معارف الإنعام وفضل الشهور والأيام

ابن المِبْرَد

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

«مَعَارِفُ الإنْعَامِ وفَضلُ الشُّهُورِ وَالأَيَّام»

جَمِيعُ الحُقُوقِ مَحْفُوظَة الطَّبْعَةُ الأُولَى 1432 هـ - 2011 م ردمك: 8 - 17 - 418 - 9933 - 978 lSBN دَار النَّوَادِر سورية - لبنان - الكويت مُؤسَّسَة دَار النَّوَادِر م. ف - سُورية * شَرِكَة دَار النَّوَادِر الُّلبْنَانِيَّة ش. م. م - لُبْنَان * شَرِكَة دَار النَّوادِرِ الكُوَيْتِيَةٍ ذ. م. م - الكُوَيْت سورية - دمشق - ص. ب: 34306 - هاتف: 2227001 - فاكس: 2227011 (0096311) لبنان - بيروت - ص. ب: 14/ 5180 - هاتف: 652528 - فاكس: 652529 (009611) الكويت - الصالحية - برج السحاب - ص. ب: 4316 حولي - الرمز البريدي: 32046 هاتف: 22273725 - فاكس: 22273726 (00965) www.daralnawader.com - [email protected] أسَّسَهَا سَنَة: 1426 هـ - 2006 م نُورُ الدِّيْن طَالِب المُدِير العَام وَالرَّئيس التَّنفيذي

مقدمة التحقيق

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدمة التحقيق إنَّ الحمدَ للهِ نحمدُه، ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ باللهِ مِنْ شُرورِ أَنْفُسِنا، وسيئاتِ أعمالنا، مَنْ يهدِهِ اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَنْ يُضْلِلْ فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إلهَ إلا اللهُ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه. أمّا بعد: فقد روى ابنُ أبي الدُّنيا عن بكر بن عبد الله المُزني -رَحِمَهُ اللهُ-: أنه قال: ما مِنْ يومٍ أخرجه اللهُ إلى أهل الدُّنيا إلا يُنادي: ابنَ آدمَ! اغتنمني، لعلَّه لا يومَ لك بعدي، ولا ليلةٍ إلا تُنادي: ابنَ آدم! اغتنمني، لعلَّه لا ليلةَ لك بعدي. وروى عن الحسن: أنه كان يقول: يا بنَ آدمَ! اليومُ ضيفُك، والضيفُ مُرْتَحِلٌ، يَحْمَدُك أو يَذُمُّك، وكذلك الليل. ومن هنا حَرَصَ السَّلَفُ الصالح أشدَّ الحرصِ على الأوقات خصوصاً فيها الأعمال التي حَبَاها اللهُ تعالى بمزيد فضلٍ ونَوَالٍ على غيرها من القُربات؛ مِنْ صلاةٍ وصيام وذكرٍ وقيامٍ ونحوِها مِنَ المَبرَّات، وقد خصَّ اللهُ -سبحانه وتعالى- كلَّ وقت منها بوظيفة من الوظائف التي تُؤدَّى

في الشهور والأيام والسَّاعات، فالسعيدُ مَنِ اغتنمها، والشَّقيُّ مَنْ فَرَّط بها وحُرِمَها. وقد صنَّفَ الحافظُ الإمامُ ابنُ رجبٍ الحنبليُّ كتاباً بديعاً لا مثيلَ له في المحافظة على تلك الأوقات، واغتنام فعلِ الوظائف الموظَّفة لكلِّ واحدة منها، سماه: "لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف"، انتهج فيه نَهْجَ ابنِ القيم -رَحِمَهُ اللهُ- في كثيرٍ من كلامه وجمله، وتأثَّر بوعظ الإمام ابن الجوزي -رَحِمَهُ اللهُ-. ثم جاء الإمامُ يُوسفُ بنُ عبد الهادي فَنَهلَ من مَعينِ هذه المدرسة العظيمة، واقتبس من جواهر كلامهم عُيوناً من الحِكَم والَآداب والمواعظ، وأودعه كتابَه الذي سمَّاه: "معارفَ الإنعامِ وفضل الشُّهور والأيام"؛ فجاءت جملُ كتابهِ رقيقةً عَذْبة، سَهْلة واضحة، مُوقِظة للمقصَّرين والغافلين، مَشْحَذَة للعابدين والصالحين، داعيةً إلى السِّباق واللَّحاق بِرَكْبِ الأنبياء والصِّدِّيقين، ولسانُ حالِ تلك العبارات قائل: مضى أمسُكَ الماضي شهيداً معدلاً ... وأعقبه يومٌ عليكَ جديدُ فيومُكَ إِنْ أغنيتَهُ عادَ نفعُهُ ... عليكَ وماضي الأمسِ ليسَ يعودُ فإن كنتَ بالأمسِ اقترفتَ إساءةً ... فَثَنِّ بإحسانٍ وأنتَ حَميدُ

فلا تُرْجِ فِعْلَ الخير يوماً إلى غَدٍ ... لعلَّ غداً يأتي وأنتَ فَقيدُ وللهِ درُّ القائلِ: قطعتَ شهورَ العامِ لَهْواً وغَفْلَةً ... ولم تحترِمْ فيما أتيتَ المُحرَّما فلا رَجَباً وافيتَ فيه بحقِّهِ ... ولا صُمْتَ شهرَ الصَّومٍ صَوماً متمَّما ولا في ليالي عشرِ ذي الحِجَّةِ الذي ... مَضَى كنتَ قوَّاماً ولا كنتَ مُحْرِمَا فهلْ لكَ أنْ تمحو الذنوبَ بعَبْرةٍ ... وتبكي عليها حَسْرَةً وتندُّما وتستقبلَ العامَ الجديدَ بتوبةٍ ... لعلَّكَ أنْ تمحوْ بها ما تَقَدَّما * * * هذا وقد تمَّ -بفضل الله تعالى- الوقوفُ على النسخة الخطيَّة الفريدة لهذا الكتاب، وهي النسخةُ المحفوظة بدار الكتب الظاهرية بدمشق، تحت رقم (1463)، وتقع في (75) لوحة. وهي بخطِّ المؤلف المعروف بغرابة الشَّكْل، وصعوبةِ القراءة،

وتُعَدُّ هذه النسخة مِنْ أصعبِ كتب الإمام ابن عبد الهادي التي كتبها بخطِّه؛ ذلك أنَّه ألَّفَ كتابَه هذا في مُقْتَبل عُمره -ولعلَّه من أوائل ما صنَّف-؛ إذ كان عُمره تسعةَ عشر عاماً تقريباً، إلى جانب رَداءة النسخة الخطيَّة وتعرُّضِها للرُّطوبة، وكثرة التصحيفات والتحريفات فيها. وقد حصل فيها خَرْمٌ قليل في أولها تضمَّن الكلامَ عن صدر الفصل الأول من الكتاب وهو شهر رمضان المبارك. وقد أُثبت في آخرها سماعاتُ الكتاب لعددٍ من أولاد المؤلف وتلامذته بخط يده. * * * * هذا وقد تمَّ تحقيقُ هذا الكتاب وفق الخطة الآتية: 1 - نسخُ الأصل المخطوط اعتماداً على النسخة الخطيَّة المُشَار إليها آنفاً، وذلك بحسب رسم وقواعد الإملاء الحديثة. 2 - معارضةُ المنسوخِ بالمخطوط؛ للتأكُّد من صحة النصِّ وسلامته. 3 - مقابلة المنسوخ بالمصادر المطبوعة التي نَقَل عنها المؤلف؛ وأكثرها من كتابي ابنِ الجوزي المسمَّى بـ: "التَّبصرة"، وابنِ رجب الحنبلي المسمَّى بـ: "لطائف المعارف"، وذلك للتأكد من سلامة النص ومعناه.

4 - عزوُ الآيات القرآنية الكريمة في صُلْب النص، وإدراجها برسم المصحف الشريف. 5 - تخريجُ الأحاديث النبوية الشريفة تخريجاً لائقاً بالنصِّ المحقق. 6 - ضبطُ الأحاديثِ والأشعارِ والأقوال بالشكلِ المناسب. 7 - كتابة مقدمةٍ للكتاب مشتملةٍ على ترجمة مختصرة للمؤلف، وتَقْدِمة موجزة للكتاب. هذا وصلى الله على نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلَّم. حَرَّرَهُ نُورُ الدِّيْن طَالِبْ 17 / صفر/ 1432 هـ 22/ 1 / 2011 مـ

ترجمة المؤلف

ترجمة المؤلف (¬1) * هو الإمام يوسف بن حسن بن أحمد بن حسن بن أحمد بن عبد الهادي المقدشي الأصل، الدمشقي المولد، الحنبلي المذهب، المعروف بـ: "ابن عبد الهادي"، والملقب بـ: "ابن المِبْرَد". *ولد سنة (841 هـ) في أول يوم منها، وقد نشأ في بيئة علمية معروفة، فتفقه على أبيه وجده، وسمع عليهما الحديث. وكان ملازماً للعلماء والصالحين؛ فحفظ "المقنع" لابن قدامة ¬

_ (¬1) انظر ترجمته في: * "السحب الوابلة" لابن حميد (3/ 1166). * "النعت الأكمل" للغزي (ص: 68). * "شذرات الذهب" لابن العماد (8/ 43). * "مختصر طبقات الحنابلة" للشطي (ص: 74). * "فهرس الفهارس" للكتاني (2/ 1141). * "مقدمة ثمار المقاصد" للدكتور أسعد طلس. * "الإمام يوسف بن عبد الهادي الحنبلي وأثره في الفقه الإسلامي" للدكتور محمد عثمان شبير. * "الإمام يوسف بن عبد الهادي وآثاره الفقهية" للدكتور صفوت عبد الهادي.

على عدد من العلماء، وقرأ على مشايخ كثر "صحيح البخاري"، و"مسند الحميدي"، و"الدارمي"، وغيرها. * فمن مشايخه الذين قرأ وحفظ عليهم: الشيخ علاء الدين المرداوي صاحب "الإنصاف"، وتقي الدين ابن قندس صاحب الحاشية المشهورة على "الفروع"، وزين الدين أبو الفرج ابن الحبال، وغيرهم. * وقد تخرج على يديه جماعات من التلامذة؛ الذي صاروا فيما بعد أعلاماً كباراً؛ كـ: ابن طولون، وعبد القادر النعيمي، وغيرهما. * أثنى عليه جماعة من أهل العلم، ووصفوه بالإمامة والحفظ والإتقان: قال فيه تلميذه ابن طولون: "هو الشيخ الإمام، علم الأعلام، المحدث الرحالة، العلامة الفهامة، العالم العامل، المتقن الفاضل". وقال فيه ابن العماد: "كان إماماً علامة، يغلب عليه علم الحديث والفقه، ويشارك في النحو والتصريف والتفسير، وله مؤلفات كثيرة". وقال الشطي: "أجمعت الأمة على تقدمه وإمامته، وأطبقت الأئمة على فضله وجلالته". * ترك الإمام ابن عبد الهادي كتباً كثيرة بلغت أسماؤها مجلداً، كما قال ابن طولون، ومن أهم تلك الكتب: 1 - "جمع الجوامع في الفقه على مذهب الإمام أحمد" في ثلاثة وسبعين مجلداً، غالبه مفقود.

2 - "الدر النقي في شرح ألفاظ الخرقي". 3 - "مغني ذوي الأفهام" في الفقه. 4 - "هداية الإنسان إلى الإستغناء بالقرآن". 5 - "إرشاد السالك إلى مناقب مالك". 6 - "الدر النفيس في أصحاب محمد بن إدريس". 7 - "محض الصواب في فضائل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب". 8 - "زبد العلوم وصاحب المنطوق والمفهوم". 9 - "زينة العرائس من الطرف والنفائس". * توفي -رَحِمَهُ اللهُ- بصالحية دمشق، سادس عشر المحرم، من سنة تسع وتسع مئة، وصلي عليه بجامع الحنابلة، ودفن بسفح جبل قاسيون -رَحِمَهُ اللهُ-، ورضي عنه.

صُوَر المَخْطُوْطَاتْ

صورة غلاف النسخة الخطية للمكتبة الظاهرية

صورة اللوحة الأولى من النسخة الخطية للمكتبة الظاهرية

صورة اللوحة قبل الأخيرة من النسخة الخطية للمكتبة الظاهرية

صورة اللوحة الأخيرة من النسخة الخطية للمكتبة الظاهرية ويظهر فيها سماعات الكتاب على المؤلف بخطه

«معارف الإنعام وفضل الشهور والأيام» تأليف الإمام يوسف بن حسن بن عبد الهادي المقدسي الدمشقي الحنبلي المولود سنة 841 هـ - والمتوفى سنة 909 هـ رحمه الله تعالى بعناية لجنة مختصة من المحققين بإشراف نور الدين طالب

مقدمة المؤلف

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ رَبِّ يَسِّر يَا كَرِيم الحمدُ لله العليِّ الكريم، العفوِّ الرحيم، القديرِ العليم، ذي الفضلِ العميم، والجودِ القديم، والخيرِ الجسيم، الأولِ والآخرِ، والظاهرِ والعليمِ، والرؤوفِ الرحيمِ، والقاهرِ والحليمِ، الذي خلق الإنسانَ في أحسنِ تقويم. وأشهدُ أَنْ لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له، إلهاً واحداً قديماً، وأشهد أن محمداً عبدُه ورسولُه، المبعوثُ بالإرشادِ والتعليم، صلَّى الله عليه، وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليماً. أمّا بعد: فهذه نبذة يسيرةٌ، ومنافعُها كثيرة، والله الموفق، ولنا ولجميع المسلمين من النار يُعتق، ورضيَ الله عن أبي بكرٍ صاحبِ الغار، وعمرَ صاحبِ الأنوار، وعلى عليٍّ الذي كان على الكفارِ كالنار، وعلى جميع

الصحابة الأطهار، وعلى جمع المهاجرين والأنصار، برحمتك يا كريم يا جبار، وارضَ عن الإمام أحمدَ وأصحابه، والشافعيِّ وأحبابه، وأبي حنيفة، ومالك، ونيابه، وحسبُنا الله ونِعْمَ الوكيل. وجعلتُ فيه أصلاً ثمانيةَ عشرَ فصلاً، وسميته: مَعَارِفُ الإنْعَامِ وفَضلُ الشُّهُورِ وَالأَيَّام الفصل الأول: فيما روي في رمضان، والجودِ فيه، وقراءة القرآن، وليلة القدر. الفصل الثاني: في شهر شوّال. الفصل الثالث: في ذكر الحجِّ وفضله. الفصل الرابع: في ذكر شهر ذي القعدة. الفصل الخامس: في ذكر ذي الحجة، وعشره المبارك. الفصل السادس: في ذكر عاشوراء وفضله. الفصل السابع: في قدوم الحاج. الفصل الثامن: في ذكر شهر صفر. الفصل التاسع: في ذكر شهر ربيع الأول. الفصل العاشر: في ذكر وفاة النبيِّ صلى الله عليه وسلم (¬1). ¬

_ (¬1) حصل هنا خرم في الأصل الخطي المصور لدينا، وهو مشتمل على تتمة ذكر الفصول التي بدأ بها المؤلف، وعلى صدر الفصل الأول من الكلام عن شهر رمضان والجود فيه، وقراءة القرآن، وليلة القدر، وقد أُثبتت تتمة الفصول بين معكوفتين اعتماداً =

[الفصل الحادي عشر: في ذكر شهر رجب. الفصل الثاني عشر: في ذكر شهر شعبان. الفصل الثالث عشر: فيما جاء في ليلة النصف من شعبان. الفصل الرابع عشر: في ذكر يوم الجمعة. الفصل الخامس عشر: في ذكر الخميس والإثنين. الفصل السادس عشر: في ذكر أيام البيض. الفصل السابع عشر: في ذكر المعراج. الفصل الثامن عشر: وفيه عشرون فصلاً]. • • • ¬

_ = على ذكرها لدى المؤلف في ثنايا مؤلَّفه هذا.

الفصل الأول فيما روي في رمضان والجود فيه، وقراءة القرآن، وليلة القدر

الفصل الأوّل فيما روي في رمضان والجودِ فيه، وقراءة القرآن، وليلة القدر سَلامٌ مِنَ الرحمن كُلَّ أَوَانِ ... عَلَى خَيْرِ شَهْرٍ [قَد] مَضَى وَزَمَانِ سَلامٌ عَلَى شَهْرِ الصِّيَامِ فَإِنَّهُ ... أَمَانٌ مِنَ الرحمن أَيَّ أَمَانِ لَئِنْ فَنِيَتْ أَيَّامُه الغُرُّ بَغْتَةً ... فَما الحُزْنُ مِنْ قَلْبِي عَلَيْكَ بِفَانِ إخواني! شهرُ رمضان، أولُه رحمة، وأوسطُه مغفرة، وآخره عتقٌ من النار، كيف لا تجري للمؤمن على فراقه دموع، وهو لا يدري هل يبقى له من عمره رجوع؟! لقد ذهبت أيامُه وما أَطَعْتُم، وكُتبت عليكم آثامه وما أضعتم، فكأنكم بالمشمِّرين فيه قد وصلوا وانقطعتم، أترى ما هذا التوبيخ لكم لو سمعتم؟ إذا كانَ هذا جزعُ من يربح فيه، فكيف حالُ من خسرَ أيامه

ولياليه؟ ما ينفع المفرِّطَ فيه بكاؤه، وقد عظُمتْ فيه مصيبته، وجلَّ عزاؤه، كم نُصح المسكين فما قبل النصح! كم دُعي إِلَى المصالحة، فما أجاب إِلَى الصلح! كم شهدَ الواصلينَ فيه وهو متباعد! وكم مرت به زُمَرُ السائرين وهو قاعد! حَتَّى إذا ضاق به الوقت، وحاقَ به المقت، ندم على التفريط حين لا ينفعه الندم، وطلب الإستدراك في وقت العدم. أتَتْرُكُ مَنْ تُحِبُّ وَأَنْتَ جَارُ ... وَتَطْلُبُهُمْ إِذَا بَعُدَ المَزَارُ وَتَبْكِي بَعْدَ نَأْيهِمُ اشْتِياقاً ... وَتَسْأَلُ في المَنَازِلِ أَيْنَ سَارُوا تَرَكْتَ سُؤَالَهُمْ وَهُمُ حُضُورٌ ... وَتَرْجُو أَنْ تُخَبِّرَكَ الدِّيَارُ فَنَفْسَكَ لُمْ وَلا تَلُمِ المَطَايَا ... وَمُتْ كَمَداً فَلَيْسَ لَكَ اعْتِذَارُ إخواني! ليلةُ القدر ليلةٌ يُفتح فيها الباب، وتقرب فيها الأحباب، ويسمع الخاطب، ويرد الجواب، ويسني العاملين عظمُ الأجر {سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: 5]. يَسْعَدُ بها المواصل، ويتقي فيها الجاهل، ويقبل فيها ربح العامل في التجر {سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: 5]. ليلة تتلقى فيها الوفود، ويحصل على المقصود، والقبول وافى

فصل

السعود، أترى عائد فيها المطرود هذا الهجر {سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: 5]. هذه أوقاتٌ يربح فيها من فهمَ ودرى، ويصل إِلَى مراده مَنْ جَدَّ وسرى، ويُفك فيها العاني، وتُطلق الأُسَرا، تقدّمَ القومُ وأنتَ راجعٌ إِلَى ورا، أليس هذا كلُّه قد جرى؟!، وكأنه لم يجر {سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: 5]. * * * فصل صومُ رمضان واجبٌ؛ بالكتاب والسنة والإجماع: القرآن: في قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183]. والسنة: قوله صلى الله عليه وسلم: "بُنِيَ الإِسْلامُ عَلَى خَمْسٍ ... "، فذكر فيها: "الصَّوْم" (¬1). • • • ¬

_ (¬1) رواه البخاري (8)، ومسلم (16)، عن ابن عمر -رضي الله عنهما-.

الفصل الثاني في فضل شوال

الفصل الثّاني في فضل شوّال خَرَّجَ مسلمٌ من حديثِ أبي أيوبَ الأنصاريِّ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ، ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِسِتَّةٍ مِنْ شَوَّالٍ، كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ" (¬1). وقد روي من حديث أبي هريرةَ، مرفوعاً: "مَنْ صَامَ سِتَّةَ أَيَّامٍ بَعْدَ الفِطْرِ مُتَتَابِعَة، كَأَنَّما صَامَ السَّنَةَ" (¬2)، وطريقه ضعيف. وعن الشعبيِّ، قَالَ: لأَنْ أصومَ يوماً بعدَ رمضانَ، أحبُّ إليَّ من أن أصوم الدهرَ كلَّه. وأما صيامُ شوال، ففي حديثِ رجلٍ من قريش، سمعَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَشَوَّالاً، وَالأَرْبِعَاءَ وَالخَمِيسَ، دَخَل الجَنَّة" خرجه الإمامُ أحمدُ، والنَّسائيُّ (¬3). ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1164) عن أبي أيوب الأنصاري -رضي الله عنه-. (¬2) رواه الطبراني في "المعجم الأوسط" (7607) عن أبي هريرة -رضي الله عنه-. (¬3) رواه النسائي (2778) والإمام أحمد في "المسند" (3/ 416) عن عريف من عرفاء قريش، عن أبيه.

يا طَالِبَ الدُّنْيا إِلَى كَمْ خَلْفَهَا تَجْرِي، أَما سَمِعْتَ واعِظَ زجري، أتعلمُ أنك تعيشُ إِلَى الفَجْرِ، فكم مِنْ متلذِّذِ عيشٍ طيِّب غدا منه إلى القبرِ، [.....] ولكن لا يدري متى يَسْري. إِذَا كَانَ شُكْرِي نِعْمَةَ الله نِعْمَةً ... عَلَيَّ لَهُ فى مِثْلِها يَجِبُ الشُّكْرُ فَكَيْفَ بُلُوغُ الشُّكْرِ إِلا بِفَضْلِهِ ... وَإِنْ طَالَتِ الأَيَّامُ وَاتَّصَلَ العُمْرُ عن ثوبانَ: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "صِيَامُ رَمَضَانَ بِعَشَرَةِ أَشْهُرٍ، وَصِيَاُم سِتَّةِ أَيَّامٍ بِشَهْرَيْنِ" (¬1). يا هذا! مَنْ للقبر وأنت واني، إِلَى متى هذا التواني؟ أَتَحْسَبُ أَنَّكَ لَسْتَ بِفانٍ، وَها أَنْتَ إِلَيَّ كُلَّ يَوْمٍ دَاني، أتدْرِي إِلَى النَّارِ تَسْكُنُ أَمْ إِلَى الجِنَانِ؟ عِيدِي مُقِيمٌ وَعِيدُ الناسِ مُنْصَرِفُ ... وَالقَلْبُ مِنِّى عَنِ اللَّذَّاتِ مُنْحَرِفُ وَلِي قَرِينَانِ مالِي مِنْهُما خَلَفٌ ... طُولُ الحَنِينِ وَعَيْنٌ دَمْعُهَا يَكِفُ يا مَنْ يفرح في العيد بتزيين لباسِه، ويوقن بالموتِ وما استعدَّ لِبَاسِه، ويعتبر بإخوانه وأقرانه وجُلاَّسه، وكأنه قد أمنَ سرعةَ اختلاسِه، كيف تقرّ بالعيد عينُ مطرودٍ عن الصلاح؟! كيف تضحك سِنُّ مردودٍ عن ¬

_ (¬1) رواه ابن خزيمة في "صحيحه" (2115).

فصل صيام ستة أيام من شهر شوال مستحبة

الفلاح؟! كيف يُسَرُّ من يُصِرُّ على الفِعَال القِباح؟! كيف لا يبكي من فاته جزيلُ الأرباح؟ فَاكْدَحْ لِنَفْسِكَ قَبْلَ المَوْتِ في غَفَلٍ ... وَلا تَكُنْ جَاهِلاً بِالحَقِّ مُرْتَابا إِنَّ المَنِيَّةَ مَوْرُودٌ (¬1) مَنَاهِلُهَا ... لا بُدَّ مِنْهَا وَلَوْ عُمِّرْتَ أَحْقَابا يا مَنْ وفا رمضان على أحسنِ حال! لا تغيرن بعدَه في شوال، يا مَنْ رأى العيد وصل إليه! متى تشكر المنعمَ وتُثني عليه؟ تصدَّر أقوامٌ لمحوِ العواقب، ففعلوا عمل مراقب، وجاوزوا الفرائض إِلَى طلب المناقب. * * * فصلٌ صيامُ ستةِ أيامٍ من شهرِ شوالٍ مستحبةٌ جاء في الحديث: "صِيَامُهَا يَعْدِلُ صِيَامَ الدَّهْرِ" (¬2)؛ ولو أنها متفرقة في الشهر كلِّه، فليجتهدِ المسكينُ المذنبُ في تحصيلها، ولو في الشهر كلِّه. ¬

_ (¬1) في الأصل: "مردود". (¬2) تقدم تخريجه قريباً.

يا مَنْ سبقك القومُ وتخلَّفْتَ، ومضى أكثرُ العمر وسوَّفْت، ثم تعصي المنعمَ بالنعمِ فما أنصفتَ، وتؤثر الضلالَ على الهدى وقد عرفت. تخاف أن تقولَ إذا حضرتَ ووقفت: {قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ} [النازعات: 12]. يا مَنْ بين يديه الحسابُ والصراط، وهو عظيمُ الجرمِ كثيرُ الانبساط، متكاسلٌ في الطاعة، وفي المعاصي ذو نشاط، يُدعى إِلَى العلو ويأبى إلا الانهباط، مؤمنة هذه (¬1) النفسُ بالوعيد أم كافرة؟! {قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ} [النازعات: 12]. • • • ¬

_ (¬1) في الأصل: "هذا".

الفصل الثالث في ذكر الحج وفضله

الفصل الثّالث في ذكر الحجِّ وفضله في "الصحيحين" عن أبي هريرةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "أَفْضَلُ الأَعْمَالِ [إِيمَانٌ] بِالله وَرَسُولِهِ، ثُمَّ الجِهَادُ في سَبِيلِ الله، ثُمَّ حَجٌّ مَبْرُورٌ" (¬1). وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أن "مَنْ قَدَرَ عَلَى الحَجِّ، وَلَمْ يَحُجَّ، فَلْيَمُتْ إِنْ شَاءَ يَهُودِيّاً، وَإِنْ شَاءَ نَصْرَانِيّاً" (¬2). وعن ابن عباس -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ للهِ- عَزَّ وَجَلَّ- في كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ عِشْرِيَن وَمِئَةَ رَحْمَةٍ تنزِلُ عَلَى هذا البَيْتِ؛ فَستُّونَ لِلطَّائِفِينَ، وَأَرْبَعُونَ لِلمُصَلِّينَ، وَعِشْرُونَ لِلنَّاظِرِينَ" (¬3). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (26)، ومسلم (83) عن أبي هريرة -رضي الله عنه-. (¬2) رواه الدارمي في "سننه" (1785)، وأبو يعلى في "مسنده" (231)، وابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (5/ 72)، من حديث أبي أمامة -رضي الله عنه-. وإسناده ضعيف. (¬3) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (11475)، وابن عدي في "الكامل في =

وعن ابن عباسٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أنه قَالَ: "مَنْ طَافَ خَمْسِينَ مَرَّةً، خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ" (¬1). وعن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "إِنَّ المَلائِكَةَ تُصَافِحُ رُكْبَانَ الحَاجِّ، وَتُعَانِقُ مُشَاتَهُمْ" (¬2). وعن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "الحَجُّ المَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ [جَزَاءٌ] إِلا الجَنَّةَ" (¬3). يا مَنْ صَارُوا إِلَى الحبيبِ حمول، وكأنك بهم وهُمْ عند الحبيبِ نُزول، إنْ وافيتمُ إِلَى الحبيبِ فقولـ[ـوا]: ذاك الغريب ليس له إليكَ وصول، بالله إن وافيتُمْ إِلَى الحبيب، فاطلبوا لنا منه نصيبْ، وقولوا له: ذاكَ الغريبْ، ليس له إليكَ وصولْ. وَما رُمْتُ مِنْ بَعْدِ الأَحِبَّةِ سَلْوَةً ... وَلكنَّني (¬4) للنَّائباتِ حمولُ وَما شَرَقِي بِالمَاءِ إِلا تَذَكُّراً ... لمَاءٍ بِهِ أَهْلُ الحَبِيبِ نُزُولُ فسبحانَ من قسّم الأقسام، فلقومٍ يقظة، ولقومٍ منام. ¬

_ = الضعفاء" (6/ 278)، وإسناده ضعيف. (¬1) رواه الترمذي (866)، وقال: غريب. (¬2) رواه البيهقي في "شعب الإيمان" (4099)، من حديث عائشة -رضي الله عنها-. وضعفه، بلفظ: "إن الملائكة لتصافح ركاب الحجاج، وتعتنق المشاة". (¬3) رواه البخاري (1683) ومسلم (1349) عن أبي هريرة -رضي الله عنه-. (¬4) في الأصل "ولكني".

وذكروا: أن رجلاً شَرَطَ على أصحابه أن يخدمهم في سفر الجهاد، فكلما أراد أحدهم أن يغسل جبته، أو رأسه، فيقول: هذا شَرْطي، فيغسلُها له، فلما مات، إذا في كفِّه مكتوبٌ بين الجلدِ واللحم: من أهل الجنة. إخواني! رحلَ من أصفُه، وبقي من لا نعرفه. في "صحيح البخاري" عن عائشة: قلت: يا رسول الله! نرى الجهادَ أفضلَ الأعمال، أفلا نجاهد؟ قَالَ: "لكن أَفْضَلَ الجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ" (¬1). وعن أُمِّ سلمة، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "الحَجُّ جِهَادُ كُلِّ ضَعِيفٍ" (¬2). وفي " المسند ": عن جابرٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "الحَجُّ المَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلا الجَنَّة"، قَالَوا: وما بِرُّ الحجِّ يا رسول الله؟ قَالَ: "إِطْعَامُ الطَّعَامِ، وَإِفشاءُ السَّلامِ" (¬3). وفي حديثٍ آخرَ: "وَطِيبُ الكَلامِ" (¬4). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1448). (¬2) رواه ابن ماجه (2902)، وإسناده ضعيف. انظر: "المقاصد الحسنة" للسخاوي (ص: 301). (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 325). (¬4) رواه عبد بن حميد في "مسنده" (1091)، والحاكم في "المستدرك" (1778)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (5/ 262).

ومن أعظمِ أنواعِ الحجِّ المبرور: كثرةُ ذكر الله تعالَى. وروي: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - سئل: أيُّ الحج أفضل؟ قَالَ "أَكْثَرُهُمْ للهِ ذِكْراً" أخرجه الإمام أحمد (¬1). وفي "الترمذي": عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "أَفْضَلُ الحَجِّ: العَجُّ، وَالثَّجُّ" (¬2). وفي حديث: "عجُّوا التَّكْبِيرَ عَجّاً، وَثجُّوا الإِبِلَ ثَجّاً" (¬3). فالعَجُّ: رفعُ الصوتِ بالتكبيرِ والتلبيةِ، والثجُّ: إراقةُ دمِ الهَدْيِ والنُّسُكِ. والهَدْيِ أفضل الأعمال. يا هذا! إن الله قد أعطاك، ونَوَّلَك مُناك، وأنت بالله لا تنسانا من دُعاك. ياليتني معكم هناك، ولكنني مذنبٌ أرجو رضاك. وقد علمتُ أنك لستَ تُخَيِّبُ مَنْ دعاك. والمرء تقوى الله أفضلُ ما استفاد. يُرِيدُ المَرْءُ أَنْ يُؤْتَى مُنَاهُ ... وَيَأْبَى الله إِلا ما أَرَادَا ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 438) عن معاذ -رضي الله عنه-. (¬2) رواه الترمذي (827) عن أبي بكر -رضي الله عنه-. (¬3) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (13602)، عن جبير بن مطعم.

يَقُولُ المَرْءُ فَائِدَتي وَمَالِي ... وَتَقْوَى اللهِ أَفْضَلُ ما اسْتَفَادَا من أعظم ما يجب على الحاج: اتقاؤه من الحرام؛ أن يطيب نفقته في الحج، ولا يجعلها من كسبٍ حرام. مات رجلٌ في طريق مكة، فحفروا له، فدفنوه، ونَسُوا الفأسَ في لَحْده، فكشفوا عنه الترابَ ليأخذوا الفأسَ، فإذا رأسُه وعنقُه قد جُمعا في حَلْقة الفأس، فردُّوا عليه الترابَ، ورجعوا إِلَى أهله، فسألوهم عنه، فقَالَوا: صاحبَ رجلاً، فأخذ مالَهُ، فكان يحج عنه ويغزو. كما قيل: تَطَهَّرْ مِنَ الذُّنُوبِ يا مُذْنِبْ ... إِذَا شِئْتَ مِنْ بَابِهِ تَقْرُبْ كان عمرُ بن عبد العزيزِ إذا رأى من يسافر إِلَى المدينة النبوية يقول: أقرئ رسولَ الله منَّي السلام. هاهنا الخَيْفُ وَهَاتِيكَ مِنَى ... فَتَرَفَّقَ أَيُّهَا الحَادِي بِنَا وَاحْبِسنَّ الرَّكْبَ عَنَّا سَاعَةً ... نَنْدُبُ الرَّبْعَ وَنَبْكِي الدِّمَنا أَتُرَاكُمْ في النَّقَا والمُنْحَنَى ... أَهْلَ سَلْعٍ تَذْكُرُونَا ذِكْرَنَا

انْقَطَعْنَا وَوَصَلْتُمْ فَاعْلَمُوا ... واشْكُرُوا (¬1) المُنْعِمَ يا أَهْلَ مِنَى قَدْ خَسِرْنَا وَرَبِحْتُمْ فَصِلُوا ... بِفُضُولِ الرِّبْحِ مَنْ قَدْ غُبِنَا سَارَ قَلْبِي خَلْفَ أَحْمَالِكُمُ ... غَيْرَ أَنَّ العُذْرَ عَاقَ البَدَنَا زَمَناً كَانَ وَكُنَّا جِيرَةً ... فَأَعَادَ اللهُ ذَاكَ الزَّمَنَا من شاهدَ تلكَ الديار، وعاينَ تلكَ الآثار، ثم انقطعَ عنها، لم يمتْ إلا بالأسفِ عليها، والحنينِ إليها. قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ حَجَّ، فَزَارَ قَبْرِي، فَكَأَنَّما زَارَنِي في حَيَاتي" (¬2). يا هذا! تهيَّأ للممات، وَعُدَّ نفسَك لمصرعٍ سوف يأتي، وابْكِ على العبرات. أين الذين في الليل يتلو [نَ] القرآنْ، أولئك في الجِنان من أولياءِ الرحمن، ولَكَم قاموا وأَبلُّوا الأجفان، أولئك لهم الجنان. * * * ¬

_ (¬1) في الأصل: "أن اشكروا". (¬2) رواه الدارقطني في "سننه" (2/ 278) وغيره عن ابن عمر -رضي الله عنهما-، وإسناده ضعيف، وفي الباب عن حاطب -رضي الله عنه-، وإسناده ضعيف أيضاً. انظر: "التلخيص الحبير" لابن حجر (2/ 266).

فصل الحج واجب بالكتاب، والسنة، والإجماع

فصل الحجُّ واجبٌ بالكتاب، والسنة، والإجماع الكتاب: قوله: {وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ آالْبَيْتِ} [آل عمران: 97]. والسنة: قولُه - صلى الله عليه وسلم -: "بُنِيَ الإِسْلامُ عَلَى خَمْسٍ" (¬1). وذلك يجب بشروط: الإسلام، والحرية، والعقل، والبلوغ، والإستطاعة. • • • ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه.

الفصل الرابع في ذكر شهر ذي القعدة

الفصل الرّابع في ذكر شهر ذي القعدة خَرَّجَ الترمذيُّ، والنسائيُّ عن أبي ذَرٍّ: قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ صَامَ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، كَانَ كَمَنْ صَامَ الدَّهْرَ" (¬1). فأنزل الله مصدّقه: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160]. وفي "الصحيحين": عن عبد الله بن عمرٍو، قَالَ: قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "صُمْ مِنَ الشَّهْرِ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ؛ فَإِنَّ الحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَذلك مِثْلُ صِيَامِ الدَّهْرِ" (¬2). وفي "المسند": أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "صِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، هُوَ صَوْمٌ حَسَنٌ" (¬3). وذو القعدة من الأشهر الحُرُم بلا خلاف، ومن خصائص ذي ¬

(¬1) رواه النسائي (2717)، والترمذي (762) عن أبي ذر -رضي الله عنه-. (¬2) رواه البخاري (1875) ومسلم (1159). (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 217)، عن عثمان بن أبي العاص -رضي الله عنه-.

القعدة: أن عُمَرَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - كانت كلُّها في ذي القعدة. ولذي القعدة فضيلةٌ أخرى؛ وهي: أنه قد قيل: إنه الثلاثون يوماً (¬1) التي وعد الله فيها موسى -عَلَيْهِ السَّلَامْ-. يا مَنْ لا يُقلِعُ عن ارتكابِ الحرامْ، لا في شهرٍ حلالٍ، ولا في شهرٍ حرامْ. يا مَنْ هو في الطاعاتِ إِلَى وراء، وفي المعاصي إِلَى قُدَّامْ. يا مَنْ هو في كلِّ يومٍ من عمره، شراً ما كان في قبله من الآثامْ. متى تستفيقُ من هذا المنام؟ متى تتوبُ من هذا الحرام؟ يا من أنذرَهُ الشيبُ بالموت! وهو مقيمٌ على الآثامْ. أما كفاكَ واعظُ الشيبِ، معَ واعظِ القرآنِ والإسلامْ؟ والموتُ خيرٌ لك من الحياة على هذا الحال والسلام. يا غَادِياً في غَفْلَةٍ وَرَائِحَا ... إِلَى مَتَى تَسْتَحْسِنُ القَبَائِحَا وَكَمْ إِلَى كَمْ لا تَخَافُ مَوْقِفَاً ... يَسْتنطِقُ الله بِهِ الجَوارِحَا يا عَجَباً مِنْكَ وَأَنْتَ مُبْصِرٌ ... كَيْفَ تَجَنَّبْتَ الطَّرِيقَ الوَاضِحَا وَكَيْفَ تَرْضَى أَنْ يَكُونَ خَاسِراً ... يَوْمَ يَفُوزُ مَنْ يَكُونُ رَابِحَا • • • ¬

_ (¬1) في الأصل: "يوم" بدل "يوماً".

الفصل الخامس في ذكر شهر ذي الحجة

الفصل الخامس في ذكر شهر ذي الحجة وفيه خمسةُ فصول: الفصل الأول: في ذكر العشر، وفضلِه. الفصل الثاني: في ذكر يوم عرفة، وفضلِه. الفصل الثالث: في ذكر يوم النحر، وفضلِه. الفصل الرابع: في ذكرِ أيام التشريق. الفصل الخامس: في حكم شهر ذي الحجة، وعشرِه، ويومِ عرفةَ، ويومِ النحر، وأيامِ التشريق.

الفصل الأول في ذكر العشر

الفصل الأوّل في ذكر العشر عن أبي هريرة، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "ما مِنْ أَيَّامٍ أَحَبُّ إِلَى الله مِنْ أَنْ يُتَعَبَّدَ لَهُ فِيهَا مِنْ عَشْرِ ذِي الحِجَّةِ، يَعْدِلُ صِيَامُ كُلِّ يَوْم بِسَنَةٍ، وَكُلِّ لَيْلَةٍ مِنْهَا بِقِيَامِ لَيْلَةِ القَدْرِ" (¬1). وروى بعضُ أزواجِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا يدعُ صيامَ تسعِ ذي الحجة (¬2). وفي "ابن حبان" عن جابرٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "ما مِنْ أَيَّامٍ أَفْضَلُ عِنْدَ الله مِنْ عَشْرِ ذِي الحِجَّةِ" (¬3). وخَرَّجَ البزارُ، وغيرُه من حديث جابر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "أَفْضَلُ أَيَّامِ الدُّنْيَا أَيَّامُ العَشْرِ"، قَالَوا: يا رسول الله! ولا مثلُهن في سبيل الله؟! قَالَ: "وَلا لِمِثْلِهِنَّ في سَبِيلِ الله إِلا مَنْ عُفِّرَ وَجْهُهُ في التُّرَابِ" (¬4). ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (758). (¬2) رواه أبو داود (2437) عن بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولفظه: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصوم تسع ذي الحجة. (¬3) رواه ابن حبان في "صحيحه" (3853). (¬4) رواه أبو عوانة في "المسند" (3023)، ورواه البزار (4/ 17 - مجمع الزوائد =

وهذا كلُّه يدلُّ على أن شهر ذي الحجة أفضلُ الأشهر الحرام. العَشْرُ أَوْقَاتُ الإِجَابَهْ ... فَبَادِرُوا رَغْبَةً تَلْحَقُوا ثَوَابَه أَوْقَاتُ العَشْرِ حَقّاً فَشَمِّر ... وَاطْلُبَنْ فِيهَا الإِنَابَهْ إخواني! احذروا المعاصي؛ فإنها تحرِمُ المغفرةَ في مواسم الرحمة، إخوانُكم في هذه الأيام قد عقدوا (¬1) الإحرام، وقصدوا البيتَ الحرام، وملؤوا الفضاء بالتلبية والتكبير والتهليل والتحميد والإعظام، لقد ساروا وقعدنا، وقربوا وبعدنا، فإن كان لنا معهم نصيبٌ سعدنا. يا سَائِرِينَ إِلَى البَيْتِ العَتِيقِ لَقَدْ ... سِرْتُمْ جُسُوماً وَسِرْنَا نَحْنُ أَرْوَاحَا إِنَّا أَقَمْنَا عَلَى عُذْرٍ وَقَدْ رَحَلُوا ... وَمَنْ أَقَامَ عَلَى عُذْرٍ كَمَنْ رَاحَا الغنيمة بانتهاز الفرصة في هذه الأيام العظيمة، فما منها عوض، إلا ولها قيمة، والمبادرة بالعمل. عن ابن عباسٍ، قَالَ: قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما مِنْ أَيَّامٍ العَمَلُ الصَّالِحُ أَحَبُّ فِيهَا إِلَى الله -عَزَّ وَجَلَّ- مِنْ هذهِ الأَيَّامِ" -يعني: أيام العشر-، قَالَوا: يا رسول الله! ولا الجهاد في سبيل الله؟! ¬

_ = للهيثمي)، قال الهيثمي: وإسناده حسن، ورجاله ثقات. (¬1) في الأصل: "قعدوا".

قَالَ: "وَلا الجِهَادُ في سَبِيلِ الله، إِلا رَجُلٌ خَرَجَ بِمَالِهِ، وَنَفْسِهِ، ثُمَّ لَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذلك بِشَيْءٍ" انفرد بإخراجه البخاري (¬1). يا من قد سارت (¬2) بالمعاصي أخبارُه! يا من قد قبح إعلانُه وإسرارُه! يا فقيراً من الهدى أهلكه إعسارُه! أتؤثر الخسرانَ، قلْ لي وتختارُه؟ يا كثيرَ الذنوبِ وقد دنا إحضارُه! يا أسيراً (¬3) في حبس الزلل لا ينفعه إحضارُه! كم رد على مثلك درهمه وديناره! يا محترقاً (¬4) بنار الهوى متى تخبو ناره؟ أَيَّتُهَا النَّفْسُ اسْمَعِي لِقِيلِي ... أَنْتِ مِنَ الحَيَاةِ في أَصِيلِ وَفي غُرُورِ أَمَلٍ طَوِيلِ ... فَلا يَغُرَّنْكِ ضُحَى التَّأْمِيلِ فَقَدْ دَنَتْ شَمْسُكِ (¬5) لِلأُفُولِ عبادَ الله! هذه الأيام مطايا، فأين العدَّةُ قبل المنايا؟ أين الأَنَفَة من دار الأذايا؟ أين العزائم؟ أرضيتُم بالدنايا؟ إن بلية الهوى لا تشبه البلايا، وإن خطيئة الإصرار لا كالخطايا، يا مستورين! ستظهر الخبايا، سريَّةُ الموت لا تشبه السرايا، قضيةُ الزمان ليست كالقضايا، ¬

_ (¬1) رواه البخاري (926). (¬2) في الأصل: "أسأت". (¬3) في الأصل: "موسر". (¬4) في الأصل: "متحرقاً". (¬5) في الأصل: "شموسك".

راعي السلامة يقتل الرعايا، رامي المنون يُصْمِي الرمايا، مَلَكُ الموت لا يقبل الهدايا، وكأني به قد أخذكم جيلاً جيلاً، {وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا}. أيها الشاب! ستُسأل عن شبابك، أيها الكهل! تأهب لعتابك، أيها الشيخ! تدبر أمرك قبل استداد بابك، [لا تُقبلن] إليَّ وعملك قليلاً، {وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [النساء: 77]. كنت في بداية الشباب أصلح، فيا عجباً كيف أفسدَ مَنْ أصلح؟! يا مريضَ القلبِ قفْ ببابِ الطبيب، يا منحوسَ الحظ! اشكُ فواتَ النصيب، فأنت بالتوبة مطيلا، {وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [النساء: 77]. لُذ بالجناب ذليلاً، وقفْ على الباب طويلاً، واتخذ في هذا العشر سبيلاً، واجعل جَناب التوبة مَقيلاً، واجتهد في الخير، تجد ثواباً جزيلاً، {وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [النساء: 77]. قل لي في الأسحار: أنا تائب، نادِ في الدجا: قد قدم الغائب. أَنَا المُسِيءُ المُذْنِبُ الخَاطِي ... المُفْرِطُ البَيِّنُ إفراطِي فَإِنْ تُعَاقِبْني (¬1) فَأَهْلٌ لَهُ ... وَأَنْتَ أَهْلُ العَفْوِ عَنْ خَاطِي • • • ¬

_ (¬1) في الأصل: "تعاقب".

الفصل الثاني في يوم عرفة وفضله

الفصل الثّاني في يوم عرفة وفضله عباد الله! إن يومكم هذا قد عظَّم الله أمرَه، ورفع على الأيام قَدْرَه. ومن فضله: أن الله نزَّل فيه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشية عرفة، يوم الجمعة. ومن فضله: أن الله يباهي بالحاج ملائكته، ويمنِّي بالغفران. قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَيْلَةَ عَرَفَةَ [يَـ]ـنْزِلُ الله -عَزَّ وَجَلَّ- إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَقُولُ لِلمَلائِكَةِ: انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي هؤلاءِ شُعْثاً غُبْراَّ، جَاؤُوني مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقِ، ضَاجينَ يَسْألُونَ رَحْمَتِي ولَمْ يَرَوْني، وَيَتَعَوَّذُونَ بي مِنْ عَذَابي، وَلَمْ يَرَوْني، فَلَمْ يُرَ يَوْمٌ أَكْثَرُ عَتِيقاً وَلا عَتِيَقةً مِنْهُ" (¬1). عن ابن عمرَ، قَالَ: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا يَبْقَى أَحَدٌ ¬

_ (¬1) رواه ابن الجوزي في "التبصرة" (2/ 142) من حديث جابر -رضي الله عنه-.

يَوْمَ عَرَفَةَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ إِلا غُفِرَ لَهُ" (¬1). عن أبي قَتادةَ: أن رجلاً قَالَ: يا رسول الله! أرأيت صيامَ يومِ عرفةَ؟ قَالَ: "أَحْتَسِبُ عَلَى الله أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ البَاقِيَةَ، وَالمَاِضَيَة"، انفرد بإخراجه مسلم (¬2). يَوْمُ عَرَفَاتٍ نَرْجُو ثَوَابَهْ ... فَكَمْ مُضْطَرٍّ فِيهِ قَدْ أَجَابَهْ (¬3) • • • ¬

_ (¬1) رواه عبد بن حميد في "المسند" (842)، وإسناده ضعيف. انظر: "الأمالي المطلقة" لابن حجر (ص: 16). (¬2) رواه مسلم (1162). (¬3) في الأصل: "فكم من مضطر إليه فيه قد أجابه".

الفصل الثالث في يوم النحر

الفصل الثّالث في يوم النحر اعلموا أن يومَ النحرِ يوم عظيمٌ، قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَفْضَلُ الأَيَّامِ يَوْمُ النَّحْرِ" (¬1). وروي عنه - صلى الله عليه وسلم - في الأضحية: أنه قَالَ: "بِكُلِّ شَعْرَةٍ حَسَنَةٌ" (¬2). للهِ درُّ أقوامٍ أعيادُهم قبولُ الأعمال، ومرادُهم [أ] شرفُ الأعمال، وأحوالُهم تجري على كمال، وجَمالهم التقى، ويا لَه من جمال! يا من كلما جُذِبَ عن لهوه رَسَب، هذا بريدُ الموتِ لك في الطلب، بادرْ قبلَ الفوات، فالزمانُ يُـ[نْتَـ]ـهَب. أين مخاصمُ الأقدار؟ قل لي: من غلب؟!، أتاه الفاجعُ فاقترب وما ارتقب، وأبرزه عن قصره ويا طالما احتجب. يا معرضاً عنا! عناك التعب، يا هاجراً لنا! إِلَى كم هذا ¬

_ (¬1) رواه ابن حبان في "صحيحه" (2811) عن عبد الله بن قُرط -رضي الله عنه-. (¬2) رواه ابن ماجه (3127)، والإمام أحمد في "المسند" (4/ 368) عن زيد بن أرقم -رضي الله عنه-.

الغضب؟! يامضغةً، يا علقةً! خدمتنا نَسب، يا مؤثِراً غيرَنا! بعتَ الدُّرَّ بالخشب. أما يشوقك إِلَى الخير ما يشوق؟! أما يعوقك عن الضير ما يعوق، متى ترجع حُرّاً يا مرقوق؟! متى تصير سابقاً يا مسبوق؟! إياكَ والهوى، فكم قتل عاشقاً معشوق، أولُ الهوى سهلٌ، ثم تتخرق الخروق، كلما حصد نباته بمنجل الصبر، أخرجت العروق، إن لذّ شربُه في الفم، فشربه شَجًا في الحلوق، وإنما لَذَّةُ الدنيا مثلُ خطفِ البروق، خلِّ، خلِّ التواني إن شئت تفوق، تالله! ما نصحك إلا محبٌّ أو صدوق. ستعلم -أيها العاصي- ما أتيت، وستدري يومَ الحساب من عصيت، وستبكي دماً لقبيح ما جنيت، كأنك بالموت قد جاء فانتبهت وارعويت، وذكرتَ تلك الخطايا فتعست وبكيت، وأُخلي منك البيت، شئتَ أو أبيت، وصِحْت بلسان الأسف: {رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون: 99] وليت، انهض يا حياً قادراً قبل أن تسمى باسم مَيْت، ويحك! تأمَّلْ أمرَك، وافتح عينك، ويحك! كم تعبي من الذنوب عليك، إن سهام الموت قد فُوِّقَت إليك، اقبلْ نصحي، وقمْ نادماً على قدميك، واحسبها أرضَ عرفةَ، وقل: لبيك لبيك. قَالَ بعض العارفين: ما فرح أحدٌ بغير الله إلا بغفلته عن الله، فالغافلُ يفرح بلهوه وهواه، والعاقل يفرح بمولاه. وأنشد سمنون في هذا المعنى:

وَكَانَ فُؤَادِي خَالِياً (¬1) قَبْلَ حُبِّكُمْ ... وَكَانَ بِذِكْرِ الخَلْقِ يَلْهُو وَيَمْرَحُ فَلَمَّا (¬2) دَعَا قَلْبِي هَوَاكَ أَجَابَهُ ... فَلَسْتُ أَرَاهُ عَنْ فِنَائِكَ يَبْرَحُ رمُيتُ بِبُعْدٍ مِنْكَ إِنْ كُنْتُ كَاذِباً ... وَإِنْ كُنْتُ في الدُّنْيا بِغَيْرِكَ أَفرَحُ وَإِنْ كَانَ شَيْءٌ في البِلادِ بِأَسْرِهَا ... إِذَا غِبْتَ عَنْ قَلْبِي لِقَلْبِيَ يَمْلُحُ فَإِنْ شِئْتَ وَاصِلْنِي وَإِنْ شِئْتَ لا تَصِلْ ... فَلَسْتُ أَرَى قَلْبِي لِغَيْرِكَ يَصْلُحُ • • • ¬

_ (¬1) في الأصل: "خلياً". (¬2) في الأصل: "فلمن".

الفصل الرابع في ذكر أيام التشريق

الفصل الرّابع في ذكر أيام التشريق لما كان يوم النحر فضيلاً، كان لهم عيدٌ قبله وبعدَه، فقبله يومُ عرفة، وبعده أيامُ التشريق، وكل هذه الأيام أعيادٌ، كما في حديث عقبةَ بن عامرٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "يَوْمُ عَرَفَةَ، وَيَوْمُ النَّحْرِ، وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَعْيَادٌ لِأَهْلِ الإِسْلامِ، وَأَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ" خرجه أهل السنن، وصححه الترمذي (¬1). • • • ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (2419)، والنسائي (2829)، والترمذي (773).

الفصل الخامس في حكم شهر ذي الحجة، وعشره ويوم عرفة، ويوم النحر، وأيام التشريق

الفصل الخامس في حكم شهرِ ذي الحجة، وعشره ويومِ عرفة، ويوم النحر، وأيام التشريق قوله تعالَى: {رِجَالًا} [الحج: 27]؛ أي: مُشاةً، وقد حجَّ إبراهيم، وإسماعيل ماشيين، وحج الحسن بن عليٍّ خمساً وعشرين حجة ماشياً، وحجَّ أحمدُ بن حنبل مرتين. أمر ألله نبيَّه الخليلَ بعدَ بناء بيته الجليل، أن ينادي [عبيده] إِلَى الفضل الجزيل؛ ليحط عنهم مولاهم كلَّ وِزر ثقيل، فقَالَ - سبحانه وتعالَى -: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا} [الحج: 27]. يا إبراهيم! لله درُّ أقوام فارقوا ديارَهم، وعانقوا افتقارَهم، وآثرُوا غبارَهم، وطهروا أسرارَهم، يدعون عند البيت قريباً سميعاً، ويقفون بين يديه بالذلِّ جميعاً، ويسعَوْن في رضائه سعياً سريعاً، وقد وَدَّعوا مطلوب شهواتهم توديعاً، هجروها لِكُدورها وهاجروا إِلَى الصفا، وقصدوا المروة بعد أن أتمُّوا الصفا، وحَذِروا الردَّ، وخافوا الجفا، وتعلقت آمالهم (¬1) بمن هو حسبهم وكفى. ¬

_ (¬1) في الأصل: "أموالهم".

نادِ زُوَّاري أَنا أَدْعُوهُمُ ... نَحْوَ بَيتْي لينالُوا شَرَفَا فَهْمُو وَفْدٌ (¬1) إِذَا ما نَزَلُوا ... بِحَرِيمِي أَوْ دَنَوْا مُزْدَلِفَا (¬2) وَلَهُمْ عِنْدِ [ي] مَزِيدٌ لَهُمُ ... مِنْ نَوَالِي ما أَحَبُّوا طُرَفَا فَارَقُوا أَوْطَانَهُمْ إِذْ قَصَدُوا ... نَحْوَ بَابي يَطْلُبُونَ الزُّلَفَى فَلَهُمْ مِنِّيَ مَهْما أَمَّلُوا ... سَلَفاً يَنْمِي وَيُنْشِي خَلَفَا قد أحرمَ القومُ عن الحلال، فأحْرِموا أنتم عن الحرام، منعوا أنفسهم من الطِّيب، فاحذروا أنتم جيفةَ (¬3) الهوى، يا حسنَهم، وقد نزعوا المَخيط، ونزعوا عن التضييع والتفريط، وملؤوا بالتضرع البسيط، فارقوا لأجلِ مولاهم أولادَهم، وعَرَّوْا عن رقيق (¬4) الثياب أجسادَهم، وتركوا في مرضاة محبوبهم مرادَهم، فأصبحوا قد أعطاهم مولاهم، وأمسَوا قد إفادهم (¬5). ¬

_ (¬1) في الأصل: "وفود". (¬2) في الأصل: "من مزدلفا". (¬3) في الأصل: "حقيقة". (¬4) في الأصل: "ربق". (¬5) في الأصل زيادة: "استسعاهم"، وفي "التبصرة" لابن الجوزي (2/ 149)، =

تشَاغَلَ قَوْمٌ بِدُنْيَاهُمُ ... وَقَوْمٌ تَخَلَّوْا لِمَوْلاهُمُ فَألْزَمَهُمْ بَابَ مَرْضَاتِهِ ... وَعَنْ سَائِرِ الخَلْقِ أَغْنَاهُمُ فَما يَعْرِفُونَ سِوَى حُبِّهِ ... وطَاعَتِهِ طُولَ مَحْيَاهُمُ يُقِيمُونَ بِاللَّيْلِ أَبْدَانهم ... وَعَيْنُ المُهَيْمِنِ تَرْعَاهُمُ وَطَوْراً يُنَاجُونَهُ سُجَّداً ... وَيَبْكُونَ طَوْراً خَطَايَاهُمُ إِذَا فَكَّرُوا فِي الَّذِي [أَ] سْلَفْوا ... أَذَابَ القُلُوبَ وَأَبْكَاهُمُ وَإِنْ يَكُنِ الخَوْفُ لاذُوا بِهِ ... وَبَاحُوا إِلَيْهِ بِشَكْوَاهُمُ وَأَضْحَوْا صِيَاماً عَلَى جَهْدِهِمْ ... تَبَارَكَ مَنْ هُوَ قَوَّاهُمُ هُمُ القَوْمُ طَاعُوا مَلِيكَ الملوك ... صُدْقُ القُلُوبِ فَوَالاهُمُ ¬

_ = وعنه ينقل المصنف هذه الجمل: "وأمسوا قد أفادهم، استسعاهم إليه فاجتهدوا ..... ".

همُ المُخْبِتُونَ بِنيَّاتِهِمْ ... أَرَادُوا رِضا [هـ] فَأَعْطَاهُمُ وَأَسْكَنَهُمْ في فَسِيحِ الجِنَانِ ... وَأَعْلَى المَنَازِلِ بَوَّاهُمُ فَنَالُوا المُرَادَ وَفَازُوا بِهِ ... فَطُوبَى لَهُمْ ثُمَّ طُوباهُمُ وذُكر عن مالكِ بن أنسٍ، قَالَ: صحبتُ جعفراً الصادق، فلما أراد أن يلبي، تغيّر وجهُه، وارتعدت فَرائصُه، فقلت: ما لكَ يا بنَ رسولِ الله؟! فقَالَ: أردتُ أن ألبي، قلت: وما توقُّفُكَ؟ قَالَ: أخاف أن أسمع غير الجواب. وقَالَ سَرِيٌّ: لقيت في طريق الحج جاريةً حبشية، فقلت: إِلَى أين؟ قَالَت: الحج، قلت: الطريقُ بعيد، فقَالَت: بعيدٌ على الكسلان، وأما المشتاقُ، فهو عليه قريب، ثم قَالَت: يا سَرِيُّ! {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا} [المعارج: 6 - 7]، فلما وصلت إِلَى البيت، رأيتها تطوف كالفتى الشاطر، فنظرَتْ إليه، فقَالَت: أنا تلكَ العبدةُ، لما جئتهُ بضعفي، حملَني بقوَّته (¬1). إخواني! مُدُّوا إليه أيدي الاعتذار، وقوموا على بابه بالذلِّ والإنكسار؛ كما قيل: ¬

_ (¬1) انظر: "التبصرة" لابن الجوزي (2/ 150).

لَئِنْ لَمْ أَحُجَّ البَيْتَ إِذْ شَطَّ رَبْعُهُ ... حَجَجْتُ إِلَى مَنْ لا يَغِيبُ عَنِ الفِكْرِ فَأَقْلَعْتُ مِنْ وَقْتِي بِخَلْع شَمَائِلِي ... أَطوفُ وَأَسْعَى فِي اللَّطَائِفِ وَالبِرِّ صَفَا [ي] صَفَائِي عَنْ صَفَاتِي وَمَرْوَتِي ... مُرُوءَةُ قَلْبٍ عَنْ سِوَى حُبِّه قَفْرِ وَفي عَرَفَاتِ الأُنْس بِالله مَوْقِفِي ... وَمُزْدَلَفَي الزُّلْفَى لَدَيْهِ إِلَى الحَشْرِ وَبَثُّ المُنَى مِنِّي مَبِيتِيَ في مِنَى ... وَأَرْمِي جِمَارِي جَمْرَ شَوْقِيَ في صَدْرِي سبحانَ مَنْ إِلَى بيته حملَهم، وبفِنائِه أنزلَهم، وإِلَى حرمِه أوصلَهم، وبإخلاصِ قصده جَمَّلَهم، فلقد جمعَ الخير الجَمَّ لهم، ليشهدوا منافع لهم. إخواني! إن لم نصل إِلَى ديارهم، فلنصلِ انكسارَنا بانكسارهم، إن لم نقدر على عرفات، فلنستدركْ ما قد فات، إن لم نصل إِلَى الحجر، فَلْيَلِنْ كلُّ قلب حجر، إن لم نقدر على ليلة جَمْع ومنى، فلنقم بمأتم الأسف ههنا. من لم يتب في هذا اليوم، فمتى ينيب؟ ومن لم يُجِبْ في هذا الوقت، فمتى يجيب؟ ومن لم يعرف بالتوبة، فهو غريب، ومن لم يقرَّ بالعفو، فما له من نصيب. أسفاً لعبدٍ لم يغفر له اليوم ما جنى، كلَّما همّ بخيرٍ، نقض الطرد

فصل

ما بنى، حضر موسمُ الأرباح، فما حصَّل خيراً، وما اقتنى، وضلّ الفلاح، فما مَدَّ كفّاً ولا جنى، ليت شعر [ي] مَنْ مِنَّا خاب، ومن منا نالى المنى. فيا إخواني! إن فاتنا نزولُ منى، فلننزِلْ دموعَ الحسرات ههنا، وكيف لا نبكي، ولا ندري ما يُراد بنا، وكيف بالسكون، ولا نعلم ما عنده لنا (¬1). اللَّهُمَّ! إنا نقف على الأقدام؛ كقيام القاصدين البيت الحرام، يا غافر الذنوب! اغفر ذنوبنا، ويا ساتر العيوب! استر عيوبنا، يا كاشف الكروب! اكشف كروبنا، يا منتهى الآمال! بلِّغنا مطلوبنا. * * * فصل صيام شهر ذي الحجة، وعشرِه مستحبٌّ، وفيه أحاديثُ كثيرة، قد مضت، وكذا قيامُه. * * * فصل يوم عرفةَ صومُه مستحبٌّ لغير الحاجِّ، فأما الحاجُّ، فلا يستحب له؛ ليتقوى على الدعاء. عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "خَيْرُ الدُّعَاءِ [دُعَاءُ] يَوْمِ عَرَفَةَ، وَخَيْرُ ¬

_ (¬1) في الأصل: "ما عندنا" بدل "ما عنده لنا".

فصل

ما قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ قَبْلِي: لا إِلَهَ إِلا الله وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" (¬1). * * * فصل يومُ النحر يومُ عيد، يحرُمُ صومُه، وإن قَصَدَ صيامَه كان عاصياً، ولا يأكل في يوم النحر إلا بعدَ الصلاة، والغسلُ فيه مستحبٌّ، وقيل: واجب، والتبكير إليها بعد الصبح ماشياً على أحسن هيئة. وتُسَنُّ الصلاةُ في الصحراء، وتُكره [في] الجامع إلا من عذر، ويكبر في الأولى سِتاً، وفي الثانية خمساً، ويرفع يديه مع كل تكبيرة، ويقول: الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً، وصلى الله على سيدنا محمد النبي وآله، وسلم تسليماً. ويقر [أ] في الأولى بـ (سبح)، وفي الثانية بـ (الغاشية)، ويجهر بالقراءة، ولا يتطوع في موضعها، ومن فاتته الصلاة قضى على صفتها؛ وعنه: أربع، وعنه: مخيّر بين ركعتين وأربع. ويكبر من الفجر يومَ عرفة إِلَى العصر من آخر أيام التشريق، إلا المحرِم؛ فإنه يكبر من عصر يوم النحر، والتكبير شَفْعاً. * * * فصل الأضحية سنة مؤكدة، ولا تجب إلا بالنذر، وذبحُها أفضل من ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (3585) عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما-.

فصل

الصدقة بثمنها، والأفضل إبلٌ، ثم بقرٌ، ثم غنمٌ، وذكرٌ وأنثى سواء. ويؤخذ من ضأن ما له ستةُ أشهر، وثنيُ ما سواه، وثنيُ الإبل ما له خمس سنين، والبقر سنتان، والمعز سنة. ويأكل ثلثَها، ويُهدي ثلثها، ويتصدق بثلثها، وإن أكل أكثرَ، جاز، وإن أكلها كلَّها، ضمن. ومن كان يضحي، ودخل العشر، فلا يأخذ من شعره، ولا بشرته شيئاً. وهل هو حرامٌ؟ على روايتين. ولا يعطي الجازرَ بأجرته شيئاً منها. * * * فصل العقيقة سُنَّةٌ مؤكَّدة؛ شاتين عن غلام، وشاة عن جارية في سابِعِه، فإن فات، ففي رابع عشر، فإن فات، ففي أحد وعشرين، ويحلق رأسه، ويتصدق بوزنه وَرِقاً، وينزعها أعضاء، ولا يكسر عظمها، وحكمُها كحكم الأضحيّة. * * * فصلٌ أيامُ التشريق لا يجوز صومُها تطوعاً، وفي فرض: روايتان. ويُسن التكبير في أيام التشريق، وتذبح الأضحية في أيام التشريق.

الفصل السادس في ذكر يوم عاشوراء

الفصل السّادس في ذكر يوم عاشوراء في "الصحيحين" عن ابن عباسٍ: أنه سُئل عن صيامِ عاشوراءَ، فقَالَ: ما رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - صامَ يوماً يتحرَّى (¬1) صومَه على الأيام، إلا هذا اليوم -يعني: يوم عاشوراء (¬2) -. يوم عاشوراء له فضيلة عظيمة، وحرمتُه قديمة، وصومُه لفضله غَنيمة. عن أبي هريرةَ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "يَوْمُ عَاشُورَاءَ كَانَتْ تَصُومُهُ الأَنْبِيَاءُ، فَصُومُوهُ أَنْتُمْ" (¬3). وقد كانت أهلُ الكتاب تصومه، وكذلك قريشٌ في الجاهلية. وفي "الصحيحين" عن ابن عباس، قَالَ: قدمَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -[المدينة] فوجد اليهودَ صياماً يومَ عاشوراء، فقَالَ لهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ¬

_ (¬1) في الأصل: "يرتجي". (¬2) رواه البخاري (1902)، ومسلم (1132). (¬3) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (9355)، وإسناده جيد.

"مَا هذا الَّذِي تَصُومُونَهُ؟ "، قَالَوا: هذا يومٌ عظيم، أنجى الله فيه موسى وقومَه، وأغرقَ فرعونَ وقومَه، فصامه موسى شكراً، فنحن نصومُه، فقَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نحن أحقُّ وأ [و] لى بموسى منكم" (¬1). وفي "الصحيحين" عن سلمةَ بن الأَكْوَع: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أمر رجلاً أن يؤذِّنَ في الناس: "مَنْ أَكَلَ، فَلْيَصُمْ بَقِيَّهَ يَوْمِهِ، وَمَنْ لَمْ يَأْكُلْ، فَلْيَصُمْ؛ فَإِنَّ اليَوْمَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ" (¬2). وفي "صحيح مسلم" عن ابن عباسٍ: أنه قَالَ: حين صام رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عاشوراء وأمر بصيامه، قَالَ: يا رسول الله! إن اليوم تعظِّمه اليهودُ والنصارى، فقَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فَإِذَا كَانَ العَامُ المُقْبِلُ - إِنْ شَاءَ الله تَعَالَى - صُمْنَا التَّاسِعَ، وَالعَاشِرَ"، فلم يأتِ العامُ المقبلُ حَتَّى تُوفي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - (¬3). وروي بإسناده عن طاوسٍ: أنه كان يصومُ عاشوراءَ في الحضر (¬4). • • • ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1900)، ومسلم (1130). (¬2) رواه البخاري (1903)، ومسلم (1135). (¬3) رواه مسلم (1134). (¬4) كذا في الأصل، والمصنف ينقل عن ابن رجب في "لطائف المعارف" (ص: 110) حيث قال: "وكان طائفة من السلف يصومون عاشوراء في السفر"، ثم ذكر أن عبد الرزاق روى بإسناده عن طاوس ما نقله المصنف هنا.

فصل

فصل ومن أعجب ما ورد في عاشوراء: أنه كان يصومه الوحش، والهوامُّ. وروي عن فتح بن شخرف، قَالَ: كنتُ أفتُّ للنملِ الخبزَ كلَّ يوم، فلما كان يوم عاشوراء، لم يأكلوه. وروي عن القادر بالله -الخليفة العباسي-: أنه جرى له مثلُ ذلك، فعجب منه، فسأل أبا الحسنِ القزوينيَّ، فذكر له أن يوم عاشوراء يصومُه النمل. وروى أبو موسى المدينيُّ بإسناده عن قيسِ بن عبادٍ، قَالَ: بلغني أن الوحش كانت تصومه. وبإسناده، عن رجلٍ أتى إِلَى البادية يومَ عاشوراء، فرأى قوماً يذبحون ذبائح، فسألهم عن ذلك، فأخبروه أن الوحشَ صائمةٌ، وقَالَوا: اذهبْ بنا نُرِكَ، فذهبوا به إِلَى روضة، فأوقفوه، قَالَ: فلما كان بعدَ العصر، جاءت الوحوشُ من كل وجهٍ، فأحاطتْ بالروضة، رافعةً رؤوسها إِلَى السماء، ليس شيء منها يأكل، حَتَّى إذا غربت الشمس، أسرعت جميعاً، فأكلت.

فصل

وعن عبد الله بن عمرٍو، قَالَ: بين الهند والصين أرضٌ بها بطةٌ من نحاس على عمودٍ من نحاس، فإذا كان يومُ عاشوراء، مدَّت منقارها، فيفيض منه ماءٌ يكفيهم لزرعهم ومواشيهم إِلَى العام المقبل. رئي بعض المتقدمين في المنام، فسئل عن حاله، فقَالَ: غفر لي بصيام يوم عاشوراء ستين سنة (¬1). * * * فصل وأما الصدقة، فرُوي: مَنْ تَصَدَّق فيه، كان كصدقةِ السنةِ (¬2) * * * فصلٌ وأما التوسع فيه على العيال، فقد رُوي: "مَنْ وَسَّعَ عَلَى أَهْلِهِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَسَّع الله عَلَيْهِ سَائِرَ السَّنَةِ" (¬3). * * * ¬

_ (¬1) انظر هذا الفصل كاملاً في "لطائف المعارف" لابن رجب (ص: 110 - 111). (¬2) رواه أبو موسى المديني كما ذكر الحافظ ابن رجب في "لطائف المعارف" (ص: 112). (¬3) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (10007)، وابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (5/ 211)، عن ابن مسعود -رضي الله عنه-، وإسناده ضعيف.

فصل

فصل روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "هذا يَوْمٌ تَابَ الله فِيهِ عَلَى قَوْمٍ، فَاجْعَلُوهُ صَلاةً، وَصوْماً -يعني: عاشوراء-" (¬1). وروى (¬2) بإسناده، عن عليٍّ، قَالَ: يومُ عاشوراءَ هو اليوم الذي تِيبَ فيه على قومِ يونسَ. وعن ابن عباس، قَالَ: هو اليومُ الذي تِيب على آدَمَ. وعن وَهْبٍ: أن الله أوحى إِلَى موسى -عليه السلام-: أَنْ مُرْ قومك يتقربون إليّ في أول العشر من محرم، فإذا كان يوم العاشر، فليخرجوا إليَّ حَتَّى أغفرَ لهم. كتب عمرُ بن عبد العزيزِ إِلَى الأمصار كتاباً، وقَالَ فيه: قولوا كما قَالَ أبوكم آدَمُ: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23]. وقولوا كما قَالَ نوحٌ: {وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [هود: 47]. وقولوا كما قَالَ موسى: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} [القصص: 16] (¬3). • • • ¬

_ (¬1) رواه أبو موسى المديني، كما نقله ابن رجب في "لطائف المعارف" (ص: 114)، قال أبو موسى: حسن غريب، قال ابن رجب: وليس كما قال. (¬2) أي: أبو موسى المديني، والكلام لابن رجب في "اللطائف" (ص: 114). (¬3) انظر: "لطائف المعارف" لابن رجب (ص: 114 - 115).

فصل

فصلٌ لما ظهر فضلُ آدمَ على الخلائق بسجود الملائكة له، وبتعليمه [أسماء] كلِّ شيء، وسكَنَ هو وزوجتُه الجنة، ظهر الحسدُ من إبليس، وسعى في الأذى، فما زال يحتال على آدمَ، حَتَّى تسبب في إخراجه من الجنة، وما فهم أنّ آدمَ إذا خرج منها، كملَتْ فضائله، ثم عاد إليها أكملَ من حاله الأول. إنما أهلك إبليسَ العُجبُ بنفسه، ولذلك قَالَ: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ}، وإنما كملت فضائلُ آدمَ باعترافه على نفسه {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} [الأعراف: 23]. قَالَ بعض السلف: آدمُ خرجَ من الجنة بذنبٍ واحد، وأنتم تعملون الذنوب، وتُكثرون منها، وتريدون أن تدخلوا الجنة؟! تَصِلُ الذُّنُوبَ إِلَى الذُّنُوبِ وَتَرْتَجِي ... دَرَجَ الجِنَانِ بِهَا وَفَوْزَ العَابِدِ وَنَسِيتَ أَنَّ الله أَخْرَجَ آدَماً ... مِنْهَا إِلَى الدُّنْيا بِذَنْبٍ وَاحِدِ

إخواني! احذروا هذا العدوَّ الذي أخرج أباكم آدمَ من الجنة، فإنه ساعٍ في منعكم من العود إليها بكل سبيل، والعداوةُ بينكم وبينه قديمة. العجبُ ممن عرف ربَّه، ثم عصاه، وعرف الشيطان، ثم أطاعه {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف: 50]. فَحَيَّ عَلَى جَنَّاتِ عَدْنٍ فَإِنَّهَا ... مَنَازِلُكُ الأُولَى وَفِيهَا المُخَيَّمُ وَلكنَّنَا سَبْيُ العَدُوِّ فَهَلْ تُرَى ... نَعُودُ إِلَى أَوْطَانِنَا وَنُسَلَّمُ قَالَ بعض السلف: بلغنا أن دُورَ الجنة تُبنى بالذِّكر، فإذا أمسك عن الذكر، أمسك عن البناء، فيقا [ل] لهم؛ فيقولون: حَتَّى تأتينا نفقة. رأى بعض الصالحين في منامه قائلاً يقول له: قد أمرنا بالفراغ من بناء دارك، واسمها: دار السرور، وقد أمرنا بتنجيدها وتزيينها، والفراغ منها إِلَى سبعة أيام. فلما كان بعد سبعة أيام، مات، فرئي في المنام، فقَالَ: دخلتُ دارَ السرور، وأنا في سرور، فلا تسأل ما فيها. لم يُر مثلُ الكريمِ إذا حلّ به مطيعٌ. ورأى بعضهم كأنه قد دخل الجنة، وعُرض على منازله وأزواجه، فلما أراد أن يخرج، تعلّق به أزواجه، وقَالَوا: بالله! حَسِّنْ عملَك، فكلما حسَّنْت عملَكَ، ازدَدْنا نحن حُسناً (¬1). • • • ¬

_ (¬1) انظر: "لطائف المعارف" لابن رجب (ص: 116 - 121).

فصل

فصلٌ كم لله من لطفٍ وحكمةً في إهباطِ آدمَ إِلَى الأرض، لولا نزولُه لما جاهد المجاهدون، ولا نزلت قطرةٌ من دموع المذنبين. يا آدم! إن كنت أُهبطت من دار القرب، {فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186]، إن كان حصل لك بالإخراج من الجنة كسرٌ، فأنا عند المنكسِرَةِ قلوبُهم من أجلي، إن كان فاتك في السماء سماعُ المسبِّحين، فقد تعوّضت في الأرض بسماع أنين [المذنبين]، [أنين المذنبين] أحبُّ إلينا من زَجَلِ المسبِّحين، زجلُ المسبحين ربّما يشوبه الافتخار، وأنينُ المذنبين يزينه الإنكسار، "لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا، لَذَهَبَ الله بِكُمْ، وَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ، ثُمَّ يَسْتَغْفِرُونَ، فَيَغْفِرُ لَهُمْ" (¬1). عَوْد إِلَى الوَصْلِ عَوْدُ ... فَالهَجْرُ (¬2) صعْبٌ شَدِيدُ (¬3) ¬

_ (¬1) رواه مسلم (2749) عن أبي هريرة -رضي الله عنه-. (¬2) في الأصل: "فالجهر". (¬3) انظر: "لطائف المعارف" لابن رجب (ص: 122 - 123).

قلْتُ وَقَلْبِي أَسِيرُ وَجْدٍ ... مُتيَّمٌ في الجَفَا عَمِيدُ أَنْتُمْ لَنَا فِي الهَوَى مَوَالٍ ... وَنَحْنُ في أَسْرِكُمُ عَبِيدُ عن أبي هريرةَ، قَالَ، سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "أَفْضَلُ الصَّوْمِ بَعْدَ رَمَضَانَ، شَهْرُ الله الَّذِي تَدْعُونَهُ: المُحَرَّمَ" (¬1). قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "صَوْمُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ يُكَفِّرُ العَامَ الَّذِي قَبْلَهُ" أفرده مسلم (¬2). كأنك بما يزعج ويروع، وقد قلع الأصول وقطع الفروع. يا نائما إِلَى كَمْ هذا الهجوع، إِلَى متى بالهوى هذا [الـ]ـولوع. أينفعُك وقتَ الموتِ الدموع، هيهاتَ لا ينفع الذلُّ إذاً والخضوع تقول: فَرِّقوا المال، فالعجبُ لجودِ المَنُوع، هذا ومَلَكُ الموتِ يسلُّها من بين الضلوع، وأخلت منك المساكنُ وأخلت الربوع، ونابَ غرابُ البينِ عن الورقاءِ السَّجوع، وتمنيتَ لو زدتَ من السجود والركوع، فاحذر مكرَ العدوِّ، ولا تقبل قولَ الخَدوع. ضيَّعْتَ وَقْتَكَ فَانْقَضَى في غَفْلَةٍ ... وَطَوَيْتَ في طَلَبِ الخَوَادِعِ أَدْهُرَا ¬

_ (¬1) رواه النسائي (1312). (¬2) رواه مسلم (1162) عن أبي قتادة -رضي الله عنه-.

أَفَهِمْتَ عَنْ هذا الزَّمَانِ جَوَابَهُ ... فَلَقَدْ أبانَ لَكَ العِظَاتِ وَكَرَّرَا عَايَنْتَ مَنْ مَلأَ الصُّدُورَ مَخَافَةً ... وَكَفَاكَ ما عَايَنْتَهُ مَنْ أَخْبَرَا يا عجباً كَيف أنسَ بالدنيا مفارقُها، وأمِنَ النارَ واردُها، كيف يغفل من لا يُغفَلُ عنه؟ كيف يفرح بالدنيا مَنْ يومُه يهدمُ شهرَه، وشهرُه يهدم سنتَه، وسنتُه تهدم عمرَه؟ إخواني! الدنيا في إدبار، وأهلها منها في استكثار. أين الذين ملكوا، ونالوا؟ زالوا سبقوك يا هذا والله إِلَى ما إليه آلوا. أين المغرورون بالآل؟ آلوا إِلَى الشتات. أين المسرورون بالمال؟ مالوا إِلَى الكفات. ظِلٌّ مِنَ الدُّنْيا تَقَلَّصَ زَائِلاً ... وَمَتَى يُذَاقُ عَلَى جَنَاهَا العَلْقَمُ ما هذهِ الآمَالُ إِلا رَقْدةٌ ... فِيهَا بِأَضْغَاثِ الأمَانِي تَحْلُمُ (¬1) • • • ¬

_ (¬1) انظر: "التبصرة" لابن الجوزي (2/ 9 - 10).

فصل

فصلٌ قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الحَسَنُ وَالحُسَيْنُ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الجَنَّةِ" (¬1). وروى عبد الله بن نُجَيٍّ، عن أبيه: أنه سارَ مع عليٍّ -عليه السلام-، وكان صاحبَ مطهرتِه، فلما حاذى نينوى، وهو منطلقٌ إِلَى صفِّين، نادى عليٌّ: اصبرْ أبا عبد الله بشطِّ الفرات، قلت: وما ذاكَ؟ قَالَ: دخلتُ على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ذاتَ يوم، وعيناه تَفيضان، قلت: يا نبيَّ الله! أغضبكَ أحدٌ؟ قَالَ: "لا"، قلت: ما شأنُ عينيكَ تفيضان؟ قَالَ: "أَقَامَ عِنْدِي جِبْرِيلُ، فَأَخْبَرَيي أَنَّ الحُسَيْنَ يُقْتَلُ بِشَطِّ الفُرَاتِ، وَقَالَ لِي: هَلْ لَكَ أَنْ أُشِمَّكَ مِنْ تُرْبَتِهِ؟! قُلْتُ: نَعَمْ، فَمَدَّ يَدَهُ، فَقَبَضَ قَبْضَةً مِنْ تُرَابٍ، فَأَعْطَانِيَها، فَلَمْ أَمْلِكْ عَيْنَيَّ أَنْ فَاضتَا" (¬2). أَبْكِي قَميلاً بِكَرْ بَلاءِ ... مُضَرَّجَ الجِسْمِ بِالدِّمَاءِ ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (3768) عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-، وابن ماجه (118) عن ابن عمر -رضى الله عنهما-. (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 85)، وأبو يعلى في "مسنده" (363).

أَبْكِي قَتِيلَ الطغَاةِ ظُلْماً ... بِغَيْرِ جُرْمٍ سِوَى الوَفَاءِ أَبْكِي قَتِيلاً بَكَى عَلَيْهِ ... حُزْناً بَنُو الأرْضِ وَالسَّمَاءِ روينا: أن صخرةً وجدت قبل مبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بثلاث مئة سنة، وعليها مكتوب باليونانية: أَيَرْجُو مَعْشَر قَتَلُوا حُسَيْناً ... شَفَاعَةَ جَدِّهِ يَوْمَ الحِسابِ ويحَ قاتل الحسين! كيف حالُه مع أبويه، وجده؟! إخواني! بالله عليكم! من قبح على يوسفَ، بأيَّ وجهٍ يلقى يعقوب؟ لا بُدَّ أَنْ تَرِدَ القِيَامَةَ فَاطِمٌ ... وَقَمِيصُها بِدَمِ الحُسَيْنِ مُلَطَّخُ وَيْلٌ لِمَنْ شُفَعَاؤُهُ خُصَمَاؤُهُ ... وَالصُّورُ في يَوْمِ القِيَامَةِ ينفَخُ (¬1) • • • ¬

_ (¬1) انظر: "التبصرة" لابن الجوزي (2/ 13 - 17).

فصل

فصلٌ يومُ عاشوراء صومُه مستحب، وفيه أحاديثُ كثيرة، وهو مستحبٌّ أيضاً في السفر، وهذا يدل على فضله؛ لأن الواجب يستحبُّ تركُه في السفر، ويستحبُّ مخالفة اليهود والنصارى فيه. وجاء في الحديث: "صُومُوا قَبْلَهُ يَوْماً، أَوْ بَعْدَهُ" (¬1)، فهل هذا شكٌّ من الراوي، أو هي للتخيير؟ على قولين (¬2). • • • ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 241) من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-. (¬2) انظر: "لطائف المعارف" لابن رجب (ص: 108).

الفصل السابع في ذكر قدوم الحاج

الفصل السّابع في ذكر قدوم الحاج في "الصحيحين": عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ" (¬1). وفي "مسند أبي يعلى الموصلي": عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "مَنْ قَضَى نُسْكَهُ، وَسَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، غُفِرَ لَهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَما تَأَخَّرَ" (¬2). تابَ بعض من تقدَّم، ونقض، فهتف به هاتفٌ يقول: سَأَتْرُكُ ما بَيْنِي وَبَيْنَكَ وَاقِفاً ... فَإِنْ عُدْتَ عُدْنَا وَالوِدَادُ مُقِيمُ تُوَاصِلُ قَوْماً لا وَفَاء لِعَهْدِهِمْ ... وَتَتْرُكُ مِثْلِي وَالحِفَاظُ قَدِيمُ الحاجُّ إذا كان حجُّه مبروراً، غُفر له، ولمن استغفرَ له، وشُفِّع فيمن شفع فيه. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1449)، ومسلم (1350) عن أبي هريرة -رضي الله عنه-. (¬2) ورواه عبد بن حميد في "المسند" (1150) عن جابر -رضي الله عنه-.

وروي: أن الله -عز وجل- يقول لهم يومَ عرفةَ: "أَفِيضوا مَغْفُوراً لَكُمْ، وَلِمَنْ شَفَعْتُمْ فِيهِ". وكذلك السلامُ على الحاجِّ، ومصافحتهُ، وطلبُ الدعاء منه. ما للمنقطعِ حيلةٌ سوى التعلُّقِ بأذيال الواصلين. هَلِ الدَّهْرُ يَوْماً بِوَصْلٍ (¬1) يَجُودُ ... وَأَيَّامُنَا بِاللِّوَى هَلْ تَعُودْ زَمَانٌ تَقَضَّى وَعَيْشٌ مَضَى ... بِنَفْسِيَ وَالله تِلْكَ العُهُودْ أَلا قُلْ لِزُوَّارِ ذَاكَ الحَبِيبِ ... هَنِيئاً لَكُمْ في جِنَانِ الخُلُودْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ المَاءِ فَيْضاً ... فَنَحْنُ عِطَاشٌ وَأَنْتُمْ وُرُودْ قيل لابن عمر: ما أكثر الحاجَّ! فقَالَ: ما أقلَّهم (¬2)! وقَالَ: الركبُ كثير، والحاجُّ قليل (¬3). • • • ¬

_ (¬1) في الأصل: "بالوصال". (¬2) رواه عبد الرزاق في "المصنف" (8836). (¬3) انظر: "لطائف المعارف" لابن رجب (ص: 124 - 133).

الفصل الثامن في ذكر شهر صفر

الفصل الثّامن في ذكر شهر صفر فأما قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "لا عَدْوَى وَلا طِيَرَةَ، وَالشُّومُ في ثلاثٍ؛ المَرْأَةِ، وَالدَّارِ، وَالدَّابَّةِ" (¬1). وفي حديحغ عن عثمانَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ، وَيُمْسِي: بِاسمِ الله الَّذِي لا يَضُرُّ مَعَ اسْمِهِ شَيْءٌ في الأرْضِ وَلا في السَّمَاءِ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ، لَمْ يَضُرَّهُ بَلاءٌ" (¬2). قَالَ بعض السلف: شيطانُ الجنِّ تستعيذُ بالله منه ينصرفُ، وشيطانُ الإنس لا يبرحُ حَتَّى يوقعَكَ في المعصية؛ فالعاصي مشؤوم على نفسِه، وعلى غيره. طاعةُ الله خيرُ ما اكتسبَ العبدُ، فكن طائعاً لله تعالَى، ولا تعصِه. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (212)، ومسلم (2225) عن ابن عمر -رضي الله عنه-. (¬2) رواه أبو داود (5088)، والترمذي (3385)، وابن ماجه (3869).

شعر: كَمْ ذَا التَّمَادِي فَهَا قَدْ جَاءَنَا صَفَرُ ... شَهْرٌ بِهِ الفَوْزُ والتَّوْلمحيقُ وَالظَّفَرُ (¬1) فَابْدَأْ بِما شِئْتَ مِنْ فِعْلٍ تُسَرُّ بِهِ ... يَوْمَ المَعَادِ فِفِيهِ الخَيْرُ يُنْتَظَرُ تُوبُوا إِلَى الله فِيهِ مِنْ ذُنُوبِكُمُ ... مِنْ قَبْلِ يَبْلُغَ (¬2) فِيكُمْ حَدَّهُ العُمُرُ (¬3) • • • ¬

_ (¬1) في الأصل: "النظر". (¬2) في الأصل: "أن يبلغ". (¬3) انظر: "لطائف المعارف" لابن رجب (ص: 149).

الفصل التاسع في ذكر شهر ربيع الأول

الفصل التّاسع في ذكر شهر ربيع الأول وفيه فصلان: الفصل الأول: في ذكر مولد النبي - صلى الله عليه وسلم -. الفصل الثاني: في ذكر رضاعه.

الفصل الأول في ذكر المولد

الفصل الأوّل في ذكر المولد خرّج الإمامُ أحمدُ من حديث العِرْباضِ بن سارِيَة السّلَمِيِّ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "إِنِّي عبد الله في أُمِّ الكِتَابِ، خَاتَمُ النَّبِييِّنَ، وَإِنَ آدَمَ لَمُنْجَدِلٌ في طِينَتِهِ، وَسَوْفَ أُنبهعكمْ بِتَأْوِيلِ ذلك: دَعْوَةُ أبي إِبْرَاِهيَمَ، وَبِشَارع عِيسَى قَوْمَهُ، وَرُؤْيا أُمِّي الَّتِي رَأَتْ أَنّهُ خَرَجَ مِنْهَا نُورٌ، أَضَاءَتْ لَهُ قُصُوُر الشَّامِ، وَكَذلك أُمَّهَاتُ النَّبِيِّينَ يَرَيْنَ" (¬1) صحيح الإسناد. وقد روي: أن آدمَ - صلى الله عليه وسلم - رأى اسمَ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - مكتوباً على العرش، وإن الله -عَزَّ وَجَلَّ- قَالَ لآدمَ: "لَوْلا مُحَمَّدٌ ما خَلَقْتُكُ" (¬2). وخرّج الإمامُ أحمدُ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "أَنَّ أُمَّهُ قَالَتْ: إِنِّي رَأَيْتُ خَرَجَ مِنّي نُورٌ، أَضَاءَتْ مِنْهُ قُصُورُ الشَّامِ" (¬3). ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 127 - 128)، والحاكم في "المستدرك" (4175). (¬2) رواه الحاكم في "المستدرك" (4228)، قال الذهبي في تعليقه: موضوع. (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 127)، عن العرباض بن سارية -رضي الله عنه-.

فصل

نورُهَا كَالشَّمْسِ لَمَّا أَنْ بَدَتْ ... وَبِأَحْمَدَ الهَادِي البَشِيرِ تَأيًّدَتْ عَلِمَتْ يَقِيناً أَنّهَا قَدْ أَسْعَدَتْ ... زَادَتْ مَحَاسِنُهَا جَمَالاً فَغَدَتْ تَزْهُو عَلَى الحُورِ الحِسَانِ بِأَنْجَلِ ... قَالَتْ تَفَرّحَاً وَعَيْشاً رَاضِيَا وَحَوَتْ بِهِ شَرَفاً وَمَجْداً عَالِيا ... وَسُرُورُ قَلْبِي لَمْ يَزَلْ مُتَوَالِيَا وَغَدَا الوُجُودُ بِنُورِهِ مُتَلالِيَا ... وَقُدُوم أَحْمدَ في رَبيعِ الأوَّلِ في الخَلْقِ طُرّاً ما لَهُ مِنْ مُشْبهِ ... سَادَ الأَنَامَ عِنَايَةً مِنْ رَبِّهِ حَمَلَتْ بِمَنْ تَحْيَا القُلُوبُ بِحُبِّهِ ... حَمْلاً خَفِيفاً لَمْ تَجِدْ أَلَماً بِهِ وَالنُّورُ في أثنائه لم يَثْقُلِ * * * فصلٌ قَالَ القاضي عياض: شاهدت مولوداً ولد، على أحد جنبيه مكتوبٌ: (لا إله إلا الله)، وعلى الجنب الآخر (محمد رسول الله).

فصل

وروي بعض الأخبار: أن ببلاد النهر وَرْدٌ مكتوبٌ عليه بالأبيض: (لا إله إلا الله، محمد رسول الله). * * * فصلٌ قيل: إن الله خلق نورَ محمدٍ قبل العرشِ والكرسيِّ والسماوات والأرضِ، فقام شخص من نور محمد، فجعل يقول: سبحانَ العليِّ، سبحانه وتعالَى، ثُمَّ أَذِنَ الله تعالَى لذاك الشخص أن يغتسل في بحر النور، فاغتسل، فقطر منه مئة ألف قطرة، وأربع وعشرون ألف قطرة، يخلق الله من كل قطرة نبياً من الأنبياء، وطاف بهم حول العرش، وهو يقول، وهم يقولون معه: سبحان مَنْ هو حليمٌ لا يعجَل، سبحان مَنْ هو كريمٌ لا يبخل، سبحان مَنْ هو ملكُه لا يزول، سبحان من له الحمد، سبحان ذي العرش المجيد، سبحان الفعَّال لما يريد، أرواح الأنبياء. يسبح الله تعالَى فيها، وهو يقول: سبحانَ الحيِّ الذي لا يموت، سبحان الذي يميت الخلق، لا إله الله يحيي ويميت، وهو حيٌّ لا يموت، سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ رَبُّ الملائكة والروح. * * * فصلٌ قَالَ بعض السلف: ما بعث الله نبياً إلا من الشام، فإن لم يبعثه من

فصل: ولادته

الشام، هاجر إليها، وفي آخر الزمان يستقر العلمُ والإيمان في الشام، فيكون نورُ النبوة فيها (¬1). الحمد لله الذي خصنا بهذه الرحمة، وأسبغَ علينا هذه النعمة، وأعطانا ببركة نبينا هذه الفضائل الجمَّة، فقَالَ لنا: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} [آل عمران: 110]. يا مَنْ تبهرج بعملِه! على مَنْ تُبهرجُ، والناقدُ بصير؟ يا مَنْ يسوِّفُ بطولِ أملِه! إِلَى كَمْ تسوِّفُ، والعمرُ قصير؟. * * * فصل: ولادته قيل: في ربيع الأول، وقيل: رمضان، وقيل: رجب، والأولُ أصح. واليومُ الذي ولد فيه في ربيع الأول ليس معيناً، وهو يوم الاثنين، وقيل: معيَّنٌ، وقيل: لليلتين خلتا منه، وقيل: لثمان، وقيل: لعشر، وقيل: لاثنتي عشرة، وقيل: لسبع عشرة، وقيل: لثمانٍ بقينَ منه، وقيل: يوم الاثنين ثاني عشر ربيع الأول (¬2). • • • ¬

_ (¬1) انظر: "لطائف المعارف" لابن رجب (ص: 174). (¬2) انظر: "لطائف المعارف" لابن رجب (ص: 181 - 185).

الفصل الثاني في ذكر رضاعه

الفصل الثّاني في ذكر رَضاعه قَالَت حَليمةُ: كنا أهلَ بيتٍ أشدَّ الناس فقراً، وأكثرَهم جوعاً، وكنا وقعنا في غلاء، وكنا نأكل العظامَ والجلودَ المحرقةَ، وكنت قد وَلَدْت مولوداً، وكان لي سبعة أيام، ما استطعمت فيها بطعام، إني أتقوَّت بالحشيش، وأنا أقنَعُ وأصبر، وأحمدُ الله على كل حال. قَالَت: فدخل عليَّ نسوانُ العرب، وقلن: يا حليمةُ! قومي بنا إِلَى مكة نرضعْ أولادَ الأغنياء، ليواسونا بشيء من النفع، فقلت: قوموا معي، والله! وأنا أيضاً: أُخبرت بدخولِ مكةَ في منامي. فسبقني نسوانُ العرب، فكان تحتي حمارٌ حضيض الماء في بطنه، قد بدت عظامُه، فخرج شخص من بين يديَّ من الجبلين، وقَالَ لي: حليمة! جدِّي سيرك، وأنا ملك أمرني ربي بحفظك من كل شيطانٍ مَريد، فقلت: ما أرى حماري يمشي، إن شيطاناً تعلق في ذنبه، فضربه بحربة من نور، فطار الحمار، وذهب الشيطان. وسرنا، فكنت لا أمرُّ بحجر ولا شجر، ولا شيءٍ إلا ينادي: هنيئاً

لك يا حليمةُ، حَتَّى وصلنا مكة، وإذا عبد المطلب ينادي: يا معشرَ المراضع! هل بقي منكن أحد؟ فقلت: أَبركُ الأيامِ أيها السيد. فقَالَ: أهلا بك وسهلاً يا حليمةُ. فقَالَ: إن عنده ولد [اً] اسمه محمد، عرضْتُه على أصحابِكِ، فلم يقبلْنَ، ويقلن: ما في اليتيم من الخير، فهل لكِ أن تأخذيه؟ قَالَت: حَتَّى أشاور بعلي، قَالَ: ادخلي الدار، وتضيفي من أمه [...]، فشاوري بعلَكِ، فدخلتِ الدار، فأضافتها أمُّه، ورحَّبت فيها، فقَالَت: بشرى ولد مكة، فقلت: نعم، فأدخلتني الدارَ، وكشفت عن وجهه، فلمعَ منه نورٌ عظيم، لحقَ عَنانَ السماء، فوضعتُه في حِجْري، فتبسَّم ضاحكاً، فخرج نورُ النبوة من ثَغْره، فامتلأ قلبي محبة، فناولتُه ثديى الأيمنَ، فشربه، فناولته الأيسر، فلم يشربْه، فعلمتُ أنه مبارك، فخرجتُ إِلَى زوجي، فقَالَ: خذيه، فقضيتُ حوائجي، وقصدتُ منزلَ آمنةَ، فأخذتُه، واللهُ قدَّره عليَّ بقضائه، يحكم ما يريد، ولا مانع لحكمه.

الفصل العاشر في ذكر الوفاة

الفصل العاشر في ذكر الوفاة في "الصحيحين" عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، جلس على المنبر، فقَالَ: "إِنَّ عَبْداً خَيَّرَهُ الله بَيْنَ أَنْ يُؤْثِرَهُ زَهْرَةَ الدُّنْيا ما شَاءَ، وَبَيْنَ ما عِنْدَهُ، فَاخْتَارَ ما عِنْدَهُ"، فبكى أبو بكرٍ، وقَالَ: يا رسولَ الله! نفديكَ بآبائنا وأمهاتنا، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو المخير، وكان أبو بكر أعلمنا به (¬1). اعلمْ أن الموتَ مكتوبٌ على كل حَيّ من الأنبياء والرسل وغيرهم. قَالَ الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30]، وقَالَ: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 34 - 35]. وقَالَ تعالَى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144]. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3691)، ومسلم (2382).

اسْتَعِدِّي يا نَفْسُ لِلمَوْتِ وَاسْعَي ... لِلنَّجَاةِ فَالحَازِمُ المُسْتَعِدُّ أَتَيَقَّنْتِ أَنَّه لَيْسَ لِلْحَيِّ ... خُلُودٌ وَلا مِنَ المَوْتِ بُدُّ إِنَّما أَنْتِ مُسْتَعِيَرَةٌ مَاسَوْ .. فَ تَرُدِّيهِ وَالعَوَارِي تُرَدُّ قَالَ الربيعُ بنُ خُثيمٍ: أكثروا ذكرَ الموت؛ فإنكم لا ترون قبله مثله. فَما أَهْلُ الحَيَاةِ لَنَا بِأَهْلٍ ... وَلا دارُ الحياةِ لَنَا بِدَارِ وَما أَمْوَالنا وَالأهْلُ فِينَا ... وَلا أَوْلادُنَا إِلا عَوَارِ وَأَنْفُسُنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ ... سَيَأخُذُهَا المُعِيرُ مِنَ المُعَارِ المراد بقوله - عز وجل -: {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} [القيامة: 29]، على ما فسره كثيرٌ من السلف: فتجتمع عليه سَكْرَة الموت، مع حَسْرة الفوت، فلا تسألْ عن سوءِ حاله، وقد سمى الله ذلك: سكرة؛ لأنّ ألم الموت مع ما يضم إليه، يُسكر صاحبه، فيغيب عقلُه، قَالَ تعالَى: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ} [ق: 19]. أَلا لِلْمَوْتِ كَأْس أَيُّ كَاسِ ... وَأَنْتَ لِكَأْسِهِ لا بُدَّ حَاسِي

إِلَى كَمْ وَالمَمَاتُ إلى قريبٍ ... تُذَكَّرُ بِالمَمَاتِ وَأَنْتَ نَاسِي وقد أمر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بكثرةِ ذكرِ الموتِ، فقَالَ: "أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَادِمِ اللَّذَّاتِ"؛ يعني: الموت (¬1). قَالَ الحسنُ: إنّ هذا الموت قد أفسدَ على أهل النعيم نعيمَهم، فالتمسوا عيشاً لا موتَ فيه. اذْكُرِ المَوْتَ هَاذِمَ اللَّذَّاتِ ... وَتَهَيا لِمَصْرَعٍ سَوْفَ يَاتي يا غَافِلَ القَلْبِ عَنْ ذِكْرِ المَنِيَّاتِ ... عَما قَلِيلٍ سَتُلْقَى بَيْنَ أَمْوَاتِ فَاذْكُرْ مَحَلَّكَ [مِنْ] قَبْلَ الحُلُولِ بِهِ ... وَتُبْ إِلَى الله مِنْ لَهْوٍ وَلَذَّاتِ إِنَّ الحِمَامَ لَهُ وَقْتٌ إِلَى أَجَلٍ ... فَاذْكُرْ مَصَائِبَ أَيَّامٍ وَسَاعَاتِ لا تَطْمَئِنَّ إِلَى الدُّنْيا وَزِينَتِهَا ... قَدْ آنَ لِلمَوْتِ يا ذَا اللُّبِّ أَنْ يَاتي قَالَ بعض السلف: شيئان قَطَعا عني لذاذةَ الدنيا: ذكرُ الموت، والوقوفُ بين يدي الله -عَزَّ وَجَلَّ-. ¬

_ (¬1) رواه النسائي (1824)، والترمذي (2307)، وابن ماجه (4258) عن أبي هريرة -رضي الله عنه-.

كما قيل: وكيف يلدُّ العيشَ من كان مُوقناً ... بأنّ المنايا بغتةً ستعاجِلُهُ؟ وكيف يلذُّ العيشَ من كان موقناً ... بأنّ إلهَ الخلقِ لا بدَّ سائِلُه أولُ ما أُعلم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - من انقضاء عمره، باقتراب أجله بنزول سورة: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1]، وكانت وفاته - صلى الله عليه وسلم - يوم الإثنين، في شهر ربيع الأول. لِيَبْكِ رَسُولَ الله مَنْ كَانَ باكياً ... فَلا تنسَيَنَّ قَبْراً بِالمَدِينَةِ ثاويَا جَزَى الله عَنَّا كُلَّ خَيْرٍ مُحَمَّداً ... فَقَدْ كَانَ مَهْدِياً وَقَدْ كَانَ هَادِيَا وَكَانَ رَسُولُ الله رَوْحاً وَرَحْمَةً ... وَنُوراً وَبُرْهَاناً مِنَ الله بَادِيَا وَكَانَ رَسُولُ الله بِالخَيْرِ آمِراً ... وَكَانَ عَنِ الفَحْشَاءِ وَالسُّوءِ نَاهِيَا وَكَانَ رَسُولُ الله بِالقِسْطِ قَائِماً ... وَكانَ لِما اسْتَرْعَاهُ مَوْلاهُ رَاعِيَا وَكَانَ رَسُولُ الله يَدْعُو إِلَى الهُدَى ... فلبِّي رسولَ الله لَبِّيهِ دَاعِيَا

أَيُنْسَى أَمَنُّ النَّاسِ بالنَّاسِ كُلِّهِمْ ... وَأَكْرَمُهُمْ بَيْتاً وَشِعْباً وَوَادِياً أَيُنْسَى رَسُولُ الله أَكْرَمُ مَنْ مَشَى ... وَآثَارُهُ بِالمَسْجِدَيْنِ كَما هِيَا تَكَدَّرَ مِنْ بَعْدِ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ ... عَلَيْهِ سَلامٌ كُلُّ مَنْ كَانَ صَافِيَا رَكَنَّا إِلَى الدُّنْيا الدَّنِيَّةِ بَعْدَهُ ... وَكَشَّفَتِ الأطْمَاعُ مِنَّا مَسَاوِيَا وَكَمْ مِنْ مَنَارٍ كَانَ أَوْضَحَهُ لَنَا ... وَمِنْ عَلَمٍ أَمْسَى وَأَصْبَحَ عَافِيَا إِذَا المَرْءُ لَمْ يَلْبَسْ ثِيَاباً مِنَ التُّقَى ... تَقَلَّبَ عُرْيَاناً وَإِنْ كَانَ كَاسِيَا وَخَيْرُ خِصَالِ المَرْءِ تَقْوَاهُ رَبَّهِ ... وَلا خَيْرَ فِيمَنْ كَانَ لِلهِ عَاصِيَا وقيل: كان بين يديه - صلى الله عليه وسلم - رَكْوَةٌ فيها ماء، فجعل يُدخلُ يدَه في الماء، ويمسح بها وجهَه، ويقول: "لا إله إلا الله، إنَّ للموتِ سَكَراتٍ"، ثم نَصَبَ يدهُ، فجعل يقول: "الرفيق الأعلى" حَتَّى قُبض (¬1). كما قيل: ¬

_ (¬1) رواه البخاري (4184) عن عائشة -رضي الله عنها-.

كَأْسُ المَمَاتِ عَلَى الأَنَامِ يَدُورُ ... لا آمِرٌ يَبْقَى وَلا مَأْمُورُ لَوْ كَانَ يَنْجُو منه مِنْ ملكٍ نَجَا ... بسمُوِّهِ أو سَيِّدٌ مَبْرُورُ خُلِّدَ صفو العالَمينَ محمَّدٌ ... لكن بِذلك قَدْ جَرَى المَقْدُورُ وغسّله عليٌّ، والعباس (¬1). • • • ¬

_ (¬1) انظر: "لطائف المعارف" لابن رجب (ص 191 - 216).

فصل

فصلٌ: في ذكر مَنْ رثاه - صلى الله عليه وسلم - قيل: إن أبا بكرٍ الصديق -رضي الله عنه-- قَالَ: أَجِدَّكَ ما لِعَيْيكَ لا تنَامُ ... كَأَنَّ جُفُونَهَا فِيهَا كِلامُ لِأَجْلِ مُصِيبَةً عَظُمَتْ وَجَلَّتْ ... فَدَمْعُ العَيْنِ يَنْسَجِمُ انْسِجامُ فُجِعْنَا في النَّبِيِّ وَكَانَ فِينَا ... إِمَاماً صَادِقاً نِعْمَ الإمَامُ وَكَانَ قَوَامَنَا وَالرَّأْسَ مِنَّا ... وَنَحْنُ اليَوْمَ لَيْسَ لَنَا قَوامُ وقيل: إنَّ عمرَ -رضي الله عنه-- جعل يبكي، ويقول: أَمْسَى بِلَحْدٍ وَالدُّمُوعُ سُجُومُ ... أَسَفاً عَلَيْهِ وَفي الفُؤَادِ كُلُومُ وَالصَّبْرُ يَحْسُنُ في المَوَاضِعِ كُلِّهَا ... إِلا عَلَيْكَ فَإِنَّهُ مَذْمُومُ

وقيل: إن عثمانَ بن عفانَ -رضي الله عنه-- بكى، وجعل يقول: يا عَجَبِي في الأرْضِ ما تَشْبَعُ ... وَكُلُّ مَنْ فِيهَا إِذاً يُفْجَعُ (¬1) مَاتَ رَسُولُ اللهِ خَيْرُ الوَرَى ... وَنَحْنُ في غَفْلاتِها نَرْتَعُ وقيل: إن عليَّ بن أبي طالب -رضي الله عنه-- بكى، وجعل يقول: يا خَيْرَ مَنْ دُفِنَتْ فى التُّرْبِ أَعْظُمُهُ ... قَدْ طَابَ مِنْ طِيبِهِنَّ القَاعُ وَالأكَمُ أَنْتَ الرَّسُولُ الَّذِي تُرْجَى شَفَاعَتُهُ ... عِنْدَ الصِّرَاطِ إِذَا ما زلَّتِ القَدَمُ نَفْسِي الفِدَاءُ لِقَبْرٍ أَنْتَ سَاكِنُهُ ... فِيهِ العَفَافُ وَفِيهِ الجُودُ وَالكَرَمُ بِكَ اعْتَصَمْنَا فَنِلْنَا كُلَّ صَالِحَةٍ ... لَوْلاكَ لَمْ تَخْرُجِ الأفْلاكُ وَالأُمَمُ وقيل: إن فاطمة -رضي الله عنها-- بكت، وجعلت تقول: قَدْ كُنْتَ لِي سَنَداً في كُلِّ نَائِبَةً ... وَأَنْتَ ذُخْرٌ لغدوي ورواحي ¬

_ (¬1) في الأصل: "يتفجع".

وَاليَوْمَ أَبْكِي مَعَ المسي والصباحي (¬1) وقيل: إن ابن عمه أبا سفيانَ بن الحارثِ بن عبد المطلبِ بكى، وجعل يقول: أَرِقْتُ وَبَاتَ لَيْلِي لا يَزُولُ ... وَلَيْلُ أَخِي المُصِيبَةِ فيهِ طُولُ وَأَسْعَدَنِي البُكَاءُ وَذَاكَ فِيما ... أُصِيبَ المُسْلِمُونَ بِهِ قَلِيلُ لَقَدْ عَظُمَتْ مُصِيبَتُنا وَجَلَّتْ ... عَشِيَّةَ قِيلَ قَدْ قُبِضَ الرَّسُولُ فَأَصْبَحَت ارْضُنَا مِما عَرَاهَا ... تَكَادُ بِنَا جَوَانِبُهَا تَمِيلُ فَقَدْنَا الوَحْيَ وَالتَّنْزيلَ فِينَا ... يَرُوحُ بِهِ وَيَغْدُو جَبْرَئِيلُ وذِكْرى حَقِّ ما سَالَتْ عَلَيْه ... نُفُوسُ النَّاس أَوْ كَادَتْ تَسِيلُ نَبِىٌّ كَانَ يَجْلُو الشَّكَّ عَنَّا ... بِما يُوحَى إِلَيْهِ وَما يَقُولُ فَيَهْدِينَا فَلا يَخْشَى عَلَيْنَا ... ضَلالاً وَالرَّسُولُ لنا دَلِيلُ ¬

_ (¬1) كذا في الأصل.

أفاطِمُ إِنْ جَزِعْتِ فَذَاكَ عُذْرٌ ... وَإِنْ لَمْ تَجْزَعِي فَهُوَ السَّبِيلُ فَقَبْرُ أبيكِ سَيِّدُ كُلِّ قَبْرٍ ... وَفِيهِ سَيِّدُ النَّاسِ الرَّسُولُ

الفصل الحادي عشر في ذكر شهر رجب

الفصل الحادي عشر في ذكر شهر رَجَبٍ روي عن أبي قِلابةَ، قَالَ: في الجنة قصر لصوَّام رجبٍ (¬1). وقد روي: أنه يُكره أن يُتخذَ رجبٌ عيداً. عن عطاء، قَالَ: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن صيام رجبٍ كلِّه، ويكره إفرادَ رجبٍ بالصوم. كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل رجبٌ، قَالَ: "اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي رَجَبٍ، وَشَعْبَانَ، وَبَلِّغْنَا رَمَضَانَ" (¬2). شهرُ رجبٍ مفتاحُ الخيرِ والبركةِ، شهرُ رجبٍ شهرُ الزرع، وشهرُ شعبان شهرُ السقي، وشهرُ رمضان شهر الحصاد. ¬

_ (¬1) رواه البيهقي في "شعب الإيمان" (3802). قال: ابن رجب في "لطائف المعارف" (ص: 228): لم يصح في فضل صوم رجب بخصوصه شيء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا عن أصحابه، ولكن روي عن أبي قلابة، فذكره. (¬2) رواه الطبراني في "المعجم الأوسط" (3939) عن أنس -رضي الله عنه-، وإسناده ضعيف.

وقيل: رجبٌ أيامُ ورقِها، وشعبانُ أيامُ تفرُّعِها، ورمضانُ أيامُ قطافِها. بَيِّضْ صَحِيفَتَكَ السَّوْدَاءَ في رَجَبٍ ... بِصَالِحِ العَمَلِ المُنْجِي مِنَ اللَّهَبِ شَهْرٌ حَرَامٌ أَتَى مِنْ أَشْهُرٍ حُرُمٍ ... إِذَا دَعَا اللهَ دَاعٍ فيهِ لَمْ يَخِبِ طُوبَى لِعَبْدٍ زكَا فِيهِ لَهُ عَمَلٌ ... فَكَفَّ فِيهِ عَنِ الفَحْشَاءِ وَالرِّيَبِ انتهازُ الفرصة بالعمل في هذا الشهر غنيمةٌ، واغتنامُ أوقاته بالطاعات له فضيلةٌ عظيمة. اعلموا إخواني: أن شهركم هذا شهر محترم، قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ شَهْرَ رَجَبٍ شَهْرٌ عَظِيمٌ، مَنْ صامَ فِيهِ يَوْماً، جُزِي لَهُ أَلْفَ حَسَنَةٍ، وَمَنْ صامَ مِنْهُ يَوْمَيْنِ، جُزِيَ لَهُ أَلْفَيْ حَسَنَةٍ، وَمَنْ صامَ مِنْهُ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، جُزِي لَهُ صِيَام ثَلاثَةِ آلافِ حَسَنَةٍ، وَمَنْ صامَ مِنْ رَجَبٍ سَبْعَةُ أَيَّامٍ، غُلقَتْ عَنْهُ أبوابَ جَهَنَّمَ، وَمَنْ صامَ مِنْهُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْماً، بُدِّلَتْ سَيِّئَاتُهُ حَسَنَاتٍ، وَنَادَى مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ: قَدْ غُفِرَ لَكَ" (¬1). وفي حديث أنسٍ: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "إِنَّ في الجَنَّةِ نَهْراً يُقَالَ لَهُ: ¬

_ (¬1) انظر: "الموضوعات" لابن الجوزي (2/ 117).

رجَبٌ، مَنْ صَامَ يَوْماً مِنْ رَجَبٍ، سَقَاهُ الله مِنْ ذلك النَّهْرِ" (¬1). وروي من حديثِ أبي سعيدٍ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "رَجِبٌ مِنْ شُهُورِ الحُرُمِ وَأَيَّامِه، مَكْتُوبٌ عَلَى أبوابِ السَّماءِ السَّادِسَةِ، فَإِذَا صَامَ الرَّجُلُ مِنْهُ يَوْماً، وَجَرَّدَ صَوْمَهُ لِتَقْوَى الله تَعَالَى، نَطَقَ اليَوْمُ، وَقَالَ: يا رَبِّ! اغْفِرْ لَهُ، وَإِذَا لَمْ يُتِمَّ صَوْمَهُ بِتَقْوَى الله، لَمْ يَسْتَغْفِرْ لَهُ، وَقيِل: خُذْ حَظَّ نَفْسِكَ" (¬2). أَلا يا غَافِلاً يُحْصَى عَلَيْهِ ... مِنَ العَمَلِ الصَّغِيرَةُ وَالكَبِيرَهْ تَأَهَّبْ لِلرَّحِيلِ [فَـ]ـقَدْ تدَانَى ... وَأَنْذَرَكَ [الرَّحِيلُ] أَخاً وَجِيرَهْ يا من بين يديه الموتُ والحساب، والتوبيخُ الشديد والعقاب، وعليه بأفعاله وأقواله كتاب، وقد أذنب كثيراً، غير أنّه ما تاب، وكلما عوتب، خرج من باب إِلَى باب. إِلَى متى هذا الجهل؟! وإِلَى متى هذا العتاب؟! أما أظنك حاضراً عدوك فيمن غاب؟! ويحك! أنت في القبر محضور، إِلَى أن ينفخ في الصور، ثم راكب ¬

_ (¬1) خبر باطل، كما في "ميزان الإعتدال" للذهبي (6/ 524). (¬2) رواه الديلمي في "مسند الفردوس" (3277)، وإسناده ضعيف، كما نقل ابن عراق في "تنزيه الشريعة" (2/ 164) عن ابن حجر.

أو مجرور، حزين أو مسرور، مطلق أو مأسور، ما هذا اللَّهوُ والغرور؟! الحازمُ مَنْ تزوَّد لِمآبِهِ، قبل أن يصير لَمَّاً به. [أَ] أَغْفُلُ وَالدَّهْرُ لا يَغْفُلُ ... وَأَنْسَى الَّذِي شَأْنُهُ يُعْضَلُ وَيُطْمِعُنِي أَنَّنِي سَالِمٌ ... وَدَاءُ السَّلامَةِ لي أَقْتَلُ وَيَمْضِي نَهَارِي وَلَيْلِي مَعاً ... بِما غَيْرُهُ الأحْسَنُ الأجْمَلُ وَأُومِلُ أَنَّي أَفُوتُ الحِمَامَ ... أَمَانِي لَعَمْرُكَ لِي ضُلَّلُ قل للذين أعرضوا عن الهدى فما تبعوا، وخوفوا يوم الردى فما ارتدعوا، وسمعوا المواعظ وكأنهم ما سمعوا: تَقَلَّبوا كيف شئتم، وما شئتم، فاصنعوا. غداً تُوَفَّى النفوسُ ما كسبت، ويحصدُ الزارعون ما زرعوا، إن أحسنوا أحسنوا لأنفسهم، وإن أساؤوا فبئس ما صنعوا. لله درُّ أقوام بادروا الأعمال واستدركوها، وجاهدوا النفوس حَتَّى ملكوها، وتأهبوا لسبل التوبة ثم سلكوها، وعرفوا العيوب العاجلة فتركوها. اشتغالهم للأدب في جُمادى كرجب، يا هذا! إذا هممت بخير،

فصل

فبادر هواك لئلا تغلَب، وإذا هممت بشرٍّ فسوِّف هواك لعلك تغلِب (¬1) * * * فصل رجب يكره إفرادُه بالصوم، ويستحب صيامُ بعضهِ إذا كان مفرداً، ويكره إفرادُ القيام فيه أيضاً، ويكره أن يُتخذ عيداً. • • • ¬

_ (¬1) انظر: "التبصرة" لابن الجوزي (2/ 21 - 24)، و"لطائف المعارف" لابن رجب (217).

الفصل الثاني عشر في ذكر شهر شعبان

الفصل الثّاني عشر في ذكر شهر شعبان عبادَ الله! قد أقبل عليكم شهرٌ مباركُ الأيام، وهو سببٌ لمحو الذنوبِ والآثام، وفيه يتوفر جزيل الفضل والإنعام، ويكتب أسماء من يموت في هذا العام. عن عائشة -رضي الله عنها-، قَالَت: ما كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يصوم من شهرٍ من السنة أكثرَ من شعبانَ (¬1). وعن عائشة أيضاً، قَالَت: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يصومُ شعبانَ كلَّه حَتَّى يصلَه برمضان (¬2). وعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "تُقْطَعُ الآجَالُ مِنْ شَعْبَانَ إِلَى شَعْبَانَ، حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ يَنْكِحُ، وَيُولَدُ لَهُ، وَقَدْ خَرَجَ اسْمُهُ في المَوْتَى" (¬3). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1869)، ومسلم (782). (¬2) رواه ابن ماجه (1649)، وابن حبان في "صحيحه" (3643). (¬3) رواه الطبري في "تفسيره" (25/ 109)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (3839)، عن المغيرة بن الأخنس، مرسلاً.

فيا أيها الغافل! تنبه لرحيلك ومسراك، واحذر أن تسلب على موافقة هواك. قَدْ آنَ بَعْدَ ظَلامِ الجَهْلِ إِبْصَارِي ... الشَّيْبُ أَصْبَحْ يُنَاجِيني بِإِسْفَارِ لَيْسَ السَّعِيدُ الَّذِي دُنْيَاهُ تُسْعِدُهُ ... إِنَّ السَّعِيدَ الَّذِي يَنْجُو مِنَ النَّارِ لقد بلغت المواعظ، وبلغت أي بلاع، وأي بلوغ وأنت تتلون هكذا وهكذا ثم تروغ! إياكَ وسؤرَ الهوى، فسؤرُ الهوى ما يسوغ. إخواني! سلوا المقابر بألسنةِ الفِكْرة، تجيبكم بألسنةِ العِبْرة، أما يكفي العاقلَ تجاربُه؟! أما [أ] يقظَ الفطنَ نوائبُه؟! غلبَ الموتُ فمن ذا يغالبه؟! قهر الخلق فمن ذا يحاربُه؟! كأنكم به قد دبَّتْ عقاربُه، قل للمفرِّطِ، وقد حانتْ مصائبُه: القلبُ غائبٌ فكيف تعاتبه؟! وَمَكَاسِبُ الدُّنْيا وَإِنْ كَثُرَتْ فَما ... تبقى سِوَى تَبِعَاتِهَا وَالمَأْثَمِ فَعَلَيْكَ بِالفِعْلِ الجَمِيلِ فَإِنَّهُ ... أُنْسُ المُقِيمِ غَداً وَزَادُ المُعْدِمِ يا قليلَ النظر في أمرِه، يا غافلاً عن ذكرِ قبره، أما نقل الموتُ واحداً واحداً؟ وها هو قد أضحى نحوَكَ قاصداً، كم سلب ولداً، وأخذَ والداً! إِلَى متى تصبح جاهلاً، وتمسي مارداً؟ وتُحَضُّ علئ النهوض،

وما تبرَحُ قاعداً! لقد رضيتَ لنفسكَ الغبينَة، وبعتَ الدارَ الشريفةَ بالدارِ المَهينَة، وأعجبَك مع عقلِك ما يعجبُ الأطفالَ من الزينة، أتراك ما علمتَ أن الدنيا صحبةُ سفينة؟! عَجِبْتُ لطالِبِ الأمْرِ البَصِيرِ بِما ... فِيهِ مِنَ الغَيِّ إِذْ يَسْعَى لَهُ طَلَبَا وَلِلمُدَاوِي ضَنَى جِسْمٍ عَرَاهُ وَقَدْ ... دَعَا إِلَى نَفْسِهِ الأوْجَاعَ وَالوَصَبَا إِذَا أتيْتَ المَعَاصِي فَاخْشَ غَايَتَهَا ... مَنْ يَزْرعِ الشَّوْكَ لا يَحْصُدْ بِهِ عِنَبا (¬1) • • • ¬

_ (¬1) انظر: "التبصرة" لابن الجوزي (2/ 56 - 58).

الفصل الثالث عشر فيما جاء في ليلة النصف من شعبان

الفصل الثّالث عشر فيما جاء في ليلة النصف من شعبان عباد الله! ليلتكم هذه ليلة النصف عظيمةُ القدر، عجيبةُ الوصف، يطَّلع الله فيها على العباد، فيغفر لهم، ما خلا أهلَ العناد. روي: أنّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- "يَنْزِلُ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَغْفِرُ لِعِبَادِهِ إِلا المُشْرِكَ، وَالمُشَاحِنَ" (¬1). وروي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "يَطَّلِعُ الله إِلَى خَلْقِهِ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، فَيَغْفِرُ لَهُمْ، إِلا اثنيْنِ: مُشَاحِنٌ، وَقَاتِلُ النَّفْسِ" (¬2). قَالَ ابن الجوزيِّ: المشاحِنُ: الذي بينه وبين المسلم عداوة. وقد قَالَ الأوزاعي: هو الذي في قلبه شحناءُ لأصحابِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -. وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنّه قَالَ: "خَمْسُ لَيَالٍ لا يُرَدُّ فِيهِنَّ ¬

_ (¬1) رواه ابن ماجه (1390) عن أبي موسى -رضي الله عنه-. (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 176) عن ابن عمر -رضي الله عنهما-.

الدُّعَاءُ"، فذكرَ منهن ليلةَ النصفِ من شعبان (¬1). سَهْمُ المَنَايا أَبَداً صَائِبٌ ... يَدْعُو إِلَيْهِ النَّاسَ مُسْتَعْرِضَا بَيْنَ الفَتَى في عَيْشِهِ نَاعِمٌ ... تَغُرُّهُ الأيَّامُ حَتَّى قَضَى أين الحبيبُ والخليل؟ ودّعا، أين الرفيقُ؟ رحل عنكم [و] ودَّعا، اسمعوا عظةَ الزمان إن كنتم تسمعون، وتأملوا تقلب الأحوال إن كنتم تبصرون. تَزَوَّدْ مِنَ الدُّنْيا فَإِنَّكَ هَالِكُ ... وَتَتْرُكُ لِلأَعْدَاء ما أَنْتَ مَالِكُ وَوَسِّعْ طَرِيقاً أَنْتَ سَالِكُهُ غَداً ... فَلا بُدَّ مِنْ يَوْمٍ تَضِيقُ المَسَالِكُ اجتهدوا الليلةَ في محو ذنوبكم، واستغيثوا إِلَى مولاكم من عيوبكم، هذه ليلة الإنابة، فيها تفتح أبواب الإجابة، أين اللائذُ بالجناب؟ أين المتعرضُ بالباب؟ أين الباكي على ما جنى؟ أين المستغفر لما قد دنا؟ تَعَالَوْا كُلّ مَنْ حَضَرَا ... لِنَطْرُقَ بَابَهُ سَحَرا ¬

_ (¬1) انظر: "التبصرة" لابن الجوزي (2/ 61 - 62).

وَنَبْكِي كُلُنا أَسَفاً ... عَلَى مَنْ بَاتَ قَدْ هُجِرَا إن الله يغفر ليلةَ النصف لعباده إلا مشاحن، وقاتل النفس، فينبغي للمؤمن أن يتفرغ في ليلة النصف لذكر الله، ودعائِه لغفران الذنوب، وستر العيوب، وتفريج الكروب. خَابَ عبد بَارَزَ المَوْ ... لَى بِأسبَابِ المَعَاصِي وَيْحَهُ مِما جَنَاهُ ... لَمْ يَخَفْ يَوْمَ القِصَاصِ كُلُّ امْرِىءٍ مُصَبَّحٌ في أَهْلِهِ ... وَالمَوْتُ أَدْنَى مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ يا ذَا الَّذِي ما كَفَاهُ الذَّنْبُ في رَجَبٍ ... حَتَّى عَصَى رَبَّهُ في شَهْرِ شَعْبَانِ لَقَدْ أَظَلَّكَ شَهْرُ الصَّوْمِ بَعْدَهُما ... فَلا تُصَيِّرْهُ أَيْضاً شَهْرَ عِصْيَانِ وَاقْرَا القُرَانَ وَسَبِّحْ فِيهِ مُجْتَهِداً ... فَإِنَّهُ شَهْرُ تَسْبِيحٍ وَقُرْآنِ هذه ليلةٌ أمرُها عظيم، والخيرُ فيها جزيلٌ عميم، وكفى وصفُها في الكتاب القديم، {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}.

فصل

فيها تقسم الآجال والأعمار، فيها يكتب الحاجُّ والعُمَّار، كم جامع ديناراً إِلَى دينار [......] عند القصار، وهو يعمر الدار عمارة مقيم، {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}. مدوا أنامل الوَجَل إِلَى بابه، وابتغوا بالبكاء طريقَ أحبائه، وتعرضوا الليلةَ لجزيل ثوابه، واحذروا من سطوته وعقابه، فعقابه أليم، {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}. بين يديكم يومٌ لا كالأيام، يتنبه فيه من غفل ونام، وتزفر جهنم لأهل الآثام، ويجثو الخليل والكريم، {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}. قوموا بنا إِلَى مطلوبنا، قوموا بنا على باب [مولانا] نستغيث من ذنوبنا، لعله يهب على قلوبنا تسليم، {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}. لقد رصتكم المواعظُ وقوَّمتكم، وشرحت ما شكل عليكم، فهّمتكم وعلمتكم، ولا حيلة لي إلا التعليم، {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 4]. * * * فصلٌ يستحب صيام شهر شعبان، وقيامُه، وقيام ليلة النصف منه، وصيامُ يومها.

الفصل الرابع عشر في ذكر يوم الجمعة

الفصل الرّابع عشر في ذكر يوم الجمعة عن أبي هريرة، [قَالَ]: قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ فِيهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الجُمُعَةِ، وَفيهِ خُلِقَ آدَمُ، وفيهِ دَخَلَ الجَنَّةَ، وفيهِ خَرَجَ مِنْهَا، وَلا تَقُومُ السَّاعَةُ إِلا يَوْمَ الجُمُعَةِ" خرجه مسلم (¬1). وعن أبي هريرة أيضاً: قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ في الجُمُعَةِ لَسَاعَةً لا يُوَافِقُهَا مُسْلِمٌ قَائِمٌ يُصَلِّي، يَسْأَلُ الله خَيْراً، إِلا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ" (¬2). قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " [نحن] الآخِرُونَ الأوَّلُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَنَحْنُ أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الجَنَّةَ، أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا، وَأُوتينَاه مِنْ بَعْدِهِمْ، يَوْمُكُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فيهِ هَدَانَا الله لَهُ يَوْمَ الجُمُعَةِ". قَالَ: "اليَوْمَ لَنَا، وَغَداً لِليَهُودِ، وَبَعْدَ غَدٍ لِلنَّصَارَى" (¬3). قل للعارفين: أنتم الصالحون، وأنتم في الجنان تُرَفَّهون، أبداً فيها ¬

_ (¬1) رواه مسلم (854). (¬2) رواه مسلم (852). (¬3) رواه البخاري (856)، ومسلم (855) عن أبي هريرة -رضي الله عنه-.

فصل

خالدون، {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}. وأنتم يا غافلون ارجعوا، وعن أنفسكم هذا فادفعوا، ومن كلام الشفيق اسمعوا، قبل أن تدركوا {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس: 62]. شعر: يا أَيُّهَا الغَافِلُ جَدَّ (¬1) الرَّحِيلُ ... وَأَنْتَ في لَهْوٍ وَزَادٍ قليلْ فَأَخْلِصِ التَّوْبَةَ تَحْظَ بِهَا ... فَما بَقِي في العُمْرِ إِلا القَلِيلْ وَلا تنَم إِنْ كُنْتَ ذَا غِبْطَةٍ ... فَإِنَّ قُدَّامَكَ يَوْمٌ طَوِيلْ * * * فصلٌ يستحب الغسلُ يوم الجمعة، وقيل: يجب، ويستحب أن يتنظَّف ويتطَيَّب، ويلبس أحسن ثيابه. * * * ¬

_ (¬1) في الأصل: "قد جَدَّ".

فصل

فصلٌ وهي واجبة على كل مسلمٍ، مكلّفٍ، مستوطنٍ بيتاً، ليس بينه وبينها أكثرُ من فرسخ. ولا تجب على امرأةٍ، ولا خُنثى، ولا مسافرٍ، ولا عبدٍ. ومن حضرها من هؤلاء، أجزأته، ولا تنعقد به. وقيل في العبد: تجب عليه. ومن لم تجب عليه الجمعة، لا يصلِّي حَتَّى يصلي الإمام. ولا يسافر يوم الجمعة لجهاد، ولا غيره. وقيل: يجوز لجهادٍ فقط. * * * فصلٌ ومن أدرك ركعة من الجمعة، أتمها جمعةً، وإن أدرك أقلَّ من ذلك، أتمها ظُهراً، إذا كان نوى، وقيل: من غير نية. * * * فصلٌ الخطبتان شرطٌ للجمعة، ويستحب أن يخطب على موضعٍ عالٍ، ويقصر الخطبة، ويدعو للمسلمين.

فصل

فصلٌ يجهر بالقراءة، ويقرأ في الأولى: (الجمعةَ)، والثانية بـ (المنافقين)، وقيل: (سَبِّح) و (الغاشية). * * * فصلٌ إن وقع العيدُ يومَ الجمعة، اجتزئ بالعيد، وصلَّوا ظُهراً، إلا الإمامَ. * * * فصلٌ أقل السنة بعد الجمعة ركعتان، وأكثرها ستُّ ركعات. * * * فصلٌ ويستحب أن يقرأ سورة الكهف يومَ الجمعة، وإكثارُ الذكر، والصلاةُ على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإكثارُ الدعاء.

فصل

فصلٌ إذا وجد مُصلًّى مفروشاً، هل له رفعُه؟ على وجهين. وليس له أن يتخطَّى رقابَ الناس. * * * فصلٌ ولا يجوز الكلامُ في الخطبة، وقيل: يجوز، وقيل: يكره، ويجوز قبلَها وبعدَها (¬1). • • • ¬

_ (¬1) انظر الفصول التي سردها المصنف هنا في الجمعة في "الفروع" لابن مفلح (2/ 74) وما بعدها. وانظر كتاب المصنف: "قرة العين فيما حصل من الإتفاق والإختلاف بين المذهبين" (ص: 101)، (باب: صلاة الجمعة) -طبعة دار النوادر -.

الفصل الخامس عشر في ذكر الخميس والإثنين

الفصل الخامس عشر في ذكر الخميس والإثنين يوم الإثنين هو اليوم الذي وُلد فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبعث فيه، ومات فيه. وعن أبي هريرة، [قَالَ]: قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "تُعْرَضُ الأعْمَالَ يَوْمَ الإثنيْنِ، وَالخَمِيسِ، وَأُحِبّ أَنْ تُعْرَضَ أَعْمَالِي [وَأَنَا] صَائِمٌ" (¬1). وعن عائشةَ، قَالَت: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يتحرى صوم الإثنين والخميس (¬2). يا أيها المسكين! إِلَى كم هذا التماد؟ أما تعلم ما جرى لقوم عاد؟ دع عنك النومَ، وإياكَ وغضبَ الربِّ؛ فإنه ذو نفاد، {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر: 14]. تَزَوَّدْ للَّذِي لا بُدَّ مِنْهُ ... فَإِنَّ المَوْتَ مِيقَاتُ العِبَادِ ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (747). (¬2) رواه النسائي (2360)، والترمذي (745)، وابن ماجه (1739).

فصل

أَتَرْضَى أَنْ يمُونَ رَفِيقَ قَوْمٍ ... لَهُمْ زَادٌ وَأَنْتَ بِغَيْرِ زَادِ * * * فصل صوم يوم الإثنين والخميس مستحبٌّ، وأفضل الصيام صيام داود، وكان يصوم يوماً، ويفطر يوماً.

الفصل السادس عشر في ذكر أيام البيض

الفصل السَّادس عشر في ذكر أيام البيض كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يصوم ثلاثةَ أيامٍ من [كل] شهر. عن جابرِ بن عبد الله -رضي الله عنه-، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "صِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، صِيَامُ الدَّهْرِ" (¬1). وأيام البيض: ثالث عشر، ورابع عشر، وخامس عشر. وعن ملحانَ، قَالَ: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا بصيام أيام البيض (¬2). * * * فصلٌ صيام أيام البيض مستحب. • • • ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1874) عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما-. (¬2) رواه ابن ماجه (1707).

الفصل السابع عشر في ذكر المعراج

الفصل السَّابع عشر في ذكر المعراج لا خلاف بين المسلمين والعلماء في صحة الإسراء لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فمن ذلك: ما جاء مصرّحاً به في القرآن؛ كقوله تعالَى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} [الإسراء: 1]. هذا غاية التصريح من ربِّ العالمين. وأما الأحاديثُ، فكثيرة؛ منها: ما روى البخاريُّ، ومسلمٌ، عن أنسِ بن مالكٍ: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "أُتِيتُ بِالبُراقِ يعني: ليلة الإسراء، وَهوَ دَابَّةٌ أبيضُ، طَوِيلٌ، فَوْقَ الحِمَارِ، وَدُونَ البَغْلِ، يَضَعُ حَافِرَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِه"، قَالَ: "فَرَكِبْتُهُ حَتَّى أَتَيْتُ بَيْتَ المَقْدِسِ، فَرَبَطْتُهُ بالحَلْقَةِ التي تَرْبِطُ بها الأَنْبِيَاءُ -عليهم السلام-، ثُمَّ دَخَلْتُ المَسْجِدَ، فَصَلَّيْتُ فِيهِ ركْعَتَيْنِ. ثُمَّ خَرَجْتُ، فَجَاءَنِي جِبْريلُ -عليه السلام- بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ، وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ، فَاخْتَرْتُ اللَّبَنَ، فَقَالَ: اخْتَرْتَ الفِطْرَةَ.

ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا، فَاسْتَفْتَحَ، فَقِيلَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا أَنَا بِآدَمَ -عليه السلام-، فَرَحَّبَ بِي، وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ. ثُمَّ عَرَجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، فَقِيلَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قِيلَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا أَنَا بِابنَيِ الخَالَةِ: عِيسَى، وَيَحْيَى عليهما السلام، فَرَحَّبَا بِي، وَدَعَوَا لِي بِخَيْرٍ. ثُمَّ عَرَجَ بنَا إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ -فَذَكَرَ مِثْلَ الأوَّلِ-، فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا أَنَا بِيُوسُفَ -عليه السلام-، وَقَدْ أُعْطِيَ شَطْرَ الحُسْنِ، وَرَحَّبَ بِي، وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ. لُمَّ عَرَجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ -وَذَكَرَ مِثْلَ الأوَّل-، فَإِذَا أَنَا بِإِدْرِيس -عليه السلام-، فرَحَّبَ بِي وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ، قَالَ الله: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مريم: 57]. ثم عَرَجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الخَامِسَةِ، فذكرَ مثلَ الأولِ، فَإِذَا أَنَا بِهَارُونَ، فَرَحَّبَ بِي، وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ. ثُمُّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ السَّادِسَة، فذكرَ مثلَه، فَإِذَا أَنَا بِمُوسىَ -عليه السلام-، فَرَحَّبَ بِي وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ. ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، فذكرَ مثلَه، فَإِذَا أَنَا بِإِبْرَاهِيمَ -عليه السلام- مُسْنِدٌ ظَهْرَهُ إِلَى البَيْتِ المَعْمُورِ، وَإِذَا هُوَ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُون أَلْفَ مَلَكٍ، لا يَعُودُونَ إِلَيْهِ.

ثُمَّ ذَهَبَ بِي إِلَى سِدْرَةِ المُنْتَهَى؛ فَإِذَا وَرَقُهَا كَاَذَانِ الفِيَلَةِ، وَإِذَا ثَمَرُهَا كَالقِلالِ، فَلَما غَشِيَهَا مِنْ أَمْرِ الله ما غَشِيَ، تَغَيَّرَتْ، فَما أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ الله يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنْعَتَهَا مِنْ حُسْنِهَا. فَأَوْحَى [الله إلَيَّ ما أَوْحَى]، فَفَرَضَ عَلَيَّ خَمْسِينَ صَلاةً كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَنَزَلْتُ إِلَى مُوسَى، فَقَالَ: ما فَرَضَ رَبُّك عَلَى أُمَّتِكَ؟ قُلْتُ: خَمْسِينَ صَلاةً، قَالَ: فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ، فَاسْألهُ التَّخْفِيفَ؛ فَإِنَّ أُمَّتَكَ لا يُطِيقُونَ ذلك؛ فَإِنِّي قَدْ بَلَوْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَخَبَرْتُهُمْ، قَالَ: فَرَجَعْتُ إِلَى رَبِّي سُبْحَانَهُ، فَقُلْتُ: يا رَبِّ! خَفِّفْ عَنْ أُمَّتِي، فَحَطَّ عَنِّي خَمْساً. فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى -عليه السلام-، فَقُلْتُ: حَطَّ عَنِّي خَمْساً، قَالَ: فَإِنَّ أُمَّتَكَ لا يُطِيقُونَ ذلك، فَارِجْع إِلَى رَبِّكَ، فَاسْألهُ، قَالَ: فَلَمْ أَزَلْ أَرْجِعُ بَيْنَ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ، وَبَيْنَ مُوسَى -عليه السلام- حَتَّى قَالَ الله: يا مُحَمَّدُ! هُنَّ خَمْسُ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، بِكُلِّ صَلاةٍ عَشْرٌ، فَتِلْكَ خَمْسُونَ صَلاةً، وَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ، فَلَمْ يَعْمَلْهَا، كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ، فَإِنْ عَمِلَهَا، كُتِبَتْ لَهُ عَشْراً، وَمَنْ هَمَّ بِسَيئَةٍ، فَلَمْ يَعْمَلْهَا، لَمْ يُكْتَبْ شَيْءٌ، فَإِنْ عَمِلَهَا، كُتِبَتْ سَيئَةً وَاحِدَةً. قَالَ: فَنَزَلْتُ، حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى مُوسَى، فَأَخْبَرْتُهُ، قَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ، [فَاسْأَلهُ التَّخْفِيفَ]، قَالَ: فَقُلْتُ: قَدْ رَجَعْتُ إِلَى رَبِّي حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ" (¬1). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (342)، ومسلم (162) واللفظ له.

تباركَ الله خالقُ الحبِّ والنَّوى، وخالقُ العبدِ وما نوى، المطَّلِعُ على باطنِ الضمير وما حَوى، بمشيئته رشد مَنْ رشد، وغوى مَنْ غوى، وبقدرته وعظمته على عرشه استوى، صرَّف مَنْ شاء إِلَى الهدى، وعطفَ من شاء إِلَى الهوى، قَرَّب موسى نَجيَّاً بعد أن كان مطوياً من شدة الطوى، فمنحه فَلاحاً، وكلَّمه كِفاحاً، وهو بالوادي المقدس طوى، وعَرَجَ بمحمدٍ إليه حَتَّى رآه بعينه، ثم عاد إِلَى فراشه وما انطوى، فحدّثَ بقربه من ربه، وحدَّث بما رأى وروى، وأقسمَ على تصديقه [من حرسه] بتوفيقه على القوى، فقَالَ تعالَى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: 1 - 3]. فسبحان [مَنْ] رفعَ محمداً فوق الهلاك، وقدمه على الأنبياء والأملاك، وإنه والله لأهلٌ لذاك؛ لأنه أطولُ القومِ في جهاد أهل الكفر (¬1) والإشراك ذيلاً، {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا}. وطَيَّبه بأزكى الخلائق، ثم رفعه على أزكى الخلائق، فوقَ السبعِ الشدادِ الطرائق، فيا فخرَ ذاك المقدّم السابق رجلاً وخيلاً، {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا}. أوقد لهداية الخلق به سراجه وشاد [قـ]ـواعد دينه وأبراجَه، وقوّى شرعَه، وأظهرَ احتجاجَه، فالخزيُ كلُّ الخزيِ لمن جحد معراجَه، ويا له ويلاً، {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الإسراء: 1]. كلَّمه كِفاحاً، ومنحه فَلاحاً، وأوجبَ ذكرَه علينا مساء وصباحاً، ¬

_ (¬1) في الأصل: "الفقر".

وأهال علينا الإنعام ببركته هيلاً، {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا}. أصلح بتدبيره طباع المرضى، وجعلت طاعته على الخلق فَرْضا، ضمن له أن يعطيه حَتَّى يرضى؛ كي لا يحصر ما يعطى وزناً وكيلاً، {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا}. عاش بالدنيا في الزهد والقناعة، ويكفيه فخراً قبولُ الشفاعة، وشغَلَه ذكرُ القيامة وأهوالِ الساعة أن يكون مَلِكاً أو قَيْلاً، {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا}. سبحان من شَرَّفنا بهذا الرسول، ورزقنا موافقةَ المنقول، فنحنُ أهل السنة، لا أهلُ الفضول، ببركته ثبتت أقدامُنا على الصراط فلا تزول، ولا تعرف ميلاً، {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا}. فخرُ نبينا أجلُّ وأعلى, ومناقبهُ من نور الشمس أجلى، وذكره والله في قلوبنا أحلى من ذكر قيس لليلى، {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الإسراء: 1].

الفصل الثامن عشر

الفصل الثَّامن عشر وفيه عشرون فصلاً: الفصل الأول: في ذكر مخالفة اليهود في أعيادهم. الفصل الثاني: في الليل والنهار، وحقوقهما (¬1). الفصل الثالث: في رحمة الله ولطفِه بعباده. الفصل الرابع: في ذكر الجنة. الفصل الخامس: في ذكر الصلاة. الفصل السادس: في ذكر الزكاة. ¬

_ (¬1) في الأصل: "حقوقهم".

الفصل السابع: في ذكر التوبة وترك المعاصي. الفصل الثامن: في ذكر الصبر. الفصل التاسع: في ذكر الشكر. الفص العاشر: في ذكر الخوف. الفصل الحادي عشر: في ذكر التفكُّر. الفصل الثاني عشر: في ذكر التوكُّل. الفصل الثالث عشر: في فعل المعروف، وذَمِّ الغِيبة والنميمة. الفصل الرابع عشر: في كسر شهوة البطن، وشهوة الفرج. الفصل الخامس عشر: في ذم الدنيا، والأمل. الفصل السادس عشر: في ذم البخل، والحسد، والغضب. الفصل السابع عشر: في مكائد الشيطان، والتحذير من الغرور. الفصل الثامن عشر: في ذكر الموت، والقيامة. الفصل التاسع عشر: في ذكر البرد، والحر. الفصل العشرون: في ذكر فصول مفرقة.

الفصل الأول في ذكر مخالفة اليهود والنصارى في أعيادهم

الفصل الأوّل في ذكر مخالفة اليهود والنصارى في أعيادهم كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصوم يوم السبت والأحد، ويقول: "أُحِبُّ أَنْ أُخَالِفَهُمْ" (¬1). * * * فصل صيامُ يوم السبت: يكره إفرادُه بالصوم، ويكره إفرادُ النيروز، والمهرجان، إلا أن يوافق عادةً. • • • ¬

_ (¬1) رواه النسائي (2776)، والإمام أحمد في "المسند" (6/ 323) عن أم سلمة -رضي الله عنها-.

الفصل الثاني في الليل والنهار، وحقوقهما

الفصل الثّاني في الليل والنهار، وحقوقهما خَرَّجَ ابن أبي الدنيا، والطبرانيُّ، وغيرُهما من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-، مرفوعاً: "اطْلُبُوا الخَيْرَ دَهْرَكُمْ، وَتَعَرَّضُوا لِنَفَحَاتِ رَحْمَةِ رتكُمْ؛ فَإِنَّ لله -عَزَّ وَجَلَّ- نَفَحَاتٍ مِنْ رَحْمَتِهِ يُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَسَلُوا الله أَنْ يَسْتُرَ عَوْرَاتِكُمْ، وَيُؤَمِّنَ رَوْعَاتِكُمْ" (¬1). وفي رواية الطبراني، من حديث محمد بن مسلمةَ، مرفوعاً: "إِنَّ للهِ تَعَالَى نفحات في أيام الدهر، فَتَعَرَّضُوا لَهَا؛ فَلَعَلَّ أَحَدَكُمْ أَنْ تُصِيبَهُ نَفْحَةٌ، وَلا يَشْقَى بَعْدَهَا أَبدَاً" (¬2). وفي "مسندِ الإمامِ أحمد"، عن عقبةَ بن عامرٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "لَيْسَ مِنْ عَمَلِ يَوْمٍ إِلا وَهُوَ يُخْتَمُ عَلَيْهِ" (¬3). ¬

_ (¬1) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (720)، والبيهقىِ في "شعب الإيمان" (1121) عن أنس -رضي الله عنه-. (¬2) رواه الطبراني في "المعجم الأوسط" (6243). (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 146).

وروي عن ابن أبي الدنيا، بإسناده عن مجاهد، قَالَ: ما مِنْ يَوْمٍ إِلا يَقُولُ: ابنَ آدَمَ! قَدْ دخلتُ عليكَ اليومَ، ولن أرجعَ إليكَ بعدَ اليوم، فانظرْ ماذا تفعل فيَّ؛ فإذا انقضى، طواهُ، ثم يختم عليه، فلا يُفَكُّ عنه، حَتَّى يكونَ الله هو الذي يفضُّ ذلك الختمَ يومَ القيامة، ويقولُ اليومُ الذي ينقضي: الحمدُ للهِ الذي أراحَني من الدُّنيا وأهلِها، ولا ليلةٍ تدخُل على الناس إلا قالتْ مثلَ ذلك (¬1). وعن مالكِ بن دينار، قال: كان عيسى -عليه السلام- يقول: إن هذا الليلَ والنهارَ خزانتان، فانظروا ما تصنعون فيهما، يقول: اعملوا لليل لما خُلِق له، واعملوا للنهار لما خُلِق له (¬2). وعن الحسن، قال: ليس يومٌ يأتي من أيام الدنيا إلا يتكلَّم، يقول: أيها الناس! إني يوم جديد، وإني على ما يُعمل فيَّ شهيد، وإني لو قد غربت شمسي، لا أرجع إليكم إِلَى يوم القيامة. وعنه: أنه كان يقول: يا بن آدم! أنا ضيفُكَ والضيف مرتحِل، إما نشكرُك، أو نذمُّك، وكذلك الليل. وبإسناده، عن أبي بكر المزني: أنه قَالَ: ما من يوم أخَرجه الله تعالَى إِلَى أهل الدنيا، إلا ينادي: ابن آدم! اغتنمني؛ لعله لا يومَ لكَ بعدي، ولا ليلةٍ إلا تنادي: ابن آدم! اغتنمني؛ لعله لا ليلة لك بعدي. وعن عمرَ بن ذَرٍّ: أنه كان يقول: اعملوا لأنفسكم في هذا الليل ¬

_ (¬1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (3/ 292). (¬2) رواه البيهقي في "الزهد" (ص: 295).

فصل

وسوادِه، فالمغبونُ مَنْ غُبِنَ خيرَ الليل والنهار، والمحروم من حُرم خيرَهما (¬1). * * * فصل قيام الليل مستحبٌّ، وهل هو أفضلُ من السنن الرواتب؟ فيه خلاف. قَالَ ابن مسعود: فضلُ صلاة الليل على صلاة النهار، كفضلِ صدقةِ السرِّ على صدقة العلانية (¬2). قَالَ عمرو بن العاص: ركعةٌ بالليل خيرٌ من عُمْرَة بالنهار. كان السلف يجتهدون على إخفاء تهجُّدِهم. وقد روي: المتهجِّدون يدخلون الجنةَ بغير حساب. يا رِجَالَ اللَّيْلِ جِدُّوا ... رُبَّ صَوْتٍ لا يُرَدُّ ما يَقُومُ اللَّيْلَ إِلا ... مَنْ لَهُ عَزْمٌ وَجِدُّ لَيْسَ شَيْءٌ كَصَلاةِ ... اللَّيْلِ لِلقَبْرِ تُعَدُّ ¬

_ (¬1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (5/ 109). (¬2) رواه البيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 502).

فصل

صلَّى كثير من السلف صلاةَ الصبح بوضوء العشاء عشرينَ سنة. ومنهم من فعل ذلك أربعينَ سنة. قال بعضهم: منذ أربعين سنة ما غمَّني إلا طلوعُ الفجر. * * * فصل أفضلُ القيام قيامُ داودَ؛ كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه. وخرَّج الإمامُ أحمدُ، عن أبي ذَرٍّ، قال: سألت النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -: أيُّ قيام الليل أفضلُ؟ قال: "جَوْفُ اللَّيْلِ الغَابِرِ، أَوْ نِصْفُ اللَّيْلِ، وَقَلِيلٌ فَاعِلهُ" (¬1). ويروى عن داود، قَالَ: يا رب! أيَّ وقتٍ أقومُ لك؟ قَالَ: لا تقمْ أولَ الليل ولا آخرَه، ولكن قمْ وسطَه؛ حَتَّى تخلوَ بي، وأخلوَ بك، وارفَعْ إليَّ حوائجَك. قام بعضُ الصالحين في ليلة باردة، وعليه ثيابٌ رثة، فضربه البردُ، فبكى، فهتف به هاتف: أقمناك، وأنمناهم، ثم تبكي علينا؟!. قيل لنبينا - صلى الله عليه وسلم -: إنَّ فلاناً نامَ حَتَّى أصبَح، فقَالَ: "بَالَ الشَّيْطَانُ في أُذُنِهِ" (¬2). ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (5/ 179). (¬2) رواه البخاري (3097)، ومسلم (774) عن ابن مسعود -رضي الله عنه-.

فصل: في صيام النهار

كان بعضُ السلف يقوم الليل، فقام ليلةً، فأتاه آتٍ في منامه، فقَالَ له: قمْ فصلِّ، ثم قَالَ له: أما علمتَ أن مفاتيحَ الجنة مع أصحابِ الليل، هم خزَّانها (¬1). نام أبو سليمانَ ليلة، فأيقظته حوراءُ، فقَالَت: يا أبا سليمان! أنا أُرَبَّى لك في الخدور منذ خمس مئة عام. واشترى بعضُهم من الله حوراءَ بصَداق ثلاثينَ ختمةً، فنام ليلةً، قبل أن يكمل الثلاثين، فرآها في منامه تقول: أتخْطُبُ مِثْلِي وَعَنِّي تنَامُ ... وَنَوْمُ المُحِبِّينَ عَنِّي حَرَامُ لِأَنَّا خُلِقْنَا لِكُلِّ امْرِىءٍ ... كَثيرِ الصَّلاةِ بَرَاهُ الصِّيَامُ في الحديث: "إِذَا اسْتَيْقَظَ الرَّجُلُ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ، فَصَلَّيا رَكْعَتَيْنِ، كُتِبَا مِنَ الذَّاكِرِينَ الله كَثيراً والذَّاكِرَاتِ" (¬2). * * * فصل: في صيام النهار قَالَ الله تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة: 24]. ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي الدنيا في "المنامات" (ص: 141 - 142). (¬2) رواه أبو داود (1309) عن أبي سعيد وأبي هريرة -رضي الله عنهما-.

قال مجاهدٌ وغيرُه: نزلت في الصوَّام. صام بعضُ التابعين؛ حتى اسودَّ من طول صيامه، وصام الأسودُ بن يزيدَ؛ حتى أفسد جسمَه، واصفرَّ، فكان إذا عوتب برفقه بجسده، يقول: كرامةَ هذا الجسدِ أُريدُ. وصام بعضهم؛ حتى وجد طعم دماغِه في حلقه. كان بعضُهم يَسْرُدُ الصومَ، فمرضَ، فقالوا له: أفطر، فقال: ليس هذا وقتَ ترك [الصيام]. وقيل لآخر منهم، وهو مريض: أفطر، قَالَ: كيف أفطر وأنا سائرٌ لا أدري ما يُفعل بي. مات عامرُ بن عبد الله بن الزبير، وهو صائمٌ ما أفطرَ. ودخلوا على أبي بكرِ بن أبي مريمَ، وهو في النَّزْع، وهو صائم، فعرضوا عليه ماءً ليفطرَ، فقال: أَغرَبتِ الشمس؟، قَالَوا: لا، فأبى أن يفطر، ثم أتوه بماء، وقد اشتدَّ نزعه، فأومأَ إليهم: أغربت الشمس؟ قالوا: نعم، فقطَروا في فيه قطرة من ماء، ثم مات - رحمه الله -. واحتُضر إبراهيمُ بن هانئ صاحبُ الإمامِ أحمدَ الموت، وهو صائم، فطلب ماء، وسأل: أغرَبتِ الشمس؟ فقالوا: لا، وقالوا: قد رخص لك في الفرض، وأنت متطوِّعٌ، قال: أمهل، ثم قَالَ: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات: 61]، ثم خرجت نفسه، وما أفطر. الدنيا كلُّها شهر، صيامُ المتقين، وعِيدُ فطرهم يومَ لقاءِ ربهم. ومعظمُ نهارِ الصائمِ قد ذهب، وعيدُ اللقاء قد اقترب.

وَقَدْ صمْتُ عَنْ لَذَّاتِ دَهْرِيَ كُلِّهَا ... وَيَوْمَ لِقَاكُمْ ذَاكَ فِطْرُ صِيَامِي قَالَ بعض السلف: بلغَنا عن عيسى بن مريم -عليه السلام-: أنه قَالَ: إذا كان يوم صوم أحدِكم، فليدْهَنْ لحيتَه، ويمسحْ شفتيه من دهنه؛ حَتَّى ينظر إليه الناظر، فيظن أنه ليس بصائم (¬1). صام بعضُ السلف أربعين سنة، لا يعلم به أحدٌ، كان له دكان، فكان كلَّ يوم يأخذ رغيفين، ويخرج إِلَى دكانه، فيتصدَّق بهما في طريقه، فيظن أهلُه أنه يأكلها في السوق، ويظن أهل السوق أنه أكل في بيته قبل أن يجيء. اشتُهر بعضهم بكثرة الصوم، فكان يصوم يومَ الجمعة، فيأخذ إِبريقاً، فيضع بلبلته في فيه، ويمتصها، والناسُ ينظرون إليه، ولا يدخل حلقَه منه شيء؛ لينفي عنه ما اشتُهر به. ريحُ الصائم أطيبُ عند الله من ريح المسك. لمَّا دُفن عبد الله بن غالبٍ، كان يفوحُ من قبره رائحةُ المسك، فرئي في المنام، فسئل عن تلك الرائحة التي توجد من قبره، فقَالَ: تلك رائحة التلاوة والظَّمأ (¬2). • • • ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (35549) عن هلال بن يساف. (¬2) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (6/ 248).

الفصل الثالث في ذكر رحمة الله، ولطفه بعباده

الفصل الثّالث في ذكرِ رحمةِ الله، ولطفِه بعباده قال بعضُ السلف: أولُ ما خَلَق الله القلمَ، فقال له: اكتبْ: إني أنا التوَّاب، أتوبُ على من تاب. كان بعض السلف يقول: لو علمتُ أحبَّ الأعمال إِلَى الله؛ لاجتهدَتْ نفسي فيها، فرأى في منامه قائلا يقول له: إنك تريد ما لا يكون، إن الله يحبُّ أن يغفر. قال يحيى بن مُعاذٍ: لو لم يكنِ العفوُ أحبَّ الأشياء إليه، لم يبتل بالذنب أكرمَ الخلقِ عليه (¬1). يا رَبِّ أَنْتَ رَجَائِي ... وَفِيكَ أَحْسَنْتُ ظَنِّي ¬

_ (¬1) انظر: "صفة الصفوة" لابن الجوزي (4/ 92).

يا رَبِّ فَاغْفِرْ ذُنُوبِي ... وَعَافِنِي وَاعْفُ عَنِّي العَفْوُ مِنْكَ إِلهِي ... وَالذَّنْبُ قَدْ كَانَ مِنِّى وَالظَّنُّ فِيكَ جَمِيلٌ ... حَقِّقْ بِحَقِّكَ ظَنِّي

الفصل الرابع في ذكر الجنة

الفصل الرّابع في ذكر الجنة وفي "مسند البزار" عن أبي سعيدٍ، مرفوعاً: "خَلَقَ الله جَنَّةً لَبنَةً مِنْ فِضَّةٍ، وَلَبنَةٍ مِنْ ذَهَبٍ، وَمِلاطُهَا المِسْك، فَقَالَ لَهَا: تَكَلَّمِيَ، قَالَتْ: قَدْ أَفْلَحَ المُومِنُونَ، فَقَالَتِ المَلائِكَةُ: طُوبَى لَكِ مَنْزِلَ المُلُوكِ" (¬1). وفي "الصحيحين": عن أبي موسى الأشعريِّ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "جَنَّتَان مِنْ ذَهَبٍ" (¬2). وفي "الصحيحين": "جَنَّتَان مِنْ ذَهَبٍ، وبِنَاؤُهُمَا، وَما فِيهِمَا، وَجَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ، وَآنيَتُهُما وَما فِيهِمَا" (¬3). ¬

_ (¬1) ورواه الطبراني في "المعجم الأوسط" (3701)، وانظر: "مجمع الزوائد" للهيثمي (10/ 397). (¬2) رواه البخاري (7006)، ومسلم (180). (¬3) رواه البخاري (7006)، ومسلم (180).

وفي "الصحيحين" أيضاً: عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "وَإِنَّهَا جِنَانٌ كَثِيرَةٌ" (¬1). وقد روي: أَنَّ بِناءَ بَعْضِهَا، الدُّرُّ، وَاليَاقُوت (¬2). خرَّجَ ابن أبي الدنيا، من حديث أنسٍ، مرفوعاً: "خَلَقَ الله جَنَّةَ عَدْنٍ بِيَدِهِ، لَبِنَةٌ مِنْ دُرَّةٍ بَيْضَاءَ، وَلَبِنَةٌ مِنْ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ، وَلَبِنَةٌ مِنْ زبَرْجَدَةٍ خَضْرَاءَ، مِلاطُهَا المِسْكُ، وَحَصْبَاؤُهَا اللُّولُؤُ، وَحَشِيشُهَا الزَّعْفَرَانُ، ثُمَّ قَالَ لَهَا: انْطِقِي، قَالَتْ: قَدْ أَفْلَحَ المُومِنُونَ، قَالَ: وَعِزَّتِي وَجَلالِي! لا يُجَاوِرُنِي فِيكِ بَخِيلٌ". وروي عن عطيةَ بن سعيدٍ، قال: إن الله خلقَ جنةً من ياقوتةٍ حمراءَ، ثم قَالَ لها: تزيني، فتزينت، ثم قَالَ لها: تكلَّمي، فقَالَت: طوبى لمن رضيتَ عنه، ثم أطبقَها، وعلَّقها بالعرش، فهي تفتح في كل سَحَر، فذلك بردُ السَّحَر. وعن ابن عباسٍ -رضي الله عنهما-، قَالَ: كان عرشُ الله على الماء، ثم اتخذ لنفسِه جنةً، ثم اتخذ دونها أخرى، وأطبقَهما بلؤلؤةٍ واحدة؛ لا يعلم الخلقُ ما فيهما، وهما اللتان لا تعلمُ نفسٌ ما أُخفي لهم من قُرَّةِ أعيُنٍ (¬3). وذكر صفوانُ بن عمرو: عن بعضِ مشايخه، قَالَ: الجنةُ مئةُ ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3761) عن أنس -رضي الله عنه-. (¬2) رواه الترمذي (3361). (¬3) رواه الحاكم في "المستدرك" (3775).

درجة، الأولى فضة، وأرضُها فضة، ومساكنُها فضة، وترابُها المسكُ. والثانيةُ ذهبٌ، وأرضُها ذهب، وآنيتُها ذهب، وترابها المسك. والثالثةُ لؤلؤٌ، وأرضها لؤلؤ، ومساكنها لؤلؤ، وترابها المسك. وسبعٌ وتسعون بعد ذلك ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ثم تلا قوله تعالى: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17]. وفي "الصحيحين": عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "يَقُولُ الله -عَزَّ وَجَلَّ -: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ ما لا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ". ثم يقولُ أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17] (¬1). في "صحيح مسلم": عن المغيرة بن شعبة، يرفعه: "سَأَل مُوسَى -عليه السلام- رَبهُ -عَزَّ وَجَلَّ-، فَقَالَ: يا رَبِّ! ما أَدْنَى أَهْلِ الجَنَّةِ مَنْزِلَةً؟ قَالَ: هُوَ رَجُلٌ يَجِيءُ بَعْدَ ما أُدْخِلَ أَهْلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ، فَيُقَالَ لَهُ: ادْخُلِ الجَنَّةَ، فَيَقُولُ: كَيْفَ يا رَبِّ وَقَدْ أَخَذَ الناسُ مَنَازِلَهُمْ، وَأَخَذُوا أَخَذَاتِهِمْ؛ فَيَقُولُ لهُ: أَتَرْضَى أَنْ يَكُونَ لَكَ مِثْلُ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الدُّنْيَا؟ فَيَقُولُ: رَضِيتُ يا رَبِّ، فَيَقُولُ: لَك ذلك، وَمِثْلُهُ، وَمِثْلُهُ، وَمِثْلُهُ، فَيَقُولُ: رَضِيتُ يا ربِّ، فَيَقُولُ: لَكَ ذلك، وَعَشْرُ أَمْثَالِهِ، وَلَكَ ما اشْتَهَتْ نَفْسُكَ، وَقَرَّتْ بِهِ عَيْنُكَ، فَيَقُولُ: رَضِيتُ رَبِّ. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3072)، ومسلم (2824).

قَالَ: فَما أَعْلاهُمْ منزِلَةً؟ قَالَ: "أولئك الَّذِينَ أَرَدْتُ، غَرَسْتُ كَرَامَتَهُمْ بِيَدِي، وخَتَمْتُ عَلَيْهَا، فَلَمْ تَرَ عَيْنٌ، وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ. قَالَ: وَيُصَدِّقُهُ كِتَابُ الله: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17] " (¬1). وعن عبد الله: قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "إِنِّي لأَعْلَمُ آخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجاً مِنْهَا، وَآخِرَ أَهْلِ الجَنَّةِ دُخُولاً: رَجُلٌ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ حَبْواً، فَيَقُولُ الله: اذْهَبْ فَادْخُلِ الجَنَّةَ، فَيَأْتِيهَا، فَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهَا مَلأَى، فَيَرْجِعُ فَيَقُولُ: يا رَبِّ! وَجَدْتُهَا مَلأَى، فَيَقُولُ: اذْهَبْ فَادْخُلِ الجَنَّةَ، فَيَأْتِيهَا، فَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنّهَا مَلأَى، فَيَرْجِعُ فَيَقُولُ: يا رَبِّ! وَجَدْتُهَا مَلأَى، فَيَقُولُ: اذْهَبْ فَادْخُلِ الجَنَّةَ؛ فَإِنَّ لَكَ مِثْلَ الدُّنْيا وَعَشْرة أَمْثَالِهَا، أَوْ: إِنَّ لَكَ مِثْلَ عَشْرَةِ أَمْثَالِ الدُّنْيَا، فَيَقُولُ: أَتَسْخَرُ مِنِّي، أَوْ: تَضْحَكُ مِنِّي وَأَنْتَ المَلِكُ". فلقد رأيتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ضحك حَتَّى بدت نواجذه، وكان يقال: ذلك أدنى أهل الجنةِ منزلةً (¬2). وعن أبي سعيدٍ الخدريِّ، قالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَدْنَى أَهْلِ الجَنَّةِ الَّذِي لَهُ ثَمَانُونَ أَلْفَ خَادِمٍ، وَاثنتَانِ وَسَبْعُونَ زَوْجَةُ، وَتنصَبُ لَهُ قُبَّهٌ مِنْ لُولُؤٍ وَزَبرْجَدٍ وَيَاقُوتٍ كَما بَيْنَ الجَابيةِ إِلَى صَنْعَاءَ"، رواه الترمذي (¬3). • • • ¬

_ (¬1) رواه مسلم (189). (¬2) رواه البخاري (6202)، ومسلم (186). (¬3) رواه الترمذي (2562)، وقال: حديث غريب.

الفصل الخامس في ذكر الصلاة

الفصل الخامس في ذكر الصلاة في أفراد مسلم: عن أبي هريرةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أنه قَالَ: "الصَّلَوَاتُ الخَمْسُ، وَالجُمُعَةُ إِلَى الجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ، مُكَفِّرَاتٌ لِما بَيْنَهُنَّ، إِذَا اجْتُنِبَتِ الكَبَائِرُ" (¬1). قال الحسنُ: يا بن آدَمَ! هانت عليك صلاتُك، فما الذي يَعزُّ عليك؟. عن زيدِ بن خالدٍ الجهنيِّ، قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ صَلَّى سَجْدَتَيْنِ لا يَسْهُو فِيهِمَا؛ غُفِرَ لَهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ" (¬2). يا مَنْ لا يؤثر عنده وعدُه ووعيدُه، ولا يزعجُه تخويفُه، وتهديدُه! يا مطلقاً ستعقله بيده، ثم يُفنيه البِلى ويُبيده، ثم ينفخ في الصور، فيبتدأ تجديدُه، {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ}. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (233). (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (5/ 194).

فصل: في الجماعة

قَرَّبْنا الصالحين منا، وأبدنا العاصين عنا، أحببنا في القدم، وأبغضنا، فمن قضينا عليه الشقاء أهنكنا، فهو أسيرُ البعد وطريدُه، ومن سبقت له منا الحسنى، فنحن ننعم عليه ونفيده، {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ}. تجري العيون وابلاً وطَلا، وترى العاصيَ يقلقُ ويتقلَّى، ويمنى العودَ، فيقال: كلا، والويلُ كلُّ الويلِ بمن لا يريدُه، {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ}. تخشع فيه الأملاك، وتطير فيه الضحاك، ويعسر على المحبوس الفكاك، فأما المؤمنُ المتقي، فذاك عيدُه، {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء: 104] (¬1). * * * فصل: في الجماعة وهي واجبةٌ للصلوات الخمس؛ على الكفاية، لا شرط. في "الصحيحين" من حديث ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "صَلاةُ الجَمَاعَةِ تَفْضُلُ عَلَى صَلاةِ الفَذِّ بِسَبعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً" (¬2). وروي عن أنسِ بن مالكٍ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "مَنْ صَلَّى أَرْبَعِينَ ¬

_ (¬1) انظر: "التبصرة" لابن الجوزي (2/ 245). (¬2) رواه البخاري (619)، ومسلم (650).

يَوْماً في جَمَاعَةٍ؛ لَمْ يَفُتْهُ رَكْعَة وَاحِدَةٌ، كَتَبَ الله لَهُ بَرَاءَتَيْنِ: بَرَاءَةً مِنَ النَّارِ، وَبَرَاءَةً مِنَ النِّفَاقِ" (¬1). قَالَ عبد الله بن عمرَ القواريريُّ: لم تكن تفوتني صلاةٌ في جماعة، فنزل بي ضيفٌ، فشُغلت به، فخرجتُ أطلب الصلاة في قبائل البصرة، فإذا الناسُ قد صَلَّوا، فقلتُ في نفسي: روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قَالَ: "صَلاةُ الجَمَاعَةِ تَفْضُلُ [عَلَى] صَلاةِ الفَذِّ بِخَمْسِ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً"، وروي: "بسبعٍ وعشرين". فانقلبتُ إِلَى منزلي، فصليتُ العتمةَ سبعاً وعشرين مرة، ثم رقدتُ، فرأيتني مع قوم راكبين أفراساً، وأنا راكبٌ على فرسٍ كأفراسِهم، ونحن نتجارى، فالتفتَ إليَّ أحدُهم، فقَالَ: لا تُجْهِدْ فرسَكَ، فلست بلاحقِنا، فقلت: ولم ذلك؟ فقَالَ: إنا صلينا العتمةَ في جماعة (¬2) أين من يعمل لذلك اليوم؟ أين المتيقظُ من سِنَة النوم؟ أين من يلحق أولئك القوم؟ جَدُّوا في الصلاة، وأخذوا في الصوم، وعادوا على النفس بالتوبيخ واللوم؛ ليتك إذا لم تقدر على الإشمام بطريقهم حَصَّلْت الرَّوْم. * * * ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (241) نحوه، وإسناده ضعيف. وانظر: "التلخيص الحبير" لابن حجر (2/ 27). (¬2) رواه الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد" (10/ 320).

فصل

فصل اعلمْ أن المقصود بالصلاة: إنما هي تعظيمُ المعبود، وتعظيمُه لا يكون إلا بحضور القلب في الخدمة. وقد كان في السلف منْ يتغيَّر إذا حضرتِ الصلاة. * * * فصل ليس لنا حكمٌ يدخُل به الكافرُ في حكم الإسلام، ويخرج به المسلمُ من الإسلام، إلا الصلاة، إذا صلَّى الكافر، حُكم بإسلامه، سواءٌ صلى جماعة، أو منفرداً. وعن أبي حنيفة، روايتان: إحداهما: كمذهبنا. والثانية: حَتَّى يصلي في جماعة. والشافعي: إذا صلى الحربيُّ في دار الحرب؛ حُكم بإسلامه.

فصل

فصل لا يختلف مذهبه (¬1)، إنه يقتل، وهل يُقتل حَدًّا، أو كُفْراً؟ فيه روايتان: إحداهما: يُقتل لكفره، وهو قول عمرَ، وابن مسعودٍ، وابن عباسٍ، وجابرٍ، والشعبيِّ، والأوزاعيِّ، ويدل عليه: [ما] روي [عن] النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "بَيْنَ العَبْدِ وَبَيْنَ الكُفْرِ تَرْكُ الصَّلاةِ" (¬2). الرواية الثانية: يقتل حَدًّا، وهو قول: مالك، والشافعيِّ. وقَالَ أبو حنيفة: يُحبس، ويُستتاب، ولا يُقتل. * * * فصل صلاةُ الفرض واجبةٌ على كل مسلمٍ، بالغٍ، عاقلٍ، لا حائضٍ، ونفساء. وتجب على نائمٍ، وسكران. ولا تجب على صبيٍّ، ولا كافرٍ. ويؤمَر بها الصبيُّ لسبعٍ، ويضرَب عليها لعشرٍ. ¬

_ (¬1) أي: الإمام أحمد. (¬2) رواه مسلم (82) عن جابر -رضي الله عنه-.

فصل

وهي واجبة بالكتاب، والسنة، والإجماع. * * * فصل صلاة التطوع مستحبة، وهي أفضل تطوعُّ البدن، وآكدُها: كسوفٌ، ثم استسقاءٌ، ثم وترٌ، وليس بواجب. قَالَ أبو بكر: هو واجبٌ. ثم السنن، ثم التراويح. وصلاةُ الليل أفضلُ من صلاة النهار، وصلاةُ الليل مثنى مثنى؛ معناه: يسلِّم من كل ركعتين.

الفصل السادس في ذكر الزكاة

الفصْل السّادس في ذكر الزكاة عن أبي ذَرٍّ، قال: أتيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو في ظل الكعبة، فقَالَ: "هُمُ الأَخْسَرُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ، ورَبِّ الكَعْبَةِ! هُمُ الأخْسَرُونَ، ورَبِّ الكَعْبَةِ! ". قال: فأخذني غَمٌّ، وجعلتُ أتنفَّس. قال: قلتُ: هذا شرٌّ حدثَ فيَّ. قال: قلت: من هم: -فداك أبي وأمي-؟ قال: "الأَكْثَرُوَن أَمْوَالاً؛ إِلا مَنْ قَالَ في عِبَادِ الله هكَذا، وَهكَذَا، وَهكَذَا، وَقَلِيلٌ ما هُمْ". "ما مِنْ رَجُلٍ يَمُوتُ، فَيَتْرُكُ غَنَماً، أَوْ إِبلاً، أَوْ بَقَراً، لَمْ يُؤَدِّ زكَاتَهَا، إِلا جَاءَتْهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْظَمَ ما يَكُونُ، وَأَسْمَنَ، حَتَّى تَطَأَهُ بِأَظْلافِهَا، وَتنطحَهُ بِقُرُونِهَا، حَتَّى يُقْضى بَيْنَ النَّاسِ، ثُمَّ يَعُودُ أَوَّلُهَا عَلَى آخِرِهَا" (¬1). ¬

_ (¬1) رواه مسلم (990).

وعن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "ما مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ وَلا فِضَّةٍ، لا يُؤَدِّي مِنْهَا حَقَّهَا، إِلا إِذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ صُفِّحَتْ لَهُ صَفَائِح مِنْ نَارٍ، فَأُحْمِيَ عَلَيْهَا في نَارِ جَهَنَّمَ، فَيُكْوَى بِهَا جَبْهَتُهُ وَجَنْبُهُ، وَجَبِينُهُ وَظَهْرُهُ، كُلَّما بَرَدَتْ، رُدَّتْ لَهُ، في يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ" حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ العِبَادِ، فَيرى سبيلها؛ إِما إِلَى الجَنَّةِ، وَإِما إِلَى النَّارِ" (¬1). إخواني! قولوا للمفرِّط الجاني: قَالَ لك الشيبُ: أما تراني؟ أتى كتابُ المنون، والضعفُ عنواني، وليس في السطور إلا أنك فاني. اشتهى الربيعُ بن خُثيمٍ حلواءَ، فلما صنع، دعا بالفقراء، فأكلوا، فقَالَ أهلُه: أتعبتنا، ولم تأكل؟! فقَالَ: وهل أكلَ غيري. عباد الله! إِلَى متى تجمعون ما لا تأكلون، وتبنون ما لا تسكنون، والجيدَ في بيوتكم تدَّخرون، والرديءَ إِلَى الفقراء تخرجون؟ {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}. حرِّكوا هِمَمكم إِلَى الخير، وحُثُّوا عزائمكم على الجد، وأدلجوا، والتفتوا عن الحرص على المال، وعَرِّجوا، وآثروا الفقير بما تؤثرون، {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}. يا حريصاً ما يستقر! يا طالب الدنيا ما يقر! ¬

_ (¬1) رواه مسلم (987) عن أبي هريرة -رضي الله عنه-.

فصل

إن كنت تصدِّق بالثواب, فتصدَّق (¬1) في السرِّ بالمحبوب المصون، {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}. أما المسكينُ أخوكَ من الوالدَيْن، كيف كففتَ عن إعطائه اليدين؟ كيف تحثُّ على النفل، والزكاةُ [عليك] دَيْن، وأنتم فيها تتأولون، {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}. يا وحيداً عن قليلٍ في رمسه! يا مستوحشاً في قبره بعدَ طولِ أُنسه! لو قَدَّمَ خيراً، نفعَه في حبسه، {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9]، {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}. تجمع الدينارَ إِلَى الدينار لغيرِك، وينساك من أخذَ من خيرِك، ولا تتزوَّدُ منه شيئاً لسيرِك؛ هذا هو الجنون، {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92]. * * * فصل [الزكاةُ] واجبةٌ من أربعة أصناف من المال: السائمة من بهيمة الأنعام، والخارج من الأرض، والأثمان، وعروض التجارة. * * * ¬

_ (¬1) في الأصل: "فصدقة".

فصل

فصل ولا تجبُ إلا بخمسة: الإسلام، والحرية، وملك النصاب، وتمام الملك، والحول. * * * فصل يباح للرجل من الفضة: الخاتمُ، وقَبيعةُ السيف. وفي حِليةِ المنطقةِ روايتان. وجَوْشَنٌ، وخوذةٌ، وخف، وران، وحمائلُ على قياسها. ومن الذهب: قَبيعةُ السيف، و [ما] دعتْ إليه ضرورةٌ؛ كأنف، وما ربطَ به أسنانَه. وقال أبو بكر: يُباح يسيرُ الذهب، ويُباح للنساء: كلُّ ما جرت عادة ذلك بلبسه، قَلَّ أو كَثُر. وقَالَ ابن حامد: إن بلغ ألفَ مثقال، فيه الزكاة. * * * فصل زكاةُ الفطر واجبةٌ على كل مسلمٍ تلزمه مؤنةُ نَفْسِهِ، إذا فضلَ عندَه عن قوته، وقوتِ عياله، يومَ العيد وليلتَه، صاعٌ.

فصل

فصل الواجب: صاعٌ من بُرٍّ، وشعيرٍ، ودقيقِهما، وسَويقِهما. قال ابن أبي موسى: لا يجزئ السويقُ. وتمرٍ، وزبيبٍ، وأَقِطٍ في إِحدى الروايتين. قال ابن حامد: يُخرج مما يقتات، والأفضلُ: تمر، ثم زبيب، ثم بُرٌّ، ثم شعير. * * * فصل إذا جحد وجوبَ الزكاة جهلاً، عُرِّفَ ذلك؛ فإن أَصَرَّ كفر، وأُخذت منه، واستتُيب ثلاثاً؛ فإن تاب، وإلا قُتل، وإن منعها بُخلاً، أُخذت منه، وعُزِّرَ. وقَالَ بعض أصحابنا: إن قاتل عليها، كفر. * * * فصل أهل الزكاة ثمانية: الفقراء، والمساكين، والعاملون عليها،

فصل

والمؤلَّفة قلوبهم، والرقاب، والغارمون، وفي سبيل الله، وابن السبيل. * * * فصل لا يجوز دفعُ زكاته إلى كافرٍ، ولا عبدٍ، ولا فقيرةٍ لها زوج غنيٌّ، ولا إِلَى الوالدَيْن، وإن علوا، ولا إِلَى الولد، وإن سَفُل، ولا إِلَى الزوجة، ولا إِلَى بني هاشم ومواليهم. وقيل: يجوز دفعُها إلى الزوجين، وعمود النسب، وسائر الأقارب. وهل يجوز دفعُها إلى من تلزمُه مؤنتُه من أقارب، أو إِلَى الزوج، أو بني المطلب؟ على روايتين. * * * فصل صدقةُ التطوعُّ مستحبةٌ، والصدقة على ذي الرحم صدقةٌ وصِلَةٌ.

الفصل السابع في ذكر التوبة

الفصل السّابع في ذكر التوبة قال ابن مسعود: إني لأعلم آيتين في كتاب الله، لا يقرؤهما عبد عندَ ذنبٍ يصيبُه، ثم يستغفرُ الله منه، إلا غفر له: قوله: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ} [النساء: 110] الآية، {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً} [آل عمران: 135] الآية. واعلمْ: أن التوبة إذا صحت، قُبلت بلا شك؛ إذا وقعت قبل نزولِ الموت، ولو كانت عن أيِّ ذنب كان. وفي "الصحيحين": أَنَّ رَجُلا قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْساً، ثُمَّ سَأَلَ: هَلْ لَهُ تَوْبَةٌ؟ فَقِيلَ لَهُ: اخْرُجْ إِلَى قَرْيَةِ كَذَا، فَخَرَجِ، فَأَدْركَهُ المَوْتُ، فَنَأىَ بِصَدْرِهِ نَحْوَ القَرْيَةِ، فَوُجِدَ أَقْرَبَ إِلَيْهَا بِشِبْرٍ، فغُفِرَ لَهُ. (¬1). وعن ابن مسعودٍ، قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "للهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ أَحَدِكُمْ مِنْ رَجُلٍ خَرَجَ بِأَرْضٍ دَوِيَّةٍ مُهْلِكَةٍ، وَمَعَهُ رَاحِلَتُهُ عَلَيْهَا طَعَامُهُ، وَشَرَاُبهُ، وَزَادُهُ، وَما يُصْلِحُهُ، فَأَضَلَّهَا، فَخَرَجَ في طَلَبِهَا، حَتَّى إِذَا ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3283)، ومسلم (2766) عن أبي سعيد -رضي الله عنه-.

أدْركَهُ المَوْتُ، وَلَمْ يَجِدْهَا، قَالَ: أَرْجِعُ إِلَى مَكَانِي الَّذِي أَضْلَلْتُهَا فِيهِ؛ فَأَمُوتُ فِيهِ، فَأَتَى مَكَانَهُ، فَغَلَبَتْهُ عَيْنُهُ، فَاسْتَيْقَظَ؛ فَإِذَا رَاحِلَتُهُ عِنْدَ رَأْسِهِ عَلَيْهَا طَعَامُهُ، وَشَرَابُهُ، وَما يُصْلِحُهُ" (¬1). أَنَا عَبْدُكَ الجَانِي وَأَنْتَ المَالِكُ ... إِنْ لَمْ تُسَامِحْنِي فَإِنِّي هَالِكُ يا مَنْ تَدَارَكَ طُولَ جَهْلِي حِلْمُهُ ... ذُخْرِي لِحَشْرِي عَفْوُكَ المُتَدَارِكُ مَوْلاي أَسْرَرْتُ القَبِيحَ وَظَاهِرِي ... حَسَنٌ وَأَنْتَ بِحَجْبِ سِتْرِي مَالِكُ حَسْبِي خَسَاراً أَنْ تَرَانِي مُسْرِفاً ... وَيَظُنُّ هذا الخَلْقُ أَنِّي نَاسِكُ سبحانَ من أنعمَ على الأحباب، سبحانَ من سخَّر لهم الأسباب، سبحانَ من جعل جزاءَ الصوم عن الطعام والشراب، يُطاف عليهم بآنيةً من ذهبٍ وأكواب، وصلَ أولو الألباب، وقد زالت تلك الأسقام والأَوْصاب، وقيل لأيوبَ: البلاء إلى كم المصاب، {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [ص: 42]. يا حُسْنَهم وقد قدم الغُيَّاب، وأُلبسوا ثيابَ العتاب، وتلقتهم الحورُ الخَفِرَاتُ بلا نِقاب، لا نقص عندهم ولا عاب، ولا شَرَدَ عنهم مطلوبٌ ¬

_ (¬1) رواه البخاري (5949).

ولا غاب، ولا يعتري شيبٌ ذاك الشباب، طابت الدار، ودار ذاك الشراب، وغنت الغناء فرنَّت القِباب، وسمعوا من الغناء ما أغنى عن عُودٍ ورَباب، {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ}. فتح لهم باب الرضا فدخلوا، ومُهِّدَت لهم المساكنُ فنزلوا، وإليه ثم والله لقد وصلوا إِلَى ما لم يكن في الحساب {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ} [الزخرف: 71].

الفصل الثامن في ذكر الصبر

الفصل الثّامن في ذكر الصبر قَالَ الله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10] المعنى: أنهم يعطَوْن أجراً كثيراً. عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "ما أُعطِي أَحَدٌ عَطاء خَيْراً وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ" (¬1). وقال -عليه السلام-: "أَلا إِنَّ الصَّبْرَ مِنَ الإِيمَانِ بِمَنْزِلَةِ الرَّأْسِ مِنَ الجَسَدِ، أَلا إِنَّهُ لا إِيمَانَ لِمَنْ لا صَبْرَ لَهُ" (¬2). وقالَ الحسن: الصبر كنزٌ من كنوز الجنة، لا يعطيه الله إلا لعبدٍ كَرُمَ عليه. واعلم أن الصبر على المصائب له فضلٌ عظيم، ومنهُ: الصبرُ على الميت. * * * ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1400)، ومسلم (1053) عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-. (¬2) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (30439)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (9718) من كلام علي -رضي الله عنه-.

فصل

فصلٌ وأما البكاء على الميت، يجوز البكاء على الميت، وتكره النياحة والندب. يا نَفْسُ ما هِيَ إِلا صَبْرُ أَيَّامِ ... كَأَنَّ مُدَّتَها أَضْغَاثُ أَحْلامِ يا نَفْسُ جُوزِي عَنِ الدُّنْيا مُبَادِرةً ... وَخَلِّ عَنْها فَإِنَّ العَيْشَ قُدَّامِي إخوانْي! البلاء يختصُّ الأخيار، والمحنُ تلاصِقُ الأبرار. أترْحَلُ عَنْ حَبِيبِكَ ثُمَّ تَبْكِي ... عَلَيْهِ فَما دَعَاكَ إِلَى الفِرَاقِ كَأَنَّكَ لَمْ تَذُقْ لِلبَيْنِ طعْماً ... فَتَعلَمَ أَنّهُ مُرُّ المَذَاقِ ما مضى من تنعُّم القوم يومٌ، إلا وانقضى من صبر الصابر إِلَى أن يجمعها يوم، ويقع فرق ما بين القوم، كما بين اليقظة والنوم. طُوبَى لِعَبْدٍ بِحَبْلِ الله معْتَصَمُهْ ... عَلَى صِرَاطٍ سَوِيٍّ ثَابِتٍ قَدَمُهْ فَذَاكَ أَغظَمُ مِنْ ذِي التَّاجِ مُتكئَاً ... عَلَى النَّمَارِقِ مُختَفّاً بِه حَشَمُهْ

يا مسرورون على الزلل ستظهر أسرارُكم، يا مغمورون بالحلم، عنهم ستكشف أستارُكم، لا بد أن نميّز خياركم وأشراركم، {حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ}. كم أقبل إليكم لطفُنا وزاركم، وما تركتُم أوزاركم! كم منحكم الهدى وأعاركم، ثم اخترتم في الضلال عاركم! لقد زجرناكم إذْ أخذنا خياركم، {حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد: 31]

الفصل التاسع في ذكر الشكر

الفصل التّاسع في ذكر الشكر قَال الله تعالى: {لئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7] عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "ما أَنْعَمَ الله عَلَى عَبْدِهِ نِعمَةً، فَعَلِمَ أَنها مِنْ عِنْدِ الله، إِلا كَتَبَ الله لَهُ شُكْرها، وَما عَلِمَ الله -عَزَّ وَجَلَّ- مِنْ عبد نَدَامَةً عَلَى ذَنْبٍ، إِلا غَفَرَ لَهُ قَبْلُ أَنْ يَسْتَغْفِرَهُ، هاِنَّ الرَّجُلَ لَيَشْتَرِي الثَّوْبَ بِالدِّينَارِ، فَيَلْبَسُهُ، فَيَخمَدُ الله -عَزَّ وَجَلَّ-، فَما يَبْلُغُ رُكبَتَيْهِ حَتَّى يَغْفِرَ لَهُ" (¬1). اعلم يا أخي! أن جهنمَ سوداءُ مظلمة، لا رفيقَ تأنس به، ولا صديقَ تشكو إليه، ولا نوم فيريح، ولا نفس تستريح، سبحانَ من قضى عليهم بهذا المعاش، يبكون ولا ينفع البكاء والإجهاش، أكبر حسراتهم، فالكل عطاش، {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ}. تعبوا من الإستغاثة، وكلّوا وضَجِروا من الإعتذار، وملّوا وسجنوا ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي الدنيا في "الشكر" (47)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (4379).

في جهنم فذلوا، وكم كان يخدُمهم فرَّاش، {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ}. فتهيأ أيُّها العاصي لِلَظَى، فما لكَ عملٌ يصلُح للرضا، يا مَنْ عمرُه كلُّه قد مضى في لاش، {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} [الأعراف: 41]

الفصل العاشر في ذكر الخوف

الفصل العاشر في ذكر الخوف قَالَ الله تعالى: {وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175]. الخوفُ واجبٌ على كل مؤمن. بكى اَدمُ لما خرج من الجنة ثلاث مئة عام، وكذا بكى نوح، وكان الخليل إذا قام إِلَى الصلاة، يُسمَع لصدره أزيز من شدة الخوف، وبكى داود، وكذا جميع الأنبياء، والصحابة، والخائفون كثير، وليس هذا مكان ذلك. ولكن منهم من صلى صلاة الصبح بوضوء العشاء أربعين سنة، ومنهم من صام أربعين سنة لا يعلم به أحد. كان جبريل يرثي لبكاء آدم، ويقول: يا آدم! ما هذا القلق؟! ولكن حاله يجيب. سَبيلي إنِ اسْتَحيا بِهِ الصبْرُ عَنْهُمُ ... وَذَاكَ سَبِيل ما إِلَيْهِ سَبِيلُ يَقُولُونَ لِي هلْ في فُؤَادِيَ لَوْعَةٌ ... وهلْ فِيهِ إِلا لَوْعَةٌ وَغلِيلُ

قَالَ الحسن: لو بكى عبد من خشية الله، لرحمَ الله مَنْ حوله، ولو كانوا عشرينَ ألفاً. حملوا بالنهار عطشاً وجوعاً، وسهروا بالليل سجوداً وركوعاً، وسلوا على تقصيرهم، وما قصروا دموعاً، {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا}. قطعوا النهار صائمين، ونُزُلهم بالليل قائمين. أظلم الدجى لا عن نائمين قد رفضوا هجوعاً، {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا}. هجروا الدنيا وقاطعوها، وكفوا أنفسهم عن الشهوات ومنعوها، فنادى لطف الإباحة دعوها، تزدْ بعد خمس شروعاً، {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء: 109].

الفصل الحادي عشر في ذكر التفكر

الفصل الحادي عشر في ذكر التفكر قال الله تعالى: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [آل عمران: 191]. قيل لإبراهيمَ بنِ أدهمَ: إنك تُطيل الفكرة، قَالَ: الفكرةُ مخُّ العمل (¬1). وقال بِشْرٌ الحافي: لو تفكّر الناسُ في عظمة الله، ما عَصَوهُ، ومن تفكر في خلق نفسِه، دهش، أو في إمساكِ الأرضِ بالجبال، وانظر إِلَى أقلِّ الأشياء، وهو العنكبوت، كيف تبني بيتاً في موضعين متقاربين؟! حَتَّى يمكنها أن تصل الخيط بين طرفيها، فإذا أحكمت المعاقد، اشتغلت بالجمع، وتجعل ذلك شباكة للذباب، فإن عجزت عن الصيد، علّقت نفسَها بخيط، وتنكس، فإذا قاربها ذباب، رمت نفسَها إليه، ولفّت خيطَها على رجليه، أفتراها تعمل هذه الصناعة من نفسها؟! وذكر القزويني في "عجائب المخلوقات": أن للعنكبوت أنواعاً كثيرة. ¬

_ (¬1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (8/ 109).

وكذا الفأر، إلا أنه ذُكر منه صنف يجيء منه مسكٌ خير من مسك الغزلان بعشرة أمثاله. والنحل تعمل لها ملكاً يهندس لحكم العمل، وتعمل بواباً لا يدع أحداً يدخل وعليه نجاسة. ما مَرَّ يَوْلم عَلَى حَيٍّ وَلا ابْتكرَا ... إِلا رَأَى عِبَراً فِيهِ إِنِ اعتبَرَا وَما مَضَتْ سَاعَةٌ في الدَّهْرِ وانْصَرَفَتْ ... حَتَّى تُؤَثِّرَ في قَوْمٍ لَها أثَرَا إِنَّ اللَّيَالِيَ وَالأيَّامَ لَوْ سُئِلَتْ ... عَنْ عَيْبِ أنْفُسِها لَمْ تكتُمِ الخَبَرَا يا هذا! تفكَّر في أمرك، وانقضاءِ عمرك، وإخراجِك من قصرك، والوزرِ الذي على ظهرك، ومحاسبتِك على سرِّك وجهرك. عن أبي بكبر القرشيِّ، قال: كان رجل من أهل النعمة واليسار، له جارية كان بها مشغوفاً، وكان يتمنى الولدَ منها، فمكثت عندَه سنتين، ثم إنها اشتملت على حملٍ، فاشتد [فرحُه] بذلك، وطالت عليه الأيام؛ لشوقه إِلَى ولدها، حَتَّى إذا دخلت شهرَها، وَحَزَبَها الطلقُ، عرضت له علة، فمرض أياماً يسيرةً، وهي في طُلْقها، ثم إن الموتَ نزلَ به، وولدتِ الجارية غلاماً في الليلة التي مات منها، فقال رجل من قريش، يعتبر بذلك: فِيمَنْ مَضَى لَكَ إِنْ فَكَّرْتَ مُعتبَرُ ... وَفي اللَّيَالِي وَفي الأيَّامِ مُدَّخَرُ

بيْنَا الفَتَى بِلَذِيذِ العَيْشِ مُغْتَبِطٌ ... إِذْ صَار في القَبْرِ لا عينٌ وَلا أثَرُ لوْ لَمْ يَرَ المرءُ إِلا ما يُعَايِنُهُ ... لَكَانَ فيهِ لَهُ وَعْظٌ وَمُزْدَجَرُ أما رَأَيْتَ ابن حَفْصٍ يَرتَجِي ذَكَراً ... مِنْ مُنْبِهٍ زَانَها مَعَ دِلِّها الخَفَرُ لمَّا دَنَا دك مِنْها وافتَلا فَرَحاً ... وَمَدَّ عَيْنَيْهِ لِلمَوْلُـ[ـــــو] دِ يَنْتَظِرُ إذا المَنِيَّةُ وَافَتْهُ تركت ... والصَّفْوُ لا بُدَّ مَقْرُونٌ بِهِ الكَدَرُ فهُوْ يُعَالِجُ كَرْبَ المَوْتِ مُشْتَغِلاً ... وَتلْكَ في الطَّلْقِ قَدْ حَلَّتْ بِها الغِيَرُ لم يَلْبَثِ المَرء حَتَّى مَجَّ مُهْجَتَه .... وَأَتْبَعَ المَيْتَ مَوْلُودٌ لَهُ ذَكَرُ يا يتمَهُ قَبْلَ أَخْذِ القَابِلاتِ لَه ... أَضْحَى يَميماً وَلَم تُقْطَعْ لَهُ السُّرَرُ منْ ذَا حَفِيَّاً بِهِ مَنْ ذَا يُسَرُّ بِه ... لا يَعْرِف الأبُ أن الفَيْ لَهُ عَبَرُ [.........] فاصطَبِروا .... فَالصَّبْرُ أَفْضَلُ شَيءٍ نَالَهُ البَشَرُ

الفصل الثاني عشر في ذكر التوكل

الفصل الثّاني عشر في ذكر التوكل قالى الله تعالى: {وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23]. وقال: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3]. لقد أبانت لكم الدنيا مصيرَها، وكشفت لكم عن سرِّها؛ كما قيل: تَمَنَّيْتَ الإقَامَةَ يا خَلِيلِي ... وَما دُنْيَاك دَارٌ لِلإِقَامَه اعلم يا أخي! أنك عن الدنيا محروف، ومنها مخطوف، فإذا صعُب بك أمر، أو كنت منه مخوفاً، فقل: توكلت على الله؛ فإن الله تعالى يقول: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3]. إخواني! كم أنعم عليكم، وحُبيتم؟! كم أرشدتم إِلَى الصواب وهُديتم؟! كم وقعت لكم حاجة فكُفيتم؟! يا مبارزين بالذنوب ما خفيتم، اعملوا ما شئتم.

الفصل الثالث عشر

الفصل الثّالث عشر وفيه فصلان: الفصل الأول: في فعل المعروف. الفصل الثاني: في ذم الغيبة والنميمة.

الفصل الأول في فعل المعروف

الفصل الأوّل في فعل المعروف قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤمِنٍ كُرَباً مِنْ كُرُوبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ الله عَنْهُ كُرَباً مِنْ كُرُوبِ الآخِرَةِ (¬1) " (¬2). وعن بلال، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: " كُلُّ مَعرُوفٍ صَدَقَة، وَالمَعْرُ [و] فُ يَقِي سَبْعِينَ نَوْعاً مِنَ البَلاءِ، وَيَقِي مِيتَةَ السُّوءِ" (¬3). وروى مسلم، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "كُلُّ مَعرُوفٍ صَدَقَةٌ" (¬4). قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: "كُلُّ معرُوفٍ صَدَقَةٌ، وَمِنَ المَعرُوفِ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ، وَأَنْ تُفْرِغَ مِنْ دَلْوِكَ في إِنَائِهِ" أفرده البخاري (¬5). ¬

_ (¬1) في الأصل: "الدنيا". (¬2) رواه مسلم (2699) عن أبي هريرة -رضي الله عنه-. (¬3) رواه ابن أبي الدنيا في "قضاء الحوائج" (1). (¬4) رواه مسلم (1005) عن حذيفة -رضي الله عنه-، ورواه البخاري (5675) عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-. (¬5) لم يروه البخاري، وإنما رواه الترمذي (1970) عن جابر -رضي الله عنهما-، وقال: حسن.

فصل

فصل وأما ثواب المعروف في الآخرة، فروي عن أنس بن مالك، قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ، جَمَعَ الله -عَزَّ وَجَلَّ- أَهْلَ الجَنَّةِ صُفُوفاً، وَكَذَا أَهْلَ النَّارِ، فَنَظَرَ الرَّجُلُ مِنْ صُفُوفِ أَهْلِ النَّارِ إِلَى الرَّجُلِ مِنْ صُفُوفِ أَهْلِ الجَنَّةِ، فَيَقُولُ: يا فُلان! ما تَذْكُرُ يَوْماً اصطَنعتُ إِلَيْكَ فِيهِ معرُوفاً؟!، قَالَ: فَيُقَالُ: خُذْ بِيَدهِ فَأَدخِلْهُ الجَنَّةَ" (¬1). * * * فصل وعلى المؤمن أن يكافئ ولو بالشكر. رُوي عن [ابن] عمرَ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "مَنْ أتى إِلَيْكم مَعرُوفاً، فَكَافِئُوهُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا ما تكافِئُونَهُ بِهِ، فَادعُوا لَهُ، حتىَ تَعلَمُوا أَنْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ" (¬2). سبحانَ مَنْ كسر الخلائق أجمعين، ويميز بين من يصدق ويبين، ويصير في ذات الشمال وذات اليمين، فهؤلاء [مع] حزب الشيطان اللعين، وهؤلاء مع الولدان والعين، {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزمر: 75]. • • • ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي الدنيا في "قضاء الحوائج" (19)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (7687). (¬2) رواه أبو داود (1672)، والنسائي (2567)

الفصل الثاني في ذم الغيبة والنميمة

الفصل الثّاني في ذم الغيبة والنميمة قَالَ تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ} [الحجرات: 11]. قوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ} [الحجرات: 12]. قال ابن عباس: نهى المؤمن أن يظنَّ بالمؤمن (¬1) شراً (¬2). وقال الزجَّاج: هو أن يظن بأهل الخير سوءاً، {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ} [الحجرات: 12]. ثم قال بعض العلماء: يأثم بنفس ذلك الظن، وإن لم ينطق به (¬3). {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [الحجرات: 12]. عن أبي هريرة قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يؤتَى بِالرَّجُلِ الَّذِي يَغْتَابُ النَّاسَ في الدُّنْيَا، فَيُقَالُ لَهُ: كُلْ لَحمَ أَخِيكَ مَيْتاً كَما أَكَلْتَهُ حَيّاً" (¬4)، وذلك قولُه ¬

_ (¬1) في الأصل: "الموت". (¬2) رواه الطبري في "تفسيره" (26/ 135). (¬3) انظر: "زاد المسير" لابن الجوزي (7/ 469 - 471). (¬4) رواه الطبراني في "المعجم الأوسط" (5853).

تعالى: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا} [الحجرات: 12]. عن جابر: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "الغِيبَةُ أَشَدُّ مِنَ الزِّنَا" قالَوا: يا رسولَ الله! كيف؟ قَالَ: "إِنَّ الرَّجُلَ يَزْني، فَيَتُوبُ، فَيَتُوبُ الله عَلَيْهِ، وَأَما صَاحِبُ الغِيبَةِ لا يَغْفِرُ لَهُ حَتَّى يَغْفِرَ لَهُ صَاحِبُهُ" (¬1). قيل للربيعِ بن خُثَيم: ما نراك تَعيبُ أحداً، ولا تذمُّه. فقَالَ: ما أنا عن نفسي براض (¬2). روي عن أنسِ بن مالكٍ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عبد حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، وَلا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ" (¬3). سبحانَ من خلق سعيداً وشقياً، وعاصياً وتقياً، وأحضر جهنم متهماً وبريئاً، {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا}. جمع [...] وفرق على الفريقين رياً، [...] وجعل التقي [...]، ويصير الشقي عَمِيَّاً، فسلَّم مطيعا، وأهلك عصياً، {وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} [مريم: 72]. • • • ¬

_ (¬1) رواه الطبراني في "المعجم الأوسط" (6590). (¬2) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (2/ 110). (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 198)

الفصل الرابع عشر

الفصل الرّابع عشر وفيه فصلان: الفصل الأول: في كسر شهوة البطن. الفصل الثاني: كسر شهوة الفرج.

الفصل الأول ذكر كسر شهوة البطن

الفصل الأوّل ذكر كسر شهوة البطن قَالَ بعض السلف: من أكل كثيراً، شربَ كثيراً، ومن شرب كثيراً، نام كثيراً، ومن نام كثيراً، فاته خير كثير. عن أبي هريرةَ: قالَ النبى - صلى الله عليه وسلم -: "الكَافِرُ يَأْكُلُ في سَبْعَةِ أَمعَاءٍ، وَالمُومِنُ يَأْكُلُ في مِعًى وَاحِدٍ" (¬1). عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "طَعَامُ اثنيْنِ كَافٍ ثَلاثَةً، وَطَعَامُ ثَلاثَةٍ كَافٍ أَربَعَةً" (¬2). والأكلُ على مقام القدر يصلح البدنَ، ويبطل المرض، ويقلل النوم، ويخفف موته، ويَرِد القلبَ ويُصَفِّيه. • • • ¬

_ (¬1) رواه البخاري (5081)، ومسلم (2061) عن ابن عمر -رضي الله عنهما-. (¬2) رواه البخاري (5077)، ومسلم (2058) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.

الفصل الثاني في ذكر كسر شهوة الفرج

الفصل الثّاني في ذكر كسر شهوة الفرج عن [أسامةَ بنِ] زيدٍ: [أن] النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما تَرَكْتُ بَعدِي فِتنةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ" (¬1). عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "ما مِنْ ذَنْبٍ -بَعدَ الشِّركِ بِالله- أَعظَمَ مِنْ نُطْفَةٍ وَضَعَها رَجُلٌ في رَحِمٍ لا يَحِلُّ لَهُ" (¬2). عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قالَ: "يا مَعشَر العُزَّابِ! مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ البَاءَةَ، فَلْيَتزوَّجْ؛ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلبَصَرِ، وَأَحصَنُ لِلفَرْجِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِع، فَعَلَيْهِ بِالصِّيَامِ" (¬3). لما تلتحق الطباع إِلَى الدنيا صابية، رفضوها عن عزيمة أبية، ثنوا قلوبهم إِلَى الدار النائية، ورأوها بعين اليقين دانية، فآثر [و] ها على ¬

_ (¬1) رواه البخاري (4808)، ومسلم (2741). (¬2) رواه ابن أبي الدنيا، عن الهيثم بن مالك الطائي مرسلاً، كما ذكر المناوي في "فيض القدير" (5/ 479). (¬3) رواه البخاري (4779)، ومسلم (1400) عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-.

الحقيرة والفانية، يطلبون العيشة الهانية، هِمُمُهم ليس متدانية، تنهض نهوضَ السباع الضارية، سارية عن عاداتها، منتصبة في عباداتها كالسارية، كانوا يقومون والليالي داجية، قيامَ نفس خائفةً راجية، يسهرون طولَ الليالي الشاتية، يستعدون للصيحة الآتية.

الفصل الخامس عشر

الفصل الخامس عشر وفيه فصلان: الفصل الأول: في ذم الدنيا. الفصل الثاني: في ذم الأمل.

الفصل الأول في ذم الدنيا

الفصل الأوّل في ذم الدنيا قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "والله! ما الدُّنْيا في الآخِرَةِ إِلا مِثْلُ ما يَجْعَلُ أَحَدُكُم إِصْبَعَهُ هذهِ في اليَمِّ، فَلْيَنْظُر بِمَ يَرجِعُ؟ "، وأشار بالسبابة (¬1). عن المستورِدِ، قال: كنتُ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إذ بسخلةٍ منبوذةٍ، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أترَوْنَ هذهِ هَانَتْ عَلَى أَهْلِها؟ "، فقالَوا: يا رسول الله! مِنْ هوانها ألقَوْها، قال: "فَوَالَّذِي نَفسُ مُحَمَّدٍ بِيَدهِ! الدُّنْيا أَهْوَنُ عَلَى الله مِنْ هذهِ عَلَى أَهْلها" (¬2). قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "الدُّنْيا سِجْنُ المُؤمِنِ، وَجَنَّةُ الكَافِرِ" (¬3). وعن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: "إِنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- لَيحمِي عَبْدَهُ المُومِنَ مِنَ الدُّنْيا وهو يحبُّه كَما تَحمُونَ مَرِيضَكُم مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ" (¬4). ¬

_ (¬1) رواه مسلم (2858)، عن المستورد -رضي الله عنه-. (¬2) رواه الترمذي (2321)، وابن ماجه (4111). (¬3) رواه مسلم (2956) عن أبي هريرة -رضي الله عنه-. (¬4) رواه الإمام أحمد في "المسند" (5/ 427) عن محمود بن لبيد -رضي الله عنه-.

وروى أبو موسى: عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "مَنْ أَحَبَّ دُنْيَاهُ، أَضَرَّ بِآخِرَتهِ، وَمَنْ أَحَبَّ آخِرَتَهُ، أَضَرَّ بِدُنْيَاهُ" (¬1). لقد وعظَكَ الدهرُ بمرور الأيام والشهور، ورأيتَ الحزنَ عقيبَ السرور، وعلمتَ أن الزمان بأهله معثور، وتيقنتَ أن آخر الأمرِ القبور، {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد: 20]. ¬

_ (¬1) رواه ابن حبان في "صحيحه" (759)، والحاكم في "المستدرك" (7853). 173

الفصل الثاني في ذم الأمل

الفصل الثّاني في ذم الأمل عن أنس، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "يَهْرَمُ ابن آدَمَ، وَيَبْقَى فِيهِ خَصْلَتَانِ: الحِرْصُ، وَطُولُ الأمَلِ" (¬1). وقد أمرَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بتقصير الأمل. عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: "يَحيَا أَوَّلُ هذهِ الأمَّةِ بِاليَقِينِ وَالزُّهْدِ، وَيَهْلِكَ آخِرُها بِالبُخْلِ وَالأمَلِ" (¬2). وجدوا حجراً منقوراً فيه مكتوب: ابن آدمَ! إنك لو رأيتَ قريبَ ما بقيَ من أجلك، لزهدت في طولِ أملِك، ولرغبتَ في الزيادةِ من عملك، ولقصرتَ من حرصِك وحِيَلِك، وإنما يلقاك غداً ندمُك، ولو قد زلَّتْ قدمُك، وأسلمكَ أهلُك وحشَمُك، فبان منك الولدُ القريب، ورفضك الوالدُ والنسيب، فلا أنتَ إِلَى دنياك عائد، ولا في حسناتك ¬

_ (¬1) رواه البخاري (6058)، ومسلم (1047)، واللفظ له. (¬2) رواه ابن أبي الدنيا في "قصر الأمل" (20)، والطبراني في "المعجم الأوسط" (7650)، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما-.

زائد، فاعمل ليوم القيامة، قبلَ السيرة والندامة. هذا آخره. قُلْ لِلمُؤَمِّلِ وَالمَنَايا شُرَّعٌ ... مَاذَا يَغُرُّكَ أينَ مَنْ لَمْ يَخْلُدِ يا بْنَ الَّذِينَ تَقَطَّعَتْ أَوْصَالُهُمْ ... تَرْجُو التقَاءَ وَأَنْتَ غَيْرُ مُخَلَّدِ وَأبوكَ قَبْلَكَ كَانَ يَأْمُلُ ما ترَى ... حَتَّى أتتْهُ مَنِيَّةٌ لَمْ تُرْدَدِ لَوْ رأيتَ الفاجرَ يومئذٍ قد أسر، وَغُلَّ بعدَ الإطلاق، وحُبِس وقسر، ولِما ربح المتقون حُسر، {يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ}. عرض على العاصي ما كُتب وسُطر، وذلَّ ذاك المتجبرُ البَطِر، وودَّ لو أنّه عاد كما فُطر، {يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} [القمر: 8].

الفصل السادس عشر

الفصل السادس عشر فيه ثلاثة فصول: الفصل الأول: في ذم البخل. الفصل الثاني: في ذم الحسد. الفصل الثالث: في ذم الغضب.

الفصل الأول في ذم البخل

الفصل الأوّل في ذم البخل قال الله تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 180]. عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه كان يقول: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الجُبْنِ وَالبُخْلِ" (¬1). عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "اتَّقُوا الشّحَّ، فَإِنَّ الشّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكم، حَمَلَهُم عَلَى أَنْ يَسْفِكُوا دِمَاءَهُمْ، وَيَسْتَحِلُّوا مَحَارِمَهُمْ" (¬2). * * * مسألة إن قيل: البخلُ والشحّ واحد؟ ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (1539)، والنسائي (5481)، وابن ما جه (3844)، من حديث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-. (¬2) رواه مسلم (2578)، عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-.

مسألة

فالجواب: أنه يعبر بهذا عن هذا. قَالَ الخطابي: الشحّ أبلغُ، فهو بمنزلة الجنسِ، والبخلُ بمنزلة النوعِ، والبخلُ: في أفرادِ الأمور، والشحُّ عام. وقَالَ بعضهم: البخلُ: أن يبخل بماله، والشحُّ: أن يبخل بماله ومعروفه (¬1). * * * مسألة فإن قيل: ما البخلُ المذموم؟ فالجواب: إن قوماً حَدُّوه بمنع الواجب، وإنما أرادوا البخل الذي يقع عليه العقوبة، ومن أدى الواجب يسلف من العقوبة، والله كريم يحبُّ الكريم؛ جواد يحب الجواد. روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه كان أجودَ من الريحِ المرسَلَة (¬2). • • • ¬

_ (¬1) انظر: "زاد المسير" لابن الجوزي (8/ 215). (¬2) رواه البخاري (6) عن ابن عباس -رضي الله عنهما-.

الفصل الثاني في ذم الحسد

الفصل الثّاني في ذم الحسد روي عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أنّه قال: "لا تَحَاسَدُوا، وَلا تَبَاغَضُوا، وَلا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا -عِبَادَ الله- إِخْوَاناً" (¬1). وروي عن أنسٍ: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "الحَسَدُ يَأْكُلُ الحَسَنَاتِ كَما تَأْكُلُ النَّارُ الحَطَبَ" (¬2). وقيل: إن رجلاً انقطعَ إلى بعض [الكرماء]، فأتحفه بشحمه، وكفاه مؤنَتَه، فبَطِرَ النعمةَ، وسعى بذلك الكريم إلى الأمير، فأرسل إليه الأميرُ، فأخبره بما نقل عنه، فانكسر، فقَالَ: فلان يخبر عنك بذلك، فسكت متعجباً! فقال الأمير: مالك؟ فقال: أخاف أن أكونَ قصَّرت في الإحسان إليه، فحملَه ذلك على مساوئ أخلاقه. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (2563) عن أبي هريرة -رضي الله عنه-. (¬2) رواه ابن ماجه (4210).

مسألة

فقال له الأمير: سبحان الله! أعجب ما بينكما في الطبع، أنت تحنو عليه، وهو يسعى في سفكِ دمك، أشهدُ إنك لكريم، وإنَّه للئيم. ذكر ابن الجوزي هنا مسألة؛ فقال: إن قال قائل: الحسدُ أمرٌ باطن، فكيف السبيلُ إِلَى زواله؟. فالجواب: أن الآدمي قد جُبل على حب الرفعة، فلا يحب أن يعلو أحدٌ عليه في نعمة من نعم الله تعالى، فإذا على عليه أحدٌ، شَقَّ عليه، وأحبَّ زوال ما على به. * * * مسألة فإن قيل: هل للحسد دواء؟ فالجواب: إنّ الحسد أولاً يضرُّ الحاسدَ في الدين والدنيا، ولا يستضر بذلك المحسود. [أَلا] أَيُّها القَلْبُ الكَثيرُ عَلائِقُهْ ... ألم تَرَ أَنَّ الدَّهْرَ تَجْرِي بَوَائِقُهْ تُسَابِقُ رَيْبَ الدَّهْرِ فى طَلَبِ المُنَى ... بِأَيِّ جَنَاح خِلْتَ أَنّكَ سَابِقُهْ أَلا أَيُّها البَاكِي عَلَى المَيْتِ بَعْدَهُ ... رُوَيْدَكَ لا تَعْجَلْ فَإِنَّكَ لاحِقُهْ

وَما تَخْطَفُ السَّاعَاتُ إِلاَّ عَلَى الفَتى ... تُعَافِصُهُ طَوْراً وَطَوْراً تُسَارِقُهْ أَرَى صَاحِبَ الدُّنْيا مُقِيماً بِجَهْلِهِ ... عَلَى ثِقَةً مِنْ صَاحِبٍ لا يُوَافِقُهْ هِيَ الدَّارُ دَارٌ يُسْتَذَلُّ عَزِيزُها ... وَإِنْ كَانَ مَغْشِياً عَلَيْهِ سُرَادِقُهْ قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تزُولُ قَدَما امرِىءٍ حَتَّى يُسْأَلَ: عَنْ عُمُرهِ فِيما أَفْنَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيما فَعَلَ فيهِ، وَعَنْ مَالِهِ فِيما فَعَلَ فِيهِ، وَمِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيما أَبْلاهُ" (¬1). • • • ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (2417) عن أبي برزة الأسلمي -رضي الله عنه-.

الفصل الثالث في ذم الغضب

الفصل الثّالث في ذم الغضب قَالَ الله -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} [الشورى: 37]. عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "إِنَّ الغَضَبَ جَمْرَة في قَلْبِ ابن آدَمَ، أَلا تَرَوْنَ إِلَى حُمرَةِ عَيْنَيْهِ، وَانْتِفَاخِ أَوْدَاجِهِ؟ " (¬1). قال القاضي: يُستحب لمن غضب: إن كان قائماً، جلس، كان كان جالساً، اتكأ. عن أبي هريرةَ، قال: أتى إِلَى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - رجل، فقَالَ: أوصني، قَالَ: "لا تَغْضَبْ"، فردَّد مراراً، قَالَ: "لا تَغْضَبْ" (¬2). عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "مَنْ كَفَّ غَضَبَهُ، سَتَرَ الله عَوْرتَهُ" (¬3). عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "ما تَرَجَّى عبد رَجْوَى أَفْضَلَ عِنْدَ الله مِنْ حَبْسِ غَضَبِهِ". ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (2191) عن أبي سعيد -رضي الله عنه-. (¬2) رواه البخاري (5765). (¬3) رواه الطبراني في "المعجم الأوسط" (6026) عن ابن عمر -رضي الله عنهما-.

خُذْ ما صَفَا لَكَ فَالحَيَاةُ غُرُورُ ... وَالمَوْتُ آتٍ وَاللَّبِيبُ خَبِير لا تَعتبَنَّ عَلَى الزَّمَانِ فَإِنَّه .... فَلَكٌ عَلَى قُطْبِ الهلاكِ يَدُورُ إذ لقي الفاجرُ ملائكةً صِعابا، وشاهدَ النار تلهَّبُ التهابا، وسئل ولم نسمع لهذا العتاب جوابا، فتلقته سهامٌ ما زالت صِيابا، قَالَ بلسان الحسرة وقد صار له دابا: {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا} [النبأ: 40].

الفصل السابع عشر

الفصل السابع عشر وفيه فصلان: الفصل الأول: في مكائد الشيطان. الفصل الثاني: في التحذير من الغرور.

الفصل الأول في مكائد الشيطان

الفصل الأوّل في مكائد الشيطان قال الله- عز وجل-: {إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا} [الإسراء: 53]. الشيطان: اسم لكل متمرد. قَالَ أبو عبيدة: من الجن والإنس، والدواب، واختلفوا: هل نونُ الشيطان أصلية، أم زائدة؟ على قولين. المراد بالشيطان هاهنا: إبليس. فى "الصحيحين": عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنِ ابن آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ" (¬1). كانت رابعةُ تقول: أما أنت أيام معدودة، فإذا ذهب، يوشك إذا ذهب البعض أن يذهب الكل. إخواني! هذا العدو الذي أخرج أباكم من الجنة، فإنه ساعٍ في ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1934)، ومسلم (2175) عن صفية -رضي الله عنها-.

منعكم منها بكل سبيل، والعداوة بينكم وبينه قديمة، فإياكم منه! فلا تجعلوا له عليكم سبيلاً. وأنشد يعضهم: فَحَيَّ عَلَى جَنَّاتِ عَدنٍ فَإِنَّها ... مَنَازِلُكَ الأولَى وَفِيها المُخَيَّمُ وَلكننَا سَبْيُ العَدُوِّ فَهلْ تُرَى ... نَعُودُ إِلَى أَوْطَانِنَا وَنُسَلَّمُ

الفصل الثاني في التحذير من الغرور

الفصل الثّاني في التحذير من الغرور عن ابن مسعودٍ: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قرأ: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} [الأنعام: 125]، قيل: وكيف ذلك؛ قال: "يُدخِلُ النُّورَ في قَلْبِهِ، فَيَنْفَتِحُ لَهُ"، قيل: وما علامة ذلك؟ قال: "التَّجَافِي عَنْ دَارِ الغُرُورِ، وَالإنَابَةُ إِلَى دَارِ الخُلُودِ، وَالاِسْتِعْدَادُ لِلمَوْتِ قَبْلَ نزولِهِ" (¬1). قَالَ أبو الجواد المغربي: كنت ببيت المقدس جالساً، وإذا قد طلع شابّ، والصبيان حوله يرمونه بالحجارة، ويقولون: مجنون، فدخل المسجد، وجعل ينادي: اللَّهُمَّ أَرِحْني من هذه الدار، فقلت له: هذا كلام حكيم. فقَالَ: ليس بي جنون وولق، بل قَلَق وفَرَق، ثم أنشأ يقول: هجَرتُ الكِرَى في حُبِّ مَنْ جَادَ بِالنِّعم ... وَعِفْتُ الكَرَى شَوْقاً إِلَيْه فَلَمْ أَنَمْ ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي الدنيا في "قصر الأمل" (131)، والحاكم في "المستدرك" (7863).

ومَوَّهْتُ دَهْرِي بِالجُنُونِ عَنِ الهوَى ... لِأكتُمَ ما بِي مِنْ هوَاهُ فَما انكتَمْ فَلَمَّا رَأَيْتُ الشَّوْقَ وَالحُبَّ بَائِحا ... كَشَفْتُ طِبَاعِي ثُمَّ قُلْتُ نَعَمْ نَعمْ فَإِنْ قِيلَ مَجْنُونٌ فَقَد جَنَّنِي الهوَى ... وَإِنْ قِيلَ مِسْقَامٌ فَما بِيَ مِنْ سَقم وَحَقِّ الهوَى وَالحُبِّ وَالعَهْدِ بَيْنَنَا ... وَحُرْمَةِ رُوحِ الأنْسِ في حِنْدِسِ الظُّلَمْ لَقَد لامَنِي الوَاشُونَ فِيكَ جَهالَةً ... فَقُلْتُ لِطَرفي أَفْصَحَ العُذْرُ فَاحْتَشَمْ فَعَاتَبَهم طَرْفي بِغَيْرِ تَكَلُّمٍ ... وَأَخْبَرَهُم أَنَّ الهَوَى يُورِثُ السَّقَمْ فَبِالحِلْمِ يا ذَا المَنِّ لا تُبْعِدَنَّنِي ... وَقَرِّبْ مُرَادِي مِنْكَ يا بَارِئَ النَّسم فقلت له: أحسنتَ، لقد غلطَ من سَمَّاك مجنوناً، فنظر إلي وبكى، وقال: أَوَ لا تسألني عن القوم كيف وصلوا فاتصلوا؟ قلت: بلى، أخبرني. فقال: طَهَّروا الأخلاق، ورضُوا منه بيسير الأرزاق، وهاموا من محبته في الآفاق، واتَزّرَوا با لصدق، وارتَدَوْا بالإشفاق، وشَمَّروا تشمير الجهابذة الحُذَّاق، حَتَّى اتصلوا بالواحدِ الرزَّاق، فشرَّدَهم في الشواهق، وغيبهم عن الخلائق، لا تُؤويهم دار، ولا يقرهم قرار، فالنظر إليهم اعتبار، ومحبتُهم افتخار، وهم صفوةُ الأبرار، ورهبانٌ أخيار، مدحَهم

الجبار، ووصفهم النبيُّ المختار، إن حضروا، لم يعرفوا، وإن غابوا، لم يفتقدوا، كان ماتوا، لم يشهدوا. ثم أنشأ يقول: كُنْ مِنْ جَمِيعِ الخَلْقِ مُسْتَوْحِشاً ... مِنَ الوَرَى تَسْرِي إِلَى الحَقِّ وَاصْبرْ فَبِالصَّبْرِ تنالُ المُنَى ... وَارضَ بِما يَجْرِي مِنَ الرِّزْقِ وَاحْذَز مِنَ النُّطْقِ وَآفَاتِه ... فَاَفَةُ المُؤمِنِ في النُّطْقِ وَجِدَّ في السَّيْرِ مُجِدَّاً كَما ... شَمَّرَ أَهْلُ السَّبْقِ لِلسَّبْق أولئك الصَّفْوَةُ مِمَّنْ سَمَا (¬1) ... وَخِيرَةُ الله مِنَ الخَلْق قَالَ: فأنسيت الدنيا عند حديثه، ثم ولى هارباً، فأنا متأسفٌ عليه. يا مَنْ جمعَ الأموال ورباها، وأقرضَها، ثم أكل رِباها، وعلا من المحرمات على رُباها، وافتخر بماله وجمعَه وباهى، كأنك بأشلائِك والقبرُ قد حواها، والترابُ قد أكلها وأبداها، {يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} [الكهف: 49]. • • • ¬

_ (¬1) في الأصل: "تسمى".

الفصل الثامن عشر

الفصل الثّامن عشر وفيه فصلان: الأول: في ذكر الموت. والثاني: في ذكر القيامة.

الفصل الأول

الفصل الأوّل وفيه فصلان: الفصل [الأول]: في ذكر الموت. الفصل الثاني: في ذكر القبر.

الفصل [الأول] في ذكر الموت

الفصل [الأوّل] في ذكر الموت عن أبي هريرةَ، قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَكْثِروا ذِكْرَ هادِمِ اللَّذَّات" (¬1) قَال الربيعُ بن أبي راشدٍ: لو فارق ذكرُ الموت قلبي، لفسدَ (¬2). قال مجاهد: ما من ميتٍ إلا عُرض عليه جلساؤه، إن كانوا أهلَ، أو كانوا أهلَ لهوٍ (¬3). ويجتمع على ابن آدم ستُّ شدائد: الشدة الأولى: مفارقةُ المالِ والولدِ والدنيا. الشدة الثانية: [.........] الأعمال. الشدة الثالثة: حسراتُ الفوت حين لا يمكن الاستدراك، وهي أشدُّ شدة. ¬

_ (¬1) رواه النسائي (1824)، والترمذي (2307)، وابن ماجه (4258). (¬2) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (5/ 75). (¬3) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (34977).

الشدة الرابعة: معاينة المَلَك، وهي حالة عظيمة. الشدة الخامسة: ألمُ الموت، ومنها قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ لِلمَوْتِ سَكَرَاتٍ" (¬1). الشدة السادسة: نزولُه القبر، وسؤاله. وفي الآخرة، وفيه أربعة شدائد: الشدة الأولى: القيامُ من قبورهم، وما يقع بهم من العَرَقِ وشخوصِ الأبصار. الشدة الثانية: الحساب. الشدة الثالثة: المرور على الصراط. الشدة الرابعة: الميزان. المَوْتُ بحرٌ هائِلٌ مَوْجُهُ ... تَضِلُّ فيهِ حِيلَةُ السَّابِحِ لا يَنْفَعُ الإنْسَانَ في قَبْرِهِ ... غيرُ (¬2) التُّقَي وَالعَمَلِ الصَّالِحِ كان سليمانُ التيميُّ إذا مات في الحي ميتٌ، لم ينم تلك الليلةَ. وكان يحيى بن أبي كثيرٍ إذا شاهدَ جنازةً، لم يَتَعَشَّ تلك الليلةَ. (1) ¬

_ (¬1) رواه البخاري (4184) عن عائشة -رضي الله عنها-. (¬2) في الأصل: "إلا" بدل "غير".

إِخْوَاني! تذكروا ما لا ينساكم، وتفكروا فيما لابدَّ يلقاكم، وعمِّروا القبور، فإنّها مأواكم، وأخروا الغرور، فكم غرَّ دنياكم، واعتبروا بمن سواكم بسواكم. دخل سابقٌ البربريُّ على عمرَ بن عبد العزيزِ، فقال له: عِظْني وازجر، فأنشده: إِذَا أَنْتَ لمَ ترحَلْ بِزَادٍ مِنَ التُّقَى ... وَوَافَيْتَ بَعْدَ المَوْتِ مِنْ قَدْ تَزَوَّدَا نَدِمتَ عَلَى أَنْ لا يمُونَ شَرِيكَه ... وَأَرصَدتَ قَبْلَ المَوْتِ ما كَانَ أَرصَدَا فبكى عمرُ، وسقط مغشياً عليه.

الفصل الثاني في ذكر القبر

الفصل الثّاني في ذكر القبر قال ابن الجوزيِّ: أخبرنا هبةُ الله بن محمدٍ: أخبرنا الحسنُ بن عليِّ التميميُّ: أخبرنا أحمدُ بن جعفرٍ: حدثنا عبد الله بن أحمدَ: حدثنا أبي: حدثنا أبو معاويةَ: حدثنا الأعمشُ، عن المنهالِ بن عمرَ، عن زاذانَ، عن البراءِ بن عازبٍ، قال: خرجنا معَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في جنازة رجل من الأنصار، فانتهينا إلى القبر، ولَمَّا يُلْحَد، فجلسَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وجلسنا حولَهُ كأنّ على رؤوسنا الطيرَ، وفي يده عودٌ ينكُتُ به الأرضَ، فرفع رأسَه فقالَ: "اسْتَعِيذُوا بِالله مِنْ عَذَابِ القَبْرِ -مرتين، أو ثلاثاً-". ثم قال: "إِنَّ العَبْدَ المُومِنَ إِذَا كَانَ في انْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيَا، وَإِقْبَالٍ مِنَ الآخِرَةِ، نزلَ إِلَيْهِ مَلائِكَةٌ مِنَ السَّمَاءِ بِيضُ الوُجُوهِ، كَأَنَّ وُجُوههُمُ الشَّمسُ، مَعَهُم كَفَنٌ مِنْ أَكْفَانِ الجَنَّةِ، وَحَنُوطٌ مِنْ حَنُوطِ الجَنَّةِ حَتَّى يَجْلِسُوا مِنْهُ مَدَّ البَصَرِ، ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ المَوْتِ حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَيَقُولُ: أَيَّتها النَّفْسُ الطيِّبَةُ! اخْرُجِي إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنَ الله وَرِضْوَانٍ، قَالَ: فَتَخْرُجُ تَسِيلُ كَما تَسِيلُ القَطْرَةُ مِنْ فِي السِّقَاءِ، فَيَأْخُذُها، فَإِذَا أَخَذَها،

لَمْ يَدَعها في يَدِهِ طَرفَةَ عَيْنٍ حَتَّى يَأْخُذُوها، وَيَجْعَلُوها في ذلك الكَفَنِ وَالحَنُوطِ، وَيَخْرُجُ مِنْها كَأَطْيَبِ نَفْحَةِ مِسْكٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الأرضِ". قَالَ: "فَيصعَدُونَ بِها، فَلا يَمُرّونَ بِها عَلَى مَلا مِنَ المَلائِكَةِ إِلا قَالُوا: ما هذا الرّوحُ الطَّيِّبُ؟ فَيَقُولُونَ: فُلانُ ابن فُلانٍ، بِأَحسَنِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانُوا يُسَمُّونَهُ بِها في الدّنْيَا، حَتَّى يَنْتَهُوا بِها إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَسْتَفْتِحُونَ لَهُ، فَيُفْتَحُ لَهُ، فَيُشَيِّعُهُ مِنْ كُلِّ سَمَاءٍ مُقَرَّبُوها إِلَى السَّمَاءِ الَّتِي تَلِيها حَتَّى يُنْتَهى بِها إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، فَيَقُولُ الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: اكْتبوا كِتَابَ عَبْدِي في عِلِّيِّينَ، وَأَعِيدُوهُ إِلَى الأرضِ، فَإِنِّي مِنْها خَلَقْتُهُم، وَفِيةا أُعِيدُهم، وَمِنْها أُخْرِجُهُم تَارة أُخْرَى". قال: "فَتُعَادُ رُوحُهُ في جَسَدِهِ، فَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ، فَيُجْلِسَانِهِ، فَيَقُولانِ لَهُ: مَنْ ربكَ؟ فَيَقُولُ: الله ربي، فَيَقُولانِ لَهُ: ما دِينُكَ؟ فَيَقُولُ: دِينيَ الإسْلامُ. فَيَقُولانِ لَهُ: ما هذا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُم؟ فَيَقُولُ لَهُ: هُوَ رَسُولُ الله. فَيَقُولانِ لَهُ: ما علّمك؟ فَيَقُولُ: قَرَأْتُ كِتَابَ الله، فآمَنْتُ بِهِ وَصَدَّقْتُ، فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ: أَنْ صَدَقَ عَبْدِي، فَأَفْرِشُوهُ مِنَ الجَنَّةِ، وَأَلْبِسُوهُ مِنَ الجَنَّةِ وَافْتَحُوا لَهُ بَاباً إِلَى الجَنَّةِ". قَالَ: "فَيَأْتِيهِ مِنْ رَوْحِها وَطِيبِها، وُيفْسَحُ لَهُ في قَبْرِهِ مَدَّ بَصَرِهِ". قَالَ: "وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ حَسَنُ الوَجْهِ، حَسَنُ الثّيَابِ، طَيِّبُ الرِّيح،

فَيَقُولُ: أَبْشِر بِالَّذِي يَسُرُّكَ، هذا يُوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ، فَيَقُولُ لَهُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَوَجْهُكَ الوَجْهُ الَّذِي يَأْتِي بالخَيرِ، فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الصَّالح، فَيَقُولُ: رَبِّ أَقِمِ السَّاعَةَ، حَتَّى أًرجِعَ إِلَى أَهْلِي وَمَالِي". قَالَ: "وَإِنَّ العَبْدَ الكَافِرَ إِذَا كَانَ في انْقِطَاع مِنَ الآخِرةِ، وَإِقْبَالٍ مِنَ الدُّنْيَا، نزَلَ إِلَيْهِ مَلائِكَة مِنَ السَّمَاءِ سُودُ الوُجوهِ، مَعَهُمُ المُسُوحُ، فَيَجْلِسُونَ مِنْهُ مَدَّ البَصَرِ، ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ المَوْتِ حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَيَقُولُ: أَيتُها النَّفْسُ الخَبِيثَةُ! اخْرُجِي إِلَى سَخَطٍ مِنَ الله وَغَضَبٍ". قال: "فَتُفَرَّقُ في جَسَدِهِ، فَيَنْتَزِعها كَما يُنْتزعُ السَّفُودُ مِنَ الصُّوفِ المَبْلُولِ، فَيَأْخُذُها، فَإِذَا أَخَذَها، لَمْ يَدَعُوها في يَدِهِ طَرفَةَ عَيْنِ، حَتَّى يَجْعَلُوها في تِلْكَ المُسُوحِ، وَيَخْرُجُ مِنْها كَأَنْتَنِ [رِيح] جِيفَةٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ، فَيَصعَدُونَ بِها، فَلا يَمُرُّونَ بِها عَلَى مَلأ مِنَ المَلائِكَةِ إِلا قَالُوا: ما هذا الرُّوحُ الخَبِيثَةُ؟! فَيَقُولُونَ: فُلانُ ابن فُلانٍ بِأَقْبَحِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانُوا يُسَمُّونَهُ بِها في الدُّنْيَا، حَتَّى يُنْتهى بِهَا إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيُسْتَفْتَحُ لَهُ، فَلا يُفْتَحُ لَهُ". ثم قرأ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: {لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف: 40]. "فَيَقُولُ الله -عَزَّ وَجَلَّ-: اكْتبوا كِتَابَهُ في سِجِّينٍ في الأرْضِ السُّفْلى فَتُطْرَح رُوحُهُ طَرحاً". ثم قرأ: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 31].

"فَتُعَادُ رُوحُهُ في جَسَدِهِ، وَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ، فَيُجْلِسَانِهِ، فَيَقُولانِ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: هاهْ، هاهْ، لا أَدرِي. فَيَقُولانِ لَهُ: ما دِينُكَ؟ فَيَقُولُ: هاهْ، هاهْ، لا أَدْرِي. فَيَقُولانِ لَهُ: ما هذا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمُ؟ فَيَقُولُ: هاهْ، هاهْ، لا أَدْرِي. فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ: أَنْ كَذَبَ عَبْدِي، فَأفرِشُوه في النَّارِ، وَافْتَحُوا لَهُ بَاباً إِلَى النَّارِ، فَيَأْتِيهِ مِنْ حَرِّها، وَسَمُومِها، وَيَضِيقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ حَتَّى تَخْتَلِفَ فِيهِ أَضْلاعُهُ، وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ قَبِيحُ الوَجْهِ، قَبِيحُ الثّيَابِ، مُنْتِنُ الرِّيحِ، فَيَقُولُ: أَبْشِر بِالَّذِي يَسُوءُكَ، هذا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ، فَيَقُولُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَوَجْهُكَ الوَجْهُ الَّذِي يَجيءُ بِالشَّرِّ، فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الخَبِيثُ، فَيَقُولُ: رَبِّ! لا تُقِم السَّاعَةَ" (¬1). إِخْوَانِي! لقد وعظَ الزمانُ وما قَصَّر، وتكلمَ الصامتُ وما أَقْصَر، ولاح الهدى، وإنَّما الشأنُ فيمن أبصر. روى أبو بكرٍ القرشيُّ: أنّ رجلا كان يحفر القبور بالبصرة، قَالَ: فحفرتُ قبراً، ووضعت رأسي قريباً منه، فأتتني امرأتان في منامي، فقَالَت إحداهما: نشدتُكَ الله إلا صرفتَ عنا هذه المرأةَ، ولم تجاورني ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 287).

بها، فاستيقظتُ فَزِعاً، فإذا جنازةُ امرأةٍ قد جيء بها، وصرفْتُهم إِلَى غير ذلك القبر، فلما كان الليل، إذا أنا بامرأتين في منامي، تقول لي إحداهما: جزاك الله عنا خيراً، صرفْتَ عنا شراً طويلاً، قلت: ما بالها صاحبتُك لا تكلمني كما تكلمينني أنت؟ قالت: إنَّ هذه ماتت على غير وصيةٍ، وحقَّ لمن ماتَ على غيرِ وصيةً أن لا يتكلمَ إِلَى يوم القيامة. تناجِيكَ أَجْدَاثٌ وَهُنَّ سُكُوتُ ... وَسُكَّانُها تَحتَ التُّرَابِ خُفُوتُ فيا (¬1) جَامِعَ الدُّنْيا لِغَيْرِ بَلاغَةً ... لِمَنْ تَجْمَعُ الدُّنْيا وَأَنْتَ تَمُوتُ وقرئ على قبرٍ: مُقِيمٌ إِلَى أَنْ يَبْعَثَ الله خَلْقهُ ... لِقَاؤُكَ لا يُرْجَى وَأَنْتَ قَرِيبُ تَزِيدُ بَلاً في كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةً ... وَتنسَى كَما تَبْلَى وَأَنْتَ حَبِيبُ وقرئ على قبرٍ آخر: يَمُرُّ أَقَارِبِي جَنَبَاتِ قَبْرِي ... كَأَنَّ أَقَارِبِي لَمْ يَعرِفُونِي وَقَد أَخَذُوا سِهامَهُمُ وَعَاشُوا ... فَيا للَّهِ أَسرَعَ ما نَسُونِي ¬

_ (¬1) في الأصل: "يا" بدل "فيا".

وعلي قبرٍ آخر: وَلَوْ أَنّا إِذَا مِتنا تُرِكْنَا ... لَكَانَ المَوْتُ رَاحَةَ كُلِّ حَيِّ وَلكِنَّا إِذَا مِتنا بُعِثنا ... وَنُسْأَلُ بَعْدَهُ عَنْ كُلِّ شَيِّ وعلي قبرٍ آخر: وَقَفْتُ عَلَى الأحِبَّةِ حِينَ صُفَّت ... قُبُورُهُمُ كَأفرَاسِ الرِّهانِ فَلَمَّا أَنْ بَكَيْتُ وَفَاضَ دمْعِي ... رَأَتْ عَيْنَايَ بَيْنَهُمُ مَكَانِي

الفصل الثاني في ذكر القيامة

الفصل الثّاني في ذكر القيامة عن أبي هريرة: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أَربَعِينَ"، قالوا: يا أبا هريرة! أربعين يوماً؛ قال: أبيت، قالوا: أربعين شهراً؟ قال: أبيت، قالَوا: أربعين سنة؟ قال: أبيتُ، قال: "ثُمَّ يُنْزِلُ الله تعَاَلَى مَاءً مِنْ سمَاءِ الذُنْيَا، فَيَنْبُتُونَ كَما يَنْبُتُ البَقْلُ". قال: "وَلَيْسَ مِنَ الإنْسَانِ شَيْءٌ إِلا يَبْلَى، إِلا عَظْمٌ وَاحِدُ، وَهُوَ عَجْبُ الذَّنَبِ، وَمِنْهُ يُرَكَّبُ الخَلْقُ يَوْمَ القِيَامَةِ" (¬1). وروي عن أبي هريرةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أنه قَالَ: "يُنْزِلُ الله -عَزَّ وَجَلَّ- مَاءً مِنْ تَحتِ العرشِ، يُقَالُ لَهُ: الحَيَوَانُ، وَتُفطِرُ السَّمَاءُ أَربَعِينَ يَوْما حَتَّى يَكُونَ المَاءُ فَوْقَكُمُ اثني عَشَرَ ذِرَاعاً، فَتَنْبُتُ الأجْسَادُ كنَبَاتِ البَقْلِ، أَوْ كنبَاتِ الطَّرَاثِيثِ، حَتَّى يمَامَلَ أَجْسَادُكُمْ فَتكُونَ كَما كَانَتْ، ثُمَّ يَدعُو الله -عَزَّ وَجَلَّ- بِالأروَاحِ، فَيؤتَى بِها، فَتَخْرُجُ كَأَمثالِ النَّحْلِ، وَقَد مَلأتْ ما بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرضِ، فَيُلْقِيهَا في الصُّورِ، أروَاحُ المُؤْمِنِينَ ¬

_ (¬1) رواه البخاري (4651)، ومسلم (2955).

تَتَوَهَّجُ نُوراً، وَالأخرَى مُظْلِمَةٌ، فَتدخُلُ الأروَاحُ في الخَيَاشِيم، فَتَدِبُّ دَبِيبَ السُّمِّ في اللَّدِيغِ، ثُمَّ يَقُولُ الله -عَزَّ وَجَلَّ-: لِيَحيَ حَمَلَةُ العَرشِ، فَيَحيَوْنَ، ثُمَّ يَأْمُرُ إِسْرَافِيلَ، فَيَقْبِضُ الصُّورَ، فَيَنْفُخُ، فَيَخْرُجُونَ حُفَاةً عُراةً غُرْلاً" (¬1). وقال أبو رَزين العقيليُّ: قلت: يارسولَ الله! كيف يُحيي الله الموتى؟ قال: "هلْ مَرَرْتَ بِأرضٍ مِنْ أَرْضكِ مُجْدبَةً، ثُمَّ مَرَرْتَ بِهَا مُخْصِبَةً؟ "، قلت: نعم، قال: "كَذلك النُّشُورُ" (¬2). وفي أفراد مسلم: عن جابرٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "يُبْعَثُ كُلُّ عبد عَلَى ما مَاتَ عَلَيْهِ" (¬3). وفي "الصحيحين": عن عائشةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "إنكم تُحْشَرُونَ يَوْمَ القِيَامَة، حَفَاةً، عُرَاةً، غُرْلاً"، قالت عائشةُ: قلتُ: يا رسول الله! الرجالُ والنساء، ينظر بعضهم إِلَى بعض؟ قال: "يا عَائِشَةُ! إِنَّ الأمرَ أَشَدُّ مِنْ أَنْ يُهِمَّهُم ذلك" (¬4). وفي "الصحيحين": عن عَدِيِّ بن حاتمٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أنّه قَالَ: "ما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلا سَيُكَلِّمُهُ ربُهُ -تَبَارَكَ وَتَعَاِلَى-، لَيْسَ بَيْنَهُ ¬

_ (¬1) رواه البيهقي في "شعب الإيمان" (1/ 312)، وقال: في إسناده مقال. (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 11). (¬3) رواه مسلم (2878). (¬4) رواه البخاري (6162)، ومسلم (2859).

فصل

وَبَيْنَهُ تُرجُمَان، فَيَنْظُرُ عَنْ يَمِيبهِ، فَلا يَرَى إِلا شَيْئاً قَدَّمَهُ، وَيَنْظُرُ عَنْ شِمَالِهِ، فَلا يَرَى إِلا شَيْئاً قَدَّمَهُ، وَيَنْظُرُ أَمَامَهُ، فَتَسْتَقْبِلُهُ النَّارُ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُم أَنْ يَتَّقيَ النَّارَ، وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَلْيَفْعَلْ" (¬1). ويشفعُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -. * * * فصلٌ وهنا مسألة: وهي أنّ الناس حين يأتون في الشفاعة (¬2) إلى نبينا محمد، ثم يأتي إِلى تحت العرش، فيسجد، فلما أن يرفع رأسه، فيقال: أَخْرِجْ من النار، والحاصل: أنّ الناس بعدُ ما دخلوا النار، ولا حوسبوا. فالجواب: أن هذه السجدة قدرُها جمعةٌ من أيام الدنيا، فيقال: قد يفصل بين الناس في هذه الجمعة، ويدخلون النار. ويقال أيضاً: إن الحديث متداخل، أدخل الراوي بعضَه في بعض، وهو أصح. * * * ¬

_ (¬1) رواه البخاري (7074)، ومسلم (1016). (¬2) في الأصل: "في الشافع".

فصل

فصلٌ ثم يُنْصَبُ الصراطُ على مَتْن جهنم، وهو أرقُّ من الشعرة، وأحدُّ من السيف، فنسأل الله السلامةَ، من يوم الحسرة والندامة. مَضَى زَمَانُ الصِّبَا وَحُبِّ الحَبَايِبْ ... كَفَاكَ زَجْراً وَوَغظاً شَيْبُ الذَّوَائِبْ أَفِقْ لِنَفْسِكَ وَاسْمَغ قَوْلَ المُعَاتِبْ ... لا تَغْتَرِز بِالأمَانِي فَرُبَّ خَائِبْ يا غَافِلاً فَاتَهُ أَفْضَلُ المَنَاقِبْ ... أَيْنَ البُكَا لِلخَوْفِ العَظِيمِ المطَالِبْ لَيْتَ الزَّمَانَ الَّذِي ضَاعَ في المَلاعِبْ ... نَظَرْتَ فِيهِ إِلَى آخِرِ العَوَاقِبْ كَم في القِيَامَةِ مِنْ أَدمُعٍ سَوَاكِبْ ... عَلَى ذُنُوبٍ حَوَاها كِتَابُ كَاتِبْ مَنْ لِي إِذَا قُمتُ مِنْ مَوْقِفِ المُحَاسب ... وَقِيلَ لِي ما صَنَعتَ في كُلِّ وَاجِبْ تَرجُو النَّجَاةَ وَتَلْهُو يا شَرَّ لاعِبْ ... إِذَا أَتَتْكَ الأمَانِي تَظُنّ كَاذِبْ المَوْتُ صَعبٌ شَدِيدٌ مِنَ المَشَارِبْ ... يَلْقَى بشدَّةٍ فيه صدورَ الكتائِبْ

انْظُر لِنَفْسِكَ وَانْظُر قُدُومَ غَائِبْ ... يَأتِي بِقَهْرٍ يَرمِي بِسَهْمٍ صَائِبْ يا آمِلاً أَنْ يَبْقَى آمِناَ لِلنَّوَائِبْ ... بَنَيْتَ بَيْتاً وَلكن لِنَسْجِ العَنَاكِبْ أَيْنَ الَّذِين عَلَوْا مُتُونَ الرَّكَائِب ... فَأَصْبَحوا الخيلَ كيف مَنْ غَيرُ تَائبْ دَبَّ الهلاكُ إِلَيْهم مِثْلَ العَقَارِبْ ... ضَاقَتْ بِهِمُ المَنَايا كُلَّ المَذَاهِبْ وَأَنْتَ بَعدُ عَنْ قَلِيلٍ خَلَفُ المَصَائِبْ ... فَانْظُرْ وَفَكِّر وَدَبِّرْ كُلَّ العَجَائِبْ لو تُفكر النفوسُ فيما بين يديها، أو تذكرتْ حسابها فيما لها أو عليها، لبعثَ حزنُها بريدَ دمعِها كلَّ وقت إليها. وَمِنْ أَعجَب الإنْسَانِ أَنّكَ تعلَمُ ... بِأَنَّكَ مَأْخُوذٌ بِما تَتَجَرَّمُ وَأَنْتَ عَلَى ما أَنْتَ غَيْرُ مُقَصِّرٍ ... وَلا مُقْلِعٍ عَما عَلَيْكَ يُحَرَّمُ كَأَنَّكَ في يَوْمِ القِيَامَةِ آمِنٌ ... إِذَا بُرِّزَتْ لِلمُجْرِمِينَ جَهنَّم وَلا تَغْتَررْ بِالعُمرِ إِنْ طَالَ وَاعتَبر ... فَإِنَّكَ لا تَدرِي مَتَى يَتَصَرَّمُ

وتَسْكُنُ بَيْتاً غَيْرَ بَيْتِكَ مُظْلِماً ... وَلا فِيهِ مَشْرُوب وَلا فِيهِ مَطْعَمُ وَتَتْرُكُ ما [قد] كُنْتَ فِيهِ مُحَكَّماً ... وَغَيْرُكَ فِيهِ لَوْ عَلِمتَ المُحَكَّمُ وَتَأْتِي كَذَا مِنْ بَعدِ يُسْرِكَ مُعسِراً ... وَما لَكَ دِينَارٌ وَلا لَكَ دِرْهَمُ فَإِنْ كُنْتَ [قدْ] قَدَّمتَ مِنْ قَبْلُ صَالِحاً ... فَإِنَّكَ مِنْ هوْلِ القِيَامَةِ تَسْلَمُ فَكُنْ مُقْلِعاً وارجِع إِلَى اللهِ وَاغْتَنِم ... بَقَاءَكَ في الدّنْيا فَعُقْبَاكَ مَغْنَمُ أما يحقُّ البُكا لمن قد مضى زمانُه، أما يحق البكا لمن طال عصيانُه، نهاره في المعاصي، فقد زادَ خسرانُه، وليله في الخطايا، فقد خفَّ ميزانُه، وبين يديه الموتُ الشديد لقاؤه وعيانُه، والقبرُ المظلم المتهدمةُ أركانُه، والحشرُ العنيف ذلُّه وهوانُه، والحسابُ العسير يُنشر فيه ديوانُه، والموقف الطويل فيه غمومُه وأحزانه، والجحيمُ الشديد فيه من العذابِ ألوانُه. لوح عَلَى نَفسي وَأبْكِي خَطِيئَةً ... تَقُولُ خَطَايَايَ اثْقَلت مِنِّيَ الظَّهْرَا فيا لَذَّةً كَانَتْ قَلِيلاً بَقَاؤُها ... وَيا حَسْرَةً دَامَتْ وَلَمْ تُبْقِ لِي عُذْرَا

لقد أفات الظالمُ نفسَه خيراً جَمّاً، واستجلَبَ لها عقاباً وذَمّاً، ضَمَّ الأموالَ إليه ضَمّاً، وإنما تناول على الحقيقة سُماً، عقبه ما فرح به غَمّاً، وألحقه إنّما وَهماً، وكفاهُ أنها لظالم سيما، ولقد ودَّ أنّه نجا، وأنه [......] قدَّر أن الظالم ملك لحماً ودماً، أما الاستمتاع إِلَى أجل مسمى، كيف به إذا سلك طريقاً [......]، نفض عن رأسه التراب، ثم أحضر الحساب {وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} [طه: 111].

الفصل التاسع عشر

الفصل التّاسع عشر وفيه فصلان: الفصل الأول: في ذكر البرد. الفصل الثاني: في ذكر الحر.

الفصل الأول في ذكر البرد

الفصل الأوّل في ذكر البرد خَرَّجَ الإمامُ أحمدُ من حديثِ أبي سعيدٍ الخدريِّ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "الشِّتَاءُ رَبيعُ المُؤمِنِ" (¬1). وخرَّجَه البيهقيُّ، وغيره، وزاد: "طَالَ لَيْلُهُ فَقَامَهُ، وَقَصُرَ نَهارُهُ فَصَامَهُ" (¬2). المؤمنُ يقدر في الشتاء على صيام نهاره من غير مشقة ولا كلفة تحصل له؛ من جوعٍ، ولا عطش؛ فإن نهارَه قصير بارد، فلا يحس فيه بمشقة الصيام. وفي "المسند"، و"الترمذي": عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "الصِّيَامُ في الشِّتَاءِ الغَنِيمَةُ البَارِدَةُ" (¬3). ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 75). (¬2) رواه البيهقي فى "السنن الكبرى" (4/ 297). (¬3) رواه الترمذي (797)، والإمام أحمد في "المسند" (4/ 335) عن عامر بن مسعود، مرسلاً.

وكان أبو هريرةَ يقول: ألا أدلكُم على الغنيمة الباردة؟ قَالَوا: بلى، قَالَ: الصيامُ في الشتاء (¬1). وأما القيامُ في الشتاء، فيشقُّ على النفس من وجهين: أحدهما: من جهة تألُم النفس بالقيام من الفراش في شدة البرد. قال داودُ بن رشيدٍ: قام بعضُ إخواني إلى وِرْدِهِ بالليل في ليلة باردةٍ شديدةِ البرد، فكان عليه خُلْقَانٌ، فضربه البردُ، فبكى، فهتف به هاتف: أقمناكَ وأنمناهم، ثم تبكي علينا! (¬2). الثاني: إسباغُ الوضوء في شدة البرد يتألم به. روي في "صحيح مسلم" عن أبي هريرةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "أَلا أَدلكم عَلَى ما يَمحُو الله بِهِ الخَطَايَا، ويرفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟ "، قالوا: بلى يا رسولَ الله، قال: "إِسْبَاغُ الوُضُوءِ عَلَى المَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الخُطَا إِلَى المَسَاجِدِ، وانْتِظَارُ الصَّلاةِ بَعدَ الصَّلاةِ، فَذلكمُ الرِّبَاطُ، فَذلكمُ الرِّبَاطُ" (¬3). إسباغُ الوضوء في شدة البرد من أعلى خصال الإيمان. في "المسند"، و"صحيح ابن حبان": عن عقبةَ بن عامرٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "رَجُلانِ مِنْ أُمَّتِي؛ يَقُومُ أَحَدُهُما مِنَ اللَّيْلِ فَيُعَالِجُ ¬

_ (¬1) رواه البيهقي في "السنن الكبرى" (4/ 297). (¬2) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (8/ 335). (¬3) رواه مسلم (251).

نَفْسَهُ إِلَى الطهُورِ، وَعَلَيْهِ عُقَدٌ، فَيَتَوَضَّأُ، فَإِذَا وَضَّأَ يَدَيْهِ، انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، وَإِذَا وَضَّأَ وَجْههُ، انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، وَإِذَا مَسَحَ رَأْسَهُ، انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، وَإِذَا وَضَّأَ رِجْلَيْهِ، انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ؛ فَيَقُولُ الرَّبُّ -عَزَّ وَجَلَّ-: انْظُرُوا إِلَى عَبْدِي هذا يُعَالجُ نَفْسَهُ، ما سَأَلنِي عَبْدِي هذا، فَهُوَ لَهُ" (¬1). ورأى بعضُهم خِياما ضُربت، فسأل: لمن هي؟ فقيل: للمجتهدين بالقرآن، فكان بعد ذلك لا ينام. فَمَالِي بَعِيدَ الدَّارِ لَمْ أَقْرُبِ الحِمَى (¬2) ... وَقَد نُصِبَتْ لِلسَّاهِرِينَ خِيَامُ عَلامَةُ طَردِي طُولَ لَيْلِيَ نَائِمٌ ... وَغَيْرِي يَرَى أَنَّ المَنَامَ حَرَامُ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "إِنَّ جَهنَّمَ تَتَنَفَّسُ نَفَساً في الشِّتَاءِ، ونَفَسَاً في الصَّيْفِ، فَأَشَدُّ ما تَجدُونَ مِنَ البَرْدِ مِنْ زَمهرِيرها، وَأَشَدُّ ما تَجِدُونَ مِنَ الحَرِّ مِنْ سَمُومِهَا" (¬3). كَف يَكُونُ الشِّتَاءُ ثُمَّ المَصِيفُ ... وَرِبيعٌ يَمضِي وَيَأْتِي خَرِيفُ ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 159)، وابن حبان في "صحيحه" (1052). (¬2) في الأصل: "إلى الحمى". (¬3) رواه البخاري (512)، ومسلم (617)، وابن ماجه (4319) واللفظ له من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.

وَازتجَالٌ مِنَ الحَرُورِ إِلَى البَرْ ... دِ وَسَيْفُ الرَّدَى عَلَيْكَ مُنِيفُ يا قَلِيلَ المُقَامِ في هذهِ الدُّ ... نْيا إِلَى كَم يَغُرُّك التَّسْوِيفُ يا طَالِبَ الزَّائِلِ حَتَّى مَتَى ... قَلْبُكَ بِالزَّائِلِ مَشْغُوفُ

الفصل الثاني في ذكر الحر

الفصل الثّاني في ذكر الحر في "الصحيحين" من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "اشْتكتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا، فَقَالَتْ: يا رَبِّ! أَكَلَ بَعْضِي بَعْضاً، فَأَذِنَ لَها بِنَفَسَيْنِ: نَفَسٍ في الشِّتَاءِ، وَنَفَسٍ في الصَّيْفِ، فَشِدَّةُ ما تَجِدُونَ مِنَ الحَرِّ فَمِنْ سَمُومِ جَهنَّمَ" (¬1). قال الحسن: كلُّ بردٍ أهلكَ شيئاً، فهو من نَفَسِ جهنم، وكلُّ حرٍّ أهلك شيئاً، فهو من حَرِّ جهنّم. وفي الحديث الصحيح: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِذَا اشْتَدَّ الحَرُّ، فَأَبْرِدُوا بِالصَّلاةِ؛ فَإِنَّما شِدَّةُ الحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ" (¬2). كان بعضُهم إذا أحرمَ، لم يستظلَّ، فقيل له: لو أخذَتْ بالرخصةِ، فأنشدَ يقول: ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه قريباً. (¬2) رواه البخاري (512)، ومسلم (617) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.

ضَحِيْتُ لَهُ كَىْ أَسْتَظِلَّ بظِلِّهِ ... إِذَا الظِّلُّ أَضْحَى في القِيَامَةِ قَالِصَا فَوا أَسَفَا إِنْ كَانَ سَعيُكَ خَائِباً ... وَوَاأَسَفَا إِنْ كَانَ حَظُّكَ نَاقِصَا

الفصل العشرون في ذكر فصول متفرقة

الفصل العشرون في ذكر فصولٍ متفرقةٍ فصلٌ في الصدق قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119] وعن عبد الله بن مسعودٍ -رضي الله عنه-، قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "عَلَيْكُم بِالصِّدقِ؛ فَإِنَّ الصِّدقَ يَهْدِي إِلَى البِرِّ، وَالبِرُّ يَهْدِي إِلَى الجَنَّةِ، وَما يَزَالُ الرَّجُلُ يَصدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدقَ، حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ الله صِدِّيقاً" (¬1). مَنْ صدَقَ اللهْ في الامرِ نَجَا ... وَفَازَ وَأُعطِيَ ما قَدْ رَجَا وَمَنْ يَتَّقِ الله يَجْعَلْ لَه ... كَما قَالَ مِنْ أَمرِهِ مَخْرَجَا والصدقُ أفضلُ الأعمال، وخيرُ ما اعتاده الإنسان، قال بعضُ السلف: خيرُ ما أُعطي العبد لساناً صادقاً. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (5743)، ومسلم (2607).

فصل في الكذب

وفيه أحاديثُ أيضاً كثيرة. * * * فصلٌ في الكذب جاء في الحديث: "إِيَّاكُمْ وَالكَذِبَ، فَإِنَّ الكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الفُجُورِ، وَالفُجُورُ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَما يَزَالُ العَبْدُ يَكْذِبُ، وَيَتَحَرَّى الكَذِبَ، حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ الله كَاذِباً" رواه البخاري، ومسلم، وغيرهمـ[ـــا] (¬1). قال بعضُ السلف: قل لمن لا يصدق: لا يتعنَّ. وقال آخرُ: شَرّ ما أُعطي الإنسانُ لساناً كاذباً. * * * فصلٌ في النوم على طهارة عن أنسِ بن مالكٍ، قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ بَاتَ عَلَى طَهارةٍ، ثُمَّ مَاتَ في لَيْلَتِهِ، مَاتَ شَهِيداً" (¬2). عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال-: "مَنْ بَاتَ عَلَى طَهارَةٍ، بَاتَ في شِعَارِه ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) رواه ابن السني في "عمل اليوم والليلة" (ص: 665).

فصل: فيما يقول إذا استيقظ من الليل

مَلَكٌ، فَلا يَتَقَلَّبُ في سَاعَةٍ مِنَ اللَّيْلِ، إِلا قَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِر لِعَبْدِكَ فُلانٍ" (¬1). * * * فصلٌ: فيما يقول إذا استيقظ من الليل عن عبادة، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "مَنْ تَعَارَّ مِنَ اللَّيْلِ، فَقَالَ: لا إِلَهَ إِلا الله وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ، وَلَهُ الحمدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَسُبْحَانَ الله، وَالحَمدُ للهِ، وَلا إِلَه إِلا الله، وَالله أَكْبَرُ، وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بالله، ثُمَّ قَالَ: رَبِّ اغْفِر لِي، أَوْ دَعَا، اسْتُجِيبَ لَهُ، فَإِنْ تَوَضَّأَ، وَصلَّى، قُبِلَتْ صَلاتُهُ" (¬2). * * * فصلٌ: فيما يقول إذا قام إِلَى الصلاة بالليل في "الصحيح": عن ابن عباس: أنّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كانَ إذا قامَ إِلَى الصّلاة من جوف الليل، يقول: "اللَّهُمَّ لَكَ الحَمدُ، أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأرضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الحَمدُ، أَنْتَ قَيُّومُ السَّمَواتِ وَالأرضِ وَمَن فِيهِنَّ، وَلَكَ الحَمْدُ، أَنْتَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأرضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، أَنْتَ ¬

_ (¬1) رواه ابن حبان في "صحيحه" (1051)، والطبراني في "المعجم الكبير" (13621)، من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-. (¬2) رواه البخاري (1103).

فصل: ما يقول إذا أصبح

الحَقُّ، وَوعْدُكَ الحَقُّ، وَقَوْلُكُ حَقّ، وَلِقَاؤُكَ حَقّ، وَالجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ، اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلمتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمتُ، وَإِلَيْكَ حَاكَمتُ، فَاغْفر لِي ما قَدَّمْتُ، وَما أَخَّرْتُ، وَما أَسْرَرْتُ، وَما أَغلَنْتُ، أَنْتَ إِلَهِي، لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ" (¬1). وفي الحديث: "إِذَا اسْتَيْقَظَ الرَّجُلُ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ، فَصَلَّوْا ركْعَتَيْنِ، كُتِبَا مِنَ الذَّاكِرِينَ الله كَثيراً، وَالذَّاكِرَاتِ" (¬2). * * * فصلٌ: ما يقول إذا أصبح عن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه، قالَ: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أصبح، قَالَ: "أصبحنَا عَلَى فِطْرَةِ الإِسْلامِ، وَكَلِمَةِ الإِخْلاصِ، وَدِيِن نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وَمِلَّةِ أبينَا إِبْرَاِهيمَ حَنِيفاً وَما كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ" (¬3). وليقلْ: "اللَّهُمَّ بِكَ أَصبحنَا، وَبِكَ أمسَيْنَا، وَبِكَ نَحيَا، وَبِكَ نَمُوتُ، وَإِلَيْكَ النُّشُورُ"، وإذا أمسى قَالَها، "وَإِلَيْكَ المَصِيرُ" (¬4). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1069)، ومسلم (769). (¬2) رواه أبو داود (1451)، وابن ماجه (1335) من حديث أبي سعيد وأبي هريرة -رضى الله عنهما-. (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 407)، والنسائي في "السنن الكبرى" (9829). (¬4) رواه أبو داود (5068)، والترمذي (3391) عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، إلا أنه =

فصل: فيما يقول إذا دخل السوق

وليقلْ: "أَصْبَحنَا، وَأَصْبَحَ المُلْكُ للهِ، وَلا إِلَه إلا الله وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ، وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" (¬1). * * * فصلٌ: فيما يقول إذا دخل السوق عن عمرَ بن الخطابِ -رضي الله عنه-، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "مَنْ دخل [السُّوقَ]، وقَالَ: لا إِلَه إِلا الله وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ، وَلَهُ الحمدُ، يُحييِ، وَيُمِيتُ، وَهُوَ حَيٌّ لا يَمُوتُ، بِيدهِ الخَيْرُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، كَتَبَ الله لَهُ أَلْفَ أَلْفِ حَسَنَةٍ، وَمَحَا عَنْهُ أَلْفَ أَلْفِ سَيئَةً، وَرَفَعَ لَهُ أَلْفَ أَلْفِ دَرَجَةٍ" (¬2). * * * فصلٌ: فيما يقول إذا خرج من منزلهِ عن أنسِ بن مالكٍ، قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ قَالَ إِذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ: بِاسْمِ الله، تَوَكَّلْتُ عَلَى الله، هُدِي، وَكُفِي، وَوُقِيَ، وَتنَحَّى عَنْهُ الشَّيْطَانُ" (¬3). * * * ¬

_ = يقول: "وإليك النشور" عندما يمسي. (¬1) رواه مسلم (2723) من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه-. (¬2) رواه الترمذي (3428)، وابن ماجه (2235). (¬3) رواه أبو داود (5095)، والترمذي (3426).

فصل: فيما يقول إذا دخل منزله

فصلٌ: فيما يقول إذا دخل منزله عن جابرٍ: أنّه سمعَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إِذَا دَخَلَ الرَّجُلُ بَيْتَهُ، فَذَكَرَ الله عِنْدَ دُخُولهِ، وَعِنْدَ طَعَامِهِ، قَالَ الشَّيْطَانُ: لا مَبِيتَ لَكُم، وَلا عَشَاءَ هُنَا، وَإِذَا دَخَلَ، وَلَمْ يَذْكُرِ الله -عَزَّ وَجَلَّ-، قَالَ: أَدْرَكْتُمُ المَبِيتَ، فَإِذَا لَمْ يَذْكُرِ الله عِنْدَ طَعَامِهِ، قَالَ: أَدركْتُمُ العَشَاءَ" (¬1). * * * فصلٌ: في الإستخارة والمشاورة قال بعض السلف: من استخارَ الخالقَ، واستشارَ المخلوق، وتثبَّتَ في أمره، لم يخبْ فيما يطلُبُ ويقصدُ في الأمور كلِّها. وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أنه كان إذا عزمَ على أمرٍ، قال: "اللَّهُمَّ خِرْ لِي، وَاخْتَر لِي" (¬2). وفيها أحاديثُ أيضاً كثيرة. * * * ¬

_ (¬1) رواه مسلم (2018). (¬2) رواه الترمذي (3516) عن أبي بكر -رضي الله عنه-، وإسناده ضعيف كما ذكر الترمذي.

فصل: في فضل الوضوء

فصلٌ: في فضل الوضوء عن عثمانَ بن عفانَ، قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ، خَرَجَتْ خَطَايَاهُ مِنْ جَسَدِهِ حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ تَحْتِ أَظْفَارِهِ" (¬1). وإحسانُ الوضوء: إسباغُه في الأعضاء من غير إسراف، ولا تقصير. وعن أبي هريرة -رضي الله عنه-: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِذَا تَوَضَّأَ العَبْدُ المُسْلِمُ -أَوْ المؤمِنُ-، فَغَسَلَ وَجْهَهُ، خَرَجَتْ مِنْ وَجْهِهِ كُلُّ خَطِيئَةِ نَظَرَ إِلَيْها بِعَيْييْهِ مَعَ المَاءِ -أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرَةِ الماءِ-، فَإِذَا غَسَلَ يَدَيْهِ، خَرَجَتْ كُلُّ خَطِيئَةٍ كَانَتْ بَطَشَتها يَدَاهُ مَعَ المَاءِ -أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرَةِ المَاءِ-، فَإِذَا غَسَلَ رِجْلَيْهِ، خَرَجَتْ كُلُّ خَطِيئَةٍ مَشَتْها رِجْلاهُ مَعَ المَاءِ- أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرَةِ المَاءِ-، حَتَّى يَخْرُجَ نَقِياً منَ الذُّنُوبِ" (¬2). * * * فصلٌ: فيما يقول إذا فرغ من وضوئه عن عمرَ بن الخطابِ -رضي الله عنه-، قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ تَوَضَّأَ فَأَخسَنَ الوُضُوءَ، ثُمَّ قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَه إِلا الله وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ ¬

_ (¬1) رواه مسلم (245). (¬2) رواه مسلم (244).

فصل

التَّوَّابينَ، وَاجْعَلْنِي مِنَ المُتَطَهِّرِينَ، فُتِحَتْ لَهُ أبوابُ الجَنَّةِ الثَّمَانِيَةِ مِنْ أَيها شَاءَ يَدخُلُ" (¬1). * * * فصلٌ: في المشي إِلَى الصّلاة عن أبي موسى، قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَعْظَمُ النَّاسِ أَجْراً في الصَّلاةِ أَبْعَدُهُم مَشْياً" (¬2). * * * فصلٌ وليتجنب المصلِّي الغلوَّ، والوسواسَ في الصلاة، وأنّ ذلك من الشيطان. * * * فصلٌ: في بعض آداب المولود رُوي في تَحْنِيكِه في "الصحيحين" من حديث أبي بُردةَ، عن ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (55). (¬2) رواه البخاري (623)، ومسلم (662)، وعندهما: "ممشى" بدل "مشياً".

فصل

أبي موسى، قال: ولِدَ لي غلامٌ، فأتيتُ به النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فسماه: إبراهيمَ، وحَنَّكَه بتمرٍ (¬1) * * * فصلٌ: في العقيقة العقيقةُ سنةٌ مؤكدة، وقَالَت طائفةٌ: العقيقةُ واجبةٌ. * * * فصلٌ: في الوقت الذي تستحبُّ فيه العقيقة يوم السابع، فإن لم يفعل، ففي أربع عشرة، فإن لم يفعل، ففي إحدى وعشرين. * * * فصلٌ عن الجارية شاة، وعن الغلام شاتين، وقَالَ مالك: شاة عن الذكر، والأنثى. ولا يكسر عظمَها، ويستحبُّ حلقُ رأسه، والتصدُّقُ بوزنه وَرِقاً. * * * ¬

_ (¬1) رواه البخاري (5150)، ومسلم (2145).

فصل

فصلٌ يستحب أن يسمَّى: عبد الله، وعبدَ الرحمن؛ لأنّ في الحديث: "إِنَكُمْ تُدْعَوْنَ يَوْمَ القِيَامَةِ بِأَسْمَائِكُمْ" (¬1). * * * فصلٌ ومن المحرم التسمي (¬2) بملك الموت، وسلطانِ السلاطين، وشاهنشاه. * * * فصلٌ ويكره التسمِّي بأسماء الشياطين، والفراعنةِ، والملائكةِ؛ كجبرائيلَ، وميكائيلَ، وإسرافيلَ، ونحوِ: حَربٍ، ومُرَّةَ، وكلبٍ، وحَيَّةَ. ولا يجوز تسمية الملوك: بالقاهر، والظاهر، ونحوه. ولا يجوز تسميةُ أحد بالصمدِ، والخالقِ، والرازقِ، ونحوِه. ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (4948) عن أبي الدرداء -رضي الله عنه-. (¬2) في الأصل: "التشبه".

فصل

ويمنع من تسميته بالقرآن، وسورٍ منه؛ مثل: طه، ويس، وحم. وفي التسمية بأسماء الأنبياء قولان. * * * فصلٌ والتسمية حقُّ الأبِ، لا الأمِّ. * * * فصلٌ الختانُ واجبٌ عند أكثرِ العلماء، منهم: أحمدُ، والشافعيُّ، ومالكٌ. وعند بعضهم: سنةٌ، ولكن عندهم السنةُ يأثم بتركها. وقيل: لا يختتن الكبير إذا يخافه على نفسه. * * * فصلٌ وقت وجوبه عند البلوغِ؛ لأنه وقتُ وجوبِ العبادات، ولا يجب قبل ذلك، وهل يكره يوم السابع؟ على روايتين.

فصل

فصلٌ والختان مَكْرُمَةٌ للنساء؛ لما جاء في الحديث: "الخِتَانُ سُنَّةٌ لِلرِّجَالِ، مَكْرُمَةٌ لِلنِّسَاءِ" (¬1). * * * فصلٌ ولايجب ختانُ الميت، ولا يمنع الإحرامُ من الختان -نَصَّ عليه-. * * * فصلٌ: في ختان النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه أقوالٌ: أحدُها: ولد مختوناً. الثاني: ختنه جبريلُ حين شقَّ صدره. الثالث: ختنه جدُّه عبد المطلب. * * * ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (5/ 75) عن أسامة الهذلي. ورواه البيهقي في " السنن الكبرى" (8/ 324) عن ابن عباس -رضي الله عنهما- وضعفه وقال: المحفوظ موقوف.

فصل: في ثقب الأذن

فصلٌ: في ثقب الأذن يجوز ثقبُ أُذن البنتِ للزينة، نَصَّ عليه، ونصَّ على كراهته في حقِّ الصبي. * * * فصلٌ: في استحباب تقبيل الأطفال في "الصحيحين": عن أبي هريرةَ، قال: قبّل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الحسنَ بن عليٍّ، وعندَه الأقرعُ بن حابسٍ التميميُّ جالسٌ، قَالَ الأقرع: إنّ في عشرةً من الولد، ما قَبَّلْتُ منهم أحداً، فنظرَ إليه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال: "مَنْ لا يَرْحَمْ لا يُرْحَمْ" (¬1). * * * فصلٌ: في تأديب الأولاد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم: 6]. قال عليٌّ -رضي الله عنه-: عَلِّموهم، وأَدِّبوهم (¬2). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (5651)، ومسلم (2318). (¬2) رواه الطبري في "تفسيره " (28/ 166).

فصل: في أولاد المشركين

وقال الحسنُ: مُروهم بطاعة الله، وعلِّموهُمُ الخيرَ (¬1). ورد في الحديث: "لأنْ يَؤَدِّبَ الرَّجُلُ وَلَدَهُ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِصَاعٍ" (¬2). وفي الحديث: "مُرُوا أبناءكُمْ بِالصَّلاةِ لِسَبْعٍ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَى تَرْكِها لِعَشْرٍ" (¬3). * * * فصلٌ: في أولاد المشركين هل يدخلون الجنة، أو النار؟ أقوالٌ: منهم من قال: كلُّهم في الجنة. ومنهم من قال: كلُّهم في النار. ومنهم من وقف عنده. ومنهم من قال: يحكم الله بعلمه. ومنهم من قال: بعضُهم في الجنة، وبعضُهم في النار. ومنهم من قال: يُمْتَحنون في دار الآخرة. ¬

_ (¬1) انظر: "تحفة المولود" لابن القيم (ص: 224). (¬2) رواه الترمذي (1951) عن جابر بن سمرة -رضي الله عنه-. (¬3) رواه أبو داود (496)، والإمام أحمد في "المسند" (2/ 187) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما-.

فصل: الإستحباب في طلب الأولاد

ومنهم من قال: هم أهل الأعراف، لا في الجنة، ولا في النار. والصحيحُ -إن شاء الله-: أنهم كلهم في الجنة، والدليلُ عليه الكتابُ، والسنةُ. أما الكتاب: فآيات كثيرة: منها: قولُه -عَزَّ وَجَلَّ-: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} [الملك: 8]. ومنها: قولُه: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]، وآيات كثيرة. وأما السنة: فأحاديثُ كثيرة: منها: ما جاء في "صحيح البخاري" من حديث سمرةَ بن جندبٍ: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبرهم أنهم في الجنة (¬1). ومنها: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ" (¬2). * * * فصلٌ: الإستحبابُ في طلب الأولاد عن عائشةَ -رضي الله عنها-، قالت: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -. "النِّكَاحُ مِنْ سُنَّتِي، وَمَنْ تَرَكَ سُنَّتِي، فَلَيْسَ مِنِّي، وَتزَوَّجُوا؛ فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الأُمَمَ" (¬3). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1320). (¬2) رواه البخاري (1319)، ومسلم (2658) عن أبي هريرة -رضي الله عنه-. (¬3) رواه ابن ماجه (1846).

فصل

فإذا كان مُكاثِراً بنا الأممَ، فيستحبُّ طلبُ الولد. عن أبي هريرةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "إِنَّ العَبْدَ لَتُرْفَعُ لَهُ الدَّرَجَةُ، فَيَقُولُ: يا رَبِّ! مِنْ أَيْنَ لِي هذهِ؟ فَيَقُولُ: بِاسْتِغْفَارِ وَلَدِكَ مِنْ بَعدِكَ" (¬1). * * * فصلٌ قَالَ الله تعالى: {لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى} [هود: 69] وآيات كثيرة فيها، ولمَّا كانت البشارة تسرُّ العبدَ وتُفرحه، استحب للمسلمِ أن يبادرَ إِلى مسرةِ أخيه. * * * فصل قال أبو حفصٍ العكبريُّ: سمعت أبا بكرِ بن مليحٍ يقول: بلغني عن أحمدَ قالَ: إذا أرادَ الرجلُ أن يزوِّج رجلاً سألَ عن الدنيا، فإنْ حُمِدَ سألَ عن الدين. * * * ¬

_ (¬1) رواه ابن ماجه (3660).

فصل

فصلٌ قَالَ القاضي: يستحب لمن غضب إن كان قائماً جَلَس، وإن كان جالساً اضطجع. * * * فصلٌ: في شيءٍ من أدب [....] يما أخي! أتعرف (¬1) أن الشيطانَ لك صديقٌ، أما تعلمُ أنه عن طاعات ربك مُعيق، أما تخاف يومَ الحريق، إنّما الشيطان عدوٌّ، فوالله بئسَ القرين، {إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا} [الإسراء: 53]. فإياك من الشيطان وأعوانه، وإياك من يوم الحشر وذلِّه وهوانِه، وإياك من العذاب المختلِفِ ألوانُه، أما تعلم أن الجحيم مسجَّرة فيه بذلِّه وهوانِه، وما تعلم بما في القبر من [......] أركانه، والسعير فيه من العذاب بألوانه، يومَ لا ينفع المرءَ مالُه ولا ولدانُه، وإنّما ينفعه إيمانُه واليقين، {إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا} [الإسراء: 53]. تَمَّ والحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على سيدنا محمد، وعلى آلِه، وصحبِه وسلَّمَ. الحمدُ لله على كلِّ حال، ونعوذ بالله من حالِ أهلِ النار. اللَّهُمَّ اغفرْ لنا وللمسلمين برحمتك يا أرحمَ الراحمين. ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، ولعلها: أتظن.

تَمَّ الكتاب، والحمدُ لله وحدَه، وصلى الله على سيدنا محمد. وكتبه: يوسفُ بن حسنِ بن أحمدَ بن حسنِ بن عبد الهادي الحنبليُّ المقدسيُّ، وهو مؤلفه، والحمدُ لله، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. وَإِنْ تَجِدْ عَيْبَاً أخِي فَسَتَرتَهُ ... فَجَلَّ الَّذِي لا عَيْبَ فِيهِ وَقَدْ عَلا هُوَ رَبِّي وَعَلَيْهِ تُكْلانِي ... ما خَابَ عبدٌ عَلَيْهِ تَوَكَّلا (¬1) • • • ¬

_ (¬1) جاء في آخر النسخة الخطية ما نصه: "سمعَ جميعَ هذا الكتاب: أحمدُ بن عثمانَ بن سليمانَ بن [.......] القنواتي، وأبو بكرِ بن حسنِ بن أحمدَ بن أحمدَ بن حسنِ بن عبد الهادي في الرابعة، ومفلحُ بن مفلحِ بن أحمدَ المرداويُّ، وهو [.........] بن عامر الجماعيليِّ، وفاته من عند: (أين من كان .... في الزمان الماضي) إلَى الفصل الثاني عشر. وسمع بينها عجيبة بنت [........] بن محمد بن علي بن قطيش من قرية مجدل شمس، سمع إلى الفصل الرابع عشر، وعبد الله بن محمد بن أحمد بن عبد الهادي، وسمع من أوله إلَى (أين مَنْ كان .... في الزمان الماضي)، ومن الفصل العشرين إِلَى آخره. وصح ذلك، وأجزت لهم أن يرووا عني جميع ما في وغيره بشرطه. وذلك في يوم الثلاثاء، سادس شهر ربيع [الأول] من سنة [تسع] وخمسين وثمان مئة، وذلك بقراءتي، وصح ذلك. وكتبه يوسفُ بن حسنِ بن أحمدَ بن حسنِ بن عبد الهادي المقدسي -عفا الله عنه- ".

§1/1