَام بأسرها مُتَسَاوِيَة فِي تَمام الْمَاهِيّة وَإِذا كَانَت كَذَلِك كَانَ اخْتِصَاص جسم الْفلك بِمَا بِهِ صَار فلكا واختصاص جسم الأَرْض بِمَا بِهِ صَار أَرضًا أمرا جَائِزا فَلَا بُد لَهُ من مُخَصص وَذَلِكَ الْمُخَصّص إِن كَانَ جسما افْتقر فِي تركبه وتألفه إِلَى نَفسه وَهُوَ محَال وَإِن لم يكن جسما فَهُوَ الْمَطْلُوب الطَّرِيق الرَّابِع الِاسْتِدْلَال بحدوث الصِّفَات وَهِي محصورة فِي دَلَائِل الْآفَاق والأنفس كَمَا قَالَ تَعَالَى {سنريهم آيَاتنَا فِي الْآفَاق وَفِي أنفسهم} وأظهرها أَن نقُول النُّطْفَة جسم متشابهة الْأَجْزَاء فِي الصُّورَة فإمَّا أَن تكون متشابهة الْأَجْزَاء فِي نفس الْأَمر أَو لَا تكون فَإِن كَانَ الأول فَنَقُول الْمُؤثر فِي طباع الْأَعْضَاء وَفِي أشكالها يمْتَنع أَن يكون هُوَ الطبيعة لِأَن الطبيعة الْوَاحِدَة تَقْتَضِي الشكل الكروي فَوَجَبَ أَن يتَوَلَّد الْحَيَوَان على شكل الكرة وعَلى طبيعة وَاحِدَة بسيطة وَهَذَا خلف وَإِن كَانَ الثَّانِي وَجب أَن يكون كل وَاحِد من تِلْكَ الْأَجْزَاء على شكل الكرة فَيلْزم

المسألة الثالثة إله العالم يمتنع أن يكون جسما

أَن يكون الْحَيَوَان على شكل الكرات مضموم بَعْضهَا إِلَى بعض وَهَذَا خلف فَثَبت أَن خَالق أبدان الْحَيَوَانَات لَيست الطبيعية بل فَاعل مُخْتَار ثمَّ نحتاج فِي إِثْبَات كَونه وَاجِب الْوُجُود لذاته إِلَى مَا ذكرنَا فِي الطَّرِيق الأول الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة إِلَه الْعَالم يمْتَنع أَن يكون جسما وَيدل عَلَيْهِ وُجُوه الأول أَنا قد دللنا على تماثل الْأَجْسَام وَإِذا ثَبت هَذَا وَجب أَن يَصح على كل وَاحِد مِنْهَا مَا صَحَّ على الآخر فَحِينَئِذٍ يكون اخْتِصَاصه بِعِلْمِهِ وَقدمه وَقدرته وَوُجُوب وجوده من الجائزات فَوَجَبَ افتقاره فِي حُصُول هَذِه الصِّفَات إِلَى فَاعل آخر وَذَلِكَ على وَاجِب الْوُجُود لذاته محَال الثَّانِي أَنا قد دللنا على أَن الْأَجْسَام بأسرها محدثة والإله يجب أَن يكون قَدِيما أزليا فَيمْتَنع كَونه جسما الثَّالِث أَنه لَو كَانَ جسما لَكَانَ مُسَاوِيا لسَائِر الْأَجْسَام فِي الجسمية فَإِن لم يُخَالِفهَا بِاعْتِبَار آخر لزم كَونه أَن يكون مثلا لهَذِهِ المحدثات وَإِن خالفها بِاعْتِبَار آخر فَمَا بِهِ الْمُشَاركَة غير مَا بِهِ الْمُخَالفَة فَيلْزم وُقُوع التَّرْكِيب فِي ذَاته لَكنا قد بَينا أَن وُقُوع التَّرْكِيب فِي ذَات وَاجِب الْوُجُود محَال الرَّابِع وَهُوَ أَنه لَو قَامَ بجملة الْأَجْزَاء علم وَاحِد وقدرة وَاحِدَة لزم قيام الْعرض الْوَاحِد بالمحال الْكَثِيرَة وَهُوَ محَال وَإِن قَامَ بِكُل وَاحِد مِنْهَا علم على حِدة وقدرة على حِدة لزم القَوْل بِتَعَدُّد الْآلهَة

المسألة الرابعة في امتناع كونه جوهرا

الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة فِي امْتنَاع كَونه جوهرا أعلم بِأَن المُرَاد من الْجَوْهَر المتحيز الَّذِي لَا يَنْقَسِم أَو المُرَاد مِنْهُ كَونه غَنِيا عَن الْمحل وَالْأول بَاطِل لوَجْهَيْنِ أَحدهمَا أَن الدَّلِيل الَّذِي ذَكرْنَاهُ فِي حُدُوث الْأَجْسَام قَائِم بِعَيْنِه فِي جَمِيع المتحيزات فعلى هَذَا كل جَوْهَر مُحدث وَالله تَعَالَى لَيْسَ بمحدث فَيمْتَنع كَون الْإِلَه جوهرا الثَّانِي أَن الْقَائِلين بِنَفْي الْجَوْهَر الْفَرد قَالُوا كل متحيز فَإِن يَمِينه غير يسَاره وقدامه غير خَلفه وكل مَا كَانَ كَذَلِك فَهُوَ منقسم وَلَا شَيْء من المنقسم بِوَاجِب لذاته وَأما إِن كَانَ المُرَاد بالجوهر كَونه غَنِيا عَن الْمحل فَهَذَا الْمَعْنى حق والنزاع لَيْسَ إِلَّا فِي اللَّفْظ الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة فِي امْتنَاع كَونه فِي الْمَكَان وَيدل عَلَيْهِ وُجُوه الأول إِن كل مَا كَانَ مُخْتَصًّا بِالْمَكَانِ فَإِن كَانَ بِحَيْثُ يتَمَيَّز فِيهِ جَانب عَن جَانب فَهُوَ مركب وَقد أبطلناه وَإِن لم يكن كَذَلِك كَانَ كالجوهر الْفَرد والنقطة الَّتِي لَا تقبل الْقِسْمَة وَقد أطبق الْعُقَلَاء على تَنْزِيه الله تَعَالَى عَن هَذِه الصّفة الثَّانِي أَنه لَو كَانَ فِي الحيز لَكَانَ إِمَّا أَن يكون متناهيا من كل الجوانب أَو غير متناه من كل الجوانب أَو يكون متناهيا من بعض الجوانب دون الْبَعْض وَالْأول بَاطِل وَإِلَّا لَكَانَ اخْتِصَاصه بذلك الْمِقْدَار المتناهي من كل الجوانب دون الزَّائِد والناقص مُحْتَاجا إِلَى مُخَصص وَذَلِكَ يُوجب الْحُدُوث وَالثَّانِي بَاطِل لِأَن كل بعد فَإِنَّهُ يقبل الزِّيَادَة وَالنُّقْصَان وكل

المسألة السادسة في أن الحلول على الله محال

مَا كَانَ كَذَلِك فَهُوَ متناه وَلِأَن على هَذَا التَّقْدِير يكون مركبا لِأَن الْبعد الممتد إِلَى غير النِّهَايَة يفْرض فِيهِ نقطة كَبِيرَة وَلِأَن على هَذَا التَّقْدِير تكون المحدثات مختلطة بِذَاتِهِ وَالثَّالِث بَاطِل لِأَن القَوْل بالبعد الَّذِي لَا نِهَايَة لَهُ محَال بِالدَّلِيلِ الَّذِي ذَكرْنَاهُ سَوَاء كَانَ من كل الجوانب أَو من بَعْضهَا وَلِأَن الْجَانِب المتناهي غير مَا هُوَ غير متناه فَيلْزم وُقُوع التَّرْكِيب وَالْوَجْه الثَّالِث أَن الْعَالم كرة فَلَو حصل فَوق أحد الجوانب لصار أَسْفَل بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَقوام آخَرين وَلَو أحَاط بِجَمِيعِ الجوانب صَار معنى هَذَا الْكَلَام أَن إِلَه الْعَالم فلك من الأفلاك المحيطة بِالْأَرْضِ وَذَلِكَ لَا يَقُوله مُسلم وَأما الظَّوَاهِر النقلية المشعرة بالجسمية والجهة فَالْجَوَاب الْكُلِّي عَنْهَا أَن القواطع الْعَقْلِيَّة دلّت على امْتنَاع الجسمية والجهة والظواهر النقلية مشعرة بِحُصُول هَذَا الْمَعْنى وَالْجمع بَين تصديقهما محَال وَإِلَّا لزم اجْتِمَاع النقيضين وَالْجمع بَين تكذيبهما محَال وَإِلَّا لزم الْخُلُو عَن النقيضين وَالْقَوْل بترجيح الظَّوَاهِر النقلية على القواطع الْعَقْلِيَّة محَال لِأَن النَّقْل فرع على الْعقل فالقدح فِي الأَصْل لتصحيح الْفَرْع يُوجب الْقدح فِي الأَصْل وَالْفرع مَعًا وَهُوَ بَاطِل فَلم يبْق إِلَّا الْإِقْرَار بِمُقْتَضى الدَّلَائِل الْعَقْلِيَّة القطعية وَحمل الظَّوَاهِر النقلية إِمَّا على التَّأْوِيل وَإِمَّا على تَفْوِيض علمهَا إِلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَهُوَ الْحق الْمَسْأَلَة السَّادِسَة فِي أَن الْحُلُول على الله محَال وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن الْمَعْقُول من حُلُول الشَّيْء فِي غَيره كَون هَذَا الْحَال تبعا لذَلِك الْمحل فِي أَمر من الْأُمُور وواجب الْوُجُود لذاته يمْتَنع أَن

المسألة السابعة في أنه يستحيل قيام الحوادث بذات الله تعالى خلافا للكرامية

يكون تبعا لغيره فَوَجَبَ أَن يمْتَنع عَلَيْهِ الْحُلُول وَإِن كَانَ المُرَاد بالحلول شَيْئا سوى مَا ذَكرْنَاهُ فَلَا بُد من إِفَادَة تصَوره حَتَّى نَنْظُر فِيهِ هَل يَصح إثْبَاته فِي حق الله تَعَالَى أم لَا الْمَسْأَلَة السَّابِعَة فِي أَنه يَسْتَحِيل قيام الْحَوَادِث بِذَات الله تَعَالَى خلافًا للكرامية) وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن كل مَا كَانَ قَابلا للحوادث فَإِنَّهُ يَسْتَحِيل خلوه عَن الْحَوَادِث وكل مَا كَانَ يمْتَنع خلوه عَن الْحَوَادِث فَهُوَ حَادث ينْتج أَن كل مَا كَانَ قَابلا للحوادث فَإِنَّهُ يكون حَادِثا وَعند هَذَا نقُول الْأَجْسَام قَابِلَة للحوادث فَيجب كَونهَا حَادِثَة ونقول أَيْضا إِن الله تَعَالَى يمْتَنع أَن يكون حَادِثا فَوَجَبَ أَن يمْتَنع كَونه قَابلا للحوادث وَالْحَاصِل أَن الْجمع بَين قبُول الْحَوَادِث وَبَين الْقدَم محَال فلنذكر مَا يدل على صِحَة مُقَدمَات هَذَا الدَّلِيل فَنَقُول الَّذِي يدل على أَن كل مَا كَانَ قَابلا للحوادث فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو عَن الْحَوَادِث هُوَ أَن كَون الشَّيْء مَوْصُوفا بِالصّفةِ مُمكن الاتصاف بالمحدثات مَشْرُوط بِإِمْكَان وجود الْمُحدث لِأَن كَون الشَّيْء مَوْصُوفا بِالصّفةِ الْمعينَة فرع عَن تحقق إِمْكَان تِلْكَ الصّفة فَكَذَلِك إِمْكَان الصّفة بذلك الاتصاف فرع عَن إِمْكَان تِلْكَ الصّفة لَكِن الْحَادِث يمْتَنع أَن يكون أزليا فإمكان الاتصاف بِالصّفةِ الْحَادِثَة يمْتَنع كَونه أزليا بل يكون حَادِثا إِذا ثَبت هَذَا فَنَقُول كل شَيْء يَصح عَلَيْهِ قبُول الْحَوَادِث فَتلك الصِّحَّة يلْزم أَن تكون من لَوَازِم ذَاته إِذْ لَو لم تكن كَذَلِك لكَانَتْ من عوارض تِلْكَ الذَّات فَتكون تِلْكَ الذَّات قَابِلَة لتِلْك القابلية فقبول تِلْكَ

المسألة الثامنة في أن الاتحاد على الله تعالى محال

القابلية إِن كَانَت من اللوازم فَهُوَ الْمَقْصُود وَإِن كَانَت من الْعَوَارِض عَاد الْكَلَام فِيهِ وَلزِمَ التسلسل وَهُوَ محَال فَثَبت أَن قابلية الصِّفَات الْحَادِثَة يجب كَونهَا حَادِثَة وَثَبت أَنَّهَا من لَوَازِم تِلْكَ الذَّات فَيحصل من هَاتين المقدمتين أَن كل مَا كَانَ قَابلا للحوادث فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو عَن الْحَوَادِث وكل مَا لَا يَخْلُو عَن الْحَوَادِث فَهُوَ حَادث بالدلائل الْمَشْهُورَة ثمَّ عِنْد هَذَا نقُول الْأَجْسَام قَابِلَة للحوادث أَعنِي الألوان والطعوم والروايح والحرارة والبرودة والنور والظلمة فَهِيَ حَادِثَة ونقول لَكِن الْبَارِي تَعَالَى يمْتَنع كَونه حَادِثا فَيمْتَنع كَونه محلا للحوادث الْمَسْأَلَة الثَّامِنَة فِي أَن الِاتِّحَاد على الله تَعَالَى محَال وَدَلِيله أَن أحد الشَّيْئَيْنِ إِذا اتَّحد بِالْآخرِ فَإِن بقيا فِي هَذِه الْحَالة فهما اثْنَان لأواحد وَإِن عدما كَانَ الْمَوْجُود غَيرهمَا وَإِن عدم أَحدهمَا دون الثَّانِي امْتنع الِاتِّحَاد لِأَن الْمَعْدُوم لَا يكون عين الْمَوْجُود الْمَسْأَلَة التَّاسِعَة الْأَلَم واللذة على الله تَعَالَى محَال لِأَن الْمَعْقُول من الْأَلَم هُوَ الْحَالة الْحَاصِلَة عِنْد تغير المزاج إِلَى الْفساد وَمن اللَّذَّة هُوَ الْحَالة الْحَاصِلَة عِنْد صَلَاح المزاج فَمن كَانَ متعاليا عَن الجسمية كَانَ هَذَا محالا فِي حَقه وَلِأَن اللَّذَّة لَو صحت عَلَيْهِ لَكَانَ طَالبا لتَحْصِيل الملتذ بِهِ فَإِن قدر عَلَيْهِ فِي الْأَزَل لزم إِيجَاد الْحَادِث فِي الْأَزَل وَإِن لم يقدر عَلَيْهِ لَكَانَ متألما فِي الْأَزَل بِسَبَب فقدان الملتذ بِهِ وَهُوَ محَال

المسألة العاشرة ذهب أبو علي بن سينا إلى أنه لا حقيقة لله تعالى إلا الوجود المتقيد بقيد كونه غير عارض للماهية

الْمَسْأَلَة الْعَاشِرَة ذهب أَبُو عَليّ بن سينا إِلَى أَنه لَا حَقِيقَة لله تَعَالَى إِلَّا الْوُجُود المتقيد بِقَيْد كَونه غير عَارض للماهية وَهَذَا بَاطِل لوَجْهَيْنِ الأول أَنه وَافق على أَن حَقِيقَته غير مَعْلُومَة لِلْخلقِ وعَلى أَن وجوده المتقيد بالقيد السلبي مَعْلُوم والمعلوم غير مَا هُوَ غير مَعْلُوم الثَّانِي أَن الْوُجُود إِن اقْتضى لنَفس كَونه وجودا أَن يكون مُجَردا عَن الْمَاهِيّة فَكل وجود كَذَلِك فَهَذِهِ الماهيات الممكنة إِمَّا أَن لَا تكون مَوْجُودَة أَو يكون وجودهَا نَفسهَا وَذَلِكَ هُوَ محَال وَإِن اقْتضى أَن يكون عارضا للماهية فَكل وجود كَذَلِك فوجود الله تَعَالَى عَارض للماهية وَإِن لم يقتض لَا هَذَا وَلَا ذَاك لم يصر مَوْصُوفا بِأحد هذَيْن القيدين إِلَّا بِسَبَب مُنْفَصِل فَالْوَاجِب لذاته وَاجِب لغيره وَهَذَا محَال حجَّته أَنه لَو كَانَ وجوده صفة للماهية لافتقر ذَلِك الْوُجُود إِلَى تِلْكَ الْمَاهِيّة فَيكون ذَلِك الْوُجُود مُمكنا لذاته وَاجِبا لتِلْك الْمَاهِيّة لِأَن الْعلَّة مُتَقَدّمَة بالوجود على الْمَعْلُول فَيلْزم كَون الْمَاهِيّة مُتَقَدّمَة بوجودها على وجودهَا وَهُوَ محَال وَالْجَوَاب لم لَا يجوز أَن تكون الْمَاهِيّة من حَيْثُ هِيَ مُوجبَة لذَلِك الْوُجُود كَمَا أَن الْمَاهِيّة من حَيْثُ هِيَ هِيَ قَابِلَة للوجود فِي الممكنات الْمَسْأَلَة الْحَادِيَة عشرَة قد يجوز أَن يُخَالف شَيْء شَيْئا لنَفس حَقِيقَته الْمَخْصُوصَة لَا لأمر زَائِد وَالدَّلِيل عَلَيْهِ وَجْهَان أَحدهمَا أَنَّهُمَا لَو اخْتلفَا لأجل الصفتين فالصفتان إِن لم تختلفا لم

توجبا مُخَالفَة الذاتين وَإِن اختلفتا لصفة أُخْرَى لزم التسلسل وَإِن اخْتَلَفْنَا لذاتيهما فَهُوَ الْمَطْلُوب الثَّانِي أَن تِلْكَ الصّفة مُخَالفَة لتِلْك الذَّات وَإِلَّا لم يكن كَون الصّفة صفة أولى من كَون الذَّات صفة وَبِالْعَكْسِ إِذا ثَبت هَذَا فَنَقُول ذَات الْإِلَه مُخَالفَة لسَائِر الذوات لعين ذَاته الْمَخْصُوصَة إِذْ لَو كَانَت ذَاته مُسَاوِيَة لسَائِر الذوات لَكَانَ اخْتِصَاص تِلْكَ الذوات الْمعينَة بِتِلْكَ الصّفة الْمعينَة إِمَّا أَن لَا يكون لأمر فَيلْزم وُقُوع الْمُمكن لَا لمرجح أَو لأمر آخر على سَبِيل الدّور وَهُوَ محَال أَو على سَبِيل التسلسل وَهُوَ أَيْضا محَال وَلما بطلت الْأَقْسَام الثَّلَاثَة وَجب أَن تكون تِلْكَ الْمُخَالفَة لنَفس الذَّات الْمَخْصُوصَة

الباب الرابع في صفة القدرة والعلم وغيرهما وفيه مسائل

الْبَاب الرَّابِع فِي صفة الْقُدْرَة وَالْعلم وَغَيرهمَا وَفِيه مسَائِل

المسألة الأولى قد ثبت أن الله تعالى مؤثر في وجود العالم فإما أن يؤثر فيه على سبيل الصحة وهو الفاعل المختار أو على سبيل الوجود وهو الموجب بالذات

الْمَسْأَلَة الأولى قد ثَبت أَن الله تَعَالَى مُؤثر فِي وجود الْعَالم فإمَّا أَن يُؤثر فِيهِ على سَبِيل الصِّحَّة وَهُوَ الْفَاعِل الْمُخْتَار أَو على سَبِيل الْوُجُود وَهُوَ الْمُوجب بِالذَّاتِ فَنَقُول القَوْل بِالْمُوجبِ بِالذَّاتِ بَاطِل لوجوه الْحجَّة الأولى أَنه لَو كَانَ تَأْثِيره فِي وجود الْعَالم على سَبِيل الْإِيجَاب لزم أَن لَا يتَخَلَّف الْعَالم عَنهُ فِي الْوُجُود فَيلْزم إِمَّا قدم الْعَالم وَإِمَّا حُدُوثه وهما باطلان فَوَجَبَ أَن لَا يكون مُوجبا بِالذَّاتِ الْحجَّة الثَّانِيَة أَنا بَينا أَن الْأَجْسَام بأسرها مُتَسَاوِيَة فِي تَمام الْمَاهِيّة فَوَجَبَ استواؤها فِي قبُول جَمِيع الصِّفَات وَقد دللنا على أَنه تَعَالَى لَيْسَ بجسم وَلَا حَال فِي الْجِسْم وَإِذا كَانَ كَذَلِك كَانَت نِسْبَة ذَاته إِلَى جَمِيع الْأَجْسَام على السوية فَوَجَبَ اسْتِوَاء الْأَجْسَام بأسرها فِي جَمِيع الصِّفَات والتالي بَاطِل فالمقدم مثله الْحجَّة الثَّالِثَة لَو كَانَ مُوجبا بِالذَّاتِ لَكَانَ إِمَّا أَن يُوجب معلولا وَاحِدًا أَو مَعْلُومَات كَثِيرَة وَالْأول بَاطِل وَإِلَّا لوَجَبَ أَن يتصدر عَن ذَلِك الْوَاحِد

المسألة الثانية صانع العالم عالم

وَاحِد آخر وَكَذَا القَوْل فِي جَمِيع الْمَرَاتِب فَوَجَبَ أَلا يُوجد موجدان وَأَحَدهمَا عِلّة للْآخر وَهُوَ بَاطِل وَالثَّانِي بَاطِل لِأَن الفلاسفة أطبقوا على الْوَاحِد لَا يصدر عَنهُ إِلَّا الْوَاحِد الْحجَّة الرَّابِعَة لَا شكّ أَنا نشاهد فِي الْعَالم تغيرات مثل أَن تقدم كَانَ مَوْجُودا وَعدم الْمَعْلُول لَا بُد وَأَن يكون لعدم علته وَعدم تِلْكَ لَا بُد أَن يكون أَيْضا لعدم علتها فَهَذِهِ المعدومات عِنْد الارتقاء تَنْتَهِي وَاجِب الْوُجُود لذاته فَإِن كَانَ تَأْثِيره فِي غَيره بِالْإِيجَابِ لزم من عدم الْأَحْوَال عدم ذَاته وَهَذَا محَال فَذَلِك محَال وَاحْتَجُّوا بِأَن كل مَا لَا بُد مِنْهُ فِي المؤثرية إِن كَانَ حَاصِلا لزم وجوب الْأَثر وَإِن لم يكن ذَلِك الْمَجْمُوع حَاصِلا كَانَ الْأَثر مُمْتَنعا وَالْجَوَاب بشكل مَا ذكرتموه بالحوادث اليومية الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة صانع الْعَالم عَالم لِأَن أَفعاله محكمَة متقنة والمشاهدة تدل عَلَيْهِ وفاعل الْفِعْل الْمُحكم المتقن يجب أَن يكون عَالما وَهُوَ مَعْلُوم بالبديهة وَأَيْضًا أَنه فَاعل بِالِاخْتِيَارِ وَالْمُخْتَار هُوَ الَّذِي يقْصد إِلَى إِيجَاد النَّوْع الْمعِين وَالْقَصْد إِلَى إِيجَاد النَّوْع الْمعِين مَشْرُوط بتصور تِلْكَ الْمَاهِيّة فَثَبت أَنه تَعَالَى مُتَصَوّر لبَعض الماهيات وَلَا شكّ أَن الماهيات لذواتها تَسْتَلْزِم ثُبُوت أَحْكَام وَعدم أَحْكَام وتصور الْمَلْزُوم يسْتَلْزم تصور اللَّازِم فَيلْزم من علمه تَعَالَى بِتِلْكَ الماهيات علمة بلوازمها وآثارها فَثَبت أَنه تَعَالَى عَالم

المسألة الثالثة أنكرت الفلاسفة كونه تعالى عالما بالجزئيات

الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة أنْكرت الفلاسفة كَونه تَعَالَى عَالما بالجزئيات وَلنَا فِي إبِْطَال قَوْلهم وُجُوه الأول أَنه تَعَالَى هُوَ الْفَاعِل لَا بُد أَن الْحَيَوَانَات وفاعلها يجب أَن يكون عَالما بهَا وَذَلِكَ يدل على كَونه عَالما بالجزئيات الثَّانِي أَن الْعلم صفة كَمَال وَالْجهل صفة نقص وَيجب تَنْزِيه الله تَعَالَى عَن النقائص الثَّالِث أَن كَون الْمَاهِيّة مَوْصُوفَة بالقيود الَّتِي صَارَت لأَجلهَا شخصا معينا وَاقعا فِي وَقت معِين من مَعْلُومَات ذَات الله تَعَالَى إِمَّا بِوَاسِطَة أَو بِغَيْر وَاسِطَة وَعِنْدهم أَن الْعلم بِالْعِلَّةِ يُوجب الْعلم بالمعلول فَوَجَبَ من علمه تَعَالَى بِذَاتِهِ علمه بِهَذِهِ الجزئيات احْتَجُّوا بِأَنَّهُ لَو علم كَون زيد جَالِسا فِي هَذَا الْمَكَان فَبعد خُرُوج زيد عَن هَذَا الْمَكَان إِن بَقِي ذَلِك الْعلم فَهُوَ الْجَهْل وَإِن لم يبْق فَهُوَ التَّغَيُّر وَالْجَوَاب لم لَا يجوز أَن يُقَال إِن ذَاته الْمَخْصُوصَة مُوجبَة للْعلم بِكُل شَيْء بِشَرْط وُقُوع ذَلِك الشَّيْء فَعِنْدَ حُصُول كل وَاحِد من الْأَحْوَال تَقْتَضِي ذَاته الْمَخْصُوصَة الْعلم بِتِلْكَ الْأَحْوَال الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة أَنه تَعَالَى عَالم بِكُل المعلومات لِأَنَّهُ تَعَالَى حَيّ والحي لَا يمْتَنع كَونه عَالما بِكُل وَاحِد من المعلومات والموجب لكَونه عَالما هُوَ ذَاته الْمَخْصُوصَة إِمَّا بِغَيْر وَاسِطَة أَو بِوَاسِطَة وَإِذا كَانَ كَذَلِك لم تكن ذَاته الْمَخْصُوصَة باقتضاء الْعلم بِبَعْض

المسألة الخامسة أنه تعالى قادر على كل الممكنات

المعلومات أولى من اقْتِضَاء الْعلم بِسَائِر المعلومات فَلَمَّا اقْتضى الْعلم بِالْبَعْضِ وَجب أَن يَقْتَضِي الْعلم بِالْكُلِّ وَهُوَ الْمَطْلُوب الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة أَنه تَعَالَى قَادر على كل الممكنات وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن الْمُصَحح للمقدورية هُوَ الْجَوَاز لأَنا لَو رفضناه لبقي إِمَّا الْوُجُوب أَو الِامْتِنَاع وهما يمنعان من المقدورية وَالْجَوَاز مَفْهُوم وَاحِد بَين جَمِيع الجائزات فَمَا لأَجله صَحَّ فِي الْبَعْض أَن يكون مَقْدُورًا لله تَعَالَى قَائِم فِي جَمِيع الجائزات وَعند الاسْتوَاء فِي الْمُقْتَضى يجب الاسْتوَاء فِي الْأَثر فَوَجَبَ اسْتِوَاء جَمِيع الممكنات فِي صِحَة مقدورية الله تَعَالَى والمقتضى لحُصُول تِلْكَ القادرية هُوَ ذَاته الْمَخْصُوصَة فَلَيْسَ بِأَن تَقْتَضِي ذَاته حُصُول الْقُدْرَة على الْبَعْض بِأولى من الْبَعْض الآخر فَوَجَبَ كَونه تَعَالَى قَادِرًا على جَمِيع الممكنات الْمَسْأَلَة السَّادِسَة جَمِيع الممكنات وَاقعَة بقدرة الله تَعَالَى وَيدل عَلَيْهِ وُجُوه الأول أَنا قد دللنا على أَن كل مُمكن يفْرض فَإِن الله تَعَالَى قَادر عَلَيْهِ ومستقل بإيجاده فَلَو فَرضنَا حُصُول سَبَب آخر يَقْتَضِي إيجاده فَحِينَئِذٍ قد اجْتمع على ذَلِك الْأَثر الْوَاحِد سببان مستقلان وَذَلِكَ محَال من وَجْهَيْن أَحدهمَا أَن قدرَة الله تَعَالَى أقوى من ذَلِك الآخر فاندفاع ذَلِك الآخر بقدرة الله تَعَالَى أولى من اندفاع قدرَة الله تَعَالَى بذلك الآخر وَالثَّانِي أَنه إِمَّا أَن يكون كل وَاحِد مِنْهُمَا مؤثرا فِيهِ أَو لَا يكون وَاحِد مِنْهُمَا مؤثرا فِيهِ أَو يكون الْمُؤثر فِيهِ أَحدهمَا دون الثَّانِي وَالْأول

المسألة السابعة صانع العالم حي

بَاطِل لِأَن الْأَثر التَّام يكون وَاجِب الْوُقُوع وَمَا يجب وُقُوعه اسْتغنى عَن غَيره فكونه مَعَ هَذَا يُغْنِيه عَن ذَلِك وَكَونه مَعَ ذَلِك يُغْنِيه عَن هَذَا فَيلْزم انْقِطَاعه عَنْهُمَا مَعًا حَال استناده إِلَيْهِمَا مَعًا وَهُوَ محَال وَالثَّانِي أَيْضا بَاطِل لِأَن امْتنَاع وُقُوعه بِأَحَدِهِمَا مُعَلل بِوُقُوعِهِ بِالثَّانِي وبالضد فَلَو امْتنع وُقُوعه بهما مَعًا لزم وُقُوعه بهما مَعًا وَهُوَ محَال وَالثَّالِث أَيْضا بَاطِل لِأَنَّهُ لما كَانَ كل وَاحِد مِنْهُمَا سَببا مُسْتقِلّا لم يكن وُقُوعه أَحدهمَا بِأولى من وُقُوعه بِالْآخرِ وَلَا يُمكن أَن يُقَال إِن أَحدهمَا أقوى لِأَنَّهُ لَو صَحَّ هَذَا لَكَانَ الْوُقُوع بقدرة الله تَعَالَى أولى لِأَنَّهَا أقوى وَأَيْضًا فالفعل الْوَاحِد لَا يقبل الْقِسْمَة والبعضية فالتأثير فِيهِ لَا يقبل التَّفَاوُت أَيْضا فَامْتنعَ أَن يُقَال إِن أَحدهمَا أقوى الْمَسْأَلَة السَّابِعَة صانع الْعَالم حَيّ لأَنا قد دللنا على أَنه قَادر عَالم وَلَا معنى للحي إِلَّا الَّذِي يَصح أَن يقدر وَيعلم وَهَذِه الصِّحَّة مَعْنَاهَا نفي الِامْتِنَاع وَمَعْلُوم أَن الِامْتِنَاع صفة عدمية فنفيها يكون نفيا للنَّفْي فَيكون ثبوتا فكونه تَعَالَى حَيا صفة ثَابِتَة الْمَسْأَلَة الثَّامِنَة أَنه تَعَالَى مُرِيد لأَنا رَأينَا الْحَوَادِث يحدث كل وَاحِد مِنْهَا فِي وَقت خَاص مَعَ جَوَاز حُدُوثه قبله أَو بعده فاختصاصه بذلك الْوَقْت الْمعِين لَا بُد لَهُ من مُخَصص وَذَلِكَ الْمُخَصّص لَيْسَ هُوَ الْقُدْرَة لِأَن الْقُدْرَة تأثيرها فِي الإيجاد وَهَذَا لَا يخْتَلف باخْتلَاف الْأَوْقَات وَلَا الْعلم لِأَن الْعلم يتبع الْمَعْلُوم وَهَذِه الصّفة

المسألة التاسعة أنا إذا علمنا شيئا ثم أبصرناه وجدنا بين الحالتين تفرقة بديهة

مستتبعة وَظَاهر أَن الْحَيَاة والسمع وَالْبَصَر وَالْكَلَام لَا يصلح لذَلِك فَلَا بُد من صفة أُخْرَى وَهِي الْإِرَادَة فَإِن قَالُوا كَمَا أَن الْقُدْرَة صَالِحَة للإيجاد فِي كل الْأَوْقَات فَكَذَلِك الْإِرَادَة صَالِحَة للتخصيص فِي كل الْأَوْقَات فَإِن افْتَقَرت الْقُدْرَة إِلَى مُخَصص زَائِد فلتفتقر الْإِرَادَة إِلَى مُخَصص زَائِد فَنَقُول الْمَفْهُوم من كَونه مُخَصّصا مُغَاير للمفهوم من كَونه مؤثرا فَوَجَبَ التغاير بَين الْقُدْرَة والإرادة الْمَسْأَلَة التَّاسِعَة أَنا إِذا علمنَا شَيْئا ثمَّ أبصرناه وجدنَا بَين الْحَالَتَيْنِ تَفْرِقَة بديهة وَذَلِكَ يدل على أَن الإبصار وَالسَّمَاع مغايران للْعلم وَقَالَ قوم إِنَّه لَا معنى للرؤية إِلَّا تأثر الحدقة بِسَبَب ارتسام صُورَة المبصر فِيهَا وَلَا معنى للسمع إِلَّا تأثر الصماخ بِسَبَب وُصُول تموج الْهَوَاء إِلَيْهِ وَهَذَا بَاطِل لوجوه أما الأول فلأنا نرى نصف كرة الْعَالم على غَايَة عظمها وانطباع الْعَظِيم فِي الصَّغِير محَال ولأنا نرى الأطوال وَالْعرُوض وارتسام هَذِه الأبعاد فِي نقطة النَّاظر محَال وَأما الثَّانِي فلأنا إِذا سمعنَا صَوتا علمنَا جِهَته وَذَلِكَ يدل على أَنا أدركنا الصَّوْت فِي الْخَارِج ولأنا نسْمع كَلَام الْإِنْسَان من وَرَاء الْجِدَار وَلَو كُنَّا لَا نسْمع الْكَلَام إِلَّا عِنْد وُصُوله إِلَيْنَا وَجب أَن لَا نسْمع الْحُرُوف من وَرَاء الْجِدَار لِأَن ذَلِك التموج لما وصل إِلَى الْجِدَار لم يبْق على شكله الأول فَيثبت بِمَا ذكرنَا أَن الإبصار وَالسَّمَاع نَوْعَانِ من الْإِدْرَاك مغايران للْعلم وَإِذا ثَبت هَذَا فَنَقُول الدَّلَائِل السمعية دَالَّة على كَونه تَعَالَى

المسألة العاشرة أجمع الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام على كونه تعالى متكلما

سميعا بَصيرًا وَالْعقل أَيْضا يُقَوي ذَلِك لما أَن هذَيْن النَّوْعَيْنِ من الْإِدْرَاك من صِفَات الْكَمَال وَيجب وصف الله تَعَالَى بِكُل الكمالات فَوَجَبَ علينا إِثْبَات هَذِه الصِّفَات إِلَّا أَن نذْكر الْخصم دَلِيلا عقليا يمْنَع من إِجْرَاء هَذِه الْآيَات وَالْأَخْبَار على ظواهرها وَلَكِن ذَلِك مُعَارضَة فَمن ادَّعَاهَا فَعَلَيهِ الْبَيَان الْمَسْأَلَة الْعَاشِرَة أجمع الْأَنْبِيَاء وَالرسل عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام على كَونه تَعَالَى متكلما وَإِثْبَات نبوة الْأَنْبِيَاء لَا تتَوَقَّف على الْعلم بِكَوْنِهِ تَعَالَى متكلما وَحِينَئِذٍ يتم هَذَا الدَّلِيل وَلِأَن كَونه تَعَالَى آمرا وناهيا من صِفَات الْجلَال ونعوت الْكَمَال وَالْعقل يقْضِي إثْبَاته لله تَعَالَى الْمَسْأَلَة الْحَادِيَة عشرَة فِي إِثْبَات أَنه تَعَالَى عَالم وَله علم أهم الْمُهِمَّات فِي هَذِه الْمَسْأَلَة تعْيين مَحل الْبَحْث فَنَقُول إِنَّه من علم شَيْئا فَإِنَّهُ يحصل بَين الْعَالم وَبَين الْمَعْلُوم نِسْبَة مَخْصُوصَة وَتلك النِّسْبَة هِيَ الْمُسَمَّاة بالشعور وَالْعلم والإدراك فَنحْن ندعي أَن هَذِه النِّسْبَة أَمر زَائِد على الذَّات وَمِنْهُم من قَالَ إِن الْعلم صفة حَقِيقِيَّة تَقْتَضِي هَذِه النِّسْبَة وَمِنْهُم من قَالَ الْعلم صفة حَقِيقِيَّة توجب حَالَة أُخْرَى وَهِي العالمية ثمَّ إِن هَذِه العالمية توجب تِلْكَ النِّسْبَة الْخَاصَّة والمتكلمون يسمون هَذِه النِّسْبَة بالتعلق وَأما نَحن فَلَا ندعي إِلَّا ثُبُوت هَذِه النِّسْبَة وَالَّذِي يدل على كَون هَذِه النِّسْبَة زَائِدَة على الذَّات وُجُوه الأول أَنا بعد الْعلم بِذَات نحتاج إِلَى دَلِيل مُنْفَصِل فِي إِثْبَات كَونه قَادِرًا عَالما والمعلوم مُغَاير لما هُوَ غير الْمَعْلُوم

المسألة الثانية عشرة هذه النسبة المخصوصة والإضافات المخصوصة المسماة بالقدرة وبالعلم لا شك أنها أمور غير قائمة بأنفسها بل ما لم توجد ذات قائمة بنفسها تكون هذه المفهومات صفات لها فإنه يمتنع وجودها

الثَّانِي أَن الْعلم نِسْبَة مَخْصُوصَة وَالْقُدْرَة نِسْبَة أُخْرَى مَخْصُوصَة وَأما الذَّات فَهُوَ مَوْجُود قَائِم بِالنَّفسِ لَيْسَ من قبيل النّسَب والإضافات فَوَجَبَ التغاير الثَّالِث أَنه لَو كَانَ للْعلم نفس الْقُدْرَة لَكَانَ كل مَا كَانَ مَعْلُوما كَانَ مَقْدُورًا وَهُوَ بَاطِل لِأَن الْوَاجِب والممتنع معلومان وَغير مقدورين الرَّابِع أَنا إِذا قُلْنَا الذَّات ثمَّ قُلْنَا الذَّات عَالِمَة فَإنَّا ندرك بِالضَّرُورَةِ التَّفْرِقَة بَين ذَلِك التَّصَوُّر وَبَين ذَلِك التَّصْدِيق وَذَلِكَ يُوجب التغاير احْتَجُّوا بِأَن لَو كَانَ لله تَعَالَى علم لَكَانَ علمه مُتَعَلقا بِعَين مَا يتَعَلَّق بِهِ علمنَا فَوَجَبَ تماثل العلمين فَيلْزم إِمَّا قدمهما مَعًا أَو حدوثهما مَعًا قُلْنَا ينْتَقض بالوجود فَإِنَّهُ من حَيْثُ إِنَّه وجود مَفْهُوم وَاحِد ثمَّ إِن وجود الله تَعَالَى قديم ووجودنا حَادث وَقَالَت الفلاسفة لَو جعلت لَهُ صفة لكَانَتْ تِلْكَ الصّفة مفتقرة إِلَى تِلْكَ الذَّات فَتكون مُمكنَة وَلَا بُد لَهَا من مُؤثر وَذَلِكَ الْمُؤثر هُوَ تِلْكَ الذَّات والقابل أَيْضا هُوَ تِلْكَ الذَّات فالشيء الْوَاحِد يكون قَابلا وفاعلا مَعًا وَهُوَ محَال وَالْجَوَاب أَن هَذَا يشكل بلوازم الماهيات مثل فردية الثَّلَاثَة وزوجية الْأَرْبَعَة فَإِن فاعلها وقابلها لَيْسَ إِلَّا تِلْكَ الماهيات الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة عشرَة هَذِه النِّسْبَة الْمَخْصُوصَة والإضافات الْمَخْصُوصَة الْمُسَمَّاة بِالْقُدْرَةِ وبالعلم لَا شكّ أَنَّهَا أُمُور غير قَائِمَة بأنفسها بل مَا لم تُوجد ذَات قَائِمَة بِنَفسِهَا تكون هَذِه المفهومات صِفَات لَهَا فَإِنَّهُ يمْتَنع وجودهَا إِذا ثَبت هَذَا فَنَقُول إِنَّهَا مفتقرة إِلَى الْغَيْر فَتكون مُمكنَة لذواتها فَلَا

المسألة الثالثة عشرة قالت المعتزلة إن الله تعالى مريد بإرادة حادثة لا في محل وهذا عندنا باطل لوجوه

بُد لَهَا من مُؤثر وَلَا مُؤثر إِلَّا ذَات الله تَعَالَى فَتكون تِلْكَ الذَّات الْمَخْصُوصَة مُوجبَة لهَذِهِ النّسَب والإضافات ثمَّ لَا يمْتَنع فِي الْعقل أَن تكون تِلْكَ الذَّات مُوجبَة لَهَا ابْتِدَاء وَلَا مُمْتَنع أَن تكون تِلْكَ الذَّات مُوجبَة لصفات أُخْرَى حَقِيقِيَّة أَو إضافية ثمَّ إِن تِلْكَ الصِّفَات توجب هَذِه النّسَب والإضافات وعقول الْبشر قَاصِرَة عَن الْوُصُول إِلَى هَذِه المضايق الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة عشرَة قَالَت الْمُعْتَزلَة إِن الله تَعَالَى مُرِيد بِإِرَادَة حَادِثَة لَا فِي مَحل وَهَذَا عندنَا بَاطِل لوجوه الأول أَن تِلْكَ الْإِرَادَة لَو كَانَت حَادِثَة لما أمكن إحداثها إِلَّا بِإِرَادَة أُخْرَى وَلزِمَ التسلسل وَهُوَ محَال الثَّانِي أَن تِلْكَ الْإِرَادَة إِذا وجدت لَا فِي مَحل وَذَات الله تَعَالَى قَابِلَة للصفة المريدية وَسَائِر الْأَحْيَاء يقبلُونَ هَذِه المريدية فَلم تكن تِلْكَ الْإِرَادَة بِإِيجَاب المريدية لله تَعَالَى أولى من إِيجَاب المريدية لغير الله تَعَالَى وَعند هَذَا يلْزم توَافق جَمِيع الْأَحْيَاء فِي صفة المريدية وَهُوَ محَال وَلَيْسَ لَهُم أَن يَقُولُوا إِن اختصاصها بِاللَّه أولى لِأَنَّهُ تَعَالَى لَا فِي مَحل وَهَذِه الْإِرَادَة أَيْضا لَا فِي مَحل فَهَذِهِ الْمُنَاسبَة هُنَاكَ أتم لأَنا نقُول كَونه تَعَالَى لَا فِي مَحل قيد عدمي فَلَا يصلح للتأثير فِي هَذَا التَّرْجِيح الثَّالِث أَن تِلْكَ الْإِرَادَة لما أوجبت المريدية لله تَعَالَى فقد حدث لله تَعَالَى صفة المريدية لَكنا قد دللنا على أَن حُدُوث الصّفة فِي ذَات الله تَعَالَى محَال

المسألة الرابعة عشرة قال قوم من فقهاء ما وراء النهر أن صفة التخليق مغايرة لصفة القدرة وقال الأكثرون ليس كذلك

الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة عشرَة قَالَ قوم من فُقَهَاء مَا وَرَاء النَّهر أَن صفة التخليق مُغَايرَة لصفة الْقُدْرَة وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ لَيْسَ كَذَلِك لنا وُجُوه الأول أَن صفة الْقُدْرَة صفة مُؤثرَة على سَبِيل الصِّحَّة وَصفَة التخليق إِن كَانَت مُؤثرَة على سَبِيل الصِّحَّة أَيْضا كَانَت هَذِه الصّفة غير صفة الْقُدْرَة وَإِن كَانَت مُؤثرَة على سَبِيل الْوُجُوب لزم كَونه تَعَالَى مؤثرا بِالْإِيجَابِ لَا بِالِاخْتِيَارِ وَذَلِكَ بَاطِل وَأَيْضًا فَهُوَ لكَونه مَوْصُوفا بِالْقُدْرَةِ يلْزم أَن يكون تَأْثِيره على سَبِيل الصِّحَّة ولكونه مَوْصُوفا بِهَذِهِ الصّفة يلْزم أَن يكون تَأْثِيره على سَبِيل الْوُجُوب فَيلْزم أَن يكون الْمُؤثر الْوَاحِد مؤثرا على سَبِيل الصِّحَّة وعَلى سَبِيل الْوُجُوب مَعًا وَهُوَ محَال وَأَيْضًا إِن كَانَت الْقُدْرَة صَالِحَة للتأثير لم يمْتَنع وُقُوع الْمَخْلُوقَات بِالْقُدْرَةِ وَحِينَئِذٍ لَا يُمكن الِاسْتِدْلَال بحدوث الْمَخْلُوقَات على هَذِه الصّفة وَإِن لم تكن الْقُدْرَة صَالِحَة للتأثير وَجب أَن لَا تكون الْقُدْرَة قدرَة وَهُوَ محَال وَأَيْضًا فَهَذَا التخليق إِن كَانَ قَدِيما لزم من قدمه قدم الْمَخْلُوق وَإِن كَانَ مُحدثا افْتقر إِلَى خلق آخر وَلزِمَ التسلسل وَاحْتج الْقَائِلُونَ بِإِثْبَات هَذِه الصّفة بِأَن قَالُوا نعلم أَنه تَعَالَى قَادر على خلق الشموس والأقمار الْكَثِيرَة فِي هَذَا الْعَالم لكنه مَا خلقهَا فَصدق هَذَا النَّفْي وَالْإِثْبَات يدل على الْفرق بَين كَونه تَعَالَى قَادِرًا وَبَين كَونه خَالِقًا ثمَّ نقُول هَذَا الْخلق إِمَّا أَن يكون عين الْمَخْلُوق وَإِمَّا أَن يكون صفة قَائِمَة بِذَات الله تَعَالَى تَقْتَضِي وجود هَذَا الْمَخْلُوق وَالْأول بَاطِل لِأَن الْعقل يَقُول إِنَّمَا وجد هَذَا الْمَخْلُوق لِأَن الله تَعَالَى خلقه فيعلل وجود الْمَخْلُوق بتخليق الله تَعَالَى إِيَّاه فَلَو كَانَ هَذَا التخليق عين وجود ذَلِك الْمَخْلُوق لَكَانَ

المسألة الخامسة عشرة الكلام صفة مغايرة لهذه الحروف والأصوات

قَوْلنَا إِنَّمَا وجد ذَلِك الْمَخْلُوق بِإِذن الله تَعَالَى خلقه جَارِيا مجْرى قَوْلنَا إِنَّمَا وجد ذَلِك الْمَخْلُوق لنَفسِهِ وَمَعْلُوم أَنه بَاطِل لِأَنَّهُ لَو وجد لنَفسِهِ لامتنع وجوده بإيجاد الله تَعَالَى وَذَلِكَ يُوجب نفي الصَّانِع وَلِأَنَّهُ كَونه تَعَالَى خَالِقًا صفة لَهُ والمخلوق لَيْسَ صفة وَذَلِكَ يُوجب التغاير وَلما بَطل هَذَا الْقسم ثَبت أَن كَونه تَعَالَى خَالِقًا لذَلِك الْمَخْلُوق مغايرا لذَلِك الْمَخْلُوق وَهَذِه الأبحاث عميقة الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة عشرَة الْكَلَام صفة مُغَايرَة لهَذِهِ الْحُرُوف والأصوات وَالدَّلِيل عَلَيْهِ هُوَ أَن الْأَلْفَاظ الدَّالَّة على الْأَمر مُخْتَلفَة بِحَسب اخْتِلَاف اللُّغَات وَحَقِيقَة الْأَمر مَاهِيَّة وَاحِدَة فَوَجَبَ التغاير وَأَيْضًا اللَّفْظ الَّذِي يُفِيد الْأَمر إِنَّمَا يفِيدهُ لأجل الْوَضع والاصطلاح وَكَون الْأَمر أمرا مَاهِيَّة ذاتية لَا يُمكن تغيرها بِحَسب تغير الأوضاع فَوَجَبَ التغاير فَثَبت أَن الْأَمر مَاهِيَّة قَائِمَة بِالنَّفْيِ يعبر عَنْهَا بالعبارات الْمُخْتَلفَة إِذا ثَبت هَذَا فَنَقُول تِلْكَ الْمَاهِيّة لَيست عبارَة عَن إِرَادَة الْمَأْمُور بِهِ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَمر الْكَافِر بِالْإِيمَان وسنقيم الْبَرَاهِين اليقينية على أَنه تَعَالَى يمْتَنع أَن يُرِيد الْإِيمَان من الْكَافِر فَوَجَدنَا هَهُنَا ثُبُوت الْأَمر بِدُونِ الْإِرَادَة فَوَجَبَ التغاير فَثَبت أَن الْأَمر وَالنَّهْي مَعَاني حَقِيقِيَّة قَائِمَة بنفوس الْمُتَكَلِّمين ويعبر عَنْهَا بِأَلْفَاظ مُخْتَلفَة الْمَسْأَلَة السَّادِسَة عشرَة كَلَام الله تَعَالَى قديم وَيدل عَلَيْهِ الْمَنْقُول والمعقول أما الْمَنْقُول فَقَوله تَعَالَى {لله الْأَمر من قبل وَمن بعد} فَأثْبت الْأَمر لله من قبل جَمِيع الْأَشْيَاء فَلَو كَانَ أَمر الله مخلوقا لزم حُصُول الْأَمر من قبل نَفسه وَهُوَ محَال

وَالثَّانِي قَوْله تَعَالَى {أَلا لَهُ الْخلق وَالْأَمر} ميز بَين الْخلق وَبَين الْأَمر فَوَجَبَ أَن لَا يكون الْأَمر دَاخِلا فِي الْخلق وَالثَّالِث مَا رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه كَانَ يَقُول (أعوذ بِكَلِمَات الله بالتمام) والمحدث لَا يكون تَاما وَالرَّابِع أَن الْكَلَام من صِفَات الْكَمَال فَلَو كَانَ مُحدثا لكَانَتْ خَالِيَة عَن صِفَات الْكَمَال قبل حُدُوثه والخالي عَن الْكَمَال نَاقص وَذَلِكَ على الله محَال وَالْخَامِس أَنا بَينا أَن كَونه تَعَالَى آمرا وناهيا من صِفَات الْكَمَال وَلَا يُمكن أَن يكون ذَلِك عين هَذِه الْعبارَات بل لَا بُد وَأَن تكون صِفَات تدل عَلَيْهَا هَذِه الْعبارَات فَلَو كَانَت تِلْكَ الصِّفَات حَادِثَة لزم أَن تكون ذَاته محالا للحوادث وَهُوَ محَال السَّادِس أَن الْكَلَام لَو كَانَ حَادِثا لَكَانَ إِمَّا أَن يقوم بِذَات الله أَو بِغَيْرِهِ أَو لَا يقوم بِمحل فَلَو قَامَ بِذَات الله تَعَالَى لزم كَونه محلا للحوادث وَهُوَ محَال وَإِن قَامَ بِغَيْرِهِ فَهُوَ أَيْضا محَال لِأَنَّهُ لَو جَازَ أَن يكون متكلما بِكَلَام قَائِم بِغَيْرِهِ لجَاز أَن يكون متحركا بحركة قَائِمَة بِغَيْرِهِ وساكنا بِسُكُون قَائِم بِغَيْرِهِ وَهُوَ محَال وَإِن وجد ذَلِك الْكَلَام لَا فِي مَحل فَهُوَ بَاطِل بالِاتِّفَاقِ وَاحْتَجُّوا على أَن كَلَامه مَخْلُوق بِوُجُوه أَحدهَا أَن حُصُول الْأَمر وَالنَّهْي من غير حُضُور الْمَأْمُور والمنهي عَبث وجنون وَهُوَ على الله محَال الثَّانِي أَنه تَعَالَى إِذا أَمر زيدا بِالصَّلَاةِ فَإِذا أَدَّاهَا لم يبْق ذَلِك الْأَمر وَمَا ثَبت عَدمه امْتنع قدمه الثَّالِث أَن النّسخ فِي الْأَوَامِر والنواهي جَائِز وَمَا ثَبت زَوَاله امْتنع قدمه

المسألة السابعة عشرة قالت الحنابلة كلام الله تعالى ليس إلا الحروف والأصوات وهي قديمة أزلية

الرَّابِع أَن قَوْله تَعَالَى {إِنَّا أرسلنَا نوحًا} وَإِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَة الْقدر أَخْبَار عَن الْمَاضِي وَهَذَا إِنَّمَا يَصح أَن لَو كَانَ الْمخبر عَنهُ سَابِقًا على الْخَبَر فَلَو كَانَ الْخَبَر مَوْجُودا فِي الْأَزَل لَكَانَ الأزلي مَسْبُوقا بِغَيْرِهِ وَهُوَ محَال وَالْجَوَاب أَن كل مَا ذكرْتُمْ فِي الْأَمر وَالنَّهْي معَارض بِالْعلمِ فَإِن الله تَعَالَى لَو كَانَ عَالما فِي الْأَزَل بِأَن الْعَالم مَوْجُود لَكَانَ ذَلِك جهلا وَلَو كَانَ عَالما بِأَنَّهُ سيحدث فَإِذا أوجده وَجب أَن يَزُول الْعلم الأول فَحِينَئِذٍ يلْزم عدم الْقَدِيم وَبِالْجُمْلَةِ فَجَمِيع مَا ذَكرُوهُ من الشُّبُهَات معَارض بِالْعلمِ الْمَسْأَلَة السَّابِعَة عشرَة قَالَت الْحَنَابِلَة كَلَام الله تَعَالَى لَيْسَ إِلَّا الْحُرُوف والأصوات وَهِي قديمَة أزلية وأطبق الْعُقَلَاء على أَن الَّذِي قَالُوهُ جحد للضروريات ثمَّ الَّذِي يدل على بُطْلَانه وَجْهَان الْوَجْه الأول أَنه إِمَّا أَن يُقَال إِنَّه تكلم بِهَذِهِ الْحُرُوف دفْعَة وَاحِدَة أَو على التَّعَاقُب فَإِن كَانَ الأول لم يحصل مِنْهَا هَذِه الْكَلِمَات الَّتِي نسمعها لِأَن الَّتِي نسمعها حُرُوف متعاقبة فَحِينَئِذٍ لَا يكون هَذَا الْقُرْآن المسموع قَدِيما وَإِن كَانَ الثَّانِي فَالْأول لما انْقَضى كَانَ مُحدثا لِأَن مَا ثَبت عَدمه امْتنع قدمه وَالثَّانِي لما حصل بعد عَدمه كَانَ حَادِثا وَالْوَجْه الثَّانِي أَن هَذِه الْحُرُوف والأصوات قَائِمَة بألسنتنا وحلوقنا فَلَو كَانَت هَذِه الْحُرُوف والأصوات نفس صفة الله تَعَالَى لزم أَن تكون صفة الله وكلمته حَالَة فِي ذَات كل أحد من النَّاس ثمَّ أَن النَّصَارَى لما أثبتوا

المسألة الثامنة عشرة قال الأكثرون من أهل السنة كلام الله تعالى واحد والمعتزلة أظهروا التعجب منه وقالوا الأمر والنهي والخبر والاستخبار حقائق مختلفة فالقول بأن الكلام من الواحد مع كونه واحدا أمر ونهي وخبر واستخبار يقتضي كون الحقائق الكثيرة حقيقة واحدة

حُلُول كلمة الله تَعَالَى فِي عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَحده كفرهم جُمْهُور الْمُسلمين فَالَّذِي يثبت هَذَا الْحُلُول فِي حق كل أحد من النَّاس يكون كفره أغْلظ من كفر النَّصَارَى بِكَثِير وَاحْتَجُّوا على قَوْلهم بِأَن كَلَام الله تَعَالَى مسموع بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى {وَإِن أحد من الْمُشْركين استجارك فَأَجره حَتَّى يسمع كَلَام الله} وَهَذَا يدل على أَن كَلَام الله مسموع فَلَمَّا دلّ الدَّلِيل على أَن كَلَام الله قديم وَجب أَن تكون هَذِه الْحُرُوف المسموعة قديمَة وَالْجَوَاب أَن المسموع هُوَ هَذِه الْحُرُوف المتعاقبة وَكَونهَا متعاقبة يَقْتَضِي أَنَّهَا حدثت بعد انْقِضَاء غَيرهَا وَمَتى كَانَ الْأَمر كَذَلِك كَانَ الْعلم الضَّرُورِيّ حَاصِلا بامتناع كَونهَا قديمَة الْمَسْأَلَة الثَّامِنَة عشرَة قَالَ الْأَكْثَرُونَ من أهل السّنة كَلَام الله تَعَالَى وَاحِد والمعتزلة أظهرُوا التَّعَجُّب مِنْهُ وَقَالُوا الْأَمر وَالنَّهْي وَالْخَبَر والاستخبار حقائق مُخْتَلفَة فَالْقَوْل بِأَن الْكَلَام من الْوَاحِد مَعَ كَونه وَاحِدًا أَمر وَنهي وَخبر واستخبار يَقْتَضِي كَون الْحَقَائِق الْكَثِيرَة حَقِيقَة وَاحِدَة وَذَلِكَ بَاطِل بالبديهة وَأعلم أَن عندنَا الْأَمر عبارَة عَن الْإِعْلَام بحلول الْعقَاب وَكَذَلِكَ النَّهْي وَأما الِاسْتِفْهَام فَإِنَّهُ أَيْضا إِعْلَام مَخْصُوص فَيرجع حَاصِل جَمِيع الْأَقْسَام إِلَى الْإِخْبَار وكما لَا يمْتَنع أَن يكون الْعلم الْوَاحِد علما بالأشياء الْكَثِيرَة فَكَذَلِك لَا يمْتَنع أَن يكون الْخَبَر الْوَاحِد خَبرا عَن الْأَشْيَاء الْكَثِيرَة الْمَسْأَلَة التَّاسِعَة عشرَة أَنه تَعَالَى بَاقٍ لذاته خلافًا للأشعري لنا أَنه وَاجِب الْوُجُود لذاته وَالْوَاجِب لذاته يمْتَنع أَن يكون وَاجِبا لغيره فَيمْتَنع كَونه بَاقِيا بِالْبَقَاءِ وَأَيْضًا لَو كَانَ بَاقِيا بِالْبَقَاءِ لَكَانَ كَون بَقَائِهِ

المسألة العشرون أعلم أنه لا يلزم من عدم الدليل على الشيء المدلول ألا ترى أن في الأزل لم يوجد ما يدل على وجود الله تعالى فلو لزم من عدم الدليل عدم المدلول لزم الحكم بكون الله تعالى حادثا وهذا محال

بَقَاؤُهُ إِن كَانَ لبَقَاء آخر لزم التسلسل وَإِن كَانَ لبَقَاء الذَّات لزم الدّور وَإِن كَانَ لنَفسِهِ فَحِينَئِذٍ يكون الْبَقَاء بَاقِيا لنَفسِهِ والذات بَاقِيَة بِبَقَاء الْبَقَاء فَكَانَ الْبَقَاء وَاجِب الْوُجُود لذاته والذات وَاجِبَة الْوُجُود لغيره فَحِينَئِذٍ تنْقَلب الذَّات صفة وَالصّفة ذاتا وَهُوَ محَال الْمَسْأَلَة الْعشْرُونَ أعلم أَنه لَا يلْزم من عدم الدَّلِيل على الشَّيْء الْمَدْلُول أَلا ترى أَن فِي الْأَزَل لم يُوجد مَا يدل على وجود الله تَعَالَى فَلَو لزم من عدم الدَّلِيل عدم الْمَدْلُول لزم الحكم بِكَوْن الله تَعَالَى حَادِثا وَهَذَا محَال إِذا ثَبت هَذَا فَنَقُول هَذِه الصِّفَات الَّتِي عرفناها وَجب الْإِقْرَار بهَا فَأَما إِثْبَات الْحصْر فَلم يدل عَلَيْهِ فَوَجَبَ التَّوَقُّف فِيهِ وَصفَة الْجلَال ونعوت الْكَمَال أعظم من أَن تحيط بهَا عقول الْبشر

4 - الْبَاب الْخَامِس فِي بَقِيَّة الْكَلَام فِي الصِّفَات وَفِيه مسَائِل

المسألة الأولى اتفق أهل السنة على أن الله تعالى يصح أن يرى وأنكرت الفلاسفة والمعتزلة والكرامية والمجسمة ذلك

الْمَسْأَلَة الأولى اتّفق أهل السّنة على أَن الله تَعَالَى يَصح أَن يرى وَأنْكرت الفلاسفة والمعتزلة والكرامية والمجسمة ذَلِك أما إِنْكَار الفلاسفة والمعتزلة فَظَاهر وَأما إِنْكَار الكرامية والحنابلة فلأنهم أطبقوا على أَنه تَعَالَى لَو لم يكن جسما وَفِي مَكَان لامتنعت رُؤْيَته وأهم الْمُهِمَّات تعْيين مَحل النزاع فَنَقُول الإدراكات ثَلَاث مَرَاتِب أَحدهَا وَهُوَ أضعفها معرفَة الشَّيْء لَا بِحَسب ذَاته بل بِوَاسِطَة آثاره كَمَا يتعرف من وجود الْبناء أَن هَهُنَا بانيا وَمن وجود النقش أَن هَهُنَا نقاشا وَثَانِيها وَهُوَ أوسطها أَن نَعْرِف الشَّيْء بِحَسب ذَاته الْمَخْصُوصَة كَمَا إِذا عرفنَا السوَاد من حَيْثُ هُوَ سَواد وَالْبَيَاض من حَيْثُ هُوَ بَيَاض وَثَالِثهَا وَهُوَ أكملها كَمَا إِذا أبصرنا بِالْعينِ السوَاد وَالْبَيَاض فَإِن بديهة الْعقل جازمة بِأَن هَذِه الْمرتبَة فِي الْكَشْف والجلاء أكمل من الْمرتبَة الْمُتَقَدّمَة

إِذا عرفت هَذَا فَنَقُول أطبق أهل الْعلم على أَنه يُمكن معرفَة الله تَعَالَى بِالْوَجْهِ الأول وَهل يُمكن مَعْرفَته بِالْوَجْهِ الثَّانِي فِيهِ اخْتِلَاف وَهل يُمكن مَعْرفَته بِالْوَجْهِ الثَّالِث بِمَعْنى أَنه هَل يُمكن أَن يحصل للبشر نوع إِدْرَاك نسبته إِلَى ذَات الله تَعَالَى كنسبة الإبصار إِلَى المبصرات فِي قُوَّة الظُّهُور والجلاء هَذَا هُوَ المُرَاد من قَوْلنَا إِنَّه تصح رُؤْيَة الله تَعَالَى أم لَا عِنْد هَذَا يظْهر أَن من قَالَ الْعلم الضَّرُورِيّ حَاصِل بامتناعه فَهُوَ جَاهِل مكابر وَاحْتج الْجُمْهُور من الْأَصْحَاب بِأَن قَالُوا لَا شكّ أَنا نرى الطَّوِيل والعريض وَلَا معنى للطويل والعريض إِلَّا جَوَاهِر متألفة فِي سمت مَخْصُوص وَذَلِكَ يدل على أَن الْجَوَاهِر مرئية وَلَا نزاع أَيْضا أَن الألوان مرئية فَثَبت أَن صِحَة الرُّؤْيَة حكم مُشْتَرك فِيهِ بَين الْجَوَاهِر والأعراض وَالْحكم الْمُشْتَرك فِيهِ لَا بُد لَهُ من عِلّة مُشْتَركَة فِيهَا والمشترك بَين الْجَوْهَر وَالْعرض إِمَّا الْحُدُوث أَو الْوُجُود والحدوث لَا يصلح للعلية لِأَن الْحُدُوث عبارَة عَن وجود بعد عدم والقيد العدمي لَا يصلح للعلية فَوَجَبَ أَن تكون الْعلَّة هِيَ الْوُجُود وَالله تَعَالَى مَوْجُود فَوَجَبَ القَوْل بِصِحَّة رُؤْيَته وَهَذَا عِنْدِي ضَعِيف لِأَنَّهُ يُقَال الْجَوْهَر وَالْعرض مخلوقان فصحة المخلوقية حكم مُشْتَرك بَينهمَا فَلَا بُد من عِلّة مُشْتَركَة والمشترك إِمَّا الْحُدُوث وَإِمَّا الْوُجُود والحدوث بَاطِل بِمَا ذكرتموه فَبَقيَ الْوُجُود فَوَجَبَ أَن يَصح كَونه تَعَالَى مخلوقا وكما أَن هَذَا بَاطِل فَكَذَلِك مَا ذكرتموه بَاطِل وَأَيْضًا فَإنَّا ندرك باللمس الطَّوِيل والعريض وندرك الْحَرَارَة والبرودة فصحة الملموسية حكم مُشْتَرك ونسوق الْكَلَام إِلَى آخِره حَتَّى يلْزم صِحَة كَونه تَعَالَى ملموسا والتزامه مَدْفُوع فِي بديهة الْعقل وَالْمُخْتَار عندنَا أَن نقُول الدَّلَائِل السمعية دَالَّة على حُصُول الرُّؤْيَة وشبهات الْمُعْتَزلَة فِي امْتنَاع الرُّؤْيَة بَاطِلَة فَوَجَبَ علينا الْبَقَاء على تِلْكَ الظَّوَاهِر أما بَيَان الدَّلَائِل السمعية فَمن وُجُوه

أَحدهَا قَوْله تَعَالَى {وُجُوه يَوْمئِذٍ ناضرة إِلَى رَبهَا ناظرة} فَنَقُول النّظر إِمَّا أَن يكون عبارَة عَن الرُّؤْيَة أَو عَن تقليب الحدقة نَحْو المرئي التماسا لرُؤْيَته وَالْأول هُوَ الْمَقْصُود وَالثَّانِي يُوجب الِامْتِنَاع عَن إجرائه على ظَاهره لِأَن ذَلِك إِنَّمَا يَصح فِي المرئي الَّذِي يكون لَهُ جِهَة فَوَجَبَ حمله على لَازمه وَهُوَ الرُّؤْيَة لِأَن من لَوَازِم تقليب الحدقة إِلَى سمت جِهَة المرئي حُصُول الرُّؤْيَة وَإِطْلَاق اسْم السَّبَب لإِرَادَة الْمُسَبّب جَائِز وَقَوْلهمْ يضمر فِيهِ إِلَى ثَوَاب رَبهَا خطأ لِأَن زِيَادَة الْإِضْمَار من غير حَاجَة لَا يجوز الثَّانِي قَوْله تَعَالَى {للَّذين أَحْسنُوا الْحسنى وَزِيَادَة} نقل عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ الزِّيَادَة هِيَ النّظر إِلَى الله وَالثَّالِث قَوْله تَعَالَى الَّذين يظنون أَنهم ملاقوا رَبهم وَقَوله تَعَالَى {أُولَئِكَ الَّذين كفرُوا بآيَات رَبهم ولقائه} وَقَوله {فَمن كَانَ يَرْجُو لِقَاء ربه} وَقَوله {بل هم بلقاء رَبهم كافرون} وَقَوله {تحيتهم يَوْم يلقونه} واللقاء عبارَة عَن الْوُصُول وَهَذَا فِي حق الله تَعَالَى محَال إِلَّا أَن من رأى شَيْئا فَكَانَ بَصَره لقِيه وَوصل إِلَيْهِ فَوَجَبَ حمل اللَّفْظ عَلَيْهِ الرَّابِع قَوْله تَعَالَى كلا إِنَّهُم عَن ربيهم يَوْمئِذٍ لمحجوبون وَتَخْصِيص الْكفَّار بِهَذَا الْحجب يدل على أَن الْمُؤمنِينَ لَا يكونُونَ محجوبين الْخَامِس قَوْله تَعَالَى {وَإِذا رَأَيْت ثمَّ رَأَيْت نعيما وملكا كَبِيرا} وَالْملك الْكَبِير هُوَ الله تَعَالَى وَذَلِكَ يدل على أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يرى ربه يَوْم الْقِيَامَة السَّادِس قَوْله تَعَالَى حِكَايَة عَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام {رب أَرِنِي أنظر إِلَيْك} وَلَو كَانَت الرُّؤْيَة ممتنعة على الله تَعَالَى لَكَانَ مُوسَى جَاهِلا بِاللَّه تَعَالَى

السَّابِع قَوْله تَعَالَى {فَإِن اسْتَقر مَكَانَهُ فَسَوف تراني} علق الرُّؤْيَة على اسْتِقْرَار الْجَبَل وَهَذَا الشَّرْط مُمكن وَالْمُعَلّق بالممكن مُمكن الثَّامِن قَوْله تَعَالَى {فَلَمَّا تجلى ربه للجبل} والتجلي هُوَ الرُّؤْيَة وَذَلِكَ لِأَن الله تَعَالَى خلق فِي الْجَبَل حَيَاة وسمعا وبصرا وعقلا وفهما وَخلق فِيهِ رُؤْيَة رأى الله بهَا التَّاسِع قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (إِنَّكُم سَتَرَوْنَ ربكُم كَمَا ترَوْنَ الْقَمَر لَيْلَة الْبَدْر) وَالْمَقْصُود من هَذَا التَّشْبِيه تَشْبِيه الرُّؤْيَة بِالرُّؤْيَةِ لَا تَشْبِيه المرئي بالمرئي الْعَاشِر أَن الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم اخْتلفُوا فِي أَن مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رأى ربه أم لَا وَاخْتِلَافهمْ فِي الْوُقُوع يدل ظَاهرا على اتِّفَاقهم على الصِّحَّة أما الْمُعْتَزلَة فقد ذكرُوا وُجُوهًا الأول قَوْله تَعَالَى {لَا تُدْرِكهُ الْأَبْصَار} والرؤية إِدْرَاك فنفي الْإِدْرَاك يُوجب نفي الرُّؤْيَة وَالثَّانِي وَهُوَ أَن الله تَعَالَى تمدح بِنَفْي الْإِدْرَاك وكل مَا عَدمه مدح كَانَ وجوده نقصا وَالنَّقْص على الله تَعَالَى محَال وَالثَّالِث قَوْله تَعَالَى {لن تراني} وَلنْ نفيد التأييد فَوَجَبَ أَن يُقَال إِن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام لَا يرى الله تَعَالَى الْبَتَّةَ وكل من قَالَ إِن مُوسَى لَا يرى الله تَعَالَى الْبَتَّةَ قَالَ إِن غَيره لَا يرَاهُ أَيْضا وَالرَّابِع قَالُوا إِنَّه مَتى حصلت هَذِه الشَّرَائِط الثَّمَانِية وَجب الرُّؤْيَة أَحدهَا سَلامَة الحاسة وَثَانِيها كَون الشَّيْء بِحَيْثُ لَا يمْتَنع رُؤْيَته وَثَالِثهَا عدم الْقرب الْقَرِيب وَرَابِعهَا عدم الْبعد الْبعيد وخامسها عدم اللطافة وسادسها عدم الصغر وسابعها عدم الْحجاب وثامنها حُصُول الْمُقَابلَة وَالدَّلِيل على وجوب الرُّؤْيَة عِنْد حُصُول هَذَا

الشَّرَائِط الثَّمَانِية أَنه لَو لم تجب الرُّؤْيَة عِنْد حُصُولهَا لجَاز أَن يكون بحضرتنا جبال وشموس وأقمار وَنحن لَا نرَاهَا وَذَلِكَ جَهَالَة عَظِيمَة فَثَبت وجوب الرُّؤْيَة عِنْد حُصُول هَذِه الشَّرَائِط الثَّمَانِية إِذا ثَبت هَذَا فَنَقُول أما الشَّرَائِط السِّتَّة الْأَخِيرَة فَهِيَ لَا تعقل إِلَّا فِي حق الْأَجْسَام وَالله تَعَالَى لَيْسَ بجسم فَيمْتَنع كَونهَا شَرَائِط فِي رُؤْيَة الله تَعَالَى فَبَقيَ أَن يُقَال الشَّرْط الْمُعْتَبر فِي حُصُول رُؤْيَة الله تَعَالَى لَيْسَ إِلَّا سَلامَة الحاسة وَكَون الشَّيْء بِحَيْثُ يَصح أَن يرى وهما حاصلان فِي الْحَال فَكَانَ يجب أَن نرَاهُ فِي الْحَال وَحَيْثُ لن نره فِي الْحَال علمنَا أَن ذَلِك لِأَنَّهُ تمْتَنع رُؤْيَته لذاته وَالْعلم بِهِ ضَرُورِيّ الْخَامِس قَوْلهم إِنَّه تَعَالَى لَيْسَ بجسم مُقَابل للرائي وَلَا فِي حكم الْمُقَابل لَهُ فَوَجَبَ أَن تمْتَنع رُؤْيَته وَالْعلم بِهِ ضَرُورِيّ وَالْجَوَاب عَن التَّمَسُّك بقوله تَعَالَى {لَا تُدْرِكهُ الْأَبْصَار} من وَجْهَيْن الأول أَن لفظ الْأَبْصَار صِيغَة جمع وَهِي تفِيد الْعُمُوم فسلبه يُفِيد سلب الْعُمُوم وَذَلِكَ لَا يُفِيد عُمُوم السَّلب لِأَن نقيض الْمُوجبَة الْكُلية هُوَ السالبة الْجُزْئِيَّة لَا السالبة الْكُلية الثَّانِي إِن الْإِدْرَاك عبارَة عَن إبصار جوانبه وأطرافه وَهَذَا فِي حق الله تَعَالَى محَال وَنفي الإبصار الْخَاص لَا يُوجب نفي أصل الإبصار وَالْجَوَاب عَن قَوْلهم تمدح بِعَدَمِ الإبصار فَكَانَ وجوده نقصا وَالنَّقْص على الله محَال أَن نقُول إِنَّه تَعَالَى تمدح بِكَوْنِهِ قَادِرًا على حجب الْأَبْصَار عَن رُؤْيَته فَكَانَ سلب هَذِه الْقُدْرَة نقصا ثمَّ نقُول هَذِه الْآيَة تدل على إِثْبَات صِحَة الرُّؤْيَة من وَجْهَيْن

أَحدهمَا أَنه تَعَالَى لَو كَانَ بِحَيْثُ تمْتَنع رُؤْيَته لذاته لما حصل التمدح بِنَفْي هَذِه الرُّؤْيَة بِدَلِيل أَن المعدومات لَا تصح رؤيتها وَلَيْسَ لَهَا صفة مدح بِهَذَا السَّبَب أما إِذا كَانَ الله تَعَالَى بِحَيْثُ يَصح أَن يرى ثمَّ إِنَّه قَادر على حجب جَمِيع الْأَبْصَار عَن رُؤْيَته كَانَ هَذَا صفة مدح الثَّانِي أَنه تَعَالَى نفى أَن ترَاهُ جَمِيع الْأَبْصَار وَهَذَا يدل بطرِيق الْمَفْهُوم على أَنه يرَاهُ بعض الْأَبْصَار كَمَا أَنه إِذا قيل إِن قرب السُّلْطَان لَا يصل إِلَيْهِ كل النَّاس فَإِنَّهُ يُفِيد أَن بَعضهم يصل إِلَيْهِ وَالله أعلم وَالْجَوَاب عَن التَّمَسُّك بقوله {لن تراني} أَن هَذَا أَيْضا يدل على كَونه تَعَالَى جَائِزا مِنْهُ الرُّؤْيَة لِأَنَّهُ لَو كَانَ مُمْتَنع الرُّؤْيَة لقَالَ إِنَّه لَا يَصح رؤيتي أَلا ترى أَن من كَانَ فِي كمه حجر فَظَنهُ بَعضهم طَعَاما فَقَالَ لَهُ أَعْطِنِي هَذَا لآكله كَانَ الْجَواب الصَّحِيح أَن يُقَال هَذَا لَا يُؤْكَل أما إِذا كَانَ ذَلِك الشَّيْء طَعَاما يَصح أكله فَحِينَئِذٍ يَصح أَن يَقُول الْمُجيب إِنَّك لن تَأْكُله وَالْجَوَاب عَن قَوْلهم لَو صحت رُؤْيَته لرأيناه أَنا لَا نسلم أَن رُؤْيَة المحدثات وَاجِبَة الْحُصُول عِنْد حُصُول هَذِه الشَّرَائِط فَلم قُلْتُمْ إِن رُؤْيَة الله تَعَالَى وَاجِبَة الْحُصُول عِنْدهَا لِأَن رُؤْيَته تَعَالَى بِتَقْدِير حُصُولهَا مُخَالفَة لرؤية المحدثات وَلَا يلْزم من حُصُول حكم فِي شَيْء حُصُوله فِيمَا يُخَالِفهُ وَالْجَوَاب عَن قَوْلهم لَو كَانَ مرئيا لوَجَبَ كَونه مُقَابلا للرائي هُوَ أَنكُمْ إِن ادعيتم فِيهِ الضَّرُورَة فَهُوَ بَاطِل لأَنا فسرنا الرُّؤْيَة بِشَيْء يمْتَنع ادِّعَاء البديهة فِي امْتِنَاعه وَإِن ادعيتم الدَّلِيل فاذكروه

المسألة الثانية في أنه ليس عند البشر معرفة كنه الله تعالى

الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة فِي أَنه لَيْسَ عِنْد الْبشر معرفَة كنه الله تَعَالَى وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن الْمَعْلُوم عِنْد الْبشر أحد أُمُور أَرْبَعَة إِمَّا الْوُجُود وَإِمَّا كيفيات الْوُجُود وَهِي الأزلية والأبدية وَالْوُجُوب وَإِمَّا السلوب وَهِي أَنه لَيْسَ بجسم وَلَا جَوْهَر وَلَا عرض وَإِمَّا الإضافات وَهِي العالمية والقادرية والذات الْمَخْصُوصَة الموصوفة بِهَذِهِ الصِّفَات المفهومات مُغَايرَة لَهَا لَا محَالة وَلَيْسَ عندنَا من تِلْكَ الذَّات الْمَخْصُوصَة إِلَّا أَنَّهَا ذَات لَا يدْرِي مَا هِيَ إِلَّا أَنَّهَا مَوْصُوفَة بِهَذِهِ الصِّفَات وَهَذَا يدل على أَن حَقِيقَته الْمَخْصُوصَة غير مَعْلُومَة الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة فِي بَيَان أَن إِلَه الْعَالم وَاحِد اعْلَم أَن الْعلم بِصِحَّة النُّبُوَّة لَا يتَوَقَّف على الْعلم بِكَوْن الْإِلَه وَاحِدًا فَلَا جرم إِمْكَان إِثْبَات الوحدانية بالدلائل السمعية وَإِذا ثَبت هَذَا فَنَقُول إِن جَمِيع الْكتب الإلهية ناطقة بِالتَّوْحِيدِ فَوَجَبَ أَن يكون التَّوْحِيد حَقًا الْحجَّة الثَّانِيَة هُوَ أَنا لَو قَدرنَا إِلَهَيْنِ لَكَانَ أَحدهمَا إِذا انْفَرد صَحَّ تَحْرِيك الْجِسْم مِنْهُ وَلَو انْفَرد الثَّانِي يَصح مِنْهُ تكسينه فَإِذا اجْتمعَا وَجب أَن يبقيا على مَا كَانَا عَلَيْهِ حَال الِانْفِرَاد فَعِنْدَ الِاجْتِمَاع يَصح أَن يحاول أَحدهمَا التحريك وَالثَّانِي التسكين فإمَّا أَن يحصل المرادان وَهُوَ محَال وَإِمَّا أَن يمتنعا وَهُوَ أَيْضا محَال لِأَنَّهُ يكون كل وَاحِد مِنْهُمَا عَاجِزا وَأَيْضًا الْمَانِع من كل وَاحِد من تَحْصِيل مُرَاده حُصُول مُرَاد الآخر والمعلول لَا يحصل لَا مَعَ علته فَلَو امْتنع المرادان لحصلا وَذَلِكَ محَال وَأما أَن يمْتَنع أَحدهمَا دون الثَّانِي وَذَلِكَ أَيْضا محَال لِأَن الْمَمْنُوع يكون عَاجِزا وَالْعَاجِز

لَا يكون إِلَهًا وَلِأَنَّهُ لما كَانَ كل وَاحِد مِنْهُمَا مُسْتقِلّا بالإيجاد لم يكن عجز أَحدهمَا أولى من عجز الآخر فَثَبت أَن القَوْل بِوُجُود إِلَهَيْنِ يُوجب هَذِه الْأَقْسَام الْفَاسِدَة فَكَانَ القَوْل بِهِ بَاطِلا الْحجَّة الثَّالِثَة أَنا بَينا أَن الْإِلَه يجب أَن يكون قَادِرًا على جَمِيع الممكنات فَلَو فَرضنَا إِلَهَيْنِ لَكَانَ كل وَاحِد مِنْهُمَا قَادِرًا على جَمِيع الممكنات فَإِذا أَرَادَ كل وَاحِد مِنْهُمَا تَحْرِيك جسم فَتلك الْحَرَكَة إِمَّا أَن تقع بهما أَو لَا تقع بِوَاحِد مِنْهُمَا أَو تقع بِأَحَدِهِمَا دون الثَّانِي وَالْأول محَال لِأَن الْأَثر مَعَ الْمُؤثر المستقل وَاجِب الْحُصُول وَوُجُوب حُصُوله بِهِ يمْنَع من استناده إِلَى الثَّانِي إِذْ لَو اجْتمع على الْأَثر الْوَاحِد مؤثران مستقلان يلْزم أَن يَسْتَغْنِي بِكُل وَاحِد مِنْهُمَا عَن كل وَاحِد مِنْهُمَا فَيكون مُحْتَاجا إِلَيْهِمَا وغنيا عَنْهُمَا وَهُوَ محَال وَأما أَن لَا يَقع بِوَاحِد مِنْهُمَا الْبَتَّةَ فَهَذَا يَقْتَضِي كَونهمَا عاجزين وَأَيْضًا فامتناع وُقُوعه بِهَذَا إِنَّمَا يكون لأجل وُقُوعه بذلك وبالضد فَلَو امْتنع وُقُوعه بهما لوقع بهما مَعًا وَهُوَ محَال وَإِمَّا أَن يَقع بِوَاحِد دون الثَّانِي فَهُوَ أَيْضا محَال لِأَنَّهُمَا لما اسْتَويَا فِي صَلَاحِية الإيجاد كَانَ وُقُوعه بِأَحَدِهِمَا دون الثَّانِي تَرْجِيحا من غير مُرَجّح وَهُوَ محَال الْحجَّة الرَّابِعَة أَنَّهُمَا لَو اشْتَركَا فِي الْأُمُور الْمُعْتَبرَة فِي الألهية فإمَّا أَن لَا يمتاز أَحدهمَا عَن الآخر فِي أَمر من الْأُمُور وَإِمَّا أَن لَا يحصل هَذَا الامتياز فَإِن كَانَ الثَّانِي فقد بَطل التَّعَدُّد وَأما الأول فَبَاطِل لوَجْهَيْنِ أَحدهمَا أَنَّهُمَا لَو اشْتَركَا فِي الألهية وَاخْتلفَا فِي أَمر آخر وَمَا بِهِ الْمُشَاركَة غير مَا بِهِ الممايزة فَكل وَاحِد مِنْهُمَا مركب وكل مركب مُمكن وكل مُمكن مُحدث فالإلهان محدثان هَذَا خلف وَالثَّانِي هُوَ أَن مَا بِهِ حصل الامتياز إِمَّا أَن يكون مُعْتَبرا فِي الألهية أَو لَا يكون فَإِن كَانَ الأول كَانَ عدم الِاشْتِرَاك فِيهِ يُوجب عدم الِاشْتِرَاك فِي الألهية وَإِن كَانَ الثَّانِي كَانَ ذَلِك فضلا زَائِدا على الْأَحْوَال الْمُعْتَبرَة فِي الألهية وَذَلِكَ صفة نقص وَهُوَ على الله محَال

المسألة الرابعة القائلون بالشرك طوائف

الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة الْقَائِلُونَ بالشرك طوائف الطَّائِفَة الأولى عَبدة الْأَوْثَان والأصنام وَلَهُم تأويلات أَحدهَا أَن النَّاس كَانُوا فِي قديم الدَّهْر عَبدة الْكَوَاكِب ثمَّ اتَّخذُوا لكل كَوْكَب صنما ومثالا وَاشْتَغلُوا بعبادتها وَكَانَت نيتهم تَوْجِيه تِلْكَ الْعِبَادَات إِلَى الْكَوَاكِب وَلِهَذَا السَّبَب لما حكى الله عز وَجل عَن الْخَلِيل عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ لِأَبِيهِ آزر {أتتخذ أصناما آلِهَة إِنِّي أَرَاك وقومك فِي ضلال مُبين} ثمَّ ذكر عقيب هَذَا الْكَلَام مناظرة إِبْرَاهِيم مَعَ الْقَوْم فِي إلهية الْكَوَاكِب وَثَانِيها أَن الْغَالِب على أهل الْعَالم دين التَّشْبِيه وَمذهب المجسمة وَالْقَوْم كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَن الْإِلَه الْأَعْظَم نور فِي غَايَة العظمة وَالْإِشْرَاق وَأَن الْمَلَائِكَة أنوار مُخْتَلفَة بالصغر وَالْكبر فَلَا جرم أَنهم اتَّخذُوا الصَّنَم الْأَعْظَم وبالغوا فِي تَحْسِين تركيبه باليواقيت والجواهر على اعْتِقَاد أَنه على صُورَة الله وَاتَّخذُوا سَائِر الْأَصْنَام على صور مُخْتَلفَة فِي الصغر وَالْكبر على اعْتِقَاد أَنَّهَا صور الْمَلَائِكَة فعلى هَذَا التَّقْدِير عَبدة الْأَصْنَام تلامذة المشبهة وَثَالِثهَا أَن من النَّاس من قَالَ إِن الْبشر لَيْسَ لَهُم أَهْلِيَّة عبَادَة الْإِلَه الْأَعْظَم وَإِنَّمَا الْغَايَة القصوى اشْتِغَال الْبشر بِعبَادة ملك من الْمَلَائِكَة ثمَّ إِن الْمَلَائِكَة يعْبدُونَ الْإِلَه الْأَعْظَم ثمَّ إِن كل إِنْسَان اتخذ صنما على اعْتِقَاد كَونه مِثَالا لذَلِك الْملك الَّذِي يدبر تِلْكَ الْبَلدة واشتغل بِعِبَادَتِهِ وَرَابِعهَا أَن المنجمين كَانُوا يرصدون الْأَوْقَات الصَّالِحَة للطلسمات النافعة فِي الْأَفْعَال الْمَخْصُوصَة فَإِذا وجدوا ذَلِك الْوَقْت عمِلُوا لَهُ صنما ويعظمونه ويرجعون إِلَيْهِ فِي طلب الْمَنَافِع كَمَا يرجعُونَ إِلَى الطلسمات المعمولة فِي كل بَاب وَاعْلَم أَنه لَا خلاص عَن هَذِه الْأَبْوَاب إِلَّا إِذا اعتقدنا أَنه لَا مُؤثر وَلَا مُدبر إِلَّا الْوَاحِد القهار وَالله أعلم بِالصَّوَابِ

الْبَاب السَّادِس فِي الْجَبْر وَالْقدر وَمَا يتَعَلَّق بهما من المباحث وَفِيه مسَائِل

المسألة الأولى المختار عندنا أن عند حصول القدرة والداعية المخصوصة يجب الفعل وعلى هذا التقدير يكون العبد فاعلا على سبيل الحقيقة ومع ذلك فتكون الأفعال بأسرها واقعة بقضاء الله تعالى وقدره

الْمَسْأَلَة الأولى الْمُخْتَار عندنَا أَن عِنْد حُصُول الْقُدْرَة والداعية الْمَخْصُوصَة يجب الْفِعْل وعَلى هَذَا التَّقْدِير يكون العَبْد فَاعِلا على سَبِيل الْحَقِيقَة وَمَعَ ذَلِك فَتكون الْأَفْعَال بأسرها وَاقعَة بِقَضَاء الله تَعَالَى وَقدره وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن الْقُدْرَة الصَّالِحَة للْفِعْل إِمَّا أَن تكون صَالِحَة للترك أَو لَا تكون فَإِن لم تصلح للترك كَانَ خَالق تِلْكَ الْقُدْرَة خَالِقًا لصفة مُوجبَة لذَلِك الْفِعْل وَلَا نُرِيد بِوُقُوعِهِ بِقَضَاء الله إِلَّا هَذَا وَأما إِن كَانَت الْقُدْرَة صَالِحَة للْفِعْل وللترك فإمَّا أَن يتَوَقَّف رُجْحَان أحد الطَّرفَيْنِ على الآخر على مُرَجّح أَو لَا يتَوَقَّف فَإِن توقف على ترجح فَذَلِك الْمُرَجح إِمَّا أَن يكون من الله أَو من العَبْد أَو يحدث لَا بمؤثر فَإِن كَانَ الأول فَعِنْدَ حُصُول تِلْكَ الداعية يجب الْفِعْل وَعند عَدمه يمْتَنع الْفِعْل وَهُوَ الْمَطْلُوب وَإِن كَانَ من العَبْد عَاد التَّقْسِيم الأول وَيحْتَاج خلق تِلْكَ الداعية إِلَى دَاعِيَة أُخْرَى وَلزِمَ التسلسل وَأما إِن حدثت تِلْكَ الداعية لَا بمحدث أَو نقُول إِنَّه تَرْجِيح أحد الْجَانِبَيْنِ على الآخر لَا لمرجح أصلا كَانَ هَذَا قولا باستغناء الْمُحدث عَن الْمُحدث اسْتغْنَاء الْمُمكن عَن الْمُؤثر وَذَلِكَ يُوجب نفي الصَّانِع

فَإِن قَالُوا لم لَا يجوز أَن يُقَال عِنْد حُدُوث الداعية يصير الْفِعْل أولى بالوقوع وَلَا يَنْتَهِي إِلَّا حد الْوُجُوب قُلْنَا هَذَا بَاطِل لوجوه أَحدهَا أَن الْمَرْجُوح أَضْعَف حَالا من الْمسَاوِي فَلَمَّا امْتنع حُصُول الْمسَاوِي حَال كَونه مُسَاوِيا فبأن يمْتَنع حُصُول الْمَرْجُوح حَال كَونه مرجوحا أولى وَإِذا امْتنع حُصُول الْمَرْجُوح وَجب حُصُول الرَّاجِح لِامْتِنَاع الْخُرُوج عَن النقيضين وَالثَّانِي أَن عِنْد حُصُول الدَّاعِي إِلَى أحد الْجَانِبَيْنِ لَو حصل الطّرف الثَّانِي لَكَانَ قد حصل ذَلِك الطّرف لَا لمرجح أصلا وَهَذَا الْقَائِل قد سلم أَن التَّرْجِيح لَا بُد فِيهِ من الْمُرَجح وَالثَّالِث أَن عِنْد حُصُول ذَلِك الْمُرَجح إِن امْتنع النقيض فَهُوَ الْوُجُوب وَإِن لم يتمنع فَكل مَالا يمْتَنع لم يلْزم من فرض وُقُوعه محَال فلنفرض مَعَ حُصُول ذَلِك الْمُرَجح تَارَة ذَلِك الْأَثر وَاقعا وَتارَة غير وَاقع فاختصاص أحد الْوَقْتَيْنِ دون الثَّانِي بالوقوع إِن توقف على انضمام قيد زَائِد إِلَيْهِ لزم أَن يُقَال إِن حُصُول الرجحان كَانَ مَوْقُوفا على هَذَا الْقَيْد الزَّائِد لَكنا فَرضنَا أَن الْحَاصِل قبل هَذَا الزَّائِد كَانَ كَافِيا فِي حُصُول الرجحان وَإِن لم يتَوَقَّف على انضمام قيد زَائِد إِلَيْهِ لزم رُجْحَان الْمُمكن المتساوي لَا الْمُرَجح وَهُوَ محَال إِذا عرفت هَذَا فَنَقُول إِنَّا لما اعترفنا بِأَن الْفِعْل وَاجِب الْحُصُول عِنْد مَجْمُوع الْقُدْرَة والداعي فقد اعترفنا بِكَوْن العَبْد فَاعِلا وجاعلا فَلَا يلْزمنَا مُخَالفَة ظَاهر الْقُرْآن وَسَائِر كتب الله تَعَالَى وَإِذا قُلْنَا بِأَن الْمُؤثر فِي الْفِعْل مَجْمُوع الْقُدْرَة والداعي مَعَ أَن هَذَا الْمَجْمُوع حصل بِخلق الله تَعَالَى فقد قُلْنَا بِأَن الْكل بِقَضَاء الله تَعَالَى وَقدره فَهَذَا هُوَ الْمُخْتَار

وَأما الْخصم فَإِنَّهُ قَالَ الْعلم بِكَوْن العَبْد موجدا لأفعاله ضَرُورِيّ وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن الْعلم بِحسن الْمَدْح والذم عَلَيْهِ علم ضَرُورِيّ وَالْعلم الضَّرُورِيّ حَاصِل بِأَن حسن الْمَدْح والذم يتَوَقَّف على كَون الممدوح والمذموم فَاعِلا وَمَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ الْعلم الضَّرُورِيّ أولى بِأَن يكون ضَرُورِيًّا فَهَذِهِ مُقَدمَات ثَلَاث فأولها أَن الْعلم الضَّرُورِيّ حَاصِل بِحسن الْمَدْح والذم وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن كل من أَسَاءَ إِلَيْنَا فَإنَّا نجد من أَنْفُسنَا وجدانا ضَرُورِيًّا أَنا نذمه وَمن أحسن إِلَيْنَا فَإنَّا نجد من أَنْفُسنَا وجدانا ضَرُورِيًّا بِأَنا نمدحه وَمن نَازع فِي هَذَا فقد نَازع فِي أظهر الْعُلُوم الضرورية وَثَانِيها إِن الْعلم الضَّرُورِيّ حَاصِل بِأَن حسن الْمَدْح والذم يتَوَقَّف على علم المادح والذام بِكَوْن الممدوح والمذموم فَاعِلا وَهَذَا أَيْضا ظَاهر لِأَن من رمى وَجه إِنْسَان بآجرة فَإِنَّهُ يذم الرَّامِي وَلَا يذم الآجرة فَإِذا قيل لذَلِك الذام لم تذم هَذَا الرَّامِي وَلَا تذم الآجرة فَإِنَّهُ يَقُول لِأَن ذَلِك الرَّامِي هُوَ الْفَاعِل لهَذَا الْفِعْل وَهَذِه الآجرة لم تفعل ذَلِك وَهَذَا يدل على أَن الْعلم الضَّرُورِيّ حَاصِل بِأَنَّهُ لَا يحسن الْمَدْح والذم إِلَّا عِنْد كَون الممدوح والمذموم فَاعِلا وَثَالِثهَا أَن الَّذِي يتَوَقَّف عَلَيْهِ الْعلم الضَّرُورِيّ يجب أَن يكون ضَرُورِيًّا وَهَذَا أَيْضا ظَاهر لِأَن الْفَرْع أَضْعَف من الأَصْل فَلَو كَانَ الأَصْل غير ضَرُورِيّ لَكَانَ بِتَقْدِير وُقُوع الشَّك فِيهِ يجب وُقُوع الشَّك فِي الْفَرْع وَحِينَئِذٍ يخرج هَذَا الْفَرْع عَن كَونه ضَرُورِيًّا وَإِذا لاحت هَذِه الْمُقدمَات ظهر أَن الْعلم بِكَوْن العَبْد فَاعِلا علم ضَرُورِيّ مَوْقُوف على تَلْخِيص معنى كَون العَبْد فَاعِلا

المسألة الثانية في إثبات القدرة للعبد

فَنَقُول إِن عنيتم بِهِ أَن العَبْد قَادر على الْفِعْل وعَلى التّرْك وَأَن نِسْبَة قدرته إِلَى الطَّرفَيْنِ على السوية ثمَّ إِنَّه فِي حَال حُصُول هَذَا الاسْتوَاء دخل هَذَا الْفِعْل فِي الْوُجُود من غير أَن خص ذَلِك الْقَادِر ذَلِك الطّرف بمرجح وبمخصص الْبَتَّةَ فَلَا نسلم أَن هَذَا القَوْل صَحِيح بل كَانَ بديهة الْعقل تشهد بِبُطْلَانِهِ وَإِن عنيتم بِهِ أَن عِنْد حُصُول الداعية المرجحة صدر عَنهُ هَذَا الْأَثر فَهَذَا هُوَ قَوْلنَا ومذهبنا وَنحن لَا ننكره الْبَتَّةَ إِلَّا أَنا نقُول لما كَانَ عِنْد حُصُول الْقُدْرَة والداعية يجب الْفِعْل وَعند انتقائهما أَو انْتِفَاء أَحدهمَا يمْتَنع وَجب أَن يكون الْكل بِقَضَاء الله تَعَالَى وَهَذَا مِمَّا لَا سَبِيل إِلَى دَفعه فَهَذَا مُنْتَهى الْبَحْث الْعقلِيّ الضَّرُورِيّ فِي هَذَا الْبَاب الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة فِي إِثْبَات الْقُدْرَة للْعَبد اعْلَم أَنا نعلم بِالضَّرُورَةِ تَفْرِقَة بَين بدن الْإِنْسَان السَّلِيم عَن الْأَمْرَاض الْمَوْصُوف بِالصِّحَّةِ وَبَين الْمَرِيض الْعَاجِز وَالْمُخْتَار عندنَا أَن تِلْكَ التَّفْرِقَة عَائِدَة إِلَى سَلامَة البنية واعتدال المزاج وَأما أَبُو الْحسن الْأَشْعَرِيّ فَإِنَّهُ أثبت صفة سَمَّاهَا بِالْقُدْرَةِ مُغَايرَة لاعتدال المزاج وَاحْتج على إِثْبَات هَذِه الصّفة بِأَن قَالَ نَحن نَدْرِي تَفْرِقَة بَين الْإِنْسَان السَّلِيم الْأَعْضَاء وَبَين الزَّمن المقعد فِي أَنه يَصح الْفِعْل من الأول دون الثَّانِي وَتلك التَّفْرِقَة لَيست إِلَّا فِي حُصُول صفة للقادر دون الْعَاجِز وَتلك الصّفة هِيَ الْقُدْرَة فَيُقَال لَهُ أتدعي حُصُول هَذِه التَّفْرِقَة قبل حُصُول الْفِعْل أَو حَال حُصُول الْفِعْل وَالْأول بَاطِل لِأَن قبل حُصُول الْفِعْل لَا وجود للقدرة على الْفِعْل عنْدك فَإِن مذهبك أَن الِاسْتِطَاعَة مَعَ الْفِعْل لَا قبل الْفِعْل وعَلى هَذَا الْمَذْهَب فالتفرقة الْحَاصِلَة قبل الْفِعْل تمْتَنع أَن تكون لأجل الْقُدْرَة وَالثَّانِي

المسألة الثالثة قال أبو الحسن الأشعري الاستطاعة لا توجد إلا مع الفعل وقالت المعتزلة لا توجد إلا قبل الفعل

بَاطِل لِأَن حَال حُصُول الْفِعْل يمْتَنع مِنْهُ التّرْك وَإِلَّا لزم مِنْهُ اجْتِمَاع النقيضين وَهُوَ محَال وَأَيْضًا ندعي حُصُول هَذِه الْقُدْرَة عِنْد مَا يخلق الله الْفِعْل فِي العَبْد أَو عِنْد مَالا يخلقه فِيهِ وَالْأول محَال لِأَن عِنْد حُصُول الْفِعْل لَا يتَمَكَّن من تَركه وَالثَّانِي محَال لِأَن عِنْدَمَا لَا يخلق الله الْفِعْل فِي العَبْد لَا يتَمَكَّن للْعَبد من فعله فعلى جَمِيع الْأَحْوَال ادِّعَاء هَذِه التَّفْرِقَة على مذْهبه محَال سلمنَا حُصُول التَّفْرِقَة لَكِن لم لَا يجوز أَن يُقَال إِنَّه إِذا اجْتمع الْحَار مَعَ الْبَارِد انْكَسَرَ كل وَاحِد مِنْهُمَا بِالْآخرِ وَتحصل كَيْفيَّة متوسطة بَينهمَا معتدلة وَتلك الْكَيْفِيَّة هِيَ الْقُدْرَة وَالْحق عندنَا أَن الْعلم بِحُصُول هَذِه التَّفْرِقَة ضَرُورِيّ وَأَن تِلْكَ التَّفْرِقَة عَائِدَة إِلَى مَا ذَكرْنَاهُ من المزاج السَّلِيم وَأَن تِلْكَ الصلاحية مَتى انْضَمَّ إِلَيْهَا الداعية الجازمة صَار مجموعهما مُوجبا للْفِعْل الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة قَالَ أَبُو الْحسن الْأَشْعَرِيّ الِاسْتِطَاعَة لَا تُوجد إِلَّا مَعَ الْفِعْل وَقَالَت الْمُعْتَزلَة لَا تُوجد إِلَّا قبل الْفِعْل وَالْمُخْتَار عندنَا أَن الْقُدْرَة الَّتِي هِيَ عبارَة عَن سَلامَة الْأَعْضَاء وَعَن المزاج المعتدل فَإِنَّهَا حَاصِلَة قبل حُصُول الْفِعْل إِلَّا أَن هَذِه الْقُدْرَة لَا تَكْفِي فِي حُصُول الْفِعْل الْبَتَّةَ فَإِذا انضمت الداعية الجازمة إِلَيْهَا صَارَت تِلْكَ الْقُدْرَة مَعَ هَذِه الداعية الجازمة سَببا مقتضيا للْفِعْل الْمعِين ثمَّ إِن ذَلِك الْفِعْل يجب وُقُوعه مَعَ حُصُول ذَلِك الْمَجْمُوع لِأَن الْمُؤثر التَّام لَا يتَخَلَّف عَنهُ الْأَثر الْبَتَّةَ فَنَقُول قَول من يَقُول الِاسْتِطَاعَة قبل الْفِعْل صَحِيح من حَيْثُ إِن

المسألة الرابعة قال أبو الحسن الأشعري القدرة لا تصلح للضدين

ذَلِك المزاج المعتدل سَابق وَقَول من يَقُول الِاسْتِطَاعَة مَعَ الْفِعْل صَحِيح من حَيْثُ إِن عِنْد حُصُول مَجْمُوع الْقُدْرَة والداعي الَّذِي هُوَ الْمُؤثر التَّام يجب حُصُول الْفِعْل مَعَه الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة قَالَ أَبُو الْحسن الْأَشْعَرِيّ الْقُدْرَة لَا تصلح للضدين وَعِنْدِي إِن كَانَ المُرَاد من ذَلِك المزاج المعتدل وَتلك السَّلامَة الْحَاصِلَة فِي الْأَعْضَاء فَهِيَ صَالِحَة للْفِعْل وَالتّرْك وَالْعلم بِهِ ضَرُورِيّ وَإِن كَانَ المُرَاد مِنْهُ أَن الْقُدْرَة مَا لم تنضم إِلَيْهَا الداعية الجازمة المرجحة فَإِنَّهَا لَا تصير مصدرا لذَلِك الْأَثر وَإِن عِنْد حُصُول الْمَجْمُوع لَا تصلح للضدين فَهَذَا حق وَتَقْرِير الْكَلَام فِيهِ مَعْلُوم مِمَّا ذَكرْنَاهُ الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة قَالَ أَبُو الْحسن الْأَشْعَرِيّ الْعَجز صفة قَائِمَة بالعاجز تضَاد الْقُدْرَة وَعِنْدنَا أَن الْعَجز عبارَة عَن عدم الْقُدْرَة مِمَّن شَأْنه أَن يقدر على الْفِعْل وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أما مَتى تصورنا هَذَا الْعَدَم حكمنَا بِكَوْنِهِ عَاجِزا وَإِن لم نعقل فِيهِ أمرا آخر وَذَلِكَ يدل على أَنا لَا نعقل من الْعَجز إِلَّا هَذَا الْعَدَم الْمَسْأَلَة السَّادِسَة اتّفق المتكلمون على أَن الْقَادِر كَمَا يقدر على الْفِعْل يقدر على التّرْك لكِنهمْ اخْتلفُوا فِي تَفْسِير التّرْك فَقَالَ الْأَكْثَرُونَ ترك الْفِعْل عبارَة عَن أَن لَا يفعل شَيْئا وَيبقى الْأَمر على الْعَدَم الْأَصْلِيّ وَهَذَا فِيهِ إِشْكَال لِأَن الْقُدْرَة صفة مُؤثرَة والعدم عبارَة

المسألة السابعة قال أهل السنة لا يمتنع تكليف ما لا يطلق وقالت المعتزلة أنه لا يجوز

عَن نفي الْأَثر فَالْقَوْل بِكَوْن الْعَدَم أثرا للقدرة جمع بَين النقيضين وَهُوَ محَال وَلِأَن الْبَاقِي حَال بَقَائِهِ لَا يكون مَقْدُورًا لِأَن تكوين الْكَائِن محَال وَقَالَ الْبَاقُونَ التّرْك عبارَة عَن فعل الضِّدّ فعلى هَذَا التَّقْدِير الْقَادِر لَا يَخْلُو عَن فعل الشَّيْء وَعَن فعل ضِدّه فَقيل هَذَا يشكل من وَجْهَيْن الأول أَن من اسْتلْقى على قَفاهُ وَلم يعْمل شَيْئا أصلا فَإِنَّهُ يعلم بِالضَّرُورَةِ أَنه لم يفعل الْبَتَّةَ شَيْئا فَالْقَوْل بِأَنَّهُ فعل شَيْئا مُخَالفَة للضَّرُورَة وَالثَّانِي أَن الْبَارِي تَعَالَى كَانَ تَارِكًا لخلق الْعَالم فِي الْأَزَل فَيلْزم كَونه فَاعِلا فِي الْأَزَل لضد الْعَالم وَإِذا كَانَ ضد الْعَالم أزليا امْتنع زَوَاله فَكَانَ يجب أَن لَا يُوجد الْعَالم فِي الْأَزَل والأصوب أَن يُقَال الْعلم بِكَوْنِهِ إِلَه الْعَالم قَادِرًا على الْفِعْل وَالتّرْك علم ضَرُورِيّ وَالشَّكّ فِي هَذِه التفاصيل يُوجب الشَّك فِي تِلْكَ الْجُمْلَة الْمَسْأَلَة السَّابِعَة قَالَ أهل السّنة لَا يمْتَنع تَكْلِيف مَا لَا يُطلق وَقَالَت الْمُعْتَزلَة أَنه لَا يجوز حجَّة المثبتين وُجُوه أَحدهَا أَنه تَعَالَى علم من بعض الْكفَّار أَنه يَمُوت على كفره فَإِذا كلفه بِالْإِيمَان فقد كلفه بِفعل الْإِيمَان مُقَارنًا للْعلم بِعَدَمِ الْإِيمَان وَهَذَا تَكْلِيف بِالْجمعِ بَين الضدين الثَّانِي أَنه كلف أَبَا لَهب بِالْإِيمَان وَمن الْإِيمَان تَصْدِيق الله تَعَالَى فِي كل مَا أخبر عَنهُ وَمِمَّا أخبر عَنهُ أَنه لَا يُؤمن أبدا فَيلْزم أَنه تَعَالَى كلفه بِأَن يُؤمن بِأَن لَا يُؤمن وَهُوَ جمع بَين النقيضين

المسألة الثامنة نحن نعلم بالضرورة أن لنا محبوبا وأن لنا مبغوضا

الثَّالِث أَنا بَينا أَن الْقُدْرَة على الْكفْر والداعية إِلَيْهِ من خلق الله تَعَالَى ومجموعهما يُوجب الْكفْر فَإِذا كلفه بِالْإِيمَان فقد كلفه بِمَا لَا يُطَاق الْمَسْأَلَة الثَّامِنَة نَحن نعلم بِالضَّرُورَةِ أَن لنا محبوبا وَأَن لنا مبغوضا ثمَّ إِنَّه لَا يجب أَن يكون كل مَحْبُوب إِنَّمَا كَانَ محبوبا لإفضائه إِلَى شَيْء آخر وَأَن يكون كل مبغوض إِنَّمَا كَانَ مبغوضا لإفضائه إِلَى شَيْء آخر وَإِلَّا لزم إِمَّا الدّور وَإِمَّا التسلسل وهما باطلان فَوَجَبَ الْقطع بِوُجُود مَا يكون محبوبا لذاته لَا لغيره بِوُجُود مَا يكون مبغوضا لذاته لَا لغيره ثمَّ لما تأملنا علمنَا أَن المحبوب لذاته هُوَ اللَّذَّة وَالسُّرُور وَدفع الْأَلَم وَالْغَم وَأما مَا يغاير هَذِه الْأَشْيَاء فَإِنَّهُ يكون محبوبا لإفضائه إِلَى أحد هَذِه الْأَشْيَاء وَأما المبغوض لذاته فَهُوَ الْأَلَم وَالْغَم وَدفع اللَّذَّة وَالسُّرُور وَأما مَا يغاير هَذِه الْأَشْيَاء فَإِنَّهُ يكون مبغوضا لغيره إِذا عرفت هَذِه الْمُقدمَة فَاعْلَم أَن مَذْهَبنَا أَن الْحسن والقبح ثابتان فِي الشَّاهِد بِمُقْتَضى الْعقل وَأما فِي حق الله تَعَالَى فَهُوَ غير ثَابت الْبَتَّةَ أما بَيَان أَنه ثَابت بِمُقْتَضى الْعقل فِي الشَّاهِد فَيدل عَلَيْهِ وُجُوه أَحدهَا أَن اللَّذَّة وَالسُّرُور وَمَا يُفْضِي إِلَيْهِمَا أَو إِلَى أَحدهمَا مَحْكُوم عَلَيْهِ بالْحسنِ من هَذِه الْجِهَة بِمُقْتَضى بديهة الْعقل وَإِن الْأَلَم وَالْغَم وَمَا يُفْضِي إِلَيْهِمَا أَو إِلَى أَحدهمَا مَحْكُوم عَلَيْهِ بالقبح وَوُجُوب الدّفع من هَذِه الْجِهَة بِمُقْتَضى الْفطْرَة إِلَّا إِذا صَارَت هَذِه الْجِهَة مُعَارضَة بغَيْرهَا فَحِينَئِذٍ يَزُول هَذَا الحكم مثلا أَن الْفسق وَإِن كَانَ يُفِيد نوعا من اللَّذَّة إِلَّا أَن الْعقل يمْنَع عَنهُ وَإِنَّمَا يمْنَع مِنْهُ لاعْتِقَاده أَنه يستعقب ألما وغما زَائِدا وَهَذَا يُفِيد أَن جِهَة الْحسن والقبح وَالتَّرْغِيب والترهيب لَيْسَ إِلَّا مَا ذَكرْنَاهُ

المسألة التاسعة في بيان أن العقل لا مجال له في أن يحكم في أفعال الله تعالى بالتحسين والتقبيح

الثَّانِي وَهُوَ أَن الْقَائِلين بالتحسين والتقبيح بِحَسب الشَّرْع فسروا الْقبْح بِأَنَّهُ الَّذِي يلْزم من فعله حُصُول الْعقَاب فَيُقَال لَهُم وَهل تسلمون أَن الْعقل يَقْتَضِي وجوب الِاحْتِرَاز عَن الْعقَاب أَو تَقولُونَ إِن هَذَا الْوُجُوب لَا يثبت إِلَّا بِالشَّرْعِ فَإِن قُلْتُمْ بِالْأولِ فقد سلمتم أَن الْحسن والقبح فِي الشَّاهِد ثَابت بِمُقْتَضى الْعقل وَإِن قُلْتُمْ بِالثَّانِي فَحِينَئِذٍ لَا يجب عَلَيْهِ الِاحْتِرَاز عَن ذَلِك الْعقَاب إِلَّا بِإِيجَاب آخر وَهَذَا الْإِيجَاب مَعْنَاهُ أَيْضا تَرْتِيب الْعقَاب وَذَلِكَ يُوجب التسلسل فِي تَرْتِيب هَذِه العقابات وَهُوَ بَاطِل فَثَبت أَن الْعقل يقْضِي بالْحسنِ والقبح فِي الشَّاهِد الْمَسْأَلَة التَّاسِعَة فِي بَيَان أَن الْعقل لَا مجَال لَهُ فِي أَن يحكم فِي أَفعَال الله تَعَالَى بالتحسين والتقبيح أعلم أَنه لما ثَبت أَنه لَا معنى للتحسين والتقبيح إِلَّا جلب الْمَنَافِع وَدفع المضار فَهَذَا إِنَّمَا يعقل ثُبُوته فِي حق من يَصح عَلَيْهِ النَّفْع وَالضَّرَر فَلَمَّا كَانَ الْإِلَه متعاليا عَن ذَلِك امْتنع ثُبُوت التحسين والتقبيح فِي حَقه فَإِن أَرَادَ الْمُخَالف بالتحسين والتقبيح شَيْئا سوى جلب الْمَنَافِع وَدفع المضار وَجب عَلَيْهِ بَيَانه حَتَّى يمكننا أَن نَنْظُر أَنه هَل يُمكن إثْبَاته فِي حق الله تَعَالَى أم لَا فَهَذَا هُوَ الْحَرْف الكاشف عَن حَقِيقَة هَذِه الْمَسْأَلَة ثمَّ نقُول الَّذِي يدل على أَنه لَا يُمكن إِثْبَات الْحسن والقبح فِي حق الله تَعَالَى وُجُوه أَحدهَا أَن الْفِعْل الصَّادِر عَن الله تَعَالَى إِمَّا أَن يكون وجوده وَعَدَمه بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ على السوية أَو لَا يكون فَإِن كَانَ الأول فقد بَطل الْحسن والقبح وَإِن كَانَ الثَّانِي لزم كَونه نَاقِصا بِذَاتِهِ مستكملا بذلك الْفِعْل وَذَلِكَ

المسألة العاشرة في أن الله تعالى مريد لجميع الكائنات ويدل عليه وجوه

فِي حق الله تَعَالَى محَال فَإِن قَالُوا إِن وجود ذَلِك الْفِعْل وَعَدَمه بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ على التَّسَاوِي إِلَّا أَنه تَعَالَى يَفْعَله لإيصال النَّفْع إِلَى العَبْد فَنَقُول أَيْضا إِيصَال النَّفْع إِلَى العَبْد وَعدم إيصاله إِلَيْهِ إِن اسْتَويَا فقد بَطل الْحسن والقبح وَإِن لم يستويا فقد عَاد مَا ذكرنَا أَنه نَاقص لذاته مكتمل لغيره وَهُوَ محَال الْحجَّة الثَّانِيَة أَن الْعَالم مُحدث فَكَانَ حُدُوثه مُخْتَصًّا بِوَقْت معِين لَا محَالة فَإِن كَانَ ذَلِك الْوَقْت مُسَاوِيا لسَائِر الْأَوْقَات من جَمِيع الْوُجُوه فقد بَطل تَوْقِيف فعل الله تَعَالَى على الْحسن والقبح وَإِن اخْتصَّ ذَلِك الْوَقْت بخاصية لأَجلهَا وَقع الإحداث فِيهِ لَا فِي غَيره فَإِن كَانَت تِلْكَ الخاصية إِنَّمَا حصلت فِيهِ بتخصيص الله تَعَالَى ذَلِك الْوَقْت بهَا عَاد الْبَحْث الأول وَإِن كَانَ اخْتِصَاص ذَلِك الْوَقْت بِتِلْكَ الخاصية لذاته ولعينه فَحِينَئِذٍ يجوز كَون الْوَقْت الْمعِين سَببا لحدوث حَادث مَخْصُوص وَإِذا جَازَ ذَلِك فقد بَطل الِاسْتِدْلَال بحدوث الْحَوَادِث على الصَّانِع لاحْتِمَال أَن يكون الْمُؤثر فِيهَا هُوَ الْأَوْقَات الْحجَّة الثَّالِثَة أَنه تَعَالَى علم من الْكفَّار والفساق أَنهم يكفرون ويفسقون فَكَانَ صُدُور الْإِيمَان وَالطَّاعَة مِنْهُم محالا ثمَّ إِنَّه أَمرهم بِالْإِيمَان وَالطَّاعَة وَهَذَا الْأَمر لَا يفيدهم إِلَّا اسْتِحْقَاق الْعقَاب فَثَبت أَن تَوْقِيف أَفعَال الله تَعَالَى وَأَحْكَامه على الْحسن والقبح بَاطِل الْمَسْأَلَة الْعَاشِرَة فِي أَن الله تَعَالَى مُرِيد لجَمِيع الكائنات وَيدل عَلَيْهِ وُجُوه أَحدهَا أَنا بَينا أَن كل فعل يصدر عَن العَبْد فالمؤثر فِيهِ مَجْمُوع الْقُدْرَة والداعي على سَبِيل الْإِيجَاب وخالق تِلْكَ الْقُدْرَة والداعية هُوَ الله تَعَالَى وموجد السَّبَب الْمُوجب مُرِيد للمسبب فَوَجَبَ كَونه تَعَالَى مرِيدا للْكُلّ

الثَّانِي لَو حصل مُرَاد للْعَبد وَلم يحصل مُرَاد الله تَعَالَى لَكَانَ الله تَعَالَى مَغْلُوبًا وَالْعَبْد غَالِبا وَهُوَ محَال فَإِن قَالُوا إِنَّه تَعَالَى قَادر على أَن يخلق الْإِيمَان فِيهِ بالإلجاء فَنَقُول هَذَا ضَعِيف لِأَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أَرَادَ مِنْهُ الْإِيمَان الِاخْتِيَارِيّ وَأَنه قَادر على تَحْصِيل الْإِيمَان على سَبِيل الإلجاء وَهَذَا غير ذَلِك فَيلْزم أَن يُقَال إِنَّه تَعَالَى عَاجز مغلوب على تَحْصِيل مُرَاده وَأَن العَبْد غَالب قاهر وَهُوَ محَال الثَّالِث أَنه تَعَالَى علم من الْكفَّار أَنهم يموتون على الْكفْر وَعلم أَن ذَلِك الْعلم مَانع لَهُم من الْإِيمَان وَعلم أَن قيام الْمَانِع يمْنَع الْفِعْل فَعلمه بِكَوْنِهِ فِي نَفسه مُمْتَنعا يمنعهُ عَن إِرَادَته فَثَبت أَنه تَعَالَى لَا يُرِيد الْإِيمَان من الْكَافِر احْتَجُّوا بِأَنَّهُ تَعَالَى أَمر الْكفَّار بِالْإِيمَان وَالْأَمر يُوَافق الْإِرَادَة وَأَيْضًا فعل المُرَاد طَاعَة فَلَو أَرَادَ الله تَعَالَى الْكفْر من الْكَافِر لَكَانَ الْكَافِر مُطيعًا بِكُفْرِهِ وَلِأَن إِرَادَة السَّفه توجب السفاهة وَالْجَوَاب عَن الأول أَنكُمْ تَقولُونَ الْإِرَادَة على وفْق الْأَمر لَا على وفْق الْعلم وَنحن نقُول الْإِرَادَة على وفْق الْعلم لَا على وفْق الْأَمر وَقَوْلنَا أولى لِأَن الْعلم لَا يبْقى علما إِذا لم يُوجد معلومه وَالْأَمر لَا يلْزم زَوَاله عِنْد عدم الْإِتْيَان بالمأمور بِهِ فَثَبت أَن قَوْلنَا أولى وَعَن الثَّانِي أَن الطَّاعَة عبارَة عَن الْإِتْيَان بالمأمور بِهِ لَا بالمراد وَهَذَا أولى لِأَن الْأَمر صفة ظَاهِرَة والإرادة صفة خُفْيَة وَعَن الثَّالِث أَنه بِنَاء على جَرَيَان حكم التحسين والتقبيح فِي أَفعَال الله تَعَالَى وَقد أبطلناه وَالله أعلم بِالصَّوَابِ

الْبَاب السَّابِع فِي النبوات وَفِيه مسَائِل

المسألة الأولى أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم

الْمَسْأَلَة الأولى أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَنه ادّعى النُّبُوَّة وَظَهَرت المعجزة على يَده وكل من كَانَ كَذَلِك كَانَ رَسُولا حَقًا فالمقام الأولى أَنه ادّعى النُّبُوَّة وَذَلِكَ مَعْلُوم بالتواتر وَالْمقَام الثَّانِي أَنه أظهر المعجزة فالدليل عَلَيْهِ وُجُوه أَحدهَا أَنه ظهر الْقُرْآن عَلَيْهِ وَالْقُرْآن كتاب شرِيف بَالغ فِي فصاحة اللَّفْظ وَفِي كَثْرَة الْعُلُوم فَإِن المباحث الإلهية وَارِدَة فِيهِ على أحسن الْوُجُوه وَكَذَلِكَ عُلُوم الْأَخْلَاق وعلوم السياسات وَعلم تصفية الْبَاطِن وَعلم أَحْوَال الْقُرُون الْمَاضِيَة وهب أَن بَعضهم نَازع فِي كَونه بَالغا فِي الْكَمَال إِلَى حد الإعجاز إِلَّا أَنه لَا نزاع فِي كَونه كتابا شريفا عَالِيا كثير الْفَوَائِد كثير الْعُلُوم فصيحا فِي الْأَلْفَاظ ثمَّ إِن مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَشأ فِي مَكَّة وَتلك الْبَلدة كَانَت خَالِيَة عَن الْعلمَاء والأفاضل وَكَانَت خَالِيَة عَن الْكتب العلمية والمباحث الْحَقِيقِيَّة وَأَن مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يُسَافر إِلَّا مرَّتَيْنِ فِي مُدَّة قَليلَة ثمَّ إِنَّه لم يواظب على الْقِرَاءَة والاستفادة الْبَتَّةَ وانقضى من عمره أَرْبَعُونَ سنة على هَذِه الصّفة ثمَّ إِنَّه بعد انْقِضَاء الْأَرْبَعين ظهر مثل هَذَا الْكتاب عَلَيْهِ

وَذَلِكَ معْجزَة قاهرة لِأَن ظُهُور مثل هَذَا الْكتاب على مثل ذَلِك الْإِنْسَان الْخَالِي عَن الْبَحْث والطلب والمطالعة والتعلم لَا يُمكن إِلَّا بإرشاد الله تَعَالَى ووحيه وإلهامه وَالْعلم بِهِ ضَرُورِيّ وَهَذَا هُوَ المُرَاد من قَوْله تَعَالَى {وَإِن كُنْتُم فِي ريب مِمَّا نزلنَا على عَبدنَا فَأتوا بِسُورَة من مثله} أَي من مثل مُحَمَّد فِي عدم الْقِرَاءَة والمطالعة وَعدم الاستفادة من الْعلمَاء وَهَذَا وَجه قوي وبرهان قَاطع الْوَجْه الثَّانِي وَهُوَ أَن مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تحدى الْعَالمين بِالْقُرْآنِ فَهَذَا الْقُرْآن لَا يَخْلُو أَنه إِمَّا أَن يكون قد بلغ إِلَى حد الإعجاز أَو مَا كَانَ كَذَلِك فَإِن كَانَ بَالغا إِلَى حد الإعجاز فقد حصل الْمَقْصُود وَإِن قُلْنَا إِنَّه مَا كَانَ بَالغا إِلَى حد الإعجاز فَحِينَئِذٍ كَانَت معارضته مُمكنَة وَمَعَ الْقُدْرَة على الْمُعَارضَة وَحُصُول مَا يُوجب الرَّغْبَة فِي الْإِتْيَان بالمعارضة يكون ترك الْمُعَارضَة من خوارق الْعَادَات فَيكون معجزا فَثَبت ظُهُور المعجزة على مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على كل وَاحِد من التَّقْدِيرَيْنِ الْوَجْه الثَّالِث أَنه نقل عَنهُ معجزات كَثِيرَة وكل وَاحِد مِنْهَا وَإِن كَانَ مرويا بطرِيق الْآحَاد إِلَّا أَنه لَا بُد وَأَن يكون بَعْضهَا يَصح لِأَن الْأَخْبَار إِذا كثرت فَإِنَّهُ يمْتَنع فِي الْعَادة أَن يكون كلهَا كذبا فَثَبت بِهَذَا الْوُجُوه الثَّلَاثَة أَنه ظَهرت المعجزة عَلَيْهِ وَأما الْمقَام الثَّانِي وَهُوَ أَن كل من كَانَ كَذَلِك كَانَ نَبيا فالدليل عَلَيْهِ أَن الْملك الْعَظِيم إِذا حضر فِي المحفل الْعَظِيم فَقَامَ وَاحِد وَقَالَ يَا أَيهَا النَّاس أَنا رَسُول هَذَا الْملك إِلَيْكُم ثمَّ قَالَ أَيهَا الْملك إِن كنت صَادِقا فِي كَلَامي فَخَالف عادتك وقم عَن سريرك فَإِذا قَامَ ذَلِك الْملك عِنْد سَماع هَذَا الْكَلَام عرف الْحَاضِرُونَ بِالضَّرُورَةِ كَون ذَلِك الْمُدَّعِي صَادِقا فِي دَعْوَاهُ فَكَذَا هَهُنَا هَذَا تَمام الدَّلِيل وَفِي الْمَسْأَلَة طَرِيق آخر وَذَلِكَ أَنا فِي الطَّرِيق الأول نثبت نبوته بالمعجزات ثمَّ إِذا ثَبت نبوته استدللنا بثبوتها

على صِحَة أَقْوَاله وأفعاله وَأما فِي هَذَا الطَّرِيق فَإنَّا نبين أَن كل مَا أَتَى بِهِ من الْأَقْوَال وَالْأَفْعَال فَهُوَ أَفعَال الْأَنْبِيَاء فَوَجَبَ أَن يكون هُوَ نَبيا صَادِقا حَقًا من عِنْد الله تَعَالَى وَتَقْرِير هَذَا الطَّرِيق أَن نقُول الْإِنْسَان إِمَّا أَن يكون نَاقِصا وَهُوَ أدنى الدَّرَجَات وهم الْعَوام وَإِمَّا أَن يكون كَامِلا فِي ذَاته وَلَا يقدر على تَكْمِيل غَيره وهم الْأَوْلِيَاء وهم فِي الدرجَة المتوسطة وَأما أَن يكون كَامِلا فِي ذَاته وَيقدر على تَكْمِيل غَيره وهم الْأَنْبِيَاء وهم فِي الدرجَة الْعَالِيَة ثمَّ إِن هَذَا الْكَمَال والتكميل إِمَّا أَن يعْتَبر فِي الْقُوَّة النظرية وَفِي الْقُوَّة العلمية وَرَئِيس الكمالات الْمُعْتَبرَة فِي الْقُوَّة النظرية معرفَة الله تَعَالَى وَرَئِيس الكمالات الْمُعْتَبرَة فِي الْقُوَّة العلمية طَاعَة الله تَعَالَى وكل من كَانَت درجاته فِي كمالات هَاتين المرتبتين أعلا كَانَت دَرَجَات ولَايَته أكمل وَمن كَانَت درجاته فِي تَكْمِيل الْغَيْر فِي هَاتين المرتبتين أعلا كَانَت دَرَجَات نبوته أكمل إِذا عرفت هَذَا فَنَقُول أَن عِنْد مقدم مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ الْعَالم مملوءا من الْكفْر وَالْفِسْق أما الْيَهُود فَكَانُوا فِي الْمذَاهب الْبَاطِلَة فِي التَّشْبِيه وَفِي الافتراء على الْأَنْبِيَاء وَفِي تَحْرِيف التَّوْرَاة قد بلغُوا الْغَايَة وَأما النَّصَارَى فقد كَانُوا فِي القَوْل بالتثليث وَالْأَب وَالِابْن والحلول والاتحاد قد بلغُوا الْغَايَة وَأما الْمَجُوس فقد كَانُوا فِي القَوْل بِإِثْبَات إِلَهَيْنِ وَوُقُوع الْمُحَاربَة بَينهمَا وَفِي تَحْلِيل نِكَاح الْأُمَّهَات قد بلغُوا الْغَايَة وَأما الْعَرَب فقد كَانُوا فِي عبَادَة الْأَصْنَام وَفِي النهب والغارة قد بلغُوا الْغَايَة وَكَانَت الدُّنْيَا مَمْلُوءَة من هَذِه الأباطيل فَلَمَّا بعث الله عز وَجل مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَامَ يَدْعُو الْخلق إِلَى الدّين الْحق

المسألة الثانية المنكرون للنبوات طعنوا في المعجزات من ثلاثة أوجه

انقلبت الدُّنْيَا من الْبَاطِل إِلَى الْحق وَمن الْكَذِب إِلَى الصدْق وَمن الظلمَة إِلَى النُّور وَبَطلَت هَذِه الكفريات وزالت هَذِه الجهالات فِي أَكثر بِلَاد الْعَالم وَفِي وسط المعمورة وَانْطَلَقت الألسن بتوحيد الله تَعَالَى واستنارت الْقُلُوب بِمَعْرِِفَة الله تَعَالَى وَرجع الْخلق من حب الدُّنْيَا إِلَى حب الْمولى بِقدر الْإِمْكَان وَإِذا كَانَ لَا معنى للنبوة إِلَّا تَكْمِيل الناقصين فِي الْقُوَّة النظرية وَفِي الْقُوَّة العملية ورأينا أَن مَا حصل من هَذَا الْأَثر بِسَبَب مقدم مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أكمل وَأكْثر مِمَّا ظهر بِسَبَب مقدم مُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام علمنَا أَنه كَانَ سيد الْأَنْبِيَاء وقدوة الأصفياء وَهَذِه الطَّرِيقَة عِنْدِي أفضل وأكمل من الطَّرِيقَة الأولى لِأَن هَذَا يجْرِي مجْرى برهَان اللَّهُمَّ لأَنا بحثنا عَن معنى النُّبُوَّة فَعلمنَا أَن مَعْنَاهَا أَنه شخص بلغ فِي الْكَمَال فِي الْقُوَّة النظرية وَفِي الْقُوَّة العملية إِلَى حَيْثُ يقدر على معالجة النَّاقِص فِي هَاتين القوتين وَعلمنَا أَن مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ أكمل الْبشر فِي هَذَا الْمَعْنى فَوَجَبَ كَونه أفضل الْأَنْبِيَاء وَأما الطَّرِيق الأول فَإِنَّهُ يجْرِي مجْرى برهَان الْآن فَإنَّا نستدل بِحُصُول المعجزات على كَونه نَبيا وَهُوَ يجْرِي مجْرى الِاسْتِدْلَال بأثر من آثَار الشَّيْء على وجوده وَلَا شكّ أَن برهَان اللم أقوى من برهَان الْآن وَالله أعلم الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة المنكرون للنبوات طعنوا فِي المعجزات من ثَلَاثَة أوجه الأول قَالُوا لم قُلْتُمْ بِأَن هَذِه المعجزات فعل الله تَعَالَى وخلقه وَبَيَان هَذَا السُّؤَال من وُجُوه أَحدهَا أَن الْإِنْسَان إِمَّا أَن يكون عبارَة عَن النَّفس أَو عَن هَذَا الْبدن فَإِن كَانَ عبارَة عَن النَّفس فَلم لَا يجوز أَن يُقَال إِن نفس ذَلِك الرَّسُول كَانَت

مُخَالفَة لنفوس سَائِر الْخلق وَلأَجل خُصُوصِيَّة نَفسه قدر على الْإِتْيَان بِمَا لم يَأْتِ بِهِ غَيره وَإِن كَانَ عبارَة عَن الْبدن فَلم لَا يجوز أَن يُقَال إِنَّه اخْتصَّ بمزاج خَاص ولأجله قدر على الْإِتْيَان بِمَا لم يَأْتِ بِهِ غَيره الثَّانِي لَا شكّ أَن للأدوية آثارا عَجِيبَة فَلم لَا يجوز أَن يُقَال إِنَّه وجد دَوَاء وَقدر بواسطته على مَا لم يقدر عَلَيْهِ غَيره وَالثَّالِث أَن الْأَنْبِيَاء أقرُّوا بِثُبُوت الْجِنّ وَالشَّيَاطِين فَهَب أَنه لم يثبت بِالدَّلِيلِ وجودهم إِلَّا أَن احْتِمَال وجودهم قَائِم فَلم لَا يجوز أَن يُقَال إِن الْجِنّ وَالشَّيَاطِين هِيَ الَّتِي أَتَت بِهَذِهِ الْعَجَائِب والغرائب أَلَيْسَ إِن النَّاس يَقُولُونَ إِن الْجِنّ تدخل فِي بَاطِن بدن المصروع وتتكلم فَهُنَا لم لَا يجوز أَن يُقَال الذِّئْب إِنَّمَا تكلم بِهَذَا الطَّرِيق والناقة إِنَّمَا تَكَلَّمت مَعَ الرَّسُول بِهَذَا الطَّرِيق والجذع إِنَّمَا حن بِهَذَا الطَّرِيق وَكَذَا القَوْل فِي الْبَوَاقِي الرَّابِع أَلَيْسَ أَن المنجمين والصائبة اتَّفقُوا على أَن الأفلاك وَالْكَوَاكِب أَحيَاء ناطقة وهب أَنه لم يثبت ذَلِك بِالدَّلِيلِ إِلَّا أَن الِاحْتِمَال قَائِم فعلى هَذَا التَّقْدِير لم لَا يجوز أَن يُقَال الْفَاعِل لهَذِهِ المعجزات هُوَ الأفلاك وَالْكَوَاكِب الْخَامِس أَلَيْسَ أَن المنجمين أطبقوا على أَن لسهم السَّعَادَة أثرا فِي الْقُدْرَة على الْأَفْعَال العجيبة ولسهم الْغَيْب أثرا فِي الْقُدْرَة على الْإِخْبَار عَن الغيوب فعلى تَقْدِير أَن يكون الَّذِي قَالُوهُ حَقًا لم لَا يجوز أَن يُقَال إِنَّه اتّفق لَهُم فِي سهم السَّعَادَة وَفِي سهم الْغَيْب قُوَّة عَظِيمَة وَلأَجل تِلْكَ الْقُوَّة قدرُوا على إتْيَان بالأفعال الغريبة وبالأخبار عَن الغيوب السَّادِس أَلَيْسَ أَن المنجمين أطْلقُوا على أَن للقرانات فِي هَذِه الْأَبْوَاب آثارا عَظِيمَة فَلم لَا يجوز أَن تكون المعجزات من هَذِه الْأَبْوَاب

السَّابِع أَلَيْسَ أَن المنجمين أطبقوا على أَن للكواكب الثَّابِتَة آثارا عَظِيمَة بَالِغَة عَجِيبَة فِي السَّعَادَة والنحوسة فَلم لَا يجوز أَن تكون أَحْوَالهم من هَذِه الْأَبْوَاب الثَّامِن أَلَيْسَ أَن الفلاسفة أطبقوا على تَأْثِير الْعُقُول والنفوس فَلم لَا يجوز أَن يكون موجد هَذِه المعجزات هُوَ هَذِه الْعُقُول والنفوس التَّاسِع أَلَيْسَ أَن مُحَمَّدًا وَسَائِر الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام أقرُّوا بِأَن هَذَا الْقُرْآن وَسَائِر الْكتب إِنَّمَا وصلت إِلَيْهِم بِوَاسِطَة الْملك فَنَقُول قبل الدَّلِيل يلْزم أَن يكون ذَلِك الْملك غير مَعْصُوم بل يكون آتِيَا بِالْفِعْلِ الْقَبِيح إِلَّا أَنا بِشَهَادَة الْأَنْبِيَاء علمنَا كَون ذَلِك الْملك مَعْصُوما وعَلى هَذَا تتَوَقَّف صِحَة نبوة الْأَنْبِيَاء على عصمَة الْملك وتتوقف عصمَة الْملك على صِحَة نبوتهم وَذَلِكَ دور وَهُوَ بَاطِل والعاشر أَلَيْسَ أَن الْأَنْبِيَاء اتَّفقُوا على إِثْبَات روح مَوْصُوف بالخبث فِي غَايَة والشدة وَهُوَ إِبْلِيس فَلم لَا يجوز أَن يكون الَّذِي أَعَانَهُ على تِلْكَ الْأَعْمَال هُوَ إِبْلِيس وَلَا يُقَال إِن مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دينه لعن إِبْلِيس فَكيف يُعينهُ إِبْلِيس لأَنا نقُول إِن المكار الْخَبيث قد يرضى بشتم نَفسه ليتوصل بِهِ إِلَى ترويج خبثه فَهَذِهِ احتمالات عشرَة فِي بَيَان أَنه لم يثبت بِالدَّلِيلِ أَن فَاعل المعجزات هُوَ الله تَعَالَى الْمقَام الثَّانِي إِن سلمنَا أَن فاعلها هُوَ الله تَعَالَى فَلم قُلْتُمْ إِنَّه تَعَالَى فعلهَا لأجل التَّصْدِيق وَتَقْرِيره وَهُوَ أَن النَّاس مذهبين أَحدهمَا أَن أَفعَال الله تَعَالَى وَأَحْكَامه غير معللة بِشَيْء من الْأَغْرَاض والدواعي وَالثَّانِي أَن أَفعاله مَوْقُوفَة على الدَّوَاعِي

أما الأول فَهُوَ قَول أهل السّنة فعلى هَذَا التَّقْدِير يمْتَنع أَن يُقَال إِنَّه تَعَالَى يفعل شَيْئا لأجل شَيْء فَكيف يُقَال مَعَ هَذَا الْمَذْهَب إِنَّه فعل المعجزات لأجل التَّصْدِيق وَأما الثَّانِي وَهُوَ قَول من يَقُول إِنَّه لَا بُد فِي أَفعَال الله تَعَالَى من الدَّوَاعِي فعلى هَذَا قَول كَيفَ عَرَفْتُمْ أَنه لَا دَاعِي لله تَعَالَى إِلَى خلق هَذِه المعجزات إِلَّا تَصْدِيق هَذَا الْمُدَّعِي وَبَيَانه من وُجُوه أَحدهَا أَن الْعَالم مُحدث فَهَذِهِ الْأُمُور الْمُعْتَادَة قد كَانَت فِي أول حدوثها غير مُعْتَادَة فَلَعَلَّهُ تَعَالَى فعل هَذِه المعجزات لتصير ابْتِدَاء عَادَة وَالثَّانِي لَعَلَّه بعد تكَرر عَادَة متطاولة لِأَن فلك العروج يتم دورته فِي كل سِتَّة وَثَلَاثِينَ ألف سنة مرّة وَاحِدَة على هَذَا فَتكون عَادَته أَنه يصل إِلَى النقطة الْمعينَة فِي كل سِتَّة وَثَلَاثِينَ ألف سنة مرّة وَاحِدَة فَهَذَا وَإِن كَانَ لَا يحصل إِلَّا فِي هَذِه الْمدَّة الطَّوِيلَة إِلَّا أَنه عَادَة وَالثَّالِث لَعَلَّه تَعَالَى خلق هَذَا المعجز معْجزَة لنَبِيّ آخر فِي طرف من أَطْرَاف الْعَالم أَو كَرَامَة لوَلِيّ أَو معْجزَة لملك من الْمَلَائِكَة فِي السَّمَوَات أَو معْجزَة أَو كَرَامَة لوَاحِد من الْخلق الساكنين فِي الْهَوَاء أَو فِي الْبحار وكل ذَلِك مُحْتَمل الرَّابِع لَعَلَّه تَعَالَى أظهر هَذِه المعجزة على هَذَا الْمُدَّعِي مَعَ كَونه كَاذِبًا حَتَّى تشتد الشُّبْهَة وتقوي البلية ثمَّ إِن الْمُكَلف إِن احْتَرز عَنهُ مَعَ قُوَّة الشُّبْهَة فَإِنَّهُ يسْتَحق الثَّوَاب الْعَظِيم وَهَذَا هُوَ الَّذِي ذَكرْنَاهُ فِي حسن إِنْزَال المتشابهات فَثَبت أَن على كل هَذِه التقديرات لَا تدل المعجزة على صدق الْمُدَّعِي ثمَّ إِنَّا نختم هَذَا الْفَصْل بسؤال آخر فَنَقُول الْفِعْل إِمَّا أَن يتَوَقَّف على الدَّاعِي أَو لَا يتَوَقَّف فَإِن كَانَ الأول فَحِينَئِذٍ يتَوَقَّف صُدُور الْفِعْل من

العَبْد على دَاعِيَة خلقهَا الله تَعَالَى فِيهِ وعَلى هَذَا التَّقْدِير فَيكون فعل الله تَعَالَى مُوجبا لفعل العَبْد وفاعل السَّبَب فَاعل الْمُسَبّب فأفعال الْعباد مخلوقة لله تَعَالَى ومرادة لَهُ وعَلى هَذَا التَّقْدِير يكون خَالق كل القبائح هُوَ الله تَعَالَى فَكيف يمْتَنع مِنْهُ خلق المعجزة على يَد الْكَاذِب وَإِن كَانَ الثَّانِي وَهُوَ أَن الْفِعْل لَا يتَوَقَّف على الدَّاعِي فَحِينَئِذٍ يَصح من الله تَعَالَى أَن يخلق هَذِه المعجزة لَا لغَرَض أصلا وَحِينَئِذٍ تخرج المعجزة عَن كَونهَا دَلِيلا على الصدْق الْمقَام الثَّالِث إِن سلمنَا أَن الله تَعَالَى فعلهَا لأجل تَصْدِيق الْمُدَّعِي فَلم قُلْتُمْ بِأَن كل من صدقه الله تَعَالَى فَهُوَ صَادِق وَهَذَا إِنَّمَا يتم إِذا ثَبت أَن الْكَذِب على الله تَعَالَى محَال فَإِذا نفيتم الْحسن والقبح فِي أَفعَال الله تَعَالَى فَكيف تعرفُون امْتنَاع الْكَذِب عَلَيْهِ تَعَالَى الله عَمَّا يَقُول الظَّالِمُونَ علوا كَبِيرا وَاعْلَم أَن الْجَواب عَن الْمقَام الأول مَا بَينا فِي بَاب الصِّفَات أَنه لَا مُؤثر إِلَّا قدرَة الله تَعَالَى وَحِينَئِذٍ تبطل الِاحْتِمَالَات الْعشْرَة الْمَذْكُورَة والمعتزلة لما قَالُوا بِأَن العَبْد موجد فقد بَطل عَلَيْهِم هَذَا الطَّرِيق وَعَن الْمقَام الثَّانِي وَالثَّالِث أَنه قد يكون الشَّيْء جَائِزا فِي نَفسه مَعَ أَن الْعلم الضَّرُورِيّ يكون حَاصِلا بِأَنَّهُ لَا يَقع أَلا ترى أَن حُدُوث شخص فِي هَذِه الْحَالة مَعَ صفة الشيخوخة جَائِز مَعَ أَنا نقطع أَنه لم يُوجد وَإِذا رَأينَا إنْسَانا ثمَّ غبنا عَنهُ ثمَّ رَأَيْنَاهُ ثَانِيًا جَوَّزنَا أَن الله تَعَالَى أعدم الرجل الأول وأوجد ثَانِيًا مثله فِي الصُّورَة والخلقة وَمَعَ هَذَا التجويز نقطع أَنه لم يُوجد هَذَا الْمَعْنى فَكَذَلِك هَهُنَا مَا ذكرتموه من الِاحْتِمَالَات قَائِم إِلَّا أَنه تَعَالَى أودع فِي عقولنا علما ضَرُورِيًّا وَهُوَ أَنا مَتى اعتقدنا أَن هَذِه المعجزات خلقهَا الله تَعَالَى عقيب دَعْوَى هَذَا الْمُدَّعِي فَإنَّا نعلم بِالضَّرُورَةِ أَنه تَعَالَى إِنَّمَا خلقهَا ليدل على تَصْدِيق دَعْوَى ذَلِك الْقَائِل أَلا ترى أَن قوم مُوسَى لما

المسألة الثالثة في أن الأنبياء أفضل من الأولياء

أَنْكَرُوا نبوته فَالله تَعَالَى ظلل الْجَبَل عَلَيْهِم فَكلما هموا بالمخالفة قرب الْجَبَل مِنْهُم وَصَارَ بِحَيْثُ يَقع عَلَيْهِم وَكلما هموا بِالطَّاعَةِ وَالْإِيمَان تبَاعد الْجَبَل عَنْهُم فَكل من أنصف علم أَن كل من رأى هَذِه الْحَالة علم بِالضَّرُورَةِ أَن ذَلِك يدل على التَّصْدِيق فَهَذَا هُوَ الْجَواب الْمُعْتَمد فِي هَذَا الْبَاب وَمَتى ضممت إِلَى هَذِه الطَّرِيقَة مَا قَرَّرْنَاهُ فِي الطَّرِيقَة الثَّانِيَة بلغ الْمَجْمُوع مبلغا كَافِيا فِي إِثْبَات الْمَطْلُوب الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة فِي أَن الْأَنْبِيَاء أفضل من الْأَوْلِيَاء وَيدل عَلَيْهِ النَّقْل وَالْعقل أما النَّقْل فقلوه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي أبي بكر رَضِي الله عَنهُ وَالله مَا طلعت الشَّمْس وَلَا غربت بعد النَّبِيين أفضل من أبي بكر فَهَذَا يدل على أَن أَبَا بكر رَضِي الله عَنهُ أفضل من كل من لَيْسَ بِنَبِي وَأَنه دون من كَانَ نَبيا وَهَذَا يَقْتَضِي أَن تكون الْأَنْبِيَاء أفضل وأرجح حَالا من غَيرهم وَأما الْعقل فَهُوَ أَن الْوَالِي هُوَ الْكَامِل فِي ذَاته فَقَط وَالنَّبِيّ هُوَ الَّذِي يكون كَامِلا ومكملا وَمَعْلُوم أَن الثَّانِي أفضل من الأول فَإِن ادّعى بعض الجهلة أَنِّي كملت طَائِفَة من الناقصين فَلْينْظر فِي أَن أَصْحَابه أَكثر عددا وفضيلة أم أَصْحَاب مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِن رأى قومه بِالنِّسْبَةِ إِلَى قوم مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْعدَد والفضيلة كالقطرة بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْبَحْر علم حِينَئِذٍ أَنه عدم بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة الْمُخْتَار عِنْدِي أَن الْملك أفضل من الْبشر وَيدل عَلَيْهِ وُجُوه أَحدهَا أَنه تَعَالَى لما أَرَادَ أَن يُقرر عِنْد الْخلق عَظمته اسْتدلَّ بِكَوْنِهِ إِلَهًا لِلسَّمَوَاتِ وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا فَقَالَ فِي سُورَة عَم رب السَّمَوَات

المسألة الخامسة في إثبات وجوب عصمة الأنبياء عليهم السلام في وقت الرسالة ويدل عليه وجوه

وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا الرَّحْمَن لَا يملكُونَ مِنْهُ خطابا) ثمَّ إِنَّه لما أَرَادَ الزِّيَادَة فِي تَقْرِير هَذَا الْمَعْنى قَالَ بعده {يَوْم يقوم الرّوح وَالْمَلَائِكَة صفا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا من أذن لَهُ الرَّحْمَن وَقَالَ صَوَابا} وَلَوْلَا أَن الْمَلَائِكَة أعظم الْمَخْلُوقَات دَرَجَة وَإِلَّا لما صَحَّ هَذَا التَّرْتِيب الثَّانِي أَنه تَعَالَى قَالَ {والمؤمنون كل آمن بِاللَّه وَمَلَائِكَته وَكتبه وَرُسُله} وَهَذَا هُوَ التَّرْتِيب الصَّحِيح لِأَن الْإِلَه هُوَ الْمَوْجُود الْأَشْرَف ويتلوه فِي دَرَجَته الْمَلَائِكَة ثمَّ إِن الْملك يَأْخُذ الْكتاب من الله تَعَالَى ويوصله إِلَى الرَّسُول وَهَذَا يَقْتَضِي أَن يكون التَّرْتِيب هَكَذَا الْإِلَه وَالْملك وَالْكتاب وَالرَّسُول وَهَذَا هُوَ التَّرْتِيب الْمَذْكُور فِي الْقُرْآن وَهُوَ يدل على شرف الْملك على الْبشر الثَّالِث أَن الْمَلَائِكَة جَوَاهِر مُقَدَّسَة عَن ظلمات الشَّهَوَات وكدورات الْغَضَب قطعا وطعامهم التَّسْبِيح وشرابهم التهليل وَالتَّقْدِيس وأنسهم بِذكر الله تَعَالَى وفرحهم بعبودية الله تَعَالَى فَكيف يُمكن مناسبتهم بالموصوف بالشهوة وَالْغَضَب الرَّابِع أَن الأفلاك تجْرِي مجْرى الْأَبدَان للْمَلَائكَة وَالْكَوَاكِب تجْرِي مجْرى الْقُلُوب وَنسبَة الْبدن إِلَى الْبدن وَالْقلب إِلَى الْقلب كنسبة الرّوح إِلَى الرّوح فِي الْإِشْرَاق والصفاء الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة فِي إِثْبَات وجوب عصمَة الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام فِي وَقت الرسَالَة وَيدل عَلَيْهِ وُجُوه أَحدهَا أَن كل من كَانَت نعْمَة الله تَعَالَى عَلَيْهِ أَكثر كَانَ صُدُور الذَّنب مِنْهُ أقبح وأفحش ونعمة الله تَعَالَى على الْأَنْبِيَاء أَكثر فَوَجَبَ أَن تكون ذنوبهم أقبح وأفحش من ذنُوب كل الْأمة وَأَن يستحقوا من الزّجر

المسألة السادسة في أن نبينا أفضل من سائر الأنبياء عليهم السلام ويدل عليه النقل والعقل

والتوبيخ فَوق مَا يسْتَحقّهُ جَمِيع عصاة الْأمة وَهَذَا بَاطِل فَذَاك بَاطِل الثَّانِي أَنه لَو صدر الذَّنب مِنْهُ لَكَانَ فَاسِقًا وَلَو كَانَ فَاسِقًا لوَجَبَ أَن لَا تقبل شَهَادَته لقَوْله تَعَالَى {إِن جَاءَكُم فَاسق بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} وَإِذا لم تقبل شَهَادَته فِي هَذِه الْأَشْيَاء الحقيرة فبأن لَا تقبل فِي إِثْبَات الْأَدْيَان الْبَاقِيَة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة كَانَ أولى وَهَذَا بَاطِل فَذَاك بَاطِل الثَّالِث أَنه تَعَالَى قَالَ فِي حق مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَاتَّبعُوهُ لَعَلَّكُمْ تفلحون وَقَالَ تَعَالَى {قل إِن كُنْتُم تحبون الله فَاتبعُوني يحببكم الله} فَلَو أَنِّي بالمعصية لوَجَبَ علينا بِحكم هَذِه النُّصُوص مُتَابَعَته فِي فعل ذَلِك الذَّنب وَهَذَا بَاطِل فَذَاك بَاطِل وَأما جَمِيع الْآيَات الْوَارِدَة فِي هَذَا الْبَاب فإمَّا أَن تحمل على ترك الْأَفْضَل أَو إِن ثَبت كَونه مَعْصِيّة لَا محَالة فَذَلِك إِنَّمَا وَقع قبل النُّبُوَّة الْمَسْأَلَة السَّادِسَة فِي أَن نَبينَا أفضل من سَائِر الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام وَيدل عَلَيْهِ النَّقْل وَالْعقل أما النَّقْل فَهُوَ أَنه تَعَالَى وصف الْأَنْبِيَاء بالأوصاف الحميدة ثمَّ قَالَ لمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {أُولَئِكَ الَّذين هدى الله فبهداهم اقتده} أمره بِأَن يَقْتَدِي بهم بأسرهم فَيكون آتِيَا بِهِ وَإِلَّا يكون تَارِكًا لِلْأَمْرِ وتارك الْأَمر عَاص وَقد بَينا أَنه لَيْسَ كَذَلِك وَإِذا أَتَى بِجَمِيعِ مَا أَتَوا بِهِ من الْخِصَال الحميدة فقد اجْتمع فِيهِ مَا كَانَ مُتَفَرقًا فيهم فَيكون أفضل مِنْهُم وَأما الْعقل فَهُوَ أَن دَعوته بِالتَّوْحِيدِ وَالْعِبَادَة وصلت إِلَى أَكثر بِلَاد الْعَالم بِخِلَاف سَائِر الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام أما مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فَكَانَت دَعوته مَقْصُورَة على بني إِسْرَائِيل وهم بِالنِّسْبَةِ إِلَى أمة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كالقطرة بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْبَحْر

المسألة السابعة الحق أن محمدا صلى الله عليه وسلم قبل نزول الوحي ما كان على شرع أحد من الأنبياء عليهم السلام

وَأما عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فالدعوة الحقة الَّتِي جَاءَ بهَا مَا بقيت الْبَتَّةَ وَهَذَا الَّذِي يَقُوله هَؤُلَاءِ النَّصَارَى فَهُوَ الْجَهْل الْمَحْض وَالْكفْر الصّرْف وَالْكذب الصراح فَظهر أَن انْتِفَاع أهل الدُّنْيَا بدعوة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أكمل من انْتِفَاع سَائِر الْأُمَم بدعوة سَائِر الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام فَوَجَبَ أَن يكون مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أفضل من سَائِر الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام الْمَسْأَلَة السَّابِعَة الْحق أَن مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قبل نزُول الْوَحْي مَا كَانَ على شرع أحد من الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام وَذَلِكَ لِأَن الشَّرَائِع السَّابِقَة على شرع عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام صَارَت مَنْسُوخَة بشرع عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَأما شَرِيعَة عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام فقد صَارَت مُنْقَطِعَة بِسَبَب أَن الناقلين عِنْدهم النَّصَارَى وهم كفار بِسَبَب القَوْل بالتثليث فَلَا يكون نقلهم حجَّة وَأما الَّذين بقوا على شَرِيعَة عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام مَعَ الْبَرَاءَة من التَّثْلِيث فهم قَلِيلُونَ فَلَا يكون نقلهم حجَّة وَإِذا كَانَ كَذَلِك ثَبت أَن مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا كَانَ قبل النُّبُوَّة على شَرِيعَة أحد الْمَسْأَلَة الثَّامِنَة القَوْل بالمعراج حق أما من مَكَّة إِلَى الْبَيْت الْمُقَدّس فَلقَوْله تَعَالَى {سُبْحَانَ الَّذِي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا من الْمَسْجِد الْحَرَام إِلَى الْمَسْجِد الْأَقْصَى} وَأما من الْمَسْجِد الْأَقْصَى إِلَى مَا فَوق السَّمَوَات فَلقَوْله تَعَالَى {لتركبن طبقًا عَن طبق} والْحَدِيث الْمَشْهُور أما استبعاد صعُود شخص من الْبشر إِلَى مَا فَوق السَّمَوَات فَهُوَ بعيد لوجوه شَتَّى

المسألة التاسعة محمد صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى جميع الخلق

الأول أَنه كَمَا يبعد فِي الْعَادة صعُود الْجِسْم الثقيل إِلَى الْهَوَاء العالي فَكَذَلِك يبعد نزُول الْجِسْم الهوائي إِلَى الأَرْض فَلَو صَحَّ استبعاد صعُود مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لصَحَّ استبعاد نزُول جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام وَذَلِكَ يُوجب إِنْكَار النُّبُوَّة وَالثَّانِي أَنه لما لم يبعد انْتِقَال إِبْلِيس فِي اللحظة الْوَاحِدَة من الْمشرق إِلَى الْمغرب وبالضد فيكف يستبعد ذَلِك من مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الثَّالِث أَنه قد صَحَّ فِي الهندسة أَن الْفرس فِي حَال ركضه الشَّديد فِي الْوَقْت الَّذِي يرفع يَده إِلَى أَن يَضَعهَا يَتَحَرَّك الْفلك الْأَعْظَم ثَلَاثَة آلَاف فَرسَخ فَثَبت أَن الْحَرَكَة السريعة إِلَى هَذَا الْحَد مُمكنَة وَالله تَعَالَى قَادر على جَمِيع الممكنات فَكَانَت الشُّبْهَة زائلة الْمَسْأَلَة التَّاسِعَة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَبْعُوث إِلَى جَمِيع الْخلق أَن مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَبْعُوث إِلَى جَمِيع الْخلق وَقَالَ بعض الْيَهُود إِنَّه مَبْعُوث إِلَى الْعَرَب خَاصَّة وَالدَّلِيل على فَسَاد هَذَا القَوْل أَن هَؤُلَاءِ سلمُوا أَنه رَسُول صَادِق إِلَى الْعَرَب فَوَجَبَ أَن يكون كل مَا يَقُوله حَقًا وَثَبت بالتواتر أَنه كَانَ يَدعِي أَنه رَسُول الله إِلَى كل الْعَالم فَلَو كذبناه فِي ذَلِك لزم التَّنَاقُض وَالله أعلم الْمَسْأَلَة الْعَاشِرَة فِي الطَّرِيق إِلَى معرفَة شَرعه أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَقِي فِي الدُّنْيَا إِلَى أَن بلغ أَصْحَابه إِلَى حد التَّوَاتُر الَّذِي يكون قَوْلهم مُفِيدا للْعلم ثمَّ إِنَّهُم بأسرهم نقلوا إِلَى جَمِيع الْخلق أصُول شَرِيعَته فَصَارَت تِلْكَ الْأُصُول مَعْلُومَة وَأما التفاريع فَإِنَّهَا مَعْلُومَة بالطرق المنظمة كأخبار الْآحَاد والاجتهادات وَالله أعلم

الْبَاب الثَّامِن فِي النُّفُوس الناطقة وَفِيه مسَائِل

المسألة الأولى الصحيح أن الإنسان ليس عبارة عن هذه الجثة المحسوسة ويدل عليه وجوه

الْمَسْأَلَة الأولى الصَّحِيح أَن الْإِنْسَان لَيْسَ عبارَة عَن هَذِه الجثة المحسوسة وَيدل عَلَيْهِ وُجُوه أَحدهَا أَن الْإِنْسَان حَال مَا يكون شَدِيد الاهتمام بمهم من الْمُهِمَّات فَإِنَّهُ قد يَقُول قلت كَذَا وَفعلت كَذَا وَأمرت بِكَذَا وَهَذِه الضمائر دَالَّة على نَفسه الْمَخْصُوصَة فَهُوَ فِي هَذِه الْأَحْوَال عَالم بِذَاتِهِ الْمَخْصُوصَة وغافل عَن جَمِيع أَعْضَائِهِ الْبَاطِنَة وَالظَّاهِرَة والمعلوم مُغَاير لغير الْمَعْلُوم الثَّانِي أَن جَمِيع أَعْضَائِهِ الظَّاهِرَة والباطنة آخذة فِي الذوبان والانحلال لِأَن البنية مركبة من الْأَعْضَاء الآلية وَهِي مركبة من الْأَعْضَاء البسيطة وَهِي حارة رطبَة والحرارة إِذا أثرت فِي الْجِسْم الرطب أصعدت عَنهُ الأبخرة الْعَظِيمَة فَلهَذَا السَّبَب يحْتَاج الْحَيَوَان إِلَى الْغذَاء ليقوم بدل الْأَجْزَاء المنحلة إِذا ثَبت هَذَا فَنَقُول الْأَجْزَاء والأعضاء كلهَا فِي التبدل وَالنَّفس الْمَخْصُوصَة الَّتِي لكل أحد وَاحِدَة بَاقِيَة من أول الْعُمر إِلَى آخِره وَالْبَاقِي غير مَا هُوَ غير الْبَاقِي فَالنَّفْس غير هَذِه البنية

الثَّالِث أَن الْإِنْسَان إِذا رأى لون شَيْء علم بضرورة الْعقل أَن طعمه كَذَا وَكَذَا وَالْقَاضِي على الشَّيْئَيْنِ لَا بُد وَأَن يحضرهُ الْمقْضِي عَلَيْهِمَا فههنا شَيْء وَاحِد وَهُوَ الْمدْرك لجَمِيع المحسوسات المدركة بالحواس الظَّاهِرَة وَأَيْضًا إِذا تخيلنا صُورَة ثمَّ رأيناها حكمنَا بِأَن هَذِه الصُّورَة المرئية صُورَة ذَلِك المخيل فَلَا بُد من شَيْء وَاحِد يكون مدْركا لهَذِهِ الصُّورَة المبصرة ولتلك الصُّورَة المتخيلة لَان القَاضِي على الشَّيْئَيْنِ لَا بُد وَأَن يحضرهُ الْمقْضِي عَلَيْهِمَا وَأَيْضًا إِذا تخيلنا صورا مَخْصُوصَة وأدركنا مَعَاني مَخْصُوصَة كالعداوة والصداقة فَإنَّا نركب بَين هَذِه الصُّور وَبَين هَذِه الْمعَانِي فَوَجَبَ حُصُول شَيْء وَاحِد يكون مدْركا للصور والمعاني حَتَّى يقدر على تركيب بَعْضهَا لبَعض وَإِلَّا لَكَانَ الْحَاكِم بِشَيْء على شَيْء غير مدرك لَهما وَهُوَ محَال وَأَيْضًا إِذا رَأينَا هَذَا الْإِنْسَان علمنَا أَنه إِنْسَان وَأَنه لَيْسَ بفرس فالحاكم على هَذَا الجزئي بذلك الْكُلِّي وَجب أَن يكون مدْركا لَهما فَثَبت بِهَذِهِ الْبَرَاهِين أَنه لَا بُد وَأَن يحصل فِي الْإِنْسَان شَيْء وَاحِد يكون هُوَ الْمدْرك لجَمِيع المدركات بِجَمِيعِ أَنْوَاع الإدراكات وَأَيْضًا إِن الْفِعْل الصَّادِر عَن الْإِنْسَان فعل اخْتِيَاري وَالْفِعْل الِاخْتِيَارِيّ عبارَة عَمَّا إِذا اعْتقد فِي شَيْء كَونه زَائِد النَّفْع فيتولد عَن ذَلِك الِاعْتِقَاد ميل فيضم ذَلِك الْميل إِلَى أصل الْقُدْرَة فيصبر مَجْمُوع ذَلِك الْميل مَعَ تِلْكَ الْقُدْرَة مُوجبا وَإِذا كَانَ كَذَلِك فَهَذَا الْفَاعِل لَا بُد وَأَن يكون مدْركا إِذْ لَو لم يكن مدْركا لما كَانَ هَذَا الْفِعْل اختياريا فَثَبت أَنه حصل فِي الْإِنْسَان شَيْء وَاحِد هُوَ الْمدْرك لكل المدركات بِجَمِيعِ أَنْوَاع الإدراكات وَهُوَ الْفَاعِل لجَمِيع أَنْوَاع الْأَفْعَال وَهَذَا برهَان قَاطع وَإِذا ثَبت هَذَا فَنَقُول ظَاهر أَن مَجْمُوع الْبدن لَيْسَ مَوْصُوفا بِهَذِهِ الصّفة وكل عُضْو من أَعْضَاء الْبدن يشار إِلَيْهِ فَإِنَّهُ لَيْسَ كَذَلِك فَثَبت أَن

المسألة الثانية اتفقت الفلاسفة على أن النفس جوهر ليس بجسم ولا بجسماني وهذا عندي باطل

الْإِنْسَان شَيْء آخر سوى هَذَا الْبدن وَسوى هَذِه الْأَعْضَاء الرَّابِع قَوْله تَعَالَى {وَلَا تحسبن الَّذين قتلوا فِي سَبِيل الله أَمْوَاتًا بل أَحيَاء عِنْد رَبهم يرْزقُونَ} فَهَذَا النَّص يدل على أَن الْإِنْسَان بعد قَتله حَيّ والحس يدل على أَن هَذَا الْجَسَد بعد الْقَتْل ميت فَوَجَبَ أَن يكون الْإِنْسَان مغايرا لهَذَا الْجَسَد الْخَامِس مَا رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ فِي بعض خطبه حَتَّى إِذا حمل الْمَيِّت على نعشه رَفْرَف روحه فَوق النعش وَيَقُول يَا أَهلِي وَيَا وَلَدي لَا تلعبن بكم الدُّنْيَا كَمَا لعبت بِي وَجه الدَّلِيل أَن هَذَا النَّص يدل على أَنه بَقِي جَوْهَر حَيّ نَاطِق بعد موت هَذَا الْبدن وَهَذَا يدل على أَن الْإِنْسَان غير هَذَا الْجَسَد الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة اتّفقت الفلاسفة على أَن النَّفس جَوْهَر لَيْسَ بجسم وَلَا بجسماني وَهَذَا عِنْدِي بَاطِل وَالدَّلِيل عَلَيْهِ وَهُوَ أَنه لَو كَانَ الْأَمر كَمَا قَالُوا لَكَانَ تصرفها فِي الْبدن لَيْسَ بِآلَة جسمانية لِأَن الْجَوْهَر الْمُجَرّد يمْتَنع أَن يكون لَهُ قرب وَبعد من الْأَجْسَام بل يكون تَأْثِيره فِي الْبدن تَأْثِيرا بمحض الاختراع من غير حُصُول شَيْء من الْآلَات والأدوات وَإِذا كَانَت النَّفس قادرة على تَحْرِيك بعض الْأَجْسَام من غير آلَة وَجب أَن تكون قادرة على تَحْرِيك جَمِيع الْأَجْسَام من غير آلَة لِأَن الْأَجْسَام بأسرها قَابِلَة للحركة وَالنَّفس قادرة على التحريك وَنسبَة ذَاتهَا إِلَى جَمِيع الْأَجْسَام على السوية فَوَجَبَ أَن تكون النَّفس قادرة على تَحْرِيك جَمِيع الْأَجْسَام من غير حَاجَة إِلَى شَيْء من الْآلَات والأدوات وَلما كَانَ هَذَا الثَّانِي بَاطِلا كَانَ الْمُقدم بَاطِلا أما إِذا قُلْنَا إِنَّه جَوْهَر جسماني نوراني شرِيف حَاصِل فِي دَاخل هَذَا الْبدن فَحِينَئِذٍ يُمكن أَن تكون أَفعاله بالآلات الجسدانية

المسألة الثالثة قال أبو علي هذه النفوس الناطقة حادثة

وَاحْتج الرئيس أَبُو عَليّ على كَونهَا مُجَرّدَة بِوُجُوه الأول أَن ذَات الله تَعَالَى لَا تَنْقَسِم فالعلم بِهِ يمْتَنع أَن يكون منقسما فَلَو حل هَذَا الْعلم فِي الْجِسْم لانقسم وَذَلِكَ محَال الثَّانِي أَن الْعُلُوم الْكُلية صور مُجَرّدَة فإمَّا أَن يكون تجردها التجرد الْمَأْخُوذ عَنهُ وَهُوَ بَاطِل لِأَن الْمَأْخُوذ عَنهُ هُوَ الْأَشْخَاص الْجُزْئِيَّة أَو لتجرد الْآخِذ فَحِينَئِذٍ يكون الْآخِذ مُجَردا والأجسام والجسمانيات غير مُجَرّدَة وَالثَّالِث أَن الْقُوَّة الْعَقْلِيَّة تقوى على أَفعَال غير متناهية والقوى الجسمانية لَا تقوى عَلَيْهَا فالقوة الْعَقْلِيَّة لَيست جسمانية وَالْجَوَاب عَن الأول أَن قَوْله أَن مَا يكون صفة للمنقسم يجب أَن يكون منقسما ينْتَقض بالوحدة والنقطة وبالإضافات فَإِن الْأُبُوَّة لَا يُمكن إِنَّه يُقَال إِنَّه قَامَ بِنصْف بدن الْأَب نصفهَا وبثلثه ثلثهَا وَعَن الثَّانِي أَن النَّفس الموصوفة بذلك الْعلم الْكُلِّي نفس جزئية شخصية وَذَلِكَ الْعلم صَار مُقَارنًا لسَائِر الْأَعْرَاض الْحَالة فِي تِلْكَ النَّفس فَإِذا لم تصر هَذِه الْأَشْيَاء مَانِعَة من كَون تِلْكَ الصُّورَة كُلية بذلك لَا يصير كَون ذَلِك الْجَوْهَر جسمانيا مَانِعا من كَون تِلْكَ الصُّورَة كُلية وَعَن الثَّالِث أَن قَوْله الْقُوَّة الجسمانية لَا تقوى على أَفعَال غير متناهية قَول بَاطِل لِأَنَّهُ لَا وَقت يشار إِلَيْهِ إِلَّا وَالْقُوَّة الجسمانية مُمكنَة الْبَقَاء فِيهِ وَمَعَ بَقَائِهَا تكون مُمكنَة التَّأْثِير وَإِلَّا فقد انْتقل الشَّيْء من الْإِمْكَان الذاتي إِلَى الِامْتِنَاع الذاتي وَهُوَ محَال الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة قَالَ أَبُو عَليّ هَذِه النُّفُوس الناطقة حَادِثَة لِأَنَّهَا لَو كَانَت مَوْجُودَة قبل الْأَبدَان فَهِيَ فِي ذَلِك الْوَقْت إِمَّا أَن تكون وَاحِدَة أَو كَثِيرَة فَالْأول محَال لِأَنَّهَا لَو كَانَت وَاحِدَة فَإِذا تكثرت وَجب أَن

المسألة الرابعة قالوا التناسخ محال

يعْدم ذَلِك الَّذِي كَانَ وَاحِدًا وتحدث هَذِه الْكَثْرَة وَالثَّانِي محَال لِأَن حُصُول الامتياز لَيْسَ بالماهية وَلَا بلوازمها لِأَن النُّفُوس الإنسانية متحدة بالنوع وَلَا بالعوارض أَيْضا لِأَن الِاخْتِلَاف بالعوارض إِنَّمَا يكون بِسَبَب الْموَاد ومواد النُّفُوس الْأَبدَان وَقبل الْأَبدَان لَيست الْأَبدَان مَوْجُودَة وَاعْلَم أَن هَذِه الْحجَّة مَبْنِيَّة على أَن النُّفُوس متحدة بالماهية وَلم يذكر فِي تَقْرِيره دَلِيلا وَأَيْضًا فَلم لَا يجوز أَن يُقَال هَذِه النُّفُوس قبل هَذِه الْأَبدَان كَانَت مُتَعَلقَة بأبدان أُخْرَى فَهَذَا الدَّلِيل لَا يَصح إِلَّا بعد إبِْطَال التناسخ وَدَلِيله فِي إبِْطَال التناسخ مَبْنِيّ على حُدُوث النَّفس فَيلْزم الدّور الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة قَالُوا التناسخ محَال لأَنا قد دللنا على أَن النَّفس حَادِثَة وَعلة حدوثها هُوَ الْعقل الفعال وَهُوَ قديم فَلَو لم يكن فيضان هَذِه النُّفُوس عَن الْعقل الفعال مَوْقُوفا على شَرط حَادث لوَجَبَ قدم هَذِه النُّفُوس لأجل قدم علتها وَلما كَانَ ذَلِك بَاطِلا علمنَا أَن فيضانها عَن تِلْكَ الْعلَّة الْقَدِيمَة مَوْقُوف على شَرط حَادث وَذَلِكَ الشَّرْط هُوَ حُدُوث الْأَبدَان فَإِذا حدث الْبدن وَجب أَن تحدث نفس مُتَعَلقَة بِهِ فَلَو تعلّقت نفس أُخْرَى بِهِ على سَبِيل التناسخ لزم تعلق النفسين بِالْبدنِ الْوَاحِد وَهُوَ محَال وَاعْلَم أَنه ظهر أَن دَلِيله فِي نفي التناسخ مَوْقُوف على إِثْبَات كَون النَّفس حَادِثَة فَلَو أثبتنا حُدُوث النُّفُوس بِالْبِنَاءِ على نفس التناسخ لزم الدّور وَأَنه محَال والأقوى فِي نفي التناسخ أَن يُقَال لَو كُنَّا موجودين قبل هَذَا الْبدن لوَجَبَ أَن نَعْرِف أحوالنا فِي تِلْكَ الْأَبدَان كَمَا أَن من مارس ولَايَة بَلْدَة سِنِين كَثِيرَة فَإِنَّهُ يمْتَنع أَن ينساها

المسألة الخامسة قالوا النفوس باقية بعد فناء الأبدان

الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة قَالُوا النُّفُوس بَاقِيَة بعد فنَاء الْأَبدَان لِأَنَّهَا لَو كَانَت قَابِلَة للعدم لَكَانَ لذَلِك الْقبُول مَحل وَمحله يمْتَنع أَن يكون هُوَ تِلْكَ النَّفس لِأَن الْقَابِل وَاجِب الْبَقَاء عِنْد وجود المقبول وجوهر النَّفس لَا يبْقى بعد فَسَادهَا فَوَجَبَ أَن يكون مَحل ذَلِك الْإِمْكَان جوهرا آخر فَتكون النَّفس مركبة من الهيولي وَالصُّورَة وَحِينَئِذٍ نقُول إِن هيولي النَّفس وَجب قِيَامهَا بذاتها قطعا للتسلسل فَوَجَبَ أَن لَا يَصح الْفساد عَلَيْهِ مَعَ أَنه جَوْهَر مُجَرّد فَيكون قَابلا للصورة الْعَقْلِيَّة وَلَيْسَت النَّفس إِلَّا هَذَا الْجَوْهَر فَيُقَال لَهُم لم لَا يجوز أَن يكون قبُول تِلْكَ الهيولي لتِلْك الصُّورَة الْعَقْلِيَّة كَانَ مَشْرُوطًا بِحُصُول تِلْكَ الصُّورَة فَعِنْدَ فنَاء تِلْكَ الصُّورَة لَا يبْقى ذَلِك الْقبُول الْمَسْأَلَة السَّادِسَة اعْلَم أَن طريقنا فِي بَقَاء النُّفُوس إطباق الْأَنْبِيَاء والأولياء والحكماء عَلَيْهِ ثمَّ إِن هَذَا الْمَعْنى يتَأَكَّد بالإقناعات الْعَقْلِيَّة فَالْأول أَن الْمُوَاظبَة على الْفِكر يُفِيد كَمَال النَّفس ونقصان الْبدن فَلَو كَانَت النَّفس تَمُوت بِمَوْت الْبدن لامتنع أَن يكون الْمُوجب لنُقْصَان الْبدن ولبطلانه سَببا لكَمَال النَّفس وَالثَّانِي أَن عدم النّوم يضعف الْبدن وَيُقَوِّي النَّفس وَهُوَ يدل على مَا قُلْنَاهُ وَالثَّالِث أَن عِنْد الْأَرْبَعين يزْدَاد كَمَال النَّفس ويقوى نُقْصَان الْبدن وَهُوَ يدل على مَا قُلْنَاهُ الرَّابِع أَن عِنْد الرياضات الشَّدِيدَة يحصل للنَّفس كمالات عَظِيمَة

المسألة السابعة قال جالينوس النفوس ثلاث

وتلوح لَهَا الْأَنْوَار وتتكشف لَهَا المغيبات مَعَ أَنه يضعف الْبدن جدا وَكلما كَانَ ضعف الْبدن أكمل كَانَت قُوَّة النَّفس أكمل فَهَذِهِ الاعتبارات الْعَقْلِيَّة إِذا انضمت إِلَى أَقْوَال جُمْهُور الْأَنْبِيَاء والحكماء أفادت الْجَزْم بِبَقَاء النَّفس الْمَسْأَلَة السَّابِعَة قَالَ جالينوس النُّفُوس ثَلَاث الشهوانية ومحلها الكبد وَهِي أدنى الْمَرَاتِب والغضبية ومحلها الْقلب وَهِي أوسطها والناطقة ومحلها الدِّمَاغ وَهِي أشرفها وَقَالَ الْمُحَقِّقُونَ النَّفس وَاحِدَة والشهوة وَالْغَضَب والإدراك صفاتها وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَنه مَا لم يعْتَقد كَونه لذيذا لَا يصير مشتهيا لَهُ وَمَا لم يعْتَقد كَونه مُؤْذِيًا فَإِنَّهُ لَا يغْضب عَلَيْهِ فَوَجَبَ أَن يكون الَّذِي يَشْتَهِي ويغضب هُوَ الَّذِي أدْرك الْمَسْأَلَة الثَّامِنَة أَنه لَا يجب فِي كل مَا كَانَ محبوبا أَن يكون محبوبا لشَيْء آخر وَإِلَّا لدار أَو تسلسل بل لَا بُد وَأَن يَنْتَهِي إِلَى مَا يكون محبوبا لذاته فالاستقراء يدل على أَن معرفَة الْكَامِل من حَيْثُ هُوَ كَامِل يُوجب محبته إِذا عرفت هَذَا فَنَقُول جَوْهَر النَّفس إِذا عرف ذَات الله تَعَالَى وَصِفَاته وَكَيْفِيَّة صُدُور أَفعاله عَنهُ وأقسام حكمته فِي تخليق الْعَالم الْأَعْلَى والأسفل صَارَت تِلْكَ الْمعرفَة مُوجبَة للمحبة ثمَّ كَمَا أَن إِدْرَاك النَّفس أشرف الإدراكات وَذَات الله تَعَالَى أشرف المدركات وَجب أَن تكون الْمحبَّة أكمل أَنْوَاع الْمحبَّة والمحب إِذا وصل إِلَى المحبوب كَانَ مِقْدَار لذته بِمِقْدَار محبته وبمقدار وُصُوله إِلَى ذَلِك المحبوب فَهَذَا يَقْتَضِي أَن يكون النَّفس الناطقة إِذا عرفت الله تَعَالَى وتطهرت عَن الْميل إِلَى هَذِه الجسمانيات فَإِنَّهَا بعد الْمَوْت تصل إِلَى لذات عالية وسعادات كَامِلَة وَالله أعلم

المسألة التاسعة في مراتب النفوس

الْمَسْأَلَة التَّاسِعَة فِي مَرَاتِب النُّفُوس اعْلَم أَن النُّفُوس بِحَسب أَحْوَال قوتها النظرية على أَرْبَعَة أَقسَام فأشرفها النُّفُوس الموصوفة بالعلوم القدسية الإلهية وَثَانِيها الَّتِي حصلت لَهَا اعتقادات حقة فِي الإلهيات والمفارقات لَا بِسَبَب الْبُرْهَان اليقيني بل إِمَّا بالإقناعات وَإِمَّا بالتقليد والمرتبة الثَّالِثَة النُّفُوس الخالية عَن الاعتقادات الحقة والباطلة الْمرتبَة الرَّابِعَة النُّفُوس الموصوفة بالاعتقادات الْبَاطِلَة وَأما بِحَسب أَحْوَال قوتها العملية فَهِيَ على أَقسَام ثَلَاثَة أَحدهَا النُّفُوس الموصوفة بالأخلاق الفاضلة وَثَانِيها النُّفُوس الخالية عَن الْأَخْلَاق الفاضلة والأخلاق الردية وَثَالِثهَا النُّفُوس الموصوفة بالأخلاق الردية ورئيسها حب الجسمانيات فَإِن النُّفُوس بعد موت الْبدن يعظم شوقها إِلَى هَذِه الجسمانيات وَلَا يكون لَهَا قدرَة على الْفَوْز بهَا وَلَا يكون لَهَا إلْف لعالم المفارقات فَتبقى تِلْكَ النَّفس كمن نقل عَن مجاورة معشوقة إِلَى مَوضِع ظلماني شَدِيد الظلمَة نَعُوذ بِاللَّه مِنْهَا وَلما كَانَ لَا نِهَايَة لمراتب الْعُلُوم والأخلاق فِي كثرتها وقوتها وطهارتها عَن أضدادها فَكَذَلِك لَا نِهَايَة لأحوال النُّفُوس بعد الْمَوْت الْمَسْأَلَة الْعَاشِرَة الْحق عندنَا أَن النُّفُوس مُخْتَلفَة بِحَسب ماهيتها وجواهرها فَمِنْهَا نفوس نورانية علوِيَّة وَمِنْهَا كثيفة كدرة وَلَا يبعد أَيْضا أَن يُقَال فِي النُّفُوس الناطقة جنس تَحت أَنْوَاع وَتَحْت كل نوع أشخاص لَا يُخَالف بَعْضهَا بَعْضًا إِلَّا فِي الْعدَد وكل نوع مِنْهَا فَهُوَ كَالْوَلَدِ لروح من الْأَرْوَاح السماوية وَهَذَا هُوَ الَّذِي كَانَ يُسَمِّيه أَصْحَاب الطلسمات بالطباع التَّام وَذَلِكَ الْملك هُوَ الَّذِي يتَوَلَّى إصْلَاح أَحْوَال تِلْكَ النُّفُوس تَارَة بالإلهامات وَتارَة بطرِيق النفث فِي الروع ولنقتصر من مبَاحث النُّفُوس الناطقة على هَذَا الْقدر وَالله أعلم بِالصَّوَابِ

الْبَاب التَّاسِع فِي أَحْوَال الْقِيَامَة وَفِيه مسَائِل

المسألة الأولى إعادة المعدوم عندنا جائزة خلافا لجمهور الفلاسفة والكرامية وطائفة من المعتزلة

الْمَسْأَلَة الأولى إِعَادَة الْمَعْدُوم عندنَا جَائِزَة خلافًا لجمهور الفلاسفة والكرامية وَطَائِفَة من الْمُعْتَزلَة قُلْنَا أَن تِلْكَ الماهيات كَانَت قَابِلَة للوجود وَذَلِكَ الْقبُول من لَوَازِم تِلْكَ الْمَاهِيّة فَوَجَبَ أَن يبْقى ذَلِك الْقبُول بِبَقَاء تِلْكَ الْمَاهِيّة فَإِن قَالُوا إِن ذَلِك الشَّخْص لما عدم امْتنع أَن يحكم عَلَيْهِ حَال عَدمه بِشَيْء من الْأَحْكَام فَامْتنعَ الحكم عَلَيْهِ بِهَذِهِ القابلية فَنَقُول إِن الحكم عَلَيْهِ بامتناع الحكم عَلَيْهِ حكم عَلَيْهِ بِهَذَا الِامْتِنَاع فَلَو لم يكن حَال عَدمه قَابلا لهَذَا الحكم لَكَانَ هَذَا الحكم بَاطِلا وَإِن كَانَ قَابلا للْحكم فَحِينَئِذٍ يسْقط هَذَا السُّؤَال الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة الْأَجْسَام قَابِلَة للعدم لأَنا قد دللنا على أَن الْعَالم مُحدث والمحدث مَا يَصح عَلَيْهِ الْعَدَم وَتلك الصِّحَّة من لَوَازِم الماهيات وَإِلَّا لزم التسلسل فِي صِحَة تِلْكَ الصِّحَّة فَوَجَبَ بَقَاء تِلْكَ الْمَاهِيّة فَثَبت أَنَّهَا قَابِلَة للعدم

المسألة الثالثة القول بحشر الأجساد حق

الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة القَوْل بحشر الأجساد حق وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن عود ذَلِك الْبدن فِي نَفسه مُمكن وَالله تَعَالَى قَادر على كل الممكنات عَالم بِكُل المعلومات فَكَانَ القَوْل بالحشر مُمكنا فَهَذِهِ مُقَدمَات ثَلَاث الْمُقدمَة الأولى قَوْلنَا إِن عود ذَلِك الْبدن فِي نَفسه مُمكن وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن إِعَادَة الْمَعْدُوم إِمَّا أَن تكون مُمكنَة أَو لَا تكون مُمكنَة فَإِن كَانَت مُمكنَة فالمقصود حَاصِل وَإِن لم تكن مُمكنَة فَنَقُول الدَّلِيل الْعقلِيّ دلّ على أَن الْأَجْسَام تقبل الْعَدَم وَلم يدل على أَنَّهَا تعدم لَا محَالة فَلَمَّا ثَبت بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتر من دين الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام أَن القَوْل بحشر الأجساد حق وَثَبت أَن الْأَجْسَام لَو عدمت لامتنع إِعَادَتهَا كَانَ ذَلِك دَلِيلا قَاطعا على أَنه تَعَالَى لَا يعْدم الأجساد بل يبقيها بِأَعْيَانِهَا وَإِذا كَانَت بَاقِيَة بِأَعْيَانِهَا فَهِيَ قَابِلَة للحياة وَالْعقل وَالْقُدْرَة فَحِينَئِذٍ يَصح أَن عودة ذَلِك الْبدن بِعَيْنِه مُمكنَة وَأما الْمُقدمَة الثَّانِيَة وَهِي قَوْلنَا إِنَّه تَعَالَى قَادر على كل الممكنات فقد دللنا على صِحَّتهَا وَأما الْمُقدمَة الثَّالِثَة وَهِي قَوْلنَا إِن الله تَعَالَى عَالم بِجَمِيعِ الجزئيات فالفائدة فِيهَا أَن يكون الله تَعَالَى قَادِرًا على تَمْيِيز أَجزَاء بدن هَذَا الْإِنْسَان عَن أَجزَاء ذَلِك الْإِنْسَان الآخر فَإِذا ثبتَتْ هَذِه الْمُقدمَات الثَّلَاث فقد ثَبت أَن حشر الأجساد مُمكن وَإِذا ثَبت الْإِمْكَان فَنَقُول إِن الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام أخبروا عَن وُقُوعه والصادق إِذا أخبر عَن وُقُوع شَيْء مُمكن الْوُقُوع وَجب الْقطع بِصِحَّتِهِ فَوَجَبَ الْقطع بِصِحَّة الْحَشْر والنشر احْتَجُّوا على إِنْكَاره بِأَن قَالُوا إِذا قتل إِنْسَان واغتذى بِهِ إِنْسَان آخر

المسألة الرابعة ثواب القبر وعذابه حق

فَتلك الْأَجْزَاء إِن ردَّتْ إِلَى بدن هَذَا فقد ضَاعَ ذَلِك وَبِالْعَكْسِ وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ فقد بَطل القَوْل بالحشر والنشر وَالْجَوَاب عَنهُ أما على قَوْلنَا إِن الْإِنْسَان جَوْهَر نوراني مشرق فِي دَاخل الْبدن فَكل الإشكالات زائلة وَأما على ظَاهر قَول الْمُتَكَلِّمين فَهُوَ أَن الْإِنْسَان فِيهِ أَجزَاء أَصْلِيَّة وأجزاء فضلية وَالْمُعْتَبر إِعَادَة الْأَجْزَاء الْأَصْلِيَّة لهَذَا الْإِنْسَان ثمَّ أَن الْأَجْزَاء الْأَصْلِيَّة فِي هَذَا الْإِنْسَان أَجزَاء فاضلة لغيره فَزَالَ هَذَا السُّؤَال وَالْمذهب الَّذِي اخترناه قريب من هَذَا الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة ثَوَاب الْقَبْر وعذابه حق لأَنا بَينا أَن الْإِنْسَان جَوْهَر لطيف نوراني سَاكن فِي هَذَا الْبدن فَبعد خراب هَذَا الْبدن إِن كَانَ كَامِلا فِي قُوَّة الْعلم وَالْعَمَل كَانَ فِي الْغِبْطَة والسعادة وَإِن كَانَ نَاقِصا فيهمَا كَانَ فِي الْبلَاء وَالْعَذَاب ثمَّ الْقُرْآن الْقَدِيم يدل عَلَيْهِ أما فِي حق السُّعَدَاء فَقَوله تَعَالَى {وَلَا تحسبن الَّذين قتلوا فِي سَبِيل الله أَمْوَاتًا بل أَحيَاء عِنْد رَبهم يرْزقُونَ فرحين بِمَا آتَاهُم الله من فَضله} وَأما فِي حق الأشقياء فَقَوله تَعَالَى {النَّار يعرضون عَلَيْهَا غدوا وعشيا} وَقَوله تَعَالَى {أغرقوا فأدخلوا نَارا} الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة الْجنَّة وَالنَّار مخلوقتان أما الْجنَّة فَلقَوْله تَعَالَى فِي صفتهَا {أعدت لِلْمُتقين} وَأما النَّار فَلقَوْله تَعَالَى فِي صفتهَا {فَاتَّقُوا النَّار الَّتِي وقودها النَّاس وَالْحِجَارَة أعدت للْكَافِرِينَ} وَقَوله تَعَالَى {وَاتَّقوا النَّار الَّتِي أعدت للْكَافِرِينَ}

المسألة السادسة يجب الإيمان بأن الله تعالى يخرب السموات والأرض

وَاحْتَجُّوا على أَنَّهَا غير مخلوقة بِأَنَّهَا لَو كَانَت مخلوقة الْآن وَجب أَن لَا يَنْقَطِع نعيمها لقَوْله تَعَالَى أكلهَا دَائِم وَيجب عدمهَا يَوْم الْقِيَامَة لقَوْله تَعَالَى كل شَيْء هَالك إِلَّا وَجهه قُلْنَا يحمل قَوْله تَعَالَى أكلهَا دَائِم على مَا يحصل بعد دُخُول الْمُكَلّفين الْجنَّة أَو يدْخل التَّخْصِيص فِي عُمُوم قَوْله كل شَيْء هَالك إِلَّا وَجهه الْمَسْأَلَة السَّادِسَة يجب الْإِيمَان بِأَن الله تَعَالَى يخرب السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَنا بَينا أَن الْأَجْسَام كلهَا متماثلة فَكل مَا يَصح على بَعْضهَا يَصح على الْبَاقِي وَذَلِكَ يدل على أَن تخربها وتغيير صفاتها مُمكن وَالنَّص قد ورد بِهِ فَوَجَبَ الْإِقْرَار بِهِ الْمَسْأَلَة السَّابِعَة وزن الْأَعْمَال حق وَيكون المُرَاد مِنْهُ إِمَّا وزن صَحَائِف الْأَعْمَال أَو أَن الله تَعَالَى يظْهر الرجحان فِي كفة الْمِيزَان على وفْق مقادير أَعْمَالهم فِي الْخَيْر وَالشَّر وَكَذَلِكَ إنطاق الْجَوَارِح مُمكن لِأَن البنية لَيست شرطا لوُجُود الْحَيَاة وَالله تَعَالَى قَادر على كل الممكنات وَكَذَا القَوْل فِي الْحَوْض والصراط الْمَسْأَلَة الثَّامِنَة ثَوَاب أهل الْجنَّة وَعَذَاب أهل النَّار دَائِم وَقَالَ أَبُو الْهُذيْل إِن ذَلِك يَنْتَهِي إِلَى سُكُون دَائِم يُوجب اللَّذَّة لأهل الْجنَّة والألم لأهل النَّار

المسألة التاسعة العمل لا يكون علة لاستحقاق الثواب خلافا لمعتزلة البصرة

وَقَالَ جُمْهُور الْمُعْتَزلَة والخوارج إِن الثَّوَاب وَالْعِقَاب يَنْقَطِع وَدَلِيلنَا أَن هَذَا الدَّوَام أَمر مُمكن وَإِلَّا فَيلْزم الِانْتِهَاء إِلَى وَقت ينْتَقل الشَّيْء من الْإِمْكَان الذاتي إِلَى الِامْتِنَاع الذاتي وَهُوَ محَال وَإِذا كَانَ الدَّوَام مُمكنا وَقد أخبر عَنهُ الصَّادِق وَجب الْإِقْرَار بِهِ احْتَجُّوا بِأَنَّهُ تَعَالَى إِن لم يعلم كمية عدد أنفاسهم كَانَ ذَلِك تجهيلا لله تَعَالَى وَإِن كَانَ عَالما بكمياتها كَانَت الْأَعْدَاد متناهية وَالْجَوَاب أَنه تَعَالَى يعلم كل شَيْء كَمَا هُوَ فِي نَفسه فَلَمَّا لم يكن لتِلْك الْحَوَادِث أعداد متناهية امْتنع أَن يعلم كَونهَا متناهية الْمَسْأَلَة التَّاسِعَة الْعَمَل لَا يكون عِلّة لاسْتِحْقَاق الثَّوَاب خلافًا لمعتزلة الْبَصْرَة لنا وُجُوه الأول لَو وَجب على الله تَعَالَى إِعْطَاء الثَّوَاب فإمَّا أَن يقدر على التّرْك أَو لَا يقدر على التّرْك فَإِن قدر على التّرْك وَجب أَن يصير مُسْتَحقّا للذم مَوْصُوفا بِالنُّقْصَانِ وَهُوَ على الله تَعَالَى محَال وَإِن لم يقدر على التّرْك فَذَلِك قدح فِي كَونه فَاعِلا قَادِرًا مُخْتَارًا الثَّانِي أَن لله تَعَالَى على العَبْد نعما عَظِيمَة وَتلك النعم توجب الشُّكْر وَالطَّاعَة وَلما وَقعت هَذِه الطَّاعَات فِي مُقَابلَة النعم السابغة امْتنع كَونهَا مُوجبَة بعد ذَلِك للثَّواب لِأَن أَدَاء الْوَاجِب لَا يُوجب شَيْئا آخر الثَّالِث أَنا دللنا على أَن فعل العَبْد إِنَّمَا وَقع لِأَن مَجْمُوع الْقُدْرَة مَعَ الدَّاعِي يُوجِبهُ وَهُوَ فعل الله تَعَالَى وفاعل السَّبَب فَاعل للمسبب فَفعل العَبْد يكون فعلا لله تَعَالَى وَفعل الله تَعَالَى لَا يُوجب شَيْئا على الله تَعَالَى

المسألة العاشرة من الناس من قال إن الوعيد الوارد في الكتب الإلهية إنما جاء للتخويف فأما فعل الإيلام فذلك لا يوجد واحتج عليه بوجوه

الْمَسْأَلَة الْعَاشِرَة من النَّاس من قَالَ إِن الْوَعيد الْوَارِد فِي الْكتب الإلهية إِنَّمَا جَاءَ للتخويف فَأَما فعل الإيلام فَذَلِك لَا يُوجد وَاحْتج عَلَيْهِ بِوُجُوه الأول أَن ذَلِك الْعقَاب ضَرَر خَال عَن النَّفْع فَيكون قبيحا أما أَنه ضَرَر فَظَاهر وَأما أَنه خَال عَن النَّفْع فَلِأَن ذَلِك النَّفْع يمْتَنع عوده إِلَى الله تَعَالَى لكَونه تَعَالَى منزها عَن المضار وَالْمَنَافِع وَيمْتَنع عوده إِلَى ذَلِك العَبْد المذنب وَهُوَ مَعْلُوم بِالضَّرُورَةِ وَيمْتَنع عوده إِلَى غَيره لِأَنَّهُ لَا نفع يُرِيد الله إيصاله إِلَى عبد إِلَّا وَهُوَ قَادر على فعله بِدُونِ إيصاله هَذَا الضَّرَر إِلَى هَذَا المعذب وَأَيْضًا فإيصال الضَّرَر إِلَى حَيَوَان لأجل أَن ينْتَفع بِهِ حَيَوَان آخر ظلم فَثَبت أَنه ضَرَر خَال عَن النَّفْع من كل الْوُجُوه وَهَذَا لَا يَلِيق بأرحم الرَّاحِمِينَ الثَّانِي أَن العَبْد يَقُول يَوْم الْقِيَامَة يَا إِلَه الْعَالمين هَذِه الْأَشْيَاء الَّتِي كلفتني بهَا وعصيتك فِيهَا إِن كَانَت خَالِيَة عَن الْحِكْمَة وَالْغَرَض كَانَ التعذيب على تَركهَا لَا يَلِيق بِالرَّحْمَةِ وَإِن كَانَت مُشْتَمِلَة على الْحِكْمَة وَالْغَرَض فَتلك الْحِكْمَة إِن عَادَتْ إِلَيْك فَأَنت مُحْتَاج إِلَى وَإِن كَانَ الْمَقْصُود من تكليفي بهَا عود مَنَافِعهَا إِلَيّ فَلَمَّا تركتهَا فَمَا قصرت إِلَّا فِي حق نَفسِي فَكيف يَلِيق بالحكيم أَن يعذب حَيَوَانا لأجل أَنه قصر فِي حق نَفسه وَيجْرِي هَذَا مجْرى من يَقُول لعَبْدِهِ حصل لنَفسك هَذَا الدانق لتنتفع بِهِ فَإِذا قصر فِيهِ أَخذه الْمولى وَقطع أعضاءه إربا إربا لأجل أَنه قصر فِي تحصل ذَلِك الدانق لنَفسِهِ وَهَذَا بِخِلَاف الْمولى إِذا أَمر عَبده فخالفه فَإِنَّهُ يحسن مِنْهُ عِقَابه وَذَلِكَ لِأَن الْمولى ينْتَفع بذلك الْفِعْل ويضره تَركه فَلَا جرم يحسن مِنْهُ أَن يُعَاقِبهُ على ذَلِك التّرْك وَأما فِي حق الله تَعَالَى فَهَذَا محَال قطعا فَظهر الْفرق وَالثَّالِث أَن جَمِيع أَفعَال العَبْد من مُوجبَات أَفعَال الله تَعَالَى فَكيف يحسن التعذيب مِنْهُ

المسألة الحادية عشرة منهم من سلم حسن عذاب الكفار إلا أنه قال إن المسلمين لا يعذبون

الْمَسْأَلَة الْحَادِيَة عشرَة مِنْهُم من سلم حسن عَذَاب الْكفَّار إِلَّا أَنه قَالَ إِن الْمُسلمين لَا يُعَذبُونَ لقَوْله تَعَالَى {إِن الخزي الْيَوْم وَالسوء على الْكَافرين} وَلقَوْله تَعَالَى {إِنَّا قد أُوحِي إِلَيْنَا أَن الْعَذَاب على من كذب وَتَوَلَّى} وَلقَوْله تَعَالَى كلما ألقِي فِيهَا فَوْج سَأَلَهُمْ خزنتها ألم يأتكم نَذِير قَالُوا بلَى قد جَاءَنَا نَذِير فكذبنا وَقُلْنَا مَا نزل الله من شَيْء إِن أَنْتُم إِلَّا فِي ضلال كَبِير فدلت هَذِه الْآيَة على أَن كل فَوْج يدْخل النَّار يكون مُكَذبا بِاللَّه وبرسوله فَمن لم يكن كَذَلِك وَجب أَن لَا يدْخل النَّار الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة عشرَة الَّذين سلمُوا أَن الْفَاسِق من أهل الصَّلَاة يدْخل النَّار اخْتلفُوا فَقَالَ أهل السّنة إِن الله تَعَالَى يعْفُو عَن الْبَعْض وَالَّذين يدخلهم النَّار لَا بُد وَأَن يخرجهم مِنْهَا وَقَالَت الْمُعْتَزلَة عَذَاب الْفَاسِق مؤبد لنا وُجُوه الأول قَوْله تَعَالَى إِن الله لَا يغْفر أَن يُشْرك بِهِ وَيغْفر مَا دون ذَلِك لمن شَاءَ وَجه الِاسْتِدْلَال بِهِ أَن تَقْدِير الْآيَة أَن الله لَا يغْفر أَن يُشْرك بِهِ تفضلا لِأَنَّهُ يغْفر على سَبِيل الْوُجُوب وَهُوَ مَا إِذا تَابَ عَن الشّرك وَإِذا ثَبت هَذَا وَجب أَن يكون قَوْله {وَيغْفر مَا دون ذَلِك لمن يَشَاء} تفضلا حَتَّى يرجع النَّفْي وَالْإِثْبَات إِلَى شَيْء وَاحِد وَمَعْلُوم أَن غفران صَاحب الصَّغِيرَة وغفران صَاحب الْكَبِيرَة بعد التَّوْبَة وَاجِب عِنْد الْخصم فَلم يبْق إِلَّا حمل الْآيَة على غفران صَاحب الْكَبِيرَة قبل التَّوْبَة وَهُوَ الْمَطْلُوب وَالثَّانِي قَوْله تَعَالَى قل يَا عبَادي الَّذين أَسْرفُوا على أنفسهم لَا

تقنطوا من رَحْمَة الله إِن الله يغْفر الذُّنُوب جَمِيعًا) وَجه الِاسْتِدْلَال أَن قَوْله تَعَالَى يَا عبَادي يَقْتَضِي تَخْصِيص هَذَا الْخطاب بِأَهْل الْإِيمَان فَإِن عَادَة الْقُرْآن جَارِيَة بتخصيص لفظ الْعباد بِالْمُؤْمِنِينَ وَقَوله {يغْفر الذُّنُوب جَمِيعًا} يُفِيد الْقطع بِوُجُود هَذَا الغفران وَعِنْدنَا أَن كل ذَلِك مَحْمُول على الْقطع بِأَن الله تَعَالَى يخرج جَمِيع أهل الْإِيمَان من النَّار الثَّالِث قَوْله تَعَالَى {وَإِن رَبك لذُو مغْفرَة للنَّاس على ظلمهم} أَي حَال ظلمهم وَذَلِكَ يدل على حُصُول الغفران قبل التَّوْبَة الرَّابِع هُوَ أَن الْمُؤمن يسْتَحق بإيمانه وَسَائِر طاعاته الثَّوَاب وَيسْتَحق بِفِسْقِهِ الْعقَاب على قَول الْخصم وَالْقَوْل بِزَوَال اسْتِحْقَاق الثَّوَاب بَاطِل لِأَنَّهُ إِمَّا أَن يحصل على سَبِيل الموازنة أَو لَا على هَذَا الْوَجْه وَالْأول بَاطِل لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَن يُؤثر كل وَاحِد مِنْهُمَا فِي عدم الآخر فَذَلِك التَّأْثِير إِمَّا أَن يَقع مَعًا أَو على التَّعَاقُب وَالْأول بَاطِل لِأَن الْمُؤثر فِي عدم كل وَاحِد مِنْهُمَا وجود الآخر وَالْعلَّة حَاصِلَة مَعَ الْمَعْلُول فَلَو حصل العدمان مَعًا لحصل الوجدان مَعًا مَعَ ذَيْنك العدمين وَذَلِكَ يُوجب الْجمع بَين النقيضين وَهُوَ محَال وَالثَّانِي وَهُوَ حُصُول هَذَا التَّأْثِير على سَبِيل التَّعَاقُب وَهُوَ محَال أَيْضا لِأَن المغلوب لَا يعود غَالِبا الْبَتَّةَ وَأما القَوْل بِأَنَّهُ الإحباط لَا مَعَ الموازنة فَهَذَا يَقْتَضِي أَن لَا ينْتَفع ذَلِك الْمُؤمن بإيمانه وَلَا بِطَاعَتِهِ الْبَتَّةَ لَا فِي جلب نفع وَلَا فِي دفع ضَرَر وَإنَّهُ ظلم فَثَبت بِمَا ذكرنَا أَن اسْتِحْقَاق الثَّوَاب بَاقٍ مَعَ اسْتِحْقَاق الْعقَاب وَإِذا ثَبت هَذَا وَجب حصولهما فإمَّا أَن يدْخل الْجنَّة مُدَّة ثمَّ ينْتَقل إِلَى النَّار وَهُوَ بَاطِل بالِاتِّفَاقِ وَإِمَّا أَن يدْخل النَّار مُدَّة ثمَّ ينْتَقل إِلَى الْجنَّة وَهُوَ الْحق وَاحْتج الْخصم بعمومات الْوَعيد وَهِي مُعَارضَة بعمومات الْوَعْد وَالتَّرْجِيح لهَذَا الْجَانِب لِأَن المساهلة فِي الْوَعيد كرم وَفِي الْوَعْد لؤم وَاحْتج أَيْضا بقوله تَعَالَى إِن الْأَبْرَار لفي نعيم وَإِن الْفجار لفي

المسألة الثالثة عشرة القول بشفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في حق فساق الأمة حق خلافا للمعتزلة

جحيم يصلونها يَوْم الدّين وَمَا هم عَنْهَا بغائبين) وَالْجَوَاب يجب حمل لفظ الْفجار على الْكَامِل فِي الْفُجُور وَهُوَ الْكَافِر تَوْفِيقًا بَين هَذِه الْآيَة وَبَين مَا ذكرنَا من الدَّلَائِل الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة عشرَة القَوْل بشفاعة الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حق فساق الْأمة حق خلافًا للمعتزلة لنا قَوْله تَعَالَى فِي صفة الْكفَّار {فَمَا تنفعهم شَفَاعَة الشافعين} وتخصيصهم بِهَذِهِ الْحَال يدل على أَن حَال الْمُؤمن بِخِلَافِهِ وَأَيْضًا قَالَ تَعَالَى {واستغفر لذنبك وَلِلْمُؤْمنِينَ وَالْمُؤْمِنَات} أَمر الله تَعَالَى نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يسْتَغْفر للمذنب مِنْهُم فَإِذا أَتَى بِهَذَا الاسْتِغْفَار فَالظَّاهِر أَنه يجب أَن يشرفه الله تَعَالَى بالإجابة إِلَيْهِ وَإِذا أَرَادَ ذَلِك وَجب أَن يحصل ذَلِك المُرَاد لقَوْله تَعَالَى {ولسوف يعطيك رَبك فترضى} وَأَيْضًا قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (أَعدَدْت شَفَاعَتِي لأهل الْكَبَائِر من أمتِي) وَاعْلَم أَن دَلَائِل الْمُعْتَزلَة فِي نفي الشَّفَاعَة يجب أَن تكون عَامَّة فِي حق الْأَشْخَاص وَفِي حق الْأَوْقَات وَإِلَّا فَلَا يفيدهم مقصودهم ودلائلنا فِي إِثْبَات الشَّفَاعَة مَخْصُوصَة فِي الْأَشْخَاص وَفِي الْأَوْقَات فَإنَّا لَا نثبت الشَّفَاعَة فِي حق الْكل فَثَبت أَن دلائلنا خَاصَّة ودلائلهم عَامَّة وَالْخَاص مقدم على الْعَام الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة عشرَة الْإِيمَان عبارَة عَن الِاعْتِقَاد وَالْقَوْل سَبَب لظُهُوره والأعمال خَارِجَة عَن مُسَمّى الْإِيمَان وَالدَّلِيل عَلَيْهِ وُجُوه الأول أَنه تَعَالَى جعل مَحل الْإِيمَان هُوَ الْقلب لقَوْله تَعَالَى {إِلَّا من أكره وَقَلبه مطمئن بِالْإِيمَان} وَقَالَ تَعَالَى وَلما يدْخل الْإِيمَان فِي

قُلُوبكُمْ) وَقَالَ تَعَالَى {أُولَئِكَ كتب فِي قُلُوبهم الْإِيمَان} وَمَعْلُوم أَن الْقلب مَحل الِاعْتِقَاد الثَّانِي أَنه كلما ذكر الْإِيمَان عطف الْأَعْمَال الصَّالِحَة عَلَيْهِ والعطف يُوجب التغاير ظَاهرا الثَّالِث أَنه أثبت الْإِيمَان مَعَ الْكَبَائِر فَقَالَ تَعَالَى {الَّذين آمنُوا وَلم يلبسوا إِيمَانهم بظُلْم} وَقَالَ تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا كتب عَلَيْكُم الْقصاص فِي الْقَتْلَى} الْآيَة فَسُمي قَاتل النَّفس عمدا عُدْوانًا بِالْمُؤمنِ وَقَالَ تَعَالَى وَإِن طَائِفَتَانِ من الْمُؤمنِينَ اقْتَتَلُوا فأصلحوا بَينهمَا فَإِن بَغت إِحْدَاهمَا على الْأُخْرَى فَقَاتلُوا الَّتِي تبغي حَتَّى تفيء إِلَى أَمر الله فَسُمي الْبَاغِي مُؤمنا وَاحْتج الْمُخَالف بِأَن قَالَ الْأَعْمَال مُسَمَّاة بِالدّينِ لقَوْله تَعَالَى {وَمَا أمروا إِلَّا ليعبدوا الله مُخلصين لَهُ الدّين حنفَاء ويقيموا الصَّلَاة ويؤتوا الزَّكَاة وَذَلِكَ دين الْقيمَة} وَقَوله ذَلِك عَائِد إِلَى كل مَا تقدم ذكره فَوَجَبَ أَن تكون كلهَا مُسَمّى بِالدّينِ وَالدّين هُوَ الْإِسْلَام لقَوْله تَعَالَى {إِن الدّين عِنْد الله الْإِسْلَام} وَالْإِسْلَام عين الْإِيمَان لِأَن الْإِيمَان لَو كَانَ غير الْإِسْلَام لما كَانَ مَقْبُولًا لقَوْله تَعَالَى {وَمن يبتغ غير الْإِسْلَام دينا فَلَنْ يقبل مِنْهُ} وبالإجماع الْإِيمَان مَقْبُول فَثَبت أَن الْأَعْمَال دين وَالدّين الْإِسْلَام وَالْإِسْلَام هُوَ الْإِيمَان فَوَجَبَ كَون الْأَعْمَال دَاخِلَة تَحت اسْم الْإِيمَان وَالْجَوَاب يجب التَّوْفِيق بَين هَذِه الدَّلَائِل بِقدر الْإِمْكَان فَنَقُول الْإِيمَان لَهُ أصل وَله ثَمَرَات وَالْأَصْل هُوَ الِاعْتِقَاد وَأما هَذِه الْأَعْمَال فقد يُطلق لفظ الْإِيمَان عَلَيْهَا كَمَا يُطلق اسْم أصل الشَّيْء على ثمراته

المسألة الخامسة عشرة القائلون بأن الأعمال داخلة تحت اسم الإيمان اختلفوا

الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة عشرَة الْقَائِلُونَ بِأَن الْأَعْمَال دَاخِلَة تَحت اسْم الْإِيمَان اخْتلفُوا فَقَالَ الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ الْفَاسِق لَا يخرج عَن الْإِيمَان وَهَذَا فِي غَايَة الصعوبة لِأَنَّهُ لَو كَانَ الْإِيمَان اسْما لمجموع أُمُور فَعِنْدَ فَوَات بَعْضهَا فقد فَاتَ ذَلِك الْمَجْمُوع فَوَجَبَ أَن لَا يبْقى الْإِيمَان فَأَما الْمُعْتَزلَة والخوارج فقد طردوا الْقيَاس وَقَالُوا الْفَاسِق يخرج عَن الْإِيمَان ثمَّ اخْتلف الْقَائِلُونَ بِهَذَا فَقَالَت الْمُعْتَزلَة إِنَّه يخرج عَن الْإِيمَان وَلَا يدْخل فِي الْكفْر وَهُوَ منزلَة بَين المنزلتين وَقَالَت الْخَوَارِج إِنَّه يدْخل فِي الْكفْر وَاحْتَجُّوا بقوله تَعَالَى {وَمن لم يحكم بِمَا أنزل الله فَأُولَئِك هم الْكَافِرُونَ} وَهُوَ فِي غَايَة الْبعد الْمَسْأَلَة السَّادِسَة عشرَة كَانَ عبد الله بن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ يَقُول أَنا مُؤمن إِن شَاءَ الله وَتَبعهُ جمع من عُظَمَاء الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ رَضِي الله عَنْهُم وَهُوَ قَول الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ وَأنْكرهُ أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه رَحِمهم الله تَعَالَى قَالَت الشَّافِعِيَّة لنا وُجُوه الأول أَنا لَا نحمل هَذَا على الشَّك فِي الْإِيمَان بل على التَّبَرُّك كَقَوْل الله تَعَالَى {لتدخلن الْمَسْجِد الْحَرَام إِن شَاءَ الله آمِنين} وَلَيْسَ المُرَاد مِنْهُ الشَّك لِأَنَّهُ على الله تَعَالَى محَال بل لأجل التَّبَرُّك والتعظيم وَالثَّانِي أَن يحمل على الشَّك لَكِن لَا فِي الْحَال بل فِي الْعَاقِبَة لِأَن الْإِيمَان المنتفع بِهِ هُوَ الْبَاقِي عِنْد الْمَوْت وكل أحد يشك فِي ذَلِك فنسأل الله تَعَالَى إبقاءنا على تِلْكَ الْحَالة وَالثَّالِث أَن الْإِيمَان لما كَانَ عِنْد الشَّافِعِي هُوَ مَجْمُوع الْأُمُور الثَّلَاثَة

المسألة السابعة عشرة اعلم أن الإنسان إذا صدر منه فعل أو ترك فإنه يحصل أولا في قلبه اعتقاد أنه نافع أو ضار ثم يتولد من اعتقاد كونه نافعا ميل إلى التحصيل ومن اعتقاد كونه ضارا ميل إلى الترك ثم تصير القدرة مع ذلك الميل موجبة إما للفعل أو للترك

وَهِي القَوْل وَالْعَمَل والاعتقاد وَكَانَ حُصُول الشَّك فِي الْعَمَل يَقْتَضِي حُصُول الشَّك فِي أحد أَجزَاء هَذِه الْمَاهِيّة فَيصح الشَّك فِي حُصُول الْإِيمَان وَأما عِنْد أبي حنيفَة رَضِي الله عَنهُ فَلَمَّا كَانَ الْإِيمَان عبارَة عَن الِاعْتِقَاد الْمُجَرّد لم يكن الشَّك فِي الْعَمَل مُوجبا لوُقُوع الشَّك فِي الْإِيمَان فَظهر أَنه لَيْسَ بَين الْإِمَامَيْنِ رَضِي الله عَنْهُمَا مُخَالفَة فِي الْمَعْنى الْمَسْأَلَة السَّابِعَة عشرَة اعْلَم أَن الْإِنْسَان إِذا صدر مِنْهُ فعل أَو ترك فَإِنَّهُ يحصل أَولا فِي قلبه اعْتِقَاد أَنه نَافِع أَو ضار ثمَّ يتَوَلَّد من اعْتِقَاد كَونه نَافِعًا ميل إِلَى التَّحْصِيل وَمن اعْتِقَاد كَونه ضارا ميل إِلَى التّرْك ثمَّ تصير الْقُدْرَة مَعَ ذَلِك الْميل مُوجبَة إِمَّا للْفِعْل أَو للترك إِذا ثَبت ذَلِك فالتوبة كَذَلِك فَإِن الرجل إِذا اعْتقد أَن فعل الْمعْصِيَة يُوجب الضَّرَر الْعَظِيم ترَتّب على حُصُول هَذَا الِاعْتِقَاد نفرة عَنهُ ثمَّ إِن تِلْكَ النفرة مُقْتَضى ثَلَاثَة أُمُور فأولها النَّدَم بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا صدر عَنهُ فِي الْمَاضِي الثَّانِي تَركه بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحَال الثَّالِث الْعَزْم على التّرْك بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُسْتَقْبل فَهَذَا هُوَ الْكَلَام فِي حَقِيقَة التَّوْبَة الْمَسْأَلَة الثَّامِنَة عشرَة التَّوْبَة وَاجِبَة على العَبْد لقَوْله تَعَالَى {تُوبُوا إِلَى الله تَوْبَة نصُوحًا} وَهِي مَقْبُولَة قطعا لقَوْله تَعَالَى {وَهُوَ الَّذِي يقبل التَّوْبَة عَن عباده}

المسألة التاسعة عشرة قال الأكثرون التوبة عن بعض المعاصي مع الإصرار على البعض صحيحة وقال أبو هشام إنها لا تصح

وَقَالَت الْمُعْتَزلَة يجب قبُولهَا على الله تَعَالَى عقلا وَقَالَ أهل السّنة لَا يجب على الله شَيْء الْبَتَّةَ وَقَالَت الفلاسفة الْمعْصِيَة إِنَّمَا توجب الْعَذَاب من حَيْثُ إِن حب الجسمانيات إِذا بَقِي فِي النَّفس بعد مُفَارقَة الْبدن وَلَا يُمكنهَا الْوُصُول إِلَى المحبوب فَحِينَئِذٍ يعظم الْبلَاء فالتوبة عبارَة عَن اطلَاع النَّفس على قبح هَذِه الجسمانيات وَإِذا حصل هَذَا الِاعْتِقَاد زَالَ الْحبّ وحصلت النفرة فَبعد الْمَوْت لَا يحصل الْعَذَاب بِسَبَب الْعَجز عَن الْوُصُول إِلَيْهَا الْمَسْأَلَة التَّاسِعَة عشرَة قَالَ الْأَكْثَرُونَ التَّوْبَة عَن بعض الْمعاصِي مَعَ الْإِصْرَار على الْبَعْض صَحِيحَة وَقَالَ أَبُو هِشَام إِنَّهَا لَا تصح حجَّة الْأَوَّلين أَن الْيَهُودِيّ إِذا غضب حَبَّة ثمَّ تَابَ عَن الْيَهُودِيَّة مَعَ الْإِصْرَار على غصب تِلْكَ الْحبَّة أَجمعُوا على أَن تِلْكَ التَّوْبَة صَحِيحَة وَحجَّة أبي هِشَام أَنه لَو تَابَ عَن ذَلِك الْقَبِيح لمُجَرّد قبحه وَجب أَن يَتُوب عَن جَمِيع القبائح وَإِن تَابَ عَنهُ لَا لمُجَرّد قبحه بل لغَرَض آخر لم تصح تَوْبَته وَالْجَوَاب لم لَا يجوز أَن يَتُوب عَن ذَلِك الْقَبِيح لكَونه ذَلِك الْقَبِيح كَمَا أَن الْإِنْسَان قد يَشْتَهِي طَعَاما لَا لعُمُوم كَونه طَعَاما بل لكَونه ذَلِك الطَّعَام وَالله أعلم الْمَسْأَلَة الْعشْرُونَ الْمُخْتَار عندنَا أَنه لَا يكفر أحد من أهل الْقبْلَة إِلَّا بِدَلِيل مُنْفَصِل وَيدل عَلَيْهِ النَّص والمعقول أما النَّص فَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (من صلى صَلَاتنَا وَأكل ذبيحتنا واستقبل قبلتنا فَذَلِك الْمُسلم الَّذِي لَهُ ذمَّة الله وَذمَّة رَسُوله فَلَا

تخفروا الله فِي ذمَّته) وَأما الْمَعْقُول فَهُوَ أَن الْعلم بِهَذِهِ الْمسَائِل لَو كَانَ شرطا لصِحَّة الْإِيمَان لَكَانَ يجب أَن لَا يحكم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِإِيمَان أحد إِلَّا بعد أَن يسْأَله عَنْهَا وَلما لم يكن كَذَلِك بل كَانَ يحكم بإيمَانهمْ من غير أَن يسألهم عَن هَذِه الْمسَائِل علمنَا أَن الْإِسْلَام لَا يتَوَقَّف عَلَيْهَا بل الْأَقْرَب أَن المجسمة كفار لأَنهم اعتقدوا أَن كل مَا لَا يكون متحيزا وَلَا فِي جِهَة فَلَيْسَ بموجود وَنحن نعتقد أَن كل متحيز فَهُوَ مُحدث وخالقه مَوْجُود لَيْسَ بمتحيز وَلَا فِي جِهَة فالمجسمة نفوا ذَات الشَّيْء الَّذِي هُوَ الْإِلَه فيلزمهم الْكفْر

الْبَاب الْعَاشِر فِي الْإِمَامَة وَفِيه مسَائِل

المسألة الأولى نصب الإمام إما أن يقال إنه واجب على العباد أو على الله تعالى أو لا يجب أصلا

الْمَسْأَلَة الأولى نصب الإِمَام إِمَّا أَن يُقَال إِنَّه وَاجِب على الْعباد أَو على الله تَعَالَى أَو لَا يجب أصلا أما الَّذين قَالُوا إِنَّه يجب نَصبه على الْعباد ففريقان الأول الَّذين قَالُوا الْعقل لَا يدل على هَذَا الْوُجُوب وَإِنَّمَا الَّذِي يدل عَلَيْهِ السّمع وَهَذَا قَول أهل السّنة وَقَول أَكثر الْمُعْتَزلَة والزيدية وَالثَّانِي الَّذين قَالُوا إِن الْعقل يدل على أَنه يجب علينا نصب الإِمَام وَهُوَ قَول الجاحظ وَأبي الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ وَأما الَّذين قَالُوا إِنَّه يجب على الله تَعَالَى نصب الإِمَام فهم فريقان الأول الشِّيعَة الَّذين قَالُوا إِنَّه يجب على الله تَعَالَى نصب الإِمَام ليعلمنا معرفَة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَمَعْرِفَة سَائِر المطالب وَالثَّانِي قَول الاثنا عشرِيَّة الَّذين قَالُوا يجب على الله تَعَالَى نَصبه ليَكُون لطفا لنا فِي فعل الْوَاجِبَات الْعَقْلِيَّة وَفِي ترك القبائح الْعَقْلِيَّة وليكون أَيْضا حَافِظًا للشريعة ومبينا لَهَا

المسألة الثانية احتج الشريف المرتضى بعين هذا الدليل في وجوب نصب الإمام على الله تعالى فقلنا إنه ضعيف

وَأما الَّذين قَالُوا لَا يجب فهم ثَلَاثَة طوائف مِنْهُم من قَالَ إِنَّه يجب نَصبه فِي وَقت السَّلامَة أما فِي وَقت الْحَرْب وَالِاضْطِرَاب فَلَا يجب لِأَنَّهُ رُبمَا صَار نَصبه سَببا لزِيَادَة الشَّرّ وَمِنْهُم من عكس الْأَمر وَمِنْهُم من قَالَ لَا يجب فِي شَيْء من الْأَوْقَات لنا أَن نصب الإِمَام يَقْتَضِي دفع ضَرَر لَا ينْدَفع إِلَّا بِهِ فَيكون وَاجِبا وَبَيَان الأول أَن الْعلم الضَّرُورِيّ حَاصِل بِأَنَّهُ إِذا حصل فِي الْبَلَد رَئِيس قاهر ضَابِط فَإِن حَال الْبَلَد يكون أقرب إِلَى الصّلاح مِمَّا إِذا لم يُوجد هَذَا الرئيس وَبَيَان الثَّانِي أَن دفع الضَّرَر عَن النَّفس لما كَانَ وَاجِبا فَمَا لَا ينْدَفع هَذَا الضَّرَر إِلَّا بِهِ وَجب أَن يكون وَاجِبا فَإِن قَالُوا لَعَلَّ الْقَوْم يستنكفون عَن مُتَابعَة ذَلِك الرئيس فَيَزْدَاد ذَلِك الشَّرّ قُلْنَا هَذَا وَإِن كَانَ مُحْتملا إِلَّا أَنه نَادِر وَالْغَالِب مَا ذَكرْنَاهُ وَالْغَالِب رَاجِح على النَّادِر الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة احْتج الشريف المرتضى بِعَين هَذَا الدَّلِيل فِي وجوب نصب الإِمَام على الله تَعَالَى فَقُلْنَا إِنَّه ضَعِيف وَذَلِكَ لأنكم وَإِن ذكرْتُمْ اشتماله على هَذَا الْوَجْه من الْمَنْفَعَة فَإِنَّهُ لَا يبعد أَيْضا اشتماله على وَجه من وُجُوه الْقبْح وَبِهَذَا التَّقْدِير فَإِنَّهُ يقبح من الله تَعَالَى نَصبه

المسألة الثالثة قالت الاثنا عشرية والشيعة وجوب العصمة شرط لصحة الإمامة وقال الباقون ليس كذلك

فَإِن قَالَ فَهَذَا أَيْضا وَارِد عَلَيْكُم قُلْنَا الْفرق بَين الدَّلِيلَيْنِ أَنا لما أَوجَبْنَا نصب الإِمَام على أَنْفُسنَا كفى ظن كَونه مصلحَة فِي وجوب نَصبه علينا لِأَن الظَّن فِي حَقنا يقوم مقَام الْعلم فِي وجوب الْعَمَل فَإِذا علمنَا اشْتِمَال نصب الإِمَام على هَذَا الْوَجْه من الْمصلحَة وَلم نَعْرِف فِيهِ مفْسدَة حصل ظن كَونه مصلحَة فَيصير هَذَا الظَّن سَببا للْوُجُوب فِي حَقنا أما أَنْتُم فتوجبون نصب الإِمَام على الله تَعَالَى فَمَا لم تُقِيمُوا الْبُرْهَان الْقَاطِع على خلوه عَن جَمِيع الْمَفَاسِد لَا يمكنكم إِيجَابه على الله تَعَالَى لِأَن الظَّن لَا يقوم مقَام الْعلم فِي حق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَظهر الْفرق وَالله أعلم الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة قَالَت الاثنا عشرِيَّة والشيعة وجوب الْعِصْمَة شَرط لصِحَّة الْإِمَامَة وَقَالَ الْبَاقُونَ لَيْسَ كَذَلِك قُلْنَا أَن الدَّلِيل دلّ على صِحَة إِمَامَة أبي بكر رَضِي الله عَنهُ مَعَ أَنه مَا كَانَ وَاجِب الْعِصْمَة وَاحْتج الْمُخَالف بِأَن افتقار الرّعية إِلَى الإِمَام إِنَّمَا كَانَ لأجل أَن جَوَاز فعل الْقَبِيح عليم اقْتضى احتياجهم إِلَى الإِمَام فَلَو حصلت هَذِه الْجِهَة فِي حق الإِمَام لزم افتقاره إِلَى إِمَام آخر فَيلْزم إِمَّا الدّور وَإِمَّا التسلسل وَالْجَوَاب أَن بَينا أَن دليلكم فِي وجوب نصب الإِمَام على الله تَعَالَى دَلِيل بَاطِل وَالله أعلم

المسألة الرابعة أجمعت الأمة على أنه يجوز إثبات الإمامة بالنص وهل يجوز بالاختيار أم لا

الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة أَجمعت الْأمة على أَنه يجوز إِثْبَات الْإِمَامَة بِالنَّصِّ وَهل يجوز بِالِاخْتِيَارِ أم لَا قَالَ أهل السّنة والمعتزلة يجوز وَقَالَت الاثنا عشرِيَّة لَا يجوز إِلَّا بِالنَّصِّ وَقَالَ الزيدية يجوز بِالنَّصِّ وَيجوز أَيْضا بِسَبَب الدعْوَة وَالْخُرُوج مَعَ حُصُول الْأَهْلِيَّة لنا أَن الدَّلِيل دلّ على إِمَامَة أبي بكر رَضِي الله عَنهُ وَمَا كَانَ لتِلْك الْإِمَامَة سَبَب إِلَّا الْبيعَة إِذْ لَو كَانَ مَنْصُوصا عَلَيْهِ لَكَانَ توقيفه الْأَمر على الْبيعَة خطأ عَظِيما يقْدَح فِي إِمَامَته وَذَلِكَ بَاطِل فَوَجَبَ كَون الطبيعة طَرِيقا صَحِيحا احْتج الْمُخَالف بِأَنَّهُ يجب أَن يكون وَاجِب الْعِصْمَة وَلَا سَبِيل إِلَى مَعْرفَته إِلَّا بِالنَّصِّ وَالْجَوَاب أَنا بَينا أَن وجوب الْعِصْمَة بَاطِل الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة قَالَت الاثنا عشرِيَّة إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَص على إِمَامَة عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ نصا جليا لَا يقبل التَّأْوِيل الْبَتَّةَ وَقَالَ الْبَاقُونَ لم يُوجد هَذَا النَّص لنا وُجُوه الأول أَن النَّص على هَذِه الْخلَافَة وَاقعَة عَظِيمَة والوقائع الْعَظِيمَة يجب اشتهارها جدا فَلَو حصلت هَذِه الشُّهْرَة لعرفها الْمُخَالف والموافق وَحَيْثُ لم يصل خبر هَذَا النَّص إِلَى أحد من الْفُقَهَاء والمحدثين علمنَا أَنه مَوضِع شكّ الثَّانِي لَو حصل هَذَا النَّص لَكَانَ إِمَّا أَن يُقَال إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أوصله

إِلَى أهل التَّوَاتُر أَو مَا أوصله إِلَيْهِم وَالْأول بَاطِل لِأَن طالبي الْإِمَامَة لأَنْفُسِهِمْ كَانُوا فِي غَايَة الْقلَّة أما الْبَاقُونَ فَمَا كَانُوا طَالِبين للْإِمَامَة لأَنْفُسِهِمْ وَكَانُوا فِي غَايَة التَّعْظِيم لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَن مُخَالفَته توجب الْعَذَاب الْأَلِيم وَالْإِنْسَان لَا يلْتَزم الْعقَاب الْعَظِيم من غير غَرَض لَا سِيمَا وَقد حصلت هُنَاكَ أَسبَاب أخر توجب نصْرَة عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَحدهَا أَن عليا كَانَ فِي غَايَة الشجَاعَة وَأَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ كَانَ فِي غَايَة الضعْف هَذَا مَذْهَبهم وَثَانِيها أَن اتِّبَاع عَليّ كَانُوا فِي غَايَة الْجَلالَة فَإِن فَاطِمَة وَالْحسن وَالْحُسَيْن وَالْعَبَّاس رَضِي الله عَنْهُم كَانُوا مَعَه وَأَبُو سُفْيَان شيخ بني أُميَّة كَانَ فِي غَايَة البغض لأبي بكر رَضِي الله عَنْهُمَا وَجَاء وَبَالغ فِي حمل عَليّ رَضِي الله عَنهُ على طلب الْإِمَامَة وَمن انتزاعها من يَد أبي بكر رَضِي الله عَنهُ وَالزُّبَيْر رَضِي الله عَنهُ مَعَ شجاعته سل السَّيْف على أبي بكر رَضِي الله عَنْهُمَا وَثَالِثهَا أَن الْأَنْصَار رَضِي الله عَنْهُم طلبُوا الْإِمَامَة لأَنْفُسِهِمْ فَمنهمْ أَبُو بكر فَلَو كَانَ هَذَا النَّص مَوْجُودا لقالوا لَهُ يَا أَبَا بكر إِنَّا أردنَا أَن نأخذها لأنفسنا بالظلم وَالْغَصْب فَكَمَا منعتنا عَنْهَا فَنحْن أَيْضا نَمْنَعك من هَذَا الْغَصْب وَالظُّلم ونرد الْحق إِلَى أَهله وَهُوَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ فَإِن الْخصم مَتى وجد مثل هَذِه الْحجَّة الْقَاهِرَة امْتنع سكته عَنْهَا فَلَو كَانَ النَّص على عَليّ مَوْجُودا لامتنع فِي الْعرف سكُوت الْأَنْصَار عَن ذكره ولامتنع إعراضهم عَن نصْرَة عَليّ رَضِي الله عَنهُ فَثَبت أَن كل هَذِه الْأَسْبَاب مُوجبَة لقُوَّة أَمر عَليّ بِتَقْدِير أَن يكون النَّص مَوْجُودا فَلَمَّا لم يُوجد ذَلِك علمنَا أَنه لَا أصل لهَذَا النَّص وَأما الْقسم الثَّانِي وَهُوَ أَن يُقَال إِنَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا أوصل ذَلِك النَّص إِلَى أهل التَّوَاتُر بل إِلَى الْآحَاد فَهُوَ بعيد لوجوه

المسألة السادسة الإمام الحق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر رضي الله عنه

الأول أَن قَول الْآحَاد لَا يكون حجَّة الْبَتَّةَ لَا سِيمَا وَعِنْدهم أَن خبر الْوَاحِد لَيْسَ بِحجَّة فِي العمليات الثَّانِي أَن هَذَا يجْرِي مجْرى خِيَانَة الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي مثل هَذَا الْأَمر الْعَظِيم فَثَبت أَن قَوْلهم بَاطِل وَالْحجّة الثَّالِثَة أَن عليا رَضِي الله عَنهُ ذكر جملَة النُّصُوص الْخفية وَلم ينْقل عَنهُ أَنه ذكر هَذَا النَّص الْجَلِيّ فِي محفل من المحافل وَلَو كَانَ مَوْجُودا لَكَانَ ذكره أولى من ذكر النُّصُوص الْخفية وَاحْتَجُّوا بِأَن الشِّيعَة على كثرتهم وتفرقهم فِي الْمشرق وَالْمغْرب ينقلون هَذَا الْخَبَر وَالْجَوَاب أَن من الْمَشْهُور أَن وَاضع هَذَا الْخَبَر هُوَ ابْن الراوندي ثمَّ إِن الشِّيعَة لشدَّة شغفهم بِهَذَا الْأَمر سعوا فِي تشهيره الْمَسْأَلَة السَّادِسَة الإِمَام الْحق بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ وَيدل عَلَيْهِ الْقُرْآن وَالْخَبَر وَالْإِجْمَاع أما الْقُرْآن فآيات إِحْدَاهَا قَوْله تَعَالَى {قل للمخلفين من الْأَعْرَاب ستدعون إِلَى قوم أولي بَأْس شَدِيد} إِلَى آخر الْآيَة فَنَقُول هَذَا الدَّاعِي إِمَّا أَن يكون رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو أحد الثَّلَاثَة الَّذين جَاءُوا بعده وهم أَبُو بكر وَعمر وَعُثْمَان رَضِي الله عَنْهُم أَو يكون الدَّاعِي هُوَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَو الَّذين جَاءُوا بعد عَليّ لَا يجوز أَن يكون الدَّاعِي هُوَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى سَيَقُولُ الْمُخَلفُونَ إِذا انطلقتم إِلَى مَغَانِم كَثِيرَة لتأخذوها ذرونا نتبعكم يُرِيدُونَ أَن يبدلوا كَلَام الله قل لن تتبعونا كذلكم قَالَ الله من قبل وَلَو كَانَ الدَّاعِي لَهُم الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ إِنَّه مَنعهم عَن مُتَابَعَته لزم التَّنَاقُض وَهُوَ بَاطِل

وَلَا يجوز أَن يكون المُرَاد هُوَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ لقَوْله تَعَالَى {تقاتلونهم أَو يسلمُونَ} دلّت هَذِه الْآيَة على أَن الْمَقْصُود من هَذِه الْمُقَاتلَة تَحْصِيل الْإِسْلَام وحروب عَليّ رَضِي الله عَنهُ مَا كَانَ الْمَقْصُود مِنْهَا تَحْصِيل الْإِسْلَام بِدَلِيل أَنا بَينا أَن الْإِسْلَام عبارَة عَن الْإِقْرَار الدَّال على الِاعْتِقَاد ظَاهرا وَقد كَانَ هَذَا حَاصِلا فيهم وَلَا يجوز أَن يكون المُرَاد من جَاءَ بعد عَليّ لأَنهم عندنَا على الْخَطَأ وَعند الشِّيعَة على الْكفْر وَلما بطلت الْأَقْسَام ثَبت أَن المُرَاد مِنْهُ أحد أُولَئِكَ الثَّلَاثَة أَعنِي أَبَا بكر وَعمر وَعُثْمَان رَضِي الله عَنْهُم ثمَّ أَنه تَعَالَى أوجب طَاعَته حَيْثُ قَالَ {فَإِن تطيعوا يُؤْتكُم الله أجرا حسنا وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا توليتم من قبل يعذبكم عذَابا أَلِيمًا} وَإِذا وَجَبت طَاعَة وَاحِد من هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة وَجَبت طَاعَة الْكل لِأَنَّهُ لَا قَائِل بِالْفرقِ فَهَذِهِ آيَة تدل على وجوب إِمَامَة هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة وَالْحجّة الثَّانِيَة من الْقُرْآن قَوْله تَعَالَى {وعد الله الَّذين آمنُوا مِنْكُم وَعمِلُوا الصَّالِحَات ليَستَخْلِفنهم فِي الأَرْض كَمَا اسْتخْلف الَّذين من قبلهم وليمكنن لَهُم دينهم الَّذِي ارتضى لَهُم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا} وَجه الِاسْتِدْلَال قَوْله تَعَالَى {وعد الله الَّذين آمنُوا مِنْكُم} هَذَا خطاب مشافهة لجَماعَة من الْحَاضِرين فِي زمن حَيَاة الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بإيصال الْخلَافَة إِلَيْهِم وَلَا يُمكن حمله على عَليّ وَالْحسن وَالْحُسَيْن رَضِي الله عَنْهُم لأَنهم عِنْد الشِّيعَة مَا كَانُوا متمكنين من إِظْهَار دينهم وَمَا زَالَ الْخَوْف عَنْهُم بل كَانُوا أبدا فِي التقية وَالْخَوْف فَوَجَبَ حمل الْآيَة على أبي بكر وَعمر وَعُثْمَان وَعلي رَضِي الله عَنْهُم لِأَنَّهُ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَة كَانُوا عندنَا متمكنين من إِظْهَار دينهم وَكَانَ الْخَوْف عَنْهُم زائلا الْحجَّة الثَّالِثَة قَوْله تَعَالَى {وسيجنبها الأتقى الَّذِي يُؤْتِي مَاله يتزكى} فَنَقُول هَذَا الأتقى يجب أَن يكون من أفضل الْخلق بعد الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لقَوْله تَعَالَى {إِن أكْرمكُم عِنْد الله أَتْقَاكُم} وأجمعت الْأمة على أَن الْأَفْضَل إِمَّا أَبُو بكر وَإِمَّا عَليّ رَضِي الله عَنْهُمَا وَلَا يُمكن حمل هَذِه الْآيَة

على عَليّ أَنه تَعَالَى قَالَ فِي صفة هَذَا الأتقى {وَمَا لأحد عِنْده من نعْمَة تجزى} وَعلي رَضِي الله عَنهُ مَا كَانَ كَذَلِك لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رباه من أول صغره إِلَى آخر عمره وَتلك النِّعْمَة توجب المجازاة أما أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ فقد كَانَ لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حَقه نعْمَة الْإِرْشَاد إِلَى الدّين إِلَّا أَن هَذِه النِّعْمَة لَا تجزي الْبَتَّةَ وَلما ثَبت أَن هَذَا الأتقى إِمَّا أَبُو بكر وَإِمَّا عَليّ وَثَبت أَنه لَا يُمكن حمله على عَليّ وَجب حمله على أبي بكر رَضِي الله عَنْهُمَا ثمَّ أَنه تَعَالَى وَصفه بقوله {إِلَّا ابْتِغَاء وَجه ربه الْأَعْلَى ولسوف يرضى} وسوف لاستقبال فَهَذِهِ الْآيَة تدل على أَن أَبَا بكر أفضل الْخلق بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي زمن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَيدل قَوْله {ولسوف يرضى} على أَنه تبقى تِلْكَ الصّفة بَاقِيَة فِي أبي بكر رَضِي الله عَنهُ إِلَى الزَّمَان الْمُسْتَقْبل وَلَو كَانَ مُبْطلًا فِي الْإِمَامَة لما كَانَ أفضل الْخلق وَلما دلّت الْآيَة على الْأَفْضَلِيَّة وَجب الْقطع بِصِحَّة إِمَامَته وَأما الْأَخْبَار فكثيرة أَحدهَا قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (اقتدوا باللذين من بعدِي أبي بكر وَعمر) أوجب الِاقْتِدَاء بهما فِي الْفَتْوَى وَمن جملَة مَا أفتيا بِهِ كَونهمَا إمامين فَوَجَبَ الافتداء بهما فِي هَذِه الْفَتْوَى وَذَلِكَ يُوجب إمامتهما وَثَانِيها قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (الْخلَافَة بعدِي ثَلَاثُونَ سنة ثمَّ تصير ملكا عَضُوضًا) وَذَلِكَ تنصيص على أَنهم كَانُوا فِي الْخُلَفَاء المحقين لَا من الْمُلُوك الظَّالِمين وَثَالِثهَا قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي أبي بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا (هما سيدا كهول أهل الْجنَّة) وَلَو كَانَا غاضبين للْإِمَامَة لما كَانَ هَذَا الحكم لائقا بهما وَكَذَلِكَ الْخَبَر الدَّال على بِشَارَة الْعشْرَة المبشرة يدل على صِحَة إِمَامَة الثَّلَاثَة وَأما الْإِجْمَاع فَمن وُجُوه أَحدهَا أَن النَّاس أَجمعُوا على أَن الإِمَام بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِمَّا أَبُو

بكر وَإِمَّا الْعَبَّاس وَإِمَّا عَليّ رَضِي الله عَنْهُم ثمَّ رَأينَا أَن الْعَبَّاس وعليا مَا نازعا أَبَا بكر فِي الْإِمَامَة فَترك هَذِه الْمُنَازعَة إِمَّا أَن يكون لعجزهما عَن الْمُنَازعَة أَو مَعَ الْقُدْرَة عَلَيْهَا وَالْأول بَاطِل لما بَينا أَن أَسبَاب الْقُدْرَة كَانَت مجتمعة فِي عَليّ رَضِي الله عَنهُ ومفقودة فِي حق أبي بكر رَضِي الله عَنهُ فَثَبت أَنَّهُمَا تركا الْمُنَازعَة مَعَ الْقُدْرَة عَلَيْهَا فَإِن كَانَت الْإِمَامَة حَقًا لَهما كَانَ ترك الْمُنَازعَة مَعَ الْقُدْرَة خطأ عَظِيما وَذَلِكَ يُوجب الْقدح فِي إمامتهما وَإِن كَانَت الْإِمَامَة لَيست حَقًا لَهما وَجب أَن تكون حَقًا لأبي بكر رَضِي الله عَنهُ وَإِلَّا لبطل الْإِجْمَاع على أَن أحد هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة هُوَ الإِمَام الثَّانِي لَو كَانَت الْإِمَامَة حَقًا لعَلي رَضِي الله عَنهُ بِسَبَب النَّص الْجَلِيّ مَعَ أَن الْأمة دفعوه عَنْهَا لكَانَتْ هَذِه الْأمة شَرّ أمة أخرجت للنَّاس لَكِن هَذَا اللَّازِم بَاطِل لقَوْله تَعَالَى {كُنْتُم خير أمة أخرجت للنَّاس} فَإِن قَالُوا قَوْله {كُنْتُم خير أمة أخرجت للنَّاس} يدل على أَنهم كَانُوا وَمَا بقوا على هَذِه الصّفة قُلْنَا نحمله على كَانَ التَّامَّة وَيدل عَلَيْهِ أَنه تَعَالَى قَالَ فِي عقبه {تأمرون بِالْمَعْرُوفِ وتنهون عَن الْمُنكر} فَلَو كَانَ قَوْله {كُنْتُم} يُفِيد أَنهم كَانُوا كَذَلِك ثمَّ لم يبقوا عَلَيْهِ لَكَانَ قَوْله {تأمرون بِالْمَعْرُوفِ وتنهون عَن الْمُنكر} مناقضا لَهُ وَلَو حملناه على كَانَ النَّاقِصَة كَانَ الْمَعْنى كُنْتُم كَذَلِك فِي علم الله أَو فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ الثَّالِث ثَبت بالأحاديث الصَّحِيحَة أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اسْتَخْلَفَهُ فِي مرض مَوته فِي الصَّلَاة فَنَقُول حصلت تِلْكَ الْخلَافَة وَمَا عَزله عَنْهَا فَوَجَبَ بَقَاء تِلْكَ الْخلَافَة عَلَيْهِ وَإِذا ثَبت وجوب كَونه إِمَامًا فِي الصَّلَاة ثَبت وجوب كَونه إِمَامًا فِي سَائِر الْأَشْيَاء لِأَنَّهُ لَا قَائِل بِالْفرقِ وَاحْتج الْمُخَالف بِوُجُوه أَحدهَا قَوْله تَعَالَى {إِنَّمَا وَلِيكُم الله وَرَسُوله وَالَّذين آمنُوا} الْآيَة فَهَذِهِ الْآيَة تدل على إِمَامَة شخص بِعَيْنِه وَإِذا ثَبت

ذَلِك وَجب أَن يكون ذَلِك الإِمَام عليا رَضِي الله عَنهُ بَيَان الأول أَن الْوَلِيّ إِمَّا النَّاصِر وَإِمَّا الْمُتَصَرف وَيجب قصره عَلَيْهِمَا تقليلا للاشتراك وَالْمجَاز وَلَا يجوز حمله على النَّاصِر لِأَن النُّصْرَة عَامَّة لقَوْله تَعَالَى وَالْمُؤمنِينَ وَالْمُؤْمِنَات بَعضهم أَوْلِيَاء بعض وَالْولَايَة الْمَذْكُورَة فِي الْآيَة خَاصَّة بِبَعْض الْمُؤمنِينَ لِأَن كلمة {إِنَّمَا} تفِيد الْحصْر وَإِذا بَطل حمل الْوَلِيّ عَليّ النَّاصِر وَجب حمله على الْمُتَصَرف فِي جَمِيع الْأمة المخاطبين بقوله تَعَالَى {إِنَّمَا وَلِيكُم الله وَرَسُوله} وَلَا معنى للْإِمَامَة إِلَّا التَّصَرُّف فِي جَمِيع الْأمة فَثَبت دلَالَة هَذِه الْآيَة على إِمَامَة شخص معِين وكل من قَالَ بهَا قَالَ إِنَّه عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ لِأَن أحدا من الْأمة لم يقل إِن هَذِه الْآيَة تدل على إِمَامَة أبي بكر وَالْعَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا الثَّانِي أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ (أَلَسْت أولى بكم من أَنفسكُم قَالُوا نعم قَالَ فَمن كنت مَوْلَاهُ فعلى مَوْلَاهُ) وَجه الِاسْتِدْلَال أَنه صرح بِلَفْظَة أولى ثمَّ ذكر عقيبها الْمولى وَهُوَ لفظ يحْتَمل الْأَشْيَاء وَذكر الأولى يصلح تَفْسِيرا فَوَجَبَ حمله عَلَيْهِ دفعا للإجمال وَحِينَئِذٍ يصير تَقْدِيره من كنت أولى بِهِ فِي الحكم والقضية من نَفسه كَانَ عَليّ أولى بِهِ فِي ذَلِك وَلَا معنى للْإِمَام إِلَّا من يكون أولى من غَيره فِي قبُول حكمه وقضائه الثَّالِث قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعَلي رَضِي الله عَنهُ (أَنْت مني بِمَنْزِلَة هَارُون من مُوسَى) وَمن جملَة منَازِل هَارُون من مُوسَى كَونه بحث لَو بَقِي بعد مُوسَى كَانَ خَليفَة لَهُ فَوَجَبَ أَن يثبت لعَلي أَنه لَو بَقِي بعد مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَكَانَ خَليفَة لَهُ وَقد بَقِي بعده فَوَجَبَ أَن يكون خَليفَة لَهُ وَالْجَوَاب عَن الْكل أَنه يجب حملهَا على أولويته فِي الْإِيمَان بِالدّينِ وعَلى علو منصبه وَلَا تحمل على الْإِمَامَة تَوْفِيقًا بَينهَا وَبَين الدَّلَائِل الَّتِي ذَكرنَاهَا ثمَّ إِن قَوْلنَا أولى لوجوه

المسألة السابعة أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر رضي الله عنه

أَحدهَا أَنا بِهَذَا الطَّرِيق نصون الْأمة عَن الْكفْر وَالْفِسْق وَالثَّانِي أَن الْأَخْبَار الْوَارِدَة فِي فضل أبي بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا بلغت مبلغ التَّوَاتُر وبالوجه الَّذِي ذَكرْنَاهُ يبْقى الْكل حَقًا صَحِيحا وَالثَّالِث أَنه تَعَالَى نَص على تَعْظِيم الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار فِي الْقُرْآن وبالطريق الَّذِي ذَكرْنَاهُ يبْقى الْكل صَحِيحا حَقًا الْمَسْأَلَة السَّابِعَة أفضل النَّاس بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ وَقَالَت الشِّيعَة وَكثير من الْمُعْتَزلَة هُوَ عَليّ وَهَؤُلَاء جوزوا إِمَامَة الفضول مَعَ وجود الْفَاضِل وحجتهم أَن قيام عَليّ بِالْجِهَادِ كَانَ أَكثر من قيام أبي بكر فَوَجَبَ أَن يكون عَليّ أفضل مِنْهُ لقَوْله تَعَالَى {وَفضل الله الْمُجَاهدين على القاعدين أجرا عَظِيما} وَأجَاب أهل السّنة عَنهُ بِأَن الْجِهَاد على قسمَيْنِ جِهَاد بالدعوة إِلَى الدّين وَجِهَاد بِالسَّيْفِ وَمَعْلُوم أَن أَبَا بكر رَضِي الله عَنهُ جَاهد فِي الدّين فِي أول الْإِسْلَام بدعوة النَّاس إِلَى الدّين وَبِقَوْلِهِ أسلم عُثْمَان وَطَلْحَة وَالزُّبَيْر وَسعد وَسَعِيد وَأَبُو عُبَيْدَة بن الْجراح رَضِي الله عَنْهُم أَجْمَعِينَ وَعلي رَضِي الله عَنهُ إِنَّمَا جَاهد بِالسَّيْفِ عِنْد قُوَّة الْإِسْلَام فَكَانَ الأول أولى وَحجَّة الْقَائِلين بِفضل أبي بكر رَضِي الله عَنهُ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (مَا طلعت الشَّمْس وَلَا غربت على أحد بعد النَّبِيين وَالْمُرْسلِينَ أفضل من أبي بكر) الْمَسْأَلَة الثَّامِنَة بعض النَّاس ذكرُوا أنواعا من المطاعن فِي الْأَئِمَّة الثَّلَاثَة والقانون الْمُعْتَبر فِي هَذَا الْبَاب أَن الدَّلَائِل الظَّاهِرَة دلّت على إمامتهم

المسألة التاسعة الذي يدل على إمامة علي كرم الله وجهه اتفاق أهل الحل والعقد على إمامته وأما أعداؤه ففريقان

وعَلى وجوب تعظيمهم وَأما تِلْكَ المطاعن فَهِيَ مُحْتَملَة والمحتمل لَا يُعَارض الْمَعْلُوم لَا سِيمَا وَقد تَأَكد ذَلِك بِأَن الله تَعَالَى أَكثر من الثَّنَاء على الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم الْمَسْأَلَة التَّاسِعَة الَّذِي يدل على إِمَامَة عَليّ كرم الله وَجهه اتِّفَاق أهل الْحل وَالْعقد على إِمَامَته وَأما أعداؤه ففريقان أَحدهمَا عَسْكَر مُعَاوِيَة رَضِي الله عَنهُ طعنوا فِيهِ بِأَنَّهُ مَا أَقَامَ الْقصاص على قتلة عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ وَهَذَا ظلم فادح فِي إِمَامَته وَالْجَوَاب أَن شَرَائِط وجوب الْقصاص تخْتَلف باخْتلَاف الاجتهادات فَلَعَلَّهُ لم يؤد اجْتِهَاده إِلَى كَونهم موصوفين بالشرائط الْمُوجبَة للْقصَاص الثَّانِي أَن الْخَوَارِج قَالُوا إِنَّك رضيت بالتحكم وَذَلِكَ يدل على كونك شاكا فِي إِمَامَة نَفسك ثمَّ إِنَّك مَعَ الشَّك أقدمت على تحمل الْإِمَامَة وَهَذَا فسق وَالْجَوَاب أَنه إِنَّمَا رَضِي التَّحْكِيم لِأَنَّهُ رأى من قومه الفشل والضعف والإصرار على أَنه لَا بُد من التَّحْكِيم الْمَسْأَلَة الْعَاشِرَة أطبق أهل الدّين على أَنه يجب تَعْظِيم طَلْحَة وَالزُّبَيْر وَعَائِشَة رَضِي الله عَنْهُم وَأَنه يجب إمْسَاك اللِّسَان عَن الطعْن فيهم لِأَن عمومات الْقُرْآن وَالْأَخْبَار دَالَّة على وجوب تَعْظِيم الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وَالْأَخْبَار الْخَاصَّة

وَارِدَة فِي تَعْظِيم طَلْحَة وَالزُّبَيْر وَعَائِشَة رَضِي الله عَنْهُم والواقعة الَّتِي وَقعت مُحْتَملَة لوجوه كَثِيرَة والمحتمل لَا يُعَارض الظَّاهِر وَنقل عَن عمر بن عبد الْعَزِيز رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ تِلْكَ دِمَاء طهر الله مِنْهَا أَيْدِينَا فَلَا نلوث بهَا ألسنتنا وَليكن هَهُنَا آخر علم الْكَلَام وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم الْحَمد الله بنعمته تمّ الصَّالِحَات وَأشْهد أَن لَا إِلَه إِلَى الله وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله وَبعد فقد تمّ بعون الله كتاب معالم أصُول الدّين للْإِمَام الْكَبِير فَخر الدّين مُحَمَّد بن عمر الرَّازِيّ نَفَعَنِي الله بِهِ وَإِيَّاك وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وعَلى آله وَأَصْحَابه وَمن ابتع هداه وَسَار على طَرِيقه إِلَى يَوْم الدّين

§1/1