معارج القبول بشرح سلم الوصول
حافظ بن أحمد حكمي
مقدمة المحقق
المجلد الأول مقدمة المحقق: إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] . {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1] . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70-71] . أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. إن المهمة العظمى لأنبياء الله تعالى ورسله هي بيان توحيد الله تعالى وما
يتعلق بهذا التوحيد من اقتضاء ولوازم، إذ به تسلك طريق الجنة وبه يحل الرضوان "ورضوان من الله أكبر" وبه تزكو النفوس وتعمر. وإذ الأمر كذلك فإن التوحيد أولا وقبل كل شيء: التوحيد: علما ومعرفة "فاعلم أنه لا إله إلا الله". التوحيد: سلوكا ومعايشة. التوحيد: دعوة وجهادا. فهو أولا وقبل كل شيء، ومحاولة تخطي هذا السبيل هو ضرب من الهلكة وتجاوز للمنهج الأقوم وتعد على دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم. والتوحيد المقصود هو توحيد الكتاب والسنة، نعتقد ما تأمر النصوص، ونقف حيث تقف. ومحاولة ولوج العقائد عن طريق القياس ومناهج المتكلمين يجعل البصر يرتد حسيرا خاسئا ولن يجني إلا التحير، وعند الموت سيتمنى دين العجائز. "ومن تدبر القرآن وتصفح السنة والتاريخ علم يقينا أنه لم يكن بين يدي السلف مأخذ يأخذون منه عقائدهم غير المأخذين السلفيين [الوحي والفطرة] ، وأنهم كانوا بغاية الثقة بهما، والرغبة عما عداهما، وإلى ذلك دعاهم الشرع حتى لا تكاد تخلو آية من آيات القرآن من الحض على ذلك. وهذا يقضي قضاء باتا بأن عقائدهم هي العقائد التي يثمرها المأخذان السلفيان، يقطعون بما يفيدان فيه عندهم القطع، ويظنون ما لا يفيدان فيه إلا الظن، ويقفون عما عدا ذلك، وهذا هو الذي تبينه الأخبار المنقولة عنهم كما تراها في التفاسير السلفية وكتب السنة، وهو الذي نقله أصاغر الصحابة عن أكابرهم، ثم نقله أعلم التابعين بالصحابة وأخصهم بهم وأتبعهم لهم عنهم، ثم نقله صغار التابعين عن كبارهم، وهكذا نقله عن التابعين أعلم أتباعهم بهم، وأتبعهم لهم، وهلم جرا" المعلمي في التنكيل "1/ 344". ومن هنا فإن التصنيف في العقائد هي مهمة المهمات وليس لها إلا الرجال، وليست الصعوبة في شيء فيه إلا في عرضه سليما واضحا بعيدا كل البعد عن دخن
المصنفين وتعقيدات المتكلمين. وإذا كان الفقه هو معرفة الرخصة عن دليل فإن التوحيد هو الفطرة من غير تبديل. وقد وقع كثير من المصنفين في التوحيد في داء الكلام حتى صار هذا العلم خاصا لقوم ما ومقصورا عليهم مع أننا نعلم وهم يعلمون كذلك أن محمدا رسول الله ودعوته للناس كافة ولذلك كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يلقي على أصحابه رضي الله عنهم صفات الله تعالى وكان فيهم التفاوت في الأفهام والعقول وكم ورد الخلاف بينهم في مسائل عدة إلا أن مسائل التوحيد لم تختلف عندهم ولم يراجعوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في شيء منها. قال المقريزي في خططه: "ولما بعث الله محمدا -صلى الله عليه وسلم- إلى الناس وصف لهم ربهم بما وصف به نفسه، فلم يسأله أحد من العرب بأسرهم، قرويهم وبدويهم عن معنى شيء من ذلك، كما كانوا يسألونه عن أمر الصلاة، وشرائع الإسلام. إذ لو سأله أحد منهم عن شيء من الصفات لنقل، كما نقلت أحاديث الأحكام وغيرها. ومن أمعن النظر في دواوين الحديث والآثار عن السلف، علم أنه لم يرد قط لا من طريق صحيح ولا سقيم عن أحد من الصحابة على اختلاف طبقاتهم، وكثرة عددهم، أنه سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن معنى شيء مما وصف الرب سبحانه به نفسه في القرآن وعلى لسان نبيه، بل كلهم فهموا معنى ذلك وسكتوا سكوت فاهم مقتنع، ولم يفرقوا بين صفة وأخرى، ولم يتعرض أحد منهم إلى تأويل شيء منها، بل أجروا الصفات كما وردت بأجمعهم ولم يكن عند أحد منهم ما يستدل به سوى كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم". الخطط "3/ 309". ومع هذا الذي ذكرنا صارت مباحث التوحيد مربوطة في أذهان طلبة العلم بالتعقيد والسفسطة الكلامية. ولي في هذا تجربة: أولا: في معاهد العلم: فأبغض المباحث عند الطلبة مبحث "العقيدة" ليس لذاتها وحاشى أن يكون ذلك ولكن لأسلوب عرضها حتى صارت القاعدة عند بعض المدرسين: تقول: سأتكلم كلاما لا أفهمه أنا ولا يفهمه السامع حتى يقال عني عالم. ثانيا: كثيرا ما سألني طلبة علم في بداية طريقهم عن كتاب فيه مسائل التوحيد
ليصبح عندهم بصورة تفصيلية واضحة فأصاب بالتردد وليس ذلك لقلتها بل هي بحمد الله كثيرة ولكن لأن مصنفات التوحيد التعليمية "وأقصد المصنفات السلفية" قلما تخلو من مراجعات كلامية لإثبات مسائل في التوحيد. فيشكو طالب العلم من هذا كثيرا. والحمد لله هو لكل حمد أهل فإني مع كثرة نظري في هذا العلم والبحث في مظانه وقد راجعت فيه الكثير مرة بعد مرة وقد وفقني الله تعالى أن نشطت للرد على بعض كتب الكلاميين المشتهرة في بلادنا وخاصة الكتاب المشتهر باسم "شرح جوهرة التوحيد" للبيجوري فإني أرى أن كتاب العلامة حافظ بن أحمد الحكمي: "معارج القبول بشرح سلم الوصول، إلى علم الأصول في التوحيد". هو في الطبقة العليا من المفاريد: استقصاء وسهولة وقصر الأدلة على المأخذين السلفيين. وبفضل الله تعالى وحده فإني وجهت همي نحوه بمشورة بعض أهل الخير لإخراجه إخراجا علميا لتتم منه الفائدة ويحصل بسببه ما رجى منه مؤلفه حين قال: والله أسأل أن يعين على إكماله بمنه وفضله، وأن ينفعني وطلاب العلم به وبأصله. وأصل الكتاب هو نظم مختصر فيه بيان عقيدة السلف، نظمه كما قال بسؤال أحد المحبين له، وضم فيه مسائل أخرى نافعة تتعلق بما افتتن به العامة من صرف عباداتهم إلى القبور والأحجار والأشجار وسمى النظم "سلم الوصول إلى مباحث علم الأصول" قال الشيخ رحمه الله: فلما انتشر "النظم" بأيدي الطلاب، وعظمت فيه رغبة الأحباب، سئل مني أن أعلق عليه تعليقا لطيفا، يحل مشكله، ويفصل مجمله، مقتصرا على ذكر الدليل ومدلوله، من كلام الله تعالى وكلام رسوله، فاستخرت الله تعالى بعلمه، واستقدرته بقدرته، فعن لي أن أعزم على ذلك الأمر المسئول، مستمدا من الله تعالى الإعانة على نيل السول، وسميته "معارج القبول، بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول". أ. هـ. وقد قصرت عملي في هذا الكتاب على النحو التالي:
1- قمت بضبط النصوص من آيات وأحاديث وذلك بحسب ورودها في مظانها. 2- عزوت الآيات إلى مظانها مع كثرتها إذ كان الشيخ رحمه الله يسوق في المبحث أغلب ما يطرأ على ذهنه من آيات قرآنية فيثبتها. وقد جعلت العزو في الأصل وليس في الحواشي والسبب في ذلك كثرة الآيات المستشهد بها فلو أثبتها في الحواشي لكانت الحاشية أكبر من المتن. 3- قمت بتخريج الأحاديث النبوية وعزوها لمصادرها والحكم عليها وذلك حسب قواعد هذا العلم العظيم مستعينا بأقوال جهابذة هذا الفن وأحكامهم. وقمت بتخريج الحديث تخريجا مطولا حاولت استقصاء مظانه وكلام الأئمة على رجاله والكلام فيه إن ذكر إلا أنني وجدت أن إثبات هذا التخريج في حواشي الكتاب سيضر به وذلك لسببين: الأول: أن الكتاب سيصبح ضخما جدا وربما يصبح التخريج أكبر من الأصل وذلك لكثرة الأحاديث فيه إذ إنه في الجزء الأول فقط أكثر من خمسين وستمائة حديث نبوي شريف، من غير الأقوال الأثرية ومصادر التفسير. ثانيا: أن في هذا التخريج شغل للقارئ عن المتن، ولأن الكتاب كتاب تعليمي فإن مراد القارئ تحصيل مراده من المتن وكذلك معرفته صحة الأحاديث وثبوتها ولذلك قصرت تخريجي على النحو التالي: 1- إذا كان الحديث في الصحيحين أو في أحدهما قصرت العزو عليه إلا إذا كان المصنف قد ذكر مع الصحيح بعض المصادر الحديثية الأخرى فإني أبين مكان ورودها في المصدر المحال عليه. 2- إذا كان المصنف قد عزى الحديث إلى مصادر حديثية غير الصحيحين وكان في أحدهما فإني أبين ذلك وأقتصر بذكره في المصدر المحيل عليه مع ذكره في الصحيح. 3- وإذا كان الحديث في غير الصحيحين فإني أقتصر على ما اقتصر عليه
المؤلف في العزو إذ إنه الغالب عنده عزو الحديث لمصادره فإذا كان الحديث صحيحا في المصدر المحال عليه ذكرت ذلك وإذا كان ضعيفا بينته فإن كان له ما يقويه ذكرت فقط أن الحديث صحيح أو حسن لشواهده دون الإطالة في بيان شواهده ومتابعاته. وإذا كان ضعيفا ولم أجد له من الشواهد ما يقويه اقتصرت على عزو المصنف وبيان ضعف الحديث فقط. وقد ألحقت فيه ترجمة لمصنفه رحمه الله من قلم ابنه "أحمد بن حافظ الحكمي" كما أثبتها كما هي. وكذلك نص المنظومة في بداية الكتاب ولابنه تعليقات عليها أثبتها كما هي وذلك لفائدتها. والله سبحانه وتعالى أسأل أن يجعل عملي هذا في ميزان صحيفتي المقبولة يوم القيامة وأن يغفر زللي وخطلي ... وقد بذلت جهدي وهو جهد المقل "وإن يشأ يبارك على أوصال شلو ممزع". والحمد لله رب العالمين.
ترجمة المؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم ترجمة المؤلف: نبذة عن مؤلف الكتاب: الشيخ العلامة حافظ بن أحمد الحكمي "1342-1377هـ". بقلم ابنه الدكتور أحمد بن حافظ الحكمي الأستاذ المساعد بكلية اللغة العربية-الرياض "جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية" الشيخ العلامة حافظ بن أحمد بن علي الحكمي أحد علماء المملكة العربية السعودية السلفيين، وهو علم من أعلام منطقة الجنوب "تهامة" الذين عاشوا حياتهم في الشطر الأول من النصف الثاني من هذا القرن "الرابع عشر الهجري". والحكمي: نسبة إلى "الحكم بن سعد العشيرة" بطن من "مذحج" من "كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان". مولده ونشأته: ولد الشيخ حافظ لأربع وعشرين ليلة خلت من شهر رمضان المبارك من سنة 1342 هـ "1924م" بقرية "السلام" التابعة لمدينة "المضايا" -الواقعة في الجنوب الشرقي من مدينة "جازان" حاضرة المنطقة، على الساحل، قريبة منها- حيث تقيم قبيلته التي إليها ينتسب.
ثم انتقل مع والده أحمد إلى قرية "الجاضع" التابعة لمدينة "سامطة" في نفس المنطقة، وهو ما يزال صغيرا؛ لأن أكثر مصالح والده -من أراض زراعية ومواش ونحوهما- كانت هناك، وإن بقيت أسرته الصغيرة تنتقل بين قريتي "السلام" و"الجاضع" لظروفها المعيشية. ونشأ حافظ في كنف والديه نشأة صالحة طيبة، تربى فيها على العفاف والطهارة وحسن الخلق، وكان قبل بلوغه يقوم برعي غنم والديه التي كانت أهم ثروة لديهم آنذاك جريا على عادة المجتمع في ذلك الوقت، إلا أن حافظا لم يكن كغيره من فتيان مجتمعه؛ فقد كان آية في الذكاء وسرعة الحفظ والفهم، فلقد ختم القرآن وحفظ الكثير منه وعمره لم يتجاوز الثانية عشر بعد، وكذلك تعلم الخط وأحسن الكتابة منذ الصغر. طلبه العلم: عندما بلغ حافظ من العمر سبع سنوات أدخله والده مع شقيقه الأكبر محمد1 مدرسة لتعليم القرآن الكريم بقرية "الجاضع" فقرأ على مدرسه بها جزأي "عم، وتبارك"؛ ثم واصل قراءته مع أخيه حتى أتم قراءة القرآن مجودة خلال أشهر معدودة، ثم أكمل حفظه حفظا تاما بعيد ذلك. اشتغل بعدئذ بتحسين الخط فأولاه أكبر جهوده حتى أتقنه، وكان ينسخ من مصحف مكتوب بخط ممتاز، إلى جانب اشتغاله مع أخيه بقراءة بعض كتب الفقه والفرائض والحديث والتفسير والتوحيد مطالعة وحفظا بمنزل والده إذ لم يكن بالقرية عالم يوثق بعلمه فيتتلمذ على يديه. وفي مطلع سنة 1358 هـ قدم من "نجد" الشيخ الداعية المصلح عبد الله بن
محمد بن حمد القرعاوي1 إلى منطقة "تهامة" في جنوب المملكة، بعد أن سمع عما كان فيها من الجهل والبدع -شأن كل منطقة يقل فيها الدعاة والمصلحون أو ينعدمون -ونذر نفسه مخلصا على أن يقوم بالدعوة إلى الدين القويم، وتصحيح العقيدة الإسلامية في النفوس، وإلى إصلاح المجتمع وإزاحة ما كان عالقا في أذهان الجهال من اعتقادات فاسدة وخرافات مضلة. وفي سنة 1359هـ قدم شقيق حافظ عمي "محمد بن أحمد" برسالة منه ومن أخيه حافظ يطلبان فيها من الشيخ القرعاوي كتبا في التوحيد، ويعتذران عن عدم القدرة على المجيء إليه لانشغالهما بخدمة والديهما والعناية بشئونهما، كما يطلبان منه -إن كان في استطاعته- أن يتوجه إليهما بقريتهما ليسمعا منه بعض ما يلقي من دروس، وفعلا لبى الشيخ طلبهما وذهب إلى قريتهما، وهناك التقى بحافظ وعرفه عن كثب، وتوسم فيه النجابة والذكاء، وقد صدقت فيه فراسته. ومكث الشيخ عدة أيام في "الجاضع" ألقى فيها بعض دروسه العلمية التي حضرها مجموعة من شيوخ القرية وشبابها ومن بينهم حافظ الذي كان أصغرهم سنا، لكنه كان أسرعهم فهما وأكثرهم حفظا واستيعابا لما يلقي الشيخ من معلومات، يقول عنه الشيخ عبد الله القرعاوي: "وهكذا جلست عدة أيام في الجاضع، وحافظ يأخذ الدروس وإن فاته شيء نقله من زملائه، فهو على اسمه "حافظ" يحفظ بقلبه وخطه، والطلبة الكبار كانوا يراجعونه في كل ما يشكل عليهم في المعنى والكتابة، لأني كنت أملي عليهم إملاء ثم أشرحه لهم"2.
وعندما أراد الشيخ العودة إلى مدينة "سامطة" التي جعلها مقرا له ومركزا لدعوته، طلب من والدَي حافظ أن يرسلاه معه ليطلب العلم على يديه في "سامطة" على أن يجعل لهما من يرعى غنمهما بدلا عنه، ولكنهما رفضا طلب الشيخ أول الأمر وأصرا على أن يبقى ابنهما الصغير في خدمتهما لحاجتهما الكبيرة إليه. وتشاء إرادة الله أن لا تطول حياة والدته بعد ذلك إذا توفيت في شهر رجب سنة 1360 هـ فيسمح والده له ولأخيه محمد بأن يذهبا إلى الشيخ للدراسة لمدة يومين أو ثلاثة في الأسبوع ثم يعودا إليه؛ فكان حافظ لذلك يذهب إلى الشيخ في "سامطة" فيملي عليه الدروس، ثم يعود إلى قريته، وكان ملهما يفهم ويعي كل ما يقرأ أو يسمع من معلومات. ولم يعمر والده بعد ذلك إذ انتقل إلى جوار ربه وهو عائد من حج سنة 1360 هـ -رحمه الله- فتفرغ حافظ للدراسة والتحصيل، وذهب إلى شيخه ولازمه ملازمة دائمة يقرأ عليه ويستفيد منه. وكان حافظ في كل دراساته على شيخه مبرزا ونابغة، فأثمر في العلم بسرعة فائقة، وأجاد قول الشعر والنثر معا، وألف مؤلفات عديدة في كثير من العلوم والفنون الإسلامية -سنقف على أسمائها- ولقد كان كما قال عنه شيخه: "لم يكن له نظير في التحصيل والتأليف والتعليم والإدارة في وقت قصير"1. علمه: مكث حافظ يطلب العلم على يد شيخه الجليل عبد الله القرعاوي، ويعمل على تحصيله، ويقتني الكتب القيمة والنادرة من أمهات المصادر الدينية واللغوية والتاريخية وغيرها ويستوعبها قراءة وفهما. وعندما بلغ التاسعة عشرة من عمره -ومع صغر سنه- طلب منه شيخه أن
يؤلف كتابا في توحيد الله، يشتمل على عقيدة السلف الصالح، ويكون نظما ليسهل حفظه على الطلاب، يعد بمثابة اختبار له يدل على القدر الذي استفاد من قراءاته وتحصيله العلمي؛ فصنف منظومته "سلم الوصول إلى علم الأصول - في التوحيد" التي انتهى من تسويدها في سنة 1362 هـ وقد أجاد فيها، ولاقت استحسان شيخه والعلماء المعاصرين له. ثم تابع تصنيف الكتب بعد ذلك، فألف في التوحيد، وفي مصطلح الحديث، وفي الفقه وأصوله، وفي الفرائض، وفي السيرة النبوية، وفي الوصايا والآداب العلمية، وغير ذلك نظما ونثرا، وقد طبعت جميعها طبعتها الأولى على نفقة المغفور له جلالة الملك سعود بن عبد العزيز. ويتضح لنا من آثاره العلمية أن أبرز مقروءاته ذات الأثر في منهجه العلمي ومؤلفاته هي تلك الكتب التي ألفها علماء السلف الصالح من أهل السنة في العلوم الإسلامية من تفسير وحديث وفقه وأصوله، أما في مجال العقيدة فقد بدا شديد التأثر بشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم كثير الاستفادة من مؤلفاتهما والأخذ عنها، هذا إلى جانب استيعابه لكثير من مصادر التاريخ والأدب واللغة والنحو والبيان المؤلفة في مختلف العصور الإسلامية. ولقد كان -رحمه الله -عميق الفهم سريع الحفظ لما يقرأ، وقد مر بنا قول لشيخه يشيد فيه بتلميذه حافظ، الذي كان يحفظ بقلبه وخطه -على حد تعبير الشيخ- وكان زملاؤه الكبار يراجعونه في كل ما يشكل عليهم منذ مراحل تعليمه الأولى. أدبه: يعد الشيخ حافظ من أجل علماء منطقة تهامة وأقدرهم على قول الشعر، فقد كان يعشق الشعر منذ صغره ويحفظه ويقوله سليقة دون تكلف، فلا غرابة إذ رأيناه يخرج أكثر مؤلفاته نظما. ولقد كان أكثر ما يقول الشعر -في غير ما كتبه من منظومات علمية- إما
نصيحة أو مساجلة لصديق. أو وصفا أو خاطرة، إلا أنه لم يدون جل ما قال إن لم يكن كله، وما بأيدينا منه الآن نزر يسير جدا حفظه عنه بعض تلاميذه. ومن أهم قصائد شعر تلك القصيدة الميمية التي أنشأها في الوصايا والآداب العلمية، وهي طويلة جدا، نختار منها هذه الأبيات التي يصف فيها العلم ومنزلته: العلم أغلى وأحلى ما له استمعت ... أذن، وأعرب عنه ناطق بفم العلم غايته القصوى ورتبته الـ ... ـعلياء فاسعوا إليه يا أولي الهمم العلم أشرف مطلوب وطالبه ... لله أكرم من يمشي على قدم العلم نور مبين يستضيء به ... أهل السعادة والجهال في الظلم العلم أعلى حياة للعباد، كما ... أهل الجهالة أموات بجهلهم ثم يقول مرغبا في العلم، وحاضا طالبه على الحرص عليه، والسعي قدر المستطاع لنيل أكبر قسط منه، وعدم الرضا بغيره عوضا عنه، فمن حصل عليه فقد ظفر. ويوصي طلبة العلم بمساعدة غيرهم في تحصيله وتقريب مباحثه، ويشير عليهم قبل ذلك كله بأن يخلصوا نياتهم -في طلبه- لوجه الله الكريم: يا طالب العلم لا تبغي به بدلا ... فقد ظفرت ورب اللوح والقلم وقدس العلم واعرف قدر حرمته ... في القول والفعل، والآداب فالتزم واجهد بعزم قوي لا انثناء له ... لو يعلم المرء قدر العلم لم ينم والنصح فابذله للطلاب محتسبا ... في السر والجهر والأستاذ فاحترم ومرحبا قل لمن يأتيك يطلبه ... وفيهم احفظ وصايا المصطفى بهم والنية اجعل لوجه الله خالصة ... إن البناء بدون الأصل لم يقم وهنا أيضا قصيدته الهمزية التي قالها في تشجيع الإسلام وأهله والدعوة إلى التمسك بأساسه وأصله، وهي لا تزال مخطوطة لم تنشر من قبل، وتقع في أكثر من مائتي بيت، من بحر الكامل على روي الهمزة. استعرض فيها ماضي المسلمين وحاضرهم وما ينبغي أن يكونوا عليه في مستقبلهم، كل ذلك بأسلوب قوي رصين، وتعبير جزل، بالإضافة إلى ما تفجر في جوانب أبياتها من شعور فياض، ومعان سامية، وأهداف نبيلة، وروح عالية؛ تحدث في أولها عن الرسول الكريم
محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه وقيامه بالدعوة إلى الله، فقال: ويعز ربي رسله والمؤمنين ... جميعهم بالنصر والإنجاء حتى استتم بناءهم بمحمد ... أكرم به للرسل ختم بناء فهو الرسول إلى الخلائق كلهم ... ممن تقل بسيطة الغبراء ما لامرئ أبدا خروج عن شريـ ... ـعته ونهج طريقه البيضاء لم يقبض المولى تعالى روحه ... حتى أشاد الدين بالإعلاء وأتم نعمته وأكمل دينه ... ولخلقه أداه أي أداء ومضى وأمته بأقوم منهج ... وعلى محجة هديه البيضاء ثم تحدث عن الخلفاء الراشدين ومناهجهم في الحكم، وانتقل بعدهم يصف واقع المسلمين في العصور التي تلت عصر الخلفاء الراشدين، وعندما وصل إلى القرن السابع الهجري عصر شيخ الإسلام "ابن تيمية" وجدناه يقول: وأتى بقرن سابع من هجرة ... علم به يؤتم في الظلماء أعني بذاك الحبر أحمد من إلى ... عبد الحليم نمى بلا استثناء كم هاجم البدع الضلال وأهلها ... بدلائل الوحيين خير ضياء وقواعد التحريف هد أصولها ... أعظم به هدما لشر بناء وله جهاد ليس يعهد مثله ... إلا بعهد السادة الخلفاء وبعد أن ذكر ما قام به ابن تيمية من قمع للفتن وإبادة للطغيان، تابع المسيرة إلى العصور الإسلامية التالية، مصورا طبيعة الحياة التي كان يعيشها المسلمون في تلك الأزمنة، مشيرا إلى بعض المصلحين الذين سعوا لتصحيح الأوضاع في بلادهم كالشيخ محمد بن عبد الوهاب في القرن الثاني عشر الهجري وغيره. ثم ذهب يوجه الخطاب إلى العلماء وطلاب العلم في عصره، مستنهضا هممهم للدعوة إلى الله والإخلاص في العمل، والقيام بالواجب الملقى على عواتقهم نحو إخوانهم المسلمين في كل مكان، قائلا: هل تسمعون معاشر العلما، ألا ... تصغون نحو مقالتي وندائي؟! يا طالبي علم الشريعة فانهضوا ... وادعوا عباد الله باستهداء
انحوا بهم نحو الصراط المستقيـ ... ـم ورفض كل طريقة عوجاء كيف انتصار المسلمين وجلهم ... عن دينهم في غفلة عمياء؟! وقد أطال في ذلك, وبهذا نكتفي. ولعل في هذه المقتطفات من هاتين القصيدتين كفاية كنماذج حية من شعر الشيخ حافظ الحكمي -رحمه الله- والتي تدل على تدفق شاعريته، وجودة شعره الإسلامي وسمو غاياته. أعماله: عندما لمس الشيخ عبد الله القرعاوي تفوق تلميذه حافظ ونبوغه العلمي أقامه مدرسا لزملائه والمستجدين من التلاميذ، فألقى عليهم دروسا نافعة استفادوا منها فائدة كبرى. ثم عينه شيخه في سنة 1363 هـ مديرا لمدرسة "سامطة" السلفية -أول وأكبر مدرسة افتتحها الشيخ في المنطقة لطلاب العلم- وأسند إليه أمر الإشراف على مدارس القرى المجاورة. واتسعت بعد ذلك مدارس الشيخ في منطقتي "تهامة وعسير" فما من مدينة أو قرية إلا وأسس بها مدرسة أو أكثر تدرس العلوم الإسلامية1، وجعل بها من تلاميذه من يقوم بالتدريس فيها ويتولى شئون إدارتها. ولما كان الشيخ يقوم في فترات متعددة بجولات على مئات المدارس التي كان قد أسسها في المنطقة جعل تلميذه الأول الشيخ حافظا الحكمي مساعدا له يتولى الإشراف على سير التعليم وأمور الإدارة أثناء تجوال الشيخ على مدارسه، فنهض حافظ بالعبء الملقى على عاتقه وأدى الأمانة خير الأداء.
ثم تنقل الشيخ حافظ -للقيام بواجبه مع شيخه- في عدة أماكن منها قرية "السلامة العليا" ومدينة "بيش: أم الخشب" في الجزء الشمالي من منطقة "جازان" وغيرهما، عاد بعدها إلى مدينة "سامطة" مرة أخرى يدير مدارسها ويساعد شيخه في تحمل المسئولية والإشراف على سير التعليم ومواصلة تدعيم مهام الدعوة والإصلاح. وهكذا مضى الشيخ حافظ يؤدي واجباته في سبيل النهوض بأبناء منطقته، وليرفع من مستواهم الثقافي والاجتماعي، وليفيدهم من علمه قدر ما يستطيع، فقد كان يجتمع إليه طلبة العلم من كل مكان للتتلمذ على يديه فيستفيدون منه فائدة عظمى، ومن طلبته الآن علماء أفاضل يتولون مناصب القضاء والتدريس والوعظ والإرشاد في جميع أنحاء المنطقة الجنوبية وغيرها. وفي سنة 1373 هـ افتتحت وزارة المعارف السعودية مدرسة ثانوية ب "جازان" عاصمة المنطقة، فعين الشيخ حافظ أول مدير لها في ذلك العام. ثم افتتح معهد علمي تابع للإدارة العامة للكليات والمعاهد العلمية آنذاك "جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية حاليا" بمدينة "سامطة" في عام 1374 هـ فعين الشيخ حافظ مديرا له؛ فقام بعمله هذا خير قيام، وكان يلقي فيه بعض المحاضرات ويملي على تلاميذه الكثير من المعلومات الشرعية واللغوية المفيدة، ويضع لهم المذكرات الدراسية للفنون التي لم تقرر لها كتب علمية وفق المناهج المحددة، كان يمليها أحيانا بنفسه، وقد يمليها عن طريق المدرسين بالمعهد أحيانا أخرى. صفاته: كان الشيخ حافظ الحكمي -رحمه الله- مثالا يحتذى لكل طالب علم يريد التحصيل والعلم النافع، ومثالا لكل عالم جليل متواضع يحب لتلاميذه وزملائه كل خير وصلاح. ويكفي أن أورد ما قاله عنه شقيقه الأكبر "عمي" الشيخ محمد بن أحمد
الحكمي -حفظه الله- في رسالة كتبها إلي إجابة لطلبي: "كان رحمه الله على جانب كبير من الورع والكرم والعفة والتقوى، قوي الإيمان، شديد التمسك، صداعا بالحق، يأمر بالمعروف ويأتيه، وينهى عن المنكر ويبتعد عنه، لا تأخذه في الله لومة لائم. "كانت مجالسه دائما عامرة بالدرس والمذاكرة وتحصيل العلم، تغص بطلابه في البيت والمسجد والمدرسة، لا يمل حديثه، ولا يسأم جليسه. "كان جل أوقاته ملازما لتلاوة القرآن الكريم، ومطالعة الكتب العلمية، بالإضافة إلى التدريس والتأليف والمذاكرة. "وكان خفيف النفس يحب الرياضة والدعابة والمزاح مع زملائه وطلابه وزواره، مما يجذب قلوب الناس إليه، ويحبب إليهم مجالسته والاستفادة منه". وفاته: لم يزل الشيخ حافظ مديرا لمعهد سامطة العلمي حتى حج في سنة 1377 هـ، وبعد انتهائه من أداء مناسك الحج لبى نداء ربه في يوم السبت الثامن عشر من شهر ذي الحجة سنة 1377 هـ "1958م" بمكة المكرمة على إثر مرض ألم به، وهو في ريعان شبابه، إذ كان عمره آنذاك خمسا وثلاثين سنة ونحو ثلاثة أشهر، ودفن بمكة المكرمة، رحمه الله تعالى رحمة واسعة. وقد كان وقع خبر وفاته على شيخه وعلى أهله وزملائه وأصدقائه وتلاميذه شديدا، والمصيبة به فادحة، وقد رثاه بعض تلاميذه رثاء حارا يعكس مدى الفاجعة التي أصابتهم بموته، من ذلك قصيدة للشيخ الدكتور زاهر بن عواض الألمعي، يقول في أولها: لقد دوى على "المخلاف" صوت ... نعى النحرير عالمها الهماما تفجعت الجنوب وساكنوها ... على بدر بها يمحو الظلاما وذاعت في الدنا صيحات خطب ... فهزت من فجائعها الأناما
فكفكفت الدموع على فقيد ... على الإسلام شمر واستقاما وأحيا في الربوع بيوت علم ... وواسى مقعدا ورعى يتامى أ "حافظ" كنت للعلياء قطبا ... وللإسلام طودا لا يسامى وبحرا في العلوم بعيد غور ... كثير النفع قواما إماما وما متم فمنهجكم منار ... يضيء دروبنا وبها أقاما1 وممن رثاه أيضا تلميذه الأستاذ إبراهيم بن حسن الشعبي بقصيدة، نقتطف منها قوله: توفي "حافظ" ركن البلاد ... وخلف حسرة لي في الفؤاد وقد ضاقت علي الأرض ذرعا ... بما رحبت ولم تسع البوادي وساء الحال مني حين وافى ... بنا نعي الفتى البطل العماد لقد كنت المقدم في المزايا ... من الخيرات يا قطب النوادي وكنت القائد المدعو فينا ... فمن نختار بعدك للقياد؟ سلاح للمشاكل كنت قدما ... ومصباح البحوث بكل وادي وفي كل العلوم مددت باعا ... وهمتك العلية في ازدياد وقد خلف الشيخ -رحمه الله- بعد رحيله مكتبة علمية كبيرة عامرة بكل علم وفن، أوصى بأن تكون وقفا على طلاب العلم ورواد المعرفة، فضمت إلى معهد سامطة العلمي لينتفع بها المدرسون والطلاب، ولتبقى تحت إشراف إدارة المعهد. كما خلف من تأليفه آثارا علمية نافعة في كثير من الفنون الإسلامية، لا يستغني عنها كل طالب علم، وسنشير إليها. وله من الأبناء أربعة، هم: أحمد -كاتب هذه الأسطر- وعبد الله، ومحمد، وعبد الرحمن، وفقهم الله جميعا وسدد خطاهم، وأخذ بأيديهم لما فيه خيرهم وصلاحهم.
مؤلفاته: لوالدي الشيخ حافظ بن أحمد الحكمي -رحمه الله تعالى- مؤلفات عديدة في: التوحيد، ومصطلح الحديث، والفقه وأصوله، والفرائض، والتاريخ والسيرة النبوية، والنصائح والوصايا والآداب العلمية. من هذه المؤلفات ما هو منظوم، ومنها ما هو منثور، وهي كما يلي: أ- في التوحيد: 1- "سلم الوصول، إلى علم الأصول، في توحيد الله واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم" أرجوزة في أصول الدين، مطلعها: أبدأ باسم الله مستعينا ... راض به مدبرا معينا انتهى من تسويدها في سنة 1362 هـ، وهي أول ما ألف. طبعت طبعتها الأولى بمكة المكرمة سنة 1373 هـ "في 16ص". 2- "معارج القبول، بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول - في التوحيد" وهو شرح مطول لأرجوزة "سلم الوصول" -المتقدم ذكرها- انتهى من تسويده في سنة 1366 هـ، ويقع في مجلدين كبيرين تزيد صفحاتهما في طبعته الأولى عن ألف ومائة صفحة. وهذا الكتاب أهم آثار الشيخ وأشهرها وأغناها عن التعريف، يتمتع الآن بقيمة علمية كبيرة بين طلاب العلم وأساتذة الجامعات الإسلامية، وقد دأبت الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء في المملكة العربية السعودية زمنا طويلا على توزيعه مجانا على خريجي الكليات وعلى المدرسين والقضاة، لما فيه من فوائد جمة، وما يحويه من معلومات قيمة في موضعه، ولحسن عرضه وتبويبه واستيفائه لكثير من نصوص الكتاب والسنة وأقوال السلف الصالح بما لا يدع زيادة لمستزيد. 3- "أعلام السنة المنشورة، لاعتقاد الطائفة الناجية المنصورة" كتاب مؤلف
على طريقة السؤال والجواب، انتهى من تسويده في غرة شهر شعبان سنة 1365هـ، وطبع طبعته الأولى بمكة المكرمة د. ت "في 67ص". 4- "الجوهرة الفريدة, في تحقيق العقيدة" منظومة دالية, مطلعها: الحمد لله لا يحصى له عدد ... ولا يحيط به الأقلام والمدد ب- في المصطلح: 5- "دليل أرباب الفلاح، لتحقيق فن الاصطلاح" كتاب جليل حافل في مصطلح الحديث، طبع طبعته الأولى بمكة المكرمة سنة 1374 هـ "في 174ص". 6- "اللؤلؤ المكنون، في أحوال الأسانيد والمتون" منظومة، مطلعها: الحمد كل الحمد للرحمن ... ذي الفضل والنعمة والإحسان انتهى من نظمها في سنة 1366 هـ، وطبعت طبعتها الأولى بمكة المكرمة د. ت "في 18ص". ج- في الفقه: 7- "السبل السوية، لفقه السنن المروية" منظومة طويلة في الفقه وفق أبوابه المعروفة، مطلعها: أبدأ باسم خالقي محمدلا ... محسبلا مكتفيا محوقلا طبعت طبعتها الأولى بمكة المكرمة د. ت "في 134ص". د- في أصول الفقه: 8- "وسيلة الحصول، إلى مهمات الأصول" منظومة في أصول الفقه، مطلعها: الحمد للعدل الحكيم الباري ... المستعان الواحد القهار
انتهى من كتابتها في سنة 1373 هـ، وتقع في 640 بيتا. طبعت طبعتها الأولى بمكة المكرمة د. ت "في 35ص". 9- متن "لامية المنسوخ" منظومة لامية الروي في النسخ وما يدخله من الكتب الفقهية، مطلعها: الحمد لله في الدارين متصل ... هو السلام فلا نقص ولا علل طبعت طبعتها الأولى بمكة المكرمة د. ت "في 10ص". هـ -في الفرائض: 10- "النور الفائض، من شمس الوحي، في علم الفرائض" رسالة منثورة في علم الفرائض، انتهى من كتابتها في 15/ 8/ 1365 هـ، وطبعت طبعتها الأولى بمكة المكرمة سنة 1373 هـ "في 46ص". و في التاريخ والسيرة النبوية: 11- "نيل السول، من تاريخ الأمم وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم" منظومة تاريخية، تزيد أبياتها عن "950 بيتا"، مطلعها: الحمد لله المهيمن الأحد ... باري البرايا الواحد الفرد الصمد طبعت طبعتها الأولى بمكة المكرمة د. ت "في 52ص". ز- في النصائح والوصايا والآداب العلمية: 12- نصيحة الإخوان المشهورة بـ"القاتية"، وعنوانها: "هذا سؤال بشأن القات والدخان والشمة"، وهي قصيدة تائية، مطلعها: حمدا لمن أسبغ النعما وألهمنا ... حمدا عليها بألطاف خفيات وقد طبع معها رد عليها لأحد أهل اليمن، ثم جواب الشيخ عليه، وفي الجواب الأخير فوائد جليلة. طبعت طبعتها الأولى بمكة المكرمة سنة 1374 هـ "في 15ص".
13- "المنظومة الميمية، في الوصايا والآداب العلمية" قصيدة ميمية رائعة في الحث على العلم وطلبه والتمسك بما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، مطلعها: الحمد لله رب العالمين على ... آلائه وهو أهل الحمد والنعم طبعت طبعتها الأولى بمكة المكرمة د. ت "في 14ص". وقد طبعت جميع هذه الكتب من مؤلفات الوالد الشيخ حافظ الحكمي -رحمه الله- طبعتها الأولى -ما أرخ منها وما لم يؤرخ- في سنتي 1373 هـ -1374 هـ على نفقة جلالة المغفور له الملك سعود بن عبد العزيز بمطابع البلاد السعودية بمكة المكرمة، عدا كتاب "معارج القبول" الذي طبع طبعتها الأولى د. ت "نحو سنة 1377 هـ" في المطبعة السلفية بمصر. وللوالد الشيخ -من بعد- بعض الرسائل والمنظومات المخطوطة التي لم تطبع بعد، سنعمل على طبعها ونشرها في وقت قريب إن شاء الله، حتى ينتفع بها كما انتفع بغيرها من مؤلفاته المطبوعة، أهمها: 1- "مفتاح دار السلام، بتحقيق شهادتي الإسلام". 2- "شرح الورقات، في أصول الفقه -لأبي المعالي الجويني". 3- "همزية الإصلاح، في تشجيع الإسلام وأهله، والتمسك كل التمسك بأساسه وأصله". 4- "مجموعة خطب للجمع والمناسبات الدينية". وكل مؤلفاته -رحمه الله- تعطيك الدليل الواضح على مكانته العلمية، وعلى تعمقه في كثير من جوانب المعرفة، وهي كتب قيمة يكفي للدلالة على جودتها وقيمتها أن بعضها عرض على فضيلة العلامة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ -مفتي الديار السعودية آنذاك، رحمه الله- فاستحسنها واستجادها وأشار إلى الحكومة بطبعها وتوزيعها حتى يستفيد منها الخاصة والعامة على السواء، لما فيها من فوائد جمة، ونصائح عامة نافعة لجميع المسلمين في دينهم ودنياهم، ولأنها
تحضهم على التمسك بكتاب الله وسنة رسوله الأمين صلى الله عليه وسلم، وعلى اتباع السلف الصالح والأئمة المبرزين من علماء المسلمين. رحم الله الشيخ حافظا الحكمي رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته، وجزاه عما قدم خير الجزاء، وغفر له ولوالديه ولشيخه ولجميع المسلمين. أحمد بن حافظ الحكمي
نص منظومة سلم الوصول
بسم الله الرحمن الرحيم سُلَّمُ الْوُصُولِ، إِلَى عِلْمِ الْأُصُولِ فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ وَاتِّبَاعِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ 1: أَبْدَأُ بِاسْمِ اللَّهِ مُسْتَعِينَا ... راض به مدبر مُعِينَا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَمَا هَدَانَا ... إِلَى سَبِيلِ الْحَقِّ وَاجْتَبَانَا أَحْمَدُهُ سُبْحَانَهُ وَأَشْكُرُهْ ... وَمِنْ مَسَاوِي عَمَلِي أَسْتَغْفِرُهْ وَأَسْتَعِينُهُ عَلَى نَيْلِ الرِّضَا ... وَأَسْتَمِدُّ لُطْفَهُ فِي مَا قَضَى وَبَعْدُ: إِنِّي بِالْيَقِينِ أَشْهَدُ ... شَهَادَةَ الْإِخْلَاصِ أَنْ لَا يُعْبَدُ بِالْحَقِّ مَأْلُوهٌ2 سِوَى الرَّحْمَنِ ... مَنْ جَلَّ عَنْ عَيْبٍ وَعَنْ نُقْصَانِ وَأَنَّ خَيْرَ خَلْقِهِ مُحَمَّدَا ... مَنْ جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى
رَسُولُهُ إِلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ ... بِالنُّورِ وَالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ صَلَّى عَلَيْهِ رَبُّنَا وَمَجَّدَا ... وَالْآلِ وَالصَّحْبِ دَوَامًا سَرْمَدَا وَبَعْدُ هَذَا النَّظْمُ فِي الْأُصُولِ ... لِمَنْ أَرَادَ مَنْهَجَ الرَّسُولِ سَأَلَنِي إِيَّاهُ مَنْ لَا بُدَّ لِي ... مِنِ امْتِثَالِ سُؤْلِهِ1 الْمُمْتَثَلِ فَقُلْتُ مَعْ عَجْزِي وَمَعْ إِشْفَاقِي ... مُعْتَمِدًا عَلَى الْقَدِيرِ الْبَاقِي: مُقَدِّمَةٌ: تُعَرِّفُ الْعَبْدَ بِمَا خُلِقَ لَهُ, وَبِأَوَّلِ مَا فَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَبِمَا أَخَذَ الله عليه به الْمِيثَاقَ فِي ظَهْرِ أَبِيهِ آدَمَ, وَبِمَا هُوَ صَائِرٌ إِلَيْهِ اعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا ... لَمْ يَتْرُكِ الْخَلْقَ سُدًى وَهَمَلَا بَلْ خَلَقَ الْخَلْقَ لِيَعْبُدُوهُ ... وَبِالْإِلَهِيَّةِ يُفْرِدُوهُ أَخْرَجَ فِيمَا قَدْ مَضَى مِنْ ظَهْرِ ... آدَمَ ذُرِّيَّتَهُ كَالذَّرِّ وَأَخَذَ الْعَهْدَ عَلَيْهِمْ أَنَّهُ ... لَا رَبَّ مَعْبُودٌ بِحُقٍّ غَيْرَهُ وَبَعْدَ هَذَا رُسْلَهُ قَدْ أَرْسَلَا ... لَهُمْ وَبِالْحَقِّ الْكِتَابَ أَنْزَلَا لِكَيْ بِذَا الْعَهْدِ يُذَكِّرُوهُمْ ... وَيُنْذِرُوهُمْ وَيُبَشِّرُوهُمْ2 كَيْ لَا يَكُونَ حُجَّةٌ لِلنَّاسِ بَلْ ... لِلَّهِ أَعْلَى حُجَّةٍ عَزَّ وَجَلْ فَمَنْ يُصَدِّقْهُمْ بِلَا شِقَاقِ ... فَقَدْ وَفَى بِذَلِكَ الْمِيثَاقِ وَذَاكَ نَاجٍ مِنْ عَذَابِ النَّارِ ... وَذَلِكَ الْوَارِثُ عُقْبَى الدَّارِ
وَمَنْ بِهِمْ وَبِالْكِتَابِ كَذَّبَا ... وَلَازَمَ الْإِعْرَاضَ عَنْهُ وَالْإِبَا فَذَاكَ نَاقِضٌ كِلَا الْعَهْدَيْنِ ... مُسْتَوْجِبٌ لِلْخِزْيِ فِي الدَّارَيْنِ فصل: فِي كَوْنِ التَّوْحِيدِ يَنْقَسِمُ إِلَى نَوْعَيْنِ وَبَيَانِ النَّوْعِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ تَوْحِيدُ الْمَعْرِفَةِ وَالْإِثْبَاتِ أَوَّلُ وَاجِبٍ عَلَى الْعَبِيدِ ... مَعْرِفَةُ الرَّحْمَنِ بِالتَّوْحِيدِ إِذْ هُوَ مِنْ كُلِّ الْأَوَامِرِ أَعْظَمُ ... وَهْوَ نَوْعَانِ أَيَا مَنْ يَفْهَمُ إِثْبَاتُ ذَاتِ الرَّبِّ جَلَّ وَعَلَا ... أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى صِفَاتِهِ الْعُلَى وَأَنَّهُ الرَّبُّ الْجَلِيلُ الْأَكْبَرُ ... الْخَالِقُ الْبَارِئُ وَالْمُصَوِّرُ بَارِي الْبَرَايَا مُنْشِئُ الْخَلَائِقِ ... مُبْدِعُهُمْ بِلَا مِثَالٍ سَابِقِ الْأَوَّلُ الْمُبْدِي بِلَا ابْتِدَاءِ ... وَالْآخِرُ الْبَاقِي بِلَا انْتِهَاءِ الْأَحَدُ الْفَرْدُ الْقَدِيرُ الْأَزَلِيُّ ... الصَّمَدُ الْبَرُّ الْمُهَيْمِنُ الْعَلِيُّ عُلُوَّ قَهْرٍ وَعُلُوَّ الشَّانِ ... جَلَّ عَنِ الْأَضْدَادِ وَالْأَعْوَانِ كَذَا لَهُ الْعُلُوُّ وَالْفَوْقِيَّهْ ... عَلَى عِبَادِهِ بِلَا كَيْفِيَّهْ وَمَعَ ذَا مُطَّلِعٌ إِلَيْهِمُ ... بِعِلْمِهِ مُهَيْمِنٌ عَلَيْهِمُ وَذِكْرُهُ لِلْقُرْبِ وَالْمَعِيَّهْ ... لَمْ يَنْفِ لِلْعُلُوِّ وَالْفَوْقِيَّهْ فَإِنَّهُ الْعَلِيُّ فِي دُنُوِّهِ ... وَهْوَ الْقَرِيبُ جَلَّ فِي عُلُوِّهِ حَيٌّ وَقَيُّومٌ فَلَا يَنَامُ ... وَجَلَّ أَنْ يُشْبِهَهُ الْأَنَامُ لَا تَبْلُغُ الْأَوْهَامُ كُنْهَ ذَاتِهِ ... وَلَا يُكَيِّفُ الْحِجَا صِفَاتِهِ بَاقٍ فَلَا يَفْنَى وَلَا يَبِيدُ ... وَلَا يَكُونُ غَيْرُ مَا يُرِيدُ مُنْفَرِدٌ بِالْخَلْقِ وَالْإِرَادَهْ ... وَحَاكِمٌ -جَلَّ- بِمَا أَرَادَهْ فَمَنْ يَشَأْ وَفَّقَهُ بِفَضْلِهِ ... وَمَنْ يَشَأْ أَضَلَّهُ بِعَدْلِهِ
فَمِنْهُمُ الشَّقِيُّ وَالسَّعِيدُ ... وَذَا مُقَرَّبٌ وَذَا طَرِيدُ لِحِكْمَةٍ بَالِغَةٍ قَضَاهَا ... يَسْتَوْجِبُ الْحَمْدَ عَلَى اقْتِضَاهَا وَهُوَ الَّذِي يَرَى دَبِيبَ الذَرِّ ... فِي الظُّلُمَاتِ فَوْقَ صُمِّ الصَّخْرِ وَسَامِعٌ لِلْجَهْرِ وَالْإِخْفَاتِ ... بِسَمْعِهِ الواسع للأصوات وعمله بِمَا بَدَا وَمَا خَفِيْ ... أَحَاطَ عِلْمًا بِالْجَلِيِّ وَالْخَفِيْ1 وَهْوَ الْغَنِيُّ بِذَاتِهِ سُبْحَانَهُ ... جَلَّ ثَنَاؤُهُ تَعَالَى شَانُهُ وَكُلُّ شَيْءٍ رِزْقُهُ عَلَيْهِ ... وَكُلُّنَا مُفْتَقِرٌ إِلَيْهِ كَلَّمَ مُوسَى عَبْدَهُ تَكْلِيمَا ... وَلَمْ يَزَلْ بِخَلْقِهِ عَلِيمَا كَلَامُهُ جَلَّ عَنِ الْإِحْصَاءِ ... وَالْحَصْرِ وَالنَّفَادِ وَالْفَنَاءِ لَوْ صَارَ أَقْلَامًا جَمِيعُ الشَّجَرِ ... وَالْبَحْرُ تُلْقَى فِيهِ سَبْعَةُ أَبْحُرِ وَالْخَلْقُ تَكْتُبْهُ بِكُلِ آنِ ... فَنَتْ وَلَيْسَ الْقَوْلُ مِنْهُ فَانِ وَالْقَوْلُ فِي كِتَابِهِ الْمُفَصَّلْ ... بِأَنَّهُ كَلَامُهُ الْمُنَزَّلْ عَلَى الرَّسُولِ الْمُصْطَفَى خَيْرِ الْوَرَى ... لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ وَلَا بِمُفْتَرَى يُحْفَظُ بِالْقَلْبِ وَبِاللِّسَانِ ... يُتْلَى كَمَا يُسْمَعُ بِالْآذَانِ كَذَا بِالَابْصَارِ إِلَيْهِ يُنْظَرُ ... وَبِالْأَيَادِي خَطُّهُ يُسَطَّرُ وَكُلُّ ذِي مَخْلُوقَةٌ حَقِيقَهْ ... دُونَ كَلَامِ بَارِئِ الْخَلِيقَهْ جَلَّتْ صِفَاتُ رَبِّنَا الرَّحْمَنِ ... عَنْ وَصْفِهَا بِالْخَلْقِ وَالْحَدَثَانِ فَالصَّوْتُ وَالْأَلْحَانُ صَوْتُ الْقَارِي ... لَكِنَّمَا الْمَتْلُوُّ قَوْلُ الْبَارِي مَا قَالَهُ لَا يَقْبَلُ التَّبْدِيلَا2 ... كَلَّا وَلَا أَصْدَقُ مِنْهُ قِيلًا وَقَدْ رَوَى الثِّقَاتُ عَنْ خَيْرِ الْمَلَا ... بِأَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَعَلَا فِي ثُلُثِ اللَّيْلِ الْأَخِيرِ يَنْزِلُ ... يَقُولُ هَلْ مِنْ تَائِبٍ فَيُقْبِلُ
هَلْ مِنْ مُسِيءٍ طَالِبٍ لِلْمَغْفِرَهْ ... يَجِدْ كَرِيمًا قَابِلًا لِلْمَعْذِرَهْ يَمُنُّ بِالْخَيْرَاتِ وَالْفَضَائِلْ ... وَيَسْتُرُ الْعَيْبَ وَيُعْطِي السَّائِلْ وَأَنَّهُ يَجِيءُ يَوْمَ الْفَصْلِ ... كَمَا يَشَاءُ لِلْقَضَاءِ الْعَدْلِ وَأَنَّهُ يُرَى بِلَا إِنْكَارِ ... فِي جَنَّةِ الْفِرْدَوْسِ بِالْأَبْصَارِ كُلٌّ يَرَاهُ رُؤْيَةَ الْعِيَانِ ... كَمَا أَتَى فِي مُحْكَمِ الْقُرْآنِ وَفِي حَدِيثِ سَيِّدِ الْأَنَامِ ... مِنْ غَيْرِ مَا شَكٍّ وَلَا إِبْهَامِ رُؤْيَةَ حَقٍّ لَيْسَ يَمْتَرُونَهَا ... كَالشَّمْسِ صَحْوًا لَا سَحَابَ دُونَهَا وَخُصَّ بِالرُّؤْيَةِ أَوْلِيَاؤُهُ ... فَضِيلَةً وَحُجِبُوا أَعْدَاؤُهُ وَكُلُّ مَا لَهُ مِنَ الصِّفَاتِ ... أَثْبَتَهَا فِي مُحْكَمِ الْآيَاتِ أَوْ صَحَّ فِيمَا قَالَهُ الرَّسُولُ ... فَحَقُّهُ التَّسْلِيمُ وَالْقَبُولُ نُمِرُّهَا صَرِيحَةً كَمَا أَتَتْ ... مَعَ اعْتِقَادِنَا لِمَا لَهُ اقْتَضَتْ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلِ ... وَغَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلِ بَلْ قَوْلُنَا قَوْلُ أَئِمَّةِ الْهُدَى ... طُوبَى لِمَنْ بِهَدْيِهِمْ قَدِ اهْتَدَى وَسَمِّ ذَا النَّوْعَ مِنَ التَّوْحِيدِ ... تَوْحِيدَ إِثْبَاتٍ بِلَا تَرْدِيدِ قَدْ أَفْصَحَ الْوَحْيُ الْمُبِينُ عَنْهُ ... فَالْتَمِسِ الْهُدَى الْمُنِيرَ مِنْهُ لَا تَتَّبِعْ أَقْوَالَ كُلِّ مَارِدِ ... غَاوٍ مُضِلٍّ مَارِقٍ مُعَانِدِ فَلَيْسَ بَعْدَ رَدِّ ذَا التِّبْيَانِ ... مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنَ الْإِيمَانِ فصل: فِي بَيَانِ النَّوْعِ الثَّانِي مِنَ التَّوْحِيدِ وَهُوَ تَوْحِيدُ الطَّلَبِ وَالْقَصْدِ وَأَنَّهُ هُوَ مَعْنَى لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ هَذَا وَثَانِي نَوْعَيِ التَّوْحِيدِ ... إِفْرَادُ رَبِّ الْعَرْشِ عَنْ نَدِيدِ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ إِلَهًا وَاحِدَا ... مُعْتَرِفًا بِحَقِّهِ لَا جَاحِدَا
وَهُوَ الَّذِي بِهِ الْإِلَهُ أَرْسَلَا ... رُسْلَهُ يَدْعُونَ إِلَيْهِ أَوَّلَا وَأَنْزَلَ الْكِتَابَ وَالتِّبْيَانَا ... مِنْ أَجْلِهِ وَفَرَقَ الْفُرْقَانَا وَكَلَّفَ اللَّهُ الرَّسُولَ الْمُجْتَبَى ... قِتَالَ مَنْ عَنْهُ تَوَلَّى وَأَبَى حَتَّى يَكُونَ الدِّينُ خَالِصًا لَهُ ... سِرًّا وَجَهْرًا دِقُّهُ وَجِلُّهُ وَهَكَذَا أُمَّتُهُ قَدْ كُلِّفُوا ... بِذَا1 وَفِي نَصِ الْكِتَابِ وُصِفُوا وَقَدْ حَوَتْهُ لَفْظَةُ الشَّهَادَهْ ... فَهِيَ سَبِيلُ الْفَوْزِ وَالسَّعَادَهْ مَنْ قَالَهَا مُعْتَقِدًا مَعْنَاهَا ... وَكَانَ عَامِلًا بِمُقْتَضَاهَا فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَمَاتَ مُؤْمِنًا ... يُبْعَثُ يَوْمَ الْحَشْرِ نَاجٍ آمِنَا فَإِنَّ مَعْنَاهَا الَّذِي عَلَيْهِ ... دَلَّتْ يَقِينًا وَهَدَتْ إِلَيْهِ أَنْ لَيْسَ بِالْحَقِّ إِلَهٌ2 يُعْبَدُ ... إِلَا الْإِلَهُ الْوَاحِدُ الْمُنْفَرِدُ بِالْخَلْقِ وَالرِّزْقِ وَبِالتَّدْبِيرِ ... جَلَّ عَنِ الشَّرِيكِ وَالنَّظِيرِ وَبِشُرُوطٍ سَبْعَةٍ قَدْ قُيِّدَتْ ... وَفِي نُصُوصِ الْوَحْيِ حَقًّا وَرَدَتْ فَإِنَّهُ لَمْ يَنْتَفِعْ قَائِلُهَا ... بِالنُّطْقِ إِلَّا حَيْثُ يَسْتَكْمِلُهَا الْعِلْمُ وَالْيَقِينُ وَالْقَبُولُ ... وَالِانْقِيَادُ فَادْرِ مَا أَقُولُ وَالصِّدْقُ وَالْإِخْلَاصُ وَالْمَحَبَّهْ ... وَفَّقَكَ اللَّهُ لِمَا أَحَبَّهْ فصل: فِي تَعْرِيفِ الْعِبَادَةِ, وَذِكْرِ بَعْضِ أَنْوَاعِهَا وَأَنَّ مَنْ صَرَفَ مِنْهَا شَيْئًا لِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ ثُمَّ الْعِبَادَةُ هِيَ اسْمٌ جَامِعُ ... لِكُلِ مَا يَرْضَى الْإِلَهُ السَّامِعُ
وَفِي الْحَدِيثِ مُخُّهَا الدُّعَاءُ ... خَوْفٌ تَوَكُّلٌ كَذَا الرَّجَاءُ وَرَغْبَةٌ وَرَهْبَةٌ خُشُوعُ ... وَخَشْيَةٌ إِنَابَةٌ خُضُوعُ وَالِاسْتِعَاذَةُ وَالَاسْتِعَانَهْ ... كَذَا اسْتِغَاثَةٌ بِهِ سُبْحَانَهْ وَالذَّبْحُ وَالنَّذْرُ وَغَيْرُ ذَلِكْ ... فَافْهَمْ هُدِيتَ أَوْضَحَ الْمَسَالِكْ وَصَرْفُ بَعْضِهَا لِغَيْرِ اللَّهِ ... شِرْكٌ وَذَاكَ أَقْبَحُ الْمَنَاهِي فصل: فِي بَيَانِ ضِدِّ التَّوْحِيدِ وَهُوَ الشِّرْكُ وَأَنَّهُ يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ أَصْغَرَ وَأَكْبَرَ، وَبَيَانِ كُلٍّ مِنْهُمَا وَالشِّرْكُ نَوْعَانِ: فَشِرْكٌ أَكْبَرُ ... بِهِ خُلُودُ النَّارِ إِذْ لَا يُغْفَرُ وَهُوَ اتِّخَاذُ الْعَبْدِ غَيْرَ اللَّهِ ... نِدًّا بِهِ مُسَوِّيًا مُضَاهِي يَقْصِدُهُ عِنْدَ نُزُولِ الضُّرِّ ... لِجَلْبِ خَيْرٍ أَوْ لِدَفْعِ الشَّرِّ أَوْ عِنْدَ أَيِّ غَرَضٍ لَا يَقْدِرُ ... عَلَيْهِ إِلَا الْمَالِكُ الْمُقْتَدِرُ مَعْ جَعْلِهِ لِذَلِكَ الْمَدْعُوِّ ... أَوِ الْمُعَظَّمِ أَوِ الْمَرْجُوِّ فِي الْغَيْبِ سُلْطَانًا بِهِ يَطَّلِعُ ... عَلَى ضَمِيرِ مَنْ إِلَيْهِ يَفْزَعُ وَالثَّانِ شِرْكٌ أَصْغَرٌ وَهُوَ الرِّيَا ... فَسَّرَهُ بِهِ خِتَامٌ الْأَنْبِيَا وَمِنْهُ إِقْسَامٌ بِغَيْرِ الْبَارِي ... كَمَا أَتَى فِي مُحْكَمِ الْأَخْبَارِ فصل: فِي بَيَانِ أُمُورٍ يَفْعَلُهَا الْعَامَّةُ مِنْهَا مَا هُوَ شِرْكٌ، وَمِنْهَا مَا هُوَ قَرِيبٌ مِنْهُ وَبَيَانِ حُكْمِ الرُّقَى وَالتَّمَائِمِ وَمَنْ يَثِقْ بِوَدْعَةٍ أَوْ نَابِ ... أَوْ حَلْقَةٍ أَوْ أَعْيُنِ الذِّئَابِ
أَوْ خَيْطٍ اوْ عُضْوٍ مِنَ النُّسُورِ ... أَوْ وَتَرٍ1 أَوْ تُرْبَةِ الْقُبُورِ لِأَيِّ أَمْرٍ كَائِنٍ تَعَلَّقَهْ ... وَكَّلَهُ اللَّهُ إِلَى مَا عَلَّقَهْ ثُمَّ الرُّقَى مِنْ حُمَةٍ أَوْ عَيْنٍ ... فَإِنْ تَكُنْ مِنْ خَالِصِ الْوَحْيَيْنِ فَذَاكَ مِنْ هَدْيِ النَّبِيِّ وَشِرْعَتِهْ ... وَذَاكَ لَا اخْتِلَافَ فِي سُنِّيَّتِهْ أَمَّا الرُّقَى الْمَجْهُولَةُ الْمَعَانِي ... فَذَاكَ وِسْوَاسٌ مِنَ الشَّيْطَانِ وَفِيهِ قَدْ جَاءَ الْحَدِيثُ أَنَّهْ ... شِرْكٌ بِلَا مريه فاحذرنه إذا كُلُّ مَنْ يَقُولُهُ2 لَا يَدْرِي ... لَعَلَّهُ يَكُونُ3 مَحْضَ الْكُفْرِ أَوْ هُوَ مِنْ سِحْرِ الْيَهُودِ مُقْتَبَسْ ... عَلَى الْعَوَامِ لَبَّسُوهُ فَالْتَبَسْ فَحَذَرًا ثُمَّ حَذَارِ مِنْهُ ... لَا تَعْرِفِ الْحَقَّ وَتَنْأَى عَنْهُ4 وَفِي التَّمَائِمِ الْمُعَلَّقَاتِ ... إِنْ تَكُ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتِ فَالِاخْتِلَافُ وَاقِعٌ بَيْنَ السَّلَفْ ... فَبَعْضُهُمْ أَجَازَهَا وَالْبَعْضُ كَفْ وَإِنْ تَكُنْ مِمَّا سِوَى الْوَحْيَيْنِ ... فَإِنَّهَا شِرْكٌ بِغَيْرِ مَيْنِ بَلْ إِنَّهَا قَسِيمَةُ الْأَزْلَامِ ... فِي الْبُعْدِ عَنْ سِيمَا أُولِي الْإِسْلَامِ فصل: مِنَ الشِّرْكِ فِعْلُ مَنْ يتبرك بشجرة أوحجر أَوْ بُقْعَةٍ أَوْ قَبْرٍ أَوْ نَحْوِهَا يَتَّخِذُ ذَلِكَ الْمَكَانَ عِيدًا, وَبَيَانِ أَنَّ الزِّيَارَةَ تَنْقَسِمُ إِلَى سُنِّيَّةٍ وَبِدْعِيَّةٍ وَشِرْكِيَّةٍ هَذَا وَمِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ الشِّرْكِ ... مِنْ غَيْرِ مَا تَرَدُّدٍ أَوْ شَكِّ
مَا يَقْصِدُ الْجُهَّالُ مِنْ تَعْظِيمِ مَا ... لَمْ يَأْذَنِ اللَّهُ بِأَنْ يُعَظَّمَا كَمَنْ يَلُذْ بِبُقْعَةٍ أَوْ حَجَرِ ... أَوْ قَبْرِ مَيْتٍ أَوْ بِبَعْضِ الشَّجَرِ مُتَّخِذًا لِذَلِكَ الْمَكَانِ ... عِيدًا كَفِعْلِ عَابِدِي الْأَوْثَانِ ثُمَّ الزِّيَارَةُ عَلَى أَقْسَامٍ ... ثَلَاثَةٍ يَا أُمَّةَ الْإِسْلَامِ فَإِنْ نَوَى الزَّائِرُ فِيمَا أَضْمَرَهْ ... فِي نَفْسِهِ تَذْكِرَةً بِالْآخِرَهْ ثُمَّ الدُّعَا لَهُ1 وَلِلْأَمْوَاتِ ... بِالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ عَنِ الزَّلَّاتِ وَلَمْ يَكُنْ شَدَّ الرِّحَالَ نَحْوَهَا ... وَلَمْ يَقُلْ هُجْرًا كَقَوْلٍ السُّفَهَا2 فَتِلْكَ سُنَّةٌ أَتَتْ صَرِيحَهْ ... فِي السُّنَنِ الْمُثْبَتَةِ الصَّحِيحَهْ أَوْ قَصَدَ الدُّعَاءَ وَالتَّوَسُّلَا ... بِهِمْ إِلَى الرَّحْمَنِ جَلَّ وَعَلَا فَبِدْعَةٌ مُحْدَثَةٌ ضَلَالَهْ ... بَعِيدَةٌ عَنْ هَدْيِ ذِي الرِّسَالَهْ3 وَإِنْ دَعَا الْمَقْبُورَ نَفْسَهُ فَقَدْ ... أَشْرَكَ بالله العظيم وحجد لَنْ يَقْبَلَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ ... صَرْفًا وَلَا عَدْلًا فَيَعْفُو عَنْهُ إِذْ كُلُّ ذَنْبٍ مُوشِكُ الْغُفْرَانِ ... إِلَا اتِّخَاذَ النِّدِّ لِلرَّحْمَنِ فصل: فِي بَيَانِ مَا وَقَعَ فِيهِ الْعَامَّةُ اليوم, ما يفعلونه عِنْدَ الْقُبُورِ وما يَرْتَكِبُونَهُ مِنَ الشِّرْكِ الصَّرِيحِ وَالْغُلُوِّ الْمُفْرِطِ فِي الْأَمْوَاتِ وَمَنْ عَلَى القبر سراجا أوقد ... أَوِ ابْتَنَى عَلَى الضَّرِيحِ مَسْجِدَا
فَإِنَّهُ مُجَدِّدٌ جِهَارَا ... لِسُنَنِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى كَمْ حَذَّرَ الْمُخْتَارُ عَنْ ذَا وَلَعَنْ ... فَاعِلَهُ كَمَا رَوَى أَهْلُ السُّنَنْ بَلْ قَدْ نَهَى عَنِ ارْتِفَاعِ الْقَبْرِ ... وَأَنْ يُزَادَ فِيهِ فَوْقَ الشِّبْرِ وَكُلُّ قَبْرٍ مُشْرِفٍ فَقَدْ أَمَرْ ... بِأَنْ يُسَوَّى هَكَذَا صَحَّ الْخَبَرْ وَحَذَّرَ الْأُمَّةَ عَنْ إِطْرَائِهِ ... فَغَرَّهُمْ إِبْلِيسُ بِاسْتِجْرَائِهِ فَخَالَفُوهُ جَهْرَةً وَارْتَكَبُوا ... مَا قَدْ نَهَى عَنْهُ وَلَمْ يَجْتَنِبُوا فَانْظُرْ إِلَيْهِمْ قَدْ غَلَوْا وَزَادُوا ... وَرَفَعُوا بِنَاءَهَا وَشَادُوا بِالشِّيدِ1 وَالْآجُرِّ وَالْأَحْجَارِ ... لَا سِيَّمَا فِي هَذِهِ الْأَعْصَارِ وَلِلْقَنَادِيلِ عَلَيْهَا أَوْقَدُوا ... وَكَمْ لِوَاءٍ فَوْقَهَا قَدْ عَقَدُوا وَنَصَبُوا2 الْأَعْلَامَ وَالرَّايَاتِ ... وَافْتَتَنُوا بِالْأَعْظُمِ الرُّفَاتِ بَلْ نحروا في سواحها النَّحَائِرْ ... فِعْلَ أُولِي التَّسْيِيبِ وَالْبَحَائِرْ وَالْتَمَسُوا الْحَاجَاتِ مِنْ مَوْتَاهُمُ ... وَاتَّخَذُوا إِلَهَهُمْ هَوَاهُمُ قَدْ صَادَهُمْ إِبْلِيسُ فِي فِخَاخِهِ ... بَلْ بَعْضُهُمْ قَدْ صَارَ مِنْ أَفْرَاخِهِ يَدْعُو إِلَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ ... بِالْمَالِ وَالنَّفْسِ وَبِاللِّسَانِ فَلَيْتَ شِعْرِي مَنْ أَبَاحَ ذَلِكْ ... وَأَوْرَطَ الْأُمَّةَ فِي الْمَهَالِكْ فَيَا شَدِيدَ الطَّوْلِ وَالْإِنْعَامِ ... إِلَيْكَ نَشْكُو مِحْنَةَ الْإِسْلَامِ3
فصل: فِي بَيَانِ حَقِيقَةِ السِّحْرِ وَحَدِّ السَّاحِرِ وَأَنَّ مِنْهُ عِلْمَ التَّنْجِيمِ. وَذِكْرِ عُقُوبَةِ مَنْ صَدَّقَ كَاهِنًا وَالسِّحْرُ حَقٌّ وَلَهُ تَأْثِيرُ ... لَكِنْ بِمَا قَدَّرَهُ الْقَدِيرُ أَعْنِي بِذَا التَّقْدِيرِ مَا قَدْ قَدَّرَهْ ... فِي الْكَوْنِ لَا فِي الشِّرْعَةِ الْمُطَهَّرَهْ وَاحْكُمْ عَلَى السَّاحِرِ بِالتَّكْفِيرِ ... وَحَدُّهُ الْقَتْلُ بِلَا نَكِيرِ كَمَا أَتَى فِي السُّنَّةِ الْمُصَرَّحَهْ ... مِمَّا رَوَاهُ1 التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهْ عَنْ جُنْدُبٍ وَهَكَذَا فِي أَثَرْ2 ... أَمْرٌ بِقَتْلِهِمْ رُوِي عَنْ عُمَرْ وَصَحَّ عَنْ حَفْصَةَ عِنْدَ مَالِكِ ... مَا فِيهِ أَقْوَى مُرْشِدٍ لِلسَّالِكِ هَذَا وَمِنْ أَنْوَاعِهِ وَشُعَبِهْ ... عِلْمُ النُّجُومِ فَادْرِ هَذَا وَانْتَبِهْ وَحِلُّهُ بِالْوَحْيِ نَصًّا يُشْرَعُ ... أَمَّا بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَيُمْنَعُ3 وَمَنْ يُصَدِّقْ كَاهِنًا فَقَدْ كَفَرْ ... بِمَا أَتَى بِهِ الرَّسُولُ4 الْمُعْتَبَرْ فصل: يَجْمَعُ مَعْنَى حَدِيثِ جِبْرِيلَ الْمَشْهُورِ فِي تَعْلِيمِنَا الدِّينَ وَأَنَّهُ يَنْقَسِمُ إِلَى ثَلَاثِ مَرَاتِبَ: الْإِسْلَامُ وَالْإِيمَانُ وَالْإِحْسَانُ، وَبَيَانِ أَرْكَانِ كُلٍّ مِنْهَا اعْلَمْ بِأَنَّ الدِّينَ قَوْلٌ وَعَمَلْ ... فَاحْفَظْهُ وَافْهَمْ مَا عَلَيْهِ ذَا اشْتَمَلْ5
كَفَاكَ مَا قَدْ قَالَهُ الرَّسُولُ ... إِذْ جَاءَهُ يَسْأَلُهُ جِبْرِيلُ عَلَى مَرَاتِبٍ ثَلَاثٍ فَصَّلَهْ ... جَاءَتْ عَلَى جَمِيعِهِ مُشْتَمِلَهْ: الِاسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَالْإِحْسَانِ ... وَالْكُلُّ مَبْنِيٌّ عَلَى أَرْكَانِ فَقَدْ أَتَى: الْإِسْلَامُ مَبْنِيٌّ1 عَلَى ... خَمْسٍ فَحَقِّقْ وَادْرِ مَا قَدْ نُقِلَا أَوَّلُهَا الرُّكْنُ الْأَسَاسُ الْأَعْظَمُ ... وَهْوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ الْأَقْوَمُ رُكْنُ الشَّهَادَتَيْنِ فَاثْبُتْ وَاعْتَصِمْ ... بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى الَّتِي لَا تَنْفَصِمْ وَثَانِيًا2 إِقَامَةُ الصلَاةِ ... وَثَالِثًا3 تَأْدِيَةُ الزَّكَاةِ وَالرَّابِعُ الصِّيَامُ فَاسْمَعْ وَاتَّبِعْ ... وَالْخَامِسُ الْحَجُّ عَلَى مَنْ يَسْتَطِعْ فَتِلْكَ خَمْسَةٌ. وَلِلْإِيمَانِ ... سِتَّةُ أَرْكَانٍ بِلَا نُكْرَانِ إِيمَانُنَا بِاللَّهِ ذِي الْجَلَالِ ... وَمَا لَهُ مِنْ صِفَةِ الْكَمَالِ وَبِالْمَلَائِكَةِ4 الْكِرَامِ الْبَرَرَهْ ... وَكُتْبِهِ الْمُنْزَلَةِ الْمُطَهَّرَهْ وَرُسْلِهِ الْهُدَاةِ لِلْأَنَامِ ... مِنْ غَيْرِ تَفْرِيقٍ وَلَا إِيهَامِ أَوَّلُهُمْ نُوحٌ بِلَا شَكٍّ كَمَا ... أَنَّ مُحَمَّدًا لَهُمْ قَدْ خَتَمَا وخمسة منهم أولو الْعَزْمِ الْأُلَى ... فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ والشورى تلا وبالميعاد أَيْقِنْ بِلَا تَرَدُّدِ ... وَلَا ادِّعَا عِلْمٍ بِوَقْتِ الْمَوْعِدِ لَكِنَّنَا نُؤْمِنْ مِنْ غَيْرِ امْتِرَا ... بِكُلِّ مَا قَدْ صَحَّ عَنْ خَيْرِ الْوَرَى مِنْ ذِكْرِ آيَاتٍ تَكُونُ قَبْلَهَا ... وَهْيَ عَلَامَاتٌ وَأَشْرَاطٌ لَهَا وَيَدْخُلُ الْإِيمَانُ بِالْمَوْتِ وَمَا ... مِنْ بَعْدِهِ عَلَى الْعِبَادِ حُتِمَا وَأَنَّ كُلًّا5 مُقْعَدٌ مَسْئُولُ: ... مَا الرَّبُّ مَا الدِّينُ وَمَا الرَّسُولُ؟
وَعِنْدَ ذَا يُثَبِّتُ الْمُهَيْمِنُ ... بِثَابِتِ الْقَوْلِ الَّذِينَ آمَنُوا وَيُوقِنُ الْمُرْتَابُ عِنْدَ ذَلِكْ ... بِأَنَّ مَا مَوْرِدُهُ الْمَهَالِكْ وَبِاللِّقَا وَالْبَعْثِ وَالنُّشُورِ ... وَبِقِيَامِنَا مِنَ الْقُبُورِ غُرْلًا حُفَاةً كَجَرَادٍ مُنْتَشِرْ ... يَقُولُ ذُو الْكُفْرَانِ: ذَا يَوْمٌ عَسِرْ وَيُجْمَعُ الْخَلْقُ لِيَوْمِ الْفَصْلِ ... جَمِيعُهُمْ عُلْوِيُّهُمْ وَالسُّفْلِي فِي مَوْقِفٍ يَجِلُّ فِيهِ الْخَطْبُ ... وَيَعْظُمُ الْهَوْلُ بِهِ وَالْكَرْبُ وَأُحْضِرُوا لِلْعَرْضِ وَالْحِسَابِ1 ... وَانْقَطَعَتْ عَلَائِقُ الْأَنْسَابِ وَارْتَكَمَتْ سَجَائِبُ الْأَهْوَالِ ... وَانْعَجَمَ الْبَلِيغُ فِي الْمَقَالِ وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْقَيُّومِ ... وَاقْتُصَّ مِنْ ذِي الظُّلْمِ لِلْمَظْلُومِ وَسَاوَتِ الْمُلُوكُ لِلْأَجْنَادِ ... وَجِيءَ بِالْكِتَابِ وَالْأَشْهَادِ وَشَهِدَتِ الْأَعْضَاءُ وَالْجَوَارِحُ ... وَبَدَتِ السَّوْءَآتُ وَالْفَضَائِحُ وَابْتُلِيَتْ هُنَالِكَ السَّرَائِرْ ... وَانْكَشَفَ الْمَخْفِيُّ فِي الضَّمَائِرْ وَنُشِرَتْ صَحَائِفُ الْأَعْمَالِ ... تُؤْخَذُ بِالْيَمِينِ وَالشِّمَالِ طُوبَى2 لِمَنْ يَأْخُذُ3 بِالْيَمِينِ ... كِتَابَهُ بُشْرَى بِحُورٍ عِينِ وَالْوَيْلُ لِلْآخِذِ بِالشِّمَالِ ... وَرَاءَ ظَهْرٍ لِلْجَحِيمِ صَالِي وَالْوَزْنُ بِالْقِسْطِ فَلَا ظُلْمَ وَلَا ... يُؤْخَذُ عَبْدٌ بِسِوَى مَا عَمِلَا فَبَيْنَ نَاجٍ رَاجِحٍ مِيزَانُهُ ... وَمُقْرِفٍ أَوْبَقَهُ عُدْوَانُهُ وَيُنْصَبُ الْجِسْرُ بِلَا امْتِرَاءِ ... كَمَا أَتَى فِي مُحْكَمِ الْأَنْبَاءِ يَجُوزُهُ النَّاسُ عَلَى أَحْوَالِ ... بِقَدْرِ كَسْبِهِمْ مِنَ الْأَعْمَالِ
فَبَيْنَ مُجْتَازٍ إِلَى الْجِنَانِ ... وَمُسْرِفٍ يُكَبُّ فِي النِّيرَانِ وَالنَّارُ وَالْجَنَّةُ حَقٌّ وَهُمَا ... مَوْجُودَتَانِ لَا فَنَاءَ لَهُمَا وَحَوْضُ خَيْرِ الْخَلْقِ حَقٌّ وَبِهِ ... يَشْرَبُ فِي الْأُخْرَى جَمِيعُ حِزْبِهِ كذا له لواء حمد ينشر ... وتحته الرسل جميعا تحشر كَذَا لَهُ الشَّفَاعَةُ الْعُظْمَى كَمَا ... قَدْ خَصَّهُ اللَّهُ بِهَا تَكَرُّمَا مِنْ بَعْدِ إِذْنِ اللَّهِ لَا كَمَا يَرَى ... كُلُّ قُبُورِيٍّ عَلَى اللَّهِ افْتَرَى يَشْفَعُ أَوَّلًا إِلَى الرَّحْمَنِ فِي ... فَصْلِ الْقَضَاءِ بَيْنَ أَهْلِ الْمَوْقِفِ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَطْلُبَهَا النَّاسُ إِلَى ... كُلِّ أُولِي الْعَزْمِ الْهُدَاةِ الْفُضَلَا وَثَانِيًا يَشْفَعُ فِي اسْتِفْتَاحِ ... دَارِ النَّعِيمِ لِأُولِي الْفَلَاحِ هَذَا وَهَاتَانِ الشَّفَاعَتَانِ ... قَدْ خُصَّتَا بِهِ بِلَا نُكْرَانِ وَثَالِثًا يَشْفَعُ فِي أَقْوَامٍ ... مَاتُوا عَلَى دِينِ الْهُدَى الْإِسْلَامِ وَأَوْبَقَتْهُمْ كَثْرَةُ الْآثَامِ ... فَأُدْخِلُوا النَّارَ بِذَا الْإِجْرَامِ أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا إِلَى الْجِنَانِ ... بِفَضْلِ رَبِّ الْعَرْضِ ذِي الْإِحْسَانِ وَبَعْدَهُ يَشْفَعُ كُلُّ مُرْسَلِ ... وَكُلُّ عَبْدٍ ذِي صَلَاحٍ وَوَلِي وَيُخْرِجُ اللَّهُ مِنَ النِّيرَانِ ... جَمِيعَ مَنْ مَاتَ عَلَى الْإِيمَانِ فِي نَهْرِ الْحَيَاةِ يُطْرَحُونَا ... فَحْمًا فَيَحْيَوْنَ وَيَنْبِتُونَا كَأَنَّمَا يَنْبُتُ فِي هَيْئَاتِهِ ... حَبُّ حَمِيلِ السَّيْلِ فِي حَافَاتِهِ وَالسَّادِسُ الْإِيمَانُ بِالْأَقْدَارِ ... فَأَيْقِنَنْ بِهَا وَلَا تُمَارِ1 فَكُلُّ شَيْءٍ بِقَضَاءٍ وَقَدَرْ ... وَالْكُلُّ فِي أُمِّ الْكِتَابِ مُسْتَطَرْ لَا نَوْءَ لَا عَدْوَى لا طِيَرَ وَلَا ... عَمَّا قَضَى اللَّهُ تَعَالَى حِوَلَا لَا غَوْلَ لَا هَامَةَ لَا وَلَا صَفَرْ ... كَمَا بِذَا أَخْبَرَ2 سَيِّدُ الْبَشَرْ
وَثَالِثٌ مَرْتَبَةُ الْإِحْسَانِ ... وَتِلْكَ أَعْلَاهَا لَدَى الرَّحْمَنِ وَهْوَ1 رُسُوخُ الْقَلْبِ فِي الْعِرْفَانِ ... حَتَّى يَكُونَ2 الْغَيْبُ كَالْعِيَانِ فصل: فِي كَوْنِ الْإِيمَانِ يَزِيدُ بِالطَّاعَةِ وَيَنْقُصُ بِالْمَعْصِيَةِ وَأَنَّ فَاسِقَ أَهْلِ الْمِلَّةِ لَا يَكْفُرُ بِذَنْبٍ دُونَ الشِّرْكِ إِلَّا إِذَا اسْتَحَلَّهُ وأنه تحت المشيءة، وَأَنَّ التَّوْبَةَ مَقْبُولَةٌ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ إِيمَانُنَا يَزِيدُ بِالطَّاعَاتِ ... وَنَقْصُهُ يَكُونُ بِالزَّلَّاتِ3 وَأَهْلُهُ فِيهِ عَلَى تَفَاضُلِ ... هَلْ أَنْتَ كَالْأَمْلَاكِ أَوْ كَالرُّسُلِ وَالْفَاسِقُ الْمِلِّيُّ ذُو الْعِصْيَانِ ... لَمْ يُنْفَ عَنْهُ مُطْلَقُ الْإِيمَانِ لَكِنْ بِقَدْرِ الْفِسْقِ وَالْمَعَاصِي ... إِيمَانُهُ مَا زَالَ فِي انْتِقَاصِ وَلَا نَقُولُ إِنَّهُ فِي النَّارِ ... مُخَلَّدٌ، بَلْ أَمْرُهُ للباري تحت مشيءة الْإِلَهِ النَّافِذَهْ ... إِنْ شَا عَفَا عَنْهُ وَإِنْ شَا آخَذَهْ بِقَدْرِ ذَنْبِهِ، وَإِلَى4 الْجِنَانِ ... يُخْرَجُ إِنْ مَاتَ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْعَرْضُ تَيْسِيرُ الْحِسَابِ فِي النَّبَا ... وَمَنْ يُنَاقَشِ الْحِسَابَ عُذِّبَا وَلَا نُكَفِّرْ بِالْمَعَاصِي مُؤْمِنَا ... إِلَا مَعَ اسْتِحْلَالِهِ لِمَا جَنَى وَتُقْبَلُ التَّوْبَةُ قَبْلَ الْغَرْغَرَهْ ... كَمَا أَتَى فِي الشِّرْعَةِ الْمُطَهَّرَهْ أَمَّا مَتَى تُغْلَقُ عَنْ طَالِبِهَا؟ ... فَبِطُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا5
فصل: فِي مَعْرِفَةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَتَبْلِيغِهِ الرِّسَالَةَ وَإِكْمَالِ اللَّهِ لَنَا بِهِ الدِّينَ، وَأَنَّهُ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ، وَسَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ أَجْمَعِينَ وَأَنَّ مَنِ ادَّعَى النُّبُوَّةَ بَعْدَهُ فَهُوَ كَاذِبٌ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ مِنْ هَاشِمٍ ... إِلَى الذَّبِيحِ دُونَ شَكٍّ يَنْتَمِي أَرْسَلَهُ اللَّهُ إِلَيْنَا مُرْشِدَا ... وَرَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ وَهُدَى1 مَوْلِدُهُ بِمَكَّةَ الْمُطَهَّرَهْ ... هِجْرَتُهُ لِطَيْبَةَ الْمُنَوَّرَهْ بَعْدَ أَرْبَعِينَ بَدَأَ الْوَحْيُ بِهِ ... ثُمَّ دَعَا إِلَى سَبِيلِ رَبِّهِ عَشْرَ سِنِينَ أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا ... رَبًّا تَعَالَى شَأْنُهُ وَوَحِّدُوا وَكَانَ قَبْلَ ذَاكَ فِي غَارِ حِرَا ... يَخْلُو بِذِكْرِ رَبِّهِ عَنِ الْوَرَى وَبَعْدَ خَمْسِينَ مِنَ الْأَعْوَامِ ... مَضَتْ لِعُمْرِ سَيِّدِ الْأَنَامِ أَسْرَى بِهِ اللَّهُ إِلَيْهِ فِي الظُّلَمْ ... وَفَرَضَ الْخَمْسَ عَلَيْهِ وَحَتَمْ وَبَعْدَ أَعْوَامٍ ثَلَاثَةٍ مَضَتْ ... مِنْ بَعْدِ مِعْرَاجِ النَّبِيِّ وَانْقَضَتْ أُوذِنَ بِالْهِجْرَةِ نَحْوَ يَثْرِبَا ... مَعَ كُلِّ مُسْلِمٍ لَهُ قَدْ صَحِبَا وَبَعْدَهَا كُلِّفَ بِالْقِتَالِ ... لِشِيعَةِ الْكُفْرَانِ وَالضَّلَالِ حَتَّى أَتَوْا لِلدِّينِ مُنْقَادِينَا ... وَدَخَلُوا فِي السِّلْمِ مُذْعِنِينَا وَبَعْدَ أَنْ قَدْ بَلَّغَ الرِّسَالَهْ ... وَاسْتَنْقَذَ الْخَلْقَ مِنَ الْجَهَالَهْ وَأَكْمَلَ اللَّهُ بِهِ2 الْإِسْلَامَا ... وَقَامَ دِينُ الْحَقِّ وَاسْتَقَامَا قَبَضَهُ اللَّهُ الْعَلِيُّ الْأَعْلَى ... سُبْحَانَهُ إِلَى الرَّفِيقِ الْأَعْلَى نَشْهَدُ بِالْحَقِّ بِلَا ارْتِيَابِ ... بِأَنَّهُ الْمُرْسَلُ بِالْكِتَابِ
وَأَنَّهُ بَلَّغَ مَا قَدْ أُرْسِلَا ... بِهِ وَكُلُّ مَا إِلَيْهِ أُنْزِلَا وَكُلُّ مَنْ مِنْ بَعْدِهِ قَدِ ادَّعَى ... نُبُوَّةً فَكَاذِبٌ فِيمَا ادَّعَى فَهْوَ خِتَامُ الرُّسْلِ بِاتِّفَاقِ ... وَأَفْضَلُ الْخَلْقِ عَلَى الْإِطْلَاقِ فصل: فِيمَنْ هُوَ أَفْضَلُ الْأُمَّةِ بَعْدَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذِكْرِ الصَّحَابَةِ بِمَحَاسِنِهِمْ، وَالْكَفِّ عَنْ مَسَاوِئِهِمْ وَمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ وَبَعْدَهُ الْخَلِيفَةُ الشَّفِيقُ ... نِعْمَ نَقِيبُ الْأُمَّةِ الصِّدِّيقُ ذَاكَ رَفِيقُ الْمُصْطَفَى فِي الْغَارِ ... شَيْخُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَهْوَ الَّذِي بِنَفْسِهِ تَوَلَّى ... جِهَادَ1 مَنْ عَنِ الْهُدَى تَوَلَّى ثَانِيهِ فِي الْفَضْلِ بِلَا ارْتِيَابِ ... الصَّادِعُ النَّاطِقُ بِالصَّوَابِ أَعْنِي بِهِ الشَّهْمَ أَبَا حَفْصٍ عُمَرْ ... مَنْ ظَاهَرَ الدِّينَ الْقَوِيمَ وَنَصَرْ الصَّارِمُ الْمُنْكِي عَلَى الْكُفَّارِ ... وَمُوسِعُ الْفُتُوحِ فِي الْأَمْصَارِ2 ثَالِثُهُمْ عُثْمَانُ ذُو النُّورَيْنِ ... ذُو الْحِلْمِ وَالْحَيَا بِغَيْرِ مَيْنِ بَحْرُ الْعُلُومِ جَامِعُ الْقُرْآنِ ... مِنْهُ اسْتَحَتْ مَلَائِكُ الرَّحْمَنِ بَايَعَ عَنْهُ سَيِّدُ الْأَكْوَانِ ... بِكَفِّهِ فِي بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ وَالرَّابِعُ ابْنُ عَمِّ خَيْرِ الرُّسُلِ ... أَعْنِي الْإِمَامَ الْحَقَّ ذَا الْقَدْرِ الْعَلِي مُبِيدُ كُلِّ خَارِجِيٍّ مَارِقِ ... وَكُلِّ خِبٍّ رَافِضِيٍّ فَاسِقِ مَنْ كَانَ لِلرَّسُولِ3 فِي مَكَانِ ... هَارُونَ مِنْ مُوسَى بِلَا نُكْرَانِ لَا فِي4 نُبُوَّةٍ، فَقَدْ قَدَّمْتُ مَا ... يَكْفِي لِمَنْ مِنْ سُوءِ ظَنٍّ سَلِمَا
فَالسِّتَّةُ الْمُكَمِّلُونَ الْعَشَرَهْ ... وَسَائِرُ الصَّحْبِ الْكِرَامِ الْبَرَرَهْ وَأَهْلُ بَيْتِ الْمُصْطَفَى الْأَطْهَارُ ... وَتَابِعُوهُ السَّادَةُ الْأَخْيَارُ فَكُلُّهُمْ فِي مُحْكَمِ الْقُرْآنِ ... أَثْنَى عَلَيْهِمْ خَالِقُ الْأَكْوَانِ فِي الْفَتْحِ وَالْحَدِيدِ وَالْقِتَالِ ... وَغَيْرِهَا بِأَكْمَلِ الْخِصَالِ كَذَاكَ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ ... صِفَاتُهُمْ مَعْلُومَةُ التَّفْصِيلِ وَذِكْرُهُمْ فِي سُنَّةِ الْمُخْتَارِ ... قَدْ سَارَ سَيْرَ الشَّمْسِ فِي الْأَقْطَارِ ثُمَّ السُّكُوتُ وَاجِبٌ عَمَّا جَرَى ... بَيْنَهُمُ مِنْ فِعْلِ مَا قَدْ قُدِّرَا فَكُلُّهُمْ مُجْتَهِدٌ مُثَابُ ... وَخِطْؤُهُمْ يَغْفِرُهُ الْوَهَّابُ خَاتِمَةٌ: فِي وُجُوبِ التَّمَسُّكِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالرُّجُوعِ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ إِلَيْهِمَا, فَمَا خَالَفَهُمَا فَهُوَ رَدٌّ شَرْطُ قُبُولِ السَّعْيِ أَنْ يَجْتَمِعَا ... فِيهِ إِصَابَةٌ وَإِخْلَاصٌ مَعَا لِلَّهِ1 رَبِّ الْعَرْشِ لَا سِوَاهُ ... مُوَافِقَ الشَّرْعِ الَّذِي ارْتَضَاهُ وَكُلُّ مَا خَالَفَ لِلْوَحْيَيْنِ ... فَإِنَّهُ رَدٌّ بِغَيْرِ مَيْنِ وَكُلُّ مَا فِيهِ الْخِلَافُ2 نُصِبَا ... فَرَدُّهُ إِلَيْهِمَا قَدْ وَجَبَا فَالدِّينُ إِنَّمَا أَتَى بِالنَّقْلِ ... لَيْسَ بِالْأَوْهَامِ وَحَدْسِ الْعَقْلِ ثُمَّ إِلَى هُنَا قد انتهيت ... وتما مَا بِجَمْعِهِ عُنِيتُ سَمَّيْتُهُ بِسُلَّمِ الْوُصُولِ ... إِلَى سَمَا مَبَاحِثِ الْأُصُولِ
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى انْتِهَائِي ... كَمَا حَمِدْتُ اللَّهَ فِي ابْتِدَائِي أَسْأَلُهُ مَغْفِرَةَ الذُّنُوبِ ... جَمِيعِهَا وَالسِّتْرَ لِلْعُيُوبِ ثُمَّ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَبَدَا ... تَغْشَى الرَّسُولَ الْمُصْطَفَى مُحَمَّدَا ثُمَّ جَمِيعَ صَحْبِهِ وَالْآلِ ... السَّادَةِ الْأَئِمَّةِ الْأَبْدَالِ تَدُومُ سَرْمَدًا بِلَا نَفَادِ ... مَا جَرَتِ الْأَقْلَامُ بِالْمِدَادِ ثُمَّ الدُّعَا وَصِيَّةُ الْقُرَّاءِ ... جَمِيعِهِمْ مِنْ غَيْرِ مَا اسْتِثْنَاءِ أَبْيَاتُهَا "يُسْرٌ" بِعَدِّ الْجُمَلِ1 ... تَأْرِيخُهَا "الْغُفْرَانُ" فَافْهَمْ2 وادع لي 270 1362هـ
مقدمة الكتاب
بِسْمِ اللَّهِ الرحمن الرحيم مقدمة "المصنف": الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ، الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَلَا خَالِقَ غَيْرُهُ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ، الْمُسْتَحِقُّ لِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ وَلِذَا قَضَى أَنْ لَا نَعْبُدَ إِلَّا إِيَّاهُ، ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ. عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الَّذِي اسْتَوَى فِي عِلْمِهِ مَا أَسَرَّ الْعَبْدُ وَمَا أَظْهَرَ، الَّذِي عَلِمَ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ وَمَا لَمْ يَكُنْ لَوْ كَانَ كَيْفَ يَكُونُ، وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِثْقَالُ ذرة في السموات وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ، يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا. كَيْفَ لَا وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ وَقَدَّرَ، أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ. رَحْمَنُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَرَحِيمُهُمَا الَّذِي كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، الَّذِي غَلَبَتْ رَحْمَتُهُ غَضَبَهُ كَمَا كَتَبَ ذَلِكَ عِنْدَهُ عَلَى عَرْشِهِ فِي الْكِتَابِ الْمُبِينِ، الَّذِي وَسِعَتْ رَحْمَتُهُ كُلَّ شَيْءٍ وَبِهَا يَتَرَاحَمُ الْخَلَائِقُ بَيْنَهُمْ، كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ، فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. الْمَلِكُ الْحَقُّ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا شَرِيكَ لَهُ فِي مُلْكِهِ وَلَا مُعِينَ، الْمُتَصَرِّفُ فِي خَلْقِهِ بِمَا يَشَاءُ مِنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْإِعْزَازِ وَالْإِذْلَالِ وَالْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ وَالْهِدَايَةِ وَالْإِضْلَالِ، أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، لَا رَادَّ لِقَضَائِهِ وَلَا مُضَادَّ لِأَمْرِهِ وَلَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ، له ملك السموات وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا
وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ. الْقُدُّوسُ الَّذِي اتَّصَفَ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ، وَتَقَدَّسَ عَنْ كُلِّ نَقْصٍ وَمُحَالٍ، وَتَعَالَى عَنِ الْأَشْبَاهِ وَالْأَمْثَالِ، حَرَامٌ عَلَى الْعُقُولِ أَنْ تَصِفَهُ وَعَلَى الْأَوْهَامِ أَنْ تُكَيِّفَهُ، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ. الْمُؤْمِنُ الَّذِي آمَنَ أَوْلِيَاءَهُ مِنْ خِزْيِ الدُّنْيَا وَوَقَاهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابَ الْهَاوِيَةِ، وَآتَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَسَيُحِلُّهُمْ دَارَ الْمُقَامَةِ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ، الْمُهَيْمِنُ الَّذِي شَهِدَ عَلَى الْخَلْقِ بِأَعْمَالِهِمْ وَهُوَ الْقَائِمُ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُمْ خَافِيَةٌ، إِنَّهُ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ. الْعَزِيزُ الَّذِي لَا مُغَالِبَ لَهُ وَلَا مَرَامَ لِجَنَابِهِ، الْجَبَّارُ الَّذِي لَهُ مُطْلَقُ الْجَبَرُوتِ وَالْعَظَمَةِ وَهُوَ الَّذِي يَجْبُرُ كُلَّ كَسِيرٍ مِمَّا بِهِ، الْمُتَكَبِّرُ الَّذِي لَا يَنْبَغِي الْكِبْرِيَاءُ إِلَّا لَهُ وَلَا يَلِيقُ إِلَّا بِجَنَابِهِ، الْعَظَمَةُ إِزَارُهُ وَالْكِبْرِيَاءُ رِدَاؤُهُ، فَمَنْ نَازَعَهُ صِفَةً مِنْهَا أَحَلَّ بِهِ الْغَضَبَ وَالْمَقْتَ وَالتَّدْمِيرَ. الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لِمَا شَاءَ إِذَا شَاءَ فِي أَيِّ صُورَةٍ شَاءَ مِنْ أَنْوَاعِ التَّصْوِيرِ، هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بصير، خلق السموات وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ، ما خلقكم وما بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ. الْغَفَّارُ الَّذِي لَوْ أَتَاهُ الْعَبْدُ بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا لَأَتَاهُ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً، الْقَهَّارُ الَّذِي قَصَمَ بِسُلْطَانِ قَهْرِهِ كُلَّ مَخْلُوقٍ وَقَهَرَهُ، الْوَهَّابُ الَّذِي كُلُّ مَوْهُوبٍ وَصَلَ إِلَى خَلْقِهِ فَمِنْ فَيْضِ بِحَارِ جُودِهِ وَفَضْلِهِ وَنَعْمَائِهِ الزَّاخِرَةِ، الرَّزَّاقُ الَّذِي لَا تَنْفَدُ خَزَائِنُهُ وَلَمْ يَغِضْ مَا فِي يَمِينِهِ، أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ منذ خلق السموات وَالْأَرْضَ مَاذَا نَقَصَ مِنْ فَضْلِهِ الْغَزِيرِ. يَرْزُقُ كُلَّ ذِي قُوتٍ قُوتَهُ ثُمَّ يُدَبِّرُ ذَلِكَ الْقُوتَ فِي الْأَعْضَاءِ بِحِكْمَتِهِ تَدْبِيرًا مُتْقَنًا مُحْكَمًا، يَرْزُقُ مِنْ هَذِهِ الدُّنْيَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ كَافِرٍ وَمُسْلِمٍ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَأَهْلًا وَخَدَمًا، وَلَا يَرْزُقُ الْآخِرَةَ إِلَّا أَهْلَ تَوْحِيدِهِ وَطَاعَتِهِ، قَضَى ذَلِكَ قَضَاءً حَتْمًا مُبْرَمًا، وَأَشْرَفُ الْأَرْزَاقِ فِي هَذِهِ الدَّارِ مَا رَزَقَهُ عَبْدَهُ عَلَى أَيْدِي رُسُلِهِ مِنْ أَسْبَابِ النَّجَاةِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ وَالْحِكْمَةِ وَتَبْيِينِ الْهُدَى الْمُسْتَنِيرِ. الْفَتَّاحُ الَّذِي يَفْتَحُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ بِمَا يَشَاءُ مِنْ فَضْلِهِ الْعَمِيمِ، يَفْتَحُ عَلَى هَذَا مَالًا وَعَلَى هَذَا مُلْكًا وَعَلَى هَذَا عِلْمًا وَحِكْمَةً، ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ، مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، الْعَلِيمُ الَّذِي أَحَاطَ عِلْمُهُ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ مِنْ مَاضٍ وَآتٍ ظَاهِرٍ وَكَامِنٍ
وَمُتَحَرِّكٍ وَسَاكِنٍ وَجَلِيلٍ وَحَقِيرٍ. عَلِمَ بِسَابِقِ عِلْمِهِ عَدَدَ أَنْفَاسِ خَلْقِهِ وَحَرَكَاتِهِمْ وَسَكَنَاتِهِمْ وَأَعْمَالَهُمْ وَأَرْزَاقَهُمْ وَآجَالَهُمْ وَمَنْ هُوَ مِنْهُمْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَمَنْ هُوَ مِنْهُمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ، وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ. مَا مِنْ جَبَلٍ إِلَّا وَيَعْلَمُ مَا فِي وَعْرِهِ، وَلَا بَحْرٍ إِلَّا وَيَدْرِي مَا فِي قَعْرِهِ وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ، وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ، إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ. الْقَابِضُ الْبَاسِطُ فَيَقْبِضُ عَمَّنْ يَشَاءُ رِزْقَهُ فَيَقْدِرُهُ عَلَيْهِ، وَيَبْسُطُهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ فَيُوَسِّعُ عَلَيْهِ، وَكَذَا لَهُ الْقَبْضُ وَالْبَسْطُ فِي أَعْمَالِ عِبَادِهِ وَقُلُوبِهِمْ، كُلُّ ذَلِكَ إِلَيْهِ، إِذْ هُوَ الْمُتَفَرِّدُ بِالْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ وَالْهِدَايَةِ وَالْإِضْلَالِ وَالْإِيجَادِ وَالْإِعْدَامِ وَأَنْوَاعِ التَّصَرُّفِ وَالتَّدْبِيرِ. الْخَافِضُ الرَّافِعُ، الضَّارُّ النَّافِعُ الْمُعْطِي الْمَانِعُ فَلَا رَافِعَ لِمَنْ خَفَضَ وَلَا خَافِضَ لِمَنْ رَفَعَهُ وَلَا نَافِعَ لِمَنْ ضَرَّ وَلَا ضَارَّ لِمَنْ نَفَعَهُ وَلَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَى وَلَا مُعْطِيَ لِمَنْ هُوَ مَانِعٌ، فَلَوِ اجتمع أهل السموات السَّبْعِ وَالْأَرَضِينَ السَّبْعِ وَمَا فِيهِنَّ وَمَا بَيْنَهُمَا عَلَى خَفْضِ مَنْ هُوَ رَافِعُهُ أَوْ ضُرِّ مَنْ هُوَ نَافِعُهُ أَوْ إِعْطَاءِ مَنْ هُوَ مَانِعُهُ لَمْ يَكُ ذَلِكَ فِي اسْتِطَاعَتِهِمْ بِوَاقِعٍ. وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. الْمُعِزُّ الْمُذِلُّ الَّذِي أَعَزَّ أَوْلِيَاءَهُ الْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَأَيَّدَهُمْ بِنَصْرِهِ الْمُبِينِ وَبَرَاهِينِهِ الْقَوِيمَةِ الْمُتَظَاهِرَةِ، وَأَذَلَّ أَعْدَاءَهُ فِي الدَّارَيْنِ وَضَرَبَ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةَ وَالصَّغَارَ وَجَعَلَ عَلَيْهِمُ الدَّائِرَةَ فَمَا لِمَنْ وَالَاهُ وَأَعَزَّهُ مِنْ مُذِلٍّ وَمَا لِمَنْ عَادَاهُ وَأَذَلَّهُ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ. السَّمِيعُ الْبَصِيرُ لَا كَسَمْعِ وَلَا بَصَرِ أَحَدٍ مِنَ الْوَرَى، الْقَائِلُ لِمُوسَى وَهَارُونَ إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى، فَمَنْ نَفَى عَنِ اللَّهِ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ أَوْ شَبَّهَ صِفَاتِهِ بِصِفَاتِ خَلْقِهِ فَقَدِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى، لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ. الْحَكَمُ الْعَدْلُ فِي قَضَائِهِ وَقَدَرِهِ وَشَرْعِهِ وَأَحْكَامِهِ قَوْلًا وَفِعْلًا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. فَلَا يَحِيفُ فِي حُكْمِهِ وَلَا يَجُورُ، وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ. الَّذِي حَرَّمَ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِهِ وَجَعَلَهُ بَيْنَ عِبَادِهِ مُحَرَّمًا وَوَعَدَ الظَّالِمِينَ الْوَعِيدَ الْأَكِيدَ، وَفِي الْحَدِيثِ "إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ" 1
وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ، وَهُوَ الَّذِي يَضَعُ الْمُوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا بَلْ يُحْصِي عَلَيْهِمُ الْخَرْدَلَةَ والذرة والفتيل والقمطير. اللَّطِيفُ بِعِبَادِهِ مُعَافَاةً وَإِعَانَةً وَعَفْوًا وَرَحْمَةً وَفَضْلًا وَإِحْسَانًا، وَمِنْ مَعَانِي لُطْفِهِ إِدْرَاكُ أَسْرَارِ الْأُمُورِ حَيْثُ أَحَاطَ بِهَا خِبْرَةً تَفْصِيلًا وَإِجْمَالًا وَسِرًّا وَإِعْلَانًا، الْخَبِيرُ بِأَحْوَالِ مَخْلُوقَاتِهِ وَأَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ مَاذَا عَمِلُوا وَكَيْفَ عَمِلُوا وَأَيْنَ عَمِلُوا وَمَتَى عَمِلُوا حَقِيقَةً وَكَيْفِيَّةً وَمَكَانًا وَزَمَانًا، إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أو في السموات أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ. الْحَلِيمُ فَلَا يُعَاجِلُ أَهْلَ مَعْصِيَتِهِ بِالْعِقَابِ، بَلْ يُعَافِيهِمْ وَيُمْهِلُهُمْ لِيَتُوبُوا فَيَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الْعَظِيمُ. الَّذِي اتَّصَفَ بِكُلِّ مَعْنًى يُوجِبُ التَّعْظِيمَ وَهَلْ تَنْبَغِي الْعَظَمَةُ إِلَّا لِرَبِّ الْأَرْبَابِ، خَضَعَتْ لِعَظَمَتِهِ وَجَبَرُوتِهِ جَمِيعُ الْعُظَمَاءِ، وَذَلَّ لِعِزَّتِهِ وَكِبْرِيَائِهِ كُلُّ كَبِيرٍ. الْغَفُورُ الشَّكُورُ الَّذِي يَغْفِرُ الْكَثِيرَ مِنَ الزَّلَلِ، وَيَقْبَلُ الْيَسِيرَ مِنْ صَالِحِ الْعَمَلِ، فَيُضَاعِفُهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَيُثِيبُ عَلَيْهِ الثَّوَابَ الْجَلَلَ، وَكُلُّ هَذَا لِأَهْلِ التَّوْحِيدِ، أَمَّا الشِّرْكُ فَلَا يَغْفِرُهُ وَلَا يَقْبَلُ مَعَهُ مِنَ الْعَمَلِ مِنْ قَلِيلٍ وَلَا كَثِيرٍ. الْعَلِيُّ الَّذِي ثَبَتَ لَهُ كُلُّ مَعَانِي الْعُلُوِّ، عُلُوِّ الشَّأْنِ وَعُلُوِّ الْقَهْرِ وَعُلُوِّ الذَّاتِ، الَّذِي اسْتَوَى عَلَى عَرْشِهِ وَعَلَا عَلَى خَلْقِهِ بَائِنًا مِنْ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ، كَمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ فِي كِتَابِهِ وَأَخْبَرَ عَنْهُ رَسُولُهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي أَصَحِّ الرِّوَايَاتِ1، وَأَجْمَعَ عَلَى ذَلِكَ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ بِلَا نِزَاعٍ بَيْنَهُمْ وَلَا نَكِيرٍ. الْكَبِيرُ الَّذِي كُلُّ شَيْءٍ دُونَهُ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يوم القيامة والسموات مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ كَمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ نَصًّا بَيِّنًا مُحْكَمًا، الْحَفِيظُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فَلَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ، الَّذِي وسع كرسيه السموات وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا، حَفِظَ أَوْلِيَاءَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَنَجَّاهُمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ خَطِيرٍ. الْمُغِيثُ لِجَمِيعِ مَخْلُوقَاتِهِ فَمَا اسْتَغَاثَهُ
مَلْهُوفٌ إِلَّا نَجَّاهُ، الْحَسِيبُ الْوَكِيلُ الَّذِي مَا الْتَجَأَ إِلَيْهِ مُخْلِصٌ إِلَّا كَفَاهُ، وَلَا اعْتَصَمَ بِهِ مُؤْمِنٌ إِلَّا حَفِظَهُ وَوَقَاهُ، وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ. الْجَلِيلُ الَّذِي جَلَّ عَنْ كُلِّ نَقْصٍ وَاتَّصَفَ بِكُلِّ كَمَالٍ وَجَلَالٍ، الْجَمِيلُ الَّذِي لَهُ مُطْلَقُ الْجَمَالِ فِي الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَالْأَسْمَاءِ وَالْأَفْعَالِ، الْكَرِيمُ الَّذِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَ الْخَلْقِ وَآخِرَهُمْ وَإِنْسَهُمْ وَجِنَّهُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُوهُ فَأَعْطَى كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدَهُ إِلَّا كَمَا يُنْقِصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ1، كَمَا رَوَى عَنْهُ نَبِيُّهُ الْمُصْطَفَى الْمِفْضَالُ، وَمِنْ كَرَمِهِ أَنْ يُقَابِلَ الْإِسَاءَةَ بِالْإِحْسَانِ وَالذَّنْبَ بِالْغُفْرَانِ وَيَقْبَلَ التَّوْبَةَ وَيَعْفُوَ عَنِ التَّقْصِيرِ. الرَّقِيبُ عَلَى عِبَادِهِ بِأَعْمَالِهِمُ، الْعَلِيمُ بِأَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمُ، الْكَفِيلُ بِأَرْزَاقِهِمْ وَآجَالِهِمْ وَإِنْشَائِهِمْ وَمَآلِهِمُ، الْمُجِيبُ لِدُعَائِهِمْ وَسُؤَالِهِمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ. الْوَاسِعُ الَّذِي وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا، وَوَسِعَ خَلْقَهُ بِرِزْقِهِ وَنِعْمَتِهِ وَعَفْوِهِ وَرَحْمَتِهِ كَرَمًا وَحِلْمًا، يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا، لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ. الْحَكِيمُ فِي خَلْقِهِ وَتَدْبِيرِهِ إِحْكَامًا وَإِتْقَانًا، وَالْحَكِيمُ فِي شَرْعِهِ وَقَدَرِهِ عَدْلًا وَإِحْسَانًا، وَلَهُ الْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ وَالْحُجَّةُ الدَّامِغَةُ، وَمَنْ أَكْبَرُ مِنَ اللَّهِ شَهَادَةً وَأَوْضَحُ دَلِيلًا وَأَقْوَمُ بُرْهَانًا. فَهُوَ الْعَدْلُ وَحُكْمُهُ عَدْلٌ وَشَرْعُهُ عَدْلٌ وَقَضَاؤُهُ عَدْلٌ، فَلَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. الْوَدُودُ الَّذِي يُحِبُّ أَوْلِيَاءَهُ وَيُحِبُّونَهُ كَمَا أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ فِي مُحْكَمِ الْآيَاتِ، الْمُجِيبُ لِدَعْوَةِ الدَّاعِي إِذَا دَعَاهُ فِي أَيِّ مَكَانٍ كَانَ وَفِي أَيِّ وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ، فَلَا يَشْغَلُهُ سَمْعٌ عَنْ سَمْعٍ وَلَا تَخْتَلِفُ عَلَيْهِ الْمَطَالِبُ وَلَا تَشْتَبِهُ عَلَيْهِ الْأَصْوَاتُ، فَيَكْشِفُ الْغَمَّ وَيُذْهِبُ الْهَمَّ وَيُفَرِّجُ الْكَرْبَ وَيَسْتُرُ الْعَيْبَ وَهُوَ السِّتِّيرُ. الْمَجِيدُ الَّذِي هُوَ أَهْلُ الثَّنَاءِ كَمَا مَجَّدَ نَفْسَهُ وَهُوَ الْمُمَجَّدُ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَلْسُنِ وَتَبَايُنِ اللُّغَاتِ بِأَنْوَاعِ التَّمْجِيدِ، الْبَاعِثُ الَّذِي بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ الْفَعَّالُ لِمَا يُرِيدُ، الشَّهِيدُ الَّذِي هُوَ أَكْبَرُ كُلِّ شَيْءٍ شَهَادَةً وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا، أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ، هُوَ الْحَقُّ وَقَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ. الْقَوِيُّ الْمَتِينُ الَّذِي لَمْ
يَقُمْ لِقُوَّتِهِ شَيْءٌ وَهُوَ الشَّدِيدُ الْمِحَالِ, الْوَلِيُّ لِلْمُؤْمِنِينَ فَلَا غَالِبَ لِمَنْ تَوَلَّاهُ وَإِذَا أَرَادَ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ الْحَمِيدُ الَّذِي ثَبَتَ لَهُ جَمِيعُ أَنْوَاعِ الْمَحَامِدِ وَهَلْ يَثْبُتُ الْحَمْدُ إِلَّا لِذِي الْعِزَّةِ وَالْجَلَالِ, فَلَهُ الْحَمْدُ كَمَا يَقُولُ وَخَيْرًا مِمَّا نَقُولُ لَا نُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْهِ هُوَ كَمَا أَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ وَكَيْفَ يُحْصِي الْعَبْدُ الضَّعِيفُ ثَنَاءً عَلَى الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ. الْمُحْصِي الَّذِي أَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا وَهُوَ الْقَائِلُ: {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس: 21] الْمُبْدِئُ الْمُعِيدُ الَّذِي قَالَ وَهُوَ أَصْدَقُ الْقَائِلِينَ: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 104] {هُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الرُّومِ: 72] وَأَنَّى يُعْجِزُهُ إِعَادَتُهُ وَقَدْ خَلَقَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا كُلٌّ يَعْلَمُ ذَلِكَ وَيُقِرُّ بِهِ بِلَا نَكِيرٍ الْمُحْيِي الْمُمِيتُ الَّذِي انْفَرَدَ بِالْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ فَلَوِ اجْتَمَعَ الْخَلْقُ عَلَى إِمَاتَةِ نَفْسٍ هُوَ مُحْيِيهَا أَوْ إِحْيَاءِ نَفْسٍ هُوَ مُمِيتُهَا لَمْ يَكُ ذَلِكَ مُمْكِنًا وَهَلْ يَقْدِرُ الْمَخْلُوقُ الضَّعِيفُ عَلَى دَفْعِ إِرَادَةِ الْخَالِقِ الْعَلَّامِ. الْحَيُّ الدَّائِمُ الْبَاقِي الَّذِي لَا يَمُوتُ وَكُلُّ مَا سِوَاهُ زَائِلٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ، وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرَّحْمَنِ: 270] الْقَيُّومُ الَّذِي قَامَ بِنَفْسِهِ وَلَا قِوَامَ لِخَلْقِهِ إِلَّا بِهِ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى شَيْءٍ إِلَيْهِ فَقِيرٌ الْوَاحِدُ الْأَحَدُ الَّذِي لَا شَرِيكَ لَهُ فِي إِلَهِيَّتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَمَلَكُوتِهِ وَجَبَرُوتِهِ وَعَظَمَتِهِ وَكِبْرِيَائِهِ وَجَلَالِهِ لَا ضِدَّ لَهُ وَلَا نِدَّ وَلَا شَبِيهَ وَلَا كُفُؤَ وَلَا عَدِيلَ. الصَّمَدُ الَّذِي يَصْمُدُ إِلَيْهِ جَمِيعُ الْخَلَائِقِ فِي حَوَائِجِهِمْ وَمَسَائِلِهِمْ فَهُوَ الْمَقْصُودُ إِلَيْهِ فِي الرَّغَائِبِ الْمُسْتَغَاثُ بِهِ عِنْدَ الْمَصَائِبِ فَإِلَيْهِ مُنْتَهَى الطَّلَبَاتِ وَمِنْهُ يُسْأَلُ قَضَاءُ الْحَاجَاتِ وَهُوَ الَّذِي لَا تَعْتَرِيهِ الْآفَاتُ وَهُوَ حَسْبُنَا وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَهُوَ السَّيِّدُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي سُؤْدُدِهِ وَالْعَظِيمُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي عَظْمَتِهِ وَالْحَلِيمُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي حِلْمِهِ وَالْعَلِيمُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي عِلْمِهِ وَالْحَكِيمُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي حِكْمَتِهِ وَهُوَ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي صِفَاتِ الْكَمَالِ وَلَا تَنْبَغِي هَذِهِ الصِّفَاتُ لِغَيْرِ الْمَلِكِ الْجَلِيلِ الْقَادِرُ الْمُقْتَدِرُ الَّذِي إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شيء في السموات وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. الْمُقَدِّمُ الْمُؤَخِّرُ بِقُدْرَتِهِ الشَّامِلَةِ وَمَشِيئَتِهِ النَّافِذَةِ عَلَى وَفْقِ مَا قَدَّرَهُ وَسَبَقَ بِهِ عِلْمُهُ وَتَمَّتْ بِهِ كَلِمَتُهُ بِلَا تَبْدِيلٍ وَلَا
تَغْيِيرٍ. الْأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَهُ شَيْءٌ وَالْآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَهُ شَيْءٌ وَالظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَهُ شَيْءٌ وَالْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَهُ شَيْءٌ1، هَكَذَا فَسَّرَهُ الْبَشِيرُ النَّذِيرُ الْوَالِي فَلَا مُنَازِعَ لَهُ وَلَا مُضَادَّ. الْمُتَعَالِي عَنِ الشُّرَكَاءِ وَالْوُزَرَاءِ وَالنُّظَرَاءِ وَالْأَنْدَادِ الْبَرُّ وَصْفًا وَفِعْلًا وَمِنْ بِرِّهِ الْمَنُّ عَلَى أَوْلِيَائِهِ بِإِنْجَائِهِمْ مِنْ عَذَابِهِ كَمَا وَعَدَهُمْ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ أَنَّهُ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ. التَّوَّابُ الَّذِي يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ التَّوْبَةَ فَيَتُوبُ عَلَيْهِ وَيُنْجِيهِ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ. الْمُنْتَقِمُ الَّذِي لَمْ يَقُمْ لِغَضَبِهِ شَيْءٌ وَهُوَ الشَّدِيدُ الْعِقَابِ وَالْبَطْشِ وَالِانْتِقَامِ. الْعَفُوُّ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ عَنِ الذُّنُوبِ وَالْآثَامِ الرَّءُوفُ بِالْمُؤْمِنِينَ وَمِنْ رَأْفَتِهِ بِهِمْ أَنْ نَزَّلَ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَهُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ إِلَى نُورِ الْإِسْلَامِ وَمِنْ رَأْفَتِهِ بِهِمْ أَنِ اشْتَرَى مِنْهُمْ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ مَعَ كَوْنِ الْجَمِيعِ مِلْكَهُ وَلَمْ يَنْزِعْ عَنْهُمُ التَّوْبَةَ قَبْلَ الْحِمَامِ2، فَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التَّحْرِيمِ: 8] مَالِكُ الْمُلْكِ يُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ يَشَاءُ وَيَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ يَشَاءُ وَيُعِزُّ مَنْ يَشَاءُ وَيُذِلُّ من يشاء. ذي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ وَالْعِزَّةِ وَالْبَقَاءِ وَالْمَلَكُوتِ وَالْجَبَرُوتِ وَالْعَظَمَةِ وَالْكِبْرِيَاءِ. الْمُقْسِطُ الَّذِي أَرْسَلَ رُسُلَهُ بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ الْجَامِعُ لِشَتَاتِ الْأُمُورِ وَهُوَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ الْغَنِيُّ الْمُغْنِي فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى شَيْءٍ وَلَا تَزِيدُ فِي مِلْكِهِ طَاعَةُ الطَّائِعِينَ وَلَا تَنْقُصُهُ مَعْصِيَةُ الْعَاصِينَ مِنَ الْعِبَادِ وَكُلُّ خَلْقِهِ مُفْتَقِرُونَ إِلَيْهِ لَا غِنَى بِهِمْ عَنْ بَابِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ وَهُوَ الْكَفِيلُ بِهِمْ رِعَايَةً وَكِفَايَةً وَهُوَ الْكَرِيمُ الْجَوَادُ وَبِجُودِهِ عَمَّ جَمِيعَ الْأَنَامِ مِنْ طَائِعٍ وَعَاصٍ وَقَوِيٍّ وَضَعِيفٍ وَشَكُورٍ وَكَفُورٍ وَمَأْمُورٍ وأمير نور السموات وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ بِذَلِكَ فِي كِتَابِهِ وَوَصَفَهُ بِهِ مُحَمَّدٌ عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَحَبِيبُهُ وَمُصْطَفَاهُ وَقَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُسْتَعِيذًا بِهِ: "أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الَّذِي
أَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ، وَصَلُحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَنْ يَحِلَّ بِي غَضَبُكَ أَوْ يَنْزِلَ بِي سَخَطُكَ لَكَ الْعُتْبَى حَتَّى تَرْضَى وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ"1. فَبِصِفَاتِ رَبِّنَا تَعَالَى نُؤْمِنُ وَلِكِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ نَحْكُمُ وَبِحُكْمِهِمَا نَرْضَى وَنُسَلِّمُ وَإِنْ أَبَى الْمُلْحِدُ إِلَّا جُحُودَ ذَلِكَ وَتَأْوِيلَهُ عَلَى مَا يُوَافِقُ هَوَاهُ، {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمَّنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [فُصِّلَتْ: 40] . الْهَادِي الَّذِي بِيَدِهِ الْهِدَايَةُ وَالْإِضْلَالُ فَلَا هَادِيَ لِمَنْ أَضَلَّ وَلَا مُضِلَّ لِمَنْ هَدَى {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} [الْكَهْفِ: 17] ، {مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الْأَنْعَامِ: 39] ، {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} [الْبَقَرَةِ: 120] ، {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ} [لُقْمَانَ: 20] . الْبَدِيعُ الذي أبدع السموات وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بِلَطِيفِ صُنْعِهِ وَبَدِيعِ حِكْمَتِهِ بِلَا مُعِينٍ وَلَا مِثَالٍ الْبَاقِي الَّذِي كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ فَلَا ابْتِدَاءَ لِأَوَّلِيَّتِهِ وَلَا لِآخِرِيَّتِهِ زَوَالٌ الْوَارِثُ الَّذِي يَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَهُوَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآلُ فَبِإِيجَادِهِ كُلُّ مَوْجُودٍ وُجِدَ وَإِلَيْهِ كُلُّ الْأُمُورِ تَصِيرُ. الرَّشِيدُ فِي كُلِّ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ فَبِالرَّشَادِ يَأْمُرُ عِبَادَهُ وَإِلَيْهِ يَهْدِيهِمْ, الصَّبُورُ الَّذِي لَا أَحَدَ أَصْبَرُ مِنْهُ عَلَى أَذًى سَمِعَهُ, يَنْسُبُونَ لَهُ الْوَلَدَ وَيَجْحَدُونَ أَنْ يُعِيدَهُمْ وَيُحْيِيَهُمْ. وَكُلُّ ذَلِكَ بِسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَعِلْمِهِ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ ثُمَّ هُوَ يَرْزُقُهُمْ وَيُعَافِيهِمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَبْلُغُوا نَفْعَهُ فَيَنْفَعُوهُ وَلَا ضُرَّهُ فَيَضُرُّوهُ وَإِنَّمَا يَعُودُ نَفْعُ طَاعَتِهِمْ إِلَيْهِمْ وَوَبَالُ عِصْيَانِهِمْ عَلَيْهِمْ وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ، {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} . [التغابن: 7] . أَحْمَدُهُ تَعَالَى عَلَى جَزِيلِ إِنْعَامِهِ وَإِفْضَالِهِ وَأَشْكُرُهُ عَلَى جَلِيلِ إِحْسَانِهِ وَنَوَالِهِ وَلَهُ الْحَمْدُ عَلَى أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِ كَمَالِهِ وَنُعُوتِ جَلَالِهِ وَلَهُ الْحَمْدُ عَلَى
في أنه لا صلاح ولا سعادة ولا نجاح إلا بمعرفة الله عز وجل وتوحيده
عَدْلِهِ قَدَرًا وَشَرْعًا, وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ. وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ تَعَالَى فِي إِلَهِيَّتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ عَنِ الشَّرِيكِ وَالْوَزِيرِ وَتَقَدَّسَ فِي أَحَدِيَّتِهِ وَصَمَدِيَّتِهِ عَنِ الصَّاحِبَةِ وَالْوَلَدِ وَالْوَالِدِ وَالْوَلِيِّ وَالنَّصِيرِ وَتَنَزَّهَ فِي صِفَاتِ كَمَالِهِ وَنُعُوتِ جَلَالِهِ عَنِ الْكُفُؤِ وَالنَّظِيرِ, وَعَزَّ فِي سُلْطَانِ قَهْرِهِ وَكَمَالِ قُدْرَتِهِ عَنِ الْمُنَازِعِ وَالْمُغَالِبِ وَالْمُعِينِ وَالْمُشِيرِ وَجَلَّ فِي بَقَائِهِ وَدَيْمُومِيَّتِهِ وَغِنَاهُ وَقَيُّومِيَّتِهِ عَنِ الْمُطْعِمِ وَالْمُجِيرِ. وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الْبَشِيرُ النَّذِيرُ, الْمُرْسَلُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً بِالْمِلَّةِ الْحَنِيفِيَّةِ وَالْهَدْيِ الْمُنِيرِ, بَعَثَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ, وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ كِتَابَهُ الْمُهَيْمِنَ وَالنُّورَ الْمُبِينَ وَالْهَدْيَ الْمُسْتَبِينَ وَالْمَنْهَجَ الْمُسْتَنِيرَ. وَالشِّرْكُ مُضْطَرِمَةٌ نَارُهُ طَائِرٌ شَرَارُهُ مُرْتَفِعٌ غُبَارُهُ لَا مُغَيِّرَ لَهُ وَلَا نَكِيرَ, فَقَامَ بِتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ حَقَّ الْقِيَامِ وَجَاهَدَ فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ إِعْلَاءً لِكَلِمَةِ اللَّهِ الْمَلِكِ الْعَلَّامِ حَتَّى جاء الحق ورهق الْبَاطِلُ وَأَدْبَرَ لَيْلُ الْكُفْرِ وَالضَّلَالَةِ وَانْفَجَرَ الْإِيمَانُ وَالْإِسْلَامُ وَنُشِرَتْ أَعْلَامُ التَّوْحِيدِ وَعَلَا بُنْيَانُهُ وَأَشْرَقَتْ أَنْوَارُهُ وَنُكِّسَتْ رَايَةُ الشِّرْكِ وَانْكَسَرَتْ شَوْكَتُهُ وَخَمَدَتْ نَارُهُ وَرُمِيَ بِنَاؤُهُ بِالدَّمْدَمَةِ وَالتَّكْسِيرِ وَالتَّدْمِيرِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ شُمُوسِ الْهِدَايَةِ وَأَوْعِيَةِ الْعِلْمِ وَأَنْصَارِ الدِّينِ الْقَوِيمِ وَتَابِعِيهِمْ {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [الْحَشْرِ: 10] وَعَلَى مَنِ اقْتَفَى أَثَرَهُمْ وَاتَّبَعَ سِيَرَهُمْ وَسَلَكَ صِرَاطَهُمُ الْمُسْتَقِيمَ وَجَعَلَنَا مِنَ الْمُقْتَدِينَ بِهِمْ الْمُهْتَدِينَ بِهَدْيِهِمْ الْمُتَمَسِّكِينَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ نَقِفُ مَعَهُمَا وَبِسَيْرِهِمَا نَسِيرُ. أَمَّا بَعْدُ: فَاعْلَمُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا صَلَاحَ لِلْعِبَادِ وَلَا فَلَاحَ وَلَا نَجَاحَ وَلَا حَيَاةَ طَيِّبَةً وَلَا سَعَادَةَ فِي الدَّارَيْنِ وَلَا نَجَاةَ مِنْ خِزْيِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْآخِرَةِ إِلَّا بِمَعْرِفَةِ أَوَّلِ مَفْرُوضٍ عَلَيْهِمْ وَالْعَمَلِ بِهِ وَهُوَ الْأَمْرُ الَّذِي خَلَقَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ وَأَخَذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقَ بِهِ وَأَرْسَلَ بِهِ رُسُلَهُ إِلَيْهِمْ وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ عَلَيْهِمْ وَلِأَجْلِهِ خُلِقَتِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ وَالْجَنَّةُ
وَالنَّارُ وَبِهِ حَقَّتِ الْحَاقَّةُ وَوَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ وَفِي شَأْنِهِ تُنْصَبُ الْمَوَازِينُ وَتَتَطَايَرُ الصُّحُفُ وَفِيهِ تَكُونُ الشَّقَاوَةُ وَالسَّعَادَةُ وَعَلَى حَسَبِ ذَلِكَ تُقَسَّمُ الْأَنْوَارُ وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ. وَذَلِكَ الْأَمْرُ هُوَ مَعْرِفَةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِإِلَهِيَّتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَتَوْحِيدِهِ بِذَلِكَ وَمَعْرِفَةُ مَا يُنَاقِضُهُ أَوْ بَعْضَهُ مِنَ الشِّرْكِ وَالتَّعْطِيلِ, وَالتَّشْبِيهِ وَالتَّشَبُّهِ وَاجْتِنَابُ ذَلِكَ وَالْإِيمَانُ بِمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ, وَتَوْحِيدُ الطَّرِيقِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِمُتَابَعَةِ كِتَابِهِ وَرَسُولِهِ وَالْعَمَلِ وَفْقَ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وَمَعْرِفَةُ مَا يُنَاقِضُهَا مِنَ الْبِدَعِ الْمُضِلَّةِ وَيَمِيلُ بِالْعَبْدِ عَنْهَا فَيُجَانِبُهَا كُلَّ الْمُجَانَبَةِ وَيَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْهَا. فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ كِتَابَهُ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَقَالَ: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الْأَنْعَامِ: 35] . وَقَالَ: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الْفُرْقَانِ: 33] . وَأَرْسَلَ رَسُولَهُ بِذَلِكَ الْكِتَابِ مُبَلِّغًا وَمُبَيِّنًا لِيَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَيُبَيِّنَهُ لَهُمْ أَتَمَّ الْبَيَانِ وَيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ فِيمَا هُمْ فيه يختلفون ويديهم بِهِ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ فَقَالَ تَعَالَى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النَّحْلِ: 89] وَقَالَ تَعَالَى: {مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يُوسُفَ: 111] وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النَّحْلِ: 44] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [النَّحْلِ: 64] وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ، يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الْمَائِدَةِ: 15-16] وَلَا شِفَاءَ لِلْقُلُوبِ وَالْأَرْوَاحِ وَلَا حَيَاةَ لَهَا إِلَّا بِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالِاسْتِجَابَةِ لِلَّهِ تَعَالَى وَلِرَسُولِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ، وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ، إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ، وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الْأَنْفَالِ: 20-24] الْآيَاتِ،
وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [الْأَنْعَامِ: 63] وَلَمْ يُنْجِ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ عَذَابِهِ وَلَمْ يَكْتُبْ رَحْمَتَهُ إِلَّا لِمَنِ اتَّبَعَ كِتَابَهُ وَرَسُولَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الْأَعْرَافِ: 156-157] وَقَدْ كَانَ الرَّسُولُ يُبْعَثُ فِي قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثَ مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى النَّاسِ كَافَّةً كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الْأَعْرَافِ: 158] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [سَبَأٍ: 28] وَلَمْ يَتَوَفَّهُ اللَّهُ تَعَالَى حَتَّى أَكْمَلَ لَهُ الدِّينَ وَبَلَّغَ الْبَلَاغَ الْمُبِينَ وَبَيَّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ أَوْضَحَ التَّبْيِينِ وَتَرَكَ أُمَّتَهُ عَلَى الْمَحَجَّةِ الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدَهُ إِلَّا هَالِكٌ وَمَا مِنْ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا وَقَدْ ذَكَرَ لَهُمْ مِنْهُ عِلْمًا, وَهَدَى اللَّهُ بِهِ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الْبَقَرَةِ: 213] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: كَانَ بَيْنَ نُوحٍ وَآدَمَ عَشَرَةُ قُرُونٍ كُلُّهُمْ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْحَقِّ فَاخْتَلَفُوا فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ1 وَكَذَلِكَ هِيَ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ وَأُبَيِّ بْنِ
كَعْبٍ1. وَهَذَا التَّفْسِيرُ مَرْوِيٌّ عَنْ قَتَادَةَ وَمُجَاهِدٍ أَيْضًا2. وَقَوْلُهُ: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} أَيْ: مِنْ بَعْدِ مَا قَامَتِ الْحُجَجُ عَلَيْهِمْ. وَمَا حَمَلَهُمْ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا الْبَغْيُ مِنْ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ3. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَنَحْنُ أَوَّلُ النَّاسِ دُخُولًا الْجَنَّةَ بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ فَهَدَانَا اللَّهُ لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ فَهَذَا الْيَوْمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهَدَانَا اللَّهُ لَهُ فَالنَّاسُ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ فَغَدًا لِلْيَهُودِ وَبَعْدَ غَدٍ لِلنَّصَارَى" 4. رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَهُوَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ طُرُقٍ بِأَلْفَاظٍ. وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} فَاخْتَلَفُوا فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاتَّخَذَ الْيَهُودُ يَوْمَ السَّبْتِ وَالنَّصَارَى يَوْمَ الْأَحَدِ فَهَدَى اللَّهُ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ, وَاخْتَلَفُوا فِي الْقِبْلَةِ فَاسْتَقْبَلَتِ النَّصَارَى الشَّرْقَ وَالْيَهُودُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَهَدَى اللَّهُ تَعَالَى أُمَّةَ مُحَمَّدٍ لِلْقِبْلَةِ. وَاخْتَلَفُوا فِي الصَّلَاةِ فَمِنْهُمْ مَنْ يَرْكَعُ وَلَا يَسْجُدُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْجُدُ وَلَا يَرْكَعُ وَمِنْهُمْ مَنْ يُصَلِّي وَهُوَ يَتَكَلَّمُ وَمِنْهُمْ مَنْ يُصَلِّي وَهُوَ يَمْشِي فَهَدَى اللَّهُ تَعَالَى أُمَّةَ مُحَمَّدٍ لِلْحَقِّ مِنْ ذَلِكَ وَاخْتَلَفُوا فِي إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَقَالَتِ الْيَهُودُ كَانَ يَهُودِيًّا وَقَالَتِ النَّصَارَى نَصْرَانِيًّا وَجَعَلَهُ اللَّهُ حَنِيفًا مُسْلِمًا, فَهَدَى اللَّهُ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ إِلَى الْحَقِّ مِنْ ذَلِكَ وَاخْتَلَفُوا فِي عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَكَذَّبَتْ بِهِ الْيَهُودُ وَقَالُوا لِأُمِّهِ بُهْتَانًا عَظِيمًا وَجَعَلَتْهُ النَّصَارَى إِلَهًا وَوَلَدًا, وَجَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى رُوحَهُ وَكَلِمَتَهُ فَهَدَى اللَّهُ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ
اختلاف الفرق الإسلامية
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْحَقِّ مِنْ ذَلِكَ1، وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} أَيْ: عِنْدَ الِاخْتِلَافِ أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ قَبْلَ الِاخْتِلَافِ, أَقَامُوا عَلَى الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَحْدَهُ وَعِبَادَتِهِ لَا شَرِيكَ لَهُ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ فَأَقَامُوا عَلَى الْأَمْرِ الْأَوَّلِ الَّذِي كَانَ قَبْلَ الِاخْتِلَافِ وَكَانُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ, شُهَدَاءَ عَلَى قَوْمِ نُوحٍ وَقَوْمِ هُودٍ وَقَوْمِ صَالِحٍ وَقَوْمِ شُعَيْبٍ وَآلِ فِرْعَوْنَ وَأَنَّ رُسُلَهُمْ قَدْ بَلَّغُوهُمْ وَأَنَّهُمْ كَذَّبُوا رُسُلَهُمْ. وَفِي قِرَاءَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَلِيَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وَكَانَ أَبُو الْعَالِيَةِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْمَخْرَجُ مِنَ الشُّبُهَاتِ وَالضَّلَالَاتِ وَالْفِتَنِ2. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ إِذَا قَامَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ قَالَ: "اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وإسرافيل فاطر السموات وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ. اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ" 3، وَفِي الدُّعَاءِ الْمَأْثُورِ "اللَّهُمَّ أَرِنَا الْحَقَّ حَقًّا وَارْزُقْنَا اتِّبَاعَهُ وَأَرِنَا الْبَاطِلَ بَاطِلًا وَارْزُقْنَا اجْتِنَابَهُ وَلَا تَجْعَلْهُ مُلْتَبِسًا عَلَيْنَا فَنَضِلَّ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا"4.
اخْتِلَافُ الْفِرَقِ الْإِسْلَامِيَّةِ: وَاعْلَمْ أَنَّهُ كَمَا أَخْبَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا اخْتِلَافًا شَدِيدًا وَافْتَرَقُوا افْتِرَاقًا بَعِيدًا وَفِي ذَلِكَ أَعْظَمُ وَاعِظٍ وَأَكْبَرُ زَاجِرٍ عَنِ الِاخْتِلَافِ وَالتَّفَرُّقِ, وَلَمْ يَقْتَصِرْ سُبْحَانَهُ فِي تَذْكِيرِنَا بِذَلِكَ عَلَيْهِ بَلْ زَجَرَنَا عَنِ الِاخْتِلَافِ زَجْرًا شَدِيدًا وَتَوَعَّدَ عَلَى ذَلِكَ وَعِيدًا أَكِيدًا فَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ، يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آلِ عِمْرَانَ: 105-106] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: تَبْيَضُّ وُجُوهُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالِائْتِلَافِ وَتَسْوَدُّ وُجُوهُ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالِاخْتِلَافِ1. ثُمَّ فَصَّلَ تَعَالَى مَآلَ الْفَرِيقَيْنِ وَأَيْنَ تُوَصِّلُ أَهْلَهَا كُلٌّ مِنَ الطَّرِيقَيْنِ فَقَالَ تَعَالَى: {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ، وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آلِ عِمْرَانَ: 106-107] وَحَذَّرَنَا عَنْ ذَلِكَ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الَّذِي هُوَ أَوْلَى بِنَا مِنْ أَنْفُسِنَا فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَلَا وَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ افْتَرَقُوا عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً وَإِنَّ هَذِهِ الْمِلَّةَ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ, ثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ وَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ وَهُمُ الْجَمَاعَةُ" 2، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ "هُمْ مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي" 3. وَقَدْ حَصَلَ مِصْدَاقُ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ مِنَ الِافْتِرَاقِ, وَتَفَاقُمِ الْأَمْرِ وَعِظَمِ الشِّقَاقِ فَاشْتَدَّ الِاخْتِلَافُ وَنَجَمَتِ الْبِدَعُ وَالنِّفَاقُ. فَافْتَرَقُوا فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ إِلَى نُفَاةٍ مُعَطِّلَةٍ وَغُلَاةٍ مُمَثِّلَةٍ. وَفِي بَابِ الْإِيمَانِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ إِلَى مُرْجِئَةٍ وَوَعِيدِيِّةٍ مِنْ خَوَارِجَ وَمُعْتَزِلَةٍ. وَفِي بَابِ أَفْعَالِ اللَّهِ وَأَقْدَارِهِ إِلَى جَبْرِيَّةٍ غُلَاةٍ وَقَدَرِيَّةٍ نُفَاةٍ. وَفِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَهْلِ بَيْتِهِ إِلَى رَافِضَةٍ غُلَاةٍ وَنَاصِبَةٍ جُفَاةٍ, إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ فِرَقِ الضَّلَالِ وَطَوَائِفِ الْبِدَعِ وَالِانْتِحَالِ وَكُلُّ طَائِفَةٍ مِنْ هَذِهِ الطَّوَائِفِ قَدْ تَحَزَّبَتْ فِرَقًا وَتَشَعَّبَتْ طُرُقًا, وَكُلُّ فِرْقَةٍ تُكَفِّرُ صَاحِبَتَهَا وَتَزْعُمُ أَنَّهَا هِيَ الْفِرْقَةُ النَّاجِيَةُ الْمَنْصُورَةُ.
الفرقة الناجية
الْفِرْقَةُ النَّاجِيَةُ: وَقَدْ أَخْبَرَنَا الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّ الْفِرْقَةَ النَّاجِيَةَ هُمْ مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا كَانَ عَلَيْهِ هُوَ وَأَصْحَابُهُ, وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ كَذَلِكَ بَلْ إِنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ, وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَصْحَابُهُ إِلَّا مِنْ طَرِيقِ سُنَنِهِ الْمَرْوِيَّةِ وَآثَارِهِ الْمُصْطَفَوِيَّةِ الَّتِي هِيَ الشَّرِيعَةُ الْغَرَّاءُ وَالْمَحَجَّةُ الْبَيْضَاءُ وَهَؤُلَاءِ مِنْ أَبْعَدِ النَّاسِ عَنْهَا وَأَنْفَرِهِمْ مِنْهَا, وإنما تصلح هده الصِّفَةُ لِحَمَلَتِهَا وَحُفَّاظِهَا وَنُقَّادِهَا الْمُنْقَادِينَ لَهَا الْمُتَمَسِّكِينَ بِهَا, الذَّابِّينَ عنها يقفون يَقِفُونَ عِنْدَهَا وَيَسِيرُونَ بِسَيْرِهَا, لَا يَنْحَرِفُونَ عَنْهَا يَمِينًا وَلَا شِمَالًا وَلَا يُقَدِّمُونَ عَلَيْهَا لِأَحَدٍ مَقَالًا وَلَا يُبَالُونَ مَنْ خَالَفَهُمْ وَلَا مَنْ خَذَلَهُمْ, وَلَا يَضُرُّهُمْ ذَلِكَ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى, أَعْنِي بِذَلِكَ أَئِمَّةَ الْحَدِيثِ وَجَهَابِذَةَ السُّنَّةِ وَجَيْشَ دَوْلَتِهَا الْمُرَابِطِينَ عَلَى ثُغُورِهَا الْحَافِظِينَ حُدُودَهَا الْحَامِينَ حَوْزَتَهَا وَفَّقَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِلِاسْتِضَاءَةِ بِنُورِهَا وَالِاهْتِدَاءِ بِهَدْيِهَا الْقَوِيمِ, وَهَدَاهُمْ لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ, فَآمَنُوا بِمَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ كِتَابِهِ وَأَخْبَرَ بِهِ عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي سُنَّتِهِ, وَتَلَقَّوْهُ بِالْقَبُولِ وَالتَّسْلِيمِ إِثْبَاتًا بِلَا تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ وَتَنْزِيهًا بِلَا تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ فَهُمُ الْوَسَطُ فِي فِرَقِ هَذِهِ الْأُمَّةِ كَمَا أَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ هِيَ الْوَسَطُ فِي الْأُمَمِ فَهُمْ وَسَطٌ فِي بَابِ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى بَيْنَ أَهْلِ التَّعْطِيلِ الْجَهْمِيَّةِ وَأَهْلِ التَّمْثِيلِ الْمُشَبِّهَةِ وَهُمْ وَسَطٌ فِي بَابِ أَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى بَيْنَ الْجَبْرِيَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَفِي
سبب نظم المتن "سلم الوصول" وتأليف الشرح "معارج القبول"
بَابِ وَعِيدِ اللَّهِ بَيْنَ الْمُرْجِئَةِ وَالْوَعِيدِيَّةِ مِنَ الْقَدَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ وَفِي بَابِ الْإِيمَانِ وَالدِّينِ بَيْنَ الْحَرُورِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَبَيْنَ الْمُرْجِئَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ وَفِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَيْنَ الرَّافِضَةِ وَالْخَوَارِجِ. فَهُمْ وَاللَّهِ "أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ" وَهُمُ الطَّائِفَةُ الْمَنْصُورَةُ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ, الَّذِينَ لَمْ تَزَلْ قُلُوبُهُمْ عَلَى الْحَقِّ مُتَّفِقَةً مُؤْتَلِفَةً, وَأَقْوَالُهُمْ وَأَعْمَالُهُمْ وَعَقَائِدُهُمْ عَلَى الْوَحْيِ لَا مُفْتَرِقَةً وَلَا مُخْتَلِفَةً. فَانْتَدَبُوا لِنُصْرَةِ الدِّينِ دَعْوَةً وَجِهَادًا وَقَاوَمُوا أَعْدَاءَهُ جَمَاعَاتٍ وَفُرَادَى, وَلَمْ يَخْشَوْا فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ وَلَمْ يُبَالُوا بِعَدَاوَةِ مَنْ عَادَى. فَقَهَرُوا الْبِدَعَ الْمُضِلَّةَ وَشَرَّدُوا بِأَهْلِهَا وَاجْتَثُّوا شَجَرَةَ الْإِلْحَادِ بِمَعَاوِلِ السُّنَّةِ مِنْ أَصْلِهَا, فَبَهَتُوهُمْ بِالْبَرَاهِينِ الْقَطْعِيَّةِ فِي الْمَحَافِلِ الْعَدِيدَةِ وَصَنَّفُوا فِي رَدِّ شُبَهِهِمْ وَدَفْعِ بَاطِلِهِمْ وَإِدْحَاضِ حُجَجِهِمُ الْكُتُبَ الْمُفِيدَةَ, فَمِنْهُمُ الْمُتَقَصِّي لِلرَّدِّ عَلَى الطَّوَائِفِ بِأَسْرِهَا وَمِنْهُمُ الْمُخَلِّصُ لِعَقَائِدِ السَّلَفِ الصَّالِحِ مِنْ غَيْرِهَا, وَلَمْ تَنْجُمْ بِدْعَةٌ مِنَ الْمُضِلِّينَ الْمُلْحِدِينَ إِلَّا وَيُقَيِّضُ اللَّهُ لَهَا جَيْشًا مِنْ عِبَادِهِ الْمُخْلَصِينَ, فَحَفِظَ اللَّهُ بِهِمْ دِينَهُ عَلَى الْعِبَادِ, وَأَخْرَجَهُمْ بِهِمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الزَّيْغِ وَالضَّلَالَةِ إِلَى نُورِ الْهُدَى وَالرَّشَادِ, وَذَلِكَ مِصْدَاقُ وَعْدِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِحِفْظِهِ الذِّكْرَ الَّذِي أَنْزَلَهُ, كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الْحِجْرِ: 9] وإعلاء لكلمته وتأييدا لِحِزْبِهِ إِذْ يَقُولُ: {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصَّافَّاتِ: 173] .
سَبَبُ نَظْمِ الْمَتْنِ وَتَأْلِيفِ الشَّرْحِ وَقَدْ سَأَلَنِي مَنْ لَا تَسَعُنِي مُخَالَفَتُهُ مِنَ الْمُحِبِّينَ1، أَنْ أَنْظِمَ مُخْتَصَرًا يَسْهُلُ حِفْظُهُ عَلَى الطَّالِبِينَ وَيَقْرُبُ مَنَالُهُ لِلرَّاغِبِينَ, ويفصح عَنْ عَقِيدَةِ السَّلَفِ الصَّالِحِ وَيُبِينُ. فَأَجَبْتُهُ إِلَى ذَلِكَ مُسْتَعِينًا بِاللَّهِ رَاجِيًا الثَّوَابَ مِنَ اللَّهِ, قَائِلًا لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ. وَضَمَمْتُ إِلَى ذَلِكَ مَسَائِلَ نَافِعَةً تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْعُصُورِ مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَى مَا افْتَتَنَ بِهِ الْعَامَّةُ مِنْ عِبَادَةِ الْأَشْجَارِ وَالْأَحْجَارِ وَالْقُبُورِ, وَمُنَاقَضَتِهِمُ التَّوْحِيدَ بِالشِّرْكِ الَّذِي هُوَ
أَقْبَحُ الْمَحْظُورِ وَصَرْفِ جُلِّ الْعِبَادَةِ لِغَيْرِ اللَّهِ مِنَ الدُّعَاءِ وَالرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ وَالْمَحَبَّةِ وَالذَّبْحِ وَالنُّذُورِ, فَيَسَّرَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ بِمَنِّهِ وَإِفْضَالِهِ, وَأَعَانَنِي وَلَهُ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ عَلَى إِكْمَالِهِ. وَسَمَّيْتُهُ "سُلَّمَ الْوُصُولِ، إِلَى مَبَاحِثِ عِلْمِ الْأُصُولِ" فَلَمَّا انْتَشَرَ بِأَيْدِي الطُّلَّابِ, وَعَظُمَتْ فِيهِ رَغْبَةُ الْأَحْبَابِ سُئِلَ مِنِّي أن أعلق عليه تَعْلِيقًا لَطِيفًا, يَحِلُّ مُشْكِلَهُ وَيُفَصِّلُ مُجْمَلَهُ, مُقْتَصِرًا عَلَى ذِكْرِ الدَّلِيلِ وَمَدْلُولِهِ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَكَلَامِ رَسُولِهِ, فَاسْتَخَرْتُ اللَّهَ تَعَالَى بِعِلْمِهِ وَاسْتَقْدَرْتُهُ بِقُدْرَتِهِ, فَعَنَّ لِي أَنْ أَعْزِمَ عَلَى ذَلِكَ الْأَمْرِ الْمَسْئُولِ مُسْتَمِدًّا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى الْإِعَانَةَ عَلَى نَيْلِ السُّولِ وَسَمَّيْتُهُ "مَعَارِجَ الْقَبُولِ، بِشَرْحِ سُلَّمِ الْوُصُولِ إِلَى عِلْمِ الْأُصُولِ". وَاللَّهَ أَسْأَلُ أَنْ يُعِينَ عَلَى إِكْمَالِهِ بِمَنِّهِ وَفَضْلِهِ, وَأَنْ يَنْفَعَنِي وَطُلَّابَ الْعِلْمِ بِهِ وَبِأَصْلِهِ, وَأَنْ يَهْدِيَنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ وَيَجْعَلَنَا مِنْ أَنْصَارِ التَّوْحِيدِ وَأَهْلِهِ, إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ مُجِيبٌ, وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ. وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ خلاصة القول في تفسير البسملة: شَرْحُ مُقَدِّمَةِ الْمَنْظُومَةِ: أَبْدَأُ بِاسْمِ اللَّهِ مُسْتَعِينًا ... رَاضٍ بِهِ مُدَبِّرًا مُعِينًا "أَبْدَأُ" فِي جَمِيعِ حَرَكَاتِي وَسَكَنَاتِي وَأَقْوَالِي وَأَعْمَالِي وَفِي شَأْنِي كُلِّهِ وَمِنْهُ هَذَا التَّصْنِيفُ "بَاسْمِ اللَّهِ" مُتَبَرِّكًا وَ"مُسْتَعِينًا" بِهِ أَوْ إِيَّاهُ بِالْبَاءِ وَبِدُونِهِ أَيْ: طَالِبًا مِنْهُ الْعَوْنَ عَلَى فِعْلِ طَاعَتِهِ وَتَرْكِ مَعْصِيَتِهِ, كَمَا قَالَ تَعَالَى مُعَلِّمًا لَنَا فِي فَاتِحَةِ الْكِتَابِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الْفَاتِحَةِ: 5] وَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِابْنِ عَمِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: "إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ" 1 وَهُوَ خِطَابٌ شَامِلٌ لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ, وَفِي ضِمْنِ ذَلِكَ الْأَمْرِ الْوَاقِعِ فِي جَوَابِ الشَّرْطِ نَهْيٌ لَنَا عَنِ الِاسْتِعَانَةِ بِغَيْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ لِأَنَّهُ لَا خَالِقَ لِلْعِبَادِ وَأَفْعَالِهِمْ غَيْرُهُ تَعَالَى, فَإِذَا كَانَ الْمَخْلُوقُ لَا يَقْدِرُ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ إِلَّا بِمَا أَقْدَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ تُطْلَبَ الْإِعَانَةُ مِنْهُ عَلَى فِعْلِ غَيْرِهِ وَالْعَاقِلُ يَفْهَمُ ذَلِكَ بَادِئَ بَدْءٍ.
خلاصة القول في تفسير البسملة
خُلَاصَةُ الْقَوْلِ فِي تَفْسِيرِ الْبَسْمَلَةِ: وَالْكَلَامُ عَلَى تَفْسِيرِ الْبَسْمَلَةِ مُسْتَوْفًى فِي كُتُبِ الْمُفَسِّرِينَ, وَلْنَذْكُرْ خُلَاصَةَ ذَلِكَ فَنَقُولُ: الْبَاءُ أَدَاةٌ تَخْفِضُ مَا بَعْدَهَا وَمَعْنَاهَا فِي الْبَسْمَلَةِ الِاسْتِعَانَةُ وَتَطْوِيلُهَا فِي الْقُرْآنِ تَعْظِيمًا لِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِسْقَاطُ الْأَلْفِ مِنْ الِاسْمِ طَلَبًا لِلْخِفَّةِ لِكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهَا, وَقِيلَ لَمَّا أَسْقَطُوا الْأَلِفَ رَدُّوا طُولَهَا عَلَى الْبَاءِ لِيَدُلَّ عَلَى السُّقُوطِ, وَلِذَلِكَ لَمَّا كُتِبَتِ الْأَلْفُ فِي {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [الْعَلَقِ: 1] رُدِّتِ الْبَاءُ إِلَى هَيْئَتِهَا. وَالِاسْمُ هُوَ الْمُسَمَّى وَعَيْنُهُ وَذَاتُهُ فَإِنَّكَ تَقُولُ: يَا اللَّهُ يَا رَحْمَنُ يَا رَحِيمُ فَتَدْعُوهُ بِأَسْمَائِهِ الَّتِي سَمَّى بِهَا نَفْسَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الْأَعْرَافِ: 180] وَقَالَ تَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الْإِسْرَاءِ: 110] ، وَلَوْ كَانَتْ أَسْمَاءُ اللَّهِ غَيْرَهُ لَكَانَ الدَّاعِي بِهَا مُشْرِكًا إِذْ دَعَا مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ وَلَكَانَتْ مَخْلُوقَةً إِذْ كُلُّ مَا سِوَى اللَّهِ مَخْلُوقٌ, وَهَذَا هُوَ الَّذِي حَاوَلَهُ الْمُلْحِدُونَ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ, تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا. وَسَيَأْتِي بَسْطُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْكَلَامِ عَلَى الْأَسْمَاءِ. "اللَّهِ" عَلَمٌ عَلَى ذَاتِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَكُلُّ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى تُضَافُ إِلَيْهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} وَقَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [طه: 8] أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَقُولُ الرَّحْمَنُ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَالرَّحِيمُ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَلَا تَقُولُ اللَّهُ مِنْ أَسْمَاءِ الرَّحْمَنِ, وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةً إِلَّا وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ" 1. وَاخْتَلَفُوا فِي كَوْنِهِ مُشْتَقًّا أَوْ لَا, ذَهَبَ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ وَالشَّافِعِيُّ وَالْخَطَّابِيُّ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ إِلَى عَدَمِ اشْتِقَاقِهِ لِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِيهِ لَازِمَةٌ فَتَقُولُ يَا اللَّهُ وَلَا تَقُولُ يَا الرَّحْمَنُ, فَلَوْلَا أَنَّهُ مِنْ أَصْلِ الْكَلِمَةِ لَمَا جَازَ إِدْخَالُ حَرْفِ النِّدَاءِ
عَلَى الْأَلِفِ وَاللَّامِ, وَقَالَ آخَرُونَ إِنَّهُ مُشْتَقٌّ. وَاخْتَلَفُوا فِي اشْتِقَاقِهِ إِلَى أَقْوَالٍ أَقْوَاهَا أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ أَلَهَ يَأْلَهُ إِلَاهَةً, فَأَصْلُ الِاسْمِ الْإِلَهُ. فَحُذِفَتِ الْهَمْزَةُ وَأُدْغِمَتِ اللَّامُ الْأُولَى فِي الثَّانِيَةِ وُجُوبًا فَقِيلَ: اللَّهُ, وَمِنْ أَقْوَى الْأَدِلَّةِ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} [الْأَنْعَامِ: 3] مَعَ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} [الزُّخْرُفِ: 84] وَمَعْنَاهُ ذُو الْأُلُوهِيَّةِ الَّتِي لَا تَنْبَغِي إِلَّا لَهُ وَمَعْنَى أَلَهَ يَأْلَهُ إِلَهَةً عَبَدَ يَعْبَدُ عِبَادَةً فَاللَّهُ الْمَأْلُوهُ أَيِ: الْمَعْبُودُ. وَلِهَذَا الِاسْمِ خَصَائِصُ لَا يُحْصِيهَا إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ, وَقِيلَ: إِنَّهُ هُوَ الِاسْمُ الْأَعْظَمُ1. "الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" اسْمَانِ مُشْتَقَّانِ مِنَ الرَّحْمَةِ عَلَى وَجْهِ الْمُبَالَغَةِ, وَرَحْمَنُ أَشَدُّ مُبَالَغَةً مِنْ رَحِيمٍ, فَالرَّحْمَنُ يَدُلُّ عَلَى الرَّحْمَةِ الْعَامَّةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] وَالرَّحِيمُ يَدُلُّ عَلَى الرَّحْمَةِ الْخَاصَّةِ بِالْمُؤْمِنِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الْأَحْزَابِ: 47] ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ بِسَنَدِهِ عَنِ الْعَزْرَمِيِّ بِمَعْنَاهُ2. وَفِي الدُّعَاءِ الْمَأْثُورِ "رَحْمَنُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَرَحِيمُهُمَا"3،
وَالظَّاهِرُ الْمَفْهُومُ مِنْ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَنَّ اسْمَهُ الرَّحْمَنَ يَدُلُّ عَلَى الصِّفَةِ الذَّاتِيَّةِ مِنْ حَيْثُ اتِّصَافِهِ تَعَالَى بِالرَّحْمَةِ, وَاسْمَهُ الرَّحِيمَ يَدُلُّ الصِّفَةِ الْفِعْلِيَّةِ مِنْ حَيْثُ إِيصَالِهِ الرَّحْمَةَ إِلَى الْمَرْحُومِ فَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {كَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} ، {إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التَّوْبَةِ: 117] وَلَمْ يَأْتِ قَطُّ إِنَّهُ بِهِمْ رَحْمَنٌ, وَوَصَفَ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِأَنَّهُ رَءُوفٌ رَحِيمٌ فَقَالَ تَعَالَى: {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التَّوْبَةِ: 128] وَلَمْ يَصِفْ قَطُّ أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ أَنَّهُ رَحْمَنٌ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. "رَاضٍ" خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ وَأَنَا رَاضٍ "بِهِ" أَيْ: بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ "مُدَبِّرًا" حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ أَيْ: بِتَدْبِيرِهِ لِي فِي جَمِيعِ شُئُونِي فَإِنَّ أَزِمَّةَ الْأُمُورِ بِيَدِهِ وَهُوَ الَّذِي يَعْلَمُ مَا لَا نَعْلَمُ وَيُقَدِّرُ مَا لَا نُقَدِّرُ, وَهُوَ الَّذِي يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطَّلَاقِ: 12] . وَ"مُعِينًا" لِي عَلَى جَمِيعِ أُمُورِي الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ فَإِنِّي لَا أَقْدِرُ إِلَّا عَلَى مَا أَقْدَرَنِي عَلَيْهِ وَلَا عِلْمَ لِي إِلَّا مَا عَلَّمَنِيهِ فَلَا أَعْبُدُ إِلَّا إِيَّاهُ وَلَا أَسْتَعِينُ إِلَّا بِهِ وَلَا أَتَوَكَّلُ إِلَّا عَلَيْهِ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا مَنْجَا وَلَا مَلْجَأَ مِنْهُ إِلَّا إِلَيْهِ.
القول في حمد الله وشكره والاستعانة به
الْقَوْلُ فِي حَمْدِ اللَّهِ وَشُكْرِهِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِ: وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَمَا هَدَانَا ... إِلَى سَبِيلِ الْحَقِّ وَاجْتَبَانَا أَيْ: "وَ" أُثْنِي بِحَمْدِهِ فَأَقُولُ "الْحَمْدُ لِلَّهِ" كَمَا أَثْنَى بِهِ عَلَى نَفْسِهِ فِي كِتَابِهِ فَقَالَ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وَأَمَرَ بِذَلِكَ عِبَادَهُ فَقَالَ تَعَالَى مُخَاطِبًا لِنَبِيِّهِ خِطَابًا يَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُ أُمَّتِهِ {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} [النَّمْلِ: 95] فَلَهُ الْحَمْدُ كَالَّذِي يَقُولُ وَخَيْرًا مِمَّا نَقُولُ سُبْحَانَهُ لَا نُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْهِ هُوَ كَمَا أَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ, فَلَهُ الْحَمْدُ عَلَى أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلَى وَلَهُ الْحَمْدُ عَلَى نِعَمِهِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ, وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ, وَعَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ سَرِيعٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا أُنْشِدُكَ مَحَامِدَ حَمِدْتُ بِهَا رَبِّي تَبَارَكَ وَتَعَالَى, فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَمَا إِنَّ رَبَّكَ يُحِبُّ
الْحَمْدَ" رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ1, وَعَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُمَيْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: "إِذَا قُلْتَ الْحَمْدُ لِلَّهِ فَقَدْ شَكَرْتَ اللَّهَ فَزَادَكَ"2 رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَفْضَلُ الذِّكْرِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَفْضَلُ الدُّعَاءِ الْحَمْدُ لِلَّهِ" 3, رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ, وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ غَرِيبٌ, وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى عَبْدٍ نِعْمَةً فَقَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ إِلَّا كَانَ الَّذِي أُعْطِيَ -يَعْنِي مِنْ هِدَايَتِهِ لِلْحَمْدِ- أَفْضَلَ مِمَّا أَخَذَ" 4 رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ, وَلِلْقُرْطُبِيِّ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "لَوْ أَنَّ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا فِي يَدِ رَجُلٍ ثُمَّ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ لَكَانَ الْحَمْدُ لِلَّهِ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ"5, قَالَ الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُ أَيْ: لَكَانَ إِلْهَامُهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ أَكْثَرَ نِعْمَةً عَلَيْهِ مِنْ نِعَمِ الدُّنْيَا لِأَنَّ ثَوَابَ الْحَمْدِ لَا يَفْنَى وَنَعِيمَ الدُّنْيَا لَا يَبْقَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا}
[الْكَهْفِ: 64] 1 وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ كَلِمَةٌ أَحَبَّهَا اللَّهُ تَعَالَى لِنَفْسِهِ وَرَضِيَهَا لِنَفْسِهِ وَأَحَبَّ أَنْ تُقَالَ2. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: الْحَمْدُ لِلَّهِ كَلِمَةُ الشُّكْرِ وَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ الْحَمْدُ لِلَّهِ قَالَ شَكَرَنِي عَبْدِي 3. وَقَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ كَلِمَةُ كُلِّ شَاكِرٍ4. وَقَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ هُوَ الشُّكْرُ لِلَّهِ هُوَ اسْتِخْذَاءٌ لَهُ وَالْإِقْرَارُ لَهُ بِنِعْمَتِهِ وَهِدَايَتِهِ وَابْتِدَائِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ5. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رِدَاءُ الرَّحْمَنِ6، وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ ثَنَاءُ اللَّهِ7. وَفِي مَعْنَى الْحَمْدُ لِلَّهِ وَفَضْلِهَا آثَارٌ غَيْرُ مَا ذَكَرْنَا لَا تُحْصَى. وَلَمَّا كَانَ مِنْ أَكْبَرِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَأَجَلِّ مِنَنِهِ الْوَاصِلَةِ إِلَيْنَا هِدَايَتُهُ إِيَّانَا إِلَى صِرَاطِهِ الْمُسْتَقِيمِ, الَّذِي هُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ الَّذِي أَرْسَلَ بِهِ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ وَلَا يَقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ غَيْرَهُ نَاسَبَ الثَّنَاءُ عَلَيْهِ بِهَا فَقُلْتُ "كَمَا هَدَانَا" أَيْ: عَلَى مَا هَدَانَا إِرْشَادًا وَدَلَالَةً بِكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ, وَتَوْفِيقًا وَتَسْدِيدًا بِمَشِيئَتِهِ وَقَدَرِهِ "إِلَى سَبِيلِ الْحَقِّ" وَهُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ "وَاجْتَبَانَا" لَهُ, وَبِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى مُمْتَنًّا عَلَيْنَا وَلَهُ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ: {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ} [الْبَقَرَةِ: 198] وَقَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آلِ عِمْرَانَ: 164] وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الْحَجِّ: 77-78] وَلَمَّا كَانَ الْحَمْدُ الْخَبَرِيُّ أَبْلَغَ مِنَ الْإِنْشَائِيِّ لِدَلَالَتِهِ
عَلَى الثُّبُوتِ وَالِاسْتِمْرَارِ قَدَّمْتُهُ عَلَيْهِ أَوَّلًا ثُمَّ عَطَفْتُ عَلَيْهِ الْإِنْشَائِيَّ جَمْعًا بَيْنَهُمَا فَقُلْتُ: أَحْمَدُهُ سُبْحَانَهُ وَأَشْكُرُهْ ... وَمِنْ مَسَاوِي عَمَلِي أَسْتَغْفِرُهْ "أَحْمَدُهُ" أَيْ: أُنْشِئُ لَهُ حَمْدًا آخَرَ مُتَجَدِّدًا عَلَى تَوَالِي نِعَمِهِ وَتَوَاتُرِ فَضْلِهِ, فَلَهُ الْحَمْدُ كَمَا يَنْبَغِي لِجَلَالِ وَجْهِهِ وَعَظِيمِ سُلْطَانِهِ "سُبْحَانَهُ" أَيْ: تَنْزِيهًا لَهُ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِنُعُوتِ جَلَالِهِ وَصِفَاتِ كَمَالِهِ وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ تَتَضَمَّنُ مَعْنَى قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفِقِ عَلَيْهِ "كَلِمَتَانِ حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ" 1, "وَأَشْكُرُهْ" عَلَى مَا أَنْعَمَ وَأَلْهَمَ امْتِثَالًا لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} [الْبَقَرَةِ: 251] . وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَعْنَى الْحَمْدِ وَالشُّكْرِ هَلْ هُمَا مُتَرَادِفَانِ أَوْ لَا فَذَهَبَ إِلَى تَرَادُفِهِمَا ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ صَاحِبُ التَّفْسِيرِ وَجَعْفَرٌ الصَّادِقُ وَغَيْرُهُمَا وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ إِلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا, وَقَالَ شَيْخُ الإسلام ابن تيمة رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: الْحَمْدُ يَتَضَمَّنُ الْمَدْحَ وَالثَّنَاءَ عَلَى الْمَحْمُودِ بِذِكْرِ مَحَاسِنِهِ, سَوَاءٌ كَانَ الْإِحْسَانُ إِلَى الْحَامِدِ أَوْ لَمْ يَكُنْ. وَالشُّكْرُ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى إِحْسَانِ الْمَشْكُورِ إِلَى الشَّاكِرِ. فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ الْحَمْدُ أَعَمُّ مِنَ الشُّكْرِ لِأَنَّهُ يَكُونُ عَلَى الْمَحَاسِنِ وَالْإِحْسَانِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحْمَدُ عَلَى مَا لَهُ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى وَالْمَثَلِ الْأَعْلَى وَمَا خَلَقَهُ فِي الْآخِرَةِ وَالْأُولَى وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ
وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ} [الْإِسْرَاءِ: 111] وَقَالَ تَعَالَى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الْأَنْعَامِ: 1] وَقَالَ تَعَالَى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ} [سَبَأٍ: 1] وَقَالَ تَعَالَى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} [فَاطِرٍ: 1] . وَأَمَّا الشُّكْرُ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى الْإِنْعَامِ فَهُوَ أَخَصُّ مِنَ الْحَمْدِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَكِنَّهُ يَكُونُ بِالْقَلْبِ وَالْيَدِ وَاللِّسَانِ كَمَا قِيلَ: أَفَادَتْكُمُ النَّعْمَاءَ مِنِّي ثَلَاثَةٌ ... يَدِي وَلِسَانِي وَالضَّمِيرُ الْمُحَجَّبَا وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سَبَأٍ: 13] وَالْحَمْدُ يَكُونُ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ الشُّكْرُ أَعَمُّ مِنْ جِهَةِ أَنْوَاعِهِ وَالْحَمْدُ أَعَمُّ مِنْ جِهَةِ أَسْبَابِهِ. وَفِي الْحَدِيثِ "الْحَمْدُ لِلَّهِ رَأَسُ الشُّكْرِ"1 فَمَنْ لَمْ يَحْمَدِ اللَّهَ لَمْ يَشْكُرْهُ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَنِ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الْأَكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا، وَيَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا" 2 وَاللَّهُ أَعْلَمُ انْتَهَى كَلَامُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. "وَمِنْ مَسَاوِئِ" جَمْعُ مُسَاءَةٍ "عَمَلِي" مُضَافٌ إِلَيْهِ مِنْ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ. "أَسْتَغْفِرُهْ" السِّينُ لِلطَّلَبِ أَيْ: أَطْلُبُ مِنْهُ مَغْفِرَةَ تِلْكَ الْمَسَاوِئِ مَا تَقَدَّمَ مِنْهَا وَمَا تَأَخَّرَ إِنَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ.
وَأَسْتَعِينُهُ عَلَى نَيْلِ الرِّضَا ... وَأَسْتَمِدُّ لُطْفَهُ فِي مَا قَضَى "وَأَسْتَعِينُهُ" أَطْلُبُ مِنْهُ الْعَوْنَ "عَلَى نَيْلِ الرِّضَا" أَيْ: عَلَى فِعْلِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي بِسَبَبِهَا يُنَالُ رِضَاهُ أَنْ يَرْزُقَنِيهَا وَيُنِيلَنِي رِضَاهُ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ. "وَأَسْتَمِدُّ" أَيْ: أَطْلُبُ مِنْهُ الْإِمْدَادَ بِأَنْ يَرْزُقَنِي "لُطْفَهُ" بِي "فِيمَا قَضَى" وَقَدَّرَ مِنَ الْمَصَائِبِ, وَأَنْ يَجْعَلَنِي رَاضِيًا بِذَلِكَ مُؤْمِنًا بِهِ مُسْتَيْقِنًا أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَأَنَّ وُقُوعَهُ خَيْرٌ عِنْدِي مِنْ كَوْنِهِ لَمْ يَقَعْ, وَأَنْ يَهْدِيَ قَلْبِي كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التَّغَابُنِ: 11] وَكَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَأَسْأَلُكَ الرِّضَا بَعْدَ الْقَضَاءِ" 1 الْحَدِيثَ فَإِنَّ ذَلِكَ أَعْلَى دَرَجَاتِ الْإِيمَانِ بِالْقَدَرِ وَهُوَ الرِّضَا بِالْمُصِيبَةِ.
القول في كلمة الشهادة
الْقَوْلُ فِي كَلِمَةِ الشَّهَادَةِ: وَبَعْدُ إِنِّي بِالْيَقِينِ أَشْهَدْ ... شَهَادَةَ الْإِخْلَاصِ أَنْ لَا يُعْبَدْ بِالْحَقِّ مَأْلُوهٌ سِوَى الرَّحْمَنِ ... مَنْ جَلَّ عَنْ عَيْبٍ وَعَنْ نُقْصَانِ "وَبَعْدُ" هُوَ ظَرْفٌ زَمَانِيٌّ يُؤْتَى بِهِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى مَا بَعْدَهُ وَفَصْلِهِ عَمَّا قَبْلَهُ وَيُبْنَى عَلَى الضَّمِّ لِقَطْعِهِ عَنِ الْإِضَافَةِ وَيُغْنِي عَنْ إِعَادَةِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ "إِنِّي بِالْيَقِينِ" الْقَاطِعِ الْجَازِمِ بِدُونِ شَكٍّ وَلَا تَرَدُّدٍ "أَشْهَدْ شَهَادَةَ" مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ "الْإِخْلَاصِ" مُضَافٌ إِلَى شَهَادَةَ مِنْ إضافة الموصوف إلى الصِّفَةِ "أَنْ" مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ وَاسْمُهَا ضَمِيرُ الشَّأْنِ مَسْتَكِنٌّ وَالتَّقْدِيرُ أَنَّهُ, وَالْخَبَرُ "لَا يُعْبَدْ" بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الْبَاءِ بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ "بالحق" يتعلق بيعبد "مَأْلُوهٌ" نائب الفاعل ليعبد وَمَعْنَاهُ مَعْبُودٌ "سِوَى" أَدَاةُ اسْتِثْنَاءٍ بِمَعْنَى إِلَّا "الرَّحْمَنِ" أَيْ: لَا مَعْبُودَ بِحَقٍّ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ, وَالتَّقْيِيدُ بِحَقٍّ يُخْرِجُ بِهِ الْآلِهَةَ الْمَعْبُودَةَ بِبَاطِلٍ فَإِنَّهَا قَدْ عُبِدَتْ. وَالْمَنْفِيُّ هُوَ اسْتِحْقَاقُ الْعِبَادَةِ عَنْ غَيْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا وُقُوعُهَا, وَهَذِهِ هِيَ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ, وَلَمَّا لَمْ يُمْكِنْ فِي النَّظْمِ الْإِتْيَانُ بِلَفْظِهَا نَظَمْتُهَا بِمَعْنَاهَا وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى بَسْطُ الْقَوْلِ فِي تَفْسِيرِهَا
"مَنْ جَلَّ" فِي صِفَاتِ كَمَالِهِ وَنُعُوتِ جَلَالِهِ "عَنْ عَيْبٍ وَعَنْ نُقْصَانِ" وَهُمَا لَفْظَانِ مُتَرَادِفَانِ فَكُلُّ عَيْبٍ يُسَمَّى نُقْصَانًا وَكُلُّ نُقْصَانٍ يُسَمَّى عَيْبًا وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ, بَلْ لَهُ الْجَلَالُ الْمُطْلَقُ وَالْكَمَالُ الْمُطْلَقُ فِي ذَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ. وَأَنَّ خَيْرَ خَلْقِهِ مُحَمَّدَا ... مَنْ جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى رَسُولُهُ إِلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ ... بِالنُّورِ وَالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ "وَ" أَشْهَدُ "أَنَّ خَيْرَ" أَفْضَلَ "خَلْقِهِ" هَاءُ الضَّمِيرِ يَعُودُ عَلَى الرَّحْمَنِ "مُحَمَّدَا" بَدَلٌ مِنْ خَيْرَ أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ, وَمَعْنَاهُ الْكَثِيرُ الْمَحَامِدِ فَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ مَحْمُودٍ "مَنْ جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى" مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ هَذِهِ الْجُمْلَةُ صِلَةُ مَنْ وَهُوَ مَحَلُّهُ النَّصْبُ نَعْتٌ لِمُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالْخَبَرُ "رَسُولُهُ" الرَّسُولُ بِمَعْنَى الْمُرْسَلِ وَهُوَ مَنْ أُوحِيَ إِلَيْهِ وَأُمِرَ بِالتَّبْلِيغِ فَإِنْ أُوحِيَ إِلَيْهِ وَلَمْ يُؤْمَرْ بِالتَّبْلِيغِ فَهُوَ نَبِيٌّ فَقَطْ. فَكُلُّ رَسُولٍ نَبِيٌّ وَلَا عَكْسَ "إِلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ "كَافَّةً قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [سَبَأٍ: 28] وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الْأَعْرَافِ: 158] وَفِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ الْخَصَائِصِ "وَكَانَ الرَّسُولُ يُبْعَثُ فِي قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً" 1 وَفِيهِ أَيْضًا: "وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ" 2. "بِالنُّورِ" الْمُبِينِ وَهُوَ الْقُرْآنُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ
عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} [النِّسَاءِ: 174] وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشُّورَى: 52] الْآيَةَ, وَقَالَ تَعَالَى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا} [التَّغَابُنِ: 8] وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ "وَالْهُدَى" الْإِرْشَادُ وَالدَّلَالَةُ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ "وَدِينِ الْحَقِّ" الْإِسْلَامُ الَّذِي لَا يَقْبَلُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ أَحَدٍ غَيْرَهُ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصَّفِّ: 9] وَكُلٌّ مِنَ الْقُرْآنِ وَالرَّسُولِ وَالْإِسْلَامِ يُسَمَّى نُورًا وَهُدًى وَصِرَاطًا مُسْتَقِيمًا, وَكُلُّ الثَّلَاثَةِ مُتَلَازِمَةٌ تَقُولُ أَرْسَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ رَسُولَهُ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ كِتَابَهُ بِدِينِ الْإِسْلَامِ وَتَقُولُ دِينُ الْإِسْلَامِ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ وَأَنْزَلَ بِهِ كِتَابَهُ وَكُلٌّ مِنْهَا نُورٌ مُبِينٌ وَهُدًى مُسْتَبِينٌ وَصِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ.
القول في الصلاة، والتعريف بالآل والأصحاب
الْقَوْلُ فِي الصَّلَاةِ، وَالتَّعْرِيفُ بِالْآَلِ وَالْأَصْحَابِ: صَلَّى عَلَيْهِ رَبُّنَا وَمَجَّدَا ... وَالْآلِ وَالصَّحْبِ دَوَامًا سَرْمَدَا "صَلَّى عَلَيْهِ رَبُّنَا" قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: الصَّلَاةُ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ثَنَاؤُهُ عَلَى عَبْدِهِ فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى ذَكَرَهُ عَنْهُ الْبُخَارِيُّ1 وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ} [الْأَحْزَابِ: 43] وَفِي الصَّحِيحِ مِنَ الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ "وَإِذَا ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي, وَإِذَا ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ" 2. "وَمَجَّدَا"
التعريف بموضوع الكتاب
بِأَلِفِ الْإِطْلَاقِ أَيْ: شَرَّفَهُ وَزَادَهُ تَشْرِيفًا وَتَمْجِيدًا "وَالْآلِ" أَيْ: آلِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُمْ أَتْبَاعُهُ وَأَنْصَارُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كَمَا قِيلَ: آلُ النَّبِيِّ هُمُو أَتْبَاعُ مِلَّتِهِ ... عَلَى الشَّرِيعَةِ مِنْ عَجَمٍ وَمِنْ عَرَبِ لَوْ لَمْ يَكُنْ آلُهُ إِلَّا قَرَابَتَهُ ... صَلَّى الْمُصَلِّي عَلَى الطَّاغِي أَبِي لَهَبِ وَيَدْخُلُ الصَّحَابَةُ فِي ذَلِكَ مِنْ بَابٍ أَوْلَى, وَيَدْخُلُ فِيهِ أَهْلُ بَيْتِهِ مِنْ قَرَابَتِهِ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ مِنْ بَابٍ أولى وأولى "والصاحب" جَمْعُ صَحَابِيٍّ وَهُوَ مَنْ رَأَى أَوْ لَقِيَ النَّبِيَّ مُؤْمِنًا بِهِ وَلَوْ لَحْظَةً وَمَاتَ عَلَى ذَلِكَ وَلَوْ تَخَلَّلَتْ رِدَّةٌ فِي الْأَصَحِّ. وَهُمْ أَفْضَلُ الْقُرُونِ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ وَسَيَأْتِي فِي آخِرِ الْمَتْنِ الْكَلَامُ عَلَى فَضْلِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
التَّعْرِيفُ بِمَوْضُوعِ الْكِتَابِ: وَبَعْدُ هَذَا النَّظْمُ فِي الْأُصُولِ ... لِمَنْ أَرَادَ مَنْهَجَ الرَّسُولِ سَأَلَنِي إِيَّاهُ مَنْ لَا بُدَّ لِي ... مِنِ امْتِثَالِ سُؤْلِهِ الْمُمْتَثَلِ "وَبَعْدُ" تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ قَرِيبًا, أَيْ: وَبَعْدَ الشَّهَادَتَيْنِ وَالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَى مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَآلِهِ وَصَحِبِهِ "هَذَا النَّظْمُ" الْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلْعَهْدِ الْحُضُورِيِّ, مَوْضُوعُهُ "فِي الْأُصُولِ" وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا أُصُولُ الدِّينِ مِنَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ, وَأَرْكَانِ الْإِسْلَامِ الشَّهَادَتَيْنِ وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِكُلٍّ مِنْهَا, وَالْكَلَامِ عَلَى رِسَالَةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا, وَالْكَلَامِ فِي مَسْأَلَةِ الْخِلَافَةِ, وَالِاعْتِصَامِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمَا تَحْتَوِي عَلَيْهِ كُلُّ مَسْأَلَةٍ مِنْ ذَلِكَ, وَسَتَرَى إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى تِبْيَانَهَا مُفَصَّلًا "لِمَنْ أَرَادَ" مِنَ الْمُؤْمِنِينَ "مَنْهَجَ الرَّسُولِ" سَبِيلَهُ وَمَسْلَكَهُ وَهُوَ مَا عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ "سَأَلَنِي إلخ" الْبَيْتُ بَيِّنٌ وَاضِحٌ. فَقُلْتُ مَعَ عَجْزِي وَمَعَ إِشْفَاقِي ... مُعْتَمِدًا عَلَى القدير الباقي "فقلب" جَوَابُ سَأَلَنِي "مَعَ عَجْزِي" عَدَمِ قُدْرَتِي عَلَى ذَلِكَ "وَمَعَ إِشْفَاقِي" خَوْفِي مِنَ الْغَلَطِ فِي هَذَا الْبَابِ الَّذِي الْمَسْأَلَةُ مِنْهُ أَكْبَرُ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا, وَذَلِكَ
لِقِصَرِ بَاعِي وَقِلَّةِ اطِّلَاعِي, وَالَّذِي قَوَّى عَزْمِي عَلَى ذَلِكَ هُوَ كَوْنِي "مُعْتَمِدًا" أَيْ: مُتَوِكِّلًا "عَلَى الْقَدِيرِ" الَّذِي لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ "الْبَاقِي" الَّذِي كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ, لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ, وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ, وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ
"مقدمة": تعرف العبد بما خلق له، وبأول ما فرض الله عليه
مُقَدِّمَةٌ: تُعَرِّفُ الْعَبْدِ بِمَا خُلِقَ لَهُ, وَبِأَوَّلِ مَا فَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَبِمَا أَخَذَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِهِ الْمِيثَاقَ فِي ظَهْرِ أَبِيهِ آدَمَ, وَبِمَا هُوَ صَائِرٌ إِلَيْهِ اعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا ... لَمْ يَتْرُكِ الْخَلْقَ سُدًى وَهَمَلَا بَلْ خَلَقَ الْخَلْقَ لِيَعْبُدُوهُ ... وَبِالْإِلَهِيَّةِ يُفْرِدُوهُ "اعلم" كلمة يأتى بِهَا لِلِاهْتِمَامِ وَلِلْحَثِّ عَلَى تَدَبُّرِ مَا بَعْدَهَا وَالْخِطَابُ بِهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِكُلِّ الْمُكَلَّفِينَ "بِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ" شَأْنُهُ وَتَنَزَّهَ عَنْ كُلِّ نَقْصٍ "وَعَلَا" بِكُلِّ مَعَانِي الْعُلُوِّ "لَمْ يَتْرُكِ الْخَلْقَ سُدًى" وَلَا "هَمَلَا" أَيْ: لَا يَأْمُرُهُمْ وَلَا يَنْهَاهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَا يَبْعَثُهُمْ فَيُجَازِيهِمْ فِي الْآخِرَةِ؛ لأنه تعالى ما خَلْقِهِمْ إِلَّا بِالْحَقِّ لَا عَبَثًا وَلَا بَاطِلًا بَلْ لِحِكْمَةٍ بَالِغَةٍ يَسْتَحِقُّ عَلَيْهَا الْحَمْدَ, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ، الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آلِ عِمْرَانَ: 190-191] . {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا} أَيِ: الْخَلْقَ {بَاطِلًا} لَا بَلِ الْحَقَّ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى. ثُمَّ نَزَّهُوهُ عَنِ الْعَبَثِ وَخَلْقِ الْبَاطِلِ فَقَالُوا: {سُبْحَانَكَ} أَيْ: عَنْ أَنْ تَخْلُقَ شَيْئًا بَاطِلًا تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ وَقَالَ تَعَالَى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} [النَّحْلِ: 3-4] يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ خَلْقِهِ الْعَالَمَ العلوي وهو السموات بِمَا حَوَتْ, وَالْعَالَمَ السُّفْلِيَّ وَهُوَ الْأَرْضُ بِمَا حَوَتْ, وَأَنَّ ذَلِكَ مَخْلُوقٌ بِالْحَقِّ لَا
لِلْعَبَثِ ثُمَّ نَزَّهَ تَعَالَى نَفْسَهُ عَنْ شِرْكِ مَنْ عَبَدَ مَعَهُ غَيْرَهُ وَهُوَ الْمُسْتَقِلُّ بِالْخَلْقِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ, فَلِهَذَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعْبَدَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ثُمَّ نَبَّهَ تَعَالَى عَلَى خَلْقِ جِنْسِ الْإِنْسَانِ مِنْ نُطْفَةٍ أَيْ: مَهِينَةٍ ضَعِيفَةٍ, فَلَمَّا اسْتَقَلَّ وَدَرَجَ إِذَا هُوَ يُخَاصِمُ رَبَّهُ تَعَالَى وَيُكَذِّبُهُ وَيُحَارِبُ رُسُلَهُ, وَهُوَ إِنَّمَا خُلِقَ لِيَكُونَ عَبْدًا لَا ضِدًّا, وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ، وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ، قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس: 76-78] وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 115] أَيْ: أَفَظَنَنْتُمْ أَنَّكُمْ مَخْلُوقُونَ عَبَثًا بِلَا قَصْدٍ وَلَا إِرَادَةٍ مِنَّا وَلَا حِكْمَةٍ لَنَا, وَقِيلَ لِلْعَبَثِ أَيْ: لِتَلْعَبُوا وَتَعْبَثُوا كَمَا خُلِقَتِ الْبَهَائِمُ لَا ثَوَابَ لَهَا وَلَا عِقَابَ {وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} أَيْ: لَا تَعُودُونَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ, لَا لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ إِنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ لِلْعِبَادَةِ وَإِقَامَةِ أَوَامِرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ نَبْعَثُكُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ فَنُجَازِي كُلَّ عَامِلٍ بِعَمَلِهِ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ, وَهَذَا يَقُولُهُ تَعَالَى لِأَهْلِ النَّارِ تَوْبِيخًا وَتَقْرِيعًا وَتَبْكِيتًا بَعْدَمَا رَأَوُا الْحَقَائِقَ عَيْنَ الْيَقِينِ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُنَزِّهًا نَفْسَهُ عَمَّا حَسِبُوهُ: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} أَيْ: تَقَدَّسَ أَنْ يَخْلُقَ شَيْئًا عَبَثًا فَإِنَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ الْمُنَزَّهُ عَنْ ذَلِكَ {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص: 72] يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ مَا خَلَقَ الْخَلْقَ عَبَثًا وَإِنَّمَا خَلَقَهُمْ لِيَعْبُدُوهُ وَيُوَحِّدُوهُ ثُمَّ يَجْمَعُهُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ فَيُثِيبَ الْمُطِيعَ وَيُعَذِّبَ الْكَافِرَ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا يَظُنُّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا الَّذِينَ لَا يَرَوْنَ بَعْثًا وَلَا مَعَادًا وَإِنَّمَا يَعْتَقِدُونَ هَذِهِ الدَّارَ فَقَطْ {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} أَيْ: وَيْلٌ لَهُمْ يَوْمَ مَعَادِهِمْ وَنَشُورِهِمْ مِنَ النَّارِ الْمُعَدَّةِ لَهُمْ, ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ عَدْلِهِ وَحِكْمَتِهِ لَا يُسَاوِي بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ فَقَالَ تَعَالَى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص: 28] أَيْ: لَا نَفْعَلُ ذَلِكَ وَلَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ, وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَلَا بُدَّ مِنْ دَارٍ أُخْرَى يُثَابُ فِيهَا هَذَا الْمُتَّقِي وَيُعَاقَبُ فِيهَا هَذَا الْفَاجِرُ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَهَذَا الْإِرْشَادُ يَدُلُّ الْعُقُولَ السَّلِيمَةَ وَالْفِطَرَ الْمُسْتَقِيمَةَ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ مَعَادٍ وَجَزَاءٍ, فَإِنَّا نَرَى الظَّالِمَ الْبَاغِيَ يَزْدَادُ مَالُهُ
وَوَلَدُهُ وَنَعِيمُهُ وَيَمُوتُ كَذَلِكَ, وَنَرَى الْمُطِيعَ الْمَظْلُومَ يَمُوتُ بِكَمَدِهِ, فَلَا بُدَّ فِي حِكْمَةِ الْحَكِيمِ الْعَلِيمِ الْعَادِلِ الَّذِي لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ إِنْصَافِ هَذَا الْمَظْلُومِ مِنْ هَذَا الظَّالِمِ, وَإِذَا لَمْ يَقَعْ هَذَا فِي هَذِهِ الدَّارِ, فَتَعَيَّنَ أَنَّ هُنَاكَ دَارًا أُخْرَى لِهَذَا الْجَزَاءِ وَالْمُوَاسَاةِ1. وَقَالَ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى} [الرُّومِ: 8] يَقُولُ تَعَالَى مُنَبِّهًا عَلَى التَّفَكُّرِ فِي مَخْلُوقَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُودِهِ وَانْفِرَادِهِ بِخَلْقِهَا وَأَنَّهُ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ فَقَالَ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ} يَعْنِي بِهِ النَّظَرَ وَالتَّدَبُّرَ وَالتَّأَمُّلَ لِخَلْقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الْأَشْيَاءَ مِنَ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ وَمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ الْمُتَنَوِّعَةِ وَالْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ فَيَعْلَمُوا أَنَّهَا مَا خُلِقَتْ سُدًى وَلَا بَاطِلًا بَلْ بِالْحَقِّ وَأَنَّهَا مُؤَجَّلَةٌ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ} [الرُّومِ: 8] وَقَالَ تَعَالَى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} [الْعَنْكَبُوتِ: 44] أَيْ: لِلْحَقِّ وَإِظْهَارِ الْحَقِّ لَا عَلَى وَجْهِ الْعَبَثِ وَاللَّعِبِ {إِنَّ فِي ذَلِكَ} أَيْ: فِي خَلْقِهَا {لَآيَةً} أَيْ: لَدَلَالَةً {لِلْمُؤْمِنِينَ} عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى الْمُتَفَرِّدُ بِالْقَدَرِ وَالْخَلْقِ وَالتَّدْبِيرِ وَالْإِلَهِيَّةِ وَقَالَ تَعَالَى: {وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} أَيْ: بِالْعَدْلِ {وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [الْجَاثِيَةِ: 22] وَقَالَ تَعَالَى: {مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} [الأحقاف: 3] أَيْ: لَا عَلَى وَجْهِ الْعَبَثِ وَاللَّعِبِ {وَأَجَلٌ مُسَمًّى} أَيْ: وَإِلَى مُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ مَضْرُوبَةٍ يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُوَ الْأَجَلُ الَّذِي تنتهي إليه السموات والأرض وَهُوَ الْإِشَارَةُ إِلَى فَنَائِهِمَا. وَقَالَ تَعَالَى: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [الْقِيَامَةِ: 36] قَالَ السُّدِّيُّ: يَعْنِي لَا يُبْعَثُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالشَّافِعِيُّ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: يَعْنِي لَا يُؤْمَرُ وَلَا يُنْهَى. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْآيَةَ تَعُمُّ الْحَالَيْنِ, أَيْ: لَيْسَ يُتْرَكُ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا مُهْمَلًا لَا يُؤْمَرُ وَلَا يُنْهَى, وَلَا يُتْرَكُ فِي قَبْرِهِ سُدًى لَا يُبْعَثُ, بَلْ هُوَ مَأْمُورٌ مَنْهِيٌّ فِي الدُّنْيَا مَحْشُورٌ إِلَى اللَّهِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ2.
العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه "وانظر فصل العبادة في المجلد الثاني"
"بَلْ خَلَقَ" اللَّهُ تَعَالَى "الْخَلْقَ لِيَعْبُدُوهُ" عَزَّ وَجَلَّ بِمَا شَرَعَهُ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ "وَ" مَعَ عِبَادَتِهِمْ إِيَّاهُ لَا يُشْرِكُونَ بِعِبَادَتِهِ أَحَدًا كَائِنًا مَنْ كَانَ بَلْ "بِالْإِلَهِيَّةِ يُفْرِدُوهُ" دُونَ مَا سِوَاهُ فَمَنْ عَبَدَ اللَّهَ تَعَالَى أَلْفَ سَنَةٍ ثُمَّ أَشْرَكَ بِهِ لَحْظَةً مِنَ اللَّحَظَاتِ وَمَاتَ عَلَى ذَلِكَ حَبِطَ جَمِيعُ عَمَلِهِ وَصَارَ هَبَاءً مَنْثُورًا حَيْثُ أَشْرَكَ مَعَ اللَّهِ فِي عِبَادَتِهِ مَنْ هُوَ مِثْلُهُ مَخْلُوقٌ لِعِبَادَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذَّارِيَاتِ: 56] قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَيْ: إِلَّا لِآمُرَهُمْ أَنْ يَعْبُدُونِ وَأَدْعُوَهُمْ لِعِبَادَتِي1. يُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التَّوْبَةِ: 31] وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إِلَّا لِيَعْبُدُونِ إِلَّا لِيُقِرُّوا بِعِبَادَتِي طَوْعًا أَوْ كَرْهًا2. وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ, وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَمُجَاهِدٌ: إِلَّا لِيَعْرِفُونِ, وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: أَيْ: إِلَّا لِلْعِبَادَةِ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا. وَقَالَ السُّدِّيُّ: مِنَ الْعِبَادَةِ مَا يَنْفَعُ وَمِنْهَا مَا لَا يَنْفَعُ. {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لُقْمَانَ: 25] فَهَذَا مِنْهُمْ عِبَادَةٌ وَلَا يَنْفَعُهُمْ مَعَ الشِّرْكِ وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ الْمُؤْمِنُونَ ا. هـ. مِنْ تَفْسِيرِ ابْنِ كَثِيرٍ3. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ وَالضَّحَّاكُ وَسُفْيَانُ: هَذَا خَاصٌّ لِأَهْلِ طَاعَتِهِ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ4 يَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" ثُمَّ قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} [الْأَعْرَافِ: 17] وَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَمَا خَلَقْتُ السُّعَدَاءَ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِلَّا لِعِبَادَتِي وَالْأَشْقِيَاءَ مِنْهُمْ إِلَّا لِمَعْصِيَتِي. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: هُمْ عَلَى مَا جُبِلُوا عَلَيْهِ مِنَ الشَّقَاوَةِ وَالسَّعَادَةِ وَقِيلَ مَعْنَاهُ إِلَّا لِيَخْضَعُوا لِي وَيَتَذَلَّلُوا. وَمَعْنَى الْعِبَادَةِ فِي اللُّغَةِ التَّذَلُّلُ وَالِانْقِيَادُ فَكُلُّ مَخْلُوقٍ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ خَاضِعٌ لِقَضَاءِ اللَّهِ وَمُتَذَلِّلٌ لِمَشِيئَتِهِ وَلَا يَمْلِكُ أَحَدٌ لِنَفْسِهِ خُرُوجًا عَمَّا
خُلِقَ عَلَيْهِ قَدْرَ ذَرَّةٍ مِنْ نَفْعٍ وَلَا ضُرٍّ وَقِيلَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ إِلَّا لِيُوَحِّدُونِ. فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيُوَحِّدُهُ فِي الشِّدَّةِ وَالرَّخَاءِ وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيُوَحِّدُهُ فِي الشِّدَّةِ وَالْبَلَاءِ دُونَ النِّعْمَةِ وَالرَّخَاءِ, بَيَانُهُ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت: 65] الآية1. ا. هـ. مِنْ تَفْسِيرِ الْبَغَوِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. قُلْتُ: وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَإِنْ كَانَتْ مُتَقَارِبَةً وَالْآيَةُ تَسَعُ جَمِيعَهَا أَرْجَحُهَا الْأَوَّلُ وَهُوَ قَوْلُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِلَّا لِآمُرَهُمْ وَأَدْعُوَهُمْ لِعِبَادَتِي. يُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التَّوْبَةِ: 31] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [الْبَيِّنَةِ: 5] الْآيَةَ وَغَيْرُهَا مِنَ الْآيَاتِ وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِنَّمَا شَاءَ الْعِبَادَةَ مِنْ جَمِيعِ عِبَادِهِ وَأَرَادَهَا مِنْهُمْ وَقَضَاهَا عَلَيْهِمْ فِي الشَّرْعِ لَا فِي الْكَوْنِ, فَمَنْ أَطَاعَ أَمْرَهُ وَأَتَى بِمَا أَرَادَهُ وَشَاءَهُ مِنْهُ فَلَهُ رِضَاهُ وَالْجَنَّةُ وَمَنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ فَلَهُ سُخْطُهُ وَالنَّارُ, وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ جَمِيعِهِمُ الْعِبَادَةَ وَأَرَادَهَا فِي الْكَوْنِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ بُدٌّ مِنْ ذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ إِلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ سَبِيلٍ, وَلَا يَخْرُجُ عَنْ قَضَائِهِ تَعَالَى وَقَدَرِهِ شَيْءٌ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ, فَإِنَّهُ لَا رَادَّ لِقَضَائِهِ, وَلَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ, وَلَا مُضَادَّ لِأَمْرِهِ, وَلَا نَاقِضَ لِمَا أَبْرَمَهُ, وَلَا دَافِعَ لِمَا قَدَّرَهُ, وَلِذَلِكَ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ هَذَا الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الْإِسْرَاءِ: 23] فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَالْحَسَنُ: وَأَمَرَ رَبُّكَ. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: وَأَوْجَبَ رَبُّكَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: وَأَوْصَى رَبُّكَ. وَقَرَأَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَالضَّحَّاكُ بْنُ مُزَاحِمٍ: "وَوَصَّى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ"2 وَلَوْ أَنَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَضَى فِي الْكَوْنِ أَنْ لَا يُعْبَدَ إِلَّا إِيَّاهُ لَمْ يُشْرِكْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ, وَإِنَّمَا قَضَى ذَلِكَ شَرْعًا لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى. وَهَذِهِ الْمَشِيئَةُ مِنْهُ لِلْعِبَادَةِ مِنْ عِبَادِهِ شَرْعًا عَامَّةٌ لِمُؤْمِنِهِمْ وَكَافِرِهِمْ, وَأَمَّا مَشِيئَتُهُ لِلْعِبَادَةِ الْكَوْنِيَّةِ الْقَدَرِيَّةِ فَخَاصَّةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ فَلِهَذَا
آية {وإذا أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم}
اتَّفَقَتْ فِيهِمُ الْمَشِيئَتَانِ فَوَافَقُوا الْمَشِيئَةَ الشَّرْعِيَّةَ لِمَا سَبَقَ لَهُمْ فِي الْمَشِيئَةِ الْقَدَرِيَّةِ الْكَوْنِيَّةِ وَأَمَّا الْكَافِرُ فَلَمْ يُوَافِقِ الْمَشِيئَةَ الشَّرْعِيَّةَ لِمَا سَبَقَ عَلَيْهِ فِي الْمَشِيئَةِ الْقَدَرِيَّةِ مِنَ الشَّقَاوَةِ. فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ الْمَشِيئَةَ الْكَوْنِيَّةَ الْقَدَرِيَّةَ لَا خُرُوجَ لِأَحَدٍ مِنْهَا, وَلَا مَحِيدَ لَهُ عَنْهَا, سَوَاءٌ سَبَقَتْ لَهُ بِالشَّقَاوَةِ أَوِ السَّعَادَةِ. وَأَمَّا الْمَشِيئَةُ الشَّرْعِيَّةُ فَمَنْ كَانَ سَبَقَ لَهُ فِي الْقَدَرِيَّةِ أَنَّهُ يُوَافِقُهَا كَانَ كَذَلِكَ, أَوْ يُخَالِفُهَا كَانَ كَذَلِكَ. وَأَمَّا مَعْنَى الْعِبَادَةِ فَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: الْعِبَادَةُ هِيَ اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ تَعَالَى وَيَرْضَاهُ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ. فَالصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ وَالصِّيَامُ وَالْحَجُّ وَصِدْقُ الْحَدِيثِ وَأَدَاءُ الْأَمَانَةِ وَبِرُّ الْوَالِدَيْنِ وَصِلَةُ الْأَرْحَامِ وَالْوَفَاءُ بِالْعُهُودِ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْجِهَادُ لِلْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ وَالْإِحْسَانُ إِلَى الْجَارِ وَالْيَتِيمِ وَالْمِسْكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَالْمَمْلُوكِ مِنَ الْآدَمِيِّينَ وَالْبَهَائِمِ وَالدُّعَاءُ وَالذِّكْرُ وَالْقِرَاءَةُ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنَ الْعِبَادَةِ -يَعْنِي الظَّاهِرَةَ- وَكَذَلِكَ حَبُّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَخَشْيَتُهُ وَالْإِنَابَةُ إِلَيْهِ وَإِخْلَاصُ الدِّينِ لَهُ وَالصَّبْرُ لِحُكْمِهِ وَالشُّكْرُ لِنِعَمِهِ وَالرِّضَا بِقَضَائِهِ وَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ وَالرَّجَاءُ لِرَحْمَتِهِ وَالْخَوْفُ لِعَذَابِهِ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ هِيَ مِنَ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ -يَعْنِي الْبَاطِنَةَ- وَجُمَّاعُ الْعِبَادَةِ كَمَالُ الْحُبِّ مَعَ كَمَالِ الذُّلِّ1 وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى زِيَادَةُ بَحْثِهَا فِي بَابِهَا مِنَ الْمَتْنِ. أَخْرَجَ فِيمَا قَدْ مَضَى مِنْ ظَهْرِ ... آدَمَ ذُرِّيَّتَهُ كَالذَّرِّ وَأَخَذَ الْعَهْدَ عَلَيْهِمْ أَنَّهُ ... لَا رَبَّ مَعْبُودٌ بِحَقٍّ غَيْرَهُ "أَخْرَجَ" أَيِ: اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى "فِيمَا" أَيِ: الزَّمَنِ الَّذِي "قَدْ مَضَى" وَذَلِكَ بَعْدَ خَلْقِهِ آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ "مِنْ ظَهْرِ آدَمَ" أَبِي الْبَشَرِ عَلَيْهِ السَّلَامُ "ذُرِّيَّتَهُ" كُلُّ مَنْ يُوجَدُ مِنْهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ "كَالذَّرِّ" أَيْ: كَهَيْئَتِهِ "وَأَخَذَ" عَزَّ وَجَلَّ "الْعَهْدَ عَلَيْهِمْ" وَتَفْسِيرُ الْعَهْدِ "أَنَّهُ" الضَّمِيرُ لِلشَّأْنِ أَوِ الْحَالِ هُوَ رَبُّهُمْ "لَا رَبَّ مَعْبُودٌ" مُسْتَحِقٌّ لِلْعِبَادَةِ وَلِذَا قَيَّدَ "بِحَقٍّ غَيْرَهُ" وَإِلَّا فَكَمْ قَدِ اتَّخَذَ أَعْدَاؤُهُ مِنْ أَرْبَابٍ وَعَبَدُوهَا بِالْبَاطِلِ بِدُونِ حَقٍّ بَلْ بِالظُّلْمِ الْعَظِيمِ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ
ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ، أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ، وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الْأَعْرَافِ: 172-174] وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "يُقَالُ لِلرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ أَكُنْتَ مُفْتَدِيًا بِهِ؟ قَالَ فَيَقُولُ: نَعَمْ فَيَقُولُ قَدْ أَرَدْتُ مِنْكَ أَهْوَنَ مِنْ ذَلِكَ قَدْ أَخَذْتُ عَلَيْكَ فِي ظَهْرِ آدَمَ أَنْ لَا تُشْرِكَ بِي شَيْئًا فَأَبَيْتَ إِلَّا أَنْ تُشْرِكَ بِي" أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ1. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخَذَ الْمِيثَاقَ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِنُعْمَانَ يَوْمَ عَرَفَةَ فَأَخْرَجَ مِنْ صُلْبِهِ كُلَّ ذُرِّيَّةٍ ذَرَأَهَا فَنَثَرَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ ثُمَّ كَلَّمَهُمْ قُبُلًا قَالَ تَعَالَى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ، أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً} -إِلَى قَوْلِهِ: {الْمُبْطِلُونَ} رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخْرِجَاهُ2، وَقَدْ رُوِيَ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ مَوْقُوفًا. وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} الْآيَةَ, فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سُئِلَ عَنْهَا فَقَالَ: "إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ
عَلَيْهِ السَّلَامُ ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ بِيَمِينِهِ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً قَالَ: خَلَقْتُ هَؤُلَاءِ لِلْجَنَّةِ وَبِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَعْمَلُونَ, ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً قَالَ: خَلَقْتُ هَؤُلَاءِ لِلنَّارِ وَبِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ يَعْمَلُونَ" فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَفِيمَ الْعَمَلُ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا خَلَقَ اللَّهُ الْعَبْدَ لِلْجَنَّةِ اسْتَعْمَلَهُ بِأَعْمَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلَ بِهِ الْجَنَّةَ, وَإِذَا خَلَقَ الْعَبْدَ لِلنَّارِ اسْتَعْمَلَهُ بِأَعْمَالِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلَ بِهِ النَّارَ" رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ1. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَسَقَطَ مِنْ ظَهْرِهِ كُلُّ نَسَمَةٍ هُوَ خَالِقُهَا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ, وَجَعَلَ بَيْنَ عَيْنَيْ كُلِّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ وَبِيصًا مِنْ نُورٍ, ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى آدَمَ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ ذَرِّيَّتُكَ, فَرَأَى رَجُلًا مِنْهُمْ أَعْجَبَهُ وَبِيصُ مَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ مَنْ هَذَا؟ قَالَ هَذَا رَجُلٌ مِنْ آخِرِ الْأُمَمِ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ يُقَالُ لَهُ دَاوُدُ قَالَ رَبِّ وَكَمْ جَعَلْتَ عُمْرَهُ؟ قَالَ سِتِّينَ سَنَةً قَالَ: أَيْ رَبِّ زِدْهُ مِنْ عُمْرِي أَرْبَعِينَ سَنَةً. فَلَمَّا انْقَضَى عُمَرُ آدَمَ جَاءَهُ مَلَكُ الْمَوْتِ فقال أولم يبقى مِنْ عُمْرِي أَرْبَعُونَ سنة؟ قال أولم تُعْطِهَا لِابْنِكَ دَاوُدَ؟ قَالَ فَجَحَدَ آدَمُ فَجَحَدَتْ ذُرِّيَّتُهُ. وَنَسِيَ آدَمُ فَنَسِيَتْ ذُرِّيَّتُهُ" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ:
هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ صحيح على شرط مُسْلِمٍ وَلَمْ يُخْرِجَاهُ1، وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ إِلَى أَنْ قَالَ: "ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى آدَمَ فَقَالَ يَا آدَمُ هَؤُلَاءِ ذَرِّيَّتُكَ وَإِذَا فِيهِمُ الْأَجْذَمُ وَالْأَبْرَصُ وَالْأَعْمَى وَأَنْوَاعُ الْأَسْقَامِ فَقَالَ آدَمُ: يَا رَبِّ لَمْ فَعَلْتَ هَذَا بِذُرِّيَّتِي؟ قَالَ: كَيْ تَشْكُرَ نِعْمَتِي وَقَالَ آدَمُ يَا رَبِّ مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَرَاهُمْ أَظْهَرَ النَّاسِ نُورًا؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءُ يَا آدَمُ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ"2. ثُمَّ ذَكَرَ قِصَّةَ دَاوُدَ كَنَحْوِ مَا تَقَدَّمَ. وَعَنْ هِشَامِ بْنِ حَكِيمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتُبْدَأُ الْأَعْمَالُ أَمْ قَدْ قُضِيَ الْقَضَاءُ؟ قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَخَذَ ذُرِّيَّةَ آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ, ثُمَّ أَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ, ثُمَّ أَفَاضَ بِهِمْ فِي كَفَّيْهِ ثُمَّ قَالَ هَؤُلَاءِ فِي الْجَنَّةِ وَهَؤُلَاءِ فِي النَّارِ. فَأَهْلُ الْجَنَّةِ مُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلُ النَّارِ مُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ" رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طُرُقٍ عَنْهُ3. وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ وَقَضَى الْقَضِيَّةَ أَخَذَ أَهْلَ الْيَمِينِ بِيَمِينِهِ وَأَهْلَ الشَّمَالِ بِشَمَالِهِ, فَقَالَ: يَا أَصْحَابَ الْيَمِينِ فَقَالُوا: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ قَالَ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى, قَالَ: يَا أَصْحَابَ
الشَّمَالِ, قَالُوا: لَبَّيْكَ وَسْعَدَيْكَ, قال: ألست ربكم؟ قَالُوا: بَلَى. ثُمَّ خَلَطَ بَيْنَهُمْ, فَقَالَ لَهُ: يَا رَبِّ لَمْ خَلَطْتَ بَيْنَهُمْ؟ قَالَ: لَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ أَنْ يَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ, ثُمَّ رَدَّهُمْ فِي صُلْبِ آدَمَ" رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَفِيهِ جَعْفَرُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَهُوَ ضَعِيفٌ1. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَخْرَجَ اللَّهُ ذُرِّيَّةَ آدَمَ مِنْ ظَهْرِهِ كَهَيْئَةِ الذَّرِّ وَهُوَ فِي أَذًى الْمَاءِ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ2. وَلَهُ عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَسَحَ صُلْبَ آدَمَ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ كُلَّ نَسَمَةٍ هُوَ خَالِقُهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ, فَأَخَذَ مِنْهُمُ الْمِيثَاقَ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَتَكَفَّلَ لَهُمْ بِالرِّزْقِ. ثُمَّ أَعَادَهُمْ فِي صُلْبِهِ. فَلَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ حَتَّى يُولَدَ مَنْ أَعْطَى الْمِيثَاقَ يَوْمَئِذٍ فَمَنْ أَدْرَكَ مِنْهُمُ الْمِيثَاقَ الْآخَرَ فَوَفَّى بِهِ نَفَعَهُ الْمِيثَاقُ الْأَوَّلُ, وَمَنْ أَدْرَكَ الْمِيثَاقَ الآخر فلم يقربه لَمْ يَنْفَعْهُ الْمِيثَاقُ الْأَوَّلُ, وَمَنْ مَاتَ صَغِيرًا قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَ الْمِيثَاقَ الْآخَرَ مَاتَ عَلَى الْمِيثَاقِ الْأَوَّلِ عَلَى الْفِطْرَةِ3. وَلَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عنهما قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ قَالَ: أُخِذَ مِنْ ظَهْرِهِ كَمَا يُؤْخَذُ بِالْمُشْطِ مِنَ الرَّأْسِ فَقَالَ لَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى, قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ"4 وَصَحَّحَ ابْنُ كَثِيرٍ وَقْفَهُ. وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ
بعد هذا الميثاق الذي أخذه الله على البشر أرسل إليهم الرسل
تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} الْآيَاتِ, قَالَ فَجَمَعَهُمْ لَهُ يَوْمَئِذٍ جَمِيعًا مَا هُوَ كَائِنٌ مِنْهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَجَعَلَهُمْ فِي صُوَرِهِمْ, ثُمَّ اسْتَنْطَقَهُمْ فَتَكَلَّمُوا وَأَخَذَ عَلَيْهِمُ الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قَالُوا بَلَى الْآيَةَ. قَالَ فَإِنِّي أشهد عليكم السموات السَّبْعَ وَالْأَرَضِينَ السَّبْعَ وَأُشْهِدُ عَلَيْكُمْ أَبَاكُمْ آدَمَ أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَمْ نَعْلَمْ بِهَذَا, اعْلَمُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ غَيْرِي وَلَا رَبَّ غَيْرِي وَلَا تُشْرِكُوا بِي شَيْئًا وَإِنِّي سَأُرْسِلُ إِلَيْكُمْ رُسَلًا لِيُذَكِّرُوكُمْ عَهْدِي وَمِيثَاقِي وَأُنْزِلُ عَلَيْكُمْ كُتُبِي, قَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ رَبُّنَا وَإِلَهُنَا لَا رَبَّ لَنَا غَيْرُكَ وَلَا إِلَهَ لَنَا غَيْرُكَ فَأَقَرُّوا لَهُ يَوْمَئِذٍ بِالطَّاعَةِ وَرَفَعَ أَبَاهُمْ آدَمَ فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ فَرَأَى فِيهِمُ الْغَنِيَّ وَالْفَقِيرَ وَحَسَنَ الصُّورَةِ وَدُونَ ذَلِكَ فَقَالَ يَا رَبِّ لَوْ سَوَّيْتَ بَيْنَ عِبَادِكَ قَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ أَنْ أُشْكَرَ وَرَأَى فِيهِمُ الْأَنْبِيَاءَ مِثْلَ السُّرُجِ عَلَيْهِمُ النُّورُ وَخُصُّوا بِمِيثَاقٍ آخَرَ مِنَ الرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ فَهُوَ الَّذِي يَقُولُ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ} [الْأَحْزَابِ: 7] الْآيَةَ. وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ} [الرُّومِ: 30] الْآيَةَ. وَمِنْ ذَلِكَ قَالَ: {هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى} [النَّجْمِ: 56] وَمِنْ ذَلِكَ قَالَ: {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ} [الْأَعْرَافِ: 102] الْآيَةَ. رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي مُسْنَدِ أَبِيهِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ1. وَفِي الْبَغَوِيِّ قَالَ مُقَاتِلٌ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ التَّفْسِيرِ2: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَسَحَ صَفْحَةَ ظَهْرِ آدَمَ الْيُمْنَى فَأَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً بَيْضَاءَ كَهَيْئَةِ الذَّرِّ يَتَحَرَّكُونَ ثُمَّ مَسَحَ صَفْحَةَ ظَهْرِهِ الْيُسْرَى فَأَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً سَوْدَاءَ كَهَيْئَةِ الذَّرِّ فَقَالَ: يَا آدَمُ هَؤُلَاءِ ذُرِّيَّتُكَ ثُمَّ قَالَ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى فَقَالَ لِلْبِيضِ هَؤُلَاءِ فِي الْجَنَّةِ بِرَحْمَتِي وَلَا أُبَالِي وَهُمْ أَصْحَابُ الْيَمِينِ, وَقَالَ لِلسُّودِ هَؤُلَاءِ فِي النَّارِ وَلَا أُبَالِي وَهُمْ أَصْحَابُ الشِّمَالِ, ثُمَّ أَعَادَهُمْ جَمِيعًا فِي صُلْبِهِ, فَأَهْلُ الْقُبُورِ مَحْبُوسُونَ حَتَّى يَخْرُجَ أَهْلُ الْمِيثَاقِ كُلُّهُمْ مِنْ أَصْلَابِ الرِّجَالِ وَأَرْحَامِ النِّسَاءِ, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَنْ نَقَضَ الْعَهْدَ الْأَوَّلَ: {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ} وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ: إِنَّ أَهْلَ السَّعَادَةِ
أَقَرُّوا طَوْعًا وَقَالُوا: بَلَى, وَأَهْلُ الشَّقَاوَةِ قَالُوا تَقِيَّةً وَكَرْهًا. وَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} . وَاخْتَلَفُوا فِي مَوْضِعِ الْمِيثَاقِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: بِبَطْنِ نُعْمَانَ وَادٍ إِلَى جَنْبِ عَرَفَةَ, وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ بِدَهْنَاءَ مِنْ أَرْضِ الْهِنْدِ وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي هَبَطَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَيْهِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ, وَقَالَ السُّدِّيُّ: أَخْرَجَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الْجَنَّةِ فَلَمْ يُهْبِطْهُ مِنَ السَّمَاءِ ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَأَخْرَجَ ذُرِّيَّتَهُ, وَرُوِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْرَجَهُمْ جَمِيعًا وَصَوَّرَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ عُقُولًا يَعْلَمُونَ بِهَا وَأَلْسُنًا يَنْطِقُونَ بِهَا ثُمَّ كَلَّمَهُمْ قُبُلًا يَعْنِي عِيَانًا, وَقَالَ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ وَقَالَ الزَّجَّاجُ: وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى جَعَلَ لِأَمْثَالِ الذَّرِّ فَهْمًا تَعْقِلُ بِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ} [النَّمْلِ: 18] قَالَ الْبَغَوِيُّ: فَإِنْ قِيلَ مَا مَعْنَى قَوْلِهِ: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} وَإِنَّمَا أَخْرَجَهُمْ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ, قِيلَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْرَجَ ذُرِّيَّةَ آدَمَ بَعْضَهُمْ عَنْ ظُهُورِ بَعْضٍ عَلَى نَحْوِ مَا يَتَوَالَدُ الْأَبْنَاءُ مِنَ الْآبَاءِ فِي التَّرْتِيبِ فَاسْتَغْنَى عَنْ ذِكْرِ ظَهْرِ آدَمَ لَمَّا عُلِمَ أَنَّهُمْ كُلَّهُمْ بَنُوهُ وَأُخْرِجُوا مِنْ ظَهْرِهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} أَيْ: أَشْهَدَ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ قَوْلُهُ: {شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا} قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو أَنْ يَقُولُوا أَوْ يَقُولُوا بِالْيَاءِ فِيهِمَا, وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّاءِ فِيهِمَا وَاخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ {شَهِدْنَا} قَالَ السُّدِّيُّ: هُوَ خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ نَفْسِهِ وَمَلَائِكَتِهِ أَنَّهُمْ شَهِدُوا عَلَى إِقْرَارِ بَنِي آدَمَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ خَبَرٌ عَنْ قَوْلِ بَنِي آدَمَ أَشْهَدَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ فَقَالُوا بَلَى شَهِدْنَا. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ وَفِيهِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ؛ لَمَّا قَالَتِ الذُّرِّيَّةُ بَلَى قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِلْمَلَائِكَةِ اشْهَدُوا قَالُوا شَهِدْنَا, قوله: {أَنْ تَقُولُوا} يَعْنِي وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنْ يَقُولُوا أَيْ: لِئَلَّا يَقُولُوا أَوْ كَرَاهِيَةَ أَنْ يَقُولُوا, وَمَنْ قَرَأَ بِالتَّاءِ فَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ أُخَاطِبُكُمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ لِئَلَّا تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَيْ: عَنْ هَذَا الْمِيثَاقِ وَالْإِقْرَارِ, فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يُلْزِمُ الْحُجَّةَ وَاحِدًا لَا يَذْكُرُ الْمِيثَاقَ؟ قِيلَ قَدْ أَوْضَحَ اللَّهُ تَعَالَى الدَّلَائِلَ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ وَصِدْقِ رُسُلِهِ فِيمَا أَخْبَرُوا فَمَنْ أَنْكَرَهُ كَانَ مُعَانِدًا نَاقِضًا لِلْعَهْدِ وَلَزِمَتْهُ الْحُجَّةُ, وَبِنِسْيَانِهِمْ وَعَدَمِ حِفْظِهِمْ لَا يَسْقُطُ الِاحْتِجَاجُ بَعْدَ إِخْبَارِ الْمُخْبِرِ صَاحِبِ الْمُعْجِزَةِ قَوْلُهُ: {أَوْ تَقُولُوا
إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ} يَقُولُ إِنَّمَا أُخِذَ الْمِيثَاقُ عَلَيْكُمْ لِئَلَّا تَقُولُوا أَيُّهَا الْمُشْرِكُونَ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَنَقَضُوا الْعَهْدَ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَيْ: كُنَّا أَتْبَاعًا لَهُمْ فَاقْتَدَيْنَا بِهِمْ فَتَجْعَلُوا هَذَا عُذْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَتَقُولُوا: {أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} أَفَتُعَذِّبُنَا بِجِنَايَةِ آبَائِنَا الْمُبْطِلِينَ؟ فَلَا يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَحْتَجُّوا بِمِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ بَعْدَ تَذْكِيرِ اللَّهِ تَعَالَى بِأَخْذِ الْمِيثَاقِ عَلَى التَّوْحِيدِ {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ} أَيْ: نُبَيِّنُ الْآيَاتِ لِيَتَدَبَّرَهَا الْعِبَادُ {وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} مِنَ الْكُفْرِ إِلَى التَّوْحِيدِ1 ا. هـ. الْبَغَوِيِّ. وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى2: وَذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْإِشْهَادِ إِنَّمَا هُوَ فَطْرُهُمْ عَلَى التَّوْحِيدِ. كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ -وَفِي رِوَايَةٍ- عَلَى هَذِهِ الْمِلَّةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ كَمَا تُولَدُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ" 3 أَخْرَجَاهُ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: إِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ فَجَاءَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ" 4 وَعَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ سَرِيعٍ مِنْ بَنِي سَعْدٍ قَالَ غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَرْبَعَ غَزَوَاتٍ قَالَ فَتَنَاوَلَ الْقَوْمُ الذُّرِّيَّةَ بَعْدَمَا قَتَلُوا الْمُقَاتِلَةَ فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: "مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَتَنَاوَلُونَ الذُّرِّيَّةَ؟ " فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَيْسُوا أَبْنَاءَ الْمُشْرِكِينَ؟ فَقَالَ: "إِنَّ خِيَارَكُمْ أَبْنَاءُ الْمُشْرِكِينَ. أَلَا إِنَّهَا لَيْسَتْ نَسَمَةٌ تُولَدُ إِلَّا وُلِدَتْ عَلَى الْفِطْرَةِ فَمَا تَزَالُ عَلَيْهَا حَتَّى يُبَيِّنَ عَنْهَا لِسَانُهَا فَأَبَوَاهَا يُهَوِّدَانِهَا
وَيُنَصِّرَانِهَا" 1 قَالَ الْحَسَنُ وَلَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} قَالُوا وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ} وَلَمْ يَقُلْ مِنْ آدَمَ {مِنْ ظُهُورِهِمْ} وَلَمْ يَقُلْ من ظهره "ذرياتهم" أَيْ: جَعَلَ نَسْلَهُمْ جِيلًا بَعْدَ جِيلٍ وَقَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ} [الْأَنْعَامِ: 165] وَقَالَ: {وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ} وَقَالَ تَعَالَى: {كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ} [الْأَنْعَامِ: 133] ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} أَيْ: أَوْجَدَهُمْ شَاهِدِينَ بِذَلِكَ قَائِلِينَ لَهُ حَالًا قَالَ وَالشَّهَادَةُ تَكُونُ بِالْقَوْلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا} الْآيَةَ وَتَارَةً تَكُونُ حَالًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} [التَّوْبَةِ: 17] أَيْ: حَالُهُمْ شَاهِدٌ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ لَا أَنَّهُمْ قَائِلُونَ ذَلِكَ وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ} [الْعَادِيَاتِ: 7] كَمَا أَنَّ السُّؤَالَ تَارَةً يَكُونُ بِالْمَقَالِ وَتَارَةً يَكُونُ بِالْحَالِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} [إِبْرَاهِيمَ: 34] قَالُوا وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا أَنْ جَعَلَ هَذَا الْإِشْهَادَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ فِي الْإِشْرَاكِ فَلَوْ كَانَ قَدْ وَقَعَ هَذَا كَمَا قَالَ مَنْ قَالَ لَكَانَ كُلُّ أَحَدٍ يَذْكُرُهُ لِيَكُونَ حُجَّةً عَلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ إِخْبَارُ الرَّسُولِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِهِ كَافٍ فِي وُجُودِهِ. فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُكَذِّبِينَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يُكَذِّبُونَ بِجَمِيعِ مَا جَاءَتْهُمْ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ هَذَا وَغَيْرِهِ وَهَذَا جُعِلَ حُجَّةً مُسْتَقِلَّةً عَلَيْهِمْ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ الْفِطْرَةُ الَّتِي فُطِرُوا عَلَيْهَا مِنَ الْإِقْرَارِ بِالتَّوْحِيدِ. وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {أَنْ تَقُولُوا} أَيْ: لِئَلَّا تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ {إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} أَيْ: عَنِ التَّوْحِيدِ {أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا} 2 الْآيَةَ ا. هـ. قُلْتُ: لَيْسَ بَيْنَ التَّفْسِيرَيْنِ مُنَافَاةٌ وَلَا مُضَادَّةٌ وَلَا مُعَارَضَةٌ, فَإِنَّ هَذِهِ الْمَوَاثِيقَ كُلَّهَا ثَابِتَةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. الْأَوَّلُ الْمِيثَاقُ الَّذِي أَخَذَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ حِينَ أَخْرَجَهُمْ مِنْ ظَهْرِ أَبِيهِمْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ
قَالُوا بَلَى} الْآيَاتِ وَهُوَ الَّذِي قَالَهُ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ, وَهُوَ نَصُّ الْأَحَادِيثِ الثَّابِتَةِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا. الْمِيثَاقُ الثَّانِي: مِيثَاقُ الْفِطْرَةِ وَهُوَ أَنَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَطَرَهُمْ شَاهِدِينَ بِمَا أَخَذَهُ عَلَيْهِمْ فِي الْمِيثَاقِ الْأَوَّلِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الرُّومِ: 30] الْآيَةَ وَهُوَ الثَّابِتُ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ وَالْأَسْوَدِ بْنِ سَرِيعٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَغَيْرِهَا مِنَ الْأَحَادِيثِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا. الْمِيثَاقُ الثَّالِثُ: هُوَ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَأُنْزِلَتْ بِهِ الْكُتُبُ تَجْدِيدًا لِلْمِيثَاقِ الْأَوَّلِ وَتَذْكِيرًا بِهِ {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النِّسَاءِ: 165] فَمَنْ أَدْرَكَ هَذَا الْمِيثَاقَ وَهُوَ بَاقٍ عَلَى فِطْرَتِهِ الَّتِي هِيَ شَاهِدَةٌ بِمَا ثَبَتَ فِي الْمِيثَاقِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ يَقْبَلُ ذَلِكَ مِنْ أَوَّلِ مَرَّةٍ وَلَا يَتَوَقَّفُ؛ لِأَنَّهُ جَاءَ مُوَافِقًا لِمَا فِي فِطْرَتِهِ وَمَا جَبَلَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ فَيَزْدَادُ بِذَلِكَ يَقِينُهُ وَيَقْوَى إِيمَانُهُ فَلَا يَتَلَعْثَمُ وَلَا يَتَرَدَّدُ وَمَنْ أَدْرَكَهُ وَقَدْ تَغَيَّرَتْ فِطْرَتُهُ عَمَّا جَبَلَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنَ الْإِقْرَارِ بِمَا ثَبَتَ فِي الْمِيثَاقِ الْأَوَّلِ بِأَنْ كَانَ قَدِ اجْتَالَتْهُ الشَّيَاطِينُ عَنْ دِينِهِ وَهَوَّدَهُ أَبَوَاهُ أَوْ نَصَّرَاهُ أَوْ مَجَّسَاهُ فَهَذَا إِنْ تَدَارَكَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِرَحْمَتِهِ فَرَجَعَ إِلَى فِطْرَتِهِ وَصَدَّقَ بِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَنَزَلَتْ بِهِ الْكُتُبُ نَفَعَهُ الْمِيثَاقُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي, وَإِنْ كَذَّبَ بِهَذَا الْمِيثَاقِ كَانَ مُكَذِّبًا بِالْأَوَّلِ فَلَمْ يَنْفَعْهُ إِقْرَارُهُ بِهِ يَوْمَ أَخَذَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ حَيْثُ قَالَ {بَلَى} جَوَابًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} وَقَامَتْ عَلَيْهِ حُجَّةُ اللَّهِ وَغَلَبَتْ عَلَيْهِ الشِّقْوَةُ وَحَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ. وَمَنْ لَمْ يُدْرِكْ هَذَا الْمِيثَاقَ بِأَنْ مَاتَ صَغِيرًا قَبْلَ التَّكْلِيفِ مَاتَ عَلَى الْمِيثَاقِ الْأَوَّلِ عَلَى الْفِطْرَةِ فَإِنْ كَانَ مِنْ أَوْلَادِ الْمُسْلِمِينَ فَهُمْ مَعَ آبَائِهِمْ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَوْلَادِ الْمُشْرِكِينَ فَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانَ عَامِلًا لَوْ أَدْرَكَهُ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ أَوْلَادِ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اللَّهُ تَعَالَى إِذْ خَلَقَهُمْ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ" 1. وَفِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:
سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ ذَرَارِيِّ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ" 1. وَبَعْدَ هَذَا رُسْلَهُ قَدْ أَرْسَلَا ... لَهُمْ وَبِالْحَقِّ الْكِتَابَ أَنْزَلَا لِكَيْ بِذَا الْعَهْدِ يُذَكِّرُوهُمْ ... وَيُنْذِرُوهُمْ وَيُبَشِّرُوهُمْ كَيْ لَا يَكُونُ حُجَّةٌ لِلنَّاسِ بَلْ ... لِلَّهِ أَعْلَى حُجَّةٍ عَزَّ وَجَلَّ فَمَنْ يَصَدِّقْهُمْ بِلَا شِقَاقِ ... فَقَدْ وَفَى بِذَلِكَ الْمِيثَاقِ وَذَاكَ نَاجٍ مِنْ عَذَابِ النَّارِ ... وَذَلِكَ الْوَارِثُ عُقْبَى الدَّارِ وَمَنْ بِهِمْ وَبِالْكِتَابِ كَذَّبَا ... وَلَازَمَ الْإِعْرَاضَ عَنْهُ وَالْإِبَا فَذَاكَ نَاقِضٌ كِلَا الْعَهْدَيْنِ ... مُسْتَوْجِبٌ لِلْخِزْيِ فِي الدَّارَيْنِ "وَبَعْدَ هَذَا" أَيِ: الْمِيثَاقِ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَيْهِمْ فِي ظَهْرِ أَبِيهِمْ ثُمَّ فَطَرَهُمْ وَجَبَلَهُمْ عَلَى الْإِقْرَارِ بِهِ وَخَلَقَهُمْ شَاهِدِينَ بِهِ "رُسْلَهُ" بِإِسْكَانِ السِّينِ لِلْوَزْنِ مَفْعُولُ أَرْسَلَ مُقَدَّمٌ "قَدْ أَرْسَلَا" بِأَلْفِ الْإِطْلَاقِ "لَهُمْ" أَيْ: إِلَيْهِمْ "وَبِالْحَقِّ" مُتَعَلِّقٌ بِأَنْزَلَ أَيْ: بِدِينِ الْحَقِّ "الْكِتَابَ" جِنْسٌ يَشْمَلُ جَمِيعَ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى جَمِيعِ الرُّسُلِ "أَنْزَلَا" بِأَلْفِ الْإِطْلَاقِ وَالْأَمْرُ الَّذِي أَرْسَلَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ الرُّسُلَ إِلَى عِبَادِهِ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمْ بِهِ الْكُتُبَ هُوَ "لِكَيْ بِذَا الْعَهْدِ" الْمِيثَاقِ الْأَوَّلِ "يُذَكِّرُوهُمْ" تَجْدِيدًا لَهُ وَإِقَامَةً لِحُجَّةِ اللَّهِ الْبَالِغَةِ عَلَيْهِمْ "وَيُنْذِرُوهُمْ" عِقَابَ اللَّهِ إِنْ هُمْ عَصَوْهُ وَنَقَضُوا عَهْدَهُ "وَيُبَشِّرُوهُمْ" بِمَغْفِرَتِهِ وَرِضْوَانِهِ إِنْ هُمْ وَفَّوْا بِعَهْدِهِ وَلَمْ يَنْقُضُوا مِيثَاقَهُ وَأَطَاعُوهُ وَصَدَّقُوا رُسُلَهُ, وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ لِـ"كَيْ لَا يَكُونَ حُجَّةٌ" عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ "لِلنَّاسِ بَلْ لِلَّهِ" عَلَى جَمِيعِ عِبَادِهِ
"أَعْلَى حُجَّةٍ" أَبْلَغُهَا وَأَدْمَغُهَا "عَزَّ" سُلْطَانُهُ "وَجَلَّ" شَأْنُهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ حُجَّةٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ خَاتَمُ الرُّسُلِ وَالْمُصَدِّقُ لِمَا جَاءُوا بِهِ وَكِتَابُهُ مُصَدِّقٌ لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِمَّا مَعَهُمْ مِنَ الْكُتُبِ وَمُهَيْمِنٌ عَلَيْهِ {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا، وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا، رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النِّسَاءِ: 136-165] وَقَالَ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ، فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ، وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [الْحَجِّ: 49-51] وَقَالَ تَعَالَى لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا، وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا} [الْأَحْزَابِ: 45-47] الْآيَاتِ. وَقَالَ تَعَالَى لَهُ: {إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ} وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [سَبَأٍ: 46] الْآيَاتِ. وَقَالَ تَعَالَى: {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ، وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [الْبَقَرَةِ: 24-25] الْآيَةَ. وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي يُخْبِرُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا أَنَّهُ مَا أَرْسَلَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا دَاعِيًا إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا شَرِيكَ لَهُ وَالْكُفْرِ بِمَا سِوَاهُ مِنَ الْأَنْدَادِ وَمُبَشِّرًا لِمَنْ صَدَّقَهُ وَأَطَاعَهُ بِالْجَنَّةِ وَنَذِيرًا لِمَنْ كَذَّبَهُ وَعَصَاهُ مِنَ النَّارِ. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النِّسَاءِ: 165] وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} [الْأَنْعَامِ: 149] وَتَقْدِيرُ الْبَحْثِ فِي الرِّسَالَةِ وَاتِّفَاقِ الرُّسُلِ فِي دَعْوَتِهِمْ يَأْتِي فِي بَابِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ "فَمَنْ يُصَدِّقْهُمْ" يَعْنِي الرُّسُلَ "بِلَا شِقَاقِ" تَكْذِيبٍ وَلَا مُخَالَفَةٍ "فَقَدْ وَفَى" لِرَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ "بِذَلِكَ الْمِيثَاقِ" الْعَهْدِ الْأَوَّلِ, وَهَؤُلَاءِ هُمُ الْقَلِيلُ مِنَ الثَّقَلَيْنِ, وَلَكِنْ هُمْ جُنْدُ اللَّهِ الْغَالِبُونَ الْمَنْصُورُونَ فِي الدُّنْيَا وَحِزْبُهُ الْمُفْلِحُونَ الْفَائِزُونَ فِي الْآخِرَةِ وَجَوَابُ الشَّرْطِ "فَذَاكَ نَاجٍ مِنْ عَذَابِ النَّارِ" إِذْ لَمْ يَرْتَكِبْ
أَسْبَابَ دُخُولِهَا مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَتَكْذِيبِ رُسُلِهِ كَمَا ارْتَكَبَ ذَلِكَ مَنْ خُلِقَ لَهَا "وَذَلِكَ الْوَارِثُ عُقْبَى الدَّارِ" وَهِيَ الْجَنَّةُ لِفِعْلِهِ أَسْبَابَهَا الَّتِي أَمَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا مِنَ الْوَفَاءِ بِعَهْدِ اللَّهِ وَمِيثَاقِهِ وَتَصْدِيقِ رُسُلِهِ وَكُتُبِهِ وَالْعَمَلِ بِجَمِيعِ طَاعَتِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى "وَمَنْ بِهِمْ" أَيْ: بِالرُّسُلِ "وَبِالْكِتَابِ" أَيِ: الْكُتُبِ الَّتِي أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ لِيُبَلِّغُوهَا إِلَى عِبَادِهِ وَيُبَيِّنُوهَا لِيَعْمَلُوا بِمَا فِيهَا "كَذَّبَا"، "وَلَازَمَ الْإِعْرَاضَ عَنْهُ" عَمَّا أَرْسَلَ اللَّهُ بِهِ رُسُلَهُ "وَالْإِبَا" أَيِ: الِامْتِنَاعَ. وَهُمُ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ: {الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [غَافِرٍ: 70] الْآيَاتِ. وَقَالَ تَعَالَى فِيهِمْ: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} [طه: 124] الْآيَاتِ. وَغَيْرَهَا وَهَؤُلَاءِ أَكْثَرُ الثَّقَلَيْنِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا} [الْإِسْرَاءِ: 89] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} [الْأَعْرَافِ: 102] وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الْأَنْعَامِ: 116] وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ وَجَوَابُ الشَّرْطِ "فَذَاكَ" أَيِ: الْمُكَذِّبُ بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ رُسُلَهُ الْآبِي مِنْهُ الْمُعْرِضُ عَنْهُ الْمُصِرُّ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى مَاتَ عَلَيْهِ هُوَ "نَاقِضٌ كِلَا الْعَهْدَيْنِ" الْمِيثَاقِ الَّذِي أَخَذَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ وَفَطَرَهُ عَلَى الْإِقْرَارِ بِهِ وَمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ تَجْدِيدِ الْمِيثَاقِ الْأَوَّلِ وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ "مُسْتَوْجِبٌ "بِفِعْلِهِ ذَلِكَ "لِلْخِزْيِ فِي الدَّارَيْنِ" أَيْ: فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ} [لقصص: 42] وَقَدْ وَفَّى بِذِكْرِ الْفَرِيقَيْنِ الْمُوفِينَ بِالْعَهْدِ وَالنَّاقِضِينَ لَهُ وَمَا لِكُلٍّ مِنْهُمْ وَمَا عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ} أَيْ: فِيمَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ وَهُمُ الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ {الْحُسْنَى} الْجَنَّةُ {وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ} وَهُمُ الْفَرِيقُ الثَّانِي {لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [الرَّعْدِ: 18] وَتَأْوِيلُ ذَلِكَ مَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ طُرُقٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لِأَهْوَنِ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَوْ أَنَّ لَكَ مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ أَكُنْتَ تَفْتَدِي بِهِ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ, فَيَقُولُ: أَرَدْتُ مِنْكَ أَهْوَنَ مِنْ هَذَا وَأَنْتَ فِي صُلْبِ
آدَمَ أَنْ لَا تُشْرِكَ بِي شَيْئًا فَأَبَيْتَ إِلَّا أَنْ تُشْرِكَ بِي" 1 وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ قَرِيبًا. {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ} يَعْنِي الْفَرِيقَ الْأَوَّلَ {كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} يَعْنِي الْفَرِيقَ الثَّانِيَ, لَا وَاللَّهِ لَيْسُوا سَوَاءً {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ، الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ} يَتَنَاوَلُ كُلَّ الْعُهُودِ وَالْمَوَاثِيقِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِالْوَفَاءِ بِهَا مَعَ الْحَقِّ وَمَعَ الْخَلْقِ وَتَنَاوُلُهَا لِلْمِيثَاقِ الْمَذْكُورِ مِنْ بَابٍ أَوْلَى {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} مِنْ صِلَةِ الْأَرْحَامِ وَمِنَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَعَدَمِ التَّفْرِيقِ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ {وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ، وَالَّذِينَ صَبَرُوا} عَلَى قَدَرِ اللَّهِ وَعَلَى مُلَازَمَةِ طَاعَتِهِ وَعَنْ مَعْصِيَتِهِ {ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَأُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} فَكَأَنَّهُ قِيلَ: مَا هِيَ فَقَالَ تَعَالَى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ، سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} ثُمَّ ذَكَرَ الْفَرِيقَ الثَّانِيَ بِصِفَاتِهِمُ السَّيِّئَةِ وَبَيَّنَ جَزَاءَهُمْ عَلَيْهَا وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [الرَّعْدِ: 18-25] فَسُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ مَا أَبْلَغَ حِكْمَتَهُ وَأَعْدَلَ حُكْمَهُ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ.
الفصل الأول توحيد المعرفة والإثبات
فصل فِي انقسام التوحيد فصل في انْقِسَامِ التَّوْحِيدِ إِلَى نَوْعَيْنِ وَبَيَانِ النَّوْعِ الْأَوَّلِ وَهُوَ تَوْحِيدُ الْمَعْرِفَةِ وَالْإِثْبَاتِ [[الفصل الأول توحيد المعرفة والإثبات]] أَوَّلُ وَاجِبٍ عَلَى الْعَبِيدِ ... مَعْرِفَةُ الرَّحْمَنِ بِالتَّوْحِيدِ إِذْ هُوَ مِنْ كُلِ الْأَوَامِرِ أَعْظَمُ ... وَهْوَ نَوْعَانِ أَيَا مَنْ يَفْهَمُ إِثْبَاتُ ذَاتِ الرَّبِّ جَلَّ وَعَلَا ... أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى صِفَاتِهِ الْعُلَى وَأَنَّهُ الرَّبُّ الْجَلِيلُ الْأَكْبَرُ ... الْخَالِقُ الْبَارِئُ وَالْمُصَوِّرُ
بَارِي الْبَرَايَا مُنْشِئُ الْخَلَائِقِ ... مُبْدِعُهُمْ بِلَا مِثَالٍ سَابِقِ "أَوَّلُ وَاجِبٍ" فَرَضَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ "عَلَى الْعَبِيدِ" هُوَ "مَعْرِفَةُ الرَّحْمَنِ" أَيْ: مَعْرِفَتُهُمْ إِيَّاهُ "بِالتَّوْحِيدِ" الَّذِي خَلَقَهُمْ لَهُ وَأَخَذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقَ بِهِ ثُمَّ فَطَرَهُمْ شَاهِدِينَ مُقِرِّينَ بِهِ ثُمَّ أَرْسَلَ بِهِ رُسُلَهُ إِلَيْهِمْ وأنزل به كتبهم عَلَيْهِمْ "إِذْ" حَرْفُ تَعْلِيلٍ لِأَوَّلِيَّةِ وُجُوبِ مَعْرِفَةِ الْعِبَادِ رَبَّهُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِالتَّوْحِيدِ "هُوَ مِنْ كُلِّ الْأَوَامِرِ" جَمْعُ أَمْرٍ وَهُوَ خِطَابُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الْمُتَعَلِّقُ بِالْمُكَلَّفِينَ بِصِيغَةٍ تَسْتَدْعِي الْفِعْلَ "أَعْظَمُ" كَمَا أَنَّ ضِدَّهُ مِنَ الشِّرْكِ وَالتَّعْطِيلِ وَالتَّمْثِيلِ هُوَ أَعْظَمُ الْمَنَاهِي, وَلِهَذَا لَا يَدْخُلُ الْعَبْدُ فِي الْإِسْلَامِ إِلَّا بِهِ وَلَا يَخْرُجُ مِنْهُ إِلَّا بِضِدِّهِ وَلَمْ يُزَحْزَحْ عَنِ النَّارِ وَيَدْخُلِ الْجَنَّةَ إِلَّا بِهِ. وَلَا يَخْلُدُ فِي النَّارِ وَيُحْرَمُ الْجَنَّةَ إِلَّا بِضِدِّهِ وَلَمْ تَدْعُ الرُّسُلُ إِلَى شَيْءٍ قَبْلَهُ وَلَمْ تَنْهَ عَنْ شَيْءٍ قَبْلَ ضِدِّهِ "وَهُوَ" أَيِ: التَّوْحِيدُ "نَوْعَانِ": الْأَوَّلُ: التَّوْحِيدُ الْعِلْمِيُّ الْخَبَرِيُّ الِاعْتِقَادِيُّ الْمُتَضَمِّنُ إِثْبَاتَ صِفَاتِ الْكَمَالِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَتَنْزِيهَهُ فِيهَا عَنِ التَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ وَتَنْزِيهَهُ عَنْ صِفَاتِ النَّقْصِ وَهُوَ تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ. وَالثَّانِي: التَّوْحِيدُ الطَّلَبِيُّ الْقَصْدِيُّ الْإِرَادِيُّ وَهُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَتَجْرِيدُ مَحَبَّتِهِ وَالْإِخْلَاصُ لَهُ وَخَوْفُهُ وَرَجَاؤُهُ وَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ وَالرِّضَا بِهِ رَبًّا وَإِلَهًا وَوَلِيًّا وَأَنْ لَا يَجْعَلَ لَهُ عِدْلًا فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ وَهُوَ تَوْحِيدُ الْإِلَهِيَّةِ. وَالْقُرْآنُ كُلُّهُ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ فِي تَقْرِيرِ هَذَيْنِ التَّوْحِيدَيْنِ لِأَنَّهُ إِمَّا خَبَرٌ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمَا يَجِبُ أَنْ يُوصَفَ بِهِ وَمَا يَجِبُ أَنْ يُنَزَّهَ عَنْهُ وَهُوَ التَّوْحِيدُ الْعِلْمِيُّ الْخَبَرِيُّ الِاعْتِقَادِيُّ وَإِمَّا دَعْوَةٌ إِلَى عِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَخَلْعِ مَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِهِ فَهُوَ التَّوْحِيدُ الطَّلَبِيُّ الْإِرَادِيُّ. وَإِمَّا أَمْرٌ وَنَهْيٌ وَإِلْزَامٌ بِطَاعَتِهِ فَذَلِكَ مِنْ حُقُوقِ التَّوْحِيدِ وَمُكَمِّلَاتِهِ وَإِمَّا خَبَرٌ عَنْ إِكْرَامِهِ لِأَهْلِ التَّوْحِيدِ وَمَا فَعَلَ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا مِنَ النَّصْرِ وَالتَّأْيِيدِ وَمَا يُكْرِمُهُمْ بِهِ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ جَزَاءُ تَوْحِيدِهِ. وَإِمَّا خَبَرٌ عَنْ أَهْلِ الشِّرْكِ وَمَا فَعَلَ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا مِنَ النَّكَالِ وَمَا يَفْعَلُ بِهِمْ فِي الْعُقْبَى مِنَ الْعَذَابِ فَهُوَ جَزَاءُ مَنْ خَرَجَ عَنْ حُكْمِ تَوْحِيدِهِ.
فَالْقُرْآنُ كُلُّهُ فِي التَّوْحِيدِ وَحُقُوقِهِ وَجَزَائِهِ وَفِي شَأْنِ الشِّرْكِ وَأَهْلِهِ وَجَزَائِهِمْ. اقْرَأْ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ التَّوْحِيدَيْنِ {طه، مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى، إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى، تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى، الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى، لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى، وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى، اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [طه: 1-8] وَآيَةَ الْكُرْسِيِّ وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وَغَيْرَهَا مِنَ الْقُرْآنِ, وَاقْرَأْ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الْحَشْرِ: 7] وَاقْرَأْ فِي إِكْرَامِ أَهْلِ التَّوْحِيدِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غَافِرٍ: 51] وَاقْرَأْ فِي إِخْزَاءِ أَهْلِ الشِّرْكِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ، فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ، وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ، وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ} [الْقَصَصِ: 39-42] . وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْفَصْلِ عَلَى النَّوْعِ الْأَوَّلِ وَهُوَ التَّوْحِيدُ الْعِلْمِيُّ الْخَبَرِيُّ الِاعْتِقَادِيُّ وَهُوَ "إِثْبَاتُ" بِالرَّفْعِ بَدَلُ بَعْضٍ مِنْ قَوْلِنَا "نَوْعَانِ" أَيِ: الْأَوَّلُ مِنْهُمَا "إِثْبَاتُ ذَاتِ الرَّبِّ جَلَّ وَعَلَا" فَإِنَّ هَذِهِ الْعَوَالِمَ الْعَلَوِيَّاتِ وَالسُّفْلِيَّاتِ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ مُوجِدٍ أَوْجَدَهَا وَيَتَصَرَّفُ فِيهَا وَيُدَبِّرُهَا. وَمُحَالٌ أَنْ تُوجَدَ بِدُونِ مُوجِدٍ, وَمُحَالٌ أَنْ تُوجِدَ أَنْفُسَهَا. قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي مَقَامِ إِثْبَاتِ الرُّبُوبِيَّةِ وَتَوْحِيدِ الْأُلُوهِيَّةِ: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ، أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَا يُوقِنُونَ} [الطُّورِ: 35-36] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ} أَيْ: مِنْ غَيْرِ رَبٍّ1. وَمَعْنَاهُ أَخُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ خَلَقَهُمْ فَوُجِدُوا بِلَا خَالِقٍ وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ؛ لِأَنَّ تَعَلُّقَ الْخَلْقِ بِالْخَالِقِ مِنْ ضَرُورَةِ الِاسْمِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ خَالِقٍ فَإِنْ
أَنْكَرُوا الْخَالِقَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُوجَدُوا بِلَا خَالِقٍ. {أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} لِأَنْفُسِهِمْ وَذَلِكَ فِي الْبُطْلَانِ أَشَدُّ لِأَنَّ مَا لَا وُجُودَ لَهُ كَيْفَ يَخْلُقُ فَإِذَا بَطُلَ الْوَجْهَانِ قَامَتِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ لَهُمْ خَالِقًا فَلْيُؤْمِنُوا بِهِ {أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} وَهَذَا فِي الْبُطْلَانِ أَشَدُّ وَأَشَدُّ فَإِنَّ الْمَسْبُوقَ بِالْعَدَمِ يَسْتَحِيلُ أَنْ يُوجَدَ بِنَفْسِهِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مُوجِدًا لِغَيْرِهِ وَهَذَا إِنْكَارٌ عَلَيْهِمْ فِي شِرْكِهِمْ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْخَالِقُ لَا شَرِيكَ لَهُ {بَل لَا يُوقِنُونَ} أَيْ: وَلَكِنْ عَدَمُ إِيقَانِهِمْ هُوَ الَّذِي يَحْمِلُهُمْ عَلَى ذَلِكَ. وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ فَلَمَّا بَلَغَ هَذِهِ الْآيَةَ: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ، أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَا يُوقِنُونَ، أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ} [الطُّورِ: 35-37] كَادَ قَلْبِي أَنْ يَطِيرَ. أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ1. وَكَثِيرًا مَا يُرْشِدُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عِبَادَهُ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَى مَعْرِفَتِهِ بِآيَاتِهِ الظَّاهِرَةِ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ الْعُلْوِيَّةِ وَالسُّفْلِيَّةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ} [الذَّارِيَاتِ: 20] أَيْ: فِيهَا مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى عَظَمَةِ خَالِقِهَا وَقُدْرَتِهِ الْبَاهِرَةِ مِمَّا قَدْ ذَرَأَ فِيهَا مِنْ صُنُوفِ النَّبَاتِ وَالْحَيَوَانَاتِ وَالْمِهَادِ وَالْجِبَالِ وَالْقِفَارِ وَالْأَنْهَارِ وَالْبِحَارِ وَاخْتِلَافِ أَلْسِنَةِ النَّاسِ وَأَلْوَانِهِمْ وَمَا جُبِلُوا عَلَيْهِ مِنَ الْإِرَادَاتِ وَالْقُوَى وَمَا بَيْنَهُمْ مِنَ التَّفَاوُتِ فِي الْعُقُولِ وَالْفُهُومِ وَالْحَرَكَاتِ وَالسَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ وَمَا فِي تَرْكِيبِهِمْ مِنَ الْحِكَمِ فِي وَضْعِ كُلِّ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِمْ فِي الْمَحَلِّ الَّذِي هُوَ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ فِيهِ, وَلِهَذَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذَّارِيَاتِ: 21] قَالَ قَتَادَةُ مَنْ تَفَكَّرَ فِي خَلْقِ نَفْسِهِ عَلِمَ أَنَّهُ إِنَّمَا لُيِّنَتْ مَفَاصِلُهُ لِلْعِبَادَةِ وَكَذَا مَا فِي ابْتِدَاءِ الْإِنْسَانِ مِنَ الْآيَاتِ الْعَظِيمَةِ إِذْ كَانَتْ نُطْفَةً ثُمَّ عَلَقَةً ثُمَّ مُضْغَةً ثُمَّ عِظَامًا إِلَى أَنْ نَفَخَ فِيهِ الرُّوحَ, وَقَالَ تَعَالَى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ، وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ، وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}
[الذَّارِيَاتِ: 47-49] يَقُولُ تَعَالَى مُنَبِّهًا عَلَى خَلْقِ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا} أَيْ: جَعَلْنَاهَا سَقْفًا مَحْفُوظًا رَفِيعًا {بِأَيْدٍ} أَيْ: بِقُوَّةٍ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالثَّوْرِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ1، {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: لَقَادِرُونَ2. وَعَنْهُ أَيْضًا: لَمُوسِعُونَ الرِّزْقَ عَلَى خَلْقِنَا3. وَقِيلَ: ذُو وسعة4. وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: أَيْ: قَدْ وَسَّعْنَا أَرْجَاءَهَا وَرَفَعْنَاهَا بِغَيْرِ عمد حتى استقرت كَمَا هِيَ {وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا} أَيْ: جَعَلْنَاهَا فِرَاشًا لِلْمَخْلُوقَاتِ {فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ} الْبَاسِطُونَ نَحْنُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نِعْمَ مَا وَطَّأْتُ لِعِبَادِي5. {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} صِنْفَيْنِ وَنَوْعَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ كَالسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَالسَّهْلِ وَالْجَبَلِ وَالشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ وَالْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَالنُّورِ وَالظُّلْمَةِ وَالْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ وَالسَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالْحُلْوِ وَالْمُرِّ وَالدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَالْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ وَالْجَامِدِ وَالنَّامِي وَالْمُتَحَرِّكِ وَالسَّاكِنِ وَالْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} أَيْ: لِتَعْلَمُوا أَنَّ الْخَالِقَ وَاحِدٌ فَرْدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ ا. هـ. ابْنِ كَثِيرٍ وَالْبَغَوِيِّ. وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الْبَقَرَةِ: 164] قَالَ أَبُو الضُّحَى: لَمَّا نَزَلَتْ {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} قَالَ الْمُشْرِكُونَ: إِنْ كَانَ هَكَذَا فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} 6 تِلْكَ فِي ارْتِفَاعِهَا وَلَطَافَتِهَا وَاتِّسَاعِهَا وَكَوَاكِبِهَا
السَّيَّارَةِ وَالثَّوَابِتِ وَدَوَرَانِ فَلَكِهَا وَهَذِهِ الْأَرْضِ فِي كَثَافَتِهَا وَانْخِفَاضِهَا وَجِبَالِهَا وَبِحَارِهَا وَقِفَارِهَا وَوِهَادِهَا وَعُمْرَانِهَا وَمَا فِيهَا مِنَ الْمَنَافِعِ {وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} هَذَا يَجِيءُ ثُمَّ يَذْهَبُ وَيَخْلُفُهُ الْآخَرُ. وَيَعْقُبُهُ وَلَا يَتَأَخَّرُ عَنْهُ لَحْظَةً كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40] وَتَارَةً يَطُولُ هَذَا وَيَقْصُرُ هَذَا وَتَارَةً يَأْخُذُ هَذَا مِنْ هَذَا ثُمَّ يَتَعَاوَضَانِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} أَيْ: يَزِيدُ مِنْ هَذَا فِي هَذَا وَمِنْ هَذَا فِي هَذَا {وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ} أَيْ: فِي تَسْخِيرِ الْبَحْرِ بِحَمْلِ السُّفُنِ مِنْ جَانِبٍ إِلَى جَانِبٍ لِمَعَايِشِ النَّاسِ وَالِانْتِفَاعِ بِمَا عِنْدَ أَهْلِ ذَلِكَ الْإِقْلِيمِ وَنَقْلِ هَذَا إِلَى هَؤُلَاءِ {وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ} [يس: 33] إِلَى قَوْلِهِ: {وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ} . {وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} عَلَى اخْتِلَافِ أَشْكَالِهَا وَأَنْوَاعِهَا وَأَلْوَانِهَا وَمَنَافِعِهَا وَصِغَرِهَا وَكِبَرِهَا وَهُوَ يَعْلَمُ ذَلِكَ كُلَّهُ وَيَرْزُقُهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} . {وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ} فَتَارَةً تَأْتِي بِالرَّحْمَةِ وَتَارَةً تَأْتِي بِالْعَذَابِ وَهِيَ الرِّيحُ وَتَارَةً تَأْتِي مُبَشِّرَاتٍ بَيْنَ يَدَيِ السَّحَابِ وَتَارَةً تَسُوقُهَا وَتَارَةً تَجْمَعُهُ وَتَارَةً تُفَرِّقُهُ وَتَارَةً تَصْرِفُهُ ثُمَّ تَارَةً تَأْتِي مِنَ الشَّمَالِ وَهِيَ الشَّامِيَّةُ وَتَارَةً تَأْتِي مِنْ نَاحِيَةِ الْيَمَنِ وَتَارَةً صَبًا وَهِيَ الشَّرْقِيَّةُ وَتَارَةً دَبُورٌ وَهِيَ غَرْبِيَّةٌ وَغَيْرُ ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ {وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} أَيْ: سَائِرٍ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مُسَخَّرٍ إِلَى مَا يَشَاءُ اللَّهُ مِنَ الْأَرَاضِي وَالْأَمَاكِنِ كَمَا يُصَرِّفُهُ تَعَالَى: {لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} أَيْ: فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ دَلَالَاتٌ بَيِّنَةٌ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى: {لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} 1 فَيَعْلَمُونَ أَنَّ لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ خَالِقًا وَصَانِعًا غَنِيًّا بِذَاتِهِ وَكُلُّ مَا سِوَاهُ فَقِيرٌ إِلَيْهِ قَائِمٌ بِذَاتِهِ وَكُلُّ مَا سِوَاهُ لَا يَقُومُ إِلَّا بِهِ قَدِيرٌ لِذَاتِهِ وَكُلُّ مَا سِوَاهُ عَاجِزٌ لَا قُدْرَةَ لَهُ إِلَّا بِمَا أَقْدَرُهُ مُتَّصِفٌ بِجَمِيعِ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَكُلُّ مَا سِوَاهُ فَلَازِمُهُ النَّقْصُ وَلَيْسَ الْكَمَالُ الْمُطْلِقُ إِلَّا لَهُ وَهُوَ اللَّهُ
تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ، وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ، وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ، وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ، وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ، وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} [الرُّومِ: 20-25] يَقُولُ تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ} الدَّالَّةِ عَلَى عَظَمَتِهِ وَكَمَالِ قُدْرَتِهِ أَنَّهُ خَلَقَ أَبَاكُمْ آدَمَ مِنْ تُرَابٍ {ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ} فَأَصْلُكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ثُمَّ تَصَوَّرَ فَكَانَ عَلَقَةً ثُمَّ مُضْغَةً ثُمَّ صَارَ عِظَامًا شَكْلُهُ شَكْلُ إِنْسَانٍ ثُمَّ كَسَا اللَّهُ تَعَالَى تِلْكَ الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ نَفَخَ فِيهِ الرُّوحَ فَإِذَا هُوَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ثُمَّ أُخْرِجَ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ صَغِيرًا ضَعِيفَ الْقُوَى وَالْحَرَكَةِ ثُمَّ كُلَّمَا طَالَ عُمْرُهُ تَكَامَلَتْ قُوَاهُ وَحَرَكَاتُهُ حَتَّى آلَ بِهِ الْحَالُ إِلَى أَنْ صَارَ يَبْنِي الْمَدَائِنَ وَالْحُصُونَ وَيُسَافِرُ فِي أَقْطَارِ الْأَقَالِيمِ وَيَرْكَبُ مَتْنَ الْبُحُورِ وَيَدُورُ أَقْطَارَ الْأَرْضِ وَيَكْتَسِبُ وَيَجْمَعُ الْأَمْوَالَ وَلَهُ فِكْرَةٌ وَغَوْرٌ وَدَهَاءٌ وَمَكْرٌ وَرَأْيٌ وَعِلْمٌ وَاتِّسَاعٌ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ كُلٌّ بِحَسَبِهِ فَسُبْحَانَ مَنْ أَقْدَرَهُمْ وَسَيَّرَهُمْ وَسَخَّرَهُمْ وَصَرَّفَهُمْ فِي فُنُونِ الْمَعَايِشِ وَالْمَكَاسِبِ وَفَاوَتَ بَيْنَهُمْ فِي الْعُلُومِ وَالْفِكْرِ وَالْحُسْنِ وَالْقُبْحِ وَالْغِنَى وَالْفَقْرِ وَالسَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ. وَعَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ مِنْ قَبْضَةٍ قَبَضَهَا مِنْ جَمِيعِ الْأَرْضِ فَجَاءَ بَنُو آدَمَ عَلَى قَدْرِ الْأَرْضِ جَاءَ مِنْهُمُ الْأَبْيَضُ وَالْأَحْمَرُ وَالْأَسْوَدُ وَبَيْنَ ذَلِكَ وَالْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَالسَّهْلُ وَالْحَزْنُ وَغَيْرُ ذَلِكَ" رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ1.
{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} أَيْ: خَلَقَ لَكُمْ مِنْ جِنْسِكُمْ إِنَاثًا تَكُونُ لَكُمْ أَزْوَاجًا {لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} كَمَا قَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الْأَعْرَافِ: 189] يَعْنِي بِذَلِكَ حَوَّاءَ خَلَقَهَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْ آدَمَ مِنْ ضِلْعِهِ الْأَقْصَرِ الْأَيْسَرِ, وَلَوْ أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ بَنِي آدَمَ كُلَّهُمْ ذُكُورًا وَجَعَلَ إِنَاثَهُمْ مِنْ جِنْسٍ آخَرَ مِنْ غَيْرِهِمْ إِمَّا مِنْ جَانٍّ أَوْ حَيَوَانٍ لَمَا حَصَلَ هَذَا الِائْتِلَافُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْأَزْوَاجِ بَلْ كَانَتْ تَحْصُلُ نَفْرَةٌ لَوْ كَانَتِ الْأَزْوَاجُ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ ثُمَّ مِنْ تَمَامِ رَحْمَتِهِ بِبَنِي آدَمَ أَنْ جَعَلَ الْأَزْوَاجَ مِنْ جِنْسِهِمْ {وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً} وَهِيَ الْمَحَبَّةُ {وَرَحْمَةً} وَهِيَ الرَّأْفَةُ فَإِنَّ الرَّجُلَ يُمْسِكُ الْمَرْأَةَ إِمَّا لِمَحَبَّةٍ لَهَا أَوْ لِرَحْمَةٍ بِهَا بِأَنْ يَكُونَ لَهَا مِنْهُ وَلَدٌ أَوْ مُحْتَاجَةً إِلَيْهِ فِي الْإِنْفَاقِ أَوْ لِلْأُلْفَةِ بَيْنَهُمَا وَغَيْرِ ذَلِكَ {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} فِي عَظَمَةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ {وَمِنْ آيَاتِهِ} الدَّالَّةِ عَلَى قُدْرَتِهِ الْعَظِيمَةِ {خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي: خلق السموات فِي ارْتِفَاعِهَا وَاتِّسَاعِهَا وَشُفُوفِ أَجْرَامِهَا وَزَهَارَةِ كَوَاكِبِهَا وَنُجُومِهَا الثَّوَابِتِ وَالسَّيَّارَاتِ وَخَلْقِ الْأَرْضِ فِي انْخِفَاضِهَا وَكَثَافَتِهَا وَمَا فِيهَا مِنْ جِبَالٍ وَأَوْدِيَةٍ وَبِحَارٍ وَقِفَارٍ وَحَيَوَانٍ وَأَشْجَارٍ {وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ} يَعْنِي اللُّغَاتِ فَهَؤُلَاءِ بِلُغَةِ الْعَرَبِ وَهَؤُلَاءِ تَتَرٌ لَهُمْ لُغَةٌ أُخْرَى وَهَؤُلَاءِ كَرَجٌ1 وَهَؤُلَاءِ رُومٌ وَهَؤُلَاءِ إِفْرِنْجٌ وَهَؤُلَاءِ بَرْبَرٌ وَهَؤُلَاءِ حَبَشَةٌ وَهَؤُلَاءِ هُنُودٌ وَهَؤُلَاءِ فُرْسٌ وَهَؤُلَاءِ صَقَالِبَةٌ وَهَؤُلَاءِ خَزَرٌ وَهَؤُلَاءِ أَرْمَنٌ وَهَؤُلَاءِ أَكْرَادٌ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ اخْتِلَافِ لُغَاتِ بَنِي آدَمَ {وَأَلْوَانِكُمْ} أَيْ: وَاخْتِلَافُ أَلْوَانِكُمْ أَبْيَضَ وَأَسْوَدَ وَأَحْمَرَ وَأَنْتُمْ أَوْلَادُ رَجُلٍ وَاحِدٍ وَامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ, وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ اخْتِلَافِ الصِّفَاتِ وَالْحُلَى فَجَمِيعُ أَهْلِ الْأَرْضِ بَلْ أَهْلُ الدُّنْيَا مُنْذُ خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ كُلٌّ لَهُ عَيْنَانِ وَحَاجِبَانِ وَأَنْفٌ وَجَبِينٌ وَفَمٌ وَخَدَّانِ وَلَيْسَ يُشْبِهُ وَاحِدٌ مِنْهُمُ الْآخَرَ بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يُفَارِقَهُ بِشَيْءٍ مِنَ السَّمْتِ أَوِ الْهَيْئَةِ أَوِ الْكَلَامِ ظَاهِرًا كَانَ أَوْ خَفِيًّا يَظْهَرُ عِنْدَ التَّأَمُّلِ كُلُّ وَجْهٍ مِنْهُمْ أُسْلُوبٌ بِذَاتِهِ وَهَيْئَةٌ لَا تُشْبِهُ أُخْرَى, وَلَوْ تَوَافَقَ جَمَاعَةٌ فِي صِفَةٍ مِنْ جَمَالٍ أَوْ قُبْحٍ لَا بُدَّ مِنْ فَارِقٍ
بَيْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَبَيْنَ الْآخَرِ {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ، وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ} أَيْ: وَمِنَ الْآيَاتِ مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ صِفَةِ النَّوْمِ فِي اللَّيْلِ فَإِنَّ فِيهِ تَحْصُلُ الرَّاحَةُ وَسُكُونُ الْحَرَكَةِ وَذَهَابُ الْكَلَالِ وَالتَّعَبِ, وَجَعَلَ لَكُمْ الِانْتِشَارَ وَالسَّعْيَ فِي الْأَسْبَابِ وَالْأَسْفَارَ فِي النَّهَارِ وَهَذَا ضِدُّ النَّوْمِ {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} سَمَاعَ تَدَبُّرٍ وَاعْتِبَارٍ {وَمِنْ آيَاتِهِ} الدَّالَّةِ عَلَى عَظَمَتِهِ أَنَّهُ {يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا} أَيْ: تَارَةً تَخَافُونَ مِمَّا يَحْدُثُ بَعْدَهُ مِنْ أَمْطَارٍ مُزْعِجَةٍ وَصَوَاعِقَ مُتْلِفَةٍ وَتَارَةً تَرْجُونَ وَمِيضَهُ وَمَا يَأْتِي بَعْدَهُ مِنَ الْمَطَرِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ, وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} أي: بعد ما كَانَتْ هَامِدَةً لَا نَبَاتَ فِيهَا وَلَا شَيْءَ {فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الْحَجِّ: 5] وَفِي ذَلِكَ عِبْرَةٌ وَدَلَالَةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى الْمَعَادِ وَقِيَامِ السَّاعَةِ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ، وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ} [الرُّومِ: 25-26] كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [الْحَجِّ: 65] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} [فَاطِرٍ: 41] وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِذَا اجْتَهَدَ فِي الْيَمِينِ قَالَ: والذي قامت السموات وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ أَيْ: هِيَ قَائِمَةٌ ثَابِتَةٌ بِأَمْرِهِ لَهَا وَتَسْخِيرِهِ إِيَّاهَا ثُمَّ إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ بُدِّلَتِ الْأَرْضُ غير الأرض والسموات وَخَرَجَتِ الْأَمْوَاتُ مِنْ قُبُورِهَا أَحْيَاءً بِأَمْرِهِ تَعَالَى ودعائه إياهم ولهذا قَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} أَيْ: مِنَ الْأَرْضِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا} [الْإِسْرَاءِ: 52] وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ، فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} [النَّازِعَاتِ: 13-14] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس: 53] 1.
وَالْآيَاتُ فِي هَذَا الْبَابِ الْعَظِيمِ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِالْمَخْلُوقَاتِ عَلَى وُجُودِ خَالِقِهَا وَقُدْرَتِهِ وَعَظَمَتِهِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى وَأَجَلُّ مِنْ أَنْ تُسْتَقْصَى وَفِيمَا ذَكَرْنَا كِفَايَةٌ وَغِنًى يُغْنِي عَنْ خَرْطِ الْمَنَاطِقَةِ وَمُقَدِّمَاتِهِمْ وَنَتَائِجِهِمْ وَتُنَاقِضِهِمْ فِيهَا, وَاللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَعْلَى وَأَكْبَرُ وَأَجَلُّ وَأَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُحْتَاجَ فِي مَعْرِفَةِ وَجُودِهِ إِلَى شَوَاهِدَ وَاسْتِدْلَالَاتٍ, فَذَاتُ الْمَخْلُوقِ نَفْسِهِ شَاهِدَةٌ بِوُجُودِ خَالِقِهِ حَيْثُ أَوْجَدَهُ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ قَبْلُ شَيْئًا, فَلِمَ يَذْهَبُ يَسْتَدِلُّ بِغَيْرِهِ وَفِي نَفْسِهِ الْآيَةُ الْكُبْرَى وَالْبُرْهَانُ الْأَعْظَمُ وَشَأْنُ اللَّهِ تَعَالَى أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَمْ يَجْحَدْ وُجُودَهُ تَعَالَى مَنْ جَحَدَهُ مِنْ أَعْدَائِهِ إِلَّا عَلَى سَبِيلِ الْمُكَابَرَةِ, وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى فِي كُفْرِهِمْ بِآيَاتِهِ: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النَّمْلِ: 14] فَكَيْفَ بِوُجُودِ الْخَالِقِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى. وَلِهَذَا لَمَّا قَالَ أَعْدَاءُ اللَّهِ لِرُسُلِهِ عَلَى سَبِيلِ الْمُكَابَرَةِ لَمَّا جَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا: {إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ، قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [إِبْرَاهِيمَ: 9-10] وَهَذَا يَحْتَمِلُ شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَفِي وُجُودِهِ تَعَالَى شَكٌّ فَإِنَّ الْفِطَرَ شَاهِدَةٌ بِوُجُودِهِ وَمَجْبُولَةٌ عَلَى الْإِقْرَارِ بِهِ فَإِنَّ الِاعْتِرَافَ بِهِ ضَرُورِيٌّ فِي الْفِطَرِ السَّلِيمَةِ وَلَكِنْ قَدْ يَعْرِضُ لِغَيْرِهَا شَكٌّ وَاضْطِرَابٌ وَأَكْثَرُ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْمُكَابَرَةِ وَالِاسْتِهْزَاءِ فَيَجِبُ إِقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ لِلْإِعْذَارِ إِلَيْهِمْ وَلِهَذَا قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ تُرْشِدُهُمْ إِلَى طَرِيقِ مَعْرِفَتِهِ فَقَالُوا: {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} الَّذِي خَلَقَهُمَا وَابْتَدَعَهُمَا عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَبَقَ فَإِنَّ شَوَاهِدَ الْحُدُوثِ الخلق وَالتَّسْخِيرِ ظَاهِرَةٌ عَلَيْهِمَا فَلَا بُدَّ لَهُمَا مِنْ خَالِقٍ وَهُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَهُهُ وَمَلِيكُهُ, وَالْمَعْنَى الثَّانِي فِي قَوْلِهِمْ: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ} أَيْ: أَفِي إِلَهِيَّتِهِ وَتَفَرُّدِهِ بِوُجُودِ الْعِبَادَةِ لَهُ شَكٌّ وَهُوَ الْخَالِقُ لِجَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ وَلَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ إِلَّا هُوَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فَإِنَّ غَالِبَ الْأُمَمِ كَانَتْ مُقِرَّةً بِالْخَالِقِ وَلَكِنْ تَعْبُدُ مَعَهُ غَيْرَهُ مِنَ الْوَسَائِطِ الَّتِي يَظُنُّونَهَا تَنْفَعُهُمْ أَوْ تُقَرِّبُهُمْ وَالْجَوَابُ لِهَذَا الِاسْتِفْهَامِ عَلَى كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ لَا, أَيْ: لَا شَكَّ فِيهِ.
ذكر مناظرة بين رسل الله وأعدائه {ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه}
ذِكْرُ مُنَاظَرَةٍ أُخْرَى بَيْنَ رُسُلِ اللَّهِ وَأَعْدَائِهِ: قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الْبَقَرَةِ: 258] قَالَ الْمُفَسِّرُونَ وَغَيْرُهُمْ مِنْ عُلَمَاءِ النَّسَبِ وَالْأَخْبَارِ: هَذَا الْمُحَاجُّ هُوَ مَلِكُ بَابِلَ وَاسْمُهُ نِمْرُودُ بْنُ كَنْعَانَ, ذَكَرُوا أَنَّهُ اسْتَمَرَّ فِي مُلْكِهِ أَرْبَعَمِائَةِ سَنَةٍ وَكَانَ قَدْ طَغَى وَبَغَى وَتَجَبَّرَ وَعَتَا وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا, وَلَمَّا دَعَاهُ الْخَلِيلُ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ حَمَلَهُ الْجَهْلُ وَالضَّلَالُ وَطُولُ الْآمَالِ عَلَى إِنْكَارِ الْخَالِقِ جَلَّ وَعَلَا عِنَادًا وَمُكَابَرَةً فَحَاجَّ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ فِي ذَلِكَ وَادَّعَى لِنَفْسِهِ الرُّبُوبِيَّةَ فَلَمَّا قَالَ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} قَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: يَعْنِي أَنَّهُ إِذَا أَتَى بِالرَّجُلَيْنِ قَدْ تَحَتَّمَ قَتْلُهُمَا فَإِذَا أَمَرَ بِقَتْلِ أَحَدِهِمَا وَعَفَا عَنِ الْآخَرِ فَكَأَنَّهُ قَدْ أَحْيَا هَذَا وَأَمَاتَ هَذَا الْآخَرَ1، وَهَذَا لَيْسَ بِمُعَارَضَةٍ لِلْخَلِيلِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَلْ هُوَ كَلَامٌ خَارِجِيٌّ عَنْ مَقَامِ الْمُنَاظَرَةِ لَيْسَ بِمَنْعٍ وَلَا بِمُعَارَضَةٍ بَلْ هُوَ تَشْغِيبٌ مَحْضٌ وَهُوَ انْقِطَاعٌ فِي الْحَقِيقَةِ فَإِنَّ الْخَلِيلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اسْتَدَلَّ عَلَى وُجُودِ الْخَالِقِ جَلَّ وَعَلَا بِحُدُوثِ هَذِهِ الْمُشَاهَدَاتِ مِنْ إِحْيَاءِ الْحَيَوَانَاتِ وَإِمَاتَتِهَا عَلَى وُجُودِ فَاعِلِ ذَلِكَ الَّذِي لَا بُدَّ مِنَ اسْتِنَادِهَا إِلَيْهِ فِي وُجُودِهَا ضَرُورَةً لِعَدَمِ قِيَامِهَا بِأَنْفُسِهَا وَلَا بُدَّ مِنْ فَاعِلٍ لِهَذِهِ الْحَوَادِثِ الْمُشَاهَدَةِ, مِنْ خَلْقِهَا وَتَسْخِيرِهَا وَتَسْيِيرِ هَذِهِ الْكَوَاكِبِ وَالرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ وَالْمَطَرِ وَخَلْقِ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي تُوجَدُ مُشَاهَدَةً ثُمَّ إِمَاتَتِهَا وَلِهَذَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} فَقَوْلُ هَذَا الْجَاهِلِ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ إِنْ عَنَى أَنَّهُ الْفَاعِلُ لِهَذِهِ الْمُشَاهَدَاتِ فَقَدْ كَابَرَ وَعَانَدَ, وَإِنْ عَنَى مَا ذَكَرَهُ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا يَتَعَلَّقُ بِكَلَامِ الْخَلِيلِ إِذْ لَمْ يَمْنَعْ مَسْتَلْزَمًا وَلَا عَارَضَ الدَّلِيلَ. وَلَمَّا كَانَ انْقِطَاعُ
مناظرة أخرى بين موسى وفرعون {قال فرعون وما رب العالمين}
مُنَاظَرَةِ هَذَا الْمُحَاجِّ قَدْ تَخْفَى عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ مِمَّنْ حَضَرَهُ وَغَيْرِهِمْ ذَكَرَ دَلِيلًا آخَرَ بَيَّنَ وُجُودَ الْخَالِقِ وَبُطْلَانَ مَا ادَّعَاهُ النُّمْرُودُ وَانْقِطَاعَهُ جَهْرَةً {قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} أَيْ: هَذِهِ الشَّمْسُ مُسَخَّرَةٌ كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ مِنَ الْمَشْرِقِ كَمَا سَخَّرَهَا خَالِقُهَا وَمُسَيِّرُهَا وَقَاهِرُهَا وَهُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَإِنْ كُنْتَ كَمَا زَعَمْتَ أَنَّكَ تُحْيِي وَتُمِيتُ فَأْتِ بِهَذِهِ الشَّمْسِ مِنَ الْمَغْرِبِ, فَإِنَّ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ هُوَ الَّذِي يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَلَا يُمَانَعُ وَلَا يُغَالَبُ بَلْ قَدْ قَهَرَ كُلَّ شَيْءٍ وَدَانَ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ فَإِنْ كُنْتَ كَمَا تَزْعُمُ فَافْعَلْ هَذَا فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْهُ فَلَسْتَ كَمَا زَعَمْتَ وَأَنْتَ تَعْلَمُ وَكُلُّ أَحَدٍ أَنَّكَ لَا تَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ هَذَا, بَلْ أَنْتَ أَعْجَزُ وَأَقَلُّ وَأَذَلُّ مِنْ أَنْ تَخْلُقَ بَعُوضَةً أَوْ تَتَصَرَّفَ فِيهَا. فَبَيَّنَ ضَلَالَهُ وَجَهْلَهُ وَكَذِبَهُ فِيمَا ادَّعَاهُ وَبُطْلَانَ مَا سَلَكَهُ وَتَبَجَّحَ بِهِ عِنْدَ جَهَلَةِ قَوْمِهِ وَلَمْ يَبْقَ لَهُ كَلَامٌ يُجِيبُ الْخَلِيلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِهِ بَلِ انْقَطَعَ وَسَكَتَ, وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} . ذِكْرُ مُنَاظَرَةٍ أُخْرَى مِنْ ذَلِكَ أَيْضًا قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ، قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ، قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ، قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ، قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ، قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [الشُّعَرَاءِ: 23-28] يَذْكُرُ تَعَالَى مَا كَانَ بَيْنَ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ مِنَ الْمُقَاوَلَةِ وَالْمُحَاجَّةِ وَالْمُنَاظَرَةِ وَمَا أَقَامَهُ الْكَلِيمُ عَلَى فِرْعَوْنَ اللَّئِيمِ مِنَ الْحُجَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الْمَعْنَوِيَّةِ ثُمَّ الْحِسِّيَّةِ وَذَلِكَ أَنَّ فِرْعَوْنَ قَبَّحَهُ اللَّهُ أَظْهَرَ جَحْدَ الْخَالِقِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَزَعَمَ أَنَّهُ الْإِلَهُ {فَحَشَرَ فَنَادَى، فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النَّازِعَاتِ: 23] وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [الْقَصَصِ: 38] وَهُوَ فِي هَذِهِ الْمَقَالَةِ مُعَانِدٌ يَعْلَمُ أَنَّهُ عَبْدٌ مَرْبُوبٌ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ الْإِلَهُ الْحَقُّ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [النَّمْلِ: 14] وَلِهَذَا قَالَ لِمُوسَى عَلَيْهِ
السَّلَامُ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ لِرِسَالَتِهِ وَإِظْهَارِ أَنَّهُ مَا ثَمَّ رَبٌّ أَرْسَلَهُ {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} لِأَنَّهُمَا قَالَا لَهُ: {إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فَكَأَنَّهُ يَقُولُ لَهُمَا: وَمَنْ رَبُّ الْعَالَمِينَ الَّذِي تَزْعُمَانِ أَنَّهُ أَرْسَلَكُمَا وَابْتَعَثَكُمَا فَأَجَابَهُ موسى قائلا: {قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} أَيْ: خَالِقُ جَمِيعِ ذَلِكَ وَمَالِكُهُ وَالْمُتَصَرِّفُ فِيهِ وَإِلَهُهُ لَا شَرِيكَ لَهُ هُوَ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا الْعَالَمَ الْعُلْوِيَّ وَمَا فِيهِ مِنَ الْكَوَاكِبِ النَّيِّرَاتِ الثَّوَابِتِ وَالسَّيَّارَاتِ, وَالْعَالَمِ السُّفْلِيِّ وَمَا فِيهِ مِنْ بِحَارٍ وَأَنْهَارٍ وَقِفَارٍ وَجِبَالٍ وَأَشْجَارٍ وَحَيَوَانَاتٍ وَنَبَاتٍ وَثِمَارٍ وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ مِنَ الْهَوَاءِ وَالطَّيْرِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ وَالرِّيَاحِ وَالْمَطَرِ وَمَا يَحْتَوِي عَلَيْهِ الْجَوُّ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي يَعْلَمُ كُلُّ مُوقِنٍ أَنَّهَا لَمْ تَحْدَثْ بِأَنْفُسِهَا وَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ مُوجِدٍ وَمُحْدِثٍ وَخَالِقٍ وَهُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْجَمِيعُ مُذَلَّلُونَ مُسَخَّرُونَ وَعَبِيدٌ لَهُ خَاضِعُونَ ذَلِيلُونَ {إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} أَيْ: إِنْ كَانَتْ لَكُمْ قُلُوبٌ مُوقِنَةٌ وَأَبْصَارٌ نَافِذَةٌ {قَالَ} أَيْ: فِرْعَوْنُ {لِمَنْ حَوْلَهُ} مِنْ أُمَرَائِهِ وَمَرَازِبَتِهِ1 وَكُبَرَائِهِ وَرُؤَسَاءِ دَوْلَتِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ وَالتَّنَقُّصِ وَالِاسْتِهْزَاءِ وَالتَّكْذِيبِ لِمُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِيمَا قَالَهُ: {أَلَا تَسْتَمِعُونَ} أَيْ: أَلَا تَعْجَبُونَ مِنْ هَذَا فِي زَعْمِهِ أَنَّ لَكُمْ إِلَهًا غَيْرِي, فَقَالَ لَهُمْ مُوسَى: {رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} أَيْ: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْآبَاءِ وَالْأَجْدَادِ وَالْقُرُونِ السَّالِفَةِ فِي الْآبَادِ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَخْلُقْ نَفْسَهُ وَلَا أَبُوهُ وَلَا أُمُّهُ وَلَمْ يُحْدَثْ مِنْ غَيْرِ مُحْدِثٍ, وَإِنَّمَا أَوْجَدَهُ وَخَلَقَهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَهَذَانِ الْمَقَامَانِ هُمَا الْمَذْكُورَانِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فُصِّلَتْ: 53] وَمَعَ هَذَا كُلِّهِ لَمْ يَسْتَفِقْ فِرْعَوْنُ مِنْ رَقْدَتِهِ وَلَا نَزَعَ عَنْ ضَلَالَتِهِ بَلِ اسْتَمَرَّ عَلَى طُغْيَانِهِ وَعِنَادِهِ وَكُفْرَانِهِ {قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} [الشُّعَرَاءِ: 27] أَيْ: لَيْسَ لَهُ عَقْلٌ فِي دَعْوَاهُ أَنَّ ثَمَّ رَبًّا غَيْرِي {قَالَ} أَيْ: مُوسَى لِأُولَئِكَ الَّذِينَ أَوْعَزَ إِلَيْهِمْ فِرْعَوْنُ مَا أَوْعَزَ مِنَ الشُّبَهِ فَأَجَابَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِقَوْلِهِ: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} أَيْ: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الْمَشْرِقَ مَشْرِقًا تَطْلُعُ مِنْهُ الْكَوَاكِبُ وَالْمَغْرِبَ مَغْرِبًا تَغْرُبُ فِيهِ الْكَوَاكِبُ
ما نقل عن الأئمة وغيرهم في هذا الباب
ثَوَابِتُهَا وَسَيَّارَاتُهَا مَعَ هَذَا النِّظَامِ الَّذِي سَخَّرَهَا فِيهِ وَقَدَّرَهَا وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ الظَّلَامِ وَالضِّيَاءِ وَرَبُّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ رَبُّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ, خَالِقُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ السَّائِرَةِ وَالثَّوَابِتِ الْحَائِرَةِ, خَالِقُ اللَّيْلِ بِظَلَامِهِ وَالنَّهَارِ بِضِيَائِهِ وَالْكُلُّ تَحْتَ قَهْرِهِ وَتَسْخِيرِهِ وَتَسْيِيرِهِ سَائِرُونَ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ يَتَعَاقَبُونَ فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ وَيَدُورُونَ, فَهُوَ تَعَالَى الْخَالِقُ الْمَالِكُ الْمُتَصَرِّفُ فِي خَلْقِهِ بِمَا يَشَاءُ, فَإِنْ كَانَ هَذَا الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ رَبُّكُمْ وَإِلَهُكُمْ صَادِقًا فَلْيَعْكِسِ الْأَمْرَ وَلْيَجْعَلِ الْمَشْرِقَ مَغْرِبًا وَالْمَغْرِبَ مَشْرِقًا وَالثَّابِتَ سَائِرًا وَالسَّائِرَ ثَابِتًا كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنِ الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ. وَلَمَّا قَامَتِ الْحُجَجُ عَلَى فِرْعَوْنَ وَذَهَبَتْ شُبَهُهُ وَغُلِبَ وَانْقَطَعَتْ حُجَّتُهُ وَلَمْ يَبْقَ لَهُ قَوْلٌ سِوَى الْعِنَادِ عَدَلَ إِلَى اسْتِعْمَالِ جَاهِهِ وَقُوَّتِهِ وَسُلْطَانِهِ وَسَطْوَتِهِ وَاعْتَقَدَ أَنَّ ذَلِكَ نَافِعٌ لَهُ وَنَافِذٌ فِي مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَقَالَ وَظَنَّ أَنَّهُ لَيْسَ وَرَاءَ هَذَا الْمَقَامِ مَقَالٌ: {قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشُّعَرَاءِ: 29] إِلَى آخِرِ مَا قَصَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهُ, حَتَّى قَصَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَاصِمُ الْجَبَابِرَةِ وَأَخَذَهُ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ. وَمُنَاظَرَةُ الرُّسُلِ لِأَعْدَاءِ اللَّهِ فِي الْبَابِ يَطُولُ ذِكْرُهَا وَمَقَامَاتُ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَعَ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَشْهَرُ مِنْ أَنْ تُذْكَرَ, فَمَنْ شَاءَهَا فَلْيَقْرَأِ الْمُصْحَفَ مِنْ فَاتِحَتِهِ إِلَى خَاتِمَتِهِ, إِلَّا أَنَّ أُمَّتَهُ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مَنْ يَجْحَدُ الْخَالِقَ بَلْ هُمْ مُقِرُّونَ بِهِ وَبِرُبُوبِيَّتِهِ, غَيْرَ أَنَّهُمْ لَمْ يَقْدِرُوهُ حَقَّ قَدْرِهِ بَلْ عَبَدُوا مَعَهُ غَيْرَهُ, وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى فِي شَأْنِهِمْ: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لُقْمَانَ: 25 وَالزُّمَرِ: 38] {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الْعَنْكَبُوتِ: 63] {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزُّخْرُفِ: 9] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ كَمَا سَيَأْتِي بَسْطُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ذِكْرُ مَا نُقِلَ عَنِ الْأَئِمَّةِ وَعَنْ غَيْرِهِمْ فِي هَذَا الْبَابِ: عَنِ الْإِمَامِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الرَّشِيدَ سَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ فَاسْتَدَلَّ لَهُ بِاخْتِلَافِ اللُّغَاتِ وَالْأَصْوَاتِ وَالنَّغَمَاتِ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ بَعْضَ الزَّنَادِقَةِ
سَأَلُوهُ عَنْ وُجُودِ الْبَارِي تَعَالَى فَقَالَ لَهُمْ دَعُونِي فَإِنِّي مُفَكِّرٌ فِي أَمْرٍ قَدْ أُخْبِرْتُ عَنْهُ, ذَكَرُوا إِلَيَّ أَنَّ سَفِينَةً فِي الْبَحْرِ مُوقَرَةٌ فِيهَا أَنْوَاعٌ مِنَ الْمَتَاجِرِ وَلَيْسَ بِهَا أَحَدٌ يَحْرُسُهَا وَلَا يَسُوقُهَا وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ تَذْهَبُ وَتَجِيءُ وَتَسِيرُ بِنَفْسِهَا وَتَخْتَرِقُ الْأَمْوَاجَ الْعِظَامَ حَتَّى تَخْلُصَ مِنْهَا وتسير حيث شائت بِنَفْسِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسُوقَهَا أَحَدٌ, فَقَالُوا: هَذَا شَيْءٌ لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ, فَقَالَ: وَيْحَكُمْ هَذِهِ الْمَوْجُودَاتُ بِمَا فِيهَا مِنَ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ وَمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمُحْكَمَةِ لَيْسَ لَهَا صَانِعٌ؟ فَبُهِتَ الْقَوْمُ وَرَجَعُوا إِلَى الْحَقِّ وَأَسْلَمُوا عَلَى يَدَيْهِ. وَعَنِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ وُجُودِ الْخَالِقِ عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَ: هَذَا وَرَقُ التُّوتِ طَعْمُهُ وَاحِدٌ تَأْكُلُهُ الدُّودُ فيخرج منه الإبرسيم وَتَأْكُلُهُ النَّحْلُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْعَسَلُ وَتَأْكُلُهُ الشَّاءُ وَالْبَقَرُ وَالْأَنْعَامُ فَتُلْقِيهِ بَعْرًا وَرَوْثًا وَتَأْكُلُهُ الظِّبَاءُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمِسْكُ وَهُوَ شَيْءٌ وَاحِدٌ. وَعَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ ذلك فقال: ههنا حِصْنٌ حَصِينٌ أَمْلَسُ لَيْسَ لَهُ بَابٌ وَلَا مَنْفَذٌ ظَاهِرُهُ كَالْفِضَّةِ الْبَيْضَاءِ وَبَاطِنُهُ كَالذَّهَبِ الْإِبْرِيزِ فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذِ انْصَدَعَ جِدَارُهُ فَخَرَجَ مِنْهُ حَيَوَانٌ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ذُو شَكْلٍ حَسَنٍ وَصَوْتٍ مَلِيحٍ ا. هـ. يَعْنِي بِذَلِكَ الْبَيْضَةَ إِذَا خَرَجَ مِنْهَا الدِّيكُ وَسُئِلَ أَبُو نُوَاسٍ عَنْ ذَلِكَ فَأَنْشَدَ: تَأَمَّلْ فِي رِيَاضِ الْأَرْضِ وَانْظُرْ ... إِلَى آثَارِ مَا صَنَعَ الْمَلِيكُ عُيُونٌ مِنْ لجين شاخصات ... بأحداق هِيَ الذَّهَبُ السَّبِيكُ عَلَى قُضُبِ الزَّبَرْجَدِ شَاهِدَاتٌ ... بِأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ لَهُ شَرِيكُ وَقَالَ ابْنُ الْمُعْتَزِّ وَيَرْوِي لِأَبِي الْعَتَاهِيَةِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى: فَيَا عَجَبًا كَيْفَ يُعْصَى الْإِلَهُ ... أَمْ كَيْفَ يَجْحَدُهُ الْجَاحِدُ وَلِلَّهِ فِي كُلِّ تَحْرِيكَةٍ ... وَفِي كُلِّ تَسْكِينَةٍ شَاهِدُ وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ ... تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدُ وَسُئِلَ بَعْضُ الْأَعْرَابِ عَنْ هَذَا وَمَا الدَّلِيلُ عَلَى وُجُودِ الرَّبِّ تَعَالَى فَقَالَ: يَا سُبْحَانَ اللَّهِ إِنَّ الْبَعْرَ لَيَدُلُّ عَلَى الْبَعِيرِ وَإِنَّ أَثَرَ الْأَقْدَامِ لَيَدُلُّ عَلَى الْمَسِيرِ فَسَمَاءٌ ذَاتُ أَبْرَاجٍ وَأَرْضٌ ذَاتُ فِجَاجٍ وَبِحَارٌ ذَاتُ أَمْوَاجٍ أَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى وُجُودِ اللَّطِيفِ الْخَبِيرِ؟! وَمِنْ خُطَبِ قُسِّ بْنِ سَاعِدَةَ الْإِيَادِيِّ وَكَانَ عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: أَيُّهَا
أسماء الله الحسنى
النَّاسُ اجْتَمِعُوا فَاسْمَعُوا, وَإِذَا سَمِعْتُمْ فَعُوا وَإِذَا وَعَيْتُمْ فَانْتَفِعُوا وَقُولُوا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاصْدُقُوا, مَنْ عَاشَ مَاتَ وَمَنْ مَاتَ فَاتَ وَكُلُّ مَا هُوَ آتٍ آتٍ مَطَرٌ وَنَبَاتٌ وَأَحْيَاءٌ وَأَمْوَاتٌ لَيْلٌ دَاجٍ وَسَمَاءٌ ذَاتُ أَبْرَاجٍ وَنُجُومٌ تُزْهِرُ وَبِحَارٌ تَزْخَرُ وَضَوْءٌ وَظَلَامٌ وَلَيْلٌ وَأَيَّامٌ وَبِرٌّ وَآثَامٌ إِنْ فِي السَّمَاءِ خَبَرًا وَإِنَّ فِي الْأَرْضِ عِبَرًا يَحَارُ فِيهِنَّ الْبَصَرُ, مِهَادٌ مَوْضُوعٌ وَسَقْفٌ مَرْفُوعٌ وَنُجُومٌ تَغُورُ وَبِحَارٌ لَا تَفُورُ وَمَنَايَا دَوَانٍ وَدَهْرٌ خَوَّانٌ كَحَدِّ النِسْطَاسِ وَوَزْنِ الْقِسْطَاسِ. أَقْسَمَ قُسٌّ قَسَمًا لَا كَاذِبًا فِيهِ وَلَا آثِمًا لَئِنْ كَانَ فِي هَذَا الْأَمْرِ رِضًى لَيَكُونَنَّ سُخْطٌ, ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ لِلَّهِ دِينًا هُوَ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ دِينِكُمْ هَذَا الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ, وَهَذَا زَمَانُهُ وَأَوَانُهُ, ثم قال: ما لي أَرَى النَّاسَ يَذْهَبُونَ فَلَا يَرْجِعُونَ أَرَضُوا بِالْمُقَامِ فَأَقَامُوا أَمْ تُرِكُوا فَنَامُوا, وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِهَا قَالَ: شَرْقٌ وَغَرْبٌ وَيُتْمٌ وَحِزْبٌ وَسِلْمٌ وَحَرْبٌ وَيَابِسٌ وَرَطْبٌ وَأُجَاجٌ وَعَذْبٌ وَشُمُوسٌ وَأَقْمَارٌ وَرِيَاحٌ وَأَمْطَارٌ وَلَيْلٌ وَنَهَارٌ وَإِنَاثٌ وَذُكُورٌ وَبِرَارٍ وَبُحُورٌ وَحَبٌّ وَنَبَاتٌ وَآبَاءٌ وَأُمَّهَاتٌ وَجَمْعٌ وَأَشْتَاتٌ وَآيَاتٌ فِي إِثْرِهَا آيَاتٌ ونور وظلام ويسر وَإِعْدَامٌ, وَرَبٌّ وَأَصْنَامٌ لَقَدْ ضَلَّ الْأَنَامُ نَشْوُ مَوْلُودٍ وَوَأْدُ مَفْقُودٍ وَتَرْبِيَةُ مَحْصُودٍ, وَفَقِيرٌ وغني ومحسن ومسي تَبًّا لِأَرْبَابِ الْغَفْلَةِ, لِيُصْلِحَنَّ الْعَامِلُ عَمَلَهُ وَلْيَفْقِدَنَّ الْآمِلُ أَمْلَهُ كَلَّا بَلْ هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَيْسَ بِمَوْلُودٍ وَلَا وَالِدٍ أَعَادَ وَأَبْدَى, وَأَمَاتَ وَأَحْيَا وَخَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى رَبُّ الْآِخِرَةِ وَالْأُولَى, أَمَّا بَعْدُ فَيَا مَعْشَرَ إِيَادٍ أَيْنَ ثَمُودُ وَعَادٌ وَأَيْنَ الْآبَاءُ وَالْأَجْدَادُ وَأَيْنَ الْعَلِيلُ وَالْعُوَّادُ كُلٌّ لَهُ مَعَادٌ. يُقْسِمُ قُسٌّ برب العباد وساطع الْمِهَادِ لَتُحْشَرُنَّ عَلَى الِانْفِرَادِ فِي يَوْمِ التَّنَادِ وَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ وَنُقِرَ فِي النَّاقُورِ وَوَعَظَ الْوَاعِظُ فَانْتَبَذَ الْقَانِطُ وَأَبْصَرَ اللَّاحِظُ فَوَيْلٌ لِمَنْ صَدَفَ عَنِ الْحَقِّ الْأَشْهَرِ وَالنُّورِ الْأَزْهَرِ وَالْعَرْضِ الْأَكْبَرِ فِي يَوْمِ الْفَصْلِ وَمِيزَانِ الْعَدْلِ إِذَا حَكَمَ الْقَدِيرُ, وَشَهِدَ النَّذِيرُ وَبَعُدَ النَّصِيرُ وَظَهَرَ التَّقْصِيرُ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ. أَسْمَاءُ اللَّهِ الْحُسْنَى: وَأَسْمَاءُ اللَّهِ الْحُسْنَى هِيَ الَّتِي أَثْبَتَهَا تَعَالَى لِنَفْسِهِ وَأَثْبَتَهَا لَهُ عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَآمَنَ بِهَا جَمِيعُ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا
وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الْأَعْرَافِ: 180] وَقَالَ تَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الْإِسْرَاءِ: 110] وَقَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [طه: 8] وَقَالَ تَعَالَى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ، هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الْحَشْرِ: 22-24] . وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ وَهُوَ وِتْرٌ ويحب الْوِتْرَ"1 أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَزَادَ "هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ الْغَفَّارُ الْقَهَّارُ الْوَهَّابُ الرَّزَّاقُ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الْخَافِضُ الرَّافِعُ الْمُعِزُّ الْمُذِلُّ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ الْحَكَمُ الْعَدْلُ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ الْحَلِيمُ الْعَظِيمُ الْغَفُورُ الشَّكُورُ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ الْحَفِيظُ الْمُقِيتُ الْحَسِيبُ الْجَلِيلُ الْكَرِيمُ الرَّقِيبُ الْمُجِيبُ الْوَاسِعُ الْحَكِيمُ الْوَدُودُ الْمَجِيدُ الْبَاعِثُ الشَّهِيدُ الْحَقُّ الْوَكِيلُ الْقَوِيُّ الْمَتِينُ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ الْمُحْصِيُ الْمُبْدِئُ الْمُعِيدُ الْمُحْيِيُ الْمُمِيتُ الْحَيُّ الْقَيُّومُ الْوَاجِدُ الْمَاجِدُ الْوَاحِدُ الْأَحَدُ الْفَرْدُ الصَّمَدُ الْقَادِرُ الْمُقْتَدِرُ الْمُقَدِّمُ الْمُؤَخِّرُ الْأَوَّلُ الْآخِرُ الظَّاهِرُ الباطن الوالي الم تعالى الْبَرُّ التَّوَّابُ الْمُنْتَقِمُ الْعَفُوُّ الرَّءُوفُ مَالِكُ الْمُلْكِ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ الْمُقْسِطُ الْجَامِعُ الْغَنِيُّ الْمُغْنِي الْمُعْطِي الْمَانِعُ الضَّارُّ النَّافِعُ النُّورُ الْهَادِي الْبَدِيعُ الْبَاقِي الْوَارِثُ الرَّشِيدُ الصَّبُورُ" ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. وَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَلَا نَعْلَمُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ ذِكْرُ الْأَسْمَاءِ إِلَّا فِي
هَذَا الْحَدِيثِ ا. هـ. وَرَوَاهُ الدَّارِمِيُّ وَزَادَ: كُلُّهَا فِي الْقُرْآنِ1. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَالطَّبَرَانِيُّ كِلَاهُمَا فِي الدُّعَاءِ وَأَبُو الشَّيْخِ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَأَبُو نُعَيْمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: "إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ أَسْأَلُ اللَّهَ الرَّحْمَنَ الرَّحِيمَ الْإِلَهَ الرَّبَّ الْمَلِكَ الْقُدُّوسَ السَّلَامَ الْمُؤْمِنَ الْمُهَيْمِنَ الْعَزِيزَ الْجَبَّارَ الْمُتَكَبِّرَ الْخَالِقَ الْبَارِئَ الْمُصَوِّرَ الْحَلِيمَ الْعَلِيمَ السَّمِيعَ الْبَصِيرَ الْحَيَّ الْقَيُّومَ الْوَاسِعَ اللَّطِيفَ الْخَبِيرَ الْحَنَّانَ الْمَنَّانَ الْبَدِيعَ الْغَفُورَ الْوَدُودَ الشكور المجيد المبدئ الْمُعِيدَ النُّورَ الْبَارِئَ -وَفِي لَفْظٍ الْقَائِمَ- الْأَوَّلَ الْآخِرَ الظَّاهِرَ الْبَاطِنَ الْعَفُوَّ الْغَفَّارَ الْوَهَّابَ الْفَرْدَ -وَفِي لَفْظٍ الْقَادِرَ- الْأَحَدَ الصَّمَدَ الْوَكِيلَ الْكَافِيَ الْبَاقِيَ المغيث الدائم المتعال ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ الْمَوْلَى النَّصِيرَ الْحَقَّ الْمَتِينَ الْوَارِثَ الْمُنِيرَ الْبَاعِثَ الْقَدِيرَ -وَفِي لَفْظٍ الْمُجِيبَ- الْمُحْيِيَ الْمُمِيتَ
الْحَمِيدَ -وَفِي لَفْظٍ الْجَمِيلَ- الصَّادِقَ الْحَفِيظَ الْمُحِيطَ الْكَبِيرَ الرَّقِيبَ الْفَتَّاحَ التَّوَّابَ الْقَدِيمَ الْوِتْرَ الْفَاطِرَ الرَّزَّاقَ الْعَلَّامَ الْعَلِيَّ الْعَظِيمَ الْغَنِيَّ الْمَلِكَ الْمُقْتَدِرَ الْأَكْرَمَ الرَّءُوفَ الْمُدَبِّرَ الْمَالِكَ الْقَاهِرَ الْهَادِيَ الشَّاكِرَ الْكَرِيمَ الرَّفِيعَ الشَّهِيدَ الْوَاحِدَ ذَا الطَّوْلِ ذَا الْمَعَارِجِ ذَا الْفَضْلِ الْخَلَّاقَ الْكَفِيلَ الْجَلِيلَ"1. وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: سَأَلْتُ أَبِي جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ الصَّادِقَ عَنِ الْأَسْمَاءِ التِّسْعَةِ وَالتِسْعِينَ الَّتِي مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ فَقَالَ: هِيَ فِي الْقُرْآنِ فَفِي الْفَاتِحَةِ خَمْسَةُ أَسْمَاءٍ: يَا اللَّهُ يَا رَبُّ يَا رَحْمَنُ يَا رَحِيمُ يَا مَلِكُ وَفِي الْبَقَرَةِ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ اسْمًا: يَا مُحِيطُ يَا قَدِيرُ يَا عَلِيمُ يَا حَكِيمُ يَا عَلِيُّ يَا عَظِيمُ يَا تَوَّابُ يَا بَصِيرُ يَا وَلِيُّ يَا وَاسِعُ يَا كَافِي يَا رَءُوفُ يَا بَدِيعُ يَا شَاكِرُ يَا وَاحِدُ يَا سَمِيعُ يَا قَابِضُ يَا بَاسِطُ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ يَا غَنِيُّ يَا حَمِيدُ يَا غَفُورُ يَا حَلِيمُ يَا إِلَهُ يَا قَرِيبُ يَا مُجِيبُ يَا عَزِيزُ يَا نَصِيرُ يَا قَوِيُّ يَا شَدِيدُ يَا سَرِيعُ يَا خَبِيرُ. وَفِي آلِ عِمْرَانَ: يَا وَهَّابُ يَا قَائِمُ يَا صَادِقُ يَا بَاعِثُ يَا مُنْعِمُ يَا مُتَفَضِّلُ. وَفِي النِّسَاءِ: يَا حَسِيبُ يَا رَقِيبُ يَا شَهِيدُ يَا مُقِيتُ يَا وَكِيلُ يَا عَلِيُّ يَا كَبِيرُ. وَفِي الْأَنْعَامِ: يَا فَاطِرُ يَا قَاهِرُ يَا لَطِيفُ يَا بُرْهَانُ. وَفِي الْأَعْرَافِ: يَا مُحْيِي يَا مُمِيتُ. وَفِي الْأَنْفَالِ: يَا نِعْمَ الْمَوْلَى وَيَا نِعْمَ النَّصِيرِ. وَفِي هُودٍ: يَا حَفِيظُ يَا مَجِيدُ يَا وَدُودُ يَا فَعَّالٌ لِمَا تُرِيدُ. وَفِي الرَّعْدِ: يَا كَبِيرُ يَا مُتَعَالِي. وَفِي إِبْرَاهِيمَ: يَا مَنَّانُ يَا وَارِثُ. وَفِي الْحِجْرِ: يَا خَلَّاقُ. وَفِي مَرْيَمَ: يَا فَرْدُ. وَفِي طه: يَا غَفَّارُ. وَفِي قَدْ أَفْلَحَ: يَا كَرِيمُ. وَفِي النُّورِ: يَا حَقُّ يَا مُبِينُ. وَفِي الْفُرْقَانِ: يَا هَادٍ وَفِي سَبَأٍ: يَا فَتَّاحُ. وَفِي الزُّمَرِ: يَا عَالِمُ. وَفِي غَافِرٍ: يَا قَابِلَ التَّوْبِ يَا ذَا الطَّوْلِ يَا رَفِيعُ. وَفِي الذَّارِيَاتِ: يَا رَزَّاقُ يَا ذَا الْقُوَّةِ يَا مَتِينُ. وَفِي الطُّورِ: يَا بَرُّ. وِفِي اقْتَرَبَتْ: يَا مُقْتَدِرُ يَا مَلِيكُ. وَفِي الرَّحْمَنِ: يَا ذَا الْجَلَالِ
وَالْإِكْرَامِ يَا رب المشرقين يارب الْمَغْرِبَيْنِ يَا بَاقِي يَا مُعِينُ. وَفِي الْحَدِيدِ: يَا أَوَّلُ يَا آخِرُ يَا ظَاهِرُ يَا بَاطِنُ. وَفِي الْحَشْرِ: يَا مَلِكُ يَا قُدُّوسُ يَا سَلَامُ يَا مُؤْمِنُ يَا مُهَيْمِنُ يَا جَبَّارُ يَا مُتَكَبِّرُ يَا خَالِقُ يَا بَارِئُ يَا مُصَوِّرُ. وَفِي البروج: يا مبدئ يَا مُعِيدُ. وَفِي الْفَجْرِ: يَا وِتْرُ. وَفِي الْإِخْلَاصِ: يَا أَحَدُ يا صمد ا. هـ. 1. وَقَدْ حَرَّرَهَا الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي "تَلْخِيصِ الْحَبِيرِ" تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِنَ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ مُنْطَبِقَةً عَلَى لَفْظِ الْحَدِيثِ وَرَتَّبَهَا هَكَذَا: اللَّهُ الرَّبُّ الْإِلَهُ الْوَاحِدُ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ الْأَوَّلُ الْآخِرُ الظَّاهِرُ الْبَاطِنُ الْحَيُّ الْقَيُّومُ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ التَّوَّابُ الْحَلِيمُ الْوَاسِعُ الْحَكِيمُ الشَّاكِرُ الْعَلِيمُ الْغَنِيُّ الْكَرِيمُ الْعَفُوُّ الْقَدِيرُ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ الْمَوْلَى النَّصِيرُ الْقَرِيبُ الْمُجِيبُ الرَّقِيبُ الْحَسِيبُ الْقَوِيُّ الشَّهِيدُ الْحَمِيدُ الْمَجِيدُ الْمُحِيطُ الْحَفِيظُ الْحَقُّ الْمُبِينُ الْغَفَّارُ الْقَهَّارُ الْخَلَّاقُ الْفَتَّاحُ الْوَدُودُ الْغَفُورُ الرَّءُوفُ الشَّكُورُ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ الْمُقِيتُ الْمُسْتَعَانُ الْوَهَّابُ الْحَفِيُّ الْوَارِثُ الْوَلِيُّ الْقَائِمُ الْقَادِرُ الْغَالِبُ الْقَاهِرُ الْبَرُّ الْحَافِظُ الْأَحَدُ الصَّمَدُ الْمَلِيكُ الْمُقْتَدِرُ الْوَكِيلُ الْهَادِي الْكَفِيلُ الْكَافِي الْأَكْرَمُ الْأَعْلَى الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ غَافِرُ الذَّنْبِ وَقَابِلُ التَّوْبِ شَدِيدُ الْعِقَابِ ذُو الطَّوْلِ رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ سَرِيعُ الْحِسَابِ فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَالِكُ الْمُلْكِ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ا. هـ.2. وَقَدْ عَدَّهَا جَمَاعَةٌ غَيْرُ مَنْ ذَكَرْنَا كَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ3 وَابْنِ حَزْمٍ4 وَالْقُرْطُبِيِّ5 وَغَيْرِهِمْ وَعَدَّهَا ابْنُ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيُّ فِي "أَحْكَامِ الْقُرْآنِ" مُرَتِّبًا لَهَا عَلَى السُّوَرِ6،
أسماء الله ليست منحصرة في التسعة والتسعين
لَكِنَّهُ أَخْطَأَ فِي بَعْضِ مَا عَدَّهُ كَمَا سَنُشِيرُ إِلَيْهِ قَرِيبًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَاعْلَمْ أَنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَيْسَتْ بِمُنْحَصِرَةٍ فِي التِّسْعَةِ وَالتِسْعِينَ الْمَذْكُورَةِ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَلَا فِيمَا اسْتَخْرَجَهُ الْعُلَمَاءُ مِنَ الْقُرْآنِ بَلْ وَلَا فِيمَا عَلِمَتْهُ الرُّسُلُ وَالْمَلَائِكَةُ وَجَمِيعُ الْمَخْلُوقِينَ لِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ عِنْدَ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: "مَا أَصَابَ أَحَدًا قَطُّ هم ولا وَلَا حَزَنٌ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ وَابْنُ عَبْدِكَ وَابْنُ أَمَتِكَ نَاصِيَتِي بِيَدِكَ مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ أَوِ اسْتَأْثَرَتْ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ رَبِيعَ قَلْبِي وَنُورَ صَدْرِي وَجَلَاءَ حُزْنِي وَذَهَابَ هَمِّي, إِلَّا أَذْهَبَ اللَّهُ حُزْنَهُ وَهَمَّهُ وَأَبْدَلَهُ مَكَانَهُ فَرَحًا". فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا نَتَعَلَّمُهَا؟ فَقَالَ: "بَلَى يَنْبَغِي لِكُلِّ مَنْ سَمِعَهَا أَنْ يَتَعَلَّمَهَا" 1. وَاعْلَمْ أَنَّ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ إِلَّا مُقْتَرِنًا بِمُقَابِلِهِ فَإِذَا أُطْلِقَ وَحْدَهُ أَوْهَمَ نَقْصًا تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ. فَمِنْهَا الْمُعْطِي الْمَانِعُ وَالضَّارُّ النَّافِعُ وَالْقَابِضُ الْبَاسِطُ وَالْمُعِزُّ الْمُذِلُّ وَالْخَافِضُ الرَّافِعُ فَلَا يُطْلَقُ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الْمَانِعُ الضَّارُّ الْقَابِضُ الْمُذِلُّ الْخَافِضُ كُلًّا عَلَى انْفِرَادِهِ بَلْ لَا بُدَّ مِنَ ازْدِوَاجِهَا بِمُقَابِلَاتِهَا إِذْ لَمْ تُطْلَقْ فِي الْوَحْيِ إِلَّا كَذَلِكَ وَمِنْ ذَلِكَ الْمُنْتَقِمُ لَمْ يَأْتِ فِي الْقُرْآنِ
إِلَّا مُضَافًا إِلَى ذُو كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} [آلِ عِمْرَانَ: 4] أَوْ مُقَيَّدًا بِالْمُجْرِمِينَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} [السَّجْدَةِ: 22] . وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ أَفْعَالٌ أَطْلَقَهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى نَفْسِهِ عَلَى سَبِيلِ الْجَزَاءِ الْعَدْلِ وَالْمُقَابَلَةِ, وَهِيَ فِيمَا سِيقَتْ فِيهِ مَدْحٌ وَكَمَالٌ لَكِنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُشْتَقَّ له تعالى منها أَسْمَاءٌ وَلَا تُطْلَقَ عَلَيْهِ فِي غَيْرِ مَا سِيقَتْ فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النِّسَاءِ: 142] وَقَوْلِهِ: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} [النِّسَاءِ: 54] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التَّوْبَةِ: 67] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ، اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [الْبَقَرَةِ: 14] وَنَحْوِ ذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُطْلَقَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مُخَادِعٌ مَاكِرٌ نَاسٍ مُسْتَهْزِئٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَالَى اللَّهُ عَنْهُ, وَلَا يُقَالُ: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ وَيُخَادِعُ وَيَمْكُرُ وَيَنْسَى عَلَى سَبِيلِ الْإِطْلَاقِ, تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا, وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَصِفْ نَفْسَهُ بِالْكَيْدِ وَالْمَكْرِ وَالْخِدَاعِ وَالِاسْتِهْزَاءِ مُطْلَقًا, وَلَا ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَمَنْ ظن من الجهال الْمُصَنَّفِينَ فِي شَرْحِ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى أَنَّ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى الْمَاكِرَ الْمُخَادِعَ الْمُسْتَهْزِئَ الْكَائِدَ فَقَدْ فَاهَ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ الْجُلُودُ وَتَكَادُ الْأَسْمَاعُ تُصَمُّ عِنْدَ سَمَاعِهِ, وَغَرَّ هَذَا الْجَاهِلَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَطْلَقَ عَلَى نَفْسِهِ هَذِهِ الْأَفْعَالَ فَاشْتَقَّ لَهُ مِنْهَا أَسْمَاءً وَأَسْمَاؤُهُ تَعَالَى كُلُّهَا حُسْنَى فَأَدْخَلَهَا فِي الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى وَقَرَنَهَا بِالرَّحِيمِ الْوَدُودِ الْحَكِيمِ الْكَرِيمِ, وَهَذَا جَهْلٌ عَظِيمٌ فَإِنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ لَيْسَتْ مَمْدُوحَةً مُطْلَقًا بَلْ تُمْدَحُ فِي مَوْضِعٍ وَتُذَمُّ فِي مَوْضِعٍ فَلَا يَجُوزُ إِطْلَاقُ أَفْعَالِهَا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مُطْلَقًا فَلَا يُقَالُ: إِنَّهُ تَعَالَى يَمْكُرُ وَيُخَادِعُ وَيَسْتَهْزِئُ وَيَكِيدُ فَكَذَلِكَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى لَا يُشْتَقَّ لَهُ مِنْهَا أَسْمَاءٌ يُسَمَّى بِهَا بَلْ إِذَا كَانَ لَمْ يَأْتِ فِي أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى الْمُرِيدُ وَالْمُتَكَلِّمُ وَلَا الْفَاعِلُ وَلَا الصَّانِعُ لِأَنَّ مُسَمَّيَاتِهَا تَنْقَسِمُ إِلَى مَمْدُوحٍ وَمَذْمُومٍ وَإِنَّمَا يُوصَفُ بِالْأَنْوَاعِ الْمَحْمُودَةِ مِنْهَا كَالْحَلِيمِ وَالْحَكِيمِ وَالْعَزِيزِ وَالْفَعَّالِ لِمَا يُرِيدُ فَكَيْفَ يَكُونُ مِنْهَا الْمَاكِرُ وَالْمُخَادِعُ وَالْمُسْتَهْزِئُ ثُمَّ يَلْزَمُ هَذَا الْغَالِطَ أَنْ يَجْعَلَ مِنْ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى الدَّاعِيَ وَالْآتِيَ وَالْجَائِيَ وَالذَّاهِبَ وَالْقَادِمَ وَالرَّائِدَ وَالنَّاسِيَ وَالْقَاسِمَ وَالسَّاخِطَ
دلالة أسماء الله حق على حقيقتها مطابقة وتضمنا والتزاما
وَالْغَضْبَانَ وَاللَّاعِنَ إِلَى أَضْعَافِ أَضْعَافِ ذَلِكَ مِنَ الَّتِي أَطْلَقَ تَعَالَى عَلَى نَفْسِهِ أَفْعَالَهَا فِي الْقُرْآنِ, وَهَذَا لَا يَقُولُهُ مُسْلِمٌ وَلَا عَاقِلٌ وَالْمَقْصُودُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمْ يَصِفْ نَفْسَهُ بِالْكَيْدِ وَالْمَكْرِ وَالْخِدَاعِ إِلَّا عَلَى وَجْهِ الْجَزَاءِ لِمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِغَيْرِ حَقٍّ, وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ الْمُجَازَاةَ عَلَى ذَلِكَ حَسَنَةٌ مِنَ الْمَخْلُوقِ فَكَيْفَ مِنَ الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. قُلْتُ وَمِنْ هُنَا يَتَبَيَّنُ لَكَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ النَّظَرِ فِي بَعْضِ مَا عَدَّهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فَإِنَّ الْفَاعِلَ وَالزَّارِعَ إِذَا أُطْلِقَا بِدُونِ مُتَعَلِّقٍ وَلَا سِيَاقٍ يَدُلُّ عَلَى وَصْفِ الْكَمَالِ فِيهِمَا فَلَا يُفِيدَانِ مَدْحًا, أَمَّا سِيَاقِهَا مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي ذُكِرَتْ فِيهَا فَهِيَ صِفَاتُ كَمَالٍ وَمَدْحٍ وَتَوَحُّدٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 104] وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ، أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} [الْوَاقِعَةِ: 36-64] الْآيَاتِ بِخِلَافِ مَا إِذَا عُدَّتْ مُجَرَّدَةً عَنْ مُتَعَلَّقَاتِهَا وَمَا سِيقَتْ فِيهِ وَلَهُ, وَأَكْبَرُ مُصِيبَةٍ أَنْ عَدَّ فِي الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى رَابِعَ ثَلَاثَةٍ وَسَادِسَ خَمْسَةٍ مُصَرِّحًا قَبْلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَفِي سُورَةِ الْمُجَادَلَةِ اسْمَانِ, فَذَكَرَهُمَا وَهَذَا خَطَأٌ فَاحِشٌ فَإِنَّ الْآيَةَ لَا تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وَلَا تَقْتَضِيهِ بِوَجْهٍ لَا مَنْطُوقًا وَلَا مَفْهُومًا فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [الْمُجَادَلَةِ: 8] الْآيَةَ وَأَيْنَ فِي هَذَا السِّيَاقِ رَابِعُ ثَلَاثَةٍ سَادِسُ خَمْسَةٍ؟ وَكَانَ حَقُّهُ اللَّائِقُ بِمُرَادِهِ أَنْ يَقُولَ: رَابِعُ كُلِّ ثَلَاثَةٍ فِي نَجْوَاهُمْ وَسَادِسُ كُلِّ خَمْسَةٍ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ أَفْعَالَهُمْ وَيَسْمَعُ أَقْوَالَهُمْ كَمَا هُوَ مَفْهُومٌ مِنْ صَدْرِ الْآيَةِ وَلَكِنْ لَا يَلِيقُ بِهَذَا الْمَعْنَى إِلَّا سِيَاقُ الْآيَةِ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَاعْلَمْ أَنَّ دَلَالَةَ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى حَقٌّ عَلَى حَقِيقَتِهَا مُطَابَقَةً وَتَضَمُّنًا وَالْتِزَامًا, فَدَلَالَةُ اسْمِهِ تَعَالَى "الرَّحْمَنِ" عَلَى ذَاتِهِ عَزَّ وَجَلَّ مُطَابَقَةً وَعَلَى صِفَةِ الرَّحْمَةِ تَضَمُّنًا وَعَلَى الْحَيَاةِ وَغَيْرِهَا الْتِزَامًا وَهَكَذَا سَائِرُ أَسْمَائِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى, وَلَيْسَتْ أَسْمَاءُ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرَهُ كَمَا يَقُولُهُ الْمُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ, تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا, فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ جل هُوَ الْإِلَهُ وَمَا سِوَاهُ عَبِيدٌ وَهُوَ الرَّبُّ وَمَا سِوَاهُ مَرْبُوبٌ وَهُوَ الْخَالِقُ وَمَا
أسماء الله غير مخلوقة
سِوَاهُ مَخْلُوقٌ وَهُوَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَهُ شَيْءٌ وَمَا سِوَاهُ مُحْدَثٌ كَائِنٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ وَهُوَ الْآخِرُ الْبَاقِي فَلَيْسَ بَعْدَهُ شَيْءٌ وَمَا سِوَاهُ فَانٍ, فَلَوْ كَانَتْ أَسْمَاءُ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرَهُ كَمَا زَعَمُوا لَكَانَتْ مَخْلُوقَةً مَرْبُوبَةً مُحْدَثَةً فَانِيَةً إِذْ كُلُّ مَا سِوَاهُ كَذَلِكَ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا. [أَسْمَاءُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ] وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ: نِقْمَةُ اللَّهِ عَلَى بِشْرٍ الْمِرِّيسِيِّ وَذَوِيِهِ: بَابُ الْإِيمَانِ بِأَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهَا غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ, قَالَ: ثُمَّ اعْتَرَضَ الْمُعْتَرِضُ -يَعْنِي ابْنَ الثَّلْجِيِّ- أَسْمَاءَ اللَّهِ تَعَالَى الْمُقَدَّسَةَ فَذَهَبَ فِي تَأْوِيلِهَا مَذْهَبَ إِمَامِهِ الْمِرِّيسِيِّ فَادَّعَى أَنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ غَيْرُ اللَّهِ وَأَنَّهَا مُسْتَعَارَةٌ مَخْلُوقَةٌ كَمَا أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ شَخْصٌ بِلَا اسْمٍ فَتَسْمِيَتُهُ لَا تَزِيدُ فِي الشَّخْصِ وَلَا تَنْقُصُ يَعْنِي الْخَبِيثُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ مَجْهُولًا كَشَخْصٍ مَجْهُولٍ لَا يُهْتَدَى لِاسْمِهِ وَلَا يُدْرَى مَا هُوَ حَتَّى خَلَقَ الْخَلْقَ فَابْتَدَعُوا لَهُ أَسْمَاءً مِنْ مَخْلُوقِ كَلَامِهِمْ فَأَعَارُوهُ إِيَّاهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعْرَفَ لَهُ اسْمٌ قَبْلَ الْخَلْقِ, قَالَ: وَمَنِ ادَّعَى التَّأْوِيلَ فِي أَسْمَاءِ الْخَلْقِ, قَالَ: وَمَنِ ادَّعَى التَّأْوِيلَ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ فَقَدْ نَسَبَ اللَّهَ تَعَالَى إِلَى الْعَجْزِ وَالْوَهْنِ وَالضَّرُورَةِ وَالْحَاجَةِ إِلَى الْخَلْقِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَعِيرَ مُحْتَاجٌ مُضْطَرٌّ وَالْمُعِيرَ أَبَدًا أَعْلَى مِنْهُ وَأَغْنَى فَفِي هَذِهِ الدَّعْوَى اسْتِجْهَالُ الْخَالِقِ إِذْ كَانَ بِزَعْمِهِ هَمَلًا لَا يُدْرَى مَا اسْمُهُ وَاللَّهُ الْمُتَعَالِي عَنْ هَذَا الْوَصْفِ الْمُنَزَّهُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ تَعَالَى هِيَ تَحْقِيقُ صِفَاتِهِ سَوَاءٌ عَلَيْكَ قَلْتَ: عَبَدْتُ اللَّهَ أَوْ عَبَدْتُ الرَّحْمَنَ أَوِ الرَّحِيمَ أَوِ الْمَلِكَ الْعَزِيزَ الْحَكِيمَ وَسَوَاءٌ عَلَى الرَّجُلِ قَالَ: كَفَرْتُ بِاللَّهِ أَوْ قَالَ كَفَرْتُ بِالرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَوْ بِالْخَالِقِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ وَسَوَاءٌ عَلَيْكَ قُلْتَ: عَبْدُ اللَّهِ أَوْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ أَوْ عَبْدُ الْعَزِيزِ أَوْ عَبْدُ الْمَجِيدِ وَسَوَاءٌ عَلَيْكَ قَلْتَ: يَا اللَّهُ أَوْ يَا رَحْمَنُ أَوْ يَا رَحِيمُ أَوْ يَا مَالِكُ يَا عَزِيزُ يَا جَبَّارُ بِأَيِّ اسْمٍ دَعَوْتَهُ مِنْ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ أَوْ أَضَفْتَهُ إِلَيْهِ فَإِنَّمَا تَدْعُو اللَّهَ نَفْسَهُ مَنْ شَكَّ فِيهِ فَقَدْ كَفَرَ وَسَوَاءٌ عَلَيْكَ قَلْتَ رَبِّيَ اللَّهُ أَوْ رَبِّيَ الرَّحْمَنُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [الصف: 18] وَقَالَ تَعَالَى: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [الصَّفِّ: 1] وَقَالَ: {وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الْأَحْزَابِ: 42] كَذَلِكَ قَالَ فِي الِاسْمِ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} كَمَا قَالَ تَعَالَى:
{يُسَبِّحُ لِلَّهِ} وَلَوْ كَانَ الِاسْمُ مَخْلُوقًا مُسْتَعَارًا غَيْرَ اللَّهِ لَمْ يَأْمُرِ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُسَبِّحَ مَخْلُوقٌ غَيْرَهُ, وَقَالَ تَعَالَى: {لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الْحَشْرِ: 24] ثُمَّ ذَكَرَ الْآلِهَةَ الَّتِي تُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِأَسْمَائِهَا الْمَخْلُوقَةِ الْمُسْتَعَارَةِ فَقَالَ تَعَالَى: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} [النَّجْمِ: 23] وَكَذَلِكَ قَالَ هُودٌ لِقَوْمِهِ حِينَ قَالُوا: {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [الْأَعْرَافِ: 70] فَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ: {أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} [الْأَعْرَافِ: 71] يَعْنِي أَنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ تَعَالَى لَمْ تَزَلْ كَمَا لَمْ يَزَلْ عَزَّ وَجَلَّ وَأَنَّهَا بِخِلَافِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ الْمَخْلُوقَةِ الَّتِي أَعَارُوهَا الْأَصْنَامَ وَالْآلِهَةَ الَّتِي عَبَدُوهَا مِنْ دُونِهِ. فَإِنْ لَمْ تَكُنْ أَسْمَاءُ اللَّهِ بِخِلَافِهَا, فَأَيُّ تَوْبِيخٍ لِأَسْمَاءِ هَذِهِ الْآلِهَةِ الْمَخْلُوقَةِ إِذْ كَانَتْ أَسْمَاؤُهَا وَأَسْمَاءُ اللَّهِ تَعَالَى مَخْلُوقَةً مُسْتَعَارَةً عِنْدَكُمْ بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَكُلُّهَا مِنْ تَسْمِيَةِ الْعِبَادِ وَتَسْمِيَةِ آبَائِهِمْ بِزَعْمِهِمْ. فَفِي دَعْوَى هَذَا الْمُعَارِضِ أَنَّ الْخَلْقَ عَرَّفُوا اللَّهَ إِلَى عِبَادِهِ بِأَسْمَاءٍ ابْتَدَعُوهَا لَا أَنَّ اللَّهَ عَرَّفَهُمْ بِهَا نَفْسَهُ فَأَيُّ تَأْوِيلٍ أَوْحَشَ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ أَنْ يَتَأَوَّلَ رَجُلٌ أَنَّهُ كَانَ كَشَخْصٍ مَجْهُولٍ أَوْ بَيْتٍ أَوْ شَجَرَةٍ أَوْ بَهِيمَةٍ لَمْ يَسْبِقْ لِشَيْءٍ مِنْهَا اسْمٌ وَلَمْ يُعْرَفْ مَا هُوَ حَتَّى عَرَّفَهُ الْخَلْقُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَلَا تُقَاسُ أَسْمَاءُ اللَّهِ تَعَالَى بِأَسْمَاءِ الْخَلْقِ لِأَنَّ أَسْمَاءَ الْخَلْقِ مَخْلُوقَةٌ مُسْتَعَارَةٌ وَلَيْسَتْ أَسْمَاؤُهُمْ نَفْسَ صِفَاتِهِمْ بَلْ مُخَالِفَةٌ لِصِفَاتِهِمْ, وَأَسْمَاءُ اللَّهِ تَعَالَى صِفَاتُهُ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا مُخَالِفًا لِصِفَاتِهِ وَلَا شَيْءٌ مِنْ صِفَاتِهِ مُخَالِفًا لِأَسْمَائِهِ فَمَنِ ادَّعَى أَنَّ صِفَةً مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ مَخْلُوقَةٌ أَوْ مُسْتَعَارَةٌ فَقَدْ كَفَرَ وَفَجَرَ لِأَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: اللَّهُ فَهُوَ اللَّهُ وَإِذَا قُلْتُ: الرَّحْمَنُ فَهُوَ الرَّحْمَنُ وَهُوَ اللَّهُ فَإِذَا قُلْتَ: الرَّحِيمُ فَهُوَ كَذَلِكَ وَإِذَا قُلْتَ: حَكِيمٌ عَلِيمٌ حَمِيدٌ مَجِيدٌ جَبَّارٌ مُتَكَبِّرٌ قَاهِرٌ قَادِرٌ فَهُوَ كَذَلِكَ وَهُوَ اللَّهُ سَوَاءٌ لَا يُخَالِفُ اسْمٌ لَهُ صِفَتَهُ وَلَا صِفَتُهُ اسْمًا وَقَدْ يُسَمَّى الرَّجُلُ حَكِيمًا وَهُوَ جَاهِلٌ وَحَكَمًا وَهُوَ ظَالِمٌ وَعَزِيزًا وَهُوَ حَقِيرٌ وَكَرِيمًا وَهُوَ لَئِيمٌ وَصَالِحًا وَهُوَ طَالِحٌ وَسَعِيدًا وَهُوَ شَقِيٌّ وَمَحْمُودًا وَهُوَ مَذْمُومٌ وَحَبِيبًا وَهُوَ بَغِيضٌ وَأَسَدًا وَحِمَارًا وَكَلْبًا وَجَدْيًا وَكُلَيْبًا وَهِرًّا وَحَنْظَلَةَ وَعَلْقَمَةَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ, وَاللَّهُ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ اسْمُهُ كُلُّ أَسْمَائِهِ سَوَاءٌ لَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ وَلَا يَزَالُ لَمْ تَحْدُثْ لَهُ صِفَةٌ وَلَا اسْمٌ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ كَانَ خَالِقًا قَبْلَ الْمَخْلُوقِينَ وَرَازِقًا قَبْلَ الْمَرْزُوقِينَ وَعَالِمًا قَبْلَ
الْمَعْلُومِينَ وَسَمِيعًا قَبْلَ أَنْ يَسْمَعَ أَصْوَاتَ الْمَخْلُوقِينَ وَبَصِيرًا قَبْلَ أَنْ يَرَى أَعْيَانَهُمْ مَخْلُوقَةً قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] وَقَالَ: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [السَّجْدَةِ: 4] وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ} [الْفُرْقَانِ: 59] لِأَنَّهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَلَوْ كَانَ كَمَا ادَّعَى الْمُعَارِضُ -يَعْنِي ابْنَ الثَّلْجِيِّ وَإِمَامَهُ الْمِرِّيسِيَّ- لَكَانَ الْخَالِقُ وَالْمَخْلُوقُ اسْتَوَيَا جَمِيعًا عَلَى الْعَرْشِ إِذْ كَانَتْ أَسْمَاؤُهُ مَخْلُوقَةً عِنْدَهُمْ إِذْ كَانَ اللَّهُ فِي دَعْوَاهُمْ فِي حَدِّ الْمَجْهُولِ أَكْثَرَ مِنْهُ فِي حَدِّ الْمَعْرُوفِ لِأَنَّ لِحُدُوثِ الْخَلْقِ حَدًّا وَوَقْتًا وَلَيْسَ لِأَزَلِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى حَدٌّ وَلَا وَقْتٌ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ وَكَذَلِكَ أَسْمَاؤُهُ لَمْ تَزَلْ وَلَا تَزَالُ. ثُمَّ احْتَجَّ الْمُعَارِضُ لِتَرْوِيجِ مَذْهَبِهِ هَذَا بِأَقْبَحِ قِيَاسٍ فَقَالَ: أَرَأَيْتَ لَوْ كَتَبْتُ اسْمًا فِي رُقْعَةٍ ثُمَّ احْتَرَقَتِ الرُّقْعَةُ أَلَيْسَ إِنَّمَا تُحْرَقُ الرُّقْعَةُ وَلَا يَضُرُّ الِاسْمُ شَيْئًا فَيُقَالُ لِهَذَا التَّائِهِ الَّذِي لَا يَدْرِي مَا يَخْرُجُ مِنْ رَأْسِهِ: إِنَّ الرُّقْعَةَ وَكِتَابَةَ الِاسْمِ لَيْسَ كَنَفْسِ الِاسْمِ إِذَا احْتَرَقَتِ الرُّقْعَةُ احْتَرَقَ الْخَطُّ وَبَقِيَ اسْمُ اللَّهِ لَهُ وَعَلَى لِسَانِ الْكَاتِبِ لَمْ يَزَلْ قَبْلَ أَنْ يَكْتُبَ لَمْ تَنْقُصِ النَّارُ مِنْ الِاسْمِ وَلَا مِمَّنْ لَهُ الِاسْمُ شَيْئًا وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ أَسْمَاءُ الْمَخْلُوقِينَ لَمْ تَنْقُصِ النَّارُ مِنْ أَسْمَائِهِمْ وَلَا مِنْ أَجْسَامِهِمْ شَيْئًا وَكَذَلِكَ لَوْ كَتَبْتَ اللَّهَ بِهِجَائِهِ فِي رُقْعَةٍ ثُمَّ أَحْرَقْتَ الرُّقْعَةَ لَاحْتَرَقَتِ الرُّقْعَةُ وَكَانَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِكَمَالِهِ عَلَى عَرْشِهِ, وَكَذَلِكَ لَوْ صُوِّرَ رَجُلٌ فِي رُقْعَةٍ ثُمَّ أُلْقِيَتْ فِي النَّارِ لَاحْتَرَقَتِ الرُّقْعَةُ وَلَمْ يُضَرَّ الْمُصَوَّرُ شَيْئًا وَكَذَلِكَ الْقُرْآنُ لَوِ احْتَرَقَتِ الْمَصَاحِفُ كُلُّهَا لَمْ يَنْقُصْ مِنَ الْقُرْآنِ نَفْسِهِ حَرْفٌ وَاحِدٌ وَكَذَلِكَ لَوِ احْتَرَقَ الْقُرَّاءُ كُلُّهُمْ أَوْ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَبَقِيَ الْقُرْآنُ بِكَمَالِهِ كَمَا كَانَ لَمْ يَنْقُصْ مِنْهُ حَرْفٌ وَاحِدٌ لِأَنَّهُ مِنْهُ بَدَا وَإِلَيْهِ يَعُودُ عِنْدَ فَنَاءِ الْخَلْقِ بِكَمَالِهِ غَيْرَ مَنْقُوصٍ, وَقَدْ كَانَ لِلْمِرِّيسِيُّ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ مَذْهَبٌ كَمَذْهَبِهِ فِي الْقُرْآنِ كَانَ الْقُرْآنُ عِنْدَهُ مَخْلُوقًا مِنْ قَوْلِ الْبَشَرِ لَمْ يَتَكَلَّمِ اللَّهُ بِحَرْفٍ مِنْهُ فِي دَعْوَاهُ, وَكَذَلِكَ أَسْمَاءُ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَهُ مِنَ ابْتِدَاعِ الْبَشَرِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقُولَ تَعَالَى: {إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الْقَصَصِ: 30] بِزَعْمِهِ قَطُّ وَزَعَمَ أني متى اعترف بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَكَلَّمَ بِـ {إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} لَزِمَنِي أَنْ أَقُولَ تَكَلَّمَ بِالْقُرْآنِ وَلَوِ اعْتَرَفْنَا بِذَلِكَ لَانْكَسَرَ عَلَيْنَا مَذْهَبُنَا فِي الْقُرْآنِ, وقد كسره الله عَلَيْهِمْ عَلَى رَغْمِ أُنُوفِهِمْ فَقَالَ: {إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ
الْعَالَمِينَ} وَلَا يَسْتَحِقُّ مَخْلُوقٌ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهَذَا فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ كَافِرًا كَفِرْعَوْنَ الَّذِي قَالَ: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النَّازِعَاتِ: 24] فَهَذَا الَّذِي ادَّعَوْا فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَصْلٌ كَبِيرٌ مِنْ أُصُولِ الْجَهْمِيَّةِ الَّتِي بَنَوْا عَلَيْهَا مِحْنَتَهُمْ وَأَسَّسُوا بِهَا ضَلَالَتَهُمْ غَالَطُوا بِهَا الْأَغْمَارَ وَالسُّفَهَاءَ وَهُمْ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُغَالِطُونَ بِهَا الْفُقَهَاءَ وَلَئِنْ كَانَ السُّفَهَاءُ وَقَعُوا فِي غَلَطِ مَذْهَبِهِمْ فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ مِنْهُمْ لَعَلَى يَقِينٍ. أَرَأَيْتُمْ قَوْلَكُمْ: إِنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ مَخْلُوقَةٌ, فَمَنْ خَلَقَهَا وَكَيْفَ خَلَقَهَا؟ أَجَعَلَهَا أَجْسَامًا وَصُوَرًا تَشْغَلُ أَعْيَانُهَا أَمْكِنَةً دُونَهُ مِنَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ أَمْ مَوْضِعًا دُونَهُ فِي الْهَوَاءِ؟ فَإِنْ قُلْتُمْ: لَهَا أَجْسَامٌ دُونَهُ فَهَذَا مَا تَنْقِمُهُ عُقُولُ الْعُقَلَاءِ, وَإِنْ قُلْتُمْ: خَلَقَهَا فِي أَلْسِنَةِ الْعِبَادِ فَدَعَوْهُ بِهَا وَأَعَارُوهَا إِيَّاهُ, فَهُوَ مِمَّا ادَّعَيْنَا عَلَيْكُمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ بِزَعْمِكُمْ مَجْهُولًا لَا اسْمَ لَهُ حَتَّى أَحْدَثَ الْخَلْقَ فَأَحْدَثُوا لَهُ أَسْمَاءً مِنْ مَخْلُوقِ كَلَامِهِمْ, فَهَذَا هُوَ الْإِلْحَادُ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَالتَّكْذِيبُ بِهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الْفَاتِحَةِ: 2-4] كَمَا يُضِيفُهُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ, وَلَوْ كَانَ كَمَا ادَّعَيْتُمْ لَقِيلَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الْمُسَمَّى الرَّحْمَنَ الرَّحِيمَ مَالِكَ يَوْمِ الدِّينِ وَكَمَا قَالَ: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ، نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} [آلِ عِمْرَانَ: 2-3] كَمَا قَالَ: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ} [غافر: 2] كَذَلِكَ قَالَ: {تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} {تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} ، {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} [النَّمْلِ: 6] كُلُّهَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَكُلُّهَا هِيَ اللَّهُ, وَاللَّهُ هُوَ أَحَدُ أَسْمَائِهِ -إِلَى أَنْ قَالَ- وَكَمَا قَالَ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ: {أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} كَذَلِكَ قَالَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنَا الرَّحْمَنُ" ثُمَّ رَوَى بِسَنَدِهِ حَدِيثَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابن عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "أَنَا الرَّحْمَنُ وَهِيَ الرَّحِمُ شَقَقْتُ لَهَا مِنَ اسْمِي فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلْتُهُ وَمَنْ قَطَعَهَا بَتَتُّهُ"1 فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالِيَ:
"أَنَا شَقَقْتُ لَهَا مِنَ اسْمِي" وَادَّعَتِ الْجَهْمِيَّةُ مُكَذِّبِينَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ أَنَّهُمْ أَعَارُوهُ الِاسْمَ الَّذِي شَقَّهَا مِنْهُ. وَمِنْ أَيْنَ عَلِمَ الْخَلْقُ أَسْمَاءَ الْخَالِقِ قَبْلَ تَعْلِيمِهِ إِيَّاهُمْ فَإِنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ آدَمُ وَلَا الْمَلَائِكَةُ أَسْمَاءَ الْمَخْلُوقِينَ حَتَّى عَلَّمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ عِنْدِهِ وَكَانَ بَدْءُ عِلْمِهَا مِنْهُ فَقَالَ تَعَالَى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ، قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} [الْبَقَرَةِ: 31-33] وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا وَمَنْ أَحْصَاهَا وَحَفِظَهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ" 1 وَسَاقَ الْأَسْمَاءَ الْحُسْنَى كَمَا قَدَّمْنَا ثُمَّ قَالَ: فَهَذِهِ كُلُّهَا أَسْمَاءُ
معنى الحديث "إن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها وحفظها دخل الجنة"
اللَّهِ تَعَالَى لَمْ تَزَلْ لَهُ كَمَا لَمْ يَزَلْ بِأَيِّهَا دَعَوْتَ فَإِنَّمَا تَدْعُو اللَّهَ نَفْسَهُ. قَالَ: وَلَنْ يَدْخُلَ الْإِيمَانُ قَلْبَ رَجُلٍ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَزَلْ إِلَهًا وَاحِدًا بِجَمِيعِ أَسْمَائِهِ وَجَمِيعِ صِفَاتِهِ لَمْ يَحْدُثْ لَهُ مِنْهَا شَيْءٌ كَمَا لَمْ تَزَلْ وَحْدَانِيَّتُهُ 1. انْتَهَى كَلَامُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ أَحْصَاهَا" فَقَالَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ: مَعْنَاهُ حَفِظَهَا وَأَنَّ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ مُفَسِّرَةٌ لِلْأُخْرَى2. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: يَحْتَمِلُ وُجُوهًا: أَحَدُهَا أَنْ يَعُدَّهَا حَتَّى يَسْتَوْفِيَهَا بِمَعْنَى أَنْ لَا يَقْتَصِرَ عَلَى بَعْضِهَا فَيَدْعُوَ اللَّهَ بِهَا كُلِّهَا وَيُثْنِيَ عَلَيْهِ بِجَمِيعِهَا فَيَسْتَوْجِبَ الْمَوْعُودُ عَلَيْهَا مِنَ الثَّوَابِ, وَثَانِيهَا الْمُرَادُ بِالْإِحْصَاءِ الْإِطَاقَةُ وَالْمَعْنَى مَنْ أَطَاقَ الْقِيَامَ بِحَقِّ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ وَالْعَمَلَ بِمُقْتَضَاهَا وَهُوَ أَنْ يَعْتَبِرَ مَعَانِيَهَا فَيُلْزِمَ نَفْسَهُ بِمَوَاجِبِهَا فَإِذَا قَالَ: "الرَّزَّاقُ" وَثِقَ بِالرِّزْقِ وَكَذَا سَائِرُ الْأَسْمَاءِ, ثَالِثُهَا الْمُرَادُ بِهَا الْإِحَاطَةُ بِجَمِيعِ مَعَانِيهَا وَقِيلَ: أَحْصَاهَا عَمِلَ بِهَا فَإِذَا قَالَ: "الْحَكِيمُ" سَلَّمَ لِجَمِيعِ أَوَامِرِهِ وَأَقْدَارِهِ وَأَنَّهَا جَمِيعُهَا عَلَى مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ, وَإِذَا قَالَ: "الْقُدُّوسُ" اسْتَحْضَرَ كَوْنَهُ مُقَدَّسًا مُنَزَّهًا عن جميع النقائص وَاخْتَارَهُ أَبُو الْوَفَاءِ بْنُ عَقِيلٍ, وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: طَرِيقُ الْعَمَلِ بِهَا أَنَّ مَا كَانَ يُسَوِّغُ الِاقْتِدَاءَ بِهِ كَالرَّحِيمِ وَالْكَرِيمِ فَيُمَرِّنُ الْعَبْدُ نَفْسَهُ عَلَى أَنْ يَصِحَّ لَهُ الِاتِّصَافُ بِهَا -يَعْنِي فِيمَا يَقُومُ بِهِ- وَمَا كَانَ يَخْتَصُّ بِهِ نَفْسَهُ كَالْجَبَّارِ وَالْعَظِيمِ فَعَلَى الْعَبْدِ الْإِقْرَارُ بِهَا وَالْخُضُوعُ لَهَا وَعَدَمُ التَّحَلِّي بِصِفَةٍ مِنْهَا وَمَا كَانَ فِيهِ مَعْنَى الْوَعْدِ يَقِفُ فِيهِ عِنْدَ الطَّمَعِ وَالرَّغْبَةِ وَمَا كَانَ فِيهِ مَعْنَى الْوَعِيدِ يَقِفُ مِنْهُ عِنْدَ الْخَشْيَةِ وَالرَّهْبَةِ ا. هـ.3 وَالظَّاهِرُ أَنَّ معنى حفظها وإحصائها هُوَ مَعْرِفَتُهَا وَالْقِيَامُ بِعُبُودِيَّتِهَا كَمَا أَنَّ الْقُرْآنَ لَا يَنْفَعُ حِفْظُ أَلْفَاظِهِ مَنْ لَا يَعْمَلُ بِهِ, بَلْ جَاءَ فِي الْمُرَّاقِ مِنَ الدِّينِ أَنَّهُمْ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ كَلَامٍ طويل على أولية اللَّهِ تَعَالَى وَمَا فِي ذَلِكَ الشُّهُودِ مِنَ الْغِنَى التَّامِّ قَالَ: وَلَيْسَ هَذَا مُخْتَصًّا بِأَوَّلِيَّتِهِ تَعَالَى فَقَطْ بَلْ جَمِيعُ مَا يَبْدُو لِلْقُلُوبِ مِنْ صِفَاتِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ يَسْتَغْنِي الْعَبْدُ بِهَا بِقَدْرِ حَظِّهِ وَقِسْمِهِ مِنْ مَعْرِفَتِهَا وَقِيَامِهِ بِعُبُودِيَّتِهَا, فَمَنْ شَهِدَ مَشْهَدَ عُلُوِّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى خَلْقِهِ وَفَوْقِيَّتِهِ لِعِبَادِهِ وَاسْتِوَائِهِ عَلَى عَرْشِهِ كَمَا أَخْبَرَ بِهَا أَعْرَفُ الْخَلْقِ وَأَعْلَمُهُمْ بِهِ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ وَتَعَبَّدَ بِمُقْتَضَى هَذِهِ الصِّفَةِ, بِحَيْثُ يَصِيرُ لِقَلْبِهِ صَمَدٌ يَعْرُجُ إِلَيْهِ مُنَاجِيًا لَهُ مُطْرِقًا وَاقِفًا بَيْنَ يَدَيْهِ وُقُوفَ الْعَبْدِ الذَّلِيلِ بَيْنَ يَدَيِ الْمَلِكِ الْعَزِيزِ, فَيَشْعُرُ بِأَنَّ كَلِمَهُ وَعِلْمَهُ صَاعِدٌ إِلَيْهِ مَعْرُوضٌ عَلَيْهِ مَعَ أَوْفَى خَاصَّتِهِ وَأَوْلِيَائِهِ فَيَسْتَحِي أَنْ يَصْعَدَ إِلَيْهِ مِنْ كَلِمِهِ مَا يُخْزِيهِ وَيَفْضَحُهُ هُنَاكَ وَيَشْهَدُ نُزُولَ الْأَمْرِ وَالْمَرَاسِيمِ الْإِلَهِيَّةِ إِلَى أَقْطَارِ الْعَوَالِمِ كُلَّ وَقْتٍ بِأَنْوَاعِ التَّدْبِيرِ وَالتَّصَرُّفِ مِنَ الْإِمَاتَةِ وَالْإِحْيَاءِ وَالتَّوْلِيَةِ وَالْعَزْلِ وَالْخَفْضِ وَالرَّفْعِ وَالْعَطَاءِ وَالْمَنْعِ وَكَشْفِ الْبَلَاءِ وَإِرْسَالِهِ وَتَقَلُّبِ الدُّوَلِ وَمُدَاوَلَةِ الْأَيَّامِ بَيْنَ النَّاسِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ فِي الْمَمْلَكَةِ الَّتِي لَا يَتَصَرَّفُ فِيهَا سِوَاهُ فَمَرَاسِيمُهُ نَافِذَةٌ فِيهَا كَمَا يَشَاءُ: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [السَّجْدَةِ: 5] فَمَنْ أَعْطَى هَذَا الْمَشْهَدَ حَقَّهُ مَعْرِفَةً وَعُبُودِيَّةً اسْتَغْنَى بِهِ. وَكَذَلِكَ مَنْ شَهِدَ مَشْهَدَ الْعِلْمِ الْمُحِيطِ الَّذِي لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ ولا في السموات وَلَا فِي قَرَارِ الْبِحَارِ وَلَا تَحْتَ أَطْبَاقِ الْجِبَالِ بَلْ أَحَاطَ بِذَلِكَ عِلْمُهُ عِلْمًا تَفْصِيلِيًّا ثُمَّ تَعَبَّدَ بِمُقْتَضَى هَذَا الشُّهُودِ مِنْ حراسة خواطره وإراداته وَجَمِيعِ أَحْوَالِهِ وَعَزَمَاتِهِ وَجَوَارِحِهِ عَلِمَ أَنَّ حَرَكَاتِهِ الظَّاهِرَةَ والباطنة وخواطره وإراداته وَجَمِيعُ أَحْوَالِهِ ظَاهِرَةٌ مَكْشُوفَةٌ لَدَيْهِ عَلَانِيَةً بَادِيَةٌ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهَا شَيْءٌ. وَكَذَلِكَ إِذَا أَشْعَرَ قَلْبَهُ صِفَةَ سَمْعِهِ سُبْحَانَهُ لِأَصْوَاتِ عِبَادِهِ عَلَى اخْتِلَافِهَا وَجَهْرِهَا وَخَفَائِهَا وَسَوَاءٌ عِنْدَهُ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ لا يشغله حهر مَنْ جَهَرَ عَنْ سَمْعِهِ صَوْتَ مَنْ أَسَرَّ وَلَا يَشْغَلُهُ سَمْعٌ عَنْ سَمْعٍ وَلَا تُغَلِّطُهُ الْأَصْوَاتُ عَلَى كَثْرَتِهَا واختلافها واجتماعها بل هي عِنْدَهُ كُلُّهَا كَصَوْتٍ وَاحِدٍ كَمَا أَنَّ خَلْقَ الْخَلْقِ جَمِيعِهِمْ وَبَعْثَهُمْ عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ. وَكَذَلِكَ إِذَا شَهِدَ مَعْنَى اسْمِهِ الْبَصِيرِ جَلَّ جَلَالُهُ الَّذِي يَرَى دَبِيبَ النَّمْلَةِ السَّوْدَاءِ عَلَى الصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ فِي حِنْدِسِ الظَّلْمَاءِ وَيَرَى تَفَاصِيلَ خَلْقِ الذَّرَّةِ الصَّغِيرَةِ وَمُخَّهَا وَعُرُوقَهَا وَلَحْمَهَا وَحَرَكَتِهَا وَيَرَى مَدَّ الْبَعُوضَةِ
جَنَاحَهَا فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ وَأَعْطَى هَذَا الْمَشْهَدَ حَقَّهُ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ بِحَرْسِ حَرَكَاتِهِ وَسَكَنَاتِهِ وَتَيَقَّنَ أَنَّهَا بِمَرْأًى مِنْهُ سُبْحَانَهُ وَمُشَاهَدَةٍ لَا يَغِيبُ عَنْهُ مِنْهَا شَيْءٌ. وَكَذَلِكَ إِذَا شَهِدَ مَشْهَدَ الْقَيُّومِيَّةِ الْجَامِعَ لِصِفَاتِ الْأَفْعَالِ وَأَنَّهُ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَقَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ. وَأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْقَائِمُ بِنَفْسِهِ الْمُقِيمُ لِغَيْرِهِ الْقَائِمُ عَلَيْهِ بِتَدْبِيرِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ وَقَهْرِهِ وَإِيصَالِ جَزَاءِ الْمُحْسِنِ وَجَزَاءِ الْمُسِيءِ إليه وأنه بكمال قَيُّومِيَّتِهِ لَا يَنَامُ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ, يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ وَلَا يَضِلُّ وَلَا يَنْسَى. وَهَذَا الْمَشْهَدُ مِنْ أَرْفَعِ مَشَاهِدِ الْعَارِفِينَ وَهُوَ مَشْهَدُ الرُّبُوبِيَّةِ وَأَعْلَى مِنْهُ مَشْهَدُ الْإِلَهِيَّةِ الَّذِي هُوَ مَشْهَدُ الرُّسُلِ وَأَتْبَاعِهِمُ الْحُنَفَاءِ وَهُوَ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ إِلَهِيَّةَ مَا سِوَاهُ بَاطِلٌ وَمُحَالٌ كَمَا أَنَّ رُبُوبِيَّةَ مَا سِوَاهُ كَذَلِكَ فَلَا أحد سواه يسحق أَنْ يُؤَلَّهَ وَيُعْبَدَ وَيُصَلَّى لَهُ وَيُسْجَدَ وَيَسْتَحِقَّ نِهَايَةَ الْحُبِّ مَعَ نِهَايَةِ الذُّلِّ لِكَمَالِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ. فَهُوَ الْمُطَاعُ وَحْدَهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَالْمَأْلُوهُ وَحْدَهُ وَلَهُ الْحُكْمُ فَكُلُّ عُبُودِيَّةٍ لِغَيْرِهِ بَاطِلَةٌ وَعَنَاءٌ وَضَلَالٌ وَكُلُّ مَحَبَّةٍ لِغَيْرِهِ عَذَابٌ لِصَاحِبِهَا وَكُلُّ غِنًى بِغَيْرِهِ فَقْرٌ وَفَاقَةٌ, وَكُلُّ عِزٍّ بِغَيْرِهِ ذُلٌّ وَصَغَارٌ وَكُلُّ تَكَثُّرٍ بِغَيْرِهِ قِلَّةٌ وَذِلَّةٌ, فَكَمَا اسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ لِلْخَلْقِ رَبٌّ غَيْرُهُ فَكَذَلِكَ اسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُهُ, فَهُوَ الَّذِي انْتَهَتْ إِلَيْهِ الرَّغَبَاتُ وَتَوَجَّهَتْ نَحْوَهُ الطَّلَبَاتُ وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ إِلَهٌ آخَرُ فَإِنَّ الْإِلَهَ عَلَى الْحَقِيقَةِ هُوَ الْغَنِيُّ الصَّمَدُ الْكَامِلُ فِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ الَّذِي حَاجَةُ كُلِّ أَحَدٍ إِلَيْهِ وَلَا حَاجَةَ بِهِ إِلَى أَحَدٍ وَقِيَامُ كُلِّ شَيْءٍ بِهِ وَلَيْسَ قِيَامُهُ بِغَيْرِهِ -إِلَى أَنْ قَالَ- فَمَشْهَدُ الْأُلُوهِيَّةِ هُوَ مَشْهَدُ الْحُنَفَاءِ وَهُوَ مَشْهَدٌ جَامِعٌ لِلْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَحَظُّ الْعِبَادِ مِنْهُ بِحَسَبِ حَظِّهِمْ مِنْ مَعْرِفَةِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ, وَلِذَلِكَ كَانَ الِاسْمُ الدَّالُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى هُوَ اسْمَ اللَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ فَإِنَّ هَذَا الِاسْمَ هُوَ الْجَامِعُ وَلِهَذَا تُضَافُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى كُلُّهَا إِلَيْهِ فَيُقَالُ: الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ الْقَهَّارُ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ وَلَا يُقَالُ: اللَّهُ مِنْ أَسْمَاءِ الرَّحْمَنِ, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} فَهَذَا الْمَشْهَدُ تَجْتَمِعُ فِيهِ الْمَشَاهِدُ كُلُّهَا وَكُلُّ مَشْهَدٍ سِوَاهُ فَإِنَّمَا هُوَ مَشْهَدٌ لِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ فَمَنِ اتَّسَعَ قَلْبُهُ لِمَشْهَدِ الْإِلَهِيَّةِ وَقَامَ بِحَقِّهِ مِنَ التَّعَبُّدِ الَّذِي هُوَ كَمَالُ الْحُبِّ مَعَ كَمَالِ الذُّلِّ وَالتَّعْظِيمِ وَالْقِيَامِ بِوَظَائِفِ الْعُبُودِيَّةِ فَقَدْ تَمَّ لَهُ غِنَاهُ بِالْإِلَهِ الْحَقِّ وَصَارَ
تفسير الآية {وذروا الذين يلحدون في أسمائه}
مِنْ أَغْنَى الْعِبَادِ وَلِسَانٌ مِثْلُ هَذَا يَقُولُ: غَنِيتُ بِلَا مَالٍ عَنِ النَّاسِ كُلِّهِمْ ... وَإِنَّ الْغِنَى الْعَالِيَ عَنِ الشَّيْءِ لَا بِهِ ا. هـ.1. [تَفْسِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} ] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} [الْأَعْرَافِ: 180] قَالَ ابْنُ عباس وابن جريح وَمُجَاهِدٌ: هُمُ الْمُشْرِكُونَ عَدَلُوا بِأَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى عَمَّا هِيَ عَلَيْهِ فَسَمَّوْا بِهَا أَوْثَانَهُمْ فَزَادُوا وَنَقَصُوا, فَاشْتَقُّوا اللَّاتَ مِنَ اللَّهِ وَالْعُزَّى مِنَ الْعَزِيزِ وَمَنَاةَ مِنَ الْمَنَّانِ2. وَقِيلَ هِيَ تَسْمِيَتُهُمُ الْأَصْنَامَ آلِهَةً3، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ أَيْ: يُكَذِّبُونَ4. وَقَالَ قَتَادَةُ يُلْحِدُونَ يُشْرِكُونَ فِي أَسْمَائِهِ5. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْإِلْحَادُ التَّكْذِيبُ6، وَأَصْلُ الْإِلْحَادِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْعُدُولُ عَنِ الْقَصْدِ وَالْمَيْلُ وَالْجَوْرُ وَالِانْحِرَافُ وَمِنْهُ اللَّحْدُ فِي الْقَبْرِ لِانْحِرَافِهِ إِلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ عَنْ سِمَةِ الْحَفْرِ ا. هـ. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ مُتَقَارِبَةٌ وَالْإِلْحَادُ يَعُمُّهَا وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: الْأَوَّلُ: إِلْحَادُ الْمُشْرِكِينَ وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَمُجَاهِدٌ مِنْ عُدُولِهِمْ بِأَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى عَمَّا هِيَ عَلَيْهِ وَتَسْمِيَتِهِمْ أَوْثَانَهُمْ بِهَا مُضَاهَاةً لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمُشَاقَّةً لَهُ وَلِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الثَّانِي: إِلْحَادُ الْمُشَبِّهَةِ الَّذِينَ يُكَيِّفُونَ صِفَاتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَيُشَبِّهُونَهَا بِصِفَاتِ خَلْقِهِ مُضَادَّةً لَهُ تَعَالَى وَرَدًّا لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} وَهُوَ مُقَابِلٌ لِإِلْحَادِ الْمُشْرِكِينَ فَأُولَئِكَ جَعَلُوا الْمَخْلُوقَ بِمَنْزِلَةِ الْخَالِقِ وَسَوَّوْهُ بِهِ وَهَؤُلَاءِ جَعَلُوا الْخَالِقَ بِمَنْزِلَةِ الْأَجْسَامِ الْمَخْلُوقَةِ وَشَبَّهُوهُ بِهَا تَعَالَى وَتَقَدَّسَ عَنْ إِفْكِهِمْ.
إثبات صفات الله التي وصف بها نفسه ووصفه بها نبيه
الثَّالِثُ: إِلْحَادُ النُفَاةِ وَهُمْ قِسْمَانِ: قِسْمٌ أَثْبَتُوا أَلْفَاظَ أَسْمَائِهِ تَعَالَى دُونَ مَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ فَقَالُوا: رَحْمَنٌ رَحِيمٌ بِلَا رَحْمَةٍ عَلِيمٌ بِلَا عِلْمٍ حَكِيمٌ بِلَا حِكْمَةٍ قَدِيرٌ بِلَا قُدْرَةٍ سَمِيعٌ بِلَا سَمْعٍ بَصِيرٌ بِلَا بَصَرٍ, وَاطَّرَدُوا بَقِيَّةَ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى هَكَذَا وَعَطَّلُوهَا عَنْ مَعَانِيهَا وَمَا تَقْتَضِيهِ وَتَتَضَمَّنُهُ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ لِلَّهِ تَعَالَى, وَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ كَمَنْ بَعْدَهُمْ وَإِنَّمَا أَثْبَتُوا الْأَلْفَاظَ دُونَ الْمَعَانِي تَسَتُّرًا وَهُوَ لَا يَنْفَعُهُمْ. وَقِسْمٌ لَمْ يَتَسَتَّرُوا بِمَا تَسَتَّرَ بِهِ إِخْوَانُهُمْ بَلْ صَرَّحُوا بِنَفْيِ الْأَسْمَاءِ وَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَعَانِي وَاسْتَرَاحُوا مِنْ تَكَلُّفِ أُولَئِكَ وَصَفُوا اللَّهَ تَعَالَى بِالْعَدَمِ الْمَحْضِ الَّذِي لَا اسْمَ لَهُ وَلَا صِفَةَ وَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ جَاحِدُونَ لِوُجُودِ ذَاتِهِ تَعَالَى مُكَذِّبُونَ بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلَ اللَّهُ بِهِ رُسُلَهُ. وَكُلُّ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ الْأَقْسَامِ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ يُكَفِّرُ مُقَابِلَهُ, وَهُمْ كَمَا قَالُوا كُلُّهُمْ كَفَّارٌ بِشَهَادَةِ اللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَالْإِثْبَاتِ, الْوَاقِفِينَ مَعَ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ رَسُولِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. "صِفَاتُهُ الْعُلَى" أَيْ: وَإِثْبَاتُ صِفَاتِهِ الْعُلَى الَّتِي وَصَفَ بِهَا نَفْسَهُ تَعَالَى وَوَصَفَهُ بِهَا نَبِيُّهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ, وَنُعُوتِ الْجَلَالِ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ, وَصِفَاتِ الْأَفْعَالِ, مِمَّا تَضَمَّنَتْهُ أَسْمَاؤُهُ بِالِاشْتِقَاقِ, كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْحِكْمَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْعِزَّةِ وَالْعُلُوِّ وَغَيْرِهَا, وَمِمَّا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ وَأَخْبَرَ بِهَا عَنْهُ رَسُولُهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلَمْ يَشْتَقَّ مِنْهُ اسْمًا كَحُبِّهِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُتَّقِينَ وَالْمُحْسِنِينَ وَرِضَائِهِ عَنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَرِضَاهُ لَهُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا, وَكَرَاهَتِهِ انْبِعَاثَ الْمُنَافِقِينَ وَسُخْطِهِ عَلَى الْكَافِرِينَ وَغَضَبِهِ عَلَيْهِمْ وَإِثْبَاتِ وَجْهِهِ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ وَيَدَيْهِ الْمَبْسُوطَتَيْنِ بِالْإِنْفَاقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ ثَابِتٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْفِطَرِ السَّلِيمَةِ, وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى مَا ذُكِرَ مِنْ ذَلِكَ فِي الْمَتْنِ فِي مَحَلِّهِ وَمَا لَمْ يُذْكَرْ فِي الْمَتْنِ فَفِي خَاتِمَةِ الْكِتَابِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى. إِثْبَاتُ رُبُوبِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى: وَأَنَّهُ الرَّبُّ الْجَلِيلُ الْأَكْبَرُ ... الْخَالِقُ الْبَارِي وَالْمُصَوِّرُ
الأول بلا ابتداء، والآخر بلا انتهاء
بَارِي الْبَرَايَا مُنْشِئُ الْخَلَائِقِ ... مُبْدِعُهُمْ بِلَا مِثَالٍ سَابِقِ "وَأَنَّهُ الرَّبُّ" أَيْ: وَإِثْبَاتُ رُبُوبِيَّتِهِ بِأَنَّهُ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ, رَبُّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ المغربين, رب السموات وَالْأَرَضِينَ وَمَا بَيْنَهُمَا, رَبُّ الْعَالَمِينَ رَبُّ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى, مَالِكُ الْمُلْكِ فَلَا شَرِيكَ لَهُ فِي مُلْكِهِ, يُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ يَشَاءُ وَيَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ يَشَاءُ, وَيُعِزُّ مَنْ يَشَاءُ وَيُذِلُّ مَنْ يَشَاءُ, وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ, وَيُسْعِدُ مَنْ يَشَاءُ وَيُشْقِي مَنْ يَشَاءُ, وَيَخْفِضُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْفَعُ مَنْ يَشَاءُ, وَيُعْطِي مَنْ يَشَاءُ وَيَمْنَعُ مَنْ يَشَاءُ, وَيَصِلُ مَنْ يَشَاءُ وَيَقْطَعُ مَنْ يَشَاءُ, وَيَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ, يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا, إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ, يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ, وَيُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ, وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى, يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ, خَلَقَ فَسَوَّى وَقَدَّرَ فَهَدَى, وَأَضْحَكَ وَأَبْكَى, وَأَمَاتَ وَأَحْيَا, وَخَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى, وَأَغْنَى وَأَقْنَى وَأَوْجَدَ وَأَفْنَى, يُبْدِي وَيُعِيدُ وَيَفْعَلُ مَا يُرِيدُ, رَفَعَ سَمْكَ السَّمَاءِ فَسَوَّاهَا وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا, وَبَسَطَ الْأَرْضَ وَدَحَاهَا فِرَاشًا لِعِبَادِهِ وَمِهَادًا, وَنَصَبَ الْجِبَالَ عَلَيْهَا أَوْتَادًا, سَخَّرَ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ, وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ, فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا, لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ, وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ, الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ, وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ, وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ, خَالِقُ الْكَوْنِ وَمَا فِيهِ وَجَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ, مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ, وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا, وَأَسْبَغَ عَلَى عِبَادِهِ نِعَمَهُ الظَّاهِرَةَ وَالْبَاطِنَةَ, وَجَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا, عَلِمَ وَأَلْهَمَ وَدَبَّرَ فَأَحْكَمَ وَقَضَى فَأَبْرَمَ لَا رَادَّ لِقَضَائِهِ وَلَا مُضَادَّ لِأَمْرِهِ وَلَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ, وَلَا شَرِيكَ لَهُ فِي مُلْكِهِ
وَلَا إِلَهَ غَيْرُهُ, وَلَا رَبَّ سِوَاهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ, وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ. "الْجَلِيلُ" أَيِ: الْمُتَّصِفُ بِجَمِيعِ نُعُوتِ الْجَلَالِ وَصِفَاتِ الْكَمَالِ, الْمُنَزَّهُ عَنِ النَّقَائِصِ وَالْمُحَالِ, الْمُتَعَالِي عَلَى الْأَشْبَاهِ وَالْأَمْثَالِ, لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَالصِّفَاتُ الْعُلَى وَالْمَثَلُ الْأَعْلَى, وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَالْأُولَى. "الأكبر" الذي السموات وَالْأَرْضُ وَمَا فِيهِنَّ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي كَفِّهِ كَخَرْدَلَةٍ فِي كَفِّ آحَادِ عِبَادِهِ, لَهُ الْعَظَمَةُ وَالْكِبْرِيَاءُ وَهُوَ أَكْبَرُ كُلِّ شَيْءٍ, شَهَادَةً لَا مُنَازِعَ لَهُ فِي عَظَمَتِهِ وَكِبْرِيَائِهِ, وَلَا يَنْبَغِي الْعَظَمَةُ وَالْكِبْرِيَاءُ إِلَّا لَهُ, وَمَنْ نَازَعَهُ فِي صِفَةٍ مِنْهُمَا أَذَاقَهُ عَذَابَهُ وَأَحَلَّ عَلَيْهِ غَضَبَهُ وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبُهُ فَقَدْ هَوَى. "الْخَالِقُ" أَيِ: الْمُقَدِّرُ وَالْمُقَلِّبُ لِلشَّيْءِ بِالتَّدْبِيرِ إِلَى غَيْرِهِ, كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ} [الزُّمَرِ: 6] وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} [الْحَجِّ: 5] الْآيَةَ. قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 12-14] وَقَالَ تَعَالَى: {أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا} [مَرْيَمَ: 67] وَقَالَ تَعَالَى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الْأَنْعَامِ: 1] وَقَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} فَاللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى الْخَالِقُ وَكُلُّ مَا سِوَاهُ مَخْلُوقٌ لَهُ, مَرْبُوبٌ لَهُ, لَا خَالِقَ غيره, فجميع السموات وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ وَمَا بَيْنَهُمَا وَحَرَكَاتُ أَهْلِهَا وَسَكَنَاتُهُمْ وَأَرْزَاقُهُمْ وَآجَالُهُمْ وَأَقْوَالُهُمْ وَأَعْمَالُهُمْ كُلُّهَا مَخْلُوقَاتٌ لَهُ مُحْدَثَةٌ كَائِنَةٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ, وَهُوَ خَالِقُ ذَلِكَ كُلِّهِ وَمُوجِدُهُ وَمُبْدَئُهُ ومعيده, فمنه مبدأها وَإِلَيْهِ مُنْتَهَاهَا {أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} [الشُّورَى: 53] .
"الْبَارِئُ" أَيِ: الْمُنْشِئُ لِلْأَعْيَانِ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ وَالْبَرْءُ هُوَ الْفَرْيُ وَهُوَ التَّنْفِيذُ وَإِبْرَازُ مَا قَدَّرَهُ وَقَرَّرَهُ إِلَى الْوُجُودِ, وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ قَدَّرَ شَيْئًا وَرَتَّبَهُ يَقْدِرُ عَلَى تَنْفِيذِهِ وَإِيجَادِهِ سِوَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَمَا قِيلَ: وَلَأَنْتَ تَفْرِي مَا خَلَقْتَ وَبَعْضُ الْقَوْمِ يَخْلُقُ ثُمَّ لَا يَفْرِي. أَيْ: أَنْتَ تُنَفِّذُ مَا خَلَقْتَ أَيْ: قَدَّرْتَ بِخِلَافِ غَيْرِكَ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ كُلَّ مَا يُرِيدُ, فَالْخَلْقُ التَّقْدِيرُ, وَالْفَرْيُ التَّنْفِيذُ. "الْمُصَوِّرُ" الْمُمَثِّلُ لِلْمَخْلُوقَاتِ بِالْعَلَامَاتِ الَّتِي يَتَمَيَّزُ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ, أَيِ: الَّذِي يُنَفِّذُ مَا يُرِيدُ إِيجَادَهُ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي يُرِيدُهَا, يُقَالُ: هَذِهِ صُورَةُ الْأَمْرِ أَوْ مِثَالُهُ, فَأَوَّلًا يَكُونُ خَلْقًا ثُمَّ بَرْءًا ثُمَّ تَصْوِيرًا, وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ الْأَسْمَاءِ الَّتِي فِي سُورَةِ الْحَشْرِ فِي خَاتِمَتِهَا {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: أَيِ: الَّذِي إِذَا أَرَادَ شَيْئًا قَالَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي يُرِيدُ وَالصُّورَةِ الَّتِي يَخْتَارُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الِانْفِطَارِ: 8] . "بَارِي الْبَرَايَا" جَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ "مُنْشِئُ الْخَلَائِقِ" أَيْ: جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ "مُبْدِعُهُمْ" أَيْ: خَالِقُهُمْ وَمُنْشِئُهُمْ وَمُحْدِثُهُمْ, يُفَسِّرُ ذَلِكَ "بِلَا مِثَالٍ سَابِقِ" أَيْ: بِلَا نَظِيرٍ سَالِفٍ وَمِنْهُ سُمِّيَتِ الْبِدْعَةُ بِدْعَةً؛ لِأَنَّهَا عَلَى غير مثال سبق فِي الشَّرْعِ, وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الْبَقَرَةِ: 117] أَيْ: مُحْدِثُهَا وَمُوجِدُهَا عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَبَقَ. وَهَذَا مُفَسِّرٌ لِلْبَيْتِ الَّذِي قَبْلَهُ, وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. الْأَوَّلُ الْمُبْدِي بِلَا ابْتِدَاءِ ... وَالْآخِرُ الْبَاقِي بِلَا انْتِهَاءِ "الْأَوَّلُ" فَلَيْسَ قَبْلَهُ شَيْءٌ "الْمُبْدِئُ" الَّذِي يُبْدِئُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ "بِلَا ابْتِدَاءِ" لِأَوَّلِيَّتِهِ تَعَالَى "وَالْآخِرُ" فَلَيْسَ بَعْدَهُ شَيْءٌ "الْبَاقِي" وَكُلُّ مَا سِوَاهُ فَانٍ "بِلَا انْتِهَاءِ" لِآخِرِيَّتِهِ تَعَالَى, قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الْحَدِيدِ: 3] وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [يُونُسَ: 34] وَقَالَ تَعَالَى: {أَوَلَمْ
يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ، قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الْعَنْكَبُوتِ: 19-20] وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوكُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الْقَصَصِ: 88] وَقَالَ تَعَالَى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ، وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُوالْجَلالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرَّحْمَنِ: 26-27] وَقَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غَافِرٍ: 16] وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اللهم رب السموات السَّبْعِ وَرَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ, رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ فَالِقَ الْحَبِّ وَالنَّوَى مُنْزِلَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ, أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ كُلِّ دَابَّةٍ أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا, أَنْتَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ وَأَنْتَ الْآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ, وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ, اقْضِ عَنِّي الدَّيْنَ وَأَغْنِنِي مِنَ الْفَقْرِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ1. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضى الله عنهما قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَعَقَلْتُ نَاقَتِي بِالْبَابِ فَأَتَاهُ نَاسٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ فَقَالَ: "اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا بَنِي تَمِيمٍ" قَالُوا: قَدْ بَشَّرْتَنَا فَأَعْطِنَا. مَرَّتَيْنِ. ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهِ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ فَقَالَ: "اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا أَهْلَ الْيَمَنِ إِذْ لَمْ يَقْبَلْهَا بَنُو تَمِيمٍ" قَالُوا: قَبِلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ, قَالُوا: جِئْنَاكَ نَسْأَلُكَ عَنْ أَوَّلِ هَذَا الْأَمْرِ قَالَ: "كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ غَيْرُهُ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شيء وخلق السموات وَالْأَرْضَ" 2 الْحَدِيثَ, وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَامَ فِينَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَقَامًا فَأَخْبَرَنَا عَنْ
بَدْءِ الْخَلْقِ حَتَّى دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ مُنَازِلَهُمْ وَأَهْلُ النَّارِ مُنَازِلَهُمْ, حَفِظَ ذَلِكَ مَنْ حَفِظَهُ وَنَسِيَهُ مَنْ نَسِيَهُ, رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ1. وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: "أَنَّهُ تعالى يطوي السموات بِيَدِهِ ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ أَنَا الْمَلِكُ أَنَا الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ أَيْنَ مُلُوكُ الْأَرْضِ أَيْنَ الْجَبَّارُونَ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ" 2. وَفِي حَدِيثِ الصُّورِ: "أَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا قَبَضَ أَرْوَاحَ جَمِيعِ خلقه فلم يبقى سِوَاهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ حِينَئِذٍ يَقُولُ: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ -ثَلَاثَ مَرَّاتٍ- ثُمَّ يُجِيبُ نَفْسَهُ قَائِلًا: "لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ""3 أَيِ: الَّذِي هُوَ وَحْدَهُ قَدْ قَهَرَ كُلَّ شَيْءٍ وَغَلَبَهُ. وَلِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "يُنَادِي مُنَادٍ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ فَيَسْمَعُهُ الْأَحْيَاءُ وَالْأَمْوَاتُ, قَالَ: وَيَنْزِلُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَيَقُولُ: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ؟ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ4.
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي أَثْنَاءِ كَلَامِهِ عَلَى هَذِهِ الْأَسْمَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَهِيَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ: هِيَ أَرْكَانُ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ, فَحَقِيقٌ بِالْعَبْدِ أَنْ يَبْلُغَ فِي مَعْرِفَتِهَا إِلَى حَيْثُ يَنْتَهِي بِهِ قُوَاهُ وَفَهْمُهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ لَكَ أَنْتَ أَوَّلًا وَآخِرًا وَظَاهِرًا وَبَاطِنًا بَلْ كُلُّ شَيْءٍ فَلَهُ أَوَّلٌ وَآخِرٌ وَظَاهِرٌ وَبَاطِنٌ, حَتَّى الْخَطْرَةُ وَاللَّحْظَةُ وَالنَّفَسُ وَأَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَأَكْثَرُ, فَأَوَّلِيَّةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ سَابِقَةٌ عَلَى أَوَّلِيَّةِ كُلِّ مَا سِوَاهُ, وَآخِرِيَّتُهُ ثَابِتَةٌ بَعْدَ آخِرِيَّةِ كُلِّ مَا سِوَاهُ, فَأَوَّلِيَّتُهُ سَبْقُهُ لِكُلِّ شَيْءٍ, وَآخِرِيَّتُهُ بَقَاؤُهُ بَعْدَ كُلِّ شَيْءٍ, وَظَاهِرِيَّتُهُ سُبْحَانَهُ فَوْقِيَّتُهُ وَعُلُوُّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ, وَمَعْنَى الظُّهُورِ يَقْتَضِي الْعُلُوَّ, وَظَاهِرُ الشَّيْءِ هُوَ مَا عَلَا مِنْهُ وَأَحَاطَ بِبَاطِنِهِ, وَبُطُونِهِ سُبْحَانَهُ إِحَاطَتُهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بِحَيْثُ يَكُونُ أَقْرَبَ إِلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ, وَهَذَا قُرْبٌ غَيْرُ قُرْبِ الْمُحِبِّ مِنْ حَبِيبِهِ, هَذَا لَوْنٌ وَهَذَا لَوْنٌ, فَمَدَارُ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى الْإِحَاطَةِ وَهِيَ إِحَاطَتَانِ زَمَانِيَّةٌ وَمَكَانِيَّةٌ, فَإِحَاطَةُ أَوَّلِيَّتِهِ وَآخِرِيَّتِهِ بِالْقَبْلِ وَالْبَعْدِ, فَكُلُّ سَابِقٍ انْتَهَى إِلَى أَوَّلِيَّتِهِ وَكُلُّ آخِرٍ انْتَهَى إِلَى آخِرِيَّتِهِ, فَأَحَاطَتْ أَوَّلِيَّتُهُ وَآخِرِيَّتُهُ بِالْأَوَائِلِ وَالْأَوَاخِرِ, وَأَحَاطَتْ ظَاهِرِيَّتُهُ وَبَاطِنِيَّتُهُ بِكُلِّ ظَاهِرٍ وَبَاطِنٍ, فَمَا مِنْ ظَاهِرٍ إِلَّا وَاللَّهُ فَوْقَهُ وَمَا مِنْ بَاطِنٍ إِلَّا وَاللَّهُ دُونَهُ, وَمَا مِنْ أَوَّلٍ إِلَّا وَاللَّهُ قَبْلَهُ وَمَا مِنْ آخِرٍ إِلَّا وَاللَّهُ بَعْدَهُ, فَالْأَوَّلُ قِدَمُهُ وَالْآخِرُ دَوَامُهُ وَبَقَاؤُهُ, وَالظَّاهِرُ عُلُوُّهُ وَعَظَمَتُهُ وَالْبَاطِنُ قُرْبُهُ وَدُنُوُّهُ, فَسَبَقَ كُلَّ شَيْءٍ بِأَوَّلِيَّتِهِ وَبَقِيَ بَعْدَ كُلِّ شَيْءٍ بِآخِرِيَّتِهِ وَعَلَا عَلَى كُلِّ شَيْءٍ بِظُهُورِهِ وَدَنَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ بِبُطُونِهِ, فَلَا تُوَارِي مِنْهُ سَمَاءٌ سَمَاءً وَلَا أَرْضٌ أَرْضًا, وَلَا يَحْجُبُ عَنْهُ ظَاهِرٌ بَاطِنًا بَلِ الْبَاطِنُ لَهُ ظَاهِرٌ وَالْغَيْبُ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ, وَالْبَعِيدُ مِنْهُ قَرِيبٌ وَالسِّرُّ عِنْدَهُ عَلَانِيَةٌ, فَهَذِهِ الْأَسْمَاءُ الْأَرْبَعَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى أَرْكَانِ التَّوْحِيدِ فَهُوَ الْأَوَّلُ فِي آخِرِيَّتِهِ وَالْآخِرُ فِي أَوَّلِيَّتِهِ وَالظَّاهِرُ فِي بُطُونِهِ وَالْبَاطِنُ فِي ظُهُورِهِ لَمْ يَزَلْ أَوَّلًا وَآخِرًا وَظَاهِرًا وَبَاطِنًا. ثُمَّ سَاقَ الْكَلَامَ عَلَى التَّعَبُّدِ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ فَشَفَى وَكَفَى رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى1، وَلَكِنْ قَدْ أَحَاطَ بِذَلِكَ الْمَعْنَى تَفْسِيرُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُتَقَدِّمِ قَرِيبًا بِأَوْجَزِ عِبَارَةٍ وَأَخْصَرِهَا فَسُبْحَانَ مَنْ خَصَّهُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الأحد الفرد في إلهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته
الْأَحَدُ الْفَرْدُ الْقَدِيرُ الْأَزَلِي ... الصَّمَدُ الْبَرُّ الْمُهَيْمِنُ الْعَلِي عُلُوَّ قَهْرٍ وَعُلُوَّ الشَّأْنِ ... جَلَّ عَنِ الْأَضْدَادِ وَالْأَعْوَانِ كَذَا لَهُ الْعُلُوُّ وَالْفَوْقِيَّهْ ... عَلَى عِبَادِهِ بِلَا كَيْفِيَّهْ "الْأَحَدُ الْفَرْدُ" الَّذِي لَا ضِدَّ لَهُ وَلَا نِدَّ لَهُ وَلَا شَرِيكَ لَهُ فِي إِلَهِيَّتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ, وَلَا مُتَصَرِّفَ مَعَهُ فِي ذَرَّةٍ مِنْ مَلَكُوتِهِ, وَلَا شَبِيهَ لَهُ وَلَا نَظِيرَ لَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ, فَهُوَ أَحَدٌ فِي إِلَهِيَّتِهِ لَا مَعْبُودَ بِحَقٍّ سِوَاهُ وَلَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ إِلَّا هُوَ وَلِذَا قَضَى أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا إِيَّاهُ, وَهُوَ أَحَدٌ فِي رُبُوبِيَّتِهِ فَلَا شَرِيكَ لَهُ فِي مُلْكِهِ وَلَا مُضَادَّ وَلَا مُنَازِعَ وَلَا مُغَالِبَ. أَحَدٌ فِي ذَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ فَلَا شَبِيهَ لَهُ وَلَا مَثِيلَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ. يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا. فَكَمَا أَنَّهُ الْأَحَدُ الْفَرْدُ فِي ذَاتِهِ وَإِلَهِيَّتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ فَهُوَ الْمُتَفَرِّدُ فِي مَلَكُوتِهِ بِأَنْوَاعِ التَّصَرُّفَاتِ مِنَ الْإِيجَادِ وَالْإِعْدَامِ وَالْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ وَالْخَلْقِ وَالرِّزْقِ وَالْإِعْزَازِ وَالْإِذْلَالِ وَالْهِدَايَةِ وَالْإِضْلَالِ وَالْإِسْعَادِ وَالْإِشْقَاءِ وَالْخَفْضِ وَالرَّفْعِ وَالْعَطَاءِ وَالْمَنْعِ وَالْوَصْلِ وَالْقَطْعِ وَالضُّرِّ وَالنَّفْعِ فَلَوِ اجتمع أهل السموات السَّبْعِ وَالْأَرَضِينَ السَّبْعِ وَمَنْ فيهن وما بينهما عَلَى إِمَاتَةِ مَنْ هُوَ مُحْيِيهِ أَوْ إِعْزَازِ مَنْ هُوَ مُذِلُّهُ أَوْ هِدَايَةِ مَنْ هُوَ مُضِلُّهُ أَوْ إِسْعَادِ مَنْ هُوَ مُشْقِيهِ, أَوْ خَفْضِ مَنْ هُوَ رَافِعُهُ أَوْ وَصْلِ مَنْ هُوَ قَاطِعُهُ, أَوْ إِعْطَاءِ مَنْ هُوَ مَانِعُهُ أَوْ ضُرِّ مَنْ هُوَ نَافِعُهُ أَوْ عَكْسِ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِمُمْكِنٍ فِي اسْتِطَاعَتِهِمْ, وَأَنَّى لَهُمْ ذَلِكَ وَالْكُلُّ خَلْقُهُ وَمُلْكُهُ وَعَبِيدُهُ وَفِي قَبْضَتِهِ وَتَحْتَ تَصَرُّفِهِ وَقَهْرِهِ مَاضٍ فِيهِمْ حُكْمُهُ عَدْلٌ فِيهِمْ قَضَاؤُهُ نَافِذَةٌ فِيهِمْ مَشِيئَتُهُ, لَا امْتِنَاعَ لَهُمْ عَمَّا قَضَاهُ وَلَا خُرُوجَ لَهُمْ مِنْ قَبْضَتِهِ, وَلَا تَحَرَّكُ ذرة في السموات وَالْأَرْضِ وَلَا تَسْكُنُ إِلَّا بِإِذْنِهِ, فَمَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ. فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ كَيْفَ جَحَدُوا بِآيَاتِهِ وَأَشْرَكُوا فِي إِلَهِيَّتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ مَنْ هُوَ مَخْلُوقٌ مَرْبُوبٌ مِثْلُهُمْ لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ ضُرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا, وَاتَّخَذُوهُمْ مِنْ دُونِهِ أَرْبَابًا وَأَنْدَادًا سَوَّوْهُمْ بِهِ وَعَدَلُوهُمْ بِهِ وَاعْتَقَدُوا أَنَّهُمْ مُتَصَرِّفُونَ مَعَهُ فِي مَلَكُوتِهِ وَعَبَدُوهُمْ مِنْ دُونِهِ. وَهُمْ يَرَوْنَ وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ مُحْدَثُونَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُونُوا, مَسْبُوقُونَ بِالْعَدَمِ عَاجِزُونَ عَنِ الْقِيَامِ بِأَنْفُسِهِمْ فُقَرَاءُ إِلَى مَنْ يَقُومُ بِهِمْ. وَأَلْحَدُوا فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَآيَاتِهِ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي صِنَاعَةِ الْإِلْحَادِ فَبَيْنَ مُشَبِّهٍ لَهُ تَعَالَى بِالْعَدَمِ وَهُمْ
نُفَاةُ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ بَلْ هُمْ نُفَاةُ وُجُودِ ذَاتِهِ, وَبَيْنَ مُشَبِّهٍ لَهُ بِالْمَخْلُوقَاتِ مُمَثِّلٍ صِفَاتِهِ تَعَالَى بِصِفَاتِ الْحَادِثَاتِ الْمُحْدَثَاتِ حَاكِمِينَ عَلَيْهِ بِعُقُولِهِمْ وَاصِفِينَ لَهُ بِمَا لَمْ يَصِفْ بِهِ نَفْسَهُ. وَآخَرُونَ جَحَدُوا إِرَادَتَهُ وَمَشِيئَتَهُ النَّافِذَةَ وَقُدْرَتَهُ الشَّامِلَةَ وَأَفْعَالَهُ وَحِكْمَتَهُ وَحَمْدَهُ وَجَعَلُوا أَنْفُسَهُمْ هُمُ الْفَاعِلِينَ لِمَا شَاءُوا الْخَالِقِينَ لِمَا أَرَادُوا مِنْ دُونِ مَشِيئَةٍ لِلَّهِ وَلَا إِرَادَةٍ, وَجَحَدُوا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ خَلَقَهُمْ وَمَا يَعْمَلُونَ, وَآخَرُونَ جَعَلُوا قَضَاءَهُ وَقَدَرَهُ حُجَّةً لَهُمْ عَلَى تَرْكِ أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ, وَأَنَّهُمْ لَا قُدَرَةَ لَهُمْ وَلَا اخْتِيَارَ, وَأَنَّهُ كَلَّفَهُمْ بِفِعْلِ مَا لَا يُطَاقُ فِعْلُهُ وَتَرْكِ مَا لَا يُطَاقُ تَرْكُهُ, وَجَعَلُوا مَعَاصِيَهُ طَاعَاتٍ إِذْ وَافَقَتْ مَشِيئَتَهُ الْكَوْنِيَّةَ وَقَدَرَهُ الْكَوْنِيَّ فَخَاصَمُوهُ بِمَشِيئَتِهِ وَأَقْدَارِهِ وَعَطَّلُوا أَوَامِرَهُ وَنَوَاهِيَهُ وَنَسَبُوهُ إِلَى الظُّلْمِ تَعَالَى, وَأَنَّ تَعْذِيبَهُ مَنْ لَمْ يَشْهَدْ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَلَمْ يُقِمِ الصَّلَاةَ وَلَمْ يُؤْتِ الزَّكَاةَ وَلَمْ يَصُمْ وَلَمْ يَحُجَّ وَلَمْ يَعْمَلِ الطَّاعَاتِ وَلَمْ يَتْرُكِ الْمَعَاصِيَ كَتَعْذِيبِ الذَّكَرِ لَمْ يَصِرْ أُنْثَى وَالْأُنْثَى لَمْ تَصِرْ ذَكَرًا, وَأَنَّ أَمْرَهُمْ بِالصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا كَأَمْرِ الْآدَمِيِّ بِالطَّيَرَانِ وَالْأَعْمَى بِنَقْطِ الْمَصَاحِفِ, أُولَئِكَ خُصَمَاءُ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ, تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ وَالْجَاحِدُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا, وَرَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ عَرَفُوهُ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ وَقَدَرُوهُ حَقَّ قَدْرِهِ وَوَحَّدُوهُ بِإِلَهِيَّتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَثْبَتُوا لَهُ مَا أَثْبَتَهُ لِنَفْسِهِ, وَنَفَوْا عَنْهُ التَّمْثِيلَ وَآمَنُوا بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ, وَتَلَقَّوْهُ بِالرِّضَا وَالتَّسْلِيمِ, وَأَنَّ ذَلِكَ مُوجَبُ رُبُوبِيَّتِهِ وَمُقْتَضَى إِلَهِيَّتِهِ وَاللَّائِقُ بِحِكْمَتِهِ وَحَمْدِهِ, وَتَلَقَّوْا أَمْرَهُ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَالِامْتِثَالِ وَالِانْقِيَادِ, وَوَقَفُوا عِنْدَ نَوَاهِيهِ وَحُدُودِهِ فَلَمْ يَعْتَدُوهَا, وَنَزَّلُوا كُلًّا مِنَ الْقَدَرِ وَالشَّرْعِ مَنْزِلَتَهُ وَلَمْ يَنْصِبُوا الْخِصَامَ بَيْنَهُمَا, فَالْقَضَاءُ وَالْقَدَرُ يُؤْمَنُ بِهِ وَلَا يُحْتَجُّ بِهِ, وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ يُطَاعُ وَيُمْتَثَلُ. فَالْإِيمَانُ بِالْقَدَرِ مِنْ كَمَالِ التَّوْحِيدِ وَشَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَالْقِيَامُ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مُوجَبُ شَهَادَةِ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَمَنْ لَا يُؤْمِنُ بِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ وَيَنْقَادُ لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَهُوَ مُكَذِّبٌ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَلَوْ نَطَقَ بِهِمَا بِلِسَانِهِ. وَهَذَا الْبَحْثُ سَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ عَنْ قَرِيبٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي مَوْضِعِهِ, وَإِنَّمَا ساقنا إليه ههنا الْكَلَامُ عَلَى كَمَالِ أَحَدِيَّةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي إِلَهِيَّتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَقَدَرِهِ وَشَرْعِهِ, وَأَنَّهُ لَا مُعَارِضَ لِمَشِيئَتِهِ وَلَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ, وَأَنَّ الْمَخْلُوقَ لَا تَصَرُّفَ لَهُ فِي نَفْسِهِ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِ, وَلَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى مَا لَمْ يُقَدِّرْهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ, فَكَيْفَ يُسَوِّي بِهِ
القدير الذي له مطلق القدرة وكمالها وتمامها
وَيَعْدِلُ بِهِ وَيُشْرِكُ مَعَهُ فِي إِلَهِيَّتِهِ أَوْ يَنْسُبُ إِلَيْهِ التَّصَرُّفَ فِي شَيْءٍ مِنْ مَلَكُوتِهِ, وَكَمْ يُقِيمُ الْحُجَّةَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى مَنْ أَشْرَكَ مَعَهُ إِلَهًا غَيْرَهُ بِأَحَدِيَّتِهِ فِي الرُّبُوبِيَّةِ وَالْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَإِقْرَارِ الْمُشْرِكِ بِهَا, وَأَنَّ آلِهَتَهُ الَّتِي أَشْرَكَ لَا تَتَّصِفُ بِشَيْءٍ مِنْهَا وَيَلْزَمُهُ إِفْرَادُهُ بِالْأُلُوهِيَّةِ الْمُلَازِمَةِ لِلرُّبُوبِيَّةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مَرْيَمَ: 65] وَقَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الرُّومِ: 40] وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ، قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [يُونُسَ: 34-35] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. "الْقَدِيرُ" الَّذِي لَهُ مُطْلَقُ الْقُدْرَةِ وَكَمَالُهَا وَتَمَامُهَا الَّذِي مَا كَانَ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ الَّذِي مَا خَلْقُ الْخَلْقِ وَلَا بَعْثُهُمْ فِي كَمَالِ قُدْرَتِهِ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ الَّذِي إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ, الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ. الَّذِي يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ, وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ, الَّذِي وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ والأرض ولا يئوده حِفْظُهُمَا أَيْ: لَا يَكْرُثُهُ وَلَا يُثْقِلُهُ, الْفَعَّالُ لِمَا يَشَاءُ إِذَا شَاءَ كَيْفَ شَاءَ فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءَ, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا} [النِّسَاءِ: 133] وَقَالَ تَعَالَى بَعْدَ الْكَلَامِ عَلَى الْبَدْءِ وَالْإِعَادَةِ: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} [الْحَجِّ: 62] الْآيَةَ. وَقَالَ تَعَالَى بَعْدَ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الْحَجِّ: 6] وَقَالَ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا
قَدِيرًا} [فاطِرٍ: 44] وَقَالَ تَعَالَى: {مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لُقْمَانَ: 28] ، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82] وَقَالَ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الْأَحْقَافِ: 33] وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} [ق: 15] وَقَالَ: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق: 38] وَقَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطَّلَاقِ: 112] وَقَالَ تَعَالَى: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ، إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 81-82] وَقَالَ تَعَالَى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [تَبَارَكَ: 1] وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ، عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} [الْمَعَارِجِ: 40] وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 18] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فُصِّلَتْ: 39] وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ، وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [الْعَنْكَبُوتِ: 20-22] وَالْآيَاتُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ يَطُولُ ذِكْرُهَا بَلْ كُلُّ آيَاتِ اللَّهِ الظَّاهِرَةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ وَجَمِيعُ مَخْلُوقَاتِهِ الْعُلْوِيَّةِ وَالسُّفْلِيَّةِ تَدُلُّ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ الشَّامِلَةِ الَّتِي لَا يَخْرُجُ عَنْهَا مِثْقَالُ ذَرَّةٍ كَمَا أَنَّهُ لَا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ وَعِبَارَةُ الْعَبْدِ تَقْصُرُ عَنْ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْعَظِيمِ, وَكَفَى الْعَبْدَ دَلِيلًا أَنْ يَنْظُرَ فِي خَلْقِ نَفْسِهِ كَيْفَ قَدَّرَهُ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ وَخَلَقَهُ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ وَشَقَّ لَهُ
الأزلي بذاته وأسمائه وصفاته، الصمد الذي يصمد إليه الخلائق في حوائجهم
السَّمْعَ فَسَمِعَ وَالْبَصَرَ فَأَبْصَرَ وَاللِّسَانَ فَنَطَقَ وَالْفُؤَادَ فَعَقَلَ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَكَيْفَ إِذَا سَرَحَ قَلْبُهُ فِي عَجَائِبِ الْمَلَكُوتِ وَنَظَرَ بِعَيْنِ بَصِيرَتِهِ إِلَى مُبْدَعَاتِ الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَرَأَى الْآيَاتِ الْبَاهِرَةَ وَالْبَرَاهِينَ الظَّاهِرَةَ عَلَى كَمَالِ قُدْرَةِ ذِي الْعِزَّةِ وَالْجَبَرُوتِ {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} [الْأَعْرَافِ: 185] وَفِي حَدِيثِ الِاسْتِخَارَةِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ "اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ الْعَظِيمِ فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلَا أَقْدِرُ وَتَعْلَمُ وَلَا أَعْلَمُ" 1 الْحَدِيثَ. "الْأَزَلِي" بِذَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ الَّذِي لَا ابْتِدَاءَ لِأَوَّلِيَّتِهِ وَلَا انْتِهَاءَ لِآخِرِيَّتِهِ وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ مُتَجَدِّدًا حَادِثًا لَمْ يَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ, كَذَلِكَ لَهُ كَمَالُ الرُّبُوبِيَّةِ وَلَا مَرْبُوبَ, وَاسْمُ الْخَالِقِ وَلَا مَخْلُوقَ وَهُوَ الْعَلِيمُ قَبْلَ إِيجَادِهِ الْمَعْلُومَاتِ وَالسَّمِيعُ قَبْلَ إِيجَادِهِ الْمَسْمُوعَاتِ وَالْبَصِيرُ قَبْلَ إِيجَادِهِ الْمُبْصَرَاتِ وَكَذَلِكَ سَائِرُ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ أَزَلِيَّةٌ بِأَزَلِيَّةِ ذَاتِهِ, بَاقِيَةٌ بِبَقَاءِ ذَاتِهِ لَمْ يَزَلْ مُتَّصِفًا بِهَا فِي أَوَّلِيَّتِهِ وَكَذَلِكَ لَمْ يَزَلْ مُتَّصِفًا بِهَا فِي سَرْمَدِيَّتِهِ لَيْسَ بَعْدَ خَلْقِ الْخَلْقِ اسْتَفَادَ اسْمَ الْخَالِقِ, وَلَا بِإِحْدَاثِهِ الْبَرِّيَّةَ استفاد اسم البارى, بَلْ هُوَ سُبْحَانَهُ الْخَالِقُ قَبْلَ خَلْقِ الْمَخْلُوقِينَ وَالرَّازِقُ قَبْلَ وُجُودِ الْمَرْزُوقِينَ, وَهُوَ الْمُحْيِي الْمُمِيتُ قَبْلَ خَلْقِهِ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ وَكَذَلِكَ وَصَفَ نَفْسَهُ تَبَارَكَ وتعالى فقال: {إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا - وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا - وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا - وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا - وَكَانَ اللَّهُ لَطِيفًا خَبِيرًا - إِنَّ
اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ, قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ: لَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ ا. هـ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَقَدَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وُصِفَ بِصِفَةٍ لَمْ يَكُنْ مُتَّصِفًا بِهَا لِأَنَّ صِفَاتِهِ سُبْحَانَهُ كُلَّهَا صِفَاتُ كَمَالٍ وَفُقْدَانَهَا صِفَةُ نَقْصٍ, وَلَا يَجُوزُ كَوْنُهُ قَدْ حَصَلَ لَهُ الْكَمَالُ بَعْدَ أَنْ كَانَ مُتَّصِفًا بِضِدِّهِ, وَتَقَدَّمَ فِي الْأَزَلِيَّةِ حَدِيثُ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي بَدْءِ الْخَلْقِ "كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ غَيْرُهُ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ"1. "الصَّمَدُ" قَالَ عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَعْنِي الَّذِي يَصْمُدُ إِلَيْهِ الْخَلَائِقُ فِي حَوَائِجِهِمْ وَمَسَائِلِهِمْ2. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُوَ السَّيِّدُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي سُؤْدُدِهِ وَالشَّرِيفُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي شَرَفِهِ وَالْعَظِيمُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي عَظْمَتِهِ وَالْحَلِيمُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي حِلْمِهِ وَالْعَلِيمُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي عِلْمِهِ وَالْحَكِيمُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي حِكْمَتِهِ وَهُوَ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي أَنْوَاعِ الشَّرَفِ وَالسُّؤْدُدِ وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ, هَذِهِ صِفَتُهُ لَا تَنْبَغِي إِلَّا لَهُ لَيْسَ لَهُ كُفْؤٌ وَلَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ سُبْحَانَ اللَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ3. وَعَنْ أَبِي وَائِلٍ: "الصَّمَدُ" الَّذِي قَدِ انْتَهَى سُؤْدُدُهُ, وَرَوَاهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ4. وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ الصَّمَدُ السَّيِّدُ5. وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: هُوَ الْبَاقِي بَعْدَ خَلْقِهِ6. وَقَالَ الْحَسَنُ أَيْضًا: الصَّمَدُ الْحَيُّ الْقَيُّومُ الَّذِي لَا زَوَالَ لَهُ7. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَخْرُجُ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَمْ يَطْعَمْ8. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَمُجَاهِدٌ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ وَعِكْرِمَةُ أَيْضًا وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَعَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ وَالضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيِّ: الصَّمَدُ
الَّذِي لَا جَوْفَ لَهُ1. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: هُوَ الَّذِي لَا يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَلَا يَشْرَبُ الشَّرَابَ2. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ أَيْضًا: الصَّمَدُ نُورٌ يَتَلَأْلَأُ3. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: رَوَى ذَلِكَ كُلَّهُ وَحَكَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ والطبراني, وكذا أبوجعفر بْنُ جَرِيرٍ سَاقَ أَكْثَرَ ذَلِكَ بِأَسَانِيدِهِ, وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ لَهُ بَعْدَ إِيرَادِهِ كَثِيرًا مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ فِي تَفْسِيرِ الصَّمَدِ: وَكُلُّ هَذِهِ صَحِيحَةٌ وَهِيَ صِفَاتُ رَبِّنَا عَزَّ وَجَلَّ, وَهُوَ الَّذِي يُصْمَدُ إِلَيْهِ فِي الْحَوَائِجِ وَهُوَ الَّذِي قَدِ انْتَهَى سُؤْدُدُهُ وَهُوَ الصَّمَدُ الَّذِي لَا جَوْفَ لَهُ وَلَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ وَهُوَ الْبَاقِي بَعْدَ خَلْقِهِ, وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ نَحْوَ ذَلِكَ4. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ هُوَ الصَّنْعَانِيُّ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيِّ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ عَنْ أُبَيِّ ابن كَعْبٍ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: انْسُبْ لَنَا رَبَّكَ, فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ} وَالصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ يُولَدُ إِلَّا سيموت وليس شيء يموت إِلَّا سَيُورَثُ وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَمُوتُ وَلَا يُورَثُ. {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} قَالَ: لَمْ يَكُنْ لَهُ شَبِيهٌ وَلَا عَدْلٌ وَلَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ5. حَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيِّ عَنِ الرَّبِيعِ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذَكَرَ آلِهَتَهُمْ فَقَالُوا: انْسُبْ لَنَا رَبَّكَ, قَالَ: فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ
البر وصفا وفعلا، المهيمن على عباده بأعمالهم
السَّلَامُ بِهَذِهِ السُّورَةِ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فَذَكَرَ نَحْوَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ وَهَذَا أَصَحُّ مِنْ حديث أبي سندا ا. هـ1. قُلْتُ: وَهَذِهِ السُّورَةُ الْعَظِيمَةُ الَّتِي قَالَ فِيهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ" 2 مُشْتَمِلَةٌ عَلَى تَوْحِيدِ الْإِلَهِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ وَالْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ جَامِعَةٌ بَيْنَ الْإِثْبَاتِ لِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَبَيْنَ التَّنْزِيهِ لَهُ تَعَالَى عَنِ الْأَشْبَاهِ وَالْأَمْثَالِ, مُتَضَمِّنَةٌ الرَّدَّ عَلَى جَمِيعِ طَوَائِفِ الْكُفْرِ مِنَ الدَّهْرِيَّةِ وَالْوَثَنِيَّةِ وَالْمَلَاحِدَةِ مِنَ الْمُشَبِّهَةِ وَالْمُعَطِّلَةِ وَأَهْلِ الْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ وَمَنْ نَسَبَ لَهُ الصَّاحِبَةَ وَالْوَلَدَ وَغَيْرِهِمْ, تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. "الْبَرُّ" وَصْفًا وَفِعْلًا, قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: اللَّطِيفُ3. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الصَّادِقُ فِيمَا وَعَدَ4. "الْمُهَيْمِنُ" قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَمُقَاتِلٌ: هُوَ الشَّهِيدُ عَلَى عِبَادِهِ بِأَعْمَالِهِمْ5، يُقَالُ: هَيْمَنَ يُهَيْمِنُ فَهُوَ مُهَيْمِنٌ إِذَا كَانَ رَقِيبًا على الشيء كا قَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [الْبُرُوجِ: 9] وَقَوْلِهِ: {ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ} [يُونُسَ: 46] وَقَالَ: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [الرَّعْدِ: 33] وَقَالَ الْحَسَنُ: الْأَمِينُ6، وَقَالَ الْخَلِيلُ: هُوَ الرَّقِيبُ الْحَافِظُ7، وقال ابن زَيْدٌ: الْمُصَدِّقُ8، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَالضَّحَّاكُ: الْقَاضِي9. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: هُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْكُتُبِ10، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِتَأْوِيلِهِ ا. هـ.
العلي علو قهر وعلو شأن
"الْعَلِي" فَكُلُّ مَعَانِي الْعُلُوِّ ثَابِتَةٌ لَهُ "عُلُوَّ قَهْرٍ" فَلَا مُغَالِبَ لَهُ وَلَا مُنَازِعَ, بَلْ كُلُّ شَيْءٍ تَحْتَ سُلْطَانِ قَهْرِهِ {قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [ص: 65] . {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الزُّمَرِ: 4] وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ عُلُوِّ الذَّاتِ وَالْقَهْرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الْأَنْعَامِ: 18] أَيْ: وَهُوَ الَّذِي قَهَرَ كُلَّ شَيْءٍ وَخَضَعَ لِجَلَالِهِ كُلُّ شَيْءٍ وَذَلَّ لِعَظَمَتِهِ وَكِبْرِيَائِهِ كُلُّ شَيْءٍ وَعَلَا بِذَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ. "وَعُلُوَّ الشَّأْنِ" فَتَعَالَى عَنْ جَمِيعِ النَّقَائِصِ وَالْعُيُوبِ الْمُنَافِيَةِ لِإِلَهِيَّتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ وَأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلَى. تَعَالَى فِي أَحَدِيَّتِهِ عَنِ الشَّرِيكِ وَالظَّهِيرِ وَالْوَلِيِّ وَالنَّصِيرِ, وَتَعَالَى فِي عَظَمَتِهِ وَكِبْرِيَائِهِ وَجَبَرُوتِهِ عَنِ الشَّفِيعِ عِنْدَهُ بِدُونِ إِذْنِهِ وَالْمُجِيرِ. وَتَعَالَى فِي صَمَدِيَّتِهِ عَنِ الصَّاحِبَةِ وَالْوَلَدِ وَالْوَالِدِ وَالْكُفْؤِ وَالنَّظِيرِ. وَتَعَالَى فِي كَمَالِ حَيَاتِهِ وَقَيُّومِيَّتِهِ وَقُدْرَتِهِ عَنِ الْمَوْتِ وَالسِّنَةِ وَالنَّوْمِ وَالتَّعَبِ وَالْإِعْيَاءِ, وَتَعَالَى فِي كَمَالِ عِلْمِهِ عَنِ الْغَفْلَةِ وَالنِّسْيَانِ, وَعَنْ عُزُوبِ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ عَنْ عِلْمِهِ فِي الْأَرْضِ أَوْ فِي السَّمَاءِ, وَتَعَالَى فِي كَمَالِ حِكْمَتِهِ وَحَمْدِهِ عَنِ الْخَلْقِ عَبَثًا وَعَنْ تَرْكِ الْخَلْقِ سُدًى بِلَا أَمْرٍ وَلَا نَهْيٍ وَلَا بَعْثٍ وَلَا جَزَاءٍ, وَتَعَالَى فِي كَمَالِ عَدْلِهِ عَلَى أَنْ يَظْلِمَ أَحَدًا مِثْقَالَ ذَرَّةٍ أَوْ أَنْ يَهْضِمَهُ شَيْئًا مِنْ حَسَنَاتِهِ, وَتَعَالَى فِي كَمَالِ غِنَاهُ عَنْ أَنْ يُطْعَمَ أَوْ يُرْزَقَ أَوْ أَنْ يَفْتَقِرَ إِلَى غَيْرِهِ فِي شَيْءٍ, وَتَعَالَى فِي صِفَاتِ كَمَالِهِ وَنُعُوتِ جَلَالِهِ عَنِ التَّعْطِيلِ وَالتَّمْثِيلِ, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [مُحَمَّدٍ: 19] وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ} [الْأَحْقَافِ: 4] وَقَالَ: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 22] وَقَالَ تَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} [سَبَأٍ: 22] وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ} [الْإِسْرَاءِ: 111] وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا
أَحَدٌ} "سُورَةُ الْإِخْلَاصِ" وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا} [الْجِنِّ: 3] وَقَالَ تَعَالَى: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مَرْيَمَ: 65] وَقَالَ تَعَالَى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الْأَنْبِيَاءِ: 28] وَقَالَ تَعَالَى: {مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} [يُونُسَ: 3] وَقَالَ تَعَالَى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [الْبَقَرَةِ: 254] وَقَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ} [الْمُؤْمِنُونَ: 88] وَقَالَ تَعَالَى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} [الْفُرْقَانِ: 58] وَقَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} [الْبَقَرَةِ: 254] وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق: 38] وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} [ق: 15] وَقَالَ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الْأَحْقَافِ: 33] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 17] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} وَقَالَ تَعَالَى عَنْ مُوسَى لَمَّا قَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ: {فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى، قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} [طه: 51-52] وَقَالَ تَعَالَى: {عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ} [سَبَأٍ: 3] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [ص: 27] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ، مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الدُّخَانِ: 38-39] وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 115] وَقَالَ تَعَالَى: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [الْقِيَامَةِ: 36] وَقَالَ تَعَالَى: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الْكَهْفِ: 49] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} [النِّسَاءِ: 40] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} وَقَالَ تَعَالَى:
{وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا} [طه: 112] وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ} [الْأَنْعَامِ: 14] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ، مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذَّارِيَاتِ: 56-58] وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فَاطِرٍ: 15] وَقَالَ تَعَالَى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: 11] وَقَالَ تَعَالَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشُّورَى: 11] . وَالْآيَاتُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ جِدًّا, وَهَذَانِ الْمَعْنَيَانِ مِنَ الْعُلُوِّ لَمْ يُخَالِفْ فِيهِمَا أَحَدٌ مِمَّنْ يَدَّعِي الْإِسْلَامَ وَيَنْتَسِبُ إِلَيْهِ, وَإِنَّمَا ضَلَّ مَنْ ضَلَّ مِنْهُمْ وَأَخْطَأَ فِي التَّنْزِيهِ الَّذِي هُوَ مَقْصُودُهُ حَيْثُ لَمْ يَسْلُكِ الطَّرِيقَ الْمُوَصِّلَةَ إِلَيْهِ, وَأَحْسَنَ الظَّنَّ بِنَفْسِهِ وَعَقْلِهِ وَمَتْبُوعِهِ, وَأَسَاءَهُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ, وَكَثِيرٌ مِنْهُمُ اغْتَرَّ بِقَوْلٍ كَانَ مَقْصُودُ قَائِلِهِ الزَّيْغَ وَالْفَسَادَ وَالْكُفْرَانَ, فَحَسِبَ -لِإِحْسَانِ الظَّنِّ بِهِ- أَنَّ مَقْصُودَهُ التَّحْقِيقُ وَالْإِيمَانُ وَالْعِرْفَانُ. وَاتَّبَعُوا السُّبُلَ الْمُضِلَّةَ فَتَفَرَّقَتْ بِهِمْ عَنْ صِرَاطِ الرَّحْمَنِ فَمِنْهُمْ مَنْ نَزَّهَهُ تَعَالَى عَنْ فَوْقِيَّتِهِ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنًا مِنْ خَلْقِهِ وَوَقَعَ فِي أَعْظَمَ مِنْ ذَلِكَ حَيْثُ اعْتَقَدَ أَنَّهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ, وَلَمْ يُنَزِّهْهُ حَتَّى عَنِ الْأَمَاكِنِ الْخَسِيسَةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ نَزَّهَهُ عَنِ الْعُلُوِّ وَالْفَوْقِيَّةِ وَجَعَلَهُ هُوَ الْوُجُودُ بِأَسْرِهِ, وَمِنْهُمْ مَنْ نَزَّهَهُ عَنْ وُجُودِ ذَاتِهِ وَوَصَفَهُ بِالْعَدَمِ الْمَحْضِ, وَمِنْهُمْ مَنْ نَزَّهَهُ عَنْ أَفْعَالِهِ وَمَشِيئَتِهِ فِرَارًا مِنْ وَصْفِهِ بِالظُّلْمِ, وَوَقَعَ فِي تَعْطِيلِهِ عَنْ قُدْرَتِهِ وَنِسْبَتِهِ إِلَى الْعَجْزِ, وَغَلَا بَعْضُهُمْ فِي ذَلِكَ حَتَّى أَنْكَرَ عِلْمَهُ السَّابِقَ وَوَصَفَهُ بِضِدِّهِ, وَمِنْهُمْ مَنْ غَلَا فِي مَسْأَلَةِ الْقَدَرِ وَإِثْبَاتِهِ وَخَاصَمَ بِهِ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ فِرَارًا مِمَّا وَقَعَ فِيهِ الْأَوَّلُونَ وَوَقَعَ فِي أَعْظَمِ ذَلِكَ تَعْطِيلُ الشَّرِيعَةِ وَنِسْبَتُهُ تَعَالَى إِلَى الظُّلْمِ وَإِلَى تَكْلِيفِ عِبَادِهِ مَا لَا يُطَاقُ, تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا, فَفَرُّوا مِنَ الْهُدَى إِلَى الضَّلَالَةِ وَمِنَ الرُّشْدِ إِلَى الْغَيِّ وَمِنَ الْإِسْلَامِ إِلَى الْكُفْرِ وَمِنَ السُّنَّةِ إِلَى الْبِدْعَةِ وَمِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ وَضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا, وَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ فَجَعَلُوا
الذي له العلو والفوقية بالكتاب والسنة وإجماع الملائكة والمرسلين وأتباعهم
إِمَامَهُمْ وَقُدْوَتَهُمُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَسَارُوا مَعَهُمَا حَيْثُ سَارَا وَوَقَفُوا حَيْثُ وَقَفَا, فَأَثْبَتُوا لِلَّهِ مَا أَثْبَتَهُ لِنَفْسِهِ وَأَثْبَتَهُ لَهُ رَسُولُهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنَ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى وَالصِّفَاتِ الْعُلَا, وَآمَنُوا بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ وَتَلَقَّوْهُ بِالرِّضَا ,وَالتَّسْلِيمِ وَانْقَادُوا لِلشَّرِيعَةِ فَقَابَلُوا أَوَامِرَهَا وَنَوَاهِيَهَا بِالِامْتِثَالِ وَالتَّعْظِيمِ, فَمَا أَثْبَتَ اللَّهُ لِنَفْسِهِ أَثْبَتُوهُ, وَمَا نَفَاهُ عَنْ نَفْسِهِ نَفَوْهُ, فَإِذَا سَمِعُوا آيَاتِ الصِّفَاتِ وَأَحَادِيثَهَا قَالُوا: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا, وَإِنْ أَحْسَنُوا قَالُوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ, وَإِنْ أَسَاءُوا قَالُوا: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونُنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ, وَإِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. "كَذَا" ثَابِتٌ "لَهُ الْعُلُوُّ وَالْفَوْقِيَّهْ" بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ وَأَتْبَاعِهِمْ عَلَى الْحَقِيقَةِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ "عَلَى عِبَادِهِ" فَوْقَهُمْ مُسْتَوِيًا عَلَى عَرْشِهِ عَالِيًا عَلَى خَلْقِهِ بَائِنًا مِنْهُمْ, يَعْلَمُ أَعْمَالَهُمْ وَيَسْمَعُ أَقْوَالَهُمْ وَيَرَى حَرَكَاتِهِمْ وَسَكَنَاتِهِمْ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُمْ خَافِيَةٌ, وَالْأَدِلَّةُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى وَأَجَلُّ مِنْ أَنْ تُسْتَقْصَى, وَالْفِطَرُ السَّلِيمَةُ وَالْقُلُوبُ الْمُسْتَقِيمَةُ مَجْبُولَةٌ عَلَى الْإِقْرَارِ بِذَلِكَ لَا تُنْكِرُهُ. وَلْنُشِرْ إِلَى بَعْضِ ذَلِكَ إِشَارَةً تَدُلُّ عَلَى مَا وَرَاءَهَا وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. فَمِنْ ذَلِكَ أَسْمَاؤُهُ الْحُسْنَى الدَّالَّةُ عَلَى ثُبُوتِ جَمِيعِ مَعَانِي الْعُلُوِّ لَهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى كَاسْمِهِ الْأَعْلَى وَاسْمِهِ الْعَلِيِّ وَاسْمِهِ الْمُتَعَالِي وَاسْمِهِ الظَّاهِرِ وَاسْمِهِ الْقَاهِرِ وَغَيْرِهَا. قَالَ تَعَالَى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الْأَعْلَى: 1] وَلَمَّا نَزَلَتْ قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "اجْعَلُوهَا فِي سُجُودِكُمْ" 1، وَقَالَ تَعَالَى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [الْبَقَرَةِ: 254] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} [النِّسَاءِ: 34] وَقَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ
استواؤه على العرش
هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الْحَجِّ: 62] وَقَالَ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سَبَأٍ: 23] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الشُّورَى: 51] وَقَالَ تَعَالَى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} [الرَّعْدِ: 9] وَقَالَ تَعَالَى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} [الْحَدِيدِ: 3] وَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي دُعَائِهِ: "وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ" 1. وَقَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الْأَنْعَامِ: 18] وَهَذِهِ الْأَسْمَاءُ تَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ جَمِيعِ مَعَانِي الْعُلُوِّ لَهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ذَاتًا وَقَهْرًا وَشَأْنًا. وَمِنْ ذَلِكَ التَّصْرِيحُ بِالِاسْتِوَاءِ عَلَى عَرْشِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الْأَعْرَافِ: 54] وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ يُونُسَ: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ} [يُونُسَ: 3] وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الرَّعْدِ: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الرَّعْدِ: 2] وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ طه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ: {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ} [الْفُرْقَانِ: 59] وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الم تَنْزِيلُ السَّجْدَةِ: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ} [السَّجْدَةِ: 4-5] الْآيَةَ. وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَدِيدِ: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الْحَدِيدِ: 4] . وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ فِي فَضْلِ الْجُمُعَةِ وَتَسْمِيَتِهِ فِي الْآخِرَةِ يَوْمَ الْمَزِيدِ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ وَفِي آخِرِهِ قَالَ: "وَهُوَ الْيَوْمُ الَّذِي اسْتَوَى فِيهِ رَبُّكَ عَلَى الْعَرْشِ" وَقَدْ رَوَاهُ
الشَّافِعِيُّ فِي مُسْنَدِهِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَغَيْرُهُمْ1، وَقَدْ جَمَعَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ طُرُقَهُ فِي جُزْءٍ وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى بِطُولِهِ وَأَلْفَاظِهِ فِي إِثْبَاتِ رُؤْيَةِ الْمُؤْمِنِينَ رَبَّهُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى. وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا جَمَعَ اللَّهُ تَعَالَى الْخَلَائِقَ حَاسَبَهُمْ فَيُمَيِّزُ بَيْنَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ وَهُوَ تَعَالَى فِي جَنَّتِهِ عَلَى عَرْشِهِ". قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ الْحَافِظُ هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ2. وَعَنْ قَتَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "لَمَّا فَرَغَ اللَّهُ مِنْ خَلْقِهِ اسْتَوَى عَلَى عَرْشِهِ", رَوَاهُ الْخَلَّالُ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ3. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّ الْيَهُودَ أَتَوُا النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَسَأَلُوهُ عَنْ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَذَكَرَ حَدِيثًا طَوِيلًا, قَالُوا: ثُمَّ مَاذَا يَا مُحَمَّدُ, قَالَ: "ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ", قَالُوا: أَصَبْتَ يَا مُحَمَّدُ, لَوْ أَتْمَمْتَ ثُمَّ اسْتَرَاحَ, فَغَضِبَ غَضَبًا شَدِيدًا, فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق: 38] رَوَاهُ ابْنُ مَنْدَهْ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ, وَفِي إِسْنَادِهِ الْبَقَّالُ ضَعَّفَهُ ابْنُ مَعِينٍ4, وَعَنْ أَبِي رَزِينٍ الْعُقَيْلِيِّ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيْنَ كَانَ رَبُّنَا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ. قَالَ: "كَانَ فِي عَمَاءٍ مَا فَوْقَهُ هَوَاءٌ وَمَا تَحْتَهُ هَوَاءٌ, ثُمَّ خَلَقَ الْعَرْشَ فَاسْتَوَى عليه" رواه أبوداود
وَابْنُ مَاجَهْ, وَقَالَ الذَّهَبِيُّ: إِسْنَادُهُ حَسَنٌ1، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ لَكِنَّ لَفْظَهُ "وَخَلَقَ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ" قَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ: الْعَمَاءُ أَيْ: لَيْسَ مَعَهُ شَيْءٌ2، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَعَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ وَلَمْ يَخْلُقْ شَيْئًا قَبْلَ الْمَاءِ فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ أَخْرَجَ مِنَ الْمَاءِ دُخَانًا فَارْتَفَعَ فَوْقَ الْمَاءِ فَسَمَا عَلَيْهِ فَسَمَّاهُ سَمَاءً ثُمَّ أَيْبَسَ الْمَاءَ فَجَعَلَهُ أَرْضًا ثُمَّ فَتَقَهَا فَجَعَلَهَا سَبْعَ أَرَضِينَ" الْحَدِيثَ. إِلَى أَنْ قَالَ: "فَلَمَّا فَرَغَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ خَلْقِ مَا أَحَبَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ" رَوَاهُ السُّدِّيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ3، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَخَذَ بِيَدِهِ فَقَالَ: "يَا أَبَا هُرَيْرَةَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرَضِينَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَوْمَ السَّابِعِ" الْحَدِيثُ بِطُولِهِ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ السَّجْدَةِ مِنْ سُنَنِهِ الْكُبْرَى4. وَفِيهِ أَخْضَرُ بْنُ عَجْلَانَ, قَالَ الذَّهَبِيُّ: وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ،
تصريح القرآن بفوقية الله عز وجل
وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: يُكْتَبُ حَدِيثُهُ, وَلَيَّنَهُ الْأَزْدِيُّ, وَحَدِيثُهُ فِي السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ وَهَذَا الْحَدِيثُ غَرِيبٌ مِنْ أَفْرَادِهِ. وَمِنْ ذَلِكَ التَّصْرِيحُ بِالْفَوْقِيَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الْأَنْعَامِ: 18] وَقَالَ: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النَّحْلِ: 50] وَلَمَّا حَكَمَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ بِأَنْ تُقْتَلَ مُقَاتِلَتُهُمْ وَتُسْبَى ذُرِّيَّتُهُمْ وَتُغْنَمَ أَمْوَالُهُمْ, قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ الْمَلِكِ مِنْ فَوْقِ سَبْعَةِ أَرْقِعَةٍ" وَفِي لَفْظٍ "مِنْ فوق سبع سموات" 1. وَأَصْلُهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَهَذَا سِيَاقُ ابْنِ إِسْحَاقَ, وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَتْ زَيْنَبُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَفْتَخِرُ عَلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَتَقُولُ: زَوَّجَكُنَّ أَهَالِيكُنَّ وَزَوَّجَنِي اللَّهُ مِنْ فوق سبع سموات2. وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ جَهِدَتِ الْأَنْفُسُ وَضَاعَتِ الْعِيَالُ وَنُهِكَتِ الْأَمْوَالُ وَهَلَكَتِ الْأَنْعَامُ فَاسْتَسْقِ اللَّهَ لَنَا فَإِنَّا نَسْتَشْفِعُ بِكَ عَلَى اللَّهِ وَنَسْتَشْفِعُ بِاللَّهِ عَلَيْكَ, قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَيْحَكَ أَتُدْرِي مَا تَقُولُ" وَسَبَّحَ رَسُولُ اللَّهِ, فَمَا زَالَ يُسَبِّحُ حَتَّى عَرَفَ ذَلِكَ فِي وُجُوهِ أَصْحَابِهِ. ثُمَّ قَالَ: "وَيْحَكَ إِنَّهُ لَا يُسْتَشْفَعُ بِاللَّهِ عَلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ شَأْنُ اللَّهِ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ, وَيْحَكَ أَتَدْرِي مَا اللَّهُ؟ إِنَّ عرشه على سمواته لَهَكَذَا" وَقَالَ بِأُصْبُعِهِ مِثْلُ الْقُبَّةِ عَلَيْهِ "وَإِنَّهُ لَيَئِطُّ بِهِ أَطِيطَ الرَّحْلِ بِالرَّاكِبِ" قَالَ ابْنُ بَشَّارٍ فِي حَدِيثِهِ: "إِنَّ
تصريح القرآن والسنة بأن الله عز وجل في السماء
اللَّهَ فَوْقَ عَرْشِهِ وعرشه فوق سمواته"1 وَسَاقَ الْحَدِيثَ. وَلَهُ عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كُنْتُ فِي الْبَطْحَاءِ فِي عِصَابَةٍ فِيهِمْ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَمَرَّتْ بِهِمْ سَحَابَةٌ فَنَظَرَ إِلَيْهَا فَقَالَ: "مَا تُسَمُّونَ هَذِهِ" قَالُوا: السَّحَابُ, قَالَ: "وَالْمُزْنُ" قَالُوا: وَالْمُزْنُ, قَالَ: "وَالْعَنَانُ" قَالُوا: وَالْعَنَانُ, -قَالَ: أَبُو دَاوُدَ وَلَمْ أُتْقِنِ الْعَنَانَ جَيِّدًا- قَالَ: "هَلْ تَدْرُونَ مَا بُعْدُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ؟ قَالُوا: لَا نَدْرِي قَالَ: "إِنَّ بُعْدَ مَا بَيْنَهُمَا إِمَّا وَاحِدَةٌ أَوِ اثْنَتَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً, ثُمَّ السَّمَاءُ فَوْقَهَا كَذَلِكَ -حَتَّى عد سبع سموات- ثُمَّ فَوْقَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ بَحْرٌ بَيْنَ أَسْفَلِهِ وَأَعْلَاهُ مِثْلُ مَا بَيْنَ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ ثُمَّ فَوْقَ ذَلِكَ ثَمَانِيَةُ أَوَعَالٍ بَيْنَ أَظْلَافِهِمْ وَرُكَبِهِمْ مِثْلُ مَا بَيْنَ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ, ثُمَّ عَلَى ظُهُورِهِمُ الْعَرْشُ بَيْنَ أَسْفَلِهِ وَأَعْلَاهُ مِثْلُ مَا بَيْنَ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ ثُمَّ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَوْقَ ذَلِكَ" زَادَ أَحْمَدُ "وَلَيْسَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَعْمَالِ بَنِي آدَمَ"2. وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بَيْنَمَا أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي نَعِيمِهِمْ إِذْ سَطَعَ لَهُمْ نُورٌ, فَرَفَعُوا رُءُوسَهُمْ فَإِذَا الرَّبُّ قَدْ أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ مِنْ فَوْقِهِمْ, فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ, قَالَ: وَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} قَالَ: فَيَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ فَلَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى شَيْءٍ مِنَ النَّعِيمِ مَا دَامُوا يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ حَتَّى يَحْتَجِبَ عَنْهُمْ وَيَبْقَى نُورُهُ وَبِرْكَتُهُ عَلَيْهِمْ فِي دِيَارِهِمْ"3 وَفِي
إِسْنَادِهِ الرَّقَاشِيُّ ضَعِيفٌ, وَمَعْنَاهُ ثَابِتٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَفِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ الطَّوِيلِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "فَأَدْخُلُ عَلَى رَبِّي تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَهُوَ عَلَى عَرْشِهِ"1 وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِ الْبُخَارِيِّ فِي صَحِيحِهِ "فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي فِي دَارِهِ فَيُؤْذَنُ لِي عَلَيْهِ" 2 قَالَ عَبْدُ الْحَقِّ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيحَيْنِ: هَكَذَا قَالَ: "فِي دَارِهِ" فِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ يُرِيدُ مَوَاضِعَ الشَّفَاعَاتِ الثَّلَاثَ الَّتِي يَسْجُدُ فِيهَا ثُمَّ يَرْفَعُ رَأْسَهُ. وَعَنْ عُمَيْرِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ قَالَ: خَطَبَنَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ حَدَّثَنِي عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَ: "وَعِزَّتِي وَجَلَالِي وَارْتِفَاعِي فَوْقَ عَرْشِي مَا مِنْ أَهْلِ قَرْيَةٍ وَلَا بَيْتٍ وَلَا رَجُلٍ بِبَادِيَةٍ كَانُوا عَلَى مَا كَرَهْتُ مِنْ مَعْصِيَتِي فَتَحَوَّلُوا عَنْهَا إِلَى مَا أَحْبَبْتُ مِنْ طَاعَتِي إِلَّا تَحَوَّلْتُ لَهُمْ عَمَّا يَكْرَهُونَ مِنْ عَذَابِي إِلَى مَا يُحِبُّونَ مِنْ رَحْمَتِي" رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي كِتَابِ الْعَرْشِ وَالْعَسَّالُ فِي الْمَعْرِفَةِ, وَضَعَّفَهُ الذَّهَبِيُّ3. وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سُلَيْمٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "إِنَّ رَجُلًا مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ لَبِسَ بُرْدَيْنِ فَتَبَخْتَرَ, فَنَظَرَ اللَّهُ إِلَيْهِ مِنْ فَوْقِ عَرْشِهِ فَمَقَتَهُ, فَأَمَرَ الْأَرْضَ فَأَخَذَتْهُ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا" 4 رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ. وَلَهُ شَاهِدٌ فِي الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَفِي حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ
فِي بَدْءِ الْخَلْقِ: "كَانَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى الْعَرْشِ وَكَانَ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ, وَكَتَبَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ كُلَّ شَيْءٍ يَكُونُ" 1 حَدِيثٌ صَحِيحٌ أَصْلُهُ فِي الْبُخَارِيِّ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "إِنَّ الْعَبْدَ لَيَهُمُّ بِالْأَمْرِ مِنَ التِّجَارَةِ أَوِ الْإِمَارَةِ حَتَّى يَيْسِرَ لَهُ نَظَرَ اللَّهُ لَهُ مِنْ فوق سبع سموات فَيَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ اصْرِفُوهُ عَنْهُ فَإِنْ يَسَّرْتُهُ لَهُ أَدْخَلْتُهُ النَّارَ" رَوَاهُ الْبَغَوِيُّ وَسَكَتَ الذَّهَبِيُّ عَنْهُ2. وَعَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "الْعَرْشُ فَوْقَ الْمَاءِ وَاللَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَعْمَالِكُمْ" قَالَ الذَّهَبِيُّ: رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي السُّنَّةِ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو أَحْمَدَ الْعَسَّالُ وَأَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو الشَّيْخُ وَأَبُو الْقَاسِمُ اللَّالَكَائِيُّ وَأَبُو عَمْرٍو الطَّلَمَنْكِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ وَأَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي تَوَالِيفِهِمْ وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ3. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَنَّ حَسَّانَ بْنَ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْشَدَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: شَهِدْتُ بِإِذْنِ اللَّهِ أَنَّ مُحَمَّدًا ... رَسُولُ الَّذِي فَوْقَ السَّمَاوَاتِ مِنْ عَلُ وَأَنَّ أَخَا الْأَحْقَافِ إِذْ قَامَ فِيهِمُو ... يَقُولُ بِذَاتِ اللَّهِ فِيهِمْ وَيَعْدِلُ وَأَنَّ أَبَا يَحْيَى وَيَحْيَى كِلَاهُمَا ... لَهُ عَمَلٌ مِنْ رَبِّهِ مُتَقَبَّلُ4 وَمِنْ ذَلِكَ التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ تَعَالَى فِي السَّمَاءِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ، أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} [الْمُلْكِ: 6-7] وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: بَعَثَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنَ الْيَمَنِ بِذُهَيْبَةٍ فِي أَدِيمٍ مَقْرُوضٍ لَمْ تَحْصُلْ مِنْ تُرَابِهَا قَالَ: فَقَسَّمَهَا بَيْنَ أَرْبَعَةِ
نَفَرٍ: بَيْنَ عُيَيْنَةَ بْنِ بَدْرٍ وَأَقْرَعَ بْنِ حَابِسٍ وَزَيْدِ الْخَيْلِ وَالرَّابِعُ إِمَّا عَلْقَمَةُ وَإِمَّا عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ, فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: كُنَّا نَحْنُ أَحَقَّ بِهَذَا مِنْ هَؤُلَاءِ, قَالَ: فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: "أَلَا تَأْمَنُونِي وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ يَأْتِينِي خَبَرُ السَّمَاءِ صَبَاحًا وَمَسَاءً" قَالَ فَقَامَ رَجُلٌ غَائِرُ الْعَيْنَيْنِ مُشْرِفُ الْوَجْنَتَيْنِ نَاشِرُ الْجَبْهَةِ كَثُّ اللِّحْيَةِ مَحْلُوقُ الرَّأْسِ مُشَمَّرُ الْإِزَارِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اتَّقِ اللَّهَ. فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَيْلَكَ أَوَلَسْتُ أَحَقَّ أَهْلِ الْأَرْضِ أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ؟ " قَالَ: فَلَمَّا وَلَّى الرَّجُلُ قَالَ: خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا أَضْرِبُ عُنُقَهُ؟ قَالَ: "لَا، لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ يُصَلِّي" فَقَالَ خَالِدٌ: وَكَمْ مِنْ مُصَلٍّ يَقُولُ بِلِسَانِهِ مَا لَيْسَ فِي قَلْبِهِ, قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنِّي لَمْ أُومَرْ أَنْ أُنَقِّبَ قُلُوبَ النَّاسِ وَلَا أَشُقَّ بُطُونَهُمْ" قَالَ: ثُمَّ نَظَرَ إِلَيْهِ وَهُوَ مُقَفٍّ فَقَالَ: "إِنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ ضِئْضِيءِ هَذَا قَوْمٌ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ رَطْبًا لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ" وَأَظُنُّهُ قَالَ: "لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ ثَمُودَ" 1 وَعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ قَالَ: وَكَانَتْ لِي جَارِيَةٌ تَرْعَى غَنَمًا لِي قِبَلَ أُحُدٍ وَالْجُوَّانِيَّةِ, فَاطَّلَعْتُ ذَاتَ يَوْمٍ فَإِذَا الذِّئْبُ قَدْ ذَهَبَ بشاة من غنهما, وَأَنَا رَجُلٌ مِنْ بَنِي آدَمَ آسَفُ كَمَا يَأْسَفُونَ, لَكِنْ صَكَكْتُهَا صَكَّةً, فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَعَظُمَ ذَلِكَ عَلَيَّ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا أُعْتِقُهَا قَالَ: "ائْتِنِي بِهَا" فَأَتَيْتُهُ بِهَا فَقَالَ لَهَا: "أَيْنَ اللَّهُ" قَالَتْ فِي السَّمَاءِ قَالَ: "مَنْ أَنَا" قَالَتْ: أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ" أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ فِي تَصَانِيفِهِمْ2. وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "مَنِ اشْتَكَى مِنْكُمْ شَيْئًا أَوِ اشْتَكَاهُ أَخٌ لَهُ فَلْيَقُلْ: رَبَّنَا اللَّهُ الَّذِي فِي السَّمَاءِ, تَقَدَّسَ اسْمُكَ أَمْرُكَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ كَمَا رَحْمَتُكَ فِي السَّمَاءِ فَاجْعَلْ رَحْمَتَكَ فِي الْأَرْضِ, اغْفِرْ لَنَا حُوبَنَا وَخَطَايَانَا أَنْتَ رَبُّ الطَّيِّبِينَ, أَنْزِلْ رَحْمَةً من رحمتك وشفاءا
مِنْ شِفَائِكَ عَلَى هَذَا الْوَجَعِ. فَيَبْرَأَ"1 رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ, ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمُكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ الرَّحِمُ شُجْنَةٌ مِنَ الرَّحْمَنِ, فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلَهُ اللَّهُ وَمِنْ قَطَعَهَا قَطَعَهُ اللَّهُ" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ2. وَلَهُ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِأَبِي: "يَا حُصَيْنُ كَمْ تَعْبُدُ الْيَوْمَ إِلَهًا" قَالَ أَبِي: سَبْعَةٌ, سِتَّةً فِي الْأَرْضِ وَوَاحِدًا فِي السَّمَاءِ قَالَ: "فَأَيُّهُمْ تَعُدُّ لِرَغْبَتِكَ وَرَهْبَتِكَ" قَالَ: الَّذِي فِي السَّمَاءِ. قال: "يا حصين أما إنك لو أسلمت علمتك كلمتين تنفاعنك" قَالَ: فَلَمَّا أَسْلَمَ حُصَيْنٌ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي الْكَلِمَتَيْنِ اللَّتَيْنِ وَعَدْتَنِي فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قُلِ: اللَّهُمَّ أَلْهِمْنِي رُشْدِي وَأَعِذْنِي مِنْ شَرِّ نَفْسِي" قَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ, وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ
عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ1. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا مِنْ رَجُلٍ يَدْعُو امْرَأَتَهُ إِلَى فِرَاشِهَا فَتَأْبَى عَلَيْهِ إِلَّا كَانَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ سَاخِطًا عَلَيْهَا حَتَّى يَرْضَى عَنْهَا" رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ2. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا ذَاتَ يَوْمٍ بِفَنَاءِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذْ مَرَّتِ امْرَأَةٌ مِنْ بَنَاتِهِ, فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: مَا مَثَلُ مُحَمَّدٍ فِي بَنِي هَاشِمٍ إِلَّا كَمَثَلِ الرَّيْحَانَةِ فِي وَسَطِ الزِّبْلِ, فَسَمِعَتْ فَأَبْلَغَتْهُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَخَرَجَ فَصَعِدَ عَلَى مِنْبَرِهِ وَقَالَ: "مَا بَالُ أَقْوَالٍ تَبْلُغُنِي عَنْ أَقْوَامٍ, إِنَّ الله خلق سموات سَبْعًا فَاخْتَارَ الْعُلْيَا فسكنها, وأسكن سمواته مَنْ شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ ثُمَّ اخْتَارَ خَلْقَهُ فَاخْتَارَ بَنِي آدَمَ, فَاخْتَارَ الْعَرَبَ, فَاخْتَارَ مُضَرَ, فَاخْتَارَ قُرَيْشًا, فَاخْتَارَ بَنِي هَاشِمٍ, فَاخْتَارَنِي, فَلَمْ أَزَلْ خِيَارًا مِنْ خِيَارٍ فَمَنْ أَحَبَّ قُرَيْشًا فَبِحُبِّي أَحَبَّهُمْ وَمَنْ أَبْغَضَ الْعَرَبَ فَبِبُغْضِي أَبْغَضَهُمْ". قَالَ الذَّهَبِيُّ: هُوَ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ, رَوَاهُ جَمَاعَةٌ فِي كُتُبِ السُّنَّةِ وَأَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "الْمَيِّتُ تَحْضُرُهُ الْمَلَائِكَةُ, فَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ الصَّالِحُ, قَالُوا: اخْرُجِي أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الطَّيِّبِ, اخْرُجِي حَمِيدَةً وَأَبْشِرِي بِرَوْحٍ وَرَيْحَانٍ وَرَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانَ. فَيَقُولُونَ: ذَلِكَ حَتَّى يُعْرَجَ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ الَّتِي فِيهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ" وَذَكَرَ بَاقِيَ
الْحَدِيثِ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ جَرِيرٍ وَاللَّفْظُ لَهُ1، وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ تَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذِكْرِ الْمَوْتِ وَفِتْنَةِ الْقَبْرِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "لَمَّا أُسْرِيَ بِي مَرَرْتُ بِرَائِحَةٍ طَيِّبَةٍ, فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ مَا هَذِهِ الرَّائِحَةُ الطَّيِّبَةُ؟ قَالَ: هَذِهِ رَائِحَةُ مَاشِطَةِ ابْنَةِ فِرْعَوْنَ وَأَوْلَادِهَا كَانَتْ تُمَشِّطُهَا فَوَقَعَ الْمُشْطُ مِنْ يَدِهَا فَقَالَتْ: بِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَتِ ابْنَتُهُ: أَبِي؟ قَالَتْ: لَا وَلَكِنَّ رَبِّي وَرَبَّ أَبِيكَ اللَّهُ. فَقَالَتْ: أُخْبِرُ بِذَلِكَ أَبِي؟ قَالَتْ: نَعَمْ, فَأَخْبَرَتْهُ, فَدَعَا بِهَا فَقَالَ: مَنْ رَبُّكِ هَلْ لَكِ رَبٌّ غَيْرِي؟ قَالَتْ: رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ الَّذِي فِي السَّمَاءِ فَأَمَرَ بِبَقَرَةٍ مِنْ نُحَاسٍ فَأُحْمِيَتْ ثُمَّ دَعَا بِهَا وَبِوَلَدِهَا فَأَلْقَاهُمَا فِيهَا" 2 وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ, رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ وَأَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ, وَقَالَ الذَّهَبِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنُ الْإِسْنَادِ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَمَّا أُلْقِيَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي النَّارِ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ وَاحِدٌ فِي السَّمَاءِ وَأَنَا وَاحِدٌ فِي الْأَرْضِ أَعْبُدُكَ" رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ فِي النَّقْضِ وَقَالَ الذَّهَبِيُّ: حَسَنُ الْإِسْنَادِ3. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَبْدَ نَادَى جِبْرِيلَ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ فَيُنَادِي جِبْرَائِيلُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ, ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ" رَوَاهُ
التصريح باختصاص بعض الأشياء بأنها عنده
الْبُخَارِيُّ1. وَعَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: "إِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُوحِيَ بِالْأَمْرِ تَكَلَّمَ بِالْوَحْيِ أَخَذَتِ السَّمَاوَاتِ مِنْهُ رَجْفَةٌ, أَوْ قَالَ رِعْدَةٌ شَدِيدَةٌ خَوْفًا مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ, فَإِذَا سَمِعَ ذَلِكَ أَهْلُ السَّمَاوَاتِ صَعِقُوا وَخَرُّوا لِلَّهِ سُجَّدًا فَيَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يَرْفَعُ رَأْسَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَيُكَلِّمُهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ وَحْيِهِ بِمَا أَرَادَ, ثُمَّ يَمُرُّ جِبْرِيلُ عَلَى الْمَلَائِكَةِ كُلَّمَا مَرَّ بِسَمَاءٍ سَأَلَهُ مَلَائِكَتُهَا مَاذَا قَالَ رَبُّنَا يَا جِبْرِيلُ؟ فَيَقُولُ: قَالَ الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ, فَيَقُولُونَ كُلُّهُمْ مِثْلَمَا قَالَ جِبْرِيلُ, فَيَنْتَهِي جِبْرِيلُ بِالْوَحْيِ إِلَى حَيْثُ أَمَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ" 2 رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَاللَّفْظُ لَهُ. وَمِنْ ذَلِكَ التَّصْرِيحُ بِاخْتِصَاصِ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ بِأَنَّهَا عِنْدَهُ, قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [الْأَعْرَافِ: 206] وَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 19] وَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ} [فُصِّلَتْ: 38] وَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آلِ عِمْرَانَ: 169] وَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ} [التَّحْرِيمِ: 11] الْآيَةَ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ لَمَّا قَضَى الْخَلْقَ كَتَبَ عِنْدَهُ فَوْقَ عَرْشِهِ إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي" 3. وَلِمُسْلِمٍ عَنْهُ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ: "وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ
الرفع والصعود والعروج إليه
بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِي مَنْ عِنْدَهُ" 1. وَفِيهِمَا عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي فَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي, فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ, وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً" 2 وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَذَكَرَ الْحَدِيثَ إِلَى أَنْ قَالَ: ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْنَا فَقَالَ: "أَلَا تَصُفُّونَ كَمَا تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا" فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا؟ قَالَ: "يُتِمُّونَ الصُّفُوفَ الْأُوَلَ وَيَتَرَاصُّونَ فِي الصَّفِّ" 3، وَلَهُمَا عَنْ أَبَى هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى عِنْدَ رَبِّهِمَا عَزَّ وَجَلَّ فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى" 4 وَذَكَرَ الْحَدِيثَ, وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِتَمَامِهِ. وَمِنْ ذَلِكَ الرَّفْعُ وَالصُّعُودُ وَالْعُرُوجُ إِلَيْهِ وَهُوَ أَنْوَاعٌ: مِنْهَا رَفْعُهُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا، بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النِّسَاءِ: 157-158] وَقَالَ: تبارك وتعالى {يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [آلِ عِمْرَانَ: 55] وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي نُزُولِهِ إِلَى الْأَرْضِ حَكَمًا عَدْلًا فِي آخِرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِشَرِيعَةِ نَبِيِّهِمْ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي أَشْرَاطِ السَّاعَةِ.
وَمِنْهَا صُعُودُ الْأَعْمَالِ إِلَيْهِ كَمَا قَالَ تعالى إليه: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فَاطِرٍ: 10] وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ تَصَدَّقَ بِعِدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ -وَلَا يَصْعَدُ إِلَى اللَّهِ إِلَّا الطَّيِّبُ- فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ, ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهَا كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فُلُوَّهُ حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ" وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ1. وَعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الَّذِينَ يَذْكُرُونَ مِنْ جَلَالِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ تَسْبِيحِهِ وَتَكْبِيرِهِ وَتَحْمِيدِهِ وَتَهْلِيلِهِ يَتَعَاطَفْنَ حَوْلَ الْعَرْشِ لَهُنَّ دَوِيٌّ كَدَوِيِّ النَّحْلِ يُذْكَرْنَ بِصَاحِبِهِنَّ. أَلَا يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ لَا يَزَالَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ شَيْءٌ يُذْكَرُ بِهِ" رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ2. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اتَّقُوا دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهَا تَصْعَدُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَأَنَّهَا شَرَارَةٌ" قَالَ الذَّهَبِيُّ: غَرِيبٌ وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ3. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا: "وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ" 4. وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "إِنَّ اللَّهَ لَا يَنَامُ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ, يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ
النَّهَارِ وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ اللَّيْلِ حِجَابُهُ النُّورُ لَوْ كَشَفَهُ لأحرقت سبحات وجه مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ" 1 وَفِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ لَا تُحْصَى فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا. وَمِنْهَا صُعُودُ الْأَرْوَاحِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَعْنِي أَرْوَاحَ الْمُؤْمِنِينَ, قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الْأَعْرَافِ: 40] وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ الطَّوِيلِ فِي قَبْضِ الرُّوحِ وَفِيهِ قَالَ: "إِنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيَا وَإِقْبَالٍ مِنَ الْآخِرَةِ نَزَلَ إِلَيْهِ مَلَائِكَةٌ مِنَ السَّمَاءِ بِيضُ الْوُجُوهِ كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الشَّمْسُ مَعَهُمْ كَفَنٌ مِنْ أَكْفَانِ الْجَنَّةِ, وَحَنُوطٌ مِنْ حَنُوطِ الْجَنَّةِ, حَتَّى يَجْلِسُوا مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَيَقُولُ: أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ اخْرُجِي إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ, قَالَ: فتخرج كما فَتَسِيلُ كَمَا تَسِيلُ الْقَطْرَةُ مِنْ فِي السِّقَاءِ فَيَأْخُذُهَا فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ حَتَّى يَأْخُذُوهَا فَيَجْعَلُوهَا فِي ذَلِكَ الْكَفَنِ وَفِي ذَلِكَ الْحَنُوطِ وَيَخْرُجُ مِنْهَا كَأَطْيَبِ نَفْحَةِ مِسْكٍ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ, قَالَ: فَيَصْعَدُونَ بِهَا فَلَا يَمُرُّونَ عَلَى مَلَأٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِلَّا قَالُوا: مَا هَذِهِ الرُّوحُ الطَّيِّبَةُ فَيَقُولُونَ: فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ بِأَحْسَنِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانُوا يُسَمُّونَهُ فِي الدُّنْيَا حَتَّى يَنْتَهُوا إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فَيَسْتَفْتِحُونَ لَهُ فَيُشَيِّعُهُ مِنْ كُلِّ سَمَاءٍ مُقَرَّبُوهَا إِلَى السَّمَاءِ الَّتِي تَلِيهَا حَتَّى يَنْتَهُوا بِهَا إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: اكْتُبُوا كِتَابَ عَبْدِي فِي عِلِّيِّينَ وَأَعِيدُوهُ إِلَى الْأَرْضِ فَإِنِّي مِنْهَا خَلَقْتُهُمْ وَفِيهَا أُعِيدُهُمْ وَمِنْهَا أُخْرِجُهُمْ تَارَةً أُخْرَى" 2 وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِطُولِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي ذَلِكَ وَفِيهِ أَحَادِيثُ جَمَّةٌ سَنَذْكُرُ مِنْهَا مَا يَسَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي بَابِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَمِنْهَا عُرُوجُ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّوحِ إِلَيْهِ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ، تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [الْمَعَارِجِ: 3-4] وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلَائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلَائِكَةٌ بِالنَّهَارِ وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلَاةِ الْعَصْرِ وَصَلَاةِ الْفَجْرِ ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ فَيَسْأَلُهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ فَيَقُولُ: كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي, فَيَقُولُونَ: تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ, وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ" 1. وَعَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إِنَّ لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مَلَائِكَةً يَطُوفُونَ فِي الطُّرُقِ يَلْتَمِسُونَ أَهْلَ الذِّكْرِ فَإِذَا وَجَدُوا قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَعَالَى تَنَادَوْا هَلُمُّوا إِلَى حَاجَتِكُمْ. قَالَ: فَيَحِفُّونَهُمْ بِأَجْنِحَتِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا. قَالَ: فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ أَعْلَمُ مِنْهُمْ. مَا يَقُولُ عِبَادِي, قَالَ يَقُولُونَ: يُسَبِّحُونَكَ وَيُكَبِّرُونَكَ وَيُحَمِّدُونَكَ وَيُمَجِّدُونَكَ, قَالَ فَيَقُولُ تَعَالَى: هَلْ رَأَوْنِي؟ قَالَ فَيَقُولُونَ: لَا وَاللَّهِ مَا رَأَوْكَ قَالَ فَيَقُولُ: وَكَيْفَ لَوْ رَأَوْنِي, قَالَ يَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْكَ كَانُوا لَكَ أَشَدَّ عِبَادَةً وَأَشَدَّ لَكَ تَمْجِيدًا وَأَكْثَرَ لَكَ تَسْبِيحًا, قَالَ يَقُولُ: فَمَا يَسْأَلُونِي قَالَ: يَسْأَلُونَكَ الْجَنَّةَ قَالَ يَقُولُ: وَهَلْ رَأَوْهَا؟ قَالَ يَقُولُونَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا رَأَوْهَا, قَالَ يَقُولُ: فَكَيْفَ لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا, قَالَ يَقُولُونَ: لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ عَلَيْهَا حِرْصًا وَأَشَدَّ لَهَا طَلَبًا وَأَعْظَمَ فِيهَا رَغْبَةً, قَالَ فَمِمَّ يَتَعَوَّذُونَ؟ قَالَ يَقُولُونَ: مِنَ النَّارِ, قَالَ يَقُولُ: وَهَلْ رَأَوْهَا, قَالَ يَقُولُونَ: لَا وَاللَّهِ مَا رَأَوْهَا, قَالَ يَقُولُ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْهَا, قَالَ يَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ مِنْهَا فِرَارًا وَأَشَدَّ لَهَا مَخَافَةً, قَالَ فَيَقُولُ: فَأُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ. قَالَ يَقُولُ: مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فِيهِمْ فُلَانٌ لَيْسَ مِنْهُمْ إِنَّمَا جَاءَ لِحَاجَةٍ, قَالَ: هُمُ الْجُلَسَاءُ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ"، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ2, وَهَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ, وَعَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كَانَ مَلَكُ الْمَوْتِ يَأْتِي النَّاسَ عِيَانًا فَأَتَى مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَلَطَمَهُ فَذَهَبَ بِعَيْنِهِ, فَعَرَجَ إِلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَ: يَا رَبِّ بَعَثْتَنِي إِلَى مُوسَى فَلَطَمَنِي فَذَهَبَ بِعَيْنِي, وَلَوْلَا كَرَامَتُهُ عَلَيْكَ لَشَقَقْتُ عَلَيْهِ. قَالَ
معراج نبينا -صلى الله عليه وسلم- إلى سدرة المنتهى وإلى حيث شاء الله عز وجل
ارْجِعْ إِلَى عَبْدِي فَقُلْ لَهُ: فَلْيَضَعْ يَدَهُ عَلَى ثَوْرٍ فَلَهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ وَارَتْ كَفُّهُ سَنَةٌ يَعِيشُهَا فَأَتَاهُ فَبَلَّغَهُ مَا أَمَرَهُ فَقَالَ: ثُمَّ مَاذَا بَعْدَ ذَلِكَ, قَالَ: الْمَوْتُ, قَالَ: الْآنَ فَشَمَّهُ شَمَّةً قَبَضَ فِيهَا رُوحَهُ, وَرَدَّ اللَّهُ عَلَى مَلَكِ الْمَوْتِ بَصَرَهُ" وَفِي لَفْظٍ " فَلَطَمَ عَيْنَهُ فَفَقَأَهَا فَرَجَعَ فَقَالَ: أَرْسَلْتَنِي إِلَى عَبْدٍ لَا يُرِيدُ الْمَوْتَ, فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ عَيْنَهُ وَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى عَبْدِي فَقُلْ لَهُ إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْحَيَاةَ فَضَعْ يَدَكَ عَلَى مَتْنِ ثَوْرٍ". وَفِيهِ: "قَالَ: يَا رَبِّ فَالْآنَ, وَقَالَ: رَبِّ أَدْنِنِي مِنَ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ رَمْيَةً بِحَجَرٍ, قَالَ: رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لوكنت ثَمَّ لَأَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ إِلَى جَانِبِ الطَّرِيقِ عِنْدَ الْكَثِيبِ الْأَحْمَرِ" متفق عليه1. وعن ذَلِكَ مِعْرَاجُ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى وَإِلَى حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ كَمَا ثَبَتَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الْمَشْهُورَةُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا, قَالَ: الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: بَابُ الْمِعْرَاجِ. حَدَّثَنَا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَدَّثَهُمْ عَنْ لَيْلَةِ أُسْرِيَ بِهِ قَالَ: "بَيْنَمَا أَنَا نَائِمٌ فِي الْحَطِيمِ -وَرُبَّمَا قَالَ: فِي الْحِجْرِ مُضْطَجِعًا- إِذْ أَتَانِي آتٍ فَقَدْ قَالَ وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ فَشَقَّ مَا بَيْنَ هَذِهِ إِلَى هَذِهِ. -فَقُلْتُ لِلْجَارُودِ وَهُوَ إِلَى جَنْبِي قَالَ: مِنْ ثُغْرَةِ نَحْرِهِ إِلَى شَعَرَتِهِ- وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ مِنْ قَصِّهِ إِلَى شَعْرَتِهِ فَاسْتَخْرَجَ قَلْبِي ثُمَّ أُتِيتُ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مَمْلُوءَةٍ إِيمَانًا فَغُسِلَ قَلْبِي ثُمَّ حُشِيَ ثُمَّ أُعِيدَ, ثُمَّ أُتِيتُ بِدَابَّةٍ دُونَ الْبَغْلِ وَفَوْقَ الْحِمَارِ أَبْيَضَ فَقَالَ: لَهُ الْجَارُودُ: هُوَ الْبُرَاقُ يَا أَبَا حَمْزَةَ, فَقَالَ: أَنَسٌ: نَعَمْ يَضَعُ خُطْوَهُ عِنْدَ أَقْصَى طَرْفِهِ. فَحُمِلْتُ عَلَيْهِ فَانْطَلَقَ بِي جِبْرِيلُ حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الدُّنْيَا فَاسْتَفْتَحَ فَقِيلَ: مَنْ هَذَا قَالَ: جِبْرِيلُ قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ قَالَ: مُحَمَّدٌ قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ قَالَ: نَعَمْ قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ, فَفُتِحَ فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا فِيهَا آدَمُ فَقَالَ: هَذَا أَبُوكَ آدَمُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ السَّلَامَ, ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالِابْنِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ. ثُمَّ صَعِدَ
حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الثَّانِيَةَ فَاسْتَفْتَحَ قِيلَ: مَنْ هَذَا قَالَ: جِبْرِيلُ قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ قَالَ: مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ قَالَ: نَعَمْ قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ. فَفُتِحَ فَلَمَّا خَلَصْتُ إِذَا بِيَحْيَى وَعِيسَى وَهُمَا ابْنَا الْخَالَةِ قَالَ: هَذَا يَحْيَى وَعِيسَى فَسَلِّمْ عَلَيْهِمَا فَسَلَّمْتُ فَرَدَّا ثُمَّ قَالَا: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ, ثُمَّ صَعِدْتُ إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ فَاسْتَفْتَحَ قِيلَ: مَنْ هَذَا قَالَ: جِبْرِيلُ قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ قَالَ: مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ قَالَ: نَعَمْ قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ. فَفُتِحَ فَلَمَّا خَلَصْتُ إِذَا يُوسُفُ قَالَ: هَذَا يُوسُفُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ, فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ, ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الرَّابِعَةَ فَاسْتَفْتَحَ قِيلَ: مَنْ هَذَا قَالَ: جِبْرِيلُ قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ قَالَ: مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ قَالَ: نَعَمْ قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ, فَفُتِحَ فَلَمَّا خَلَصْتُ إِذَا إِدْرِيسُ قَالَ: هَذَا إِدْرِيسُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ, ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الْخَامِسَةَ فَاسْتَفْتَحَ قِيلَ: مَنْ هَذَا قَالَ: جِبْرِيلُ قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ قَالَ: مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ قَالَ: نَعَمْ قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ, فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا هَارُونُ فَقَالَ: هَذَا هَارُونُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ, ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ السَّادِسَةَ فَاسْتَفْتَحَ قِيلَ: مَنْ هَذَا قَالَ: جِبْرِيلُ قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ قَالَ: مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ قَالَ: نَعَمْ قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ, فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا مُوسَى قَالَ: هَذَا مُوسَى فَسَلِّمْ عَلَيْهِ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ, فَلَمَّا تَجَاوَزْتُ بَكَى قِيلَ لَهُ: مَا يُبْكِيكَ قَالَ: أَبْكِي لِأَنَّ غُلَامًا بُعِثَ بَعْدِي يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِهِ أَكْثَرُ مِمَّا يَدْخُلُهَا مِنْ أُمَّتِي, ثُمَّ صَعِدَ بِي إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ قِيلَ: مَنْ هَذَا قَالَ: جِبْرِيلُ قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ قَالَ: مُحَمَّدٌ قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: مَرْحَبًا بِهِ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ, فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا إِبْرَاهِيمُ قَالَ: هَذَا أَبُوكَ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ السَّلَامَ قَالَ: مَرْحَبًا بِالِابْنِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ, ثُمَّ رُفِعْتُ إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى فَإِذَا نَبْقُهَا مِثْلُ قِلَالِ هَجَرَ, وَإِذَا وَرَقُهَا مِثْلُ آذَانِ الْفِيَلَةِ, قَالَ: هَذِهِ سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى وَإِذَا أَرْبَعَةُ أَنْهَارٍ نَهْرَانِ ظَاهِرَانِ وَنَهْرَانِ بَاطِنَانِ, فَقُلْتُ: مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ قَالَ: أَمَّا الْبَاطِنَانِ فَنَهْرَانِ فِي الْجَنَّةِ وَأَمَّا
حديث "ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا"
الظَّاهِرَانِ فَالنِّيلُ وَالْفُرَاتُ, ثُمَّ رُفِعَ إِلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ, ثُمَّ أُتِيتُ بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ وَإِنَاءٍ مِنْ عَسَلٍ, فَأَخَذْتُ اللَّبَنَ فَقَالَ: هِيَ الْفِطْرَةُ أَنْتَ عَلَيْهَا وَأُمَّتُكَ, ثُمَّ فُرِضَتْ عَلَيَّ الصَّلَوَاتُ خَمْسِينَ صَلَاةً كُلَّ يَوْمٍ, فَرَجَعْتُ فَمَرَرْتُ عَلَى مُوسَى فَقَالَ: بِمَا أُمِرْتَ قَالَ: أُمِرْتُ بِخَمْسِينَ صَلَاةً كُلَّ يَوْمٍ قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لَا تَسْتَطِيعُ خَمْسِينَ صَلَاةً كُلَّ يَوْمٍ, وَإِنِّي وَاللَّهِ قَدْ جَرَّبْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ, فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ: مِثْلَهُ فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ: مِثْلَهُ فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا, فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ: مِثْلَهُ فَرَجَعْتُ فَأُمِرْتُ بِعَشْرِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ, فَرَجَعْتُ فَقَالَ: مِثْلَهُ فَرَجَعْتُ فَأُمِرْتُ بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ, فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ: بِمَا أُمِرْتَ؟ قُلْتُ: أُمِرْتُ بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لَا تَسْتَطِيعُ خَمْسَ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ وَإِنِّي قَدْ جَرَّبْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ قَالَ: سَأَلْتُ رَبِّي حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ وَلَكَنَّى أَرْضَى وَأُسَلِّمُ, قَالَ: فَلَمَّا جَاوَزْتُ نَادَانِي مُنَادٍ أَمْضَيْتُ فَرِيضَتِي وَخَفَّفْتُ عَنْ عِبَادِي1. وَمِنْ ذَلِكَ التَّصْرِيحُ بِنُزُولِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَنْزِلُ رَبُّنَا كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثلث الليل الآخر فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ, مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ, مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ" 2 وَقَدْ ثَبَتَ فِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ عَنْ نَحْوِ ثَلَاثِينَ صَحَابِيًّا وَقَدْ ثَبَتَ أيضا نزوله تبارك وتعالى لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ3، وَعَشِيَّةَ عَرَفَةَ4، وَعِنْدَ فَنَاءِ الْخَلْقِ "حِينَ يَنْزِلُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيُنَادِي: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ
الْقَهَّارِ" 1 وَكَذَا نُزُولُهُ تَعَالَى لِفَصْلِ الْقَضَاءِ بَيْنَ عِبَادِهِ كَمَا يَشَاءُ وَعَلَى مَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ وَعَظَمَتِهِ, وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى بَسْطُ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي آخِرِ هَذَا الْفَصْلِ مِنَ الْمَتْنِ. وَمِنْ ذَلِكَ تَنَزُّلُ الْمَلَائِكَةِ, وَنُزُولُ الْأَمْرِ مِنْ عِنْدِهِ وَتَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنْهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى, قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [النَّحْلِ: 2] وَقَالَ حِكَايَةً عَنْهُمْ: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ} [مَرْيَمَ: 64] وَقَالَ تَعَالَى: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} [السَّجْدَةِ: 5] الْآيَةَ. وَقَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ} [الطَّلَاقِ: 12] وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النِّسَاءِ: 136] وَقَالَ تَعَالَى: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} [آلِ عِمْرَانَ: 3] {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ} [إِبْرَاهِيمَ: 1] {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ} [الْأَنْبِيَاءِ: 50] {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [السَّجْدَةِ: 2] {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الزُّمَرِ: 1] {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزُّمَرِ: 2] {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [غَافِرٍ: 2] {تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [فُصِّلَتْ: 2] {تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فُصِّلَتْ: 42] {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} [الْإِسْرَاءِ: 106] {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشُّعَرَاءِ: 192] {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} [الشُّعَرَاءِ: 193] وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ, وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: "بَلَغَ أَبَا ذَرٍّ مَبْعَثُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ لِأَخِيهِ: اعْلَمْ لِي عِلْمَ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ يَأْتِيهِ الْخَبَرُ مِنَ
رفع الأيدي إليه تعالى والأبصار في أحاديث القنوت والاستسقاء والدعاء
السَّمَاءِ" 1. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ الذُّهَيْبَةِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَأْتِينِي خَبَرُ السَّمَاءِ صَبَاحًا وَمَسَاءً" 2 وَفِي الصَّحِيحِ قَالَ الْمُغِيرَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "أَخْبَرَنَا نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ رِسَالَةِ رَبِّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ مَنْ قُتِلَ مِنَّا صَارَ إِلَى الْجَنَّةِ" 3 وَفِيهِ قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَتَمَ شَيْئًا مِنَ الْوَحْيِ فَلَا تُصَدِّقْهُ, إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} .4 وَفِيهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ, قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ إِلَى أَنْ قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَهَا: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} 5 الْآيَاتِ, وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَمِنْ ذَلِكَ رَفْعُ الْأَيْدِي إِلَيْهِ وَالْأَبْصَارِ كَمَا فِي أَحَادِيثِ الْقُنُوتِ6 وَأَحَادِيثِ الِاسْتِسْقَاءِ.7 وَحَدِيثِ دُعَائِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى النَّفَرِ الَّذِينَ طَرَحُوا عَلَى ظَهْرِهِ الشَّرِيفِ سَلَا
الْجَزُورِ وَهُوَ سَاجِدٌ1، وَحَدِيثِ اسْتِغَاثَتِهِ رَبَّهُ بِبَدْرٍ وَمُنَاشَدَتِهِ إِيَّاهُ حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ2، وَكَذَا فِي أُحُدٍ وَالْخَنْدَقِ وَحُنَيْنٍ وَاسْتِغْفَارِهِ لِرَفِيقِ أَبِي مُوسَى يَوْمَئِذٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ3، فَكُتُبُ السُّنَّةِ مَمْلُوءَةٌ بِهَذَا النَّوْعِ, وَقَدْ وَرَدَ فِي رَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي الدُّعَاءِ أَكْثَرُ مِنْ مِائَةِ حَدِيثٍ فِي وَقَائِعَ مُتَفَرِّقَةٍ, وَذَلِكَ مَعْلُومٌ بِالْفِطَرِ, فَكُلُّ مَنْ حَزَبَهُ أَمْرٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَى الْعُلُوِّ يَدْعُو اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ, وَكَذَلِكَ رَفْعُ الْبَصَرِ ثَبَتَ فِي الدُّعَاءِ بَعْدَ الْوُضُوءِ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ4 وَهُوَ فِي الصَّحِيحِ بِدُونِ رَفْعِ الْبَصَرِ5. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا طَرَفَ صَاحِبُ الصُّورِ مَنْ وُكِّلَ بِهِ مُسْتَعِدًّا يَنْظُرُ نَحْوَ الْعَرْشِ مَخَافَةَ أَنْ يُؤْمَرَ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْهِ طَرْفُهُ كَأَنَّ عَيْنَيْهِ كَوْكَبَانِ دُرِّيَّانِ" أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ6. وَأَخْرَجَ الْبَغَوِيُّ عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ قَالَ: كَانَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُطِيلُ الصَّلَاةَ ثُمَّ يَرْكَعُ ثُمَّ يَرْفَعُ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ يَقُولُ: "إِلَيْكَ رَفَعْتُ رَأْسِي يَا
إشارة النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى العلو في خطبة حجة الوداع بإصبعه وبرأسه الشريف
عَامِرَ السَّمَاءِ نَظَرَ الْعَبِيدِ إِلَى أَرْبَابِهَا يَا سَاكِنَ السَّمَاءِ" قَالَ الذَّهَبِيُّ: إِسْنَادُهُ صَالِحٌ1. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: يُحْشَرُ النَّاسُ حُفَاةً عُرَاةً مُشَاةً قِيَامًا أَرْبَعَمِائَةِ سَنَةٍ شَاخِصَةً أَبْصَارُهُمْ إِلَى السَّمَاءِ يَنْتَظِرُونَ فَصْلَ الْقَضَاءِ. قَدْ أَلْجَمَهُمُ الْعَرَقُ مِنْ شِدَّةِ الْكَرْبِ, وَيَنْزِلُ اللَّهُ تَعَالَى فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ مِنَ الْعَرْشِ إِلَى الْكُرْسِيِّ, أَخْرَجَهُ أَبُو أَحْمَدَ الْعَسَّالُ فِي كِتَابِ الْمَعْرِفَةِ2, وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "يَجْمَعُ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ أَرْبَعِينَ سَنَةً شَاخِصَةً أَبْصَارُهُمْ إِلَى السَّمَاءِ يَنْتَظِرُونَ فَصْلَ الْقَضَاءِ, وَيَنْزِلُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ مِنَ الْعَرْشِ إِلَى الْكُرْسِيِّ" الْحَدِيثَ بِطُولِهِ قَالَهُ الذَّهَبِيُّ إِسْنَادُهُ حَسَنٌ3. وَفِيهِ أَحَادِيثُ غَيْرُ مَا ذَكَرْنَا. وَمِنْ ذَلِكَ إِشَارَةُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى الْعُلُوِّ فِي خُطْبَتِهِ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ بِأُصْبُعِهِ وَبِرَأْسِهِ, كَمَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَفِيهِ: "وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ كِتَابَ اللَّهِ, وَأَنْتُمْ تَسْأَلُونَ عَنِّي فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟ قَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ, فَقَالَ بِأُصْبُعِهِ السَّبَّابَةِ يَرْفَعُهَا إِلَى السَّمَاءِ وَيَنْكُتُهَا إِلَى النَّاسِ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ اللَّهُمَّ اشْهَدْ" ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. وَذَكَرَ الْحَدِيثَ4. وَلِلْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي خُطْبَتِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ النَّحْرِ وَفِيهِ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: "اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ" 5 الْحَدِيثَ. وَمِنْ ذَلِكَ النُّصُوصُ الْوَارِدَةُ فِي ذِكْرِ الْعَرْشِ وَصِفَتِهِ وَإِضَافَتِهِ غَالِبًا إِلَى خَالِقِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَأَنَّهُ تَعَالَى فَوْقَهُ, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ
الْعَظِيمِ} [النَّمْلِ: 26] وَقَالَ تَعَالَى: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [الْمُؤْمِنُونَ: 116] وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هُودٍ: 7] وَقَالَ تَعَالَى: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ} [غَافِرٍ: 15] وَقَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ، ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} [الْبُرُوجِ: 14-15] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ عِنْدَ الْكَرْبِ: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْعَلِيمُ الْحَلِيمُ. لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ, لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَرَبُّ الْأَرْضِ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ" 1 وَفِيهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ كُلُّ دَرَجَتَيْنِ مَا بَيْنَهُمَا كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ, فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَسَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَى الْجَنَّةِ وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ" 2. وَفِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "فَإِنَّ النَّاسَ يُصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ, فَإِذَا أنا بموسى آخذ بِقَائِمَةٍ مِنْ قَوَائِمِ الْعَرْشِ" 3 الْحَدِيثَ. وَفِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "يَدُ اللَّهِ مَلْأَى لَا يُغِيضُهَا نَفَقَةٌ, سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ" وَقَالَ: "أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ ما في يمنه, وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ وَبِيَدِهِ الأخرى الفيض أوالقبض, يَرْفَعُ وَيَخْفِضُ" وَفِي رِوَايَةٍ "وَبِيَدِهِ الْأُخْرَى الْمِيزَانُ يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ" 4 وَفِيهِ عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي
تكذيب فرعون لموسى في أن إلهه في السماء
ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظَلُّهُ" 1 قَالَ الذَّهَبِيُّ: إِسْنَادُهُ صَالِحٌ وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "أُذِنَ لِي أَنْ أُحَدِّثَ عَنْ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَةِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ حَمَلَةِ الْعَرْشِ أَنَّ مَا بَيْنَ شَحْمَةِ أُذُنِهِ إِلَى عَاتِقِهِ مَسِيرَةَ سَبْعِمِائَةِ عَامٍ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ2 وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَلَفْظُهُ "أُذِنَ لِي أَنْ أُحَدِّثَكُمْ عَنْ مَلَكٍ مِنْ حَمَلَةِ الْعَرْشِ بُعْدُ مَا بَيْنَ شَحْمَةِ أُذُنِهِ وَعُنُقِهِ مَخْفِقُ الطَّيْرِ سَبْعَمِائَةِ عَامٍ" وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ رِجَالُهُ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ3، وَفِيهِ جُمْلَةُ أَحَادِيثَ غَيْرِ مَا ذَكَرْنَا وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْهَا جُمْلَةٌ وَافِيَةٌ. وَمِنْ ذَلِكَ مَا قَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ فِرْعَوْنَ لَعَنَهُ اللَّهُ فِي تَكْذِيبِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي أَنَّ إِلَهَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْعَلِيُّ الْأَعْلَى خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَهُهُ, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْقَصَصِ: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [الْقَصَصِ: 38] وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِ: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ، أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ} [غَافِرٍ: 36-37] فَفِرْعَوْنُ لَعَنَهُ اللَّهُ تَعَالَى كَذَّبَ مُوسَى فِي أَنَّ رَبَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَرَبَّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا هُوَ اللَّهُ, الَّذِي فِي السَّمَاءِ فَوْقَ جَمِيعِ خَلْقِهِ مُبَايِنٌ لَهُمْ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُمْ خَافِيَةٌ فَكُلُّ جَهْمِيٍّ نَافٍ لِعُلُوِّ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَهُوَ فِرْعَوْنِيٌّ وَعَنْ فِرْعَوْنَ أَخَذَ دِينَهُ. وَكُلُّ سُنِّيٍّ يَصِفُ اللَّهَ تَعَالَى بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ أَنَّهُ اسْتَوَى عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ فَهُوَ مُوسَوِيٌّ مُحَمَّدِيٌّ مُتَّبِعٌ لِرُسُلِ اللَّهِ وَكُتُبِهِ.
وَمِنْ ذَلِكَ مَا قَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي قِصَّةِ تَكْلِيمِهِ مُوسَى حِينَ تَجَلَّى لِلْجَبَلِ فَانْدَكَّ الْجَبَلُ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} [الْأَعْرَافِ: 143] الْآيَةَ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ أَخْبَرَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} قَالَ حَمَّادٌ: هَكَذَا وَأَمْسَكَ سُلَيْمَانُ بِطَرْفِ إِبْهَامِهِ عَلَى أُنْمُلَةِ إِصْبَعِهِ الْيُمْنَى, قَالَ: فَسَاخَ الْجَبَلُ وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا. هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ1. وَرَوَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ مُعَاذِ بْنِ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيِّ عَنْ حَمَّادٍ نَحْوَهُ2، وَمِنْ طَرِيقِ مُعَاذٍ أَيْضًا رَوَاهُ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ حَدَّثَنَا ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} قَالَ: قَالَ هَكَذَا, يَعْنِي أَنَّهُ أَخْرَجَ طَرْفَ الْخِنْصَرِ. قَالَ أَحْمَدُ: أَرَانَا مُعَاذٌ, فَقَالَ لَهُ حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ: مَا تُرِيدُ إِلَى هَذَا يَا أَبَا مُحَمَّدٍ, قَالَ: فَضَرَبَ صَدْرَهُ ضَرْبَةً شَدِيدَةً, وَقَالَ: مَنْ أَنْتَ يَا حُمَيْدُ, وَمَا أَنْتَ يَا حُمَيْدُ؟ يُحَدِّثُنِي بِهِ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَتَقُولُ مَا تُرِيدُ إِلَيْهِ؟ 3 وَرَوَاهُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ طَرِيقِ هُدْبَةَ بْنِ خَالِدٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ, قَالَ: قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} قَالَ: "وَوَضَعَ الْإِبْهَامَ قَرِيبًا مِنْ طَرْفِ خِنْصَرِهِ" قَالَ: فَسَاخَ الْجَبَلُ, قَالَ حُمَيْدٌ لِثَابِتٍ: يَقُولُ هَكَذَا, فَرَفَعَ ثَابِتٌ يَدَهُ فَضَرَبَ صَدْرَ حُمَيْدٍ وَقَالَ: يَقُولُهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَيَقُولُ أَنَسٌ وَأَنَا أَكْتُمُهُ! 4 وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي
مُسْتَدْرَكِهِ مِنْ طُرُقٍ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ, وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ وَلَمْ يُخْرِجَاهُ1، وَرَوَاهُ الْخَلَّالُ مِنْ طَرِيقِ هُدْبَةَ بْنِ خَالِدٍ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ فَذَكَرَهُ وَقَالَ: هَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ لَا عِلَّةَ فِيهِ2، وَرَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْوَارِثِ بْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ وَمِنْ طَرِيقِ عَفَّانَ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ, وَمِنْ طَرِيقِ الْهَيْثَمِ بْنِ جَمِيلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ, وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ, وَمِنْ طَرِيقِ حَجَّاجٍ يَعْنِي ابْنَ مِنْهَالٍ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ, وَمِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ3، قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ خُزَيْمَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ قَبْلَ سِيَاقِ الْحَدِيثِ بِهَذِهِ الطُّرُقِ: أَفَلَيْسَ الْعِلْمُ مُحِيطًا يَا ذَوِي الْأَلْبَابِ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَوْ كَانَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ وَمَعَ كُلِّ بَشَرٍ وَخَلْقٍ كَمَا زَعَمَتِ الْمُعَطِّلَةُ لَكَانَ مُتَجَلِّيًا لِكُلِّ شَيْءٍ, وَكَذَلِكَ جَمِيعُ مَا فِي الْأَرْضِ لَوْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى مُتَجَلِّيًا لِجَمِيعِ أَرْضِهِ سَهْلِهَا وَوَعْرِهَا وَجِبَالِهَا وَبَرَارِيهَا وَمَفَاوِزِهَا وَمُدُنِهَا وقراها وعماراتها وَعِمَارَاتِهَا وَخَرَابِهَا وَجَمِيعِ مَا فِيهَا مِنْ نَبَاتٍ وَبِنَاءٍ لَجَعَلَهَا دَكًّا كَمَا جَعَلَ اللَّهُ الْجَبَلَ الَّذِي تَجَلَّى لَهُ دَكًّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} ا. هـ.4. وَبِالْجُمْلَةِ فَجَمِيعُ رُسُلِ اللَّهِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَجَمِيعُ كُتُبِهِ الْمُنَزَّلَةِ وَجَمِيعُ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَمُؤْمِنِي أَهْلِ الْأَرْضِ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَتْبَاعُ رُسُلِ اللَّهِ وَجَمِيعُ الْفِطَرِ السَّلِيمَةِ وَالْقُلُوبِ الْمُسْتَقِيمَةِ الَّتِي لَمْ تَجْتَلْهَا الشَّيَاطِينُ عَنْ دِينِهَا جَمِيعُهَا شَاهِدَةٌ حَالًا وَمَقَالًا أَنَّ خَالِقَهَا وَفَاطِرَهَا وَمَعْبُودَهَا الَّذِي تَأْلَهُهُ وَتَفْزَعُ إِلَيْهِ وَتَدْعُوهُ رَغَبًا وَرَهَبًا هُوَ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ عَالٍ عَلَى جَمِيعِ خَلْقِهِ اسْتَوَى عَلَى عَرْشِهِ بَائِنًا مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ, وَهُوَ يَعْلَمُ أَعْمَالَهُمْ وَيَسْمَعُ أَقْوَالَهُمْ وَيَرَى حَرَكَاتِهِمْ وَسَكَنَاتِهِمْ وَجَمِيعَ تَقَلُّبَاتِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُمْ خَافِيَةٌ, وَلِهَذَا تَرَى جَمِيعَ الْمُؤْمِنِينَ عَالِمِهِمْ وَعَامِيِّهِمْ وَحُرِّهِمْ وَمَمْلُوكِهِمْ وَذَكَرِهِمْ وَأُنْثَاهُمْ وَصَغِيرِهِمْ وَكَبِيرِهِمْ كُلٌّ مِنْهُمْ إِذَا دَعَا
أقوال الصحابة في صفة العلو
اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي جَلْبِ خَيْرٍ أَوْ كَشْفِ مَكْرُوهٍ إِنَّمَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ وَيَشْخَصُ بِبَصَرِهِ إِلَى السَّمَاءِ إِلَى جِهَةِ الْعُلُوِّ, إِلَى مَنْ يَعْلَمُ سِرَّهُ وَنَجْوَاهُ مُتَوَجِّهًا إِلَيْهِ بِقَلْبِهِ وَقَالَبِهِ, يَعْلَمُ أَنَّ مَعْبُودَهُ فَوْقَهُ وَأَنَّهُ إِنَّمَا يُدْعَى مِنْ أَعْلَى لَا مِنْ أسفل, كما يقوله الْجَهْمِيَّةُ قَبَّحَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى وَتَنَزَّهَ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا. ذِكْرُ أَقْوَالِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي صِفَةِ الْعُلُوِّ: رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَيُّهَا النَّاسُ, إِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ إِلَهَكُمُ الَّذِي تَعْبُدُونَهُ فَإِنَّ إِلَهَكُمْ قَدْ مَاتَ, وَإِنْ كَانَ إِلَهَكُمُ اللَّهُ الَّذِي فِي السَّمَاءِ فَإِنَّ إِلَهَكُمْ لَمْ يَمُتْ. ثُمَّ تَلَا: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} حَتَّى خَتَمَ الْآيَةَ1. وَلِلْبُخَارِيِّ فِي تَارِيخِهِ عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ قَالَ: لَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَيْهِ فَأَكَبَّ عَلَيْهِ وَقَبَّلَ جَبْهَتَهُ وَقَالَ: بِأَبِي أَنْتَ ,وَأُمِّي طِبْتَ حَيًّا وَمَيِّتًا, وَقَالَ: مَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ فِي السَّمَاءِ حَيٌّ لَا يَمُوتُ2. وَلِابْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الشَّامَ اسْتَقْبَلَهُ النَّاسُ وَهُوَ عَلَى بَعِيرِهِ, فَقَالُوا: لَوْ رَكِبْتَ بِرْذَوْنًا يَلْقَاكَ عُظَمَاءُ النَّاسِ وَوُجُوهُهُمْ, فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ألا أراكم ههنا, إِنَّمَا الأمر من ههنا فَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى السَّمَاءِ, قَالَ الذَّهَبِيُّ: إِسْنَادُهُ كَالشَّمْسِ3. وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ سَالِمٍ أَنَّ كَعْبًا قَالَ لِعُمَرَ: وَيْلٌ لِسُلْطَانِ الْأَرْضِ مِنْ سُلْطَانِ السَّمَاءِ, فَقَالَ عُمَرُ: إِلَّا مَنْ حَاسَبَ نَفْسَهُ. فَقَالَ كَعْبٌ: إِلَّا مَنْ حَاسَبَ نَفْسَهُ. فَكَبَّرَ عُمَرُ ثُمَّ خَرَّ سَاجِدًا4. وَعَنْ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ: وَيْلٌ لِدَيَّانِ الْأَرْضِ مِنْ دَيَّانِ السَّمَاءِ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ, إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِالْعَدْلِ فَقَضَى بِالْحَقِّ وَلَمْ يَقْضِ عَلَى هَوًى وَلَا عَلَى قَرَابَةٍ وَلَا عَلَى رَغْبَةٍ وَلَا رَهَبٍ, وَجَعَلَ كِتَابَ اللَّهِ مِرْآةً بَيْنَ عَيْنَيْهِ, قَالَ ابْنُ غَنْمٍ: فَحَدَّثْتُ بِهَذَا عُثْمَانَ وَمُعَاوِيَةَ وَيَزِيدَ وَعَبْدَ الْمَلِكِ, رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ1. وَعَنْ أَبِي يَزِيدَ الْمَدَنِيِّ قَالَ: لَقِيَتْ عُمَرَ امْرَأَةٌ يُقَالُ لَهَا خَوْلَةُ بِنْتُ ثَعْلَبَةَ, فَقَالَ عُمَرُ: هَذِهِ امْرَأَةٌ سَمِعَ اللَّهُ شَكْوَاهَا مِنْ فوق سبع سموات, قَالَ الذَّهَبِيُّ: هَذَا إِسْنَادٌ صَالِحٌ فِيهِ انْقِطَاعٌ أَبُو يَزِيدَ لَمْ يَلْحَقْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ, وَفِي لَفْظٍ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ مَرَّ بِعَجُوزٍ فَاسْتَوْقَفَتْهُ فَوَقَفَ يُحَدِّثُهَا, فَقَالَ رَجُلٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ حَبَسْتَ النَّاسَ عَلَى هَذِهِ الْعَجُوزِ, فَقَالَ: وَيْلَكَ أَتَدْرِي مَنْ هِيَ هَذِهِ امْرَأَةٌ سَمِعَ اللَّهُ شَكْوَاهَا مِنْ فوق سبع سموات, هَذِهِ خَوْلَةُ الَّتِي أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهَا: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ, وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: حَدَّثَنَا مِنْ وُجُوهٍ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَذَكَرَهُ2. وَمِنْ شِعْرِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: شَهِدْتُ بِأَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ... وَأَنَّ النَّارَ مَثْوَى الْكَافِرِينَا وَأَنَّ الْعَرْشَ فَوْقَ الْمَاءِ طَافٍ ... وَفَوْقَ الْعَرْشِ رَبُّ الْعَالَمِينَا وَتَحْمِلُهُ مَلَائِكَةٌ كِرَامٌ ... مَلَائِكَةُ الْإِلَهِ مُسَوَّمِينَا3
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي الِاسْتِيعَابِ: رُوِّينَاهُ مِنْ وُجُوهٍ صِحَاحٍ. وَرَوَى الدَّارِمِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "مَا بَيْنَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَالَّتِي تَلِيهَا خَمْسُمِائَةِ عَامٍ, وَبَيْنَ كُلِّ سَمَاءٍ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ, وَبَيْنَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ وَبَيْنَ والكرسي خَمْسُمِائَةِ عَامٍ, وَبَيْنَ الْكُرْسِيِّ إِلَى الْمَاءِ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ, وَالْعَرْشُ عَلَى الْمَاءِ, وَاللَّهُ تَعَالَى فَوْقَ الْعَرْشِ, وَهُوَ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ" 1 وَرَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ خَيْثَمَةَ عَنْهُ "إِنَّ الْعَبْدَ لَيَهُمُّ بِالْأَمْرِ مِنَ التِّجَارَةِ أَوِ الْإِمَارَةِ حَتَّى إِذَا تَيَسَّرَ لَهُ نَظَرَ اللَّهُ إِلَيْهِ مِنْ فوق سبع سموات فَيَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ: اصْرِفُوهُ عَنْهُ, فَإِنَّهُ إِنْ يَسَّرْتُهُ لَهُ أَدْخَلْتُهُ النَّارَ" أَخْرَجَهُ اللَّالَكَائِيُّ بِإِسْنَادٍ قَوِيٍّ2. وَعَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "إِنَّ تَعَالَى يَبْرُزُ لِأَهْلِ جَنَّتِهِ فِي كل جمعة وكثب مِنْ كَافُورٍ أَبْيَضَ, فَيَحْدُثُ لَهُمْ مِنَ الْكَرَامَةِ مَا لَمْ يَرَوْا مِثْلَهُ, وَيَكُونُونَ مِنَ الدُّنُوِّ مِنْهُ كَمُسَارَعَتِهِمْ إِلَى الْجُمُعِ" أَخْرَجَهُ ابْنُ بَطَّةَ فِي الْإِبَانَةِ الْكُبْرَى بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ3. وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: الْبَحْرُ الْمَسْجُورُ يَجْرِي تَحْتَ الْعَرْشِ4. وَتَقَدَّمَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَفِيهِ: "وَيَنْزِلُ اللَّهُ تعالى في ظل مِنَ الْغَمَامِ مِنَ الْعَرْشِ إِلَى الْكُرْسِيِّ" 5. وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} قَالَتْ: الْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ وَالِاسْتِوَاءُ غَيْرُ مَجْهُولٍ وَالْإِقْرَارُ بِهِ إِيمَانٌ وَالْجُحُودُ بِهِ كُفْرٌ, قَالَ الذَّهَبِيُّ: هَذَا الْقَوْلُ مَحْفُوظٌ عَنْ جَمَاعَةٍ كَرَبِيعَةَ الرَّأْيِ, وَمَالِكٍ الْإِمَامِ وَأَبِي جَعْفَرٍ التِّرْمِذِيِّ, فَأَمَّا عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ فَلَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ أَبَا كِنَانَةَ لَيْسَ بِثِقَةٍ وَأَبُو عُمَيْرٍ لَا أَعْرِفُهُ6. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: يَا رَبَّنَا مِنَّا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمِنَّا حَمَلَةُ الْعَرْشِ وَمِنَّا
الْكِرَامُ الْكَاتِبُونَ, وَذَكَرَ الْحَدِيثَ قَالَ الذَّهَبِيُّ: إِسْنَادُهُ صَالِحٌ1. وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "وَايْمُ اللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَى لَوْ كُنْتُ أُحِبُّ قَتْلَهُ لَقَتَلْتُهُ -يَعْنِي عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وَلَكِنْ عَلِمَ اللَّهُ مِنْ فَوْقِ عَرْشِهِ أَنِّي لَمْ أُحِبَّ قَتْلَهُ" رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ2. وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ أَنَّ جَعْفَرًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَاءَهَا إِذْ هُمْ بِالْحَبَشَةِ يَبْكِي فَقَالَتْ: مَا شَأْنُكَ, قَالَ: "رَأَيْتَ فَتًى مُتْرَفًا مِنَ الْحَبَشَةِ شَابًّا جَسِيمًا مَرَّ عَلَى امْرَأَةٍ فَطَرَحَ دَقِيقًا كَانَ مَعَهَا فَنَسَفَتْهُ الرِّيحُ, فَقَالَتْ: أَكِلُكَ إِلَى يَوْمِ يَجْلِسُ الْمَلِكُ عَلَى الْكُرْسِيِّ فَيَأْخُذُ لِلْمَظْلُومِ مِنَ الظَّالِمِ" رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُ3. وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "لَمَّا لَعَنَ اللَّهُ إِبْلِيسَ وأخرجه من سمواته وَأَخْزَاهُ قَالَ: رَبِّ أَخْزَيْتَنِي وَلَعَنْتَنِي وطردتني عن سمواتك وَجِوَارِكَ, فَوَعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّ خَلْقَكَ مَا دَامَتِ الْأَرْوَاحُ فِي أَجْسَادِهِمْ, فَأَجَابَهُ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَقَالَ: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي وَارْتِفَاعِي عَلَى عَرْشِي لَوْ أَنَّ عَبْدِي أَذْنَبَ حَتَّى مَلَأَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ خَطَايَا ثُمَّ لَمْ يَبْقَ مِنْ عُمْرِهِ إِلَّا نَفَسٌ وَاحِدٌ فَنَدِمَ عَلَى ذُنُوبِهِ لَغَفَرْتُهَا وَبَدَّلْتُ سَيِّئَاتِهِ كُلَّهَا حَسَنَاتٍ"4 وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إِنَّ الشَّيْطَانَ قَالَ: وَعِزَّتِكَ لَا أَبْرَحُ أُغْوِي عِبَادَكَ مَا دَامَتْ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ, فَقَالَ الرَّبُّ: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي وَارْتِفَاعِ مَكَانِي لَا أَزَالُ أَغْفِرُ مَا اسْتَغْفَرُونِي"5. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "إِنَّ الْكُرْسِيَّ الَّذِي وَسِعَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَمَوْضِعُ قَدَمَيْهِ, وَمَا يُقَدِّرُ قَدْرَ الْعَرْشِ إِلَّا الَّذِي خَلَقَهُ, وَإِنَّ السَّمَاوَاتِ فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ مِثْلُ قُبَّةٍ فِي
أقوال التابعين ومن بعدهم من أهل السنة والجماعة في صفة العلو
صَحْرَاءَ" رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ1. وَلِلدَّارِمِيِّ عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَهِيَ تَمُوتُ فَقَالَ: "كُنْتِ أَحَبَّ نِسَاءِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُحِبُّ إِلَّا طَيِّبًا, وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى بَرَاءَتَكِ مِنْ فوق سبع سموات, جَاءَ بِهَا الرُّوحُ الْأَمِينُ, فأصبح ليس مسجد مِنْ مَسَاجِدِ اللَّهِ تَعَالَى يُذْكَرُ فِيهَا إِلَّا وَهُوَ يُتْلَى فِيهَا آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ"2. وَذَكَرَ الطَّبَرَانِيُّ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ إِنَّ نَاسًا يُكَذِّبُونَ بِالْقَدَرِ قَالَ: "يُكَذِّبُونَ بِالْكِتَابِ لَئِنْ أخذت شعر أحدهم لَا يُنْبِتُونَهُ, إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ عَلَى عَرْشِهِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ شَيْئًا فَخَلَقَ الْخَلْقَ, وَكَتَبَ مَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ, فَإِنَّمَا يَجْرِي النَّاسُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ"3. وَلِإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَقُولَ مِنْ فَوْقِهِمْ. عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مِنْ فَوْقِهِمْ4. وَلِيَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ الْأُمَوِيِّ عَنْ عَدِيِّ بْنِ عُمَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: خَرَجْتُ مُهَاجِرًا إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَذَكَرَ قِصَّةً طَوِيلَةً وَقَالَ فِيهَا: فَإِذَا هُوَ وَمَنْ مَعَهُ يَسْجُدُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ وَيَزْعُمُونَ أَنَّ إِلَهَهُمْ فِي السَّمَاءِ فَأَسْلَمْتُ وَتَبِعْتُهُ5. وَأَقْوَالُ الصَّحَابَةِ فِي هَذَا الْبَابِ وَتَفَاسِيرُهُمْ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تَحْضُرَ وَفِيمَا ذَكَرْنَا كِفَايَةٌ. ذِكْرُ أَقْوَالِ التَّابِعِينَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فِي صِفَةِ الْعُلُوِّ: عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي التَّوْرَاةِ: "أَنَا اللَّهُ
فَوْقَ عِبَادِي, وعرشي َفَوْقَ جَمِيعِ خِلْقِي, وَأَنَا عَلَى عَرْشِي أُدَبِّرُ أُمُورَ عِبَادِي. وَلَا يَخْفَى عَلَيَّ شَيْءٌ فِي السَّمَاءِ وَلَا فِي الْأَرْضِ" قَالَ الذَّهَبِيُّ: رُوَاتُهُ ثِقَاتٌ1. وَعَنْهُ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خلق سبع سموات وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ ثُمَّ جَعَلَ بَيْنَ كُلِّ سَمَاءَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَالْأَرْضِ, وَجَعَلَ كِثَفَهَا مِثْلَ ذَلِكَ, ثُمَّ رَفَعَ الْعَرْشَ فَاسْتَوَى عَلَيْهِ. وَذَكَرَ الْأَثَرَ. رَوَاهُ أَبُو الشَّيْخِ فِي كِتَابِ الْعَظَمَةِ, قَالَ الذَّهَبِيُّ: إِسْنَادُهُ نَظِيفٌ, وَأَبُو صَالِحٍ لَيَّنُوهُ وَمَا هُوَ بِمُتَّهَمٍ بَلْ سَيِّئُ الْإِتْقَانِ2. وَعَنْ مَسْرُوقٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ كَانَ إِذَا حَدَّثَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: حَدَّثَتْنِي الصِّدِّيقَةُ بِنْتُ الصِّدِّيقِ حَبِيبَةُ اللَّهِ الْمُبَرَّأَةُ مِنْ فوق سبع سموات, قَالَ الذَّهَبِيُّ: إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ3. وَيُرْوَى عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: يَا رَبِّ مَنْ أَهْلُكَ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُكَ الَّذِينَ تُظِلُّهُمْ فِي ظِلِّ عَرْشِكَ؟ قَالَ: هُمُ الَّذِينَ يَأْوُونَ إِلَى مَسَاجِدِي كَمَا تَأْوِي النُّسُورُ إِلَى أَوْكَارِهَا4. وَعَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: يَنْزِلُ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ شَطْرَ اللَّيْلِ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ: مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ, حَتَّى إِذَا كَانَ الْفَجْرُ صَعِدَ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ, أَخْرَجَهُ عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي رَدِّهِ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ5. وَعَنْ شُرَيْحِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: ارْتَفَعَ إِلَيْكَ ثُغَاءُ التَّسْبِيحِ, وَصَعِدَ إِلَيْكَ وَقَارُ التَّقْدِيسِ, سُبْحَانَكَ ذَا الْجَبَرُوتِ, بِيَدِكَ الْمُلْكُ وَالْمَلَكُوتُ وَالْمَفَاتِيحُ وَالْمَقَادِيرُ. إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ6. وَعَنْ أَبِي قِلَابَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: "أَهْبَطَ اللَّهُ تَعَالَى آدَمَ قَالَ: يَا آدَمُ إِنِّي مُهْبِطٌ مَعَكَ بَيْتًا يُطَافُ حوله كما يطاق حَوْلَ عَرْشِي وَيُصَلَّى عِنْدَهُ كَمَا يُصَلَّى عِنْدَ
عَرْشِي" وَذَكَرَ الْأَثَرَ، قَالَ الذَّهَبِيُّ: هُوَ ثَابِتٌ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ1. وَعَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ قَالَ: "لَمَّا تَعَجَّلَ مُوسَى إِلَى رَبِّهِ رَأَى فِي ظِلِّ الْعَرْشِ رَجُلًا يَغْبِطُهُ, فَسَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُخْبِرَهُ بِاسْمِهِ فَقَالَ: لَا وَلَكِنِّي أُحَدِّثُكَ بِشَيْءٍ مِنْ فِعْلِهِ, كَانَ لَا يَحْسُدُ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ, وَلَا يَعُقُّ وَالِدَيْهِ وَلَا يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ" قَالَ الذَّهَبِيُّ: إِسْنَادُهُ قَوِيٌّ2. وَعَنْ مُجَاهِدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: مَا أَخَذَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ مِنَ الْعَرْشِ إِلَّا كَمَا تَأْخُذُ الْحَلْقَةُ مِنْ أَرْضِ الْفَلَاةِ3. وَعَنْهُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} قَالَ: يُجْلِسُهُ أَوْ يُقْعِدُهُ عَلَى الْعَرْشِ4. قَالَ الذَّهَبِيُّ: لِهَذَا الْقَوْلِ طُرُقٌ خَمْسَةٌ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ وَعَمِلَ فِيهِ الْمَرْوَزِيُّ مُصَنَّفًا, وَعَنْ نَوْفٍ الْبِكَالِيِّ: "أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا سَمِعَ الْكَلَامَ قَالَ: مَنْ أَنْتَ الَّذِي يُكَلِّمُنِي قَالَ: أَنَا رَبُّكَ الْأَعْلَى" قَالَ: الذَّهَبِيُّ إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ5. وَعَنْهُ قَالَ: إِنِّي أَجِدُ فِي التَّوْرَاةِ لَوْ أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كُنَّ طَبَقًا مِنْ حَدِيدٍ فَقَالَ رَجُلٌ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ لَخَرَقَتْهُنَّ حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ" رَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ6. وَعَنْ أَبِي عِيسَى يَحْيَى بْنِ رَافِعٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ مَلَكًا لَمَّا اسْتَوَى الرَّبُّ عَلَى كُرْسِيِّهِ سَجَدَ فَلَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ فَيَقُولُ لَمْ أَعْبُدْكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ7. وَعَنْ قَتَادَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ:
قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ: "يَا رَبُّ أَنْتَ فِي السَّمَاءِ وَنَحْنُ فِي الْأَرْضِ فَكَيْفَ لَنَا أَنْ نَعْرِفَ رِضَاكَ وَغَضَبَكَ؟ قَالَ: إِذَا رَضِيتُ عَنْكُمْ اسْتَعْمَلْتُ عَلَيْكُمْ خِيَارَكُمْ وَإِذَا غَضِبْتُ اسْتَعْمَلْتُ عَلَيْكُمْ شِرَارَكُمْ" قَالَ الذَّهَبِيُّ: هَذَا ثَابِتٌ عَنْ قَتَادَةَ1. وَعَنْ عِكْرِمَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: بَيْنَمَا رَجُلٌ فِي الْجَنَّةِ اشْتَهَى الزَّرْعَ, فَيَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ: ابْذُرُوا فَيَخْرُجُ أَمْثَالُ الْجِبَالِ, فَيَقُولُ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ فَوْقِ عرشه: "كل يابن آدَمَ فَإِنَّ ابْنَ آدَمَ لَا يَشْبَعُ" قَالَ الذَّهَبِيُّ: إِسْنَادُهُ لَيْسَ بِذَاكَ2. وَصَحَّ فِي السُّنَّةِ لِلَّالَكَائِيِّ عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ قَالَ: كَانَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُطِيلُ الصَّلَاةَ, ثُمَّ يَرْفَعُ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ يَقُولُ: إِلَيْكَ رَفَعْتُ رَأْسِي نَظَرَ الْعَبِيدِ إِلَى أَرْبَابِهَا يَا سَاكِنَ السَّمَاءِ3. وَفِي الْحِلْيَةِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: خُذُوا, فَيَقْرَأُ ثُمَّ يَقُولُ: اسْمَعُوا إِلَى قَوْلِ الصَّادِقِ مِنْ فَوْقِ عَرْشِهِ4. وَعَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} قَالَ: بَيْنَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ وَبَيْنَ الْعَرْشِ سَبْعُونَ أَلْفَ حِجَابٍ فَمَا زَالَ يُقَرِّبُ مُوسَى حَتَّى كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ حِجَابٌ فَلَمَّا رَأَى مَكَانَهُ وَسَمِعَ صَرِيفَ الْقَلَمِ قَالَ: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} هَذَا ثَابِتٌ عَنْ مُجَاهِدٍ إِمَامِ التَّفْسِيرِ, أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ5. وَعَنْ سُفْيَانَ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَسَأَلَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} كَيْفَ اسْتَوَى؟ فَقَالَ: "الِاسْتِوَاءُ غَيْرُ مَجْهُولٍ وَالْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ. وَمِنَ اللَّهِ الرِّسَالَةُ وَعَلَى الرَّسُولِ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا التَّصْدِيقُ"6. وَعَنْ حَسَّانِ بْنِ عَطِيَّةَ قَالَ: حَمَلَةُ
الْعَرْشِ أَقْدَامُهُمْ ثَابِتَةٌ فِي الْأَرْضِ السَّابِعَةِ وَرُءُوسُهُمْ قَدْ جَاوَزَتِ السَّمَاءَ السَّابِعَةَ وَقُرُونُهُمْ مِثْلُ طُولِهِمْ عَلَيْهَا الْعَرْشُ1. وَذَكَرَ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ الْمُعْتَزِلَةَ وَقَالَ: إِنَّمَا مَدَارُ الْقَوْمِ عَلَى أَنْ يَقُولُوا لَيْسَ فِي السَّمَاءِ شَيْءٌ, قَالَ الذَّهَبِيُّ: هَذَا إِسْنَادٌ كَالشَّمْسِ وُضُوحًا وَكَالْإِسْطِوَانَةِ ثُبُوتًا عَنْ سَيِّدِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَعَالِمِهِمْ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى2. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِينٍ, رَفِيقُ ابْنِ كَثِيرٍ بِمَكَّةَ {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} 3 وَعَنِ الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ} قَالَ: هُوَ عَلَى عَرْشِهِ وَعِلْمُهُ مَعَهُمْ أَيْنَمَا كَانُوا. وَفِي لَفْظٍ: هُوَ فوق العرش وعلمهم مَعَهُمْ أَيْنَمَا كَانُوا. أَخْرَجَهُ الْعَسَّالُ وَابْنُ بَطَّةَ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ4. وَعَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قال: لو سألت أَيْنَ اللَّهُ لَقُلْتُ فِي السَّمَاءِ5. وَعَنْ حَبِيبِ ابن أَبِي حَبِيبٍ قَالَ: شَهِدْتُ خَالِدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيَّ وَخَطَبَهُمْ بِوَاسِطَ فَقَالَ: "أَيُّهَا النَّاسُ ضَحُّوا تَقَبَّلَ اللَّهُ ضَحَايَاكُمْ, فَإِنِّي مُضَحٍّ بِالْجَعْدِ بْنِ دِرْهَمٍ فَإِنَّهُ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَّخِذْ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا وَلَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا" ثُمَّ نَزَلَ فَذَبَحَهُ6.
أقوال طبقة أخرى: أبي حنيفة، وابن جريج، والأوزاعي وأضرابهم
قَالَ الذَّهَبِيُّ: وَالْمُعْتَزِلَةُ تَقُولُ هَذَا وَتُحَرِّفُ نَصَّ التَّنْزِيلِ فِي ذَلِكَ, وَزَعَمُوا أَنَّ الرَّبَّ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ. وَقَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي التَّمْهِيدِ: وَعُلَمَاءُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ الَّذِينَ حُمِلَ عَنْهُمُ التَّأْوِيلُ قَالُوا فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ} هُوَ عَلَى الْعَرْشِ وَعِلْمُهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ, وَمَا خَالَفَهُمْ أَحَدٌ فِي ذَلِكَ يُحْتَجُّ بِهِ1. ذِكْرُ أَقْوَالِ طَبَقَةٍ أُخْرَى فِي صِفَةِ الْعُلُوِّ: عَنْ نُوحٍ الْجَامِعِ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَوَّلَ مَا ظَهَرَ جَهْمٌ, إِذْ جَاءَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ تِرْمِذَ كَانَتْ تُجَالِسُ جَهْمًا فَدَخَلَتِ الْكُوفَةَ فَأَظُنُّنِي أَقَلُّ مَا رَأَيْتُ عَلَيْهَا عَشَرَةُ آلَافِ نَفْسٍ, فَقِيلَ لها: إن ههنا رجلا قد نَظَرَ فِي الْمَعْقُولِ يُقَالُ لَهُ أَبُو حَنِيفَةَ, فَأْتِيهِ, فَأَتَتْهُ فَقَالَتْ: أَنْتَ الَّذِي تُعَلِّمُ النَّاسَ الْمَسَائِلَ وَقَدْ تَرَكْتَ دِينَكَ, أَيْنَ إِلَهُكَ الَّذِي تَعْبُدُهُ؟ فَسَكَتَ عَنْهَا ثُمَّ مَكَثَ سَبْعَةَ أَيَّامٍ لَا يُجِيبُهَا ثُمَّ خَرَجَ إِلَيْنَا, وَقَدْ وَضَعَ كِتَابًا إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِي السَّمَاءِ دُونَ الْأَرْضِ, فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: أَرَأَيْتَ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَهُوَ مَعَكُمْ} قَالَ: هُوَ كَمَا تَكْتُبُ إِلَى الرَّجُلِ أَنِّي مَعَكَ, وَأَنْتَ غَائِبٌ عَنْهُ. رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ ثُمَّ قَالَ: لَقَدْ أَصَابَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيمَا نَفَى عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الْكَوْنِ فِي الْأَرْضِ. وَأَصَابَ فِيمَا ذَكَرَ مِنْ تَأْوِيلِ الْآيَةِ وَتَبِعَ مُطْلَقَ السَّمْعِ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فِي السَّمَاءِ2، قُلْتُ: وَإِنَّمَا أَرَادَ بِقَوْلِهِ هُوَ كَمَا تَكْتُبُ إِلَى الرَّجُلِ إِلَخْ نَفْيَ الْحُلُولِ. وَإِلَّا فَرَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى سَوَاءٌ عِنْدَهُ الْغَيْبُ وَالشَّهَادَةُ وَالسِّرُّ وَالْعَلَانِيَةُ. وَعَنْ أَبِي مطيع بن الْحَكَمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَلْخِيِّ, قَالَ: "سَأَلْتُ أَبَا حَنِيفَةَ عَمَّنْ يَقُولُ لَا أَعْرِفُ رَبِّي فِي السَّمَاءِ أَوْ فِي الْأَرْضِ, قَالَ: إِذَا أَنْكَرَ أَنَّهُ فِي السَّمَاءِ أَوْ فِي الْأَرْضِ, فَقَالَ: قَدْ كَفَرَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ
اسْتَوَى} وعرشه فوق سمواته فَقُلْتُ إِنَّهُ يَقُولُ: أَقُولُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى, وَلَكِنْ قَالَ: لَا يَدْرِي الْعَرْشَ فِي السَّمَاءِ أَوْ فِي الْأَرْضِ. قَالَ: إِذَا أَنْكَرَ أَنَّهُ فِي السَّمَاءِ فَقَدْ كَفَرَ" رَوَاهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ الْأَنْصَارِيُّ فِي الْفَارُوقِ1. وَرَوَى الْمَقْدِسِيُّ عَنْهُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: من أنكر أن اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِي السَّمَاءِ فَقَدْ كَفَرَ2. وَعَنْ أَبِي جُرَيْجٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: كَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ3. وَرَوَى الْحَاكِمُ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: "كُنَّا -وَالتَّابِعُونَ مُتَوَافِرُونَ- نَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَوْقَ عَرْشِهِ وَنُؤْمِنُ بما وردت به السُّنَّةُ مِنْ صِفَاتِهِ. وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ4. وَلِلثَّعْلَبِيِّ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} قَالَ: هُوَ عَلَى عَرْشِهِ كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ5. وَسُئِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ أَحَادِيثِ الصِّفَاتِ فَقَالَ: أُمِرُّهَا كَمَا جَاءَتْ6. وَعَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} قَالَ: هُوَ عَلَى عَرْشِهِ وَعِلْمُهُ مَعَهُمْ, رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي السُّنَّةِ7. وَلِلْبَيْهَقِيِّ عَنْهُ قَالَ: بَلَغَنَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} : هُوَ الْأَوَّلُ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ وَالْآخِرُ بَعْدَ كُلِّ شَيْءٍ وَالظَّاهِرُ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ وَالْبَاطِنُ أَقْرَبُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ, وَإِنَّمَا قُرْبُهُ بِعِلْمِهِ وَهُوَ فَوْقُ عَرْشِهِ8. وَعَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ فِي قَوْلِهِ: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} قَالَ: عِلْمُهُ وَقَالَ: فِي جَمِيعِ أَحَادِيثِ الصِّفَاتِ أَمِرُّوهَا كَمَا جَاءَتْ9.
وَعَنِ الْإِمَامِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: اللَّهُ فِي السَّمَاءِ وَعِلْمُهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ لَا يَخْلُو مِنْهُ شَيْءٌ1. وَسَأَلَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} كَيْفَ اسْتَوَى؟ فَأَطْرَقَ مَالِكٌ وَأَخَذَتْهُ الرُّحَضَاءُ, ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ, وَلَا يُقَالُ كَيْفَ وَكَيْفَ عَنْهُ مَرْفُوعٌ, وَأَنْتَ صَاحِبُ بِدْعَةٍ أَخْرِجُوهُ. وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: الْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ وَالِاسْتِوَاءُ مِنْهُ غَيْرُ مَجْهُولٍ, وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ, وَإِنِّي أَخَافُ أَنْ تَكُونَ ضَالًّا وَأَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ2. وَقَالَ سَلَّامُ بْنُ أَبِي مُطِيعٍ: وَيْلَكُمْ مَا تُنْكِرُونَ هَذَا الْأَمْرَ وَاللَّهِ مَا فِي الْحَدِيثِ شَيْءٌ إِلَّا وَفِي الْقُرْآنِ مَا هُوَ أَثْبَتُ مِنْهُ, قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} - {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} - {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} - {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} - {وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} - {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} - {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} - {يَا مُوسَى إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ} فَمَا زَالَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْعَصْرِ إِلَى الْمَغْرِبِ3. وَصَحَّ عَنِ ابْنِ الْمَاجِشُونِ أَنَّهُ سُئِلَ عَمَّا جَحَدَتْ بِهِ الْجَهْمِيَّةُ فَقَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ فَهِمْتُ مَا سَأَلْتَ عَنْهُ فِيمَا تَتَابَعَتْهُ الْجَهْمِيَّةُ فِي صِفَةِ الرَّبِّ الْعَظِيمِ الَّذِي فَاتَتْ عَظَمَتُهُ الْوَصْفَ وَالتَّقْدِيرَ, وَكَلَّتِ الْأَلْسُنُ عَنْ تَفْسِيرِ صِفَتِهِ وَانْحَسَرَتِ الْعُقُولُ دُونَ مَعْرِفَةِ قَدْرِهِ, فَلَمْ تَجِدِ الْعُقُولُ مَسَاغًا فَرَجَعَتْ خَاسِئَةً حَسِيرَةً, وَإِنَّمَا أُمِرُوا بِالنَّظَرِ وَالتَّفْكِيرِ فِيمَا خَلَقَ, وَإِنَّمَا يُقَالُ "كَيْفَ" لَمَّا لَمْ يَكُنْ مَرَّةً ثُمَّ كَانَ, أَمَّا مَنْ لَا يَحُولُ وَلَا يَزُولُ وَلَمْ يَزَلْ وَلَيْسَ لَهُ مِثْلٌ فَإِنَّهُ لَا يَعْلَمُ كَيْفَ هُوَ إِلَّا هُوَ. وَسَاقَ فَصْلًا طَوِيلًا فِي هَذَا الْمَعْنَى4، وَذَكَرَ
طبقة أخرى: جرير بن عبد الحميد، وابن شقيق، وأحمد بن حنبل وأضرابهم
جُمْلَةً مِنْ نُصُوصِ الصِّفَاتِ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ: إِنَّمَا يَدُورُونَ عَلَى أَنْ يَقُولُوا لَيْسَ فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ, يَعْنِي الْجَهْمِيَّةَ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ الرَّازِيُّ1. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ إِمَامُ أَهْلِ الْمَغَازِي: كَانَ اللَّهُ تَعَالَى كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ إِذْ لَيْسَ إِلَّا الْمَاءُ عَلَيْهِ الْعَرْشُ, وَعَلَى الْعَرْشِ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ الظَّاهِرُ فِي عُلُوِّهِ عَلَى خَلْقِهِ فَلَيْسَ شَيْءٌ فَوْقَهُ, الْبَاطِنُ لِإِحَاطَتِهِ بِخَلْقِهِ فَلَيْسَ شَيْءٌ دُونَهُ, الدَّائِمُ الَّذِي لَا يَبِيدُ, وَكَانَ أَوَّلَ مَا خَلَقَ النُّورُ وَالظُّلْمَةُ ثُمَّ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ مِنْ دخان, ثم دحى الْأَرْضَ, ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَحَبَكَهُنَّ وَأَكْمَلَ خَلْقَهُنَّ فِي يَوْمَيْنِ, فَفَرَغَ مِنْ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ, ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ2. طَبَقَةٌ أُخْرَى: رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ قَالَ: كَلَامُ الْجَهْمِيَّةِ أَوَّلُهُ عَسَلٌ وَآخِرُهُ سُمٌّ, وَإِنَّمَا يُحَاوِلُونَ أَنْ يَقُولُوا لَيْسَ فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ3. وَصَحَّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ شَقِيقٍ قَالَ: قُلْتُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ كَيْفَ نَعْرِفُ رَبَّنَا عَزَّ وَجَلَّ؟ قَالَ: فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ عَلَى عَرْشِهِ, وَلَا نَقُولُ كَمَا تَقُولُ الجهمية إنه ههنا فِي الْأَرْضِ4. فَقِيلَ هَذَا لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فَقَالَ: هَكَذَا هُوَ عِنْدَنَا. وَعَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَدْ خِفْتُ اللَّهَ مِنْ كَثْرَةِ مَا أَدْعُو عَلَى الْجَهْمِيَّةِ, قَالَ: لَا تَخَفْ فَإِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ إِلَهَكَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ لَيْسَ بِشَيْءٍ. رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ ابن أَحْمَدَ5. وَقَالَ نُوحٌ الْجَامِعُ وَسَأَلَهُ رَجُلٌ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي السَّمَاءِ هُوَ, فَحَدَّثَ بِحَدِيثِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ سَأَلَ الْأَمَةَ "أَيْنَ اللَّهُ" قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ
قَالَ: "أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ" ثُمَّ قَالَ: سَمَّاهَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُؤْمِنَةً أَنْ عَرَفَتْ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِي السَّمَاءِ. رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ أَيْضًا1. وَقَالَ عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ: كَلَّمْتُ بِشْرًا الْمِرِّيسِيَّ وَأَصْحَابَهُ فَرَأَيْتُ آخِرَ كَلَامِهِمْ يَنْتَهِي أَنْ يَقُولُوا لَيْسَ فِي السَّمَاءِ شَيْءٌ, أَرَى أَنْ لَا يُنَاكَحُوا وَلَا يُوارَثُوا2. وَثَبَتَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ: مَنْ طَلَبَ الدِّينَ بِالْكَلَامِ تَزَنْدَقَ, وَمَنْ طَلَبَ الْمَالَ بِالْكِيمْيَاءِ أَفْلَسَ, وَمَنْ تَتَبَّعَ غَرِيبَ الْحَدِيثِ كَذَبَ3. وقد ضرب عليا الْأَحْوَلُ وَطَوَّفَ بِهِ فِي شَأْنِ الْكَلَامِ وَضُرِبَ آخَرُ كَانَ مَعَهُ4. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ كُلُّهُمْ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ عَلَى الْإِيمَانِ بِالْقُرْآنِ وَالْأَحَادِيثِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الثِّقَاتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي صِفَةِ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ غَيْرِ تَفْسِيرٍ وَلَا وَصْفٍ وَلَا تَشْبِيهٍ, فَمَنْ فَسَّرَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ خَرَجَ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ؛ لِأَنَّهُ وَصَفَهُ بِصِفَةِ لَا شَيْءَ5. وَكَتَبَ بِشْرٌ الْمِرِّيسِيُّ قَبَّحَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى مَنْصُورِ بْنِ عَمَّارٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَسْأَلُهُ عَنْ قَوْلِهِ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} كَيْفَ اسْتَوَى؟ فَكَتَبَ إِلَيْهِ اسْتِوَاؤُهُ غَيْرُ مَحْدُودٍ وَالْجَوَابُ فِيهِ تَكَلُّفٌ وَمَسْأَلَتُكَ عَنْ ذَلِكَ بِدْعَةٌ وَالْإِيمَانُ بِجُمْلَةِ ذَلِكَ وَاجِبٌ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} .6 وَقِيلَ لِيَزِيدَ بْنِ هَارُونَ: مَنِ الْجَهْمِيُّ؟ قَالَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} عَلَى خِلَافِ مَا يَقِرُّ فِي
قُلُوبِ الْعَامَّةِ فَهُوَ جَهْمِيٌّ. رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ1. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ عَامِرٍ الضُّبَعِيُّ وَذَكَرَ الْجَهْمِيَّةَ فَقَالَ: هُمْ شَرٌّ قَوْلًا مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى, قَدِ اجْتَمَعَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَأَهْلُ الْأَدْيَانِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى الْعَرْشِ2. وَقَالُوا هُمْ: لَيْسَ عَلَى الْعَرْشِ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ إِسْرَائِيلَ بِحَدِيثِ "إِذَا جَلَسَ الرَّبُّ جَلَّ جَلَالُهُ عَلَى الْكُرْسِيِّ" فَاقْشَعَرَّ رَجُلٌ عِنْدَ وَكِيعٍ فَغَضِبَ وَكِيعٌ وَقَالَ: أَدْرَكْنَا الْأَعْمَشَ وَالثَّوْرِيَّ يُحَدِّثُونَ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَلَا يُنْكِرُونَهَا3. وَقَالَ مَرَّةً: نُسَلِّمُ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ كَمَا جَاءَتْ وَلَا نَقُولُ: كَيْفَ كَذَا وَلَا لَمْ كَذَا4. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ: إِنَّ الْجَهْمِيَّةَ أَرَادُوا أَنْ يَنْفُوا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى كَلَّمَ مُوسَى وَأَنْ يَكُونَ عَلَى الْعَرْشِ, أَرَى أَنْ يُسْتَتَابُوا فَإِنْ تَابُوا وَإِلَّا ضُرِبَتْ أَعْنَاقُهُمْ5. وَقَالَ وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ: إِيَّاكُمْ وَرَأْيَ جَهْمٍ فَإِنَّهُمْ يُحَاوِلُونَ أَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ فِي السَّمَاءِ, وَمَا هُوَ إِلَّا مِنْ وَحْيِ إِبْلِيسَ, مَا هُوَ إِلَّا الْكُفْرُ6. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ لَمَّا قُدِّمَتِ امْرَأَةُ جَهْمٍ فَقَالَ رَجُلٌ عِنْدَهَا: اللَّهُ عَلَى عَرْشِهِ فَقَالَتْ: مَحْدُودٌ عَلَى مَحْدُودٍ. قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: هِيَ كَافِرَةٌ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ7. وَقَالَ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ فِي قَوْلِهِ: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} يَقُولُ ارْتَفَعَ8. وَقَالَ الْفَرَّاءُ صَعِدَ9. وَعَنْ
طبقة الشافعي، وأحمد، والقعنبي، ومحمد بن مصعب العابد
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيِّ أَنَّهُ ضَرَبَ رَأْسَ قَرَابَةٍ لَهُ كَانَ يَرَى رَأْيَ جَهْمٍ, وَكَانَ يَضْرِبُ بِالنَّعْلِ عَلَى رَأْسِهِ وَيَقُولُ: لَا حَتَّى تَقُولَ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى, بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ1. طَبَقَةُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا 2: رَوَى الْحَافِظُ الْمَقْدِسِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: الْقَوْلُ فِي السُّنَّةِ الَّتِي أَنَا عَلَيْهَا وَرَأَيْتُ عَلَيْهَا الَّذِينَ رَأَيْتُهُمْ مِثْلَ سُفْيَانَ وَمَالِكٍ وَغَيْرِهِمَا إِقْرَارٌ بِشَاهِدَةٍ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى عَرْشِهِ فِي سَمَائِهِ يَقْرُبُ مِنْ خَلْقِهِ كَيْفَ شَاءَ, وَيَنْزِلُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا كَيْفَ شَاءَ, وَذَكَرَ سَائِرَ الِاعْتِقَادِ3. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ الْقَعْنَبِيُّ: مَنْ لَا يُوقِنُ أَنَّ الرَّحْمَنَ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى كَمَا يَقِرُ فِي قُلُوبِ الْعَامَّةِ فَهُوَ جَهْمِيٌّ4. وَقَالَ عَاصِمُ بْنُ عَلِيٍّ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى: نَاظَرْتُ جَهْمًا فَتَبَيَّنَ مِنْ كَلَامِهِ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ أَنَّ فِي السَّمَاءِ رَبًّا5. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ الْحُمَيْدِيُّ: نَقِفُ عَلَى مَا وَقَفَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ, نَقُولُ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وَمَنْ زَعَمَ غَيْرَ ذَلِكَ فَهُوَ مُبْطِلٌ جَهْمِيٌّ6. وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: وَحُبِسَ رَجُلٌ فِي التَّجَهُّمِ فَجِيءَ بِهِ إِلَيْهِ لِيَمْتَحِنَهُ فَقَالَ لَهُ: أَتَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ؟ فَقَالَ: لَا أَدْرِي مَا بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ, فَقَالَ: رُدُّوهُ فَإِنَّهُ لَمْ يَتُبْ بَعْدُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ
مُصْعَبٍ الْعَابِدُ: مَنْ زَعَمَ أَنَّكَ لَا تَتَكَلَّمُ وَلَا تَرَى في الآخرة فهوكافر بِوَجْهِكَ, أَشْهَدُ أَنَّكَ فَوْقَ الْعَرْشِ فوق سبع سموات, لَيْسَ كَمَا تَقُولُ أَعْدَاءُ اللَّهِ الزَّنَادِقَةُ وَقَالَ أَبُو عِمْرَانَ الطَّرَسُوسِيُّ: قُلْتُ لِسُنَيْدِ بْنِ دَاوُدَ: هُوَ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ؟ قَالَ: نَعَمْ وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ نُعَيْمٍ فِي قَوْلِهِ: {وَهُوَ مَعَكُمْ} قَالَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ بِعِلْمِهِ, أَلَا تَرَى قَوْلَهُ تَعَالَى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} الْآيَةَ. وَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: مَنْ شَبَّهَ اللَّهَ بِخَلْقِهِ فَقَدْ كَفَرَ, وَمَنْ أَنْكَرَ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فَقَدْ كَفَرَ, وَلَيْسَ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ وَلَا رَسُولُهُ تَشْبِيهًا. وَقَالَ بِشْرٌ الْحَافِي: وَالْإِيمَانُ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى عَرْشِهِ اسْتَوَى كَمَا شَاءَ وَأَنَّهُ عَالِمٌ بِكُلِّ مَا كَانَ وَأَنَّهُ يَقُولُ وَيَخْلُقُ, فَقَوْلُهُ كُنْ لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ, وَمِنْ دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ مِنْ فَوْقِ عَرْشِكَ أَنَّ الذُّلَّ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الشَّرَفِ, اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ مِنْ فَوْقِ عَرْشِكَ أَنَّ الْفَقْرَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الْغِنَى, اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ مِنْ فَوْقِ عَرْشِكَ أَنِّي لَا أُؤْثِرُ عَلَى حُبِّكَ شَيْئًا. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ فِي أَحَادِيثِ الرُّؤْيَةِ: وَالْكُرْسِيُّ مَوْضِعُ الْقَدَمَيْنِ1, وَضَحِكَ رَبُّنَا, وَحَدِيثُ أَيْنَ كَانَ رَبُّنَا2, فَقَالَ: هَذِهِ أَحَادِيثُ صِحَاحٌ حَمَلَهَا أَصْحَابُ الْحَدِيثِ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ, وَهِيَ عِنْدَنَا حَقٌّ لَا نَشُكُّ فِيهَا, وَلَكِنْ إِذَا قِيلَ لَنَا كَيْفَ وَضَعَ قَدَمَهُ وَكَيْفَ يَضْحَكُ؟ قُلْنَا: لَا نُفَسِّرُ هَذَا وَلَا سَمِعْنَا أَحَدًا يُفَسِّرُهُ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ نَصْرٍ وَسُئِلَ عَنْ عِلْمِ اللَّهِ فَقَالَ: عِلْمُ اللَّهِ مَعَنَا وَهُوَ عَلَى عَرْشِهِ. وَقَالَ مَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: دَخَلَتِ امْرَأَةُ جَهْمٍ عَلَى زَوْجَتِي فَقَالَتْ: يَا أُمَّ إِبْرَاهِيمَ هَذَا زَوْجُكِ الَّذِي يُحَدِّثُ عَنِ الْعَرْشِ مَنْ نَجَرَهُ؟ قَالَتْ: نَجَرَهُ الَّذِي نَجَرَ أَسْنَانَكِ. قَالَ: وَكَانَتْ بَادِيَةَ الْأَسْنَانِ. وَقَالَ قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ: قَوْلُ الْأَئِمَّةِ فِي الْإِسْلَامِ وَالسُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ نَعْرِفُ رَبَّنَا فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ عَلَى عَرْشِهِ كَمَا قَالَ جَلَّ جَلَالُهُ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وَقَالَ أَبُو مَعْمَرٍ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْقَطِيعِيُّ: آخِرُ كَلَامِ الْجَهْمِيَّةِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: إِذَا قَالَ لَكَ الْجَهْمِيُّ وَكَيْفَ يَنْزِلُ؟ فَقُلْ كَيْفَ يَصْعَدُ؟ قُلْتُ: الْكَيْفُ فِي الْحَالَيْنِ مَنْفِيٌّ
عَنِ اللَّهِ تَعَالَى لَا مَجَالَ لِلْعَقْلِ فِيهِ. وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ أَنَّهُ سُئِلَ: مَا قَوْلُ أَهْلِ الْجَمَاعَةِ؟ قَالَ: يُؤْمِنُونَ بِالرُّؤْيَةِ وَبِالْكَلَامِ وَأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَوْقَ السَّمَاوَاتِ عَلَى عَرْشِهِ اسْتَوَى, فَسُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} فَقَالَ: اقْرَأْ مَا قَبْلَهُ {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ} . وَسُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ إِمَامُ أَهْلِ السُّنَّةِ: اللَّهُ فَوْقَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ وَقُدْرَتُهُ وَعِلْمُهُ بِكُلِّ مَكَانٍ؟ قَالَ: نَعَمْ هُوَ عَلَى عَرْشِهِ وَلَا يَخْلُو شَيْءٌ مِنْ عِلْمِهِ. وَقِيلَ لَهُ: مَا مَعْنَى {وَهُوَ مَعَكُمْ} قَالَ: عِلْمُهُ مُحِيطٌ بِالْكُلِّ وَرَبُّنَا عَلَى الْعَرْشِ بِلَا حَدٍّ وَلَا صِفَةٍ. وَقَالَ حَرْبُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْكِرْمَانِيُّ: قُلْتُ لِإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} كَيْفَ تَقُولُ فِيهِ: قَالَ: حَيْثُ مَا كُنْتَ فَهُوَ أَقْرَبُ إِلَيْكَ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ وَهُوَ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ. ثُمَّ ذَكَرَ عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ قَوْلَهُ: هُوَ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ, ثُمَّ قَالَ: أَعْلَى شَيْءٍ فِي ذَلِكَ وَأَبَيْنُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} رَوَاهُ الْخَلَّالُ فِي السُّنَّةِ. وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ: دَخَلْتُ عَلَى ابْنِ طَاهِرٍ فَقَالَ: مَا هَذِهِ الْأَحَادِيثُ يَرْوُونَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَنْزِلُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا؟ قُلْتُ: نَعَمْ رَوَاهَا الثِّقَاتُ الَّذِينَ يَرْوُونَ الْأَحْكَامَ, فَقَالَ: يَنْزِلُ وَيَدَعُ عَرْشَهُ؟ فَقُلْتُ: يَقْدِرُ أَنْ يَنْزِلَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَخْلُوَ مِنْهُ الْعَرْشُ, قَالَ: نَعَمْ قُلْتُ: فَلِمَ تَتَكَلَّمُ فِي هَذَا؟. وَرَوَى الْخَلَّالُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} إِجْمَاعُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ اسْتَوَى وَيَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ فِي أَسْفَلِ الْأَرْضِ السَّابِعَةِ. وَقَالَ رَجُلٌ لِابْنِ الْأَعْرَابِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مَا مَعْنَى قَوْلِهِ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} قَالَ: هُوَ عَلَى عَرْشِهِ كَمَا أَخْبَرَ فَقَالَ الرَّجُلُ: لَيْسَ كَذَاكَ إِنَّمَا مَعْنَاهُ اسْتَوْلَى, فَقَالَ: اسْكُتْ مَا يُدْرِيكَ مَا هَذَا, الْعَرَبُ لا تقول الرجل اسْتَوْلَى عَلَى الشَّيْءِ حَتَّى يَكُونَ لَهُ فِيهِ مُضَادٌّ, فَأَيُّهُمَا غَلَبَ قِيلَ اسْتَوْلَى, وَاللَّهُ تَعَالَى لَا مُضَادَّ لَهُ, وَهُوَ عَلَى عَرْشِهِ كَمَا أَخْبَرَ, ثُمَّ قَالَ: الِاسْتِيلَاءُ بَعْدَ الْمُغَالَبَةِ قَالَ النَّابِغَةُ: إِلَّا لِمِثْلِكَ أَوْ مَا أَنْتَ سَابِقُهُ ... سَبْقَ الْجَوَادِ إِذَا اسْتَوْلَى عَلَى الْأَمَدِ وَقَالَ ذُو النُّونِ الْمِصْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَشْرَقَ لِنُورِ وَجْهِهِ السَّمَاوَاتُ وَأَنَارَ لِوَجْهِهِ الظُّلُمَاتُ وَحَجَبَ جَلَالَهُ عَنِ الْعُيُونِ, وَنَاجَاهُ عَلَى عَرْشِهِ أَلْسِنَةُ الصُّدُورِ.
طبقة المزني، ومحمد بن يحيى الذهلي، والإمام البخاري
طَبَقَةٌ أُخْرَى 1: وَقَالَ الْمُزَنِيُّ فِي عَقِيدَتِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ أَحَقِّ مَا بَدَى وَأَوْلَى مَنْ شُكِرَ وَعَلَيْهِ أُثْنِي, الْوَاحِدُ الصَّمَدُ لَيْسَ لَهُ صَاحِبَةٌ وَلَا وَلَدٌ, جَلَّ عَنِ الْمِثْلِ فَلَا شَبِيهَ لَهُ وَلَا عَدِيلَ, السَّمِيعُ الْبَصِيرُ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ الْمَنِيعُ الرَّفِيعُ عَالٍ عَلَى عَرْشِهِ فَهُوَ دَانٍ بِعِلْمِهِ مِنْ خَلْقِهِ, وَالْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ وَمِنَ اللَّهِ, لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ فَيَبِيدُ, وَقُدْرَةُ اللَّهِ وَنَعْتُهُ وَصِفَاتُهُ كَلِمَاتٌ غَيْرُ مَخْلُوقَاتٍ. دَائِمَاتٌ أَزِلِّيَّاتٌ, لَيْسَ مُحْدَثَاتٍ فَتَبِيدُ, وَلَا كَانَ رَبُّنَا نَاقِصًا فَيَزِيدُ, جَلَّتْ صِفَاتُهُ عَنْ شُبَهِ الْمَخْلُوقِينَ, عَالٍ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ. وَذَكَرَ ذَلِكَ الْمُعْتَقِدُ وَقَالَ: لَا يَصِحُّ لِأَحَدٍ تَوْحِيدٌ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ عَلَى عَرْشِهِ بِصِفَاتِهِ, قُلْتُ: مِثْلُ أَيِّ شَيْءٍ؟ قَالَ: سَمِيعٌ بَصِيرٌ عَلِيمٌ قَدِيرٌ, رَوَاهُ ابْنُ مَنْدَهْ. وَسُئِلَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُعَاوِيَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لِيَعْلَمَ الْعَبْدُ أَنَّ اللَّهَ مَعَهُ حَيْثُ كَانَ"2 فَقَالَ: يُرِيدُ أَنَّ اللَّهَ عِلْمُهُ مُحِيطٌ بِكُلِّ مَا كَانَ وَاللَّهُ عَلَى الْعَرْشِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي آخِرِ الْجَامِعِ الصَّحِيحِ فِي كِتَابِ الرَّدِّ عَلَى الجهمية: باب قول الله تَعَالَى: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: اسْتَوَى عَلَى عَرْشِهِ ارْتَفَعَ, وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي اسْتَوَى: عَلَا عَلَى الْعَرْشِ, وَقَالَتْ زَيْنَبُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: زَوَّجَنِي اللَّهُ مِنْ فوق سبع سموات3. ثُمَّ إِنَّهُ بَوَّبَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى أَكْثَرِ مَا تُنْكِرُهُ الْجَهْمِيَّةُ مِنَ الصِّفَاتِ مُحْتَجًّا بِالْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ. وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ الرَّازِيُّ وَسُئِلَ عَنْ تَفْسِيرِ {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} فَغَضِبَ وَقَالَ: تَفْسِيرُهُ كَمَا تَقْرَأُ هُوَ عَلَى عَرْشِهِ وَعِلْمُهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ, مَنْ قَالَ غَيْرَ هَذَا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ: سَأَلْتُ أَبِي وَأَبَا زُرْعَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى عَنْ مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فِي أُصُولِ
الدِّينِ وَمَا أَدْرَكَا عَلَيْهِ الْعُلَمَاءَ فِي جَمِيعِ الْأَمْصَارِ حِجَازًا وَعِرَاقًا وَمِصْرًا وَشَامًا وَيَمَنًا, فَكَانَ مِنْ مَذْهَبِهِمْ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وتعالى عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ بِلَا كَيْفٍ, أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ بْنِ الْمُنْذِرِ الْحَنْظَلِيُّ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ: وَنَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ. رَوَاهُ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرِيُّ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ الرَّازِيُّ: إِنَّ اللَّهَ عَلَى الْعَرْشِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا, لَا يَشِذُّ عَنْ هَذِهِ الْمَقَالَةِ إِلَّا جَهْمِيٌّ يَمْزُجُ اللَّهَ بِخَلْقِهِ رَوَاهُ صَاحِبُ الْفَارُوقِ. وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْلَمَ الطُّوسِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: قَالَ لِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاهِرٍ: بَلَغَنِي أَنَّكَ لَا تَرْفَعُ رَأْسَكَ إِلَى السَّمَاءِ, فَقُلْتُ: وَهَلْ أَرْجُو الْخَيْرَ إِلَّا مِمَّنْ هُوَ فِي السَّمَاءِ. رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي تَرْجَمَتِهِ. وَقَالَ عَبْدُ الْوَهَّابِ الْوَرَّاقُ: مَنْ زَعَمَ أن الله ههنا فَهُوَ جَهْمِيٌّ خَبِيثٌ, إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَوْقَ الْعَرْشِ وَعِلْمُهُ مُحِيطٌ بِالدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَكَتَبَ حَرْبٌ الْكِرْمَانِيُّ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْحَنْظَلِيِّ: إِنَّ الْجَهْمِيَّةَ أَعْدَاءُ اللَّهِ, وَهُمُ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ وَأَنَّ اللَّهَ لَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى, وَلَا يُرَى فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُعْرَفُ لِلَّهِ مَكَانٌ, وَلَيْسَ عَلَى الْعَرْشِ وَلَا كُرْسِيٍّ, وَهُمْ كُفَّارٌ فَاحْذَرْهُمْ. وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ الْإِمَامُ فِي كِتَابِ النَّقْضِ: قَدِ اتَّفَقَتِ الْكَلِمَةُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ اللَّهَ فَوْقَ عرشه فوق سمواته يَعْلَمُ وَيَسْمَعُ مِنْ فَوْقِ الْعَرْشِ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ مِنْ خَلْقِهِ وَلَا يَحْجُبُهُمْ عَنْهُ شَيْءٌ1. وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ قُتَيْبَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: كَيْفَ يَسُوغُ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بِكُلِّ مَكَانٍ عَلَى الْحُلُولِ فِيهِ مَعَ قَوْلِهِ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ} وَمَعَ قَوْلِهِ: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} كَيْفَ يَصْعَدُ إِلَيْهِ شَيْءٌ هُوَ مَعَهُ؟ وَكَيْفَ تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ وَهُوَ مَعَهُ؟ قَالَ: لَوْ أَنَّ هَؤُلَاءِ رَجَعُوا إِلَى فِطْرَتِهِمْ وَمَا رُكِّبَتْ عَلَيْهِ ذَوَاتُهُمْ مِنْ مَعْرِفَةِ الْخَالِقِ لَعَلِمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ هُوَ الْعَلِيُّ الْأَعْلَى وَأَنَّ الْأَيْدِيَ تُرْفَعُ بِالدُّعَاءِ إِلَيْهِ وَالْأُمَمُ كُلُّهَا عَجَمِيُّهَا وَعَرَبِيُّهَا تَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ فِي السَّمَاءِ مَا تُرِكَتْ عَلَى فطرها2. وقال أبوبكر بْنُ عَاصِمٍ الشَّيْبَانِيُّ:
جَمِيعُ مَا فِي كِتَابِنَا -كِتَابِ السُّنَّةِ الْكَبِيرِ- مِنَ الْأَخْبَارِ الَّتِي ذَكَرْنَا أَنَّهَا تُوجِبُ الْعِلْمَ فَنَحْنُ نُؤْمِنُ بِهَا لِصِحَّتِهَا وَعَدَالَةِ نَاقِلِيهَا, وَيَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهَا عَلَى ظَاهِرِهَا, وَتَرْكُ تَكَلُّفِ الْكَلَامِ فِي كَيْفِيَّتِهَا1. فَذَكَرَ مِنْ ذَلِكَ النُّزُولَ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَالِاسْتِوَاءَ عَلَى الْعَرْشِ. وَقَالَ أَبُو عِيسَى مُحَمَّدُ بْنُ سَوْرَةَ التِّرْمِذِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي جَامِعِهِ لَمَّا رَوَى حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ وَهُوَ خَبَرٌ مُنْكَرٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ "لَوْ أَنَّكُمْ أَدْلَيْتُمْ بِحَبْلٍ إِلَى الْأَرْضِ السُّفْلَى لَهَبَطَ عَلَى اللَّهِ" فَقَالَ: قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ أَرَادَ لَهَبَطَ عَلَى عِلْمِ اللَّهِ وَهُوَ عَلَى الْعَرْشِ كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ2. وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ سُلَيْمَانُ بْنُ الْأَشْعَثِ السِّجِسْتَانِيُّ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ مِنْ سُنَنِهِ -بَابٌ فِي الْجَهْمِيَّةِ- وَسَاقَ فِي ذَلِكَ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَزَالُ النَّاسُ يَتَسَاءَلُونَ حتى يقال هذا خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ, فَمَنْ خَلَقَ اللَّهَ؟ فَمَنْ وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَلْيَقُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ" 3 وَفِي رِوَايَةٍ: "فَإِذَا قَالُوا ذَلِكَ فَقُولُوا: اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ثُمَّ لْيَتْفُلْ عَنْ يَسَارِهِ ثَلَاثًا وَلْيَسْتَعِذْ مِنَ الشَّيْطَانِ"4 وَذَكَرَ حَدِيثَ الْأَوْعَالِ وَحَدِيثَ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ وَحَدِيثَ "أُذِنَ لِي أَنْ أُحَدِّثَ عَنْ مَلَكٍ"5، الْحَدِيثَ. وَقَدْ تَرْجَمَ قَبْلَ ذَلِكَ وَبَعْدَهُ عَلَى مُعْتَقَدَاتِ أَهْلِ السُّنَّةِ, وَمَا وَرَدَ فِيهَا مِنَ الْأَحَادِيثِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى كَالرُّؤْيَةِ وَالنُّزُولِ وَطَيِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَتَكَلُّمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالشَّفَاعَةِ وَالْبَعْثِ وَخَلْقِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَفِتْنَةِ الْقَبْرِ وَعَذَابِهِ وَالْحَوْضِ وَالْمِيزَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَرَدَّ عَلَى طَوَائِفِ الْجَهْمِيَّةِ وَالْمُرْجِئَةِ وَالْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَ ابْنُ مَاجَهْ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُنَنِهِ: بَابُ مَا أَنْكَرَتِ الْجَهْمِيَّةُ،
طبقة زكريا بن يحيى الساجي، وحماد البوشنجي، وابن خزيمة
فَسَاقَ حَدِيثَ الرُّؤْيَةِ وَحَدِيثَ أَبِي رَزِينٍ وَحَدِيثَ جَابِرٍ: "بَيْنَا أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي نَعِيمِهِمْ إِذْ سَطَعَ لَهُمْ نُورٌ". الْحَدِيثَ تَقَدَّمَ1، وَحَدِيثَ الْأَوْعَالِ وَغَيْرَهَا. وَكَذَلِكَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ وَالنَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَهْلِ السُّنَنِ سَاقُوا أَحَادِيثَ الصِّفَاتِ وَأَمَرُّوهَا كَمَا جَاءَتْ لَمْ يَتَعَرَّضُوا لَهَا بِكَيْفٍ وَلَا تَأْوِيلٍ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: ذَكَرُوا أَنَّ الْجَهْمِيَّةَ يَقُولُونَ: لَيْسَ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ خَلْقِهِ حِجَابٌ, وَأَنْكَرُوا الْعَرْشَ وَأَنَّ اللَّهَ فَوْقَهُ, وَقَالُوا: إِنَّهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ فَفَسَّرَتِ الْعُلَمَاءُ "وَهُوَ مَعَكُمْ" يَعْنِي عِلْمَهُ ثُمَّ تَوَاتَرَتِ الْأَخْبَارُ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْعَرْشَ فَاسْتَوَى عَلَيْهِ فَهُوَ فَوْقُ الْعَرْشِ مُتَخَلِّصًا مِنْ خَلْقِهِ بَائِنًا مِنْهُمْ. وَقَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التُّسْتَرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: لَا يَجُوزُ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقُولَ كَيْفَ الِاسْتِوَاءُ لِمَنْ خَلَقَ الِاسْتِوَاءَ وَلَنَا عَلَيْهِ الرِّضَا وَالتَّسْلِيمُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّهُ تَعَالَى عَلَى الْعَرْشِ" قَالَ: وَإِنَّمَا سُمِّيَ الزِّنْدِيقُ زِنْدِيقًا؛ لِأَنَّهُ وَزَنَ دِقَّ الْكَلَامِ بِمَخْبُولِ عَقْلِهِ, وَتَرَكَ الْأَثَرَ وَتَأَوَّلَ الْقُرْآنَ بِالْهَوَى, فَعِنْدَ ذَلِكَ لَمْ يُؤْمِنْ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى عَرْشِهِ. طَبَقَةٌ أُخْرَى 2: قَالَ زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى السَّاجِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْقَوْلُ فِي السُّنَّةِ الَّتِي رَأَيْتُ عَلَيْهَا أَصْحَابَنَا أَهْلَ الْحَدِيثِ الَّذِينَ لَقِينَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى عَرْشِهِ فِي سَمَائِهِ يَقْرُبُ مِنْ خَلْقِهِ كَيْفَ شَاءَ. وَسَاقَ سَائِرَ الِاعْتِقَادِ. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ إِمَامُ الْمُفَسِّرِينَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي عَقِيدَتِهِ: وَحَسْبُ امْرِئٍ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ رَبَّهُ هُوَ الَّذِي عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى, فَمَنْ تَجَاوَزَ ذَلِكَ فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ. وَنَقَلَ فِي تَفْسِيرِ {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} فِي الْمَوَاضِعِ كُلِّهَا أَيْ: عَلَا وَارْتَفَعَ, وَتَفْسِيرُهُ مَشْحُونٌ بِأَقْوَالِ السَّلَفِ عَلَى الْإِثْبَاتِ, وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ هَنَّادٍ الْبُوشْنَجِيُّ: هَذَا مَا رَأَيْنَا عَلَيْهِ أَهْلَ الْأَمْصَارِ وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ مَذَاهِبُهُمْ فِيهِ وَإِيضَاحُ مِنْهَاجِ الْعُلَمَاءِ وَصِفَةِ السُّنَّةِ وَأَهْلِهَا, إِنَّ اللَّهَ فَوْقَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ وَعِلْمُهُ وَسُلْطَانُهُ وَقُدْرَتُهُ بِكُلِّ مَكَانٍ. وَقَالَ إِمَامُ الْأَئِمَّةِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ: مَنْ لَمْ يُقِرَّ بِأَنَّ
طبقة أخرى من أئمة الإسلام وعلماء السنة
اللَّهَ عَلَى عَرْشِهِ اسْتَوَى فوق سبع سمواته بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ فَهُوَ كَافِرٌ يُسْتَتَابُ, فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا ضُرِبَتْ عُنُقُهُ وَأُلْقِيَ عَلَى مَزْبَلَةٍ لِئَلَّا يَتَأَذَّى بِرَائِحَتِهِ أَهْلُ الْقِبْلَةِ وَأَهْلُ الذِّمَّةِ. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ: قَدْ صَحَّ عَنْ جَمِيعِ أَهْلِ الدِّيَانَةِ وَالسُّنَّةِ إِلَى زَمَانِنَا أَنَّ جَمِيعَ الْآيِ وَالْأَخْبَارِ الصَّادِقَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْإِيمَانُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا كَمَا وَرَدَ وَأَنَّ السُّؤَالَ عَنْ مَعَانِيهَا بِدْعَةٌ, وَالْجَوَابَ كُفْرٌ وَزَنْدَقَةٌ مِثْلُ قَوْلِهِ: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} وَقَوْلِهِ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وَذَكَرَ الِاعْتِقَادَ وَقَالَ ثَعْلَبٌ إِمَامُ الْعَرَبِيَّةِ {عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} : عَلَا. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ التِّرْمِذِيُّ وَسَأَلَهُ سَائِلٌ عَنْ حَدِيثِ نُزُولِ الرَّبِّ: فَالنُّزُولُ كَيْفَ هُوَ يَبْقَى فَوْقَهُ عُلُوٌّ؟ فَقَالَ: النُّزُولُ مَعْقُولٌ وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ. وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ الْإِمَامُ فِي عَقِيدَتِهِ: وَالْعَرْشُ وَالْكُرْسِيُّ حَقٌّ كَمَا بَيَّنَ فِي كِتَابِهِ, وَهُوَ مُسْتَغْنٍ عَنِ الْعَرْشِ وَمَا دُونَهُ مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ وَفَوْقَهُ1. وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ فِي ذِكْرِ مَقَالَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَأَصْحَابِ الْحَدِيثِ: وَأَنَّ اللَّهَ عَلَى عَرْشِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} . قَالَ: وَرَأَيْنَا الْمُسْلِمِينَ جَمِيعًا يَرْفَعُونَ أَيْدِيَهُمْ إذا دعوا نحوالسماء؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُسْتَوٍ عَلَى الْعَرْشِ الَّذِي هُوَ فَوْقَ السَّمَاوَاتِ , فَلَوْلَا أَنَّ اللَّهَ عَلَى الْعَرْشِ لَمْ يرفعوا أيديهم نحوالعرش2. وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْبَرْبَهَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: الْكَلَامُ فِي الرَّبِّ مُحْدَثَةٌ وَبِدْعَةٌ وَضَلَالَةٌ, فَلَا يُتَكَلَّمُ فِي اللَّهِ إِلَّا بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَلَا نَقُولُ فِي صِفَاتِهِ لِمَ وَلَا كَيْفَ, يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى وَعَلَى عَرْشِهِ اسْتَوَى وَعِلْمُهُ بِكُلِّ مَكَانٍ. طَبَقَةٌ أُخْرَى مِنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ وَعُلَمَاءِ السُّنَّةِ 3: قَالَ أَبُو أَحْمَدَ الْعَسَّالُ فِي بَابِ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} فَسَاقَ مَا وَرَدَ فِيهِ مِنْ أَقْوَالِ السَّلَفِ وَأَئِمَّتِهِمْ وَحَدِيثَ ابْنَ مَسْعُودٍ وَقَدْ مَرَّ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّبْغِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ فِي السَّمَاءِ} أَيْ: مَنْ عَلَى الْعَرْشِ كَمَا صَحَّتِ الْأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ: بَابُ مَا جَاءَ فِي اسْتِوَاءِ اللَّهِ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنًا مِنْ خَلْقِهِ, فَسَاقَ فِي الْبَابِ حَدِيثَ أَبِي رَزِينٍ الْعُقَيْلِيِّ وَحَدِيثَ الْأَوْعَالِ وَغَيْرَهُمَا مِنْ أَحَادِيثِ الْعُلُوِّ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْآجُرِّيُّ: الَّذِي يَذْهَبُ إِلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى عرشه فوق سمواته وَعِلْمُهُ مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ قَدْ أَحَاطَ بِجَمِيعِ مَا خَلَقَ فِي السَّمَاوَاتِ الْعُلَى وَبِجَمِيعِ مَا خَلَقَ فِي سَبْعِ أَرَضِينَ يُرْفَعُ إِلَيْهِ أَعْمَالُ الْعِبَادِ1. وَقَالَ أَبُو الشَّيْخِ فِي كِتَابِ الْعَظَمَةِ لَهُ: ذِكْرُ عَرْشِ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَكُرْسِيِّهِ وَعِظَمِ خَلْقِهِمَا وَعُلُوِّ الرَّبِّ فَوْقَ عَرْشِهِ. وَسَاقَ جُمْلَةَ أَحَادِيثَ فِي ذَلِكَ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ بِلَا كَيْفٍ فَإِنَّهُ انْتَهَى إِلَى أَنَّهُ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَلَمْ يَذْكُرْ كَيْفَ كَانَ اسْتِوَاؤُهُ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ الْأَزْهَرِيُّ: اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْعَرْشِ. وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} : اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فِي السَّمَاءِ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ مُسْتَوٍ عَلَى الْعَرْشِ بِمَعْنَى أَنَّهُ عَالٍ عَلَيْهِ, وَمَعْنَى الِاسْتِوَاءِ الِاعْتِلَاءُ. وَإِنَّمَا أَمَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِرَفْعِ أَيْدِينَا قَاصِدِينَ إِلَيْهِ بِرَفْعِهَا نَحْوَ الْعَرْشِ الَّذِي هُوَ مُسْتَوٍ عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ بَطَّةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بَابُ الْإِيمَانِ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ وَعِلْمُهُ مُحِيطٌ بِخَلْقِهِ, أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ أَنَّ اللَّهَ عَلَى عرشه فوق سمواته بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدِيثُ الشَّفَاعَةِ فِي أَحْمَدَ ... إِلَى أَحْمَدَ الْمُصْطَفَى نُسْنِدُهُ وَأَمَّا حَدِيثٌ بِإِقْعَادِهِ ... عَلَى الْعَرْشِ أَيْضًا فَلَا نَجْحَدُهُ أَمِرُّوا الْحَدِيثَ عَلَى وَجْهِهِ ... وَلَا تَدْخُلُوا فِيمَا يُفْسِدُهُ2
وَقَالَ ابْنُ مَنْدَهْ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: فَهُوَ تَعَالَى مَوْصُوفٌ غَيْرُ مَجْهُولٍ وَمَوْجُودٌ غَيْرُ مُدْرَكٍ, وَمَرْئِيٌّ غَيْرُ مُحَاطٍ بِهِ لِقُرْبِهِ كَأَنَّكَ تَرَاهُ, وَهُوَ يَسْمَعُ، وَيَرَى وَهُوَ بِالْمَنْظَرِ الْأَعْلَى وَعَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى, فَالْقُلُوبُ تَعْرِفُهُ وَالْعُقُولُ لَا تُكَيِّفُهُ, وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي زَيْدٍ الْمَغْرِبِيِّ: وَأَنَّهُ تَعَالَى فَوْقَ عَرْشِهِ الْمَجِيدُ بِذَاتِهِ, وَأَنَّهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ بِعِلْمِهِ. قُلْتُ: وَقَدْ أَطْلَقَ هَذِهِ الْعِبَارَةَ أَعْنِي قَوْلَهُ: "بِذَاتِهِ" أَبُو جَعْفَرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالدَّارِمِيُّ وَيَحْيَى بْنُ عَمَّارٍ وَأَبُو نَصْرٍ السِّجْزِيُّ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَشَيْخُ الْإِسْلَامِ الْأَنْصَارِيُّ وَأَبُو الْحَسَنِ الْكَرَجِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ ثَابِتٍ الطَّرْقِيُّ وَعَبْدُ الْعَزِيزِ الْقُحَيْطِيُّ وَعَبْدُ الْقَادِرِ الْجَبَلِيُّ وَطَائِفَةٌ. وَقَالَ ابْنُ فُورَكَ رَحِمَهُ اللَّهُ: اسْتَوَى بِمَعْنَى عَلَا وَقَالَ فِي قَوْلِهِ: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} أَيْ: مَنْ فَوْقَ السَّمَاءِ1. وَقَالَ ابْنُ الْبَاقِلَّانِيِّ فِي إِبَانَتِهِ: فَإِنْ قِيلَ فَهَلْ تَقُولُونَ إِنَّهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ؟ قِيلَ: مَعَاذَ اللَّهِ بَلْ هُوَ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ كَمَا أَخْبَرَ فِي كِتَابِهِ فَقَالَ تَعَالَى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وَقَالَ: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} وَقَالَ: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ. وَقَالَ أَبُو أَحْمَدَ الْقَصَّابُ فِي عَقِيدَتِهِ: كَانَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ وَحْدَهُ لَا شَيْءَ مَعَهُ وَلَا مَكَانَ يَحْوِيهِ فَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ بِقُدْرَتِهِ وَخَلَقَ الْعَرْشَ لَا لِحَاجَةٍ إِلَيْهِ فَاسْتَوَى عَلَيْهِ اسْتِوَاءَ اسْتِقْرَارٍ كَيْفَ شَاءَ وَأَرَادَ, لَا اسْتِقْرَارَ رَاحَةٍ كَمَا يَسْتَرِيحُ الْخَلْقُ. قُلْتُ: تَفْسِيرُ الِاسْتِوَاءِ بِالِاسْتِقْرَارِ لَمْ يَرِدْ فِي الْكِتَابِ وَلَا السُّنَّةِ, وَنَحْنُ لَا نَصِفُ اللَّهَ إِلَّا بِمَا ثَبَتَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ, لَا نَزِيدُ عَلَيْهِ وَلَا نَنْقُصُ مِنْهُ. وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: طَرِيقُنَا طَرِيقَةُ السَّلَفِ الْمُتَّبِعِينَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ, وَمِمَّا اعْتَقَدُوهُ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ كَامِلًا بِجَمِيعِ صِفَاتِهِ الْقَدِيمَةِ لَا يَزُولُ وَلَا يَحُولُ لَمْ يَزَلْ عَالِمًا بِعِلْمٍ بَصِيرًا بِبَصَرٍ سَمِيعًا بِسَمْعٍ مُتَكَلِّمًا بِكَلَامٍ إِلَى أَنْ قَالَ: وَأَنَّ الْأَحَادِيثَ الَّتِي ثَبَتَتْ فِي الْعَرْشِ وَاسْتِوَاءِ اللَّهِ عَلَيْهِ يَقُولُونَ بِهَا وَيُثْبِتُونَهَا مِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ, وَأَنَّ اللَّهَ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ وَالْخَلْقَ بَائِنُونَ مِنْهُ لَا يَحُلُّ فِيهِمْ وَلَا يَمْتَزِجُ بِهِمْ, وَهُوَ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ فِي سَمَائِهِ دُونَ أَرْضِهِ. وَقَالَ مَعْمَرُ بْنُ زِيَادٍ فِي أَثْنَاءِ وَصِيَّتِهِ: وَأَنَّ اللَّهَ اسْتَوَى عَلَى عَرْشِهِ بِلَا كَيْفٍ وَلَا تَشْبِيهٍ وَلَا تَمْثِيلٍ وَلَا
تَأْوِيلٍ وَالِاسْتِوَاءُ مَعْقُولٌ وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ, وَأَنَّهُ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ وَالْخَلْقُ بَائِنُونَ مِنْهُ. وَذَكَرَ سَائِرَ الِاعْتِقَادَ, وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ اللَّالَكَائِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وَأَنَّ اللَّهَ عَلَى عَرْشِهِ, قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} وَقَالَ: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} وَقَالَ: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَاتُ أَنَّهُ فِي السَّمَاءِ وَعِلْمُهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ, رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأُمِّ سَلَمَةَ, وَمِنَ التَّابِعِينَ رَبِيعَةَ وَسُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ وَمُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ وَبِهِ قَالَ: مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ عَمَّارٍ: هُوَ بِذَاتِهِ عَلَى الْعَرْشِ وَعِلْمُهُ مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ وَعِلْمُهُ وَسَمْعُهُ وَبَصَرُهُ وَقُدْرَتُهُ مُدْرِكَةٌ لِكُلِّ شَيْءٍ, وَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} فَهَذَا الذي قلناه هو كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قُلْتُ: لفظة "بذاته" مستغن عَنْهَا بِصَرِيحِ النُّصُوصِ الْكَافِيَةِ الْوَافِيَةِ1. وَقَالَ الْقَادِرُ بِاللَّهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فِي مُعْتَقَدِهِ الْمَشْهُورِ: وَأَنَّهُ خَلَقَ الْعَرْشَ لَا لِحَاجَةٍ, وَاسْتَوَى عَلَيْهِ كَيْفَ شَاءَ لَا اسْتِوَاءَ رَاحَةٍ, وَكُلُّ صِفَةٍ وَصَفَ بِهَا نَفْسَهُ أَوْ صفه بِهَا رَسُولُهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَهِيَ صِفَةٌ حَقِيقَةٌ لَا صِفَةَ مَجَازٍ. وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو الطَّلَمَنْكِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْقُرْآنِ أَنَّهُ عِلْمُهُ, وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَوْقَ السَّمَاوَاتِ بِذَاتِهِ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ, كَمَا نَطَقَ بِهِ كِتَابُهُ وَعُلَمَاءُ الْأُمَّةِ وَأَعْيَانُ الْأَئِمَّةِ مِنَ السَّلَفِ لَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى عرشه فوق سمواته. وَقَالَ أَبُو نَصْرٍ السَّجْزِيُّ: أَئِمَّتُنَا كَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَمَالِكٍ وَحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ وَالْفُضَيْلِ وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بِذَاتِهِ فَوْقَ الْعَرْشِ وَعِلْمُهُ بِكُلِّ مَكَانٍ. وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِي فِي أُرْجُوزَتِهِ الَّتِي فِي عُقُودِ الدِّيَانَةِ: كَلَامُهُ وَقَوْلُهُ قَدِيمُ ... وَهْوَ فَوْقُ عَرْشِهِ الْعَظِيمِ2 وَقَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي شَرْحِ حَدِيثِ النُّزُولِ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ لَمْ
طبقة نصر المقدسي، وعبد القادر الجيلاني في كتاب الغنية، والقرطبي
يَخْتَلِفْ أَهْلُ الْحَدِيثِ فِي صِحَّتِهِ, وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فِي السَّمَاءِ عَلَى الْعَرْشِ فوق سبع سموات كَمَا قَالَتِ الْجَمَاعَةُ. وَقَالَ أَيْضًا: أَجْمَعَ عُلَمَاءُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ الَّذِينَ حُمِلَ عَنْهُمُ التَّأْوِيلُ قَالُوا فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} : هُوَ عَلَى الْعَرْشِ وَعِلْمُهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ, وَمَا خَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ يُحْتَجُّ بِقَوْلِهِ. وَقَالَ أَبُو يَعْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ حَدِيثَ الْجَارِيَةِ: الْكَلَامُ فِي هَذَا الْخَبَرِ فِي فَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا جَوَازُ السُّؤَالِ عَنِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِأَيْنَ هُوَ؟ وَالثَّانِي جَوَازُ الْإِخْبَارِ عَنْهُ بِأَنَّهُ فِي السَّمَاءِ, وَقَدْ أَخْبَرَنَا تَعَالَى بِأَنَّهُ فِي السَّمَاءِ فَقَالَ: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} وَهُوَ عَلَى الْعَرْشِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِ الْمُعْتَقَدِ لَهُ: بَابُ الْقَوْلِ فِي الِاسْتِوَاءِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وَقَالَ: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} ، {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} ، {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} ، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} ، {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} وَأَرَادَ مَنْ فَوْقَ السَّمَاءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} وَقَالَ: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ} أَيْ: عَلَى الْأَرْضِ, وَكُلُّ مَا عَلَا فَهُوَ سَمَاءٌ, وَالْعَرْشُ أَعْلَى السَّمَاوَاتِ , فَمَعْنَى الْآيَةِ أَأَمِنْتُمْ مَنْ عَلَى الْعَرْشِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي سَائِرِ الْآيَاتِ1. طَبَقَةٌ أُخْرَى 2: قَالَ أَبُو الْفَتْحِ نَصْرٌ الْمَقْدِسِيُّ: وَأَنَّ اللَّهَ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ كَمَا قَالَ فِي كِتَابِهِ. وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ الْأَنْصَارِيُّ صَاحِبُ مَنَازِلِ السَّائِرِينَ3 فِي التَّصَوُّفِ، قَالَ فِي كِتَابٍ لَهُ: بَابُ اسْتِوَاءِ اللَّهِ عَلَى عَرْشِهِ فَوْقَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ بَائِنًا مِنْ خَلْقِهِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ, فَسَاقَ الْحُجَّةَ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ إِلَى أَنْ قَالَ: وَفِي أَخْبَارٍ شَتَّى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ عَلَى الْعَرْشِ بِنَفْسِهِ وَهُوَ يَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ وَعِلْمُهُ وَقُدْرَتُهُ وَاسْتِمَاعُهُ وَنَظَرُهُ وَرَحْمَتُهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ. وَقَالَ الْبَغَوِيُّ رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} قَالَ: الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ: اسْتَقَرَّ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: صَعِدَ. وَأَوَّلَتِ الْمُعْتَزِلَةُ الِاسْتِوَاءَ بِالِاسْتِيلَاءِ. فَأَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: الِاسْتِوَاءُ عَلَى الْعَرْشِ صِفَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى بِلَا كَيْفٍ, يَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ الْإِيمَانُ بِهِ وَيَكِلُ الْعَلَمَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. ثُمَّ ذَكَرَ قَوْلَ مَالِكٍ الْمُتَقَدِّمَ وَقَالَ: وَرُوِيَ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي جَاءَتْ فِي الصِّفَاتِ الْمُتَشَابِهَاتِ: أَمِرُّوهَا كَمَا جَاءَتْ بِلَا كَيْفٍ1. وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرَجِيُّ فِي بَائِيَّتِهِ: عَقَائِدُهُمْ أَنَّ الْإِلَهَ بِذَاتِهِ ... عَلَى عَرْشِهِ مَعَ عِلْمِهِ بِالْغَوَائِبِ وَأَنَّ اسْتِوَاءَ الرَّبِّ يُعْقَلُ كَوْنُهُ ... وَيُجْهَلُ فِيهِ الْكَيْفُ جَهْلَ الشَّهَارِبِ وَقَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ الْجِيلِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِ الْغُنْيَةِ: أَمَّا مَعْرِفَةُ الصَّانِعِ بِالْآيَاتِ وَالدَّلَائِلِ عَلَى وَجْهِ الِاخْتِصَارِ فَهُوَ أَنْ يَعْرِفَ وَيَتَيَقَّنَ أَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ أَحَدٌ, إِلَى أَنْ قَالَ: وَهُوَ مُسْتَوٍ عَلَى الْعَرْشِ مُحْتَوٍ عَلَى الْمُلْكِ, مُحِيطٌ بِالْأَشْيَاءِ, إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ, وَلَا يَجُوزُ وَصْفُهُ بِأَنَّهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ بَلْ يُقَالُ: إِنَّهُ فِي السَّمَاءِ عَلَى الْعَرْشِ, كَمَا قَالَ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وَيَنْبَغِي إِطْلَاقُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ. وَكَوْنُهُ تَعَالَى عَلَى الْعَرْشِ مَذْكُورٌ فِي كُلِّ كِتَابٍ أُنْزِلَ عَلَى كُلِّ نَبِيٍّ أُرْسِلَ بِلَا كَيْفٍ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ: وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ الْأَوَّلُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَا يَقُولُونَ بِنَفْيِ الْجِهَةِ وَلَا يَنْطِقُونَ بِذَلِكَ بَلْ نَطَقُوا هُمْ وَالْكَافَّةُ بِإِثْبَاتِهَا لِلَّهِ تَعَالَى كَمَا نَطَقَ كِتَابُهُ وَأَخْبَرَتْ رُسُلُهُ, وَلَمْ يُنْكِرْ أَحَدٌ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ أَنَّ اسْتِوَاءَهُ عَلَى عَرْشِهِ حَقِيقَةٌ وَخُصَّ عَرْشُهُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ مَخْلُوقَاتِهِ, وَإِنَّمَا جَهِلُوا كَيْفِيَّةَ الِاسْتِوَاءِ فَإِنَّهُ لَا يُعْلَمُ حَقِيقَةُ كَيْفِيَّتِهِ2. قُلْتُ: أَرَادَ بِالْجِهَةِ إِثْبَاتَ الْعُلُوِّ لِلَّهِ تَعَالَى, أَمَّا لَفْظُ الْجِهَةِ فَلَمْ يَرِدْ فِي الْكِتَابِ وَلَا السُّنَّةِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ إِثْبَاتِ الْعُلُوِّ إِثْبَاتُهَا؛ لِأَنَّ الْعَرْشَ سَقْفُ جَمِيعِ
الْمَخْلُوقَاتِ فَمَا فَوْقَهُ لَا يُسَمَّى جِهَةً وَلَوْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ إِثْبَاتِ الْعُلُوِّ إِثْبَاتُ الْجِهَةِ فَلَازِمُ الْحَقِّ حَقٌّ, فَمَا اسْتَلْزَمَهُ صَرِيحُ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ فَهُوَ حَقٌّ بِلَا خِلَافٍ عِنْدِ أَهْلِ السُّنَّةِ. وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْعَقِيدَةِ الْوَاسِطِيَّةِ بَعْدَ سَرْدِ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ في الصفات: فصل وَقَدْ دَخَلَ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ الْإِيمَانُ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ فِي كِتَابِهِ وَتَوَاتَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ مِنْ أَنَّهُ سبحانه فوق سمواته عَلَى عَرْشِهِ عَلِيٌّ عَلَى خَلْقِهِ, وَهُوَ سُبْحَانَهُ مَعَهُمْ أَيْنَمَا كَانُوا, يَعْلَمُ مَا هُمْ عَامِلُونَ, كَمَا جَمَعَ بَيْنَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} وَلَيْسَ مَعْنَى قَوْلِهِ: {وَهُوَ مَعَكُمْ} أَنَّهُ مُخْتَلِطٌ بِالْخَلْقِ فَإِنَّ هَذَا لَا تُوجِبُهُ اللُّغَةُ, وَهُوَ خِلَافُ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَخِلَافُ مَا فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْخَلْقَ, بَلِ الْقَمَرُ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مِنْ أَصْغَرِ مَخْلُوقَاتِهِ وَهُوَ مَوْضُوعٌ فِي السَّمَاءِ وَهُوَ مَعَ الْمُسَافِرِ وَغَيْرِ الْمُسَافِرِ أَيْنَمَا كَانَ, وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ رَقِيبٌ عَلَى خَلْقِهِ مُهَيْمِنٌ عَلَيْهِمْ مُطَّلِعٌ عَلَيْهِمْ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَعَانِي رُبُوبِيَّتِهِ, وَكُلُّ هَذَا الْكَلَامِ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ أَنَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ وَأَنَّهُ مَعَنَا حَقٌّ عَلَى حَقِيقَتِهِ, لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَحْرِيفٍ وَلَكِنْ يُصَانُ عَنِ الظُّنُونِ الْكَاذِبَةِ مِثْلَ أَنْ يَظُنَّ أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ {فِي السَّمَاءِ} أَنَّ السَّمَاءَ تُقِلُّهُ أَوْ تُظِلُّهُ, وَهَذَا بَاطِلٌ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ, وَهُوَ الَّذِي يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا, وَيُمْسِكَ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ, وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ا. هـ. وَمُصَنَّفَاتُ هَذَا الْإِمَامِ وَتِلْمِيذِهِ ابْنِ الْقَيِّمِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الِانْتِصَارِ لِمُعْتَقَدِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ قَدْ طَبَّقَتِ الْمَشَارِقَ وَالْمَغَارِبَ, وَلَوْ ذَهَبْنَا نَذْكُرُ أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ لَاحْتَجْنَا إِلَى عِدَّةِ أَسْفَارٍ بَلْ إِلَى عِدَّةِ أَحْمَالٍ, وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ كِفَايَةٌ. وَنَحْنُ نُشْهِدُ اللَّهَ تَعَالَى وَحَمْلَةَ عَرْشِهِ وَجَمِيعَ مَلَائِكَتِهِ وَأَنْبِيَاءَهُ وَرُسُلَهُ وَجَمِيعَ خَلْقِهِ أَنَّا نُثْبِتُ لِرَبِّنَا عَزَّ وَجَلَّ مَا أَثْبَتَهُ لِنَفْسِهِ فِي كِتَابِهِ وَأَثْبَتَهُ رَسُولُهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ
القرب والمعية لا ينافي العلو والفوقية
أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ سَلَفًا وَخَلَفًا مِمَّنْ ذَكَرْنَا وَمِمَّنْ لَمْ نَذْكُرْ مِنْ أَنَّ رَبَّنَا وإلهنا فوق سمواته عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ, وَهُوَ يَعْلَمُ مَا هُمْ عَلَيْهِ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُمْ خَافِيَةٌ, وَاسْتِوَاؤُهُ عَلَى عَرْشِهِ كَمَا أَخْبَرَ وَعَلَى الْوَجْهِ الَّذِي عَنَاهُ وَأَرَادَهُ كَمَا يَلِيقُ بِجَلَالِ رَبِّنَا وعظمته, لا تتكلف لِذَلِكَ تَأْوِيلًا وَلَا تَكْيِيفًا بَلْ نَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِمَا جَاءَ عَنِ اللَّهِ عَلَى مُرَادِ اللَّهِ, وَآمَنَّا بِرَسُولِ اللَّهِ وَبِمَا جَاءَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ عَلَى مُرَادِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلَا نَطْلُبُ إِمَامًا غَيْرَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ, وَلَا نَتَخَطَّاهُمَا إِلَى غَيْرِهِمَا وَلَا نَتَجَاوَزُ مَا جَاءَ فِيهِمَا, فَنَنْطِقُ بِمَا نَطَقَا بِهِ وَنَسْكُتُ عَمَّا سَكَتَا عَنْهُ وَنَسِيرُ سَيْرَهُمَا حَيْثُ سَارَا وَنَقِفُ مَعَهُمَا حَيْثُ وَقَفَا, وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ. وَمَعَ ذَا مُطَّلِعٌ إِلَيْهِمُو ... بعلمه مهيمن عليهمو وَذِكْرُهُ لِلْقُرْبِ وَالْمَعِيَّهْ ... لَمْ يَنْفِ لِلْعُلُوِّ وَالْفَوْقِيَّهْ فَإِنَّهُ الْعَلِيُّ فِي دُنُوِّهِ ... وَهْوَ الْقَرِيبُ جَلَّ فِي عُلُوِّهِ "وَمَعَ ذَا" الِاتِّصَافِ بِالْعُلُوِّ وَالِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ وَالْمُبَايَنَةِ مِنْهُ لِخَلْقِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَهُوَ "مُطَّلِعٌ" سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى "إِلَيْهِمُو" الْوَاوُ لِلْإِشْبَاعِ "بِعِلْمِهِ" الْمُحِيطِ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُمْ خَافِيَةٌ, كَمَا جَمَعَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بَيْنَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى، لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى، وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه: 5-7] فَجَمَعَ تَعَالَى بَيْنَ اسْتِوَائِهِ عَلَى عَرْشِهِ وَبَيْنَ عِلْمِهِ السِّرَّ وَأَخْفَى, وَكَذَلِكَ جَمَعَ عَزَّ وَجَلَّ بَيْنَهُمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الْحَدِيدِ: 3] وَهُوَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَهُ شَيْءٌ وَالْآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَهُ شَيْءٌ وَالظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَهُ شَيْءٌ وَالْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَهُ شَيْءٌ, هَكَذَا فَسَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ1. وَكَذَلِكَ جَمَعَ تَعَالَى بَيْنَهُمَا فِي الْآيَةِ الَّتِي تَلِيهَا فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ
مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الْحَدِيدِ: 4] وَكَذَلِكَ جَمَعَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَيْنَ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ فِي حَدِيثِ الْأَوْعَالِ إِذْ يَقُولُ: "وَاللَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ وَهُوَ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ"1 وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ, وَهُوَ إِجْمَاعُ الْمُؤْمِنِينَ. "مُهَيْمِنٌ" رَقِيبٌ "عَلَيْهِمُو" بِوَاوِ الْإِشْبَاعِ "وَذِكْرُهُ" تَبَارَكَ وَتَعَالَى "لِلْقُرْبِ" فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [الْبَقَرَةِ: 186] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ} وَقَوْلُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ: "إِنَّ الَّذِي تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عنق راحلته" 2. "و" كذلك ذِكْرُهُ "الْمَعِيَّهْ" الْعَامَّةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [الْمُجَادَلَةِ: 7] وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الْحَدِيدِ: 4] وَكَذَا الْمَعِيَّةُ الْخَاصَّةُ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النَّحْلِ: 128] وَقَوْلِهِ: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الْأَنْفَالِ: 46] وَقَوْلِهِ لِمُوسَى وَهَارُونَ: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46] وَقَوْلِهِ فِي قِصَّةِ نَبِيِّنَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَعَ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التَّوْبَةِ: 40] كُلُّ ذَلِكَ "لَمْ يَنْفِ الْعُلُوَّ" الْمَذْكُورَ فِي النُّصُوصِ السَّابِقَةِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ مِنْ أَنَّهُ تَعَالَى مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ - إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ - وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ - تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ - يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ. "وَالْفَوْقِيَّهْ" عَطْفٌ عَلَى الْعُلُوِّ وَهُوَ رَدِيفُهُ فِي الْمَعْنَى أَيْ: وَلَمْ يَنْفِ قَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الْأَنْعَامِ: 18] وَقَوْلَهُ: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النَّحْلِ: 50] وَقَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَاللَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ وَهُوَ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ" 3 بَلْ كُلُّ ذَلِكَ حَقٌّ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ قُرْبِهِ عَزَّ وَجَلَّ وَبَيْنَ عُلُوِّهِ "فَإِنَّهُ"
هُوَ "العلي" المتصف بجمع مَعَانِي الْعُلُوِّ ذَاتًا وَقَهْرًا وَشَأْنًا "فِي دُنُوِّهِ" فَيَدْنُو تَعَالَى مِنْ خَلْقِهِ كَيْفَ شَاءَ. وَيَنْزِلُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فِي آخِرِ كُلِّ لَيْلَةٍ وَعَشِيَّةَ عَرَفَةَ وَغَيْرُ ذَلِكَ كَيْفَ شَاءَ, وَيَأْتِي لِفَصْلِ الْقَضَاءِ بَيْنَ عِبَادِهِ كَيْفَ شَاءَ, وَلَيْسَ ذَلِكَ مُنَافِيًا لِفَوْقِيَّتِهِ فَوْقَ عِبَادِهِ وَاسْتِوَائِهِ عَلَى عَرْشِهِ فَإِنَّهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فِي ذَاتِهِ وَلَا صِفَاتِهِ وَلَا أَفْعَالِهِ وَمَعِيَّتُهُ الْعَامَّةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} مَعْنَاهَا إِحَاطَتُهُ بِهِمْ عِلْمًا وَقُدْرَةً كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَوَّلُ السِّيَاقِ وَآخِرُهُ, وَهُوَ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ كَمَا تَقَدَّمَ نَقْلُ إِجْمَاعِهِمْ عَلَى ذَلِكَ. وَأَمَّا مَعِيَّتُهُ الْخَاصَّةُ لِأَحْبَابِهِ وَأَوْلِيَائِهِ فَتِلْكَ غَيْرُ الْمَعِيَّةِ الْعَامَّةِ, فَهُوَ مَعَهُمْ بِالْإِعَانَةِ وَالرِّعَايَةِ وَالْكِفَايَةِ وَالنَّصْرِ وَالتَّأْيِيدِ وَالْهِدَايَةِ وَالتَّوْفِيقِ وَالتَّسْدِيدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تَجْفُو عِبَارَةُ الْمَخْلُوقِ عَنْهُ, وَيَقْصُرُ تَعْرِيفُهُ دُونَهُ, وَكَفَاكَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ نَبِيُّهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذْ يَقُولُ: "وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا" 1. وفي بعض الرواية "وَقَلْبَهُ الَّذِي يَعْقِلُ بِهِ وَلِسَانَهُ الَّذِي يَنْطِقُ بِهِ"2 وَلَيْسَ مَعْنَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ جَوَارِحَ لِلْعَبْدِ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا. وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّ مَنِ اجْتَهَدَ بِالتَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِالْفَرَائِضِ ثُمَّ بِالنَّوَافِلِ قَرَّبَهُ إِلَيْهِ وَرَقَّاهُ مِنْ دَرَجَةِ الْإِيمَانِ إِلَى دَرَجَةِ الْإِحْسَانِ فَيَصِيرُ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى الْحُضُورِ وَالْمُرَاقَبَةِ, كأنه يراه فيمتلىء قَلْبُهُ بِمَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَحَبَّتِهِ وَعَظَمَتِهِ وَخَوْفِهِ وَمَهَابَتِهِ وَإِجْلَالِهِ وَالْأُنْسِ بِهِ وَالشَّوْقِ إِلَيْهِ حَتَّى يَصِيرَ هَذَا الَّذِي فِي قَلْبِهِ مِنَ الْمَعْرِفَةِ مُشَاهَدًا لَهُ بِعَيْنِ الْبَصِيرَةِ. وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى أَشَارَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِقَوْلِهِ: "أَحِبُّوا اللَّهَ مِنْ كُلِّ قُلُوبِكُمْ"3 فَمَتَى امْتَلَأَ الْقَلْبُ بِعَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى مَحَا ذَلِكَ مِنَ الْقَلْبِ كُلَّ مَا سِوَاهُ, وَلَمْ يَبْقَ لِلْعَبْدِ شَيْءٌ مِنْ نَفْسِهِ وَهَوَاهُ, وَلَا إِرَادَةٌ إِلَّا لِمَا يُرِيدُ مِنْهُ مَوْلَاهُ. فَحِينَئِذٍ لَا يَنْطِقُ الْعَبْدُ إِلَّا بِذِكْرِهِ وَلَا يَتَحَرَّكُ إِلَّا بِأَمْرِهِ, فَإِنْ نَطَقَ نَطَقَ بِاللَّهِ, وَإِنْ سَمِعَ سَمِعَ بِهِ, وَإِنْ نَظَرَ نَظَرَ بِهِ, وَإِنْ بَطَشَ بَطَشَ بِهِ, فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ عَزَّ
القيوم قيوم بنفسه قيم لغيره وجميع الموجودات مفتقرة إليه
وَجَلَّ: "كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا". وَمَنْ أَشَارَ إِلَى غَيْرِ هَذَا فَإِنَّمَا يُشِيرُ إِلَى الْإِلْحَادِ مِنَ الْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ, وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ بَرِيئَانِ مِنْهُ. "وَهُوَ الْقَرِيبُ جَلَّ فِي عُلُوِّهِ" فَهُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ عَالٍ عَلَى جَمِيعِ خَلْقِهِ وَهُوَ قَرِيبٌ يُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَاهُ. وَيَعْلَمُ سِرَّهُ وَنَجْوَاهُ وَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى دَاعِيهِ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ. وَيَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُ الْإِنْسَانِ وَهُوَ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ. فَإِنَّ الَّذِي عِنْدَ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ أَوْ عِنْدَ حَبْلِ وَرِيدِهِ لَا يَعْلَمُ مَا خَفِيَ عَلَيْهِ مِنْ كَلَامِهِ, وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى عَرْشِهِ وَيَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى, وَيَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا, وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا, وَهُوَ مَعَ خَلْقِهِ بِعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُمْ خَافِيَةٌ, وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ, فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ وَبِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ, فَهُوَ سُبْحَانَهُ الْقَرِيبُ فِي عُلُوِّهِ, الْعَلِيُّ فِي دُنُوِّهِ وهو الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. حي وقيوم لا يَنَامُ ... وَجَلَّ أَنْ يُشْبِهَهُ الْأَنَامُ لَا تَبْلُغُ الْأَوْهَامُ كُنْهَ ذَاتِهِ ... وَلَا يُكَيِّفُ الْحِجَا صِفَاتِهِ "حَيٌّ" لَا يَمُوتُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} [الْفُرْقَانِ: 58] وَقَالَ تَعَالَى: {هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} فَهُوَ الْحَيُّ الَّذِي لَمْ تُسْبَقُ حَيَاتُهُ بِالْعَدَمِ وَلَمْ تُعْقَبْ بِالْفَنَاءِ, هُوَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَهُ شَيْءٌ وَالْآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَهُ شَيْءٌ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَقُولُ: "أَعُوذُ بِعِزَّتِكَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ يَمُوتُونَ" 1. "وَقَيُّومٌ" فَهُوَ الْقَيُّومُ بِنَفْسِهِ الْقَيِّمُ لِغَيْرِهِ فَجَمِيعُ الْمَوْجُودَاتِ مُفْتَقِرَةٌ إِلَيْهِ وَهُوَ غَنِيٌّ عَنْهَا وَلَا قِوَامَ لَهَا إِلَّا بِهِ وَلَا قِوَامَ لَهَا بِدُونِ أَمْرِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ
السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ} وَهُوَ الْقَائِمُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَالْقَائِمُ بِجَمِيعِ أُمُورِ عِبَادِهِ وَالْقَائِمُ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ دُعَائِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ: "اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ, وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ, وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ" 1. الْحَدِيثَ. وَقَدْ جَمَعَ تَعَالَى بَيْنَ هَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ: "الْحَيِّ الْقَيُّومِ" فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ الْأَوَّلُ آيَةُ الْكُرْسِيِّ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [الْبَقَرَةِ: 255] الثَّانِي: أَوَّلُ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ {الم، اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [آلِ عِمْرَانَ: 1-2] الثَّالِثُ فِي سُورَةِ طه: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} [طه: 111] وَرَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا قَالَ: "اسْمُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ فِي ثَلَاثِ سُوَرٍ: سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ وَطه"2. "فَلَا يَنَامُ" أَيْ: لَا يَعْتَرِيهِ
نَقْصٌ وَلَا غَفْلَةٌ وَلَا ذُهُولٌ عَنْ خَلْقِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ نَقْصٌ فِي حَيَاتِهِ وَقَيُّومِيَّتِهِ, وَلِهَذَا أَرْدَفَ هَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ بِنَفْيِ السِّنَةِ وَالنَّوْمِ فَقَالَ: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} [الْبَقَرَةِ: 255] أَيْ: لَا تَغْلِبُهُ سِنَةٌ وَهُوَ الْوَسَنُ وَالنُّعَاسُ, وَلَا نَوْمٌ وَنَفْيُهُ مِنْ بَابٍ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَقْوَى مِنَ السِّنَةِ, بَلْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ شَهِيدٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَلَا يَغِيبُ عَنْهُ شَيْءٌ وَلَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ فَقَالَ: "إِنَّ اللَّهَ لَا يَنَامُ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ, حِجَابُهُ النُّورُ -أَوِ النَّارُ- لَوْ كُشِفَتْ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ" 1. "وَجَلَّ" عَنْ "أَنْ يُشْبِهَهُ الْأَنَامُ" فِي ذَاتِهِ أَوْ أَسْمَائِهِ أَوْ صِفَاتِهِ أَوْ أَفْعَالِهِ لِأَنَّ الصِّفَاتِ تَابِعَةٌ لِمَوْصُوفِهَا فَكَمَا أَنَّ ذَاتَهُ لَا تُشْبِهُ الذَّوَاتِ فَكَذَلِكَ صِفَاتُهُ لَا تُشْبِهُ صِفَاتِ الْمَخْلُوقَاتِ, وَلَوِ اهْتَدَى الْمُتَكَلِّمُونَ لِهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي هَدَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ لَمَا نَفَوْا عَنِ اللَّهِ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَوَصَفَهُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلَمَا عَطَّلُوهُ عَنْ صِفَاتِ كَمَالِهِ وَنُعُوتِ جَلَالِهِ فِرَارًا بِزَعْمِهِمْ مِنَ التَّشْبِيهِ فَوَقَعُوا فِي أَعْظَمَ مِنْ ذَلِكَ وَلَزِمَهُمْ أَضْدَادُ مَا نَفَوْهُ مِنَ الصِّفَاتِ الثَّابِتَةِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ, وَسَبَبُ ضَلَالِهِمْ أَنَّهُمْ تَقَدَّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّهَمُوا الْوَحْيَيْنِ فِيمَا نَطَقَا بِهِ وَوَزَنُوهُمَا بِعُقُولِهِمُ السَّخِيفَةِ وَأَذْهَانِهِمُ الْبَعِيدَةِ وَقَوَانِينِهِمُ الْفَاسِدَةِ الَّتِي هِيَ لَيْسَتْ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ, وَلَا مِنْ عُلُومِ الْإِسْلَامِ فِي ظِلٍّ وَلَا فَيْءٍ, وَإِنَّمَا هِيَ أَوْضَاعٌ مُخْتَلِفَةٌ أَدْخَلَهَا الْأَعَادِي عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ لِقَصْدِ إِظْهَارِ الْفَسَادِ وَلِغَرْسِ شَجَرَةِ الْإِلْحَادِ الْمُثْمِرَةِ تَعْطِيلَ الْبَارِي عَزَّ وَجَلَّ عَنْ صِفَاتِ كَمَالِهِ وَعُلُوِّهِ وَاعْتِقَادِ الْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ. جَاءُوا بِهَا فِي قَالَبِ التَّنْزِيهِ ... لِلَّهِ كَيْ يُغْوُونَ كُلَّ سَفِيهِ قَالُوا صِفَاتُ كَمَالِهِ مَنْفِيَّةٌ ... عَنْهُ مَخَافَةَ مُوجَبِ التَّشْبِيهِ
تَعْطِيلُهُمْ سَمَّوْهُ "تَنْزِيهًا" لَهُ ... لِيُرَوِّجُوا فَاعْجَبْ لِذَا التَّمْوِيهِ وَالْوَحْيُ قَالُوا نَصُّهُ لَا يُوجِبُ ... الْعِلْمَ الْيَقِينَ فَأَيُّ دِينٍ فِيهِ مَا الدِّينُ إِلَّا مَا عَنِ الْيُونَانَ قَدْ ... جِئْنَا بِهِ طُوبَى لِمَنْ يَحْوِيهِ نَبَذُوا كِتَابَ اللَّهِ خَلْفَ ظُهُورِهِمْ ... وَبَقُوا حَيَارَى فِي ضَلَالِ التِّيهِ فَسَمَّوُا النُّورَ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى رَسُولِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَتِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَلَمْ يُفَرِّطْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ, وَبَيَانُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ جَوَامِعِ كَلِمِهِ الَّتِي اخْتَصَّهُ اللَّهُ بِهَا فَسَمَّوْا ذَلِكَ كُلَّهُ "آحَادًا ظَنِّيَّةً لَا تُفِيدُ الْيَقِينَ"، وَسَمَّوْا زَخَارِفَ أَذْهَانِهِمْ وَوَسَاوِسَ شَيْطَانِهِمْ "قَوَاطِعَ عَقْلِيَّةً"، لَا وَاللَّهِ مَا هِيَ إِلَّا خَيَالَاتٌ وَهْمِيَّةٌ وَوَسَاوِسُ شَيْطَانِيَّةٌ, هِيَ مِنَ الدِّينِ بَرِيئَةٌ وَعَنِ الْحَقِّ أَجْنَبِيَّةٌ, تُوجِبُ الْحَيْرَةَ وَتُعْقِبُ الْحَسْرَةَ كَثِيرَةُ الْمَبَانِي قَلِيلَةُ الْمَعَانِي كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً, وَيَا لَيْتَهُ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا لَكِنْ وَجَدَهُ السُّمَّ النَّقِيعَ وَالدَّاءَ الْعُضَالَ, فِخَاخَ هَلَكَةٍ نَصَبَهَا الْأَعْدَاءُ لِاصْطِيَادِ الْأَغْبِيَاءِ, وَخُدْعَةَ مَاكِرٍ فِي صُورَةِ نَاصِحٍ فِعْلَ عَدُوِّ اللَّهِ اللَّعِينِ فِي قِصَّتِهِ مَعَ الْأَبَوَيْنِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ فِي دَلَالَتِهِمَا عَلَى الشَّجَرَةِ الَّتِي نَهَاهُمَا رَبُّهُمَا عَنْهَا: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ، فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ} [الْأَعْرَافِ: 21-22] إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ. وَكَذَلِكَ كُتُبُ الْكَلَامِ وَالْمَنْطِقِ الْيُونَانِيِّ أَدْخَلَهُ الْأَعْدَاءُ عَلَيْنَا وَسَمَّوْهُ عِلْمَ التَّوْحِيدِ تَلْبِيسًا وَتَمْوِيهًا وَمَا هُوَ إِلَّا سُلَّمُ الْإِلْحَادِ وَالزَّنْدَقَةِ, وَجَحَدُوا صِفَاتِ الْبَارِي عَزَّ وَجَلَّ وَسَمَّوْا ذَلِكَ تَنْزِيهًا لِيُغْرُوا الْجُهَّالَ بِذَلِكَ, وَإِنَّمَا هُوَ مَحْضُ التَّعْطِيلِ. وَسَمَّوْا أَوْلِيَاءَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ عَرَفُوهُ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ مُشَبِّهَةً لِيُنَفِّرُوا النَّاسَ عَنْهُمْ مَكْرًا وَخَدِيعَةً فَأَصْبَحَ الْمَغْرُورُ بِقَوْلِهِمُ الْمَخْدُوعُ بِمَكْرِهِمْ حَائِرًا مَخْذُولًا لِأَنَّهُمْ لَمَّا عَزَلُوا كِتَابَ اللَّهِ عَنِ الْبَيَانِ وَحَكَّمُوا عُقُولَهُمُ السَّخِيفَةَ فِي نُصُوصِ صِفَاتِ الدَّيَّانِ لَمْ يَفْهَمُوا مِنْهَا إِلَّا مَا يَقُومُ بِالْمَخْلُوقِ مِنَ الْجَوَارِحِ وَالْأَدَوَاتِ الَّتِي مَنَحَهُ اللَّهُ إِيَّاهَا وَمَتَى شَاءَ سَلَبَهُ, وَلَمْ يَنْظُرُوا الْمُتَّصِفَ بِهَا مَنْ هُوَ, فَلِذَلِكَ نَفَوْهَا عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِئَلَّا يَلْزَمَ مِنْ إِثْبَاتِهَا التَّشْبِيهُ فَشَبَّهُوا أَوَّلًا وَعَطَّلُوا ثَانِيًا, فَلَمَّا نَفَوْا عَنِ اللَّهِ صِفَاتِ كَمَالِهِ لَزِمَهُمْ إِثْبَاتُ ضِدِّهَا وَهُوَ النَّقَائِصُ, فَمَنْ نَفَى عَنِ اللَّهِ كَوْنَهُ سَمِيعًا بَصِيرًا فَقَدْ شَبَّهَهُ بِمَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي شَيْئًا وَكَذَلِكَ سَائِرُ الصِّفَاتِ وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ أَثْبَتُوا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا أَثْبَتَهُ لِنَفْسِهِ وَأَثْبَتَهُ لَهُ رَسُولُهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَمَا شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَعَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَرَادَ, فَجَمِيعُ صِفَاتِهِ صِفَاتُ كَمَالٍ وَجَلَالٍ تَلِيقُ بِعَظَمَةِ ذَاتِهِ وَنَفْيُهَا ضِدُّ ذَلِكَ, وَلَا يَلْزَمُ مِنَ اتِّفَاقِ التَّسْمِيَةِ اتِّفَاقُ الْمُسَمَّيَاتِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ سَمَّى نَفْسَهُ سَمِيعًا بَصِيرًا, وَأَخْبَرَنَا أَنَّهُ جَعَلَ الْإِنْسَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا, وَسَمَّى نَفْسَهُ الرَّءُوفَ الرَّحِيمَ, وَأَخْبَرَ أَنَّ نَبِيَّهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ, وَسَمَّى نَفْسَهُ الْمَلِكَ فَقَالَ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ - مَلِكِ النَّاسِ} وَسَمَّى بَعْضَ خَلْقِهِ مَلِكًا فَقَالَ: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي} [يُوسُفَ: 54] وَهُوَ الْعَزِيزُ وَسَمَّى بَعْضَ عِبَادِهِ عَزِيزًا وَغَيْرَ ذَلِكَ, فَلَا يَلْزَمُ مِنَ اتِّفَاقِ التَّسْمِيَةِ اتِّفَاقُ الْأَسْمَاءِ وَمُقْتَضَيَاتِهَا, فَلَيْسَ السَّمْعُ كَالسَّمْعِ وَلَا الْبَصَرُ كَالْبَصَرِ وَلَا الرَّأْفَةُ كَالرَّأْفَةِ وَلَا الرَّحْمَةُ كَالرَّحْمَةِ وَلَا الْعِزَّةُ كَالْعِزَّةِ, كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ الْمَخْلُوقُ كَالْخَالِقِ وَلَا الْمُحْدَثُ الْكَائِنُ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ كَالْأَوَّلِ الْآخِرِ الظَّاهِرِ الْبَاطِنِ, وَلَيْسَ الْفَقِيرُ الْعَاجِزُ عَنِ الْقِيَامِ بِنَفْسِهِ كَالْحَيِّ الْقَيُّومِ الْغَنِيِّ عَمَّا سِوَاهُ, وَكُلُّ مَا سِوَاهُ فَقِيرٌ إِلَيْهِ, فَصِفَاتُ الْخَالِقِ الْحَيِّ الْقَيُّومِ قَائِمَةٌ بِهِ لَائِقَةٌ بِجَلَالِهِ أَزَلِيَّةٌ بِأَزَلِيَّتِهِ دَائِمَةٌ بِدَيْمُومِيَّتِهِ, لَمْ يَزَلْ مُتَّصِفًا بِهَا وَلَا يَزَالُ كَذَلِكَ, لَمْ تُسْبَقْ بِضِدٍّ وَلَمْ تُعْقَبْ بِهِ بَلْ لَهُ تَعَالَى الْكَمَالُ الْمُطْلَقُ أَوَّلًا وَأَبَدًا: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشُّورَى: 42] فَمَنْ شَبَّهَ اللَّهَ تَعَالَى بِخَلْقِهِ فَقَدْ كَفَرَ وَمَنْ نَفَى عَنْهُ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فَقَدْ كَفَرَ وَلَيْسَ فِيمَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ وَرَسُولُهُ تَشْبِيهٌ. "لَا تَبْلُغُ الْأَوْهَامُ كُنْهَ ذَاتِهِ" أَيْ: نِهَايَةَ حَقِيقَتِهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: 20] وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [الْبَقَرَةِ: 255] وَإِنَّمَا نَعْرِفُهُ تَعَالَى بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فِي كُتُبِهِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى رُسُلِهِ بِأَنَّهُ أَحَدٌ صَمَدٌ {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الْإِخْلَاصِ: 3-4] {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} [الْبَقَرَةِ: 255] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [الْحَشْرِ: 22] {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الْحَشْرِ: 23] ، {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الْحَشْرِ: 24] {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ
وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الْحَدِيدِ: 3] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ. "وَلَا يُكَيِّفُ الْحِجَا" أَيِ: الْعَقْلُ "صِفَاتِهِ" لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ كَيْفَ هُوَ إِلَّا هُوَ, فَالْوَاجِبُ عَلَيْنَا أَيُّهَا الْعَبِيدُ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَإِمْرَارُهَا كَمَا جَاءَتْ وَاعْتِقَادُ أَنَّهَا حَقٌّ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَأَخْبَرَ رَسُولُهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَعَدَمُ التَّكْيِيفِ وَالتَّمْثِيلِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَخْبَرَنَا بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَلَمْ يُبَيِّنْ كَيْفِيَّتَهَا فَنُصَدِّقُ الْخَبَرَ وَنُؤْمِنُ بِهِ وَنَكِلُ الْكَيْفِيَّةَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. فَصِفَاتُ ذَاتِهِ تَعَالَى مِنَ الْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ وَغَيْرِهَا وَكَذَلِكَ صِفَاتُ أَفْعَالِهِ مِنَ الِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ وَالنُّزُولِ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا وَالْمَجِيءِ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ بَيْنَ عِبَادِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ كُلُّهَا حَقٌّ عَلَى حَقِيقَتِهَا عَلِمْنَا اتِّصَافَهُ تَعَالَى بِهَا بِمَا عَلِمْنَا فِي كِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَغَابَ عَنْ جَمِيعِ الْمَخْلُوقِينَ كَيْفِيَّتُهَا وَلَمْ يُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا كَمَا, قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَرَبِيعَةُ الرَّأْيِ وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَغَيْرُهُمْ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى: الِاسْتِوَاءُ غَيْرُ مَجْهُولٍ وَالْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ وَمِنَ اللَّهِ الرِّسَالَةُ وَعَلَى الرَّسُولِ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا التَّصْدِيقُ وَالتَّسْلِيمُ, وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي جَمِيعِ صِفَاتِهِ عَزَّ وَجَلَّ, وَإِنَّا وَاللَّهِ لَكَالُّونَ حَائِرُونَ فِي كَيْفِيَّةِ سِرَايَةِ الدَّمِ فِي أَعْضَائِنَا وَجَرَيَانِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فِينَا وَكَيْفَ يُدَبِّرُ اللَّهُ تَعَالَى قُوتَ كُلِّ عُضْوٍ فِيهِ بِحَسَبِ حَاجَتِهِ, وَفِي اسْتِقْرَارِ الرُّوحِ الَّتِي هِيَ بَيْنَ جَنْبَيْنَا وَكَيْفَ يَتَوَفَّاهَا اللَّهُ فِي مَنَامِهَا وَتَعْرُجُ إِلَى حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَيَرُدُّهَا إِذَا شَاءَ, وَكَيْفِيَّةِ إِقْعَادِ الْمَيِّتِ فِي الْقَبْرِ وَعَذَابِهِ وَنَعِيمِهِ, وَكَيْفِيَّةِ قِيَامِ الْأَمْوَاتِ مِنَ الْقُبُورِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا وَكَيْفِيَّةِ الْمَلَائِكَةِ وَعِظَمِ خَلْقِهِمْ؛ فَكَيْفَ الْعَرْشُ الَّذِي لَا يُقَدِّرُ قَدْرَهُ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ, كُلُّ ذَلِكَ نَجْهَلُ كَيْفِيَّتَهُ وَنَحْنُ مُؤْمِنُونَ بِهِ كَمَا أَخْبَرَنَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهُ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِيمَانًا بِالْغَيْبِ وَإِنْ لَمْ نَعْلَمِ الْكَيْفِيَّةَ فَكَيْفَ بِالْخَالِقِ عَزَّ وَجَلَّ وَأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وصفاته العلى, ولله الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وله الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ آمنا بالله ونشهد بِأَنَّا مُسْلِمُونَ, آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا, رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ.
انفراده عز وجل بالإرادة والمشيئة
[انْفِرَادُهُ عَزَّ وَجَلَّ بِالْإِرَادَةِ وَالْمَشِيئَةِ] : بَاقٍ فَلَا يَفْنَى وَلَا يَبِيدُ ... وَلَا يَكُونُ غَيْرُ مَا يُرِيدُ مُنْفَرِدٌ بِالْخَلْقِ وَالْإِرَادَهْ ... وَحَاكِمٌ -جَلَّ- بِمَا أَرَادَهْ "بَاقٍ" كَمَا أَنَّهُ الْأَوَّلُ بِلَا ابْتِدَاءٍ فَهُوَ الْبَاقِي بِلَا انْتِهَاءٍ, كَمَا لَا ابْتِدَاءَ لِأَوَّلِيَّتِهِ كَذَلِكَ لَا انْتِهَاءَ لِآخِرِيَّتِهِ "فَلَا يَفْنَى وَلَا يَبِيدُ" بَلْ هُوَ الْمُفْنِي الْمُبِيدُ وَهُوَ الْمُبْدِئُ الْمُعِيدُ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الْقَصَصِ: 88] وَقَالَ تَعَالَى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ، وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرَّحْمَنِ: 26-27] "وَلَا يَكُونُ" فِي الْكَوْنِ "غَيْرُ مَا يُرِيدُ" وَالْمُرَادُ بِالْإِرَادَةِ هُنَا الْإِرَادَةُ الْقَدَرِيَّةُ الْكَوْنِيَّةُ الَّتِي لَا بُدَّ لِكُلِّ شَيْءٍ مِنْهَا وَلَا مَحِيصَ وَلَا مَحِيدَ لِأَحَدٍ عَنْهَا وَهِيَ مَشِيئَةُ اللَّهِ الشَّامِلَةُ وَقُدْرَتُهُ النَّافِذَةُ, فَمَا شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ فَهُوَ سُبْحَانَهُ الْفَعَّالُ لِمَا يُرِيدُ, وَلَا نُفُوذَ لِإِرَادَةِ أَحَدٍ إِلَّا أَنْ يُرِيدَ, وَمَا مِنْ حَرَكَةٍ وَلَا سُكُونٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِلَّا بِإِرَادَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَلَوْ شَاءَ عَدَمَ وُقُوعِهَا لَمْ تَقَعْ, وَوُرُودُ ذَلِكَ فِي نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَعْلُومٌ كَقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [الْبُرُوجِ: 16] {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا} [الْكَهْفِ: 82] {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الْإِسْرَاءِ: 16] وَهَذَا الْأَمْرُ الْقَدَرِيُّ الْكَوْنِيُّ غَيْرُ الْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ, فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفِسْقِ شَرْعًا وَلَا يُحِبُّ الْفَاسِقِينَ وَإِنَّمَا هُوَ أَمْرُ تَكْوِينٍ, أَلَا تَرَى أَنَّ الْفِسْقَ عِلَّةُ "حَقَّ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ" وَ"حَقَّ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ" عِلَّةٌ لِتَدْمِيرِهِمْ وَهَكَذَا الْأَمْرُ سَبَبٌ لِفِسْقِهِمْ وَمُقْتَضٍ لَهُ وَذَلِكَ هُوَ أَمْرُ التَّكْوِينِ, وَقَالَ: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [الْبَقَرَةِ: 185] {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82] {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [الْمَائِدَةِ: 41] {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} [الْمَائِدَةِ: 41] وَقَوْلُ نُوحٍ لِقَوْمِهِ: {وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [هُودٍ:34] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ
صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الْأَنْعَامِ: 125] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ} [الرَّعْدِ: 11] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ} , {قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [الْمَائِدَةِ: 17] {قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً} [الْأَحْزَابِ: 17] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا} [الْفَتْحِ: 11] وَقَوْلُهُ: {يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ} [آلِ عِمْرَانَ: 176] وَقَوْلُهُ: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} [الْإِسْرَاءِ: 18] وَقَوْلُ صَاحِبِ يس: {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ} [يس: 23] ، وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ} [الزُّمَرِ: 38] وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ" 1، "مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خيرا يصب به" 2، "إِذَا أَرَادَ اللَّهُ رَحْمَةَ أُمَّةٍ قَبَضَ نَبِيَّهَا قَبْلَهَا وَإِذَا أَرَادَ هَلَكَةَ أُمَّةٍ عَذَّبَهَا وَنَبِيُّهَا حَيٌّ فَأَقَرَّ عَيْنَهُ بِهَلَاكِهَا" 3، "إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا عَجَّلَ لَهُ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ شَرًّا أَمْسَكَ عَنْهُ بِذُنُوبِهِ حَتَّى يُوَافَى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" 4، "إِذَا أَرَادَ اللَّهُ قَبْضَ عَبْدٍ بِأَرْضٍ جَعَلَ لَهُ إِلَيْهَا حَاجَةً" 5، "إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِأَهْلِ بَيْتٍ خَيْرًا أَدْخَلَ عَلَيْهِمْ بَابَ
الرِّفْقِ"1 "إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ عَذَابًا أَصَابَ مَنْ كَانَ فِيهِمْ ثُمَّ بُعِثُوا عَلَى نِيَّاتِهِمْ" 2 وَالْآثَارُ النَّبَوِيَّةُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ, وَكَذَلِكَ لَفْظُ "الْمَشِيئَةِ" فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وُرُودُهُ مَعْلُومٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [الْبَقَرَةِ: 253] وَقَالَ تَعَالَى: {كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [آلِ عِمْرَانَ: 40] وَقَالَ: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} [الْأَنْعَامِ: 137] {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} [يُونُسَ: 99] {لَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} [هُودٍ: 118] {لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا} [الرعد: 31] {لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} [الْأَنْعَامِ: 35] {لَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السَّجْدَةِ: 13] {وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ} [مُحَمَّدٍ: 4] {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الْإِسْرَاءِ: 86] {فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} [الشُّورَى: 24] {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا} [النِّسَاءِ: 133] {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الْفَتْحِ: 27] {إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ} [هُودٍ: 33] وَقَوْلُهُ عَنْ إِمَامِ الْحُنَفَاءِ: {وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الْأَنْعَامِ: 80] وَقَوْلُهُ عَنِ الذَّبِيحِ: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصَّافَّاتِ: 102] وَقَوْلُهُ عَنْ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الْأَعْرَافِ: 98] وَقَوْلُهُ عَنْ يُوسُفَ: {ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [يُوسُفَ: 99] وَقَوْلُهُ عَنْ مُوسَى: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا} [الْكَهْفِ: 69] وَقَوْلُهُ عَنْ قَوْمِ مُوسَى: {وَإِنَّا إِنْ شَاءَ
اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} [الْبَقَرَةِ: 70] وَقَوْلُهُ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا، إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الْكَهْفِ: 24] {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [يُونُسَ: 49] وَقَالَ: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هُودٍ: 107] وَعَنْ أَهْلِ النَّارِ مِثْلُ ذَلِكَ وَقَالَ: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ} [الْإِسْرَاءِ: 54] وَقَالَ: {يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} [الْمَائِدَةِ: 40] وَقَالَ: {وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ} [الشُّورَى: 27] وَقَالَ: {إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [الْإِسْرَاءِ: 30] وَقَالَ: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرَّعْدِ: 39] وَقَالَ: {قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ} [يُونُسَ: 16] وَقَالَ: {نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا} [الْإِنْسَانِ: 28] وَقَالَ: {وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الْمُدَّثِّرِ: 56] وَقَالَ: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الْإِنْسَانِ: 30] فَأَخْبَرَ أَنَّ مَشِيئَتَهُمْ وَفِعْلَهُمْ مَوْقُوفَانِ عَلَى مَشِيئَتِهِ لَهُمْ هَذَا وَهَذَا. وَقَالَ: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آلِ عِمْرَانَ: 26] وَقَالَ: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [الْأَحْزَابِ: 24] وَقَالَ: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} [آلِ عِمْرَانَ: 74] وَقَالَ: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} [النُّورِ: 21] وَقَالَ: {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} [الْبَقَرَةِ: 261] وَقَالَ: {نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ} [يُوسُفَ: 56] وَقَالَ: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} [يُوسُفَ: 76] وَقَالَ: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [يُوسُفَ: 56] وَقَالَ: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [إِبْرَاهِيمَ: 11] وَقَالَ: {فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف: 110] وقال: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ} [الرُّومِ: 48] وَقَالَ: {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ} [يُوسُفَ: 100] وَقَالَ: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ} [الْبَقَرَةِ: 299] وَقَالَ: {وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ} [يس: 66] ، {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ}
[الْبَقَرَةِ: 20] وَقَالَ: {إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ} [الشُّورَى: 33] وَقَالَ: {لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا} [الْوَاقِعَةِ: 65] ، {لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا} [الْوَاقِعَةِ: 70] وَقَالَ: {فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ} [التَّوْبَةِ: 28] وَقَالَ: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} [فَاطِرٍ: 16] {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ} [الْأَنْعَامِ: 133] {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ} [الْبَقَرَةِ: 22] {اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ} [الشُّورَى: 13] {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} [الْبَقَرَةِ: 261] {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} [الْقَصَصِ: 68] {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ، أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا} [الشُّورَى: 49] , {وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، صِرَاطِ اللَّهِ} [الشُّورَى: 52] {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} [آلِ عِمْرَانَ: 6] {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الِانْفِطَارِ: 8] {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [إِبْرَاهِيمَ: 11] {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ} [الشُّورَى: 19] {وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [الْقَصَصِ: 82] وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ سَاقَ نَحْوًا مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ: وَهَذِهِ الْآيَاتُ وَنَحْوُهَا تَتَضَمَّنُ الرَّدَّ عَلَى طَائِفَتَيِ الضَّلَالِ نُفَاةِ الْمَشِيئَةِ بِالْكُلِّيَّةِ وَنُفَاةِ مَشِيئَةِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَحَرَكَاتِهِمْ وَهُدَاهُمْ وَضَلَالِهِمْ, وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُخْبِرُ تَارَةً أَنَّ كُلَّ مَا فِي الْكَوْنِ بِمَشِيئَتِهِ, وَتَارَةً أَنَّ مَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ, وَتَارَةً أَنَّهُ لَوْ شَاءَ لَكَانَ خِلَافُ الْوَاقِعِ وَأَنَّهُ لَوْ شَاءَ لَكَانَ خِلَافُ الْقَدَرِ الَّذِي قَدَّرَهُ وَكَتَبَهُ وَأَنَّهُ لَوْ شَاءَ مَا عُصِيَ وَأَنَّهُ لَوْ شَاءَ لَجَمَعَ خَلْقَهُ عَلَى الْهُدَى وَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً, فَتَضَمَّنَ ذَلِكَ أَنَّ الْوَاقِعَ بِمَشِيئَتِهِ, وَأَنَّ مَا لَمْ يَقَعْ فَهُوَ لِعَدَمِ مَشِيئَتِهِ وَهَذَا حَقِيقَةُ الرُّبُوبِيَّةِ وَهُوَ مَعْنَى كَوْنِهِ {رَبَّ الْعَالَمِينَ} وَكَوْنِهِ الْقَيُّومَ الْقَائِمَ بِتَدْبِيرِ أُمُورِ عِبَادِهِ, فَلَا خَلْقَ وَلَا رِزْقَ وَلَا عَطَاءَ وَلَا مَنْعَ وَلَا قَبْضَ وَلَا بَسْطَ وَلَا مَوْتَ وَلَا حَيَاةَ وَلَا ضَلَالَ وَلَا هُدَى وَلَا سَعَادَةَ وَلَا شَقَاوَةَ
إِلَّا بَعْدَ إِذْنِهِ, وَكُلُّ ذَلِكَ بِمَشِيئَتِهِ وَتَكْوِينِهِ إِذْ لَا مَالِكَ غَيْرُهُ وَلَا مُدَبِّرَ سِوَاهُ وَلَا رب غيره ا. هـ.1. وَالْأَحَادِيثُ مِنَ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ فِي إِثْبَاتِ الْمَشِيئَةِ كَثِيرَةٌ جِدًّا, مِنْهَا قَوْلُهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي شَأْنِ الْجَنِينِ: "فَيَقْضِي رَبُّكَ مَا شَاءَ وَيَكْتُبُ الْمَلَكُ" 2 وقوله: "اشفعوا تأجروا وَيَقْضِي اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مَا يَشَاءُ" 3، "إِنَّ اللَّهَ قَبَضَ أَرْوَاحَكُمْ حِينَ شَاءَ وَرَدَّهَا حِينَ شَاءَ" 4، "إِنَّ اللَّهَ لَوْ شَاءَ لَمْ تَنَامُوا عَنْهَا, وَلَكِنَّهُ أَرَادَ لِيَكُونَ لِمَنْ بَعْدَكُمْ" 5، "قُولُوا مَا شَاءَ اللَّهُ وَحْدَهُ" 6، "قُلُوبُ الْعِبَادِ بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ كَقَلْبٍ وَاحِدٍ يُصَرِّفُهَا كَيْفَ يَشَاءُ" 7، "مَا مِنْ قَلْبٍ إِلَّا بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ إِنْ شَاءَ أَقَامَهُ وَإِنْ شَاءَ أَزَاغَهُ" 8، وَكَانَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "اللَّهُمَّ يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى دِينِكَ" 9 وَقَوْلُهُ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: "فَذَلِكَ فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ" 10 وَقَوْلُهُ: "مَثَلُ
الْكَافِرِ كَمَثَلِ الْأَرْزَةِ صَمَّاءُ مُعْتَدِلَةٌ حَتَّى يَقْصِمَهَا اللَّهُ إِذَا شَاءَ" 1، وَقَوْلُهُ: "تَعَرَّضُوا لِنَفَحَاتِ رَحْمَةِ اللَّهِ فَإِنَّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ سَحَائِبَ مِنْ رَحْمَتِهِ يُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ"2، وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ الْبَيْعَةِ: "ومن أصاب من ذَلِكَ شَيْئًا فَسَتَرَهُ اللَّهُ فَهُوَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ, إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ" 3، وَفِي حَدِيثِ احْتِجَاجِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ قَوْلُهُ تَعَالَى لِلْجَنَّةِ: "أَنْتِ رَحْمَتِي أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ" وَلِلنَّارِ: "أَنْتِ عَذَابِي أُعَذِّبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ" 4 وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَقُلْ أَحَدُكُمُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي إِنْ شِئْتَ وَارْزُقْنِي إِنْ شِئْتَ, لِيَعْزِمِ الْمَسْأَلَةَ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا مُكْرِهَ لَهُ" 5 وَقَوْلُهُ: "وَلَكِنْ قُلْ قَدَّرَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ" 6، وَقَوْلُهُ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: "ذَلِكَ بِأَنِّي جَوَادٌ أَفْعَلُ مَا أَشَاءُ, عَطَائِي كَلَامٌ وَعَذَابِي كَلَامٌ, إِنَّمَا أَمْرِي لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْتُهُ أَنْ أَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ" 7 وَقَوْلُهُ: "مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى عَبْدٍ مِنْ نِعْمَةٍ مِنْ أَهْلٍ وَوَلَدٍ فَيَقُولُ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ فَيَرَى فِيهِ آيَةً دُونَ الْمَوْتِ"8 وَفِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ:
"فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِي" 1 وَفِي حَدِيثِ "آخِرِ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا الْجَنَّةَ": "فَيَسْكُتُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَسْكُتَ" 2 وَفِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: "لَا أَهْزَأُ بِكَ وَلَكِنِّي عَلَى مَا أَشَاءُ قَدِيرٌ" 3. وَقَالَ: "فَأُرِيدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ أَخْتَبِئَ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي" 4 وَقَالَ: "لَا يَدْخُلُ النَّارَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ الَّذِينَ بَايَعُوا تَحْتَهَا أَحَدٌ" 5، وَقَالَ: "إِنِّي لَأَطْمَعُ أَنْ يَكُونَ حَوْضِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مَا بَيْنَ أَيْلَةَ إِلَى كَذَا" 6 وَقَالَ فِي الْمَدِينَةِ: "لَا يَدْخُلُهَا الطَّاعُونُ وَلَا الدَّجَّالُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى" 7، وَفِي زِيَارَةِ الْقُبُورِ: "وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ" 8, وَفِي حِصَارِ الطَّائِفِ، "إِنَّا قَافِلُونَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ" 9، وَفِي قُدُومِهِ مَكَّةَ: "مَنْزِلُنَا غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِخَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ" 10، وَفِي قِصَّةِ بَدْرٍ: "هَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ, وَهَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ" 11, وَفِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ: "إِنَّكُمْ تَأْتُونَ الْمَاءَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ" 12 وَقَالَ: "مَنْ حَلَفَ فَقَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَإِنْ شَاءَ
مَضَى وَإِنْ شَاءَ رَجَعَ غَيْرَ حَنِثٍ" 1 وَقَالَ: "لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا" ثُمَّ قَالَ: فِي الثَّانِيَةِ: "إِنْ شَاءَ اللَّهُ"2. وَقَالَ: "أَلَا مُشَمِّرٌ لِلْجَنَّةِ" فَقَالَ الصَّحَابَةُ نَحْنُ الْمُشَمِّرُونَ لَهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: "قُولُوا: إِنْ شَاءَ اللَّهُ" قَالُوا: إِنْ شَاءَ اللَّهُ3، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الثَّابِتَةِ. "مُنْفَرِدٌ" رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ "بِالْخَلْقِ" فَمَا مِنْ مَخْلُوقٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا اللَّهُ خَالِقُهُ سُبْحَانَهُ لَا خَالِقَ غَيْرُهُ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ فَهُوَ خَالِقُ كُلِّ صَانِعٍ وَصَنْعَتِهِ وَخَالِقُ الْكَافِرِ وَكُفْرِهِ وَالْمُؤْمِنِ وَإِيمَانِهِ وَالْمُتَحَرِّكِ وَحَرَكَتِهِ وَالسَّاكِنِ وَسُكُونِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الزُّمَرِ: 62] وَقَالَ تَعَالَى: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [فَاطِرٍ: 3] وَقَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [التَّغَابُنِ: 2] {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [التَّغَابُنِ: 3] وَقَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصَّافَّاتِ: 96] وَقَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الرُّومِ: 40] وَقَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ
سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ، وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ} [النَّحْلِ: 80-81] وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ، أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ، نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ، عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُون، وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ، أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ، أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ، لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ. إِنَّا لَمُغْرَمُونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الْوَاقِعَةِ: 58-74] وَفِي الصَّحِيحِ مِنْ أَحَادِيثِ الْأَشْعَرِيِّينَ "مَا أَنَا أَحْمِلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَمَلَكُمْ" 1. وَفِيهِ مِنْ حَدِيثِ الْمُصَوِّرِينَ "وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقِي فَلْيَخْلُقُوا ذَرَّةً أَوْ لِيَخْلُقُوا حَبَّةً أَوْ لِيَخْلُقُوا شَعِيرًا" 2. وَفِيهِ "مَنْ صَوَّرَ صورة كلف الله أَنْ يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحَ وَلَيْسَ بِنَافِخٍ" 3 وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الثَّابِتَةِ الصَّحِيحَةِ, فَلِلَّهِ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ وَلَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. "وَالْإِرَادَهْ" أَيْ: وَمُنْفَرِدٌ بِالْإِرَادَةِ فَلَا مُرَادَ لِأَحَدٍ مَعَهُ وَلَا إِرَادَةَ لِأَحَدٍ إِلَّا بَعْدَ إِرَادَتِهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمَشِيئَتِهِ كَمَا قَالَ
معنى الآية {من يشأ الله يضلله، ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم}
تَعَالَى: {كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ، فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ، وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} [الْمُدَّثِّرِ: 54-56] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ، لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ، وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التَّكْوِيرِ: 27-29] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا، وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا، يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الْإِنْسَانِ: 29-31] فَلِلْعِبَادِ قُدْرَةٌ عَلَى أَعْمَالِهِمْ وَلَهُمْ مَشِيئَةٌ وَاللَّهُ خَالِقُهُمْ وَخَالِقُ قُدْرَتِهِمْ وَمَشِيئَتِهِمْ, وَلَا قُدْرَةَ لَهُمْ وَلَا مَشِيئَةَ إِلَّا بِإِقْدَارِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمْ إِذَا شَاءَ وَأَرَادَ. "وَحَاكِمٌ جَلَّ بِمَا أَرَادَهْ" فَلَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَلَا رَادَّ لِإِرَادَتِهِ وَلَا مُنَاقِضَ لِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} بَلْ هُوَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} - {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} . {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} - {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} و {يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} و {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} لا ناقص لِمَا أَبْرَمَ وَلَا مُعَارِضَ لِمَا حَكَمَ, وَلَا يُقَالُ لِمَ فَعَلَ كَذَا وَهَلَّا كَانَ كَذَا لِأَنَّهُ {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 23] وَفِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ عَنِ التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ وَفِي آخِرِهِ قَالَ: "ذَلِكَ بأني جواد واحد مَاجِدٌ أَفْعَلُ مَا أُرِيدَ, عَطَائِي كَلَامٌ وَعَذَابِي كَلَامٌ, إِنَّمَا أَمْرِي لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْتُهُ أَنْ أَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ" 1. فَمَنْ يَشَأْ وَفَّقَهُ بِفَضْلِهِ ... وَمَنْ يَشَأْ أَضَلَّهُ بِعَدْلِهِ فَمِنْهُمُ الشَّقِيُّ وَالسَّعِيدُ ... وَذَا مُقَرَّبٌ وَذَا طَرِيدُ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الْأَنْعَامِ: 59] وَقَالَ تَعَالَى: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الْأَعْرَافِ: 178] وَقَالَ تَعَالَى: {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي
طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الْأَعْرَافِ: 186] وَقَالَ تَعَالَى: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ} [الْإِسْرَاءِ: 97] وَقَالَ تَعَالَى: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} [الْكَهْفِ: 17] وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فَاطِرٍ: 8] وَقَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الْأَنْعَامِ: 125] وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} [الرَّعْدِ: 27] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [الْقَصَصِ: 56] وَقَالَ تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [الْبَقَرَةِ: 272] وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [يُونُسَ: 35] وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} [الْبَقَرَةِ: 120] وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ} [آلِ عِمْرَانَ: 73] وَقَالَ تَعَالَى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشَّمْسِ: 6] وَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي خُطْبَتِهِ: "مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ" 1 وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا, زَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا, إِنَّكَ أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلَاهَا" 2. "فَمِنْهُمْ" أَيْ: مِنْ عِبَادِهِ "الشَّقِيُّ" وَهُوَ مَنْ أَضَلَّهُ بِعَدْلِهِ "وَ" مِنْهُمْ "السَّعِيدُ" وَهُوَ مَنْ وَفَّقَهُ وَهَدَاهُ بِفَضْلِهِ, فَالسَّعِيدُ مَنْ سَعِدَ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَالشَّقِيُّ مَنْ شَقِيَ بِقَضَاءِ اللَّهِ, فَلِلَّهِ الْحَمْدُ عَلَى فَضْلِهِ وَعَدْلِهِ "وَذَا مُقَرَّبٌ" بِتَقْرِيبِ الله إياه إليه وَهُوَ السَّعِيدُ "وَذَا طَرِيدُ" بِإِبْعَادِ اللَّهِ إِيَّاهُ وَهُوَ الشَّقِيُّ الْبَعِيدُ, فَبِيَدِهِ تَعَالَى الْهِدَايَةُ وَالْإِضْلَالُ وَالْإِشْقَاءُ
وَالْإِسْعَادُ, فَهِدَايَتُهُ الْعَبْدَ وَإِسْعَادُهُ فَضْلٌ وَرَحْمَةٌ, وَإِضْلَالُهُ وَإِبْعَادُهُ عَدْلٌ مِنْهُ وَحِكْمَةٌ, وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَوَاقِعِ فَضْلِهِ وَعَدْلِهِ, وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ الَّذِي يَضَعُ الْأَشْيَاءَ مَوَاضِعَهَا, وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ مَحَلُّ الْهِدَايَةِ فَيَهْدِيهِ, وَمَنْ هُوَ مَحَلُّ الْإِضْلَالِ فَيُضِلُّهُ, وَهُوَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ, وَهُوَ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ, وَعَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ, وَعَلِيمٌ بِالْمُهْتَدِينَ, وَهُوَ أَعْلَمُ بِالشَّاكِرِينَ وَأَعْلَمُ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ, وَهُوَ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ, وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ, وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى, وَلَهُ فِي ذَلِكَ الْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ وَالْحُجَّةُ الدَّامِغَةُ وَلِذَا نَقُولُ: لِحِكْمَةٍ بَالِغَةٍ قَضَاهَا ... يَسْتَوْجِبُ الْحَمْدَ عَلَى اقْتِضَاهَا أَيْ: أَنَّ جَمِيعَ أَفْعَالِهِ مِنْ هِدَايَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَإِضْلَالِهِ مَنْ يَشَاءُ, وَإِسْعَادِ مَنْ يَشَاءُ وَإِشْقَاءِ مَنْ يَشَاءُ, وَجَعْلِهِ أَئِمَّةَ الْهُدَى يَهْدُونَ إِلَى الْحَقِّ بِأَمْرِهِ وَأَئِمَّةَ الضَّلَالَةِ يَهْدُونَ إِلَى النَّارِ, وَإِلْهَامِهِ كُلَّ نَفْسِ فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا, وَجَعْلِهِ الْمُؤْمِنَ مُؤْمِنًا وَالْكَافِرَ كَافِرًا عَاصِيًا مَعَ قُدْرَتِهِ التَّامَّةِ الشَّامِلَةِ وَأَنَّهُ لَوْ شَاءَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَوْ شَاءَ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى, وَلَوْ شَاءَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا وَلَكِنَّ هَذَا الَّذِي فَعَلَهُ بِهِمْ مِنْ قِسْمَتِهِمْ إِلَى ضَالٍّ وَمُهْتَدٍ وَشَقِيٍّ وَسَعِيدٍ وَمُقَرَّبٍ وَطَرِيدٍ وَطَائِعٍ وَعَاصٍ وَمُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ هُوَ مُقْتَضَى حِكْمَتِهِ وَمُوجَبُ رُبُوبِيَّتِهِ, وَحِكْمَتُهُ حِكْمَةُ حَقٍّ وَهِيَ صِفَتُهُ الْقَائِمَةُ بِهِ كَسَائِرِ الصِّفَاتِ, وَهِيَ مُتَضَمَّنُ اسْمِهِ "الْحَكِيمِ" وَهِيَ الْغَايَةُ الْمَحْبُوبَةُ لَهُ وَلِأَجْلِهَا خَلَقَ فَسَوَّى وَقَدَّرَ فَهَدَى وَأَسْعَدَ وَأَشْقَى وَمَنَعَ وَأَعْطَى وَخَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَالْآخِرَةَ وَالْأُولَى, فَهُوَ سُبْحَانَهُ الْحَكِيمُ فِي خَلْقِهِ وَتَكْوِينِهِ الْحَكِيمُ فِي قَضَائِهِ وَقَدَرِهِ الْحَكِيمُ فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَجَمِيعِ شرعه, فإن أسمائه وَصِفَاتِهِ صِفَاتُ كَمَالٍ وَجَلَالٍ, وَأَفْعَالَهُ كُلَّهَا عَدْلٌ وَحِكْمَةٌ, وَالْفِعْلُ لِغَيْرِ حِكْمَةٍ عَبَثٌ, وَالْعَبَثُ مِنْ صِفَاتِ النَّقْصِ, وَاللَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ بِجَمِيعِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ عَنْ جَمِيعِ النَّقَائِصِ, فَجَمِيعُ مَا خَلَقَهُ وَقَضَاهُ وَقَدَّرَهُ خَيْرٌ وَحِكْمَةٌ مِنْ جِهَةِ إِضَافَتِهِ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَكَذَلِكَ جَمِيعُ مَا شَرَعَهُ وَأَمَرَ بِهِ كُلُّهُ حِكْمَةٌ وَعَدْلٌ, وَمَا كَانَ مِنْ شَرٍّ فِي قَضَائِهِ وَقَدَرِهِ فَمِنْ جِهَةِ إِضَافَتِهِ إِلَى فِعْلِ الْعَبْدِ لِأَنَّهَا مَعْصِيَةٌ مَذْمُومَةٌ مَكْرُوهَةٌ لِلرَّبِّ غَيْرُ مَحْبُوبَةٍ, وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ إِضَافَتِهِ إِلَى الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ فَخَيْرٌ مَحْضٌ وَلِحِكْمَةٍ بَالِغَةٍ وَعَدْلٍ تَامٍّ وَغَايَةٍ مَحْمُودَةٍ لَا شَرَّ فِيهَا الْبَتَّةَ, وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى فِيمَا قَصَّهُ عَنِ
الْجِنِّ: {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الْجِنِّ: 10] فَبَنَى الْفِعْلَ فِي إِرَادَةِ الشَّرِّ لِلْمَفْعُولِ؛ لِأَنَّهُ لَا شَرَّ فِي حَقِّهِ تَعَالَى وَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي دُعَاءِ الِافْتِتَاحِ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ "لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ وَسْعَدَيْكَ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ والشر لَيْسَ إِلَيْكَ" 1 فَنَفَى أَنْ يُضَافَ الشَّرُّ إِلَى اللَّهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ وَإِنْ كَانَ هُوَ خَالِقَهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ شَرًّا مِنْ جِهَةِ إِضَافَتِهِ إِلَيْهِ عَزَّ وَجَلَّ, وَإِنَّمَا كَانَ شَرًّا مِنْ جِهَةِ إِضَافَتِهِ إِلَى الْعَبْدِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّرَّ لَيْسَ إِلَّا السَّيِّئَاتِ وَعُقُوبَتَهَا, وَمُوجِبُ السَّيِّئَاتِ شَرُّ النَّفْسِ وَجَهْلُهَا؛ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا" 2 وَقَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي سَيِّدِ الِاسْتِغْفَارِ الَّذِي عَلَّمَهُ أُمَّتَهُ: "اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ, خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ وَأَبُوءُ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ" 3، وَقَالَ تَعَالَى فِي حِكَايَتِهِ اسْتِغْفَارَ الْمَلَائِكَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ: {وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [غَافِرٍ: 9] وَمَنْ وَقَاهُ اللَّهُ السَّيِّئَاتِ وَأَعَاذَهُ مِنْهَا فَقَدْ وَقَاهُ عُقُوبَتَهَا مِنْ بَابِ الِاسْتِلْزَامِ, فَإِذَا عَلِمَ أَنَّ مُوجِبَ السَّيِّئَاتِ هُوَ الظُّلْمُ وَالْجَهْلُ وَذَلِكَ مِنْ نَفْسِ الْعَبْدِ وَهِيَ أُمُورٌ ذَاتِيَّةٌ لَهَا, وَأَنَّ السَّيِّئَاتِ هِيَ مُوجِبُ الْعُقُوبَةِ وَالْعُقُوبَةُ مِنَ اللَّهِ عَدْلٌ مَحْضٌ, وَإِنَّمَا تَكُونُ شَرًّا فِي حَقِّ الْعَبْدِ لِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ أَلَمِهَا, وَذَلِكَ بِمَا كَسَبَتْ يَدَاهُ جَزَاءً وِفَاقًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشُّورَى: 30] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} [الزُّخْرُفِ: 76] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [يُونُسَ: 44] فَأَفْعَالُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كُلُّهَا خَيْرٌ بِصُدُورِهَا عَنْ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ وَعَدْلِهِ وَغِنَاهُ الَّتِي هِيَ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ, فَإِذَا أَرَادَ بِعَبْدِهِ الْخَيْرَ أَعْطَاهُ مِنْ فَضْلِهِ عِلْمًا
وَعَدْلًا وَحِكْمَةً فَيَصْدُرُ مِنْهُ الْإِحْسَانُ وَالطَّاعَةُ وَالْبِرُّ وَالْخَيْرُ, وَإِذَا أَرَادَ بِهِ شَرًّا أَمْسَكَهُ عَنْهُ وَخَلَّاهُ وَدَوَاعِيَ نَفْسِهِ وَطَبْعَهُ وَمُوجَبَهَا, فَصَدَرَ مِنْهُ مُوجَبُ الْجَهْلِ وَالظُّلْمِ مِنْ كُلِّ شَرٍّ وَقَبِيحٍ, وَلَيْسَ مَنْعُهُ لِذَلِكَ ظُلْمًا مِنْهُ سُبْحَانَهُ فَإِنَّهُ فَضْلُهُ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ, وَلَيْسَ مَنْ مَنَعَ فَضْلَهُ ظَالِمًا وَلَا سِيَّمَا إِذَا مَنَعَهُ عَنْ مَحَلٍّ لَا يَسْتَحِقُّهُ وَلَا يَلِيقُ بِهِ, وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذَا الْفَضْلَ هُوَ تَوْفِيقُهُ وَإِرَادَتُهُ تَعَالَى أَنْ يَلْطُفَ بِعَبْدِهِ وَيُعِينَهُ وَيُوَفِّقَهُ وَلَا يُخَلِّيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَفْسِهِ, وَهَذَا مَحْضُ فِعْلِهِ وَفَضْلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ يَصْلُحُ لِذَلِكَ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الْأَنْعَامِ: 153] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ، وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ} [الْعَنْكَبُوتِ: 10-11] وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الْأَنْعَامِ: 124] وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ، إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [الْأَنْعَامِ: 116] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [النَّحْلِ: 37] وَقَالَ تَعَالَى: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى} [النَّجْمِ: 30] وَقَالَ تَعَالَى: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الْبَقَرَةِ: 105] وَقَالَ تَعَالَى: {فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ، أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} [التِّينِ: 7-8] بَلَى وَنَحْنُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الشَّاهِدِينَ, وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُ مْ -إِلَى قَوْلِهِ- قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ، يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [آلِ عِمْرَانَ: 73-74] وَقَالَ تَعَالَى: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ
ما يجب لله على عباده من الحمد على حكمته في خلقه وأمره
أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النَّجْمِ: 32] وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ، لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الْحَدِيدِ: 28-29] اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ الْعَظِيمِ أَنْ تَهْدِيَنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ, آمِينَ, يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ يَا بَدِيعَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بِرَحْمَتِكِ نَسْتَغِيثُ, اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ نَرْجُو فَلَا تَكِلْنَا إِلَى أَنْفُسِنَا وَلَا إِلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِكَ طَرْفَةَ عَيْنٍ وَأَصْلِحْ لَنَا شَأْنَنَا كُلَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ. "يَسْتَوْجِبُ" يَسْتَحِقُّ "الْحَمْدَ عَلَى اقْتِضَاهَا" الضَّمِيرُ لِلْحِكْمَةِ فَلَهُ الْحَمْدُ عَلَى مُقْتَضَى حِكْمَتِهِ فِي جَمِيعِ خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ, فَجَمِيعُ مَا يَفْعَلُهُ وَيَأْمُرُ بِهِ هُوَ مُوجَبُ رُبُوبِيَّتِهِ وَمُقْتَضَى أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَلَهُ الْحَمْدُ عَلَى جَمِيعِ أَفْعَالِهِ وَلَهُ الْحَمْدُ عَلَى خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ وَهُوَ الْمَحْمُودُ عَلَى طَاعَةِ الْعِبَادِ وَمَعَاصِيهِمْ وَإِيمَانِهِمْ وَكُفْرِهِمْ, وَهُوَ الْمَحْمُودُ عَلَى خَلْقِهِ الْأَبْرَارَ وَالْفُجَّارَ, وَعَلَى خَلْقِهِ الْمَلَائِكَةَ وَالشَّيَاطِينَ, وَعَلَى خَلْقِهِ الرُّسُلَ وَأَعْدَاءَهُمْ, وَهُوَ الْمَحْمُودُ عَلَى عَدْلِهِ وَحِكْمَتِهِ فِي أَعْدَائِهِ, كَمَا هُوَ الْمَحْمُودُ عَلَى فَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ عَلَى أَوْلِيَائِهِ, وَكُلُّ ذَرَّةٍ مِنْ ذَرَّاتِ الْكَوْنِ شَاهِدَةٌ بِحِكْمَتِهِ وَحَمْدِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الْإِسْرَاءِ: 44] وَقَالَ: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التَّغَابُنِ: 1] وَقَالَ تَعَالَى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُون} [الْقَصَصِ: 98] {وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ، وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الْقَصَصِ: 69- 70] وَعَلَّمَنَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي ذِكْرِ الِاعْتِدَالِ مِنَ الرُّكُوعِ: "رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ مِلْءَ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَمِلْءَ مَا بَيْنَهُمَا وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ" 1 وَفِي الذِّكْرِ عَقِبَ الصَّلَوَاتِ "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" 2، وَفِي التَّلْبِيَةِ: "لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ, لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ, إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ" 3، وَفِي الدُّعَاءِ الْمَأْثُورِ: "اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ كُلُّهُ وَلَكُ الْمُلْكُ كُلُّهُ وَبِيَدِكَ الْخَيْرُ كُلُّهُ وَإِلَيْكَ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ, أَسْأَلُكَ الْخَيْرَ كُلَّهُ, وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّرِّ كُلِّهِ"4 وَفِي دُعَاءِ الِافْتِتَاحِ مِنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ: "اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ قَيُّومُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ, وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ الْحَقُّ وَوَعْدُكَ الْحَقُّ وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ حَقٌّ وَالْجَنَّةُ حَقٌّ وَالنَّارُ حَقٌّ وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ وَمُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَقٌّ" 5 الْحَدِيثَ, وَالْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ, وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الرَّبَّ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَكُونُ إِلَّا مَحْمُودًا كَمَا لَا يَكُونُ إِلَّا رَبًّا وَإِلَهًا, فَلَهُ الْحَمْدُ كُلُّهُ وَلَهُ الْمُلْكُ كُلُّهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي حَمْدِهِ كَمَا لَا شَرِيكَ لَهُ فِي مُلْكِهِ, وَإِنْ كَانَ بَعْضُ خَلْقِهِ مَحْمُودًا كَالرُّسُلِ وَالْعُلَمَاءِ فَمَرْجِعُ ذَلِكَ الحمد إليه, كا أَنَّ مَصْدَرَهُ وَمُوجِبَهُ مِنْهُ تَعَالَى وَهُوَ الَّذِي جَعَلَهُمْ كَذَلِكَ, وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ الْمَلِكُ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي مُلْكِهِ وَيَرْزُقُ بَعْضَ عِبَادِهِ إِذَا شَاءَ مُلْكًا وَهُوَ مَالِكُهُ وَمَلِكُهُ وَكَمَا أَنَّهُ الْعَلِيمُ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ فَيُعَلِّمُ بَعْضَ عِبَادِهِ مِنْ عِلْمِهِ مَا شَاءَ. وَقَالَ فِي ذِكْرِ عَبْدِهِ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ} [يُوسُفَ: 68] وَكَذَلِكَ مَا مِنْ
التوفيق بين كون الله لا يحب الفساد وكون ذلك بمشيئته
مَحْمُودٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِلَّا وَذَلِكَ الْحَمْدُ رَاجِعٌ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْحَقِيقَةِ, فَحَمْدُ كُلِّ مَحْمُودٍ دَاخِلٌ فِي حَمْدِهِ, كَمَا أَنَّ كُلَّ مُلْكٍ دَاخِلٌ فِي مُلْكِهِ, وَكُلُّ شَيْءٍ فَمِنْهُ وَلَهُ وَإِلَيْهِ, فَلَهُ الْحَمْدُ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبُّ الْعَالَمِينَ, وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. "مَسْأَلَةٌ": فَإِنْ قِيلَ قَدْ أَخْبَرَنَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ وَبِمَا عَلَّمَنَا مِنْ صِفَاتِهِ أَنَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ, وَيُحِبُّ الْمُتَّقِينَ, وَيُحِبُّ الصَّابِرِينَ, وَيَرْضَى عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ, وَلَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ وَلَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَلَا يُحِبُّ الْفَسَادَ مَعَ كَوْنِ ذَلِكَ بِمَشِيئَتِهِ وَإِرَادَتِهِ وَأَنَّهُ لَوْ شَاءَ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ فِي مُلْكِهِ مَا لَا يُرِيدُ, فَمَا الْجَوَابُ؟ قُلْنَا: إِنَّ الْإِرَادَةَ وَالْقَضَاءَ وَالْأَمْرَ كُلٌّ مِنْهَا يَنْقَسِمُ إِلَى كَوْنِيٍّ وَشَرْعِيٍّ, وَلَفْظُ الْمَشِيئَةِ لَمْ يَرِدْ إِلَّا فِي الْكَوْنِيِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} وَمِثَالُ الْإِرَادَةِ الْكَوْنِيَّةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ} وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} وَمِثَالُ الْقَضَاءِ الْكَوْنِيِّ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} وَمِثَالُ الْأَمْرِ الْكَوْنِيِّ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} فَهَذَا الْقِسْمُ مِنَ الْإِرَادَةِ وَالْقَضَاءِ وَالْأَمْرِ هُوَ مَشِيئَتُهُ الشَّامِلَةُ وَقُدْرَتُهُ النَّافِذَةُ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ خُرُوجٌ مِنْهَا وَلَا مَحِيدَ عَنْهَا. وَلَا مُلَازَمَةَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَحَبَّةِ وَالرِّضَا, بَلْ يَدْخُلُ فِيهَا الْكُفْرُ وَالْإِيمَانُ وَالسَّيِّئَاتُ وَالطَّاعَاتُ, وَالْمَحْبُوبُ الْمَرْضِيُّ لَهُ وَالْمَكْرُوهُ الْمُبْغَضُ كُلُّ ذَلِكَ بِمَشِيئَتِهِ وَقَدَرِهِ وَخَلْقِهِ وَتَكْوِينِهِ, وَلَا سَبِيلَ إِلَى مُخَالَفَتِهَا وَلَا يَخْرُجُ عَنْهَا مِثْقَالُ ذَرَّةٍ. وَمِثَالُ الْإِرَادَةِ الشَّرْعِيَّةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} . وَمِثَالُ الْقَضَاءِ الشَّرْعِيِّ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} وَمِثَالُ الْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} وَهَذِهِ الْإِرَادَةُ وَالْقَضَاءُ وَالْأَمْرُ الْكَوْنِيُّ الْقَدَرِيُّ هُوَ
لماذا لم يجعلهم كلهم طائعين مهتدين؟ وما الحكمة في تقدير السيئات مع كراهة الله إياها؟
الْمُسْتَلْزِمُ لِمَحَبَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَرِضَاهُ, فَلَا يَأْمُرُ إِلَّا بِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ وَلَا يَنْهَى إِلَّا عَمَّا يَكْرَهُهُ وَيَأْبَاهُ. وَلَا مُلَازَمَةَ بَيْنَ هَذَا الْقِسْمِ وَمَا قَبْلُهُ إِلَّا فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِ الْمُطِيعِ, وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيَنْفَرِدُ فِي حَقِّهِ الْإِرَادَةُ وَالْقَضَاءُ وَالْأَمْرُ الْكَوْنِيُّ الْقَدَرِيُّ, فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَدْعُو عِبَادَهُ إِلَى طَاعَتِهِ وَمَرْضَاتِهِ وَجَنَّتِهِ وَيَهْدِي لِذَلِكَ مَنْ يَشَاءُ فِي الْكَوْنِ وَالْقَدَرِ هِدَايَتَهُ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} فَعَمَّمَ الدَّعْوَةَ إِلَى جَنَّتِهِ وَهِيَ دَارُ السَّلَامِ وَأَنَّهُ يَدْعُو إِلَى ذَلِكَ جَمِيعَ عِبَادِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ يَسْتَجِيبُ مِمَّنْ لَا يَسْتَجِيبُ, وَخَصَّ الْهِدَايَةَ بِمَنْ يَشَاءُ هِدَايَتَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} . "مَسْأَلَةٌ": فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ بِمُمْكِنٍ فِي قُدْرَتِهِ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَهُمْ كُلَّهُمْ طَائِعِينَ مُؤْمِنِينَ مُهْتَدِينَ؟ قُلْنَا: بَلَى وَقَدْ قَدَّمْنَا لَكَ جُمْلَةً وَافِيَةً مِنَ الْآيَاتِ وَالْآحَادِيثِ فِي ذَلِكَ, وَلَكِنْ قَدَّمْنَا لَكَ أَيْضًا أَنَّ هَذَا الَّذِي فَعَلَهُ بِهِمْ هُوَ مُقْتَضَى حِكْمَتِهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَمُوجَبُ رُبُوبِيَّتِهِ وَإِلَهِيَّتِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَوَاقِعِ فَضْلِهِ وعدله, فحينئذ قول الْقَائِلُ لِمَ كَانَ مِنْ عِبَادِهِ الطَّائِعُ وَالْعَاصِي؟ كَقَوْلِ مَنْ قَالَ: لِمَ كَانَ مِنْ أَسْمَائِهِ الضَّارُّ النَّافِعُ وَالْمُعْطِي الْمَانِعُ وَالْخَافِضُ الرَّافِعُ وَالْمُنْعِمُ الْمُنْتَقِمُ وَنَحْوُ ذَلِكَ إِذْ أَفْعَالُهُ تَعَالَى هِيَ مُقْتَضَى أَسْمَائِهِ وَآثَارُ صِفَاتِهِ, فَالِاعْتِرَاضُ عَلَيْهِ فِي أَفْعَالِهِ اعْتِرَاضٌ عَلَى أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ بَلْ وَعَلَى إِلَهِيَّتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ, فَسُبْحَانَ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يصفون, لا يسئل عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ. "مَسْأَلَةٌ": وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ يُوَسْوِسُ الشَّيْطَانُ لِبَعْضِ النَّاسِ فَيَقُولُ: مَا الْحِكْمَةُ فِي تَقْدِيرِ السَّيِّئَاتِ مَعَ كَرَاهَةِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهَا, وَهَلْ يَأْتِي الْمَكْرُوهُ بِمَحْبُوبٍ؟ فَنَقُولُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ إِيمَانًا بِإِلَهِيَّتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَاسْتِسْلَامًا لِأَقْدَارِهِ وَإِرَادَتِهِ, وَتَسْلِيمًا لِعَدْلِهِ وَحِكْمَتِهِ, اعْلَمْ يَا أَخِي وَفَّقَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْعَبْدِ أَمْرٌ أَهَمُّ مِنْ ذَلِكَ الْبَحْثِ وَهُوَ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَالتَّسْلِيمُ لِأَقْدَارِهِ وَالْيَقِينُ بِعَدْلِهِ وَحِكْمَتِهِ وَالْفَرَحُ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ, وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ مِنْ حِكْمَةِ اللَّهِ وَسَائِرِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ إِلَّا مَا عَلِمْنَاهُ وَلَا يُحِيطُ بِكُنْهِ شَيْءٍ مِنْهَا وَنِهَايَتِهِ إِلَّا الَّذِي اتَّصَفَ بِهَا وَهُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ, وَمِمَّا عَلِمْنَاهُ مِنْ ذَلِكَ بِمَا عَلَّمَنَا اللَّهُ تَبَارَكَ
وَتَعَالَى أَنَّ السَّيِّئَةَ لِذَاتِهَا لَيْسَتْ مَحْبُوبَةً لِلَّهِ وَلَا مَرْضِيَّةً كَمَا قَالَ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ نَهَى عِبَادَهُ عَنِ الْكَبَائِرِ الْمَذْكُورَةِ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} وَلَكِنْ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنْ مَحَابِّهِ وَمَرْضَاتِهِ مَا هُوَ أَعْلَمُ بِهِ إِمَّا فِي حَقِّ فَاعِلِهَا مِنَ التَّوْبَةِ وَالْإِنَابَةِ وَالْإِذْعَانِ وَالِاعْتِرَافِ بِقُدْرَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ وَالْخَوْفِ مِنْ عِقَابِهِ وَرَجَاءِ مَغْفِرَتِهِ وَنَفْيِ الْعَجَبِ الْمُحْبِطِ لِلْحَسَنَاتِ عَنْهُ, وَدَوَامِ الذُّلِّ وَالِانْكِسَارِ وَتَمَحُّضِ الِافْتِقَارِ وَمُلَازَمَةِ الِاسْتِغْفَارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْفَرَائِضِ وَالطَّاعَاتِ الْمَحْبُوبَةِ لِلرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ الَّتِي أَثْنَى فِي كِتَابِهِ عَلَى الْمُتَّصِفِينَ بِهَا غَايَةَ الثَّنَاءِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: "لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فَلَاةٍ فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فَأَيِسَ مِنْهَا فَأَتَى شَجَرَةً فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ هُوَ بِهَا قَائِمَةٌ عِنْدَهُ فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا فَقَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ, أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ" أَخْرَجَاهُ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ1. فَالْوَاجِبُ عَلَى الْعَبْدِ كَرَاهَةُ مَا يَكْرَهُهُ رَبُّهُ وَإِلَهُهُ وَسَيِّدُهُ وَمَوْلَاهُ مِنَ السَّيِّئَاتِ وَعَدَمُ مَحَبَّتِهَا وَالنَّفْرَةُ مِنْهَا, وَالِاجْتِهَادُ فِي كَفِّ النَّفْسِ عَنْهَا, وَأَطْرِهَا عَلَى مَحَابِّ اللَّهِ وَأَنْ لَا يَصْدُرَ عَنْهَا شَيْءٌ يَكْرَهُهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ, فَإِنْ غَلَبَتْهُ نَفْسُهُ بِجَهْلِهَا وَشَرَارَتِهَا فَصَدَرَ عَنْهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ الْمَكْرُوهِ فَلْيُبَادِرْ إِلَى دَوَاءِ ذَلِكَ وَلْيَتَدَارَكْهُ بِمَحَابِّ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمَرْضَاتِهِ مِنَ التَّوْبَةِ والإنابة والاستغفار والادكار وَعَدَمِ الْإِصْرَارِ, فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَرْشَدَ إِلَى ذَلِكَ وَأَثْنَى عَلَى مَنِ اتَّصَفَ بِهِ, قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ، وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ، أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ}
إثبات البصر والسمع لله عز وجل
(آلِ عِمْرَانَ 133 - 136) ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَفِي الْحَدِيثِ: لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا، لَأَتَى اللَّهُ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ" 1 أَوْ كَمَا قَالَ. فَإِنْ تَرَتَّبَ عَلَى فِعْلِ السَّيِّئَةِ مِنْ فَاعِلِهَا هَذِهِ الْأُمُورُ الْمَحْبُوبَةُ لِلرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ فَذَلِكَ غَايَةُ مَصْلَحَةِ الْعَبْدِ وَسَعَادَتِهِ وَفَلَاحِهِ, وَإِنْ لَمْ يَقَعْ مِنْهُ ذَلِكَ فَلِخُبْثِ نَفْسِهِ وَعَدَمِ صَلَاحِيَتِهَا لِلْمَلَأِ الْأَعْلَى وَمُجَاوَرَةِ الْمَوْلَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ, وَحِينَئِذٍ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا فَرَائِضُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى أَوْلِيَائِهِ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الَّتِي هِيَ مِنْ وَظَائِفِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَعْظَمِ فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ الَّذِي هُوَ ذِرْوَةُ سَنَامِ الْإِسْلَامِ, وَعَلَيْهِ يَتَرَتَّبُ لِأَوْلِيَائِهِ الْفَتْحُ أَوِ الشَّهَادَةُ وَيَكْفِيكَ فِي فَضْلِ ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [التَّوْبَةِ: 111-112] وَلَوْ سَرَدْنَا مَا فِي هَذَا الْبَابِ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ لَطَالَ الْفَصْلُ, وَنَحْنُ نَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ مِنَ الْخَوْضِ فِي هَذَا الْبَابِ وَلَسْنَا مِنَ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ, وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مَزِيدُ بَحْثٍ فِي هَذَا فِي بَابِ الْإِيمَانِ بِالْقَدَرِ, وَهُنَاكَ نَذْكُرُ مَرَاتِبَهُ وَمَذَاهِبَ مَنْ خَالَفَ فِيهِ أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانِ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ. [إِثْبَاتُ الْبَصَرِ وَالسَّمْعِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ] : وَهْوَ الَّذِي يَرَى دَبِيبَ الذَّرِّ ... فِي الظُّلُمَاتِ فَوْقَ صُمِّ الصَّخْرِ
وَسَامِعٌ لِلْجَهْرِ وَالْإِخْفَاتِ ... بِسَمْعِهِ الْوَاسِعِ لِلْأَصْوَاتِ فِي هَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ إِثْبَاتُ الْبَصَرِ لِلَّهِ تَعَالَى الْمُحِيطِ بِجَمِيعِ الْمُبْصَرَاتِ, وَإِثْبَاتُ السَّمْعِ لَهُ الْمُحِيطِ بِجَمِيعِ الْمَسْمُوعَاتِ, وَهَاتَانِ الصِّفَتَانِ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ تَعَالَى وَهُمَا مُتَضَمَّنُ اسْمَيْهِ "السَّمِيعِ الْبَصِيرِ" قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النِّسَاءِ: 58] وَقَالَ تَعَالَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشُّورَى: 11] وَقَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [الْحَجِّ: 61] وَقَالَ تَعَالَى: {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ} [الْكَهْفِ: 26] قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وذلك في معنى الْمُبَالَغَةِ فِي الْمَدْحِ كَأَنَّهُ قِيلَ مَا أَبْصَرَهُ وَأَسْمَعَهُ, وَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ مَا أَبْصَرَ اللَّهَ لِكُلِّ مَوْجُودٍ وَمَا أَسْمَعَهُ لِكُلِّ مَسْمُوعٍ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ, ثُمَّ رَوَى عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ} فَلَا أَحَدَ أَبْصَرَ مِنَ اللَّهِ وَلَا أَسْمَعَ, وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ {أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ} : يَرَى أَعْمَالَهُمْ وَيَسْمَعُ ذَلِكَ مِنْهُمْ إِنَّهُ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا1، وَقَالَ الْبَغَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: أَيْ مَا أَبْصَرَ اللَّهَ بِكُلِّ مَوْجُودٍ وَأَسْمَعَهُ لِكُلِّ مَسْمُوعٍ أَيْ: لَا يَغِيبُ عَنْ سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ شَيْءٌ2. وَقَالَ تعالى لموسى وهرون عَلَيْهِمَا السَّلَامُ: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَسْمَعُ دُعَاءَكُمَا فَأُجِيبُهُ وَأَرَى مَا يُرَادُ بِكُمَا فَأَمْنَعُهُ لَسْتُ بِغَافِلٍ عَنْكُمَا فَلَا تَهْتَمَّا3. وَقَالَ تَعَالَى لَهُمَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ {كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} [الشُّورَى: 15] وَقَالَ تَعَالَى: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزُّخْرُفِ: 80] وَقَالَ تَعَالَى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ} [التَّوْبَةِ: 105] وَقَالَ
تَعَالَى: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [الْعَلَقِ: 14] وَقَالَ تَعَالَى: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ، وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الشُّعَرَاءِ: 220] وَقَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا} [آلِ عِمْرَانَ: 181] وَقَالَ تَعَالَى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [الْمُجَادَلَةِ: 1] وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ الْأَصْوَاتَ, لَقَدْ جَاءَتِ الْمُجَادِلَةُ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تُكَلِّمُهُ وَأَنَا فِي نَاحِيَةِ الْبَيْتِ مَا أَسْمَعُ مَا تَقُولُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ تَعْلِيقًا, وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ1، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ عَنْهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: تَبَارَكَ الَّذِي أَوْعَى سَمْعُهُ كُلَّ شَيْءٍ, إِنِّي لَأَسْمَعُ كَلَامَ خَوْلَةَ بِنْتِ ثَعْلَبَةَ وَيَخْفَى عَلَيَّ بَعْضُهُ وَهِيَ تَشْتَكِي زَوْجَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهِيَ تَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكَلَ مَالِي وَأَفْنَى شَبَابِي وَنَثَرْتُ لَهُ بَطْنِي حَتَّى إِذَا كَبُرَتْ سِنِّي وَانْقَطَعَ وَلَدِي ظَاهَرَ مِنِّي, اللَّهُمَّ إِنِّي أَشْكُو إِلَيْكَ. قَالَتْ: فَمَا بَرِحَتْ حَتَّى نَزَلَ جِبْرِيلُ بِهَذِهِ الْآيَةِ {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} قَالَتْ: وَزَوْجُهَا أَوْسُ بْنُ الصَّامِتِ2. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ: بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} وَذَكَرَ خَبَرَ عَائِشَةَ هَذَا مُعَلَّقًا3. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي سَفَرٍ فَكُنَّا إِذَا عَلَوْنَا كَبَّرْنَا فَقَالَ: "أَرْبِعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ،
فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا, تَدْعُونَ سَمِيعًا بَصِيرًا قَرِيبًا" ثُمَّ أَتَى عَلَيَّ وَأَنَا أَقُولُ فِي نَفْسِي: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ فَقَالَ: "يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ قُلْ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ فَإِنَّهَا كَنْزٌ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ" 1 وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَادَانِي قَالَ: إن الله قد سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ" 2. وَرُوِيَ فِي بَابِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ} [فُصِّلَتْ: 22] عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: اجْتَمَعَ عِنْدَ الْبَيْتِ ثَقَفِيَّانِ وَقُرَشِيٌّ أَوْ قُرَشِيَّانِ وَثَقَفِيٌّ كَثِيرَةُ الشَّحْمِ بُطُونُهُمْ قَلِيلَةُ الْفَهْمِ قُلُوبُهُمْ, فَقَالَ أَحَدُهُمْ: أَتَرَوْنَ أَنَّ اللَّهَ يَسْمَعُ مَا نَقُولُ؟ قَالَ الْآخَرُ: يَسْمَعُ إِنْ جَهَرْنَا وَلَا يَسْمَعُ إِنْ أَخْفَيْنَا وَقَالَ الْآخَرُ: إِنْ كَانَ يَسْمَعُ إِذَا جَهَرْنَا فَإِنَّهُ يَسْمَعُ إِذَا أَخْفَيْنَا. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ} الْآيَةَ3. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {سَمِيعًا بَصِيرًا} قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَضَعُ إِبْهَامَهُ عَلَى أُذُنِهِ وَالَّتِي تَلِيهَا عَلَى عَيْنِهِ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: رَأَيْتُ رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقرأها وَيَضَعُ إِصْبَعَيْهِ. قَالَ: ابْنُ يونس قال المقرىء يَعْنِي: {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} يَعْنِي أَنَّ لِلَّهِ سَمْعًا وَبَصَرًا قَالَ أَبُو دَاوُدَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَهَذَا رَدٌّ على الجهمية ا. هـ.4. قُلْتُ: يَعْنِي أَبُو دَاوُدَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْجَهْمِيَّةَ لَا يُثْبِتُونَ لِلَّهِ تَعَالَى اسْمًا وَلَا
الكلام على العلم الإلهي
صِفَةً مِمَّا سَمَّى وَوَصَفَ نَفْسَهُ تَعَالَى بِهِ وَأَثْبَتَهُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلَا يُثْبِتُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ وَلَا أَنَّهُ يَسْمَعُ وَيَرَى وَيُبْصِرُ, فِرَارًا بِزَعْمِهِمْ مِنَ التَّشْبِيهِ بِالْمَخْلُوقِينَ فَنَزَّهُوهُ عَنْ صِفَاتِ كَمَالِهِ الَّتِي وَصَفَ بِهَا نَفْسَهُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِنَفْسِهِ وَبِغَيْرِهِ, وَشَبَّهُوهُ بِالْأَصْنَامِ الَّتِي لَا تَسْمَعُ وَلَا تُبْصِرُ, قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ خَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي دَعْوَتِهِ أَبَاهُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [مَرْيَمَ: 42] وَقَدْ أَثْبَتَ الْجَهْمِيَّةُ قَبَّحَهُمُ اللَّهُ حُجَّةً لِعُبَّادِ الْأَصْنَامِ وَجَوَابًا لِإِنْكَارِ خَلِيلِ اللَّهِ وَجَمِيعِ رُسُلِهِ عَلَيْهِمْ, فَكَانَ لِلْكُفَّارِ أَنْ يَقُولُوا: وَمَعْبُودُكُمْ أَيْضًا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ, تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ وَالْجَاحِدُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا, وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: سَمِيعٌ بِلَا سَمْعٍ بَصِيرٌ بِلَا بَصَرٍ وَأَطْرَدُوا جَمِيعَ أَسْمَائِهِ هَكَذَا فَأَثْبَتُوا أَسْمَاءً وَنَفَوْا مَا تَتَضَمَّنُهُ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ إِثْبَاتِ الْأَلْفَاظِ دُونَ الْمَعَانِي, وَقَوْلُهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِ الْجَهْمِيَّةِ مُخَالِفٌ كُلٌّ مِنْهُمَا لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْعُقُولِ الصَّحِيحَةِ وَالْفِطَرِ السَّلِيمَةِ, وَهَدَى اللَّهُ تَعَالَى بِفَضْلِهِ أَهْلَ السُّنَّةِ لِفَهْمِ كِتَابِهِ وَآمَنُوا بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَأَقَرُّوا بِهِ كَمَا أَخْبَرَ وَنَفَوْا عَنْهُ التَّشْبِيهَ, كَمَا جَمَعَ تَعَالَى بَيْنَهُمَا فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} . [الْعِلْمُ الْإِلَهِيُّ] : وعلمه بِمَا بَدَا وَمَا خَفِي ... أَحَاطَ عِلْمًا بِالْجَلِيِّ وَالْخَفِي أَيْ: وَمِمَّا أَثْبَتَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِنَفْسِهِ وَأَثْبَتَهُ لَهُ رَسُولُهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ عَلِيمٌ بِعِلْمٍ وَأَنَّ عِلْمَهُ مُحِيطٌ بِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ مِنَ الْكُلِّيَّاتِ وَالْجُزْئِيَّاتِ, وَهُوَ مِنْ صِفَاتِهِ الذَّاتِيَّةِ, وَعِلْمُهُ أَزَلِيٌّ بِأَزَلِيَّتِهِ وَكَذَلِكَ جَمِيعُ صِفَاتِهِ, فَقَدْ عَلِمَ تَعَالَى فِي الْأَزَلِ جَمِيعَ مَا هُوَ خَالِقٌ وَعَلِمَ جَمِيعَ أَحْوَالِ خَلْقِهِ وَأَرْزَاقَهُمْ وَآجَالَهُمْ, وَأَعْمَالَهُمْ وَشَقَاوَتَهُمْ وَسَعَادَتَهُمْ, وَمَنْ هُوَ مِنْهُمْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَمَنْ هُوَ مِنْهُمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ, وَعَلِمَ عَدَدَ أَنْفَاسِهِمْ وَلَحَظَاتِهِمْ وَجَمِيعَ حَرَكَاتِهِمْ وَسَكَنَاتِهِمْ أَيْنَ تَقَعُ وَمَتَى تَقَعُ وَكَيْفَ تَقَعُ كُلُّ ذَلِكَ بِعِلْمِهِ وَبِمَرْأًى مِنْهُ وَمَسْمَعٍ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُمْ خَافِيَةٌ سَوَاءٌ فِي عِلْمِهِ الْغَيْبُ
وَالشَّهَادَةُ وَالسِّرُّ وَالْجَهْرُ وَالْجَلِيلُ والحقير لا يغرب عَنْ عِلْمِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [الْبَقَرَةِ: 235] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} [الْبَقَرَةِ: 197] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [الْبَقَرَةِ: 215] وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [الْبَقَرَةِ: 283] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} [آلِ عِمْرَانَ: 5] وَقَالَ تَعَالَى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الْأَنْعَامِ: 59] وَقَالَ تَعَالَى: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} [الْبَقَرَةِ: 187] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [يُونُسَ: 61] وَقَالَ تَعَالَى: {أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [هُودٍ: 5] وَقَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النِّسَاءِ: 176] وَقَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ، عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ، سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} [الرَّعْدِ: 8-10] وَقَالَ عَنْ نَبِيِّهِ شُعَيْبٍ: {وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الْأَعْرَافِ: 89] وَقَالَ تَعَالَى عَنْ خَلِيلِهِ: {رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} [إِبْرَاهِيمَ: 38] وَقَالَ تَعَالَى: {لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} [النَّحْلِ: 23] وَقَالَ تَعَالَى: {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}
[الْإِسْرَاءِ: 55] وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه: 7] وَقَالَ تَعَالَى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: 110] وَقَالَ تَعَالَى: {قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الْأَنْبِيَاءِ: 4] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 110] وَقَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الْحَجِّ: 70] وَقَالَ تَعَالَى: {أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النُّورِ: 64] وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ، وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [النَّمْلِ: 74-75] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لُقْمَانَ: 16] وَقَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [السَّجْدَةِ: 6] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الْأَحْزَابِ: 54] وَقَالَ تَعَالَى: {عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [سَبَأٍ: 3] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [فَاطِرٍ: 11] وَقَالَ: تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [فَاطِرٍ: 38] وَقَالَ تَعَالَى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غَافِرٍ: 19] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ} [فُصِّلَتْ: 54] وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} [مُحَمَّدٍ: 30] وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم} [الْحُجُرَاتِ: 16] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ
بِمَا تَعْمَلُونَ} [الْحُجُرَاتِ: 18] وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16] وَقَالَ تَعَالَى: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} [ق: 45] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى} [النَّجْمِ: 30] وَقَالَ تَعَالَى: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النَّجْمِ: 32] وَقَالَ تَعَالَى: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير} [الْحَدِيدِ: 4] وَقَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الْمُجَادَلَةِ: 7] وَقَالَ تَعَالَى: {تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [الْمُمْتَحَنَةِ: 1] وَقَالَ تَعَالَى: {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [التَّغَابُنِ: 4] وَقَالَ تَعَالَى: {عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ} [سَبَأٍ: 3] وَقَالَ تَعَالَى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [التَّغَابُنِ: 18] وَقَالَ تَعَالَى: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطَّلَاقِ: 12] وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ، أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [تَبَارَكَ: 13] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [الْقَلَمِ: 7] وَقَالَ تَعَالَى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا، إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا، لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا} [الْجِنِّ: 26-28] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ
وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ} [الْمُزَّمِّلِ: 20] الْآيَةَ, وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى} [الْأَعْلَى: 7] وَقَالَ: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا} [النُّورِ: 63] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لُقْمَانَ: 34] وَقَالَ تَعَالَى: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ} [آل عمران: 166] وَقَالَ تَعَالَى: {إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ} [فُصِّلَتْ: 47] وقال تعالى: {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ} [هُودٍ: 14] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ - إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ - إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ - إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا - إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا - إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} وَلَوْ ذَهَبْنَا نَسُوقُ جَمِيعَ الْآيَاتِ فِي إِثْبَاتِ عِلْمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَطَالَ الْفَصْلُ وَفِيمَا ذَكَرْنَا كِفَايَةٌ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُعَلِّمُ أَصْحَابَهُ الِاسْتِخَارَةَ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا, كَمَا يُعَلِّمُ السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ يَقُولُ: "إِذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالْأَمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ, ثُمَّ لِيَقُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ الْعَظِيمِ فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلَا أَقْدِرُ وَتَعْلَمُ وَلَا أَعْلَمُ وَأَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ, اللَّهُمَّ فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ هَذَا الْأَمْرَ -ثُمَّ يُسَمِّيهِ بِعَيْنِهِ- خَيْرًا لِي فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ - أَوْ قَالَ: فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي - فَاقْدِرْهُ لِي وَيَسِّرْهُ لِي ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ, اللَّهُمَّ وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ شَرٌّ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي - أَوْ قَالَ: فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ - فَاصْرِفْنِي عَنْهُ وَاقْدِرْ لِيَ الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ ثُمَّ أَرْضِنِي بِهِ" 1 وَفِيهِمَا مِنْ حَدِيثِ تَعَاقُبِ الْمَلَائِكَةِ بِأَطْرَافِ النَّهَارِ "فَيَسْأَلُهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ بهم" 2 وفيهما من دُعَاءُ الْكَرْبِ "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْعَلِيمُ
الْحَلِيمُ" 1 وَفِيهِمَا مِنْ حَدِيثِ الَّذِي أَوْصَى أَنْ يُحْرَقَ وَيُذْرَى ثُمَّ قَالَ: "لِمَ فَعَلْتَ؟ قَالَ: مِنْ خَشْيَتِكَ وَأَنْتَ أَعْلَمُ" 2 وَفِيهِمَا مِنْ حَدِيثِ قِصَّةِ مُوسَى وَالْخَضِرِ "إِنَّ مُوسَى قَامَ خَطِيبًا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فَسُئِلَ أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ؟ فَقَالَ: أَنَا فَعَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ, إِذْ لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ إِلَى اللَّهِ" وَفِي رِوَايَةٍ "إِلَيْهِ" وَفِيهِ قَوْلُ الْخَضِرِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "يَا مُوسَى إِنَّكَ عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَكَهُ اللَّهُ لَا أَعْلَمُهُ وَأَنَا عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَنِيهِ اللَّهُ لَا تَعْلَمُهُ" إِلَى أَنْ قَالَ: "فَرَكِبَا فِي السَّفِينَةِ قَالَ: وَوَقَعَ عُصْفُورٌ عَلَى حَرْفِ السَّفِينَةِ فَغَمَسَ مِنْقَارَهُ فِي الْبَحْرِ فَقَالَ الْخَضِرُ لِمُوسَى: مَا عِلْمُكَ وَعِلْمِي وَعِلْمُ الْخَلَائِقِ فِي عِلْمِ اللَّهِ إِلَّا مِقْدَارُ مَا غَمَسَ هَذَا الْعُصْفُورُ مِنْقَارَهُ" وَفِي رواية: "إلا مثل مَا نَقَصَ هَذَا الْعُصْفُورُ مِنْ هَذَا الْبَحْرِ" 3. وَفِيهِمَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مَفَاتِيحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ: لَا يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ إِلَّا اللَّهُ, وَلَا يَعْلَمُ مَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ إِلَّا اللَّهُ, وَلَا يَعْلَمُ مَتَى يَأْتِي الْمَطَرُ أَحَدٌ إِلَّا اللَّهُ, وَلَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ, وَلَا يَعْلَمُ مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا اللَّهُ" 4 وَفِيهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي وَجَهْلِي وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي" 5 إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ
الْأَحَادِيثِ. وَكَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ عِلْمِهِ بِمَا كَانَ وَمَا سَيَكُونُ كَذَلِكَ أَخْبَرَ عَمَّا لَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُمْكِنَاتِ وَالْمُسْتَحِيلَاتِ لَوْ كَانَ كَيْفَ يَكُونُ فَقَالَ تَعَالَى فِي الْمُمْكِنِ عَلَى تَقْدِيرِ وُقُوعِهِ: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ، وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الْأَنْعَامِ: 9] وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} [فُصِّلَتْ: 44] الْآيَةَ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ، وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الْأَنْعَامِ: 109-110] وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ، فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ} [الشُّعَرَاءِ: 198-199] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَقَالَ تَعَالَى فِي الْمُسْتَحِيلَاتِ لَوْ قُدِّرَ إِمْكَانُهَا: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 22] وَقَالَ تَعَالَى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ، عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 91] وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا} [الْإِسْرَاءِ: 42-43] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَأَنْكَرَتِ الْجَهْمِيَّةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ عِلْمٌ أَضَافَهُ إِلَى نَفْسِهِ إِضَافَةَ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ, فَأَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ أَنْزَلَ الْقُرْآنَ بِعِلْمِهِ, وَأَنَّ أُنْثَى لَا تَحْمِلُ وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ, وَجَحَدُوا أَنْ يَكُونَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا, وَحَارَبُوا نُصُوصَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَجَمِيعَ سَلَفِ الْأُمَّةِ, فَلَيْسَ مَعْبُودُهُمْ هُوَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ الَّذِي هُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ, وَإِنَّمَا يَعْبُدُونَ الْعَدَمَ الْمَحْضَ الَّذِي لَا حَقِيقَةَ لَهُ وَلَا وُجُودَ, فَلْيَصِفُوهُ بِمَا شَاءُوا فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ.
الله سبحانه غني بذاته، وكل شيء غيره مفتقر إليه
وَهُوَ الْغَنِيُّ بِذَاتِهِ سُبْحَانَهُ ... جَلَّ ثَنَاؤُهُ تَعَالَى شَانُهُ وَكُلُّ شَيْءٍ رِزْقُهُ عَلَيْهِ ... وَكُلُّنَا مُفْتَقِرٌ إِلَيْهِ "وَهُوَ الْغَنِيُّ بِذَاتِهِ" فَلَهُ الْغِنَى الْمُطْلَقُ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى شَيْءٍ "سُبْحَانَهُ" وَبِحَمْدِهِ تَنْزِيهًا لَهُ وَتَحْمِيدًا "جَلَّ ثَنَاؤُهُ تَعَالَى شَانُهُ" تَعْظِيمًا لَهُ وَتَمْجِيدًا "وَكُلُّ شَيْءٍ رِزْقُهُ عَلَيْهِ" لَا رَازِقَ لَهُ سِوَاهُ وَلَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ "وَكُلُّنَا" مَعْشَرَ الْمَخْلُوقَاتِ "مُفْتَقِرٌ إِلَيْهِ" لَا غِنَى لَنَا عَنْهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ, فَكَمَا أَنَّ جَمِيعَ الْمَخْلُوقَاتِ مُفْتَقِرَةٌ إِلَيْهِ تَعَالَى فِي وُجُودِهَا فَلَا وُجُودَ لَهَا إِلَّا بِهِ فَهِيَ مُفْتَقِرَةٌ إِلَيْهِ فِي قِيَامِهَا فَلَا قِوَامَ لَهَا إِلَّا بِهِ فَلَا حَرَكَةَ وَلَا سُكُونَ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَهُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ الْقَائِمُ بِنَفْسِهِ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى شَيْءٍ, الْقَيِّمُ لِغَيْرِهِ فَلَا قِوَامَ لِشَيْءٍ إِلَّا بِهِ, فَلِلْخَالِقِ مُطْلَقُ الْغِنَى وَكَمَالُهُ, وَلِلْمَخْلُوقِ مُطْلَقُ الْفَقْرِ إِلَى اللَّهِ وَكَمَالُهُ, قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ، إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ، وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [فَاطِرٍ: 15-17] وَقَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [التَّغَابُنِ: 5-6] وَقَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ، لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [الْحَجِّ: 64] وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ} [الْأَنْعَامِ: 14] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ، مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذريات: 56-58] وَقَالَ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقَوُا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا} [النِّسَاءِ: 131] وَقَالَ تَعَالَى رَدًّا عَلَى الْيَهُودِ: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا} [آلِ عِمْرَانَ: 180] وَقَالَ رَدًّا عَلَيْهِمْ أَيْضًا:
{وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [الْمَائِدَةِ: 64] وَقَالَ تَعَالَى رَدًّا عَلَى الْمُنَافِقِينَ: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ} [الْمُنَافِقُونَ: 7] وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا} [الْإِسْرَاءِ: 100] . وَالْآيَاتُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ جِدًّا, يُخْبِرُ تَعَالَى بِكَمَالِ غِنَاهُ عَنْ خَلْقِهِ وَأَنَّهُ لَا يَزِيدُ فِي غِنَاهُ طَاعَةُ مَنْ أَطَاعَ وَلَا يَنْقُصُهُ مَعْصِيَةُ مَنْ عَصَى, وَأَنَّهُ لَمْ يَخْلُقِ الْخَلْقَ لِحَاجَةٍ إِلَيْهِمْ وَأَنَّهُ لَوْ شَاءَ لَمْ يَخْلُقْهُمْ وَلَوْ شَاءَ لَذَهَبَ بِهِمْ وَجَاءَ بِغَيْرِهِمْ وَيُخْبِرُ أَنَّهُمْ كُلَّهُمْ فُقَرَاءُ إِلَيْهِ لَا غِنَى لَهُمْ عَنْهُ فِي نَفَسٍ مِنَ الْأَنْفَاسِ, وَهُمْ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ, وَأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مَوْجُودِينَ حَتَّى أَوْجَدَهُمْ, وَلَا قُدْرَةَ لَهُمْ عَلَى شَيْءٍ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَلَا غَيْرِهَا إِلَّا بِمَا أَقْدَرَهُمْ عَلَيْهِ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ الْفَعَّالُ لِمَا يُرِيدُ. وَقَالَ تَعَالَى فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ رَسُولُهُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَّالَمُوا يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ, يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ, يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إِلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ, يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ, يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضُرِّي فَتَضُرُّونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي, يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا, يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا, يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ, وَلَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَحَيَّكُمْ وَمَيِّتَكُمْ وَرَطْبَكُمْ وَيَابِسَكُمُ اجْتَمَعُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ عَبْدٍ مِنْ عِبَادِي مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي جَنَاحَ بَعُوضَةٍ, يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ
أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ1. وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: "يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُ فَسَلُونِي الْهُدَى أَهْدِكُمْ, وَكُلُّكُمْ فَقِيرٌ إِلَّا مَنْ أَغْنَيْتُ فَسَلُونِي أَرْزَقْكُمْ, وَكُلُّكُمْ مُذْنِبٌ إِلَّا مَنْ عَافَيْتُ, فَمَنْ عَلِمَ مِنْكُمْ أَنِّي ذُو قُدْرَةٍ عَلَى الْمَغْفِرَةِ فَاسْتَغْفَرَنِي غَفَرْتُ لَهُ وَلَا أُبَالِي, وَلَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَحَيَّكُمْ وَمَيِّتَكُمْ وَرَطْبَكُمْ وَيَابِسَكُمُ اجْتَمَعُوا عَلَى أَشْقَى قَلْبِ عَبْدٍ مِنْ عِبَادِي مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي جَنَاحَ بَعُوضَةٍ, وَلَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَجِنَّكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَحَيَّكُمْ وَمَيِّتَكُمْ وَرَطْبَكُمْ وَيَابِسَكُمُ اجْتَمَعُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلَ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْكُمْ مَا بَلَغَتْ أُمْنِيَّتُهُ فَأَعْطَيْتُ كُلَّ سَائِلٍ مِنْكُمْ مَا سَأَلَ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي إِلَّا كَمَا لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ مَرَّ بِالْبَحْرِ فَغَمَسَ فِيهِ إِبْرَةً ثُمَّ رَفَعَهَا إِلَيْهِ, ذَلِكَ بِأَنِّي جَوَادٌ وَاجِدٌ مَاجِدٌ أَفْعَلُ مَا أُرِيدَ, عَطَائِي كَلَامٌ وعذابي كلام, إما أَمْرِي لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْتُهُ أَنْ أَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ"2 وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "يَدُ اللَّهِ مَلْأَى لَا تُغِيضُهَا نَفَقَةٌ, سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ, أَفَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ رَبُّكُمْ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فَإِنَّهُ لَمْ يُغِضْ مَا فِي يَمِينِهِ" 3 وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي الِاسْتِسْقَاءِ وَفِيهِ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ, اللَّهُمَّ أَنْتَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ أَنْتَ الْغَنِيُّ وَنَحْنُ الْفُقَرَاءُ أَنْزِلْ عَلَيْنَا الْغَيْثَ وَاجْعَلْ مَا أَنْزَلْتَ عَلَيْنَا قُوَّةً وَبَلَاغًا إِلَى حِينٍ" 4 وَفِي بَعْضِ
كلام الله عز وجل
الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَيُؤَمَّلُ غَيْرِي لِلشَّدَائِدِ وَالشَّدَائِدُ بِيَدِي وَأَنَا الْحَيُّ الْقَيُّومُ, وَيُرْجَى غَيْرِي وَيُطْرَقُ بَابُهُ بِالْبُكْرَاتِ وَبِيَدِي مَفَاتِيحُ الْخَزَائِنِ وَبَابِي مَفْتُوحٌ لِمَنْ دَعَانِي, مَنْ ذَا الَّذِي أَمَّلَنِي لِنَائِبَةٍ فَقَطَعْتُ بِهِ. أَوْ مَنْ ذَا الَّذِي رَجَانِي لِعِظَمٍ فَقَطَعْتُ بِهِ, أَوْ مَنْ ذَا الَّذِي طَرَقَ بَابِي فَلَمْ أَفْتَحْهُ لَهُ, أَنَا غَايَةُ الْآمَالِ فَكَيْفَ تَنْقَطِعُ الْآمَالُ دُونِي, أَبَخِيلٌ أَنَا فَيُبَخِّلُنِي عَبْدِي, أَلَيْسَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ وَالْكَرْمُ وَالْفَضْلُ كُلُّهُ لِي فَمَا يَمْنَعُ الْمُؤَمِّلِينَ أَنْ يُؤَمِّلُونِي, لَوْ جَمَعْتُ أَهْلَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ أَعْطَيْتُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا أَعْطَيْتُ الْجَمِيعَ وَبَلَّغْتُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَمَلَهُ لَمْ يَنْقُصْ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي عُضْوَ ذَرَّةٍ. كَيْفَ يَنْقُصُ مُلْكٌ أَنَا قَيِّمُهُ, فَيَا بُؤْسًا لِلْقَانِطِينَ مِنْ رَحْمَتِي, وَيَا بُؤْسًا لِمَنْ عَصَانِي وَتَوَثَّبَ على محارمي. ا. هـ. وَجَاءَ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ حَدِيثِ النُّزُولِ: "مَنْ يُقْرِضُ غَيْرَ عَدِيمٍ وَلَا ظَلُومٍ" 1. وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ جِدًّا لَوْ أَرَدْنَا اسْتِقْصَاءَهَا لَطَالَ الْفَصْلُ وَفِيمَا ذَكَرْنَا كِفَايَةٌ, فَسُبْحَانَ مَنْ وَسِعَ خَلْقَهُ بِغِنَاهُ, وَافْتَقَرَ كُلُّ شَيْءٍ إِلَيْهِ وَهُوَ الْغَنِيُّ عَمَّا سِوَاهُ {وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [لُقْمَانَ: 12] . [كَلَامُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ] : كَلَّمَ مُوسَى عَبْدَهُ تَكْلِيمًا ... وَلَمْ يَزَلْ بِخَلْقِهِ عَلِيمًا أَيْ: وَمِمَّا أَثْبَتَهُ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ لِنَفْسِهِ وَأَثْبَتَهُ لَهُ رَسُولُهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَكْلِيمُهُ عَبْدَهُ وَرَسُولَهُ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ بِدُونِ وَاسِطَةِ رَسُولٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ بَلْ أَسْمَعَهُ كَلَامَهُ الَّذِي هُوَ صِفَتُهُ اللَّائِقَةُ بِذَاتِهِ كَمَا شَاءَ وَعَلَى مَا أَرَادَ, قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} [الْبَقَرَةِ: 253] وَقَالَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النِّسَاءِ: 164] فَأَكَّدَهُ بِالْمَصْدَرِ مُبَالَغَةً فِي الْبَيَانِ وَالتَّوْضِيحِ, وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ: رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ: لَنْ تَرَانِي
وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ: سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ، قال: يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ، وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ} [الْأَعْرَافِ: 143-145] وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ مَرْيَمَ: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا، وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا، وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا} [مَرْيَمَ: 51-53] وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ طه: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى، إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى، فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى، إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى، وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى، إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي، إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى، فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى، وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى -إِلَى قوله- أَلْقِهَا يَا مُوسَى -إِلَى قَوْلِهِ- قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى} [طه: 9-21] إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ. وَقَالَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ} [الشُّعَرَاءِ: 10-11] الْآيَاتِ. وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ النَّمْلِ: {إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ، فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ، إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ، وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ} [النَّمْلِ: 7-21] الْآيَاتِ. وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْقَصَصِ: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ: لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ
نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ، فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ، اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَأِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الْقَصَصِ: 29-32] الْآيَاتِ. وَالْقُرْآنُ مُمْتَلِئٌ بِذَلِكَ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ احْتِجَاجِ آدَمَ وَمُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ عِنْدَ رَبِّهِمَا وَفِيهِ قَوْلُ آدَمَ لِمُوسَى: "أَنْتَ مُوسَى الَّذِي اصْطَفَاكَ اللَّهُ تَعَالَى بِرِسَالَاتِهِ وَبِكَلَامِهِ" 1 الْحَدِيثَ. وَفِيهِمَا مِنْ حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِمُوسَى فَإِنَّهُ كَلِيمُ اللَّهِ" 2 وَفِي رِوَايَةٍ "وَلَكِنِ ائْتُوا مُوسَى عَبْدًا آتَاهُ اللَّهُ التَّوْرَاةَ وَكَلَّمَهُ تَكْلِيمًا" 3 وَفِي رِوَايَةٍ: "وَلَكِنِ ائْتُوا مُوسَى عَبْدًا آتَاهُ اللَّهُ التَّوْرَاةَ وَكَلَّمَهُ وَقَرَّبَهُ نَجِيًّا" 4. فَقَدْ أَخْبَرَنَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ اصْطَفَى عَبْدَهُ مُوسَى بِكَلَامِهِ وَاخْتَصَّهُ بِإِسْمَاعِهِ إِيَّاهُ بِدُونِ وَاسِطَةٍ وَأَنَّهُ نَادَاهُ وَنَاجَاهُ وَكَلَّمَهُ تَكْلِيمًا. وَأَخْبَرَنَا تَعَالَى بِمَا كَلَّمَهُ بِهِ, وَبِالْمَوْضِعِ الَّذِي كَلَّمَهُ فِيهِ, وَبِالْمِيقَاتِ الَّذِي كَلَّمَهُ فِيهِ, وَأَخْبَرَ عَنْهُ رَسُولُهُ مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِذَلِكَ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَاتِ, فَأَيُّ كَلَامٍ أَفْصَحُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَكَلَامِ رَسُولِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَيُّ بَيَانٍ أَوْضَحُ مِنْ بَيَانِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ, وَبِأَيِّ بُرْهَانٍ يَقْنَعُ مَنْ لَمْ يَقْنَعْ بِذَلِكَ: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} [الْجَاثِيَةِ: 6] وَفِي هَذَا أَعْلَى دَلَالَةٍ وَأَبْيَنُهَا وَأَوْضَحُهَا عَلَى ثُبُوتِ صِفَةِ الْكَلَامِ لِرَبِّنَا عَزَّ وَجَلَّ وَأَنَّهُ يَتَكَلَّمُ إِذَا شَاءَ بِمَا يَشَاءُ وَكَيْفَ يَشَاءُ بِكَلَامٍ يَسْمَعُهُ مَنْ يَشَاءُ, أَسْمَعَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَيْفَ شَاءَ وَعَلَى مَا أَرَادَ وَقَدْ ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ نِدَاؤُهُ الْأَبَوَيْنِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ إِذْ
يَقُولُ: {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ} [الْأَعْرَافِ: 22] وَأَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَسْمَعُ كَلَامَ اللَّهِ بِالْوَحْيِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سَبَأٍ: 23] وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: إِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إِذَا قَضَى اللَّهُ الْأَمْرَ فِي السَّمَاءِ ضَرَبَتِ الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا لِقَوْلِهِ كَأَنَّهُ سِلْسِلَةٌ عَلَى صَفْوَانٍ, فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا: الْحَقَّ, وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ" 1 الْحَدِيثُ. وَفِيهِمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا نَادَى جِبْرِيلَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ, فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ ثُمَّ يُنَادِي جِبْرِيلُ فِي السَّمَاءِ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ, فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ, وَيُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ" 2. وَثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَلَامُهُ مَعَ الرُّسُلِ وَالْمَلَائِكَةِ وَغَيْرِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [الْمَائِدَةِ: 109] وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ، قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [النَّحْلِ: 83] وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ، حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ} [النَّحْلِ: 85] وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [الْقَصَصِ: 62] وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [الْقَصَصِ: 65] وَأَنَّهُ يَقُولُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَمَا قَالَ
تَعَالَى: {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} وَأَنَّهُ يَقُولُ لأهل النار: {اخْسَأُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} [الْمُؤْمِنُونَ: 108] وَالْقُرْآنُ مُمْتَلِئٌ بِذَلِكَ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ" 1 الْحَدِيثَ. وَفِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: يَا آدَمُ فَيَقُولُ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ. فَيُنَادِي بِصَوْتٍ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تُخْرِجَ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ بَعْثًا إِلَى النَّارِ" 2. وَفِيهِ تَعْلِيقًا عَنْ جَابِرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "يَحْشُرُ اللَّهُ الْعِبَادَ فَيُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ: أَنَا الْمَلِكُ أَنَا الدَّيَّانُ" 3. وَفِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ" 4. وَفِيهِ عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: مَا لِعَبْدِي الْمُؤْمِنِ عِنْدِي جَزَاءٌ إِذَا أَنَا قَبَضْتُ صَفِّيَهُ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا ثُمَّ احْتَسَبَهُ إِلَّا الْجَنَّةُ" 5 وَفِيهِ مِنْ حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ: "يَقُولُ اللَّهُ عِزَّ
وَجَلَّ: مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجُوهُ" 1. الْحَدِيثَ. وَفِيهِ مِنْ حَدِيثِ: آخِرِ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا الْجَنَّةَ: "فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: اذْهَبْ فَادْخُلِ الْجَنَّةَ فَإِنَّ لَكَ مِثْلَ الدُّنْيَا وَعَشْرَةَ أَمْثَالِهَا" 2 وَفِيهِ مِنْ كَلَامِهِ تَعَالَى مَعَ أَهْلِ الْمَوْقِفِ قَوْلُهُ تَعَالَى: "لِتَتْبَعْ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ" 3. وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ لِلْمُؤْمِنِينَ "أَنَا رَبُّكُمْ"، وَفِيهِ فِي بَابِ كَلَامِ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ مَعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ, عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ, فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ, فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لَا نَرْضَى يَا رَبُّ وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ. فَيَقُولُ: أَلَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُونَ: يَا رَبُّ وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا" 4. وَفِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "أَنَا مَعَ عَبْدِي حَيْثُمَا ذَكَرَنِي وَتَحَرَّكَتْ بِي شَفَتَاهُ" 5 وَفِيهِمَا
مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ, يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: "إِذَا أَرَادَ عَبْدِي أَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً فَلَا تَكْتُبُوهَا عَلَيْهِ حَتَّى يَعْمَلَهَا" 1 الْحَدِيثَ. وَفِيهِمَا مِنْ حَدِيثِهِ أَيْضًا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهُ قَامَتِ الرَّحِمُ فَقَالَ: مَهْ, قَالَتْ: هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِكَ مِنَ الْقَطِيعَةِ. فَقَالَ: أَلَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ" 2 الْحَدِيثَ. وَفِيهِ مِنْ حَدِيثِهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِذَا أَحَبَّ عَبْدِي لِقَائِي أَحْبَبْتُ لِقَاءَهُ, وَإِذَا كَرِهَ لِقَائِي كَرِهْتُ لِقَاءَهُ" 3. وَفِيهِ مِنْ حَدِيثِهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي" 4 وَفِيهِ مِنْ حَدِيثِهِ أَيْضًا فِي قِصَّةِ الْمُذْنِبِ الْمُسْتَغْفِرِ الْحَدِيثَ وَفِيهِ: "فَقَالَ رَبُّهُ: أَعَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ, غَفَرْتُ لِعَبْدِي" 5 وَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ مِنْ
حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: مُطِرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: "قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي كَافِرٌ بِي وَمُؤْمِنٌ بِي" 1. وَفِيهِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ, فِي ذِكْرِ طَيِّ اللَّهِ تَعَالَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ, وَفِيهِ: "ثُمَّ يَهُزُّهُنَّ ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، أَنَا الْمَلِكُ" 2 الْحَدِيثَ. وَفِيهِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ كَيْفَ سَمِعْتَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ فِي النَّجْوَى؟ قَالَ: "يَدْنُو أَحَدُكُمْ مِنْ رَبِّهِ حَتَّى يَضَعَ عَلَيْهِ كَنَفَهُ فَيَقُولُ تَعَالَى: أَعَمِلْتَ كَذَا وَكَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ, وَيَقُولُ: أَعَمِلْتَ كَذَا وَكَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ, فَيُقَرِّرُهُ, ثُمَّ يَقُولُ: إِنِّي سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ" 3 وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِأَهْوَنِ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا لَوْ كَانَتْ لَكَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا أَكُنْتَ مُفْتَدِيًا بِهَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ, فَيَقُولُ: قد أردت منك أَهْوَنَ مِنْ هَذَا وَأَنْتَ فِي صُلْبِ آدَمَ أَلَّا تُشْرِكَ -أَحْسَبُهُ قَالَ: وَلَا أُدْخِلُكَ النَّارَ- فَأَبَيْتَ إِلَّا الشِّرْكَ" 4. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يُؤْتَى بِالْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ لَهُ: أَلَمْ أَجْعَلْ لَكَ سَمْعًا وَبَصَرًا وَمَالًا وَوَلَدًا وَسَخَّرْتُ لَكَ الْأَنْعَامَ وَالْحَرْثَ وَتَرَكْتُكَ تَرَأْسُ وَتَرَبَّعُ, فَكُنْتَ تَظُنُّ أَنَّكَ مُلَاقِيَّ يَوْمَكَ هَذَا؟ فَيَقُولُ: لَا, فَيَقُولُ لَهُ: الْيَوْمَ أَنْسَاكَ كَمَا نَسِيتَنِي" رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ, وَمَعْنَى قَوْلِهِ: " الْيَوْمَ أَنْسَاكَ كَمَا نَسِيتَنِي" الْيَوْمَ أَتْرُكُكَ فِي الْعَذَابِ ا. هـ.5. وفي الصحيحين عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي قِصَّةِ الْإِفْكِ قَالَتْ: وَلَكِنْ
الكلام الإلهي يجل عن الإحصاء والحصر والفناء
وَاللَّهِ مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ يُنْزِلُ فِي بَرَاءَتِي وَحْيًا يُتْلَى, وَلَشَأْنِي فِي نَفْسِي كَانَ أَحْقَرَ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ فِيَّ بِأَمْرٍ يُتْلَى, وَلَكِنِّي كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَرَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي النَّوْمِ رُؤْيَا يُبَرِّئُنِي اللَّهُ بِهَا, فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ} الْعَشْرَ الْآيَاتِ1. وَلَوْ ذَهَبْنَا نَنْقُلُ الْأَحَادِيثَ فِي قَالَ اللَّهُ وَيَقُولُ وَيَتَكَلَّمُ وَيُنَادِي وَنَحْوِ ذَلِكَ لَطَالَ الْفَصْلُ. وَفِيمَا ذَكَرْنَا كِفَايَةٌ. وَهَذِهِ الْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ مِمَّا ذَكَرْنَا وَمِمَّا لَمْ نَذْكُرْ كُلُّهَا شَاهِدَةٌ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا بِمَشِيئَتِهِ وَإِرَادَتِهِ, يَتَكَلَّمُ بِمَا شَاءَ كَيْفَ شَاءَ مَتَى شَاءَ بِكَلَامٍ حَقِيقَةً يُسْمِعُهُ مَنْ يَشَاءُ مِنْ خَلْقِهِ وَأَنَّ كَلَامَهُ قَوْلٌ حَقِيقَةً كَمَا أَخْبَرَ وَعَلَى مَا يَلِيقُ بِعَظَمَتِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ} وَقَالَ: {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} وَقَالَ: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ، وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} وَالْقُرْآنُ كَلَامُهُ تَعَالَى تَكَلَّمَ بِهِ حَقِيقَةً كَمَا شَاءَ وَهُوَ مِنْ فَاتِحَتِهِ إِلَى خَاتِمَتِهِ شَاهِدٌ بِذَلِكَ, وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى بَحْثُهُ قَرِيبًا, وَكَلَامُهُ تَعَالَى صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ وَالصِّفَةُ تَابِعَةٌ لِمَوْصُوفِهَا, فَصِفَاتُ الْبَارِي تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَائِمَةٌ به أزلية بأزليته بَاقِيَةٌ بِبَقَائِهِ لَمْ يَزَلْ مُتَّصِفًا بِهَا وَلَا يَزَالُ كَذَلِكَ لَمْ تُجَدَّدْ لَهُ صِفَةٌ لَمْ يَكُنْ مُتَّصِفًا بِهَا, وَلَا تَنْفَدُ صِفَةٌ كَانَ مُتَّصِفًا بِهَا, بَلْ هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. كَلَامُهُ جَلَّ عَنِ الْإِحْصَاءِ ... وَالْحَصْرِ وَالنَّفَادِ وَالْفَنَاءِ لَوْ صَارَ أَقْلَامًا جَمِيعُ الشَّجَرِ ... وَالْبَحْرُ تُلْقَى فِيهِ سَبْعَةُ أَبْحُرِ وَالْخَلْقُ تَكْتُبُهُ بِكُلِّ آنِ ... فَنَتْ وَلَيْسَ الْقَوْلُ مِنْهُ فَانِ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [الْكَهْفِ: 109] وَقَالَ تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [لُقْمَانَ: 27] قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ عَظَمَتِهِ وَكِبْرِيَائِهِ وَجَلَالِهِ وَأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلَى
وَكَلِمَاتِهِ التَّامَّةِ الَّتِي لَا يُحِيطُ بِهَا أَحَدٌ وَلَا اطِّلَاعَ لِبَشَرٍ عَلَى كُنْهِهَا وَإِحْصَائِهَا, كَمَا قَالَ سَيِّدُ الْبَشَرِ وَخَاتَمُ الرُّسُلِ: "لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ" 1, فَقَالَ تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} أَيْ: وَلَوْ أَنَّ جَمِيعَ أَشْجَارِ الْأَرْضِ جُعِلَتْ أَقْلَامًا وَجُعِلَ الْبَحْرُ مِدَادًا وَأَمَدَّهُ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَعَهُ فَكُتِبَتْ بِهَا كَلِمَاتُ اللَّهِ تَعَالَى الدَّالَّةُ عَلَى عَظْمَتِهِ وَصِفَاتِهِ وَجَلَالِهِ لَتَكَسَّرَتِ الْأَقْلَامُ وَنَفِدَ مَاءُ الْبَحْرِ وَلَوْ جَاءَ أَمْثَالُهَا مَدَدًا, وَإِنَّمَا ذُكِرَتِ السَّبْعَةُ عَلَى وَجْهِ الْمُبَالَغَةِ وَلَمْ يُرِدِ الْحَصْرَ, وَلَا أَنَّ ثَمَّ سَبْعَةَ أَبْحُرٍ مَوْجُودَةً مُحِيطَةً بِالْعَالَمِ كَمَا يَقُولُهُ مَنْ تَلَقَّاهُ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الَّتِي لَا تُصَدَّقُ وَلَا تُكَذَّبُ, بَلْ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَاتِ الْأُخْرَى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ {بِمِثْلِهِ} آخَرَ فَقَطْ, بَلْ بِمِثْلِهِ ثُمَّ بِمِثْلِهِ ثُمَّ بِمِثْلِهِ ثُمَّ هَلُمَّ جَرًّا؛ لِأَنَّهُ لَا حَصْرَ لِآيَاتِ اللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ, قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: لَوْ جُعِلَ شَجَرُ الْأَرْضِ أَقْلَامًا وَجُعِلَ الْبَحْرُ مِدَادًا, وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ مِنْ أَمْرِي كَذَا وَمِنْ أَمْرِي كَذَا, لِنَفِدَ مَاءُ الْبَحْرِ وَتَكَسَّرَتِ الْأَقْلَامُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: قَالَ الْمُشْرِكُونَ إِنَّمَا هَذَا كَلَامٌ يُوشِكُ أَنْ يَنْفَدَ, فَقَالَ اللَّهُ تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ} أَيْ: لَوْ كَانَ شَجَرُ الْأَرْضِ أَقْلَامًا وَمَعَ الْبَحْرِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا كَانَتْ لِتَنْفَدَ عَجَائِبُ رَبِّي وَحِكْمَتُهُ وَخَلْقُهُ وَعِلْمُهُ, وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: إِنَّ مَثَلَ عِلْمِ الْعِبَادِ كُلِّهِمْ فِي عِلْمِ اللَّهِ كَقَطْرَةٍ مِنْ مَاءِ الْبُحُورِ كُلِّهَا, وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ ذلك: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ} الْآيَةَ يَقُولُ: لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَالْأَشْجَارُ كُلُّهَا أَقْلَامًا لَانْكَسَرَتِ الْأَقْلَامُ وَفَنِيَ مَاءُ الْبَحْرِ وَبَقِيَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ قَائِمَةً لَا يُفْنِيهَا شَيْءٌ؛ لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقْدِرَهُ قَدْرَهُ وَلَا يُثْنِيَ عَلَيْهِ كَمَا يَنْبَغِي حَتَّى يَكُونَ هُوَ الَّذِي يُثْنِي عَلَى نَفْسِهِ, إِنَّ رَبَّنَا كَمَا يَقُولُ وَفَوْقَ مَا نَقُولُ. قَالَ: وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ جَوَابًا لِلْيَهُودِ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ
أَبِي مُحَمَّدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ -أَوْ عِكْرِمَةَ- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ أَحْبَارَ يَهُودَ قَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالْمَدِينَةِ: يَا مُحَمَّدُ أَرَأَيْتَ قَوْلَكَ: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} إِيَّانَا تُرِيدُ أَمْ قَوْمَكَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كِلَاكُمَا" قَالُوا: أَلَسْتَ تَتْلُو فِيمَا جَاءَنَا أَنَّا قَدْ أُوتِينَا التَّوْرَاةَ فِيهَا تِبْيَانٌ لِكُلِّ شَيْءٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّهَا فِي عِلْمِ اللَّهِ قَلِيلٌ وَعِنْدَكُمْ مِنْ ذَلِكَ مَا يَكْفِيكُمْ"1, وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيمَا سَأَلُوهُ عَنْهُ مِنْ ذلك: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ} الْآيَةَ. وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ وَعَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ2، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَدَنِيَّةٌ لَا مَكِّيَّةٌ وَالْمَشْهُورُ أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} أَيْ: عَزِيزٌ قَدْ عَزَّ كُلَّ شَيْءٍ وَقَهَرَهُ وَغَلَبَهُ, فَلَا مَانِعَ لِمَا أَرَادَ وَلَا مُخَالِفَ لِأَمْرِهِ وَلَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ, حَكِيمٌ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ وَأَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَشَرْعِهِ وجميع شئونه ا. هـ.3. وَعَنْ جُوَيْرِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا ثُمَّ رَجَعَ بَعْدَ أَنْ أَضْحَى وَهِيَ جَالِسَةٌ فَقَالَ: "مَا زِلْتِ عَلَى الْحَالِ الَّتِي فَارَقْتُكِ عَلَيْهَا؟ " قَالَتْ: نَعَمْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَقَدْ قُلْتُ بَعْدَكِ أَرْبَعَ كَلِمَاتٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لَوْ وُزِنَتْ بِمَا قُلْتِ مُنْذُ الْيَوْمِ لَوَزَنَتْهُنَّ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ عَدَدَ خَلْقِهِ وَرِضَا نَفْسِهِ وَزِنَةَ عَرْشِهِ وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالْأَرْبَعَةُ4. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَقِيتُ مِنْ عَقْرَبٍ لَدَغَتْنِي الْبَارِحَةَ؟ قَالَ: "أَمَا لَوْ قُلْتَ حِينَ أَمْسَيْتَ
كلام الله الذي في كتابه الحكيم عين كلامه، ليس بمخلوق ولا حكاية عن كلامه
أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ الَّتِي لَا يُجَاوِزُهُنَّ جَبَّارٌ وَلَا مُتَكَبِّرٌ" 1. وَالْأَحَادِيثُ فِي الْبَابِ كَثِيرَةٌ, وَالْمَقْصُودُ أَنَّ كَلِمَاتِ اللَّهِ بَاقِيَةٌ لَا تَنْفَدُ أَبَدًا تَامَّةٌ لَا تَنْقُصُ أَبَدًا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ كَلَامَهُ صِفَتُهُ وَلَيْسَ مِنْ صِفَاتِهِ شَيْءٌ يَنْفَدُ, وَلِذَا أَخْبَرَنَا تَعَالَى أَنَّ جَمِيعَ أَشْجَارِ الْأَرْضِ لَوْ كَانَتْ أَقْلَامًا وَالْبِحَارُ وَأَضْعَافُهَا مِدَادًا يُكْتَبُ بِهَا كَلِمَاتُهُ لَنَفِدَتْ كلها وكلماته باقية لَا تَنْفَدُ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَشْجَارَ وَالْبِحَارَ مَخْلُوقَةٌ وَالْمَخْلُوقَاتُ مِنْ لَازِمِهَا النَّفَادُ وَالْفَنَاءُ, وَكَلِمَاتُ اللَّهِ صِفَتُهُ وَلَيْسَ مِنْ صِفَاتِهِ شَيْءٌ يَفْنَى, بَلْ هُوَ الْبَاقِي بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ أَزَلًا وَأَبَدًا {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الْقَصَصِ: 88] . [كَلَامُ اللَّهِ الَّذِي فِي كِتَابِهِ عَيْنُ كَلَامِهِ لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ] : وَالْقَوْلُ فِي كِتَابِهِ الْمُفَصَّلْ ... بِأَنَّهُ كَلَامُهُ الْمُنَزَّلْ عَلَى الرَّسُولِ الْمُصْطَفَى خَيْرِ الْوَرَى ... لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ وَلَا بِمُفْتَرَى "وَالْقَوْلُ" الَّذِي نعتقد وندين لله بِهِ "فِي" شَأْنِ "كِتَابِهِ الْمُفَصَّلْ" بِسُكُونِ اللَّامِ لِلرَّوِيِّ وَهُوَ الْقُرْآنُ وَصَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ فَقَالَ: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هُودٍ: 1] وَقَالَ تَعَالَى: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [فُصِّلَتْ: 3] وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابُ مُفَصَّلًا} [الْأَنْعَامِ: 114] وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ "بِأَنَّهُ كَلَامُهُ" حَقِيقَةً حُرُوفُهُ وَمَعَانِيهِ لَيْسَ كَلَامُهُ الْحُرُوفَ دُونَ الْمَعَانِي وَلَا الْمَعَانِيَ دُونَ الْحُرُوفِ قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التَّوْبَةِ: 6] وَقَالَ تَعَالَى: {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ} [الْفَتْحِ: 15] وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّكُمْ لَا تَرْجِعُونَ إِلَى اللَّهِ بِشَيْءٍ أَفْضَلَ مِمَّا خَرَجَ مِنْهُ" يَعْنِي الْقُرْآنَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ1. وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَقُولُ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: مَنْ شَغَلَهُ الْقُرْآنُ عَنْ مَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ, وَفَضْلُ كَلَامِ اللَّهِ عَلَى سَائِرِ الْكَلَامِ كَفَضْلِ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ2. وَرَوَى ابْنُ خُزَيْمَةَ عَنْ نِيَارِ بْنِ مُكْرَمٍ
الْأَسْلَمِيِّ صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {الم، غُلِبَتِ الرُّومُ، فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} إِلَى آخِرِ الْآيَتَيْنِ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَجَعَلَ يَقُولُ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الم، غُلِبَتِ الرُّومُ، فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ، فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الرُّومِ: 1-2] فَقَالَ رُؤَسَاءُ مشركي مكة يابن أَبِي قُحَافَةَ هَذَا مِمَّا أَتَى بِهِ صَاحِبُكَ, قَالَ: لَا وَاللَّهِ لَكِنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ وَقَوْلُهُ, وَذَكَرَ الْحَدِيثَ1. وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُقَبِّلُ الْمُصْحَفَ وَيَقُولُ: كَلَامُ رَبِّي كَلَامُ رَبِّي2. وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ فَضَعُوهُ عَلَى مَوَاضِعِهِ3. وَقَالَ خَبَّابٌ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: تَقَرَّبْ إِلَى اللَّهِ مَا اسْتَطَعْتَ فَإِنَّكَ لَنْ تَقَرَّبَ إِلَى اللَّهِ بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ كَلَامِهِ4. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ, فَمَنْ رَدِّ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنَّمَا يَرُدُّ عَلَى اللَّهِ5. وَعَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: إِنَّ أَحْسَنَ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ6. وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْهُ مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ صَحِيحٌ فِي الصَّحِيحِ7. وَقَالَ
عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَا أُحِبَّ أَنْ يَأْتِيَ عَلَيَّ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ وَلَا أَنْظُرُ فِي كَلَامِ اللَّهِ1. يَعْنِي الْقِرَاءَةَ فِي الْمُصْحَفِ, وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَنْ كَانَ يُحِبُّ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ فَلْيَعْرِضْ نَفْسَهُ عَلَى الْقُرْآنِ, فَإِنْ أَحَبَّ الْقُرْآنَ فَهُوَ يُحِبُّ اللَّهَ, فَإِنَّمَا الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ2. فَهَذِهِ النُّصُوصُ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ تَكَلَّمَ بِهِ حَقِيقَةً, وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي قَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {الم، المص، الر، المر، كهيعص، طه، طس، طسم، حم، عسق} وَلَيْسَ كَلَامُ اللَّهِ الْمَعَانِيَ دُونَ الْحُرُوفِ وَلَا الْحُرُوفَ دُونَ الْمَعَانِي, بَلْ حُرُوفُهُ وَمَعَانِيهِ عَيْنُ كَلَامِ اللَّهِ. "الْمُنَزَّلْ" مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ "عَلَى الرَّسُولِ الْمُصْطَفَى خَيْرِ الْوَرَى" مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وتعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [الْبَقَرَةِ: 136] وَقَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آلِ عِمْرَانَ: 7] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النِّسَاءِ: 105] وَقَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} [النِّسَاءِ: 60] وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ،
وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النِّسَاءِ: 136] وَقَالَ تَعَالَى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [الْبَقَرَةِ: 285] وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [الْبَقَرَةِ: 97] وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا} [النِّسَاءِ: 47] الْآيَةَ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ} [آلِ عِمْرَانَ: 199] الْآيَةَ. وَقَالَ تَعَالَى: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} [النِّسَاءِ: 162] وَقَالَ تَعَالَى: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [النِّسَاءِ: 166] وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} [النِّسَاءِ: 174] وَقَالَ تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ} [الْبَقَرَةِ: 231] وَقَالَ تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [الْمَائِدَةِ: 48] وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ} [الْمَائِدَةِ: 59] وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [الْمَائِدَةِ: 67] وَقَالَ تَعَالَى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} [الْأَنْعَامِ: 92] وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونُنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [الْأَنْعَامِ: 114] وَقَالَ تَعَالَى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ} [الْأَنْعَامِ: 155] وَقَالَ تَعَالَى: {المص، كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ، اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا
مَا تَذَكَّرُونَ} [الْأَعْرَافِ: 1-2] وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [الْبَقَرَةِ: 23] وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ} [التَّوْبَةِ: 86] وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [التَّوْبَةِ: 124] وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا} [التَّوْبَةِ: 127] وقال تعالى: {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ} [هُودٍ: 14] وَقَالَ تَعَالَى: {الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [إِبْرَاهِيمَ: 1] وَقَالَ تَعَالَى: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ، إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يُوسُفَ: 2] وَقَالَ تَعَالَى: {المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ} [الرَّعْدِ: 1] وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا} [الرَّعْدِ: 37] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الْحِجْرِ: 9] وَقَالَ تَعَالَى: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ} [النَّحْلِ: 2] وَقَالَ تَعَالَى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النَّحْلِ: 89] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ} [النَّحْلِ: 64] وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النَّحْلِ: 44] وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكِ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِين} [النَّحْلِ: 10-12] وَقَالَ تَعَالَى: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} [الْإِسْرَاءِ: 105] وَقَالَ تَعَالَى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا، قَيِّمًا} [الْكَهْفِ: 1] وَقَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ
كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 10] وَقَالَ تَعَالَى: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 50] وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ} [الْحَجِّ: 16] وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ} [طه: 113] وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [النُّورِ: 34] وَقَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النُّورِ: 46] وَقَالَ تَعَالَى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الْفُرْقَانِ: 1] وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [الْفُرْقَانِ: 6] وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ، بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشُّعَرَاءِ: 192] الْآيَاتِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} [النَّمْلِ: 6] وَقَالَ تَعَالَى: {طسم، تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ، نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الْقَصَصِ: 1-3] وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [لُقْمَانَ: 21] وَقَالَ تَعَالَى: {الم، تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} [السَّجْدَةِ: 1-3] وَقَالَ تَعَالَى: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [الْأَحْزَابِ: 2] وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} [سَبَأٍ: 6] وَقَالَ تَعَالَى: {تَنْزِيلُ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} [يس: 5] وَقَالَ تَعَالَى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الْجَاثِيَةِ: 2] ، {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} [النِّسَاءِ: 105] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ} [الزُّمَرِ: 41] وَقَالَ تَعَالَى: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [الزُّمَرِ: 55] وَقَالَ تَعَالَى: {حم?، تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [غَافِرٍ: 1-2] وَقَالَ تَعَالَى: {حم?، تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [فُصِّلَتْ: 1-2] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ
لَكِتَابٌ عَزِيزٌ، لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فُصِّلَتْ: 41-42] وَقَالَ تَعَالَى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ} [الْأَنْعَامِ: 155] وَقَالَ تَعَالَى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29] وَقَالَ تَعَالَى: {حم?، وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ، إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} [الدُّخَانِ: 1-3] وَقَالَ تَعَالَى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الزُّمَرِ: 1-2] وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ، وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ، إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ، فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ، لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ، تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الْوَاقِعَةِ: 75-80] وَقَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الْحَدِيدِ: 25] وَقَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [الْحَدِيدِ: 9] وَقَالَ تَعَالَى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا} [التَّغَابُنِ: 8] وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ، وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} [الْقَلَمِ: 51-52] وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ، وَمَا لَا تُبْصِرُونَ، إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، وَمَا هُوَ بِقَوْلٍ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ، وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكُّرُونَ، تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الْحَاقَّةِ: 38-43] وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} يَعْنِي بِهِ مُحَمَّدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَفِي سُورَةِ التَّكْوِيرِ يَعْنِي بِهِ جِبْرِيلَ, وَمَعْنَى الْإِضَافَةِ فِي كِلَا الْآيَتَيْنِ إِنَّمَا هُوَ التَّبْلِيغُ؛ لِأَنَّ مِنْ حَقِّ الرَّسُولِ أَنْ يُبَلِّغَ عَنِ الْمُرْسِلِ. لَا أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ الرَّسُولِ الْمَلَكِيِّ وَلَا الْبَشَرِيِّ كَمَا بَيَّنَ تَعَالَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [الْقَدْرِ: 1] وَقَالَ تَعَالَى: {الرَّحْمَنُ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ} [الرَّحْمَنِ: 1-2] وَقَالَ تَعَالَى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ} [يُوسُفَ: 3] وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [الشُّورَى: 52] وَالْآيَاتُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ جِدًّا بَلِ الْقُرْآنُ كُلُّهُ فَاتِحَتُهُ إِلَى خَاتِمَتِهِ يَشْهَدُ بِأَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ وَتَنْزِيلُهُ وَقَصَصُهُ وَتَعْلِيمُهُ وَأَلْفَاظُهُ وَمَعَانِيهِ وَإِيجَازُهُ وَإِعْجَازُهُ يُرْشِدُ إِلَى أَنَّهُ كَلَامُ الْخَالِقِ عَزَّ وَجَلَّ وَصِفَتُهُ،
وَأَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ الْبَشَرُ الْإِتْيَانَ بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ, وَقَدْ أَقَرَّ بِذَلِكَ كُلُّ عَاقِلٍ حَتَّى الْمُشْرِكُونَ كَمَا قَالَ أَكْفَرُ قُرَيْشٍ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ لَمَّا قَرَأَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْقُرْآنَ, فَرَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: قُلْ فِيهِ قَوْلًا يَبْلُغُ قَوْمَكَ أَنَّكَ مُنْكِرٌ لَهُ. قَالَ: وَمَاذَا أَقُولُ فِيهِ؟ فَوَاللَّهِ مَا مِنْكُمْ رَجُلٌ أَعْرَفُ بِالْأَشْعَارِ مِنِّي وَلَا أَعْلَمُ بِرَجَزِهِ وَلَا بِقَصِيدِهِ مِنِّي وَلَا بِأَشْعَارِ الْجِنِّ. وَاللَّهِ مَا يُشْبِهُ الَّذِي يَقُولُ شَيْئًا مِنْ هَذَا, وَوَاللَّهِ إِنَّ لِقَوْلِهِ الَّذِي يَقُولُهُ حَلَاوَةً, وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلَاوَةً, وَإِنَّهُ لَمُثْمِرٌ أَعْلَاهُ, مُغْدِقٌ أَسْفَلُهُ, وَإِنَّهُ لَيَعْلُو وَلَا يُعْلَى, وَإِنَّهُ لَيَحْطِمُ مَا تَحْتَهُ. قَالَ: لَا يَرْضَى عَنْكَ قَوْمُكَ حَتَّى تَقُولَ فِيهِ. قَالَ: قِفْ حَتَّى أُفَكِّرَ فِيهِ, فَلَمَّا فَكَّرَ قَالَ: إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ, يَأْثِرُهُ عَنْ غَيْرِهِ فَنَزَلَتْ: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا، وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا، وَبَنِينَ شُهُودًا} [الْمُدَّثِّرِ: 11-12] الْآيَاتِ. رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ1. وَيُرْوَى عَنْ عُتْبَةَ حِينَ قَرَأَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حم السَّجْدَةِ نَحْوُ ذَلِكَ2. وَكَذَا أَبُو جَهْلٍ قَبَّحَهُمُ اللَّهُ. فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ قَوْلَهُمْ فِيهِ: سِحْرٌ, شِعْرٌ, كَهَانَةٌ, وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ مُفْتَرَيَاتِهِمْ إِنَّمَا قَالُوهُ عِنَادًا وَمُكَابَرَةً وَإِلَّا فَقَدِ اسْتَيْقَنُوا أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ طَوْقِ أَحَدٍ مِنَ الْبَشَرِ. وَنَحْنُ وَجَمِيعُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ نُشْهِدُ اللَّهَ الَّذِي أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَشَهِدَ بِهِ, وَنُشْهِدُ مَلَائِكَتَهُ الَّذِينَ شَهِدُوا بِذَلِكَ, وَنُشْهِدُ رَسُولَهُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ وَبَلَّغَهُ إِلَى الْأُمَّةِ, وَنُشْهِدُ جَمِيعَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ صَدَّقُوهُ وَآمَنُوا بِهِ أَنَّا مُؤْمِنُونَ مُصَدِّقُونَ شَاهِدُونَ بِأَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَتَنْزِيلُهُ, وَأَنَّهُ تَكَلَّمَ بِهِ قَوْلًا وَأَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَحْيًا. وَلَا نَقُولُ إِنَّهُ حِكَايَةٌ عَنْ كَلَامِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَوْ عِبَارَةٌ بَلْ هُوَ عَيْنُ كَلَامِ اللَّهِ حُرُوفُهُ وَمَعَانِيهِ, نَزَلَ بِهِ مِنْ عِنْدِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى مُحَمَّدٍ خَاتَمِ الْمُرْسَلِينَ،
وَكُلٌّ مِنْهُمَا مُبَلِّغٌ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَالْكَلَامُ إِنَّمَا يُضَافُ حَقِيقَةً إِلَى مَنْ قَالَهُ مُبْتَدِئًا لَا إِلَى مَنْ قَالَهُ مُبَلِّغًا مُؤَدِّيًا, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [الْمَائِدَةِ: 67] وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [التَّغَابُنِ: 12] وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [النُّورِ: 54] وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ} [الشُّورَى: 48] وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا، إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ} [الْجِنِّ: 23] وَالْآيَاتُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا. يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ رَسُولِهِ أَنَّهُ مُبَلِّغٌ عَنْهُ مُؤَدٍّ لِمَا أَرْسَلَهُ بِهِ وَهَذَا يَعْرِفُهُ كُلُّ أَحَدٍ يَعْقِلُ لَفْظَةَ "رَسُولِ" فَإِنَّ الرَّسُولَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُرْسِلٍ بِرِسَالَاتِهِ, فَالْمُرْسِلُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَالرِّسَالَةُ هِيَ الْقُرْآنُ وَالْمُرْسَلُ مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْمُبَلِّغُ رِسَالَةَ رَبِّهِ. وَقَالَ أَنَسٌ: بَعَثَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَالَهُ حَرَامًا إِلَى قَوْمِهِ, وَقَالَ أَتُؤَمِّنُونِي أُبَلِّغُ رِسَالَةَ رَسُولِ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَجَعَلَ يُحَدِّثُهُمْ1. وَقَالَ الْمُغِيرَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَخْبَرَنَا نَبِيُّنَا عَنْ رِسَالَةِ رَبِّنَا أَنَّهُ مَنْ قُتِلَ مِنَّا صَارَ إِلَى الْجَنَّةِ2. وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَتَمَ شَيْئًا مِنَ الْوَحْيِ فَلَا تُصَدِّقْهُ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} 3. وَفِي خُطْبَتِهِ فِي مَوْقِفِ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ قَالَ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّي فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟ قَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ" وَفِيهَا إِشَارَتُهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِيَدِهِ إِلَى السَّمَاءِ قَائِلًا: "اللَّهُمَّ
هَلْ بَلَّغْتُ؟ اللَّهُمَّ اشْهَدْ" قَالَهَا مِرَارًا1. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذَاتَ يَوْمٍ فَذَكَرَ الْغُلُولَ فَعَظَّمَهُ وَعَظَّمَ أَمْرَهُ ثُمَّ قَالَ: "لَا أَلْفَيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي, فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ. لَا أَلْفَيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ فَرَسٌ لَهُ حَمْحَمَةٌ فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي, فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ. لَا أَلْفَيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ شَاةٌ لَهَا ثُغَاءٌ يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي, فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ. لَا أَلْفَيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ نَفْسٌ لَهَا صِيَاحٌ فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي, فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ. لَا أَلْفَيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ رِقَاعٌ تَخْفُقُ فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي, فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ. لَا أَلْفَيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رقبته صامت يقول: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي, فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ2. وَكَانَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى الْقَبَائِلِ فِي الْمَوَاسِمِ وَيَقُولُ: "إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ وَآتِيكُمْ لِتَمْنَعُونِي حَتَّى أُبَلِّغَ رِسَالَةَ رَبِّي" 3 وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ, يُخْبِرُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ مُخْبِرٌ عَنِ اللَّهِ, وَمُبَلِّغُ رِسَالَتِهِ, وَأَنَّ مَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ وَأَخْبَرَ بِهِ هُوَ تَبْلِيغٌ لِأَمْرِ اللَّهِ وَنَهْيِهِ وَخَبَرِهِ, وَأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ شَيْئًا مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ, فَيَقُولُ: هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ, وَمَنِ اعْتَقَدَ ذَلِكَ فَهُوَ كَافِرٌ مِنْ حِزْبِ أَبِي جَهْلٍ وَالْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَمَلَئِهِمْ, قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ، لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ، فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ، وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ، وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ، وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ، وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ، فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الْحَاقَّةِ: 44-52] .
"لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ" كَمَا يَقُولُ الزَّنَادِقَةُ مِنَ الْحُلُولِيَّةِ وَالِاتِّحَادِيَّةِ وَالْجَهْمِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ, تَعَالَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ أَنْ يَكُونَ شَيْئًا مِنْ صِفَاتِهِ مَخْلُوقًا, قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [الشُّورَى: 52] وَقَالَ تَعَالَى: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الْأَعْرَافِ: 54] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 83] فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ الْخَلْقَ غَيْرُ الْأَمْرِ وَأَنَّ الْقُرْآنَ مِنْ أَمْرِهِ لَا مِنْ خَلْقِهِ وَقَالَ: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النَّحْلِ: 40] فَكُنْ مِنْ كَلَامِهِ الَّذِي هُوَ صِفَتُهُ لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ, وَالشَّيْءُ الْمُرَادُ الْمَقُولُ لَهُ "كُنْ" مَخْلُوقٌ, وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آلِ عِمْرَانَ: 9] فَعِيسَى وَآدَمُ مخلوقان بكن و"كن" قَوْلُ اللَّهِ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ, وَلَيْسَ الشَّيْءُ الْمَخْلُوقُ هُوَ كُنْ, وَلَكِنَّهُ كَانَ بِقَوْلِ اللَّهِ لَهُ كُنْ. وَقَدِ انْعَقَدَ إِجْمَاعُ سَلَفِ الْأُمَّةِ الَّذِينَ قَضَوْا بِالْحَقِّ وَبِهِ كَانُوا يَعْدِلُونَ عَلَى تَكْفِيرِ مَنْ قَالَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو قَوْلُهُ مِنْ إِحْدَى ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ يَقُولَ إِنَّهُ خَلَقَهُ فِي ذَاتِهِ, أَوْ فِي غَيْرِهِ, أَوْ مُنْفَصِلًا مُسْتَقِلًّا, وَكُلُّ الثَّلَاثِ كُفْرٌ صَرِيحٌ؛ لِأَنَّهُ إِنْ قَالَ خَلَقَهُ فِي ذَاتِهِ فَقَدْ جَعَلَ ذَاتَهُ مَحَلًّا لِلْمَخْلُوقَاتِ. وَإِنْ قَالَ إِنَّهُ خَلَقَهُ فِي غَيْرِهِ فَهُوَ كَلَامُ ذَلِكَ الْغَيْرِ فَيَكُونُ الْقُرْآنُ عَلَى هَذَا كَلَامَ كُلِّ تَالٍ لَهُ وَهَذَا قَوْلُ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ فِيمَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُ حَيْثُ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ، فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ، ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ، ثُمَّ نَظَرَ، ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ، ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ، فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ، إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ، سَأُصْلِيهِ سَقَرَ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ، لَا تُبْقَى وَلَا تَذَرُ، لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ} [الْمُدَّثِّرِ: 18-29] الْآيَاتِ. وَإِنْ قَالَ إِنَّهُ خَلَقَهُ مُنْفَصِلًا مُسْتَقِلًّا فَهَذَا جُحُودٌ لِوُجُودِهِ مُطْلَقًا إِذْ لَا يُعْقَلُ وَلَا يُتَصَوَّرُ كَلَامٌ يَقُومُ بِذَاتِهِ بِدُونِ مُتَكَلِّمٍ, كَمَا لَا يُعْقَلُ سَمْعٌ بِدُونِ سَمِيعٍ وَلَا بَصَرٌ بِدُونِ بَصِيرٍ وَلَا عِلْمٌ بِدُونِ عَالِمٍ وَلَا إِرَادَةٌ بِدُونِ مُرِيدٍ وَلَا حَيَاةٌ بِدُونِ حَيٍّ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ, تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ وَالْجَاحِدُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا, فَهَذِهِ الثَّلَاثُ لَا خُرُوجَ لِزِنْدِيقٍ مِنْهَا وَلَا جَوَابَ لَهُ عَنْهَا فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ, وَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ
أصل القول بخلق القرآن
الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. أَصْلُ الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ: وَأَوَّلُ مَا اشْتَهَرَ الْقَوْلُ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ فِي آخِرِ عَصْرِ التَّابِعِينَ لَمَّا ظَهَرَ جَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ1. شَقِيقُ إِبْلِيسَ لَعَنَهُمَا اللَّهُ وَكَانَ مُلْحِدًا عَنِيدًا وَزِنْدِيقًا زَائِغًا مُبْتَغِيًا غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يُثْبِتْ أَنَّ فِي السَّمَاءِ رَبًّا وَلَا يَصِفُ اللَّهَ تَعَالَى بِشَيْءٍ مِمَّا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ, وَيَنْتَهِي قَوْلُهُ إِلَى جُحُودِ الْخَالِقِ عَزَّ وَجَلَّ. تَرَكَ الصَّلَاةَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا يَزْعُمُ يَرْتَادُ دِينًا وَلَمَّا ناظره بعض السمنية! فِي مَعْبُودِهِ قَالَ قَبَّحَهُ اللَّهُ: هُوَ هَذَا الْهَوَاءُ فِي كُلِّ مَكَانٍ, وَافْتَتَحَ مَرَّةً سُورَةَ طه فَلَمَّا أَتَى عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] قَالَ: لَوْ وَجَدْتُ السَّبِيلَ إِلَى حَكِّهَا لَحَكَكْتُهَا, ثُمَّ قَرَأَ حَتَّى أَتَى عَلَى آيَةٍ أُخْرَى فَقَالَ: مَا كَانَ أَظْرَفَ مُحَمَّدًا حِينَ قَالَهَا, ثُمَّ افْتَتَحَ سُورَةَ الْقَصَصِ فَلَمَّا أَتَى عَلَى ذِكْرِ مُوسَى جَمَعَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ ثُمَّ رَفَعَ الْمُصْحَفَ ثُمَّ قَالَ: أَيُّ شَيْءٍ هذا ذكره ههنا فَلَمْ يُتِمَّ ذكره, وذكره ههنا فَلَمْ يُتِمَّ ذِكْرَهُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ غَيْرُ هَذَا مِنَ الْكُفْرِيَّاتِ, وَهُوَ أَذَلُّ وَأَحْقَرُ مِنْ أَنْ نَشْتَغِلَ بِتَرْجَمَتِهِ. وَقَدْ يَسَّرَ اللَّهُ تَعَالَى ذَبْحَهُ عَلَى يَدِ سَالِمِ بْنِ أَحْوَزَ بَأَصْبَهَانَ وَقِيلَ بِمَرْوَ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ نَائِبُهَا رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَجَزَاهُ عَنِ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا. وَقَدْ تَلَقَّى هَذَا الْقَوْلَ عَنِ الْجَعْدِ بْنِ دِرْهَمٍ2 لَكِنَّهُ لَمْ يَشْتَهِرْ فِي أَيَّامِ الْجَعْدِ كَمَا اشْتَهَرَ عَنِ الْجَهْمِ, فَإِنَّ الْجَعْدَ لَمَّا أَظْهَرَ الْقَوْلَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ تَطَلَّبَهُ بَنُو أُمَيَّةَ فَهَرَبَ مِنْهُمْ فَسَكَنَ الْكُوفَةَ فَلَقِيَهُ فِيهَا الْجَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ فَتَقَلَّدَ هَذَا الْقَوْلَ عَنْهُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كَثِيرُ أَتْبَاعٍ غَيْرُهُ, ثُمَّ يَسَّرَ اللَّهُ تَعَالَى قَتْلَ الْجَعْدِ عَلَى يَدِ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيِّ الْأَمِيرِ, قَتَلَهُ يَوْمَ عِيدِ الْأَضْحَى بِالْكُوفَةِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ خَالِدًا خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ تِلْكَ: أَيُّهَا النَّاسُ ضَحُّوا تَقَبَّلَ اللَّهُ ضَحَايَاكُمْ, فَإِنِّي مُضَحٍّ
بِالْجَعْدِ بْنِ دِرْهَمٍ, إِنَّهُ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَّخِذْ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا وَلَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا, تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُهُ الْجَعْدُ عُلُوًّا كَبِيرًا. ثُمَّ نَزَلَ فَذَبَحَهُ فِي أَصْلِ الْمِنْبَرِ, رَوَى ذَلِكَ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِهِ خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ1، وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ لَهُ وَغَيْرُهُمَا, وَهُوَ مَشْهُورٌ فِي كُتُبِ التَّوَارِيخِ, وَذَلِكَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ. وَقَدْ أَخَذَ الْجَعْدُ بِدْعَتَهُ هَذِهِ عَنْ بَيَانِ بْنِ سَمْعَانَ, وَأَخَذَهَا بيان عن طالون ابْنِ أُخْتِ لَبِيدِ بْنِ الْأَعْصَمِ, وَأَخَذَهَا طَالُوتُ عَنْ خَالِهِ لَبِيدِ بْنِ الْأَعْصَمِ الْيَهُودِيِّ الَّذِي سَحَرَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ سُورَةَ الْمُعَوِّذَتَيْنِ2. ثُمَّ تَقَلَّدَ هَذَا الْمَذْهَبَ الْمَخْذُولَ عَنِ الْجَهْمِ بِشْرُ بْنُ غِيَاثِ بْنِ أَبِي كَرِيمَةَ الْمِرِّيسِيُّ الْمُتَكَلِّمُ3، شَيْخُ الْمُعْتَزِلَةِ وَأَحَدُ مَنْ أَضَلَّ الْمَأْمُونَ وَجَدَّدَ الْقَوْلَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ, وَيُقَالُ إِنَّ أَبَاهُ كَانَ يَهُودِيًّا صَبَّاغًا بِالْكُوفَةِ, وروى عنه أقاول شَنِيعَةٌ فِي الدِّينِ مِنَ التَّجَهُّمِ وَغَيْرِهِ مَاتَ سَنَةَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ. ثُمَّ تَقَلَّدَ عَنْ بِشْرٍ ذَلِكَ الْمَذْهَبَ الْمَلْعُونَ قَاضِي الْمِحْنَةِ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي دُوَادَ4 وَأَعْلَنَ بِمَذْهَبِ الْجَهْمِيَّةِ وَحَمَلَ السُّلْطَانَ عَلَى امْتِحَانِ النَّاسِ بِالْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ وَعَلَى أَنَّ اللَّهَ لَا يُرَى فِي الْآخِرَةِ, وَكَانَ بِسَبَبِهِ مَا كَانَ عَلَى أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ مِنَ الْحَبْسِ وَالضَّرْبِ وَالْقَتْلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ, وَقَدِ ابْتَلَاهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْفَالِجِ قَبْلَ مَوْتِهِ بِأَرْبَعِ سِنِينَ حَتَّى أَهْلَكَهُ اللَّهُ تَعَالَى سَنَةَ أَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ. وَمَنْ أَرَادَ الِاطِّلَاعَ عَلَى ذَلِكَ وَتَفَاصِيلِهِ فَلْيَقْرَأْ كُتُبَ التَّوَارِيخِ يَرَ الْعَجَبَ.
ما قاله أئمة السنة في مسألة القرآن وحكم الجهمية
ذِكْرُ مَا قَالَهُ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ فِي مَسْأَلَةِ الْقُرْآنِ وَحُكْمِ الْجَهْمِيَّةِ: قَالَ إِمَامُ السُّنَّةِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: مَنْ قَالَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ فَهُوَ عِنْدَنَا كَافِرٌ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ وَفِيهِ أَسْمَاءُ اللَّهِ, وَقَالَ: إِذَا قَالَ الرَّجُلُ الْعِلْمُ مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ؛ لِأَنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِلَّهِ عِلْمٌ حَتَّى خَلَقَهُ, وَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: مَنْ قَالَ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ فَهُوَ عِنْدَنَا كَافِرٌ لِأَنَّ الْقُرْآنَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} [آلِ عِمْرَانَ: 61] وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [الْبَقَرَةِ: 120] وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتِ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [الْبَقَرَةِ: 145] وَقَالَ تَعَالَى: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ} [هُودٍ: 17] قَالَ أَحْمَدُ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: وَالْأَحْزَابُ الْمِلَلُ كُلُّهَا: {فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يَنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ} [الرَّعْدِ: 36] وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ} [الرَّعْدِ: 37] وَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: مَنْ قَالَ ذَاكَ الْقَوْلَ لَا يُصَلَّى خَلْفَهُ الْجُمُعَةُ وَلَا غَيْرُهَا, فَإِنْ صَلَّى خَلْفَهُ أَعَادَ الصَّلَاةَ. يَعْنِي مَنْ قَالَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ, وَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: إِذَا كَانَ الْقَاضِي جَهْمِيًّا فَلَا تَشْهَدْ عِنْدَهُ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ: الْجَهْمِيَّةُ كُفَّارٌ وَالْقَدَرِيَّةُ كفار. وقال سليمان التَّيْمِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: لَيْسَ قَوْمٌ أَشَدَّ بُغْضًا لِلْإِسْلَامِ مَنِ الْجَهْمِيَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ, فَأَمَّا الْجَهْمِيَّةُ فَقَدْ بَارَزُوا اللَّهَ. وَأَمَّا الْقَدَرِيَّةُ فَإِنَّهُمْ قَالُوا فِي اللَّهِ, وَقَالَ سَلَّامُ بْنُ أَبِي مُطِيعٍ: الْجَهْمِيَّةُ كُفَّارٌ لَا يُصَلَّى خَلْفَهُمْ, وَقَالَ خَارِجَةُ: الْجَهْمِيَّةُ كُفَّارٌ بَلِّغُوا نِسَاءَهُمْ أَنَّهُنَّ طَوَالِقُ وَأَنَّهُنَّ لَا يَحْلِلْنَ لِأَزْوَاجِهِنَّ. لَا تَعُودُوا مَرْضَاهُمْ وَلَا تَشْهَدُوا جَنَائِزَهُمْ. ثُمَّ تَلَا: {طه، مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى، إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى} إِلَى قَوْلِهِ: {الرَّحْمَنُ عَلَى
اللفظية جهمية، وهم الذين يقولون: لفظي بالقرآن مخلوق
الْعَرْشِ اسْتَوَى} وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: مَنْ قَالَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ يُوجَعُ ضَرْبًا وَيُحْبَسُ حَتَّى يَتُوبَ. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: مَنْ زَعَمَ أَنَّ قَوْلَ اللَّهِ: {يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ زِنْدِيقٌ حَلَالُ الدَّمِ, وَقَالَ أَيْضًا: مَنْ قَالَ إِنَّ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ} مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ, وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ الْقَاضِي: صِنْفَانِ مَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ شَرٌّ مِنْهُمَا الْجَهْمِيَّةُ وَالْمُقَاتِلِيَّةُ. قُلْتُ: وَأَظُنُّهُ يَعْنِي بِالْمُقَاتِلِيَّةِ أَتْبَاعَ مُقَاتِلِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْبَلْخِيِّ فَإِنَّهُ رَمَاهُ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ بِالتَّشْبِيهِ, فَإِنَّهُ قَالَ أَفْرَطَ جَهْمٌ فِي نَفْيِ التَّشْبِيهِ حَتَّى قَالَ إِنَّهُ تَعَالَى لَيْسَ بِشَيْءٍ, وَأَفْرَطَ مُقَاتِلٌ فِي مَعْنَى الْإِثْبَاتِ حَتَّى جَعَلَهُ مِثْلَ خَلْقِهِ, وَتَابَعَ أَبَا حَنِيفَةَ عَلَى ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ مِنْ أَقْرَانِهِ كَأَبِي يُوسُفَ وَغَيْرِهِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ حَتَّى قَالَ ابْنُ حِبَّانَ: كَانَ يَأْخُذُ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ عِلْمِ الْقُرْآنِ الَّذِي يُوَافِقُ كُتُبَهُمْ, وَكَانَ يُشَبِّهُ الرَّبَّ بِالْمَخْلُوقِ, وَكَذَّبَهُ وَكِيعٌ وَغَيْرُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَالِهِ, قَالَ وَكِيعٌ: مَاتَ مُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ سَنَةَ خَمْسِينَ وَمِائَةٍ ا. هـ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: الْجَهْمِيَّةُ كُفَّارٌ وَقَالَ: لَيْسَ تَعَبُّدُ الْجَهْمِيَّةِ شَيْئًا. وَقَالَ: مَنْ قال القرآن المخلوق فَهُوَ زِنْدِيقٌ, وَقَالَ: إِنَّا نَسْتَجِيزُ أَنْ نَحْكِيَ كَلَامَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَلَا نَسْتَجِيزُ أَنْ نَحْكِيَ كَلَامَ الْجَهْمِيَّةِ. وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ, مَنْ قَالَ مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ وَمَنْ شَكَّ فِي كُفْرِهِ فَهُوَ كَافِرٌ, وَقَالَ: مَنْ قَالَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ يَحْتَاجُ أَنْ يُصْلَبَ عَلَى ذياب, يعني جبل, وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَدْ سُئِلَ, مَا تَقُولُ فِي الْجَهْمِيَّةِ يُصَلَّى خَلْفَهُمْ؟ فَقَالَ: أَمُسْلِمُونَ هَؤُلَاءِ, أَمُسْلِمُونَ هَؤُلَاءِ؟ لَا وَلَا كَرَامَةَ لَا يُصَلَّى خَلْفَهُمْ. وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ إِنَّ قِبَلَنَا نَاسًا يَقُولُونَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ, فَقَالَ مِنَ الْيَهُودِ؟ قَالَ: لَا قَالَ: فَمِنَ النَّصَارَى قَالَ: لَا قَالَ: فَمِنَ الْمَجُوسِ قَالَ: لَا قَالَ: فَمَنْ؟ قَالَ: مِنَ الْمُوَحِّدِينَ. قَالَ: كَذَبُوا لَيْسَ هَؤُلَاءِ بِمُوَحِّدِينَ هَؤُلَاءِ زَنَادِقَةٌ هَؤُلَاءِ زَنَادِقَةٌ. وَقَرَأَ ابْنُ إِدْرِيسَ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فَقَالَ: اللَّهُ مَخْلُوقٌ؟ وَالرَّحْمَنُ مَخْلُوقٌ؟ وَالرَّحِيمُ مَخْلُوقٌ؟ هَؤُلَاءِ زَنَادِقَةٌ. وَسُئِلَ عَنْ قَوْمٍ يَقُولُونَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ, فَاسْتَشْنَعَ ذَلِكَ وَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ شَيْءٌ مِنْهُ مَخْلُوقٌ. وَقَالَ وَكِيعٌ فَإِنِّي أَسْتَتِيبُهُ فَإِنْ تَابَ
وَإِلَّا قَتَلْتُهُ وَقَالَ: مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ فَقَدْ زَعَمَ أَنَّهُ مُحْدَثٌ, وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ مُحْدَثٌ فَقَدْ كَفَرَ, وَقِيلَ لَهُ: إِنَّ فُلَانًا يَقُولُ إِنَّ الْقُرْآنَ مُحْدَثٌ. فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ هَذَا الْكُفْرُ. قَالَ السُّوَيْدِيُّ: وَسَأَلْتُ وَكِيعًا عَنِ الصَّلَاةِ خَلْفَ الْجَهْمِيَّةِ, فَقَالَ: لَا تُصَلِّ خَلْفَهُمْ. وَقَالَ: مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ فَقَدْ زَعَمَ أَنَّهُ مُحْدَثٌ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا ضُرِبَتْ عُنُقُهُ, وَقَالَ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ: اخْتَصَمْتُ أَنَا وَمُثَنَّى فَقَالَ مُثَنَّى: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ, وَقُلْتُ أَنَا: كَلَامُ اللَّهِ, فَقَالَ: وَكِيعٌ وَأَنَا أَسْمَعُ: هَذَا كُفْرٌ وَقَالَ: مَنْ قَالَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ هَذَا كُفْرٌ. فَقَالَ مُثَنَّى: يَا أَبَا سُفْيَانَ قَالَ اللَّهُ: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} [الأنبياء: 2] فَأَيْشِ هَذَا؟ فَقَالَ وَكِيعٌ: مَنْ قَالَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ هَذَا كُفْرٌ, وَقَالَ: مَنْ قَالَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ, وَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ جِبْرِيلُ عَلَى مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-, كُلُّ صَاحِبِ هَوًى يَعْرِفُ اللَّهَ وَيَعْرِفُ مَنْ يَعْبُدُ, إِلَّا الْجَهْمِيَّةَ لَا يَدْرُونَ مَنْ يَعْبُدُونَ, بِشْرٌ الْمِرِّيسِيُّ وَأَصْحَابُهُ. وَقِيلَ لِوَكِيعٍ فِي ذَبَائِحِ الْجَهْمِيَّةِ قَالَ: لَا تُوكَلُ هُمْ مُرْتَدُّونَ. وَقَالَ: مَنْ قَالَ إِنَّ كَلَامَهُ لَيْسَ مِنْهُ فَقَدْ كَفَرَ, وَقَالَ: مَنْ قَالَ إِنَّ مِنْهُ شَيْئًا مَخْلُوقًا فَقَدْ كَفَرَ. وَقَالَ فِطْرُ بْنُ حَمَّادٍ سَأَلْتُ مُعْتَمِرَ بْنَ سُلَيْمَانَ فَقُلْتُ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ إِمَامٌ لِقَوْمٍ يَقُولُ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ أُصَلِّي خَلْفَهُ؟ فَقَالَ: يَنْبَغِي أَنْ تَضْرِبَ عُنُقَهُ. قَالَ فِطْرٌ: وَسَأَلْتُ حَمَّادَ بْنَ زَيْدٍ فَقُلْتُ: يَا أَبَا إِسْمَاعِيلَ إِمَامٌ لَنَا يَقُولُ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ أُصَلِّي خَلْفَهُ؟ فَقَالَ: صَلِّ خَلْفَ مُسْلِمٍ أَحَبُّ إِلَيَّ. وَسَأَلْتُ يَزِيدَ بْنَ زُرَيْعٍ فَقُلْتُ: يَا أَبَا مُعَاوِيَةَ إِمَامٌ لِقَوْمٍ يَقُولُ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ أُصَلِّي خَلْفَهُ؟ قَالَ: لَا وَلَا كَرَامَةَ, وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ: مَنْ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا ضُرِبَتْ عُنُقُهُ, وَقَالَ مَرَّةً: لَا أَرَى أَنْ أَسْتَتِيبَ الْجَهْمِيَّةَ. وَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَوْ كَانَ لِي مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ لَقُمْتُ عَلَى الْجِسْرِ فَلَا يَمُرُّ بِي أَحَدٌ مِنَ الْجَهْمِيَّةِ إِلَّا سَأَلْتُهُ عَنِ الْقُرْآنِ فَإِنْ قَالَ مَخْلُوقٌ ضَرَبْتُ رَأْسَهُ وَرَمَيْتُ بِهِ فِي الْمَاءِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْأَسْوَدِ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا جَهْمِيًّا مَاتَ وَأَنَا وَارِثُهُ مَا اسْتَحْلَلْتُ أَنْ آخُذَ مِنْ مِيرَاثِهِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ الْقَاضِي: جِيئُونِي بِشَاهِدَيْنِ يَشْهَدَانِ عَلَى الْمِرِّيسِيِّ, وَاللَّهِ لَأَمْلَأَنَّ ظَهْرَهُ وَبَطْنَهُ بِالسِّيَاطِ, يَقُولُ فِي الْقُرْآنِ, يَعْنِي مَخْلُوقٌ. وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ وَذَكَرَ الْجَهْمِيَّةَ فَقَالَ: هُمْ وَاللَّهِ زَنَادِقَةٌ, عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ. وَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَاللَّهِ الَّذِي لَا
إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ مَنْ قَالَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ فَهُوَ زِنْدِيقٌ. وَسُئِلَ عَنِ الصَّلَاةِ خَلْفَهُمْ قَالَ: لَا, وَقَالَ مُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ: مَنْ قَالَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ. وَقَالَ شَبَابَةُ بْنُ سَوَّارٍ: اجْتَمَعَ رَأْيِي وَرَأْيُ أَبِي النَّضْرِ هَاشِمِ بْنِ الْقَاسِمِ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الْمِرِّيسِيَّ كَافِرٌ جَاحِدٌ نَرَى أَنْ يُسْتَتَابَ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا ضُرِبَتْ عُنُقُهُ. وَكَانَ أَبُو تَوْبَةَ الْحَلَبِيُّ وَنُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ مَهْدِيٍّ يُكَفِّرُونَ الْجَهْمِيَّةَ. وَقَالَ بِشْرُ بْنُ الْحَارِثِ: لَا تُجَالِسُوهُمْ وَلَا تُكَلِّمُوهُمْ, وَإِنْ مَرِضُوا فَلَا تَعُودُوهُمْ وَإِنْ مَاتُوا فَلَا تَشْهَدُوهُمْ كَيْفَ يَرْجِعُونَ وَأَنْتُمْ تَفْعَلُونَ بِهِمْ هَذَا؟ قَالَ يَعْنِي الْجَهْمِيَّةَ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ: مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ. وَقَالَ أَبُو الْأَسْوَدِ النَّضْرُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ, مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ. هَذَا كَلَامُ الزَّنَادِقَةِ. وَقَالَ عَبَّادُ بْنُ العوام: كلمت بشر الْمِرِّيسِيَّ وَأَصْحَابَهُ فَرَأَيْتُ آخِرَ كَلَامِهِمْ يَنْتَهِي أَنْ يَقُولُوا: لَيْسَ فِي السَّمَاءِ شَيْءٌ. وَقَالَ عَمْرُو بْنُ الرَّبِيعِ بْنِ طَارِقٍ: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ. وَقَالَ هَارُونُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ: بَلَغَنِي أَنَّ بِشْرًا الْمِرِّيسِيَّ يَزْعُمُ أَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ, لِلَّهِ عَلَيَّ, إِنْ أَظْفَرَنِي اللَّهُ بِهِ إِلَّا قَتَلْتُهُ قِتْلَةً مَا قَتَلْتُهَا أَحَدًا قَطُّ. وَقَالَ هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ: مَنْ قَالَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ فَهُوَ يَعْبُدُ صَنَمًا. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: مَنْ قَالَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ. وَقَالَ رَجُلٌ لِهُشَيْمٍ: إِنَّ فُلَانًا يَقُولُ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ. فَقَالَ: اذْهَبْ إِلَيْهِ فَاقْرَأْ عَلَيْهِ أَوَّلَ الْحَدِيدِ وَآخِرَ الْحَشْرِ, فَإِنْ زَعَمَ أَنَّهُمَا مَخْلُوقَانِ فَاضْرِبْ عُنُقَهُ. وَقَالَ أَبُو هَاشِمٍ الْغَسَّانِيُّ مِثْلَهُ: وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: مَنْ قَالَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ فَقَدِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ, وَقَالَ عَلَيْهِ مَا لَمْ تَقُلْهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ الْبُهْلُولِ لِأَنَسِ بْنِ عِيَاضٍ أَبِي ضَمْرَةَ: أُصَلِّي خَلْفَ الْجَهْمِيَّةِ؟ قَالَ: لَا {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آلِ عِمْرَانَ: 85] وَسُئِلَ عِيسَى بْنُ يُونُسَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَمَّنْ يَقُولُ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ فَقَالَ: كَافِرٌ أَوْ كَفَرَ, فَقِيلَ لَهُ: تُكَفِّرُهُمْ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ؟ قَالَ: إِنَّ هَذَا مِنْ أَيْسَرِ أَوْ أَحْسَنِ مَا يُظْهِرُونَ. وَكَانَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يُعِيدُ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ مُذْ أَظْهَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ هَارُونَ الْمَأْمُونُ مَا أَظْهَرَ, يَعْنِي الْقَوْلَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ. وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَشْكَابَ وَعَاصِمُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَاصِمٍ وَهَارُونُ
الْفَرْوِيُّ وَعَبْدُ الْوَهَّابِ الْوَرَّاقُ وَسُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ وَلَيْسَ بِمَخْلُوقٍ. وَسُئِلَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنِ الْقُرْآنِ فَقَالَ: لَيْسَ بِخَالِقٍ وَلَا مَخْلُوقٍ, وَلَكِنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِيهِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ أَنَّهُ قَالَ فِي الْقُرْآنِ: لَيْسَ بِخَالِقٍ وَلَا مَخْلُوقٍ, وَلَكِنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: سَأَلْتُ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ عَنِ الْقُرْآنِ فَقَالَ: كِتَابُ اللَّهِ وَكَلَامُهُ. وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ وَسَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْجُمَحِيِّ وَوَهْبِ بْنِ جَرِيرٍ وَأَبِي النَّضْرِ هَاشِمِ ابن الْقَاسِمِ وَسُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ قَالُوا: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ. وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: لَا نُحْسِنُ غَيْرَ هَذَا الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} , {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ} وَقَالَ الْإِمَامُ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ بِالْمَدِينَةِ, وَذَكَرُوا الْقُرْآنَ فَقَالُوا: كَلَامُ اللَّهِ وَهُوَ مِنْهُ وَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ شَيْءٌ مَخْلُوقٌ. وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ جِبْرِيلُ مِنْ عِنْدِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ: مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ فَقَدِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ. وَقَالَ وَكِيعٌ: الْقُرْآنُ مِنَ اللَّهِ مِنْهُ خَرَجَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: كَيْفَ يَصْنَعُونَ بَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ, كَيْفَ يَصْنَعُونَ بِهَذِهِ الْآيَةِ {إِنِّي أَنَا اللَّهُ} يَكُونُ مَخْلُوقًا؟ وَقَالَ وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ الْوَاسِطِيُّ وَابْنُ أَبِي إِدْرِيسَ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَخُوهُ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَبُو عُمَرَ الشَّيْبَانِيُّ وَيَحْيَى ابن أَيُّوبَ وَأَبُو الْوَلِيدِ وَحَجَّاجٌ الْأَنْمَاطِيُّ، وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، وَأَبُو خَيْثَمَةَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ أَبِي إِسْرَائِيلَ، وَأَبُو مَعْمَرٍ: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ. وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو الشَّيْبَانِيُّ لِإِسْمَاعِيلَ بْنِ حَمَّادِ بْنِ أَبِي حَنِيفَةَ -وَقَالَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ- فَقَالَ الشَّيْبَانِيُّ: خَلَقَهُ قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ به أو بعدما تَكَلَّمَ بِهِ؟ قَالَ: فَسَكَتَ. وَقَالَ حَسَنُ بْنُ مُوسَى الْأَشْيَبُ: أَعُوذُ بِاللَّهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فَقَالَ حَسَنٌ: مَخْلُوقٌ هَذَا؟ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ لُوَيْنٌ: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ, مَا رَأَيْتُ أَحَدًا يَقُولُ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ, أَعُوذُ بِاللَّهِ ا. هـ. مِنْ كِتَابِ السُّنَّةِ1.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي وَصِيَّتِهِ: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. وَقَالَ عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ - لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ - قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} أَمَخْلُوقٌ هَذَا؟ أَدْرَكْتُ شُعْبَةَ وَحَمَّادَ بْنَ سَلَمَةَ وَأَصْحَابَ الْحَسَنِ يَقُولُونَ: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ لَيْسَ مَخْلُوقًا. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى: مَنْ زَعَمَ أَنَّ مِنَ الْقُرْآنِ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ آيَةً مَخْلُوقَةً فَهُوَ كَافِرٌ. وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ, فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: أَلَيْسَ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} فَقَالَ: مُحْدَثٌ إِلَيْنَا, وَلَيْسَ عِنْدَ اللَّهِ بِمُحْدَثٍ. وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَيْسَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ اخْتِلَافٌ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ, فَكَيْفَ يَكُونُ شَيْءٌ خَرَجَ مِنَ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ مَخْلُوقًا؟. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النُّفَيْلِيُّ: مَنْ قَالَ: إِنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ, فَقِيلَ لَهُ: يَا أَبَا جَعْفَرٍ الْكُفْرُ كُفْرَانِ: كُفْرُ نِعْمَةٍ وَكُفْرٌ بِالرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ, قَالَ: لَا, بَلْ كُفْرٌ بِالرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ, مَا تَقُولُ فِيمَنْ يَقُولُ {اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ} مَخْلُوقٌ أَلَيْسَ كَافِرًا هُوَ؟. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعَيْشِيُّ: يَسْتَحِيلُ فِي صِفَةِ الْحَكِيمِ أَنْ يَخْلُقَ كَلَامًا يَدَّعِي الرُّبُوبِيَّةَ, يَعْنِي قَوْلَهُ تَعَالَى: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ} وَقَوْلَهُ: {أَنَا رَبُّكَ} . قُلْتُ: وَالْمُعْتَزِلَةُ يَقُولُونَ: إِنَّ كَلَامَ اللَّهِ لِمُوسَى خَلَقَهُ فِي الشَّجَرَةِ, فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الشَّجَرَةُ هِيَ الْقَائِلَةُ: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} قَبَّحَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ: الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ, وَالْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ بِجَمِيعِ صِفَاتِهِ وَحَيْثُ تَصَرَّفَ. وَأَمَّا كَلَامُ الْبُخَارِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَمَتَانَتُهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَأَشْهَرُ مِنْ أَنْ يَحْتَاجَ إِلَى تَعْرِيفٍ, وَلَهُ فِي ذَلِكَ "كِتَابُ خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ" وَقَدْ بَوَّبَ فِي صَحِيحِهِ عَلَى جُمْلَةٍ وَافِيَةٍ تَدُلُّ عَلَى غَزَارَةِ عِلْمِهِ وَجَلَالَةِ شَأْنِهِ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ وَأَبُو زُرْعَةَ: أَدْرَكْنَا الْعُلَمَاءَ فِي جَمِيعِ الْأَمْصَارِ فكان من مذاهبم أَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ وَالْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ بِجَمِيعِ جِهَاتِهِ, وَالْقَدَرُ خَيْرُهُ وَشَرُّهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى, وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى
عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ بِلَا كَيْفٍ, أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا, لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ أَسْلَمَ الطُوسِيُّ: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ أَيْنَمَا تُلِيَ وَحَيْثُمَا كُتِبَ لَا يَتَغَيَّرُ وَلَا يَتَحَوَّلُ وَلَا يَتَبَدَّلُ ا. هـ. مِنَ الْعُلُوِّ لِلذَّهَبِيِّ1. وَقَالَ إِمَامُ الْأَئِمَّةِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ بَعْدَ تَبْوِيبِهِ عَلَى تَكْلِيمِ اللَّهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَتَكَلُّمِ اللَّهِ بِالْوَحْيِ وَصِفَةِ نُزُولِ الْوَحْيِ وَتَكْلِيمِ اللَّهِ عِبَادَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَتَقْرِيرِ الْبَحْثِ فِي ذَلِكَ, ثُمَّ قَالَ: بَابُ ذِكْرِ الْبَيَانِ فِي كِتَابِ رَبِّنَا الْمُنَزَّلِ عَلَى نَبِيِّهِ الْمُصْطَفَى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَمِنْ سُنَّةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ كَلَامِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الَّذِي بِهِ يَكُونُ خَلْقُهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ الَّذِي يَكُونُ بِكَلَامِهِ وَقَوْلِهِ, وَالدَّلِيلِ عَلَى نَبْذِ قَوْلِ الْجَهْمِيَّةِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى مَخْلُوقٌ, جَلَّ رَبُّنَا وَعَزَّ عَنْ ذَلِكَ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الْأَعْرَافِ: 54] فَفَرَّقَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ الَّذِي بِهِ يَخْلُقُ الْخَلْقَ بِوَاوِ الِاسْتِئْنَافِ وَأَعْلَمَنَا اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا فِي مُحْكَمِ تَنْزِيلِهِ أَنَّهُ يَخْلُقُ الْخَلْقَ بِكَلَامِهِ وَقَوْلِهِ: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النَّحْلِ: 40] فَأَعْلَمَنَا جَلَّ وَعَلَا أَنَّهُ يُكَوِّنُ كُلَّ مُكَوَّنٍ مِنْ خَلْقِهِ بِقَوْلِهِ كُنْ فَيَكُونُ وَقَوْلُهُ {كُنْ} هُوَ كَلَامُهُ الَّذِي بِهِ يَكُونُ الْخَلْقُ, وَكَلَامُهُ عَزَّ وَجَلَّ الَّذِي بِهِ يَكُونُ الْخَلْقُ غَيْرَ الْخَلْقِ, الَّذِي يَكُونُ مُكَوَّنًا بِكَلَامِهِ فَافْهَمْ وَلَا تَغْلَطْ وَلَا تُغَالِطْ, وَمَنْ عَقَلَ عَنِ اللَّهِ خِطَابَهُ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمَّا أَعْلَمَ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ بِقَوْلِهِ كُنْ أَنَّ الْقَوْلَ الَّذِي هُوَ كُنْ غَيْرُ الْمُكَوَّنِ بِكُنِ الْمَقُولِ لَهُ كُنْ, وَعَقَلَ عَنِ اللَّهِ أَنَّ قَوْلَهُ كُنْ لَوْ كَانَ خلقا على مَا زَعَمَتِ الْجَهْمِيَّةُ الْمُفْتَرِيَّةُ عَلَى اللَّهِ أَنَّهُ إِنَّمَا يَخْلُقُ الْخَلْقَ وَيُكَوِّنُهُ بِخَلْقٍ لَوْ كَانَ قَوْلُهُ كُنْ خَلْقًا, فَيُقَالُ لَهُمْ: يَا جَهَلَةُ, فَالْقَوْلُ الَّذِي يَكُونُ بِهِ الْخَلْقُ عَلَى زَعْمِكُمْ لَوْ كَانَ خَلْقًا بِمَ يَكُونُهُ؟ أَلَيْسَ قَوْدُ مَقَالَتِكُمُ الَّتِي تَزْعُمُونَ أَنَّ قَوْلَهُ كُنْ إِنَّمَا يَخْلُقُهُ بِقَوْلٍ قَبْلَهُ وَهُوَ عِنْدَكُمْ خَلَقُهُ وَذَلِكَ الْقَوْلُ
يَخْلُقُهُ بِقَوْلٍ قَبْلَهُ وَهُوَ خَلْقٌ حَتَّى يَصِيرَ إِلَى مَا لَا غَايَةَ لَهُ وَلَا عَدَدَ وَلَا أَوَّلَ, وَفِي هَذَا إِبْطَالِ تَكْوِينِ الْخَلْقِ وَإِنْشَاءِ الْبَرِّيَّةِ وَإِحْدَاثُ مَا لَمْ يَكُنْ قَبْلُ, بِحَدَثِ اللَّهِ الشَّيْءَ وَنَشْئِهِ1، وَهَذَا قَوْلٌ لَا يَتَوَهَّمُهُ ذُو لُبٍّ لَوْ تَفَكَّرَ فِيهِ وَوُفِّقَ لِإِدْرَاكِ الصَّوَابِ وَالرَّشَادِ, قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ} [الْأَعْرَافِ: 54] فَهَلْ يَتَوَهَّمُ مُسْلِمٌ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ ,بِخَلْقِهِ أَلَيْسَ مَفْهُومًا -عِنْدَ مَنْ يَعْقِلُ عَنِ اللَّهِ خِطَابَهُ- أَنَّ الْأَمْرَ الَّذِي سَخَّرَ بِهِ غَيْرُ الْمُسَخَّرِ بِالْأَمْرِ وَأَنَّ الْقَوْلَ غَيْرُ الْمَقُولِ لَهُ؟ فَتَفَهَّمُوا يَا ذَوِي الْحِجَا عَنِ اللَّهِ خِطَابَهُ, وَعَنِ النَّبِيِّ الْمُصْطَفَى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَيَانَهُ, لَا تَصُدُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ فَتَضِلُّوا كَمَا ضَلَّتِ الْجَهْمِيَّةُ عَلَيْهِمْ لِعَائِنُ اللَّهِ, فَاسْمَعُوا الْآنَ الدَّلِيلَ الْوَاضِحَ الْبَيِّنَ غَيْرَ الْمُشْكِلِ مِنْ سُنَّةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِنَقْلِ الْعَدْلِ عَنِ الْعَدْلِ مَوْصُولًا إِلَيْهِ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ خَلْقِ اللَّهِ وَبَيْنَ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى2. ثُمَّ سَاقَ الْأَحَادِيثَ فِي ذِكْرِ كَلِمَاتِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى حَدِيثِ: "أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ" 3, ثُمَّ قَالَ: أَفَلَيْسَ الْعِلْمُ مُحِيطًا يَا ذَوِي الْحِجَا أَنَّهُ غَيْرُ جائز أن يأمر النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالتَّعَوُّذِ بِخَلْقِ اللَّهِ مِنْ شَرِّ خَلْقِهِ, هَلْ سَمِعْتَ عَالِمًا يُجِيزُ أَنْ يَقُولَ أَعُوذُ بِالْكَعْبَةِ مِنْ شَرِّ خَلْقِ اللَّهِ, أَوْ يُجِيزُ أَنْ يَقُولَ أَعُوذُ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ أَوْ أعوذ بعرفات أو منى مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ اللَّهُ, هَذَا لَا يَقُولُهُ وَلَا يُجِيزُ الْقَوْلَ بِهِ مُسْلِمٌ يَعْرِفُ دِينَ اللَّهِ, مُحَالٌ أَنْ يَسْتَعِيذَ مُسْلِمٌ بِخَلْقِ اللَّهِ مِنْ شَرِّ خَلْقِهِ4. ثُمَّ سَاقَ بَحْثًا طَوِيلًا فَلْيُرَاجَعْ مِنْهُ. وَقَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ بْنُ خَازِمٍ الضَّرِيرُ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْكَلَامُ فِيهِ بِدْعَةٌ وَضَلَالَةٌ, مَا تَكَلَّمَ فِيهِ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلَا الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَلَا التَّابِعُونَ وَلَا الصَّالِحُونَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى. يَعْنِي قَوْلَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ. وَذُكِرَ عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ هُوَ الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ مَنْ يَقُولُ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ فَقَالَ: وَاللَّهِ وَاللَّهِ مَا سَمِعْتُ بِشَيْءٍ مِنْ هَذَا حَتَّى خَرَجَ ذَاكَ الْخَبِيثُ جَهْمٌ. وَكَلَامُ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ فِي هَذَا الْبَابِ يَطُولُ ذِكْرُهُ وَلَوْ أَرَدْنَا
اسْتِيعَابَهُ لَطَالَ الْفَصْلُ. وَقَدْ تَكَرَّرَ نَقْلُ الْإِجْمَاعِ مِنْهُمْ عَلَى إِثْبَاتِ مَا أَثْبَتَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - لِنَفْسِهِ، وَأَثْبَتَهُ رَسُولُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالصَّحَابَةُ فَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَنَفَى التَّكْيِيفَ عَنْهَا لَا سِيَّمَا فِي مَسْأَلَةِ الْعُلُوِّ، وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَسْأَلَةِ الْقُرْآنِ، وَتَكْلِيمِ اللَّهِ - تَعَالَى - مُوسَى ; لِأَنَّهَا أَوَّلُ مَا جَحَدَهُ الزَّنَادِقَةُ قَبَّحَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى. وَفِي ذِكْرِ مَنْ سَمَّيْنَا كِفَايَةٌ, وَمَنْ لَمْ نُسَمِّ مِنْهُمْ أَضْعَافُ ذَلِكَ, وَلَمْ يَخْتَلِفْ مِنْهُمُ اثْنَانِ فِي أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ, مِنَ اللَّهِ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ. وَتَقَلَّدُوا كُفْرَ مَنْ قَالَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ وَمَنَعُوا الصَّلَاةَ خَلْفَهُ وَأَفْتَوْا بِضَرْبِ عُنُقِهِ وَبِتَحْرِيمِ مِيرَاثِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَحَرَّمُوا ذَبِيحَتَهُ وَجَزَمُوا بِأَنَّهَا ذَبِيحَةُ مُرْتَدٍّ لَا تَحِلُّ لِلْمُسْلِمِينَ. فَانْظُرْ أَيُّهَا الْمُنْصِفُ أَقْوَالَهُمْ ثُمَّ اعْرِضْهَا عَلَى نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ هَلْ تَجِدُهُمْ حَادُوا عَنْهَا قِيدَ شِبْرٍ, أَوْ قَدَّمُوا عَلَيْهَا قَوْلَ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ كَائِنًا مَنْ كَانَ؟ حَاشَا وَكَلَّا وَمَعَاذَ اللَّهِ, بَلْ بِهَا اقْتَدَوْا وَمِنْهَا تَضَلَّعُوا, وَبِنُورِهَا اسْتَضَاءُوا وَإِيَّاهَا اتَّبَعُوا, فَهَدَاهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ لِمَا اخْتَلَفَتْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ, وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. هَذَا مَقَالُ الْمُؤْمِنِينَ جَمِيعِهِمْ ... وَعِصَابَةِ التَّوْحِيدِ أَعْلَامِ الْهُدَى الْكَاشِفِينَ عَوَارَ كُلِّ مشبه ... والقامعين لكل مَنْ قَدْ أَلْحَدَا زَنْ قَوْلَهُمْ بِالْوَحْيِ، وَانْظُرْ هَلْ تَرَى ... مَيْلًا لَهُمْ عَمَّا إِلَيْهِ أَرْشَدَا حَاشَاهُمُ عَنْ أَنْ يَمِيلُوا خُطْوَةً ... عَمَّا إِلَيْهِ اللَّهُ إِيَّاهُمْ هَدَى بَلْ أَثْبَتُوا لِلَّهِ مَا قَدْ أَثْبَتَتْ ... آيُ الْكِتَابِ وَكُلُّ نَصٍّ أُسْنِدَا ومن النفاة تبرءوا وَكَذَاكَ مِنْ ... قَوْلِ الْمُمَثِّلِ إِذْ تَغَالَى وَاعْتَدَى جَعَلُوا إِمَامَهُمُ الْكِتَابَ وَسُنَّةَ الْمُخْتَارِ يَا طُوبَى لِمَنْ بِهِمَا اهْتَدَى وَلِذَاكَ أَعْلَى اللَّهُ جَلَّ مَنَارَهُمْ ... وَالْمُلْحِدُونَ بِنَاءَهُمْ قَدْ هَدَّدَا وَأَتَمَّ نُورَهُمُ الْإِلَهُ وَغَيْرُهُمْ ... فِي ظُلْمَةٍ إِذْ لَمْ يَكُنْ بِهِمُ اقْتَدَى يَا رَبِّ أَلْحِقْنَا بِهِمْ وَاجْعَلْ لَنَا ... نُورًا نَمِيزُ بِهِ الضَّلَالَ مِنَ الْهُدَى وَقَضَى السَّلَفُ الصَّالِحُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الطَّائِفَةِ الْوَاقِفَةِ وَهُمُ الْقَائِلُونَ: لَا نَقُولُ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ وَلَا غَيْرُ مَخْلُوقٍ, بِأَنَّ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ يُحْسِنُ الْكَلَامَ فَهُوَ جَهْمِيٌّ وَمَنْ لَمْ يُحْسِنِ الْكَلَامَ مِنْهُمْ بَلْ عُلِمَ أَنَّهُ كَانَ جَاهِلًا جَهْلًا
عود إلى حديث النزول
بَسِيطًا فَهُوَ تُقَامُ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ بِالْبَيَانِ وَالْبُرْهَانِ, فَإِنْ تَابَ وَآمَنَ أَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى, وَإِلَّا فَهُوَ شَرٌّ مِنَ الْجَهْمِيَّةِ, وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ الْكَلَامُ عَلَى اللَّفْظِيَّةِ قَرِيبًا وَسَنَذْكُرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي آخِرِ الْفَصْلِ سَائِرَ الْفِرَقِ الْمُخَالِفِينَ لِلسُّنَّةِ فِي الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ مِنَ الصِّفَاتِ؛ لِأَنَّا أَحْبَبْنَا تَجْرِيدَ مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى حِدَتِهِ لِقَصْدِ التَّيْسِيرِ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. "وَلَا بِمُفْتَرَى" أَيْ: وَلَيْسَ الْقُرْآنُ بِمُفْتَرًى كَمَا قَالَهُ كُفَّارُ قُرَيْشٍ وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَعْدَاءِ اللَّهِ تَعَالَى حَيْثُ قَالُوا فِيهِ: {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} [الْمُدَّثِّرِ: 24] وَقَالُوا: {إِنَّ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ} [الْفُرْقَانِ: 4] ، {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا} [الفرقان: 5] و {يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [النَّحْلِ: 103] وَقَالُوا: شِعْرٌ, وَقَالُوا: كَهَانَةٌ, وَقَالُوا: {إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ} [ص: 7] وَقَالُوا: {لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا} [الْأَنْفَالِ: 31] وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ مُفْتَرَيَاتِهِمْ وَإِفْكِهِمْ, وَكُلُّ ذَلِكَ إِنَّمَا قَالُوهُ عِنَادًا وَمُكَابَرَةً {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النَّمْلِ: 14] وَقَدْ كَشَفَ اللَّهُ تَعَالَى شُبَهَهُمْ وَأَدْحَضَ حُجَجَهُمْ وَبَهَتَهُمْ وَقَطَعَهُمْ وَفَضَحَهُمْ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ وَبَيَّنَ عَجْزَهُمْ وَكَشَفَ عَوَارَهُمْ فِي جَمِيعِ مَا انْتَحَلُوا فَقَالَ تَعَالَى لِمَنْ قَالَ: {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ، إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ، لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ، لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ، عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} فَرَدَّ اللَّهُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: {فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا} {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} فَرَدَّ اللَّهُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ} فَرَدَّ اللَّهُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [النحل: 103] قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ يُشِيرُونَ بِهَذَا إِلَى رَجُلٍ أَعْجَمِيٍّ كَانَ بين ظهرهم غلام لِبَعْضِ بُطُونِ قُرَيْشٍ قِيلَ اسْمُهُ
بَلْعَامُ, وَقِيلَ يَعِيشُ وَقِيلَ عَائِشٌ وَقِيلَ جَبْرٌ وَقِيلَ يَسَارٌ وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ1، وَرُبَّمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَجْلِسُ إِلَيْهِ وَيُكَلِّمُهُ بَعْضَ الشَّيْءِ, فَرَدَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ الِافْتِرَاءَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النَّحْلِ: 103] أَيْ: فَكَيْفَ يَتَعَلَّمُ مَنْ جَاءَ بِهَذَا الْقُرْآنِ فِي فَصَاحَتِهِ وَبَلَاغَتِهِ وَمَعَانِيهِ التَّامَّةِ الشَّامِلَةِ الَّتِي هِيَ أَكْمَلُ مِنْ مَعَانِي كُلِّ كِتَابٍ نَزَلَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ, كَيْفَ يَتَعَلَّمُ مِنْ رَجُلٍ أَعْجَمِيٍّ؟ لَا يَقُولُ هَذَا مَنْ لَهُ أَدْنَى مُسْكَةٍ مِنْ عَقْلٍ, وَقَالَ فِي رَدِّ قَوْلِهِمْ شِعْرٌ وَكَهَانَةٌ: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ، لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} [يس: 69-70] وَقَالَ تَعَالَى: {فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ، أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ، قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ، أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ، أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ} [الطُّورِ: 29-33] الْآيَاتِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ، وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ، تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ، لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ، فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ، وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} [الْحَاقَّةِ: 41-48] إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ. وَقَالَ تَعَالَى لِمَنْ قَالَ: {إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ، أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا} [ص: 7-8] فَرَدَّ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ، أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ} [ص: 8-9] إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ. وَرَدَّ عَلَيْهِمْ تَعَالَى فِي قَوْلِهِمْ: {لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا} بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الْإِسْرَاءِ: 88] وَقَدْ تَحَدَّاهُمْ تَعَالَى عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ أَوْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِنْ مِثْلِهِ أَوْ بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ فَعَجَزُوا عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ وَبَانَ كَذِبُهُمْ, قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ، فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ
إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} [الطُّورِ: 33] وَقَالَ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [هُودٍ: 13-14] وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [الْبَقَرَةِ: 23-24] فَعَجَزُوا عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ وَلَمْ يَطْمَعُوا فِي شَيْءٍ مِنْهُ, مَعَ أَنَّهُمْ فُحُولُ اللُّغَةِ وَفُرْسَانُ الْفَصَاحَةِ وَأَهْلُ الْبَلَاغَةِ, وَأَعْلَمُ النَّاسِ بِنَثْرِ الكلام ونظمه وهجزه وَرَجَزِهِ, مَعَ شِدَّةِ مُعَانَدَتِهِمْ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَمَا جَاءَ بِهِ وَحِرْصِهِمْ عَلَى مُعَارَضَتِهِ بِكُلِّ مُمْكِنٍ, وَلَكِنْ جَاءَهُمْ مَا لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهِ وَأَتَاهُمْ مَا لَا يُطِيقُونَ, كَلَامُ ذِي الْمَلَكُوتِ وَالْجَبَرُوتِ وَالْعَظَمَةِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعِزَّةِ وَالْجَلَالِ وَالْكَمَالِ رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ وَرَبِّ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى مِنْ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَالصِّفَاتُ الْعُلَى وَالْمَثَلُ الْأَعْلَى, الَّذِي لَا سَمِيَّ لَهُ وَلَا كُفُوَ لَهُ وَلَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ, فَلَمَّا رَأَوْا وُجُوهَ إِيجَازِهِ وَإِعْجَازِهِ وَمَبَانِيَهُ الْكَامِلَةَ وَمَعَانِيَهُ الشَّامِلَةَ, وَإِخْبَارَهُ عَنِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ وَالْغُيُوبِ الْمُسْتَقْبَلَةِ وَالْأَحْكَامِ الْوَاقِعَةِ, وَنَبَأِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ وَالتَّهْدِيدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ وَأَوْضَحِ بَيَانٍ وَأَعْلَى قَصَصٍ وَأَعْظَمِ بُرْهَانٍ, عَلِمُوا أنه ليس بكلام الْمَخْلُوقِينَ وَلَا يُشْبِهُ كَلَامَ الْمَخْلُوقِينَ وَعَلِمُوا أَنَّهُ الْحَقُّ, وَإِنَّمَا رَمَوْهُ بِالْإِفْكِ وَالْبُهْتَانِ بِقَوْلِهِمْ: كَاهِنٌ شَاعِرٌ مَجْنُونٌ وَغَيْرِ ذَلِكَ, إِنَّمَا هُوَ مُكَابَرَةٌ وَعِنَادٌ مَعَ الِاعْتِرَافِ بِذَلِكَ فِيمَا بَيْنَهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ عَنِ الْوَلِيدِ وَعُتْبَةَ وَأَبِي جَهْلٍ قَبَّحَهُمُ اللَّهُ وَغَيْرِهِمْ, وَلَوْ كَانَ تَقَوَّلَهُ كَمَا زَعَمُوا هُمْ لَاسْتَطَاعُوا مُعَارَضَتَهُ وَلَمْ يَنْقَطِعُوا عَنْ مُقَاوَمَتِهِ؛ لِأَنَّهُمْ عَرَبٌ فُصَحَاءُ مِثْلُهُ عَارِفُونَ بِوُجُوهِ الْبَلَاغَةِ كُلِّهَا لَا يَجْهَلُونَ مِنْهَا شَيْئًا, وَلَمَا عَدَلُوا إِلَى الْمُكَابَرَةِ وَالتَّبَجُّحِ بِالْقَوْلِ دُونَ الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ أَمْقَتُ شَيْءٍ عِنْدَ الْعُقَلَاءِ, وَلَكِنَّهُ كَلَامُ رَبِّ الْعَالَمِينَ, نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِ مُحَمَّدٍ خَاتَمِ الْمُرْسَلِينَ, وَسَيِّدِ وَلَدِ آدَمَ أَجْمَعِينَ هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ, وَتِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ
{لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فُصِّلَتْ: 42] فَلَا يَأْتِي مُبْطِلٌ بِشُبْهَةٍ إِلَّا وَفِيهِ إِزْهَاقُ بَاطِلِهِ وَكَشْفُ شُبْهَتِهِ وَإِدْحَاضُ حُجَّتِهِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ عِنْدَ مَنْ عَرَفَ مَوَاقِعَ النُّزُولِ, وَيَكْفِيكَ في ذلك قوله عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الْفُرْقَانِ: 33] يُحْفَظُ بِالْقَلْبِ وَبِاللِّسَانِ ... يُتْلَى كَمَا يُسْمَعُ بِالْآذَانِ كَذَا بِالَابْصَارِ إِلَيْهِ يُنْظَرُ ... وَبِالْأَيَادِي خَطُّهُ يُسَطَّرُ وَكُلُّ ذِي مَخْلُوقَةٌ حَقِيقَهْ ... دُونَ كَلَامِ بَارِئِ الْخَلِيقَهْ جَلَّتْ صِفَاتُ رَبِّنَا الرَّحْمَنِ ... عَنْ وَصْفِهَا بِالْخَلْقِ وَالْحَدَثَانِ فَالصَّوْتُ وَالْأَلْحَانُ صَوْتُ الْقَارِي ... لَكِنَّمَا الْمَتْلُوُّ قَوْلُ الْبَارِي مَا قَالَهُ لَا يَقْبَلُ التَّبْدِيلَا ... كَلَّا وَلَا أَصْدَقُ مِنْهُ قِيلًا "يُحْفَظُ" بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ أَيِ: الْقُرْآنُ "بِالْقَلْبِ" كَمَا قَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ، بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشُّعَرَاءِ: 193] وَقَالَ تَعَالَى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ} [الْعَنْكَبُوتِ: 49] وَقَالَ: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى} [الْأَعْلَى: 6] وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ الَّذِي لَيْسَ فِي جَوْفِهِ شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ كَالْبَيْتِ الْخَرَابِ" قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ1، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَعْثًا وَهُمْ ذَوُو عَدَدٍ, فَاسْتَقْرَأَهُمْ فَاسْتَقْرَأَ كُلَّ رَجُلٍ مِنْهُمْ -يَعْنِي مَا مَعَهُ مِنَ الْقُرْآنِ- فَأَتَى عَلَى رَجُلٍ مِنْ أَحْدَثِهِمْ سِنًّا فَقَالَ: "مَا مَعَكَ يَا فُلَانُ" فَقَالَ: مَعِي كَذَا وَكَذَا وَسُورَةُ الْبَقَرَةِ, فَقَالَ: "أَمَعَكَ سُورَةُ الْبَقَرَةِ" قَالَ: نَعَمْ, قَالَ: "اذْهَبْ فَأَنْتَ أَمِيرُهُمْ" فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِهِمْ: وَاللَّهِ مَا مَنَعَنِي أَنْ أَتَعَلَّمَ الْبَقَرَةَ إِلَّا خَشْيَةُ أَنْ لَا أَقُومَ بِهَا, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ وَاقْرَءُوهُ, فَإِنَّ مَثَلَ الْقُرْآنِ لِمَنْ تَعَلَّمَهُ فَقَرَأَهُ وَقَامَ بِهِ
كَمَثَلِ جِرَابٍ مَحْشُوٍّ مِسْكًا يَفُوحُ رِيحُهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ. وَمَثَلُ مَنْ تَعَلَّمَهُ فَيَرْقُدُ وَهُوَ فِي جَوْفِهِ كَمَثَلِ جِرَابٍ أُوكِيَ عَلَى مِسْكٍ" قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ1. وَفِي حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ فِي قِصَّةِ الْوَاهِبَةِ نَفْسَهَا وَفِيهِ قَالَ: "مَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ" قَالَ: مَعِي سُورَةُ كَذَا وَسُورَةُ كَذَا عددها فقال: "تقرأهن عَنْ ظَهْرِ قَلْبِكَ؟ " قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: "اذْهَبْ فَقَدْ مَلَّكْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ" 2 وَلِأَبِي دَاوُدَ قَالَ: سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَالَّتِي تَلِيهَا قَالَ: "قُمْ فَعَلِّمِهَا عِشْرِينَ آيَةً"3. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَثَلُ الْقُرْآنِ إِذَا عَاهَدَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ فَقَرَأَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ كَمَثَلِ رَجُلٍ لَهُ إِبِلٌ فَإِنْ عَقَلَهَا حَفِظَهَا وَإِنْ أَطْلَقَ عِقَالَهَا ذَهَبَتْ, فَكَذَلِكَ صَاحِبُ الْقُرْآنِ" 4. وَلَهُمَا عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ رَجُلًا يَقْرَأُ فِي سُورَةٍ بِاللَّيْلِ فَقَالَ: "يَرْحَمُهُ اللَّهُ لَقَدْ أَذْكَرَنِي كَذَا وَكَذَا آيَةً كَنْتُ أُنْسِيتُهَا مِنْ سُورَةِ كَذَا وَكَذَا" 5 وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا.
"وَبِاللِّسَانِ يُتْلَى" قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} [الْكَهْفِ: 37] وَقَالَ تَعَالَى: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ} [الْإِسْرَاءِ: 106] وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا} [الْإِسْرَاءِ: 45] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ، لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ} [فَاطِرٍ: 29] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ, وَقَالَ تَعَالَى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لَتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [الْقِيَامَةِ: 16-19] وَقَالَ تَعَالَى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [الْمُزَّمِّلِ: 4] وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} [الْإِسْرَاءِ: 110] وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ عَلَّمَهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَتْلُوهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فَسَمِعَهُ جَارٌ لَهُ" إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ1. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "لَلَّهُ أَشَدُّ أُذُنًا إِلَى الرَّجُلِ الْحَسَنِ الصَّوْتِ بِالْقُرْآنِ مِنْ صَاحِبِ الْقَيْنَةِ إِلَى قَيْنَتِهِ" وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ2 وَلَهُ عَنِ الْمُهَاجِرِ بْنِ حَبِيبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ لَا تَوَسَّدُوا الْقُرْآنَ, وَاتْلُوهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ
وَالنَّهَارِ وَتَغَنَّوْهُ وَتَقِّنُوهُ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ"1 وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا سَيَأْتِي مَا تَيَسَّرَ مِنْهَا فِي ذِكْرِ الصَّوْتِ. "كَمَا يُسْمَعُ بِالْآذَانِ" قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التَّوْبَةِ: 6] وَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} [الْمَائِدَةِ: 83] وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الْأَعْرَافِ: 204] وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ، قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ} [الْأَحْقَافِ: 29-30] الْآيَاتِ, وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا، يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا -إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى- وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ} [الْجِنِّ: 1-13] الْآيَاتِ. وَقَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزُّمَرِ: 18] وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ لِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اقْرَأْ عَلَيَّ الْقُرْآنَ" قُلْتُ: أَقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟ قَالَ: "إِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي" الْحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ2. وَعَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "يَا أَبَا مُوسَى, لَوْ رَأَيْتَنِي وَأَنَا أَسْتَمِعُ لِقِرَاءَتِكَ الْبَارِحَةَ "فَقَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَوْ أَعْلَمُ أنك تسمع لقراءتي لِحَبَّرْتُهَا لَكَ تَحْبِيرًا. رَوَاهُ
مُسْلِمٌ1. وَلِأَبِي عُبَيْدٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: أَبْطَأْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَيْلَةً بَعْدَ الْعَشَاءِ ثُمَّ جِئْتُ, فَقَالَ: "أَيْنَ كُنْتِ؟ " قُلْتُ: كُنْتُ أَسْمَعُ قِرَاءَةَ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِكَ لَمْ أَسْمَعْ مِثْلَ قِرَاءَتِهِ وَصَوْتِهِ مِنْ أَحَدٍ, قَالَتْ: فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقُمْتُ مَعَهُ حَتَّى اسْتَمَعَ لَهُ, ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيَّ فَقَالَ: "هَذَا سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ, الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِي أُمَّتِي مِثْلَ هَذَا" إِسْنَادُهُ جَيِّدٌ2، وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ. "كَذَا بِالَابْصَارِ إِلَيْهِ مُتَعَلِّقَانِ بِـ"يُنْظَرُ" أَيْ: إِلَى الْقُرْآنِ فِي الْمُصْحَفِ وَهُوَ مِنْ أَفْضَلِ الْعِبَادَاتِ وَأَجَلِّهَا. وَرَوَى أَبُو عُبَيْدٍ بِإِسْنَادٍ فِيهِ ضَعْفٌ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "فَضْلُ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ نَظَرًا على من يقرأه ظَهْرًا كَفَضْلِ الْفَرِيضَةِ عَلَى النَّافِلَةِ"3. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَدِيمُوا النَّظَرَ فِي الْمُصْحَفِ4. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ كَانَ إِذَا دَخَلَ نَشَرَ الْمُصْحَفَ فَقَرَأَ فِيهِ5. وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِذَا اجْتَمَعَ إِلَيْهِ إِخْوَانُهُ نَشَرُوا
الْمُصْحَفَ فَقَرَءُوا وَفَسَّرَ لَهُمْ1. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إِذَا رَجَعَ أَحَدُكُمْ مِنْ سُوقِهِ فَلْيَنْشُرِ الْمُصْحَفَ وَلْيَقْرَأْ2. وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ السَّلَفِ أَنَّ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ فِي الْمُصْحَفِ أَفْضَلُ مِنْ عَلَى ظَهْرِ قَلْبٍ؛ لِأَنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى التِّلَاوَةِ وَالنَّظَرِ فِي الْمُصْحَفِ وَكَرِهُوا أَنْ يَمْضِيَ عَلَى الرَّجُلِ يَوْمَانِ لَا يَنْظُرُ فِي مُصْحَفِهِ. "وَبِالْأَيَادِي خَطُّهُ يُسَطَّرُ" كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ، فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ، لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الْوَاقِعَةِ: 77-79] وَقَالَ تَعَالَى: {رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً، فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} [الْبَيِّنَةِ: 2] وَقَالَ تَعَالَى: {كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ، فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ، فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ، مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ} [عَبَسَ: 11-14] وَقَدْ كَتَبَهُ الصَّحَابَةُ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِأَمْرِهِ, وَفِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُثْمَانَ, وَإِلَى الْآنَ يَكْتُبُهُ الْمُسْلِمُونَ, وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: مَا تَرَكَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَّا مَا بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ3. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ نَحْوَ ذَلِكَ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَعْنَى ذَلِكَ فِي مَحْضَرِ الصَّحَابَةِ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ خِلَافَهُ. وَلَوْ لَمْ يَكُنِ الَّذِي فِي الْمُصْحَفِ كَلَامَ اللَّهِ لَمْ يَحْرُمْ مَسُّهُ عَلَى أَحَدٍ, وَلَمْ يَكُنْ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} بَلْ وَلَا كَانَ يَحْرِمُ تَوَسُّدُهُ, وَلِذَا أَجَازَ الزَّنَادِقَةُ ذَلِكَ حَيْثُ لَمْ يُؤْمِنُوا أَنَّ فِيهِ كِتَابَ اللَّهِ, وَهَذَا مِنْ أَسْفَلِ دَرَكَاتِ الْكُفْرِ قَبَّحَهُمُ اللَّهُ. "وَكُلُّ ذِي" الْمَذْكُورَاتِ مِنَ الْقَلْبِ وَحَافِظَتِهِ وَذَاكِرَتِهِ وَاللِّسَانِ وَحَرَكَتِهِ وَالْآذَانِ وَأَسْمَاعِهَا وَالْأَبْصَارِ وَنَظَرِهَا وَالْأَيَادِي وَكِتَابَتِهَا وَأَدَوَاتِ الْكِتَابَةِ مِنْ أَوْرَاقٍ وَأَقْلَامٍ وَمِدَادٍ, كُلُّهَا "مَخْلُوقَةٌ حَقِيقَهْ" لَيْسَ فِي ذَلِكَ تَوَقُّفٌ, "دُونَ" الْقُرْآنِ الَّذِي هُوَ "كَلَامُ" اللَّهِ تَعَالَى "بَارِئِ الْخَلِيقَهْ". قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: يَتَوَجَّهُ الْعَبْدُ لِلَّهِ تعالى بالقرآن بخمسة أَوْجُهٍ وَهُوَ فِيهَا غَيْرُ مَخْلُوقٍ: حِفْظٌ بِقَلْبٍ وَتِلَاوَةٌ بِلِسَانٍ وَسَمْعٌ بِأُذُنٍ وَنَظْرَةٌ بِبَصَرٍ وَخَطٌّ بِيَدٍ. فَالْقَلْبُ مَخْلُوقٌ وَالْمَحْفُوظُ غَيْرُ
مَخْلُوقٍ وَالتِّلَاوَةُ مَخْلُوقَةٌ وَالْمَتْلُوُّ غَيْرُ مَخْلُوقٍ, وَالسَّمْعُ مَخْلُوقٌ وَالْمَسْمُوعُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ, وَالنَّظَرُ مَخْلُوقٌ وَالْمَنْظُورُ إِلَيْهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ, وَالْكِتَابَةُ مَخْلُوقَةٌ وَالْمَكْتُوبُ غير مخلوق. ا. هـ. فَأَعْمَالُ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ وَالْقُرْآنُ حَيْثُمَا تَصَرَّفَ وَأَيْنَ كُتِبَ وَحَيْثُ تُلِيَ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرُ مَخْلُوقٍ. جَلَّتْ صِفَاتُ ربنا الرحمن ... ن وَصْفِهَا بِالْخَلْقِ وَالْحَدَثَانِ فَلَيْسَ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى شَيْءٌ مَخْلُوقٌ, تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ وَتَعَالَى عَنْ أَنْ تَكُونَ ذَاتُهُ مَحَلًّا لِلْمَخْلُوقَاتِ, بَلْ هُوَ الْأَوَّلُ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ وَالْآخِرُ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ بَعْدَ كُلِّ شَيْءٍ, لَمْ يُسْبَقْ شَيْءٌ مِنْ صِفَاتِهِ بِالْعَدَمِ, وَلَمْ يُعْقَبْ بِالْفَنَاءِ, تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ وَالْجَاحِدُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا. "فَالصَّوْتُ" مِنْ جَهْوَرِيٍّ وَخَفِيِّ "وَالْأَلْحَانُ" مِنْ حَسَنٍ وَغَيْرِهِ "صَوْتُ الْقَارِي لَكِنَّمَا الْمَتْلُوُّ" الْمُؤَدَّى بِذَلِكَ الصَّوْتِ هُوَ "قَوْلُ الْبَارِي" جَلَّ وَعَلَا. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَمْ يَأْذَنِ اللَّهُ لِشَيْءٍ مَا أَذِنَ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ" 1 وَلِابْنِ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَلَّهُ أَشَدُّ أُذُنًا إِلَى الرَّجُلِ الْحَسَنِ الصَّوْتِ بِالْقُرْآنِ مِنْ صَاحِبِ الْقَيْنَةِ إِلَى قَيْنَتِهِ" 2 وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "غَنُّوا بِالْقُرْآنِ لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يُغَنِّ بِالْقُرْآنِ, وَابْكُوا فَإِنْ لَمْ تَقْدِرُوا عَلَى الْبُكَاءِ فَتَبَاكَوْا" رَوَاهُ الْبَغَوِيُّ, وَلِأَبِي دَاوُدَ نَحْوُهُ3، وَلَهُ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ:
"لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ" 1 وَلَهُ وَلِلنَّسَائِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ" 2 وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ ,فَمَا سَمِعْتُ أَحَدًا أَحْسَنَ صَوْتًا -أَوْ قِرَاءَةً- مِنْهُ"3 الْحَدِيثَ، وَلِابْنِ مَاجَهْ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ صَوْتًا بِالْقُرْآنِ الَّذِي إِذَا سَمِعْتُمُوهُ يَقْرَأُ حَسِبْتُمُوهُ يَخْشَى اللَّهَ" 4 وَلِأَبِي عُبَيْدٍ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اقْرَءُوا الْقُرْآنَ بِلُحُونِ الْعَرَبِ وَأَصْوَاتِهَا, وَإِيَّاكُمْ وَلُحُونَ أَهْلِ الْفِسْقِ وَأَهِلِ الْكِتَابَيْنِ. وَسَيَجِيءُ قَوْمٌ مِنْ بَعْدِي يُرَجِّعُونَ بِالْقُرْآنِ تَرْجِيعَ الْغِنَاءِ وَالرَّهْبَانِيَّةِ وَالنَّوْحِ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ, مَفْتُونَةٌ قُلُوبُهُمْ وَقُلُوبُ الَّذِينَ يُعْجِبُهُمْ شَأْنُهُمْ"5. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "يَا أَبَا مُوسَى لَقَدْ أُوتِيتَ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ
دَاوُدَ" 1. فَفِي جَمِيعِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ التَّصْرِيحُ بِإِضَافَةِ الصَّوْتِ وَالْأَلْحَانِ وَالتَّغَنِّي إِلَى الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ عَمَلُهُ, وَالْقُرْآنُ الْمُؤَدَّى بِذَلِكَ الصَّوْتِ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ حَقِيقَةً, وَكَذَلِكَ الْمَهَارَةُ بِالْقُرْآنِ وَالتَّتَعْتُعُ فِيهِ هُوَ فِعْلُ الْعَبْدِ وَسَعْيُهُ لِمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْمَاهِرُ بِالْقُرْآنِ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ, وَالَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَتَتَعْتَعُ فِيهِ وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ لَهُ أَجْرَانِ" 2 وَهَذَا الْفَرْقُ وَاضِحٌ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَعَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ كَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِمَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَوْ كَانَ الصَّوْتُ هُوَ نَفْسَ الْمَتْلُوِّ الْمُؤَدَّى بِهِ كَمَا يَقُولُهُ أَهْلُ الِاتِّحَادِ لَكَانَ كُلُّ مَنْ سَمِعَ الْقُرْآنَ مِنْ أَيِّ تَالٍ وَبِأَيِّ صَوْتٍ كَلِيمَ الرَّحْمَنِ فَلَا مَزِيَّةَ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى غَيْرِهِ, اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ رَبَّنَا, لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ. "مَسْأَلَةٌ": اشْتُهِرَ عَنِ السَّلَفِ الصَّالِحِ كَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَهَارُونَ الْفَرْوِيِّ وَجَمَاعَةِ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ أَنَّ اللَّفْظِيَّةَ جَهْمِيَّةٌ, وَاللَّفْظِيَّةُ هُمْ مَنْ قَالَ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ, قَالَ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى: وَمَنْ قَالَ لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ, يَعْنُونَ غَيْرَ بِدْعِيَّةٍ الْجَهْمِيَّةِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّفْظَ يُطْلَقُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا الْمَلْفُوظُ بِهِ وَهُوَ الْقُرْآنُ وَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ لَيْسَ فِعْلًا لِلْعَبْدِ وَلَا مَقْدُورًا لَهُ, وَالثَّانِي التَّلَفُّظُ وَهُوَ فِعْلُ الْعَبْدِ وَكَسْبُهُ وَسَعْيُهُ, فَإِذَا أُطْلِقَ لَفْظُ الْخَلْقِ عَلَى الْمَعْنَى الثَّانِي شَمِلَ الْأَوَّلَ وَهُوَ قَوْلُ الْجَهْمِيَّةِ, وَإِذَا عُكِسَ الْأَمْرُ بِأَنْ قَالَ لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ شَمِلَ الْمَعْنَى الثَّانِيَ وَهِيَ بِدْعَةٌ أُخْرَى مِنْ بِدَعِ الِاتِّحَادِيَّةِ, وَهَذَا ظَاهِرٌ عِنْدَ كُلِّ عَاقِلٍ, فَإِنَّكَ إِذَا سَمِعْتَ رَجُلًا يَقْرَأُ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} تَقُولُ هَذَا لَفْظُ سُورَةِ الْإِخْلَاصِ, وَتَقُولُ هَذَا لَفْظُ فُلَانٍ بِسُورَةِ الْإِخْلَاصِ, إِذِ اللَّفْظُ مَعْنًى مُشْتَرَكٌ بَيْنَ التَّلَفُّظِ الَّذِي هُوَ فِعْلُ الْعَبْدِ وَبَيْنَ الْمَلْفُوظِ بِهِ الَّذِي هُوَ كَلَامُ اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ" 1 وَهَذَا بِخِلَافِ مَا ذَكَرَ السَّلَفُ بِقَوْلِهِمْ: الصَّوْتُ صَوْتُ الْقَارِي وَالْكَلَامُ كَلَامُ الْبَارِي, فَإِنَّ الصَّوْتَ مَعْنًى خَاصٌّ بِفِعْلِ الْعَبْدِ لَا يَتَنَاوَلُ الْمَتْلُوَّ الْمُؤَدَّى بِالصَّوْتِ الْبَتَّةَ, وَلَا يَصْلُحُ أَنْ تَقُولَ هَذَا صَوْتُ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وَلَا يَقُولُ ذَلِكَ عَاقِلٌ, وَإِنَّمَا تَقُولُ: هَذَا صَوْتُ فُلَانٍ يَقْرَأُ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وَنَحْوَ ذَلِكَ. نَعَمْ إِذَا سَمِعَ كَلَامَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْهُ تَعَالَى بِدُونِ وَاسِطَةٍ كَسَمَاعِ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَسَمَاعِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَسَمَاعِ أَهْلِ الْجَنَّةِ كَلَامَهُ مِنْهُ عَزَّ وَجَلَّ فَحِينَئِذٍ التِّلَاوَةُ وَالْمَتْلُوُّ صِفَةُ الْبَارِي عَزَّ وَجَلَّ لَيْسَ مِنْهَا شَيْءٌ مَخْلُوقٌ. تَعَالَى اللَّهُ عُلُوًّا كَبِيرًا. "مَا قَالَهُ لَا يَقْبَلُ التَّبْدِيلَا" قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ} [ق: 29] وَقَالَ تَعَالَى: {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} [الْكَهْفِ: 27] وَقَالَ تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الْأَنْعَامِ: 115] وَقَالَ تَعَالَى: {لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} [يُونُسَ: 64] . "كَلَّا" أَيْ: لَا يَكُونُ ذَلِكَ "وَلَا أَصْدَقُ مِنْهُ" أَيْ: مِنَ اللَّهِ تَعَالَى "قِيلًا" أَيْ: قَوْلًا وَهُوَ تَمْيِيزٌ مُحَوَّلٌ عَنِ اسْمِ لَا, وَالتَّقْدِيرُ لَا قِيلَ أَصْدَقُ مِنْ قِيلِهِ, قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النِّسَاءِ: 87] وَقَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النِّسَاءِ: 112] أَيْ: مَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فِي حَدِيثِهِ وَخَبَرِهِ وَوَعَدِهِ وَوَعِيدِهِ؟ وَالْجَوَابُ: لَا أَحَدَ. وَفِي خُطْبَةِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كَلَامُ اللَّهِ وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" 2 الْحَدِيثَ. وَقَدْ رَوَى الثِّقَاتُ عَنْ خَيْرِ الْمَلَا ... بِأَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَعَلَا فِي ثُلُثِ اللَّيْلِ الْأَخِيرِ يَنْزِلُ ... يَقُولُ هَلْ مِنْ تَائِبٍ فَيُقْبَلُ
هَلْ مِنْ مُسِيءٍ طَالِبٍ لِلْمَغْفِرَهْ ... يَجِدُ كَرِيمًا قَابِلًا لِلْمَعْذِرَهْ يَمُنُّ بِالْخَيْرَاتِ وَالْفَضَائِلْ ... وَيَسْتُرُ الْعَيْبَ وَيُعْطِي السَّائِلْ أَيْ: وَمِمَّا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ وَإِثْبَاتُهُ وَإِمْرَارُهُ كَمَا جَاءَ؛ صِفَةُ النُّزُولِ لِلرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ كَمَا ثَبَتَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْمَشْهُورَةِ عَنْ فُضَلَاءِ الصَّحَابَةِ كَأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ, وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ, وَأَبِي هُرَيْرَةَ, وَأَبِي سَعِيدٍ, وَجُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ, وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ, وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ, وَعَمْرِو بْنِ عَبْسَةَ, وَرِفَاعَةَ الْجُهَنِيِّ, وَعُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ الثَّقَفِيِّ, وَأَبِي الدَّرْدَاءِ, وَابْنِ عَبَّاسٍ, وَعُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ, وَأَبِي الْخَطَّابِ, وَعُمَرَ بْنِ عَامِرٍ السُّلَمِيِّ, وَغَيْرِهِمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. فَعَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "يَنْزِلُ اللَّهُ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَيَغْفِرُ لِكُلِّ نفس إلا إنسان فِي قَلْبِهِ شَحْنَاءُ أَوْ شِرْكٌ"1 رَوَاهُ جَمَاعَةٌ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ. وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَخَّرْتُ الْعِشَاءَ الْأَخِيرَةَ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ, فَإِنَّهُ إِذَا مَضَى ثُلُثُ اللَّيْلِ هَبَطَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا لَمْ يَزَلْ بِهَا حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ فَيَقُولُ: أَلَا سَائِلٌ يُعْطَى, أَلَا دَاعٍ فَيُجَابُ, أَلَا مُذْنِبٌ يَسْتَغْفِرُ فَيُغْفَرُ لَهُ, أَلَا سَقِيمٌ يَسْتَشْفِي فَيُشْفَى" 2 رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي السُّنَّةِ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "يَنْزِلُ رَبُّنَا كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ, مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ, مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ" أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ3. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
أَنَّهُمَا شَهِدَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ يُمْهِلُ حَتَّى إِذَا كَانَ ثُلُثُ اللَّيْلِ هَبَطَ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَنَادَى هَلْ مِنْ مُذْنِبٍ يَتُوبُ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ هَلْ مِنْ سَائِلٍ" 1. وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَنْزِلُ اللَّهُ كُلَّ لَيْلَةٍ إِذَا مَضَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْأَوَّلُ فَيَقُولُ أَنَا الْمَلِكُ مَنْ ذَا الَّذِي يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرُ لَهُ" 2 وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي النُّزُولِ قَدْ تَعَدَّدَتْ طُرُقُهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَسَائِرِ الْأُمَّهَاتِ, وَقَدْ سَاقَهُ إِمَامُ الْأَئِمَّةِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ مِنْ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِينَ طَرِيقًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى النَّبِيِّ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ3. وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَلَهُ فِي كُلِّ سَمَاءٍ كُرْسِيٌّ فَإِذَا نَزَلَ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا جَلَسَ عَلَى كُرْسِيِّهِ ثُمَّ مَدَّ سَاعِدَيْهِ فَيَقُولُ: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ غَيْرَ عَدِيمٍ وَلَا ظَلُومٍ, مَنْ ذَا الَّذِي يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ, مَنْ ذَا الَّذِي يَتُوبُ فَأَتُوبَ عَلَيْهِ, فَإِذَا كَانَ عِنْدَ الصُّبْحِ ارْتَفَعَ فَجَلَسَ عَلَى كُرْسِيِّهِ"4 رَوَاهُ ابْنُ مَنْدَهْ, قَالَ: وَلَهُ أَصْلٌ مُرْسَلٌ. وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "يَنْزِلُ اللَّهُ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا كُلَّ لَيْلَةٍ فَيَقُولُ جَلَّ جَلَالُهُ: هَلْ مِنْ سَائِلٍ فَأُعْطِيَهُ, هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِرَ لَهُ" حَدِيثٌ صَحِيحٌ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَأَبُو الْوَلِيدِ الطَّيَالِسِيُّ5. وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا لِثُلُثِ اللَّيْلِ فَيَقُولُ: أَلَا عَبْدٌ مِنْ عَبِيدِي يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ, أَوْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ يَدْعُونِي فَأَغْفِرَ لَهُ, أَلَا مُقَتَّرٌ عَلَيْهِ رِزْقُهُ, أَلَا مَظْلُومٌ يَسْتَنْصِرُنِي فَأَنْصُرَهُ, أَلَا عَانٍ يَدْعُونِي فَأَفُكَّ عَنْهُ, فَيَكُونُ ذَلِكَ مَكَانَهُ حَتَّى يَفِيءَ الْفَجْرُ ثُمَّ يَعْلُو رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ إِلَى السَّمَاءِ الْعُلْيَا عَلَى كُرْسِيِّهِ" رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ1. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا كَانَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ نَزَلَ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا ثُمَّ بَسَطَ يَدَهُ فَقَالَ: مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ, حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ" حَدِيثٌ حَسَنٌ رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَرِجَالُهُ أَئِمَّةٌ2، وَرَوَاهُ أَبُو مُعَاوِيَةَ بِلَفْظِ: "إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَفْتَحُ أَبْوَابَ السَّمَاءِ ثُمَّ يَهْبِطُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَبْسُطُ يَدَهُ فَيَقُولُ: أَلَا عَبْدٌ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ" وَعَنْ رِفَاعَةَ الْجُهَنِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا مَضَى نِصْفُ اللَّيْلِ أَوْ ثُلُثُ اللَّيْلِ نَزَلَ اللَّهُ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فَقَالَ: لَا أَسْأَلُ عَنْ عِبَادِي غَيْرِي, مَنْ ذَا الَّذِي يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ, مَنْ ذَا الَّذِي يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ, مَنْ ذَا الَّذِي يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ, حَتَّى يَنْفَجِرَ الْفَجْرُ" حَدِيثٌ صَحِيحٌ رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ3. وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ الثَّقَفِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَنْزِلُ اللَّهُ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا كُلَّ لَيْلَةٍ فَيَقُولُ: هَلْ مِنْ دَاعٍ فَأَسْتَجِيبَ لَهُ, هَلْ مِنْ سَائِلٍ فَأُعْطِيَهُ, هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِرَ لَهُ. وَأَنَّ دَاوُدَ خَرَجَ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَقَالَ: لَا يُسْأَلُ اللَّهُ شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ سَاحِرًا أَوْ عَشَّارًا" رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِنَحْوِهِ4، وَعَنْ أَبِي
الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَنْزِلُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي آخِرِ ثَلَاثِ سَاعَاتٍ بَقِينَ مِنَ اللَّيْلِ يَنْظُرُ فِي السَّاعَةِ الْأُولَى مِنْهُنَّ فِي الْكِتَابِ الَّذِي لَا يَنْظُرُ فِيهِ غَيْرُهُ, فَيَمْحُو مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ, ثُمَّ يَنْظُرُ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ وَهِيَ مَسْكَنُهُ الَّذِي يَسْكُنُ, لَا يَكُونُ مَعَهُ فِيهَا إِلَّا الْأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ وَالصِّدِّيقُونَ, وَفِيهَا مَا لَمْ يَرَ أَحَدٌ وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ, ثُمَّ يَهْبِطُ فِي آخِرِ سَاعَةٍ مِنَ اللَّيْلِ يَقُولُ: أَلَا مُسْتَغْفِرٌ فَأَغْفِرَ لَهُ, أَلَا سَائِلٌ فَأُعْطِيَهُ, أَلَا دَاعٍ فَأَسْتَجِيبَ لَهُ" رَوَاهُ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ1. وَرَوَى مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ يَحْيَى بْنِ الْوَلِيدِ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَنْزِلُ اللَّهُ كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ فَيَقُولُ: أَلَا عَبْدٌ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ, أَلَا ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ يَدْعُونِي فَأَقْبَلَهُ, فَيَكُونُ كَذَلِكَ إِلَى مَطْلِعِ الصُّبْحِ وَيَعْلُو عَلَى كُرْسِيِّهِ"2. وَعَنْ أَبِي الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ وَقَدْ سُئِلَ عَنِ الْوِتْرِ: أُحِبُّ أُوتِرُ نِصْفَ اللَّيْلِ, فَإِنَّ اللَّهَ يَهْبِطُ مِنَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ: هَلْ مِنْ مُذْنِبٍ, هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ, هَلْ مِنْ دَاعٍ, حَتَّى إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ ارْتَفَعَ. رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ فِي طَبَقَاتِهِ3. وَعَنْ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ السُّلَمِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ -أَوْ قَالَ نِصْفُ
اللَّيْلِ- يَنْزِلُ اللَّهُ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ: هَلْ مِنْ عَانٍ فَأَفُكَّهُ, هَلْ مِنْ سَائِلٍ فَأُعْطِيَهُ, هَلْ مِنْ دَاعٍ فَأَسْتَجِيبَ لَهُ, هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِرَ لَهُ" رَوَاهُ ابْنُ مَنْدَهْ1. وَعَنْ عُبَيْدِ بْنِ السَّبَّاقِ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "يَنْزِلُ رَبُّنَا مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ فَيُنَادِي مُنَادٍ فِي السَّمَاءِ الْعُلْيَا: أَلَا نَزَلَ الْخَالِقُ الْعَلِيمُ فَيَخْرُجُ أَهْلُ السَّمَاءِ وَيُنَادِي فِيهِمْ مُنَادٍ بِذَلِكَ فَلَا يَمُرُّ بِأَهْلِ السَّمَاءِ إِلَّا وَهُمْ سُجُودٌ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ2. وَرَوَى أَبُو الْيَمَانِ وَيَحْيَى بْنُ كَثِيرٍ وَعَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ النُّعْمَانِ وَيَزِيدُ بْنُ هَارُونَ -وَهَذَا سِيَاقُ حَدِيثِهِ- أَخْبَرَنَا حَرِيزُ بْنُ عُثْمَانَ حَدَّثَنَا سُلَيْمُ بْنُ عَامِرٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَبْسَةَ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فَدَاكَ شَيْءٌ تَعْلَمُهُ وَأَجْهَلُهُ يَنْفَعُنِي وَلَا يَضُرُّكَ, مَا سَاعَةٌ أَقْرَبُ مِنْ سَاعَةٍ وَمَا سَاعَةٌ تَبْقَى فِيهَا؟ يَعْنِي الصَّلَاةَ فَقَالَ: "يَا عَمْرُو بْنَ عَبْسَةَ لَقَدْ سَأَلْتَنِي عَنْ شَيْءٍ مَا سَأَلَنِي عَنْهُ أَحَدٌ قَبْلَكَ, إِنَّ الرَّبَّ تَعَالَى يَتَدَلَّى مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ فَيَغْفِرُ, إِلَّا مَا كَانَ مِنَ الشِّرْكِ وَالْبَغْيِ, وَالصَّلَاةُ مَشْهُودَةٌ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَإِنَّهَا تَطْلُعُ عَلَى قَرْنِ الشَّيْطَانِ وَهِيَ صَلَاةُ الْكُفَّارِ, فَأَقْصِرْ عَنِ الصَّلَاةِ حَتَّى تَرْتَفِعَ الشَّمْسُ فَإِذَا اسْتَعْلَتِ الشَّمْسُ فَالصَّلَاةُ مَشْهُودَةٌ حَتَّى يَعْتَدِلَ النَّهَارُ, فَإِذَا اعْتَدَلَ النَّهَارُ فَأَخِّرِ الصَّلَاةَ فَإِنَّهَا حِينَئِذٍ تُسْجَرُ جَهَنَّمُ, فَإِذَا فَاءَ الْفَيْءُ فَالصَّلَاةُ مَشْهُودَةٌ حَتَّى تَدَلَّى لِلْغُرُوبِ فَإِنَّهَا تَغِيبُ بَيْنَ قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ فَأَقْصِرْ عَنِ الصَّلَاةِ حَتَّى تَجِبَ الشَّمْسُ"3 وَهُوَ فِي مُسْلِمٍ مُطَوَّلًا, قُلْتُ: وَهَذَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ
لِدُلُوِكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنْ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا، وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الْإِسْرَاءِ: 77-78] وَفِي كِتَابِ السُّنَّةِ لِلْخَلَّالِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "يَنْزِلُ اللَّهُ كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا ثُلَثَ اللَّيْلِ الْأَوْسَطَ فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ وَمَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ وَيَتْرُكُ أَهْلَ الْحِقْدِ لِحِقْدِهِمْ"1 وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَنْزِلُ فِي ثَلَاثِ سَاعَاتٍ بَقِينَ مِنَ اللَّيْلِ يَفْتَحُ الذِّكْرَ مِنَ السَّاعَةِ الْأُولَى لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ غَيْرُهُ فَيَمْحُو مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ مَا شَاءَ, ثُمَّ يَنْزِلُ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ إِلَى جَنَّةِ عَدْنٍ الَّتِي لَمْ تَرَهَا عَيْنٌ وَلَمْ تَخْطُرْ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ وَلَا يَسْكُنُهَا مِنْ بَنِي آدَمَ غَيْرُ ثَلَاثَةٍ: النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ, ثُمَّ يَقُولُ: طُوبَى لِمَنْ دَخَلَكِ. ثُمَّ يَنْزِلُ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا بِرَوْحِهِ وَمَلَائِكَتِهِ فَيَنْتَفِضُ فَيَقُولُ: قَيُّومِيٌّ بِعِزَّتِي. ثُمَّ يَطَّلِعُ إِلَى عِبَادِهِ فَيَقُولُ: هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ أَغْفِرُ لَهُ, هَلْ مِنْ دَاعٍ أُجِيبُهُ, حَتَّى تَكُونَ صَلَاةُ الْفَجْرِ. وَكَذَلِكُمْ يَقُولُ: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنْ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} فَيَشْهَدُهُ اللَّهُ وَمَلَائِكَةُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ" رَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ2، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبًا بِغَيْرِ هَذَا اللَّفْظِ. وَلَهُ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ -أَوْ عَمِّهِ- عَنْ جَدِّهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: "يَنْزِلُ اللَّهُ تَعَالَى لَيْلَةَ النِّصْفِ فَيَغْفِرُ لِلْمُؤْمِنِينَ" الْحَدِيثَ3. رَوَاهُ ابْنُ زَنْجَوَيْهِ, وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا كَانَ لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ هَبَطَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فَيَغْفِرُ لِأَهْلِ الْأَرْضِ إِلَّا لِكَافِرٍ أَوْ مُشَاحِنٍ"4 رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ الْبُخَارِيُّ. وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "يَنْزِلُ رَبُّنَا إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فِي النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَيَغْفِرُ لِأَهْلِ الْأَرْضِ إِلَّا لِكَافِرٍ أَوْ مُشَاحِنٍ"1. قُلْتُ: وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ أَحَادِيثِ تَخْصِيصِ النُّزُولِ بِلَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ وَبَيْنَ الْأَحَادِيثِ الْقَاضِيَةِ أنه في كُلَّ لَيْلَةٍ فَإِنَّ النُّزُولَ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ مُطْلَقٌ وَالنُّزُولُ فِي كُلِّ لَيْلَةِ مُقَيَّدٌ بِالنِّصْفِ فِي لَفْظٍ وَبِالثُّلُثِ فِي آخَرَ2، عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي تَخْصِيصِ النُّزُولِ بِنِصْفِ شَعْبَانَ نَفْيٌ لَهُ فِيمَا عَدَاهَا, وَالْأَحَادِيثُ الَّتِي فِيهَا النُّزُولُ كُلَّ لَيْلَةٍ أَكْثَرُ وَأَشْهَرُ وَأَصَحُّ بِلَا شَكٍّ وَلَا مِرْيَةٍ. وَقَدْ ثَبَتَ النُّزُولُ أَيْضًا فِي عَشِيَّةِ عَرَفَةَ كَمَا رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا كَانَ عَرَفَةُ فَإِنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فَيُبَاهِي بِهِمُ الْمَلَائِكَةَ فَيَقُولُ: انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي أَتَوْنِي شُعْثًا غُبْرًا أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ" 3. وَرَوَاهُ الْخَلَّالُ فِي السُّنَّةِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي النَّضْرِ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْهُ يَرْفَعُهُ "أَفْضَلُ أَيَّامِ الدُّنْيَا أَيَّامُ الْعَشْرِ" قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا مِثْلُهُنَّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ: "إِلَّا مَنْ عَفَّرَ وَجْهَهُ فِي التُّرَابِ, إِنَّ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ يَنْزِلُ اللَّهُ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ: انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي هَؤُلَاءِ شُعْثًا غُبْرًا جَاءُوا مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ضَاحِينَ يَسْأَلُونِي رَحْمَتِي. فَلَا يَرَى يَوْمًا أَكْثَرَ عَتِيقًا وَلَا عَتِيقَةً" 4 وَرَوَى خَلَّادُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَجَاءَ رَجُلَانِ أَحَدُهُمَا أَنْصَارِيٌّ وَالْآخَرُ ثَقَفِيٌّ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ: "إِنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ: هَؤُلَاءِ عِبَادِي جَاءُونِي شُعْثًا غُبْرًا مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ, اشْهَدُوا أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ ذُنُوبَهُمْ"5 رَوَاهُ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ عَنْ مُجَاهِدٍ بِهِ. وَقَدْ
رُوِيَ النُّزُولُ فِي رَمَضَانَ, وَلَيْسَ هُوَ نَافِيًا لَهُ فِي غَيْرِهِ. فَرَوَى عَلِيُّ بْنُ مَعْبَدٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ عَنْ طَارِقٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ: "إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَنْزِلُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ إِذَا ذَهَبَ الثُّلُثُ الْأَوَّلُ مِنَ اللَّيْلِ هَبَطَ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا ثُمَّ قَالَ: هَلْ مِنْ سَائِلٍ يُعْطَى, هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ يُغْفَرُ لَهُ, هَلْ مِنْ تَائِبٍ يُتَابُ عَلَيْهِ" 1. وَرَوَى عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى قَالَ: ابْنُ أَبِي لَيْلَى عَنِ الْمِنْهَالِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إِبْرَاهِيمَ: 27] قَالَ: "يَنْزِلُ اللَّهُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ يُدَبِّرُ أَمْرَ السَّنَةِ فَيَمْحُو مَا يَشَاءُ غَيْرَ الشَّقَاوَةِ وَالسَّعَادَةِ وَالْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ"2 وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ. وَهَذَا الْمَوْقُوفُ لَهُ حُكْمُ الْمَرْفُوعِ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ مِنْ قِبَلِ الرَّأْيِ وَقَدْ ثَبَتَ النُّزُولُ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ وَلِلتَّجَلِّي لِأَهْلِ الْجَنَّةِ كَمَا سَتَأْتِي الْأَحَادِيثُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ. وَنَحْنُ نَشْهَدُ شَهَادَةَ مُقِرٍّ بِلِسَانِهِ مُصَدِّقٍ بِقَلْبِهِ مُسْتَيْقِنٍ بِمَا فِي هَذِهِ الْأَخْبَارِ مِنْ ذِكْرِ نُزُولِ الرَّبِّ جَلَّ وَعَلَا مِنْ غَيْرِ أَنْ نَصِفَ الْكَيْفِيَّةَ؛ لِأَنَّ نَبِيَّنَا الْمُصْطَفَى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمْ يَصِفْ كَيْفِيَّةَ نُزُولِ خَالِقِنَا إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا, وَأَعْلَمَنَا أَنَّهُ يَنْزِلُ, وَاللَّهُ جَلَّ وَعَلَا لَمْ يَتْرُكْ وَلَا نَبِيُّهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَيَانَ مَا بِالْمُسْلِمِينَ إِلَيْهِ الْحَاجَةُ مِنْ أَمْرِ دِينِهِمْ. فَنَحْنُ قَائِلُونَ مُصَدِّقُونَ بِمَا فِي هَذِهِ الْأَخْبَارِ مِنْ ذِكْرِ النُّزُولِ كَمَا يَشَاءُ رَبُّنَا وَعَلَى مَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ وَعَظَمَتِهِ عَزَّ وَجَلَّ غَيْرَ مُتَكَلِّفِينَ الْقَوْلَ بِصِفَتِهِ أَوْ بِصِفَةِ الْكَيْفِيَّةِ, إِذِ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمْ يَصِفْ لَنَا كَيْفِيَّةَ النُّزُولِ, فَنَسِيرُ بِسَيْرِ النُّصُوصِ حَيْثُ سَارَتْ وَنَقِفُ مَعَهَا حَيْثُ وَقَفَتْ لَا نَعْدُوهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَا نَقْصُرُ عَنْهَا. وَقَدْ تَكَلَّفَتْ جَمَاعَةٌ مِنْ مُثْبِتِي
الْمُتَكَلِّمِينَ فَخَاضُوا فِي مَعْنَى ذَلِكَ, وَفِي ذَلِكَ الِانْتِقَالِ وَعَدَمِهِ, وَفِي خُلُوِّ الْعَرْشِ مِنْهُ وَعَدَمِهِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا وَذَلِكَ تَكَلُّفٌ مِنْهُمْ, وَدُخُولٌ فِيمَا لَا يَعْنِيهِمْ, وَهُوَ ضَرْبٌ مِنَ التَّكْيِيفِ لَمْ يَأْتِ فِي لَفْظِ النُّصُوصِ وَلَمْ يَسْأَلِ الصَّحَابَةُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ حِينَ حَدَّثَهُمْ بِالنُّزُولِ, فَنَحْنُ نُؤْمِنُ بِذَلِكَ ونصدق بِهِ كَمَا آمَنُوا وَصَدَّقُوا. فَإِنْ قَالَ لَنَا مُتَعَنِّتٌ أَوْ مُتَنَطِّعٌ: يَلْزَمُ مِنْ إِثْبَاتِ كَذَا كَيْتَ وَكَيْتَ فِي أَيِّ شَيْءٍ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ, قُلْنَا لَهُ: أَنْتَ لَا تُلْزِمُنَا نَحْنُ فِيمَا تَدَّعِيهِ وَإِنَّمَا تُلْزِمُ قَائِلَ ذَلِكَ وَهُوَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَازِمًا لِمَا قَالَهُ حَقِيقَةً وَجَبَ الْإِيمَانُ بِهِ إِذْ لَازِمُ الْحَقِّ حَقٌّ, وَإِنْ لَمْ يَكُ ذَلِكَ لَازِمًا لَهُ فَأَنْتَ مُعْتَرِضٌ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَاذِبٌ عَلَيْهِ مُتَقَدِّمٌ بَيْنَ يَدَيْهِ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْحَاكِمِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ صَالِحِ بْنِ هَانِئٍ سَمِعَ أَحْمَدَ بْنَ سَلَمَةَ سَمِعْتُ إِسْحَاقَ بْنَ رَاهَوَيْهِ يَقُولُ: جَمَعَنِي وَهَذَا الْمُبْتَدِعَ -يَعْنِي إِبْرَاهِيمَ بْنَ أَبِي صَالِحٍ- مَجْلِسُ الْأَمِيرِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ فَسَأَلَنِي الْأَمِيرُ عَنْ أَخْبَارِ النُّزُولِ فَسَرَدْتُهَا, فَقَالَ بن أَبِي صَالِحٍ كَفَرْتُ بِرَبٍّ يَنْزِلُ مِنْ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ. فَقُلْتُ: آمَنْتُ بِرَبٍّ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ1. وَقَالَ إِسْحَاقُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: دَخَلْتُ عَلَى ابْنِ طَاهِرٍ فَقَالَ: مَا هَذِهِ الْأَحَادِيثُ يَرْوُونَ أَنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا؟ قُلْتُ: نَعَمْ, رَوَاهَا الثِّقَاتُ الَّذِينَ يَرْوُونَ الأحكام, فقال: ينزع وَيَدَعُ عَرْشَهُ؟ فَقُلْتُ: يَقْدِرُ أَنْ يَنْزِلَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَخْلُوَ مِنْهُ الْعَرْشُ؟ قَالَ: نَعَمْ, فَقُلْتُ: فَلِمَ تَتَكَلَّمُ فِي هَذَا2. وَقَالَ إِسْحَاقُ أَيْضًا: قَالَ لِي ابْنُ طَاهِرٍ: يَا أَبَا يَعْقُوبَ هَذَا الَّذِي تَرْوُونَهُ: "يَنْزِلُ رَبُّنَا كُلَّ لَيْلَةٍ" كَيْفَ يَنْزِلُ؟ قُلْتُ: أَعَزَّ اللَّهُ الْأَمِيرَ, لَا كَيْفَ, إِنَّمَا يَنْزِلُ بِلَا كَيْفٍ3. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ الرِّبَاطِيُّ: حَضَرْتُ مَجْلِسَ ابْنِ طَاهِرٍ وَحَضَرَ إِسْحَاقُ, فَسُئِلَ عَنْ حَدِيثِ النُّزُولِ أَصَحِيحٌ هُوَ؟ قَالَ: نَعَمْ, فَقَالَ لَهُ بَعْضُ الْقُوَّادِ: كَيْفَ يَنْزِلُ؟ فَقَالَ: أَثْبِتْهُ فَوْقَ حَتَّى أَصِفَ لَكَ النُّزُولَ, فَقَالَ الرَّجُلُ: أَثْبَتُّهُ فَوْقَ, فَقَالَ إِسْحَاقُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الْفَجْرِ: 22] فَقَالَ ابْنُ طَاهِرٍ: هَذَا يَا أَبَا
آية {هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام}
يَعْقُوبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. فَقَالَ: وَمَنْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ يَمْنَعُهُ الْيَوْمَ؟ ا. هـ.1. مِنْ كِتَابِ الْعُلُوِّ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ إِسْحَاقُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ عَامَّةُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ كَمَا قَدَّمْنَا عَنْهُمْ فِي جَمِيعِ نُصُوصِ الصِّفَاتِ, وَأَنَّ مَذْهَبَهُمْ إِمْرَارُهَا كَمَا جَاءَتْ وَالْإِيمَانُ بِهَا بِلَا كَيْفٍ. وَأَنَّهُ يَجِيءُ يَوْمَ الْفَصْلِ ... كَمَا يَشَاءُ لِلْقَضَاءِ الْعَدْلِ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} [الْبَقَرَةِ: 210] وَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الْأَنْعَامِ: 158] وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَوْمَ تَشَقُّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا} [الْفُرْقَانِ: 25] وَقَالَ تَعَالَى: {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكَّا، وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الْفَجْرِ: 21-22] وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} [الزُّمَرِ: 69] . وَفِي حَدِيثِ الصُّورِ الْمَشْهُورِ الَّذِي سَاقَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ الْمَسَانِيدِ وَغَيْرُهُمْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَفِيهِ: "إِنَّ النَّاسَ إِذَا اهْتَمُّوا لِمَوْقِفِهِمْ فِي الْعَرَصَاتِ تَشَّفَعُوا إِلَى رَبِّهِمْ بِالْأَنْبِيَاءِ وَاحِدًا وَاحِدًا مِنْ آدَمَ فَمَنْ بَعْدَهُ, فَكُلُّهُمْ يَحِيدُ عَنْهَا حَتَّى يَنْتَهُوا إِلَى مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَإِذَا جَاءُوا إِلَيْهِ قَالَ: أَنَا لَهَا أَنَا لَهَا, فَيَذْهَبُ فَيَسْجُدُ لِلَّهِ تَعَالَى تَحْتَ الْعَرْشِ وَيَشْفَعُ عِنْدَ اللَّهِ فِي أَنْ يَأْتِيَ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ بَيْنَ الْعِبَادِ فَيُشَفِّعُهُ اللَّهُ وَيَأْتِي فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ بَعْدَمَا تَنْشَقُّ السَّمَاءُ الدُّنْيَا وَيَنْزِلُ مَنْ فِيهَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ ثُمَّ الثَّانِيَةُ ثُمَّ الثَّالِثَةُ إِلَى السَّابِعَةِ, وَيَنْزِلُ حَمَلَةُ الْعَرْشِ وَالْكَرُوبِيُّونَ. قَالَ: وَيَنْزِلُ الْجَبَّارُ عَزَّ وَجَلَّ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَلَهُمْ زَجَلٌ مِنْ تَسْبِيحِهِمْ يَقُولُونَ: سُبْحَانَ ذِي الْمُلْكِ وَالْمَلَكُوتِ, سُبْحَانَ ذِي الْعِزَّةِ
وَالْجَبَرُوتِ سُبْحَانَ الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ, سُبْحَانَ الَّذِي يُمِيتُ الْخَلَائِقَ وَلَا يَمُوتُ, سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ رَبُّ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّوحِ, سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ سُبْحَانَ رَبِّنَا الْأَعْلَى, سُبْحَانَ ذِي السُّلْطَةِ وَالْعَظَمَةِ, سُبْحَانَهُ سُبْحَانَهُ أَبَدًا أَبَدًا"1. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "يَجْمَعُ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ أَرْبَعِينَ سَنَةً شَاخِصَةً أَبْصَارُهُمْ إِلَى السَّمَاءِ يَنْتَظِرُونَ فَصْلَ الْقَضَاءِ وَيَنْزِلُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ مِنَ الْعَرْشِ إِلَى الْكُرْسِيِّ" رَوَاهُ ابْنُ مَنْدَهْ, وَقَالَ الذَّهَبِيُّ: إِسْنَادُهُ حَسَنٌ2. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نَزَلَ الرَّبُّ إِلَى الْعِبَادِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ3. وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "يَهْبِطُ الرَّبُّ تَعَالَى مِنَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ إِلَى الْمَقَامِ الَّذِي هُوَ قَائِمُهُ, ثُمَّ يَخْرُجُ عُنُقٌ مِنَ النَّارِ فَيُظِلُّ الْخَلَائِقَ كُلَّهُمْ فَيَقُولُ: أُمِرْتُ بِكُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ, وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ عَزِيزٌ كَرِيمٌ, وَمَنْ دَعَا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ" رَوَاهُ أَبُو أَحْمَدَ الْعَسَّالُ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ4. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَفِيهِ: "يَجْمَعُ اللَّهُ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ: مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئًا فَلْيَتْبَعْهُ, فَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الشَّمْسَ الشَّمْسَ, وَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الْقَمَرَ الْقَمَرَ, وَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الطَّوَاغِيتَ الطَّوَاغِيتَ, وَتَبْقَى هَذِهِ الْأُمَّةُ فِيهَا شَافِعُوهَا -أَوْ مُنَافِقُوهَا شَكَّ إِبْرَاهِيمُ, يَعْنِي ابْنَ سَعْدٍ الرَّاوِيَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ- فَيَأْتِيهِمُ اللَّهُ
رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة
تَعَالَى فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ فَيَقُولُونَ: هَذَا مَكَانُنَا حَتَّى يَأْتِيَنَا رَبُّنَا فَإِذَا جاء ربنا عرفنا, فَيَأْتِيهِمُ اللَّهُ فِي صُورَتِهِ الَّتِي يَعْرِفُونَ, فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَبُّنَا فَيَتْبَعُونَهُ, وَيُضْرَبُ الصِّرَاطُ بَيْنَ ظَهْرَيْ جَهَنَّمَ"1 وَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ. وَلَهُمَا نَحْوُهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَفِيهِ: "حَتَّى يَبْقَى مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ مِنْ بَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ, فَيُقَالُ لَهُمْ: مَا يَحْبِسُكُمْ وَقَدْ ذَهَبَ النَّاسُ؟ فَيَقُولُونَ: فَارَقْنَاهُمْ وَنَحْنُ أَحْوَجُ مِنَّا إِلَيْهِمُ الْيَوْمَ, وَإِنَّا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي: لِيَلْحَقْ كُلُّ قَوْمٍ بِمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ, وَإِنَّمَا نَنْتَظِرُ رَبَّنَا قَالَ: فَيَأْتِيهِمُ الْجَبَّارُ فِي صُورَةٍ غَيْرِ صُورَتِهِ الَّتِي رَأَوْهُ فِيهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَبُّنَا. فَلَا يُكَلِّمُهُ إِلَّا الْأَنْبِيَاءُ فَيَقُولُ: هَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ آيَةٌ تَعْرِفُونَهُ؟ فَيَقُولُونَ: السَّاقُ فَيَكْشِفُ عَنْ سَاقِهِ فَيَسْجُدُ لَهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ. وَيَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ لِلَّهِ رِيَاءً وَسُمْعَةً فَيَذْهَبُ كَيْمَا يَسْجُدُ فَيَعُودُ ظَهْرُهُ طَبَقًا وَاحِدًا" 2 وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ, قَالَ الذَّهَبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: أَحَادِيثُ نُزُولِ الْبَارِي مُتَوَاتِرَةٌ قَدْ سُقْتُ طُرُقَهَا وَتَكَلَّمْتُ عَلَيْهَا بِمَا أُسْأَلُ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ3. رُؤْيَةُ الْمُؤْمِنِينَ رَبَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: وَإِنَّهُ يُرَى بِلَا إِنْكَارِ ... فِي جَنَّةِ الْفِرْدَوْسِ بِالْأَبْصَارِ كُلٌّ يَرَاهُ رُؤْيَةَ الْعِيَانِ ... كَمَا أَتَى فِي مُحْكَمِ الْقُرْآنِ وَفِي حَدِيثِ سَيِّدِ الْأَنَامِ ... مِنْ غَيْرِ مَا شَكٍ وَلَا إِيهَامِ رُؤْيَةَ حَقٍّ لَيْسَ يَمْتُرُونَهَا ... كَالشَّمْسِ صَحْوًا لَا سَحَابَ دُونَهَا وَخُصَّ بِالرُّؤْيَةِ أَوْلِيَاؤُهُ ... فَضِيلَةً وَحُجِبُوا أَعْدَاؤُهُ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [الْقِيَامَةِ: 23-24] وَقَالَ تَعَالَى: {لِلَّذَيْنِ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يُونُسَ: 26]
وَقَالَ تَعَالَى: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق: 35] وَقَالَ تَعَالَى فِي شَأْنِ الْكُفَّارِ: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [الْمُطَفِّفِينَ: 15] فَإِذَا حُجِبَ أَوْلِيَاؤُهُ فَأَيُّ فَضِيلَةٍ لَهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِ, وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ، هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ، لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ، سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس: 55-58] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ، عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ} [الْمُطَفِّفِينَ: 23] وَهَذِهِ الْآيَاتُ صَرِيحَةُ الدَّلَالَةِ عَلَى رُؤْيَةِ الْمُؤْمِنِينَ رَبَّهُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَا تَقْبَلُ تَحْرِيفًا وَلَا تَأْوِيلًا وَلَا يَرُدُّهَا إِلَّا مُكَابِرٌ قَدْ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ. وَقَدْ تَوَاتَرَتِ الْأَحَادِيثُ بِمَعْنَى مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَاتُ رَوَاهَا أَئِمَّةُ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ فِي دَوَاوِينِ الْإِسْلَامِ عَنْ فُضَلَاءِ الصَّحَابَةِ وَأَجِلَّائِهِمْ؛ كَأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ, وَأَبِي هُرَيْرَةَ, وَأَبِي سَعِيدٍ, وَجَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ, وَصُهَيْبٍ, وَابْنِ مَسْعُودٍ, وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ, وَأَبِي مُوسَى, وَأَنَسٍ, وَبُرَيْدَةَ بْنِ الْحَصِيبِ, وَأَبِي رَزِينٍ, وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ, وَأَبِي أُمَامَةَ, وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ, وَعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ, وَعَائِشَةَ, وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ, وَعَمَّارِ بْنِ رُوَيْبَةَ, وَسَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ, وَحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ, وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ, وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ, وَعُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ, وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ, وَكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ, وَأَبِي الدَّرْدَاءِ, وَفَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ, وَعَدِيِ بْنِ أَرْطَأَةَ, وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ, وَغَيْرِهِمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ, وَهَذَا أَوَانُ سَرْدِهَا فَأَلْقِ سَمْعَكَ وَأَحْضِرْ قَلْبَكَ, وَتَأَمَّلْهَا تَأَمُّلَ طَالِبٍ لِلْحَقِّ لَا نَافِرٍ عَنْهُ, وَكُنْ مِنَ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ, وَإِيَّاكَ وَسُوءَ الظَّنِّ بِكَلَامِ اللَّهِ وَكَلَامِ رَسُولِهِ فَذَلِكَ الْهَلَكَةُ وَمَا ضَلَّ مَنْ ضَلَّ وَهَلَكَ مَنْ هَلَكَ إِلَّا لِسُوءِ ظَنِّهِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِهِ. فَعَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ, قَالَ: أَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذَاتَ يَوْمٍ فَصَلَّى الْغَدَاةَ فَجَلَسَ حَتَّى إِذَا كَانَ الضُّحَى ضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثُمَّ جَلَسَ مَكَانَهُ حَتَّى صَلَّى الْأُولَى, وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ كُلُّ ذَلِكَ لَا يَتَكَلَّمُ حَتَّى صَلَّى الْعِشَاءَ الْأَخِيرَةَ ثُمَّ قَامَ إِلَى أَهْلِهِ فَقَالَ النَّاسُ لِأَبِي بَكْرٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَلَا تَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا شَأْنُهُ؟ صَنَعَ الْيَوْمَ شَيْئًا لَمْ يَصْنَعْهُ قَطُّ. قَالَ فَسَأَلَهُ, فَقَالَ: نَعَمْ عُرِضَ عَلَيَّ مَا هُوَ كَائِنٌ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ, فَجُمِعَ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَقَطَعَ النَّاسُ بِذَلِكَ حَتَّى انْطَلَقُوا إِلَى آدَمَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالْعَرَقُ يَكَادُ يُلْجِمُهُمْ, فَقَالُوا: يَا آدَمُ أَنْتَ أَبُو الْبَشَرِ وَأَنْتَ اصْطَفَاكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ عَزَّ وَجَلَّ, قَالَ: لَقَدْ لَقِيتُ مِثْلَ الَّذِي لَقِيتُمْ, انْطَلِقُوا إِلَى أَبِيكُمْ بَعْدَ أَبِيكُمْ؛ إِلَى نُوحٍ {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} [آلِ عِمْرَانَ: 33] قَالَ: فَيَنْطَلِقُونَ إلى نوح -عليه السلام- فَيَقُولُونَ: اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ فَأَنْتَ اصْطَفَاكَ اللَّهُ وَاسْتَجَابَ لَكَ فِي دُعَائِكَ, وَلَمْ يَدَعْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا. فَيَقُولُ: لَيْسَ ذَلِكُمْ عِنْدِي, انْطَلِقُوا إلى إبراهيم -عليه السلام- فَإِنَّ اللَّهَ اتَّخَذَهُ خَلِيلًا. فَيَنْطَلِقُونَ إلى إبراهيم -عليه السلام- فَيَقُولُ: لَيْسَ ذَلِكُمْ عِنْدِي انْطَلِقُوا إلى موسى -عليه السلام- فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ كَلَّمَهُ تَكْلِيمًا. فيقول موسى -عليه السلام- لَيْسَ ذَلِكُمْ عِنْدِي, انْطَلِقُوا إِلَى عِيسَى بن مريم -عليه السلام- فَإِنَّهُ كَانَ يُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَيُحْيِي الْمَوْتَى, فَيَقُولُ عِيسَى: لَيْسَ ذَلِكُمْ عِنْدِي, انْطَلِقُوا إِلَى سَيِّدِ وَلَدِ آدَمَ, انْطَلِقُوا إِلَى مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلْيَشْفَعْ لَكُمْ إِلَى رَبِّكُمْ عَزَّ وَجَلَّ, قَالَ: فَيَنْطَلِقُ فَيَأْتِي جِبْرِيلُ رَبَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى, فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ائْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ, فَيَنْطَلِقُ بِهِ جِبْرِيلُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَيَخِرُّ سَاجِدًا قدر جمعة, فيقول اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ارْفَعْ رَأْسَكَ وَقُلْ يُسْمَعْ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ, قَالَ: فَيَرْفَعُ رَأْسَهُ فَإِذَا نَظَرَ إِلَى وَجْهِ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ خَرَّ سَاجِدًا قَدْرَ جُمُعَةٍ أُخْرَى, فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ارْفَعْ رَأْسَكَ وَقُلْ تُسْمَعْ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ, قَالَ: فَيَذْهَبُ لِيَضَعَ سَاجِدًا فَيَأْخُذُ جِبْرِيلُ بِضَبْعَيْهِ فَيَفْتَحُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنَ الدُّعَاءِ شَيْئًا, لَمْ يَفْتَحْهُ عَلَى بَشَرٍ قَطُّ, فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ خَلَقْتَنِي سَيِّدَ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ, وَأَوَّلَ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ, حَتَّى إِنَّهُ يَرِدُ عَلَى الْحَوْضِ أَكْثَرُ مِمَّا بَيْنَ صَنْعَاءَ وَأَيْلَةَ, ثُمَّ يُقَالُ: ادْعُوا الصِّدِّيقِينَ فَيَشْفَعُونَ, ثُمَّ يُقَالُ: ادْعُوا الْأَنْبِيَاءَ قَالَ: فَيَجِيءُ النَّبِيُّ وَمَعَهُ الْعِصَابَةُ, وَالنَّبِيُّ وَمَعَهُ الْخَمْسَةُ وَالسِّتَّةُ, وَالنَّبِيُّ وَلَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ, ثُمَّ يُقَالُ: ادْعُوا الشُّهَدَاءَ فَيَشْفَعُونَ لِمَنْ أَرَادُوا, قَالَ: فَإِذَا فَعَلَتِ الشُّهَدَاءُ ذَلِكَ, قَالَ: فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَنَا أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ, أَدْخِلُوا جَنَّتِي مَنْ كَانَ لَا يُشْرِكُ بِي شَيْئًا, قَالَ: فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ. قَالَ: ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: "انْظُرُوا فِي أَهْلِ النَّارِ هَلْ تَلْقَوْنَ مَنْ عَمِلَ خَيْرًا قَطُّ؟
قَالَ:فَيَجِدُونَ فِي النَّارِ رَجُلًا, فَيَقُولُونَ لَهُ: هَلْ عَمِلْتَ خَيْرًا قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لَا, غَيْرَ أَنِّي كُنْتُ أُسَامِحُ النَّاسَ فِي الْبَيْعِ, فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: اسْمَحُوا لِعَبْدِي بِسَمَاحَتِهِ إِلَى عَبِيدِي. ثُمَّ يُخْرِجُونَ مِنَ النَّارِ رَجُلًا فَيَقُولُونَ لَهُ: هَلْ عَمِلْتَ خَيْرًا قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لَا, غَيْرَ أَنِّي أَمَرْتُ وَلَدِي إِذَا مت فأحرقوني في النار ثُمَّ اطْحَنُونِي حَتَّى إِذَا كُنْتُ مِثْلَ الْكُحْلِ فَاذْهَبُوا بِي إِلَى الْبَحْرِ فَاذْرُونِي فِي الرِّيحِ فَوَاللَّهِ لَا يَقْدِرُ عَلَيَّ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَبَدًا. فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ له: لِم فعل ذَلِكَ؟ قَالَ: مِنْ مَخَافَتِكَ. قَالَ فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: انْظُرْ إِلَى مُلْكِ أَعْظَمِ مَلِكٍ فَإِنَّ لَكَ مِثْلَهُ وَعَشْرَةَ أَمْثَالِهِ, قَالَ فَيَقُولُ: أَتَسْخَرُ بِي وَأَنْتَ الْمَلِكُ؟ قَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَذَلِكَ الَّذِي ضَحِكْتُ مِنْهُ الضُّحَى" رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى1. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ نَاسًا قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ" قَالُوا: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ, قَالَ: "هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ" قَالُوا: لَا, قَالَ: "فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ كَذَلِكَ, يَجْمَعُ اللَّهُ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ: مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئًا فَلْيَتْبَعْهُ, فَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الشَّمْسَ الشَّمْسَ, وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ الْقَمَرَ الْقَمَرَ, وَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الطَّوَاغِيتَ الطَّوَاغِيتَ, وَتَبْقَى هَذِهِ الْأُمَّةُ فِيهَا مُنَافِقُوهَا, فَيَأْتِيهِمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي صُورَةٍ غَيْرِ صُورَتِهِ الَّتِي يَعْرِفُونَ فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ. فَيَقُولُونَ: نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ, هَذَا مَكَانُنَا حَتَّى يَأْتِيَنَا رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ. فَإِذَا جَاءَ رَبُّنَا عَرَفْنَاهُ, فَيَأْتِيهِمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي صُورَتِهِ الَّتِي يَعْرِفُونَ, فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ, فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَبُّنَا, فَيَتَّبِعُونَهُ, وَيُضْرَبُ الصِّرَاطُ بَيْنَ ظَهَرَانَيْ جَهَنَّمَ فَأَكُونُ أَنَا وَأُمَّتِي
أَوَّلَ مَنْ يُخَيَّرُ, وَلَا يَتَكَلَّمُ يَوْمَئِذٍ إِلَّا الرُّسُلُ, وَدَعْوَى الرُّسُلِ يَوْمَئِذٍ: اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ, وَفِي جَهَنَّمَ كَلَالِيبُ مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ, هَلْ رَأَيْتُمْ شَوْكَ السَّعْدَانِ؟ " قَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ, قَالَ: "فَإِنَّهَا مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ, غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ قَدْرَ عِظَمِهَا إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ, تَخْطَفُ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ, فَمِنْهُمُ الْمَوْبَقُ بِعَمَلِهِ وَمِنْهُمُ الْمُجَازَى. فَإِذَا فَرَغَ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْقَضَاءِ بَيْنَ الْعِبَادِ وَأَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ بِرَحْمَتِهِ مَنْ أَرَادَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ أَنْ يُخْرِجُوا مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا مِمَّنْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَرْحَمَهُ مِمَّنْ يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ, فَيَعْرِفُونَهُمْ بِأَثَرِ السُّجُودِ وَتَأْكُلُ النَّارُ مِنَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا أَثَرَ السُّجُودِ, حَرَّمَ اللَّهُ عَلَى النَّارِ أَنْ تَأْكُلَ أَثَرَ السُّجُودِ, فَيَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ قَدِ امْتَحَشُوا فَيُصَبُّ عَلَيْهِمْ مَاءُ الْحَيَاةِ فَيَنْبُتُونَ كَمَا تَنْبُتُ الْحَبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ, ثُمَّ يَفْرُغُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْقَضَاءِ بَيْنَ الْعِبَادِ, وَيَبْقَى رَجُلٌ مُقْبِلٌ بِوَجْهِهِ عَلَى النَّارِ وَهُوَ آخِرُ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا الْجَنَّةَ فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ اصْرِفْ وَجْهِي عَنِ النَّارِ فَإِنَّهُ قَدْ قَشَبَنِي رِيحُهَا وَأَحْدَقَنِي ذُكَاؤُهَا, فَيَدْعُو اللَّهَ مَا شَاءَ أَنْ يَدْعُوَهُ, ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: هَلْ عَسَيْتَ إِنْ فَعَلْتُ ذَلِكَ أَنْ تَسْأَلَ غَيْرَهُ؟ فَيَقُولُ: لَا أَسْأَلُكَ غَيْرَهُ, فَيُعْطِي رَبَّهُ مِنْ عُهُودٍ وَمَوَاثِيقَ مَا شَاءَ اللَّهُ فَيَصْرِفُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ, فَإِذَا أَقْبَلَ عَلَى الْجَنَّةِ وَرَآهَا سَكَتَ, مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَسْكُتَ, ثُمَّ يَقُولُ: أَيْ رَبِّ قَدِّمْنِي إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ, فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَلَيْسَ قَدْ أَعْطَيْتَ عُهُودَكَ وَمَوَاثِيقَكَ لَا تَسْأَلُنِي غَيْرَ الَّذِي أعطيتك, ويلك يابن آدَمَ مَا أَغْدَرَكَ. فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ فَيَدْعُو اللَّهَ حَتَّى يَقُولَ لَهُ: فَهَلْ عَسَيْتَ إِنْ أَعْطَيْتُكَ ذَلِكَ أَنْ تَسْأَلَنِي غَيْرَهُ؟ فَيَقُولُ: لَا وَعِزَّتِكَ, فَيُعْطِي رَبَّهُ مَا شَاءَ مِنْ عُهُودٍ وَمَوَاثِيقَ فَيُقَدِّمُهُ إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ, فَإِذَا قَامَ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ انْفَهَقَتْ لَهُ الْجَنَّةُ فَيَرَى مَا فِيهَا مِنَ الْخَيْرِ وَالسُّرُورِ, فَسَكَتَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَسْكُتَ, ثُمَّ يَقُولُ: أَيْ رَبِّ أَدْخِلْنِي الْجَنَّةَ فَيَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَلَيْسَ قَدْ أَعْطَيْتَ عُهُودَكَ وَمَوَاثِيقَكَ أَنْ لَا تَسْأَلَنِي غَيْرَ مَا أعطيت؟ ويلك يابن آدَمَ مَا أَغْدَرَكَ. فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ لَا أَكُونُ أَشْقَى خَلْقِكَ, فَلَا يَزَالُ يَدْعُو اللَّهَ حَتَّى يَضْحَكَ اللَّهُ مِنْهُ, فَإِذَا ضَحِكَ اللَّهُ مِنْهُ قَالَ: ادْخُلِ الْجَنَّةَ, فَإِذَا دَخَلَهَا قَالَ اللَّهُ لَهُ: تَمَنَّ. فَيَسْأَلُ رَبَّهُ وَيَتَمَنَّى حَتَّى إِنَّ اللَّهَ لَيُذَكِّرُهُ, فَيَقُولُ لَهُ: تَمَنَّ كَذَا وَكَذَا, حَتَّى إِذَا انْقَطَعَتْ بِهِ الْأَمَانِيُّ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ذَلِكَ لَكَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ" قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: وَعَشْرَةُ أَمْثَالِهِ مَعَهُ. قَالَ
عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ: وَأَبُو سَعِيدٍ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ لَا يَرُدُّ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِهِ شَيْئًا, حَتَّى إِذَا حَدَّثَ أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ لِذَلِكَ الرَّجُلِ وَمِثْلُهُ, قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: وَعَشْرَةُ أَمْثَالِهِ مَعَهُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ, قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: مَا حَفِظْتُ إِلَّا قَوْلَهُ: "ذَلِكَ لَكَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ"، قَالَ أَبُو سَعِيدٌ: أَشْهَدُ أَنِّي حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَوْلَهُ: "ذَلِكَ لَكَ وَعَشْرَةُ أَمْثَالِهِ" قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَذَلِكَ آخِرُ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا الْجَنَّةَ1. وَلَهُمَا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ نَاسًا فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نَعَمْ هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ بِالظَّهِيرَةِ صَحْوًا لَيْسَ فِيهَا سَحَابٌ؟ " قَالُوا: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: "مَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا كَمَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ أَحَدِهِمَا, إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ: لِتَتْبَعْ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ فَلَا يَبْقَى أَحَدٌ كَانَ يَعْبُدُ غَيْرَ اللَّهِ مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَنْصَابِ إِلَّا يَتَسَاقَطُونَ فِي النَّارِ, حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ إِلَّا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ مِنْ بَرٍّ وَفَاجِرٍ وَغُبَّرَاتِ أَهْلِ الْكِتَابِ, فَتُدْعَى الْيَهُودُ فَيُقَالُ لَهُمْ: مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ؟ قَالُوا: كنا نعبد عزير ابْنَ اللَّهِ, فَيُقَالُ كَذِبْتُمْ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ صَاحِبَةٍ وَلَا وَلَدٍ, فَمَاذَا تَبْغُونَ؟ قَالُوا: عَطِشْنَا يَا رَبَّنَا فَاسْقِنَا. فَيُشَارُ إِلَيْهِمْ أَلَا تَرِدُونَ. فَيُحْشَرُونَ إِلَى النَّارِ كَأَنَّهَا سَرَابٌ يُحَطِّمُ بَعْضُهَا بَعْضًا فَيَتَسَاقَطُونَ فِي النَّارِ, ثُمَّ يُقَالُ لِلنَّصَارَى مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ؟ فَيَقُولُونَ: كُنَّا نَعْبُدُ الْمَسِيحَ ابْنَ الله. فيقال لهم: كَذِبْتُمْ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ صَاحِبَةٍ وَلَا وَلَدٍ. فَيُقَالُ لَهُمْ: مَاذَا تَبْغُونَ؟ فَيَقُولُونَ: عَطِشْنَا يَا رَبَّنَا فَاسْقِنَا, فَيُشَارُ إِلَيْهِمْ أَلَا تَرِدُونَ فَيُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ كَأَنَّهَا سَرَابٌ يُحَطِّمُ بَعْضُهَا بَعْضًا فَيَتَسَاقَطُونَ فِي النَّارِ. حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ إِلَّا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ مِنْ بَرٍّ وَفَاجِرٍ أَتَاهُمْ رَبُّ الْعَالَمِينَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي أَدْنَى صُورَةٍ مِنَ الَّتِي رَأَوْهُ فِيهَا, قَالَ: فَمَا تَنْتَظِرُونَ لِتَتْبَعْ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ, قَالُوا: يَا رَبَّنَا فَارَقْنَا النَّاسَ فِي الدُّنْيَا أَفْقَرَ مَا كُنَّا إِلَيْهِمْ وَلَمْ نُصَاحِبْهُمْ, فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ, فَيَقُولُونَ: نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ وَلَا نَشُكُّ بِاللَّهِ شَيْئًا "مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا" حَتَّى إِنَّ بَعْضَهُمْ لَيَكَادُ أَنْ يَنْقَلِبَ. فَيَقُولُ: هَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ آيَةٌ تَعْرِفُونَهُ بِهَا؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ, فَيُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ فَلَا يَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ
لِلَّهِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ إِلَّا أَذِنَ اللَّهُ لَهُ بِالسُّجُودِ, وَلَا يَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ اتِّقَاءً وَرِيَاءً إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ ظَهْرَهُ طَبَقَةً وَاحِدَةً كُلَّمَا أَرَادَ أَنْ يَسْجُدَ خَرَّ عَلَى قَفَاهُ, ثُمَّ يَرْفَعُونَ رُءُوسَهُمْ وَقَدْ تَحَوَّلَ فِي صُورَتِهِ الَّتِي رَأَوْهُ فِيهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ, فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَبُّنَا. ثُمَّ يُضْرَبُ لَهُمُ الْجِسْرُ عَلَى جَهَنَّمَ وَتَحُلُّ الشَّفَاعَةُ" قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْجِسْرُ؟ قَالَ: "دَحْضٌ مَزِلَّةٌ وَخَطَاطِيفُ وَكَلَالِيبُ وَحَسَكَةٌ تَكُونُ بِنَجْدٍ فِيهَا شُوَيْكَةٌ يُقَالُ لَهَا السَّعْدَانُ فَيَمُرُّ الْمُؤْمِنُونَ كَطَرْفِ الْعَيْنِ وَكَالْبَرْقِ وَكَالرِّيحِ وَكَالطَّيْرِ وَكَأَجَاوِيدِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ, فَنَاجٍ مُسَلَّمٌ وَمَخْدُوشٌ مُرْسَلٌ وَمَكْدُوسٌ فِي نَارِ جَهَنَّمَ, حَتَّى إِذَا خَلَصَ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا مِنْ أَحَدٍ مِنْكُمْ بِأَشَدِّ مُنَاشَدَةً فِي اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لِلَّهِ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ فِي النَّارِ, يَقُولُونَ: رَبَّنَا كَانُوا يَصُومُونَ مَعَنَا وَيُصَلُّونَ مَعَنَا وَيَحُجُّونَ, فَيُقَالُ لَهُمْ: أَخْرِجُوا مَنْ عَرَفْتُمْ فَيُحَرِّمُ صُوَرَهُمْ عَلَى النَّارِ, فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا قَدْ أَخَذَتِ النَّارُ إِلَى أَنْصَافِ سَاقَيْهِ وَإِلَى رُكْبَتَيْهِ, فَيَقُولُونَ: رَبَّنَا مَا بَقِيَ فِيهَا أَحَدٌ مِمَّنْ أَمَرْتَنَا. فَيَقُولُ: ارْجِعُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ نِصْفِ دِينَارٍ مِنْ خَيْرٍ فَأَخْرِجُوهُ, فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا, ثُمَّ يَقُولُونَ: رَبَّنَا لَمْ نَذَرْ فِيهَا أَحَدًا مِمَّنْ أَمَرْتَنَا, ثُمَّ يُقَالُ: ارْجِعُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ فَأَخْرِجُوهُ, فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا ثُمَّ يَقُولُونَ: رَبَّنَا لَمْ نَذَرْ فِيهَا أَحَدًا مِمَّنْ أَمَرْتَنَا، ثُمَّ يُقَالُ: ارْجِعُوا، فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ فَأَخْرِجُوهُ، فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا، ثُمَّ يَقُولُونَ: رَبَّنَا لَمْ نَذَرْ فِيهَا خَيْرًا قَطُّ. وَكَانَ أَبُو سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: إِنْ لَمْ تُصَّدِّقُونِي بِهَذَا الْحَدِيثِ فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النِّسَاءِ: 40] فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: شَفَعَتِ الْمَلَائِكَةُ وَشَفَعَ النَّبِيُّونَ وَشَفَعَ الْمُؤْمِنُونَ وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ, فَيَقْبِضُ قَبْضَةً مِنَ النَّارِ فَيُخْرِجُ مِنْهَا قَوْمًا لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ قَدْ عَادُوا حُمَمًا فَيُلْقِيهِمْ فِي نَهَرٍ فِي أَفْوَاهِ الْجَنَّةِ يُقَالُ لَهُ نَهْرُ الْحَيَاةِ فَيَخْرُجُونَ كَمَا تَخْرُجُ الْحَبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ, أَلَا تَرَوْنَهَا تَكُونُ إِلَى الْحَجَرِ أَوِ الشَّجَرِ, مَا يَكُونُ مِنْهَا إِلَى الشَّمْسِ أُصَيْفِرٌ وَأُخَيْضِرٌ, وَمَا يَكُونُ مِنْهَا إِلَى الظِّلِّ أَبْيَضُ" فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَأَنَّكَ كُنْتَ تَرْعَى بِالْبَادِيَةِ قَالَ: "فَيَخْرُجُونَ كَاللُّؤْلُؤِ فِي رِقَابِهِمُ الْخَوَاتِيمُ يَعْرِفُهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ فَيَقُولُ أَهْلُ الْجَنَّةِ: هَؤُلَاءِ عُتَقَاءُ اللَّهِ الَّذِينَ
أَدْخَلَهُمُ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ عَمَلٍ عَمِلُوهُ وَلَا خَيْرٍ قَدَّمُوهُ, ثُمَّ يَقُولُ: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ فَمَا رَأَيْتُمُوهُ فَهُوَ لَكُمْ, فَيَقُولُونَ: رَبَّنَا أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ, فَيَقُولُ: لَكُمْ عِنْدِي أَفْضَلُ مِنْ هَذَا, فَيَقُولُونَ: يَا رَبَّنَا وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ هَذَا؟ فَيَقُولُ تَعَالَى: رِضَائِي فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا" 1 وَفِيهِمَا عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَنَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ لَيْلَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ فَقَالَ: "إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ عِيَانًا كَمَا تَرَوْنَ هَذَا لَا تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ, فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لَا تُغْلَبُوا عَلَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَصَلَاةٍ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَافْعَلُوا" 2. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ صُهَيْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: تُرِيدُونَ شَيْئًا أَزِيدُكُمْ؟ يَقُولُونَ: أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا أَلَمْ تُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ وَتُنْجِنَا مِنَ النَّارِ؟ قَالَ: فَيُكْشَفُ الْحِجَابُ فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ" ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ {لِلَّذَيْنِ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} 3 وَلِلطَّبَرَانِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "يَجْمَعُ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ أَرْبَعِينَ سَنَةً شَاخِصَةً أَبْصَارُهُمْ إِلَى السَّمَاءِ يَنْتَظِرُونَ فَصْلَ الْقَضَاءِ, وَيَنْزِلُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ مِنَ الْعَرْشِ إِلَى الْكُرْسِيِّ, ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ: أَيُّهَا النَّاسُ أَلَمْ تَرْضَوْا مِنْ رَبِّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَرَزَقَكُمْ وَأَمَرَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا أَنْ يُوَلَّى كُلُّ أُنَاسٍ مِنْكُمْ مَا كَانُوا يَتَوَلَّوْنَ وَيَعْبُدُونَ فِي الدُّنْيَا, أَلَيْسَ ذَلِكَ عَدْلًا مِنْ رَبِّكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى, قَالَ: فَيَنْطَلِقُ كُلُّ قَوْمٍ إِلَى مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ, وَيَتَوَلَّوْنَ فِي الدُّنْيَا, قَالَ: فَيَنْطَلِقُونَ وَيُمَثَّلُ لَهُمْ أَشْبَاهُ مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ, فَمِنْهُمْ مَنْ يَنْطَلِقُ إِلَى الشَّمْسِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْطَلِقُ إِلَى الْقَمَرِ وَإِلَى الْأَوْثَانِ مِنَ الْحِجَارَةِ وَأَشْبَاهِ مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ. قَالَ: وَيُمَثَّلُ لِمَنْ كَانَ يَعْبُدُ عِيسَى شَيْطَانُ عِيسَى وَيُمَثَّلُ لِمَنْ كَانَ يَعْبُدُ عُزَيْرًا شَيْطَانُ عُزَيْرٍ, وَيَبْقَى
مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأُمَّتُهُ فَيَأْتِيهِمُ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ فَيَقُولُ: مَا بَالُكُمْ لَا تَنْطَلِقُونَ كَمَا انْطَلَقَ النَّاسُ؟ قَالَ فَيَقُولُونَ: إِنَّ لَنَا إِلَهًا مَا رَأَيْنَاهُ بَعْدُ. فَيَقُولُ: هَلْ تَعْرِفُونَهُ إِنْ رَأَيْتُمُوهُ؟ فَيَقُولُونَ: إِنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ عَلَامَةً إِذَا رَأَيْنَاهَا عَرَفْنَاهُ. قَالَ فَيَقُولُ: مَا هِيَ؟ فَيَقُولُونَ: يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ, فَعِنْدَ ذَلِكَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ فَيَخِرُّونَ لَهُ سُجَّدًا, وَيَبْقَى قَوْمٌ ظُهُورُهُمْ كَصَيَاصِي الْبَقَرِ يُرِيدُونَ السُّجُودَ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ, وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ, ثُمَّ يَقُولُ: ارْفَعُوا رءوسكم فيرفعون رؤوسهم فَيُعْطِيهِمْ نُورَهُمْ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ, فَمِنْهُمْ مَنْ يُعْطَى نُورَهُ عَلَى قَدْرِ الْجَبَلِ الْعَظِيمِ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ, وَمِنْهُمْ مَنْ يُعْطَى نُورًا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ, وَمِنْهُمْ مَنْ يُعْطَى نُورًا مِثْلَ النَّخْلَةِ بِيَمِينِهِ, وَمِنْهُمْ مَنْ يُعْطَى نُورًا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى يَكُونَ آخِرُهُمْ رَجُلًا يُعْطَى نُورَهُ عَلَى إِبْهَامِ قَدَمِهِ, يُضِيءُ مَرَّةً وَيُطْفَأُ مَرَّةً فَإِذَا أَضَاءَ قَدَّمَ قَدَمَهُ وَمَشَى وَإِذَا طُفِئَ قَامَ, وَالرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَمَامَهُمْ حَتَّى يَمُرَّ فِي النَّارِ فَيَبْقَى أَثَرُهُ كَحَدِّ السَّيْفِ قَالَ وَيَقُولُ: مُرُّوا فَيَمُرُّونَ عَلَى قَدْرِ نُورِهِمْ, مِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَطَرْفِ الْعَيْنِ, وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَالْبَرْقِ, وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَالسَّحَابِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَانْقِضَاضِ الْكَوْكَبِ, وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَالرِّيحِ, وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَشَدِّ الْفَرَسِ, وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَشَدِّ الرَّجُلِ, حَتَّى يَمُرَّ الذي أعطي نوره عَلَى قَدْرِ إِبْهَامِ قَدَمِهِ يَحْبُو عَلَى وَجْهِهِ وَيَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ, تُجَرُّ يَدٌ وَتُعَلَّقُ يَدٌ وتجر رِجْلٌ وَتُعَلَّقُ رِجْلٌ, وَتُصِيبُ جَوَانِبَهُ النَّارُ, فَلَا يَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يَخْلُصَ فَإِذَا خَلَصَ وَقَفَ عَلَيْهَا ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ لَقَدْ أَعْطَانِي اللَّهُ مَا لَمْ يُعْطِ أَحَدًا إِذْ نَجَّانِي مِنْهَا بَعْدَ أَنْ رَأَيْتُهَا, قَالَ: فَيُنَطَلَقُ بِهِ إِلَى غَدِيرٍ عِنْدَ بَابِ الْجَنَّةِ فَيَغْتَسِلُ فَيَعُودُ إِلَيْهِ رِيحُ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَلْوَانُهُمْ فَيَرَى مَا فِي الْجَنَّةِ مِنْ خِلَالِ الْبَابِ فَيَقُولُ: رَبِّ أَدْخِلْنِي الْجَنَّةَ فَيَقُولُ: اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَهُ: أَتَسْأَلُ الْجَنَّةَ وَقَدْ نَجَّيْتُكَ مِنَ النَّارِ؟ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ اجْعَلْ بَيْنِي وَبَيْنَهَا حِجَابًا لَا أَسْمَعُ حَسِيسَهَا, قَالَ: فَيَدْخُلُ الجنة قال: ويرى أَوْ يُرْفَعُ لَهُ مَنْزِلٌ أَمَامَ ذَلِكَ كَأَنَّمَا الَّذِي هُوَ فِيهِ إِلَيْهِ حُلْمٌ لِيَدْخُلَهُ فَيَقُولُ: رَبِّ أَعْطِنِي ذَلِكَ الْمَنْزِلَ, فَيَقُولُ: فَلَعَلَّكَ إِنْ أَعْطَيْتُكَهُ تَسْأَلُ غَيْرَهُ, فَيَقُولُ: لَا وَعِزَّتِكَ لَا أَسْأَلُ غَيْرَهُ وَأَيُّ مَنْزِلٍ يَكُونُ أَحْسَنَ مِنْهُ. قَالَ: فَيُعْطَاهُ فَيَنْزِلُهُ قَالَ: وَيَرَى أَوْ يُرْفَعُ لَهُ أَمَامَ ذَلِكَ مَنْزِلٌ آخَرُ لِيَدْخُلَهُ فَيَقُولُ:
أَيْ رَبِّ أَعْطِنِي ذَلِكَ الْمَنْزِلَ, فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: فَلَعَلَّكَ إِنْ أَعْطَيْتُكَهُ تَسْأَلُ غَيْرَهُ. قَالَ: لَا وَعِزَّتِكَ لَا أَسْأَلُ غَيْرَهُ, وَأَيُّ مَنْزِلٍ يَكُونُ أَحْسَنَ مِنْهُ. قَالَ فَيُعْطَاهُ فَيَنْزِلُهُ. قَالَ: وَيَرَى أَوْ يُرْفَعُ لَهُ أَمَامَ ذَلِكَ مَنْزِلٌ آخَرُ كَأَنَّمَا الَّذِي هُوَ فِيهِ إِلَيْهِ حُلْمٌ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ أَعْطِنِي ذَلِكَ الْمَنْزِلَ. فَيَقُولُ اللَّهُ جَلَّ جَلَالُهُ: فَلَعَلَّكَ إِنْ أَعْطَيْتُكَهُ تَسْأَلُ غَيْرَهُ. قَالَ: لَا وَعِزَّتِكَ لَا أَسْأَلُ غَيْرَهُ. وَأَيُّ مَنْزِلٍ يَكُونُ أَحْسَنَ مِنْهُ؟ قَالَ: فَيُعْطَاهُ فَيَنْزِلُهُ ثُمَّ يَسْكُتُ, فَيَقُولُ اللَّهُ عز وجل: مالك لَا تَسْأَلُ؟ فَيَقُولُ: رَبِّ قَدْ سَأَلْتُكَ حَتَّى اسْتَحْيَيْتُكَ وَأَقْسَمْتُ لَكَ حَتَّى اسْتَحْيَيْتُكَ, فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَلَا تَرْضَى أَنْ أُعْطِيَكَ مِثْلَ الدُّنْيَا مُنْذُ خَلَقْتُهَا إِلَى يَوْمِ أَفْنَيْتُهَا وَعَشْرَةَ أَضْعَافِهِ, فَيَقُولُ: أَتَسْتَهْزِئُ بِي وَأَنْتَ رَبُّ الْعِزَّةِ؟ فَيَضْحَكُ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ قَوْلِهِ. قَالَ: فَرَأَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِذَا بَلَغَ هَذَا الْمَكَانَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ ضَحِكَ. فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَدْ سَمِعْتُكَ تُحَدِّثَ بِهَذَا الْحَدِيثِ مِرَارًا كُلَّمَا بَلَغْتَ هَذَا الْمَكَانَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ ضَحِكْتَ. فَقَالَ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُحَدِّثُ بِهَذَا الْحَدِيثِ مِرَارًا كُلَّمَا بَلَغَ هَذَا المكان من هذا الْحَدِيثِ ضَحِكَ حَتَّى تَبْدُوَ أَضْرَاسُهُ. قَالَ فَيَقُولُ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ: لَا وَلَكِنِّي عَلَى ذَلِكَ قَادِرٌ سَلْ, فَيَقُولُ: أَلْحِقْنِي بِالنَّاسِ. فَيَقُولُ الْحَقْ: بِالنَّاسِ. قَالَ: فَيَنْطَلِقُ يَرْمُلُ فِي الْجَنَّةِ حَتَّى إِذَا دَنَا مِنَ النَّاسِ رُفِعَ لَهُ قَصْرٌ مِنْ دُرَّةٍ فَيَخِرُّ سَاجِدًا, فَيُقَالُ لَهُ: ارفع رأسك مالك؟ فَيَقُولُ: رَأَيْتُ رَبِّي أَوْ تَرَاءَى لِي رَبِّي, فَيُقَالُ: إِنَّمَا هُوَ مَنْزِلٌ مِنْ مَنَازِلِكَ. قَالَ: ثُمَّ يَلْقَى فِيهَا رَجُلًا فَيَتَهَيَّأُ لِلسُّجُودِ فَيُقَالُ لَهُ مَهْ, فَيَقُولُ: رَأَيْتُ أَنَّكَ مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ, فَيَقُولُ لَهُ: إِنَّمَا أَنَا خَازِنٌ مِنْ خُزَّانِكَ, عَبْدٌ مِنْ عَبِيدِكَ تَحْتَ يَدِي أَلْفُ قَهْرَمَانٍ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ, قَالَ: فَيَنْطَلِقُ أَمَامَهُ حَتَّى يَفْتَحَ لَهُ الْقَصْرَ, قَالَ: وَهُوَ فِي دُرَّةٍ مُجَوَّفَةٍ سَقَائِفُهَا وَأَبْوَابُهَا وَأَغْلَاقُهَا وَمَفَاتِيحُهَا مِنْهَا, تَسْتَقْبِلُهُ جَوْهَرَةٌ خَضْرَاءُ مُبَطَّنَةٌ بِحَمْرَاءَ كُلُّ جَوْهَرَةٍ تُفْضِي إِلَى جَوْهَرَةٍ عَلَى غَيْرِ لَوْنِ الْأُخْرَى, فِي كُلِّ جَوْهَرَةٍ سُرُرٌ وَأَزْوَاجٌ وَوَصَائِفُ أَدْنَاهُنَّ حَوْرَاءُ عَيْنَاءُ عَلَيْهَا سَبْعُونَ حُلَّةً يُرَى مُخُّ سَاقِهَا مِنْ وَرَاءِ حُلَلِهَا كَبِدُهَا مِرْآتُهُ وَكَبِدُهُ مِرْآتُهَا, إِذَا أَعْرَضَ عَنْهَا إِعْرَاضَةً ازْدَادَتْ فِي عَيْنِهِ سَبْعِينَ ضِعْفًا عَمَّا كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ, فَيَقُولُ لَهَا: وَاللَّهِ لَقَدِ ازْدَدْتِ فِي عَيْنِي سَبْعِينَ ضِعْفًا, فَتَقُولُ لَهُ: وَاللَّهِ وَاللَّهِ وَأَنْتَ لَقَدِ ازْدَدْتَ فِي عَيْنِي
سَبْعِينَ ضِعْفًا. فَيُقَالُ لَهُ: أَشْرِفْ, قَالَ فَيُشْرِفُ, فَيُقَالُ لَهُ: مُلْكُكَ مَسِيرَةُ مِائَةِ عَامٍ يَنْفُذُهُ بَصَرُهُ" قَالَ فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَلَا تَسْمَعُ إِلَى مَا يُحَدِّثُنَا ابْنُ أُمِّ عَبْدٍ يَا كَعْبُ عَنْ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلًا, فَكَيْفَ أَعْلَاهُمْ؟ قَالَ كَعْبٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فِيهَا مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ, إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ جَعَلَ دَارًا فِيهَا مَا شَاءَ مِنَ الْأَزْوَاجِ وَالثَّمَرَاتِ وَالْأَشْرِبَةِ, ثُمَّ أَطْبَقَهَا فَلَمْ يَرَهَا أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ لَا جِبْرِيلُ وَلَا غَيْرُهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. ثُمَّ قَرَأَ كَعْبٌ: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} قَالَ: وَخَلَقَ دُونَ ذَلِكَ جَنَّتَيْنِ وَزَيَّنَهُمَا بِمَا شَاءَ وَأَرَاهُمَا مَنْ شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ, ثُمَّ قَالَ: مَنْ كَانَ كِتَابُهُ فِي عِلِّيِّينَ نَزَلَ تِلْكَ الدَّارَ الَّتِي لَمْ يَرَهَا أَحَدٌ, حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ مِنْ أَهْلِ عِلِّيِّينَ لَيَخْرُجُ فَيَسِيرُ فِي مُلْكِهِ فَلَا تَبْقَى خَيْمَةٌ مِنْ خِيَامِ الْجَنَّةِ إِلَّا دَخَلَهَا مِنْ ضَوْءِ وَجْهِهِ فَيَسْتَبْشِرُونَ بِرِيحِهِ فَيَقُولُونَ: وَاهًا لِهَذِهِ الرِّيحِ, هَذَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ عِلِّيِّينَ قَدْ خَرَجَ يَسِيرُ فِي مُلْكِهِ, فَقَالَ: وَيْحَكَ يَا كَعْبُ هَذِهِ الْقُلُوبُ قَدِ اسْتَرْسَلَتْ فَاقْبِضْهَا. فَقَالَ كَعْبٌ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ لِجَهَنَّمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَزَفْرَةً مَا يَبْقَى مِنْ مَلَكٍ مُقَرَّبٍ وَلَا نَبِيٍّ مُرْسَلٍ إِلَّا يَخِرُّ لِرُكْبَتَيْهِ حَتَّى إِنَّ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَ اللَّهِ يَقُولُ: "رَبِّ نَفْسِي نَفْسِي" حَتَّى لَوْ كَانَ لَكَ عَمَلُ سَبْعِينَ نَبِيًّا إِلَى عَمَلِكَ لَظَنَنْتَ أَنَّكَ لَا تَنْجُو"1. قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: هَذَا حَدِيثٌ كَبِيرٌ حَسَنٌ رَوَاهُ الْمُصَنِّفُونَ فِي السُّنَّةِ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ وَالطَّبَرَانِيِّ وَالدَّارَقُطْنِيِّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى, وَرَوَى يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَزُورُ أَهْلُ الْجَنَّةِ الرَّبَّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي كُلِّ جُمُعَةٍ" وَذَكَرَ مَا يُعْطَوْنَ قَالَ: "ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: اكْشِفُوا حِجَابًا فَيُكْشَفُ حِجَابٌ ثُمَّ حِجَابٌ ثُمَّ يَتَجَلَّى لَهُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْ وَجْهِهِ فَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْا نِعْمَةً قَبْلَ ذَلِكَ, وَهُوَ قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} 2 وَفِي الصَّحِيحَيْنِ
عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "جَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا, وَجَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا, وَمَا بَيْنَ الْقَوْمِ وَمَا بَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ إِلَّا رِدَاءُ الْكِبْرِيَاءِ عَلَى وَجْهِهِ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ" 1. وَلِأَحْمَدَ عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَجْمَعُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْأُمَمَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ, فَإِذَا بَدَا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَصْدَعَ بَيْنَ خَلْقِهِ مَثَّلَ لِكُلِّ قَوْمٍ مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ فَيَتْبَعُونَهُمْ حَتَّى يُقْحِمُوهُمُ النَّارَ, ثُمَّ يَأْتِينَا رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ وَنَحْنُ عَلَى مَكَانٍ رَفِيعٍ فَيَقُولُ: مَنْ أَنْتُمْ؟ فَنَقُولُ: نَحْنُ الْمُسْلِمُونَ, فَيَقُولُ: مَا تَنْتَظِرُونَ؟ فَنَقُولُ: نَنْتَظِرُ رَبَّنَا عَزَّ وَجَلَّ, فَيَقُولُ وَهَلْ تَعْرِفُونَهُ إِنْ رَأَيْتُمُوهُ. فَنَقُولُ: نَعَمْ إِنَّهُ لَا عَدْلَ لَهُ, فَيَتَجَلَّى لَنَا ضَاحِكًا فَيَقُولُ: أَبْشِرُوا يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ, فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا جَعَلْتُ فِي النَّارِ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا مَكَانَهُ"2 وَفِي رِوَايَةٍ: "يَتَجَلَّى لَنَا رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ ضَاحِكًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ". وَلِلدَّارَقُطْنِيِّ عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "يَبْعَثُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُنَادِيًا بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ أَوَّلُهُمْ وَآخِرُهُمْ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَعَدَكُمُ الْحُسْنَى وَزِيَادَةً, فَالْحُسْنَى الْجَنَّةُ وَالزِّيَادَةُ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِهِ عَزَّ وَجَلَّ"3 رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ وَهْبٍ. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه قال: بينا أَنَا عِنْدَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذْ أَتَى إِلَيْهِ رَجُلٌ فَشَكَى إِلَيْهِ الْفَاقَةَ. ثُمَّ أتى إليه آخَرُ فَشَكَى إِلَيْهِ قَطْعَ السَّبِيلِ, فَقَالَ: "يَا عَدِيُّ هَلْ رَأَيْتَ الْحِيرَةَ" قُلْتُ: لَمْ أَرَهَا وَقَدْ أُنْبِئْتُ عَنْهَا, قَالَ: "فَإِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ لَتَرَيَنَّ الظَّعِينَةَ تَرْتَحِلُ مِنَ الْحِيرَةِ حَتَّى تَطُوفَ بِالْكَعْبَةِ لَا تَخَافُ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ -قُلْتُ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَ نَفْسِي فَأَيْنَ دُعَّارُ طَيٍّ الَّذِينَ سَعَّرُوا الْبِلَادَ- وَلَئِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ لَتُفْتَحَنَّ كُنُوزُ كِسْرَى". قُلْتُ: كِسْرَى بْنُ هُرْمُزَ؟
قَالَ: "كِسْرَى بْنُ هُرْمُزَ, وَلَئِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ لَتَرَيَنَّ الرَّجُلَ يُخْرِجُ مِلْءَ كَفِّهِ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ يَطْلُبُ مَنْ يَقْبَلُهُ مِنْهُ فَلَا يَجِدُ أَحَدًا يَقْبَلُهُ مِنْهُ, وَلَيَلْقَيَنَّ اللَّهُ أَحَدَكُمْ يَوْمَ يَلْقَاهُ وليس بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ حِجَابٌ وَلَا تُرْجُمَانٌ يترجم له فيقول: أَلَمْ أَبْعَثْ إِلَيْكَ رَسُولًا فَيُبَلِّغَكَ؟ فَيَقُولُ: بَلَى يَا رَبِّ فَيَقُولُ: أَلَمْ أُعْطِكَ مَالًا وَأُفْضِلُ عَلَيْكَ؟ فَيَقُولُ: بَلَى, فَيَنْظُرُ عَنْ يَمِينِهِ فَلَا يَرَى إِلَّا جَهَنَّمَ وَيَنْظُرُ عَنْ يَسَارِهِ فَلَا يَرَى إِلَّا جَهَنَّمَ. قَالَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ, فَمَنْ لَمْ يَجِدْ شِقَّ تَمْرَةٍ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ". قَالَ عَدِيٌّ: فَرَأَيْتُ الظَّعِينَةَ تَرْتَحِلُ مِنَ الْحِيرَةِ حَتَّى تَطُوفَ بِالْكَعْبَةِ لَا تَخَافُ إِلَّا اللَّهَ, وَكُنْتُ فِيمَنِ افْتَتَحَ كُنُوزَ كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ, وَلَئِنْ طَالَتْ بِكُمْ حَيَاةٌ لترون ما قال النَّبِيُّ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ1. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَجْمَعُ اللَّهُ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَهْتَمُّونَ لِذَلِكَ -وَفِي لَفْظٍ فَيُلْهَمُونَ لِذَلِكَ- فَيَقُولُونَ: لَوِ اسْتَشْفَعْنَا إِلَى رَبِّنَا عَزَّ وَجَلَّ حَتَّى يُرِيحَنَا مِنْ مَكَانِنَا هَذَا, فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ: أَنْتَ آدَمُ أَبُو الْخَلْقِ خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ وَأَمَرَ الْمَلَائِكَةَ فَسَجَدُوا لَكَ, اشْفَعْ لَنَا عِنْدَ رَبِّنَا حَتَّى يُرِيحَنَا مِنْ مَكَانِنَا هَذَا, فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ, فَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَ فَيَسْتَحِي رَبَّهُ مِنْهَا, وَلَكِنِ ائْتُوا نُوحًا أَوَّلَ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ, قَالَ: فَيَأْتُونَ نُوحًا فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ فَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَ فَيَسْتَحِي رَبَّهُ مِنْهَا, وَلَكِنِ ائْتُوا إِبْرَاهِيمَ الَّذِي اتَّخَذَهُ اللَّهُ خَلِيلًا, فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَ فَيَسْتَحِي رَبَّهُ مِنْهَا, وَلَكِنِ ائْتُوا مُوسَى الَّذِي كَلَّمَهُ اللَّهُ تَكْلِيمًا وَأَعْطَاهُ التَّوْرَاةَ فَيَأْتُونَ مُوسَى فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَ فَيَسْتَحِي رَبَّهُ مِنْهَا, وَلَكِنِ ائْتُوا عِيسَى رُوحَ اللَّهِ وَكَلِمَتَهُ, فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ وَلَكِنِ ائْتُوا مُحَمَّدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَبْدًا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَيَأْتُونِي فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي فَيَأْذَنُ لِي, فَإِذَا أَنَا رَأَيْتُهُ فَأَقَعُ لَهُ سَاجِدًا فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِي, فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ وَقُلْ تُسْمَعْ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأَحْمَدُ رَبِّي بِتَحْمِيدٍ يُعَلِّمُنِيهِ رَبِّي, ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحِدُّ لِي حَدًّا فَأُخْرِجُهُمْ مِنَ النَّارِ وَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ. ثُمَّ أَعُودُ فَأَقَعُ سَاجِدًا فَيَدَعُنِي ما شاء اللَّهُ أَنْ
يَدَعَنِي ثُمَّ يُقَالُ: ارْفَعْ رَأْسَكَ يَا مُحَمَّدُ قُلْ تُسْمَعْ وَسَلْ تُعْطَ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ, فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأَحْمَدُ رَبِّي بِتَحْمِيدٍ يُعَلِّمُنِيهِ رَبِّي ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحِدُّ لِي حَدًّا فَأُخْرِجُهُمْ مِنَ النَّارِ وَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ. قَالَ: فَلَا أَدْرِي فِي الثَّالِثَةِ أَوِ الرَّابِعَةِ فَأَقُولُ: يَا رَبِّ مَا بَقِيَ فِي النَّارِ إِلَّا مَنْ حَبَسَهُ الْقُرْآنُ" 1 أَيْ: وَجَبَ عَلَيْهِ الْخُلُودُ وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ خُزَيْمَةَ: "يَلْقَى النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَلْقَوْهُ مِنَ الْحَبْسِ, فَيَقُولُونَ: انْطَلِقُوا بِنَا إِلَى آدَمَ فَيَشْفَعُ لَنَا إِلَى رَبِّنَا -فَذَكَرَ الْحَدِيثَ إِلَى أَنْ قَالَ- فَيَنْطَلِقُونَ إِلَى مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَقُولُ: أَنَا لَهَا, فَأَنْطَلِقُ حَتَّى أَسْتَفْتِحَ بَابَ الْجَنَّةِ فَيُفْتَحَ لِي فَأَدْخُلَ وَرَبِّي عَلَى عَرْشِهِ فَأَخِرُّ سَاجِدًا" 2 وَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِي رِوَايَةٍ: "فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي فَإِذَا رَأَيْتُهُ وَقَعْتُ لَهُ سَاجِدًا" 3 وَفِي رِوَايَةٍ: "فَآتِي رَبِّي وَهُوَ عَلَى سَرِيرِهِ -أَوْ كُرْسِيِّهِ- فَأَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا" 4. وَسَاقَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ بِسِيَاقٍ طَوِيلٍ وَقَالَ فِيهِ: "فَأَسْتَفْتِحُ فَإِذَا نَظَرْتُ إِلَى الرَّحْمَنِ وَقَعْتُ لَهُ سَاجِدًا" 5 وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: "آخُذُ بِحَلْقَةِ بَابِ الْجَنَّةِ فَيُؤْذَنُ لِي فَيَسْتَقْبِلُنِي وَجْهُ الْجَبَّارِ جَلَّ جَلَالُهُ فَأَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا" 6. وَلِلْدَارَقُطْنِيِّ عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {لِلَّذَيْنِ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} قَالَ: "النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ"7. وَلَهُ وعنه رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "أَتَانِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَفِي كَفِّهِ كَالْمِرْآةِ الْبَيْضَاءِ يَحْمِلُهَا فِيهَا كَالنُّكْتَةِ السَّوْدَاءِ, فَقُلْتُ: مَا هَذِهِ الَّتِي فِي
يَدِكَ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ هَذِهِ الْجُمُعَةُ, قُلْتُ: وَمَا الْجُمُعَةُ؟ قَالَ: لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ كَثِيرٌ. قُلْتُ: وَمَا يَكُونُ لَنَا فِيهَا؟ قَالَ: يكون عيدا لكم وَلِقَوْمِكَ مِنْ بَعْدِكَ. وَيَكُونُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى تَبَعًا لَكُمْ, قُلْتُ: وَمَا لَنَا فِيهَا؟ قَالَ: لَكُمْ فِيهَا سَاعَةٌ لَا يَسْأَلُ اللَّهَ عَبْدٌ فِيهَا شَيْئًا هُوَ لَهُ قُسِمَ إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ, أَوْ ليس له تقسم إِلَّا ذُخِرَ لَهُ فِي آخِرَتِهِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ. قُلْتُ: مَا هَذِهِ النُّكْتَةُ الَّتِي فِيهَا؟ قَالَ: هِيَ السَّاعَةُ وَنَحْنُ نَدْعُوهُ يَوْمَ الْمَزِيدِ. قُلْتُ: وَمَا ذَاكَ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: إِنْ رَبَّكَ اتَّخَذَ فِي الْجَنَّةِ وَادِيًا فِيهِ كُثْبَانٌ مِنْ مِسْكٍ أَبْيَضَ فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ هَبَطَ مِنْ عِلِّيِّينَ عَلَى كُرْسِيِّهِ فَيُحَفُّ الْكُرْسِيُّ بِكَرَاسِيَّ مِنْ نُورٍ فَيَجِيءُ النَّبِيُّونَ حَتَّى يَجْلِسُوا عَلَى تِلْكَ الْكَرَاسِيِّ وَيُحَفُّ الْكَرَاسِيُّ بِمَنَابِرَ مِنْ نُورٍ وَمِنْ ذَهَبٍ مُكَلَّلَةٍ بِالْجَوَاهِرِ, ثُمَّ يَجِيءُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ حَتَّى يَجْلِسُوا عَلَى تِلْكَ الْمَنَابِرِ, ثُمَّ يَنْزِلُ أَهْلُ الْغُرَفِ مِنْ غُرَفِهِمْ حَتَّى يَجْلِسُوا عَلَى تِلْكَ الْكُثْبَانِ, ثُمَّ يَتَجَلَّى لَهُمْ عَزَّ وَجَلَّ فَيَقُولُ: أَنَا الَّذِي صَدَقْتُكُمْ وَعْدِي, وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي, وَهَذَا مَحَلُّ كَرَامَتِي, فَسَلُونِي فَيَسْأَلُونَهُ حَتَّى تَنْتَهِيَ رَغْبَتُهُمْ فَيَفْتَحُ لَهُمْ فِي ذَلِكَ مَا لَا عَيْنٌ ورأت وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ, وَذَلِكَ بِمِقْدَارِ مُنْصَرَفِكُمْ مِنَ الْجُمُعَةِ, ثُمَّ يَرْتَفِعُ عَلَى كُرْسِيِّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَيَرْتَفِعُ مَعَهُ النَّبِيُّونَ وَالصِّدِّيقُونَ وَيَرْجِعُ أَهْلُ الْغُرَفِ إِلَى غُرَفِهِمْ وَهِيَ لُؤْلُؤَةٌ بَيْضَاءُ وَزَبَرْجَدَةٌ خَضْرَاءُ وَيَاقُوتَةٌ حَمْرَاءُ, غُرَفُهَا وَأَبْوَابُهَا وَأَنْهَارُهَا مُطَّرِدَةٌ فِيهَا وَأَزْوَاجُهَا وَخُدَّامُهَا وَثِمَارُهَا مُتَدَلِّيَاتٌ فِيهَا, فَلَيْسُوا إِلَى شَيْءٍ أَحْوَجَ مِنْهُمْ إِلَى يَوْمِ الْجُمُعَةِ لِيَزْدَادُوا نَظَرًا إِلَى رَبِّهِمْ وَيَزْدَادُوا مِنْهُ كَرَامَةً" هَذَا حَدِيثٌ كَبِيرٌ عَظِيمُ الشَّأْنِ رَوَاهُ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ وَتَلَقَّوْهُ بِالْقَبُولِ. وَجَمَّلَ بِهِ الشَّافِعِيُّ مُسْنَدَهُ1. وَرَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ2 وَعَمْرُو بْنُ أَبِي قَيْسٍ, وَفِيهِ: "فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ نَزَلَ عَلَى كُرْسِيِّهِ ثُمَّ
حَفَّ الْكَرَاسِيَّ بِمَنَابِرَ مِنْ نُورٍ فَيَجِيءُ النَّبِيُّونَ حَتَّى يَجْلِسُوا عَلَيْهَا. وَيَجِيءُ أَهْلُ الْغُرَفِ حَتَّى يَجْلِسُوا عَلَى الْكُثُبِ. قَالَ: ثُمَّ يَتَجَلَّى لَهُمْ رَبُّهُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ فَيَقُولُ: أَنَا الَّذِي صَدَقْتُكُمْ وَعْدِي, وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي, وَهَذَا مَحَلُّ كَرَامَتِي سَلُونِي. فَيَسْأَلُونَهُ الرِّضَا قَالَ: رِضَايَ أَنْزَلَكُمْ دَارِي وَأَنَالَكُمْ كَرَامَتِي, سَلُونِي فَيَسْأَلُونَهُ الرِّضَا قَالَ: فَيُشْهِدُهُمْ بِالرِّضَا, ثُمَّ يَسْأَلُونَهُ حَتَّى تَنْتَهِيَ رَغْبَتُهُمْ"1. وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَرَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ حَرْبٍ2 وَالْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ3 وَفِي رِوَايَتِهِ: "ثُمَّ يَرْتَفِعُ عَلَى كُرْسِيِّهِ وَيَرْتَفِعُ مَعَهُ النَّبِيُّونَ وَالصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ, وَيَرْجِعُ أَهْلُ الْغُرَفِ إِلَى غُرَفِهِمْ" وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: بَيْنَا نَحْنُ حَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذْ قَالَ: "أَتَانِي جِبْرِيلُ فِي يَدِهِ كَالْمِرْآةِ الْبَيْضَاءِ فِي وَسَطِهَا كَالنُّكْتَةِ السَّوْدَاءِ. قُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ مَا هَذَا؟ قَالَ: هَذَا يَوْمُ الْجُمُعَةِ يَعْرِضُهُ عَلَيْكَ رَبُّكَ لَيُكُونَ لَكَ عِيدًا وَلِأُمَّتِكَ مِنْ بَعْدِكَ. قَالَ قُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ مَا هَذِهِ النُّكْتَةُ السَّوْدَاءُ؟ قَالَ: هِيَ السَّاعَةُ وَهِيَ تَقُومُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَهُوَ سَيِّدُ أَيَّامِ الدُّنْيَا وَنَحْنُ نَدْعُوهُ فِي الْجَنَّةِ يَوْمَ الْمَزِيدِ. قَالَ قُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ وَلِمَ تَدْعُونَهُ يَوْمَ الْمَزِيدَ؟ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ اتَّخَذَ فِي الْجَنَّةِ وَادِيًا أَفْيَحَ مِنْ مِسْكٍ أَبْيَضَ, فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ نَزَلَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ عَلَى كُرْسِيِّهِ أَعْلَى ذَلِكَ الْوَادِي وَقَدْ حُفَّ الْكُرْسِيُّ بِمَنَابِرَ مِنْ ذَهَبٍ مُكَلَّلَةٍ بِالْجَوْهَرِ وَقَدْ حُفَّتْ تِلْكَ الْمَنَابِرُ بِكَرَاسِيَّ مِنْ نُورٍ, ثُمَّ يُؤْذَنُ لِأَهْلِ الْغُرَفِ فَيُقْبِلُونَ يَخُوضُونَ كُثْبَانَ الْمِسْكِ إِلَى الرُّكَبِ عَلَيْهِمْ أَسْوِرَةُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَثِيَابُ السُّنْدُسِ وَالْحَرِيرِ حَتَّى يَنْتَهُوا إِلَى ذَلِكَ الْوَادِي, فَإِذَا اطْمَأَنُّوا فِيهِ جُلُوسًا بَعَثَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِمْ رِيحًا يُقَالُ لَهَا الْمُثِيرَةُ فَأَثَارَتْ يَنَابِيعَ الْمِسْكِ الْأَبْيَضِ فِي وُجُوهِهِمْ وَثِيَابِهِمْ, وَهُمْ يَوْمَئِذٍ جُرْدٌ مُرْدٌ مُكَحَّلُونَ أَبْنَاءُ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً عَلَى صُورَةِ آدَمَ يَوْمَ خَلَقَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ, فَيُنَادِي رَبُّ الْعِزَّةِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى رِضْوَانًا -وَهُوَ
خَازِنُ الْجَنَّةِ- فَيَقُولُ: يَا رِضْوَانُ ارْفَعِ الْحُجُبَ بَيْنِي وَبَيْنَ عِبَادِي وَزُوَّارِي, فَإِذَا رَفَعَ الْحُجُبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ فَرَأَوْا بَهَاءَهُ وَنُورَهُ هَمُّوا لَهُ بِالسُّجُودِ, فَيُنَادِيهِمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِصَوْتِهِ: ارْفَعُوا رُءُوسَكُمْ فَإِنَّمَا كَانَتِ الْعِبَادَةُ فِي الدُّنْيَا وَأَنْتُمُ الْيَوْمَ فِي دَارِ الْجَزَاءِ. سَلُونِي مَا شِئْتُمْ. فَأَنَا رَبُّكُمُ الَّذِي صَدَقْتُكُمْ وَعْدِي, وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي فَهَذَا مَحَلُّ كَرَامَتِي فَسَلُونِي مَا شِئْتُمْ, فَيَقُولُونَ: رَبَّنَا وَأَيُّ خَيْرٍ لَمْ تَفْعَلْهُ بِنَا, أَلَسْتَ أَعَنْتَنَا عَلَى سَكَرَاتِ الْمَوْتِ وَآنَسْتَ مِنَّا الْوَحْشَةَ فِي ظُلُمَاتِ الْقُبُورِ, وَآمَنْتَ وَحْشَتَنَا عِنْدَ النَّفْخَةِ فِي الصُّورِ؟ أَلَسْتَ أَقَلْتَ عَثَرَاتِنَا, وَسَتَرْتَ عَلَيْنَا الْقَبِيحَ مِنْ فِعْلِنَا, وَثَبَّتَّ عَلَى جِسْرِ جَهَنَّمَ أَقْدَامَنَا؟ أَلَسْتَ الَّذِي أَدْنَيْتَنَا مِنْ جِوَارِكَ, وَأَسْمَعْتَنَا لَذَاذَةَ مَنْطِقِكَ, وَتَجَلَّيْتَ لَنَا بِنُورِكَ؟ فَأَيُّ خَيْرٍ لَمْ تَفْعَلْهُ بِنَا؟ فَنَعُوذُ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. فَيُنَادِيهِمْ بِصَوْتِهِ: أَنَا رَبُّكُمُ الَّذِي صَدَقْتُكُمْ وَعْدِي وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي فَسَلُونِي, فَيَقُولُونَ: نَسْأَلُكَ رِضَاكَ. فَيَقُولُ تَعَالَى: بِرِضَائِي عَنْكُمْ أَقَلْتُكُمْ عَثَرَاتِكُمْ وَسَتَرْتُ عَلَيْكُمُ الْقَبِيحَ مِنْ أُمُورِكُمْ وَأَدْنَيْتُ مِنِّي جِوَارَكُمْ وَأَسْمَعْتُكُمْ لَذَاذَةَ مَنْطِقِي وَتَجَلَّيْتُ لَكُمْ بِنُورِي فَهَذَا مَحَلُّ كَرَامَتِي, فَسَلُونِي فَيَسْأَلُونَهُ حَتَّى تَنْتَهِيَ رَغْبَتُهُمْ, ثُمَّ يَقُولُ عَزَّ وَجَلَّ: سَلُونِي فَيَقُولُونَ: رَضِينَا رَبَّنَا وَسَلَّمْنَا فَيَزِيدُهُمْ مِنْ مَزِيدِ فَضْلِهِ وَكَرَامَتِهِ؛ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ, وَيَكُونُ ذَلِكَ مِقْدَارَ تَفَرُّقِهِمْ مِنَ الْجُمُعَةِ. قَالَ أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقُلْتُ: بِأَبِي وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ, وَمَا مِقْدَارُ تَفَرُّقِهِمْ؟ قَالَ: كَقَدْرِ الْجُمُعَةِ إِلَى الْجُمُعَةِ, قَالَ: ثُمَّ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى مَعَهُمُ الْمَلَائِكَةُ وَالنَّبِيُّونَ, ثُمَّ يُؤْذَنُ لِأَهْلِ الْغُرَفِ فَيَعُودُونَ إِلَى غُرَفِهِمْ وَهُمَا غُرْفَتَانِ مِنْ زُمُرُّدَتَيْنِ خَضْرَاوَيْنِ وَلَيْسُوا إِلَى شَيْءٍ أَشْوَقَ مِنْهُمْ إِلَى الْجُمُعَةِ لِيَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَلِيَزِيدَهُمْ مِنْ مَزِيدِ فَضْلِهِ وَكَرَامَتِهِ". قَالَ أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ أَحَدٌ1. وَرَوَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ2.
وَرَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ بَطَّةَ فِي الْإِبَانَةِ وَغَيْرُهُمْ, وَقَدْ جَمَعَ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ طُرُقَهُ1. وَلِإِمَامِ الْأَئِمَّةِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ عَنْ بريدة بن الحصيب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: "مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا سَيَخْلُو اللَّهُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ" 2. وَلِلْإِمَامِ أَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُدَ عَنْ أَبِي رَزِينٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكُلُّنَا يَرَى رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: "نَعَمْ" قُلْتُ: وَمَا آيَةُ ذَلِكَ فِي خَلْقِهِ قَالَ: "أَلَيْسَ كُلُّكُمْ يَنْظُرُ إِلَى الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ" قُلْنَا: نَعَمْ، قَالَ: "اللَّهُ أَكْبَرُ وَأَعْظَمُ"3. وَلِلْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَدْ سُئِلَ عَنِ الْوُرُودِ فَقَالَ: نَحْنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى كَذَا وَكَذَا أَيْ: فَوْقَ النَّاسِ فَتُدْعَى الْأُمَمُ بِأَوْثَانِهَا وَمَا كَانَتْ تَعْبُدُ الْأَوَّلُ فَالْأَوَّلُ, ثُمَّ يَأْتِينَا رَبُّنَا بَعْدَ ذَلِكَ فَيَقُولُ: وَمَنْ تَنْتَظِرُونَ؟ فَيَقُولُونَ: نَنْتَظِرُ رَبَّنَا عَزَّ وَجَلَّ, فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ, فَيَقُولُونَ: حَتَّى نَنْظُرَ إِلَيْكَ, فَيَتَجَلَّى لَهُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَضْحَكُ, قَالَ: "فَيَنْطَلِقُ بِهِمْ وَيَتْبَعُونَهُ وَيُعْطَى كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ مُنَافِقٍ أَوْ مُؤْمِنٍ نُورًا, ثُمَّ يَتْبَعُونَهُ عَلَى جِسْرِ جَهَنَّمَ وَعَلَيْهِ كَلَالِيبُ وَحَسَكٌ تَأْخُذُ مَنْ شَاءَ اللَّهُ, ثُمَّ يُطْفَأُ نُورُ الْمُنَافِقِ ثُمَّ يَنْجُو الْمُؤْمِنُونَ, فَيَنْجُو أَوَّلُ زُمْرَةٍ وُجُوهُهُمْ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ وَسَبْعُونَ أَلْفًا لَا يُحَاسَبُونَ, ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ كَأَضْوَأِ نَجْمٍ فِي السَّمَاءِ, ثُمَّ كَذَلِكَ, ثُمَّ تَحُلُّ الشَّفَاعَةُ حَتَّى يَخْرُجَ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَكَانَ فِي قَلْبِهِ مِنَ الْخَيْرِ مَا يَزِنُ شُعَيْرَةً, فَيُجْعَلُونَ بِفِنَاءِ الْجَنَّةِ وَيَجْعَلُ أَهْلُ الْجَنَّةِ يَرُشُّونَ عَلَيْهِمُ الْمَاءَ حَتَّى يَنْبُتُونَ نَبَاتَ الشَّيْءِ فِي السَّيْلِ
وَيَذْهَبُ حِرَاقُهُ, ثُمَّ يَسْأَلُ حَتَّى يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُ الدُّنْيَا وَعَشْرَةَ أَمْثَالِهَا مَعَهَا" وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ1. وَفِي رِوَايَةٍ: "نَحْنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى تَلٍّ مُشْرِفِينَ عَلَى الْخَلَائِقِ" ذَكَرَهَا عَبْدُ الْحَقِّ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيحَيْنِ. وَلِعَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَتَجَلَّى لَهُمُ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَنْظُرُونَ إِلَى وَجْهِهِ فَيَخِرُّونَ لَهُ سُجَّدًا فَيَقُولُ: ارْفَعُوا رُءُوسَكُمْ فَلَيْسَ هَذَا بِيَوْمِ عِبَادَةٍ" 2. وَلِلدَّارَقُطْنِيِّ عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَتَجَلَّى لَنَا رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ضَاحِكًا" 3. وَلِأَبِي قُرَّةَ عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ جُمِعَتِ الْأُمَمُ" فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ: "فَيَقُولُ: أَتَعْرِفُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِنْ رَأَيْتُمُوهُ؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ, فَيَقُولُ: وَكَيْفَ تَعْرِفُونَهُ وَلَمْ تَرَوْهُ؟ فَيَقُولُونَ: نَعْلَمُ أَنَّهُ لَا عِدْلَ لَهُ. قَالَ: فَيَتَجَلَّى تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَيَخِرُّونَ لَهُ سُجَّدًا"4. وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بَيْنَا أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي نَعِيمِهِمْ إِذْ سَطَعَ لَهُمْ نُورٌ فَرَفَعُوا رُءُوسَهُمْ فَإِذَا الرَّبُّ جَلَّ جَلَالُهُ قَدْ أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ مِنْ فَوْقِهِمْ, فَقَالَ تَعَالَى: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ, وَهُوَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} فَلَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى شَيْءٍ مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ مَا دَامُوا يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ حَتَّى يَحْتَجِبَ عَنْهُمْ وَتَبْقَى فِيهِمْ بِرْكَتُهُ وَنُورُهُ5. وَلِلْبَيْهَقِيِّ عَنْهُ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بَيْنَا أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي مَجْلِسٍ, فَهُمْ إِذْ سَطَعَ لَهُمْ نُورٌ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ, فَرَفَعُوا رُءُوسَهُمْ فَإِذَا الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَدْ أَشْرَفَ, فَقَالَ تَعَالَى: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ سَلُونِي, قَالُوا: نَسْأَلُكَ الرِّضَا عَنَّا قَالَ تَعَالَى: رِضَائِي أَحَلَّكُمْ دَارِي وَأَنَالَكُمْ كَرَامَتِي, هَذَا أَوَانُهَا فَسَلُونِي قَالُوا: نَسْأَلُكَ الزِّيَادَةَ. قَالَ فَيُؤْتَوْنَ بِنَجَائِبَ مِنْ يَاقُوتٍ أَحْمَرَ أَزِمَّتُهَا زُمُرُّدٌ أَخْضَرُ وَيَاقُوتٌ أَحْمَرُ فَجَاءُوا عَلَيْهَا تَضَعُ حَوَافِرَهَا عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهَا, فَيَأْمُرُ اللَّهُ بِأَشْجَارٍ عَلَيْهَا الثِّمَارُ فَتَجِيءُ جَوَارِي الْحُورِ الْعِينِ وَهُنَّ يَقُلْنَ: نَحْنُ النَّاعِمَاتُ فَلَا نَبْأَسُ وَنَحْنُ الْخَالِدَاتُ فَلَا نَمُوتُ أَزْوَاجُ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ كِرَامٍ, وَيَأْمُرُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِكُثْبَانٍ مِنْ مِسْكٍ أَبْيَضَ أَذْفَرَ فَتُثِيرُ عَلَيْهِمْ رِيحًا يُقَالُ لَهَا الْمُثِيرَةُ حَتَّى تَنْتَهِيَ بِهِمْ إِلَى جَنَّةِ عَدْنٍ وَهِيَ قَصَبَةُ الْجَنَّةِ, فَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ: يَا رَبَّنَا قَدْ جَاءَ الْقَوْمُ فَيَقُولُ: مَرْحَبًا بِالصَّادِقِينَ وَمَرْحَبًا بِالطَّائِعِينَ, قَالَ: فَيَكْشِفُ لَهُمُ الْحِجَابَ فَيَنْظُرُونَ إِلَى اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَيَتَمَتَّعُونَ بِنُورِ الرَّحْمَنِ حَتَّى لَا يُبْصِرَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا, ثُمَّ يَقُولُ: أَرْجِعُوهُمْ إِلَى الْقُصُورِ بِالتُّحَفِ, فَيَرْجِعُونَ وَقَدْ أَبْصَرَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا" فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} " [فُصِّلَتْ: 31] رَوَاهُ فِي كِتَابِ الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ وَفِي كِتَابِ الرُّؤْيَةِ1. وَلِلْدَارَقُطْنِيِّ عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَتَجَلَّى لِلنَّاسِ عَامَّةً وَيَتَجَلَّى لِأَبِي بَكْرٍ خَاصَّةً"2. وَلِابْنِ وَهْبٍ وَالدَّارَقُطْنِيِّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمًا فَكَانَ أَكْثَرَ خِطْبَتِهِ ذِكْرُ الدَّجَّالِ يُحَذِّرُنَا مِنْهُ وَيُحَدِّثُنَا عَنْهُ, حَتَّى فَرَغَ مِنْ خُطْبَتِهِ فَكَانَ فِيمَا قَالَ لَنَا يَوْمَئِذٍ: "إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَبْعَثْ نَبِيًّا إِلَّا حَذَّرَهُ أُمَّتَهُ, وَإِنِّي آخِرُ الْأَنْبِيَاءِ وَأَنْتُمْ آخِرُ الْأُمَمِ, وَهُوَ خَارِجٌ فِيكُمْ لَا مَحَالَةَ, فَإِنْ يَخْرُجْ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ فَأَنَا حَجِيجُ كُلِّ مُسْلِمٍ, وَإِنْ يَخْرُجْ فِيكُمْ بَعْدِي فَكُلُّ امْرِئٍ حَجِيجُ نَفْسِهِ, وَاللَّهُ خَلِيفَتِي عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ, إِنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ خَلَّةٍ بَيْنَ الْعِرَاقِ وَالشَّامِ عَاثَ يَمِينًا وَعَاثَ
شِمَالًا: يَا عِبَادَ اللَّهِ اثْبُتُوا, وَإِنَّهُ يَبْدَأُ فَيَقُولُ: أَنَا نَبِيٌّ وَلَا نَبِيَّ بَعْدِي, ثُمَّ يَنْثَنِي فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ, وَلَنْ تَرَوْا رَبَّكُمْ حَتَّى تَمُوتُوا, وَإِنَّهُ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عينيه "كافر" يقرأه كُلُّ مُؤْمِنٍ, فَمَنْ لَقِيَهُ مِنْكُمْ فَلْيَتْفُلْ فِي وَجْهِهِ وَلِيَقْرَأْ فَوَاتِحَ سُورَةِ الْكَهْفِ. وَإِنَّهُ يُسَلَّطُ عَلَى نَفْسٍ مِنْ بَنِي آدَمَ فَيَقْتُلُهَا ثُمَّ يُحْيِيهَا, وَإِنَّهُ لَا يَعْدُو ذَلِكَ, وَلَا يُسَلَّطُ عَلَى نَفْسٍ غَيْرِهَا. وَإِنَّ مِنْ فِتْنَتِهِ أَنَّ مَعَهُ جَنَّةً وَنَارًا؛ فَنَارُهُ جَنَّةٌ وَجَنَّتُهُ نَارٌ فَمَنِ ابْتُلِيَ بِنَارِهِ فَلْيُغْمِضْ عَيْنَيْهِ وَلْيَسْتَغِثْ بِاللَّهِ تَكُنْ بَرْدًا وَسَلَامًا كَمَا كَانَتْ بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ, وَإِنَّ أَيَّامَهُ أَرْبَعُونَ يَوْمًا: يَوْمًا كَسَنَةٍ وَيَوْمًا كَشَهْرٍ وَيَوْمًا كَجُمُعَةٍ وَيَوْمًا كَالْأَيَّامِ وَآخِرُ أَيَّامِهِ كَالسَّرَابِ, يُصْبِحُ الرَّجُلُ عِنْدَ بَابِ الْمَدِينَةِ فَيُمْسِي قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ بَابَهَا الْآخَرَ" فَقَالُوا: كَيْفَ نُصْلِي يَا رَسُولَ اللَّهِ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ؟ قَالَ: "تَقْدُرُونَ كَمَا تَقْدُرُونَ فِي الْأَيَّامِ الطِّوَالِ"1. وَلِلْإِمَامِ أَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُدَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَّمَهُ دُعَاءً وَأَمَرَهُ أَنْ يَتَعَاهَدَ بِهِ أَهْلَهُ كُلَّ يَوْمٍ قَالَ: "قُلْ حِينَ تُصْبِحُ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ, وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ, وَمِنْكَ وَإِلَيْكَ, اللَّهُمَّ وَمَا قُلْتُ مِنْ قَوْلٍ أَوْ نَذَرْتُ مِنْ نَذْرٍ أَوْ حَلَفْتُ مِنْ حَلِفٍ فَمَشِيئَتُكَ بَيْنَ يَدَيْهِ, مَا شِئْتَ كَانَ وَمَا لَمْ تَشَأْ لَمْ يَكُنْ, وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. اللَّهُمَّ وَمَا صَلَّيْتُ مِنْ صَلَاةٍ فَعَلَى مَنْ صَلَّيْتُ وَمَا لَعَنْتُ مِنْ لَعْنَةٍ فَعَلَى مَنْ لعنت, وأنت ولي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ, تُوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ. أَسْأَلُكَ اللَّهُمَّ الرِّضَا بَعْدَ الْقَضَاءِ وَبَرْدَ الْعَيْشِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَلَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ مِنْ غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ. أَعُوذُ بِكَ اللَّهُمَّ أَنْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ أَوْ أَعْتَدِيَ أَوْ يُعْتَدَى عَلَيَّ أَوْ أَكْسِبَ خَطِيئَةً مُحْبِطَةً أَوْ ذَنَبًا لَا تَغْفِرُهُ, اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ،
ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ, فَإِنِّي أَعْهَدُ إِلَيْكَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا, وَأُشْهِدُكَ وَكَفَى بِكَ شَهِيدًا, أَنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ وَحْدَكَ لَا شَرِيكَ لَكَ, لَكَ الْمُلْكُ وَلَكَ الْحَمْدُ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ, وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ, وَأَشْهَدُ أَنَّ وَعْدَكَ حَقٌّ, وَأَنَّ لِقَاءَكَ حَقٌّ, وَالْجَنَّةَ حُقٌّ, وَالسَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا, وَأَنْتَ تَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ, وَأَشْهَدُ أَنَّكَ إِنْ تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي تَكِلْنِي إِلَى ضَيْعَةٍ وَعَوْرَةٍ وَذَنَبٍ وَخَطِيئَةٍ, وَإِنِّي لَا أَثِقُ إِلَّا بِرَحْمَتِكَ, فَاغْفِرْ لِي ذَنْبِي إِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتِ, وَتُبْ عَلَيَّ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ"1. وَلِلْإِمَامِ أَحْمَدَ وَابْنِ حِبَّانَ وَالْحَاكِمِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ قَالَ: صَلَّى بِنَا عَمَّارٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَلَاةً فَأَوْجَزَ فِيهَا, فَأَنْكَرُوا ذَلِكَ فَقَالَ: أَلَمْ أُتِمَّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ؟ قَالُوا: بَلَى قَالَ: أَمَا إِنِّي دَعَوْتُ فِيهَا بِدُعَاءٍ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَدْعُو بِهِ: "اللَّهُمَّ بِعِلْمِكَ الْغَيْبَ وَقُدْرَتِكَ عَلَى الْخَلْقِ أَحْيِنِي مَا عَلِمْتَ الْحَيَاةَ خَيْرًا لِي, وَتُوَفَّنِي إِذَا عَلِمْتَ الْوَفَاةَ خَيْرًا لِي, وَأَسْأَلُكَ خَشْيَتَكَ فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ, وَكَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا, وَالْقَصْدَ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى, وَلَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ, اللَّهُمَّ زِيِّنَّا بِزِينَةِ الْإِيمَانِ وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ". وَأَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ2. وَفِي صَحِيحِ الْحَاكِمِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِجَابِرٍ: "يَا جَابِرُ أَلَا أُبَشِّرُكَ؟ قَالَ: بَلَى بَشَّرَكَ اللَّهُ بِخَيْرٍ, قَالَ: شَعَرْتُ أَنَّ اللَّهَ أَحْيَا أَبَاكَ. قَالَ: فَأَقْعَدَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ: تَمَنَّ عَلَيَّ عَبْدِي مَا شِئْتَ أُعْطِكَهُ. قَالَ: يَا رَبِّ مَا عَبَدْتُكَ حَقَّ عبادتك أتمنى إليك أَنْ تَرُدَّنِي إِلَى الدُّنْيَا فَأُقَاتِلَ مَعَ نَبِيِّكَ فَأُقْتَلَ فِيكَ مَرَّةً أُخْرَى. قَالَ تَعَالَى: إِنَّهُ قَدْ سَلَفَ مِنِّي أَنَّكَ إِلَيْهَا لَا تَرْجِعُ" وَهُوَ فِي الْمُسْنَدِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ3. وَلِلتِّرْمِذِيِّ عَنْهُ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا قُتِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ يَوْمَ أُحُدٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: "يَا جَابِرُ أَلَا أُخْبِرُكَ مَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِأَبِيكَ؟ قَالَ: بَلَى قَالَ: مَا كَلَّمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَحَدًا إِلَّا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ, وَكَلَّمَ أَبَاكَ كِفَاحًا, فَقَالَ: يَا عَبْدِي تَمَنَّ عَلَيَّ أُعْطِكَ. قَالَ: يَا رَبِّ تُحْيِينِي فَأُقْتَلُ فِيكَ ثَانِيَةً, قَالَ: إِنَّهُ قَدْ سَبَقَ مِنِّي أَنَّهُمْ لَا يُرْجَعُونَ. قَالَ: يَا رَبِّ فَأَبْلِغْ مَنْ وَرَائِي". فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا} الْآيَةَ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ, قُلْتُ وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ1. وَلِلتِّرْمِذِيِّ وَالطَّبَرَانِيِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً لَرَجُلٌ يَنْظُرُ فِي مُلْكِهِ أَلْفَيْ سَنَةٍ يُرَى أَقْصَاهُ كَمَا يُرَى أَدْنَاهُ يَنْظُرُ إِلَى أَزْوَاجِهِ وَسُرُرِهِ وَخَدَمِهِ, وَإِنَّ أَفْضَلَهُمْ مَنْزِلَةً مَنْ يَنْظُرُ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ" 2 وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عَرَفَةَ: ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} 3، وَفِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ هُشَيْمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَوَّلُ يَوْمٍ نَظَرَتْ فِيهِ عَيْنٌ إِلَى اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى" وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ1. وَلَهُ عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَسْفَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟ " قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ, فَذَكَرَ الْحَدِيثَ إِلَى أَنْ قَالَ: "حَتَّى إِذَا بَلَغَ النَّعِيمُ مِنْهُمْ كُلَّ مَبْلَغٍ وَظَنُّوا أَنْ لَا نَعِيمَ أَفْضَلُ مِنْهُ أَشْرَفَ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَيْهِمْ فَيَنْظُرُونَ إِلَى وَجْهِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ فَيَقُولُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ هَلِّلُونِي وَكَبِّرُونِي وَسَبِّحُونِي بِمَا كُنْتُمْ تُهَلِّلُونِي وَتُكَبِّرُونِي وَتُسَبِّحُونِي فِي دَارِ الدُّنْيَا, فَيَتَجَاوَبُونَ بِتَهْلِيلِ الرَّحْمَنِ, فَيَقُولُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِدَاوُدَ: يَا دَاوُدُ قُمْ فَمَجِّدْنِي, فَيَقُومُ دَاوُدُ فَيُمَجِّدُ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ"2. وَرَوَى عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ فِي رَدِّهِ عَلَى الْمِرِّيسِيِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَرْفَعُهُ إِلَى النَّبِيِّ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ إِذَا بَلَغَ النَّعِيمُ مِنْهُمْ كُلَّ مَبْلَغٍ وَظَنُّوا أَنْ لَا نَعِيمَ أَفْضَلُ مِنْهُ تَجَلَّى لَهُمُ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَنَظَرُوا إِلَى وَجْهِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ, فَنَسُوا كُلَّ نَعِيمٍ عَايَنُوهُ حِينَ نَظَرُوا إِلَى وَجْهِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ"3. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ حَبِيبِ بْنِ أَبِي الْعِشْرِينَ أَخْبَرَنَا الْأَوْزَاعِيُّ حَدَّثَنَا حَسَّانُ بْنُ عَطِيَّةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ لَقِيَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَتَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَجْمَعَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ فِي سُوقِ الْجَنَّةِ. فَقَالَ سَعِيدٌ: أَفِيهَا سُوقٌ؟ قَالَ: نَعَمْ أَخْبَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ إِذَا دَخَلُوهَا نَزَلُوا فِيهَا بِفَضْلِ أَعْمَالِهِمْ, ثُمَّ يُؤْذَنُ فِي مِقْدَارِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا فَيَزُورُونَ رَبَّهُمْ وَيَبْرُزُ لَهُمْ عَرْشُهُ وَيَتَبَدَّى لَهُمْ فِي رَوْضَةٍ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ, فَتُوضَعُ لَهُمْ مَنَابِرُ مِنْ نُورٍ وَمَنَابِرُ مِنْ لُؤْلُؤٍ وَمَنَابِرُ مِنْ يَاقُوتٍ وَمَنَابِرُ مِنْ زَبَرْجَدٍ وَمَنَابِرُ مِنْ ذَهَبٍ وَمَنَابِرُ مِنْ فِضَّةٍ وَيَجْلِسُ أَدْنَاهُمْ -وَمَا فِيهِمْ مِنْ دَنِيءٍ- عَلَى كُثْبَانِ الْمِسْكِ
وَالْكَافُورِ. وَمَا يَرَوْنَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَرَاسِيِّ بِأَفْضَلَ مِنْهُمْ مَجْلِسًا, قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَهَلْ نَرَى رَبَّنَا؟ قَالَ: نَعَمْ هَلْ تَتَمَارَوْنَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ؟ قُلْنَا: لَا, وَقَالَ: كَذَلِكَ لَا تَتَمَارَوْنَ فِي رُؤْيَةِ رَبِّكُمْ, وَلَا يَبْقَى فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ رَجُلٌ إِلَّا حَاضَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى مُحَاضَرَةً حَتَّى يَقُولَ لِلرَّجُلِ مِنْهُمْ: يَا فُلَانُ ابْنَ فُلَانٍ أَتَذْكُرُ يَوْمَ قُلْتَ كَذَا وَكَذَا, فَيُذَكِّرُهُ بِبَعْضِ غَدَرَاتِهِ فِي الدُّنْيَا, فَيَقُولُ: يَا رَبِّ أَفَلَمْ تَغْفِرْ لِي؟ فَيَقُولُ: بَلَى فَبِسَعَةِ مُغْفِرَتِي بَلَغْتَ مَنْزِلَتَكَ هَذِهِ. فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ غَشِيَتْهُمْ سَحَابَةٌ مِنْ فَوْقِهِمْ فَأَمْطَرَتْ عَلَيْهِمْ طِيبًا لَمْ يَجِدُوا مِثْلَ رِيحِهِ شَيْئًا قَطُّ, وَيَقُولُ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ: قُومُوا إِلَى مَا أَعْدَدْتُ لَكُمْ مِنَ الْكَرَامَةِ فَخُذُوا مَا اشْتَهَيْتُمْ. فَنَأْتِي سُوقًا قَدْ حَفَّتْ بِهِ الْمَلَائِكَةُ فِيهِ مَا لَمْ تَنْظُرِ الْعُيُونُ إِلَى مِثْلِهِ وَلَمْ تَسْمَعِ الْآذَانُ وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى الْقُلُوبِ, فَيُحْمَلُ إِلَيْنَا مَا اشْتَهَيْنَا لَيْسَ يُبَاعُ فِيهَا وَلَا يُشْتَرَى. وَفِي ذَلِكَ السُّوقِ يَلْقَى أَهْلُ الْجَنَّةِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا, قَالَ: فَيُقْبِلُ الرَّجُلُ ذُو الْمَنْزِلَةِ الْمُرْتَفِعَةِ فَيَلْقَى مَنْ هُوَ دُونَهُ, وَمَا فِيهِمْ دَنِيءٌ, فَيَرُوعُهُ مَا يَرَى عَلَيْهِ مِنَ اللِّبَاسِ, فَمَا يَنْقَضِي آخِرُ حَدِيثِهِ حَتَّى يَتَخَيَّلَ إِلَيْهِ مَا هُوَ أَحْسَنُ مِنْهُ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَحْزَنَ فِيهَا, ثُمَّ نَنْصَرِفُ إِلَى مَنَازِلِنَا فَتَتَلَقَّانَا أَزْوَاجُنَا فَيَقُلْنَ: مَرْحَبًا وَأَهْلًا لَقَدْ جِئْتَ وَإِنَّ لَكَ مِنَ الْجَمَالِ أَفْضَلُ مِمَّا فَارَقْتَنَا عَلَيْهِ. فَنَقُولُ: إِنَّا جَالَسْنَا الْيَوْمَ رَبَّنَا الْجَبَّارَ, وَيَحِقُّنَا أَنْ نَنْقَلِبَ بِمِثْلِ مَا انْقَلَبْنَا" هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ, قُلْتُ: ابْنُ أَبِي الْعِشْرِينَ كَاتِبُ الْأَوْزَاعِيِّ, قَالَ أَحْمَدُ وَأَبُو حَاتِمٍ: ثِقَةٌ, وَقَالَ النَّسَائِيُّ: لَيْسَ بِذَاكَ الْقَوِيِّ, وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: رُبَّمَا يُخَالَفُ فِي حَدِيثِهِ, وَفِي التَّقْرِيبِ صَدُوقٌ رُبَّمَا أَخْطَأَ, وَأَمَّا بَقِيَّةُ رِجَالِهِ فَلَا يُسْأَلُ عَنْهُمْ. وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَابْنُ أَبِي عَاصِمٍ1. وَلِابْنِ بَطَّةَ عَنْ عَمَّارِ بْنِ رُوَيْبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: نَظَرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ فَقَالَ: "إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ لَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ, فَإِنِ
اسْتَطَعْتُمْ عَلَى أَنْ لَا تُغْلَبُوا عَلَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَصَلَاةٍ قَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا" 1. وَفِي رِوَايَةِ عَنْهُ قَالَ: نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ فَقَالَ: "إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ, لَا تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ, فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لَا تُغْلَبُوا عَلَى رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا" 2. وَلِأَبِي مُعَاوِيَةَ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "يَأْتُونَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَيَقُولُونَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ فَتَحَ بِكَ وَخَتَمَ بِكَ وَغَفَرَ لَكَ, قُمْ فَاشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ, فَيَقُولُ: نَعَمْ أَنَا صَاحِبُكُمْ فَيَخْرُجُ يَحُوشُ النَّاسَ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ فَيَأْخُذُ بِحَلْقَةِ الْبَابِ فَيَقْرَعُ فَيُقَالُ: مَنْ هَذَا؟ فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: فَيُفْتَحُ لَهُ فَيَجِيءُ حَتَّى يَقُومَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَيَسْتَأْذِنُ فِي السُّجُودِ فَيُؤْذَنُ لَهُ" 3 الْحَدِيثَ. وَلِابْنِ بَطَّةَ وَالْبَزَّارِ عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَتَانِي جِبْرِيلُ فَإِذَا فِي كَفِّهِ مِرْآةٌ كَأَصْفَى الْمَرَايَا وَأَحْسَنِهَا, وَإِذَا فِي وَسَطِهَا نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ قَالَ قُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ مَا هَذِهِ؟ قَالَ: هَذِهِ الدُّنْيَا صَفَاؤُهَا وَحُسْنُهَا, قَالَ قُلْتُ: وَمَا هَذِهِ اللَّمْعَةُ فِي وَسَطِهَا؟ قَالَ: هَذِهِ الْجُمُعَةُ, قَالَ قُلْتُ: وَمَا الْجُمُعَةُ؟ قَالَ: يَوْمٌ مِنْ أَيَّامِ رَبِّكَ عَظِيمٌ وَسَأُخْبِرُكَ بِشَرَفِهِ وَفَضْلِهِ وَاسْمِهِ فِي الْآخِرَةِ, أَمَّا شَرَفُهُ وَفَضْلُهُ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَمَعَ فِيهِ أَمْرَ الْخَلْقِ, وَأَمَّا مَا يُرْجَى فِيهِ فَإِنَّ فِيهِ سَاعَةً لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ أَوْ أَمَةٌ مُسْلِمَةٌ يَسْأَلَانِ اللَّهَ فِيهَا خَيْرًا إِلَّا أَعْطَاهُمَا إِيَّاهُ, وَأَمَّا شَرَفُهُ وَفَضْلُهُ وَاسْمُهُ فِي الْآخِرَةِ فَإِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِذَا صَيَّرَ أَهْلَ الْجَنَّةِ إِلَى الْجَنَّةِ وَأَهْلَ النَّارِ إِلَى النَّارِ وَجَرَتْ عَلَيْهِمْ أَيَّامُهَا وَسَاعَاتُهَا لَيْسَ بِهَا لَيْلٌ وَلَا نَهَارٌ إِلَّا قَدْ عَلِمَ اللَّهُ مِقْدَارَ ذَلِكَ وَسَاعَاتِهِ, فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ فِي الْحِينِ الَّذِي يَبْرُزُ -أَوْ يَخْرُجُ- فِيهِ أَهْلُ الْجَنَّةِ إلى جمعتهم ناد مُنَادٍ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ اخْرُجُوا إِلَى دَارِ
الْمَزِيدِ لَا يَعْلَمُ سِعَتَهُ وَعَرْضَهُ وَطُولَهُ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى فِي كُثْبَانٍ مِنَ الْمِسْكِ قَالَ: فَيُخْرِجُ غِلْمَانٌ الْأَنْبِيَاءَ بِمَنَابِرَ مِنْ نُورٍ. وَيُخْرِجُ غِلْمَانٌ الْمُؤْمِنِينَ بِكَرَاسِيَّ مِنْ يَاقُوتٍ. قَالَ: فَإِذَا وُضِعَتْ لَهُمْ وَأَخَذَ الْقَوْمُ مَجَالِسَهُمْ بَعَثَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى رِيحًا تُدْعَى الْمُثِيرَةَ تُثِيرُ عَلَيْهِمْ آثَارَ الْمِسْكِ الْأَبْيَضِ تُدْخِلُهُ مِنْ تَحْتِ ثِيَابِهِمْ وَتُخْرِجُهُ فِي وُجُوهِهِمْ وَأَشْعَارِهِمْ فَتِلْكَ الرِّيحُ أَعْلَمُ كَيْفَ تَصْنَعُ بِذَلِكَ الْمِسْكِ مِنَ امْرَأَةِ أَحَدِكُمْ, لَوْ دُفِعَ إِلَيْهَا ذَلِكَ الطِّيبُ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ: ثُمَّ يُوحِي اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إِلَى حَمَلَةِ الْعَرْشِ فَيُوضَعُ بَيْنَ ظَهَرَانَيِ الْجَنَّةِ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَهُمُ الْحُجُبُ, فَيَكُونُ أَوَّلَ مَا يَسْمَعُونَ مِنْهُ أَنْ يَقُولَ: أَيْنَ عِبَادِي الَّذِينَ أَطَاعُونِي فِي الْغَيْبِ وَلَمْ يَرَوْنِي وَصَدَّقُوا رُسُلِي وَاتَّبَعُوا أَمْرِي؟ فَسَلُونِي فَهَذَا يَوْمُ الْمَزِيدِ. قَالَ: فيجتمعون على كملة وَاحِدَةٍ: رَبَّنَا رَضِينَا عَنْكَ فَارْضَ عَنَّا قَالَ: فَيَرْجِعُ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِمْ أَنْ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ لَوْ لَمْ أَرْضَ عَنْكُمْ لَمَا أَسْكَنْتُكُمْ جَنَّتِي, فَهَذَا يَوْمُ الْمَزِيدِ فَسَلُونِي قَالَ: فَيَجْتَمِعُونَ عَلَى كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ: رَبِّ وَجْهَكَ, رَبِّ وَجْهَكَ, أَرِنَا نَنْظُرْ إِلَيْهِ. قَالَ: فَيَكْشِفُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى الْحُجُبَ وَيَتَجَلَّى لَهُمْ فَيَغْشَاهُمْ مِنْ نُورِهِ شَيْءٌ لَوْلَا أَنَّهُ قَضَى عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَحْتَرِقُوا لَاحْتَرَقُوا مِمَّا غَشِيَهُمْ مِنْ نُورِهِ. قَالَ: ثُمَّ يُقَالُ: ارْجِعُوا إِلَى مَنَازِلِكُمْ قَالَ: فَيَرْجِعُونَ إِلَى مَنَازِلِهِمْ وَقَدْ خَفَوْا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ وَخَفَيْنَ عَلَيْهِمْ مِمَّا غَشِيَهُمْ مِنْ نُورِهِ, فَإِذَا صَارُوا إِلَى مَنَازِلِهِمْ يُزَادُ النُّورُ وَأُمْكِنَ, وَيُزَادُ وَأُمْكِنَ, حَتَّى يَرْجِعُوا إِلَى صُوَرِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قَالَ: فَيَقُولُ لَهُمْ أَزْوَاجُهُمْ: لَقَدْ خَرَجْتُمْ مِنْ عِنْدِنَا عَلَى صُورَةٍ وَرَجَعْتُمْ عَلَى غَيْرِهَا. قَالَ فَيَقُولُونَ: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ تَجَلَّى لنا فنظرنا منه إِلَى مَا خَفَيْنَا بِهِ عَلَيْكُنَّ, قَالَ: فَلَهُمْ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ الضِّعْفُ عَلَى مَا كَانُوا فِيهِ, قَالَ وَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 1. وَلِابْنِ مَهْدِيٍّ عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}
قَالَ: النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ1. قَالَ الْحَاكِمُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَتَفْسِيرُ الصَّحَابِيِّ عِنْدَنَا فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ. وَلِابْنِ خُزَيْمَةَ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ قَالَ: خَطَبَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَلَهُ دَعْوَةٌ تَعَجَّلَهَا فِي الدُّنْيَا, وَإِنِّي اخْتَبَأْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ, فَآتِي بَابَ الْجَنَّةِ فَآخُذُ بِحَلْقَةِ الْبَابِ فَأَقْرَعُ الْبَابَ فَيُقَالُ مَنْ أَنْتَ؟ فَأَقُولُ: أَنَا مُحَمَّدٌ, فَآتِي رَبِّي وَهُوَ عَلَى كُرْسِيِّهِ -أَوْ عَلَى سَرِيرِهِ- فَيَتَجَلَّى لِي رَبِّي فَأَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا"2. وَلِأَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي دَاوُدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَيْضًا عَنِ النَّبِيِّ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَرَوْنَ رَبَّهُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي كُلِّ جُمُعَةٍ فِي رِمَالِ الْكَافُورِ, وَأَقْرَبُهُمْ مِنْهُ مَجْلِسًا أَسْرَعُهُمْ إِلَيْهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ, وَأَبْكَرُهُمْ غُدُوًّا"3. وَلِلصَّنْعَانِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: خَلَقَ اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ لِعِبَادَتِهِ أَصْنَافًا فَإِنَّ مِنْهُمْ لَمَلَائِكَةً قِيَامًا صَافِّينَ مِنْ يَوْمِ خَلَقَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ, وَمَلَائِكَةً رُكُوعًا خُشُوعًا مِنْ يَوْمِ خَلَقَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ, وَمَلَائِكَةً سُجُودًا مُنْذُ خَلَقَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ وَتَجَلَّى لَهُمْ تَعَالَى وَنَظَرُوا إِلَى وَجْهِهِ الْكَرِيمِ قَالُوا: سُبْحَانَكَ مَا عَبَدْنَاكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ"4. وَلِلدَّارِمِيِّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ فَضَالَةَ -يَعْنِي ابْنَ عُبَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- كَانَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الرِّضَا بَعْدَ الْقَضَاءِ, وَبَرْدَ الْعَيْشِ بَعْدَ الْمَوْتِ, وَلَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ, وَالشَّوْقَ
إِلَى لِقَائِكَ فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ1. وَلِلْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: "قَدْ حَدَّثْتُكُمْ عَنِ الدَّجَّالِ حَتَّى خَشِيتُ أَنْ لَا تَعْقِلُوا, إِنَّ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ رَجُلٌ قَصِيرٌ أَفْحَجُ جَعْدٌ أَعْوَرُ مَطْمُوسُ الْعَيْنِ لَيْسَتْ بِنَاتِئَةٍ وَلَا حَجْرَاءَ, فَإِنِ الْتَبَسَ عَلَيْكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ, وَأَنَّكُمْ لَنْ تَرَوْا رَبَّكُمْ حَتَّى تَمُوتُوا"2 وَقَالَ الصَّاغَانِيُّ: حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ مَنْصُورٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَدِيَّ بْنَ أَرْطَأَةَ يَخْطُبُ عَلَى الْمِنْبَرِ بِالْمَدَائِنِ, فَجَعَلَ يَعِظُ حَتَّى بَكَى وَأَبْكَى ثُمَّ قَالَ: كُونُوا كَرَجُلٍ قَالَ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ: يَا بُنَيَّ أُوصِيكَ أَنْ لَا تُصَلِّيَ صَلَاةً إِلَّا ظَنَنْتَ أَنَّكَ لَا تُصَلِّي بَعْدَهَا غَيْرَهَا حَتَّى تَمُوتَ, وَتَعَالَ يَا بُنَيَّ نَعْمَلْ عَمَلَ رَجُلَيْنِ كَأَنَّهُمَا قَدْ وُقِفَا عَلَى النَّارِ ثُمَّ سَأَلَا الْكَرَّةَ وَلَقَدْ سَمِعْتُ فُلَانًا -نَسِيَ عَبَّادٌ اسْمَهُ- مَا بَيْنِي وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- غَيْرُهُ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً تَرْعَدُ فَرَائِصُهُمْ مِنْ مَخَافَتِهِ مَا مِنْهُمْ مَلَكٌ تَقْطُرُ دَمْعَتُهُ مِنْ عَيْنِهِ إِلَّا وَقَعَتْ مَلَكًا يُسَبِّحُ اللَّهَ تَعَالَى, قَالَ: وَمَلَائِكَةٌ سُجُودٌ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَمْ يَرْفَعُوا رُءُوسَهُمْ وَلَا يَرْفَعُونَهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ, وَصُفُوفٌ لَمْ يَنْصَرِفُوا عَنْ مَصَافِّهِمْ وَلَا يَنْصَرِفُونَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ, فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ وَتَجَلَّى لَهُمْ رَبُّهُمْ فَنَظَرُوا إِلَيْهِ قَالُوا: سُبْحَانَكَ مَا عَبَدْنَاكَ كَمَا يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَعْبُدَكَ"3. فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ الْمُتَوَاتِرَةِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُرَى فِي الْآخِرَةِ كَمَا يَشَاءُ, وَأَنَّ الشُّهَدَاءَ بَعْدَ مَوْتِهِمْ يَرَوْنَهُ, وَأَنَّ الْمَلَائِكَةَ يَرَوْنَهُ, وَأَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَرَاهُ عِنْدَ اسْتِئْذَانِهِ فِي الشَّفَاعَةِ, وَأَنَّ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَرَّهُمْ وَفَاجِرَهُمْ يَرَوْنَهُ فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ, وَهِيَ لِلْفَاجِرِ وَالْمُنَافِقِ ابْتِلَاءٌ وَامْتِحَانٌ وَنَوْعٌ مِنَ الْعُقُوبَةِ, وَأَمَّا رُؤْيَةُ الْفَرَحِ وَالسُّرُورِ وَالتَّلَذُّذِ بِالنَّظَرِ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَهِيَ
خَاصَّةٌ لِأَوْلِيَائِهِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فِي السُّجُودِ وَيُعْطَوْنَ النُّورَ التَّامَّ عَلَى الصِّرَاطِ فَيَتَّبِعُونَهُ. ثُمَّ يَتَجَلَّى لَهُمْ فِي الْجَنَّةِ فَيَرَوْنَهُ كَمَا يَشَاءُ, وَهِيَ الزِّيَادَةُ فِي يَوْمِ الْمَزِيدِ كَمَا فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي سَرَدْنَاهَا, وَقَدْ جَاءَتْ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ فِي تَفْسِيرِ الزِّيَادَةِ بِالنَّظَرِ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ, مِنْهَا حَدِيثُ أَبِي مُوسَى وَحَدِيثُ أَنَسٍ وَحَدِيثُ حُذَيْفَةَ وَحَدِيثُ صُهَيْبٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا قَرِيبًا. وَلِلْدَارَقُطْنِيِّ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} قَالَ: النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ1. وَلِابْنِ جَرِيرٍ عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ "الزِّيَادَةِ" فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لِلَّذَيْنِ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْحُسْنَى الْجَنَّةُ، وَالزِّيَادَةُ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ"2. وَلِابْنِ جَرِيرٍ عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لِلَّذَيْنِ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} قَالَ: "الزِّيَادَةُ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ وجلاله". وَرَوَاهُ ابْنُ حُمَيْدٍ عَنْهُ بِلَفْظِ: "الزِّيَادَةُ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى" 3. وَلِلْحَسَنِ بْنِ عَرَفَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: {لِلَّذَيْنِ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} قَالَ: "لِلَّذِينِ أَحْسَنُوا الْعَمَلَ فِي الدُّنْيَا, وَالْحُسْنَى هِيَ الْجَنَّةُ, وَالزِّيَادَةُ وَهِيَ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ"4 وَقَدْ رُوِيَ تَفْسِيرُ "الزِّيَادَةِ" بِالنَّظَرِ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي مُوسَى وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ
المنقول عن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في هذا الباب
وَغَيْرِهِمْ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ, وَعَنِ التَّابِعِينَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى, وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ السِّبَاطِ وَمُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَعَامِرِ بْنِ سَعْدٍ وَعَطَاءٍ وَالضَّحَّاكِ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ وَمُقَاتِلٍ وَغَيْرِهِمْ رَحِمَهُمُ اللَّهُ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَلَوْلَا خَشْيَةُ الْإِطَالَةِ لَنَقَلْنَا أَقْوَالَهُمْ بِأَسَانِيدِهَا1، وَفِيمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمَرْفُوعِ كِفَايَةٌ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. ذِكْرُ الْمَنْقُولِ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي هَذَا الْبَابِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَرَأَ {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} فَقَالُوا: مَا الزِّيَادَةُ يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى2. وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مِنْ تَمَامِ النِّعْمَةِ دُخُولُ الْجَنَّةِ وَالنَّظَرُ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي جَنَّتِهِ3. وَقَالَ حُذَيْفَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الزِّيَادَةُ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى4. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَاللَّهِ مَا مِنْكُمْ مِنْ إِنْسَانٍ إِلَّا أَنَّ
رَبَّهُ سَيَخْلُو بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا يَخْلُو أَحَدُكُمْ بِالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ قَالَ فَيَقُولُ: مَا غرك بي يابن آدَمَ؟ "ثَلَاثَ مَرَّاتٍ" مَاذَا أَجَبْتَ الْمُرْسَلِينَ؟ "ثَلَاثَ مَرَّاتٍ" مَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا عَلِمْتَ؟ 1. وَقَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الزِّيَادَةُ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ2. وَقِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: كُلُّ مَنْ دَخَلَ الْجَنَّةَ يَرَى رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ؟ قَالَ: نَعَمْ3. وَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَيُنَادِي أَيْنَ الْمُتَّقُونَ؟ فَيَقُومُونَ فِي كَنَفٍ وَاحِدٍ مِنَ الرَّحْمَنِ تَعَالَى لَا يَحْتَجِبُ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَا يَسْتَتِرُ. قَالَ أَبُو عَفِيفٍ وَهُوَ الرَّاوِي عَنْهُ: مَنِ الْمُتَّقُونَ؟ قَالَ: قَوْمٌ اتَّقَوُا الشِّرْكَ وَعِبَادَةَ الْأَوْثَانِ وَأَخْلَصُوا لِلَّهِ فِي الْعِبَادَةِ, فَيَمُرُّونَ إِلَى الْجَنَّةِ4. وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: لَنْ تَرَوْا رَبَّكُمْ حَتَّى تَذُوقُوا الْمَوْتَ5. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إِنَّ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً مَنْ يَنْظُرُ إِلَى مُلْكِهِ أَلْفَيْ عَامٍ يُرَى أَقْصَاهُ كَمَا يُرَى أَدْنَاهُ, وَإِنَّ أَفْضَلَهُمْ مَنْزِلَةً لَمَنْ يَنْظُرُ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ6. وَكَانَ فَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الرِّضَا بَعْدَ الْقَضَاءِ, وَبَرْدَ الْعَيْشِ بَعْدَ الْمَوْتِ, وَلَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الدُّعَاءُ عَنْهُ7، وَتَقَدَّمَ مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَعُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَقَالَ أَبُو مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: {لِلَّذِينِ
أقوال التابعين في ذلك
أَحْسَنُوا الْحُسْنَى} قال: الجنة، و"الزيادة" هِيَ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ 1. وَكَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُحَدِّثُ النَّاسَ فَشَخَصُوا بِأَبْصَارِهِمْ، فَقَالَ: مَا صَرَفَ أَبْصَارَكُمْ عَنِّي؟ قَالُوا: الْهِلَالُ. قَالَ: فَكَيْفَ بِكُمْ إِذَا رَأَيْتُمْ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى جَهْرَةً؟ 2. وَقَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق: 35] : يَظْهَرُ لَهُمُ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ3. وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ وَأُدِيمَ عليهم بالكرامة جادتهم خُيُولٌ مِنْ يَاقُوتٍ أَحْمَرَ لَا تَبُولُ وَلَا تَرُوثُ لَهَا أَجْنِحَةٌ, فَيَقْعُدُونَ عَلَيْهَا ثُمَّ يَأْتُونَ الْجَبَّارَ جَلَّ وَعَلَا فَإِذَا تَجَلَّى لَهُمْ خَرُّوا لَهُ سُجَّدًا, فَيَقُولُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ ارْفَعُوا رُءُوسَكُمْ فَقَدْ رَضِيتُ عَنْكُمْ رِضَاءً لَا سُخْطَ بَعْدَهُ4. ذِكْرُ أَقْوَالِ التَّابِعِينَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ: قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَابِطٍ وَعِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَكَعْبٌ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى: الزِّيَادَةُ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَحِمَهُ اللَّهُ إِلَى بَعْضِ عُمَّالِهِ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلُزُومِ طَاعَتِهِ, وَالتَّمَسُّكِ بِأَمْرِهِ وَالْمُعَاهَدَةِ عَلَى مَا حَمَّلَكَ اللَّهُ مِنْ دِينِهِ وَاسْتَحْفَظَكَ مِنْ كِتَابِهِ فَإِنَّ بِتَقْوَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلُزُومِ طَاعَتِهِ نَجَا أَوْلِيَاؤُهُ مِنْ سُخْطِهِ, وَبِهَا وَافَقُوا أَنْبِيَاءَهُ, وَبِهَا نَضِرَتْ
وُجُوهُهُمْ وَنَظَرُوا إِلَى خَالِقِهِمْ, وَهِيَ عِصْمَةٌ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْفِتَنِ وَمِنْ كَرْبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ الْحَسَنُ1 رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: لو علم العابثون فِي الدِّينِ أَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ رَبَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ لَذَابَتْ أَنْفُسُهُمْ فِي الدُّنْيَا. وَقَالَ الْأَعْمَشُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: إِنَّ أَشْرَفَ أَهْلِ الْجَنَّةِ لَمَنْ يَنْظُرُ إِلَى اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى غُدْوَةً وَعَشِيَّةً. وَقَالَ كَعْبٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: مَا نَظَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى الْجَنَّةِ قَطُّ إِلَّا قَالَ: طِيبِي لِأَهْلِكِ, فَزَادَتْ ضِعْفًا عَلَى مَا كَانَتْ, حَتَّى يَأْتِيَهَا أَهْلُهَا, وَمَا مِنْ يَوْمٍ كَانَ لَهُمْ عِيدٌ فِي الدُّنْيَا إِلَّا وَيَخْرُجُونَ فِي مِقْدَارِهِ فِي رِيَاضِ الْجَنَّةِ, فَيَبْرُزُ لَهُمُ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ وَتُسْفِي عَلَيْهِمُ الرِّيحُ الْمِسْكَ, وَلَا يَسْأَلُونَ الرَّبَّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاهُمْ حَتَّى يَرْجِعُوا, وَقَدِ ازْدَادُوا عَلَى مَا كَانُوا مِنَ الْحُسْنِ وَالْجَمَالِ سَبْعِينَ ضِعْفًا, ثُمَّ يَرْجِعُونَ إِلَى أَزْوَاجِهِمْ وَقَدِ ازْدَدْنَ مِثْلَ ذَلِكَ. وَقَالَ هِشَامُ بْنُ حَسَّانٍ: إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَتَجَلَّى لِأَهْلِ الْجَنَّةِ, فَإِذَا رَآهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ نَسُوا نَعِيمَ الْجَنَّةِ, وَقَالَ طَاوُسٌ: أَصْحَابُ الْمِرَاءِ وَالْمَقَايِيسِ لَا يَزَالُ بِهِمِ الْمِرَاءُ وَالْمَقَايِيسُ حَتَّى يَجْحَدُوا الرُّؤْيَةَ وَيُخَالِفُوا أَهْلَ السُّنَّةِ. وَقَالَ شَرِيكٌ عَنْ أَبِي إِسْحَاقِ السَّبِيعِيِّ: الزِّيَادَةُ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ الرَّحْمَنِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى. وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى أَنَّهُ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} قَالَ: إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ أُعْطُوا فِيهَا مَا سَأَلُوا وَمَا شَاءُوا, فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمْ: إِنَّهُ قَدْ بَقِيَ مِنْ حَقِّكُمْ شَيْءٌ لَمْ تُعْطَوْهُ, فَيَتَجَلَّى لَهُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَلَا يَكُونُ مَا أُعْطُوهُ عِنْدَ ذَلِكَ بِشَيْءٍ, فَالْحُسْنَى الْجَنَّةُ وَالزِّيَادَةُ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ رَبِّهِمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ} [يُونُسَ: 26] بَعْدَ نَظَرِهِمْ إِلَى رَبِّهِمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ: سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْمُبَارَكِ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا} [الْكَهْفِ: 110] قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: مَنْ أَرَادَ النَّظَرَ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ خَالِقِهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُخْبِرْ بِهِ أَحَدًا. وَقَالَ نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ: سَمِعْتُ ابْنَ الْمُبَارَكِ يَقُولُ: مَا حَجَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَحَدًا عَنْهُ إِلَّا عَذَّبَهُ ثُمَّ قَرَأَ: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ، ثُمَّ إِنَّهُمْ
أقوال الأئمة الأربعة وطبقاتهم ومشايخهم
لَصَالُو الْجَحِيمِ، ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [الْمُطَفِّفِينَ: 15] قَالَ: بِالرُّؤْيَةِ. وَقَالَ عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ: قَدِمَ عَلَيْنَا شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ مُنْذُ خَمْسِينَ سَنَةً فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ إِنَّ عِنْدَنَا قَوْمًا مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ يُنْكِرُونَ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ؛ "إِنَّ اللَّهَ ينزل إلى سماء الدنيا" و"إن أَهْلَ الْجَنَّةِ يَرَوْنَ رَبَّهُمْ" فَحَدَّثَنِي بِنَحْوِ عَشَرَةِ أَحَادِيثَ فِي هَذَا, وَقَالَ: أَمَّا نَحْنُ فَقَدَ أَخَذْنَا دِينَنَا هَذَا عَنِ التَّابِعِينَ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَهُمْ عَمَّنْ أَخَذُوا؟ وَقَالَ عُقْبَةُ بْنُ قَبِيصَةَ: أَتَيْنَا أَبَا نُعَيْمٍ يَوْمًا فَنَزَلَ إِلَيْنَا مِنَ الدَّرَجَةِ الَّتِي فِي دَارِهِ فَجَلَسَ وَسَطَهَا كَأَنَّهُ مُغْضَبٌ فَقَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ سَعِيدٍ وَمُنْذِرٌ الثَّوْرِيُّ وَزُهَيْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ, وَحَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ صَالِحِ بْنِ حَيٍّ وَحَدَّثَنَا شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّخَعِيُّ, هَؤُلَاءِ أَبْنَاءُ الْمُهَاجِرِينَ يُحَدِّثُونَنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يُرَى فِي الْآخِرَةِ حَتَّى جَاءَ ابْنُ يَهُودِيٍّ صَبَّاغٌ يَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يرى "يعني بشر الْمِرِّيسِيَّ قَبَّحَهُ الله". ذكر أقول الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَطَبَقَاتِهِمْ وَمَشَايِخِهِمْ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى: قَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ الْإِمَامُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: النَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَى رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَعْيُنِهِمْ. وَسُئِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [الْقِيَامَةِ: 23] أَتَنْظُرُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؟ قَالَ: نَعَمْ, قَالَ أَشْهَبُ فَقُلْتُ: إِنَّ أَقْوَامًا يَقُولُونَ تَنْظُرُ مَا عِنْدَهُ, قَالَ: بَلْ تَنْظُرُ إِلَيْهِ نَظَرًا, وَقَدْ قَالَ مُوسَى: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} [الْأَعْرَافِ: 143] وَقَالَ تَعَالَى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} وَذَكَرَ الطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ قِيلَ لِمَالِكٍ: إِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ اللَّهَ لَا يُرَى. فَقَالَ مَالِكٌ: السَّيْفَ السَّيْفَ. وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ كَاتِبُ اللَّيْثِ: أَمْلَى عَلَيَّ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ الْمِاجِشُونُ وَسَأَلْتُهُ عَمَّا جَحَدَتِ الْجَهْمِيَّةُ؟ فَقَالَ: لَمْ يَزَلْ يُمْلِي لَهُمُ الشَّيْطَانُ حَتَّى جَحَدُوا قَوْلَهُ تَعَالَى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} فَقَالُوا: لَا يَرَاهُ أَحَدٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَجَحَدُوا. وَاللَّهِ أَفْضَلَ كَرَامَةِ اللَّهِ الَّتِي أَكْرَمَ بِهَا أَوْلِيَاءَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِهِ, وَنَضْرَتِهِ إِيَّاهُمْ: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [الْقَمَرِ: 25] فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ
لَيَجْعَلَنَّ رُؤْيَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلْمُخْلِصِينَ لَهُ ثَوَابًا لِيُنُضِّرَ بِهَا وُجُوهَهُمْ دُونَ الْمُجْرِمِينَ وَتَفْلُجَ بِهَا حُجَّتُهُمْ عَلَى الْجَاحِدِينَ وَهُمْ {عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} لَا يَرَوْنَهُ, كَمَا يَزْعُمُونَ أَنَّهُ لَا يُرَى وَلَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ, وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَحْجُبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ جَهْمًا وَأَصْحَابَهُ عَنْ أَفْضَلِ ثَوَابِهِ الَّذِي وَعَدَهُ اللَّهُ أَوْلِيَاءَهُ حِينَ يَقُولُ: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} فَجَحَدَ جَهْمٌ وَأَصْحَابُهُ أَفْضَلَ ثَوَابِهِ الَّذِي وَعَدَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَوْلِيَاءَهُ. وَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ سَأَلْتُ الْأَوْزَاعِيَّ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ وَمَالِكَ بْنَ أَنَسٍ وَاللَّيْثَ بْنَ سَعْدٍ عَنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ التي فيها الرؤية فَقَالُوا: تَمَرُّ بِلَا كَيْفٍ. وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: مَنْ لَمْ يَقُلْ إِنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ يُرَى فِي الْجَنَّةِ فَهُوَ جَهْمِيٌّ. ذَكَرَهُ الطَّبَرِيُّ وَذَكَرَ عَنْهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا يُصَلَّى خَلَفَ الْجَهْمِيِّ, وَالْجَهْمِيُّ الَّذِي يَقُولُ: لَا يُرَى رَبُّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ أَنَّهُ ذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ سَابِطٍ فِي الزِّيَادَةِ أَنَّهَا النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ, فَأَنْكَرَهُ رَجُلٌ فَصَاحَ بِهِ وَأَخْرَجَهُ مِنْ مَجْلِسِهِ. وَذَكَرَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْجَهْمِيَّةِ قَالَ لَهُ: يَا أَبَا عبد الرحمن "خدارا بآن جهان جون بيند" وَمَعْنَاهُ: كَيْفَ يُرَى اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَقَالَ: بِالْعَيْنِ. وَقَالَ وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَرَاهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى الْمُؤْمِنُونَ فِي الْجَنَّةِ وَلَا يَرَاهُ إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ. وَقَالَ قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الْمَأْخُوذُ بِهِ فِي الْإِسْلَامِ وَالسُّنَّةِ: الْإِيمَانُ بِالرُّؤْيَةِ وَالتَّصْدِيقُ بِالْأَحَادِيثِ الَّتِي جَاءَتْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الرُّؤْيَةِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ, وَقَدْ ذُكِرَتْ عِنْدَهُ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ الَّتِي فِي الرُّؤْيَةِ: هِيَ عِنْدَنَا حَقٌّ رَوَاهَا الثِّقَاتُ عَنِ الثِّقَاتِ إِلَى أَنْ صَارَتْ إِلَيْنَا. إِلَّا أَنَّا إِذَا قِيلَ لَنَا فَسِّرُوهَا لَنَا, قُلْنَا: لَا نُفَسِّرُ مِنْهَا شَيْئًا وَلَكِنْ نُمْضِيهَا كَمَا جَاءَتْ. وَقَالَ عَبْدُ الْوَهَّابِ الْوَرَّاقُ: سَأَلْتُ أَسْوَدَ بْنَ سَالِمٍ عَنْ أَحَادِيثِ الرُّؤْيَةِ فَقَالَ: أَحْلِفُ عَلَيْهَا أَنَّهَا حَقٌّ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَقَدْ جَاءَتْهُ رُقْعَةٌ مِنَ الصَّعِيدِ؛ فِيهَا مَا تَقُولُ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} ؟ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: لَمَّا أَنْ حُجِبَ هَؤُلَاءِ فِي السُّخْطِ كَانَ فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَوْلِيَاءَهُ يَرَوْنَهُ فِي الرِّضَا, قَالَ الرَّبِيعُ: فَقُلْتُ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ وَبِهِ تَقُولُ؟
قَالَ: نَعَمْ وبه أدين لله عَزَّ وَجَلَّ. وَلَوْ لَمْ يُوقِنْ مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ أَنَّهُ يَرَى اللَّهَ لَمَا عَبَدَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ. رَوَاهُ الْحَاكِمُ عَنِ الرَّبِيعِ عَنْهُ. وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ الْمُزَنِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} : فِيهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ يَرَوْنَ رَبَّهُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يوم الْقِيَامَةِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَكَمِ: سُئِلَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الرُّؤْيَةِ فَقَالَ: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} فَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَا يُحْجَبُونَ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. رَوَاهُ أَبُو زُرْعَةَ الرَّازِيُّ. وَلِابْنِ بَطَّةَ عَنْهُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ يَرَوْنَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَبْصَارِهِمْ وَوُجُوهِهِمْ. وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ قُلْتُ لِأَحْمَدَ: أَلَيْسَ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَرَاهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ أَلَيْسَ تَقُولُ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ؟ قَالَ أَحْمَدُ: صَحِيحٌ. وَقَالَ الْفَضْلُ بْنُ زِيَادٍ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ -وَقِيلَ لَهُ تَقُولُ بِالرُّؤْيَةِ- فَقَالَ: مَنْ لَمْ يَقُلْ بِالرُّؤْيَةِ فَهُوَ جَهْمِيٌّ, وَقَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ وَبَلَغَهُ عَنْ رَجُلٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَا يُرَى فِي الْآخِرَةِ فَغَضِبَ غَضَبًا شَدِيدًا ثُمَّ قَالَ: مَنْ قَالَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَرَى فِي الْآخِرَةِ فَقَدْ كَفَرَ, عَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَغَضَبُهُ مَنْ كَانَ مِنَ النَّاسِ, أَلَيْسَ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} وَقَالَ {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى, وَذُكِرَ لَهُ عَنْ رَجُلٍ شَيْءٌ فِي الرُّؤْيَةِ فَغَضِبَ وَقَالَ: مَنْ قَالَ إِنَّ اللَّهَ لَا يُرَى فَهُوَ كَافِرٌ. وَقَالَ أَيْضًا: سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَقِيلَ لَهُ فِي رَجُلٍ يُحَدِّثُ بِحَدِيثٍ عَنْ رَجُلٍ عَنْ أَبِي الْعَطُوفِ أَنَّ اللَّهَ لَا يُرَى فِي الْآخِرَةِ فَقَالَ: لَعَنَ اللَّهُ مَنْ يُحَدِّثُ بِهَذَا الْحَدِيثِ الْيَوْمَ, ثُمَّ قَالَ: أَخْزَى اللَّهُ هَذَا. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْمَرْوَزِيُّ: قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ تَعْرِفُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ عَنْ أَبِي الْعَطُوفِ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ: إِنِ اسْتَقَرَّ الْجَبَلُ فَسَوْفَ تَرَانِي وَإِنْ لَمْ يَسْتَقِرَّ فَلَا تَرَانِي فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ؟ 1 فَغَضِبَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ غَضَبًا شَدِيدًا
حَتَّى تَبَيَّنَ فِي وَجْهِهِ, وَكَانَ قَاعِدًا وَالنَّاسُ حَوْلَهُ فَأَخَذَ نَعْلَهُ وَانْتَعَلَ وَقَالَ: أَخْزَى اللَّهُ هَذَا, هَذَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُكْتَبَ. وَدَفَعَ أَنْ يَكُونَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ رَوَاهُ أَوْ حَدَّثَ بِهِ وَقَالَ: هَذَا جَهْمِيٌّ كَافِرٌ خَالَفَ مَا قَالَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} وَقَالَ: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} أَخْزَى اللَّهُ هَذَا الْخَبِيثَ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ لَا يُرَى فِي الْآخِرَةِ فَقَدْ كَفَرَ. وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ} [الْبَقَرَةِ: 210] {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} فَمَنْ قَالَ إِنَّ اللَّهَ لَا يُرَى فَقَدْ كَفَرَ. وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ هَانِئٍ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِالرُّؤْيَةِ فَهُوَ جَهْمِيٌّ, وَالْجَهْمِيُّ كَافِرٌ. وَقَالَ يُوسُفُ بْنُ مُوسَى بْنِ مُحَمَّدٍ الْقَطَّانُ قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: أَهْلُ الْجَنَّةِ يَنْظُرُونَ إِلَى رَبِّهِمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى, وَيُكَلِّمُونَهُ وَيُكَلِّمُهُمْ؟ قَالَ: نَعَمْ, يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ وَيُكَلِّمُهُمْ وَيُكَلِّمُونَهُ كَيْفَ شَاءُوا إِذَا شَاءُوا. وَقَالَ حَنْبَلُ بْنُ إِسْحَاقَ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: الْقَوْمُ يَرْجِعُونَ إِلَى التَّعْطِيلِ فِي أَقْوَالِهِمْ, يُنْكِرُونَ الرُّؤْيَةَ وَالْآثَارَ كُلَّهَا, وَمَا ظَنَنْتُهُمْ عَلَى هَذَا حَتَّى سَمِعْتُ مَقَالَاتِهِمْ. قَالَ حَنْبَلٌ وَسَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: مَنْ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ لَا يُرَى فِي الْآخِرَةِ فَهُوَ جَهْمِيٌّ, فَقَدْ كَفَرَ وَرَدَّ عَلَى اللَّهِ وَعَلَى الرَّسُولِ, وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَّخِذْ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا فَقَدْ كَفَرَ وَرَدَّ عَلَى اللَّهِ قَوْلَهُ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: فَنَحْنُ نُؤْمِنُ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَنُقِرُّ بِهَا وَنُمِرُّهَا كَمَا جَاءَتْ. وَقَالَ الْأَثْرَمُ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ: فَأَمَّا مَنْ يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ لَا يُرَى فِي الْآخِرَةِ فَهُوَ جَهْمِيٌّ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَإِنَّمَا تَكَلَّمَ مَنْ تَكَلَّمَ فِي رُؤْيَةِ الدُّنْيَا. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ زِيَادٍ الصَّائِغُ سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يَقُولُ: الرُّؤْيَةُ مَنْ كَذَّبَ بِهَا فَهُوَ زِنْدِيقٌ. وَقَالَ حَنْبَلٌ يَقُولُ: الرُّؤْيَةُ مَنْ كَذَّبَ بِهَا فَهُوَ زِنْدِيقٌ. وَقَالَ حَنْبَلٌ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: أَدْرَكْنَا النَّاسَ وَمَا يُنْكِرُونَ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ شَيْئًا, أَحَادِيثِ الرُّؤْيَةِ, وَكَانُوا يُحَدِّثُونَ بِهَا عَلَى الْجُمْلَةِ يُمِرُّونَهَا عَلَى حَالِهَا غَيْرَ مُنْكِرِينَ لِذَلِكَ وَلَا مُرْتَابِينَ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا} [الشُّورَى: 52] وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ فَقَالَ: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى
الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} فَأَخْبَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّ مُوسَى يَرَاهُ فِي الْآخِرَةِ وَقَالَ: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} وَلَا يَكُونُ حِجَابٌ إِلَّا لِرُؤْيَةٍ, أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَمَنْ أَرَادَ يَرَاهُ, وَالْكُفَّارُ لَا يَرَوْنَهُ. قَالَ حَنْبَلٌ: وَسَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} وَالْأَحَادِيثُ الَّتِي تُرْوَى فِي النَّظَرِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى حَدِيثُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَغَيْرِهِ: تَنْظُرُونَ إِلَى رَبِّكُمْ" أَحَادِيثُ صِحَاحٌ. وَقَالَ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ نُؤْمِنُ بِهَا وَنَعْلَمُ أَنَّهَا حَقٌّ أَحَادِيثُ الرُّؤْيَةِ. وَنُؤْمِنُ بِأَنَّ اللَّهَ يُرَى, نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا نَشُكُّ فِيهِ وَلَا نَرْتَابُ, قَالَ: وَسَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: مَنْ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ لَا يُرَى فِي الْآخِرَةِ فَقَدْ كَفَرَ بِاللَّهِ وَكَذَّبَ بِالْقُرْآنِ وَرَدَّ عَلَى اللَّهِ أَمْرَهُ, يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ. قَالَ حَنْبَلٌ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ فِي أَحَادِيثِ الرُّؤْيَةِ قَالَ: هَذِهِ صِحَاحٌ نُؤْمِنُ بِهَا وَنُقِرُّ بِهَا وَكُلُّ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَقْرَرْنَا بِهِ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: إِذَا لَمْ نُقِرَّ بِمَا جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَدَفَعْنَاهُ رَدَدْنَا عَلَى اللَّهِ أَمْرَهُ. قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الْحَشْرِ: 7] وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاهِرٍ أَمِيرُ خُرَاسَانَ لِإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ: يَا أَبَا يَعْقُوبَ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ الَّتِي يَرْوُونَهَا فِي النُّزُولِ وَالرُّؤْيَةِ مَا هُنَّ؟ فَقَالَ: رَوَاهَا مَنْ رَوَى الطَّهَارَةَ وَالْغُسْلَ وَالصَّلَاةَ وَالْأَحْكَامَ -وَذَكَرَ أَشْيَاءَ- فَإِنْ يكونوا في هذه عُدُولًا وَإِلَّا فَقَدِ ارْتَفَعَتِ الْأَحْكَامُ وَبَطَلَ الشَّرْعُ. فَقَالَ: شَفَاكَ اللَّهُ كَمَا شَفَيْتَنِي. أَوْ كَمَا قَالَ. ذَكَرَهُ الْحَاكِمُ, وَقَالَ إِمَامُ الْأَئِمَّةِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ فِي كِتَابِهِ: إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ خَالِقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ, وَمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ فَلَيْسَ بِمُؤْمِنٍ عِنْدَ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَالَ نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ لِلْمُزَنِيِّ: مَا تَقُولُ فِي الْقُرْآنِ؟ فَقَالَ: أَقُولُ إِنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ, فَقَالَ: غَيْرُ مَخْلُوقٍ؟ فَقَالَ: غَيْرُ مَخْلُوقٍ. قَالَ: وَتَقُولُ إِنَّ اللَّهَ يُرَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: نَعَمْ, فَلَمَّا افْتَرَقَ النَّاسُ قَامَ إِلَيْهِ الْمُزَنِيُّ فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ شَهَرْتَنِي عَلَى رُءُوسِ النَّاسِ, فَقَالَ: إِنَّ النَّاسَ قَدْ أَكْثَرُوا فِيكَ, فَأَرَدْتُ أَنْ أُبَرِّئَكَ. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى ثَعْلَبٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا، تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ} [الْأَحْزَابِ: 44] : أَجْمَعَ أَهْلُ اللُّغَةِ عَلَى أن اللقاء ههنا لَا يَكُونُ
إِلَّا مُعَايَنَةً وَنَظَرًا بِالْأَبْصَارِ, قُلْتُ: وَاللِّقَاءُ ثَابِتٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ هَذِهِ الْآيَةِ وَغَيْرِهَا, وَبِالتَّوَاتُرِ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَكُلُّ أَحَادِيثِ اللِّقَاءِ صَحِيحَةٌ كَحَدِيثِ أَنَسٍ فِي قِصَّةِ بِئْرِ مَعُونَةَ: "إِنَّا قَدْ لَقِينَا رَبَّنَا فَرَضِيَ عَنَّا وَأَرْضَانَا" 1، وَحَدِيثُ عُبَادَةَ وَعَائِشَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: "مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ لِقَاءَهُ" 2 وَحَدِيثُ أَنَسٍ: "إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوُا اللَّهَ تَعَالَى وَرَسُولَهُ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" 3 وَحَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "لَوْ لَقِيتَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً" 4 وَحَدِيثُ أَبِي مُوسَى: "مَنْ لَقِيَ اللَّهَ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ" 5 وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَحَادِيثِ اللِّقَاءِ الَّتِي اطَّرَدَتْ كُلُّهَا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ, فَهَذَا كِتَابُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَسُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الصَّحِيحَةُ الصَّرِيحَةُ, وَهَذِهِ
أَقْوَالُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْهُدَى, كُلُّهَا مُجْتَمِعَةٌ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ رَبَّهُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي الْجَنَّةِ, وَيَتَلَذَّذُونَ بِالنَّظَرِ إِلَى وَجْهِهِ الْكَرِيمِ وَذَلِكَ غَايَةُ النَّعِيمِ وَأَعْلَى الْكَرَامَاتِ وَأَفْضَلُ فَضِيلَةٍ, وَلِذَا يَذْهَلُونَ بِالنَّظَرِ إِلَيْهِ عَنْ كُلِّ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ, فَنَحْنُ نُؤْمِنُ بِذَلِكَ كُلِّهِ وَنُشْهِدُ اللَّهَ تَعَالَى وَمَلَائِكَتَهُ وَأَنْبِيَاءَهُ وَرُسُلَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ عَلَى ذَلِكَ, وَنَضْرَعُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَنَدْعُوهُ بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى أَنْ يَرْزُقَنَا لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِهِ تَعَالَى فِي جَنَّةِ عَدْنٍ, وَأَنْ لَا يَحْجُبَنَا عَنْهُ فَنَكُونَ مِنَ الَّذِينَ أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ, وَمَنْ جَحَدَ الرُّؤْيَةَ فَهُوَ كَاذِبٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى, مُكَذِّبٌ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ رَادٌّ لِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُخَالِفٌ لِجَمَاعَةِ الْمُؤْمِنِينَ, كَافِرٌ بِلِقَاءِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ, مُتَّبِعٌ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ, وَسَيُوَلِّيهِ اللَّهُ مَا تَوَلَّى وَيُصْلِيهِ جَهَنَّمَ إِنْ مَاتَ مُصِرًّا عَلَى جُحُودِهِ, أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ؟ وَقَدْ وَعَدَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّ الْمُكَذِّبِينَ مَحْجُوبُونَ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَقَالَ تَعَالَى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ، ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ، ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ ابْنِ الْمُبَارَكِ قَوْلَهُ: {تُكَذِّبُونَ} بِالرُّؤْيَةِ. وَقَدْ وَرَدَ حَدِيثٌ فِي وَعِيدِ مُنْكِرِي اللِّقَاءِ وَهُوَ مُتَنَاوِلٌ مُنْكِرَ الرُّؤْيَةِ بِلَا شَكٍّ وَلَا مِرْيَةٍ, رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ فِي الظَّهِيرَةِ لَيْسَتْ فِيهَا سَحَابَةٌ؟ قَالُوا: لَا, قَالَ: هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَيْسَ فِيهِ سَحَابَةٌ؟ قَالُوا: لَا, قَالَ: فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ رَبِّكُمْ إِلَّا كَمَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ أَحَدِهِمَا, فَيَلْقَى الْعَبْدَ فيقول: أي قل أَلَمْ أُكْرِمْكَ وَأُسَوِّدْكَ وَأُزَوِّجْكَ وَأُسَخِّرْ لَكَ الْخَيْلَ وَالْإِبِلَ وَأَذَرْكَ تَرْأَسُ وَتُرْفَعُ؟ فَيَقُولُ: بَلَى فَيَقُولُ: أَفَظَنَنْتَ أَنَّكَ مُلَاقِيَّ؟ فَيَقُولُ: لَا, فَيَقُولُ: فَإِنِّي أَنْسَاكَ كَمَا نَسِيتَنِي, ثُمَّ يَلْقَى الثَّانِيَ فيقول: أي قل أَلَمْ أُكْرِمْكَ وَأُسَوِّدْكَ وَأُزَوِّجْكَ وَأُسَخِّرْ لَكَ الْخَيْلَ وَالْإِبِلَ وَأَذَرْكَ تَرْأَسُ وَتُرْفَعُ؟ فَيَقُولُ: بَلَى أَيْ رَبِّ, فَيَقُولُ: أَفَظَنَنْتَ أَنَّكَ مُلَاقِيَّ؟ فَيَقُولُ: لَا, فَيَقُولُ: إِنِّي أَنْسَاكَ كَمَا نَسِيتَنِي. ثُمَّ يَلْقَى الثَّالِثَ فَيَقُولُ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ, فَيَقُولُ: يَا رَبِّ آمَنْتُ بِكَ وَبِكِتَابِكَ وَرُسُلِكَ وَصَلَّيْتُ وَصُمْتُ وَتَصَدَّقْتُ وَيُثْنِي بِخَيْرِ مَا استطاع. فيقول: ههنا إِذًا. ثُمَّ يُقَالُ: الْآنَ
وجوب الإيمان بالصفات الواردة في القرآن وإمرارها كما أتت
نَبْعَثُ شَاهِدًا عَلَيْكَ. فَيَتَفَكَّرُ فِي نَفْسِهِ مَنِ الَّذِي يَشْهَدُ عَلَيَّ, فَيُخْتَمُ عَلَى فِيهِ وَيُقَالُ لِفَخِذِهِ انْطِقِي فَيَنْطِقُ فَخِذُهُ وَلَحْمُهُ وَعِظَامُهُ بِعَمَلِهِ, وَذَلِكَ لِيُعْذَرَ مِنْ نَفْسِهِ, وَذَلِكَ الْمُنَافِقُ, وَذَلِكَ الَّذِي يَسْخَطُ اللَّهُ عَلَيْهِ"1 وَمِنْ تَرَاجِمِ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ؛ بَابُ وَعِيدِ مُنْكِرِي الرُّؤْيَةِ2، وَالدَّلَالَةُ مِنْهُ وَاضِحَةٌ مَنْطُوقًا وَمَفْهُومًا وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَلَا خِلَافَ فِي ثُبُوتِ رُؤْيَةِ الْمُؤْمِنِينَ رَبَّهُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي دَارِ الْآخِرَةِ. وَكَذَا لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي أَنَّهُ لَا يَرَاهُ أَحَدٌ قَبْلَ الْمَوْتِ, وَإِنَّمَا وَقَعَ الْخِلَافُ بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ, فَمَنْ بَعْدَهُمْ فِي ثُبُوتِ رُؤْيَةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَبَّهُ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ بَحْثُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. وُجُوبُ الْإِيمَانِ بِالصِّفَاتِ الْوَارِدَةِ فِي الْقُرْآنِ وَصَحِيحِ السُّنَّةِ وَإِقْرَارِهَا كَمَا أَتَتْ: وَكُلُّ مَا لَهُ مِنَ الصِّفَاتِ ... أَثْبَتَهَا فِي مُحْكَمِ الْآيَاتِ أَوْ صَحَّ فِي مَا قَالَهُ الرَّسُولُ ... فَحَقُّهُ التَّسْلِيمُ وَالْقَبُولُ "وَكُلُّ مَا" ثَبَتَ "لَهُ" أَيْ: لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ "مِنَ الصِّفَاتِ" الثَّابِتَةِ الَّتِي "أَثْبَتَهَا" هُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِنَفْسِهِ وَأَخْبَرَنَا بِاتِّصَافِهِ بِهَا "فِي مُحْكَمِ الْآيَاتِ" مِنْ كِتَابِهِ الْعَزِيزِ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ وَمِمَّا لَمْ نَذْكُرْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [الْبَقَرَةِ: 115] وَقَوْلِهِ: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [الْقَصَصِ: 88] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ، وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرَّحْمَنِ: 26-27] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الرُّومِ: 39] وَقَوْلِهِ: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى، إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} [اللَّيْلِ: 19] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} [الْإِنْسَانِ: 9]
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الْكَهْفِ: 21] وَقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه: 41] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آلِ عِمْرَانَ: 28] وَقَوْلِهِ عَنْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [الْمَائِدَةِ: 116] وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه: 39] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطُّورِ: 48] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ، تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [الْقَمَرِ: 13] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 57] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [الْمَائِدَةِ: 64] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزُّمَرِ: 67] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [الْأَعْرَافِ: 145] وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [الْمَائِدَةِ: 54] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} , {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} , {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} , {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصَّفِّ: 4] وَقَوْلِهِ: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} , {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [الْبَقَرَةِ: 205] {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لُقْمَانَ: 18] وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ} [الْفَتْحِ: 18] {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [البينة: 8] وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [التَّوْبَةِ: 96] {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزُّمَرِ: 7] وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [الْمَائِدَةِ: 80] وَكَقَوْلِهِ: {كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ} [التَّوْبَةِ: 46] وَقَوْلِهِ فِي الْيَهُودِ: {غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [الْمُمْتَحَنَةِ: 13] وَفِي قَاتِلِ النَّفْسِ الْمُحَرَّمَةِ: {فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ} [النِّسَاءِ: 93] وَقَوْلِهِ: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى} [طه: 81] وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الْأَعْرَافِ: 156] وَكَقَوْلِهِ: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً
وَعِلْمًا} [غَافِرٍ: 7] وَكَقَوْلِهِ: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الْأَنْعَامِ: 54] وَقَوْلِهِ: {وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} وَقَوْلِهِ: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آلِ عِمْرَانَ: 159] وَكَقَوْلِهِ: {وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ} وَقَوْلِهِ عَنْ إِبْلِيسَ: {فَبِعِزَّتِكَ لِأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82] وَقَوْلِهِ: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصْفُونَ، وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصَّافَّاتِ: 180] وَكَقَوْلِهِ: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النُّورِ: 53] الْآيَةَ. وَكَقَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} [الْمَائِدَةِ: 95] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} [السَّجْدَةِ: 22] وَقَوْلِهِ: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} [آلِ عِمْرَانَ: 4] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الْحَشْرِ: 23] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَلِكِ النَّاسِ} وَقَوْلِهِ: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آلِ عِمْرَانَ: 26-27] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} [الْأَنْعَامِ: 19] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الْحَدِيدِ: 4] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا، رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مَرْيَمَ: 54-56] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} [الْحِجْرِ: 49-50] وَقَوْلِهِ: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [غَافِرٍ: 3] وَقَوْلِهِ: {وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ} [الْبَقَرَةِ: 245] وَقَوْلِهِ: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الْأَنْعَامِ: 110] وَقَوْلِهِ: {وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} [الرَّعْدِ: 13] وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ, صِفَاتِ ذَاتِهِ تَعَالَى وَأَفْعَالِهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وجوب الإيمان بالصفات الواردة في صحيح السنة وإمرارها كما أتت
"أَوْ صَحَّ فِي مَا قَالَهُ الرَّسُولُ" مِنَ الْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ الصَّحِيحَةِ كَقَوْلِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ: "يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا مَعَ عَبْدِي حِينَ يُذْكُرُنِي, فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي, وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ" 1 مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَقَوْلِهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ وَبِحَمْدِهِ عَدَدَ خَلْقِهِ وَرِضَاءَ نَفْسِهِ وَزِنَةَ عَرْشِهِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالْأَرْبَعَةُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا2، وَقَوْلِهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَمَّا قَضَى اللَّهُ الْخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابِهِ عَلَى نَفْسِهِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ عِنْدَهُ عَلَى الْعَرْشِ: إِنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ3. وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ} [الْأَنْعَامِ: 65] قَالَ النَّبِيُّ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَعُوذُ بِوَجْهِكَ" قَالَ: {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَعُوذُ بِوَجْهِكَ" قَالَ: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا} فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هَذَا أَيْسَرُ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ4. وَقَوْلِهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ, وَصَلَحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَنْ يَحِلَّ بِي غَضَبُكَ أَوْ يَنْزِلَ بِي سُخْطُكَ, لَكَ الْعُتْبَى حَتَّى تَرْضَى وَلَا
حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ" رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي سِيرَتِهِ1. وَقَوْلِهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَأَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ" 2 الْحَدِيثَ تَقَدَّمَ فِي الرُّؤْيَةِ. وَقَوْلِهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَثَلُ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ مَثَلُ الْقَائِمِ الْمُصَلِّي حَتَّى يَرْجِعَ الْمُجَاهِدُ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ3. وَقَوْلِهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنِ اسْتَعَاذَ بِاللَّهِ فَأَعِيذُوهُ, وَمَنْ سَأَلَكُمْ بِاللَّهِ فَأَعْطُوهُ" رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا4. وَقَوْلِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ: "إِنَّكَ لَنْ تُخَلَّفَ بَعْدِي فَتَعْمَلَ عَمَلًا تُرِيدُ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا ازْدَدْتَ بِهِ رِفْعَةً وَدَرَجَةً " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِهِ5. وَقَوْلِهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَإِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَلَا تَلْتَفِتُوا, فَإِنَّ اللَّهَ يُقْبِلُ بِوَجْهِهِ إِلَى وَجْهِ عَبْدِهِ" رَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ الْحَارِثِ الْأَشْعَرِيِّ6، وَقَوْلِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي صِفَةِ الدَّجَّالِ: "أَلَا إِنَّهُ أَعْوَرُ وَإِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ" الْحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِمَا7. وَقَوْلِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ: "يَقُولُ النَّاسُ لِآدَمَ أَنْتَ آدَمُ أَبُو النَّاسِ: خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ" الْحَدِيثَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا8. وَقَوْلِهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَدُ اللَّهِ مَلْأَى لَا تُغِيضُهَا نَفَقَةٌ, سَحَّاءُ اللَّيْلَ
وَالنَّهَارَ. وَقَالَ: أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فَإِنَّهُ لَمْ يُغِضْ مَا فِي يَمِينِهِ, قَالَ: وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ وَبِيَدِهِ الْأُخْرَى الْمِيزَانُ يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ1 مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَقَوْلِهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقْبِضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْأَرْضَ وَتَكُونُ السَّمَاوَاتُ بِيَمِينِهِ ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ2. وَتَصْدِيقُهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْيَهُودِيَّ الَّذِي قَالَ لَهُ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ عَلَى إِصْبَعٍ وَالْأَرَضِينَ عَلَى إِصْبَعٍ وَالْجِبَالَ عَلَى إِصْبَعٍ وَالشَّجَرَ عَلَى إِصْبَعٍ وَالْخَلَائِقَ عَلَى إِصْبَعٍ, ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ. فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَعَجُّبًا وَتَصْدِيقًا لَهُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ3. وَقَوْلِهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ كَتَبَ بِيَدِهِ عَلَى نَفْسِهِ إِنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ4. وَقَوْلِهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَفْتَحُ أَبْوَابَ السَّمَاءِ فِي ثُلُثِ اللَّيْلِ الْبَاقِي فَيَبْسُطُ يَدَيْهِ فَيَقُولُ: أَلَا عَبْدٌ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ" الْحَدِيثَ5 تَقَدَّمَتْ أَلْفَاظُهُ فِي إِثْبَاتِ النُّزُولِ. وَقَوْلِهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ تَصَدَّقَ بِعِدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ -وَلَا يَصْعَدُ إِلَى اللَّهِ إِلَّا الطَّيِّبُ - فَإِنَّ اللَّهَ يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهَا كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فُلُوَّهُ حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ6. وَقَوْلِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي حَدِيثِ احْتِجَاجِ آدَمَ وَمُوسَى: "فَقَالَ آدَمُ: يَا مُوسَى اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِكَلَامِهِ وَخَطَّ لَكَ التَّوْرَاةَ بِيَدِهِ" الْحَدِيثَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ7. وَقَوْلِهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ يَدَ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا, وَيَدُ الْمُعْطِي الَّتِي تَلِيهَا, وَيَدُ السَّائِلِ أَسْفَلُ مِنْ ذَلِكَ" رَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ حَدِيثِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ 8 وَأَصْلُهُ فِي الصَّحِيحِ. وَقَوْلِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي قِصَّةِ خَلْقِ آدَمَ: "فَقَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ
وَتَعَالَى وَيَدَاهُ مَقْبُوضَتَانِ: اخْتَرْ أَيَّهُمَا شِئْتَ, قَالَ: اخْتَرْتُ يَمِينَ رَبِّي, وَكِلْتَا يَدَيْ رَبِّي يَمِينٌ مباركة, ثم يبسطها فَإِذَا فِيهَا آدَمُ وَذُرِّيَّتُهُ" الْحَدِيثَ أَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ1. وَقَوْلِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي قِصَّةِ سُؤَالِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ مَنَازِلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ: "قَالَ يَا رَبِّ فَأَخْبِرْنِي بِأَعْلَاهُمْ مَنْزِلَةً, قَالَ: هَذَا أَرَدْتَ فَسَوْفَ أُخْبِرُكَ؛ قَالَ: غَرَسْتُ كَرَامَتَهُمْ بِيَدِي وَخَتَمْتُ عَلَيْهَا" الْحَدِيثَ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ2. وَقَوْلِهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تَكُونُ الْأَرْضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خُبْزَةً وَاحِدَةً يَكْفَأُهَا الْجَبَّارُ بِيَدِهِ" الْحَدِيثَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ3. وَقَوْلِهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا" رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ4. وَقَوْلِهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ, فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ" الْحَدِيثَ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ5، وَقَوْلِهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَبْدَ نَادَى جِبْرِيلُ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ فَيُنَادِي جِبْرِيلُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ" الْحَدِيثَ فِي الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ6. وَقَوْلِهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَمَا أَحَدٌ أَصْبَرَ عَلَى أَذًى يَسْمَعُهُ مِنَ اللَّهِ, يَدَّعُونَ لَهُ الْوَلَدَ ثُمَّ يُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي
مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ1. وَقَوْلِهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "عَجِبَ رَبُّنَا مِنْ قُنُوطِ عِبَادِهِ وَقُرْبِ خَيْرِهِ"2 الْحَدِيثَ. وَقَوْلِهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "عَجِبَ رَبُّنَا مِنْ قَوْمٍ يُقَادُونَ إِلَى الْجَنَّةِ بِالسَّلَاسِلِ" رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ3. وَقَوْلِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَضْحَكُ اللَّهُ إِلَى رَجُلَيْنِ يَقْتُلُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ كِلَاهُمَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ4. وَقَوْلِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ: "إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ مِثْلَهُ " 5. وَقَوْلِهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ أَعَانَ عَلَى خُصُومَةٍ فِي بَاطِلٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وَفِي رِوَايَةٍ: "مَنْ خَاصَمَ فِي بَاطِلٍ لَمْ يَزَلْ فِي سُخْطِ اللَّهِ حَتَّى يَنْزِعَ"7. وَقَوْلِهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا مِنْ رَجُلٍ يَدْعُو امْرَأَتَهُ إِلَى فِرَاشِهِ فَتَأْبَى عَلَيْهِ إِلَّا كَانَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ سَاخِطًا عَلَيْهَا حَتَّى يَرْضَى عَنْهَا زَوْجُهَا" 8. وَقَوْلِهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَإِذَا أَبْغَضَ
عَبْدًا دَعَا جِبْرَائِيلَ فَيَقُولُ: إِنِّي أُبْغِضُ فُلَانًا فَأَبْغِضْهُ. قَالَ: فَيُبْغِضُهُ جِبْرِيلُ ثُمَّ يُنَادِي جِبْرِيلُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ: إِنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ فُلَانًا فَأَبْغِضُوهُ قَالَ: فَيُبْغِضُونَهُ, ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْبَغْضَاءُ فِي الْأَرْضِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ1. وَقَوْلِهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَنِ الْعَبْدِ يَأْكُلُ الْأَكْلَةَ فَيَحْمَدُهُ عَلَيْهَا وَيَشْرَبُ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدُهُ عَلَيْهَا " رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ2. وَقَوْلِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي قِصَّةِ أَصْحَابِ بِئْرِ مَعُونَةَ: "بَلِّغُوا قَوْمَنَا عَنَّا أَنَّا قَدْ لَقِينَا رَبَّنَا فَرَضِيَ عَنَّا وَأَرْضَانَا" وَهُوَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ3، وَهُوَ مِنَ التَّنْزِيلِ الْمَنْسُوخِ تِلَاوَةً وَقَوْلِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي قِصَّةِ سَبْيِ هَوَازِنَ: "اللَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا" أَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ4، وَقَوْلِهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "جَعَلَ اللَّهُ الرَّحْمَةَ مِائَةَ جُزْءٍ فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ جُزْءًا وَنَزَّلَ فِي الْأَرْضِ جُزْءًا وَاحِدًا, فَمِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ تَتَرَاحَمُ الْخَلَائِقُ حَتَّى تَرْفَعُ الدَّابَّةُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ" أَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ5. وَلِمُسْلِمٍ مَعْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ سَلْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَفِيهِ: "كُلُّ رَحْمَةٍ طِبَاقُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ كَمَّلَهَا بِهَذِهِ الرَّحْمَةِ" 6 وَقَوْلِهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَعُوذُ بِعِزَّتِكَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ يَمُوتُونَ" أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا7. وَقَوْلِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "وَعِزَّتِكَ لَا غِنَى بِي عَنْ بَرَكَتِكَ" أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ1. وَقَوْلِهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمِنْ فِيهِنَّ" أَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا2، وَقَوْلِهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ وَبِكَ مِنْكَ" لِمُسْلِمٍ وَالْأَرْبَعَةِ عَنْ عَائِشَةَ 3، وَقَوْلِهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ" قَالَ: ثُمَّ قَرَأَ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هُودٍ: 102] أَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ4، وَقَوْلِهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ لِيَنْسَى شَيْئًا وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا" رَوَاهُ الْبَزَّارُ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ5. وَقَوْلِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي حَلِفِهِ: "لَا وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ" أَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا6. وَقَوْلِهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا مِنْ قَلْبٍ إِلَّا وَهُوَ بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ, فَإِذَا شَاءَ أَنْ يُقِيمَهُ أقامه وإن شَاءَ أَنْ يُزِيغَهُ أَزَاغَهُ" رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا7، وَفِي صَدْرِهِ: "يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ". وَقَوْلِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي صِفَةِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ: "لَا يَزَالُ يُلْقَى فِيهَا -يَعْنِي النَّارَ- وَتَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ, حَتَّى يَضَعَ فِيهَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَدَمَهُ فَيَنْزَوِي بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ وَتَقُولُ: قَدْ قَدْ بِعِزَّتِكَ وَكَرَمِكَ" وَفِي
اجتناب التحريف والتعطيل والتكييف والتمثيل
رِوَايَةٍ "قَطْ قَطْ" بَالطَّاءِ أَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ1. وَقَوْلِهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا شَخْصَ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ" عَلَّقَهَا الْبُخَارِيُّ بِلَفْظِ التَّرْجَمَةِ وَوَصَلَهَا الدَّارِمِيُّ فِي مُسْنَدِهِ2. وَقَوْلِهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ, وَاللَّهِ لَأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ وَاللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّي, وَمِنْ أَجْلِ غَيْرَةِ اللَّهِ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ. وَلَا أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعُذْرُ مِنَ اللَّهِ, وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ بَعَثَ الْمُبَشِّرِينَ وَالْمُنْذِرِينَ. وَلَا أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْمَدْحُ مِنَ اللَّهِ وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ وَعَدَ الْجَنَّةَ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ فِي التَّرْجَمَةِ السَّابِقَةِ3. وَالْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ جِدًّا, يَحْتَاجُ اسْتِقْصَاؤُهَا إِلَى بَسْطٍ طَوِيلٍ وَفِيمَا ذَكَرْنَا كفاية, وما أشبهه فَسَبِيلُهُ سَبِيلُهُ. "فَحَقُّهُ التَّسْلِيمُ" لَهُ "وَالْقَبُولُ" الْفَاءُ وَاقِعَةٌ فِي جَوَابِ كُلِّ مَا, فَنَقُولُ فِي ذَلِكَ: مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ حَيْثُ قَالَ: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ، رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آلِ عِمْرَانَ: 7-8] وَلَا نَضْرِبُ كِتَابَ اللَّهِ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ فَنَتَّبِعُ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ كَمَا يَفْعَلُهُ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ, أَعَاذَنَا اللَّهُ وَعَصَمَنَا مِنْ ذَلِكَ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ وَفَضْلِهِ, إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ. نُمِرُّهَا صَرِيحَةً كَمَا أَتَتْ ... مَعَ اعْتِقَادِنَا لِمَا لَهُ اقْتَضَتْ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلِ ... وَغَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلِ بَلْ قَوْلُنَا قَوْلُ أَئِمَّةِ الْهُدَى ... طُوبَى لِمَنْ بِهَدْيِهِمْ قَدِ اهْتَدَى أَيْ: جَمِيعُ الْآيَاتِ وَالصِّفَاتِ وَأَحَادِيثِهَا "نُمِرُّهَا صَرِيحَةً" أَيْ: عَلَى
ظَوَاهِرِهَا "كَمَا أَتَتْ" عَنِ اللَّهِ تَعَالَى, وَعَنْ رَسُولِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِنَقْلِ الْعَدْلِ عَنِ الْعَدْلِ مُتَّصِلًا إِلَيْنَا كَالشَّمْسِ فِي وَقْتِ الظَّهِيرَةِ صَحْوًا لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ, "مَعَ اعْتِقَادِنَا" إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا "لِمَا لَهُ اقْتَضَتْ" مِنْ أَسْمَاءِ رَبِّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَصِفَاتِ كَمَالِهِ وَنُعُوتِ جَلَالِهِ كَمَا يَلِيقُ بِعَظَمَتِهِ وَعَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَهُ وَأَرَادَهُ "مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ" لِأَلْفَاظِهَا كَمَنْ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النِّسَاءِ: 164] أَنَّ التَّكْلِيمَ مِنْ مُوسَى, وَأَنَّ لَفْظَ الْجَلَالِةِ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ فِرَارًا مِنْ إِثْبَاتِ الْكَلَامِ كَمَا فَعَلَهُ بَعْضُ الْجَهْمِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ, وَقَدْ عُرِضَ ذَلِكَ عَلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا قَرَأَ هَذَا إِلَّا كَافِرٌ, قَرَأْتُ عَلَى الْأَعْمَشِ وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ عَلَى يَحْيَى بْنِ وَثَّابٍ وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ عَلَى أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ وَقَرَأَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ عَلَى عَلِيِّ ابن أَبِي طَالِبٍ وَقَرَأَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} يَعْنِي بِرَفْعِ لَفْظِ الْجَلَالَةِ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ, وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْقُرَّاءِ, رَوَى ذَلِكَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ ابْنِ عَيَّاشٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى1. وَرَوَى ابْنُ كَثِيرٍ أَنَّ بَعْضَ الْمُعْتَزِلَةِ قَرَأَ عَلَى بَعْضِ الْمَشَايِخِ: {وَكَلَّمَ اللَّهَ مُوسَى تَكْلِيمًا} فقال له: يابن اللَّخْنَاءِ كَيْفَ تَصْنَعُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الْأَعْرَافِ: 143] يَعْنِي أَنَّ هَذَا لَا يَقْبَلُ التَّحْرِيفَ وَلَا التَّأْوِيلَ2. وَكَمَا قَالَ جَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ لَعَنَهُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] حَيْثُ قَالَ: لَوْ وَجَدْتُ سَبِيلًا إِلَى حَكِّهَا لَحَكَكْتُهَا وَلَأَبْدَلْتُهَا اسْتَوْلَى. وَلَهُ فِي ذَلِكَ سَلَفُ الْيَهُودِ فِي تَحْرِيفِ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ حَيْثُ قَالَ تَعَالَى لَهُمْ: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ} [الْبَقَرَةِ: 58] فَدَخَلُوا يزحفون على أستاهم وَقَالُوا: "حِنْطَةٌ"3 فَخَالَفُوا مَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الدُّخُولِ سُجَّدًا وَبَدَّلُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَكَانَ
جَزَاؤُهُمْ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى حَيْثُ يَقُولُ: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الْبَقَرَةِ: 59] وَجَعَلَهُمُ اللَّهُ عِبْرَةً لِمَنْ بَعْدَهُمْ, فمن فعل كمن فَعَلُوا فَسَبِيلُهُ سَبِيلُهُمْ كَمَا مَضَتْ سُنَّةُ اللَّهِ بِذَلِكَ: {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ} [الْقَمَرِ: 43] . وَ"مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ" لِمَعَانِيهَا كَمَا فَعَلَهُ الزَّنَادِقَةُ أَيْضًا كَتَأْوِيلِهِمْ "نَفْسَهُ" تَعَالَى بِالْغَيْرِ, وَأَنَّ إِضَافَتَهَا إِلَيْهِ كَإِضَافَةِ بَيْتِ اللَّهِ وَنَاقَةِ اللَّهِ, فَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ يَكُونُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آلِ عِمْرَانَ: 28] أَيْ: غَيْرَهُ وَقَوْلُهُ: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الْأَنْعَامِ: 54] أَيْ: عَلَى غَيْرِهِ, وَيَكُونُ قَوْلُهُ تَعَالَى عَنْ عِيسَى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [الْمَائِدَةِ: 116] أَيْ: وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي غَيْرِكَ, وَيَكُونُ قَوْلُهُ تَعَالَى لِمُوسَى: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه: 41] أَرَادَ وَاصْطَنَعْتُكَ لِغَيْرِي, وَهَذَا لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ بَلْ وَلَا يَتَوَهَّمُهُ وَلَا يَقُولُهُ إِلَّا كَافِرٌ. وَكَتَأْوِيلِهِمْ "وَجْهَهُ" تَعَالَى بِالنَّفْسِ مَعَ جُحُودِهِمْ لَهَا كَمَا تَقَدَّمَ, فَانْظُرْ لِتَنَاقُضِهِمُ الْبَيِّنِ, وَهَذَا يَكْفِي حِكَايَتُهُ عَنْ رَدِّهِ. أَمَّا مَنْ أَثْبَتَ النَّفْسَ وَأَوَّلَ الْوَجْهَ بِذَلِكَ فَيُقَالُ لَهُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرَّحْمَنِ: 27] فذكر الوجه مرفرعا عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ وَلَفْظُ رَبِّ مَجْرُورٌ بِالْإِضَافَةِ, وَذَكَرَ ذُو مَرْفُوعًا بالتبعية نعتا لوجه, فَلَوْ كَانَ الْوَجْهُ هُوَ الذَّاتَ لَكَانَتِ الْقِرَاءَةُ "وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ" بِالْيَاءِ لَا بِالْوَاوِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرَّحْمَنِ: 78] فَخَفَضَهَ لَمَّا كَانَ صِفَةً لِلرَّبِّ فَلَمَّا كَانَتِ الْقِرَاءَةُ فِي الْآيَةِ الْأُولَى بِالرَّفْعِ إِجْمَاعًا تَبَيَّنَ أَنَّ الْوَجْهَ صِفَةٌ لِلذَّاتِ لَيْسَ هُوَ الذَّاتَ وَلَمَّا رَأَى آخَرُونَ مِنْهُمْ فَسَادَ تَأْوِيلِهِمْ بِالذَّاتِ أَوِ الْغَيْرِ لَجَئُوا إِلَى طَاغُوتِ الْمَجَازِ فَعَدَلُوا إِلَى تَأْوِيلِهِ بِهِ أَوْلَى وَأَنَّهُ كَمَا يُقَالُ: "وَجْهُ الْكَلَامِ" وَ"وَجْهُ الدَّارِ" وَ"وَجْهُ الثَّوْبِ" وَنَحْوُ ذَلِكَ, فَتَكَلَّفُوا الْكَذِبَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَعَلَى رَسُولِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كُلَّ التَّكَلُّفِ ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ فَوَقَعُوا فِيمَا فَرُّوا مِنْهُ, فَيُقَالُ لَهُمْ: أَلَيْسَ الثَّوْبُ وَالدَّارُ وَالْكَلَامُ مَخْلُوقَاتٍ كُلَّهَا وَقَدْ شَبَّهْتَمْ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى بِذَلِكَ؟ فَأَيْنَ الْفِكَاكُ وَالْخَلَاصُ وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [فُصِّلَتْ: 23] وَكَمَا أَوَّلُوا الْيَدَ بِالنِّعْمَةِ وَاسْتَشْهَدُوا بِقَوْلِ الْعَرَبِ: "لَكَ
عدول أهل التأويل عن ألف دليل وتمسكهم بما ينسب إلى الأخطل النصراني في الاستواء
يَدٌ عِنْدِي" أَيْ: نِعْمَةٌ, فَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ يَكُونُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [الْمَائِدَةِ: 64] يَعْنِي: نِعْمَتَاهُ, فَلَمْ يُثْبِتُوا لِلَّهِ إِلَّا نِعْمَتَيْنِ وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [لُقْمَانَ: 20] وَيَكُونُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] أَرَادَ ,بِنِعْمَتِي فَأَيُّ فَضِيلَةٍ لِآدَمَ عَلَى غَيْرِهِ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ؟ وَهَلْ مِنْ أَحَدٍ لَمْ يَخْلُقْهُ اللَّهُ بِنِعْمَتِهِ؟ وَيَكُونُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزُّمَرِ: 67] أَرَادَ مَطْوِيَّاتٌ بِنِعْمَتِهِ, فَهَلْ يَقُولُ هَذَا عَاقِلٌ؟ وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ: "بِقُوَّتِهِ" اسْتِشْهَادًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} [الذَّارِيَاتِ: 147] أَيْ: بِقُوَّةٍ, فَيُقَالُ لَهُمْ: أَلَيْسَ كُلُّ مَخْلُوقٍ خَلَقَهُ اللَّهُ بِقُوَّةٍ؟ فَعَلَى هَذَا مَا مَعْنَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} وَأَيُّ فَضْلٍ لِآدَمَ عَلَى إِبْلِيسَ إِذْ كُلٌّ مِنْهُمَا خَلَقَهُ اللَّهُ بِقُوَّتِهِ؟ ومعنى قَوْلِهِ تَعَالَى لِلْمَلَائِكَةِ: "لَا أَجْعَلُ صَالِحَ ذَرِّيَّةِ مَنْ خَلَقْتُ بِيَدَيَّ كَمَنْ قُلْتُ لَهُ كُنْ فَكَانَ". أَفَلَمْ يَخْلُقِ الْمَلَائِكَةَ بِقُوَّتِهِ, وَأَيُّ فَضْلٍ لِآدَمَ عَلَيْهِمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ خَلَقَهُ اللَّهُ بِيَدِهِ الَّتِي هِيَ صِفَتُهُ, نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. وَكَمَا تَأَوَّلُوا الِاسْتِوَاءَ بِالِاسْتِيلَاءِ وَاسْتَشْهَدُوا بِبَيْتٍ مَجْهُولٍ مَرْوِيٍّ عَلَى خِلَافِ وَجْهِهِ وَهُوَ مَا يُنْسَبُ إِلَى الْأَخْطَلِ النَّصْرَانِيِّ: قَدِ اسْتَوَى بِشْرٌ عَلَى الْعِرَاقِ ... مِنْ غَيْرِ سَيْفٍ وَدَمٍ مُهْرَاقِ فَعَدَلُوا عَنْ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفِ دَلِيلٍ مِنَ التَّنْزِيلِ إِلَى بَيْتٍ يُنْسَبُ إِلَى بَعْضِ الْعُلُوجِ لَيْسَ عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ وَلَا عَلَى لُغَةِ الْعَرَبِ, فَطَفِقَ أَهْلُ الْأَهْوَاءِ يُفَسِّرُونَ بِهِ كَلَامَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَيَحْمِلُونَهُ عَلَيْهِ, مَعَ إِنْكَارِ عَامَّةِ أَهْلِ اللُّغَةِ لِذَلِكَ وَأَنَّ الِاسْتِوَاءَ لَا يَكُونُ بِمَعْنَى الِاسْتِيلَاءِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ الْبَتَّةَ. وَقَدْ سُئِلَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ وَهُوَ إِمَامُ أَهْلِ اللُّغَةِ فِي زَمَانِهِ فَقَالَ: الْعَرَبُ لَا تَقُولُ لِلرَّجُلِ اسْتَوْلَى عَلَى الشَّيْءِ حَتَّى يَكُونَ لَهُ فِيهِ مُضَادٌّ, فَأَيُّهُمَا غَلَبَ قِيلَ اسْتَوْلَى, وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ لَا مغالب له ا. هـ.1. وَقَدْ فَسَّرَ السَّلَفُ الِاسْتِوَاءَ بِعِدَّةِ مَعَانٍ بِحَسَبِ أَدَاتِهِ الْمُقْتَرِنَةِ بِهِ, وَبِحَسَبِ تَجْرِيدِهِ عَنِ الْأَدَاءِ, وَلَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنَّهُ يَأْتِي بِمَعْنَى الِاسْتِيلَاءِ حَتَّى
انْتَحَلَ ذَلِكَ أَهْلُ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ لَا بِاشْتِقَاقٍ صَغِيرٍ وَلَا كَبِيرٍ, بَلْ بِاسْتِنْبَاطٍ مُخْتَلَقٍ وَافَقَ الْهَوَى الْمُتَّبَعَ. وَقَدْ بَسَطَ الْقَوْلَ فِي رَدِّ ذَلِكَ ابْنُ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ الصَّوَاعِقِ وَبَيَّنَ بُطْلَانَهُ مِنْ نَيِّفٍ وَأَرْبَعِينَ وَجْهًا فَلْيُرَاجَعْ1. وَكَمَا أَوَّلُوا أَحَادِيثَ النُّزُولِ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا بِأَنَّهُ يَنْزِلُ أَمْرُهُ, فَيُقَالُ لَهُمْ: أَلَيْسَ أَمْرُ اللَّهِ تَعَالَى نَازِلًا فِي كُلِّ وَقْتٍ وَحِينٍ؟ فَمَاذَا يَخُصُّ السَّحَرَ بِذَلِكَ؟ وَقَالَ آخَرُونَ: يَنْزِلُ مَلَكٌ بِأَمْرِهِ, فَنَسَبَ النُّزُولَ إِلَيْهِ تَعَالَى مَجَازًا. فَيُقَالُ لَهُمْ: فَهَلْ يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يرسل من يدعي رُبُوبِيَّتَهُ, وَهَلْ يُمْكِنُ لِلْمَلِكِ أَنْ يَقُولَ: "لَا أَسْأَلُ عَنْ عِبَادِي غَيْرِي مَنْ ذَا الَّذِي يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ مَنْ ذَا الَّذِي يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ"2 وَهَلْ قَصُرَتْ عِبَارَةُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ أَنْ يَقُولَ يَنْزِلُ مَلَكٌ بِأَمْرِ اللَّهِ فَيَقُولُ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ لَكُمْ كَذَا أَوْ أَمَرَنِي أَنْ أَقُولَ لَكُمْ كَذَا حَتَّى جَاءَ بِلَفْظٍ مُجْمَلٍ يُوهِمُ بِزَعْمِكُمْ رُبُوبِيَّةَ الْمَلَكِ. لَقَدْ ظَنَنْتُمْ بِاللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا. وَكَمَا أَوَّلُوا الْمَجِيءَ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ بِالْمَجَازِ فَقَالُوا يَجِيءُ أَمْرُهُ وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ} [النَّحْلِ: 33] فَقَالُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ} [الْبَقَرَةِ: 210] فَقَالُوا: هُوَ مِنْ مَجَازِ الْحَذْفِ, وَالتَّقْدِيرُ يَأْتِي أَمْرُ اللَّهِ. فَيُقَالُ لَهُمْ: أَلَيْسَ قَدِ اتَّضَحَ ذَلِكَ غَايَةَ الِاتِّضَاحِ أَنَّ مَجِيءَ رَبِّنَا عَزَّ وَجَلَّ غَيْرُ مَجِيءِ أَمْرِهِ وَمَلَائِكَتِهِ, وَأَنَّهُ يَجِيءُ حَقِيقَةً, وَمَجِيءُ أَمْرِهِ حَقِيقَةٌ, وَمَجِيءُ مَلَائِكَتِهِ حَقِيقَةٌ, وَقَدْ فَصَلَ تَعَالَى ذَلِكَ وَقَسَّمَهُ وَنَوَّعَهُ تَنْوِيعًا يَمْتَنِعُ مَعَهُ الْحَمْلُ عَلَى الْمَجَازِ, فَذَكَرَ تَعَالَى فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ مَجِيئَهُ وَمَجِيءَ الْمَلَائِكَةِ, وَكَذَا فِي آيَةٍ الْفَجْرِ, وَذَكَرَ فِي النَّحْلِ مَجِيءَ مَلَائِكَتِهِ وَمَجِيءَ أَمْرِهِ, وَذَكَرَ فِي آيَةِ الْأَنْعَامِ إِتْيَانَهُ وَإِتْيَانَ مَلَائِكَتِهِ وَإِتْيَانَ بَعْضِ آيَاتِهِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَمْرِهِ. ثُمَّ يُقَالُ: مَا الَّذِي يَخُصُّ إِتْيَانَ أَمْرِهِ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ؟ أَلَيْسَ أَمْرُهُ آتِيًا فِي كُلِّ وَقْتٍ, مُتَنَزِّلًا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ بِتَدْبِيرِ أُمُورِ خَلْقِهِ فِي كُلِّ نَفَسٍ وَلَحْظَةٍ: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرَّحْمَنِ: 29] وَتَأَوَّلُوا النَّظَرَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ بِالِانْتِظَارِ قَالُوا: إِنَّهُ كَقَوْلِهِ: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ
نُورِكُمْ} [الْحَدِيدِ: 13] فَيُقَالُ لَهُمْ: أَلَيْسَ إِذَا كَانَ بِمَعْنَى الِانْتِظَارِ تَعَدَّى بِنَفْسِهِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى أَدَاةٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {انْظُرُونَا} أَلَمْ يُضِفِ اللَّهُ تَعَالَى النَّظَرَ إِلَى الْوُجُوهِ الَّتِي فِيهَا الْإِبْصَارُ, وَيُعَدِّهِ بِإِلَى الَّتِي تُفِيدُ الْمُعَايَنَةَ بِالْبَصَرِ عِنْدَ جَمِيعِ أَهْلِ اللُّغَةِ {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} أَوَلَمْ يُفَسِّرْهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالرُّؤْيَةِ الْجَلِيَّةِ عِيَانًا بِالْأَبْصَارِ فِي أَكْثَرَ مِنْ خَمْسِينَ حَدِيثًا صَحِيحًا, حَتَّى شَبَّهَ تِلْكَ الرُّؤْيَةَ بِرُؤْيَتِنَا الشَّمْسَ صَحْوًا لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ, تَشْبِيهًا لِلرُّؤْيَةِ بِالرُّؤْيَةِ, لَا لِلْمَرْئِيِّ بِالْمَرْئِيِّ, وَلَمْ يَزَلِ الصَّحَابَةُ مُؤْمِنِينَ بِذَلِكَ, وَيُحَدِّثُونَ بِهِ مَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ التَّابِعِينَ, وَيَنْقُلُهُ التَّابِعُونَ إِلَى مَنْ بَعْدَهُمْ وَهَلُمَّ جَرًّا. فَنَحْنُ أَخَذْنَا دِينَنَا عَنْ حَمَلَةِ الشَّرِيعَةِ عَنِ الصَّحَابَةِ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَنْتُمْ عَمَّنْ أَخَذْتُمْ؟ وَمِنْ شُبُهَاتِهِمْ فِي نَفْيِ الرُّؤْيَةِ اسْتِدْلَالُهُمْ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الْأَنْعَامِ: 113] وَهَذِهِ الْآيَةُ فِيهَا عَنِ الصَّحَابَةِ تَفْسِيرَانِ: أَوَّلُهُمَا لَا يُرَى فِي الدُّنْيَا, وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا1, وَبِذَلِكَ نَفَتْ أَنْ يَكُونَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَأَى رَبَّهُ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ. ثَانِيهُمَا تَفْسِيرُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {لَا تُدْرِكُهُ} أَيْ: لَا تُحِيطُ بِهِ, فَالنَّفْيُ لِلْإِحَاطَةِ لَا لِلرُّؤْيَةِ2، وَهَذَا عَامٌّ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ, وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحٍ وَلَا ضَعِيفٍ أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ نَفْيَ الرُّؤْيَةِ فِي الْآخِرَةِ, فَهَذَا تَفْسِيرُ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَ الْكِتَابِ هَلْ بَيْنَهُمْ مِنْ أَحَدٍ فَسَّرَ الْآيَةَ بِمَا افْتَرَيْتُمُوهُ؟ وَمِنْ إِفْكِهِمُ ادِّعَاؤُهُمْ مَعْنَى التأبيد في النفي {لَنْ تَرَانِي} [الْأَعْرَافِ: 143] حَتَّى كَذَبُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَدِيثًا مُخْتَلَقًا لَفْظُهُ: لَنْ تَرَانِي فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ. وَهُوَ مَوْضُوعٌ مَكْذُوبٌ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ, وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ: إِنَّ نَفْيَ "لَنْ" لِلتَّأْبِيدِ مُطْلَقًا إِلَّا الزَّمَخْشَرِيُّ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ, قَالَ ذَلِكَ تَرْوِيجًا لِمَذْهَبِهِ فِي الِاعْتِزَالِ, وَجُحُودِ صِفَاتِ الْخَالِقِ جَلَّ وَعَلَا, وَقَدْ رَدَّهُ عَلَيْهِ أَئِمَّةُ التَّفْسِيرِ كَابْنِ كَثِيرٍ وَغَيْرِهِ3، وَرَدَّهُ ابْنُ مَالِكٍ فِي الْكَافِيَةِ حَيْثُ قَالَ:
وَمَنْ يَرَى النَّفْيَ بِلَنْ مُؤَبَّدًا ... فَقَوْلَهُ ارْدُدْ وَسِوَاهُ فَاعْضُدَا وَالْقَائِلُ لِمُوسَى {لَنْ تَرَانِي} هُوَ الْمُتَجَلِّي لِلْجَبَلِ حَتَّى انْدَكَّ, وَهُوَ الَّذِي وَعَدَ الْمُؤْمِنِينَ {الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} وَهُوَ الَّذِي قَالَ: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} فَاتَّضَحَ بِذَلِكَ أَنَّ قوله لموسى عليه السلام: {لَنْ تَرَانِي} إِنَّمَا أَرَادَ عَدَمَ اسْتِطَاعَتِهِ رُؤْيَةَ اللَّهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الدَّارِ لِضَعْفِ الْقُوَى الْبَشَرِيَّةِ فِيهَا عَنْ ذَلِكَ كَمَا قَرَّرَ تَعَالَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ جَلَّ جَلَالُهُ: {وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} [الْأَعْرَافِ: 143] الْآيَةَ. فَإِذَا لَمْ يَثْبُتِ الْجَبَلُ لِتَجَلِّي اللَّهِ تَعَالَى فَكَيْفَ يَثْبُتُ مُوسَى لِذَلِكَ وَهُوَ بَشَرٌ خُلِقَ مِنْ ضَعْفٍ؟ وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَيَخْلُقُ اللَّهُ تَعَالَى فِي أَوْلِيَائِهِ قُوَّةً مُسْتَعِدَّةً لِلنَّظَرِ إِلَى وَجْهِهِ عَزَّ وَجَلَّ, وَبِهَذَا تَجْتَمِعُ نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَتَأْتَلِفُ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ, وَأَمَّا مَنِ اتَّبِعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ, وَنَصَبَ الْخِصَامَ أَوِ الْجِدَالَ وَالْمُعَارَضَةَ بَيْنَ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ, وَاتَّبَعَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ, وَضَرَبَ كِتَابَ اللَّهِ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ وَآمَنَ بِبَعْضٍ وَكَفَرَ بِبَعْضٍ وَشَاقَّ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَاتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ, وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ؟ أَعَاذَنَا اللَّهُ وَجَمِيعَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ ذَلِكَ. وَلَا يَتَأَتَّى لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ مُرَادُهُ وَلَا يَسْتَقِيمُ لَهُ تَأْوِيلُهُ إِلَّا بِدَفْعِ النُّصُوصِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ لَا مَحَالَةَ وَلَا بُدَّ, فَإِنَّ كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا لَا يُكَذِّبُهُ كَمَا هُوَ مُصَدِّقٌ لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنٌ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ سُنَّةُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تُبَيِّنُ الْكِتَابَ وَتُوَضِّحُهُ وَتُفَسِّرُهُ وَتَدُلُّ عَلَيْهِ وَتُرْشِدُ إِلَيْهِ. وَلَا يَشُكُّ فِي ذَلِكَ وَلَا يَرْتَابُ فِيهِ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ, وَأَدْلَى بِشُبُهَاتِهِ لِغَرَضِ شَهَوَاتِهِ: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ، وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} [الْبُرُوجِ: 19-20] وَهَذَا دَأْبُهُمْ فِي جَمِيعِ نُصُوصِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ, وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا هَذِهِ الْجُمْلَةَ مِثَالًا وَتَنْبِيهًا عَلَى مَا وَرَاءَ ذَلِكَ. فَمَنْ عُوفِيَ فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ, فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هدانا الله. "ولا تعطيل" أَيْ: لِلنُّصُوصِ بِنَفْيِ مَا اقْتَضَتْهُ مِنْ صِفَاتِ كَمَالِ اللَّهِ تَعَالَى
وَنُعُوتِ جَلَالِهِ فَإِنَّ نَفْيَ ذَلِكَ مِنْ لَازِمِهِ نَفْيُ الذَّاتِ وَوَصْفُهُ بِالْعَدَمِ الْمَحْضِ, إِذْ مَا لَا يُوصَفُ بِصِفَةٍ هُوَ الْعَدَمُ, تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ وَالْجَاحِدُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا. وَلِهَذَا قَالَ السَّلَفُ الصَّالِحُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْجَهْمِيَّةِ: إِنَّهُمْ يُحَاوِلُونَ أَنْ يَقُولُوا لَيْسَ فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ يُعْبَدُ وَذَلِكَ لِجُحُودِهِمْ صِفَاتِ كَمَالِهِ وَنُعُوتِ جَلَالِهِ الَّتِي وَصَفَ بِهَا نَفْسَهُ وَوَصَفَهُ بِهَا رَسُولُهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ التَّكْذِيبَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ, وَالِافْتِرَاءَ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ، وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ، لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ، لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهِمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الزُّمَرِ: 32-35] . "وَغَيْرِ تَكْيِيفٍ" تَفْسِيرٍ لَكِنَّهُ شَيْءٌ مِنْ صِفَاتِ رَبِّنَا تَعَالَى كَأَنْ يُقَالَ اسْتَوَى عَلَى هَيْئَةِ كَذَا, أَوْ يَنْزِلُ إِلَى السَّمَاءِ بِصِفَةِ كَذَا, أَوْ تَكَلَّمَ بِالْقُرْآنِ عَلَى كَيْفِيَّةِ كَذَا, وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْغُلُوِّ فِي الدِّينِ وَالِافْتِرَاءِ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَاعْتِقَادِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ وَعَظَمَتِهِ وَلَمْ يَنْطِقْ بِهِ كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ, وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مَطْلُوبًا مِنَ الْعِبَادِ فِي الشَّرِيعَةِ لَبَيَّنَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلَمْ يَدَعْ مَا بِالْمُسْلِمِينَ إِلَيْهِ حَاجَةٌ إِلَّا بَيَّنَهُ وَوَضَّحَهُ, وَالْعِبَادُ لَا يَعْلَمُونَ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا مَا عَلَّمَهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [الْبَقَرَةِ: 255] وَقَالَ تَعَالَى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [البقرة: 110] فَلْيُؤْمِنِ الْعَبْدُ بِمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَلْيَقِفْ مَعَهُ كَهَذِهِ الصِّفَاتِ الثَّابِتَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ, وَلِيُمْسِكْ عَمَّا جَهِلَهُ وَلِيَكِلْ مَعْنَاهُ إِلَى عَالِمِهِ كَكَيْفِيَّتِهَا {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الْحَشْرِ: 7] . "وَلَا تَمْثِيلِ" أَيْ: وَمِنْ غَيْرِ تَشْبِيهٍ لِشَيْءٍ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ بِصِفَاتِ خَلْقِهِ, فَكَمَا أَنَّا نُثْبِتُ لَهُ ذَاتًا لَا تُشْبِهُ الذَّوَاتِ فَكَذَلِكَ نُثْبِتُ لَهُ مَا أَثْبَتَ لِنَفْسِهِ مِنَ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ, وَنَعْتَقِدُ تَنَزُّهَهُ وَتُقَدَّسَهُ عَنْ مُمَاثَلَةِ الْمَخْلُوقَاتِ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشُّورَى: 11] وَإِذَا كَانَ الْقَوْلُ عَلَى اللَّهِ بِلَا عِلْمٍ فِي أَحْكَامِ
الشَّرِيعَةِ، هُوَ أَقْبَحَ الْمُحَرَّمَاتِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) [الْأَعْرَافِ: 33] فَكَيْفَ بِالْقَوْلِ عَلَى اللَّهِ بِلَا عِلْمٍ فِي إِلَهِيَّتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ مِنْ تَشْبِيهِ خَلْقِهِ بِهِ أَوْ تَشْبِيهِهِ لِخَلْقِهِ فِي اتِّخَاذِ الْأَنْدَادِ مَعَهُ وَصَرْفِ الْعِبَادَةِ لَهُمْ, وَإِنَّ اعْتِقَادَ تَصَرُّفِهِمْ فِي شَيْءٍ مِنْ مَلَكُوتِهِ تَشْبِيهٌ لِلْمَخْلُوقِ بِالْخَالِقِ, كَمَا أَنَّ تَمْثِيلَ صِفَاتِهِ تَعَالَى بِصِفَاتِ خَلْقِهِ تَشْبِيهٌ لِلْخَالِقِ بِالْمَخْلُوقِ, وَكِلَا التَّشْبِيهَيْنِ كُفْرٌ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَقْبَحَ الْكُفْرِ, وَقَدْ نَزَّهَ اللَّهُ تَعَالَى نَفْسَهُ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي كِتَابِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} وَقَالَ تَعَالَى: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مَرْيَمَ: 65] وَقَالَ تَعَالَى: {فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَأُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} وَقَالَ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [النَّحْلِ: 60] وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النَّحْلِ: 74] وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ بَلْ جَمِيعُ الْقُرْآنِ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى خَاتِمَتِهِ فِي هَذَا الْمَعْنَى, بَلْ لَمْ يُرْسِلِ اللَّهُ تَعَالَى رُسُلَهُ وَلَمْ يُنَزِّلْ كُتُبَهُ إِلَّا بِذَلِكَ: {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [الْأَحْزَابِ: 4] . "بَلْ قَوْلُنَا" الَّذِي نَقُولُهُ وَنَعْتَقِدُهُ وَنَدِينُ اللَّهَ بِهِ هُوَ "قَوْلُ أَئِمَّةِ الْهُدَى" مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْأَئِمَّةِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَابْنِ عُيَيْنَةَ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ بْنَ رَاهَوَيْهِ وَأَصْحَابِ الْأُمَّهَاتِ السِّتِّ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ1 قَدِيمًا وَحَدِيثًا الَّذِينَ قَضَوْا بِالْحَقِّ وَبِهِ كَانُوا يَعْدِلُونَ, وَهُوَ إِمْرَارُهَا كَمَا جَاءَتْ مِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَبِلَا تَشْبِيهٍ وَلَا تَعْطِيلٍ. وَالظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ إِلَى أَذْهَانِ الْمُشَبِّهِينَ مَنْفِيٌّ عَنِ
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُشْبِهُهُ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِهِ وَلَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ, بَلِ الْأَمْرُ كَمَا قَالَ الْأَئِمَّةُ تَفْسِيرُهَا قِرَاءَتُهَا, وَقَالَ نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ الْخُزَاعِيُّ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى: مَنْ شَبَّهَ اللَّهَ بِخَلْقِهِ فَقَدْ كَفَرَ, وَمَنْ جَحَدَ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ فَقَدْ كَفَرَ, وَلَيْسَ فِيمَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ وَلَا رَسُولُهُ تَشْبِيهٌ, فَمَنْ أَثْبَتَ لِلَّهِ تَعَالَى مَا أَثْبَتَهُ لِنَفْسِهِ مِمَّا وَرَدَتْ بِهِ الْآيَاتُ الصَّرِيحَةُ وَوَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِمَّا وَرَدَ فِي الْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَلِيقُ بِجَلَالِ اللَّهِ وَعَظَمَتِهِ, وَنَفَى عَنِ اللَّهِ النَّقَائِضَ فَقَدْ سَلَكَ سَبِيلَ الْهُدَى. وَقَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِمَا جَاءَ عَنِ اللَّهِ عَلَى مُرَادِ اللَّهِ, وَآمَنَّا بِرَسُولِ اللَّهِ وَبِمَا جَاءَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ عَلَى مُرَادِ رَسُولِ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ أَيْضًا رَحِمَهُ اللَّهُ: لِلَّهِ تَعَالَى أَسْمَاءٌ وَصِفَاتٌ جَاءَ بِهَا كِتَابُهُ وَأَخْبَرَ بِهَا نَبِيُّهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أُمَّتَهُ لا يسع أحد مِنْ خَلْقِ اللَّهِ قَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ رَدُّهَا؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِهَا وَصَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْقَوْلُ بِهَا فِيمَا رَوَى عَنْهُ الْعُدُولُ فَإِنْ خَالَفَ ذَلِكَ بَعْدَ ثُبُوتِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ فَهُوَ كَافِرٌ, أَمَّا قَبْلَ ثُبُوتِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ فَمَعْذُورٌ بِالْجَهْلِ؛ لِأَنَّ عِلْمَ ذَلِكَ لَا يُدْرَكُ بِالْعَقْلِ وَلَا بِالرُّؤْيَةِ وَالْفِكْرِ وَلَا يَكْفُرُ بِالْجَهْلِ بِهَا أَحَدٌ إِلَّا بَعْدَ انْتِهَاءِ الْخَبَرِ إِلَيْهِ بِهَا وَتُثْبَتُ هَذِهِ الصِّفَاتُ وَيَنْفِي عَنْهَا التَّشْبِيهَ كَمَا نَفَى التَّشْبِيهَ عَنْ نَفْسِهِ تَعَالَى فَقَالَ سُبْحَانَهُ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فِي ذَاتِهِ كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ, قَدْ أَجْمَلَ اللَّهُ الصِّفَةَ فَحَدَّ لِنَفْسِهِ صِفَةً: لَيْسَ يُشْبِهُهُ شَيْءٌ. وَصِفَاتُهُ غَيْرُ مَحْدُودَةٍ وَلَا مَعْلُومَةٍ إِلَّا بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ. قَالَ فَهُوَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ بِلَا حَدٍّ وَلَا تَقْدِيرٍ, وَلَا يَبْلُغُ الْوَاصِفُونَ صِفَتَهُ, وَلَا نَتَعَدَّى الْقُرْآنَ وَالْحَدِيثَ, فَنَقُولُ كَمَا قَالَ وَنَصِفُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَلَا نَتَعَدَّى ذَلِكَ وَلَا يَبْلُغُ صِفَتَهُ الْوَاصِفُونَ, نُؤْمِنُ بِالْقُرْآنِ كُلِّهِ مُحْكَمِهِ وَمُتَشَابِهِهِ وَلَا نُزِيلُ عَنْهُ صِفَةً مِنْ صِفَاتِهِ بِشَنَاعَةٍ شَنُعَتْ. وَمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ مِنْ كَلَامٍ وَنُزُولٍ وَخَلْوَةٍ بِعَبْدِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَوَضْعِهِ كَنَفَهُ عَلَيْهِ, فَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُرَى فِي الْآخِرَةِ, وَالتَّحْدِيدُ فِي هَذَا كُلِّهِ بِدْعَةٌ, وَالتَّسْلِيمُ فِيهِ بِغَيْرِ صِفَةٍ وَلَا حَدٍّ إِلَّا مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ: سَمِيعٌ بَصِيرٌ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا, عَالِمًا غَفُورًا عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ عَلَّامَ الْغُيُوبِ. فَهَذِهِ صِفَاتٌ وَصَفَ بِهَا نَفْسَهُ لَا تُدْفَعُ وَلَا تُرَدُّ, وَهُوَ
هذا النوع من التوحيد هو توحيد الإثبات
عَلَى الْعَرْشِ بِلَا حَدٍّ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} كَيْفَ شَاءَ الْمَشِيئَةَ إِلَيْهِ وَالِاسْتِطَاعَةَ إِلَيْهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ بِلَا حَدٍّ وَلَا تَقْدِيرٍ, لَا نَتَعَدَّى الْقُرْآنَ وَالْحَدِيثَ, تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الْجَهْمِيَّةُ وَالْمُشَبِّهَةُ. قُلْتُ لَهُ: وَالْمُشَبِّهُ مَا يَقُولُ؟ قَالَ مَنْ قَالَ بَصَرٌ كَبَصَرِي, وَيَدٌ كَيَدِي, وَقَدَمٌ كَقَدَمِي فَقَدْ شَبَّهَ اللَّهَ تعالى بخلقه ا. هـ. وَكَلَامُ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ فِي هَذَا الْبَابِ يَطُولُ, وَقَدْ تَقَدَّمَ كَثِيرٌ مِنْهُ فِي الِاسْتِوَاءِ وَالْكَلَامِ وَالنُّزُولِ وَالرُّؤْيَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. "طُوبَى لِمَنْ بِهَدْيِهِمْ قَدِ اهْتَدَى" إِذْ هُمْ خَيْرُ الْقُرُونِ وَأَعْلَمُ الْأُمَّةِ بِشَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ وَأَوْلَاهُمْ بِاتِّبَاعِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَاقْتِفَاءِ آثَارِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَبِهِمْ حَفِظَ اللَّهُ الدِّينَ عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ, فَرَحِمَهُمُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ وَأَلْحَقَنَا بِهِمْ سَالِمِينَ غَيْرَ مَفْتُونِينَ إِنَّهُ سَمِيعُ الدُّعَاءِ. وَسَمِّ ذَا النَّوْعَ مِنَ التَّوْحِيدِ ... تَوْحِيدَ إثبات بلا تردد قَدْ أَفْصَحَ الْوَحْيُ الْمُبِينُ عَنْهُ ... فَالْتَمَسِ الْهُدَى الْمُنِيرَ مِنْهُ "وَسَمِّ ذَا النَّوْعَ" وَالْإِشَارَةُ بِذَا إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ "إِثْبَاتُ ذَاتِ الرَّبِّ" إِلَى هُنَا وَمَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مِنْ مَعَانِي الرُّبُوبِيَّةِ وَالْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ "مِنْ" نَوْعَيِ "التَّوْحِيدِ" الْمُشَارِ إِلَيْهِمَا بِقَوْلِ: وَهُوَ نَوْعَانِ "تَوْحِيدُ إِثْبَاتٍ" لِاشْتِمَالِهِ عَلَى إِثْبَاتِ مَا أَثْبَتَهُ اللَّهُ لِنَفْسِهِ فِي كِتَابِهِ وَأَثْبَتَهُ لَهُ رَسُولُهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَمَنْ قَبْلَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ مِنْ مَعَانِي رُبُوبِيَّتِهِ وَمُقْتَضَى أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَنَفْيِ مَا يُنَاقِضُ ذَلِكَ كَمَا نَفَاهُ عَنْ نَفْسِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى, فَنُؤْمِنُ بِاللَّهِ تَعَالَى, وَبِمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ سُبْحَانَهُ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ مِنْ صِفَاتِ كَمَالِهِ وَنُعُوتِ جَلَالِهِ بِلَا تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ, وَنَنْفِي عَنْهُ مَا نَفَاهُ عَنْ نَفْسِهِ مِمَّا لَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ وَعَظَمَتِهِ فَإِنَّهُ أَعْلَمُ بِنَفْسِهِ وَبِغَيْرِهِ وَأَصْدَقُ قِيلًا وَأَبْيَنُ دَلِيلًا مِنْ غَيْرِهِ, وَقَدْ عَكَسَ الزَّنَادِقَةُ الْأَمْرَ فَنَفَوْا عَنْهُ مَا أَثْبَتَهُ تَعَالَى لِنَفْسِهِ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى وَالصِّفَاتِ الْعُلَى, وَأَثْبَتُوا لَهُ مَا نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْهُ مِنْ أَضْدَادِ مَا تَقْتَضِي أَسْمَاؤُهُ وَصِفَاتُهُ, وَكَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلَ اللَّهُ بِهِ رُسُلَهُ, وَبَدَّلُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ.
فَائِدَةٌ: قَالَ الْحَافِظُ الذَّهَبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ قَالُوا مُقَالَةً مُوَلَّدَةً مَا عَلِمْتُ أَحَدًا سَبَقَهُمْ بِهَا قَالُوا: هَذِهِ الصِّفَاتُ تَمُرُّ كَمَا جَاءَتْ وَلَا تُؤَوَّلُ مَعَ اعْتِقَادِ أَنَّ ظَاهِرَهَا غَيْرُ مُرَادٍ. فَتَفَرَّعَ مِنْ هَذَا أَنَّ الظَّاهِرَ يُعْنَى بِهِ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَا تَأْوِيلَ لَهَا غَيْرُ دَلَالَةِ الْخِطَابِ كَمَا قَالَ السَّلَفُ الصَّالِحُ: الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ. وَكَمَا قَالَ سُفْيَانُ وَغَيْرُهُ: قِرَاءَتُهَا تَفْسِيرُهَا, يَعْنِي أَنَّهَا بَيِّنَةٌ وَاضِحَةٌ فِي اللُّغَةِ لَا يُبْتَغَى بِهَا مَضَايِقُ التَّأْوِيلِ وَالتَّحْرِيفِ, وَهَذَا هُوَ مَبْدَأُ السَّلَفِ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ أَيْضًا أَنَّهَا لَا تُشْبِهُ صِفَاتِ الْبَشَرِ بِوَجْهٍ, إِذِ الْبَارِي لَا مِثْلَ لَهُ لَا فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ. الثَّانِي أَنَّ ظَاهِرَهَا هُوَ الَّذِي يَتَشَكَّلُ فِي الْخَيَالِ مِنَ الصِّفَةِ كَمَا يَتَشَكَّلُ فِي الذِّهْنِ مِنْ وَصْفِ الْبَشَرِ, فَهَذَا غَيْرُ ,مُرَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرْدٌ صَمَدٌ لَيْسَ لَهُ نَظِيرٌ, وَإِنْ تَعَدَّدَتْ صِفَاتُهُ فَإِنَّهَا حَقٌّ, وَلَكِنْ مَا لَهَا مِثْلٌ وَلَا نَظِيرٌ, فَمَنْ ذَا الَّذِي عَايَنَهُ وَنَعَتَهُ لَنَا, وَمَنْ ذَا الَّذِي يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنْعَتَ لَنَا كَيْفَ سَمِعَ مُوسَى كَلَامَهُ؟ وَاللَّهِ إِنَّا لَعَاجِزُونَ كَالُّونَ حَائِرُونَ بَاهِتُونَ فِي حَدِّ الرُّوحِ الَّتِي فِينَا وَكَيْفَ تَعْرُجُ كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى بَارِئِهَا, وَكَيْفَ يُرْسِلُهَا, وَكَيْفَ تَسْتَقِلُّ بَعْدَ الْمَوْتِ, وَكَيْفَ حَيَاةُ الشَّهِيدِ الْمَرْزُوقِ عِنْدَ رَبِّهِ بَعْدَ قَتْلِهِ, وَكَيْفَ حَيَاةُ النَّبِيِّينَ الْآنَ, وَكَيْفَ شَاهَدَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَخَاهُ مُوسَى يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ قَائِمًا1، ثُمَّ رَآهُ فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ وَحَاوَرَهُ وَأَشَارَ إِلَيْهِ بِمُرَاجَعَةِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَطَلَبِ التَّخْفِيفِ مِنْهُ عَلَى أُمَّتِهِ2، وَكَيْفَ نَاظَرَ مُوسَى أَبَاهُ آدَمَ وَحَجَّهُ آدَمُ بِالْقَدَرِ السَّابِقِ وَبِأَنَّ اللَّوْمَ بَعْدَ التَّوْبَةِ وَقَبُولِهَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ3، وَكَذَلِكَ نَعْجِزُ عَنْ وَصْفِ هَيْئَتِنَا فِي الْجَنَّةِ وَوَصْفِ الْحُورِ الْعِينِ, فَكَيْفَ بِنَا إِذَا انْتَقَلْنَا إِلَى الْمَلَائِكَةِ وَذَوَاتِهِمْ وَكَيْفِيَّتِهَا وَأَنَّ بَعْضَهُمْ يُمْكِنُهُ أَنْ يَلْتَقِمَ الدُّنْيَا فِي لُقْمَةٍ مَعَ رَوْنَقِهِمْ وَحُسْنِهِمْ وَصَفَاءِ جَوْهَرِهِمُ النُّورَانِيِّ, فَاللَّهُ أَعْلَى وَأَعْظَمُ وَلَهُ الْمَثَلُ
زيادة المتأخرين عن الصفات "أن ظاهرها غير مراد"
الْأَعْلَى وَالْكَمَالُ الْمُطْلَقُ وَلَا مِثْلَ لَهُ أَصْلًا: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آلِ عِمْرَانَ: 52] انْتَهَى كَلَامُهُ بِحُرُوفِهِ. قُلْتُ قَوْلُهُ: مَنْ ذَا الَّذِي عَايَنَهُ فَنَعَتَهُ, هَذَا لَا مَعْنَى لَهُ, فَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَهُ تَعَالَى فِي الْجَنَّةِ عِيَانًا بِأَبْصَارِهِمْ وَلَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنْهُمْ نَعْتَهُ تَعَالَى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} . {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} وَكَانَ حَقُّهُ أَنْ يَقُولَ: مَنْ ذَا الَّذِي أَحَاطَ بِهِ عِلْمًا فَنَعَتَهُ, وَقَوْلُهُ الثَّانِي أَنَّ ظَاهِرَهَا الَّذِي يَتَشَكَّلُ فِي الْخَيَالِ الْخَ قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ هَذَا التَّصَوُّرَ الْفَاسِدَ هُوَ الَّذِي يَعْمَلُ جَهَلَةُ النُّفَاةِ عَلَى مَا صَنَعُوا مِنَ النَّفْيِ حِينَ لَمْ يَفْهَمُوا مِنْ ظَاهِرِهَا إِلَّا مَا يَقُومُ بِالْمَخْلُوقِ وَلَمْ يَتَدَبَّرُوا مَنْ هُوَ الْمَوْصُوفُ فَأَسَاءُوا الظَّنَّ بِالْوَحْيِ, ثُمَّ قَاسُوا وَشَبَّهُوا بَعْدَ أَنْ فَكَّرُوا وَقَدَّرُوا ثُمَّ نَفَوْا وَعَطَّلُوا, فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ. "قَدْ أَفْصَحَ الْوَحْيُ الْمُبِينُ" مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكَذَلِكَ الصُّحُفُ الْأُولَى عَنْهُ" غَايَةَ الْإِفْصَاحِ وَشَرَحَهُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَكْثَرَ مِنْ شَرْحِ بَقِيَّةِ الْأَحْكَامِ لِعِظَمِ شَأْنِ مُتَعَلِّقِهِ, "فَالْتَمِسْ" اطْلُبْ "الْهُدَى الْمُنِيرَ" أَيْ: مِنَ الْوَحْيِ الْمُبِينِ؛ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ إِلَّا مِنْهُ, وَمَنْ خَرَجَ عَنِ الْوَحْيِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ضَلَّ وَغَوَى وَلَا بُدَّ, فَإِنَّا لَا نَعْلَمُ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ إِلَّا مَا عَلَّمَنَا هُوَ, فَنُصَدِّقُ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ وَأَخْبَرَتْ بِهِ رُسُلُهُ عَنْهُ كَمَا نَنْقَادُ وَنُسَلِّمُ وَنَمْتَثِلُ لِمَا أَمَرَ, وَنَجْتَنِبُ مَا نَهَى عَنْهُ وَزَجَرَ, بَلْ إِنَّ تَأْوِيلَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ أَخَفُّ جُرْمًا مِنْ تَأْوِيلِ مَعَانِي الرُّبُوبِيَّةِ وَالْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَالتَّكْذِيبَ بِالْبَعْثِ وَالنُّشُورِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ دُونَ التَّكْذِيبِ بِمَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى وَالصِّفَاتِ الْعُلَى وَأَخْبَرَتْ عَنْهُ بِهِ رُسُلُهُ مِنْ ذَلِكَ مَعَ أَنَّ جُرْمَ كُلٍّ مِنْهُمَا عَظِيمٌ. أَعَاذَنَا اللَّهُ وَجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الزَّيْغِ وَالضَّلَالِ, آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ. لَا تَتَّبِعْ أَقْوَالَ كُلِّ مَارِدِ ... غاو مضل ما رق مُعَانِدِ فَلَيْسَ بَعْدَ رَدِّ ذَا التِّبْيَانِ ... مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنَ الْإِيمَانِ "لَا تَتَّبِعْ" أَيُّهَا الْعَبْدُ "أَقْوَالَ كُلِّ مَارِدٍ" عَلَى بِدْعَتِهِ وَزَنْدَقَتِهِ وَاتِّبَاعِ هَوَاهُ, "غَاوٍ" زَائِغٍ فِي دِينِهِ مَفْتُونٍ فِي عَقِيدَتِهِ "مُضِلٍّ" لِغَيْرِهِ "مَارِقٍ" مِنَ الْإِسْلَامِ "مُعَانِدٍ"
الملاحدة خمس طوائف في توحيد المعرفة والإثبات
لِنُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ. مُكَذِّبٍ بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلَ إِلَيْهِ بِهِ رُسُلَهُ، "فَلَيْسَ" لِلَّهِ يَبْقَى "بَعْدَ رَدِّ ذَا التِّبْيَانِ" الَّذِي جَاءَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنَ الْآيَاتِ الْمُحْكَمَةِ الصَّرِيحَةِ وَالْأَحَادِيثِ الثَّابِتَةِ الصَّحِيحَةِ "مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنَ الْإِيمَانِ" فِي قَلْبِ مَنْ رَدَّ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الْحَقُّ وَقَوْلُهُ الْحَقُّ: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} [يُونُسَ: 32] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا} [الْأَنْعَامِ: 56] وَقَالَ تَعَالَى: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ} [غَافِرٍ: 4] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا} [فُصِّلَتْ: 40] وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ، حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ} [النَّمْلِ: 83-85] وَهَذِهِ الْآيَاتُ يَدْخُلُ فِيهَا كُلُّ مُكَذِّبٍ بِأَيِّ شَيْءٍ مِنَ الْكِتَابِ, فَكَيْفَ إِذَا كَذَّبَ بِصِفَاتِ مُنَزِّلِ الْكِتَابِ, بَلْ جَحَدَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى تَكَلَّمَ بِالْكِتَابِ, أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ. فصل: الْمَلَاحِدَةُ خَمْسُ طَوَائِفَ فِي تَوْحِيدِ الْمَعْرِفَةِ وَالْإِثْبَاتِ: وَالْمَلَاحِدَةُ فِي تَوْحِيدِ الْمَعْرِفَةِ وَالْإِثْبَاتِ فِرَقٌ كَثِيرَةٌ وَأَشْيَاعٌ مُتَفَرِّقَةٌ, وَلَكِنَّ رُءُوسَهُمْ خَمْسُ طَوَائِفَ: الْأُولَى سَلْبِيَّةٌ مَحْضًا يُثْبِتُونَ إِثْبَاتًا هُوَ عَيْنُ النَّفْيِ وَيَصِفُونَ الْبَارِي تَعَالَى بِصِفَاتِ الْعَدَمِ الْمَحْضِ الَّذِي لَيْسَ هُوَ بِشَيْءٍ الْبَتَّةَ, وَلَيْسَ لَهُ عِنْدَهُمْ حَقِيقَةٌ غَيْرَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ هُوَ مَوْجُودٌ لَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجًا عَنْهُ وَلَا مُبَايِنًا لَهُ وَلَا مُحَايِثًا وَلَيْسَ عَلَى الْعَرْشِ وَلَا غَيْرِهِ وَلَا يُثْبِتُونَ لَهُ ذَاتًا وَلَا اسْمًا وَلَا صِفَةً وَلَا فِعْلًا بَلْ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ هُوَ عَيْنُ الشِّرْكِ, وَهَذَا هُوَ الَّذِي صَرَّحَ بِهِ غُلَاةُ الْجَهْمِيَّةِ, وَقَدْ كَانَ قُدَمَاؤُهُمْ يَتَحَاشَوْنَ عَنْهُ وَيَتَسَتَّرُونَ مِنْهُ, وَكَانَ السَّلَفُ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ يَتَفَرَّسُونَ
الطائفة الثانية الحلولية الذين يزعمون أن معبودهم في كل مكان بذاته
فِيهِمْ ذَلِكَ وَأَنَّهُمْ يُبْطِنُونَهُ وَلَا يَبُوحُونَ بِهِ, وَقَدْ قَدَّمْنَا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ قَوْلَهُمْ فِي الْجَهْمِيَّةِ: إِنَّمَا يُحَاوِلُونَ أَنْ يَقُولُوا لَيْسَ فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ يُعْبَدُ, وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ إِلَهَكَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ لَيْسَ بِشَيْءٍ, وَلَكِنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ بِذَلِكَ وَيُظْهِرْهُ إِلَّا ابْنُ سِينَا صَاحِبُ الْإِشَارَاتِ تِلْمِيذُ الْفَارَابِيِّ, وَهُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى أَرِسْطُو الْيُونَانِيِّ, وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى مَذْهَبِ الدَّهْرِيَّةِ الطَّبَائِعِيَّةِ فِي الْمَعْنَى, وَهُوَ الَّذِي نَصَرَهُ الْمُلْحِدُ الْكَبِيرُ نَصِيرُ الشِّرْكِ الطَّوَاسِيُّ1 وَأَشْبَاهُهُ, قَبَّحَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى. الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ: الْحُلُولِيَّةُ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ مَعْبُودَهُمْ فِي كُلِّ مَكَانٍ بِذَاتِهِ وَيُنَزِّهُونَهُ عَنِ اسْتِوَائِهِ عَلَى عَرْشِهِ وَعُلُوِّهِ عَلَى خَلْقِهِ, وَلَمْ يَصُونُوهُ عَنْ أَقْبَحِ الْأَمَاكِنِ وَأَقْذَرِهَا, وَهَؤُلَاءِ هُمْ قُدَمَاءُ الْجَهْمِيَّةِ الَّذِينَ تَصَدَّى لِلرَّدِّ عَلَيْهِمْ أَئِمَّةُ الْحَدِيثِ كَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِ, وَلِهَذَا قَالَ جَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ لَمَّا نَاظَرَهُ السُّمَنِيَّةُ فِي رَبِّهِ وَحَارَ فِي ذَلِكَ فَفَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ فَقَالَ: هُوَ هَذَا الْهَوَاءُ الَّذِي هُوَ فِي كُلِّ مَكَانِ, وَكَذَلِكَ كَانَ يَقُولُ كَثِيرٌ مِنْ أَتْبَاعِهِ, وَلَمْ يَكُنْ وَلَا هُمْ يُرِيدُونَ ذَلِكَ وَإِنَّمَا كَانُوا يَتَوَسَّلُونَ بِهِ إِلَى السَّلْبِ الْمَحْضِ وَالتَّعْطِيلِ الصِّرْفِ كَمَا فَهِمَهُ مِنْهُمْ أَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ كُلَّمَا أَفْصَحُوا بِهِ مِنْ نَفْيِ أَسْمَاءِ الْبَارِي وَصِفَاتِهِ وَكَلَامِهِ وَرُؤْيَتِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَفْعَالِهِ وَحِكْمَتِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ حِكَايَتُهُ عَنْهُمْ قَرِيبًا وَرَدُّ شُبُهَاتِهِمُ الدَّاحِضَةِ. الطَّائِفَةُ الثَّالِثَةُ: الِاتِّحَادِيَّةُ وَهُمُ الْقَائِلُونَ: إِنَّ الْوُجُودَ بِأَسْرِهِ هُوَ الْحَقُّ, وَأَنَّ الْكَثْرَةَ وَهَمٌ, بَلْ جَمِيعُ الْأَضْدَادِ الْمُتَقَابِلَةِ وَالْأَشْيَاءِ الْمُتَعَارِضَةِ الْكُلُّ شَيْءٌ وَاحِدٌ هُوَ مَعْبُودُهُمْ فِي زَعْمِهِمْ, وَهُمْ طَائِفَةُ ابْنِ عَرَبِيٍّ الطَّائِيِّ صَاحِبِ الْفُتُوحَاتِ الْمَكِّيَّةِ وَفُصُوصِ الْحِكَمِ وَغَيْرِهِمَا مِمَّا حَرَّفَ فِيهِ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَتَلَاعَبَ فِيهِ بِمَعَانِي الْآيَاتِ, وَأَتَى بِكُفْرٍ لَا يُشْبِهُ كُفْرَ الْيَهُودِ الَّذِينَ قَالُوا عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ, وَلَا النَّصَارَى الَّذِينَ قَالُوا الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ, وَقَالُوا هُوَ اللَّهُ وَقَالُوا ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ, فَإِنَّ النَّصَارَى وَأَشْبَاهَهُمْ خَصُّوا الْحُلُولَ وَالِاتِّحَادَ بِشَخْصٍ مُعَيَّنٍ وَهَؤُلَاءِ جَعَلُوا الْوُجُودَ بِأَسْرِهِ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ وَتَقَابُلِ أَضْدَادِهِ مِمَّا لَا يَسُوغُ التَّلَفُّظُ بِحِكَايَتِهِ هُوَ الْمَعْبُودُ,
الطائفة الرابعة نفاة القدر وهم فرقتان
فَلَمْ يَكْفُرْ هَذَا الكفر أحد من النَّاسِ, وَكَانَ هَذَا الْمَذْهَبُ الَّذِي انْتَحَلَهُ ابْنُ عَرَبِيٍّ وَنَظَمَهُ ابْنُ الْفَارِضِ فِي تَائِيَّتِهِ "نَظْمِ السُّلُوكِ" وَأَصْلُ هَذَا الْمَذْهَبِ الْمَلْعُونِ انْتَحَلَهُ ابْنُ سَبْعِينَ عَبْدُ الْحَقِّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ قُطْبِ الدِّينِ أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَقْدِسِيُّ الرَّقُوطِيُّ نِسْبَةً إِلَى رَقُوطَةَ بَلْدَةٍ قَرِيبَةٍ مِنْ مُرْسِيَةَ, وُلِدَ سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَةٍ وَاشْتَغَلَ بِعِلْمِ الْأَوَائِلِ وَالْفَلْسَفَةِ فَتَوَلَّدَ لَهُ الْإِلْحَادُ مِنْ ذَلِكَ وَصَنَّفَ فِيهِ, وَكَانَ يَعْرِفُ السِّيمِيَاءَ وَيُلْبِسُ بِذَلِكَ عَلَى الْأَغْبِيَاءِ مِنَ الأمراء والأغنياء, ويزعم أَنَّهُ حَالٌ مِنْ أَحْوَالِ الْقَوْمِ. وَلَهُ مِنَ الْمُصَنَّفَاتِ كِتَابُ الْبُدُوِّ, وَكِتَابُ الْهُوَ. وَقَدْ أَقَامَ بِمَكَّةَ وَاسْتَحْوَذَ عَلَى عَقْلِ صَاحِبِهَا أَبِي نُمَيٍّ, وَجَاوَرَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ بِغَارِ حِرَاءَ يَرْتَجِي فِيهِ الْوَحْيَ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِ كَمَا أَتَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِنَاءً عَلَى مَا يَعْتَقِدُهُ مِنَ الْعَقِيدَةِ الْفَاسِدَةِ مِنْ أَنَّ النُّبُوَّةَ مُكْتَسَبَةٌ وَأَنَّهَا فَيْضٌ يَفِيضُ عَلَى الْعَقْلِ إِذَا صَفَا فَمَا حَصَلَ لَهُ إِلَّا الْخِزْيُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إِنْ كَانَ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ, وَكَانَ إِذَا رَأَى الطَّائِفِينَ حَوْلَ الْبَيْتِ يَقُولُ عَنْهُمْ: كَأَنَّهُمُ الْحَمِيرُ حَوْلَ الْمَدَارِ وَأَنَّهُمْ لَوْ طَافُوا بِهِ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ طَوَافِهِمْ بِالْبَيْتِ1، فَاللَّهُ يَحْكُمُ فِيهِ وَفِي أَمْثَالِهِ, وَقَدْ نُقِلَتْ عَنْهُ عَظَائِمُ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ, تُوُفِّيَ يَوْمَ ثَمَانِيَةٍ وَعِشْرِينَ مِنْ شَوَّالٍ سَنَةَ تِسْعٍ وَسِتِّينَ وَسِتِّمِائَةٍ. الطَّائِفَةُ الرَّابِعَةُ: نُفَاةُ الْقَدَرِ وَهُمْ فِرْقَتَانِ: فِرْقَةٌ نَفَتْ تَقْدِيرَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ بِالْكُلِّيَّةِ وَجَعَلَتِ الْعِبَادَ هُمُ الْخَالِقِينَ لِأَفْعَالِهِمْ خَيْرِهَا وَشَرِّهَا, وَلَازِمُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُمْ هُمُ الْخَالِقُونَ لِأَنْفُسِهِمْ لِأَنَّ فِي قَوْلِهِمْ نَفْيَ تَصَرُّفِ اللَّهِ فِي عِبَادِهِ وَإِخْرَاجَ أَفْعَالِهِمْ عَنْ خَلْقِهِ وَتَقْدِيرِهِ, فَيَكُونُ تَكَوُّنُهُمْ مِنَ التُّرَابِ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ إِلَى آخِرِ أَطْوَارِ التَّخْلِيقِ هُمْ بِأَنْفُسِهِمْ تَطَوَّرُوا, وَبِطَبِيعَتِهِمْ تَخَلَّقُوا, وَهَذَا رَاجِعٌ إِلَى مَذْهَبِ الطَّبَائِعِيِّةِ الدَّهْرِيَّةِ الَّذِينَ لَمْ يُثْبِتُوا خَالِقًا أَصْلًا كَمَا قَدَّمْنَا مُنَاظَرَةَ أَبِي حَنِيفَةَ لِبَعْضِهِمْ فَأَسْلَمُوا عَلَى يَدَيْهِ.
الطائفة الخامسة الجبرية الذين يرون أن إثبات الفعل للعبد عين الشرك
وَفِرْقَةٌ نَفَتْ تَقْدِيرَ الشَّرِّ دُونَ الْخَيْرِ فَجَعَلُوا الْخَيْرَ مِنَ اللَّهِ وَجَعَلُوا الشَّرَّ مِنَ الْعَبْدِ, ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَنْفِي تَقْدِيرَ الشَّرِّ مِنْ أَعْمَالِ الْعِبَادِ دُونَ تَقْدِيرِهِ فِي الْمَصَائِبِ, وَمِنْهُمْ مَنْ غَلَا فَنَفَى تَقْدِيرَ الشَّرِّ مِنَ الْمَصَائِبِ وَالْمَعَايِبِ. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَقَدْ أَثْبَتُوا مَعَ اللَّهِ تَعَالَى خَالِقًا بَلْ جَعَلُوا الْعِبَادَ مَعَهُ خَالِقِينَ كُلَّهُمْ, وَنَفَوْا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ هُوَ الْمُتَفَرِّدَ بِالتَّصَرُّفِ فِي مَلَكُوتِهِ؛ وَهَذَا رَاجِعٌ إِلَى مَذْهَبِ الْمَجُوسِ الثَّنَوِيَّةِ الَّذِينَ أَثْبَتُوا خَالِقَيْنِ: خَالِقًا لِلْخَيْرِ وَخَالِقًا لِلشَّرِّ قَبَّحَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى. الطَّائِفَةُ الْخَامِسَةُ: الْجَبْرِيَّةُ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْعَبْدَ مَجْبُورٌ عَلَى أَفْعَالِهِ قَسْرًا وَلَا فِعْلَ لَهُ أَصْلًا بَلْ إِثْبَاتُ الْفِعْلِ لِلْعَبْدِ هُوَ عَيْنُ الشِّرْكِ عِنْدَهُمْ بَلْ هُوَ كَالْهَاوِي مِنْ أَعْلَى إِلَى أَسْفَلَ وَكَالسَّعَفَةِ تُحَرِّكُهَا الرِّيحُ لَمْ يَعْمَلْ بِاخْتِيَارِهِ طَاعَةً وَلَا مَعْصِيَةً وَلَمْ يُكَلِّفْهُ اللَّهُ وُسْعَهُ بَلْ حَمَّلَهُ مَا لَا طَاقَةَ لَهُ بِهِ, وَلَمْ يَخْلُقْ فِيهِ اخْتِيَارًا لِأَفْعَالِهِ وَلَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَيْهَا بَلِ الطَّاعَةُ وَالْعِصْيَانُ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ هِيَ عِنْدَهُمْ عَيْنُ فِعْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ, فَرَفَعُوا اللَّوْمَ عَنْ كُلِّ كَافِرٍ وَفَاسِقٍ وَعَاصٍ وَأَنَّهُ يُعَذِّبُهُمْ عَلَى نَفْسِ فِعْلِهِ لَا عَلَى أَعْمَالِهِمُ الْقَبِيحَةِ, ثُمَّ اعْتَقَدُوا أَنَّ الْمَعَاصِيَ الَّتِي نَهَى اللَّهُ عَنْهَا فِي كُتُبِهِ وَعَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ إِذَا عَمِلُوهَا صَارَتْ طَاعَاتٌ؛ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ أَطَعْنَا مَشِيئَةَ اللَّهِ الْكَوْنِيَّةَ فِينَا, بَلْ لَمْ يُثْبِتُوا الْإِرَادَةَ الشَّرْعِيَّةَ الْبَتَّةَ وَمَنْ يُثْبِتُهَا مِنْهُمْ يَقُولُ فِي الطَّاعَاتِ أَطَعْنَا الْإِرَادَةَ الشَّرْعِيَّةَ وَفِي الْمَعَاصِي الَّتِي سَمَّاهَا اللَّهُ مَعَاصِيَ أَطَعْنَا الْإِرَادَةَ الْكَوْنِيَّةَ وَأَمَّا هُمْ فَلَمْ يُثْبِتُوا مَعْصِيَةً أَصْلًا بَلْ أَفْعَالُهُمْ جَمِيعُهَا حُسْنُهَا وَقَبِيحُهَا كُلُّهَا عِنْدَهُمْ طَاعَاتٌ عَلَى أَصْلِهِمْ هَذَا الْفَاسِدِ, وَفِي ذَلِكَ رَدٌّ مِنْهُمْ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى؛ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ وَوَعْدَهُ وَوَعِيدَهُ وَفَرْضَهُ عَلَى عِبَادِهِ جِهَادَ الْكُفَّارِ وَإِقَامَةَ الْحُدُودِ بَلْ فِي إِرْسَالِهِ الرُّسُلَ وَإِنْزَالِهِ الْكُتُبَ, فَيَجِبُ عِنْدَهُمْ تَعْطِيلُ الشَّرَائِعِ بِالْكُلِّيَّةِ وَالِاحْتِجَاجِ عَلَى نَفْيِهَا بِالْقَدَرِ الْكَوْنِيِّ وَمُحَارَبَتِهَا بِهِ وَإِثْبَاتِ الْحُجَّةِ عَلَى اللَّهِ لِكُلِّ كَافِرٍ وَفَاسِقٍ وَعَاصٍ وَهَذَا كُفْرٌ لَمْ يَسْبِقْهُمْ إِلَيْهِ غَيْرُ إِمَامِهِمْ إِبْلِيسَ اللَّعِينِ إِذْ يَحْتَجُّ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِحُجَّتِهِمْ هَذِهِ فَقَالَ: {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي} وَالْعَجَبُ أَنَّ هَذَا الْمَذْهَبَ الْمَخْذُولَ مَوْرُوثٌ عَنْ جَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ مَعَ تَنَاقُضِهِ فِي إِثْبَاتِ أَفْعَالِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَإِنَّهُ لَا يُثْبِتُ لِلَّهِ تَعَالَى فِعْلًا يَقُومُ بِذَاتِهِ أَصْلًا بَلْ أَفْعَالُهُ خَارِجَةٌ عَنْهُ قَائِمَةٌ بِغَيْرِهِ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ, ثُمَّ يَنْقُضُ ذَلِكَ بِجَعْلِهِ أَفْعَالَ الْعِبَادِ أَفْعَالَ اللَّهِ, وَهَذَا تَنَاقُضٌ بَيِّنٌ
المخالفون لأهل السنة في القرآن سبع طوائف:
لِكُلِّ عَاقِلٍ فَإِنَّ الْفِعْلَ إِنَّمَا يُضَافُ إِلَى مَنْ قَامَ بِهِ وَالْقَوْلَ إِلَى مَنْ قَالَهُ وَكَذَا السَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَالْقُدْرَةُ وَغَيْرُهَا مُحَالٌ أَنْ تُضَافَ إِلَى غَيْرِ مَنْ قَامَتْ بِهِ وَمُحَالٌ أَنَّ يُسَمَّى فَاعِلًا بِدُونِ فِعْلٍ يَقُومُ بِهِ, وَلَوْ ذَهَبْنَا نَعُدُّ تَشَعُّبَ الْفِرَقِ مِنْ هَذِهِ الطَّوَائِفِ وَلَوَازِمَ كُلِّ قَوْلٍ مِمَّا انْتَحَلُوهُ لَاحْتَاجَ إِلَى كِتَابٍ مُفْرَدٍ, وَقَدْ أَفْرَدَ ذَلِكَ بِالتَّصْنِيفِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ, وَقَدْ قَدَّمْنَا الْبَعْضَ مِنْ ذَلِكَ وَذَكَرْنَا أَمْثِلَةً مِنْ تَحْرِيفِهِمُ النُّصُوصَ, وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى الدَّهْرِيَّةِ فِي الْإِيمَانِ بِالْبَعْثِ, وَعَلَى نُفَاةِ الْقَدَرِ وَالْغُلَاةِ فِيهِ فِي بَابِ الْقَدَرِ, وَالْكَلَامُ عَلَى الْخَوَارِجِ وَالْمُرْجِئَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَأَشْبَاهِهِمْ فِي بَابِ الْإِيمَانِ وَالدِّينِ, وَالْكَلَامُ عَلَى الرَّوَافِضِ وَالنَّوَاصِبِ فِي بَابِ ذِكْرِ الصَّحَابَةِ. وَهَذِهِ الطَّوَائِفُ الَّتِي خَالَفَتْ فِي تَوْحِيدِ الْمَعْرِفَةِ وَالْإِثْبَاتِ مَرْجِعُهَا إِلَى ثَلَاثٍ: فَالْحُلُولِيَّةُ وَالِاتَّحَادِيَّةُ وَالسَّلْبِيَّةُ وَمَنْ فِي مَعْنَاهُمْ مَرْجِعُهُمْ إِلَى الطَّبَائِعِيَّةِ الدَّهْرِيَّةِ, وَالْقَدَرِيَّةُ النُّفَاةُ بِجَمِيعِ فِرَقِهِمْ مَرْجِعُهُمْ إِلَى الْمَجُوسِ الثَّنَوِيَّةِ, وَالْجَبْرِيَّةُ الْغُلَاةُ مَرْجِعُهُمْ إِلَى النَّزْعَةِ الْجَهْمِيَّةِ الْإِبْلِيسِيَّةِ وَقَدْ قَدَّمْنَا قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ أَتْبَاعِ الرُّسُلِ مَبْسُوطًا بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ. فصل: وَالْمُخَالِفُونَ لِأَهْلِ السُّنَّةِ فِي الْقُرْآنِ سَبْعُ طَوَائِفَ ذَكَرَهُمْ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ فِي الْمِنْهَاجِ1 وَابْنُ الْقَيِّمِ فِي الصَّوَاعِقِ وَهَذَا نَصُّهُ, قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: "فصل2. اخْتَلَفَ أَهْلُ الْأَرْضِ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى, فَذَهَبَ "الِاتِّحَادِيَّةُ" الْقَائِلُونَ بِوَحْدَةِ الْوُجُودِ أَنَّ كُلَّ كَلَامٍ فِي الْوُجُودِ كَلَامُ اللَّهِ نَظْمَهُ وَنَثْرَهُ وَحَقَّهُ وَبَاطِلَهُ سِحْرَهُ وَكُفْرَهُ, وَالسَّبَّ وَالشَّتْمَ وَالْهَجْرَ وَالْفُحْشَ وَأَضْدَادَهُ كُلُّهُ عَيْنُ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى الْقَائِمِ بِهِ كَمَا قَالَ عَارِفُهُمْ: وَكُلُّ كَلَامٍ فِي الْوُجُودِ كَلَامُهُ ... سَوَاءٌ عَلَيْنَا نَثْرُهُ وَنِظَامُهُ وَهَذَا الْمَذْهَبُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلِهِمُ الَّذِي أَصَّلُوهُ, وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ هُوَ عَيْنُ هَذَا الْوُجُودِ, فَصِفَاتُهُ هِيَ صِفَاتُ اللَّهِ وَكَلَامُهُ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ وَأَصْلُ هَذَا الْمَذْهَبِ
الثانية "الفلاسفة" أتباع أرسطو يقولون: كلام الله فيض فاض من العقل الفعال
إِنْكَارُ مَسْأَلَةِ الْمُبَايَنَةِ وَالْعُلُوِّ, فَإِنَّهُمْ لَمَّا أَصَّلُوا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى غَيْرُ مُبَايِنٍ لِهَذَا الْعَالَمِ الْمَحْسُوسِ صَارُوا بَيْنَ أَمْرَيْنِ لَا ثَالِثَ لَهُمَا إِلَّا الْمُكَابَرَةُ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ مَعْدُومٌ لَا وُجُودَ لَهُ, إِذْ لَوْ كَانَ مَوْجُودًا لَكَانَ إِمَّا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَإِمَّا خَارِجًا عَنْهُ, وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ, فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ قَائِمًا بِنَفْسِهِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُبَايِنًا لِلْعَالَمِ أَوْ مُحَايِثًا لَهُ إِمَّا دَاخِلًا فِيهِ وَإِمَّا خَارِجًا عَنْهُ. الْأَمْرُ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ هُوَ عَيْنَ هَذَا الْعَالَمِ, فَإِنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ فِيهِ حِينَئِذٍ أَنَّهُ لَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ وَلَا مُبَايِنًا لَهُ وَلَا حَالًّا فِيهِ, إِذْ هُوَ عَيْنُهُ, وَالشَّيْءُ لَا يُبَايِنُ نَفْسَهُ وَلَا يُحَايِثُهَا, فَرَأَوْا أَنَّ هَذَا خَيْرٌ مِنْ إِنْكَارِ وَجُودِهِ وَالْحُكْمِ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ مَعْدُومٌ, وَرَأَوْا أَنَّ الْفِرَارَ مِنْ هَذَا إِلَى إِثْبَاتِ مَوْجُودٍ قَائِمٍ بِنَفْسِهِ لَا دَاخِلِ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجِهِ وَلَا مُتَّصِلٍ بِهِ وَلَا مُنْفَصِلٍ عَنْهُ وَلَا مُبَايِنٍ لَهُ وَلَا مُحَايِثٍ وَلَا فَوْقَهُ وَلَا عَنْ يَمِينِهِ وَلَا عَنْ يَسَارِهِ وَلَا خَلْفَهُ ولا أمامه فرارا إِلَى مَا لَا يُسِيغُهُ عَقْلٌ وَلَا تَقْبَلُهُ فِطْرَةٌ وَلَا تَأْتِي بِهِ شَرِيعَةٌ. وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَرَّ بِرَبٍّ هَذَا شَأْنُهُ إِلَّا عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ لَا ثَالِثَ لَهُمَا: أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ سَارِيًا فِيهِ حَالًّا فِيهِ فَهُوَ فِي كُلِّ مَكَانٍ بِذَاتِهِ, وَهُوَ قَوْلُ جَمِيعِ الْجَهْمِيَّةِ الْأَقْدَمِينَ. الْوَجْهُ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ وُجُودُهُ فِي الذِّهْنِ لَا فِي الْخَارِجِ فَيَكُونُ وُجُودُهُ سُبْحَانَهُ وُجُودًا عَقْلِيًّا إِذْ لَوْ كَانَ مَوْجُودًا فِي الْأَعْيَانِ لَكَانَ إِمَّا عَيْنَ هَذَا الْعَالَمِ أَوْ غَيْرَهُ, وَلَوْ كَانَ غَيْرَهُ لَكَانَ إِمَّا بَائِنًا عَنْهُ أَوْ حَالًّا فِيهِ وَكِلَاهُمَا بَاطِلٌ, فَثَبَتَ أَنَّهُ عَيْنُ هَذَا الْعَالَمِ فَلَهُ حِينَئِذٍ كُلُّ اسْمٍ حَسَنٍ وَقَبِيحٍ وَكُلُّ صِفَةِ كَمَالٍ وَنَقْصٍ وَكُلُّ كَلَامٍ حَقٍّ وَبَاطِلٍ, نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ. الْمَذْهَبُ الثَّانِي مَذْهَبُ "الْفَلَاسِفَةِ" الْمُتَأَخِّرِينَ أَتْبَاعِ أَرِسْطُو, وَهُمُ الَّذِينَ يَحْكِي ابْنُ سِينَا وَالْفَارَابِيُّ وَالطُّوسِيُّ قَوْلَهُمْ: إِنَّ كَلَامَ اللَّهِ فَيْضٌ فَاضَ مِنَ الْعَقْلِ الْفَعَّالِ عَلَى النُّفُوسِ الْفَاضِلَةِ الزَّكِيَّةِ بِحَسَبِ اسْتِعْدَادِهَا, فَأَوْجَبَ لَهَا ذَلِكَ الْفَيْضُ تَصَوُّرَاتٍ وَتَصْدِيقَاتٍ بِحَسَبِ مَا قَبِلَتْهُ مِنْهُ. وَلِهَذِهِ النُّفُوسِ عِنْدَهُمْ ثَلَاثُ قُوَى: قُوَّةُ التَّصَوُّرِ, وَقُوَّةُ التَّخَيُّلِ, وَقُوَّةُ التَّعْبِيرِ. فَتُدْرِكُ بِقُوَّةِ تَصَوُّرِهَا مِنَ الْمَعَانِي مَا يَعْجِزُ عَنْ غَيْرِهَا, وَتُدْرِكُ بِقُوَّةِ تَخَيُّلِهَا شَكْلَ الْمَعْقُولِ فِي صُورَةِ الْمَحْسُوسِ, فَتَتَصَوَّرُ الْمَعْقُولَ صُوَرًا نُورَانِيَّةً تُخَاطِبُهَا وَتُكَلِّمُهَا بِكَلَامٍ تَسْمَعُهُ الْآذَانُ, وَهُوَ عِنْدَهُمْ كَلَامُ اللَّهِ, وَلَا حَقِيقَةَ لَهُ فِي الْخَارِجِ وَإِنَّمَا ذَلِكَ كُلُّهُ مِنَ الْقُوَّةِ الْخَيَالِيَّةِ الْوَهْمِيَّةِ قَالُوا
الثالثة "الجهمية" نفاة الصفات القائلون: كلام الله مخلوق
وَرُبَّمَا قَوِيَتْ هَذِهِ الْقُوَّةُ عَلَى إِسْمَاعِ ذَلِكَ الْخِطَابِ لِغَيْرِهَا, وَتَشْكِيلِ تِلْكَ الصُّورَةِ الْعَقْلِيَّةِ لِعَيْنِ الرَّائِي, فَيَرَى الْمَلَائِكَةَ وَيَسْمَعُ خِطَابَهُمْ, وَكُلُّ ذَلِكَ مِنَ الْوَهْمِ وَالْخَيَالِ لَا فِي الْخَارِجِ. فَهَذَا أَصْلُ هَؤُلَاءِ فِي إِثْبَاتِ كَلَامِ الرَّبِّ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَأَنْبِيَائِهِ, وَالْأَصْلُ الَّذِي قَادَهُمْ إِلَى هَذَا عَدَمُ الْإِقْرَارِ بِالرَّبِّ الَّذِي عَرَّفَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَدَعَتْ إِلَيْهِ, وَهُوَ الْقَائِمُ بِنَفْسِهِ الْمُبَايِنُ لِخَلْقِهِ العالي فوق سمواته فَوْقَ عَرْشِهِ الْفَعَّالُ لِمَا يُرِيدُ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ الْعَالِمُ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ, فَهُمْ أَنْكَرُوا ذَلِكَ كُلَّهُ. الْمَذْهَبُ الثَّالِثُ مَذْهَبُ "الْجَهْمِيَّةِ" النُّفَاةُ لِصِفَاتِ الرَّبِّ تَعَالَى الْقَائِلِينَ: إِنَّ كَلَامَهُ مَخْلُوقٌ وَمِنْ بَعْضِ مَخْلُوقَاتِهِ فَلَمْ يَقُمْ بِذَاتِهِ سُبْحَانَهُ, فَاتَّفَقُوا عَلَى هَذَا الْأَصْلِ وَاخْتَلَفُوا فِي فُرُوعِهِ. قَالَ الْأَشْعَرِيُّ فِي كِتَابِ الْمَقَالَاتِ1: اخْتَلَفَتِ الْمُعْتَزِلَةُ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى هَلْ هُوَ جِسْمٌ أَوْ لَيْسَ بِجِسْمٍ, وَفِي خَلْقِهِ عَلَى سِتَّةِ أَقَاوِيلَ: فَالْفِرْقَةُ الْأُولَى مِنْهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ جِسْمٌ وَأَنَّهُ مَخْلُوقٌ وَأَنَّهُ لَا شَيْءَ إِلَّا جِسْمٌ. وَالْفِرْقَةُ الثَّانِيَةُ زَعَمُوا أَنَّ كَلَامَ الْخَلْقِ عَرَضٌ وَهُوَ حَرَكَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَا عَرَضَ عِنْدَهُمْ إِلَّا الْحَرَكَةُ, وَأَنَّ كَلَامَ الْخَالِقِ جِسْمٌ وَأَنَّ ذَلِكَ الْجِسْمَ صَوْتٌ مُنْقَطِعٌ مُؤَلَّفٌ مَسْمُوعٌ وَهُوَ فِعْلُ اللَّهِ وَخَلْقُهُ, وَهَذَا قَوْلُ أَبِي الْهُذَيْلِ وَأَصْحَابِهِ. وَأَحَالَ النَّظَّامُ أَنْ يَكُونَ كَلَامُ اللَّهِ فِي أَمَاكِنَ كَثِيرَةٍ أَوْ مَكَانَيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ, وَزَعَمَ أَنَّهُ فِي الْمَكَانِ الَّذِي خُلِقَ فِيهِ. وَالْفِرْقَةُ الثَّالِثَةُ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ تَزْعُمُ أَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ وَأَنَّهُ عَرَضٌ وَأَنَّهُ يُوجَدُ فِي أَمَاكِنَ كَثِيرَةٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ إِذَا تَلَاهُ تَالٍ فَهُوَ يُوجَدُ مَعَ تِلَاوَتِهِ, وَإِذَا كَتَبَهُ وُجِدَ مَعَ كِتَابَتِهِ, وَإِذَا حَفِظَهُ وُجِدَ مَعَ حِفْظِهِ, وَهُوَ يُوجَدُ فِي الْأَمَاكِنِ بِالتِّلَاوَةِ وَالْحِفْظِ وَالْكِتَابَةِ وَلَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الِانْتِقَالُ وَالزَّوَالُ. وَالْفِرْقَةُ الرَّابِعَةُ يَزْعُمُونَ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَرَضٌ وَأَنَّهُ مَخْلُوقٌ, وَأَحَالُوا أَنْ يُوجَدَ فِي مَكَانَيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ وَزَعَمُوا أَنَّ الْمَكَانَ الَّذِي خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ مُحَالٌ انْتِقَالُهُ وَزَوَالُهُ مِنْهُ وَوُجُودُهُ فِي غَيْرِهِ, وَهَذَا قَوْلُ جَعْفَرِ بْنِ حَرْبٍ وَأَكْثَرِ الْبَغْدَادِيِّينَ. الْفِرْقَةُ الْخَامِسَةُ أَصْحَابُ مَعْمَرٍ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْقُرْآنَ عَرَضٌ, وَالْأَعْرَاضُ عِنْدَهُمْ قِسْمَانِ:
الرابعة "الكلابية" يقولون: القرآن معنى قائم بالنفس لا يتعلق بالقدرة والمشيئة
قِسْمٌ مِنْهُمَا يَفْعَلُهُ الْأَحْيَاءُ, وَقِسْمٌ مِنْهُمَا يَفْعَلُهُ الْأَمْوَاتُ وَمُحَالٌ أَنْ يَكُونَ مَا يَفْعَلُهُ الْأَمْوَاتُ فِعْلًا لِلْأَحْيَاءِ, وَالْقُرْآنُ مَفْعُولٌ وَهُوَ عَرَضٌ وَمُحَالٌ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ فَعَلَهُ فِي الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّهُمْ يُحِيلُونَ أَنْ تَكُونَ الْأَعْرَاضُ فِعْلًا لِلَّهِ وَزَعَمُوا أَنَّ الْقُرَآنَ فِعْلٌ لِلْمَحَلِّ الَّذِي يُسْمَعُ مِنْهُ إِذَا سُمِعَ مِنَ الشَّجَرَةِ فَهُوَ فِعْلٌ لَهَا, وَحَيْثُ سُمِعَ فَهُوَ فِعْلُ الْمَحَلِّ الَّذِي حَلَّ فِيهِ. الْفِرْقَةُ السَّادِسَةُ يَزْعُمُونَ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ عَرَضٌ مَخْلُوقٌ وَأَنَّهُ يُوجَدُ فِي أَمَاكِنَ كَثِيرَةٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ, وَهَذَا قَوْلُ. الْإِسْكَافِيِّ. وَاخْتَلَفَتِ الْمُعْتَزِلَةُ فِي كَلَامِ اللَّهِ هَلْ يَبْقَى؟ فقالت فرقة منه: يَبْقَى بَعْدَ خَلْقِهِ, وَقَالَتْ فِرْقَةٌ أُخْرَى: لَا يَبْقَى, وَإِنَّمَا يُوجَدُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي خَلَقَهُ اللَّهُ ثُمَّ يُعْدَمُ بَعْدَ ذَلِكَ. وَهَذَا الْمَذْهَبُ هُوَ مِنْ فُرُوعِ ذَلِكَ الْأَصْلِ الْبَاطِلِ الْمُخَالِفِ لِجَمِيعِ كُتُبِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ وَالْفِطَرِ مِنْ جَحْدِ صِفَاتِ الرَّبِّ وَتَعْطِيلِ حَقَائِقِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَنَفْيِ قِيَامِ الْأَفْعَالِ بِهِ, فَلَمَّا أَصَّلُوا أَنَّهُ لَا يَقُومُ بِهِ وَصْفٌ وَلَا فِعْلٌ كَانَ مِنْ فُرُوعِ هَذَا الْأَصْلِ أَنَّهُ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِالْقُرْآنِ وَلَا بِغَيْرِهِ, وَأَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ, وَطَرْدُ ذَلِكَ إِنْكَارُ رُبُوبِيَّتِهِ وَإِلَهِيَّتِهِ فَإِنَّ رُبُوبِيَّتَهُ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا تَتَحَقَّقُ بِكَوْنِهِ فَعَّالًا مُدَبِّرًا مُتَصَرِّفًا فِي خَلْقِهِ يَعْلَمُ وَيُقَرِّرُ وَيُرِيدُ وَيَسْمَعُ وَيُبْصِرُ, فَإِذَا انْتَفَتْ عَنْهُ صِفَةُ الْكَلَامِ انْتَفَى الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَلَوَازِمُهُمَا وَذَلِكَ يَنْفِي حَقِيقَةَ الْإِلَهِيَّةِ, فَطَرَدَ مَا أَصَّلُوهُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَيْسَ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَلَا إِلَهٍ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ لَا رَبَّ غَيْرُهُ وَلَا إِلَهَ سِوَاهُ. الْمَذْهَبُ الرَّابِعُ مَذْهَبُ "الْكُلَّابِيَّةِ" أَتْبَاعِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ كُلَّابٍ أَنَّ الْقُرْآنَ مَعْنًى قَائِمٌ بِالنَّفْسِ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْقُدْرَةِ وَالْمَشِيئَةِ, وَأَنَّهُ لَازِمٌ لِذَاتِ الرَّبِّ كَلُزُومِ الْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ, وَأَنَّهُ لَا يُسْمَعُ عَلَى الْحَقِيقَةِ, وَالْحُرُوفُ وَالْأَصْوَاتُ حِكَايَةٌ لَهُ دَالَّةٌ عَلَيْهِ وَهِيَ مَخْلُوقَةٌ, وَهِيَ أَرْبَعَةُ مَعَانِيَ فِي نَفْسِهِ: الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْخَبَرُ وَالِاسْتِفْهَامُ. فَهِيَ أَنْوَاعٌ لِذَلِكَ الْمَعْنَى الْقَدِيمِ الَّذِي لَا يُسْمَعُ, وَذَلِكَ الْمَعْنَى هُوَ الْمَتْلُوُّ الْمَقْرُوءُ, وَهُوَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ, وَالْأَصْوَاتُ وَالْحُرُوفُ هِيَ تِلَاوَةُ الْعِبَادِ وَهِيَ مَخْلُوقَةٌ. وَهَذَا الْمَذْهَبُ أَوَّلُ مَنْ يُعْرَفُ أَنَّهُ قَالَ بِهِ ابْنُ كُلَّابٍ وَبَنَاهُ عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ لَا بُدَّ أَنْ يَقُومَ بِالْمُتَكَلِّمِ, وَالْحُرُوفُ وَالْأَصْوَاتُ حَادِثَةٌ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَقُومَ بِذَاتِ الرَّبِّ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَحَلًّا لِلْحَوَادِثِ, فَهِيَ مَخْلُوقَةٌ مُنْفَصِلَةٌ عَنِ الرَّبِّ, وَالْقُرْآنُ اسْمٌ لِذَلِكَ الْمَعْنَى وَهُوَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ.
الخامسة "الأشعرية" يقولون: إنه معنى واحد قائم بذات الرب
الْمَذْهَبُ الْخَامِسُ مَذْهَبُ "الْأَشْعَرِيِّ" وَمَنْ وَافَقَهُ أَنَّهُ مَعْنًى وَاحِدٌ قَائِمٌ بِذَاتِ الرَّبِّ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحَرْفٍ وَلَا صَوْتٍ وَلَا يَنْقَسِمُ وَلَا لَهُ أَبْعَاضٌ وَلَا لَهُ أَجْزَاءٌ وَهُوَ عَيْنُ الْأَمْرِ وَعَيْنُ النَّهْيِ وَعَيْنُ الْخَبَرِ وَعَيْنُ الِاسْتِخْبَارِ, الْكُلُّ وَاحِدٌ, وَهُوَ عَيْنُ التَّوْرَاةِ وَعَيْنُ الْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَالزَّبُورِ, وَكَوْنُهُ أَمْرًا وَنَهْيًا وَخَبَرًا وَاسْتِخْبَارًا صِفَاتٌ لِذَلِكَ الْمَعْنَى الْوَاحِدِ لَا أَنْوَاعَ لَهُ, فَإِنَّهُ لَا يَنْقَسِمُ بِنَوْعٍ وَلَا جُزْءٍ وَكَوْنُهُ قُرْآنًا وَتَوْرَاةً وَإِنْجِيلًا تَقْسِيمٌ لِلْعِبَارَاتِ عَنْهُ لَا لِذَاتِهِ, بَلْ إِذَا عَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ الْمَعْنَى بِالْعَرَبِيَّةِ كَانَ قُرْآنًا, وَإِذَا عَبَّرَ عَنْهُ بِالْعِبْرَانِيَّةِ كَانَ تَوْرَاةً, وَإِنْ عَبَّرَ عَنْهُ بِالسُّرْيَانِيَّةِ كَانَ إِنْجِيلًا وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ عِبَارَةٌ عَنْهُ وَلَا يُسَمِّيهَا حِكَايَةً, وَهِيَ خَلْقٌ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ, وَعِنْدَهُ لَمْ يَتَكَلَّمِ اللَّهُ بِهَذَا الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ وَلَا سُمِعَ مِنَ اللَّهِ, وَعِنْدَهُ ذَلِكَ الْمَعْنَى سُمِعَ مِنَ اللَّهِ حَقِيقَةً وَيَجُوزُ أَنْ يُرَى وَيُشَمَّ وَيُذَاقَ وَيُلْمَسَ وَيُدْرَكَ بِالْحَوَاسِّ الْخَمْسِ, إِذِ الْمُصَحِّحُ عِنْدَهُ لِإِدْرَاكِ الْحَوَاسِّ هُوَ الْوُجُودُ, فَكُلُّ وُجُودٍ يَصِحُّ تَعَلُّقُ الْإِدْرَاكَاتِ كُلِّهَا بِهِ كَمَا قَرَّرَهُ فِي مَسْأَلَةِ رُؤْيَةِ مَنْ لَيْسَ فِي جِهَةِ الرَّائِي وَأَنَّهُ يُرَى حَقِيقَةً وَلَيْسَ مُقَابِلًا لِلرَّائِي. هَذَا قَوْلُهُمْ فِي الرُّؤْيَةِ وَذَلِكَ قَوْلُهُمْ فِي الْكَلَامِ. وَالْبَلِيَّةُ الْعُظْمَى نِسْبَةُ ذَلِكَ إِلَى الرَّسُولِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَنَّهُ جَاءَ بِهَذَا وَدَعَا إِلَيْهِ الْأُمَّةَ وَأَنَّهُمْ أَهْلُ الْحَقِّ وَمَنْ عَدَاهُمْ أَهْلُ الْبَاطِلِ. وَجُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ يَقُولُونَ: إِنَّ تَصَوُّرَ هَذَا الْمَذْهَبِ كَافٍ فِي الْجَزْمِ بِبُطْلَانِهِ, وَهُوَ لَا يُتَصَوَّرُ إِلَّا كَمَا تُتَصَوَّرُ الْمُسْتَحِيلَاتُ الْمُمْتَنِعَاتُ. وَهَذَا الْمَذْهَبُ مَبْنِيٌّ عَلَى مَسْأَلَةِ إِنْكَارِ قِيَامِ الْأَفْعَالِ وَالْأُمُورِ الِاخْتِيَارِيَّةِ بِالرَّبِّ تَعَالَى وَيُسَمُّونَهَا مَسْأَلَةَ حُلُولِ الْحَوَادِثِ وَحَقِيقَتُهَا إِنْكَارُ أَفْعَالِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ وَإِرَادَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ. التَّنْبِيهُ إِلَى أَنَّ الْأَشْعَرِيَّةَ غَيْرُ الْأَشْعَرِيِّ: وَأَقُولُ وَالْحَقُّ يُقَالُ: لَا نَشُكُّ أَنَّ ابْنَ الْقَيِّمِ هَذَا وَشَيْخَهُ ابْنَ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْ أَعْلَمِ مَنْ صَنَّفَ فِي الْمَقَالَاتِ وَالْمِلَلِ وَالنِّحَلِ وَأَدْرَاهُمْ بِمَوَارِدِهَا وَمَصَادِرِهَا وَأَبْصَرِهِمْ بِرَدِّ الْبَاطِلِ مِنْهَا وَإِدْحَاضِهِ وَأَوْفَاهُمْ تَقْرِيرًا لِمَذْهَبِ السَّلَفِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَأَشَدِّهِمْ تَمَسُّكًا بِهِ وَنُصْرَةً لَهُ وَأَكْمَلِهِمْ تَحْرِيرًا لِبَرَاهِينِهِ عَقْلًا وَنَقْلًا, وَأَكْثَرِهِمُ اشْتِغَالًا بِهَذَا الْبَابِ وَتَنْقِيبًا عَنْ عَامِلِ الْبِدَعِ فِيهِ وَاجْتِثَاثًا
السادسة "الكرامية" يقولون: إنه متعلق بالمشيئة وحادث بعد أن لم يكن
لِأُصُولِهَا, وَلَكِنْ هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الْأَشْعَرِيِّ فِي مَسْأَلَةِ الْقُرْآنِ هُوَ الَّذِي وَجَدْنَاهُ عَمَّنْ يَنْتَسِبُ إِلَى الْأَشْعَرِيِّ وَيُسَمُّونَ أَنْفُسَهُمْ أَهْلَ الْحَقِّ وَيُقِرُّونَ ذَلِكَ وَيُكَرِّرُونَهُ فِي كُتُبِهِمْ وَيُنَاظِرُونَ عَلَيْهِ. وَأَمَّا أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ نَفْسُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَالَّذِي قَرَّرَهُ فِي كِتَابِهِ "الْإِبَانَةِ" الَّذِي هُوَ مِنْ آخِرِ مَا صَنَّفَ هُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْحَدِيثِ سَاقَهُ بِحُرُوفِهِ وَجَاءَ بِهِ بِرُمَّتِهِ وَاحْتَجَّ فِيهِ بِبَرَاهِينِهِمُ الْعَقْلِيَّةِ وَالنَّقْلِيَّةِ, ثُمَّ نَقَلَ أَقْوَالَ الْأَئِمَّةِ فِي ذَلِكَ كَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ وَالْحَمَّادَيْنِ وُالسَّفْيَانَيْنِ وَعَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ الْمَاجِشُونِ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَهِشَامٍ وَعِيسَى بْنِ يُونُسَ وَحَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ وَسَعْدِ بْنِ عَامِرٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ وَوَكِيعٍ وَأَبِي عَاصِمٍ النَّبِيلِ وَيَعْلَى بْنِ عُبَيْدٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ وَبِشْرِ بْنِ الْمُفَضَّلِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ دَاوُدَ وَسَلَّامِ بْنِ أَبِي مُطِيعٍ وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَعَلِيِّ بْنِ عَاصِمٍ وَأَحْمَدَ بْنِ يُونُسَ وَأَبِي نُعَيْمٍ وَقَبِيصَةَ بْنِ عُقْبَةَ وَسُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ وَأَبِي عُبَيْدٍ الْقَاسِمِ بْنِ سَلَّامٍ وَغَيْرِهِمْ, وَلَوْلَا خَوْفُ الإطالة لسقنا فصول كلامه بِحُرُوفِهِ, فَإِنَّهُ وَإِنْ أَخْطَأَ فِي تَأْوِيلِ بَعْضِ الْآيَاتِ وَأَجْمَلَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ فَكَلَامُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْمُنْتَسِبِينَ إِلَيْهِ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي مَسْأَلَةِ الْقُرْآنِ كَمَا هُوَ مُخَالِفٌ لَهُمْ فِي إِثْبَاتِهِ الِاسْتِوَاءَ وَالنُّزُولَ وَالرُّؤْيَةَ وَالْوَجْهَ وَالْيَدَيْنِ وَالْغَضَبَ وَالرِّضَا وَغَيْرَ ذَلِكَ, وَقَدْ صَرَّحَ فِي مَقَالَاتِهِ بِأَنَّهُ قَائِلٌ بِمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَأَئِمَّةُ الْحَدِيثِ مُعْتَقِدٌ مَا هُمْ عَلَيْهِ مُثْبِتٌ لِمَا أَثْبَتُوهُ مُحَرِّمٌ مَا أَحْدَثَ الْمُتَكَلِّمُونَ مِنْ تَحْرِيفِ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَصَرْفِ اللَّفْظِ عَنْ ظَاهِرِهِ وَإِخْرَاجِهِ عَنْ حَقِيقَتِهِ, وَبِالْجُمْلَةِ فَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَيْهِ بَوْنٌ بَعِيدٌ بَلْ هُوَ بَرِيءٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مِنْهُ بُرَآءُ, وَالْمَوْعِدُ اللَّهُ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا وَهُوَ حَسْبُنَا وَنِعْمَ الْوَكِيلُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ. قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: الْمَذْهَبُ السَّادِسُ مَذْهَبُ "الْكَرَّامِيَّةِ" وَهُوَ أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَشِيئَةِ وَالْقُدْرَةِ قَائِمٌ بِذَاتِ الرَّبِّ تَعَالَى, وَهُوَ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ مَسْمُوعَةٌ, وَهُوَ حَادِثٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ, فَهُوَ عِنْدَهُمْ مُتَكَلِّمٌ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ متكلما, كما يقوله سائر فرق المتكلمين أنه فعل بقدرته ومشيئته بعد أن لم يكن فَاعِلًا, كَمَا أَلْزَمُوا بِهِ الْكَرَّامِيَّةَ فِي مَسْأَلَةِ الْكَلَامِ فَهُوَ لَازِمٌ لَهُمْ فِي مَسْأَلَةِ الْفِعْلِ, وَالْكَرَّامِيَّةُ أَقْرَبُ إِلَى الصَّوَابِ مِنْهُمْ, فَإِنَّهُمْ أَثْبَتُوا كَلَامًا وَفِعْلًا حَقِيقَةً قَائِمَيْنِ بِذَاتِ
السابعة "السالمية" يقولون: أنه صفة قديمة لا يتعلق بالقدرة والمشيئة إلخ
الْمُتَكَلِّمِ الْفَاعِلِ, وَجَعَلُوا لَهَا أَوَّلًا فِرَارًا مِنَ الْقَوْلِ بِحَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا, وَمُنَازِعُوهُمْ أَبْطَلُوا حَقِيقَةَ الْكَلَامِ وَالْفِعْلِ وَقَالُوا لَمْ يَقُمْ بِهِ فِعْلٌ وَلَا كَلَامٌ الْبَتَّةَ, وَأَمَّا مَنْ أَثْبَتَ مِنْهُمْ مَعْنًى قَائِمًا بِنَفْسِهِ سُبْحَانَهُ فَلَوْ كَانَ مَا أَثْبَتَهُ مَفْعُولًا لَكَانَ مِنْ جِنْسِ الْإِرَادَةِ وَالْعِلْمِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا خَارِجًا عَنْهُمَا, فَهُمْ لَمْ يُثْبِتُوا لِلَّهِ كَلَامًا وَلَا فِعْلًا, وَأَمَّا الْكَرَّامِيَّةُ فَإِنَّهُمْ جَعَلُوهُ مُتَكَلِّمًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مُتَكَلِّمًا كَمَا جَعَلَهُ خُصُومُهُمْ فَاعِلًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ فَاعِلًا. الْمَذْهَبُ السَّابِعُ مَذْهَبُ "السَّالِمِيَّةِ" وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ أَنَّهُ صِفَةٌ قَدِيمَةٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِ الرَّبِّ تَعَالَى, لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ لَا يَتَعَلَّقُ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَمَعَ ذَلِكَ هُوَ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ وَسُوَرٌ وَآيَاتٌ سَمِعَهُ جِبْرِيلُ مِنْهُ وَسَمِعَهُ مُوسَى بِلَا وَاسِطَةٍ وَيُسْمِعُهُ سُبْحَانَهُ مَنْ يَشَاءُ. وَإِسْمَاعُهُ نَوْعَانِ: بِوَاسِطَةٍ وَبِلَا وَاسِطَةٍ, وَمَعَ ذَلِكَ فَحُرُوفُهُ وَكَلِمَاتُهُ لَا يَسْبِقُ بَعْضُهَا بَعْضًا بَلْ هِيَ مُقْتَرِنَةٌ الْبَاءُ مَعَ السِّينِ مَعَ الْمِيمِ فِي آنٍ وَاحِدٍ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ مَعْدُومَةً فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ وَلَا تُعْدَمُ بَلْ لَمْ تَزَلْ قَائِمَةً بِذَاتِهِ سُبْحَانَهُ قِيَامَ صِفَةِ الْحَيَاةِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ, وَجُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ قَالُوا: إِنَّ تَصَوُّرَ هَذَا الْمَذْهَبِ كَافٍ فِي الْجَزْمِ بِبُطْلَانِهِ, وَالْبَرَاهِينُ الْعَقْلِيَّةُ وَالْأَدِلَّةُ الْقَطْعِيَّةُ شَاهِدَةٌ بِبُطْلَانِ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ كُلِّهَا وَأَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِصَرِيحِ الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ. وَالْعَجَبُ أَنَّهَا هِيَ الدَّائِرَةُ بَيْنَ فُضَلَاءِ الْعَالَمِ لَا يَكَادُونَ يَعْرِفُونَ غَيْرَهَا. ثُمَّ ذَكَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَوْلَ أَتْبَاعِ الرُّسُلِ وَأَطَالَ عَلَى ذَلِكَ, ثُمَّ مَسْأَلَةَ تَكَلُّمِ الْعِبَادِ بِالْقُرْآنِ وَسَاقَ فِيهِ كَثِيرًا مِنْ كَلَامِ الْبُخَارِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي صَحِيحِهِ, وَفِي كِتَابِ خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَحْسَنِ الْأَئِمَّةِ تَوْضِيحًا وَتَفْصِيلًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِمَا جَرَى عَلَيْهِ مِنَ الْمِحْنَةِ فِي شَأْنِهَا. ثُمَّ ذَكَرَ الْكَلَامَ عَلَى حُرُوفِ الْمُعْجَمِ وَسَاقَ فِيهِ أَقْوَالَ الْأَئِمَّةِ. ثُمَّ ذَكَرَ اللَّفْظِيَّةَ فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ وَالْوَاقِفَةَ. ثُمَّ ذَكَرَ فَصْلًا فِي الْكِتَابَةِ لَهُ فِي الرَّقِّ وَغَيْرِهِ, ثُمَّ فَصْلًا فِي السَّمَاعِ, ثُمَّ فَصْلًا مِنْ كَلَامِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ فِي أَوَّلِ مَنْ أَظْهَرَ إِنْكَارَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَتَكَلَّمُ بِصَوْتٍ في أثناء المائة الثَّالِثَةِ ابْنِ كُلَّابٍ وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ أَئِمَّةُ الْحَدِيثِ كَأَحْمَدَ وَالْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِمَا. وَفِي غُضُونِ هَذِهِ الفصول أبحاث نفسية لَا يُسْتَغْنَى عَنْهَا فَلْتُرَاجِعْ مِنْهُ1.
منشأ النزاع بين الطوائف أن الرب هل يتكلم بمشيئته أم بغير مشيئته
ثُمَّ قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: فصل1. مَنْشَأُ النِّزَاعِ بَيْنَ الطَّوَائِفِ أَنَّ الرَّبَّ تَعَالَى هَلْ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ أَمْ كَلَامُهُ بِغَيْرِ مَشِيئَتِهِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: كَلَامُهُ بِغَيْرِ مَشِيئَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ. ثُمَّ انْقَسَمَ هَؤُلَاءِ أَرْبَعَ فِرَقٍ. قَالَتْ فِرْقَةٌ: هُوَ فَيْضٌ فَاضَ مِنْهُ بِوَاسِطَةِ الْعَقْلِ الْفَعَّالِ عَلَى نَفْسٍ شَرِيفَةٍ فَتَكَلَّمَتْ بِهِ كَمَا يَقُولُ ابْنُ سِينَا وَأَتْبَاعُهُ وَيَنْسُبُونَهُ إِلَى أَرِسْطُو. وَفِرْقَةٌ قَالَتْ: بَلْ هُوَ مَعْنًى قَائِمٌ بِذَاتِ الرَّبِّ تَعَالَى هُوَ بِهِ مُتَكَلِّمٌ وَهُوَ قَوْلُ الْكُلَّابِيَّةِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ. وَانْقَسَمَ هَؤُلَاءِ فِرْقَتَيْنِ: فِرْقَةٌ قَالَتْ هُوَ مَعَانٍ مُتَعَدِّدَةٌ فِي أَنْفُسِهَا أَمْرٌ وَنَهْيٌ وَخَبَرٌ وَاسْتِخْبَارٌ, وَمَعْنًى جَامِعٌ لِهَذِهِ الْأَرْبَعَةِ. وَفِرْقَةٌ قَالَتْ: بَلْ هُوَ مَعْنًى وَاحِدٌ بِالْعَيْنِ لَا يَنْقَسِمُ وَلَا يَتَبَعَّضُ. وَفِرْقَةٌ قَالَتْ: كَلَامُهُ هُوَ هَذِهِ الْحُرُوفُ وَالْأَصْوَاتُ خَلَقَهَا خَارِجَةً عَنْ ذَاتِهِ فَصَارَ بِهَا مُتَكَلِّمًا, وَهَذَا قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ, وَهُوَ فِي الْأَصْلِ قَوْلُ الْجَهْمِيَّةِ تَلَقَّاهُ عَنْهُمْ أَهْلُ الِاعْتِزَالِ فَنُسِبَ إِلَيْهِمْ. وَفِرْقَةٌ قَالَتْ: يَتَكَلَّمُ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ كَلَامًا قَائِمًا بِذَاتِهِ سُبْحَانَهُ كَمَا يَقُومُ بِهِ سَائِرُ أَفْعَالِهِ لَكِنَّهُ حَادِثُ النَّوْعِ, وَعِنْدَهُمْ أَنَّهُ صَارَ مُتَكَلِّمًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مُتَكَلِّمًا كَمَا قَالَهُ مَنْ لَمْ نَصِفْهُمْ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ أَنَّهُ صَارَ فَاعِلًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ فَاعِلًا. فَقَوْلُ هَؤُلَاءِ فِي الْفِعْلِ الْمُتَّصِلِ كَقَوْلِ أُولَئِكَ فِي الْفِعْلِ الْمُنْفَصِلِ, وَهَذَا قَوْلُ الْكَرَّامِيَّةِ. وَفِرْقَةٌ قَالَتْ: يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ, وَكَلَامُهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِهِ النَّاسُ كُلُّهُ حَقُّهُ وَبَاطِلُهُ وَصِدْقُهُ وَكَذِبُهُ كَمَا يَقُولُهُ طَوَائِفُ الِاتِّحَادِيَّةِ. وَقَالَ أَهْلُ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ: إِنَّهُ لَمْ يَزَلْ سُبْحَانَهُ مُتَكَلِّمًا إِذَا شَاءَ وَيَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَلَمْ تَتَحَدَّدْ لَهُ هَذِهِ الصِّفَةُ بَلْ كَوْنُهُ مُتَكَلِّمًا بِمَشِيئَتِهِ هُوَ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ الْمُقَدَّسَةِ وَهُوَ بَائِنٌ عَنْ خَلْقِهِ بِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَكَلَامِهِ لَيْسَ مُتَّحِدًا بِهِمْ وَلَا حَالًّا فِيهِمْ. وَاخْتَلَفَتِ الْفِرَقُ هَلْ يُسْمَعُ كَلَامُ اللَّهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ؟ فَقَالَتْ فِرْقَةٌ: لَا يُسْمَعُ كَلَامُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ, إِنَّمَا تُسْمَعُ حِكَايَتُهُ وَالْعِبَارَةُ عَنْهُ, وَهَذَا قَوْلُ الْكُلَّابِيَّةِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ. وَقَالَتْ بَقِيَّةُ الطَّوَائِفِ: بَلْ يُسْمَعُ كَلَامُهُ حَقِيقَةً. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقَالَتْ فِرْقَةٌ: يَسْمَعُهُ كُلُّ أَحَدٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى, وَهَذَا قَوْلُ الِاتِّحَادِيَّةِ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: بَلْ لَا يُسْمَعُ إِلَّا مِنْ غَيْرِهِ, وَعِنْدَهُمْ أَنَّ مُوسَى لَمْ يَسْمَعْ كَلَامَ اللَّهِ مِنْهُ, فَهَذَا قَوْلُ الْجَهْمِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ. وَقَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ: يُسْمَعُ
كَلَامُهُ سُبْحَانَهُ مِنْهُ تَارَةً بِلَا وَاسِطَةٍ كَمَا سَمِعَهُ مُوسَى وَجِبْرِيلُ وَغَيْرُهُمَا, وَكَمَا يُكَلِّمُ عِبَادَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيُكَلِّمُ أَهْلَ الْجَنَّةِ وَيُكَلِّمُ الْأَنْبِيَاءَ فِي الموقف, ويسمع من الْمُبَلِّغُ عَنْهُ كَمَا سَمِعَ الْأَنْبِيَاءُ الْوَحْيَ مِنْ جِبْرِيلَ تَبْلِيغًا عَنْهُ وَكَمَا سَمِعَ الصَّحَابَةُ الْقُرْآنَ مِنَ الرَّسُولِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ اللَّهِ فَسَمِعُوا كَلَامَ اللَّهِ بِوَاسِطَةِ الْمُبَلِّغِ, وَكَذَلِكَ نَسْمَعُ نَحْنُ بِوَاسِطَةِ التَّالِي. فَإِذَا قِيلَ: الْمَسْمُوعُ مَخْلُوقٌ أَوْ غَيْرُ مَخْلُوقٍ؟ قِيلَ: إِنْ أَرَدْتَ الْمَسْمُوعَ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ كَلَامُهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ, وَإِنْ أَرَدْتَ الْمَسْمُوعَ مِنَ الْمُبَلِّغِ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ؛ إِنْ سَأَلْتَ عَنِ الصَّوْتِ الَّذِي رُوِيَ بِهِ كَلَامُ اللَّهِ فَهُوَ مَخْلُوقٌ, وَإِنْ سَأَلْتَ عَنِ الْكَلَامِ الْمُؤَدَّى بِذَلِكَ الصَّوْتِ فَهُوَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. وَالَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ بِصَوْتٍ أَرْبَعُ فِرَقٍ: فِرْقَةٌ قَالَتْ: يَتَكَلَّمُ بِصَوْتٍ مَخْلُوقٍ مُنْفَصِلٍ عَنْهُ وَهُمُ الْمُعْتَزِلَةُ. وَفِرْقَةٌ قَالَتْ: يَتَكَلَّمُ بِصَوْتٍ قَدِيمٍ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ وَهُمُ السَّالِمِيَّةُ وَالِاقْتِرَانِيَّةُ. وَفِرْقَةٌ قَالَتْ: يَتَكَلَّمُ بِصَوْتٍ حَادِثٍ فِي ذَاتِهِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ وَهُمُ الْكَرَّامِيَّةُ. وَقَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ: لَمْ يَزَلِ اللَّهُ تَعَالَى مُتَكَلِّمًا بِصَوْتٍ إِذَا شَاءَ. وَالَّذِينَ قَالُوا لَا يَتَكَلَّمُ بِصَوْتٍ فِرْقَتَانِ: أَصْحَابُ الْفَيْضِ, وَالْقَائِلُونَ إِنَّ الْكَلَامَ مَعْنًى قَائِمٌ بِالنَّفْسِ1. انْتَهَى مَا أَرَدْنَا إِيرَادَهُ مِنْ كَلَامِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَقَدْ أَوْدَعَ هَذِهِ الْأَقْوَالَ وَغَيْرَهَا فِي مَسْأَلَةِ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهَا فِي نُونِيَّتِهِ الشَّافِيَةِ الْكَافِيَةِ. وَأَمَّا مَذْهَبُ أَتْبَاعِ الرُّسُلِ فَقَدْ قَدَّمْنَا فِيهِ الشِّفَاءَ الْكَافِيَ مِنْ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَقْوَالِ سَلَفِ الْأُمَّةِ بِمَا لَا يُحْتَاجُ مَعَهُ إِلَى غَيْرِهِ. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
الفصل الثاني توحيد الطلب والقصد
[[الفصل الثاني توحيد الطلب والقصد]] فَصْلٌ فِي بَيَانِ النَّوْعِ الثَّانِي مِنْ نَوْعَيِ التَّوْحِيدِ وَهُوَ تَوْحِيدُ الطَّلَبِ وَالْقَصْدِ وَأَنَّهُ مَعْنَى لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ هَذَا وَثَانِي نَوْعَيِ التَّوْحِيدِ ... إِفْرَادُ رَبِّ الْعَرْشِ عَنْ نَدِيدِ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ إِلَهًا وَاحِدَا ... مُعْتَرِفًا بِحَقِّهِ لَا جَاحِدَا "هَذَا" أَيِ: الْأَمْرُ وَالْإِشَارَةُ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ تَحْقِيقِ النَّوْعِ الْأَوَّلِ مِنْ نَوْعَيِ التَّوْحِيدِ "وَثَانِي نَوْعَيِ التَّوْحِيدِ" هُوَ "إِفْرَادُ رَبِّ الْعَرْشِ عَنْ نَدِيدٍ" شَرِيكٍ مُسَاوٍ، وَتَفْسِيرُ ذَلِكَ هُوَ "أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ" سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى "إِلَهًا" حَالٌ مِنْ لَفْظِ الْجَلَالَةِ "وَاحِدًا" لَا شَرِيكَ لَهُ فِي إِلَهِيَّتِهِ كَمَا لَا شَرِيكَ لَهُ فِي رُبُوبِيَّتِهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ, فَإِنَّ تَوْحِيدَ الْإِثْبَاتِ هُوَ أَعْظَمُ حُجَّةٍ عَلَى تَوْحِيدِ الطَّلَبِ وَالْقَصْدِ الَّذِي هُوَ تَوْحِيدُ الْإِلَهِيَّةِ, وَبِهِ احْتَجَّ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ عَلَى وُجُوبِ إِفْرَادِهِ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ لِتَلَازُمِ التَّوْحِيدَيْنِ, فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَهًا مُسْتَحِقًّا لِلْعِبَادَةِ إِلَّا مَنْ كَانَ خَالِقًا رَازِقًا مَالِكًا مُتَصَرِّفًا مُدَبِّرًا لِجَمِيعِ الْأُمُورِ حَيًّا قَيُّومًا سَمِيعًا بَصِيرًا عَلِيمًا حَكِيمًا مَوْصُوفًا بِكُلِّ كَمَالٍ مُنَزَّهًا عَنْ كُلِّ نَقْصٍ, غَنِيًّا عَمَّا سِوَاهُ, مُفْتَقِرًا إِلَيْهِ كُلُّ مَا عَدَاهُ, فَاعِلًا مُخْتَارًا لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَلَا رَادَّ لِقَضَائِهِ وَلَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ, وَلَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ, وَهَذِهِ صِفَاتُ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- لَا تَنْبَغِي إِلَّا لَهُ وَلَا يَشْرَكُهُ فِيهَا غَيْرُهُ. فَكَذَلِكَ لَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ إِلَّا هُوَ وَلَا تَجُوزُ لِغَيْرِهِ, فَحَيْثُ كَانَ مُتَفَرِّدًا بِالْخَلْقِ وَالْإِنْشَاءِ وَالْبَدْءِ وَالْإِعَادَةِ لَا يَشْرَكُهُ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ وَجَبَ إِفْرَادُهُ بِالْعِبَادَةِ دُونَ مَنْ
سِوَاهُ, لَا يُشْرَكُ مَعَهُ فِي عِبَادَتِهِ أَحَدٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الْبَقَرَةِ: 21-22] . وَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} إِلَى قَوْلِهِ: {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ، قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمِنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [يُونُسَ: 31-35] . وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ، إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ، هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [يُونُسَ: 3-5] . وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الْأَعْرَافِ: 54] . وَقَالَ تَعَالَى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ، هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ
وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} [الْأَنْعَامِ: 1-3] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ، وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ، ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ، قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ} [الْأَنْعَامِ: 59-64] . وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ} [الْأَنْعَامِ: 164، 165] إِلَى آخِرِهَا. وَقَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ، وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ، وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الرَّعْدِ: 2-4] . وَقَالَ تَعَالَى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ، يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ، خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} إِلَى قَوْلِهِ: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [النَّحْلِ: 1-17] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ. وَقَالَ تَعَالَى: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا
يَا مُوسَى، قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى، قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى، قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى، الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى، كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى} [طه: 49-54] . وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} [الْأَنْعَامِ: 40-41] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [يُونُسَ: 12] . وَقَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ، فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [يُونُسَ: 22-23] . وَقَالَ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ، وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ، وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ، وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 30-33] . وَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ، قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ، قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ، بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ، مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ
مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ، عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 84-92] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ، أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ، يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ، وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [النُّورِ: 42-45] . وَقَالَ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشُّعَرَاءِ: 7-9] . وَقَالَ تَعَالَى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} [النَّمْلِ: 59] إِلَى قَوْلِهِ: {أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [النَّمْلِ: 64] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ، اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [الْعَنْكَبُوتِ: 60-63] . وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [الْعَنْكَبُوتِ: 56] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} إِلَى قَوْلِهِ: {أَلَمْ
تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ، ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ، أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ، وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} [لُقْمَانَ: 25-32] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ. وَقَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ، لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ، أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ، وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ} [الْحَجِّ: 63-66] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ، ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ، ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ، وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ، وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ، فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ، وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ، وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ، وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 12-22] . وَقَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} [السَّجْدَةِ: 4] إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ. وَقَالَ تَعَالَى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي
الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ، يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ} [سَبَأٍ: 1-2] . وَقَالَ تَعَالَى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [فَاطِرٍ: 1-2] . وَقَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ، وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ} [الرُّومِ: 48-49] إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ، مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ، وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ، يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ} [فَاطِرٍ: 9-13] إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ, بَلْ إِلَى آخِرِ السُّورَةِ. وَقَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الرُّومِ: 40] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ
نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} [الزُّمَرِ: 8] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزُّمَرِ: 38] . وَقَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ، ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ، كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ، اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [غَافِرٍ: 62-64] إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ. وَقَالَ تعالى: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ، ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ، فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [فُصِّلَتْ: 9-12] . وَقَالَ: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ، الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ، وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ، وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ، لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} [الزُّخْرُفِ: 9-13] الْآيَاتِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [الزُّخْرُفِ: 87] ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي يُقَرِّرُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا رُبُوبِيَّتَهُ وَيَمْتَنُّ بِنِعَمِهِ وَتَفَرُّدِهِ بِأَنْوَاعِ
التَّصَرُّفَاتِ, وَعُبَّادُ الْأَوْثَانِ يُقِرُّونَ بِهَا لِلَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَيُقِرُّونَ بِأَنَّ أَوْثَانَهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَخْلُوقَةٌ, لَا تَمْلِكُ لِأَنْفُسِهَا وَلَا لِعَابِدِيهَا ضُرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا, وَلَا تَسْمَعُ وَلَا تُبْصِرُ وَلَا تُغْنِي عَنْهُمْ شَيْئًا, وَيُقِرُّونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُتَفَرِّدُ بِالْخَلْقِ وَالرِّزْقِ وَالضُّرِّ وَالنَّفْعِ وَالتَّقْدِيرِ وَالتَّدْبِيرِ وَأَنْوَاعِ التَّصَرُّفَاتِ, لَيْسَ إِلَيْهِمْ وَلَا إِلَى أَوْثَانِهِمْ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ, بَلْ هُوَ الْخَالِقُ وَمَا عَدَاهُ مَخْلُوقٌ, وَهُوَ الرَّبُّ وَمَا عَدَاهُ مَرْبُوبٌ, غَيْرَ أَنَّهُمْ جَعَلُوا لَهُ مِنْ خَلْقِهِ شُرَكَاءَ سَوَّوْهُمْ بِهِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْعِبَادَةِ وَأَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ تَفَرَّدَ بِهَا, وَقَالُوا لِمَنْ قَالَ لَهُمْ: قُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5] ، فَأَلْزَمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِمَا أَقَرُّوا بِهِ مِنَ التَّفَرُّدِ بِالرُّبُوبِيَّةِ أَنْ يَعْمَلُوا بِمُقْتَضَى ذَلِكَ, وَيَلْتَزِمُوا لَازِمَهُ مِنْ تَوْحِيدِ الْإِلَهِيَّةِ وَأَنْ يَكْفُرُوا بِمَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ كَمَا أَقَرُّوا بِعَجْزِهِمْ وَعَدَمِ اتِّصَافِهِمْ بِشَيْءٍ يَسْتَحِقُّونَ بِهِ الْعِبَادَةَ, بَلْ هُمْ أَقَلُّ وَأَذَلُّ وَأَحْقَرُ وَأَعْجَزُ عَنْ أَنْ يَخْلُقُوا ذبابا أو أن يَسْتَنْقِذُوا مِنْهُ شَيْئًا سَلَبَهُ. وَمَنْ تَدَبَّرَ هَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَا وَمَا فِي مَعْنَاهَا حَقَّ التَّدَبُّرِ, عَلِمَ يَقِينًا أَنَّ عُبَّادَ الْأَوْثَانِ مُقِرُّونَ بِتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ وَشَاهِدُونَ بِتَفَرُّدِ اللَّهِ بِذَلِكَ, وَأَنَّهُمْ إِنَّمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ تَعَالَى فِي الْإِلَهِيَّةِ حَيْثُ عَبَدُوا مَعَهُ غَيْرَهُ, هَذَا فِي الظَّاهِرِ وَإِلَّا فَأَنْوَاعُ التَّوْحِيدِ مُتَلَازِمَةٌ, مَنْ أَشْرَكَ غَيْرَ اللَّهِ مَعَهُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا فَقَدْ أَشْرَكَ فِيمَا عَدَاهُ كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى بَيَانُهُ فِي بَيَانِ الشِّرْكِ. وَمِمَّا يُقَدِّرُ ذَلِكَ غَايَةَ التَّقْدِيرِ حَدِيثُ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ لِأَبِيهِ حُصَيْنٍ قَبْلَ إِسْلَامِهِ: "كَمْ تَعْبُدُ الْيَوْمَ مِنْ إِلَهٍ "؟ قَالَ: سَبْعَةَ آلِهَةٍ: سِتَّةً فِي الْأَرْضِ وَوَاحِدًا فِي السَّمَاءِ. قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَمَنْ تُعِدُّ لِرَغْبَتِكَ وَرَهْبَتِكَ"؟ قَالَ: الَّذِي فِي السَّمَاءِ1. وَتَقَدَّمَ أَيْضًا فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُمْ إِنَّمَا كَانَ شِرْكُهُمْ بِاللَّهِ فِي إِلَهِيَّتِهِ فِي حَالَةِ الرَّخَاءِ, وَأَمَّا فِي الشِّدَّةِ فَكَانُوا يُخْلِصُونَ الدِّينَ لِلَّهِ؛ لِعِلْمِهِمْ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى كَشْفِ مَا هُمْ فِيهِ غَيْرُهُ, وَأَنَّ آلِهَتَهُمْ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ وَلَا تَسْتَطِيعُ شَيْئًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ
يُشْرِكُونَ، لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الْعَنْكَبُوتِ: 65-66] ، وَمَا فِي مَعَانِيهَا مِنَ الْآيَاتِ مِمَّا ذَكَرْنَا وَمِمَّا لَمْ نَذْكُرْ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الرُّبُوبِيَّةَ وَالْإِلَهِيَّةَ مُتَلَازِمَانِ لَا يَنْفَكُّ نَوْعٌ مِنْهُمَا عَنِ الْآخَرِ, وَأَنَّ تَوْحِيدَ الرُّبُوبِيَّةِ لَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ إِلَّا مُكَابَرَةً كَفِرْعَوْنَ وَنُمْرُودَ, وَالثَّنَوِيَّةِ الَّذِينَ اعْتَقَدُوا لِلْوُجُودِ خَالِقَيْنِ اثْنَيْنِ, تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ وَالْجَاحِدُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا. "مُعْتَرِفًا" حَالٌ مِنْ فَاعِلِ تَعْبُدُ "بِحَقِّهِ" تَعَالَى عَلَيْكَ, وَعَلَى جَمِيعِ عِبَادِهِ "لَا جَاحِدًا" وَحَقُّهُ عَلَيْكَ أَنْ تَعْبُدَهُ لَا تُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا, كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النِّسَاءِ: 36] وَقَالَ: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الْإِسْرَاءِ: 23] وَقَالَ تَعَالَى: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الْمُؤْمِنُونَ: 32] وَغَيْرُهَا مِنَ الْآيَاتِ سَنَذْكُرُ مَا تَيَسَّرَ مِنْهَا قَرِيبًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: كُنْتُ رَدِيفَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى حِمَارٍ, فَقَالَ لِي: "يَا مُعَاذُ, أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْعِبَادِ, وَمَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ "؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: "حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا, وَحَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ أَنْ لَا يُعَذِّبَ مَنْ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا" 1 الْحَدِيثَ. وَهْوَ الَّذِي بِهِ الْإِلَهُ أَرْسَلَا ... رُسْلَهُ يَدْعُونَ إِلَيْهِ أَوَّلَا وَأَنْزَلَ الْكِتَابَ وَالتِّبْيَانَا ... مِنْ أَجْلِهِ وَفَرَّقَ الْفُرْقَانَا "وَهُوَ" أَيْ: تَوْحِيدُ الْإِلَهِيَّةِ "الَّذِي بِهِ الْإِلَهُ" عَزَّ وَجَلَّ "أَرْسَلَا رُسْلَهُ" مِنْ أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِمْ "يَدْعُونَ إِلَيْهِ أَوَّلًا" قَبْلَ كُلِّ أَمْرٍ فَلَمْ يَدْعُوا إِلَى شَيْءٍ قَبْلَهُ, فَهُمْ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ شَرَائِعُهُمْ فِي تَحْدِيدِ بَعْضِ الْعِبَادَاتِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي الْأَصْلِ الَّذِي هُوَ إِفْرَادُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِتِلْكَ الْعِبَادَاتِ افْتَرَقَتْ أَوِ اتَّفَقَتْ, لَا يُشْرَكُ
مَعَهُ فِيهَا غَيْرُهُ, كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نَحْنُ مُعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ أَوْلَادُ عَلَّاتٍ, دِينُنَا وَاحِدٌ" 1. وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- عَنِ اتِّفَاقِ دَعْوَةِ رُسُلِهِ إِجْمَالًا وَتَفْصِيلًا, فَقَالَ تَعَالَى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشُّورَى: 13] . وَهَؤُلَاءِ هُمْ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ: نُوحٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَمُوسَى وَعِيسَى وَنَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَكَذَلِكَ بَقِيَّةُ الرُّسُلِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزُّخْرُفِ: 45] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الْأَنْبِيَاءِ: 25] وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النَّحْلِ: 36] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا، وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا، رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النِّسَاءِ: 163-165] . وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ الْمُغِيرَةِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَوْ رَأَيْتُ رَجُلًا مَعَ امْرَأَتِي لَضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ غَيْرَ مُصْفِحٍ, فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: "تَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ, وَاللَّهِ لَأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ, وَاللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّي, وَمِنْ أَجْلِ غَيْرَةِ اللَّهِ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ, وَلَا أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعُذْرُ مِنَ اللَّهِ, وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ بَعَثَ الْمُبَشِّرِينَ وَالْمُنْذِرِينَ, وَلَا أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْمِدْحَةُ مِنَ اللَّهِ, وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ وَعَدَ اللَّهُ الْجَنَّةَ" 2. وَأَمَّا فِي مَقَامَاتِ التَّفْصِيلِ فَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ
فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الْأَعْرَافِ: 59] إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ, وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ} [الْأَعْرَافِ: 65] إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ, وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الْأَعْرَافِ: 73] إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ, وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 85] إلى آخر الآيات، وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ، وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ، فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ، فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ، فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} [الْأَنْعَامِ: 74-78] . وَهَذَا فِي مَقَامِ مناظرته -عليه الصلاة والسلام- لِعُبَّادِ الْكَوَاكِبِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِدْرَاجِ أَوِ التَّوْبِيخِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ سَخَافَتَهُمْ وَجَهْلَهُمْ وَضَعْفَ عُقُولِهِمْ فِي عِبَادَتِهِمْ هَذِهِ الْكَوَاكِبَ الْمَخْلُوقَةَ لِحِكْمَةِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- الْمُسَخَّرَةَ بِقُدْرَتِهِ وَغَفْلَتَهُمْ عَنْ خَالِقِهَا وَمُسَخِّرِهَا وَالْمُتَصَرِّفِ فِيهَا وَتَرْكَهُمْ عِبَادَتَهُ أَوْ إِشْرَاكَهُمْ مَعَهُ فِيهَا غَيْرَهُ عَزَّ وَجَلَّ, فَلَمَّا أَقَامَ عَلَيْهِمُ الحجة: {قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ، إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ، وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الْأَنْعَامِ: 78-82] ، أَيِ: {الَّذِينَ آمَنُوا} يَعْنِي: صَدَّقُوا وَوَحَّدُوا {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} أَيْ: شِرْكٍ؛ إِذْ هُوَ الظُّلْمُ الَّذِي لَا يَغْفِرُهُ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: لَمَّا نَزَلَتِ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} قَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لُقْمَانَ: 13] 1 فَالَّذِينَ آمَنُوا الْإِيمَانَ التَّامَّ الَّذِي لَمْ تَشُبْهُ شَوَائِبُ الشِّرْكِ الْأَكْبَرِ الْمُنَافِي لِجَمِيعِهِ, وَلَا الشَّرْكِ الْأَصْغَرِ الْمُنَافِي لِكَمَالِهِ, وَلَا مَعَاصِي اللَّهِ الْمُحْبِطَةُ لِثَمَرَاتِهِ مِنَ الطَّاعَاتِ, فَأُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ التَّامُّ مِنْ خِزْيِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْآخِرَةِ, وَالِاهْتِدَاءُ التَّامُّ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَبِحَسَبِ مَا يَنْقُصُ مِنَ الْإِيمَانِ يَنْقُصُ مِنَ الْأَمْنِ وَالِاهْتِدَاءِ, وَبِاجْتِنَابِ الشِّرْكِ الْأَكْبَرِ وَالْأَصْغَرِ يَحْصُلُ مُطْلَقُ الْأَمْنِ وَالِاهْتِدَاءِ, وَبِاجْتِنَابِ الْمَعَاصِي يَحْصُلُ تَمَامُهُمَا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الْأَنْعَامِ: 83] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ، إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ، قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ، قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ، قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ، قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ، وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ، فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ، قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ، قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ، قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ، قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إبراهيم، قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ، فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ، ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ، قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ، أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}
[الْأَنْبِيَاءِ: 51-67] إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ، إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ، قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ، قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ، أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ، قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ، قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ، أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ، فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ، الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ، وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ، وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ، وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ، وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشُّعَرَاءِ: 69-82] وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ، إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ، إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ، أَإِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ، فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ، فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ، فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ، فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ، فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ، مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ، فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ، فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ، قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ، وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ، قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ} [الصَّافَّاتِ: 83-97] إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا، إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا، يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا، يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا، يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} [مَرْيَمَ: 41-45] . فَبَيَّنَ لِأَبِيهِ أَنَّ آلِهَتَهُ لَا تَسْمَعُ وَلَا تُبْصِرُ وَلَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ وَلَا تَقْدِرُ عَلَى جَلْبِ خَيْرٍ وَلَا دَفْعِ شَرٍّ وَلَا تُغْنِي عَنْهُ شَيْئًا. فَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ عِبَادَةَ مِثْلِ هَذَا جَهْلٌ وَضَلَالٌ. ثُمَّ بَيَّنَ لَهُ أَنَّ عِنْدَهُ دَوَاءَ ذَلِكَ الدَّاءِ, وَالْهُدَى مِنْ ذَلِكَ الضَّلَالِ, فَقَالَ تَعَالَى: {إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا} وَبَيَّنَ أَنَّ فِعْلَهُ ذلك عبادة الشيطان, مُوجِبٌ لِعَذَابِ الرَّحْمَنِ وَوِلَايَةِ الشَّيْطَانِ, عِيَاذًا بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ
لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الْعَنْكَبُوتِ: 15-17] إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ، إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ، وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزُّخْرُفِ: 26-28] . وَقَالَ تَعَالَى عَنْ يُوسُفَ, عَلَيْهِ السَّلَامُ: {إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ، وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ، يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ، مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [يُوسُفَ: 37-40] الْآيَاتِ وَغَيْرَهَا. وَكَذَلِكَ قَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْنَا عَنْ جَمِيعِ الرُّسُلِ مِنْ نُوحٍ إِلَى مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ، قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ، قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ، وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [إِبْرَاهِيمَ: 9-12] الْآيَاتِ. وَلَوْ ذَهَبْنَا نَذْكُرُ قَصَصَ الرُّسُلِ وَمُحَاوَرَتَهُمْ مَعَ قَوْمِهِمْ وَعَوَاقِبَ ذَلِكَ لَطَالَ الْفَصْلُ. وَأَمَّا نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَسِيرَتُهُ فِي قَوْمِهِ وَصَبْرُهُ عَلَى أَذَاهُمْ وَمَا جَرَى لَهُ مَعَهُمْ, فَأَجْلَى مِنَ الشَّمْسِ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ, وَالْقُرْآنُ كُلُّهُ مِنْ
وهو الذي أمر الله رسوله بقتال من تولى عنه وأبى
فَاتِحَتِهِ إِلَى خَاتِمَتِهِ فِي شَأْنِ ذَلِكَ. "وَأَنْزَلَ" اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ "الْكِتَابَ" اسْمَ جِنْسٍ لِكُلِّ كِتَابٍ أَنْزَلَهُ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- عَلَى رُسُلِهِ, وَأَشْهَرُهَا الْأَرْبَعَةُ وَهِيَ: التَّوْرَاةُ عَلَى مُوسَى مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ, وَالْإِنْجِيلُ عَلَى عِيسَى فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ, وَالزَّبُورُ عَلَى دَاوُدَ الَّذِي كَانَ إِذَا قَرَأَهُ أَوَّبَتْ مَعَهُ الْجِبَالُ وَالطَّيْرُ, وَالْقُرْآنُ الْمُنَزَّلُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ. "وَالتِّبْيَانَا" مِنْ عَطْفِ التَّفْسِيرِ الَّذِي هُوَ أَعَمُّ مِنَ الْمُفَسَّرِ؛ لِأَنَّ التِّبْيَانَ مِنْهُ المتعبد بتلاوته والعمل بِهِ وَهُوَ الْكِتَابُ, وَمِنْهُ الْمُتَعَبَّدُ بِالْعَمَلِ بِهِ فَقَطْ وَهُوَ السُّنَّةُ وَمَا فِي مَعْنَاهَا. "مِنْ أَجْلِهِ" أَيْ: مِنْ أَجْلِ التَّوْحِيدِ "وَفَرَّقَ الْفُرْقَانَا" إِذْ يَقُولُ تَعَالَى: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} [الْإِسْرَاءِ: 106] الْآيَاتِ. وَسَنَذْكُرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَصْلَ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ, وَغَيْرِهَا فِي فَصْلِ بَيَانِ ضِدِّ التَّوْحِيدِ الَّذِي هُوَ الشِّرْكُ, وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. وَكَلَّفَ اللَّهُ الرَّسُولَ الْمُجْتَبَى ... قِتَالَ مَنْ عَنْهُ تَوَلَّى وَأَبَى حَتَّى يَكُونَ الدِّينُ خَالِصًا لَهُ ... سِرًّا وَجَهْرًا دِقُّهُ وَجُلُّهُ وَهَكَذَا أَمَّتُهُ قَدْ كُلِّفُوا ... بِذَا وَفِي نَصِّ الْكِتَابِ وُصِفُوا "وَكَلَّفَ اللَّهُ" تَعَالَى أَيْ: أَمَرَ أَمْرَ افْتِرَاضٍ "الرَّسُولَ المجتبى" نبينا محمدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "قِتَالَ" مَفْعُولُ كَلَّفَ الثَّانِي "مَنْ عَنْهُ" عَنِ التَّوْحِيدِ "تَوَلَّى وَأَبَى" أَيْ: أَعْرَضَ وَامْتَنَعَ "حَتَّى" غَايَةً لِلْقِتَالِ "يَكُونَ الدِّينُ خَالِصًا لَهُ" أَيِ: لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ "سِرًّا وَجَهْرًا" لَا مُعَارِضَ لَهُ وَلَا مُشَاقَّ "دِقُّهُ وَجُلُّهُ" أَيْ: قَلِيلُ الْعِبَادَةِ وَكَثِيرُهَا, وَصَغِيرُهَا وَكَبِيرُهَا. قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التَّوْبَةِ: 73] الْآيَةَ, وَقَالَ تَعَالَى: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا} [النِّسَاءِ: 84] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} [الْبَقَرَةِ: 193] ، وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ
لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ، وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ، وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الْأَنْفَالِ: 38-40] وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا} [التَّوْبَةِ: 5] ، يَعْنِي: رَجَعُوا عن الشرك إلى التوحيد {وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ فِي الْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ وَالنِّسَاءِ وَالْأَنْفَالِ وَالتَّوْبَةِ وَالْقِتَالِ وَالْحَدِيدِ وَالصَّفِّ وَغَيْرِهَا, وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ, وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ, وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ, فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّ الْإِسْلَامِ, وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ" 1 الْحَدِيثُ فِي الصَّحِيحِ, وَلَوْ ذَهَبْنَا نَذْكُرُ آيَاتِ الْجِهَادِ وَأَحَادِيثَهُ لَطَالَ الْفَصْلُ, وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِهَا. "وَهَكَذَا" كَمَا كُلِّفَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِجِهَادِ الْكُفَّارِ "أُمَّتُهُ" الْمُسْتَجِيبُونَ لَهُ "قَدْ كُلِّفُوا بِذَا" أَيِ: الَّذِي كُلِّفَ بِهِ "وَفِي نَصِّ الْكِتَابِ" الْقُرْآنِ "وُصِفُوا" أَيْ: بِذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} [الْفَتْحِ: 29] الْآيَةَ. وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} [الْمَائِدَةِ: 54] وَالْآيَاتِ قَبْلَهَا وَبَعْدَهَا, وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ إِلَّا قَوْلُ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ
وهو الذي حوته لفظة الشهادة
وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التَّوْبَةِ: 111] لَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ كَافِيَةً فِي نَعْشِ الْقُلُوبِ وَتَهْيِيجِ النُّفُوسِ وَتَشْوِيقِهَا وَحَمْلِهَا عَلَى تِلْكَ الْبَيْعَةِ الرَّابِحَةِ الَّتِي لَا خَطَرَ لَهَا, وَلَا يُحَاطُ بِعِظَمِ فَضْلِهَا, وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. [فَضْلُ شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ] : وَقَدْ حَوَتْهُ لَفْظَةُ الشَّهَادَةِ ... فَهْيَ سَبِيلُ الْفَوْزِ وَالسَّعَادَةِ مَنْ قَالَهَا مُعْتَقِدًا مَعْنَاهَا ... وَكَانَ عَامِلًا بِمُقْتَضَاهَا فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَمَاتَ مُؤْمِنَا ... يُبْعَثُ يَوْمَ الْحَشْرِ نَاجٍ آمِنَا "وَقَدْ حَوَتْهُ" أَيْ: جَمَعَتْهُ وَاشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ "لَفْظَةُ الشَّهَادَةِ" أَيْ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ "فَهْيَ" أَيْ: هَذِهِ الْكَلِمَةُ "سَبِيلُ الْفَوْزِ" بِدُخُولِ الْجَنَّةِ وَالنَّجَاةِ مِنَ النَّارِ, قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آلِ عِمْرَانَ: 185] . "وَ" هِيَ سَبِيلُ "السَّعَادَةِ" فِي الدَّارَيْنِ أَيْ: طَرِيقُهُمَا لا وصول إليها إِلَّا بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ, فَهِيَ الْكَلِمَةُ الَّتِي أَرْسَلَ اللَّهُ بِهَا رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ بِهَا كُتُبَهُ, وَلِأَجْلِهَا خُلِقَتِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ وَالْجَنَّةُ وَالنَّارُ, وَفِي شَأْنِهَا تَكُونُ الشَّقَاوَةُ والسعادة, وبها تؤخذ الْكُتُبُ بِالْيَمِينِ أو الشمال, ويقل الْمِيزَانُ أَوْ يَخِفُّ, وَبِهَا النَّجَاةُ مِنَ النَّارِ بَعْدَ الْوُرُودِ, وَبِعَدَمِ إِلْتِزَامِهَا الْبَقَاءُ فِي النَّارِ, وَبِهَا أَخَذَ اللَّهُ الْمِيثَاقَ, وَعَلَيْهَا الْجَزَاءُ وَالْمُحَاسَبَةُ, وَعَنْهَا السُّؤَالُ يَوْمَ التَّلَاقِ, إِذْ يَقُولُ تَعَالَى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الْحِجْرِ: 92] ، وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الْأَعْرَافِ: 6] ، فَأَمَّا سُؤَالُهُ تَعَالَى الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [الْقَصَصِ: 65] وَالْآيَاتُ قَبْلَهَا وَبَعْدَهَا وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَأَمَّا سُؤَالُهُ الْمُرْسَلِينَ فَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ
عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [الْمَائِدَةِ: 109] وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ, وَهِيَ أَعْظَمُ نِعْمَةٍ أَنْعَمَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- بِهَا عَلَى عِبَادِهِ أَنْ هَدَاهُمْ إِلَيْهَا؛ وَلِهَذَا ذَكَرَهَا فِي سُورَةِ النَّحْلِ الَّتِي هِيَ سُورَةُ النِّعَمِ, فَقَدَّمَهَا أَوَّلًا قَبْلَ كُلِّ نِعْمَةٍ, فَقَالَ تَعَالَى: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ} [النَّحْلِ: 2] ، وَهِيَ كَلِمَةُ الشَّهَادَةِ وَمِفْتَاحُ دَارِ السَّعَادَةِ, وَهِيَ أَصْلُ الدِّينِ وَأَسَاسُهُ وَرَأْسُ أَمْرِهِ وَسَاقُ شَجَرَتِهِ وَعَمُودُ فُسْطَاطِهِ, وَبَقِيَّةُ أَرْكَانِ الدِّينِ وَفَرَائِضِهِ مُتَفَرِّعَةٌ عَنْهَا, مُتَشَعِّبَةٌ مِنْهَا, مُكَمِّلَاتٌ لَهَا, مُقَيَّدَةٌ بِالْتِزَامِ مَعْنَاهَا وَالْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهَا, فَهِيَ الْعُرْوَةُ الْوُثْقَى الَّتِي قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا} [الْبَقَرَةِ: 256] قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالضَّحَّاكُ1, وَهِيَ الْعَهْدُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- إِذْ يَقُولُ: {لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} [مَرْيَمَ: 87] قَالَ ذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: هُوَ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ, وَالْبَرَاءَةُ مِنَ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ إِلَّا بِاللَّهِ, وَأَنْ لَا يَرْجُوَ إِلَّا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ2. وَهِيَ الْحُسْنَى الَّتِي قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [اللَّيْلِ: 5-7] الْآيَاتِ, قَالَهُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ وَالضَّحَّاكُ وَرَوَاهُ عَطِيَّةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ3. وَهِيَ كَلِمَةُ الْحَقِّ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- إِذْ يَقُولُ تَعَالَى: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزُّخْرُفِ: 86] قَالَ ذَلِكَ الْبَغَوِيُّ4. وَهِيَ كَلِمَةُ التَّقْوَى الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- إِذْ يَقُولُ: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} [الْفَتْحِ: 26] رَوَى ذَلِكَ ابْنُ جَرِيرٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ وَالتِّرْمِذِيُّ بِأَسَانِيدِهِمْ إِلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ5.
وَهِيَ الْقَوْلُ الثَّابِتُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- إِذْ يَقُولُ تَعَالَى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إِبْرَاهِيمَ: 27] أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ1. وَهِيَ الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ الْمَضْرُوبَةُ مَثَلًا قَبْلَ ذَلِكَ, إِذْ يَقُولُ تَعَالَى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} [إِبْرَاهِيمَ: 24] قَالَهُ عَلِيُّ بْنُ طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ2، أَصْلُهَا ثَابِتٌ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ, وَفَرْعُهَا الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِي السَّمَاءِ صَاعِدٌ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَكَذَا قَالَ الضَّحَّاكُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ3. وَهِيَ الْحَسَنَةُ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- إِذْ يَقُولُ: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الْأَنْعَامِ: 160] . وَقَالَ تَعَالَى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ} [النَّمْلِ: 89] قَالَ ذَلِكَ زَيْنُ الْعَابِدِينَ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ, وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ مَرْفُوعًا: "هِيَ أَحْسَنُ الْحَسَنَاتِ4 وَهِيَ تَمْحُو الذُّنُوبَ وَالْخَطَايَا". وَهِيَ الْمَثَلُ الْأَعْلَى الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- إِذْ يَقُولُ: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الرُّومِ: 27] قَالَ ذَلِكَ قَتَادَةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ5، وَرَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ6. وَهِيَ سَبَبُ النَّجَاةِ كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ, أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَمِعَ مُؤَذِّنًا يَقُولُ: "أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ" فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "خَرَجْتَ مِنَ
النَّارِ" 1 وَفِيهِ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ, حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ النَّارَ" 2. وَفِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ الْآتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى: "أَخْرِجُوا مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ, وَكَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ" 3. وَهِيَ سَبَبُ دُخُولِ الْجَنَّةِ, كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَابْنُ أَمَتِهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ, وَأَنَّ الْجَنَّةَ حَقٌّ وَأَنَّ النَّارَ حَقٌّ؛ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةِ شَاءَ" 4. وَفِي رِوَايَةٍ: "أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنْ عَمَلٍ" 5. وَهِيَ أَفْضَلُ مَا ذُكِرَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- بِهِ وَأَثْقَلُ شَيْءٍ فِي مِيزَانِ الْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ, كَمَا فِي الْمُسْنَدِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- عَنِ النَّبِيِّ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ نُوحًا -عَلَيْهِ السَّلَامُ- قَالَ لِابْنِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ: آمُرُكَ بِلَا إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ؛ فَإِنَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ وَالْأَرَضِينَ السَّبْعَ لَوْ وُضِعْنَ فِي كِفَّةٍ وَوُضِعَتْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فِي كِفَّةٍ؛ لَرَجَحَتْ بِهِنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ, وَلَوْ أَنَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ وَالْأَرَضِينَ السَّبْعَ كن حلقة مبهمة لقصمتهن لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ" 6. وَفِيهِ عَنْهُ أَيْضًا عَنِ النَّبِيِّ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنَّ مُوسَى -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- قَالَ: يَا رَبِّ عَلِّمْنِي شَيْئًا أَذْكُرُكَ وَأَدْعُوكَ بِهِ, قَالَ: يَا مُوسَى قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. قَالَ مُوسَى: يَا رَبِّ كُلُّ عِبَادِكَ يَقُولُونَ هَذَا. قَالَ: يَا مُوسَى قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ, قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ, إِنَّمَا أُرِيدُ
شَيْئًا تَخُصُّنِي بِهِ. قَالَ: يَا مُوسَى لَوْ أَنَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ وَالْأَرَضِينَ السَّبْعَ وَعَامِرَهُنَّ غَيْرِي فِي كِفَّةٍ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فِي كِفَّةٍ مَالَتْ بِهِنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ"1. وَفِي التِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ وَفِي الْمُسْنَدِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّ اللَّهَ سَيُخَلِّصُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَنْشُرُ عَلَيْهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ سِجِلًّا, كُلُّ سِجِلٍّ مِثْلُ مَدِّ الْبَصَرِ ثُمَّ يَقُولُ: أَتُنْكِرُ مِنْ هَذَا شَيْئًا؟ أَظْلَمَكَ كَتَبَتِي الْحَافِظُونَ؟ فَيَقُولُ: لَا يَا رَبِّ فَيَقُولُ: أَفَلَكَ عُذْرٌ؟ فَيَقُولُ: لَا يَا رَبِّ فَيَقُولُ: بَلَى إِنَّ لَكَ عِنْدَنَا حَسَنَةً, وَإِنَّهُ لَا ظُلْمَ عَلَيْكَ الْيَوْمَ, فَيُخْرِجُ بِطَاقَةً فِيهَا أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ, وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ فَيَقُولُ: احْضُرْ وَزْنَكَ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ مَا هَذِهِ الْبِطَاقَةُ مَعَ هَذِهِ السِّجِلَّاتِ؟ فَقَالَ: فَإِنَّكَ لَا تُظْلَمُ قَالَ: فَتُوضَعُ السِّجِلَّاتُ فِي كِفَّةٍ وَالْبِطَاقَةُ فِي كِفَّةٍ, فَطَاشَتِ السِّجِلَّاتُ وَثَقُلَتِ الْبِطَاقَةُ, وَلَا يَثْقُلُ مَعَ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى شَيْءٍ". قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ2. وَهِيَ الَّتِي لَا يَحْجِبُهَا شَيْءٌ دُونَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَمَا فِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ لَيْسَ لَهَا دُونَ اللَّهِ حِجَابٌ حَتَّى تَصِلَ إِلَيْهِ"3. وَفِيهِ أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "مَا مِنْ عَبْدٍ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُخْلِصًا, إِلَّا فُتِحَتْ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ حَتَّى تُفْضِيَ إِلَى الْعَرْشِ" 4, وَهِيَ الْأَمَانُ مِنْ وَحْشَةِ الْقُبُورِ وَهَوْلِ الْحَشْرِ كَمَا فِي الْمُسْنَدِ وَغَيْرِهِ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "لَيْسَ عَلَى أَهْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْشَةٌ فِي قُبُورِهِمْ وَلَا فِي نُشُورِهِمْ, وَكَأَنِّي بِأَهْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَقَدْ قَامُوا يَنْفُضُونَ التُّرَابَ
النصوص الواردة في فضل هذه الشهادة كثيرة لا يحاط بها
عَنْ رُءُوسِهِمْ, يَقُولُونَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ"1. وَاعْلَمْ أَنَّ النُّصُوصَ الْوَارِدَةَ فِي فَضْلِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ كَثِيرَةٌ لَا يُحَاطُ بِهَا, وَفِيمَا ذَكَرْنَا كِفَايَةٌ وَسَنَذْكُرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ ذِكْرِ شُرُوطِهَا مَا تَيَسَّرَ مِنْ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ, وَيَكْفِيكَ فِي فَضْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِخْبَارُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهَا أَعْلَى جَمِيعِ شُعَبِ الْإِيمَانِ, كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ -أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ- شُعْبَةً, فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا: إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ" الْحَدِيثَ2. وَهَذَا لَفَظُ مُسْلِمٍ3. "مَنْ قَالَهَا" أَيْ: قَالَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ حَالَ كَوْنِهِ "مُعْتَقِدًا" أَيْ: عَالِمًا وَمُتَيَقِّنًا "مَعْنَاهَا" الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا "وَكَانَ" مَعَ ذَلِكَ "عَامِلًا بِمُقْتَضَاهَا" عَلَى وَفْقِ مَا عَلِمَهُ مِنْهَا وَتَيَقَّنَهُ, فَإِنَّ ثَمَرَةَ الْعِلْمِ الْعَمَلُ بِهِ "فِي الْقَوْلِ" أَيْ: قَوْلِ القلب واللسان "وَالْفِعْلِ" أَيْ: عَمَلِ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَالْجَوَارِحِ, قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصَّفِّ: 2-3] "وَمَاتَ مُؤْمِنًا" أَيْ: عَلَى ذَلِكَ, وَهَذَا شَرْطٌ لَا بُدَّ مِنْهُ فَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ, قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا مِنْ عَبْدٍ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ثُمَّ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ, إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ" الْحَدِيثُ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ بِطُولِهِ3. "يُبْعَثُ يَوْمَ الْحَشْرِ" أَيْ: يَوْمَ الْجَمْعِ "نَاجٍ" مِنَ النَّارِ "آمِنًا" مِنْ فَزَعِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ، لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ، لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ
معناها الذي دلت عليه أنه ليس بالحق إله يعبد إلا الله
الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 101-103] . وَقَالَ تَعَالَى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ} [النحل: 89] . [مَعْنَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ] : فَإِنَّ مَعْنَاهَا الَّذِي عَلَيْهِ ... دَلَّتْ يَقِينًا وَهَدَتْ إِلَيْهِ أَنْ لَيْسَ بِالْحَقِّ إِلَهٌ يُعْبَدُ ... إِلَّا الْإِلَهُ الْوَاحِدُ الْمُنْفَرِدُ بِالْخَلْقِ وَالرِّزْقِ وَبِالتَّدْبِيرِ ... جل عن الشرك وَالنَّظِيرِ "فَإِنَّ مَعْنَاهَا" أَيْ: مَعْنَى هَذِهِ الْكَلِمَةِ "الَّذِي عَلَيْهِ" مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: "دَلَّتْ" بِصَرِيحِ لَفْظِهَا "وَهَدَتْ" أَيْ: أَرْشَدَتْ "إِلَيْهِ" هُوَ "أَنْ لَيْسَ بالحق" متعلق بيعبد "إِلَهٌ" هُوَ اسْمُ لَيْسَ وَمَنْفِيُّهَا, وَالنَّكِرَةُ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ تَعُمُّ وَالْحُكْمُ الْمَنْفِيُّ "يُعْبَدُ" الَّذِي هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِالْحَقِّ وَالِاسْتِحْقَاقِ فَيَخْرُجُ مَا عُبِدَ بِبَاطِلٍ؛ وَلِذَا سَمَّاهُ الْمُشْرِكُونَ إِلَهًا فَتَسْمِيَّتُهُ بِذَلِكَ بَاطِلَةٌ فَلَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعْبَدَ, فَمَعْنَى لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ: لَا مَعْبُودَ بِحَقٍّ إِلَّا اللَّهُ, لَا إِلَهَ نَافِيًا جَمِيعَ مَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَلَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعْبَدَ, إِلَّا اللَّهُ مُثْبِتًا الْعِبَادَةَ لِلَّهِ فَهُوَ الْإِلَهُ الْحَقُّ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ, فَتَقْدِيرُ خَبَرِ لَا الْمَحْذُوفِ بِحَقٍّ هُوَ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَمَا سَنُورِدُهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ, وَأَمَّا تَقْدِيرُهُ بِمَوْجُودٍ فَيُفْهَمُ مِنْهُ الِاتِّحَادُ, فَإِنَّ الْإِلَهَ هُوَ الْمَعْبُودُ, فَإِذَا قِيلَ: لا معبود موجودا إِلَّا اللَّهُ لَزِمَ مِنْهُ أَنَّ كُلَّ مَعْبُودٍ عُبِدَ بِحَقٍّ أَوْ بَاطِلٍ هُوَ اللَّهُ فَيَكُونُ مَا عَبَدَهُ الْمُشْرِكُونَ مِنَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنُّجُومِ وَالْأَشْجَارِ وَالْأَحْجَارِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ هِيَ اللَّهُ, فَيَكُونُ ذَلِكَ كُلُّهُ تَوْحِيدًا, فَمَا عُبِدَ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ إِلَّا اللَّهُ إِذْ هِيَ هُوَ, وَهَذَا وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ أَعْظَمُ الْكُفْرِ وَأَقْبَحُهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ, وَفِيهِ إِبْطَالٌ لِرِسَالَاتِ جَمِيعِ الرُّسُلِ وَكُفْرٌ بِجَمِيعِ الْكُتُبِ وَجُحُودٌ لِجَمِيعِ الشَّرَائِعِ وَتَكْذِيبٌ بِكُلِّ ذَلِكَ وَتَزْكِيَةٌ لِكُلِّ كَافِرٍ مِنْ أَنْ يَكُونَ كَافِرًا, إِذْ كُلُّ مَا عَبَدَهُ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ هُوَ اللَّهُ فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ مُشْرِكًا بَلْ مُوَحِّدًا, تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ وَالْجَاحِدُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا, فَإِذَا فَهِمْنَا هَذَا فَلَا يَجُوزُ تَقْدِيرُ الْخَبَرِ: مَوْجُودٌ إِلَّا أَنْ يُنْعَتَ اسْمُ لَا بِحَقٍّ فَلَا بَأْسَ وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: لَا إِلَهَ حَقًّا مَوْجُودٌ إِلَّا اللَّهُ, فَبِقَيْدِ الِاسْتِحْقَاقِ يَنْتَفِي الْمَحْذُورُ الَّذِي ذَكَرْنَا.
"إِلَّا الْإِلَهُ الْوَاحِدُ الْمُنْفَرِدُ. بِالْخَلْقِ وَالرِّزْقِ وَبِالتَّدْبِيرِ ... إِلَخْ" وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَيْ: هُوَ الْإِلَهُ الْحَقُّ, فَكَمَا تَفَرَّدَ تَعَالَى بِالْخَلْقِ وَالرِّزْقِ وَالْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ وَالْإِيجَادِ وَالْإِعْدَامِ وَالنَّفْعِ وَالضُّرِّ وَالْإِعْزَازِ وَالْإِذْلَالِ وَالْهِدَايَةِ وَالْإِضْلَالِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَعَانِي رُبُوبِيَّتِهِ وَلَمْ يُشْرِكْهُ أَحَدٌ فِي خَلْقِ الْمَخْلُوقَاتِ وَلَا فِي التَّصَرُّفِ فِي شَيْءٍ مِنْهَا, وَتَفَرَّدَ بِالْأَسْمَاءِ الحسنى والصفات العلا وَلَمْ يَتَّصِفْ بِهَا غَيْرُهُ وَلَمْ يُشْبِهْهُ شَيْءٌ فِيهَا فَكَذَلِكَ تَفَرَّدَ سُبْحَانَهُ بِالْإِلَهِيَّةِ حَقًّا, فَلَا شَرِيكَ لَهُ فِيهَا: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [لُقْمَانَ: 30] , {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ، عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 91] , {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ، لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ، لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 21] , {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا، تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الْإِسْرَاءِ: 42] , {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الْمَائِدَةِ: 73] , {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آلِ عِمْرَانَ: 62] , {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آلِ عِمْرَانَ: 64] , {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزُّمَرِ: 38] , {قُلْ أَرَأَيْتُمْ
سبعة شروط يتوقف عليها الانتفاع بالشهادة
شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا} [فَاطِرٍ: 40] , {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الْأَحْقَافِ: 4] . {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الرَّعْدِ: 16] , {قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ، رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} [ص: 65] . [شُرُوطُ شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ] : وَبِشُرُوطٍ سَبْعَةٍ قَدْ قُيِّدَتْ ... وَفِي نُصُوصِ الْوَحْيِ حَقًّا وَرَدَتْ فَإِنَّهُ لَمْ يَنْتَفِعْ قَائِلُهَا ... بِالنُّطْقِ إِلَّا حَيْثُ يَسْتَكْمِلُهَا "وَبِشُرُوطٍ سَبْعَةٍ" مُتَعَلِّقٌ بِقُيِّدَتْ "قَدْ قُيِّدَتْ" أَيْ: قُيِّدَ بِهَا انْتِفَاعُ قَائِلِهَا بِهَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنَ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ وَالْفَوْزِ بِالْجَنَّةِ وَالنَّجَاةِ مِنَ النَّارِ. "وَفِي نُصُوصِ الْوَحْيِ" مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ "حَقًّا وَرَدَتْ" صَرِيحَةً صَحِيحَةً "فَإِنَّهُ" أَيِ: الشَّأْنَ وَذَلِكَ عِلَّةُ تَقْيِيدِهَا بِهَذِهِ الشُّرُوطِ السَّبْعَةِ "لَمْ يَنْتَفِعْ قَائِلُهَا" أَيْ: قَائِلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ "بِالنُّطْقِ" أَيْ: بِنُطْقِهِ بِهَا مُجَرَّدًا "إِلَّا حَيْثُ يَسْتَكْمِلُهَا" أَيْ: هَذِهِ الشُّرُوطَ السَّبْعَةَ, وَمَعْنَى اسْتِكْمَالِهَا اجْتِمَاعُهَا فِي الْعَبْدِ وَالْتِزَامُهُ إِيَّاهَا بِدُونِ مُنَاقَضَةٍ مِنْهُ لِشَيْءٍ مِنْهَا, وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ ذَلِكَ عَدَّ أَلْفَاظِهَا وَحِفْظَهَا فَكَمْ مِنْ عَامِّيٍّ اجْتَمَعَتْ فِيهِ وَالْتَزَمَهَا وَلَوْ قِيلَ لَهُ: أُعْدُدْهَا لَمْ يُحْسِنْ ذَلِكَ, وَكَمْ حَافِظٍ لِأَلْفَاظِهَا يَجْرِي فِيهَا كَالسَّهْمِ وَتَرَاهُ يَقَعُ كَثِيرًا فِيمَا يُنَاقِضُهَا, وَالتَّوْفِيقُ بِيَدِ اللَّهِ, وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. وَالْعِلْمُ وَالْيَقِينُ وَالْقَبُولُ ... وَالِانْقِيَادُ فَادْرِ مَا أَقُولُ
الثاني اليقين المنافي للشك
وَالصِّدْقُ وَالْإِخْلَاصُ وَالْمَحَبَّهْ ... وَفَّقَكَ اللَّهُ لِمَا أَحَبَّهْ هَذَا تَفْصِيلُ الشُّرُوطِ السَّبْعَةِ السَّابِقِ ذِكْرُهَا الَّتِي قُيِّدَتْ بِهَا هَذِهِ الشَّهَادَةُ, فَأَصْغِ سَمْعَكَ وَأَحْضِرْ قَلْبَكَ لِإِمْلَاءِ أدلتها وتفهمها وتعقلها, ثُمَّ اعْمَلْ عَلَى وَفْقِ ذَلِكَ تَفُزْ بِسَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ, كَمَا وَعَدَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ إِنَّهُ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ: الْأَوَّلُ "الْعِلْمُ" بِمَعْنَاهَا الْمُرَادِ مِنْهَا نَفْيًا وَإِثْبَاتًا الْمُنَافِي لِلْجَهْلِ بِذَلِكَ, قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [مُحَمَّدٍ: 19] وَقَالَ تَعَالَى: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ} [الزُّخْرُفِ: 86] أَيْ: بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} بِقُلُوبِهِمْ مَعْنَى مَا نَطَقُوا بِهِ بِأَلْسِنَتِهِمْ. وَقَالَ تَعَالَى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آلِ عِمْرَانَ: 18] وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزُّمَرِ: 9] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فَاطِرٍ: 28] وَقَالَ تَعَالَى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [الْعَنْكَبُوتِ: 43] . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عُثْمَانَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ مَاتَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ" 1. "وَالْيَقِينُ" أَيْ: وَالثَّانِى الْيَقِينُ الْمُنَافِي لِلشَّكِّ بِأَنْ يَكُونَ قَائِلُهَا مُسْتَيْقِنًا بِمَدْلُولِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ يَقِينًا جَازِمًا, فَإِنَّ الْإِيمَانَ لَا يُغْنِي فِيهِ إِلَّا عِلْمُ الْيَقِينِ لَا عِلْمُ الظَّنِّ, فَكَيْفَ إِذَا دَخَلَهُ الشَّكُّ, قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} إِلَى قَوْلِهِ: {أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الْحُجُرَاتِ: 15] فَاشْتَرَطَ فِي صِدْقِ إِيمَانِهِمْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ كَوْنَهُمْ لَمْ يَرْتَابُوا أَيْ: لَمْ يَشُكُّوا, فَأَمَّا الْمُرْتَابُ فَهُوَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ, وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ, الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ: {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ
الثالث قبول مقتضاها بالقلب والإقرار به باللسان
فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} [التَّوْبَةِ: 45] وَفِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ, لَا يَلْقَى اللَّهَ بِهِمَا عَبْدٌ غَيْرَ شَاكٍّ فِيهِمَا إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ" 1, وَفِي رِوَايَةٍ: "لَا يَلْقَى اللَّهَ بِهِمَا عَبْدٌ غَيْرَ شَاكٍّ فِيهِمَا فَيُحْجَبُ عَنِ الْجَنَّةِ" 2. وَفِيهِ عَنْهُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- مِنْ حَدِيثٍ طَوِيلٍ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَعَثَهُ بِنَعْلَيْهِ فَقَالَ: "مَنْ لَقِيتَ مِنْ وَرَاءِ هَذَا الْحَائِطِ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُسْتَيْقِنًا بِهَا قَلْبُهُ فَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ" 3 الْحَدِيثَ, فَاشْتَرَطَ فِي دُخُولِ قَائِلِهَا الْجَنَّةَ أَنْ يَكُونَ مُسْتَيْقِنًا بِهَا قَلْبُهُ غَيْرَ شَاكٍّ فِيهَا, وَإِذَا انْتَفَى الشَّرْطُ انْتَفَى الْمَشْرُوطُ. "وَ" الثَّالِثُ "الْقَبُولُ" لِمَا اقْتَضَتْهُ هَذِهِ الْكَلِمَةُ بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ, وَقَدْ قَصَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْنَا مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ مِنْ إِنْجَاءِ مَنْ قَبِلَهَا وَانْتِقَامِهِ مِمَّنْ رَدَّهَا وَأَبَاهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ، قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ، فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [الزُّخْرُفِ: 23-25] . وَقَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ} [يُونُسَ: 103] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الرُّومِ: 47] ، وَكَذَلِكَ أَخْبَرَنَا بِمَا وَعَدَ بِهِ الْقَابِلِينَ لَهَا مِنَ الثَّوَابِ, وَمَا أَعَدَّهُ لِمَنْ رَدَّهَا مِنَ الْعَذَابِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ، مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ، وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ} إِلَى قَوْلِهِ: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ، وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [الصَّافَّاتِ: 22-36] ,
الرابع الانقياد لما دلت عليه
فَجَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى عِلَّةَ تَعْذِيبِهِمْ وَسَبَبَهُ هُوَ اسْتِكْبَارَهُمْ عَنْ قَوْلِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ, وَتَكْذِيبَهُمْ مَنْ جَاءَ بِهَا, فَلَمْ يَنْفُوا مَا نَفَتْهُ وَلَمْ يُثْبِتُوا مَا أَثْبَتَتْهُ بَلْ قَالُوا إِنْكَارًا وَاسْتِكْبَارًا {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ, وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ, مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ} [ص: 5-7] ، وقالوا ههنا: {أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} فَكَذَّبَهُمُ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- وَرَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ عَنْ رَسُولِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: {بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} [الصَّافَّاتِ: 37] إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ. ثُمَّ قَالَ فِي شَأْنِ مَنْ قَبِلَهَا: {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ, أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ, فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ, فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [الصَّافَّاتِ: 41] إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ. وَقَالَ تَعَالَى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ} [النحل: 89] ، وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي مُوسَى -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا, فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَتِ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتِ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ, وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ, فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا, وَأَصَابَ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً, فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقِهَ فِي دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ, وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أَرْسِلْتُ بِهِ" 1. "وَ" الرَّابِعُ "الِانْقِيَادُ" لِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْمُنَافِي لِتَرْكِ ذَلِكَ, قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} [الزُّمَرِ: 54] , وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} [النِّسَاءِ: 125] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [لُقْمَانَ: 22] أَيْ: بِلَا إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ {وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} وَمَعْنَى يُسْلِمُ وَجْهَهُ أَيْ: يَنْقَادُ وَهُوَ مُحْسِنٌ مُوَحِّدٌ, وَمَنْ لَمْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَلَمْ يَكُ مُحْسِنًا فَإِنَّهُ لَمْ يَسْتَمْسِكْ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَهُوَ
الخامس الصدق فيها المنافي للكذب
الْمَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ بَعْدَ ذَلِكَ: {وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ، نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} [لُقْمَانَ: 23-24] . وَفِي حَدِيثٍ صَحِيحٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْتُ بِهِ" 1 وهذا هُوَ تَمَامُ الِانْقِيَادِ وَغَايَتُهُ. "وَ" الْخَامِسُ "الصِّدْقُ" فِيهَا الْمُنَافِي لِلْكَذِبِ, وَهُوَ أَنْ يَقُولَهَا صِدْقًا من قلبه يواطئ قَلْبِهِ لِسَانَهُ, قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {الم، أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [الْعَنْكَبُوتِ: 1-3] إلى آخر الآيات. وَقَالَ تَعَالَى فِي شَأْنِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ قَالُوهَا كَذِبًا: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ، يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ، فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [الْبَقَرَةِ: 8-11] ، وَكَمْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ شَأْنِهِمْ وَأَبْدَى وَأَعَادَ وَكَشَفَ أَسْتَارَهُمْ وَهَتَكَهَا وَأَبْدَى فضائحهم في غيرما مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ كَالْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ وَالنِّسَاءِ وَالْأَنْفَالِ وَالتَّوْبَةِ وَسُورَةٍ كَامِلَةٍ فِي شَأْنِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا مِنْ أَحَدٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صِدْقًا مِنْ قَلْبِهِ إِلَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ" 2, فَاشْتَرَطَ فِي إِنْجَاءِ مَنْ قَالَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ مِنَ النَّارِ أَنْ يَقُولَهَا صِدْقًا مِنْ قَلْبِهِ, فَلَا يَنْفَعُهُ مُجَرَّدُ اللَّفْظِ بِدُونِ مُوَاطَأَةِ الْقَلْبِ, وَفِيهِمَا أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَطَلْحَةَ بْنِ
السادس الإخلاص وتصفية العمل بصالح النية عن شوائب الشرك
عُبَيْدِ اللَّهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- مِنْ قِصَّةِ الْأَعْرَابِيِّ، وَهُوَ ضِمَامُ بْنُ ثَعْلَبَةَ وَافِدُ بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ لَمَّا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ فَأَخْبَرَهُ, قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: "لَا إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ" قَالَ: وَاللَّهِ لَا أَزْيِدُ عَلَيْهَا وَلَا أَنْقُصُ مِنْهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ" 1. وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: "إِنْ صَدَقَ لَيَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ" 2, فَاشْتَرَطَ فِي فَلَاحِهِ وَدُخُولِ الْجَنَّةِ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا. "وَ" السَّادِسُ "الْإِخْلَاصُ" وَهُوَ تَصْفِيَةُ الْعَمَلِ بِصَالِحِ النِّيَّةِ عَنْ جَمِيعِ شَوَائِبِ الشِّرْكِ, قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزُّمَرِ: 3] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [الْبَيِّنَةِ: 5] الْآيَةَ، وَقَالَ تَعَالَى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزُّمَرِ: 2] . وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزُّمَرِ: 11] ، {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي} [الزُّمَرِ: 41] . وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا، إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} [النِّسَاءِ: 146] ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ خَالِصًا مَنْ قَلْبِهِ أَوْ نَفْسِهِ" 3 وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عِتْبَانَ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ" 4. وَفِي جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا قَالَ عَبْدٌ قَطُّ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُخْلِصًا, إلا فتحت لها أَبْوَابُ السَّمَاءِ حَتَّى تُفْضِيَ إِلَى الْعَرْشِ
السابع محبة هذه الكلمة وما اقتضته ودلت عليه ومحبة أهلها العاملين بها
مَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ". قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ1. وَلِلنَّسَائِيِّ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ مِنْ حَدِيثِ رَجُلَيْنِ مِنَ الصَّحَابَةِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ, لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ, وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ مُخْلِصًا بِهَا قَلْبُهُ, يُصَدِّقُ بِهَا لِسَانَهُ إِلَّا فَتَقَ اللَّهُ لَهَا السَّمَاءَ فَتْقًا حَتَّى يَنْظُرَ إِلَى قَائِلِهَا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ, وَحُقَّ لَعَبْدٍ نَظَرَ اللَّهُ إِلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَهُ سُؤْلَهُ" 2. "وَ" السَّابِعُ "الْمَحَبَّةُ" لِهَذِهِ الْكَلِمَةِ وَلِمَا اقْتَضَتْهُ وَدَلَّتْ عَلَيْهِ وَلِأَهْلِهَا الْعَامِلِينَ بِهَا الْمُلْتَزِمِينَ لِشُرُوطِهَا, وَبُغْضٍ مَا نَاقَضَ ذَلِكَ, قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [الْبَقَرَةِ: 165] ، وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} [الْمَائِدَةِ: 54] ، فَأَخْبَرَنَا اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- أَنَّ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ أَشَدُّ حُبًّا لَهُ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُشْرِكُوا مَعَهُ فِي مَحَبَّتِهِ أَحَدًا كَمَا فَعَلَ مُدَّعُو مَحَبَّتِهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دونه أندادا يحبونهم كَحُبِّهِ, وَعَلَامَةُ حُبِّ الْعَبْدِ رَبَّهُ تَقْدِيمُ مُحَابِّهِ وَإِنْ خَالَفَتْ هَوَاهُ وَبُغْضُ مَا يُبْغِضُ رَبُّهُ وَإِنَّ مَالَ إِلَيْهِ هَوَاهُ, وَمُوَالَاةُ مَنْ وَالَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمُعَادَاةُ مَنْ عَادَاهُ, وَاتِّبَاعُ رَسُولِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَاقْتِفَاءُ أَثَرِهِ وَقَبُولُ هُدَاهُ. وَكُلُّ هَذِهِ الْعَلَامَاتِ شُرُوطٌ فِي الْمَحَبَّةِ لَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُ الْمَحَبَّةِ مع عدم وجود شَرْطٍ مِنْهَا, قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} [الْفَرْقَانِ: 43] الْآيَاتِ. وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ} [الْجَاثِيَةِ: 23] ، فَكُلُّ مَنْ عَبَدَ مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ عَبْدٌ لِهَوَاهُ, بَلْ كُلُّ مَا عَصَى اللَّهَ بِهِ مِنَ الذُّنُوبِ فَسَبَبُهُ تَقْدِيمُ الْعَبْدِ هَوَاهُ عَلَى أَوَامِرِ
اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَنَوَاهِيهِ. وَقَالَ تَعَالَى فِي شَأْنِ الْمُوَالَاةِ وَالْمُعَادَاةِ فِيهِ: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4] الآيات, وَقَالَ تَعَالَى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ} [الجاثية: 22] الْآيَةَ. وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [الْمَائِدَةِ: 51] الْآيَاتِ. وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [التَّوْبَةِ: 23-24] الْآيَتَيْنِ. وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الْمُمْتَحَنَةِ: 1] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَالَ تَعَالَى فِي اشْتِرَاطِ اتِّبَاعِ رَسُولِهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ، قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آلِ عِمْرَانَ: 31] وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا, وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ, وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ أَنْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ" أَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ1. وَفِيهِمَا عَنْهُ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ" 2. وَفِي كِتَابِ الْحُجَّةِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ
الْعَاصِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْتُ بِهِ"1 وَذَلِكَ الَّذِي جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هُوَ الْخَبَرُ عَنِ اللَّهِ وَالْأَمْرُ بِمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ والنهي عما يكره وَيَأْبَاهُ, فَإِذَا امْتَثَلَ الْعَبْدُ مَا أمره الله بِهِ وَاجْتَنَبَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مُخَالِفًا لِهَوَاهُ كَانَ مُؤْمِنًا حَقًّا, فَكَيْفَ إِذَا كَانَ لَا يَهْوَى سِوَى ذَلِكَ. وَفِي الحديث: "أوثق عرا الْإِيمَانِ الْحُبُّ فِي اللَّهِ, وَالْبُغْضُ فِيهِ" 2. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: مَنْ أَحَبَّ فِي اللَّهِ وَأَبْغَضَ فِي اللَّهِ, وَوَالَى فِي اللَّهِ وَعَادَى فِي اللَّهِ, فَإِنَّمَا تُنَالُ وِلَايَةُ اللَّهِ بِذَلِكَ, وَقَدْ أَصْبَحَ غَالِبُ مُؤَاخَاةِ النَّاسِ الْيَوْمَ عَلَى أَمْرِ الدُّنْيَا, وَذَلِكَ لَا يُجْدِي عَلَى أَهْلِهِ شَيْئًا3. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ السَّلَفِ: ادَّعَى قَوْمٌ مَحَبَّةَ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- فَابْتَلَاهُمُ اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ، قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} 4. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ قَالَ: حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ قَالَ: حَدَّثَنَا هِلَالُ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ, أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى" قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ يَأْبَى؟ قَالَ: "مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ, وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى" 5. قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَادَةَ أَخْبَرَنَا يَزِيدُ حَدَّثَنَا سُلَيْمٌ -وَأَثْنَى عَلَيْهِ- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مِينَاءَ حَدَّثَنَا -أَوْ سَمِعْتُ- جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ: جَاءَتْ مَلَائِكَةٌ إِلَى
أحاديث أن الشهادتين سبب لدخول الجنة لا تنافي أحاديث الوعيد.
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ نَائِمٌ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ نَائِمٌ, وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْعَيْنَ نَائِمَةٌ وَالْقَلْبَ يَقْظَانُ, فَقَالُوا: إِنَّ لِصَاحِبِكُمْ هَذَا مَثَلًا فَاضْرِبُوا لَهُ مَثَلًا فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ نَائِمٌ, وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْعَيْنَ نَائِمَةٌ وَالْقَلْبَ يَقْظَانُ. فَقَالُوا: إِنَّ مَثَلَهُ كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى دَارًا وَجَعَلَ فِيهَا مَأْدُبَةً وَبَعَثَ دَاعِيًا, فَمَنْ أَجَابَ الدَّاعِيَ دَخَلَ الدَّارَ وَأَكَلَ مِنَ الْمَأْدُبَةِ, وَمَنْ لَمْ يُجِبِ الدَّاعِيَ لَمْ يَدْخُلِ الدَّارَ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنَ الْمَأْدُبَةِ, فَقَالُوا: أَوِّلُوهَا لَهُ يَفْقَهُهَا, فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ نَائِمٌ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْعَيْنَ نَائِمَةٌ وَالْقَلْبَ يَقْظَانُ فَقَالُوا: فَالدَّارُ الْجَنَّةُ وَالدَّاعِي مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَمَنْ أَطَاعَ مُحَمَّدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ, وَمَنْ عَصَى مُحَمَّدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَمُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَرْقٌ بَيْنَ النَّاسِ1. وَمِنْ هُنَا يُعْلَمُ أَنَّهُ لَا تَتِمُّ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِلَّا بِشَهَادَةِ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَإِذَا عُلِمَ أَنَّهُ لَا تَتِمُّ مَحَبَّةُ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- إِلَّا بِمَحَبَّةِ مَا يُحِبُّهُ وَكَرَاهَةِ مَا يَكْرَهُهُ, فَلَا طَرِيقَ إِلَى مَعْرِفَةِ مَا يُحِبُّهُ تَعَالَى وَيَرْضَاهُ وَمَا يَكْرَهُهُ وَيَأْبَاهُ إِلَّا بِاتِّبَاعِ مَا أَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاجْتِنَابِ مَا نَهَى عَنْهُ, فَصَارَتْ مَحَبَّتُهُ مُسْتَلْزِمَةً لِمَحَبَّةِ رَسُولِ اللَّهِ وَتَصْدِيقِهِ وَمُتَابَعَتِهِ؛ وَلِهَذَا قَرَنَ مَحَبَّتَهُ بِمَحَبَّةِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ, كَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التَّوْبَةِ: 24] وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْأَحَادِيثَ الدَّالَّةَ عَلَى أَنَّ الشَّهَادَتَيْنِ سَبَبٌ لِدُخُولِ الْجَنَّةِ وَالنَّجَاةِ مِنَ النَّارِ لَا تَنَاقُضَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَحَادِيثِ الْوَعِيدِ الَّتِي فِيهَا: مَنْ فَعَلَ ذَنْبَ كَذَا فَالْجَنَّةُ عَلَيْهِ حَرَامٌ, أَوْ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ فَعَلَ كَذَا؛ لِإِمْكَانِ الْجَمْعِ بَيْنَ النُّصُوصِ بِأَنَّهَا جِنَانٌ كَثِيرَةٌ كَمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَبِأَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ أَيْضًا مُتَفَاوِتُونَ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ فِي السَّبْقِ وَارْتِفَاعِ الْمَنَازِلِ, فَيَكُونُ فَاعِلُ هَذَا الذَّنْبِ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ الَّتِي أعدت لمن لم يرتكبه, أو لا يدخلها في الوقت الذي يَدْخُلُ فِيهِ مَنْ لَمْ
يَرْتَكِبُ ذَلِكَ الذَّنْبَ, وَهَذَا وَاضِحٌ مَفْهُومٌ لِلْعَارِفِ بِلُغَةِ الْعَرَبِ. وَكَذَلِكَ لَا تَنَاقُضَ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي فِيهَا تَحْرِيمُ أَهْلِ هَاتَيْنِ الشَّهَادَتَيْنِ عَلَى النَّارِ, وَبَيْنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي فِيهَا إِخْرَاجُهُمْ مِنْهَا بَعْدَ أَنْ صَارُوا حُمَمًا لِإِمْكَانِ الْجَمْعِ بِأَنَّ تحريم من يدخلها بِذَنْبِهِ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ بِأَنَّ تَحْرِيمَهُ عَلَيْهَا يَكُونُ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنْهَا بِرَحْمَةِ اللَّهِ ثُمَّ بِشَفَاعَةِ الشَّافِعِينَ, ثُمَّ يَغْتَسِلُونَ فِي نَهْرِ الْحَيَاةِ وَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ, فَحِينَئِذٍ قَدْ حُرِّمُوا عَلَيْهَا فَلَا تَمَسُّهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ. أَوْ يَكُونُ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ يُحَرَّمُونَ مُطْلَقًا عَلَى النَّارِ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ الَّتِي لَا يَخْرُجُ مِنْهَا مَنْ دَخَلَهَا, وَهِيَ مَا عَدَا الطَّبَقَةَ الْعُلْيَا مِنَ النَّارِ الَّتِي يَدْخُلُهَا بَعْضُ عُصَاةِ أَهْلِ التَّوْحِيدِ مِمَّنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى عِقَابَهُ وَتَطْهِيرَهُ بِهَا عَلَى قَدْرِ ذَنْبِهِ, ثُمَّ يَخْرُجُونَ فَلَا يَبْقَى فِيهَا أَحَدٌ. وَهَذِهِ إِشَارَةٌ كَافِيَةٌ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَسَنَذْكُرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى بَسْطَ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ عِنْدَ ذِكْرِ الشَّفَاعَاتِ, وَنَذْكُرُ الْأَحَادِيثَ الَّتِي فِيهَا هَذَا وَهَذَا وَالْأَحَادِيثَ الَّتِي يَكُونُ بِهَا الْجَمْعُ بَيْنَ ذَلِكَ, وَقَدْ ذَكَرَ الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذَا الْبَابِ كَلَامًا حَسَنًا بَعْدَ سِيَاقِهِ حَدِيثَ معاذ وحديث عتبان وَحَدِيثَ أَبِي ذَرٍّ وَحَدِيثَ عُبَادَةَ وَقَدْ تَقَدَّمَتْ مَعَ غَيْرِهَا مِنَ الْأَحَادِيثِ. قَالَ: وَأَحَادِيثُ هَذَا الْبَابِ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا مَا فِيهِ أَنَّ مَنْ أَتَى بِالشَّهَادَتَيْنِ دَخَلَ الْجَنَّةَ وَلَمْ يُحْجَبْ عَنْهَا, وَهَذَا ظَاهِرٌ فَإِنَّ النَّارَ لَا يُخَلَّدُ فِيهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ الْخَالِصِ بَلْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَلَا يُحْجَبُ عَنْهَا إِذَا طُهِّرَ مِنْ ذُنُوبِهِ بِالنَّارِ, وَقَدْ يَعْفُو اللَّهُ عَنْهُ فَيُدْخِلُهُ الْجَنَّةَ بِلَا عِقَابٍ قَبْلُ. وَحَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ معناه: أن الزنى وَالسَّرِقَةَ لَا يَمْنَعَانِ دُخُولَ الْجَنَّةِ مَعَ التَّوْحِيدِ وَهَذَا حَقٌّ لَا مِرْيَةَ فِيهِ, وَلَيْسَ فِيهِ أَنْ لا يعذب عليهما مَعَ التَّوْحِيدِ, وَفِي مُسْنَدِ الْبَزَّارِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- مَرْفُوعًا: "مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ نَفَعَتْهُ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ يُصِيبُهُ قَبْلَ ذَلِكَ مَا أَصَابَهُ"1. الثَّانِي فِيهِ أَنْ يُحَرَّمَ عَلَى النَّارِ, وَقَدْ حَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى الْخُلُودِ فِيهَا أَوْ عَلَى مَا يُخَلَّدُ فِيهَا أَهْلُهَا, وَهِيَ مَا عَدَا الدَّرْكَ الْأَعْلَى مِنَ النَّارِ, فَإِنَّ الدَّرْكَ الْأَعْلَى يَدْخُلُهُ كَثِيرٌ مِنْ عُصَاةِ الْمُوَحِّدِينَ بِذُنُوبِهِمْ ثُمَّ يَخْرُجُونَ بِشَفَاعَةِ الشَّافِعِينَ
وَبِرَحْمَةِ أَرْحَمِ الرَّاحِمِينَ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: "إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَأُخْرِجَنَّ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ" 1 وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ سَبَبٌ لِدُخُولِ الْجَنَّةِ وَالنَّجَاةِ مِنَ النَّارِ مقتضٍ لِذَلِكَ, وَلَكِنَّ المقتضى عمله لَا يَعْمَلُ عَمَلَهُ إِلَّا بِاسْتِجْمَاعِ شُرُوطِهِ وَانْتِفَاءِ مَوَانِعِهِ فَقَدْ يَتَخَلَّفُ عَنْهُ مُقْتَضَاهُ لِفَوَاتِ شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِهِ أَوْ لِوُجُودِ مَانِعٍ, وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ وَوَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ وَهُوَ أَظْهَرُ. وَقَالَ الْحَسَنُ لِلْفَرَزْدَقِ وَهُوَ يَدْفِنُ امْرَأَتَهُ: مَا أَعْدَدْتَ لِهَذَا الْيَوْمِ؟ قَالَ: شَهَادَةَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُنْذُ سَبْعِينَ سَنَةً قَالَ الْحَسَنُ: نِعْمَ العدة, لكن لشهادة أن لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ شُرُوطًا فَإِيَّاكَ وَقَذْفَ الْمُحْصَنَاتِ. وَقِيلَ لِلْحَسَنِ: إِنَّ نَاسًا يَقُولُونَ: مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ فَقَالَ: مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَأَدَّى حَقَّهَا وَفَرْضَهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ. وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ لِمَنْ سَأَلَهُ: أَلَيْسَ مِفْتَاحُ الْجَنَّةِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؟ قَالَ: بَلَى, وَلَكِنْ مَا مِنْ مِفْتَاحٍ إِلَّا لَهُ أَسْنَانٌ, فَإِنْ أَتَيْتَ بِمِفْتَاحٍ لَهُ أَسْنَانٌ فُتِحَ لَكَ وَإِلَّا لَمْ يُفْتَحُ لَكَ2, وَهَذَا الْحَدِيثُ: " إِنَّ مِفْتَاحَ الْجَنَّةِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ" أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ مُنْقَطِعٍ عَنْ مُعَاذٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا سَأَلَكَ أَهْلُ الْيَمَنِ عَنْ مِفْتَاحِ الْجَنَّةِ فَقُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ"3 وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا كَوْنُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَتَّبَ دُخُولَ الْجَنَّةِ عَلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فِي كَثِيرٍ مِنَ النُّصُوصِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ قَالَ: "تَعْبُدُ اللَّهَ لَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ وَتَصِلُ الرَّحِمَ" 4. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ دُلَّنِى عَلَى عَمَلٍ إِذَا عَمِلْتُهُ دَخَلْتُ الْجَنَّةَ قَالَ: "تَعْبُدُ اللَّهَ لَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ وَتُؤَدِّي الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ وَتَصُومُ رَمَضَانَ" فَقَالَ الرَّجُلُ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا أَزِيدُ على هذا شيئا وَلَا أَنْقُصُ مِنْهُ, فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ سره أن ينطر إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا" 1. وَفِي الْمُسْنَدِ عَنْ بَشِيرِ بْنِ الْخَصَاصِيَّةِ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُبَايِعَهُ فَاشْتَرَطَ عَلَيَّ شَهَادَةَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَأَنْ أُقِيمَ الصلاة وأن أؤتي الزَّكَاةَ وَأَحُجَّ حُجَّةَ الْإِسْلَامِ وَأَنْ أَصُومَ رَمَضَانَ وَأَنْ أُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمَّا اثْنَتَيْنِ فَوَاللَّهِ مَا أُطِيقُهُمَا: الْجِهَادُ وَالصَّدَقَةُ. فَقَبَضَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَدَهُ ثُمَّ حَرَّكَهَا وَقَالَ: "فَلَا جِهَادَ وَلَا صَدَقَةَ فَبِمَ تدخل الجنة إذن"؟! قُلْتُ: أُبَايِعُكَ فَبَايَعْتُهُ عَلَيْهِنَّ كُلِّهِنَّ2. فَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْجِهَادَ وَالصَّدَقَةَ شَرْطٌ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ مَعَ حُصُولِ التَّوْحِيدِ وَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ, وَنَظِيرُ هَذَا أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" فَفَهِمَ عُمَرُ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّ مَنْ أَتَى الشَّهَادَتَيْنِ امْتَنَعَ مِنْ عُقُوبَةِ الدُّنْيَا بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ, فَتَوَقَّفُوا فِي قِتَالِ مَانِعِي الزَّكَاةِ. وَفَهِمَ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ قِتَالُهُ إِلَّا بِأَدَاءِ حُقُوقِهَا؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ مَنَعُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا, وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ" وَقَالَ: الزَّكَاةُ حَقُّ الْمَالِ. وَهَذَا الَّذِي فَهِمَهُ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَدْ رَوَاهُ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صَرِيحًا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ؛ مِنْهُمُ ابْنُ عُمَرَ وَأَنَسٌ وَغَيْرُهُمَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ, وَأَنَّهُ قَالَ: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ
وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ"1. وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ} [التَّوْبَةِ: 5] الْآيَةَ وَلَا تَثْبُتُ إِلَّا بِأَدَاءِ الْفَرَائِضِ مَعَ التَّوْحِيدِ, وَلَمَّا قَرَّرَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- هَذَا لِلصَّحَابَةِ رَجَعُوا إِلَى قَوْلِهِ وَرَأَوْهُ صَوَابًا, فَإِذَا عُلِمَ أَنَّ عُقُوبَةَ الدُّنْيَا لَا تَرْتَفِعُ عَمَّنْ أَدَّى الشَّهَادَتَيْنِ مُطْلَقًا بَلْ يُعَاقَبُ بِإِخْلَالِهِ بِحَقٍّ مِنْ حُقُوقِ الْإِسْلَامِ, فَكَذَلِكَ عُقُوبَةُ الْآخِرَةِ. وَقَدْ ذَهَبَ طَائِفَةٌ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ الْمَذْكُورَةَ أَوَّلًا وَمَا فِي مَعْنَاهَا كَانَتْ قَبْلَ نُزُولِ الْفَرَائِضِ وَالْحُدُودِ, مِنْهُمُ الزُّهْرِيُّ وَالثَّوْرِىُّ وَغَيْرُهُمَا, وَهَذَا بَعِيدٌ جِدًّا فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْهَا كَانَتْ بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ نُزُولِ الْفَرَائِضِ وَالْحُدُودِ وَفِي بَعْضِهَا أَنَّهُ كَانَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَهِيَ فِي آخِرِ حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وَهَؤُلَاءِ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هَذِهِ الْأَحَادِيثُ مَنْسُوخَةٌ, وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هِيَ مُحْكَمَةٌ وَلَكِنْ ضُمَّ إِلَيْهَا شَرَائِطُ, وَيَلْتَفِتُ هَذَا إِلَى أَنَّ زِيَادَةَ النَّصِّ هَلْ هِيَ نَسْخٌ أَمْ لَا؟ وَالْخِلَافُ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْأُصُولِيِّينَ مَشْهُورٌ وَقَدْ صَرَّحَ الثَّوْرِيُّ بِأَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ وَأَنَّهُ نَسَخَتْهَا الْفَرَائِضُ وَالْحُدُودُ. وَقَدْ يَكُونُ مُرَادُهُمْ بِالنَّسْخِ الْبَيَانَ وَالْإِيضَاحَ, فَإِنَّ السَّلَفَ كَانُوا يُطْلِقُونَ النَّسْخَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرًا وَيَكُونُ مرادهم أن آيات الْفَرَائِضِ وَالْحُدُودِ تُبَيِّنُ تَوَقُّفَ دُخُولِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَالنَّجَاةِ مِنَ النَّارِ عَلَى فِعْلِ الْفَرَائِضِ وَاجْتِنَابِ الْمَحَارِمِ فَصَارَتِ النُّصُوصُ مَنْسُوخَةً أَيْ: مُبَيَّنَةً مُفَسَّرَةً, وَنُصُوصُ الْحُدُودِ وَالْفَرَائِضِ نَاسِخَةً أَيْ: مُفَسِّرَةً لِمَعْنَى تِلْكَ النُّصُوصِ مُوَضِّحَةً لَهَا. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: تِلْكَ النُّصُوصُ الْمُطْلَقَةُ قَدْ جَاءَتْ مُقَيَّدَةً فِي أَحَادِيثَ أُخَرَ فَفِي بَعْضِهَا: "مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُخْلِصًا دَخَلَ الْجَنَّةَ" 2, وَفِي بَعْضِهَا "مُسْتَيْقِنًا" 3, وَفِي بَعْضِهَا: "مُصَدِّقًا بِهَا قَلْبُهُ لِسَانَهُ" 4, وَفِي بَعْضِهَا: "يَقُولُهَا مِنْ
قَلْبِهِ" 1, وَفِي بَعْضِهَا: "قَدْ ذَلَّ بِهَا لِسَانُهُ وَاطْمَأَنَّ بِهَا قَلْبُهُ"2. وَهَذَا كُلُّهُ إِشَارَةٌ إِلَى عَمَلِ الْقَلْبِ وَتَحَقُّقِهِ بِمَعْنَى الشَّهَادَتَيْنِ, فَتَحَقُّقُهُ بِمَعْنَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ: أَنْ لَا يَأْلَهَ قَلْبُهُ غَيْرَ اللَّهِ حُبًّا وَرَجَاءً وَخَوْفًا وَطَمَعًا وَتَوَكُّلًا وَاسْتِعَانَةً وَخُضُوعًا وَإِنَابَةً وَطَلَبًا, وَتَحَقُّقُهُ بِشَهَادَةِ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ لَا يُعْبَدَ بِغَيْرِ مَا شَرَعَهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهَذَا الْمَعْنَى جَاءَ مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُخْلِصًا دَخَلَ الْجَنَّةَ" قِيلَ: مَا إِخْلَاصُهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "أَنْ تَحْجِزَكَ عَمَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْكَ" وَهَذَا يُرْوَى مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ3، وَلَكِنَّ إِسْنَادَهُمَا لَا يَصِحُّ, وَجَاءَ أَيْضًا مِنْ مَرَاسِيلِ الْحَسَنِ نَحْوُهُ وَتَحْقِيقُ هَذَا الْمَعْنَى وَإِيضَاحُهُ أَنَّ قَوْلَ الْعَبْدِ: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ" يَقْتَضِي أَنْ لَا إِلَهَ غَيْرُ اللَّهِ وَالْإِلَهُ الَّذِي يُطَاعُ وَلَا يُعْصَى هَيْبَةً وَإِجْلَالًا وَمَحَبَّةً وَخَوْفًا وَرَجَاءً وَتَوَكُّلًا عَلَيْهِ وَسُؤَالًا مِنْهُ وَدُعَاءً لَهُ, وَلَا يَصْلُحُ ذَلِكَ كُلُّهُ لِغَيْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ, فَمَنْ أَشْرَكَ مَخْلُوقًا فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي هِيَ مِنْ خَصَائِصِ الْإِلَهِيَّةِ كَانَ ذَلِكَ قَدْحًا فِي إِخْلَاصِهِ فِي قَوْلِهِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَنَقْصًا فِي تَوْحِيدِهِ, وَكَانَ فِيهِ مِنْ عُبُودِيَّةِ الْمَخْلُوقِ بِحَسَبِ مَا فِيهِ مِنْ ذَلِكَ وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ فُرُوعِ الشِّرْكِ؛ وَلِهَذَا وَرَدَ إِطْلَاقُ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ المعاصي التي منشؤها مِنْ طَاعَةِ غَيْرِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- أَوْ خَوْفِهِ أَوْ رَجَائِهِ أَوِ التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ أَوِ الْعَمَلِ, كَمَا وَرَدَ إِطْلَاقُ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ عَلَى الرِّبَا وَعَلَى الْحَلِفِ بِغَيْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَعَلَى التَّوَكُّلِ عَلَى غَيْرِ اللَّهِ وَالِاعْتِمَادِ عَلَيْهِ وَعَلَى مَنْ سَوَّى بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ الْمَخْلُوقِ فِي الْمَشِيئَةِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: مَا شَاءَ اللَّهُ وشاء فُلَانٌ, وَكَذَا قَوْلُهُ: مَا لِي إِلَّا اللَّهُ وَأَنْتَ, وَكَذَلِكَ مَا يَقْدَحُ فِي التَّوْحِيدِ وَتَفَرُّدِ اللَّهِ بِالنَّفْعِ وَالضُّرِّ كَالطِّيَرَةِ وَالرُّقَى الْمَكْرُوهَةِ وَإِتْيَانِ الْكُهَّانِ وَتَصْدِيقِهِمْ بِمَا يَقُولُونَ.
كَذَلِكَ اتِّبَاعُ هَوَى النَّفْسِ فِيمَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ قَادِحٌ فِي تَمَامِ التَّوْحِيدِ وَكَمَالِهِ؛ وَلِهَذَا أَطْلَقَ الشَّرْعُ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الذنوب التي منشؤها مِنْ هَوَى النَّفْسِ أَنَّهَا كُفْرٌ وَشِرْكٌ كَقِتَالِ الْمُسْلِمِ وَمَنْ أَتَى حَائِضًا أَوِ امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا وَمَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الْمَرَّةِ الرَّابِعَةِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَا يُخْرِجُهُ مِنَ الْمِلَّةِ بِالْكُلِّيَّةِ؛ وَلِهَذَا قَالَ السَّلَفُ: كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ وَشِرْكٌ دُونَ شِرْكٍ, وَقَدْ وَرَدَ إِطْلَاقُ الْإِلَهِ عَلَى الْهَوَى الْمُتَّبَعِ قَالَ تَعَالَى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الْفَرْقَانِ: 43] قَالَ الْحَسَنُ رَحِمَهُ اللَّهُ: هُوَ الَّذِي لَا يَهْوَى شَيْئًا إِلَّا رَكِبَهُ1، وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ الَّذِي كُلَّمَا هَوَى شَيْئًا رَكِبَهَ, وَكُلَّمَا اشْتَهَى شَيْئًا أَتَاهُ لَا يَحْجِزُهُ عَنْ ذَلِكَ وَرَعٌ2. وَرُوِيَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ: "مَا تَحْتَ ظِلِّ السَّمَاءِ إِلَهٌ يُعْبَدُ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ هَوًى مُتَّبَعٍ"3، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: "لَا تَزَالُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تَدْفَعُ عَنْ أَصْحَابِهَا حَتَّى يُؤْثِرُوا دُنْيَاهُمْ عَلَى دِينِهِمْ, فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ رُدَّتْ عَلَيْهِمْ وَيُقَالُ لَهُمْ: كَذَبْتُمْ"4. وَيَشْهَدُ لِهَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ, تَعِسَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ, تَعِسَ عَبْدُ الْقَطِيفَةِ, تَعِسَ عَبْدُ الْخَمِيصَةِ, تَعِسَ وَانْتَكَسَ, وَإِذَا شِيكَ فَلَا انْتَقَشَ" 5, فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ مَنْ أَحَبَّ شَيْئًا وَأَطَاعَهُ وَكَانَ مِنْ غَايَةِ قَصْدِهِ وَمَطْلُوبِهِ وَوَالَى لِأَجْلِهِ وَعَادَى لِأَجْلِهِ, فَهُوَ عَبْدُهُ وَكَانَ ذَلِكَ الشَّيْءُ مَعْبُودَهُ وَإِلَهَهُ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى طَاعَةَ الشَّيْطَانِ فِي مَعْصِيَتِهِ عِبَادَةً لِلشَّيْطَانِ, كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يس: 60] . وَقَالَ تَعَالَى حَاكِيًا عَنْ خَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِأَبِيهِ: {يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا} [مَرْيَمَ: 44] فَمَنْ لَمْ يَتَحَقَّقْ بِعُبُودِيَّةِ الرَّحْمَنِ وَطَاعَتِهِ فَإِنَّهُ يَعْبُدُ الشَّيْطَانَ بِطَاعَتِهِ, وَلَمْ يَخْلُصْ مِنْ عِبَادَةِ الشَّيْطَانِ إِلَّا مَنْ أَخْلَصَ عُبُودِيَّةَ
تعريف العبادة وذكر أنواعها وأن صرف شيء منها لغير الله شرك
الرَّحْمَنِ وَهُمُ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الْحِجْرِ: 42] فَهُمُ الَّذِينَ حَقَّقُوا قَوْلَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَخْلَصُوا فِي قَوْلِهَا وَصَدَّقُوا قَوْلَهُمْ بِفِعْلِهِمْ فَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى غَيْرِ اللَّهِ مَحَبَّةً وَرَجَاءً وَخَشْيَةً وَطَاعَةً وَتَوَكُّلًا, وَهُمُ الَّذِينَ صَدَقُوا فِي قَوْلِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَهُمْ عِبَادُ اللَّهِ حَقًّا. فَأَمَّا مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ بِلِسَانِهِ ثُمَّ أَطَاعَ الشَّيْطَانَ وَهَوَاهُ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَمُخَالَفَتِهِ فَقَدْ كَذَّبَ قَوْلَهُ فِعْلُهُ, وَنَقَصَ مِنْ كَمَالِ تَوْحِيدِهِ بِقَدْرِ مَعْصِيَةِ اللَّهِ فِي طَاعَةِ الشَّيْطَانِ وَالْهَوَى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} [الْقَصَصِ: 50] , {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26] ثُمَّ قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَيَا هَذَا كُنْ عَبْدًا لِلَّهِ لَا عَبْدًا لِلْهَوَى, فَإِنَّ الْهَوَى يَهْوِي بِصَاحِبِهِ فِي النَّارِ: {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يُوسُفَ: 39] , "تَعِسَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ, تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ" وَاللَّهِ لا ينجو غدًا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ حَقَّقَ عُبُودِيَّةَ اللَّهِ وَحْدَهُ وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى شَيْءٍ مِنَ الْأَغْيَارِ, مَنْ عَلِمَ أَنَّ إِلَهَهُ وَمَعْبُودَهُ فَرْدٌ فَلْيُفْرِدْهُ بِالْعُبُودِيَّةِ وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا1. انْتَهَى كَلَامُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. [[الفصل الثالث في تعريف العبادة وذكر بعض أنواعها وأن من صرف منها شيئا لغير الله فقد أشرك]] فَصْلٌ فِي تَعْرِيفِ الْعِبَادَةِ وَذِكْرِ بَعْضِ أَنْوَاعِهَا وَأَنَّ مَنْ صَرَفَ مِنْهَا شَيْئًا لِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ: قَدْ عَرَفْتَ مِمَّا قَدَّمْنَا فِي مَعْنَى لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَنَّ الْإِلَهَ هُوَ الْمَأْلُوهُ الَّذِي تَأْلَهُهُ الْقُلُوبُ أَيْ: تَعْبُدُهُ مَحَبَّةً وَتَذَلُّلًا وَخَوْفًا وَرَجَاءً وَرَغَبًا وَرَهَبًا وَتَوَكُّلًا عَلَيْهِ وَاطِّرَاحًا بَيْنَ يَدَيْهِ وَاسْتِعَانَةً بِهِ وَالْتِجَاءً إِلَيْهِ وَافْتِقَارًا إِلَيْهِ. وَذَلِكَ لَا يَنْبَغِي إِلَّا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ خَالِقِ كُلِّ شَيْءٍ وَمُصَوِّرِهِ وَمُصَرِّفِهِ وَمُدَبِّرِهِ, مُبْدِى الْخَلْقِ وَمُعِيدِهِ, وَمُحْيِيهِ وَمُبِيدِهِ, الْفَعَّالِ لِمَا يُرِيدُ, الَّذِي هُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ, الَّذِي لَا ملجأ ولا منجى مِنْهُ إِلَّا إِلَيْهِ, وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا
يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ، إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ، وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} . وَالْعَبْدُ إِنْ أُرِيدَ بِهِ الْمُعَبَّدُ أَيِ: الْمُذَلَّلُ الْمُسَخَّرُ, دَخَلَ فِيهِ جَمِيعُ الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ جَمِيعِ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ مِنْ عَاقِلٍ وَغَيْرِهِ وَمِنْ رَطْبٍ وَيَابِسٍ وَمُتَحَرِّكٍ وَسَاكِنٍ وَظَاهِرٍ وَكَامِنٍ وَمُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ وَبَرٍّ وَفَاجِرٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ, الْكُلُّ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- مُسَخَّرٌ بِتَسْخِيرِهِ مُدَبَّرٌ بِتَدْبِيرِهِ, وَلِكُلٍّ مِنْهَا رَسْمٌ يَقِفُ عَلَيْهِ وَحَدٌّ يَنْتَهِي إِلَيْهِ: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} [يس: 40] كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى لَا يَتَجَاوَزُهُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ, ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَلِيمِ وَتَدْبِيرُ الْعَدْلِ الْحَكِيمِ. وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الْعَابِدُ خُصَّ ذَلِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ الْمُشْرِكِينَ يَعْبُدُونَ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- وَيَتَقَرَّبُونَ إِلَيْهِ بِكَثِيرٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ, لَكِنْ لَمَّا عَبَدُوا مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ وَأَشْرَكُوهُ مَعَهُ فِي إِلَهِيَّتِهِ كَانَتْ أَعْمَالُهُمْ هَبَاءً مَنْثُورًا: {كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ} [إِبْرَاهِيمَ: 18] وَ {كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا} [الْبَقَرَةِ: 264] وَ {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} [النُّورِ: 39] , {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النُّورٍ: 40] . ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ {اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} وَ {اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [مُحَمَّدٍ: 28] وَتَوَلَّوُا الطَّاغُوتَ فَأَخْرَجُوهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ, وَعَبَدُوا الشَّيْطَانَ وَقَدْ عَهِدَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ أَنْ لَا يَعْبُدُوهُ وَبَيَّنَ لَهُمْ عَدَاوَتَهُ وَقَالَ: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فَاطِرٍ: 6] وَقَالَ: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الْكَهْفِ: 50] فَخَالَفُوا أَمْرَ اللَّهِ وَتَوَلَّوْا أَعْدَاءَهُ وَكَذَّبُوا رُسُلَهُ وَأَنْبِيَاءَهُ وَحَارَبُوا حِزْبَهُ وَأَوْلِيَاءَهُ, وَأَرَادُوا تَشْيِيدَ الْكُفْرِ وَإِعْلَاءَهُ وَرَدَّ الْحَقِّ وَإِبَاءَهُ؛ فَأَبَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَيُظْهِرَ دِينَهُ وَيُعْلِيَ كَلِمَتَهُ وَيَنْصُرَ أَوْلِيَاءَهُ وَيُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ, وَيَجْعَلَ حِزْبَهُ -هُمُ- الْغَالِبِينَ وَيَجْعَلَ
الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ وَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ, لَكِنِ الْمُؤْمِنُونَ هُمْ عِبَادُهُ حَقًّا الَّذِينَ أَفْرَدُوهُ بِإِلَهِيَّتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَلَمْ يُشَبِّهُوهُ بِشَيْءٍ مِنْ خَلْقِهِ, ولم يسووا شيئا مَنْ خَلَقَهُ بِهِ, أُولَئِكَ الَّذِينَ تُضَاعَفُ لَهُمُ الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْأُولَى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الْأَنْعَامِ: 160] وَقَالَ فِي الثَّانِيَةِ: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [الْبَقَرَةِ: 261] وَقَالَ فِي الثَّالِثَةِ: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الْبَقَرَةِ: 245] تَوَلَّوُا اللَّهَ فَأَخْرَجَهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ, أَخْرَجَهُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ إِلَى نُورِ الْإِيمَانِ وَمِنْ ظُلُمَاتِ الضَّلَالِ إِلَى نُورِ الْهُدَى وَمِنْ ظُلُمَاتِ الْجَهْلِ إِلَى نُورِ الْعِلْمِ وَمِنْ ظُلُمَاتِ الْغَيِّ إِلَى نُورِ الرَّشَادِ: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [الْمَائِدَةِ: 56] مَلَأَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِنُورِ مَعْرِفَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَالشَّوْقِ إِلَى لِقَائِهِ, فَلَمْ تَتَّسِعُ لِغَيْرِهِ, دَنَا الشَّيْطَانُ مِنْ قُلُوبِهِمْ فَاحْتَرَقَ بِنُورِ إِيمَانِهِمْ فَنَكَصَ عَلَى عَقِبِهِ خَاسِئًا حَسِيرًا, وَأَيِسَ مِنْهُمْ أَنْ يُطِيعُوهُ فَانْقَلَبَ مَذْمُومًا مَدْحُورًا. فَعِنْدَ ذَلِكَ عَزَّى نَفْسَهُ اللَّعِينُ وَقَالَ: {إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الْحِجْرِ: 40] وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الْحِجْرِ: 42] حَفِظُوا اللَّهَ فَحَفِظَهُمْ وَصَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَنْكُثُوا أَيْمَانَهُمْ, تَعَرَّفُوا إِلَى اللَّهِ فِي الرَّخَاءِ بِالْعِبَادَةِ فَعَرَفَهُمْ فِي الشِّدَّةِ بِالْفَرَجِ, صدقوا رُسُلَهُ وَآمَنُوا بِكِتَابِهِ وَانْقَادُوا لِأَمْرِهِ وَانْكَفُّوا عَمَّا نَهَى عَنْهُ, ثُمَّ تَجَرَّدُوا لِنُصْرَةِ دِينِهِ وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِهِ وَدَخَلَ النَّاسُ بِذَلِكَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا طَوْعًا وَكَرْهًا, وَقَادُوهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ بِالسَّلَاسِلِ. نَصَرُوا اللَّهَ فَنَصَرَهُمْ وَشَكَرُوهُ فَشَكَرَهُمْ وَذَكَرُوهُ فَذَكَرَهُمْ. عَرَفُوا مَا خُلِقُوا لَهُ فَأَقْبَلُوا عَلَيْهِ وَرَأَوْا مَا سِوَاهُ مِمَّا لَا يَعْنِيهِمْ فَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهِ, وَآثَرُوا مَا يَبْقَى على ما ينفى وَتَعَلَّقَتْ أَرْوَاحُهُمْ بِالرَّفِيقِ الْأَعْلَى, أُولَئِكَ هُمْ خَاصَّةُ اللَّهِ مِنْ خَلْقِهِ وَالْمُصْطَفَوْنَ مِنْ عِبَادِهِ, أُولَئِكَ هُمْ أَوْلِيَاؤُهُ الْمُتَّقُونَ وَحِزْبُهُ الْغَالِبُونَ الَّذِينَ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ؛ لِيُوَفِّيَهُمْ
العبادة اسم جامع لكل ما يرضي الله
أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مَنْ فَضْلِهِ, إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ. ثُمَّ الْعِبَادَةُ هِيَ اسْمٌ جَامِعُ ... لِكُلِّ مَا يَرْضَى الْإِلَهُ السَّامِعُ "ثُمَّ الْعِبَادَةُ" الَّتِي خَلَقَ اللَّهُ لَهَا الْخَلْقَ, وَأَخَذَ بِهَا عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقَ, أرسل بِهَا رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ كُتُبَهُ, وَلِأَجْلِهَا خُلِقَتِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ وَالْجَنَّةُ وَالنَّارُ "هِيَ اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مَا" يُحِبُّ وَ"يَرْضَى" مَبْنِيٌّ لِلْمَعْرُوفِ فَاعِلُهُ "الْإِلَهُ السَّامِعُ" وَهُوَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ, فَالظَّاهِرَةُ كَالتَّلَفُّظِ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ وَإِغَاثَةِ الْمَلْهُوفِ وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ وَتَعْلِيمِ النَّاسِ الْخَيْرَ وَالدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَغَيْرِ ذَلِكَ, وَالْبَاطِنَةُ كَالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ وَخَشْيَةِ اللَّهِ وَخَوْفِهِ وَرَجَائِهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ إِلَيْهِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِ, وَالْحُبِّ وَالْبُغْضِ فِي اللَّهِ وَالْمُوَالَاةِ وَالْمُعَادَاةِ فِيهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهَا لَا تُقْبَلُ الْأَعْمَالُ الظَّاهِرَةُ مَا لَمْ يُسَاعِدْهَا عَمَلُ الْقَلْبِ, وَمَنَاطُ الْعِبَادَةِ هِيَ غَايَةُ الْحُبِّ مَعَ غَايَةِ الذُّلِّ وَلَا تَنْفَعُ عِبَادَةٌ بِوَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ دُونَ الْآخَرِ؛ وَلِذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنَ السَّلَفِ: مَنْ عَبَدَ اللَّهَ بِالْحُبِّ وَحْدَهُ فَهُوَ زِنْدِيقٌ, وَمَنْ عَبَدَهُ بِالرَّجَاءِ وَحْدَهُ فَهُوَ مُرْجِئٌ, وَمَنْ عَبَدَهُ بِالْخَوْفِ وَحْدَهُ فَهُوَ حَرُورِيُّ, وَمَنْ عَبَدَهُ بِالْحُبِّ وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ فَهُوَ مؤمن موحد. ا. هـ.1. قُلْتُ: وَبَيَانُ كَلَامِهِمْ هَذَا أَنَّ دَعْوَى الْحُبِّ لِلَّهِ بِلَا تَذَلُّلٍ وَلَا خَوْفٍ وَلَا رَجَاءٍ وَلَا خَشْيَةٍ وَلَا رَهْبَةٍ وَلَا خُضُوعٍ دَعْوَى كَاذِبَةٌ؛ وَلِذَا تَرَى مَنْ يَدَّعِي ذَلِكَ كَثِيرًا مَا يَقَعُ فِي مَعَاصِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَيَرْتَكِبُهَا وَلَا يُبَالِي, وَيَحْتَجُّ فِي ذَلِكَ بِالْإِرَادَةِ الْكَوْنِيَّةِ وَأَنَّهُ مُطِيعٌ لَهَا, وَهَذَا شَأْنُ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَالُوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا} [الْأَنْعَامِ: 148] وَقَالُوا: {لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ} [الزُّخْرُفِ: 20] وَغَيْرِ ذَلِكَ, وَإِمَامُهُمْ فِي ذَلِكَ الِاحْتِجَاجِ هُوَ إِبْلِيسُ إِذْ قَالَ: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} [الْأَعْرَافِ: 16] وَإِنَّمَا الْمَحَبَّةُ نَفْسُ وِفَاقِ الْعَبْدِ رَبَّهُ: فَيُحِبُّ
مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ وَيُبْغِضُ مَا يَكْرَهُهُ وَيَأْبَاهُ, وَإِنَّمَا تَتَلَقَّى مَعْرِفَةُ مَحَابِّ اللَّهِ وَمَعَاصِيهِ مِنْ طَرِيقِ الشَّرْعِ, وَإِنَّمَا تَحْصُلُ بِمُتَابَعَةِ الشَّارِعِ؛ وَلِذَا قَالَ الْحَسَنُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: ادَّعَى قَوْمٌ مُحِبَّةَ اللَّهِ فَابْتَلَاهُمُ اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آلِ عِمْرَانَ: 31] فَمَنِ ادَّعَى مَحَبَّةَ اللَّهِ وَلَمْ يَكُ مُتَّبِعًا رَسُولَهُ فَهُوَ كَاذِبٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ يَمْشِي عَلَى الْمَاءِ أَوْ يَطِيرُ فِي الْهَوَاءِ فَلَا تُصَدِّقُوهُ حَتَّى تَعْلَمُوا مُتَابَعَتَهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ1. وَكَذَلِكَ الرَّجَاءُ وَحْدَهُ إِذَا اسْتَرْسَلَ فِيهِ الْعَبْدُ تَجَرَّأَ عَلَى مَعَاصِي اللَّهِ وَأَمِنَ مَكْرَ اللَّهِ, وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الْأَعْرَافِ: 99] . وَكَذَلِكَ الْخَوْفُ وَحْدَهُ إِذَا اسْتَرْسَلَ فِيهِ الْعَبْدُ سَاءَ ظَنُّهُ بِرَبِّهِ وَقَنَطَ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَئِسَ مِنْ رَوْحِهِ, وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يُوسُفَ: 87] وَقَالَ: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الْحِجْرِ: 56] . فَالْأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ خُسْرَانٌ وَالْيَأْسُ مِنْ رَوْحِهِ كُفْرَانٌ وَالْقُنُوطُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ضَلَالٌ وَطُغْيَانٌ وَعِبَادَةُ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- بِالْحُبِّ وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ وتوحيد وَإِيمَانٌ. فَالْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ بَيْنَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسرء: 57] وَقَالَ تَعَالَى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزُّمَرِ: 9] وَبَيَّنَ الرَّغْبَةَ وَالرَّهْبَةَ كَمَا قَالَ تَعَالَى في آل زكريا عَلَيْهِمُ السَّلَامُ: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 9] فَتَارَةً يَمُدُّهُ الرَّجَاءُ وَالرَّغْبَةُ فَيَكَادُ أَنْ يَطِيرَ شَوْقًا إِلَى اللَّهِ, وَطَوْرًا يَقْبِضُهُ الْخَوْفُ وَالرَّهْبَةُ فَيَكَادُ أَنْ يَذُوبَ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى, فَهُوَ دَائِبٌ فِي طَلَبِ مَرْضَاةِ رَبِّهِ مُقْبِلٌ عَلَيْهِ, خَائِفٌ مِنْ عُقُوبَاتِهِ مُلْتَجِئٌ مِنْهُ إِلَيْهِ, عَائِذٌ بِهِ مِنْهُ رَاغِبٌ فِيمَا لَدَيْهِ, وَكَذَلِكَ هُوَ فِي صِفَاتِ اللَّهِ عَزَّ وجل, لا نافي ولا مُشَبِّهٌ, وَفِي أَفْعَالِ الْعِبَادِ لَا جَبْرِيٌّ وَلَا قَدَرِيٌّ, وَفِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَهْلِ بَيْتِهِ لَيْسَ بِذِي النَّصْبِ وَلَا التَّشَيُّعِ, وَفِي الْوَعْدِ الوعيد لَيْسَ بِخَارِجِيٍّ وَلَا مُرْجِئٍ. فَدِينُ اللَّهِ بَيْنَ الْغُلُوِّ وَالْجَفَاءِ وَالتَّفْرِيطِ وَالْإِفْرَاطِ, وَخَيْرُ الْأُمُورِ
الْأَوْسَاطُ. وَلِلْعِبَادَةِ رُكْنَانِ لَا قِوَامَ لَهَا إِلَّا بِهِمَا وَهُمَا: الْإِخْلَاصُ وَالصِّدْقُ. وَحَقِيقَةُ الْإِخْلَاصِ أَنْ يَكُونَ قَصْدُ الْعَبْدِ جه اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَالدَّارَ الْآخِرَةَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى، الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى، وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى، إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى، وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [اللَّيْلِ: 17-21] وَقَالَ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا، وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الْإِسْرَاءِ: 18-19] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ} [آلِ عِمْرَانَ: 145] وَقَالَ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشُّورَى: 20] وَقَالَ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ، أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هُودٍ: 16] وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ، وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الْبَقَرَةِ: 264، 265] . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ, وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى؛ فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ, وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ" 1. وَفِي صَحِيحِ
مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى أَجْسَامِكُمْ وَلَا إِلَى صُوَرِكُمْ, وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ" 1. وَعَنْ أَبِي مُوسَى -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الرَّجُلِ يُقَاتِلُ شُجَاعَةً وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً وَيُقَاتِلُ رِيَاءً, أَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا, فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ2. وَلَوْ ذَهَبْنَا نَذْكُرُ أَحَادِيثَ الْإِخْلَاصِ لَطَالَ الْفَصْلُ. وَأَمَّا الصِّدْقُ فَهُوَ بَذْلُ الْعَبْدِ جُهْدَهُ فِي امْتِثَالِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَاجْتِنَابِ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ, وَالِاسْتِعْدَادُ لِلِقَاءِ اللَّهِ, وَتَرْكُ الْعَجْزِ وَتَرْكُ التَّكَاسُلِ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ, وَإِمْسَاكُ النَّفْسِ بِلِجَامِ التَّقْوَى عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ, وَطَرْدُ الشَّيْطَانِ عَنْهُ بِالْمُدَاوَمَةِ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ, وَالِاسْتِقَامَةُ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ مَا اسْتَطَاعَ, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التَّوْبَةِ: 119] وَقَالَ تَعَالَى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الْأَحْزَابِ: 23] الْآيَةَ, وَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) - إِلَى قَوْلِهِ - (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ) [الْعَنْكَبُوتِ: 1-11] وَقَالَ تَعَالَى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا} [الْبَقَرَةِ: 214] الْآيَةَ, وَقَالَ تَعَالَى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} إِلَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا
لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آلِ عِمْرَانَ: 142-146] إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ, وَقَالَ تَعَالَى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [الْبَقَرَةِ: 177] . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ, وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ. احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ, وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجَزْ, وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ: لَوْ أَنَّى فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا, وَلَكِنْ قُلْ: قَدَّرَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ, فَإِنَّ "لَوْ" تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ" 1, وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: "الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ, وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ"2. وَإِذَا اجْتَمَعَتِ النِّيَّةُ الصَّالِحَةُ وَالْعَزِيمَةُ الصَّادِقَةُ فِي هَذَا الْعَبْدِ قَامَ بِعِبَادَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ ذَلِكَ إِلَّا بِمُتَابَعَتِهِ الرَّسُولَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَيَعْبُدُ اللَّهَ تَعَالَى بِوَفْقِ مَا شَرَعَ, وَهُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ أَحَدٍ سِوَاهُ, كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آلِ عِمْرَانَ: 85] وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ, فَهُوَ رَدٌّ" 3, وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: "مَنْ
الدعاء هو العبادة
عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمَرُنَا, فَهُوَ رَدٌّ" 1. فَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ الْأَرْكَانِ شُرُوطٌ فِي الْعِبَادَةِ لَا قِوَامَ لَهَا إِلَّا بِهَا؛ فَالْعَزِيمَةُ الصَّادِقَةُ شَرْطٌ فِي صُدُورِهَا, وَالنِّيَّةُ الْخَالِصَةُ, وَمُوَافَقَةُ السُّنَّةِ شَرْطٌ فِي قَبُولِهَا, فَلَا تَكُونُ عِبَادَةً مَقْبُولَةً إِلَّا بِاجْتِمَاعِهَا, فَإِخْلَاصُ النِّيَّةِ بِدُونِ صِدْقِ الْعَزِيمَةِ هَوَسٌ وَتَطْوِيلُ أَمَلٍ وَتَمَنٍّ عَلَى اللَّهِ وَتَسْوِيفٌ فِي الْعَمَلِ وَتَفْرِيطٌ فِيهِ, وَصِدْقُ الْعَزِيمَةِ بِدُونِ إِخْلَاصٍ فِيهِ يَكُونُ شِرْكًا أَكْبَرَ أَوْ أَصْغَرَ بِحَسَبِ مَا نَقَصَ مِنَ الْإِخْلَاصِ. فَإِنْ كَانَ الْبَاعِثُ عَلَى الْعَمَلِ مِنْ أَصْلِهِ هُوَ إِرَادَةَ غَيْرِ اللَّهِ فَنِفَاقٌ, وَإِنْ كَانَ دَخَلَ الرِّيَاءُ فِي تَزْيِينِ الْعَمَلِ وَكَانَ الْبَاعِثُ عَلَيْهِ أَوَّلًا إِرَادَةَ اللَّهِ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ كَانَ شِرْكًا أَصْغَرَ بِحَسَبِهِ حَتَّى إِذَا غَلَبَ عَلَيْهِ الْتَحَقَ بِالْأَكْبَرِ. وَإِخْلَاصُ النِّيَّةِ مَعَ صِدْقِ الْعَزِيمَةِ إِنْ لَمْ يَكُنِ الْعَمَلُ عَلَى وَفْقِ السُّنَّةِ كَانَ بِدْعَةً وَحَدَثًا فِي الدِّينِ وَشَرْعَ مَا لَمْ يَأْذَنِ اللَّهُ بِهِ, فَيَكُونُ رَدًّا عَلَى صَاحِبِهِ وَوَبَالًا عَلَيْهِ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ, فَلَا يَصْدُرُ الْعَمَلُ مِنَ الْعَبْدِ إِلَّا بِصِدْقِ الْعَزِيمَةِ وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ ذَلِكَ إِلَّا بِإِخْلَاصِ النِّيَّةِ وَإِتْبَاعِ السُّنَّةِ؛ وَلِذَا قَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الْمُلْكِ: 2] قَالَ: أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ2, يَعْنِي: خَالِصًا مِنْ شَوَائِبِ الشِّرْكِ, مُوَافِقًا لِلسُّنَّةِ. وَفِي الْحَدِيثِ مُخُّهَا الدُّعَاءُ ... خَوْفٌ تَوَكُّلٌ كَذَا الرَّجَاءُ وَرَغْبَةٌ وَرَهْبَةٌ خُشُوعُ ... وَخَشْيَةٌ إِنَابَةٌ خُضُوعُ وَالِاسْتِعَاذَةُ وَالِاسْتِعَانَهْ ... كَذَا اسْتِغَاثَةٌ بِهِ سُبْحَانَهْ وَالذَّبْحُ وَالنَّذْرُ وَغَيْرُ ذَلِكْ ... فَافْهَمْ هُدِيتَ أَوْضَحَ الْمَسَالِكْ وَصَرْفُ بَعْضِهَا لِغَيْرِ اللَّهِ ... شِرْكٌ وَذَاكَ أَقْبَحُ الْمَنَاهِي "وَ" ثَبَتَ "فِي الْحَدِيثِ" الَّذِي فِي السُّنَنِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ "مُخُّهَا" أَيْ: مُخُّ الْعِبَادَةِ وَلُبُّهَا "الدُّعَاءُ" قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ
من أنواع العبادة الخوف من الله
يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غَافِرٍ: 60] . وَقَالَ تَعَالَى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ، وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الْأَعْرَافِ: 55, 56] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [الْبَقَرَةِ: 186] ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَفِي جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "لَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ مِنَ الدُّعَاءِ" 1, وَفِيهِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "الدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ" وَقَالَ: غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ, لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ لَهِيعَةَ2, وَمَعْنَى "مُخُّ الْعِبَادَةِ" أَيْ: خَالِصُهَا. وَفِيهِ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ" ثُمَّ قَرَأَ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غَافِرٍ: 60] وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ3. وَفِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّهُ مَنْ لَمْ يَسْأَلِ اللَّهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ" 4. وَفِيهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: "إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ" وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ5. "خَوْفٌ" أَيْ: وَمِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ الْخَوْفُ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
{فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آلِ عِمْرَانَ: 175] وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرَّحْمَنِ: 46] وَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الْإِسْرَاءِ: 57] وَقَالَ تبارك اسمه: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزُّمَرِ: 9] الْآيَةَ وَغَيْرَهَا مِنَ الْآيَاتِ. وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا, وَمَا تَلَذَّذْتُمْ بِالنِّسَاءِ عَلَى الْفُرُشَاتِ, وَلَخَرَجْتُمْ إِلَى الصُّعُدَاتِ تَجْأَرُونَ" رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي ذَرٍّ وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ1. وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ أُمِّ الْعَلَاءِ الْأَنْصَارِيَّةِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَاللَّهِ لَا أَدْرِي, وَاللَّهِ لَا أَدْرِي وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ" 2 وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا رَأَيْتُ مِثْلَ النَّارِ نَامَ هَارِبُهَا, وَلَا مِثْلَ الْجَنَّةِ نَامَ طَالِبُهَا" 3 وَفِيهِ عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ خَافَ أَدْلَجَ, وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ الْمَنْزِلَ. أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ غَالِيَةٌ, أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ الْجَنَّةُ"4. وَلَهُ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَقُولُ اللَّهُ جَلَّ ذِكْرُهُ: أَخْرِجُوا مَنْ ذَكَرَنِي يَوْمًا أَوْ خَافَنِي فِي مَقَامِي" 5 وَلَهُ
ومن أنواعها التوكل على الله
هُوَ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَائِشِةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [الْمُؤْمِنُونَ: 60] هُمُ الَّذِينَ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَيَسْرِقُونَ؟ قال: "لا يابنة الصِّدِّيقِ, وَلَكِنَّهُمُ الَّذِينَ يَصُومُونَ وَيُصَلُونَ وَيَتَصَدَّقُونَ وَهُمْ يَخَافُونَ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُمْ: {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} [الْمُؤْمِنُونَ: 61] "1. وَفِيهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي جُحَيْفَةَ قَالَ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ شِبْتَ قَالَ: "شَيَّبَتْنِي هُودٌ وَأَخَوَاتُهَا" 2, وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "شَيَّبَتْنِي هُودٌ وَالْوَاقِعَةُ وَالْمُرْسَلَاتُ وَعَمَّ يَتَسَاءَلُونَ وَإِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ" 3, وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ. "تَوَكُّلٌ" أَيْ: وَمِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ التَّوَكُّلُ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ, وَهُوَ اعْتِمَادُ الْقَلْبِ
عَلَيْهِ وَثِقَتُهُ بِهِ وَإِنَّهُ كَافِيهِ, قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الْمَائِدَةِ: 23] فَجَعَلَهُ تَعَالَى شَرْطًا فِي الْإِيمَانِ كَمَا وَصَفَ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُمْ أَهْلُهُ, إِذْ قَالَ تَعَالَى: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} وَقَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ: {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا} [يُونُسَ: 84] الْآيَاتِ. وَقَالَ تَعَالَى عَنْ رُسُلِهِ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ: {وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ، وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [إِبْرَاهِيمَ: 11، 12] وَقَالَ تَعَالَى عَنْ نَبِيِّهِ هُودٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} [هُودٍ: 56] الْآيَةَ. وَكَذَلِكَ عَنْ نَبِيِّهِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذْ قال لقومه: {يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً} [يُونُسَ: 71] الْآيَةَ. وَقَالَ تَعَالَى عَنْ شُعَيْبٍ: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هُودٍ: 88] . وَقَالَ تَعَالَى لِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} [النَّمْلِ: 79] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هُودٍ: 123] . وَقَالَ تَعَالَى: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا} [الْمُزَّمِّلِ: 9] . وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التَّوْبَةِ: 129] . وَقَالَ تَعَالَى فِي مَدْحِ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آلِ عِمْرَانَ: 173] . وَقَالَ تَعَالَى فِيهِمْ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الْأَنْفَالِ: 2] . وَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الشُّورَى: 36] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطَّلَاقِ: 3] أَيْ: كَافِيهِ. وَقَالَ تَعَالَى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزُّمَرِ: 36] الْجَوَابُ: بَلَى, وَالْآيَاتُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا- فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آلِ عِمْرَانَ: 173] : قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ, وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَصْحَابُهُ حِينَ: {قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آلِ عِمْرَانَ: 173] 1. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا بِلَا حِسَابٍ, هُمُ الَّذِينَ لَا يَسْتَرْقُونَ وَلَا يَتَطَيَّرُونَ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ" 2, وَفِي السُّنَنِ: "الطِّيَرَةُ شِرْكٌ, الطِّيَرَةُ شِرْكٌ" قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: وَمَا مِنَّا إِلَّا, وَلَكِنَّ اللَّهَ يُذْهِبُهُ بِالتَّوَكُّلِ3. وَفِي جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "لو أنكم تتوكلون عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ, لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ, تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا" 4, وَفِي حَدِيثِ الْإِيمَانِ بِالْقَدَرِ: "وَاعْلَمْ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ, وَمَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ" 5 وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ وَسُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيِّ عَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إِنِّي لَأَعْلَمُ آيَةً فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَوْ أَخَذَ النَّاسُ بِهَا لَكَفَتْهُمْ: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطَّلَاقِ: 2] 6, وَلِابْنِ مَاجَهْ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ
ومن أنواعها رجاء الله ولقائه
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ قَلْبَ ابْنِ آدَمَ لِكُلِّ وَادٍ شُعْبَةٌ, فَمَنْ أَتْبَعَ قَلَبَهُ الشُّعَبَ كُلَّهَا لَمْ يُبَالِ اللَّهُ بِأَيِّ وَادٍ هَلَكَ, وَمَنْ تَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ كَفَاهُ الشُّعَبَ"1, وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ. "كَذَا الرَّجَاءُ" أَيْ: وَمِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ الرَّجَاءُ, قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الْكَهْفِ: 110] وَقَالَ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الْعَنْكَبُوتِ: 5] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ، أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يُونُسَ: 7] وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ, وَفِي الْحَدِيثِ: "أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي, فَلْيَظُنَّ بِي مَا شَاءَ" 2. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الرَّحْمَةَ يَوْمَ خَلَقَهَا مِائَةَ رَحْمَةٍ, فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً وَأَرْسَلَ فِي خَلْقِهِ كُلِّهِمْ رَحْمَةً وَاحِدَةً, فَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ بِكُلِّ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الرَّحْمَةِ لَمْ يَيْأَسْ مِنَ الْجَنَّةِ, وَلَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ بِكُلِّ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْعَذَابِ لَمْ يَأْمَنِ النَّارَ" 3, وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دُعَاءِ الْمَكْرُوبِ: "اللِّهُمَّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو, فَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي وَلَا إِلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِكَ طَرْفَةَ عَيْنٍ" الْحَدِيثُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ4. "وَرَغْبَةٌ وَرَهْبَةٌ خُشُوعُ" أَيْ: وَمِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ الرَّغْبَةُ فِيمَا عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الثَّوَابِ وَهِيَ رَاجِعَةٌ إِلَى الرَّجَاءِ, وَالرَّهْبَةِ مِمَّا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْعِقَابِ وَهِيَ رَاجِعَةٌ إِلَى مَعْنَى الْخَوْفِ. وَالْخُشُوعُ هُوَ التَّذَلُّلُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ, قَالَ تَعَالَى فِي
ومن أنواعها خشية الله
آلِ زَكَرِيَّا عَلَيْهِمُ السَّلَامُ: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 90] وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الْإِسْرَاءِ: 109] وَقَالَ تَعَالَى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [الْبَقَرَةِ: 45, 46] وَقَالَ تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 2] وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [الْبَقَرَةِ: 40] وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الانشراح: 8] وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَفِي حَدِيثِ الدُّعَاءِ عِنْدَ النَّوْمِ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْلَمْتُ نَفَسِي إِلَيْكَ, وَوَجَّهْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ, وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ, وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ, رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ" الْحَدِيثَ فِي الصَّحِيحَيْنِ1. وَلِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ فِي خُطْبَةِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ, وَتُثْنُوا عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ, وَتَخْلِطُوا الرَّغْبَةَ بِالرَّهْبَةِ, وَتَجْمَعُوا الْإِلْحَافَ بِالْمَسْأَلَةِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَثْنَى عَلَى زَكَرِيَّا وَأَهْلِ بَيْتِهِ فَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 90] 2. وَفِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ: "خَشَعَ لَكَ سَمْعِي وَبَصَرِي وَمُخِّي وَعَظْمِي وَعَصَبِي" 3 وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ. الْخُشُوعُ لِلَّهِ "وَخَشْيَةٌ" أَيْ: وَمِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ الْخَشْيَةُ, وَهِيَ مُرَادِفَةٌ لِلْخَوْفِ. قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ} [الْبَقَرَةِ: 150] وَقَالَ تَعَالَى فِي مَدْحِ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 57] الْآيَاتِ, وَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} [الْمَعَارِجِ: 27] الْآيَاتِ.
وَقَالَ تَعَالَى فِي شَأْنِ كِتَابِهِ الْعَزِيزِ: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ} [الْأَنْعَامِ: 51] الْآيَاتِ, وَقَالَ تَعَالَى: {طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى} [طه: 1-3] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} [يس: 11] الْآيَةَ وَقَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزُّمَرِ: 23] الْآيَةَ, وَقَالَ تَعَالَى: {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} [ق: 33] الْآيَاتِ, وَقَالَ تَعَالَى فِي شَأْنِ السَّاعَةِ: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} [النَّازِعَاتِ: 45] وَقَالَ تَعَالَى: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى} [الْأَعْلَى: 10] وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ, وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا} [لُقْمَانَ: 33] الْآيَةَ. وَفِي جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَلِجُ النَّارَ رَجُلٌ بَكَى مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى يَعُودَ اللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ" 1 وَفِيهِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ -رِضَى اللَّهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "لَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ مِنْ قَطْرَتَيْنِ وَأَثَرَيْنِ: قَطْرَةِ دُمُوعٍ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ, وَقَطْرَةِ دَمٍ تُهْرَاقَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَأَمَّا الْأَثَرَانِ فَأَثَرٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ, وَأَثَرُ فَرِيضَةٍ مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى" وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ2 وَفِي الصَّحِيحِ: "إِنَّ أَخْشَاكُمْ وَأَتْقَاكُمْ لِلَّهِ أَنَا" 3.
ومن أنواعها الإنابة إلى الله والخضوع له
الْحَدِيثَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ. "إِنَابَةٌ" أَيْ: وَمِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ الْإِنَابَةُ وَهِيَ التَّوْبَةُ النَّصُوحُ, وَالرُّجُوعُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى, قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} [الزُّمَرِ: 54] وَقَالَ تَعَالَى فِي ذِكْرِ شُعَيْبٍ: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هُودٍ: 88] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [الشُّورَى: 10] وَقَالَ تَعَالَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ: {رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [الْمُمْتَحِنَةِ: 4] وَقَالَ تَعَالَى فِي شَأْنِ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ} [الزُّمَرِ: 17] وَقَالَ عَنْ عَبْدِهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} [ص: 24] وَفِي ذَلِكَ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ سَنَذْكُرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَيَسَّرَ مِنْهَا فِي بَابِهِ. "خُضُوعٌ" أَيْ: وَمِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ الْخُضُوعُ وَهُوَ وَالْخُشُوعُ والتذلل بمعنى واحد, وَتَقَدَّمَتِ الْآيَاتُ والأحاديث فيه. و"الاستعاذة" أَيْ: وَمِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ الِاسْتِعَاذَةُ, وَهِيَ الِامْتِنَاعُ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالِالْتِجَاءُ إِلَيْهِ, قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النَّحْلِ: 98] وَقَالَ تَعَالَى: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} [الْمُؤْمِنُونَ: 97, 98] وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الْأَعْرَافِ: 200] وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الْفَلَقِ: 1, 2] السُّورَةَ, وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} [النَّاسِ: 1-4] السُّورَةَ, وَقَالَ عَنْ كَلِيمِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: {وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ} [غَافِرٍ: 27] وَقَالَ تَعَالَى عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ} [الدُّخَانِ: 20] وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَعُوذُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَبِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ وَبِسُلْطَانِهِ الْقَدِيمِ, مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ. مِنْ هَمْزِهِ وَنَفْخِهِ
ومن أنواعها الاستعانة بالله وحده
وَنَفْثِهِ" 1. وَقَالَ: "أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرٍّ مَا خَلَقَ" 2, وَقَالَ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ, وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ, وَبِكَ مِنْكَ" 3 وَقَالَ: "تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنَ الْفِتَنِ" 4, وَاسْتَعَاذَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَالْبُخْلِ وَالْجُبْنِ وَضَلَعِ الدَّيْنِ وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ, وَمِنَ الرَّدِّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ, وَمِنَ الْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ, وَمِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ, وَمِنْ فِتْنَةِ النَّارِ وَعَذَابِ النَّارِ, وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْغِنَى, وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْفَقْرِ, وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ, وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ, وَغَيْرِ ذَلِكَ. "وَالِاسْتِعَانَةُ" أَيْ: وَمِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ الِاسْتِعَانَةُ, وَهِيَ طَلَبُ الْعَوْنِ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الْفَاتِحَةِ: 4] أَيْ: لَا نَعْبُدُ إِلَّا إِيَّاكَ وَلَا نَسْتَعِينُ إِلَّا بِكَ, وَنَبْرَأُ مِنْ كُلِّ مَعْبُودٍ دُونَكَ وَمِنْ عَابِدِيهِ, وَنَبْرَأُ مِنَ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ إِلَّا بِكَ, فَلَا حَوْلَ لِأَحَدٍ عَنْ مَعْصِيَتِكَ وَلَا قُوَّةَ عَلَى طَاعَتِكَ, إِلَّا بِتَوْفِيقِكَ وَمَعُونَتِكَ. وَقَالَ عَنْ نَبِيِّهِ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يُوسُفَ: 18] وَقَالَ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 112] وَفِي التِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ وَصِيَّةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: "إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ, وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ" الْحَدِيثَ, وَقَالَ فِيهِ: حَسَنٌ صَحِيحٌ5. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِيهِ: "احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ،
ومن أنواعها الاستغاثة به والذبح له
وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ" 1, وَفِي التِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ, وَشُكْرِكَ, وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ" 2, وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ. "كَذَا اسْتِغَاثَةٌ بِهِ سُبْحَانَهُ" أَيْ: وَمِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ الِاسْتِغَاثَةُ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ, وَهِيَ طَلَبُ الْغَوْثِ مِنْهُ تَعَالَى, مِنْ جَلْبِ خَيْرٍ أَوْ دَفْعِ شَرٍّ, قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الْأَنْفَالِ: 9] وَقَالَ تَعَالَى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النَّمْلِ: 62] الْآيَةَ, وَقَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ} [الشُّورَى: 28] الْآيَةَ, وَمِنْ دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ, يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ, يَا بَدِيعَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ, بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ" 3, وَفِي الطَّبَرَانِيِّ بِإِسْنَادِهِ مِنْ حَدِيثِ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ أَنَّهُ كَانَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُنَافِقٌ يُؤْذِي الْمُؤْمِنِينَ, فَقَالَ بَعْضُهُمْ: قُومُوا بِنَا نَسْتَغِيثُ بِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ هَذَا الْمُنَافِقِ, فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّهُ لَا يُسْتَغَاثُ بِي, وَإِنَّمَا يُسْتَغَاثُ بِاللَّهِ"4. وَفِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الِاسْتِسْقَاءِ: فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ: "اللَّهُمَّ أَغِثْنَا, اللَّهُمَّ أَغِثْنَا, اللَّهُمَّ أَغِثْنَا" 5 وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ. "وَالذَّبْحُ" أَيْ: وَمِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ الذَّبْحُ نُسُكًا لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ هَدْيٍ وَأُضْحِيَةٍ
ومن أنواعها النذر له دون غيره من شرط النذر أن يكون في طاعة وما يطيقه العبد وفيما يملك
وَعَقِيقَةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ, قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الْكَوْثَرِ: 3] وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ} [الْأَنْعَامِ: 163] الْآيَاتِ, وَقَالَ تَعَالَى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا} [الْحَجِّ: 36] الْآيَاتِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: حَدَّثَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: "لَعَنَ اللَّهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللَّهِ" 1 الْحَدِيثَ. وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "دَخَلَ الْجَنَّةَ رَجُلٌ فِي ذُبَابٍ, وَدَخَلَ النَّارَ رَجُلٌ فِي ذُبَابٍ" قَالُوا: وَكَيْفَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "مَرَّ رَجُلَانِ عَلَى قَوْمٍ لَهُمْ صَنَمٌ لَا يُجَاوِزُهُ أَحَدٌ حَتَّى يُقَرِّبَ لَهُ شَيْئًا, فَقَالُوا لِأَحَدِهِمَا: قَرِّبْ قَالَ: لَيْسَ عِنْدِي شَيْءٌ أُقَرِّبُ. فَقَالُوا لَهُ: قَرِّبْ وَلَوْ ذُبَابًا, فَقَرَّبَ ذُبَابًا فَخَلَّوْا سَبِيلَهُ فَدَخَلَ النَّارَ. فَقَالُوا لِلْآخَرِ: قَرِّبْ قَالَ: مَا كُنْتُ لِأُقَرِّبَ لِأَحَدٍ شَيْئًا دُونَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ, فَضَرَبُوا عُنُقَهُ فَدَخَلَ الْجَنَّةَ" 2. "وَالنَّذْرُ" أَيْ: وَمِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ النَّذْرُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ, قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الْإِنْسَانِ: 7] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} [الْبَقَرَةِ: 270] الْآيَةَ. وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ, وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ" رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إِلَّا مُسْلِمًا 3. وَعَنْ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: نَذَرْتُ نَذْرًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ،
وأن لا يكون في مكان كان يعبد فيه غير الله إلخ
فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَعْدَمَا أَسْلَمْتُ, فَأَمَرَنِي أَنْ أُوفِيَ بِنَذْرِي, رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ1. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: بَابُ إِثْمِ مَنْ لَا يَفِي بِالنَّذْرِ, وَذَكَرَ حَدِيثَ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "خَيْرُكُمْ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ" قَالَ عِمْرَانُ: لَا أَدْرِي ذَكَرَ اثْنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا بَعْدَ قرنه "ثم يجيء قَوْمٌ يَنْذِرُونَ وَلَا يُوفُونَ, وَيَخُونُونَ وَلَا يُؤْتَمَنُونَ, وَيَشْهَدُونَ وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ, وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ" 2. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ عُمَرَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي نَذَرْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ قَالَ: "أَوْفِ بِنَذْرِكَ" وَهُوَ فِي الصَّحِيحِ أَيْضًا3, وَلَعَلَّهُ هُوَ النَّذْرُ الَّذِي فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ مُبْهَمًا فَسَّرَتْهُ رِوَايَةُ الصَّحِيحِ, وَفِي حَدِيثِ الرَّجُلِ الَّذِي سَأَلَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ لَهُ: إِنَّ أُخْتِي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ وَإِنَّهَا مَاتَتْ, فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْ كَانَ عَلَيْهَا دِينٌ أَكَنْتَ قَاضِيَهُ"؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: "فَاقْضِ اللَّهَ؛ فَاللَّهُ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ" 4 وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أَحَادِيثِ الْأَمْرِ بِوَفَاءِ النَّذْرِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمِنْ شَرْطِ النَّذْرِ لِلَّهِ تَعَالَى أَنْ يَكُونَ طَاعَةً, وَأَنْ يَكُونَ مِمَّا يُطِيقُهُ الْعَبْدُ, وَأَنْ يَكُونَ فِيمَا يَمْلِكُ, وَأَنْ لَا يَكُونَ فِي مَوْضِعٍ كَانَ يُعْبَدُ فِيهِ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ ذَرِيعَةً إِلَى عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى, وَلِمَنْ كَانَ مُعَلِّقًا بِحُصُولِ شَيْءٍ فَلَا يَعْتَقِدُ النَّاذِرُ تَأْثِيرَ النَّذْرِ فِي حُصُولِهِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَلَا فِي قَطِيعَةِ رَحِمٍ" الْحَدِيثُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ5 وَكَذَا حَدِيثُ عَائِشَةَ السَّابِقُ وَغَيْرُهُ. وَأَمَّا الثَّانِي
فَلِحَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: نَذَرَتْ أُخْتِي أَنْ تَمْشِيَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ, فَأَمَرَتْنِي أَنْ أَسْتَفْتِيَ لَهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَاسْتَفْتَيْتُهُ فَقَالَ: "لِتَمْشِ وَلْتَرْكَبْ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ1. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: بَيْنَمَا النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يخطب إذا هُوَ بَرَجُلٍ قَائِمٍ فَسَأَلَ عَنْهُ فَقَالُوا: أَبُو إِسْرَائِيلَ نَذَرَ أَنْ يَقُومَ فَلَا يَقْعُدُ وَلَا يَسْتَظِلَّ وَلَا يَتَكَلَّمَ وَيَصُومَ, فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مُرْهُ فَلْيَتَكَلَّمْ وَلْيَسْتَظِلَّ وَلْيَقْعُدْ وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ" 2 فَأَمَرَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَرْكِ مَا لم يكن مطيقه ولم يَكُنْ مَشْرُوعًا, وَأَمَرَهُ بِإِتْمَامِ الصَّوْمِ لِكَوْنِهِ يُطِيقُهُ وَلِكَوْنِهِ مَشْرُوعًا. وَأَمَّا الثَّالِثُ فَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ, وَلَا فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ3. وَأَمَّا الرَّابِعُ فَلِحَدِيثِ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: إِنِّي نَذَرْتُ أَنْ أَنْحَرَ إِبِلًا بِبُوَانَةَ, فَقَالَ: "كَانَ فِيهَا وَثَنٌ مِنْ أَوْثَانِ الْجَاهِلِيَّةِ يُعْبَدُ"؟ فَقَالُوا: لَا قَالَ: "فَهَلْ كَانَ فِيهَا عِيدٌ مِنْ أَعْيَادِهِمْ"؟ قَالُوا: لَا قَالَ: "أَوْفِ بِنَذْرِكَ, فَإِنَّهُ لَا وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ, وَلَا فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ4. وَفِي سَدِّ الذَّرَائِعِ إِلَى ذَلِكَ حَدِيثُ النَّهْيِ عَنِ اتِّخَاذِ الْقُبُورِ مَسَاجِدَ وَلَعْنِ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. أَمَّا الْخَامِسُ فَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ النَّذْرَ لَا يُقَدِّمُ شَيْئًا وَلَا يُؤَخِّرُهُ, وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِالنَّذْرِ مِنَ الْبَخِيلِ" 5 وَهُوَ فِي الصَّحِيحِ. وَفِيهِ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ النَّذْرِ وَقَالَ: "إِنَّهُ لَا يَرُدُّ شَيْئًا, وَلَكِنَّهُ يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنَ الْبَخِيلِ" 6 وَفِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَأْتِي ابْنَ آدَمَ النَّذْرُ بِشَيْءٍ, وَلَكِنْ يُلْقِيهِ النَّذْرُ إِلَى الْقَدَرِ قَدْ قُدِّرَ لَهُ, فَيَسْتَخْرِجُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْبَخِيلِ, فَيُؤْتِي عَلَيْهِ مَا لَمْ يَكُنْ يُؤْتِي عَلَيْهِ مِنْ قَبْلُ" 1 وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ, وَفِيمَا ذَكَرْنَا كِفَايَةٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [أَنْوَاعٌ أُخْرَى مِنَ الْعِبَادَاتِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ] : "وَغَيْرُ ذَلِكَ" أَيْ: مِنَ الْعِبَادَاتِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ وَالتَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّمْجِيدِ وَالتَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَتَدَبُّرِهِ وَتَعَلُّمِهِ وَتَعْلِيمِهِ وَسَائِرِ الْأَذْكَارِ الْمَشْرُوعَةِ وَمَحَبَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ, وَالْحُبِّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضِ فِيهِ وَالْمُوَالَاةِ وَالْمُعَادَاةِ لِأَجْلِهِ, وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْعِبَادَاتِ الَّتِي لَا تَخْرُجُ عَنْ تَعْرِيفِنَا السَّابِقِ بِأَنَّ الْعِبَادَةَ اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ, وَأَنَّ مَنَاطَهَا الَّذِي لَا قِوَامَ لَهَا إِلَّا بِهِ هُوَ كَمَالُ الْحُبِّ وَغَايَتُهُ مَعَ غَايَةِ الذُّلِّ, وَلَا تُسَمَّى عِبَادَةً إِلَّا مَعَ ذَلِكَ كُلِّهِ. فَالْمَحَبَّةُ وَحْدَهَا الَّتِي لَمْ يَكُنْ مَعَهَا خَوْفٌ وَلَا تَذَلُّلٌ كَمَحَبَّةِ الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ وَالْأَهْلِ وَالْمَالِ وَالْوَلَدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ لَيْسَتْ بِعِبَادَةٍ, وَكَذَلِكَ الْخَوْفُ بِدُونِ مَحَبَّةٍ لِلْمَخُوفِ مِنْهُ كَالْخَوْفِ مِنْ عَدُوٍّ أَوْ غَرَقٍ أَوْ حَرْقٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عِبَادَةً, فَإِذَا اجْتَمَعَا فِي الْعَمَلِ كَانَ عِبَادَةً: إِنْ كَانَتْ لِلَّهِ فَهُوَ التَّوْحِيدُ الَّذِي هُوَ أَشْرَفُ الْمَطَالِبِ, وَإِنْ كَانَتْ لِغَيْرِهِ فَالشِّرْكُ الْأَكْبَرُ الْمُخَلَّدُ صَاحِبُهُ فِي النَّارِ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ. وَلِذَا قُلْنَا: "وَصَرْفُ بَعْضِهَا" أَيْ: شَيْءٍ مِنْهَا قَلَّ أَوْ كَثُرَ "لِغَيْرِ اللَّهِ" كَائِنًا مَنْ كَانَ؛ مِنْ مَلَكٍ أَوْ نَبِيٍّ أَوْ وَلِيٍّ أَوْ قَبْرٍ أَوْ جِنِّيٍّ أَوْ شَجَرٍ أَوْ حَجَرٍ أَوْ غَيْرِهِ, كُلُّ ذَلِكَ "شِرْكٌ" أَكْبَرٌ "وَذَاكَ" إِشَارَةٌ إِلَى الشِّرْكِ هُوَ "أَقْبَحُ الْمَنَاهِي" عَلَى الْإِطْلَاقِ, قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [الْأَحْقَافِ: 5] الْآيَاتِ, أَيْ: لَا أَحَدَ أَضَلُّ مِنْهُ, وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ
رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 117] وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لُقْمَانَ: 13] فَالشِّرْكُ أَعْظَمُ الظُّلْمِ؛ لِأَنَّ الظُّلْمَ هُوَ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ, وَلَا أَعْظَمَ ظُلْمًا مِنْ شِكَايَةِ الْعَبْدِ رَبَّهُ -الَّذِي هُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فِيمَا أَصَابَهُ مِنْ ضُرٍّ أَوْ فَاتَهُ مِنْ خَيْرٍ- إِلَى مَنْ لَا يَرْحَمُهُ وَلَا يَسْمَعُهُ وَلَا يُبْصِرُهُ وَلَا يَعْلَمُهُ وَلَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ وَلَا لِدَاعِيهِ مِنْ ضُرٍّ وَلَا نَفْعٍ وَلَا مَوْتٍ وَلَا حَيَاةٍ وَلَا نُشُورٍ, وَلَا يُغْنِي عَنْهُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ, وَعُدُولُهُ عَمَّنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ, وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ, وَيَفْزَعُ فِي قَضَاءِ حَوَائِجِهِ إِلَى مَنْ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى شَيْءٍ الْبَتَّةَ: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فَاطِرٍ: 13-14] وَصَرْفُهُ عِبَادَةَ خَالِقِهِ -الَّذِي خَلَقَهُ لِعِبَادَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ وَرَبَّاهُ بِنِعَمِهِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ وَحَفِظَهُ وَكَلَأَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَحَمَاهُ مِنْ جَمِيعِ الْمَخَاوِفِ وَالْأَخْطَارِ- لِمَخْلُوقٍ مِثْلِهِ, خَلَقَهُ اللَّهُ بِقُدْرَتِهِ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ قَبْلُ شَيْئًا, بَلْ هُوَ مُسَخَّرٌ مُدَبَّرٌ مَرْبُوبٌ مُتَصَرِّفٌ فِيهِ اللَّهُ تَعَالَى بِمَا شَاءَ مِنْ أَنْوَاعِ التَّصَرُّفِ, لَا يُبْدِي حَرَاكًا وَلَا يَنْفَكُّ مِنْ قَبْضَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ, بَلْ هُوَ خَلْقُهُ وَمِلْكُهُ, مَخْلُوقٌ لِعِبَادَتِهِ, فَيَرْفَعُهُ مِنْ دَرَجَةِ الْعُبُودِيَّةِ وَالتَّأَلُّهِ إِلَى جَعْلِهِ مَأْلُوهًا مَعْبُودًا" {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ} [الرُّومِ: 28] الْآيَةَ, هَذَا وَاللَّهِ أَظْلَمُ الظُّلْمِ وَأَقْبَحُ الْجَهْلِ وَأَكْبَرُ الْكَبَائِرِ؛ وَلِذَا لَمْ تَدْعُ الرُّسُلُ إِلَى شَيْءٍ قَبْلَ التَّوْحِيدِ, وَلَمْ تَنْهَ عَنْ شَيْءٍ قَبْلَ التَّنْدِيدِ, وَلَمْ يَتَوَعَّدِ اللَّهُ عَلَى ذَنَبٍ أَكْبَرَ مِمَّا جَاءَ عَلَى الشِّرْكِ مِنَ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ, وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ قَالَ: "أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ" 1. وَسَنَذْكُرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الْآيَاتِ, وَالْأَحَادِيثِ قَرِيبًا مَا تَقَرُّ بِهِ أَعْيُنُ الْمُوَحِّدِينَ،
الفصل الرابع: في بيان ضد التوحيد، وهو الشرك وكونه ينقسم إلى قسمين: أكبر وأصغر، وبيان كل منهما
وَتُدْحَضُ شُبْهَةُ الْمُعَانِدِينَ, وَيُدْمَغُ بَاطِلُ الْمُلْحِدِينَ, وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ وَبِهِ التَّوْفِيقُ. [[الفصل الرابع: في بيان ضد التوحيد، وهو الشرك وكونه ينقسم إلى قسمين: أكبر وأصغر، وبيان كل منهما]] فَصَلٌ: فِي بَيَانِ ضِدِّ التَّوْحِيدِ وَهُوَ الشِّرْكُ وَكَوْنِهِ يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ: أَكْبَرَ وَأَصْغَرَ، وَبَيَانِ كُلٍّ مِنْهُمَا قَدْ قَدَّمَنَا انْقِسَامَ التَّوْحِيدِ إِلَى قِسْمَيْنِ: تَوْحِيدُ الْمَعْرِفَةِ وَالْإِثْبَاتِ وَهُوَ تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ, وَتَوْحِيدُ الطَّلَبِ وَالْقَصْدِ وَهُوَ تَوْحِيدُ الْإِلَهِيَّةِ وَالْعِبَادَةِ. وَلِكُلٍّ مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ ضِدٌّ يُفْهَمُ مِنْ تَعْرِيفِهِ؛ فَإِذَا عَرَفْتَ أَنَّ تَوْحِيدَ الرُّبُوبِيَّةِ هُوَ الْإِقْرَارُ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الخالق الرازق المحيي الْمُمِيتُ الْمُدَبِّرُ لِجَمِيعِ الْأُمُورِ المتصرف في كل مَخْلُوقَاتِهِ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي مُلْكِهِ, فَضِدُّ ذَلِكَ هُوَ اعْتِقَادُ الْعَبْدِ وُجُودَ مُتَصَرِّفٍ مَعَ اللَّهِ غَيْرِهِ, فِيمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَإِذَا عَرَفْتَ أَنَّ تَوْحِيدَ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ هُوَ أَنْ يُدْعَى اللَّهُ تَعَالَى بِمَا سَمَّى بِهِ نَفْسَهُ وَيُوصَفَ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَوَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَيُنْفَى عَنْهُ التَّشْبِيهُ وَالتَّمْثِيلُ, فَضِدُّ ذَلِكَ شَيْئَانِ وَيَعُمُّهُمَا اسْمُ الْإِلْحَادِ: أَحَدُهُمَا: نَفْيُ ذَلِكَ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَتَعْطِيلُهُ عَنْ صِفَاتِ كَمَالِهِ وَنُعُوتِ جَلَالِهِ الثَّابِتَةِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ, ثَانِيهِمَا: تَشْبِيهُ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى بِصِفَاتِ خَلْقِهِ, وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشُّورَى: 11] . وَقَالَ تَعَالَى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: 110] . وَإِذَا عَرَفْتَ أَنَّ تَوْحِيدَ الْإِلَهِيَّةِ هُوَ إِفْرَادُ اللَّهِ تَعَالَى بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ وَنَفْيُ الْعِبَادَةِ عَنْ كُلِّ مَا سِوَى اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى, فَضِدُّ ذَلِكَ هُوَ صَرْفُ شَيْءٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ لِغَيْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ, وَهَذَا هُوَ الْغَالِبُ عَلَى عَامَّةِ الْمُشْرِكِينَ وَفِيهِ الْخُصُومَةُ بَيْنَ جَمِيعِ الرُّسُلِ وَأُمَمِهَا. [أَوَّلُ ظُهُورِ الشِّرْكِ] : وَأَوَّلُ مَا ظَهَرَ الشِّرْكُ فِي قَوْمِ نُوحٍ عَلَى الْمَشْهُورِ, وَقَدْ كَانَ بَنُو آدَمَ عَلَى مِلَّةِ أَبِيهِمْ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَحْوَ عَشَرَةِ قُرُونٍ كَمَا قَدَّمْنَا, وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ فِي
تَفْسِيرِ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الْبَقَرَةِ: 213] وَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّيْطَانَ -لَعَنَهُ اللَّهُ- لَمْ يَزَلْ دَائِبًا جَادًّا مُشَمِّرًا فِي عَدَاوَةِ بَنِي آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُنْذُ كَانَ أَبُوهُمْ طِينًا, فَلَمَّا نَفَخَ اللَّهُ فِيهِ الرُّوحَ وَعَلَّمَهُ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا وَأَمَرَ الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ لَهُ, فَسَجَدُوا كُلُّهُمْ إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ, وقال: {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} [الْإِسْرَاءِ: 61] وَقَالَ تَعَالَى: {لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} [الْحِجْرِ: 33] فَلَمَّا سَأَلَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ سَبَبِ امْتِنَاعِهِ مِنَ السُّجُودِ وَاسْتِكْبَارِهِ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ -وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِهِ- فَقَالَ سُبْحَانَهُ لَهُ: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الْأَعْرَافِ: 12] فَأَجَابَ الْخَبِيثُ مُفْتَخِرًا بِأَصْلِهِ طَاعِنًا عَلَى رَبِّهِ تَعَالَى فِي حِكْمَتِهِ وَعَدْلِهِ: {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الْأَعْرَافِ: 12] , فَعَامَلَهُ الْجَبَّارُ بِنَقِيضِ مَا قَصَدَهُ وَأَذَاقَهُ وَبَالَ حَسَدِهِ, وَأَثْمَرَ لَهُ اسْتِكْبَارُهُ الذُّلَّ الْأَبَدِيَّ الَّذِي لَا عِزَّ بَعْدَهُ: {قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ} [الْأَعْرَافِ: 13] وَقَالَ: {اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا} [الْأَعْرَافِ: 18] الْآيَةَ, وَقَالَ: {فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} [الْحِجْرِ: 34-35] فَطَلَبَ الْإِنْظَارَ لِيَأْخُذَ بِزَعْمِهِ مِنْ آدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ بِالثَّأْرِ, وَلَا يَعْلَمُ أَنَّهُ بِذَلِكَ إِنَّمَا يَزْدَادُ مِنْ غَضَبِ الْجَبَّارِ وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ لَهُ إِلَّا عَلَى حِزْبِهِ وَتَابِعِيهِ مِنَ الْكُفَّارِ, الَّذِينَ هُوَ إِمَامُهُمْ فِي الْخُرُوجِ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَالِاسْتِكْبَارِ {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} [ص: 79, 80] أَجَابَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى طِلْبَتِهِ لِيَمْتَحِنَ عِبَادَهُ اخْتِبَارًا وَابْتِلَاءً: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [تبارك: 2] فَقَابَلَ النِّعْمَةَ بِالْكُفْرَانِ وَجَدَّدَ صَفْقَةَ الْخُسْرَانِ وَأَقْسَمَ لَيَسْتَعْمِلَنَّ
مُدَّتَهُ وَلَيَسْتَغْرِقَنَّ حَيَاتَهُ فِي إِغْوَاءِ ذُرِّيَّةِ آدَمَ الَّذِينَ كَانَ طَرْدُهُ وَإِبْعَادُهُ بِسَبَبِهِمْ؛ إِذْ لَمْ يَسْجُدْ لِأَبِيهِمْ, وَلَا رَأَى أَنَّ ذَلِكَ بِاسْتِكْبَارِهِ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ, بَلْ قَدَّسَ نَفْسَهُ اللَّئِيمَةَ وَأَسْنَدَ الْإِغْوَاءَ إِلَى رَبِّهِ مُخَاصَمَةً وَمُحَادَّةً وَمُشَاقَّةً: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ، ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الْأَعْرَافِ: 16-17] ، وَلَمْ يَقُلِ اللَّعِينُ: "مِنْ فَوْقِهِمْ" لِعِلْمِهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مِنْ فَوْقِهِمْ, قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: {هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ، إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الْحِجْرِ: 42] ، وَقَدْ عَلِمَ الرَّجِيمُ ذَلِكَ فَقَالَ آيِسًا مِنْهُمْ: {إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الْحِجْرِ: 40] ، ثُمَّ لَمَّا سَعَى إِلَى آدَمَ وَحَوَّاءَ زَوْجِهِ فِي الْجَنَّةِ وَدَلَّهُمَا عَلَى تِلْكَ الشَّجَرَةِ الَّتِي نَهَاهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهَا أَنْ يَقْرَبُوهَا, وَأَبَاحَ لَهُمْ مَا سِوَاهَا مِنَ الْجَنَّةِ, فَاسْتَدْرَجَهُمُ اللَّعِينُ بِخِدَاعِهِ وحيلته البائرة, وغيرهم بِتِلْكَ الْيَمِينِ الْفَاجِرَةِ: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الْأَعْرَافِ: 21] ، فَنَفَذَ قَضَاءُ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدَرُهُ بِأَكْلِهِمَا مِنْهَا: {لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} [الْأَنْفَالِ: 42] ، وَظَنَّ اللَّعِينُ أَنَّهُ قَدْ أَخَذَ بِثَأْرِهِ مِنْ آدَمَ وَأَنَّهُ قَدْ أَهْلَكَهُ مَعَهُ, وَلَمْ يَعْلَمْ بِفَضْلِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَسِعَةِ رَحْمَتِهِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى شَيْءٍ مِنْهُ: {وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الْحَدِيدِ: 29] ، فَلَمَّا عَاتَبَهُمَا اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ} [الْأَعْرَافِ: 22] ، فَلَمْ يَعْتَرِضَا عَلَى قَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ وَلَمْ يَحْتَجَّا بِذَلِكَ عَلَى ارْتِكَابِ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَلَمْ يُخَاصِمَا بِهِ كَمَا قَالَ اللَّعِينُ مُوَاجِهًا رَبَّهُ بِقَوْلِهِ: {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي} [الْأَعْرَافِ: 16] ، بَلِ اعْتَرَفَا بِقُدْرَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمَا وَأَقَرَّا بِظُلْمِهِمَا لِأَنْفُسِهِمَا وَصَرَّحًا بِافْتِقَارِهِمَا إِلَى رَبِّهِمَا وَبِكَمَالِ غِنَاهُ عَنْهُمَا: {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الْأَعْرَافِ: 23] ، وَهَذِهِ هِيَ الْكَلِمَاتُ الَّتِي قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [الْبَقَرَةِ: 37] . ثُمَّ أَرَادَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يُهْبِطَهَمْ إِلَى دَارٍ أُخْرَى, هِيَ دَارُ الِامْتِحَانِ وَالِابْتِلَاءِ
لِيَتَبَيَّنَ حِزْبَهُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ رُسُلَهُ وَيُقَاتِلُونَ أَعْدَاءَهُ, وَيَغْرِسَ لَهُمْ بِصَالِحِ الْأَعْمَالِ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بِشْرٍ, وَيَتَبَيَّنَ حِزْبَ عَدُوِّهِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَأَطَاعُوهُ وَصَارُوا مِنْ خَيْلِهِ وَرَجِلِهِ وَقَدْ أَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا, وَأَلْقَى الْعَدَاوَةَ وَنَصَبَ الْحَرْبَ بَيْنَ هَذَيْنِ الْحِزْبَيْنِ فِي هَذِهِ الدَّارِ؛ لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمُهُ جَمِيعًا, فَيَجْعَلُهُ فِي جَهَنَّمَ فَقَالَ تَعَالَى: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الْبَقَرَةِ: 38] ، ثُمَّ كَانَ مِنْ كَيْدِ الشَّيْطَانِ مِمَّا قَصَّ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- مِنْ إِلْقَائِهِ الْفِتْنَةَ بَيْنَ ابْنَيْ آدَمَ, وَقَتْلِ أَحَدِهِمَا الْآخَرَ كَمَا فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ. وَلَمَّا مَاتَ آدَمُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- كَانَ وَصِيُّهُ شِيثًا عَلَيْهِ السَّلَامُ, وَمَضَتْ تِلْكَ الْمُدَّةُ الَّتِي ذَكَرْنَا وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْحَقِّ كَمَا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ أَخْبَرَنَا هَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: كَانَ بَيْنَ نُوحٍ وَآدَمَ عَشَرَةُ قُرُونٍ, كُلُّهُمْ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْحَقِّ فَاخْتَلَفُوا, فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ1. وَزَيَّنَ الشَّيْطَانُ -لَعَنَهُ اللَّهُ- لِقَوْمِ نُوحٍ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ وَكَانَ أَوَّلُ ذَلِكَ أَنَّ زَيَّنَ لَهُمْ تَعْظِيمَ الْقُبُورِ وَالْعُكُوفَ عَلَيْهَا, وَبَيَانُ ذَلِكَ مَا رَوَى الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ فِي وَدٍّ وَسُوَاعٍ وَيَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرٍ: هَذِهِ أَسْمَاءُ رِجَالٍ صَالِحِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ, فَلَمَّا هَلَكُوا أَوْحَى الشَّيْطَانُ إِلَى قَوْمِهِمْ أَنْ أَنْصِبُوا إِلَى مَجَالِسِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَجْلِسُونَ أَنْصَابًا وَسَمُّوهَا بِأَسْمَائِهِمْ, فَفَعَلُوا وَلَمْ تُعْبَدْ, حَتَّى إِذَا هَلَكَ أُولَئِكَ وَتُنُوسِيَ العلم عبدت ا. هـ.2. فَلَوْ جَاءَهُمُ اللَّعِينُ وَأَمَرَهُمْ مِنْ أَوَّلِ مَرَّةٍ بِعِبَادَتِهِمْ لَمْ يَقْبَلُوا وَلَمْ يُطِيعُوهُ, بَلْ أَمَرَ الْأَوَّلِينَ بِنَصْبِ الصُّوَرِ لِتَكُونَ ذَرِيعَةً
دخول الوثنية إلى بلاد العرب على يد عمرو بن لحي الخزاعي
لِلصَّلَاةِ عِنْدَهَا مِمَّنْ بَعْدَهُمْ, ثُمَّ تَكُونَ عِبَادَةُ اللَّهِ عِنْدَهَا ذَرِيعَةً إِلَى عِبَادَتِهَا مِمَّنْ يَخْلُفُهُمْ, فَلَمَّا أَرْسَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ إِلَيْهِمْ نُوحًا -عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَلَبِثَ فِيهِمْ مَا لَبِثَ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ عَنِ الْحَقِّ, حَتَّى أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِالطُّوفَانِ. ثُمَّ بَعْدَهُمْ عَادٌ عَبَدُوا آلِهَةً مَعَ اللَّهِ مِنْهَا هَدًّا وَصَدًى صمودا, فَأَرْسَلَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- إِلَيْهِمْ هُودًا -عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَلَبِثَ فِيهِمْ مَا لَبِثَ يَدْعُوهُمْ إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ, فَلَمَّا حَقَّ عَلَيْهِمُ الْعَذَابُ أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِالرِّيحِ. ثُمَّ ثَمُودُ كَذَلِكَ وَأَرْسَلَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ صَالِحًا -عليه السلام- فكذبوه فَأُهْلِكُوا بِالصَّيْحَةِ. ثُمَّ قَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَعَبَدُوا الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ وَعَبَدُوا الْأَصْنَامَ وَغَيْرَ ذَلِكَ, وَقَدْ قَصَّ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ كُلَّ ذَلِكَ مُفَصَّلًا عَنِ الْأُمَمِ وَرُسُلِهِمْ. وَعَبَدَ أَوَّلُ بَنِي إِسْرَائِيلَ الْعِجْلَ وَآخِرُهُمْ عَبَدُوا عُزَيْرًا, وَعَبَدَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحَ, وَعَبَدَتِ الْمَجُوسُ النَّارَ, وَعَبَدَ قَوْمٌ الْمَاءَ, وَعَبَدَ كُلُّ قَوْمٍ مَا زَيَّنَهُ الشَّيْطَانُ لَهُمْ عَلَى قَدْرِ عُقُولِهِمْ, هَذَا فِي الْأُمَمِ الْأُولَى وَكُلٌّ مِنْهَا لَهُ وَارِثٌ مِنَ الْأُمَمِ الْمُتَأَخِّرَةِ, فَالْأَصْنَامُ الَّتِي فِي قَوْمِ نُوحٍ قَدِ انْتَقَلَتْ إِلَى الْعَرَبِ فِي زَمَنِ عَمْرِو بْنِ لُحَيٍّ -قَبَّحَهُ اللَّهُ تَعَالَى- كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فِيمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: أَمَّا وَدٌّ فَكَانَتْ لِكَلْبٍ بِدُومَةَ الْجَنْدَلِ, وَسُوَاعٌ كَانَتْ لِهُذَيْلٍ, وَأَمَّا يَغُوثُ فَكَانَتْ لِمُرَادٍ ثُمَّ لِبَنِي غَطِيفٍ بِالْجَوْفِ عِنْدَ سَبَأٍ, وَأَمَّا يَعُوقُ فَكَانَتْ لِهَمْدَانَ, وَأَمَّا نَسْرٌ فَكَانَتْ لِحِمْيَرَ لِآلِ ذي الكلاع. ا. هـ1. [دُخُولُ الْوَثَنِيَّةِ إِلَى بِلَادِ الْعَرَبِ عَلَى يَدِ عَمْرِو بْنِ لُحَيٍّ الْخُزَاعِيِّ] : وَتَفْسِيرُ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ الْكَلْبِيُّ حَيْثُ قَالَ: وَكَانَ عَمْرُو بْنُ لُحَيٍّ كَاهِنًا وَلَهُ رَئِيٌّ مِنَ الْجِنِّ فَقَالَ لَهُ: عَجِّلِ السَّيْرَ وَالظَّعْنَ مِنْ تِهَامَةَ, بِالسَّعْدِ وَالسَّلَامَةِ, إِئْتِ جُدَّةَ, تَجِدْ فِيهَا أَصْنَامًا مُعَدَّةً, فَأَوْرِدْهَا تِهَامَةَ وَلَا تَهَبْ, ثُمَّ ادْعُ الْعَرَبَ إِلَى عِبَادَتِهَا تُجَبْ. فَأَتَى نَهْرَ جُدَّةَ فَاسْتَثَارَهَا ثُمَّ حَمَلَهَا حَتَّى وَرَدَ تِهَامَةَ وَحَضَرَ الْحَجَّ فَدَعَا الْعَرَبَ إِلَى عِبَادَتِهَا قَاطِبَةً, فَأَجَابَهُ عَوْفُ بْنُ عَدْنِ بْنِ زَيْدِ اللَّاتِ فَدَفَعَ إِلَيْهِ وَدًّا
فَحَمَلَهُ, فَكَانَ بِوَادِي الْقُرَى بِدُومَةِ الْجَنْدَلِ وَسَمَّى ابْنَهُ عَبْدَ وَدٍّ فَهُوَ أَوَّلُ مَنْ سُمِّيَ بِهِ, وَجَعَلَ عَوْفٌ ابْنَهُ عَامِرًا سَادِنًا لَهُ فَلَمْ يَزَلْ بَنُوهُ يَسْدِنُونَهُ حَتَّى جَاءَ اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: فَحَدَّثَنِي مَالِكُ بْنُ حَارِثَةَ أَنَّهُ رَأَى وَدًّا, قَالَ: وَكَانَ أَبِي يَبْعَثُنِي بِاللَّبَنِ إِلَيْهِ فَيَقُولُ: اسْقِهِ إِلَهَكَ فَأَشْرَبُهُ, قَالَ: ثُمَّ رَأَيْتُ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- كَسَرَهُ فَجَعَلَهُ جُذَاذًا, وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَعَثَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ لِهَدْمِهِ فَحَالَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ هَدْمِهِ بَنُو عُذْرَةَ وَبَنُو عَامِرٍ فَقَاتَلَهُمْ فَقَتَلَهُمْ وَهَدَمَهُ وَكَسَرَهُ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: فَقُلْتُ لِمَالِكِ بْنِ حَارِثِةَ: صِفْ لِي وَدًّا كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ قال: كان تمثال رَجُلٍ كَأَعْظَمِ مَا يَكُونُ مِنَ الرِّجَالِ, قَدْ دُبِّرَ, أَيْ: نُقِشَ, عَلَيْهِ حُلَّتَانِ مُتَّزِرٌ بِحُلَّةٍ, مُرْتَدٍ بِأُخْرَى, عَلَيْهِ سَيْفٌ قَدْ تَقَلَّدَهُ وَقَدْ تَنَكَّبَ قَوْسًا, وَبَيْنَ يَدَيْهِ حَرْبَةٌ فِيهَا لِوَاءٌ وَقَبْضَةٌ فِيهَا نَبْلٌ بِغَيْرِ جُعْبَةٍ. وَأَجَابَتْ عَمْرَو بْنَ لُحَيٍّ مُضَرُ بْنُ نِزَارٍ فَدَفَعَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ هُذَيْلٍ يُقَالُ لَهُ: الْحَارِثُ بْنُ تَمِيمِ بْنِ سَعْدِ بْنِ هُذَيْلِ بْنِ مُدْرِكَةَ بْنِ إِلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ سُوَاعًا, فَكَانَ بِأَرْضٍ يُقَالُ لَهَا: وِهَاطُ مِنْ بَطْنِ نَخْلَةَ يَعْبُدُهُ مَنْ يَلِيهِ مِنْ مُضَرَ, وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ رَجُلٌ مِنَ الْعَرَبِ: تَرَاهُمْ حَوْلَ قِبْلَتِهِمْ عُكُوفًا ... كَمَا عَكَفَتْ هُذَيْلُ عَلَى سُوَاعِ وَأَجَابَتْهُ مَذْحِجٌ فَدَفَعَ إِلَى أَنْعَمَ بْنِ عَمْرٍو الْمُرَادِيِّ يَغُوثَ, وَكَانَ بِأَكَمَةٍ بِالْيَمَنِ تَعْبُدُهُ مَذْحِجٌ وَمَنْ وَالَاهَا, وَأَجَابَتْهُ هَمْدَانُ فَدَفَعَ إِلَى مَالِكِ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُشَمٍ يَعُوقَ فَكَانَ بِقَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا: خَيْوَانُ, فَعَبَدَتْهُ هَمْدَانُ وَمَنْ وَالَاهَا مِنَ الْيَمَنِ, وَأَجَابَتْهُ حِمْيَرُ فَدَفَعَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ ذِي رَعَيْنٍ يقال له: معديكرب نَسْرًا فَكَانَ بِمَوْضِعٍ مِنْ أَرْضِ سَبَأٍ يُقَالُ لَهُ: بَلْخَعٌ تَعْبُدُهُ حِمْيَرُ وَمَنْ وَالَاهَا, فَلَمْ يَزَلْ يَعْبُدُونَهُ حَتَّى هَوَّدَهُمْ ذُو نُوَاسٍ, فَلَمْ تَزَلْ هَذِهِ الْأَصْنَامُ تُعْبَدُ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهَدَمَهَا وَكَسَرَهَا. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ لُحَيٍّ الْخُزَاعِيَّ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ, وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ سَيَّبَ السَّوَائِبَ" 1.
وَفِي لَفْظٍ: "وَغَيَّرَ دِينَ إِبْرَاهِيمَ" 1. وَرَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ لِأَكْثَمَ بْنِ الْجَوْفِ الْخُزَاعِيِّ: "يَا أَكْثَمُ, رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ لُحَيِّ بْنِ قَمْعَةَ بْنِ خِنْدَفٍ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ, فَمَا رَأَيْتُ رَجُلًا أَشْبَهَ بِرَجُلٍ مِنْكَ بِهِ, وَلَا بِكَ مِنْهُ" فَقَالَ أَكْثَمُ: عَسَى أَلَّا يَضُرَّنِي شَبَهُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: "لَا إِنَّكَ مُؤْمِنٌ وَهُوَ كَافِرٌ, إِنَّهُ كَانَ أَوَّلَ مَنْ غَيَّرَ دِينَ إِسْمَاعِيلَ, فَنَصَبَ الْأَوْثَانَ وَبَحَّرَ الْبَحِيرَةَ وَسَيَّبَ السَّائِبَةَ وَحَمَى الْحَامِي" 2. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: حَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ عَمْرَو بْنَ لُحَيٍّ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الشَّامِ فِي بَعْضِ أُمُورِهِ, فَلَمَّا قَدِمَ مُآبَ مِنْ أَرْضِ الْبَلْقَاءِ -وَبِهَا يَوْمَئِذٍ الْعَمَالِيقُ وَهُمْ وَلَدُ عِمْلَاقٍ وَيُقَالُ: عَمْلِيقُ بْنُ لَاوَذَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ- رَآهُمْ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ فَقَالَ لَهُمْ: مَا هَذِهِ الْأَصْنَامُ الَّتِي أَرَاكُمْ تَعْبُدُونَ؟ قَالُوا لَهُ: هَذِهِ الْأَصْنَامُ نَعْبُدُهَا فَنَسْتَمْطِرُهَا فَتُمْطِرُنَا, وَنَسْتَنْصِرُهَا فَتَنْصُرُنَا. فَقَالَ لَهُمْ: أَفَلَا تُعْطُونَنِي مِنْهَا صَنَمًا فَأَسِيرُ بِهِ إِلَى أَرْضِ الْعَرَبِ فَيَعْبُدُونَهُ؟ فَأَعْطَوْهُ صَنَمًا يُقَالُ لَهُ: هُبَلُ, فَقَدِمَ بِهِ مَكَّةَ فَنَصَبَهُ وَأَمَرَ النَّاسَ بِعِبَادَتِهِ وَتَعْظِيمِهِ3. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَاتَّخَذُوا إِسَافًا وَنَائِلَةَ عَلَى مَوْضِعِ زَمْزَمٍ يَنْحَرُونَ عِنْدَهُمَا, وَكَانَ إِسَافٌ وَنَائِلَةُ رَجُلًا وَامْرَأَةً مِنْ جُرْهُمٍ هُوَ إِسَافُ بْنُ بَغِيٍّ وَنَائِلَةُ بِنْتُ دِيكٍ فَوَقَعَ إِسَافُ عَلَى نَائِلَةَ فِي الْكَعْبَةِ, فَمَسَخَهُمَا اللَّهُ حَجَرَيْنِ4. قَالَ: وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: وَحَيْثُ يُنِيخُ الْأَشْعَرُونَ رِكَابَهُمْ ... بِمُفْضِي السُّيُولِ مِنْ إِسَافٍ وَنَائِلِ وَاتَّخَذُوا حَوْلَ الْكَعْبَةِ نَحْوَ ثَلَاثِمِائَةٍ وَسِتِّينَ صَنَمًا. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ لَخَوْلَانَ صَنَمٌ يُقَالُ لَهُ: عَمُّ أَنَسٍ بِأَرْضِ خَوْلَانَ, يُقْسِمُونَ لَهُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَمِنْ أَنْعَامِهِمْ وَحُرُوثِهِمْ قِسْمًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ بِزَعْمِهِمْ, فَمَا دَخَلَ فِي حَقِّ عَمِّ أَنَسٍ مِنْ حَقِّ اللَّهِ
تَعَالَى الَّذِي سَمَّوْهُ لَهُ تَرَكُوهُ لَهُ, وَمَا دَخَلَ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ حَقِّ عَمِّ أَنَسٍ رَدُّوهُ عَلَيْهِ. وَهُمْ بَطْنٌ مِنْ خَوْلَانَ يُقَالُ لَهُمُ: الْأَدِيمُ, وَفِيهِمْ أَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِيمَا يَذْكُرُونَ: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الْأَنْعَامِ: 136] ، قَالَ: وَكَانَ لِبَنِي مَلْكَانَ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ مُدْرِكَةَ بْنِ إِلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ صَنَمٌ يُقَالُ لَهُ: سَعْدٌ, صَخْرَةٌ بِفَلَاةٍ مِنْ أَرْضِهِمْ طَوِيلَةٌ, فَأَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي مَلْكَانَ بِإِبِلٍ لَهُ مُؤَبَّلَةٍ لِيَقِفَهَا عَلَيْهِ الْتِمَاسَ بَرَكَتِهِ فِيمَا يَزْعُمُ, فَلَمَّا رَأَتْهُ الْإِبِلُ -وَكَانَتْ مَرْعِيَّةً لَا تُرْكَبُ وَكَانَ يُهْرَاقُ عَلَيْهِ الدِّمَاءُ- نَفَرَتْ مِنْهُ فَذَهَبَتْ فِي كُلِّ وَجْهٍ وَغَضِبَ رَبُّهَا الْمَلْكَانِيُّ فَأَخَذَ حَجَرًا فَرَمَاهُ بِهِ وَقَالَ: لَا بَارَكَ اللَّهُ فِيكَ, نَفَّرْتَ عَلَيَّ إِبِلِي. ثُمَّ خَرَجَ فِي طَلَبِهَا حَتَّى جَمَعَهَا, فَلَمَّا اجْتَمَعَتْ لَهُ قَالَ: أَتَيْنَا إِلَى سَعْدٍ لِيَجْمَعَ شَمْلَنَا ... فَشَتَّتَنَا سَعْدٌ فَلَا نَحْنُ مِنْ سَعْدِ وَهَلْ سَعْدٌ الَّا صَخْرَةٌ بِتَنُوفَةٍ ... مِنَ الْأَرْضِ لَا تَدْعُو لِغَيٍّ وَلَا رُشْدِ وَكَانَ لِدَوْسٍ صَنَمٌ لِعَمْرِو بْنِ حُمَمَةَ الدَّوْسِيِّ. قَالَ: وَكَانَ لِقُرَيْشٍ وَبَنِي كِنَانَةَ العزى بنخلة وكان سَدَنَتُهَا وَحُجَّابُهَا بَنُو شَيْبَانَ مِنْ سُلَيْمِ حُلَفَاءَ أَبِي طَالِبٍ1, قُلْتُ: فَبَعَثَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فَهَدَمَهَا2. قَالَ: وَكَانَتِ اللَّاتُ لِثَقِيفٍ بِالطَّائِفِ وَكَانَ سدنتها وحجابها بنو مُعَتِّبٍ مِنْ ثَقِيفٍ. قَالَ: وَكَانَ مَنَاةُ لِلْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ وَمَنْ دَانَ بِدِينِهِمْ مِنْ أَهْلِ يَثْرِبَ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ مِنْ نَاحِيَةِ الْمُشَلَّلِ بِقَدِيدٍ, وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ: فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَيْهَا أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فَهَدَمَهَا وَيُقَالُ: عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ3. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ ذُو الْخَلَصَةِ لِدَوْسٍ وَخَثْعَمٍ وَبَجِيلَةَ وَمَنْ كَانَ بِبِلَادِهِمْ مِنَ الْعَرَبِ بِتَبَالَةَ, فَبَعَثَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيَّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
فَهَدَمَهَا1. قَالَ: وَكَانَتْ قَلَسٌ لِطَيِّءٍ وَمَنْ يَلِيهَا بِجَبَلِ طَيِّءٍ بَيْنَ سَلْمَى وَأَجَأَ, قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: فَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَعَثَ إِلَيْهَا عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فَهَدَمَهَا, فَوَجَدَ فِيهَا سَيْفَيْنِ يُقَالُ لِأَحَدِهِمَا: الرَّسُوبُ وَلِلْآخِرِ: الْمُخَذَّمِ, فَوَهَبَهُمَا لَهُ فَهُمَا سَيْفَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ2, قَالَ: وَكَانَ لِحِمْيَرَ وَأَهْلِ الْيَمَنِ بَيْتٌ بِصَنْعَاءَ يُقَالُ لَهُ: رِئَامُ3. قَالَ: وَكَانَتْ رِضَاءُ بَيْتًا لِبَنِي رَبِيعَةَ بْنِ كَعْبٍ, وَفِيهَا يَقُولُ الْمُسْتَوْغِرُ بْنُ رَبِيعَةَ حِينَ هَدَمَهَا فِي الْإِسْلَامِ: وَلَقَدْ شَدَدْتُ عَلَى رِضَاءٍ شِدَّةً ... فَتَرَكْتُهَا قَفْرًا بِقَاعٍ أَسْحَمَا4 وَكَانَ ذُو الْكَعْبَاتِ لِبَكْرٍ وَتَغْلِبَ ابْنَيْ وَائِلٍ وَإِيَادٍ بِسِنْدَادِ, وَلَهُ يَقُولُ أَعْشَى بَنِي قَيْسٍ: بَيْنَ الْخَوَرْنَقِ وَالسَّدِيرِ وَبَارِقٍ ... وَالْبَيْتِ ذِي الشُّرُفَاتِ مِنْ سِنْدَادِ5 قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ سَيِّدًا مِنْ سَادَاتِ بَنِي سَلِمَةَ وَشَرِيفًا مِنْ أَشْرَافِهِمْ, وَكَانَ قَدِ اتَّخَذَ فِي دَارِهِ صَنَمًا مِنْ خَشَبٍ يُقَالُ لَهُ: مَنَاةُ, فَلَمَّا أَسْلَمَ فِتْيَانُ بَنِي سَلَمَةَ -مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَابْنُهُ ومعاذ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْجُمُوحِ وَغَيْرُهُمْ- مِمَّنْ أَسْلَمَ وَشَهِدَ الْعَقَبَةَ, كانوا يُدْلِجُونَ بِاللَّيْلِ عَلَى صَنَمِ عَمْرٍو ذَلِكَ فَيَحْمِلُونَهُ فَيَطْرَحُونَهُ فِي بَعْضِ حُفَرِ بَنِي سَلِمَةَ وَفِيهَا عَذِرَاتُ النَّاسِ مُنَكَّسًا عَلَى رَأْسِهِ, فَإِذَا أَصْبَحَ عَمْرٌو قَالَ: وَيَلْكُمُ مَنْ عَدَا عَلَى آلِهَتِنَا هَذِهِ اللَّيْلَةَ؟ قَالَ: ثُمَّ يَغْدُو يَلْتَمِسُهُ حَتَّى إِذَا وَجَدَهُ غَسَلَهُ وَطَهَّرَهُ وَطَيَّبَهُ ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ لَوْ أَعْلَمُ مَنْ فَعَلَ بِكَ هَذَا لَأَخْزَيْتُهُ. فَإِذَا أَمْسَى وَنَامَ غَدَوْا فَفَعَلُوا بِصَنَمِهِ مثل ذلك, فيغدو يَلْتَمِسُهُ فَيَجِدُ بِهِ مِثْلَ مَا كَانَ فِيهِ مِنَ الْأَذَى فَيَغْسِلُهُ وَيُطَهِّرُهُ وَيُطَيِّبُهُ, فَيَغْدُونَ عَلَيْهِ إِذَا أَمْسَى فَيَفْعَلُونَ بِهِ ذَلِكَ. فَلَمَّا طَالَ عَلَيْهِ اسْتَخْرَجَهُ مِنْ حَيْثُ أَلْقَوْهُ فَغَسَلَهُ وَطَهَّرَهُ وَطَيَّبَهُ ثُمَّ جَاءَ بِسَيْفِهِ فَعَلَّقَهُ عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ لَهُ: وَاللَّهِ لَا أَعْلَمُ مَنْ يَصْنَعُ بِكَ مَا تَرَى, فَإِنْ كَانَ فِيكَ
خَيْرٌ فَامْتَنِعْ فَهَذَا السَّيْفُ مَعَكَ. فَلَمَّا أَمْسَى وَنَامَ غَدَوْا عَلَيْهِ فَأَخَذُوا السَّيْفَ مِنْ عُنُقِهِ ثُمَّ أَخَذُوا كَلْبًا مَيِّتًا فَقَرَنُوهُ بِهِ بِحَبْلٍ, ثُمَّ أَلْقَوْهُ فِي بِئْرٍ مِنْ آبَارٍ بَنِي سَلِمَةَ فِيهَا عَذَرُ النَّاسِ, وَغَدَا عَمْرٌو فَلَمْ يَجِدْهُ فِي مَكَانِهِ الَّذِي كَانَ بِهِ, فَخَرَجَ يَتْبَعُهُ حَتَّى وَجَدَهُ فِي تِلْكَ الْبِئْرِ مُنَكَّسًا مَقْرُونًا بِكَلْبٍ مَيِّتٍ, فَلَمَّا رَآهُ أَبْصَرَ شَأْنَهُ, وَكَلَّمَهُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ قَوْمِهِ فَأَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ, فَقَالَ حِينَ أَسْلَمَ وَعَرَفَ مِنَ اللَّهِ مَا عَرَفَ وَهُوَ يَذْكُرُ صَنَمَهُ ذَلِكَ, وَمَا أَبْصَرَ مِنْ أَمْرِهِ, وَشَكَرَ اللَّهَ إِذْ أَنْقَذَهُ مِمَّا كَانَ فِيهِ مِنَ الْعَمَى وَالضَّلَالَةِ: وَاللَّهِ لَوْ كُنْتَ إِلَهًا لَمْ تَكُنْ ... أَنْتَ وَكَلْبٌ وَسْطَ بِئْرٍ فِي قَرَنْ أُفٍّ لِمَلَقَاكَ إِلَهًا مُسْتَدَنْ ... تهان أو تسأل عَنْ سُوءِ الْغَبَنْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ ذِي الْمِنَنْ ... الْوَاهِبِ الرَّزَّاقِ دَيَّانِ الدِّيَنْ هُوَ الَّذِي أَنْقَذَنِي مِنْ قَبْلِ أَنْ ... أَكُونَ فِي ظُلْمَةِ قَبْرٍ مُرْتَهَنْ1 قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَاتَّخَذَ أَهْلُ كُلِّ دَارٍ فِي دَارِهِمْ صَنَمًا يَعْبُدُونَهُ, فَإِذَا أَرَادَ رَجُلٌ مِنْهُمْ سَفَرًا تَمَسَّحَ بِهِ فَيَكُونُ آخِرَ عَهْدِهِ وَأَوَّلَ عَهْدِهِ, فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالتَّوْحِيدِ قَالَتْ قُرَيْشٌ: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5] ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ قَدِ اتَّخَذَتْ مَعَ الْكَعْبَةِ طَوَاغِيتَ, وَهِيَ بُيُوتٌ تُعَظِّمُهَا كَتَعْظِيمِ الْكَعْبَةِ, لَهَا سَدَنَةٌ وَحُجَّابٌ وَيُهْدَى لَهَا كَمَا يُهْدَى لِلْكَعْبَةِ وَيُطَافُ بِهَا كَمَا يُطَافُ بِالْكَعْبَةِ وَيُنْحَرُ عِنْدَهَا كَمَا يُنْحَرُ عِنْدَ الْكَعْبَةِ2, وَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا سَافَرَ فَنَزَلَ مَنْزِلًا أَخَذَ أَرْبَعَةَ أَحْجَارٍ فَنَظَرَ إِلَى أَحْسَنِهَا فَاتَّخَذَهُ رَبًّا, وَجَعَلَ الثَّلَاثَةَ أَثَافِيَّ لِقِدْرِهِ, فَإِذَا ارْتَحَلَ تَرَكَهُ, فَإِذَا نَزَلَ مَنْزِلًا آخَرَ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ3. وَقَالَ أَبُو رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيُّ: لَمَّا بُعِثَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَسَمِعْنَا بِهِ, سَمِعْنَا بِمُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ فَلَحِقْنَا بِالنَّارِ, قَالَ: وَكُنَّا نَعْبُدُ الْحَجَرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَإِذَا وَجَدْنَا حَجَرًا هُوَ أَحْسَنُ مِنْهُ نُلْقِي ذَاكَ وَنَأْخُذُهُ, فَإِذَا لَمْ نَجِدْ حَجَرًا جَمَعْنَا حَثْيَةً مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ جِئْنَا
أسباب تلاعب الشيطان بالمشركين في عبادة الأصنام
بِغَنَمٍ فَحَلَبْنَاهَا عَلَيْهِ ثُمَّ طُفْنَا بِهِ قَالَ: وَكُنَّا نَعْمِدُ إِلَى الرَّمْلِ فَنَجْمَعُهُ وَنَحْلِبُ عَلَيْهِ فَنَعْبُدُهُ, وَكُنَّا نَعْمِدُ إِلَى الْحَجَرِ الْأَبْيَضِ فَنَعْبُدُهُ زَمَانًا ثُمَّ نُلْقِيهِ1. وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ: كُنَّا فِي الْجَاهِلِيَّةِ نَعْبُدُ حَجَرًا, فَسَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي: يَا أَهْلَ الرِّحَالِ, إِنَّ رَبَّكُمْ قَدْ هَلَكَ فَالْتَمِسُوا رَبًّا. قَالَ: فَخَرَجْنَا عَلَى كُلِّ صَعْبٍ وَذَلُولٍ, فَبَيْنَمَا نَحْنُ كَذَلِكَ نَطْلُبُهُ إِذَا نَحْنُ بِمُنَادٍ يُنَادِي: إِنَّا قَدْ وَجَدْنَا رَبَّكُمْ أَوْ شَبَهَهُ, فَإِذَا حَجَرٌ فَنَحَرْنَا عَلَيْهِ الْجَزُورَ2. وَقَالَ عَمْرُو بْنُ عَبْسَةَ: كُنْتُ مِمَّنْ يَعْبُدُ الْحِجَارَةَ فَيَنْزِلُ الْحَيَّ لَيْسَ مَعَهُمْ إِلَهٌ, فَيَخْرُجُ الرَّجُلُ مِنْهُمْ فَيَأْتِي بِأَرْبَعَةِ أَحْجَارٍ فَيَنْصِبُ ثَلَاثَةً لِقَدَرِهِ وَيَجْعَلُ أَحْسَنَهَا إِلَهًا يَعْبُدُهُ, ثُمَّ لَعَلَّهُ يَجِدُ مَا هُوَ أَحْسَنُ مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يرتحل, فيتركه ويأخد غَيْرَهُ3. وَلَمَّا فَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَكَّةَ, وَجَدَ حَوْلَ الْبَيْتِ ثَلَاثَمِائَةٍ وَسِتِّينَ صَنَمًا فَجَعَلَ يَطْعَنُ بِنُشْبَةِ قَوْسِهِ فِي وُجُوهِهَا وَعُيُونِهَا وَيَقُولُ: "جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ" وَهِيَ تَتَسَاقَطُ عَلَى وُجُوهِهَا, ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَأُخْرِجَتْ مِنَ الْمَسْجِدِ وَحُرِقَتْ4. [أَسْبَابُ تَلَاعُبِ الشَّيْطَانِ بِالْمُشْرِكِينَ فِي عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ] : وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي خَاتِمَةِ كِتَابِهِ "الْإِغَاثَةِ": فَصْلٌ 5: وَتَلَاعُبُ الشَّيْطَانِ بِالْمُشْرِكِينَ فِي عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ لَهُ أَسْبَابٌ عَدِيدَةٌ, وتلاعب بِكُلِّ قَوْمٍ عَلَى قَدْرِ عُقُولِهِمْ: فَطَائِفَةٌ دَعَاهُمْ إِلَى عِبَادَتِهَا مِنْ جِهَةِ تَعْظِيمِ الْمَوْتَى
الَّذِينَ صَوَّرُوا تِلْكَ الْأَصْنَامَ عَلَى صُوَرِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ عَنْ قَوْمِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ؛ وَلِهَذَا لَعَنَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْمُتَّخِذِينَ عَلَى الْقُبُورِ الْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ, وَنَهَى عَنِ الصَّلَاةِ إِلَى الْقُبُورِ, وَسَأَلَ رَبَّهُ سُبْحَانَهُ أَنْ لَا يَجْعَلَ قَبْرَهُ وَثَنًا يُعْبَدُ, وَنَهَى أُمَّتَهُ أَنْ يَتَّخِذُوا قَبْرَهُ عِيدًا, وَقَالَ: "اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ" 1 وَأَمَرَ بِتَسْوِيَةِ الْقُبُورِ وَطَمْسِ التَّمَاثِيلِ. قُلْتُ: وَسَنَذْكُرُ الْأَحَادِيثَ الْمُسْنَدَةَ فِي ذَلِكَ قَرِيبًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ: فَأَبَى الْمُشْرِكُونَ إِلَّا خِلَافَهُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ, إِمَّا جَهْلًا وَإِمَّا عِنَادًا لِأَهْلِ التَّوْحِيدِ, وَلَمْ يَضُرُّهُمْ ذَلِكَ شَيْئًا وَهَذَا السَّبَبُ هُوَ الْغَالِبُ عَلَى عَوَامِّ الْمُشْرِكِينَ, وَأَمَّا خَوَاصُّهُمْ فَإِنَّهُمُ اتَّخَذُوهَا بِزَعْمِهِمْ عَلَى صُوَرِ الْكَوَاكِبِ الْمُؤَثِّرَةِ فِي الْعَالَمِ عِنْدَهُمْ, وَجَعَلُوا لَهَا بُيُوتًا وَسَدَنَةً وَحُجَّابًا وَحَجًّا وَقُرْبَانًا, وَلَمْ يَزَلْ هَذَا فِي الدُّنْيَا قَدِيمًا وَحَدِيثًا؛ فَمِنْهَا بَيْتٌ عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ بِأَصْبَهَانَ كَانَتْ بِهِ أَصْنَامٌ أَخْرَجَهَا بَعْضُ مُلُوكِ الْمَجُوسِ وَجَعَلَهُ بَيْتَ نَارٍ, وَمِنْهَا بَيْتٌ ثَانٍ وَثَالِثٌ وَرَابِعٌ بِصَنْعَاءَ بَنَاهُ بَعْضُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى اسْمِ الزُّهْرَةِ فَخَرَّبَهُ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَمِنْهَا بَيْتٌ بَنَاهُ قَابُوسٌ الْمَلِكُ عَلَى اسْمِ الشَّمْسِ بِمَدِينَةِ فَرْغَانَةَ, فَخَرَّبَهُ الْمُعْتَصِمُ, وَأَشَدُّ الْأُمَمِ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنَ الشِّرْكِ الْهِنْدُ. قَالَ يَحْيَى بْنُ بِشْرٍ: إِنَّ شَرِيعَةَ الْهِنْدِ وَضَعَهَا لَهُمْ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: بَرْهُمَنْ وَوَضَعَ لَهُمْ أَصْنَامًا وَجَعَلَ أَعْظَمَ بُيُوتِهَا بَيْتًا بِمَدِينَةٍ مِنْ مَدَائِنِ السِّنْدِ, وَجَعَلَ فِيهِ صَنَمَهُمُ الْأَعْظَمَ وَزَعَمَ أَنَّهُ بِصُورَةِ الْهُيُولِي الْأَكْبَرِ, وَفُتِحَتْ هَذِهِ الْمَدِينَةُ فِي أَيَّامِ الْحَجَّاجِ وَاسْمُهَا الْمِلْتَانُ. إِلَى أَنْ قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَأَصْلُ هَذَا الْمَذْهَبِ مِنْ مُشْرِكِي الصَّابِئَةِ وَهُمْ قَوْمُ إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- الَّذِينَ نَاظَرَهُمْ فِي بُطْلَانِ الشِّرْكِ وَكَسَرَ حُجَّتَهُمْ بِعَمَلِهِ, وَآلِهَتَهُمْ بِيَدِهِ فَطَلَبُوا تَحْرِيقَهُ. وَهَذَا مَذْهَبٌ قَدِيمٌ فِي الْعَالَمِ وَأَهْلُهُ طَوَائِفُ شَتَّى فَمِنْهُمْ عُبَّادُ الشَّمْسِ زَعَمُوا أَنَّهَا مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لَهَا نَفْسٌ وَعَقْلٌ, وَهِيَ أَصْلُ نُورِ الْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ, وَتَكُونُ الْمَوْجُودَاتُ السُّفْلِيَّةُ كُلُّهَا عِنْدَهُمْ مِنْهَا, وَهِيَ عِنْدَهُمْ مَلَكُ الْفَلَكِ يَسْتَحِقُّ التَّعْظِيمَ وَالسُّجُودَ وَالدُّعَاءَ. وَمِنْ شَرِيعَتِهِمْ فِي عِبَادَتِهَا أَنَّهُمُ اتَّخَذُوا لَهَا صَنَمًا بِيَدِهِ جَوْهَرٌ عَلَى نَوْعِ النَّارِ, وَلَهُ بَيْتٌ خَاصٌّ قَدْ بَنَوْهُ
بِاسْمِهِ وَجَعَلُوا لَهُ الْوُقُوفَ الْكَثِيرَةَ مِنَ الْقُرَى وَالضِّيَاعِ, وَلَهُ سَدَنَةٌ وَقُوَّامٌ وَحَجَبَةٌ يَأْتُونَ الْبَيْتَ وَيُصَلُّونَ فِيهِ لَهَا ثَلَاثَ كَرَّاتٍ فِي الْيَوْمِ, وَيَأْتِيهِ أَصْحَابُ الْعَاهَاتِ فَيَصُومُونَ لِذَلِكَ الصَّنَمِ وَيُصَلُّونَ وَيَدَعُونَ وَيَسْتَسْقُونَ بِهِ, وَهُمْ إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ سَجَدُوا كُلُّهُمْ, وَإِذَا غَرَبَتْ وَإِذَا تَوَسَّطَتِ الْفَلَكَ. وَلِهَذَا يُقَارِفُهَا الشَّيْطَانُ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ لِتَقَعَ عِبَادَتُهُمْ وَسُجُودُهُمْ لَهُ؛ وَلِهَذَا نَهَى النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ تَحَرِّي الصَّلَاةِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ قَطْعًا لِمُشَابِهَةِ الْكُفَّارِ ظَاهِرًا1, وَسَدًّا لِذَرِيعَةِ الشِّرْكِ وَعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ2. قُلْتُ: وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- عِبَادَةَ الشَّمْسِ عَنْ أَهْلِ سَبَأٍ مِنْ أَرْضِ الْيَمَنِ فِي عَهْدِ بَلْقِيسَ, كَمَا حَكَى قَوْلَ الْهُدْهُدِ حَيْثُ قَالَ: {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [النَّمْلِ: 24] إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ. وَهَدَاهَا اللَّهُ تَعَالَى إِلَى الْإِسْلَامِ عَلَى يَدِ نَبِيِّهِ سُلَيْمَانَ -عَلَيْهِ السلام- حيث قال: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النَّمْلِ: 44] . ثُمَّ قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: "فَصْلٌ"3 وَطَائِفَةٌ أُخْرَى اتَّخَذَتْ لِلْقَمَرِ صَنَمًا وَزَعَمُوا أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ التَّعْظِيمَ وَالْعِبَادَةَ وَإِلَيْهِ تَدْبِيرُ هَذَا الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ, وَمِنْ شَرِيعَةِ عُبَّادِهِ أَنَّهُمُ اتَّخَذُوا لَهُمْ صَنَمًا عَلَى شَكْلِ عِجْلٍ وَيَجُرُّهُ أَرْبَعَةٌ, وَبِيَدِ الصَّنَمِ جَوْهَرَةٌ, وَيَعْبُدُونَهُ وَيَسْجُدُونَ لَهُ وَيَصُومُونَ لَهُ أَيَّامًا مَعْلُومَةً مِنْ كُلِّ شَهْرٍ, ثُمَّ يَأْتُونَ إِلَيْهِ بِالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالْفَرَحِ وَالسُّرُورِ, فَإِذَا فَرَغُوا مِنَ الْأَكْلِ أَخَذُوا فِي الرَّقْصِ وَالْغِنَاءِ وَأَصْوَاتِ الْمَعَازِفِ بَيْنَ يَدَيْهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْبُدُ أَصْنَامًا اتَّخَذُوهَا عَلَى صُوَرِ الْكَوَاكِبِ وَرُوحَانِيَّاتِهَا بِزَعْمِهِمْ, وَبَنَوْا لَهَا هَيَاكِلَ وَمُتَعَبَّدَاتٍ لِكُلِّ كَوْكَبٍ مِنْهَا هَيْكَلٌ يَخُصُّهُ وَصَنَمٌ يَخُصُّهُ وَعِبَادَةٌ تَخُصُّهُ, وَمَتَى أَرَدْتَ الْوُقُوفَ عَلَى هَذَا فَانْظُرْ فِي كِتَابِ "السِّرِّ الْمَكْتُومِ فِي مُخَاطَبَةِ النُّجُومِ" الْمَنْسُوبِ لِابْنِ خَطِيبِ الرَّيِّ4 تَعْرِفُ
عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ وَكَيْفِيَّةَ تِلْكَ الْعِبَادَةِ وَشَرَائِطَهَا, وَكُلُّ هَؤُلَاءِ مَرْجِعُهُمْ إِلَى عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ, فَإِنَّهُمْ لَا تَسْتَمِرُّ لَهُمْ طَرِيقٌ إِلَّا بِشَخْصٍ خَاصٍّ عَلَى شَكْلٍ خَاصٍّ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ وَيَعْكُفُونَ عَلَيْهِ, وَمِنْ هُنَا اتَّخَذَ أَصْحَابُ الرُّوحَانِيَّاتِ وَالْكَوَاكِبِ أَصْنَامًا زَعَمُوا أَنَّهَا عَلَى صُوَرِهَا, فَوَضْعُ الصَّنَمِ إِنَّمَا كَانَ فِي الْأَصْلِ عَلَى شَكْلِ مَعْبُودٍ غَائِبٍ فَجَعَلُوا الصَّنَمَ على شكله وهيئته وَصُورَتِهِ؛ لِيَكُونَ نَائِبًا مَنَابَهُ وَقَائِمًا مَقَامَهُ, وَإِلَّا فَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ عَاقِلًا لَا يَنْحِتُ خَشَبَةً أَوْ حَجَرًا بِيَدِهِ ثُمَّ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ إِلَهُهُ وَمَعْبُودُهُ. وَمِنْ أَسْبَابِ عِبَادَتِهَا أَيْضًا أَنَّ الشَّيَاطِينَ تَدْخُلُ فِيهَا وَتُخَاطِبُهُمْ مِنْهَا وَتُخْبِرُهُمْ بِبَعْضِ الْمُغَيَّبَاتِ عَنْهُمْ وَتَدُلُّهُمْ عَلَى بَعْضِ مَا يَخْفَى عَلَيْهِمْ وَهُمْ لَا يُشَاهِدُونَ الشَّيْطَانَ, فَجَهَلَتُهُمْ وَسَقَطُهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّ الصَّنَمَ نَفْسَهُ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ الْمُخَاطِبُ1، وَعُقَلَاؤُهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ تِلْكَ رُوحَانِيَّاتِ الْأَصْنَامِ, وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: إِنَّهَا الْمَلَائِكَةُ وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: إِنَّهَا هِيَ الْعُقُولُ الْمُجَرَّدَةُ وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: هِيَ رُوحَانِيَّاتُ الْأَجْرَامِ الْعُلْوِيَّةِ, وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ لَا يَسْأَلُ عَمَّا عَهِدَ بَلْ إِذَا سَمِعَ الْخِطَابَ مِنَ الصَّنَمِ اتَّخَذَهُ إِلَهًا وَلَا يَسْأَلُ عَمَّا وَرَاءَ ذَلِكَ. وَبِالْجُمْلَةِ فَأَكْثَرُ أَهْلِ الْأَرْضِ مَفْتُونُونَ بِعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ, وَلَمْ يَتَخَلَّصْ مِنْهَا إِلَّا الْحُنَفَاءُ أَتْبَاعُ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَعِبَادَتُهَا فِي الْأَرْضِ مِنْ قَبْلِ نُوحٍ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- كَمَا تَقَدَّمَ وَهَيَاكِلُهَا وَوُقُوفُهَا وَسَدَنَتُهَا وَحُجَّابُهَا وَالْكُتُبُ المصنفة في شرائع عِبَادَتِهَا طَبَقُ الْأَرْضِ. قَالَ إِمَامُ الْحُنَفَاءِ: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ، رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} [إِبْرَاهِيمَ: 35, 36] ، وَالْأُمَمُ الَّتِي أَهْلَكَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِأَنْوَاعِ الْهَلَاكِ كُلُّهُمْ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ كَمَا قَصَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ذَلِكَ عَنْهُمْ فِي الْقُرْآنِ, وَأَنْجَى الرُّسُلَ وَأَتْبَاعَهُمْ مِنَ الْمُوَحِّدِينَ. وَيَكْفِي فِي مَعْرِفَةِ كَثْرَتِهِمْ وَأَنَّهُمْ أَكْثَرُ أَهْلِ الْأَرْضِ مَا صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, " أَنَّ بَعْثَ النَّارِ مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعُمِائَةٍ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ" 1, وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا} [الْإِسْرَاءِ: 89] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الْأَنْعَامِ: 116] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يُوسُفَ: 103] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} [الْأَعْرَافِ: 102] ، وَلَوْ لَمْ تَكُنِ الْفِتْنَةُ بِعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ عَظِيمَةً لَمَا أَقْدَمَ عُبَّادُهَا عَلَى بَذْلِ نُفُوسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ دُونَهَا, فَهُمْ يُشَاهِدُونَ مَصَارِعَ إِخْوَانِهِمْ وَمَا حَلَّ بِهِمْ وَلَا يَزِيدُهُمْ ذَلِكَ إِلَّا حُبًّا لَهَا وَتَعْظِيمًا وَيُوصِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالصَّبْرِ عَلَيْهَا وَتَحَمُّلِ أَنْوَاعِ الْمَكَارِهِ فِي نُصْرَتِهَا وَعِبَادَتِهَا, وَهُمْ يَسْمَعُونَ أَخْبَارَ الْأُمَمِ الَّتِي فُتِنَتْ بِعِبَادَتِهَا وَمَا حَلَّ بِهِمْ مِنْ عَاجِلِ الْعُقُوبَاتِ وَلَا يَثْنِيهِمْ ذَلِكَ عَنْ عِبَادَتِهَا, فَفِتْنَةُ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ أَشَدُّ مِنْ فِتْنَةِ عِشْقِ الصُّوَرِ وَفِتْنَةِ الْفُجُورِ بِهَا, وَالْعَاشِقُ لَا يَثْنِيهِ عَنْ مُرَادِهِ خَشْيَةَ عُقُوبَةٍ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ, وَهُوَ يُشَاهِدُ مَا يَحِلُّ بِأَصْحَابِ ذَلِكَ مِنَ الْآلَامِ وَالْعُقُوبَاتِ وَالضَّرْبِ وَالْحَبْسِ وَالنَّكَالِ وَالْفَقْرِ, وغير مَا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ وَفِي الْبَرْزَخِ, وَلَا يَزِيدُهُ ذَلِكَ إِلَّا إِقْدَامًا وَحِرْصًا عَلَى الْوُصُولِ وَالظَّفَرِ بِحَاجَتِهِ فَهَكَذَا الْفِتْنَةُ بِعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَأَشَدُّ, فَإِنَّ تَأَلُّهَ الْقُلُوبِ لَهَا أَعْظَمُ مِنْ تَأَلُّهِهَا لِلصُّوَرِ الَّتِي يُرِيدُ مِنْهَا الْفَاحِشَةَ بِكَثِيرٍ, وَالْقُرْآنُ بَلْ وَسَائِرُ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا مُصَرِّحَةٌ بِبُطْلَانِ هَذَا الدِّينِ وَكُفْرِ أَهْلِهِ وَأَنَّهُمْ أَعْدَاءُ اللَّهِ وَأَعْدَاءُ رُسُلِهِ وَأَنَّهُمْ أَوْلِيَاءُ الشَّيْطَانِ وَعُبَّادُهُ وَأَنَّهُمْ هُمْ أَهْلُ النَّارِ الَّذِينَ لَا يَخْرُجُونَ مِنْهَا وَهُمُ الَّذِينَ حَلَّتْ بِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَنَزَلَتْ بِهِمُ الْعُقُوبَاتُ وَأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بَرِيءٌ مِنْهُمْ هُوَ وَجَمِيعُ رُسُلِهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَغْفِرُ لَهُمْ وَلَا يَقْبَلُ لَهُمْ عَمَلًا, وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ مِنَ الدِّينِ الْحَنِيفِ, وَقَدْ أَبَاحَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- لِرَسُولِهِ وَأَتْبَاعِهِ مِنَ الْحُنَفَاءِ دِمَاءَ هَؤُلَاءِ وَأَمْوَالَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ, وَأَمَرَهُمْ بِتَطْهِيرِ الْأَرْضِ مِنْهُمْ حَيْثُ وُجِدُوا, وَذَمَّهُمْ بِسَائِرِ أَنْوَاعِ الذَّمِّ وَتَوَعَّدَهُمْ بِأَعْظَمِ أَنْوَاعِ الْعُقُوبَةِ, فَهَؤُلَاءِ فِي شِقٍّ وَرُسُلُ اللَّهِ فِي شِقٍّ2. ثُمَّ قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
أكثر شرك الأمم في الإلهية، لا بجحود الصانع
فَصْلٌ 1: وَمِنْ أَسْبَابِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ الْغُلُوُّ فِي الْمَخْلُوقِ وَإِعْطَاؤُهُ فَوْقَ مَنْزِلَتِهِ حَتَّى جَعَلُوا فِيهِ حَظًّا مِنَ الْإِلَهِيَّةِ وَشَبَّهُوهُ بِاللَّهِ تَعَالَى, وَهَذَا هُوَ التَّشْبِيهُ الْوَاقِعُ فِي الْأُمَمِ الَّذِي أَبْطَلَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَبَعَثَ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ كُتُبَهُ بِإِنْكَارِهِ وَالرَّدِّ عَلَى أَهْلِهِ, فَهُوَ سُبْحَانُهُ يَنْفِي وَيَنْهَى أَنْ يُجْعَلَ غَيْرُهُ مِثْلًا لَهُ وَنِدًّا وَشِبْهًا لَهُ, لَا أَنْ يُشَبَّهَ هُوَ بِغَيْرِهِ إِذْ لَيْسَ فِي الْأُمَمِ أُمَّةٌ جَعَلَتْهُ سُبْحَانَهُ مَثَلًا لِشَيْءٍ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ فَجَعَلَتِ الْمَخْلُوقَ أَصْلًا وَشَبَّهَتْ بِهِ الْخَالِقَ, فَهَذَا لَا يُعْرَفُ فِي طَائِفَةٍ مِنْ طَوَائِفِ بَنِي آدَمَ وَإِنَّمَا الْأَوَّلُ هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي طَوَائِفِ أَهْلِ الشِّرْكِ غُلُوًّا فِي مَنْ يُعَظِّمُونَهُ وَيُحِبُّونَهُ حَتَّى شَبَّهُوهُ بِالْخَالِقِ وَأَعْطَوْهُ خَصَائِصَ الْإِلَهِيَّةِ, بَلْ صَرَّحُوا أَنَّهُ إِلَهٌ وَأَنْكَرُوا جَعْلَ الْآلِهَةِ إِلَهًا وَاحِدًا وَقَالُوا: اصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ, وَصَرَّحُوا بِأَنَّهُ إِلَهٌ مَعْبُودٌ يُرْجَى وَيُخَافُ وَيُعَظَّمُ وَيُسْجَدُ لَهُ وَيُحْلَفُ بِاسْمِهِ وَيُقَرَّبُ لَهُ الْقَرَابِينُ, إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِ الْعِبَادَةِ الَّتِي لَا تَنْبَغِي إِلَّا لِلَّهِ تَعَالَى. ثُمَّ ذَكَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ بَحْثًا نَفِيسًا فَأَجَادَ وَأَفَادَ, ثُمَّ ذَكَرَ بَاقِيَ طَوَائِفِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ عُبَّادِ النَّارِ وَالْمَاءِ وَالْحَيَوَانَاتِ وَالْمَلَائِكَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الثِّنْوِيَّةِ وَالدَّهْرِيَّةِ وَالْفَلَاسِفَةِ, وَذَكَرَ مِنْ أَوْضَاعِ شَرَائِعِهِمُ الْبَاطِلَةِ وَأُصُولِهَا وَكَيْفِيَّةِ عِبَادَتِهِمْ لِمَا أَلَّهُوهُ وَنَقَضَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ أَتَمَّ نَقْضٍ2, تَغَمَّدَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ. [أَكْثَرُ شِرْكِ الْأُمَمِ فِي الْإِلَهِيَّةِ، لَا بِجُحُودِ الصَّانِعِ] : وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ أَكْثَرَ شِرْكِ الْأُمَمِ الَّتِي بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهَا رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ كُتُبَهُ غَالِبُهُمْ إِنَّمَا أَشْرَكَ فِي الْإِلَهِيَّةِ, وَلَمْ يُذْكَرْ جَحُودُ الصَّانِعِ إِلَّا عَنِ الدَّهْرِيَّةِ وَالثِّنْوِيَّةِ, وَأَمَّا غَيْرُهُمْ مِمَّنْ جَحَدَهَا عِنَادًا كَفِرْعَوْنَ ونمرود وأضرابهم, فهم مَقْرُونٌ بِالرُّبُوبِيَّةِ بَاطِنًا كَمَا قَدَّمْنَا, وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهُمْ: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا} [النَّمْلِ: 14] ، وَبَقِيَّةُ الْمُشْرِكِينَ يُقِرُّونَ بِالرُّبُوبِيَّةِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ الْقُرْآنُ فِيمَا قَدَّمْنَا مِنَ الْآيَاتِ وَغَيْرِهَا, مَعَ أَنَّ الشِّرْكَ فِي الرُّبُوبِيَّةِ لَازِمٌ لَهُمْ مِنْ
الشرك الأكبر
جِهَةِ إِشْرَاكِهِمْ فِي الْإِلَهِيَّةِ وَكَذَا فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ, إِذْ أَنْوَاعُ التَّوْحِيدِ مُتَلَازِمَةٌ لَا يَنْفَكُّ نَوْعٌ مِنْهَا عَنِ الْآخَرِ, وَهَكَذَا أَضْدَادُهَا فَمَنْ ضَادَّ نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ التَّوْحِيدِ بِشَيْءٍ مِنَ الشِّرْكِ فَقَدْ أَشْرَكَ فِي الْبَاقِي, مِثَالُ ذَلِكَ فِي هَذَا الزَّمَنِ عُبَّادُ الْقُبُورِ, إِذَا قَالَ أَحَدُهُمْ: يَا شَيْخُ فُلَانُ -لِذَلِكَ الْمَقْبُورِ- أَغِثْنِي أَوِ افْعَلْ لِي كَذَا وَنَحْوَ ذَلِكَ, يُنَادِيهِ مِنْ مَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ تَحْتَ التُّرَابِ وَقَدْ صَارَ تُرَابًا؛ فَدُعَاؤُهُ إِيَّاهُ عِبَادَةٌ صَرَفَهَا لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ لِأَنَّ الدُّعَاءَ مُخُّ الْعِبَادَةِ, فَهَذَا شِرْكٌ فِي الْإِلَهِيَّةِ, وَسُؤَالُهُ إِيَّاهُ تِلْكَ الْحَاجَةَ مِنْ جَلْبِ خَيْرٍ أَوْ دَفْعِ ضُرٍّ أَوْ رَدِّ غَائِبٍ أَوْ شِفَاءِ مَرِيضٍ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا اللَّهُ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ, هَذَا شِرْكٌ فِي الرُّبُوبِيَّةِ حَيْثُ اعْتَقَدَ أَنَّهُ مُتَصَرِّفٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى فِي مَلَكُوتِهِ. ثُمَّ إِنَّهُ لَمْ يَدْعُهُ هَذَا الدُّعَاءَ إِلَّا مَعَ اعْتِقَادِهِ أَنَّهُ يَسْمَعُهُ عَلَى الْبُعْدِ وَالْقُرْبِ, فِي أَيِّ وَقْتٍ كَانَ وَفِي أَيِّ مَكَانٍ وَيُصَرِّحُونَ بِذَلِكَ, وَهَذَا شِرْكٌ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ حَيْثُ أَثْبَتَ لَهُ سَمْعًا مُحِيطًا بِجَمِيعِ الْمَسْمُوعَاتِ لَا يَحْجُبُهُ قُرْبٌ وَلَا بُعْدٌ؛ فَاسْتَلْزَمَ هَذَا الشِّرْكُ فِي الْإِلَهِيَّةِ الشِّرْكَ فِي الرُّبُوبِيَّةِ وَالْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ. [الشِّرْكُ الْأَكْبَرُ] : وَالشِّرْكُ نَوْعَانِ: فَشِرْكٌ أَكْبَرُ ... بِهِ خُلُودُ النَّارِ إِذْ لَا يُغْفَرُ وَهْوَ اتِّخَاذُ الْعَبْدِ غَيْرَ اللَّهِ ... نِدًّا بِهِ مُسَوِّيًا مُضَاهِي "وَالشِّرْكُ" الَّذِي هُوَ ضِدُّ التَّوْحِيدِ "نَوْعَانِ" أَيْ: يَنْقَسِمُ إِلَى نَوْعَيْنِ: "فَشِرْكٌ أَكْبَرُ" يُنَافِي التَّوْحِيدَ بِالْكُلِّيَّةِ وَيُخْرِجُ صَاحِبَهُ مِنَ الْإِسْلَامِ "بِهِ خُلُودُ" فَاعِلِهِ فِي "النَّارِ" أَبَدًا "إِذْ" تَعْلِيلٌ لِأَبَدِيَّةِ الْخُلُودِ أَيْ: لِكَوْنِهِ "لَا يُغْفَرُ" قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النِّسَاءِ: 48] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النِّسَاءِ: 116] ، وَقَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ}
[الْمَائِدَةِ: 72] ، وَقَالَ تَعَالَى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ، حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الْحَجِّ: 31] ، وَقَالَ لِصَفْوَةِ خَلْقِهِ وَهُمُ الرُّسُلُ -عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- بَعْدَ أَنْ أَثْنَى عَلَيْهِمْ: {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الْأَنْعَامِ: 88] ، وَقَالَ لِخَاتَمِهِمْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ، بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزُّمَرِ: 65] ، فَالشِّرْكُ أَعْظَمُ ذَنْبٍ عُصِيَ اللَّهُ بِهِ؛ وَلِهَذَا أَخْبَرَنَا سُبْحَانَهُ أَنَّهُ لَا يَغْفِرُهُ وَأَنَّهُ لَا أَضَلَّ مِنْ فَاعِلِهِ, وَأَنَّهُ مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ أَبَدًا لَا نَصِيرَ لَهُ وَلَا حَمِيمَ وَلَا شَفِيعَ يُطَاعُ, وَأَنَّهُ لَوْ قَامَ لِلَّهِ تَعَالَى قِيَامَ السَّارِيَةِ لَيْلًا وَنَهَارًا ثُمَّ أَشْرَكَ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرَهُ لَحْظَةً مِنَ اللَّحَظَاتِ وَمَاتَ عَلَى ذَلِكَ, فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ كُلُّهُ بِتِلْكَ اللَّحْظَةِ الَّتِي أَشْرَكَ فِيهَا وَلَوْ كَانَ نَبِيًّا رَسُولًا, وَلَوْ كَانَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وَهَذَا مِنْ تَقْدِيرِ وُقُوعِ الْمُحَالِ وَهُوَ كَثِيرٌ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ, أَيْ: لَوْ قُدِّرَ وُقُوعُ ذَلِكَ مِنْ مَلَكٍ أَوْ رَسُولٍ لَكَانَ كَغَيْرِهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فِي حُبُوطِ عَمَلِهِ وَحُلُولِ غَضَبِ اللَّهِ عَلَيْهِ, وَإِلَّا فَلَمْ يُرْسِلِ اللَّهُ تَعَالَى رَسُولًا إِلَّا مَعْصُومًا مِنْ جَمِيعِ الْمَعَاصِي فَضْلًا عَنِ الشِّرْكِ {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الْأَنْعَامِ: 124] وَالْآيَاتُ فِي بَيَانِ عِظَمِ الشِّرْكِ وَوَعِيدِ فَاعِلِهِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحِيطَ بِهَا هَذَا الْمُخْتَصَرُ, وَفِي مَعْنَاهَا مِنَ الْأَحَادِيثِ مَا لَا يُحْصَى, وَلْنَذْكُرْ مِنْ ذَلِكَ مَا تَيَسَّرَ فَنَقُولُ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ: وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "مَنْ مَاتَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا, دَخَلَ النَّارَ" وَقُلْتُ أَنَا: وَمَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا, دَخَلَ الْجَنَّةَ1. وَفِيهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: أَتَى
النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْمُوجِبَتَانِ؟ فَقَالَ: "مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ, وَمَنْ مَاتَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ النَّارَ" 1. وَفِيهِ عَنْهُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "مَنْ لَقِيَ اللَّهَ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةِ, وَمَنْ لَقِيَ اللَّهَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا دَخَلَ النَّارَ" 2, وَفِيهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "أَتَانِي جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَبَشَّرَنِي أَنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِكَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ. قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟ قَالَ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ" 3. وَفِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ؟ قَالَ: "أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ" 4 الْحَدِيثَ. وَفِيهِ عَنْ أَبِي بَكَرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: "أَلَا أُنْبِئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ "ثَلَاثًا": الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ, وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ, وَشَهَادَةُ الزُّورِ" الْحَدِيثَ5. وَرَوَى أَحْمَدُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الدَّوَاوِينُ عِنْدَ اللَّهِ ثَلَاثَةٌ: دِيوَانٌ لَا يَعْبَأُ اللَّهُ بِهِ شَيْئًا, وَدِيوَانٌ لَا يَتْرُكُ اللَّهُ مِنْهُ شَيْئًا, وَدِيوَانٌ لَا يَغْفِرُهُ اللَّهُ؛ فَأَمَّا الدِّيوَانُ الَّذِي لَا يَغْفِرُهُ اللَّهُ فَالشِّرْكُ بِاللَّهِ, قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} وَقَالَ: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ} وَأَمَّا الدِّيوَانُ الَّذِي لَا يَعْبَأُ اللَّهُ بِهِ شَيْئًا فَظُلْمُ الْعَبْدِ نَفْسَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ, مِنْ صَوْمِ يَوْمٍ تَرَكَهُ أَوْ صَلَاةٍ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَغْفِرُ ذَلِكَ وَيَتَجَاوَزُهُ إِنْ شَاءَ, وَأَمَّا الدِّيوَانُ الَّذِي لَا يَتْرُكُ اللَّهُ مِنْهُ شَيْئًا فَظُلْمُ الْعِبَادِ بَعْضًا, الْقَصَّاصُ لَا مَحَالَةَ". تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ6 وَلَهُ عَنْ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ
رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "كُلُّ ذَنْبٍ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَغْفِرَهُ, إِلَّا الرَّجُلُ يَمُوتُ كَافِرًا أَوِ الرَّجُلُ يَقْتُلُ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا" وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ أَيْضًا1. وَلِأَحْمَدَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: يَا عَبْدِي, مَا عَبَدْتَنِي وَرَجَوْتَنِي فَإِنِّي غَافِرٌ لَكَ عَلَى مَا كَانَ مِنْكَ, يَا عَبْدِي, إِنَّكَ إِنْ لَقِيتَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا, لَقِيتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً" 2, وَلِلتِّرْمِذِيِّ وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "قَالَ الله تعالى: يابن آدَمَ إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ مِنْكَ ولا أبالي, يابن آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غفرت لك, يابن آدَمَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابَ الْأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً" 3 وَلِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا مِنْ نَفْسٍ تَمُوتُ لَا تُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا إِلَّا حَلَّتْ لَهَا الْمَغْفِرَةُ, إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَذَّبَهَا وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهَا: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 4 ". وَلِأَبِي يَعْلَى عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا تَزَالُ الْمَغْفِرَةُ عَلَى الْعَبْدِ مَا لَمْ يَقَعِ الْحِجَابُ" قِيلَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَمَا الْحِجَابُ؟ قَالَ: "الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ قَالَ: مَا مِنْ نَفْسٍ تَلْقَى اللَّهَ لَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا إِلَّا حَلَّتْ لَهَا الْمَغْفِرَةُ
مِنَ اللَّهِ تَعَالَى, إِنْ شَاءَ أَنْ يُعَذِّبَهَا وَإِنْ شَاءَ أَنْ يَغْفِرَ لَهَا" ثُمَّ قَرَأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 1. وَلِأَحْمَدَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ" 2 وَلِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّ لِي ابْنَ أَخٍ لَا يَنْتَهِي عَنِ الْحَرَامِ قَالَ: "وَمَا دِينُهُ"؟ قَالَ: يُصَلِّي وَيُوَحِّدُ اللَّهَ قَالَ: "اسْتَوْهِبْ مِنْهُ دِينَهُ, فَإِنْ أَبَى فَابْتَعْهُ مِنْهُ" فَطَلَبَ الرَّجُلُ ذَاكَ مِنْهُ فَأَبَى عَلَيْهِ فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ: وَجَدْتُهُ شَحِيحًا عَلَى دِينِهِ قَالَ: فَنَزَلَتْ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 3. وَلِلطَّبَرَانِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: مَنْ عَلِمَ أَنِّي ذُو قُدْرَةٍ عَلَى مَغْفِرَةِ الذُّنُوبِ غَفَرْتُ لَهُ وَلَا أُبَالِي, مَا لَمْ يُشْرِكْ بِي شَيْئًا"4. وَلِابْنِ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أُخْبِرُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ: الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ ثُمَّ قَرَأَ: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ ثُمَّ قَرَأَ: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} 5 [لُقْمَانَ: 14] " وَلِلْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الْأَنْعَامِ: 82] شَقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّنَا لَا يَظْلِمُ نَفْسَهُ؟ قَالَ: "إِنَّهُ لَيْسَ الَّذِي تَعْنُونُ, أَلَمْ تَسْمَعُوا مَا قَالَ العبد الصالح: {يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ
إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لُقْمَانَ: 13] " الْحَدِيثَ فِي الصَّحِيحَيْنِ1. وَلِابْنِ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: "لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا وَإِنْ قُطِّعْتُمْ, أَوْ صُلِبْتُمْ, أَوْ حُرِّقْتُمْ" 2. وَلِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: أَوْصَانَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِسَبْعِ خِصَالٍ: "لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا وَإِنْ حُرِّقْتُمْ وَقُطِّعْتُمْ وَصُلِبْتُمْ" 3. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: كُنْتُ رَدِيفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حِمَارٍ فَقَالَ لِي: "يَا مُعَاذُ, أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ وَمَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ "؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: "حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا, وَحَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ أَنْ لَا يُعَذِّبَ مَنْ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا" 4. وَلِلْبُخَارِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ دَخَلَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَعِنْدَهُ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ, فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَيْ عَمِّ, قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ" فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ: يَا أَبَا طَالِبٍ أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ" فَنَزَلَتْ {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا
أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} 1 [التَّوْبَةِ: 113] . وَالْأَحَادِيثُ فِي عِظَمِ ذَنَبِ الشِّرْكِ وَشَدَّةِ وَعِيدِهِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى, وَقَدْ قَدَّمْنَا مِنْ أَحَادِيثِ التَّوْحِيدِ جُمْلَةً وَافِيَةً عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَغَيْرِ ذَلِكَ, وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الشِّرْكَ أَعْظَمُ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ كَمَا أَنَّ التَّوْحِيدَ أَعْظَمُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ؛ وَلِهَذَا كَانَ أَوَّلُ دَعْوَةِ الرُّسُلِ كُلِّهِمْ إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَنَفْيِ الشِّرْكِ فَلَمْ يَأْمُرُوا بِشَيْءٍ قَبْلَ التَّوْحِيدِ وَلَمْ يَنْهَوْا عَنْ شَيْءٍ قَبْلَ الشِّرْكِ كَمَا قَدَّمْنَا بَسْطَ ذَلِكَ. وَمَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى التَّوْحِيدَ مَعَ شَيْءٍ مِنَ الْأَوَامِرِ إِلَّا جَعْلَهُ أَوَّلَهَا, وَلَا ذَكَرَ الشِّرْكَ مَعَ شَيْءٍ مِنَ النَّوَاهِي إِلَّا جَعَلَهُ أَوَّلَهَا, كَمَا فِي آيَةِ النِّسَاءِ: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} [النِّسَاءِ: 36] ، وَكَمَا فِي آيَةِ الْأَنْعَامِ الَّتِي طَلَبَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْبَيْعَةَ عَلَيْهَا, وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ، وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ
بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الْأَنْعَامِ: 151-153] ، وَكَمَا فِي آيَاتِ الْإِسْرَاءِ: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} إِلَى قَوْلِهِ: {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا} [الْإِسْرَاءِ: 23-39] فَابْتَدَأَ تِلْكَ الْأَوَامِرَ وَالنَّوَاهِيَ بِالْأَمْرِ بِالتَّوْحِيدِ وَالنَّهْيِ عَنِ الشِّرْكِ وَخَتَمَهَا بِذَلِكَ, وَكَمَا فِي آيَاتِ الْفُرْقَانِ فِي الثَّنَاءِ عَلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ فِي اجْتِنَابِهِمُ الْفَوَاحِشَ: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ} [الْفَرْقَانِ: 68] الْآيَاتِ, وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَكَذَلِكَ فِي أَحَادِيثِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْجَامِعَةِ لِلْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي يَبْدَأُ فِي الْأَوَامِرِ بِالتَّوْحِيدِ وَفِي الْمَنَاهِي بِالشِّرْكِ, كَمَا فِي حَدِيثِ الْكَبَائِرِ الْمُتَقَدِّمِ وَكَمَا فِي حَدِيثِ مَنْ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يُقَرِّبُنِي مِنَ الْجَنَّةِ وَيُبَاعِدُنِي عَنِ النَّارِ, قَالَ: "لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْ عَظِيمٍ, وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ: تَعْبُدُ اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا" 1 وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَكَذَا فِي أَحَادِيثِ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ وَكَحَدِيثِ جِبْرِيلَ الْمَشْهُورِ2 وَحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ3 وَحَدِيثِ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ4 وَغَيْرِهَا, يَبْدَأُ فيها بالشهادتين. ومع تَتَبَّعَ الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ وَتَدَبَّرَ نُصُوصَهُمَا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهَا لَا تَخْرُجُ عَنِ الْأَمْرِ بِالتَّوْحِيدِ وَالنَّهْيِ عَنِ الشِّرْكِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ, وَلَمْ يَخْلُقِ اللَّهُ الْخَلْقَ إِلَّا لِذَلِكَ.
التعريف بالشرك
[التَّعْرِيفُ بِالشِّرْكِ] : "وَهُوَ" أَيِ: الشِّرْكُ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي الْمَتْنِ وَذِكْرُ النُّصُوصِ فِيهِ فِي الشَّرْحِ "اتِّخَاذُ الْعَبْدِ غَيْرَ اللَّهِ" مِنْ نَبِيٍّ أَوْ وَلِيٍّ أَوْ مَلَكٍ أَوْ قَبْرٍ أَوْ جِنِّيٍّ أَوْ شَجَرٍ أَوْ حَجَرٍ أَوْ حَيَوَانٍ أَوْ نَارٍ أَوْ شَمْسٍ أَوْ قَمَرٍ أَوْ كَوْكَبٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. "نِدًّا" مِنْ دُونِ اللَّهِ "مُسَوِّيًا بِهِ" اللَّهَ يُحِبُّهُ كَحُبِّ اللَّهِ وَيَخَافُهُ وَيَخْشَاهُ كَخَشْيَةِ اللَّهِ وَيَتَّبِعُهُ عَلَى غَيْرِ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَيُطِيعُهُ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَيُشْرِكُهُ فِي عبادة الله "مضاهي" بِهِ اللَّهَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [الْبَقَرَةِ: 165] ، وَحَكَى عَنْهُمْ فِي اخْتِصَامِهِمْ فِي النَّارِ: {قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ، تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ، إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشُّعَرَاءِ: 96-98] ، وَقَدْ أَخْبَرَنَا اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- أَنَّهُمْ لَمْ يُسَوُّوهُمْ بِهِ فِي خَلْقٍ وَلَا رِزْقٍ وَلَا إِحْيَاءٍ وَلَا إِمَاتَةٍ وَلَا فِي شَيْءٍ مِنْ تَدْبِيرِ الْمَلَكُوتِ, بَلْ أَخْبَرَنَا أَنَّهُمْ مُقِرُّونَ لِلَّهِ تَعَالَى بِالرُّبُوبِيَّةِ: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ} [الزُّخْرُفِ: 9] ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ, وَلَكِنَّهُمْ سَوَّوْهُمْ بِاللَّهِ تَعَالَى فِي حُبِّهِمْ إِيَّاهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَلَمْ يَجْعَلُوا الْمَحَبَّةَ لِلَّهِ وَحْدَهُ, وفي خَوْفِهِمْ مِنْهُمْ وَخَشْيَتِهِمْ كَخَشْيَةِ اللَّهِ وَلَمْ يَجْعَلُوا الْخَشْيَةَ لِلَّهِ وَالْخَوْفَ مِنَ اللَّهِ وَحْدَهُ, وَأَشْرَكُوهُمْ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ وَلَمْ يُفْرِدُوا اللَّهَ بِالْعِبَادَةِ دُونَ مَنْ سِوَاهُ, مَعَ أَنَّهُمْ لَمْ يَعْبُدُوهُمُ اسْتِقْلَالًا بَلْ زَعَمُوهُمْ شُفَعَاءَ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ لِيُقَرِّبُوهُمْ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى, وَلَكِنِ اعْتَقَدُوا تِلْكَ الشَّفَاعَةَ وَالتَّقْرِيبَ ملكا للمخلوق ويطلبونه مِنْهُ, وَأَنَّ لَهُ أَنْ يَشْفَعَ بِدُونِ إِذْنِ اللَّهِ, وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} [يُونُسَ: 3] وَلِهَذَا سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى اسْتِشْفَاعَهُمْ ذَلِكَ شِرْكًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يُونُسَ: 18] فَجَمَعُوا فِي ذَلِكَ بَيْنَ شِرْكَيْنِ: الْأَوَّلُ: عِبَادَتُهُمْ إِيَّاهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ, وَالثَّانِي: جَعْلُهُمْ شُفَعَاءَ بِدُونِ إِذْنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ, وَقَالَ تَعَالَى: {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}
[الزُّمَرِ: 3] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ} [الْأَنْعَامِ: 94] ، وَأَيْضًا فَقَدْ أَخْبَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ إِنَّمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مَعَهُ غَيْرَهُ فِي الرَّخَاءِ, وَأَمَّا فِي الشِّدَّةِ فَكَانُوا يُخْلِصُونَ الْعِبَادَةَ لِلَّهِ, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [الْعَنْكَبُوتِ: 65] ، وَقَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ، فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [يُونُسَ: 22] ، وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ، قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ} [الْأَنْعَامِ: 63] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} [الزُّمَرِ: 8] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} [الرُّومِ: 33] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا} [الْإِسْرَاءِ: 67] الْآيَاتِ, وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} [الْأَنْعَامِ: 40, 41] وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَفِي حَدِيثِ حُصَيْنٍ الْمُتَقَدِّمِ لَمَّا قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كَمْ تَعْبُدُ الْيَوْمَ مِنْ إِلَهٍ "؟ قَالَ: سَبْعَةً: سِتَّةٌ فِي الْأَرْضِ وَوَاحِدٌ فِي السَّمَاءِ. قَالَ: "فَمَنْ تَعْبُدُ لِرَغْبَتِكَ وَرَهْبَتِكَ"؟ قَالَ: الَّذِي فِي السَّمَاءِ1. وَلَمَّا رَكِبَ بَعْضُ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ فَارًّا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
حِينَ فَتَحَ مَكَّةَ, فَلَمَّا اضْطَرَبَ الْبَحْرُ عَلَيْهِمْ وَشَاهَدُوا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ مَا شَاهَدُوا فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: ادْعُوا اللَّهَ, فَإِنَّهُ لَا ينجيكم من هذا إِلَّا هُوَ فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنْ كَانَ لَا يَنْفَعُ فِي الْبَحْرِ إِلَّا هُوَ فَإِنَّهُ لَا يَنْفَعُ فِي الْبَرِّ إِلَّا هُوَ, لَئِنْ أَخْرَجَنِي اللَّهُ مِنْ هَذِهِ لَأَذْهَبَنَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلْأَضَعَنَّ يَدِي فِي يَدِهِ1. وَهَذَا بِخِلَافِ مُشْرِكِي زَمَانِنَا الْيَوْمَ مِنْ عُبَّادِ الْقُبُورِ وَغَيْرِهَا فَإِنَّهُمْ يُشْرِكُونَ فِي الشِّدَّةِ أَضْعَافَ شِرْكِهِمْ فِي الرَّخَاءِ, حَتَّى إِنْ كَانُوا يُنْذِرُونَ لِهَذَا الْوَلِيِّ فِي الرَّخَاءِ بِبَعِيرٍ أَوْ تَبِيعٍ أَوْ شَاةٍ أَوْ دِينَارٍ أَوْ دِرْهَمٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ فَأَصَابَتْهُمُ الشِّدَّةُ, زَادُوا ضَعْفَ ذَلِكَ فَجَعَلُوا لَهُ بَعِيرَيْنِ أَوْ تَبِيعَيْنِ أَوْ شَاتَيْنِ أَوْ دِينَارَيْنِ أَوْ دِرْهَمَيْنِ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ فِيهِمْ مِنْ صِفَاتِ الرُّبُوبِيَّةِ وَأَنَّهُمْ مُتَصَرِّفُونَ فِيمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا اللَّهُ, وَغَلَا بَعْضُهُمْ حَتَّى جَعَلَ مِنْهُمُ الْمُتَصَرِّفَ فِي تَدْبِيرِ الْكَوْنِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْلَالِ وَيَقُولُونَ فِيهِ: إِنَّهَا لَا تَتَحَرَّكُ ذَرَّةٌ وَلَا تَسْكُنُ إِلَّا بِإِذْنِ فُلَانٍ, تَعَالَى اللَّهُ وَتَقَدَّسَ وَجَلَّ وَعَلَا عَنْ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ إِلَهٌ غَيْرُهُ أَوْ يَكُونَ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ أَوْ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ، عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} ، {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا، تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. يَقْصِدُهُ عِنْدَ نُزُولِ الضُّرِّ ... لِجَلْبِ خَيْرٍ أَوْ لِدَفْعِ الشَّرِّ أَوْ عِنْدَ أَيِّ غَرَضٍ لَا يَقْدِرُ ... عَلَيْهِ إِلَّا الْمَالِكُ الْمُقْتَدِرُ مَعْ جَعْلِهِ لِذَلِكَ الْمَدْعُوِّ ... أَوِ الْمُعَظَّمِ أَوِ الْمَرْجُوِّ فِي الْغَيْبِ سَلَّطَانًا بِهِ يَطَّلِعُ ... عَلَى ضَمِيرِ مَنْ إِلَيْهِ يَفْزَعُ
"يَقْصِدُهُ" أَيِ: الْمُتَّخِذُ ذَلِكَ النِّدِّ مِنْ دُونِ اللَّهِ, يَقْصِدُ نِدَّهُ "عِنْدَ نُزُولِ الضُّرِّ" بِهِ مِنْ خَيْرٍ فَاتَهُ أَوْ شَرٍّ دَهَمَهُ "لِجَلْبِ خَيْرٍ" لَهُ أَوْ "لِدَفْعِ الشَّرِّ" عَنْهُ "أَوْ عِنْدَ" احْتِيَاجِ "أَيِّ غَرَضٍ" مِنَ الْأَغْرَاضِ وَالْحَالُ أَنَّهُ "لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ" أَيْ: عَلَى ذَلِكَ الْغَرَضِ "إِلَّا الْمَالِكُ الْمُقْتَدِرُ" وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى "مَعَ جَعْلِهِ" أَيِ الْعَبْدِ "لِذَلِكَ الْمَدْعُوِّ أَوِ الْمُعَظَّمِ أَوِ الْمَرْجُوِّ" مِنْ مَلَكٍ أَوْ نَبِيٍّ أَوْ وَلِيٍّ أَوْ قَبْرٍ أَوْ شَجَرٍ أَوْ حَجَرٍ أَوْ كَوْكَبٍ أَوْ جِنِّيٍّ "فِي الْغَيْبِ سُلْطَانًا" أَيْ: يَعْتَقِدُ أَنَّ لَهُ سُلْطَانًا غَيْبِيًّا فَوْقَ طَوْقِ الْبَشَرِ "بِهِ يَطَّلِعُ" أَيْ بِذَلِكَ السُّلْطَانِ الَّذِي اعْتَقَدَهُ فِيهِ "عَلَى ضَمِيرِ مَنْ إِلَيْهِ" إِلَى ذَلِكَ النِّدِّ "يَفْزَعُ" فِي قَضَاءِ أَيِّ حَاجَةٍ؛ مِنْ شِفَاءِ مَرِيضٍ أَوْ رَدِّ غَائِبٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ, فَيَرَى أَنَّهُ يَسْمَعُهُ إِذَا دَعَاهُ وَيَرَى مَكَانَهُ وَيَعْلَمُ حَاجَتَهُ وَيَقْضِيهَا بِقُدْرَةٍ اعْتَقَدَهَا فِيهِ مَعَ اللَّهِ, وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ يُثْبِتُ لَهُ مِنْ صِفَاتِ الرُّبُوبِيَّةِ مَا يَرْفَعُهُ عَنْ دَرَجَةِ الْعُبُودِيَّةِ إِلَى دَرَجَةِ الرُّبُوبِيَّةِ, وَيَجْعَلُهُ مُسْتَحِقًّا الْعِبَادَةَ مَعَ اللَّهِ. وَمِنْ هُنَا يَتَبَيَّنُ لَكَ مَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ الشِّرْكَ فِي الْأُلُوهِيَّةِ يَسْتَلْزِمُ الشِّرْكَ فِي الرُّبُوبِيَّةِ وَالْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَلَا بُدَّ, وَيَتَبَيَّنُ لَكَ عِظَمُ ذَنَبِ الشِّرْكِ وَأَنَّهُ أَقْبَحُ الذُّنُوبِ وَأَظْلَمُ الظُّلْمِ وَأَكْبَرُ الْكَبَائِرِ, وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَغْفِرُهُ وَلَا يَقْبَلُ لِأَحَدٍ مَعَهُ عَمَلًا وَأَنَّهُ لَا أَشْدَّ هَلَكَةً مِنْهُ, وَمَا أَرْسَلَ اللَّهُ الرُّسُلَ وَأَنْزَلَ الْكُتُبَ إِلَّا بِالنِّذَارَةِ عَنِ الشِّرْكِ وَالدَّعْوَةِ إِلَى التَّوْحِيدِ, وَمَا هَلَكَتِ الْأُمَمُ الْغَابِرَةُ وَأُعِدَّتْ لَهُمُ النِّيرَانُ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا بِالشِّرْكِ وَالْإِبَاءِ عَنِ التَّوْحِيدِ, وَلَا نَجَا الرُّسُلُ وَأَتْبَاعُهُمْ مِنْ خِزْيِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْآخِرَةِ إِلَّا بِالْتِزَامِ التَّوْحِيدِ وَالْبَرَاءَةِ مِنَ الشِّرْكِ, فَمَا هَلَكَ قَوْمُ نُوحٍ بِالطُّوفَانِ وَلَا عَادٌ بِالرِّيحِ الْعَظِيمِ وَلَا ثَمُودُ بِالصَّيْحَةِ وَلَا أَهْلُ مَدْيَنٍ بِعَذَابِ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِلَّا بِالشِّرْكِ وَعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ, وَهَكَذَا الْأُمَمُ مِنْ بَعْدِهِمْ بِأَنْوَاعِ الْعَذَابِ, وَلَمْ يَخْرُجْ عُصَاةُ الْمُوَحِّدِينَ مِنَ النَّارِ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا بِالتَّوْحِيدِ وَلَمْ يُخَلَّدْ غَيْرُهُمْ فِيهَا أَبَدًا مُؤَبَّدًا إِلَّا بِالشِّرْكِ. ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ مَا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِمَّا عَاقِلٌ أَوْ غَيْرُ عَاقِلٍ؛ فَالْعَاقِلُ كَالْآدَمِيِّ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ, وَيَنْقَسِمُونَ إِلَى قِسْمَيْنِ: رَاضٍ بِالْعِبَادَةِ لَهُ, وَغَيْرُ رَاضٍ بِهَا. فَالْأَوَّلُ كَفِرْعَوْنَ وَإِبْلِيسَ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الطَّوَاغِيتِ, وَهَؤُلَاءِ فِي النَّارِ مَعَ عَابِدِيهِمْ كَمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ، وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأُوا
مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [الْبَقَرَةِ: 166] ، وَقَالَ تَعَالَى فِي شَأْنِ إِبْلِيسَ: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 85] ، وَقَالَ فِي شَأْنِ فِرْعَوْنَ: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ} [هُودٍ: 98] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ} [فُصِّلَتْ: 29] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الْأَنْعَامِ: 128] ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَالْقَسَمُ الثَّانِي وَهُوَ مَنْ كَانَ مُطِيعًا لِلَّهِ وَغَيْرَ رَاضٍ بِالْعِبَادَةِ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَعِيسَى وَمَرْيَمَ وَعُزَيْرٍ وَالْمَلَائِكَةِ وَغَيْرِهِمْ, فَهُمْ بُرَآءُ مِمَّنْ عَبَدَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [الْمَائِدَةِ: 116] إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ, وَقَالَ تَعَالَى فِي شَأْنِ الْمَلَائِكَةِ: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ، قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سَبَأٍ: 40] ، وَقَالَ تَعَالَى فِي شَأْنِ كُلِّ مَنْ عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَعِيسَى وَأُمِّهِ وَعُزَيْرٍ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ مُطْلَقًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ، قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا، فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا} [الْفَرْقَانِ: 17-19] ، الْآيَةَ وَغَيْرَهَا مِنَ
الْآيَاتِ. وَأَمَّا غَيْرُ الْعَاقِلِ مِنَ الْأَشْجَارِ وَالْأَحْجَارِ وَغَيْرِهَا مِمَّا لَا يَعْقِلُ فَيَشْمَلُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ، لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 98, 99] ، وَلَكِنَّ الْأَحْجَارَ لَا أَرْوَاحَ فِيهَا وَإِنَّمَا يُعَذَّبُ بِهَا مَنْ عَبَدَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التَّحْرِيمِ: 6] الْآيَةَ, وَكَمَا يُعَذَّبُ عَبْدُ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ بِهِمَا كَمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ، يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} [التَّوْبَةِ: 34، 35] . وَفِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ فِي الشَّفَاعَةِ بِطُولِهِ وَفِيهِ: "يُنَادِي مُنَادٍ: لِيَذْهَبْ كُلُّ قَوْمٍ إِلَى مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ؛ فَيَذْهَبُ أَصْحَابُ الصَّلِيبِ مَعَ صَلِيبِهِمْ وَأَصْحَابُ الْأَوْثَانِ مَعَ أَوْثَانِهِمْ وَأَصْحَابُ كُلِّ آلِهَةٍ مَعَ آلِهَتِهِمْ" 1. وَفِيهِ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "يَجْمَعُ اللَّهُ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ: مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئًا فَلْيَتْبَعْهُ؛ فَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الشَّمْسَ الشَّمْسَ وَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الْقَمَرَ الْقَمَرَ وَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الطَّوَاغِيتَ الطَّوَاغِيتَ" 2 الْحَدِيثَ. وَفِي حَدِيثِ الصُّورِ الطَّوِيلِ: "أَلَا لِيَلْحَقْ كُلُّ قَوْمٍ بِمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ, فَلَا يَبْقَى أَحَدٌ عَبَدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِلَّا مُثِّلَتْ لَهُ آلْهِتُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ, وَيُجْعَلُ يَوْمَئِذٍ مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ عَلَى صُورَةِ عُزَيْرٍ, وَيُجْعَلُ مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ عَلَى صُورَةِ عِيسَى ابن مَرْيَمَ, ثُمَّ يَتْبَعُ هَذَا الْيَهُودُ وَهَذَا النَّصَارَى, ثُمَّ قَادَتْهُمْ آلِهَتُهُمْ إِلَى النَّارِ" وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ تَعَالَى: {لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ} 3. وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللَّهُ عنه- عند الدارقطني وَالطَّبَرَانِيِّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْمُصَنِّفِينَ
الشرك الأصغر
فِي السُّنَّةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْحَدِيثَ بِطُولِهِ, وَفِيهِ: "ثُمَّ يُنَادِي: أَيُّهَا النَّاسُ أَلَمْ تَرْضُوا مِنْ رَبِّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَرَزَقَكُمْ وَأَمَرَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا أَنْ يُوَلِّيَ كُلَّ أُنَاسٍ مِنْكُمْ مَا كَانُوا يَتَوَلَّوْنَ وَيَعْبُدُونَ فِي الدُّنْيَا, أَلَيْسَ ذَلِكَ عَدْلًا مِنْ رَبِّكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى. قَالَ: فَيَنْطَلِقُ كُلُّ قَوْمٍ إِلَى مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ وَيَتَوَلَّوْنَ فِي الدُّنْيَا, قَالَ: فَيَنْطَلِقُونَ وَيُمَثَّلُ لَهُمْ أَشْبَاهُ مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ يَنْطَلِقُ إِلَى الشَّمْسِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْطَلِقُ إِلَى الْقَمَرِ وَإِلَى الْأَوْثَانِ مِنَ الْحِجَارَةِ وَأَشْبَاهِ مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ, قَالَ: وَيُمَثَّلُ لِمَنْ كَانَ يَعْبُدُ عِيسَى شَيْطَانُ عِيسَى وَيُمَثَّلُ لِمَنْ كَانَ يَعْبُدُ عزيرا شيطان عزير, وَيَبْقَى مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَمَتُّهُ" 1 الْحَدِيثَ. قُلْتُ: وَقَوْلُهُ: "يمثل لَهُمْ أَشْبَاهُ مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ ... إِلَخْ" هَذَا فِي مِثْلِ عِيسَى وَعُزَيْرٍ. وَأَمَّا عَبْدَةُ الطَّاغُوتِ فَتَقُودُهُمْ طَوَاغِيتُهُمْ حَقِيقَةً لَا أَشْبَاهَهَا كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ, وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ] : وَالثَّانِ شِرْكٌ أَصْغَرٌ وَهْوَ الرِّيَا ... فَسَّرَهُ بِهِ خِتَامُ الْأَنْبِيَا "وَ" النَّوْعُ "الثَّانِ" مِنْ نَوْعَيِ الشِّرْكِ "شِرْكٌ أَصْغَرُ" لَا يُخْرِجُ مِنَ الْمِلَّةِ وَلَكِنَّهُ يُنْقِصُ ثَوَابَ الْعَمَلِ, وَقَدْ يُحْبِطُهُ إِذَا زَادَ وَغَلَبَ "وَهُوَ الرِّيَا" الْيَسِيرُ فِي تَحْسِينِ الْعَمَلِ "فَسَّرَهُ بِهِ" أَيْ: فَسَّرَ الشرك الأصغر بالرياء "خِتَامُ الْأَنْبِيَا" مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: "إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ" قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ, وَمَا الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ؟ قَالَ: "الرِّيَاءُ" 2. وَبِذَلِكَ فُسِّرَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الْكَهْفِ: 110] وَعَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ فَقَالَ: أَنْبِئْنِي عَمَّا أَسْأَلُكَ عَنْهُ, أَرَأَيْتَ رَجُلًا يُصَلِّي يَبْتَغِي وَجْهَ اللَّهِ وَيُحِبُّ أَنْ يُحْمَدَ, وَيَصُومُ يَبْتَغِي وَجْهَ اللَّهِ وَيُحِبُّ أَنْ يُحْمَدَ, وَيَتَصَدَّقُ يَبْتَغِي وَجْهَ اللَّهِ وَيُحِبُّ أَنْ يُحْمَدَ, وَيَحُجُّ يَبْتَغِي
وَجْهَ اللَّهِ وَيُحِبُّ أَنْ يُحْمَدَ؟ فَقَالَ عُبَادَةُ: لَيْسَ لَهُ شَيْءٌ, إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: "أَنَا خَيْرُ شَرِيكٍ, فَمَنْ كَانَ له معي شريك فَهُوَ لَهُ كُلُّهُ لَا حَاجَةَ لِي فِيهِ"1. وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَا هُوَ أَخْوَفُ عَلَيْكُمْ مِنَ الْمَسِيحِ عِنْدِي "؟ قَالَ: قُلْنَا: بَلَى قَالَ: "الشِّرْكُ الْخَفِيُّ, أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ يُصَلِّي لِمَقَامِ الرَّجُلِ" رَوَاهُ أَحْمَدُ2. وَفِيهِ رِوَايَةٌ: "يَقُومُ الرَّجُلُ فَيُصَلِّي فَيُزَيِّنُ صَلَاتَهُ لِمَا يَرَى مِنْ نَظَرِ الرَّجُلِ إِلَيْهِ"3. وَلَهُ عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: إِنْ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ أيها الناس ما سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "مِنَ الشَّهْوَةِ الْخَفِيَّةِ وَالشِّرْكِ" فَقَالَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ وَأَبُو الدَّرْدَاءِ: اللَّهُمَّ غُفْرًا, أَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ حَدَّثَنَا أَنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ أَنْ يُعْبَدَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ, أَمَّا الشَّهْوَةُ الْخَفِيَّةُ فَقَدْ عَرِفْنَاهَا هِيَ شَهَوَاتُ الدُّنْيَا مِنْ نِسَائِهَا وَشَهَوَاتِهَا, فَمَا هَذَا الشِّرْكُ الَّذِي تُخَوِّفُنَا بِهِ يَا شَدَّادُ؟ فَقَالَ شَدَّادٌ: أَرَأَيْتَكُمْ لَوْ رَأَيْتُمْ رَجُلًا يُصَلِّي لِرَجُلٍ أَوْ يَصُومُ لِرَجُلٍ أَوْ يَتَصَدَّقُ, أَتَرَوْنَ أَنَّهُ قَدْ أَشْرَكَ؟ قَالُوا: نَعَمْ وَاللَّهِ, إِنَّ مَنْ صَلَّى لِرَجُلٍ أَوْ صَامَ أَوْ تَصَدَّقَ لَهُ لَقَدْ أَشْرَكَ. فَقَالَ شَدَّادٌ: فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "مَنْ صَلَّى يُرَائِي فَقَدْ أَشْرَكَ, وَمَنْ صَامَ يُرَائِي فَقَدْ أَشْرَكَ, وَمَنْ تَصَدَّقَ يُرَائِي فَقَدْ أَشْرَكَ" قَالَ عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ عِنْدَ ذَلِكَ: أَفَلَا يَعْمِدُ اللَّهُ إِلَى مَا ابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ مِنْ ذَلِكَ الْعَمَلِ كُلِّهِ, فَيَقْبَلُ مَا خَلَصَ مِنْهُ وَيَدَعُ مَا أُشْرِكَ بِهِ؟ فَقَالَ شَدَّادُ عِنْدَ ذَلِكَ: فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: أَنَا خَيْرُ قَسِيمٍ لِمَنْ أَشْرَكَ بِي, مَنْ أَشْرَكَ بِي شَيْئًا فَإِنَّ عَمَلَهُ قَلِيلَهُ وَكَثِيرَهُ لِشَرِيكِهِ الَّذِي أَشْرَكَ بِهِ, أَنَا عَنْهُ غَنِيٌّ" 4. وَلَهُ عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ بَكَى فَقِيلَ: مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ: شَيْءٌ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَأَبْكَانِي, سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "أَتَخَوَّفُ عَلَى أُمَّتِي: الشِّرْكَ وَالشَّهْوَةَ الْخَفِيَّةَ" قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتُشْرِكُ
أَمَّتُكَ مِنْ بَعْدِكَ؟ قَالَ: "نَعَمْ, أَمَا إِنَّهُمْ لَا يَعْبُدُونَ شَمْسًا وَلَا قَمَرًا وَلَا حَجَرًا وَلَا وَثَنًا, وَلَكِنْ يُرَاءُونَ بِأَعْمَالِهِمْ. وَالشَّهْوَةُ الْخَفِيَّةُ أَنْ يُصْبِحَ أَحَدُهُمْ صَائِمًا فَتَعْرِضُ لَهُ شَهْوَةٌ مِنْ شَهَوَاتِهِ؛ فَيَتْرُكُ صَوْمَهُ" وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ1. وَلِلْبَزَّارِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَقُولُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَنَا خَيْرُ شَرِيكٍ, مَنْ أَشْرَكَ بِي أَحَدًا فَهُوَ لَهُ كُلُّهُ" 2. وَلِأَحْمَدَ عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَرْوِيهِ عَنِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- أَنَّهُ قَالَ: "أَنَا خَيْرُ الشُّرَكَاءِ, فَمَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ غَيْرِي فَأَنَا بَرِيءٌ مِنْهُ, وَهُوَ لِلَّذِي أَشْرَكَ" 3. وَلَهُ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ" قَالُوا: وَمَا الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "الرِّيَاءُ, يَقُولُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذَا جُزِيَ النَّاسُ بِأَعْمَالِهِمُ: اذْهَبُوا إِلَى الَّذِينَ كُنْتُمْ تُرَاءُونَ فِي الدُّنْيَا, فَانْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ عِنْدَهُمْ جَزَاءً "؟! 4. وَلَهُ عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ أَبِي فَضَالَةَ الْأَنْصَارِيِّ -وَكَانَ مِنَ الصَّحَابَةِ- أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "إِذَا جَمَعَ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ, نَادَى مُنَادٍ: مَنْ كَانَ أَشْرَكَ فِي عَمَلٍ عَمِلَهُ لِلَّهِ أَحَدًا فَلْيَطْلُبْ ثَوَابَهُ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ, فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ" أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ5. وَلِأَحْمَدَ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ, وَمَنْ رَاءَى
الرياء والنفاق
رَاءَى اللَّهُ بِهِ" 1. وَلَهُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مَنْ يُرَائِي يُرَائِي اللَّهُ بِهِ, وَمَنْ يُسَمِّعْ يُسَمِّعِ اللَّهُ بِهِ" 2. وَلَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "مَنْ سَمَّعَ النَّاسَ بِعِلْمِهِ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ مَسَامِعَ خَلْقِهِ, وَصَغَّرَهُ, وَحَقَّرَهُ" فَذَرَفَتْ عَيْنَا عَبْدِ اللَّهِ3. وَلِلْبَزَّارِ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تُعْرَضُ أَعْمَالُ بَنِي آدَمَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي صُحُفٍ مُخَتَّمَةٍ, فَيَقُولُ اللَّهُ: أَلْقُوا هَذَا وَاقْبَلُوا هَذَا, فَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ: يَا رَبِّ, وَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا مِنْهُ إِلَّا خَيْرًا, فَيَقُولُ: إِنَّ عَمَلَهُ كَانَ لِغَيْرِ وَجْهِي, وَلَا أَقْبَلُ الْيَوْمَ مِنَ الْعَمَلِ إِلَّا مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهِي"4. وَلِوَهْبٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ الْخُزَاعِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ قَامَ رِيَاءً وَسُمْعَةً لَمْ يَزَلْ فِي مَقْتِ اللَّهِ حَتَّى يَجْلِسَ" 5. وَلِأَبِي يَعْلَى عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ أَحْسَنَ الصَّلَاةَ حَيْثُ يَرَاهُ النَّاسُ وَأَسَاءَهَا حَيْثُ يَخْلُو؛ فَتِلْكَ اسْتِهَانَةٌ اسْتَهَانَ بِهَا رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ"6. [الرِّيَاءُ وَالنِّفَاقُ] : ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الرِّيَاءَ قَدْ أُطْلِقَ فِي كِتَابِ اللَّهِ كَثِيرًا, وَيُرَادُ بِهِ النِّفَاقُ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ الْكُفْرِ وَصَاحِبُهُ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ, كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كَالَّذِي يُنْفِقُ
مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [الْبَقَرَةِ: 264] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا} [النِّسَاءِ: 38] ، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النِّسَاءِ: 142] ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ النَّازِلَةِ فِي الْمُنَافِقِينَ بِلَفْظِ الرِّيَاءِ, وَمِنْهَا مَا يُصَرِّحُ بِمَعْنَاهُ دُونَ لَفْظِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [الْبَقَرَةِ: 14] وَالْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَهَا وَبَعْدَهَا وَمَا فِي مَعْنَاهَا. وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا الرِّيَاءِ الَّذِي هُوَ النِّفَاقُ الْأَكْبَرُ وَبَيْنَ الرِّيَاءِ الَّذِي سَمَّاهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شِرْكًا أَصْغَرَ خَفِيًّا هُوَ حَدِيثُ: "الْأَعْمَالِ بِالنِّيَّاتِ" وَهُوَ مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ عَنْ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ, وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى؛ فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ, وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ" 1، فَالنِّيَّةُ هِيَ الْفَرْقُ فِي الْعَمَلِ فِي تَعْيِينِهِ وَفِيمَا يُرَادُ بِهِ, وَقَدْ أُطْلِقَتِ النِّيَّةُ فِي الْقُرْآنِ بِلَفْظِ الِابْتِغَاءِ وَبِلَفْظِ الْإِرَادَةِ, فَإِنْ كَانَ الْبَاعِثُ عَلَى الْعَمَلِ هُوَ إِرَادَةُ اللَّهِ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ وَسَلِمَ مِنَ الرِّيَاءِ فِي فِعْلِهِ وَكَانَ مُوَافِقًا لِلشَّرْعِ فَذَلِكَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ الْمَقْبُولُ, وَإِنْ كَانَ الْبَاعِثُ عَلَى الْعَمَلِ هُوَ إِرَادَةُ غَيْرِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- فَذَلِكَ النِّفَاقُ الْأَكْبَرُ, سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ مَنْ يُرِيدُ بِهِ جَاهًا وَرِئَاسَةً وَطَلَبَ دُنْيَا, وَمَنْ يُرِيدُ حَقْنَ دَمِهِ وَعِصْمَةَ مَالِهِ وَغَيْرَ ذَلِكَ, فَهَذَانَ ضِدَّانِ يُنَافِي أَحَدُهُمَا الْآخَرَ لَا مَحَالَةَ. قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا} [آلِ عِمْرَانَ: 145] ، وَقَالَ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ
نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا، وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الْإِسْرَاءِ: 18, 19] ، وَقَالَ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ، أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هُودٍ: 15, 16] وَقَالَ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشُّورَى: 20] وَقَالَ تَعَالَى يُثْنِي عَلَى عِبَادِهِ الْمُخْلِصِينَ: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا، إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} [الْإِنْسَانِ: 8, 9] ، وَقَالَ: {إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} [اللَّيْلِ: 20] وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَإِنْ كَانَ الْبَاعِثُ عَلَى الْعَمَلِ هُوَ إِرَادَةُ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَالدَّارِ الْآخِرَةِ وَلَكِنْ دَخَلَ عَلَيْهِ الرِّيَاءُ فِي تَزْيِينِهِ وَتَحْسِينِهِ, فَذَلِكَ هُوَ الَّذِي سَمَّاهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الشِّرْكَ الْأَصْغَرَ وَفَسَّرَهُ بِالرِّيَاءِ الْعَمَلِيِّ, وَزَادَهُ إِيضَاحًا بِقَوْلِهِ: " يَقُومُ الرَّجُلُ فَيُصَلِّي فَيُزَيِّنُ صَلَاتَهُ لِمَا يَرَى مِنْ نَظَرِ رَجُلٍ إِلَيْهِ" 1، وَهَذَا لَا يُخْرِجُ مِنَ الْمِلَّةِ وَلَكِنَّهُ يُنْقِصُ مِنَ الْعَمَلِ بِقَدْرِهِ, وَقَدْ يَغْلِبُ عَلَى الْعَمَلِ فَيُحْبِطُهُ كُلَّهُ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ, اللَّهُمَّ اجْعَلْ أَعْمَالَنَا كُلَّهَا صَالِحَةً وَاجْعَلْهَا لِوَجْهِكَ خَالِصَةً وَلَا تَجْعَلْ لِأَحَدٍ فِيهَا شَيْئًا. وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: الرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلْمَغْنَمِ وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلذِّكْرِ وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِيُرَى مَكَانُهُ, فَمَنْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: "مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا, فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ" 2. فَهَذَا الْحَدِيثُ يَحْتَمِلُ الْمَعْنَيَيْنِ وَتُعَيِّنُهُ لِأَحَدِهِمَا النِّيَّةُ, فَإِنْ كَانَ أَصْلُ الْعَمَلِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَهُوَ النِّفَاقُ, وَإِنْ كَانَ أَصْلُهُ لِلَّهِ وَأَحَبَّ مَعَ
الحلف بغير الله
ذَلِكَ أَنْ يُذْكَرَ وَيُثْنَى عَلَيْهِ بِهِ فَهُوَ الْمَعْنَى الَّذِي سَبَقَ فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فِي الرَّجُلُ: "يُصَلِّي يَبْتَغِي وَجْهَ اللَّهِ وَيُحِبُّ أَنْ يُحْمَدَ" الْحَدِيثَ وَفِي آخِرِهِ قَالَ: "لَيْسَ لَهُ شَيْءٌ" 1 وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. [الْحَلِفُ بِغَيْرِ اللَّهِ] : وَمِنْهُ إِقْسَامٌ بِغَيْرِ الْبَارِي ... كَمَا أَتَى فِي مُحْكَمِ الْأَخْبَارِ أَيْ: وَمِنَ الشِّرْكِ الْأَصْغَرِ الَّذِي لَا يُخْرِجُ مِنَ الْمِلَّةِ "إِقْسَامٌ" مَصْدَرُ أَقْسَمَ أَيِ: الْحَلِفُ "بِغَيْرِ الْبَارِي" كَالْحَلِفِ بِالْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ وَالْأَبْنَاءِ وَالْأَمَانَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ, كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا, أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَدْرَكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَهُوَ يَسِيرُ فِي رَكْبٍ يَحْلِفُ بِأَبِيهِ, فَقَالَ: "أَلَا إِنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ, مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ" 2. وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ عُمَرُ: فَوَاللَّهِ مَا حَلَفْتُ بِهَا مُنْذُ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاكِرًا وَلَا آثِرًا3, مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِأَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا: "لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ وَلَا بِأُمَّهَاتِكُمْ وَلَا بِالْأَنْدَادِ, وَلَا تَحْلِفُوا بِاللَّهِ إِلَّا وَأَنْتُمْ صَادِقُونَ" 4. وَلِأَحْمَدَ وَمُسْلِمٍ وَالنَّسَائِيِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلَا يَحْلِفْ إِلَّا بِاللَّهِ" 5. وَلِلنَّسَائِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تَحْلِفُوا إِلَّا بِاللَّهِ, وَلَا تَحْلِفُوا بِاللَّهِ إِلَّا وَأَنْتُمْ صَادِقُونَ" 6. وَسَمِعَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا رَجُلًا يَقُولُ: لَا وَالْكَعْبَةِ, فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: لَا تَحْلِفْ بِغَيْرِ اللَّهِ, فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ كَفَرَ أَوْ أَشْرَكَ" أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ1. وَعَنْ بُرَيْدَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ حَلَفَ بِالْأَمَانَةِ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ2. وَفِي الطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا, أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَمِعَ رَجُلًا يَحْلِفُ بِالْأَمَانَةِ فَقَالَ: "أَلَسْتَ الَّذِي يَحْلِفُ بِالْأَمَانَةِ "؟ 3. وَعَنْ قُتَيْلَةَ بِنْتِ صَفِيٍّ أَنَّ يَهُودِيًّا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّكُمْ تُنَدِّدُونَ وَإِنَّكُمْ تُشْرِكُونَ, تَقُولُونَ: مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْتَ وَتَقُولُونَ: وَالْكَعْبَةِ, فَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادُوا أَنْ يَحْلِفُوا أَنْ يَقُولُوا: "وَرَبِّ الْكَعْبَةِ" وَيَقُولُ أَحَدُهُمْ: "مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ شِئْتَ" رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِىُّ وَصَحَّحَهُ وَابْنُ مَاجَهْ4. وَقَدْ ثَبَتَ فِي كَفَّارَةِ الْحَلِفِ بِغَيْرِ اللَّهِ حَدِيثُ الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ حَلَفَ فَقَالَ فِي حَلِفِهِ بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى فَلْيَقُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ" 5. وَمِنَ الشِّرْكِ الْأَصْغَرِ قَوْلُ: مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْتَ كَمَا رَوَى النَّسَائِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا, أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْتَ فَقَالَ: "أَجَعَلْتَنِي لِلَّهِ نِدًّا؟! مَا شَاءَ اللَّهُ وَحْدَهُ" 6. وَلِأَبِي دَاوُدَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا تَقُولُوا: مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ فُلَانٌ،
الفصل الخامس في بيان أمور يفعلها العامة منها ما هو شرك، ومنها ما هو قريب منه، وبيان المشروع من الرقى والممنوع منها، وهل تجوز التمائم
وَلَكِنْ قُولُوا: مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ شَاءَ فُلَانٌ" 1. وَتَقَدَّمَ فِي ذَلِكَ حَدِيثِ قُتَيْلَةَ, وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْوَاوِ وَثُمَّ أَنَّهُ إِذَا عَطَفَ بِالْوَاوِ كَانَ مُضَاهِيًا مَشِيئَةَ اللَّهِ بِمَشِيئَةِ الْعَبْدِ إِذْ قَرَنَ بَيْنَهُمَا, وَإِذَا عَطَفَ بِثُمَّ فَقَدْ جَعَلَ مَشِيئَةَ الْعَبْدِ تَابِعَةً لِمَشِيئَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الْإِنْسَانِ: 30] ، وَمِثْلُهُ قَوْلُ: لَوْلَا اللَّهُ وَفُلَانٌ هَذَا, مِنَ الشِّرْكِ الْأَصْغَرِ, وَيَجُوزُ أَنْ يَقُولَ: لَوْلَا اللَّهُ ثُمَّ فُلَانٌ ذَكَرَهُ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ. وَلِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الْبَقَرَةِ: 22] ، قَالَ: الْأَنْدَادُ هُوَ الشِّرْكُ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ عَلَى صَفَاةٍ سَوْدَاءَ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ, وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: وَاللَّهِ وَحَيَاتِكَ يَا فُلَانُ وَحَيَاتِي وَيَقُولُ: لَوْلَا كَلْبَةُ هَذَا لَأَتَانَا اللُّصُوصُ الْبَارِحَةَ, وَلَوْلَا الْبَطُّ فِي الدَّارِ لَأَتَى اللُّصُوصُ, وَقَوْلُ الرَّجُلِ لِصَاحِبِهِ: مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْتَ, وَقَوْلُ الرَّجُلِ: لَوْلَا اللَّهُ وَفُلَانٌ, لَا تَجْعَلْ فِيهَا فُلَانًا, هَذَا كُلُّهُ بِهِ شِرْكٌ2. [[الفصل الخامس في بيان أمور يفعلها العامة منها ما هو شرك، ومنها ما هو قريب منه، وبيان المشروع من الرقى والممنوع منها، وهل تجوز التمائم]] فَصْلٌ: فِي بَيَانِ أُمُورٍ يَفْعَلُهَا الْعَامَّةُ مِنْهَا مَا هُوَ شِرْكٌ، وَمِنْهَا مَا هُوَ قَرِيبٌ مِنْهُ وَبَيَانُ الْمَشْرُوعِ مِنَ الرُّقَى وَالْمَمْنُوعِ مِنْهَا, وَهَلْ تَجُوزُ التَّمَائِمُ: هَذِهِ الْأُمُورُ الْمَذْكُورَةُ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا الْعَامَّةُ غَالِبُهَا مِنَ الشِّرْكِ الْأَصْغَرِ, لَكِنْ إِذَا اعْتَمَدَ الْعَبْدُ عَلَيْهَا بِحَيْثُ يَثِقُ بِهَا وَيُضِيفُ النَّفْعَ وَالضُّرَّ إِلَيْهَا كَانَ ذَلِكَ شِرْكًا أَكْبَرَ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ صَارَ مُتَوَكِّلًا عَلَى سِوَى اللَّهِ مُلْتَجِئًا إِلَى غَيْرِهِ. وَمَنْ يَثِقْ بِوَدْعَةٍ أَوْ نَابِ ... أَوْ حَلْقَةٍ أَوْ أَعْيُنِ الذِّئَابِ أَوْ خَيْطٍ اوْ عُضْوٍ مِنَ النُّسُورِ ... أَوْ وَتَرٍ أَوْ تُرْبَةِ الْقُبُورِ لِأَيِّ أَمْرٍ كَائِنٍ تَعَلَّقَهْ ... وَكَّلَهُ اللَّهُ إِلَى مَا عَلَّقَهْ
"وَمَنْ يَثِقْ" هَذَا الشَّرْطُ جَوَابُهُ: "وَكَّلَهُ" الْآتِي. "بِوَدْعَةٍ" قَالَ فِي النِّهَايَةِ: هُوَ شَيْءٌ أَبْيَضُ يُجْلَبُ مِنَ الْبَحْرِ, يُعَلَّقُ فِي حُلُوقِ الصِّبْيَانِ وَغَيْرِهِمْ. وإنما نهي عنها لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُعَلِّقُونَهَا مَخَافَةَ الْعَيْنِ1. "أَوْ نَابِ" كَمَا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنَ الْعَامَّةِ, يَأْخُذُونَ نَابَ الضَّبْعِ وَيُعَلِّقُونَهُ مِنَ الْعَيْنِ. "أَوْ حَلْقَةٍ" وَكَثِيرًا مَا يُعَلِّقُونَهَا مِنَ الْعَيْنِ, وَسَيَأْتِي فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُمْ يُعَلِّقُونَهَا مِنَ الْوَاهِنَةِ وَهُوَ مَرَضُ الْعَضُدِ. "أَوْ أَعْيُنِ الذِّئَابِ" وَكَثِيرًا مَا يُعَلِّقُونَهَا يَزْعُمُونَ أَنَّ الْجِنَّ تَفِرُّ مِنْهَا, وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ إِذَا وَقَعَ بَصَرُ الذِّئْبِ عَلَى جِنِّيٍّ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَفِرَّ مِنْهُ حَتَّى يَأْخُذَهُ؛ وَلِهَذَا يُعَلِّقُونَ عَيْنَهُ إِذَا مَاتَ عَلَى الصِّبْيَانِ وَنَحْوِهُمْ. "أَوْ خَيْطٍ" وَكَثِيرًا مَا يُعَلِّقُونَهُ عَلَى الْمَحْمُومِ وَيَعْقِدُونَهُ فِيهِ عُقَدًا بِحَسَبِ اصْطِلَاحَاتِهِمْ, وَأَكْثَرُهُمْ يَقْرَأُ عَلَيْهِ سُورَةَ: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الانشراح: 1] إِلَى آخِرِهَا, وَيَعْقِدُ عِنْدَ كُلِّ كَافٍ مِنْهَا عُقْدَةً, فَيَجْتَمِعُ فِي الْخَيْطِ تِسْعُ عُقَدٍ بِعَدَدِ الْكَافَاتِ, ثُمَّ يَرْبُطُونَهُ بِيَدِ الْمَحْمُومِ أَوْ عُنُقِهِ. "أَوْ عُضْوٍ مِنَ النُّسُورِ" كَالْعَظْمِ وَنَحْوِهُ, يَجْعَلُونَهَا خَرَزًا وَيُعَلِّقُونَهَا عَلَى الصِّبْيَانِ يَزْعُمُونَ أَنَّهَا تَدْفَعُ الْعَيْنَ. "أَوْ وَتَرٍ" وَكَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا عَتَقَ وَتَرُ الْقَوْسِ أَخَذُوهُ وَعَلَّقُوهُ -يَزْعُمُونَ عَنِ الْعَيْنِ- عَلَى الصِّبْيَانِ وَالدَّوَابِّ. "أَوْ تُرْبَةِ الْقُبُورِ" وَمَا أَكْثَرَ مَنْ يَسْتَشْفِي بِهَا لَا شَفَاهُمُ اللَّهُ, وَاسْتِعْمَالُهُمْ لَهَا عَلَى أَنْوَاعٍ: فَمِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُهَا وَيَمْسَحُ بِهَا جِلْدَهُ, وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَمَرَّغُ عَلَى الْقَبْرِ تَمَرُّغَ الدَّابَّةِ, وَمِنْهُمْ مَنْ يَغْتَسِلُ بِهَا مَعَ الْمَاءِ, وَمِنْهُمْ مَنْ يَشْرَبُهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَهَذَا كُلُّهُ نَاشِئٌ عَنِ اعْتِقَادِهِمْ فِي صَاحِبِ ذَلِكَ الْقَبْرِ أَنَّهُ يَنْفَعُ وَيَضُرُّ حَتَّى عَدُّوا ذَلِكَ الِاعْتِقَادَ فِيهِ إِلَى تُرْبَتِهِ, فَزَعَمُوا أَنَّ فِيهَا شِفَاءً وَبَرَكَةً لِدَفْنِهِ فِيهَا, حَتَّى إِنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَعْتَقِدُ فِي تُرَابِ بُقْعَةٍ لَمْ يُدْفَنْ فِيهَا ذَلِكَ الْوَلِيُّ بِزَعْمِهِ, بَلْ قِيلَ لَهُ: إِنَّ جِنَازَتَهُ قَدْ وُضِعَتْ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ. وَهَذَا وَغَيْرُهُ مَنْ تَلَاعُبِ الشَّيْطَانِ بِأَهْلِ هَذِهِ
الْعُصُورِ زِيَادَةً عَلَى مَا تَلَاعَبَ بِمَنْ قَبْلَهُمْ, نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ. "لِأَيِّ أَمْرٍ كَائِنٍ تَعَلَّقَهْ" الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى مَا تَقَدَّمَ وَغَيْرِهِ "وَكَّلَهُ اللَّهُ" أَيْ: تَرَكَهُ "إِلَى مَا عَلَّقَهْ" دُعَاءٌ عَلَيْهِ أَيْ: لَا حَفِظَهُ اللَّهُ وَلَا كَلَأَهُ بَلْ تَرَكَهُ إِلَى مَا وَثِقَ بِهِ وَاعْتَمَدَ عَلَيْهِ دُونَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يُوسُفَ: 106] ، وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَنْ تَعَلَّقَ تَمِيمَةً فَلَا أَتَمَّ اللَّهُ لَهُ, وَمَنْ تَعَلَّقَ وَدْعَةً فَلَا وَدَعَ اللَّهُ لَهُ" رَوَاهُ أَحْمَدُ1. وَلَهُ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَأَى رَجُلًا فِي يَدِهِ حَلْقَةً مِنْ صُفْرٍ فَقَالَ: "مَا هَذَا"؟ قَالَ: مِنَ الْوَاهِنَةِ فَقَالَ: "انْزَعْهَا؛ فَإِنَّهَا لَا تَزِيدُكَ إِلَّا وَهْنًا, فَإِنَّكَ لَوْ مُتَّ وَهِيَ عَلَيْكَ مَا أَفْلَحْتَ أَبَدًا" 2. وَلِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ حُذَيْفَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا فِي يَدِهِ خَيْطٌ مِنَ الْحُمَّى فَقَطَعَهُ وَتَلَا قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يُوسُفَ: 106] 3. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي بَشِيرٍ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ فَأَرْسَلَ رَسُولًا أَنْ "لَا يُبْقِيَنَّ فِي رَقَبَةِ بَعِيرٍ قِلَادَةً مِنْ وَتَرٍ أَوْ قِلَادَةً إِلَّا قُطِعَتْ" 4. وَعَنْ رُوَيْفِعٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا رُوَيْفِعُ, لَعَلَّ الْحَيَاةَ تَطُولُ بِكَ, فَأَخْبِرِ النَّاسَ أَنَّ مَنْ عَقَدَ لِحْيَتَهُ أَوْ تَقَلَّدَ وَتَرًا أَوِ اسْتَنْجَى بِرَجِيعِ دَابَّةٍ أَوْ عَظْمٍ, فَإِنَّ مُحَمَّدًا بَرِيءٌ مِنْهُ" رَوَاهُ أَحْمَدُ5. وَلَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عُكَيْمٍ مَرْفُوعًا: "مَنْ عَلَّقَ شَيْئًا وُكِّلَ إِلَيْهِ" وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ1. وَعَنْ زَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَتْ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ إِذَا جَاءَ مِنْ حَاجَةٍ فَانْتَهَى إِلَى الْبَابِ تَنَحْنَحَ وَبَزَقَ كَرَاهِيَةَ أَنْ يَهْجُمَ مِنَّا عَلَى أَمْرٍ يَكْرَهُهُ, قَالَتْ: وَإِنَّهُ جَاءَ ذَاتَ يَوْمٍ فَتَنَحْنَحَ وَعِنْدِي عَجُوزٌ تَرْقِينِي مِنَ الْحُمْرَةِ, فَأَدْخَلْتُهَا تَحْتَ السَّرِيرِ, قَالَتْ: فَدَخَلَ فَجَلَسَ إِلَى جَانِبِي فَرَأَى فِي عُنُقِي خَيْطًا فَقَالَ: مَا هَذَا الْخَيْطُ؟ قَالَتْ: قُلْتُ: خَيْطٌ رُقِيَ لِي فِيهِ, فَأَخَذَهُ فَقَطَعَهُ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ آلَ عَبْدِ اللَّهِ لَأَغْنِيَاءُ عَنِ الشِّرْكِ, سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "إِنَّ الرُّقَى وَالتَّمَائِمَ وَالتِّوَلَةَ شِرْكٌ" قَالَتْ: قُلْتُ لَهُ: لِمَ تَقُولُ هَذَا وَقَدْ كَانَتْ عَيْنِي تَقْذِفُ فَكُنْتُ أَخْتَلِفُ إِلَى فُلَانٍ الْيَهُودِيِّ يَرْقِيهَا, فَكَانَ إِذَا رَقَاهَا سَكَنَتْ؟! فَقَالَ: إِنَّمَا ذَاكَ مِنَ الشَّيْطَانِ, كَانَ يَنْخَسُهَا بِيَدِهِ فَإِذَا رَقَاهَا كَفَّ عَنْهَا, إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكِ أَنْ تَقُولِي كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَذْهِبِ الْبَاسَ رَبَّ النَّاسِ, اشْفِ أَنْتَ الشَّافِي, لَا شِفَاءَ إِلَّا شِفَاؤُكَ, شِفَاءً لَا يُغَادِرُ سَقَمًا" رَوَاهُ أَحْمَدُ2. وَرَوَى جُمْلَةَ الدَّلَالَةِ مِنْهُ عَلَى الْبَابِ أَبُو دَاوُدَ3, أعني الجملة مرفوعة إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ الشَّيْخُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ: الرُّقَى هِيَ الَّتِي تُسَمَّى الْعَزَائِمُ وَخَصَّ مِنْهُ الدَّلِيلُ مَا خَلَا مِنَ الشِّرْكِ, فَقَدْ رَخَّصَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْعَيْنِ وَالْحُمَّةِ, وَالتَّمَائِمُ: شَيْءٌ يُلْقُونَهُ عَلَى الْأَوْلَادِ عَنِ الْعَيْنِ, وَالتِّوَلَةُ: شَيْءٌ يَصْنَعُونَهُ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ يُحَبِّبُ الْمَرْأَةَ إِلَى زَوْجِهَا وَالرَّجُلَ إلى امرأته ا. هـ.4. وَقَوْلُهُ فِي الرُّقَى: وَخَصَّ مِنْهَا الدَّلِيلُ مَا خَلَا عَنِ الشِّرْكِ ... إِلَخْ يُشِيرُ إِلَى مَا سَنَذْكُرُهُ بِقَوْلِنَا:
الكلام عن الرقى
[الْكَلَامُ عَنِ الرُّقَى] ثُمَّ الرُّقَى مِنْ حُمَّةٍ أَوْ عَيْنِ ... فَإِنْ تَكُنْ مِنْ خَالِصِ الْوَحْيَيْنِ فَذَاكَ مِنْ هَدْيِ النَّبِيِّ وَشِرْعَتِهْ ... وَذَاكَ لَا اخْتِلَافَ فِي سُنِّيَّتِهْ "ثُمَّ الرُّقَى" إِذَا فُعِلَتْ "مِنْ حُمَّةٍ" وَهِيَ تُطْلَقُ عَلَى لَدْغِ ذَوَاتِ السُّمُومِ كالحية والعقرب وغيرهما "أَوْ عَيْنِ" وَهِيَ مِنَ الْإِنْسِ كَالنَّفْسِ مِنَ الْجِنِّ وَهِيَ حَقٌّ وَلَهَا تَأْثِيرٌ لَكِنْ لَا تَأْثِيرَ لَهَا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ, وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ} [الْقَلَمِ: 51] الْآيَةَ, فَسَّرَهُ بِإِصَابَةِ الْعَيْنِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُمَا1. وَفِي تَحْقِيقِهَا أَحَادِيثُ: فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "الْعَيْنُ حَقٌّ, وَلَوْ كَانَ شَيْءٌ سَابِقُ الْقَدَرِ سَبَقَتِ الْعَيْنُ, وَإِذَا اسْتُغْسِلْتُمْ فَاغْسِلُوا" 2. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ الْعَيْنَ حَقٌّ" أَخْرَجَاهُ3. وَلِأَحْمَدَ وَابْنِ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْعَيْنُ حَقٌّ" 4. وَلِأَحْمَدَ عَنْهُ أَيْضًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْعَيْنُ حَقٌّ, وَيُحْضِرُهَا الشَّيْطَانُ وَحَسَدُ ابْنِ آدَمَ" 5. وَلَهُ عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "أَصْدَقُ الطِّيَرَةِ الْفَأْلُ, وَالْعَيْنُ حَقٌّ" 6. وَلَهُ هُوَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ عَنْ أَسْمَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, إِنَّ بَنِي جَعْفَرَ تُصِيبُهُمُ الْعَيْنُ, أَفَأَسْتَرْقِي لَهُمْ؟ قَالَ: "نَعَمْ فلو كان شيء يُسْبَقُ الْقَدَرُ, لَسَبَقَتْهُ الْعَيْنُ" 1. وَلِأَحْمَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "لَا هَامَ, وَالْعَيْنُ حَقٌّ, وَأَصْدَقُ الطِّيَرَةِ الْفَأْلُ" 2. وَلَهُ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَرَجَ وَسَارُوا مَعَهُ نَحْوَ مَكَّةَ, حَتَّى إِذَا كَانُوا بِشِعْبِ الْحَرَّارِ مِنَ الْجُحْفَةِ اغْتَسَلَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ, وَكَانَ رَجُلًا أَبْيَضَ حَسَنَ الْجِسْمِ وَالْجِلْدِ, فَنَظَرَ إِلَيْهِ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ -أَخُو بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ- وَهُوَ يَغْتَسِلُ فَقَالَ: مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ وَلَا جِلْدَ مُخَبَّأَةٍ! فَلِيطَ سَهْلٌ, فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, هَلْ لَكَ فِي سَهْلٍ, وَاللَّهِ مَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ وَلَا يُفِيقُ؟ قَالَ: "هَلْ تَتَّهِمُونَ فِيهِ مَنْ أَحَدٍ "؟ قَالُوا: نَظَرَ إِلَيْهِ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ, فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامِرًا فَتَغَيَّظَ عَلَيْهِ وَقَالَ: "عَلَامَ يَقْتُلُ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ؟ هَلَّا إِذَا رَأَيْتَ مَا يُعْجِبُكَ بَرَّكْتَ" ثُمَّ قَالَ لَهُ: "اغْتَسِلْ لَهُ" فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ وَمَرْفِقَيْهِ وَرُكْبَتَيْهِ وَأَطْرَافَ رِجْلَيْهِ وَدَاخِلَةَ إِزَارِهِ فِي قَدَحٍ, ثُمَّ صُبَّ ذَلِكَ الْمَاءُ عَلَيْهِ, فَصَبَّهُ رَجُلٌ عَلَى رَأْسِهِ وَظَهْرِهِ مِنْ خَلْفِهِ ثُمَّ يَكْفَأُ الْقَدَحَ وَرَاءَهُ, فَفَعَلَ ذَلِكَ فَرَاحَ سَهْلٌ مَعَ النَّاسِ لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ3. وَلَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ: انْطَلَقَ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ وَسَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ يُرِيدَانِ الْغُسْلَ, قَالَ: فَانْطَلَقَا يَلْتَمِسَانِ الْخَمَرَ قَالَ: فَوَضَعَ عَامِرٌ جُبَّةً كَانَتْ عَلَيْهِ مِنْ صُوفٍ فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ فَأَصَبْتُهُ بِعَيْنِي, فَنَزَلَ الْمَاءَ يَغْتَسِلُ قَالَ: فَسَمِعْتُ لَهُ فِي
الْمَاءِ فَرْقَعَةً فَأَتَيْتُهُ فَنَادَيْتُهُ ثَلَاثًا, فَلَمْ يُجِبْنِي, فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَخْبَرْتُهُ قَالَ: فَجَاءَ يَمْشِي فَخَاضَ الْمَاءَ فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى بَيَاضِ سَاقَيْهِ, قَالَ: فَضَرَبَ صَدْرَهُ بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ: "اللَّهُمَّ اصْرِفْ عَنْهُ حَرَّهَا وَبَرْدَهَا وَوَصَبَهَا" قَالَ: فَقَامَ, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ مِنْ أَخِيهِ أَوْ مِنْ نَفْسِهِ أَوْ مِنْ مَالِهِ مَا يُعْجِبُهُ, فَلْيُبَرِّكْ؛ فَإِنَّ الْعَيْنَ حق" 1. وله عند عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ وَلَا هَامَةَ وَلَا حَسَدَ, وَالْعَيْنُ حَقٌّ" 2 وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمُصَرِّحَةِ بِأَنَّ الْعَيْنَ حَقٌّ, وَسَنَذْكُرُ بَعْضَهَا أَيْضًا فِي شَرْعِيَّةِ الرُّقَى مِنْهَا وَغَيْرِهَا. وَلْنَرْجِعْ إِلَى الْمَقْصُودِ مِنْ شَرْحِ الْمَتْنِ: "فَإِنْ تَكُنْ" أَيِ: الرُّقَى "مِنْ خَالِصِ الْوَحْيَيْنِ" الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ, وَإِضَافَةُ خَالِصٍ إِلَى الْوَحْيَيْنِ مِنْ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ, وَالْمَعْنَى: مِنَ الْوَحْيِ الْخَالِصِ بِأَنْ لَا يَدْخُلَ فِيهِ غَيْرُهُ من شعوذة المشعوذين, وَلَا يَكُونَ بِغَيْرِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ, بَلْ يَتْلُو الْآيَاتِ عَلَى وَجْهِهَا وَالْأَحَادِيثَ كَمَا رُوِيَتْ وَعَلَى مَا تُلُقِّيَتْ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِلَا همز ولا لمز, "فَذَلِكَ" أَيِ: الرُّقَى مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ هُوَ "مِنْ هَدْيِ النَّبِيِّ" صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ هُوَ وَأَصْحَابُهُ وَالتَّابِعُونَ بِإِحْسَانٍ "وَ" مِنْ "شِرْعَتِهِ" الَّتِي جَاءَ بِهَا مُؤَدِّيًا عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. "وَذَاكَ" مَعْطُوفٌ عَلَى ذَاكَ الْأَوَّلِ وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ بِهِمَا وَاحِدٌ وَلَكِنَّ الْخَبَرَ فِي الثَّانِي غَيْرُ الْخَبَرِ فِي الْأَوَّلِ, فَيَكُونُ مِنْ عَطْفِ الْجُمْلَةِ عَلَى الْجُمْلَةِ, وَالْخَبَرُ: "لَا اخْتِلَافَ فِي سُنِّيَّتِهِ" بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ إِذْ قَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَوْلِهِ وَتَقْرِيرِهِ, فَرَقَاهُ جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَرَقَى هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ وَأَمَرَ بِهَا وَأَقَرَّ عَلَيْهَا. وَلْنَذْكُرْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْأَحَادِيثِ فِي ذَلِكَ, وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ: قَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: بَابُ الرُّقَى بِالْقُرْآنِ وَالْمُعَوِّذَاتِ, وَذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَنْفُثُ عَلَى نَفْسِهِ فِي الْمَرَضِ
الَّذِي مَاتَ فِيهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ, فَلَمَّا ثَقُلَ كُنْتُ أَنْفُثُ عَلَيْهِ بِهِنَّ وَأَمْسَحُ بِيَدِ نَفْسِهِ لِبَرَكَتِهَا1, ثُمَّ قَالَ: بَابُ الرُّقَى بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ, وَيَذْكُرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ2, ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَتَوْا عَلَى حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ فَلَمْ يُقْرُوهُمْ, فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ لُدِغَ سَيِّدُ أُولَئِكَ فَقَالُوا: هَلْ مَعَكُمْ مِنْ دَوَاءٍ أَوْ رَاقٍ؟ فَقَالُوا: إِنَّكُمْ لَمْ تُقْرُونَا وَلَا نَفْعَلُ حَتَّى تَجْعَلُوا لَنَا جُعْلًا, فَجَعَلُوا لَهُمْ قَطِيعًا مِنَ الشَّاءِ, فَجَعَلَ يَقْرَأُ بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَيَجْمَعُ بزاقه ويتفل فبرئ, فَأَتَوْا بِالشَّاءِ فَقَالُوا: لَا نَأْخُذُهُ حَتَّى نَسْأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَسَأَلُوهُ فَضَحِكَ وَقَالَ: "وَمَا أَدْرَاكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ, خُذُوهَا وَاضْرِبُوا لِي بِسَهْمٍ" 3. ثُمَّ قَالَ: بَابُ الشَّرْطِ فِي الرُّقْيَةِ بِقَطِيعٍ مِنَ الْغَنَمِ, وَسَاقَ فِيهِ بِإِسْنَادِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَرُّوا بِمَاءٍ فِيهِ لَدِيغٌ أَوْ سَلِيمٌ, فَعَرَضَ لَهُمْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْمَاءِ فَقَالَ: هَلْ فِيكُمْ مِنْ رَاقٍ؟ إِنَّ فِي الْمَاءِ رَجُلًا لَدِيغًا أَوْ سَلِيمًا, فَانْطَلَقَ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَقَرَأَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ على شاء فبرئ, فَجَاءَ بِالشَّاءِ إِلَى أَصْحَابِهِ فَكَرِهُوا ذَلِكَ وَقَالُوا: أَخَذْتَ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ أَجْرًا, حَتَّى قَدِمُوا الْمَدِينَةَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخَذَ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ أَجْرًا, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ أَحَقَّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ اللَّهِ" 4. قلت: وهذا هو الَّذِي عَلَّقَهُ آنِفًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. ثُمَّ قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: بَابُ رُقْيَةِ الْعَيْنِ وَذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, أَوْ أَمَرَ أَنْ يُسْتَرْقَى مِنَ الْعَيْنِ5. وَحَدِيثَ أَمِّ سَلَمَةَ
-رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَأَى فِي بَيْتِهَا جَارِيَةً فِي وَجْهِهَا سَفْعَةٌ فَقَالَ: "اسْتَرْقُوا لَهَا, فَإِنَّ بِهَا النَّظْرَةَ" 1. وَذَكَرَ بَابَ "الْعَيْنُ حَقٌّ" 2 ثُمَّ قَالَ: بَابُ رُقَيَّةِ الْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ, وَذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ عَبْدِ الرحمن بن الأسود عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنِ الرُّقْيَةِ مِنَ الْحُمَّةِ فَقَالَتْ: رَخَّصَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الرُّقْيَةِ مِنْ كُلِّ ذِي حُمَّةٍ3. ثُمَّ قَالَ: بَابُ رُقْيَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وَذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ, إِذْ قَالَ لِثَابِتٍ: أَلَا أَرْقِيكَ بِرُقْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: بَلَى قَالَ: "اللَّهُمَّ رَبَّ النَّاسِ, مُذْهِبَ الْبَاسِ, اشْفِ أَنْتَ الشَّافِي, لَا شَافِيَ إِلَّا أَنْتَ, شِفَاءً لَا يُغَادِرُ سَقَمًا" 4 وَحَدِيثَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَعُودُ بَعْضَ أَهْلِهِ, يَمْسَحُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى وَيَقُولُ: "اللَّهُمَّ رَبَّ النَّاسِ, أَذْهِبِ الْبَاسَ, وَاشْفِ أَنْتَ الشَّافِي, لَا شِفَاءَ إِلَّا شِفَاؤُكَ, شِفَاءً لَا يُغَادِرُ سَقَمًا" 5. وَحَدِيثَهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَرْقِي, يَقُولُ: "امْسَحِ الْبَاسَ رَبَّ النَّاسِ, بِيَدِكَ الشِّفَاءُ, لَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا أَنْتَ" 6. وَحَدِيثَهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يقول للمريض: "باسم اللَّهِ, تُرْبَةُ أَرْضِنَا بِرِيقَةِ بَعْضِنَا -وَفِي رِوَايَةٍ: وَرِيقَةُ بَعْضِنَا- يُشْفَى سَقِيمُنَا, بِإِذْنِ رَبِّنَا" 7. وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: رَخَّصَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرُّقْيَةِ مِنَ الْعَيْنِ وَالْحُمَّةِ وَالنَّمْلَةِ, رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ8. قَالَ أَبُو الْبَرَكَاتِ ابْنُ
تَيْمِيَّةَ: النَّمْلَةُ قُرُوحٌ تَخْرُجُ فِي الْجَنْبِ. وَعَنِ الشِّفَاءِ بِنْتِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَنَا عِنْدُ حَفْصَةَ فَقَالَ: "أَلَا تُعَلِّمِينَ, هَذِهِ رُقْيَةَ النَّمْلَةِ" الْحَدِيثُ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ1. وَعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كُنَّا نَرْقِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تَرَى فِي ذَلِكَ؟ فَقَالَ: "اعْرِضُوا عَلَيَّ رُقَاكُمْ, لَا بَأْسَ بِالرُّقَى مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ شِرْكٌ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ2. وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: نَهَى رَسُولُ لِلَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ الرُّقَى فَجَاءَ آلُ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ عِنْدَنَا رُقْيَةٌ نَرْقِي بِهَا مِنَ الْعَقْرَبِ, وَإِنَّكَ نَهَيْتَ عَنِ الرُّقَى قَالَ: "فَاعْرِضُوهَا" فَقَالَ: "مَا أَرَى بَأْسًا, مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَفْعَلْ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ3. وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُحِرَ حَتَّى كَانَ يَرَى أَنَّهُ يَأْتِي النِّسَاءَ وَلَا يَأْتِيهِنَّ, قَالَ سُفْيَانُ: وَهَذَا أَشَدُّ مَا يَكُونُ مِنَ السِّحْرِ إِذَا كَانَ كَذَا فَقَالَ: "يَا عَائِشَةَ, أَعَلِمْتِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَفْتَانِي فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ" الْحَدِيثَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ بِطُولِهِ فِي مَوَاضِعَ4. وَعَنِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: سَحَرَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ قَالَ: فَاشْتَكَى لِذَلِكَ أَيَّامًا قَالَ: فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: إِنَّ رَجُلًا مِنَ الْيَهُودِ سَحَرَكَ وَعَقَدَ لَكَ عُقَدًا, فَأَرْسَلَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علينا فَاسْتَخْرَجَهَا فَجَاءَ بِهَا, فَجَعَلَ كُلَّمَا حَلَّ عُقْدَةً وَجَدَ لِذَلِكَ خِفَّةً, فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَأَنَّمَا نَشِطَ مِنْ عِقَالٍ5. وَلِمُسْلِمٍ عَنْ
أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ, أَنَّ جِبْرِيلَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَتَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: "يَا مُحَمَّدُ اشْتَكَيْتَ"؟ قَالَ: "نعم" قال: باسم اللَّهِ أَرْقِيكَ, مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يُؤْذِيكَ, وَمِنْ شَرِّ كُلِّ نَفْسٍ أَوْ عَيْنِ حَاسِدٍ اللَّهُ يَشْفِيكَ" 1. وَعَنْ بُرَيْدِ بْنِ الْحَصِيبِ رَضِيَ اللَّهُ عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا رُقْيَةَ إِلَّا مِنْ عَيْنٍ, أَوْ حُمَّةٍ" رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ هَكَذَا مَرْفُوعًا2. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ مَوْقُوفًا3. أَمَّا الرُّقَى الْمَجْهُولَةُ الْمَعَانِي ... فَذَاكَ وَسْوَاسٌ مِنَ الشَّيْطَانِ وَفِيهِ جَاءَ الْحَدِيثُ أَنَّهُ ... شِرْكٌ بِلَا مِرْيَةٍ فَاحْذَرْنَهُ إِذْ كُلُّ مَنْ يَقُولُهُ لَا يَدْرِي ... لَعَلَّهُ يَكُونُ مَحْضَ الْكُفْرِ أَوْ هُوَ مَنْ سِحْرِ الْيَهُودِ مُقْتَبَسْ ... عَلَى الْعَوَامِّ لَبَّسُوهُ فَالْتَبَسْ أَيْ: أَمَّا الرُّقَى الَّتِي لَيْسَتْ بِعَرَبِيَّةِ الْأَلْفَاظِ وَلَا مَفْهُومَةَ الْمَعَانِي وَلَا مَشْهُورَةً وَلَا مَأْثُورَةً فِي الشَّرْعِ الْبَتَّةَ, فَلَيْسَتْ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ وَلَا مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي ظِلٍّ وَلَا فَيْءٍ, بَلْ هِيَ وَسْوَاسٌ مِنَ الشَّيْطَانِ أَوْحَاهَا إِلَى أَوْلِيَائِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} [الْأَنْعَامِ: 121] وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ قَوْلُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: "إِنَّ الرُّقَى وَالتَّمَائِمَ وَالتِّوَلَةَ شِرْكٌ" 4؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ بِهِ لَا يَدْرِي أَهْوَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ مِنْ أَسْمَاءِ الْمَلَائِكَةِ أَوْ مِنْ أَسْمَاءِ الشَّيَاطِينِ, وَلَا يَدْرِي هَلْ فِيهِ كُفْرٌ أَوْ إِيمَانٌ, وَهَلْ هُوَ حَقٌّ أَوْ بَاطِلٌ, أَوْ فِيهِ نَفْعٌ أَوْ ضُرٌّ, أَوْ رُقْيَةٌ أَوْ سِحْرٌ. وَلَعَمْرُ اللَّهِ لَقَدِ انْهَمَكَ غَالِبُ النَّاسِ فِي هَذِهِ الْبَلْوَى غَايَةَ الْانْهِمَاكِ وَاسْتَعْمَلُوهُ عَلَى أَضْرُبٍ كَثِيرَةٍ وَأَنْوَاعٍ مُخْتَلِفَةٍ, فَمِنْهُ مَا يَدَّعُونَ أَنَّهُ
مِنَ الْقُرْآنِ أَوْ مِنَ السُّنَّةِ وَمِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْمُثْبَتَةِ فِيهَا, وَأَنَّهُمْ تَرْجَمُوهُ هُمْ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ بِالسُّرْيَانِيَّةِ أَوِ العبرانية أو غيرهما وَأَخْرَجُوهُ عَنِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ, وَلَا أَدْرِي إِنْ صَدَّقْنَاهُمْ فِي دَعْوَاهُمْ أَهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ لَا يَنْفَعُ إِذَا كَانَ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ وَتَكَلَّمَ بِهَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالسُّنَّةِ حَتَّى يُتَرْجِمُوهُ بِالْأَعْجَمِيَّةِ أَوْ أَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ بِالْأَعْجَمِيَّةِ أَنْفَعُ مِنْهُ بِالْعَرَبِيَّةِ, أَوْ أَنَّهُ يَنْفَعُ بِالْعَرَبِيَّةِ لِشَيْءٍ وَبِالْأَعْجَمِيَّةِ لِغَيْرِهِ وَلَا تَصْلُحُ إِحْدَاهُمَا فِيمَا تَصْلُحُ فيه الأخرى, أماذا زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ وَسَوَّلَتْ لهم أنفسهم, أماذا كَانُوا يَفْتَرُونَ؟ وَمِمَّا يَزْعُمُونَ أَنَّهُ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي لَيْسَتْ فِي الْكِتَابِ وَلَا فِي السُّنَّةِ وَأَنَّهُمْ عَلِمُوهَا مِنْ غَيْرِهِمَا فَمِنْهُ مَا يَدَّعُونَ أَنَّهُ دَعَا بِهِ آدَمُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَوْ نُوحٌ أَوْ هُودٌ أَوْ غَيْرُهُمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ, وَمِنْهُ مَا يَقُولُونَ: أَنَّهُ لَيْسَ إِلَّا فِي أُمِّ الْكِتَابِ وَمِنْهُ مَا يَقُولُونَ: هُوَ مَكْتُوبٌ فِي الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ وَمِنْهُ مَا يَقُولُونَ: هُوَ مَكْتُوبٌ عَلَى جَنَاحِ جِبْرِيلَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَوْ جَنَاحِ مِيكَائِيلَ أَوْ جَنَاحِ إِسْرَافِيلَ أَوْ غَيْرِهِمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ, أَوْ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. وَلَيْتَ شِعْرِي مَتَى طَالَعُوا اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ فَاسْتَنْسَخُوهُ مِنْهُ؟! وَمَتَى رَقَوْا إِلَى البيت المعمور فقرءوه فِيهِ؟! وَمَتَى نَشَرَتْ لَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَجْنِحَتَهَا فَرَأَوْهُ؟! وَمَتَى اطَّلَعُوا إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ فَشَاهَدُوهُ؟! كُلَّمَا شَعْوَذَ مُشَعْبِذٌ وَتَحَذْلَقَ مُتَحَذْلِقٌ وَأَرَادَ الدَّجَلَ عَلَى النَّاسِ وَالتَّحَيُّلَ لِأَخْذِ أَمْوَالِهِمْ, طَلَبَ السُّبُلَ إِلَى وَجْهِ تِلْكَ الْحِيلَةِ وَرَامَ لَهَا أَصْلًا تَرْجِعُ إِلَيْهِ, فَإِنْ وَجَدَ شُبْهَةً تُرَوِّجُ عَلَى ضُعَفَاءِ الْعُقُولِ وَأَعْمِيَاءِ الْبَصَائِرِ وَإِلَّا كَذَبَ لَهُمْ كَذِبًا مَحْضًا وَقَاسَمَهُمْ بِاللَّهِ: إِنَّهُ لَهُمْ لَمِنَ النَّاصِحِينَ, فَيُصَدِّقُونَهُ لِحُسْنِ ظَنِّهِمْ بِهِ. وَمِنْهُ أَسْمَاءٌ يَدَّعُونَهَا, تَارَةً يَدَّعُونَ أَنَّهَا أَسْمَاءُ الْمَلَائِكَةِ وَتَارَةً يَزْعُمُونَ أَنَّهَا مِنْ أَسْمَاءِ الشَّيَاطِينِ, وَاعْتِقَادُهُمْ فِي هَذِهِ الْأَسْمَاءِ أَنَّهَا تَخْدِمُ هَذِهِ السُّورَةَ أَوْ هَذِهِ الْآيَةَ, أَوْ هَذَا الِاسْمَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى, فَيَقُولُونَ: يَا خُدَّامَ سُورَةِ كَذَا أَوْ آيَةِ كَذَا أَوِ اسْمِ كَذَا, يَا فُلَانُ ابْنَ فُلَانٍ وَيَا فُلَانُ ابْنَ فُلَانٍ أَجِيبُوا أَجِيبُوا, الْعَجَلَ الْعَجَلَ, وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَمَا مِنْ سُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ وَلَا آيَةٍ مِنْهُ وَلَا اسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ يَعْرِفُونَهُ إِلَّا وَقَدِ انْتَحَلُوا لَهُ خُدَّامًا وَدَعَوْهُمْ لَهُ, سَاءَ مَا يَفْتَرُونَ. وَتَارَةً يَكْتُبُونَ السُّورَةَ أَوِ الْآيَةَ وَيُكَرِّرُونَهَا مَرَّاتٍ عَدِيدَةً بِهَيْئَاتٍ مختلفة حتى إنهم يَجْعَلُونَ أَوَّلَهَا آخِرًا وَآخِرَهَا أَوَّلًا, وَأَوْسَطَهَا أَوَّلًا فِي مَوْضِعٍ وَآخِرًا فِي آخَرَ, وَتَارَةً يَكْتُبُونَهَا بِحُرُوفٍ مُقَطَّعَةٍ كُلُّ حَرْفٍ عَلَى حِدَتِهِ
وَيَزْعُمُونَ أَنَّ لَهَا بِهَذِهِ الْهَيْئَةِ خُصُوصِيَّةً لَيْسَتْ لِغَيْرِهَا مِنَ الْهَيْئَاتِ, وَلَا أَدْرِي مِنْ أَيْنَ أَخَذُوهَا وَعَمَّنْ نَقَلُوهَا؟! مَا هِيَ إِلَّا وَسَاوِسُ شَيْطَانِيَّةٌ زَخْرَفُوهَا وَخُرَافَاتٌ مُضِلَّةٌ ألفوها وأكاذيب مختلقة لَفَّقُوهَا, لَمْ يُنَزِّلِ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ وَلَا يُعْرَفُ لَهَا أَصْلٌ فِي سُنَّةٍ وَلَا قُرْآنٍ, وَلَمْ تُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ وَالْإِيمَانِ. إِنْ هَؤُلَاءِ إِلَّا كَاذِبُونَ أَفَّاكُونَ مُفْتَرُونَ, وَسَيُجْزُونَ عَلَى مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ. وَتَارَةً يَكْتُبُونَ رُمُوزًا مِنَ الْأَعْدَادِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَعْرُوفَةِ مِنْ آحَادٍ وَعَشَرَاتٍ وَمِئَاتٍ وَأُلُوفٍ وَغَيْرِهَا ويزعمون أَنَّهَا رُمُوزٌ إِلَى حُرُوفِ آيَةٍ أَوْ سُورَةٍ أَوِ اسْمٍ أَوْ شَيْءٍ مِمَّا قَدَّمْنَا بِحِسَابِ الْحُرُوفِ الْأَبْجَدِيَّةِ الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَ الْعَرَبِ, وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْخُرَافَاتِ الْبَاطِلَةِ وَالْأَكَاذِيبِ الْمُفْتَعَلَةِ الْمُخْتَلَقَةِ, وغالبها مأخوذ عن الْأُمَّةِ الْغَضَبِيَّةِ الَّذِينَ أَخَذُوا السِّحْرَ عَنِ الشَّيَاطِينِ وَتَعَلَّمُوهُ مِنْهُمْ, ثُمَّ أَدْخَلُوا ذَلِكَ عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ بِصِفَةِ أَنَّهُ مِنَ الْقُرْآنِ أَوِ السُّنَّةِ أَوْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى, وَأَنَّهُمْ إِنَّمَا غَيَّرُوا أَلْفَاظَهُ وَتَرْجَمُوهَا بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ لِمَقَاصِدَ لَا تَتِمُّ بِزَعْمِهِمْ إِلَّا بِذَلِكَ, وَمِنْهَا مَا هُوَ مِنْ عُبَّادِ الْمَلَائِكَةِ وَالشَّيَاطِينِ وَنَحْوِهُمْ, يَأْخُذُونَ أَسْمَاءَهُمْ وَيَقُولُونَ لِلْجُهَّالِ: هِيَ أَسْمَاءُ اللَّهِ؛ لِيُرَوِّجُوا الشِّرْكَ بِذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَيَدْعُونَ غَيْرَ اللَّهِ مِنْ دُونِهِ, وَهَذِهِ مَكِيدَةٌ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهَا إبليس إلا بوساطة هَؤُلَاءِ الْمُضِلِّينَ وَهُوَ: {إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فَاطِرٍ: 6] ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الْعَنْكَبُوتِ: 51] {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النُّورِ: 40] . فَتَحَصَّلَ مِنْ هَذَا أَنَّ الرُّقَى لَا تَجُوزُ إِلَّا بِاجْتِمَاعِ ثَلَاثَةِ شُرُوطٍ, فَإِذَا اجْتَمَعَتْ فِيهَا كَانَتْ رُقْيَةً شَرْعِيَّةً, وَإِنِ اخْتَلَّ مِنْهَا شَيْءٌ كَانَ بِضِدٍّ ذَلِكَ: الْأَوَّلُ: أَنْ تَكُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ, فَلَا تَجُوزُ مِنْ غَيْرِهِمَا. الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ, مَحْفُوظَةً أَلْفَاظُهَا مَفْهُومَةً مَعَانِيهَا, فَلَا يَجُوزُ تَغْيِيرُهَا إِلَى لِسَانٍ آخَرَ. الثَّالِثُ: أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهَا سَبَبٌ مِنَ الْأَسْبَابِ, لَا تَأْثِيرَ لَهَا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ, فَلَا يَعْتَقِدُ النَّفْعَ فِيهَا لِذَاتِهَا, بَلْ فِعْلُ الرَّاقِي السَّبَبُ, وَاللَّهُ هُوَ الْمُسَبِّبُ إِذَا شَاءَ.
التمائم والحجب
[التَّمَائِمُ وَالْحُجُبُ] : وَفِي التَّمَائِمِ الْمُعَلَّقَاتِ ... إِنْ تَكُ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتِ فَالِاخْتِلَافُ وَاقِعٌ بَيْنَ السَّلَفْ ... فَبَعْضُهُمْ أَجَازَهَا وَالْبَعْضُ كَفْ "وَفِي التَّمَائِمِ الْمُعَلَّقَاتِ" أَيِ: الَّتِي تُعَلَّقُ عَلَى الصِّبْيَانِ وَالدَّوَابِّ وَنَحْوِهَا "إِنْ تَكُ" هِيَ أَيِ: التَّمَائِمُ "آيَاتٍ" قُرْآنِيَّةٍ "مُبَيِّنَاتٍ" وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَتْ مِنَ السُّنَنِ الصَّحِيحَةِ الْوَاضِحَاتِ "فَالِاخْتِلَافُ" فِي جَوَازِهَا "وَاقِعٌ بَيْنَ السَّلَفِ" مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ "فَبَعْضُهُمْ" أَيْ: بَعْضُ السَّلَفِ "أَجَازَهَا" يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- وَأَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ وَغَيْرِهِمَا مِنَ السَّلَفِ1 "وَالْبَعْضُ" مِنْهُمْ "كَفَّ" أَيْ: مَنَعَ ذَلِكَ وَكَرِهَهُ وَلَمْ يَرَهُ جَائِزًا, مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُكَيْمٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو وَعَقَبَةُ بْنُ عَامِرٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَأَصْحَابُهُ كَالْأَسْوَدِ وَعَلْقَمَةَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ كَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَغَيْرُهُمْ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى2. وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْعَ ذَلِكَ أَسَدُّ لِذَرِيعَةِ الِاعْتِقَادِ الْمَحْظُورِ, لَا سِيَّمَا فِي زَمَانِنَا هَذَا فَإِنَّهُ إِذَا كَرِهَهُ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فِي تِلْكَ الْعُصُورِ الشَّرِيفَةِ الْمُقَدَّسَةِ وَالْإِيمَانُ فِي قُلُوبِهِمْ أَكْبَرُ مِنَ الْجِبَالِ, فَلَأَنْ يُكْرَهَ فِي وَقْتِنَا هَذَا -وَقْتِ الْفِتَنِ وَالْمِحَنِ- أَوْلَى وَأَجْدَرُ بِذَلِكَ, كَيْفَ وَهُمْ قَدْ تَوَصَّلُوا بِهَذِهِ الرُّخَصِ إِلَى مَحْضِ الْمُحَرَّمَاتِ وَجَعَلُوهَا حِيلَةً وَوَسِيلَةً إِلَيْهَا, فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ يَكْتُبُونَ فِي التَّعَاوِيذِ آيَةً أَوْ سُورَةً أَوْ بَسْمَلَةً أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ ثُمَّ يَضَعُونَ تَحْتَهَا مِنَ الطَّلَاسِمِ الشَّيْطَانِيَّةِ مَا لَا يَعْرِفُهُ إِلَّا مَنِ اطَّلَعَ عَلَى كُتُبِهِمْ, وَمِنْهَا أَنَّهُمْ يَصْرِفُونَ قُلُوبَ الْعَامَّةِ عَنِ التَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- إِلَى أَنْ تَتَعَلَّقَ قُلُوبُهُمْ بِمَا كَتَبُوهُ, بَلْ أَكْثَرُهُمْ يُرْجِفُونَ بِهِمْ وَلَمْ يَكُنْ قَدْ أَصَابَهُمْ شَيْءٌ, فَيَأْتِي أَحَدُهُمْ إِلَى مَنْ أَرَادَ أَنْ يَحْتَالَ عَلَى أَخْذِ مَالِهِ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُ قَدْ أُولِعَ بِهِ, فَيَقُولُ لَهُ: إِنَّهُ سَيُصِيبُكَ فِي أَهْلِكَ أَوْ فِي مَالِكَ أَوْ فِي نَفْسِكَ كَذَا وَكَذَا, أَوْ يَقُولُ لَهُ: إِنَّ مَعَكَ قَرِينًا مِنَ الْجِنِّ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ, وَيَصِفُ لَهُ أَشْيَاءَ وَمُقَدِّمَاتٍ مِنَ الْوَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِيَّةِ مُوهِمًا أَنَّهُ صَادِقُ الْفِرَاسَةِ فِيهِ, شَدِيدُ الشَّفَقَةِ عَلَيْهِ, حَرِيصٌ عَلَى جَلْبِ النَّفْعِ إِلَيْهِ, فَإِذَا
امْتَلَأَ قَلْبُ الْغَبِيِّ الْجَاهِلِ خَوْفًا مِمَّا وَصَفَ لَهُ, حِينَئِذٍ أَعْرَضَ عَنْ رَبِّهِ وَأَقْبَلَ عَلَى ذَلِكَ الدَّجَّالِ بِقَلْبِهِ وَقَالَبِهِ, وَالْتَجَأَ إِلَيْهِ وَعَوَّلَ عَلَيْهِ دُونَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَقَالَ لَهُ: فَمَا الْمَخْرَجُ مِمَّا وَصَفْتَ, وَمَا الْحِيلَةُ فِي دَفْعِهِ؟ كَأَنَّمَا بِيَدِهِ الضُّرُّ وَالنَّفْعُ فَعِنْدَ ذَلِكَ يَتَحَقَّقُ فِيهِ أَمَلُهُ, وَيَعْظُمُ طَمَعُهُ فِيمَا عَسَى أَنْ يَبْذُلَهُ لَهُ, فَيَقُولُ لَهُ: إِنَّكَ إِنْ أَعْطَيْتَنِي كَذَا وَكَذَا كَتَبْتُ لَكَ مِنْ ذَلِكَ حِجَابًا طُولُهُ كَذَا وَعَرْضُهُ كَذَا, وَيَصِفُ لَهُ وَيُزَخْرِفُ لَهُ فِي الْقَوْلِ, وَهَذَا الْحِجَابُ عَلِّقْهُ مِنْ كَذَا وَكَذَا مِنَ الْأَمْرَاضِ أَتَرَى هَذَا -مَعَ هَذَا الِاعْتِقَادِ- مِنَ الشِّرْكِ الْأَصْغَرِ, لَا بَلْ هُوَ تَأَلُّهٌ لِغَيْرِ اللَّهِ وَتَوَكُّلٌ عَلَى غَيْرِهِ وَالْتِجَاءٌ إِلَى سِوَاهُ وَرُكُونٌ إِلَى أَفْعَالِ الْمَخْلُوقِينَ وَسَلْبٌ لَهُمْ مِنْ دِينِهِمْ, فَهَلْ قَدَرَ الشَّيْطَانُ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْحِيَلِ إِلَّا بِوَسَاطَةِ أَخِيهِ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ: {قُلْ مَنْ يَكْلَأُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 42] ؟! ثُمَّ إِنَّهُ يَكْتُبُ فِيهِ مَعَ طَلَاسِمِهِ الشَّيْطَانِيَّةِ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ وَيَتَعَلَّقُهُ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ وَيُحْدِثُ الْحَدَثَ الْأَصْغَرَ وَالْأَكْبَرَ وَهُوَ مَعَهُ أَبَدًا لَا يُقَدِّسُهُ عَنْ شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ, تَاللَّهِ مَا اسْتَهَانَ بكتاب الله تعالى أَحَدٌ مِنْ أَعْدَائِهِ اسْتِهَانَةَ هَؤُلَاءِ الزَّنَادِقَةِ الْمُدَّعِينَ الْإِسْلَامَ بِهِ. وَاللَّهِ مَا نَزَلَ الْقُرْآنُ إِلَّا لِتِلَاوَتِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ, وَامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ وَاجْتِنَابِ نَوَاهِيهِ, وَتَصْدِيقِ خَبَرِهِ وَالْوُقُوفِ عِنْدَ حُدُودِهِ, وَالِاعْتِبَارِ بِأَمْثَالِهِ وَالِاتِّعَاظِ بِقَصَصِهِ وَالْإِيمَانِ بِهِ, كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا, وَهَؤُلَاءِ قَدْ عَطَّلُوا ذَلِكَ كُلَّهُ وَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَلَمْ يَحْفَظُوا إِلَّا رَسْمَهُ؛ كَيْ يَتَأَكَّلُوا بِهِ وَيَكْتَسِبُوا كَسَائِرِ الْأَسْبَابِ الَّتِي يَتَوَصَّلُونَ بِهَا إِلَى الْحَرَامِ لَا الْحَلَالِ, وَلَوْ أَنَّ مَلِكًا أَوْ أَمِيرًا كَتَبَ كِتَابًا إِلَى مَنْ هُوَ تَحْتَ وِلَايَتِهِ أَنِ افْعَلْ كَذَا وَاتْرُكْ كَذَا وَأْمُرْ مَنْ فِي جِهَتِكَ بِكَذَا وَانْهَهُمْ عَنْ كَذَا وَنَحْوَ ذَلِكَ, فَأَخَذَ ذَلِكَ الْكِتَابَ وَلَمْ يَقْرَأْهُ وَلَمْ يَتَدَبَّرْ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ وَلَمْ يُبَلِّغْهُ إِلَى غَيْرِهِ مِمَّنْ أُمِرَ بِتَبْلِيغِهِ إِلَيْهِ, بَلْ أَخَذَهُ وَعَلَّقَهُ فِي عُنُقِهِ أَوْ عَضُدِهِ وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى شَيْءٍ مِمَّا فِيهِ الْبَتَّةَ, لَعَاقَبَهُ الْمَلِكُ عَلَى ذَلِكَ أَشَدَّ الْعُقُوبَةِ وَلَسَامَهُ سُوءَ الْعَذَابِ, فَكَيْفَ بِتَنْزِيلِ جَبَّارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي لَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ, وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ, وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ, فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ, هُوَ حَسْبِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ, عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ, وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ؟! وَإِنْ تَكُنْ مِمَّا سِوَى الْوَحْيَيْنِ ... فَإِنَّهَا شِرْكٌ بِغَيْرِ مَيْنِ
الفصل السادس من الشرك فعل من يتبرك بشجرة أو حجر أو بقعة أو قبر أو نحوها يتخذ ذلك المكان عيدا، وبيان أن الزيارة تنقسم إلى سنية وبدعية وشركية
بَلْ إِنَّهَا قَسِيمَةُ الْأَزْلَامِ ... فِي الْبُعْدِ عَنْ سِيمَا أُولِي الْإِسْلَامِ "وَإِنْ تَكُنْ" أَيِ: التَّمَائِمُ "مِمَّا سِوَى الْوَحْيَيْنِ" بَلْ مِنْ طَلَاسِمِ الْيَهُودِ وَعُبَّادِ الْهَيَاكِلِ وَالنُّجُومِ وَالْمَلَائِكَةِ وَمُسْتَخْدِمِي الْجِنِّ وَنَحْوِهُمْ أَوْ مِنَ الْخَرَزِ أَوِ الْأَوْتَارِ أَوِ الْحِلَقِ مِنَ الْحَدِيدِ وَغَيْرِهِ "فَإِنَّهَا شِرْكٌ" أَيْ: تَعَلُّقُهَا شِرْكٌ "بِدُونِ مَيْنِ" أَيْ: شَكِّ, إذ ليست هي مِنَ الْأَسْبَابِ الْمُبَاحَةِ وَالْأَدْوِيَةِ الْمَعْرُوفَةِ, بَلِ اعْتَقَدُوا فِيهَا اعْتِقَادًا مَحْضًا أَنَّهَا تَدْفَعُ كَذَا وَكَذَا مِنَ الْآلَامِ لِذَاتِهَا؛ لِخُصُوصِيَّةٍ زَعَمُوا فِيهَا كَاعْتِقَادِ أَهْلِ الْأَوْثَانِ فِي أَوْثَانِهِمْ "بَلْ إِنَّهَا قَسِيمَةُ" أَيْ: شَبِيهَةُ "الْأَزْلَامِ" الَّتِي كَانَ يَسْتَصْحِبُهَا أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ وَيَسْتَقْسِمُونَ بِهَا إِذَا أَرَادُوا أَمْرًا, وَهِيَ ثَلَاثَةُ قِدَاحٍ, مَكْتُوبٌ عَلَى أَحَدِهَا: افْعَلْ وَالثَّانِي: لَا تَفْعَلْ وَالثَّالِثِ: غُفَلٌ, فَإِنْ خَرَجَ فِي يَدِهِ الَّذِي فِيهِ افْعَلْ مَضَى لِأَمْرِهِ, أَوِ الَّذِي فِيهِ لَا تَفْعَلْ تَرَكَ ذَلِكَ, أَوِ الْغُفَلُ أَعَادَ اسْتِقْسَامَهُ. وَقَدْ أَبْدَلَنَا اللَّهُ تَعَالَى -وَلَهُ الْحَمْدُ- خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ: صَلَاةَ الِاسْتِخَارَةِ وَدُعَاءَهَا. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذِهِ التَّمَائِمَ الَّتِي مِنْ غَيْرِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ شَرِيكَةٌ لِلْأَزْلَامِ وَشَبِيهَةٌ بِهَا, مِنْ حَيْثُ الِاعْتِقَادُ الْفَاسِدُ وَالْمُخَالِفَةُ لِلشَّرْعِ "فِي الْبُعْدِ عَنْ سِيمَا أُولِي الْإِسْلَامِ" أَيْ: عَنْ زِيِّ أَهْلِ الْإِسْلَامِ, فَإِنَّ أَهْلَ التَّوْحِيدِ الْخَالِصِ مِنْ أَبْعَدِ مَا يَكُونُ عَنْ هَذَا وَهَذَا, وَالْإِيمَانُ فِي قُلُوبِهِمْ أَعْظَمُ مِنْ أَنَّ يَدْخُلَ عَلَيْهِ مِثْلُ هَذَا, وَهُمْ أَجَلُّ شَأْنًا وَأَقْوَى يَقِينًا مِنْ أَنْ يَتَوَكَّلُوا عَلَى غَيْرِ اللَّهِ أَوْ يَثِقُوا بِغَيْرِهِ, وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. [[الفصل السادس من الشرك فعل من يتبرك بشجرة أو حجر أو بقعة أو قبر أو نحوها يتخذ ذلك المكان عيدا، وبيان أن الزيارة تنقسم إلى سنية وبدعية وشركية]] فَصْلٌ: مِنَ الشِّرْكِ فِعْلُ مَنْ يَتَبَرَّكُ بِشَجَرَةٍ أَوْ حَجَرٍ أَوْ بُقْعَةٍ أَوْ قَبْرٍ أَوْ نَحْوِهَا يَتَّخِذُ ذَلِكَ الْمَكَانَ عِيدًا وَبَيَانُ أَنَّ الزِّيَارَةَ تَنْقَسِمُ إِلَى سُنِّيَّةٍ وَبِدْعِيَّةٍ وَشِرْكِيَّةٍ هَذَا وَمِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ الشِّرْكِ ... مِنْ غَيْرِ مَا تَرَدُّدٍ أَوْ شَكِّ مَا يَقْصِدُ الْجُهَّالُ مِنْ تَعْظِيمِ مَا ... لَمْ يَأْذَنِ اللَّهُ بِأَنْ يُعَظَّمَا كَمَنْ يَلُذْ بِبُقْعَةٍ أَوْ حَجَرِ ... أَوْ قَبْرِ مَيْتٍ أَوْ بِبَعْضِ الشَّجَرِ
مُتَّخِذًا لِذَلِكَ الْمَكَانِ ... عِيدًا كَفِعْلِ عَابِدِي الْأَوْثَانِ "هَذَا" أَيِ: الْأَمْرُ وَالْإِشَارَةُ إِلَى مَا تَقَدَّمَ "وَمِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ الشِّرْكِ" الَّتِي لَا يَفْعَلُهَا غَيْرُهُمْ وَلَا تَلِيقُ إِلَّا بِعُقُولِهِمُ السَّخِيفَةِ وَأَفْئِدَتِهِمُ الضَّعِيفَةِ وَقُلُوبِهِمُ الْمَطْبُوعِ عَلَيْهَا وَأَبْصَارِهِمُ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهَا "مَا" أَيِ: الَّذِي "لَمْ يَأْذَنِ اللَّهُ" عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ وَلَا سُنَّةِ نَبِيِّهِ "بِأَنْ يُعَظَّمَا" بِأَلْفِ الْإِطْلَاقِ, وَأَنْ وَمَدْخُولُهَا فِي تَأْوِيلِ مَصْدَرٍ أَيْ: لَمْ يَأْذَنِ اللَّهُ بِتَعْظِيمِهِ ذَلِكَ التَّعْظِيمَ الَّذِي مَنَحَهُ إِيَّاهُ مَنْ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَحُقُوقِ عِبَادِهِ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالْأَوْلِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ, بَلْ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَأَعْدَائِهِ وَلَا بَيْنَ طَاعَتِهِ وَمَعْصِيَتِهِ, فَيَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا وَهُوَ يَرَى أَنَّ ذَلِكَ الَّذِي فَعَلَهُ قُرْبَةٌ وَطَاعَةٌ لِلَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ ذَلِكَ وَيَرْضَاهُ, وَيُكَذِّبُ الرُّسُلَ وَيَدَّعِي أَنَّهُ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ, وَيُوَالِي أَعْدَاءَ اللَّهِ وَهُوَ يَظُنُّهُمْ أَوْلِيَاءَهُ, كَفِعْلِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى يُجَاهِرُونَ اللَّهَ بِالْمَعَاصِي وَيُكَذِّبُونَ كِتَابَهُ وَيُغَيِّرُونَهُ وَيُبَدِّلُونَهُ وَيُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَيَنْسِبُونَ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْوَلَدَ وَيَفْعَلُونَ الْأَفَاعِيلَ وَيَقُولُونَ: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ, وَهُمُ الْبُغَضَاءُ إِلَى اللَّهِ وَأَعْدَاؤُهُ. وَسَبَبُ هَذَا كُلِّهِ -فِي الْأُمَمِ الْأُولَى وَالْأُخْرَى- هُوَ الْإِعْرَاضُ عَنِ الشَّرِيعَةِ وَعَدَمُ الِاهْتِمَامِ لِمَعْرِفَةِ مَا احْتَوَتْ عَلَيْهِ الْكُتُبُ مِنَ الْبِشَارَةِ وَالنِّذَارَةِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ, وَمَعْرِفَةِ مَا يَجِبُ لِلَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِعْلُهُ وَمَا يَجِبُ تَرْكُهُ "كَمَنْ يَلُذْ ببقعة" أي: يعذ بِهَا وَيَخْتَلِفُ إِلَيْهَا وَيَتَبَرَّكُ بِهَا وَلَوْ بِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَهَا, وَتَقَدَّمَ تَقْيِيدُ ذَلِكَ بِمَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ, فَيَخْرُجُ بِهَذَا الْقَيْدِ مَا أَذِنَ اللَّهُ تَعَالَى بِتَعْظِيمِهِ, كَتَعْظِيمِ بَيْتِهِ الْحَرَامِ بِالْحَجِّ إِلَيْهِ وَتَعْظِيمِ شَعَائِرِ اللَّهِ مِنَ الْمَشَاعِرِ وَالْمَوَاقِفِ وَغَيْرِهَا, فَإِنَّ ذَلِكَ تَعْظِيمٌ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الَّذِي أَمَرَ بِذَلِكَ, لَا لِتِلْكَ الْبُقْعَةِ ذَاتِهَا كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا اسْتَلَمَ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ: أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ, وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ1. وَكَذَلِكَ التَّعْظِيمُ أَيْضًا نَفْسُهُ إِنَّمَا أَرَدْنَا مَنْعَ تَعْظِيمٍ لَمْ يَأْذَنِ اللَّهُ بِهِ, لَا الْمَأْذُونِ فِيهِ،
فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَمَرَ بِتَعْظِيمِ الرُّسُلِ, بِأَنْ يُطَاعُوا فَلَا يُعْصَوْا, وَيُحَبُّوا, وَيُتَّبَعُوا, وَأَنَّ طَاعَةَ الرَّسُولِ هِيَ طَاعَةُ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَمَعْصِيَتَهُ مَعْصِيَةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ, فَهَذَا تَعْظِيمٌ لَا يَتِمُّ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ إِلَّا بِهِ إِذْ هُوَ عَيْنُ تَعْظِيمِ اللَّهِ تَعَالَى, فَإِنَّهُمْ إِنَّمَا عُظِّمُوا لِأَجْلِ عَظَمَةِ الْمُرْسِلِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَأُحِبُّوا لِأَجْلِهِ وَاتُّبِعُوا عَلَى شَرْعِهِ, فَعَادَ ذَلِكَ إِلَى تَعْظِيمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ, فَلَوْ أَنَّ أَحَدًا عَظَّمَ رَسُولًا مِنَ الرُّسُلِ بِمَا لَمْ يَأْذَنِ اللَّهُ بِهِ وَرَفَعَهُ فَوْقَ مَنْزِلَتِهِ الَّتِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَغَلَا فِيهِ حَتَّى اعْتَقَدَ فِيهِ شَيْئًا مِنَ الْإِلَهِيَّةِ لَانْعَكَسَ الْأَمْرُ, وَصَارَ عَيْنَ التَّنَقُّصِ وَالِاسْتِهَانَةِ بِاللَّهِ وَبِرُسُلِهِ, كَفِعْلِ اليهود والنصارى الذين ذَكَرَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- عَنْهُمْ مِنْ غُلُوِّهِمْ فِي الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ كَعِيسَى وَعُزَيْرٍ, فَكَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَتَنَقَّصُوا الرَّبَّ -عَزَّ وَجَلَّ- بِنِسْبَةِ الْوَلَدِ إِلَيْهِ وَغَيْرِ ذلك, وكذبوا الرسول فِي قَوْلِهِ: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} [مَرْيَمَ: 30] فَصَارَ ذَلِكَ التَّعْظِيمُ فِي اعْتِقَادِهِمْ هُوَ عَيْنُ التَّنَقُّصِ وَالشَّتْمِ, سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ, وَسَلَامٌ عَلَى المرسلين. "أو حجر, أَوْ قَبْرِ مَيْتٍ, أَوْ بِبَعْضِ الشَّجَرِ" أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْعُيُونِ وَنَحْوِهَا وَلَوْ بِعِبَادَةِ اللَّهِ عِنْدَهَا, فَإِنَّ ذَلِكَ ذَرِيعَةٌ إِلَى عِبَادَتِهَا ذَاتِهَا كَمَا فَعَلَ إِبْلِيسُ -لَعَنَهُ اللَّهُ- بِقَوْمِ نُوحٍ حَيْثُ أَشَارَ عَلَيْهِمْ بِتَصْوِيرِ صَالِحِيهِمْ ثُمَّ بِالْعُكُوفِ عَلَى قُبُورِهِمْ وَصُوَرِهِمْ وَعِبَادَةِ اللَّهِ عِنْدَهَا, إِلَى أَنْ أَشَارَ عَلَيْهِمْ بِعِبَادَتِهَا ذَاتِهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ تَعَالَى؛ فَعَبَدُوهَا "مُتَّخِذًا لِذَلِكَ الْمَكَانِ" مِنَ الْقُبُورِ وَالْأَشْجَارِ وَالْعُيُونِ وَالْبِقَاعِ وَغَيْرِهَا "عِيدًا" أَيْ: يَنْتَابُهَا وَيَعْتَادُ الِاخْتِلَافَ إِلَيْهَا "كَفِعْلِ عَابِدِي الْأَوْثَانِ" فِي تَعْظِيمِهِمْ أَوْثَانَهُمْ وَاعْتِيَادِهِمْ إِلَيْهَا؛ وَلِهَذَا سَمَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعُكُوفَ عَلَى الْأَشْجَارِ وَتَعْلِيقَ الْأَسْلِحَةِ بِهَا عَلَى جِهَةِ التَّعْظِيمِ "تَأَلُّهًا" كَمَا فِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى حُنَيْنٍ وَنَحْنُ حُدَثَاءُ عَهْدٍ بِكُفْرٍ, وَلِلْمُشْرِكِينَ سِدْرَةٌ يَعْكُفُونَ عَلَيْهَا وَيَنُوطُونَ بِهَا أَسْلِحَتَهُمْ يُقَالُ لَهَا: "ذَاتُ أَنْوَاطٍ" فَمَرَرْنَا بِسِدْرَةٍ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اللَّهُ أَكْبَرُ, إِنَّهَا السَّنَنُ, قُلْتُمْ -وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ- كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى: اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ, قَالَ: إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ, لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ" 1. وَلَقَدْ عَمَّتِ الْبَلْوَى
زيارة القبور
بِذَلِكَ وَطَمَّتْ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ حَتَّى فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ لَا سِيَّمَا زَمَانُنَا هَذَا, مَا مِنْ قَبْرٍ وَلَا بُقْعَةٍ يُذْكَرُ لَهَا شَيْءٌ مِنَ الْفَضَائِلِ وَلَوْ كَذِبًا إِلَّا وَقَدِ اعْتَادُوا الِاخْتِلَافَ إِلَيْهَا وَالتَّبَرُّكَ بِهَا حَتَّى جَعَلُوا لَهَا أَوْقَاتًا مَعْلُومَةً, يَفُوتُ عِيدُهُمْ بِفَوَاتِهَا وَيَرَوْنَ مِنْ أَعْظَمِ الْخَسَارَاتِ أَنْ يَفُوتَ الرَّجُلَ ذَلِكَ الْعِيدُ الْمَعْلُومُ. وَآلَ بِهِمُ الْأَمْرُ إِلَى أَنْ صَنَّفُوا فِي أَحْكَامِ حَجِّهِمْ إِلَيْهَا كُتُبًا سَمَّوْهَا: مَنَاسِكَ حَجِّ الْمَشَاهِدِ, وَمَنْ أَخَلَّ بِشَيْءٍ مِنْهَا فَهُوَ عِنْدَهُمْ أَعْظَمُ جُرْمًا مِمَّنْ أَخَلَّ بِشَيْءٍ مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ, وَجَعَلُوا لَهَا طَوَافًا مَعْلُومًا كَالطَّوَافِ بِالْبَيْتِ الْحَرَامِ وَشَرَعُوا تَقْبِيلَهَا كَمَا يُقَبَّلُ الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ حَتَّى قَالُوا: إِنْ زُحِمْتَ فَاسْتَلِمْ بِمِحْجَنٍ أَوْ أَشِرْ إِلَيْهِ, قِيَاسًا عَلَى فِعْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالْحِجْرِ الْأَسْوَدِ وَشَرَعُوا لَهَا نُذُورًا مِنَ الْمَوَاشِي وَالنُّقُودِ, وَوَقَفُوا عَلَيْهَا الْوُقُوفَ مِنَ الْعَقَارَاتِ وَالْحَرْثِ وَغَيْرِهَا, وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ شَرَائِعِهِمُ الشَّيْطَانِيَّةِ وَقَوَاعِدِهِمُ الْوَثَنِيَّةِ. وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُ النُّصُوصِ النَّبَوِيَّةِ فِي سَدِّ ذَرَائِعِ الشِّرْكِ فِي الْفَصْلِ الْآتِي, وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. [زِيَارَةُ الْقُبُورِ] : ثُمَّ الزِّيَارَةُ عَلَى أَقْسَامِ ... ثَلَاثَةٍ يَا أُمَّةَ الْإِسْلَامِ فَإِنْ نَوَى الزَّائِرُ فِيمَا أَضْمَرَهْ ... فِي نَفْسِهِ تَذْكِرَةً بِالْآخِرَةْ ثُمَّ الدُّعَا لَهُ وَلِلْأَمْوَاتِ ... بِالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ عَنِ الزَّلَّاتِ وَلَمْ يَكُنْ شَدَّ الرِّحَالَ نَحْوَهَا ... وَلَمْ يَقُلْ هُجْرًا كَقَوْلِ السُّفَهَا فَتِلْكَ سُنَّةٌ أَتَتْ صَرِيحَهْ ... فِي السُّنَنِ الْمُثْبِتَةِ الصَّحِيحَهْ "ثُمَّ الزِّيَارَةُ" أَيْ: زِيَارَةُ الْقُبُورِ تَأْتِي "عَلَى أَقْسَامٍ ثَلَاثَةٍ": زِيَارَةٌ سُنِّيَّةٌ, وَزِيَارَةٌ بِدْعِيَّةٌ, وَزِيَارَةٌ شِرْكِيَّةٌ, فتفهموها "يا أولي الْإِسْلَامِ". وَالْبَدَاءَةُ بِالشَّرْعِيَّةِ لِشَرَفِهَا وَالنَّدْبِ إِلَيْهَا, ثُمَّ الْبِدْعِيَّةِ لِكَوْنِهَا أَخَفَّ جُرْمًا مِنْ
الشِّرْكِيَّةِ ثُمَّ هِيَ بَعْدَ ذَلِكَ. "فَإِنْ نَوَى الزَّائِرُ" لِلْقُبُورِ "فِيمَا أَضْمَرَهُ فِي نَفْسِهِ" أَيْ: كَانَتْ نِيَّتُهُ بِتِلْكَ الزِّيَارَةِ "تَذْكِرَةً بِالْآخِرَةِ" أَيْ: لِيَتَّعِظَ بِأَهْلِ الْقُبُورِ وَيَعْتَبِرَ بِمَصَارِعِهِمْ إِذْ كَانُوا أَحْيَاءً مِثْلَهُ, يُؤَمِّلُونَ الْآمَالَ وَيُخَوِّلُونَ الْأَمْوَالَ, وَيَجُولُونَ فِي الْأَقْطَارِ بِالْأَيَّامِ وَاللَّيَالِ, وَيَطْمَعُونَ فِي الْبَقَاءِ وَيَسْتَبْعِدُونَ الِارْتِحَالَ, فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذَا بِصَارِخِ الْمَوْتِ قَدْ نَادَى فَاسْتَجَابُوا لَهُ عَلَى الرَّغْمِ جَمَاعَاتٍ وَفُرَادَى, وَأَبَادَهُمْ مُلُوكًا وَنُوَّابًا وَقُوَّادًا وَأَجْنَادًا, وَقَدِمُوا عَلَى مَا قَدَّمُوا غَيًّا كَانَ أَوْ رَشَادًا, وَصَارَ لَهُمُ التُّرَابُ لُحَفًا وَمِهَادًا, بَعْدَ الْغُرَفِ الْعَالِيَةِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا الْحُجَّابُ أَرْصَادًا, تَسَاوَى فِيهَا صَغِيرُهُمْ وَكَبِيرُهُمْ وَغَنِيُّهُمْ وَفَقِيرُهُمْ وَشَرِيفُهُمْ وَحَقِيرُهُمْ وَمَأْمُورُهُمْ وَأَمِيرُهُمْ, اتَّفَقَ ظَاهِرُ حَالِهِمْ وَاتَّحَدَ وَلَا فَرْقَ لِلنَّاظِرِ إِلَيْهِمْ يُمَيِّزُ بِهِ أَحَدًا مِنْ أَحَدٍ. وَأَمَا بَاطِنًا فَاللَّهُ أَكْبَرُ لَوْ كُشِفَ لِلنَّاظِرِينَ الْحِجَابُ لَرَأَوْا مِنَ الْفُرُوقِ الْعَجَبَ الْعُجَابَ, فَهَؤُلَاءِ لَهُمْ طُوبَى وَحُسْنُ مَآبٍ وَأُولَئِكَ فِي أَسْوَإِ حَالَةِ وَأَشَدِّ الْعَذَابِ, فَلْيَعْلَمِ الْوَاقِفُ عَلَيْهِمُ النَّاظِرُ إِلَيْهِمْ أَنَّهُ بِهِمْ مُلْتَحِقٌ, وَلِإِحْدَى الْحَالَتَيْنِ مُسْتَحِقٌّ, فَلْيَتَأَهَّبْ لِذَلِكَ وَلْيَتُبْ إِلَى العزيز المالك, وليلتجئ إِلَيْهِ مِنْ شَرِّ كُلِّ مَا هُنَالِكَ. "ثُمَّ" قَصَدَ أَيْضًا "الدُّعَا" أَيْ: دُعَاءَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ "لَهُ" أَيْ لِنَفْسِهِ "وَلِلْأَمْوَاتِ" مِنَ الْمُسْلِمِينَ "بِالْعَفْوِ" مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ "وَالصَّفْحِ عَنِ الزَّلَّاتِ" وَكَذَا يَدْعُو لِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ بِذَلِكَ "وَ" مَعَ ذَلِكَ "لَمْ يَكُنْ شَدُّ الرِّحَالَ نَحْوَهَا" الضَّمِيرُ لِلْقُبُورِ لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ وَمَسْجِدِي هَذَا وَالْمَسْجِدُ الْأَقْصَى" 1. "وَلَمْ يَقُلْ هُجْرًا" أَيْ مَحْظُورًا شَرْعًا "كَقَوْلِ" بَعْضِ "السُّفَهَا" لِمَا فِي السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ قَالَ فِيهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ, فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَزُورَ فَلْيَزُرْ وَلَا تَقُولُوا: هُجْرًا" 2. "فَتِلْكَ" الْإِشَارَةُ إِلَى النَّوْعِ الْمَذْكُورِ مِنَ الزِّيَارَةِ "سُنَّةٌ" طَرِيقَةٌ نَبَوِيَّةٌ "أَتَتْ صَرِيحَةً" أَيْ: وَاضِحَةً ظَاهِرَةً
"فِي السُّنَنِ" أَيِ: الْأَحَادِيثِ "الْمُثْبَتَةِ" فِي دَوَاوِينِ الْإِسْلَامِ "الصَّحِيحَةِ" سَنَدًا وَمَتْنًا مِنْهَا حَدِيثُ بُرَيْدَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قَدْ كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ, فَقَدْ أُذِنَ لِمُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي زِيَارَةِ قَبْرِ أُمِّهِ فَزُورُوهَا, فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْآخِرَةَ" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ1. وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: زَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْرَ أُمِّهِ فَبَكَى وَأَبْكَى مَنْ حَوْلَهُ فَقَالَ: "اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لَهَا فَلَمْ يَأْذَنْ لِي, وَاسْتَأْذَنْتُهُ فِي أَنْ أَزُورَهَا فَأَذِنَ لِي, فَزُورُوا الْقُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْمَوْتَ" رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ2. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى الْمَقْبَرَةَ فَقَالَ: "السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ, وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ" رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ3. وَلِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مِثْلُهُ وَزَادَ: "اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُمْ, وَلَا تَفْتِنَّا بَعْدَهُمْ" 4. وَعَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُهُمْ إِذَا خَرَجُوا إِلَى الْمَقَابِرِ أَنْ يَقُولَ قَائِلُهُمْ: "السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ, وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ, نَسْأَلُ اللَّهَ لَنَا وَلَكُمُ الْعَافِيَةَ" رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَابْنُ مَاجَهْ5. زَادَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَةٍ: "يَرْحَمُ اللَّهُ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنَّا وَمِنْكُمْ
وَالْمُتَأَخِّرِينَ" 1. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِقُبُورِ الْمَدِينَةِ فَأَقْبَلَ عَلَيْهِمْ بِوَجْهِهِ فَقَالَ: "السَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ الْقُبُورِ, يَغْفِرُ اللَّهُ لَنَا وَلَكُمْ, أَنْتُمْ سَلَفُنَا وَنَحْنُ بِالْأَثَرِ" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ2. وَكَذَلِكَ الْأَحَادِيثُ فِي خُرُوجِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى بَقِيعِ الغرقد, كثيرا ما يَدْعُو لَهُمْ وَيَتَرَحَّمُ عَلَيْهِمْ3. وَكَانَ الصَّحَابَةُ إِذَا أَتَوْا قَبْرَهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صَلَّوْا وَسَلَّمُوا عَلَيْهِ فَحَسْبُ كَمَا كَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ, السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا أَبَا بَكْرٍ, السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا أَبَتَاهُ4. وَكَذَا التَّابِعُونَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَعْلَامِ الْهُدَى وَمَصَابِيحِ الدُّجَى لَمْ يُذْكَرْ عَنْهُمْ فِي زِيَارَةِ الْقُبُورِ غَيْرُ الْعَمَلِ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ وَأَفْعَالُ الصَّحَابَةِ, لَمْ يَعْدِلُوا عَنْهَا وَلَمْ يَسْتَبْدِلُوا بِهَا غَيْرَهَا بَلْ وَقَفُوا عِنْدَهَا, فَهَذِهِ الزِّيَارَةُ الشَّرْعِيَّةُ الْمُسْتَفَادَةُ مِنَ الْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ وَعَلَيْهَا دَرَجَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَتَابِعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ, إِنَّمَا فِيهَا التَّذَكُّرُ بِالْقُبُورِ وَالِاعْتِبَارُ بِأَهْلِهَا وَالدُّعَاءُ لَهُمْ وَالتَّرَحُّمُ عَلَيْهِمْ وَسُؤَالُ اللَّهِ الْعَفْوَ عَنْهُمْ, فمن ادعى فيها غَيْرَ هَذَا طُولِبَ بِالْبُرْهَانِ, وَأَنَّى لَهُ ذَلِكَ وَمِنْ أَيْنَ يَطْلُبُهُ؟ بَلْ كَذَبَ وَافْتَرَى وَقَفَا مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ. بَلَى إِنَّ الْعُلُومَ الشَّرْعِيَّةَ دَالَّةٌ عَلَى ضَلَالِهِ وَجَهْلِهِ "أَوْ قَصَدَ الدُّعَاءَ" مِنَ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا أَوْ الِاعْتِكَافِ عِنْدَ قُبُورِهِمْ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ "وَالتَّوَسُّلَا" بِأَلْفِ الْإِطْلَاقِ "بِهِمْ" أَيْ: بِأَهْلِ الْقُبُورِ "إِلَى الرَّحْمَنِ جَلَّ وَعَلَا" عَمَّا ائْتَفَكَهُ أَهْلُ الزَّيْغِ وَالضَّلَالِ "فَبِدْعَةٌ مُحْدَثَةٌ" لَمْ يَأْذَنِ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا "ضَلَالَةٌ" كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ" 5. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ أَحْدَثَ فِي
أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ" 1. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رِوَايَةٍ: "مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ" 2. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسَنَةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي, تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ, وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ" 3 وَغَيْرَ ذَلِكَ. فَإِنَّ مَنْ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِجَاهِ فُلَانٍ وَهُوَ مَيِّتٌ أَوْ غَائِبٌ, وَإِنْ كَانَ يَرَى أَنَّهُ لَمْ يَدْعُ إِلَّا اللَّهَ وَلَمْ يَعْبُدْ سِوَاهُ فَهُوَ قَدْ عَبَدَ اللَّهَ بِغَيْرِ مَا شَرَعَ, وَابْتَدَعَ فِي الدِّينِ مَا لَيْسَ مِنْهُ, وَاعْتَدَى فِي دُعَائِهِ وَدَعَا اللَّهَ بِغَيْرِ مَا أَمَرَهُ أَنْ يَدْعُوَهُ بِهِ, فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا أَمَرَنَا أَنْ نَدْعُوَهُ بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الْأَعْرَافِ: 180] وَلَمْ يَشْرَعْ لَنَا أَنْ نَدْعُوَهُ بِشَيْءٍ مِنْ خَلْقِهِ الْبَتَّةَ, بَلْ قَدْ نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ أَنْ نُقْسِمَ بِشَيْءٍ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ مُطْلَقًا, فَكَيْفَ بِالْإِقْسَامِ بِهَا عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؟. وَأَمَّا حَدِيثُ الْأَعْمَى الذي به يَحْتَجُّ الْمُجَوِّزُونَ لِلتَّوَسُّلِ بِالْمَقْبُورِ فَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ بِحَمْدِ اللَّهِ, لَوْ فَهِمُوا مَعْنَاهُ وَوَضَعُوهُ موضعه, ولكنهم أخطئوا فِي تَأْوِيلِهِ وَلَمْ يُوَفَّقُوا لِفَهْمِ مَدْلُولِهِ, فَإِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ بِجَمِيعِ أَلْفَاظِهِ هُوَ بِمَعْزِلٍ عَنْ مُدَّعَاهُمْ, وَهَذِهِ أَلْفَاظُهُ مِنَ الْكُتُبِ الَّتِي خُرِّجَ فِيهَا: قَالَ التِّرْمِذِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ عِمَارَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ أَنَّ رَجُلًا ضَرِيرَ الْبَصَرِ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَنِي قَالَ: "إِنْ شِئْتَ دَعَوْتُ وَإِنْ شِئْتَ صَبَرْتَ؛ فَهُوَ
خَيْرٌ لَكَ" قَالَ: فَادْعُهُ قَالَ: فَأَمَرَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ فَيُحْسِنَ وُضُوءَهُ, وَيَدْعُوَ بِهَذَا الدُّعَاءِ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ وَأَتَوَجَّهُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ, إِنِّي تَوَجَّهْتُ بِكَ إِلَى رَبِّي فِي حَاجَتِي هَذِهِ لِتُقْضَى لِي, اللَّهُمَّ فَشَفِّعْهُ فِيَّ" هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي جَعْفَرٍ وَهُوَ غير الخطمي ا. هـ.1 قُلْتُ: الظَّاهِرُ بِالِاسْتِقْرَاءِ أَنَّ أَبَا جَعْفَرٍ هَذَا هُوَ الرَّازِيُّ التَّيْمِيُّ مَوْلَاهُمْ, مَشْهُورٌ بِكُنْيَتِهِ وَهُوَ مِنْ رِجَالِ الْأَرْبَعَةِ وَاسْمُهُ عِيسَى بْنُ أَبِي عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَاهَانَ, وَأَصْلُهُ مِنْ مَرْوَ كَانَ يَتَّجِرُ إِلَى الرَّيِّ, رَوَى عَنْ عَطَاءٍ وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ وَقَتَادَةَ, وَعَنْهُ أَبُو عَوَانَةَ وَشُعْبَةَ كَمَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ قَالَ ابْنُ مَعِينٍ: ثِقَةٌ, وَقَالَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ: ثِقَةٌ يَخْلِطُ عَنِ الْمُغِيرَةِ, وقال الفلاس: سيئ الْحِفْظِ وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: ثِقَةٌ صَدُوقٌ صَالِحُ الْحَدِيثِ, وَقَالَ فِي التقريب: صدوق سيئ الْحِفْظِ خُصُوصًا عَنِ الْمُغِيرَةِ, مِنْ كِبَارِ السَّابِعَةِ مَاتَ فِي حُدُودِ السِّتِّينَ وَمِائَةٍ. وَالظَّاهِرُ مِنْ عِبَارَاتِهِمْ أَنَّ تَخْلِيطَهُ عَنِ الْمُغِيرَةِ خَاصَّةً وَهُوَ ثَبْتٌ فِيمَنْ سِوَاهُ, وَبِهَذَا يُجْمَعُ بَيْنَ قَوْلِ مَنْ يُضَعِّفُهُ وَقَوْلِ مَنْ يُوَثِّقُهُ, كَيْفَ وَمِنَ الْمُوَثِّقِينَ لَهُ شَيْخَا الْبُخَارِيِّ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ وَعَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ وَهُمَا هُمَا2, وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ وَلَفْظُهُ: أَنَّ رَجُلًا أَعْمَى قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَكْشِفَ لِي عَنْ بَصَرِي قَالَ: فَانْطَلَقَ فَتَوَضَّأَ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قَالَ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ وأتوجه إليك بنبيي مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ, يَا مُحَمَّدُ إِنِّي أَتَوَجَّهُ بِكَ إِلَى رَبِّي أَنْ يَكْشِفَ
عَنْ بَصَرِي, اللَّهُمَّ فَشَفِّعْهُ فِيَّ" قَالَ: فَرَجَعَ وَقَدْ كَشَفَ اللَّهُ بصره1. وقال يحمد رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي مُسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا رَوْحٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عُمَيْرِ بْنِ يَزِيدَ الْخَطْمِيِّ الْمَدِينِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَارَةَ بْنَ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ يُحَدِّثُ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ أَنَّ رَجُلًا ضَرِيرًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَنِي فَقَالَ: "إِنْ شِئْتَ أَخَّرْتَ ذَلِكَ فَهُوَ أَفْضَلُ لِآخِرَتِكَ, وَإِنْ شِئْتَ دَعَوْتُ لَكَ" قَالَ: بَلِ ادْعُ اللَّهَ لِي. فَأَمَرَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ وَأَنْ يَدْعُوَ بِهَذَا الدُّعَاءِ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ وَأَتَوَجَّهُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ, يَا مُحَمَّدُ إِنِّي أَتَوَجَّهُ بِكَ إِلَى رَبِّي فِي حَاجَتِي هَذِهِ فَتُقْضَى لِي, اللَّهُمَّ فَشَفِّعْنِي فِيهِ وَشَفِّعْهُ فِيَّ" 2. قُلْتُ: عُمَيْرُ بْنُ يَزِيدَ الْخَطْمِيُّ هَذَا هُوَ أَبُو جَعْفَرٍ الَّذِي فَرَّقَ التِّرْمِذِيُّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَذْكُورِ فِي رِوَايَتِهِ, وَقَدْ قُلْنَا: الظَّاهِرُ أَنَّهُ هُوَ الرَّازِيُّ التَّيْمِيُّ وَكِلَاهُمَا شَيْخٌ لِشُعْبَةَ وَكِلَاهُمَا صَدُوقٌ, فَيُحْتَمَلُ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا سَمِعَهُ مِنْ عُمَارَةَ وَسَمِعَهُ شُعْبَةُ مِنْ كِلَيْهِمَا, وَحَدَّثَ بِهِ مَرَّةً عَنْ هَذَا وَمَرَّةً عَنْ هَذَا, فَرَوَاهُ عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيِّ التَّيْمِيِّ وَسَمِعَهُ رَوْحٌ مِنْهُ عَنِ الْخَطْمِيِّ, فَحَدَّثَ بِهِ كَذَلِكَ وَاللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- أَعْلَمُ3. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ إِنْ جَزَمْنَا بِصِحَّتِهِ فَلَيْسَ فِيهِ لَهُمْ حُجَّةً وَلَا دَلِيلٌ عَلَى مَا انْتَحَلُوهُ بِأَفْكَارِهِمُ الْخَاطِئَةِ, فَإِنَّ هَذَا الْأَعْمَى إِنَّمَا سَأَلَ مِنَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الدُّعَاءَ لَهُ بِكَشْفِ بَصَرِهِ, وَهُوَ حَيٌّ حَاضِرٌ قَادِرٌ عَلَى مَا سَأَلَهُ مِنْهُ وَهُوَ الدُّعَاءُ, وَهُوَ يُؤَمِّنُ عَلَى ذَلِكَ وَيَقُولُ: "اللَّهُمَّ شَفِّعْهُ فِيَّ" فَسَأَلَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدُّعَاءَ وَسَأَلَ قَبُولَ دُعَائِهِ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ لِعِلْمِهِمُ التَّامِّ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَأَنَّهُ لَا يَشْفَعُ أَحَدٌ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ, وَبِهَذَا أَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ تَعَالَى, فَاجْتَمَعَ الدُّعَاءُ مِنَ الْجِهَتَيْنِ. وَهَكَذَا كَانَ الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- كَثِيرًا مَا كَانُوا يَسْأَلُونَ مِنَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يَدْعُوَ لَهُمْ بِالنَّصْرِ وَأَنْ يَسْتَسْقِيَ لَهُمْ إِذَا أَجْدَبُوا, وَبِتَكْثِيرِ الطعام كما سأله مِنْهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي غَزْوَةِ
تَبُوكَ1. وَقَالَتْ لَهُ أَمُّ أَنَسٍ: خُوَيْدِمُكَ أَنَسٌ, ادْعُ اللَّهَ تَعَالَى لَهُ2. وَأَمْثَالُ ذَلِكَ فِي حياته الدنيا ما لَا يُحْصَى وَكَذَلِكَ فِي مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ يَسْأَلُ الْخَلَائِقُ مِنْ أُولِي الْعَزْمِ أَنْ يَشْفَعُوا لَهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ فِي فَصْلِ الْقَضَاءِ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ, حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَذْهَبُ وَيَسْجُدُ تَحْتَ الْعَرْشِ وَيَحْمَدُ اللَّهَ تَعَالَى وَيُثْنِي عَلَيْهِ, إِلَى أَنْ يَقُولَ لَهُ: "ارْفَعْ رَأْسَكَ, وَقُلْ يُسْمَعْ, وَسَلْ تُعْطَ, وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ" وَذَلِكَ إِذَا أَذِنَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ فِي الشَّفَاعَةِ الَّتِي وَعَدَهُ إِيَّاهَا كَمَا سَيَأْتِي تَقْرِيرُهُ. وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرَ وَهُوَ ذَاهِبٌ لِلْعُمْرَةِ: "لَا تَنْسَنَا مِنْ دُعَائِكَ" 3. وَكَذَلِكَ اسْتَسْقَى عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالْعَبَّاسِ وَالصَّحَابَةُ مُتَوَافِرُونَ كَمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: اللَّهُمَّ إِنَّا كُنَّا إِذَا أَجْدَبْنَا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِيَنَا, وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا4. وَكَانَ مِنْ دُعَاءِ الْعَبَّاسِ يَوْمَئِذٍ: اللَّهُمَّ إِنَّهُ لَا يَنْزِلُ بَلَاءٌ إِلَّا بِذَنْبٍ, وَلَا يُكْشَفُ إِلَّا بِتَوْبَةٍ, وَقَدْ تَوَجَّهَ بِي الْقَوْمُ إِلَيْكَ لِمَكَانِي مِنْ نَبِيِّكَ, وَهَذِهِ أَيْدِينَا إِلَيْكَ بِالذُّنُوبِ وَنَوَاصِينَا إِلَيْكَ بِالتَّوْبَةِ, فَاسْقِنَا الْغَيْثَ. ذَكَرَهُ الزُّبَيْرُ بْنُ بِكَارٍ, وَكَانَ ذَلِكَ الْجَدْبُ عَامَ الرَّمَادَةِ. وَكَذَلِكَ قَالَ مُعَاوِيَةُ لَمَّا اسْتَسْقَى بِيَزِيدَ بْنِ الْأَسْوَدِ الْجُرَشِيِّ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْتَشْفِعُ -أَوْ نَتَوَسَّلُ- إِلَيْكَ بِخِيَارِنَا, يَا يَزِيدُ ارْفَعْ يَدَيْكَ, فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَدَعَا النَّاسُ حَتَّى سُقُوا5, فَكَانَ أَفْضَلُ الْقُرُونِ يَسْأَلُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ, وَيَلْتَمِسُونَ الصَّالِحِينَ مِنْهُمُ الْحَاضِرِينَ عِنْدَهُمْ أَنْ يَسْأَلُوا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمْ وَلَهُمْ, وَتَوَسُّلُهُمْ إِنَّمَا كَانَ بِدُعَائِهِمْ لَا
بِذَوَاتِهِمْ, وَهَذَا جَائِزٌ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ أَنْ تَسْأَلَ مِنْ عَبْدٍ صَالِحٍ حَاضِرٍ عِنْدَكَ أَنْ يَدْعُوَ لَكَ وَتُؤَمِّنَ أَنْتَ عَلَى دُعَائِهِ, أَوْ تَسْأَلَ مِنْ مُسَافِرٍ الدُّعَاءَ بِظَهْرِ الْغَيْبِ وَنَحْوَ ذَلِكَ كَمَا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَدَرَجَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ جَائِزًا أَعْنِي: التَّوَسُّلَ بِالذَّوَاتِ لَمْ يَحْتَجِ الْأَعْمَى أَنْ يَأْتِيَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَطْلُبَ مِنْهُ الدُّعَاءَ, بَلْ كَانَ يَتَوَسَّلُ بِهِ فِي مَحَلِّهِ أَيْنَمَا كَانَ إِذْ لَا فَائِدَةَ زَائِدَةً فِي مَجِيئِهِ إِلَيْهِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى, وَكَذَلِكَ عُمَرُ وَالصَّحَابَةُ مَعَهُ لَمْ يَكُونُوا لِيَعْدِلُوا عَنْ ذَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى ذَاتِ الْعَبَّاسِ لَوْ كَانَ التَّوَسُّلُ بِالذَّوَاتِ لَا بِالدُّعَاءِ, وَكَذَا مُعَاوِيَةُ وَأَصْحَابُهُ لَمْ يَكُونُوا لِيَعْدِلُوا عَنْ ذَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى يَزِيدَ بْنِ الْأَسْوَدِ وَلَمْ يَطْلُبُوا مِنْهُ الدُّعَاءَ وَلَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمَرَ إِذَا وَجَدَ أُوَيْسًا أَنْ يَطْلُبَ مِنْهُ الِاسْتِغْفَارَ1. بَلْ كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ بِحَقِّ أُوَيْسٍ الْقَرْنِيِّ وَلَمْ يُعْرَفْ هَذَا عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَلَا التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ التَّوَسُّلَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وَلَا بِغَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَلَا بِأَحَدٍ مِنْ أَفَاضِلِهِمُ الْأَوْلِيَاءِ بَعْدَ مَوْتِهِ, وَلَوْ كَانُوا بِالذَّوَاتِ يَتَوَسَّلُونَ فِي حَالِ حَيَاتِهِمْ لَمْ يَكُنْ فَرْقٌ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ مَمَاتِهِمْ, وَهَذَا فِي التَّوَسُّلِ بِأَهْلِ الْقُبُورِ عَامُّ عِنْدَ الْقَبْرِ وَغَيْرِهِ وَأَمَّا عِبَادَةُ اللَّهِ عِنْدَ الْقُبُورِ كَالصَّلَاةِ عِنْدَهَا وَالْعُكُوفِ عَلَيْهَا فَهُوَ أَشَدُّ وَأَغْلَظُ؛ لِأَنَّهُ ذَرِيعَةٌ مُفْضِيَةٌ إِلَى عِبَادَةِ الْمَقْبُورِ نَفْسِهِ, كَمَا قَدَّمْنَا عَنْ قَوْمِ نُوحٍ مِنَ اسْتِدْرَاجِ الشَّيْطَانِ لَهُمْ. وَكَذَلِكَ فَعَلَ بِغَالِبِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ؛ لِذَلِكَ نَهَى النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يُصَلَّى عَلَى الْقُبُورِ أَوْ إِلَيْهَا, وَغَلَّظَ فِي ذَلِكَ وَدَعَا عَلَى فَاعِلِهِ بِاللَّعْنَةِ وَشِدَّةِ الْغَضَبِ, كَمَا سَيَأْتِي فِي الْفَصْلِ الْآتِي قَرِيبًا, إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَإِنْ دَعَا الْمَقْبُورَ نَفْسَهُ فَقَدْ ... أَشْرَكَ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَجَحَدْ لَنْ يَقْبَلَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ ... صَرْفًا ولا عدلا فيعو عَنْهُ إِذْ كُلُّ ذَنْبٍ مُوشِكُ الْغُفْرَانِ ... إِلَّا اتِّخَاذُ النِّدِّ لِلرَّحْمَنِ "وَإِنْ دَعَا" الزَّائِرُ "الْمَقْبُورَ نَفْسَهُ" مِنْ دُونِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَسَأَلَ مِنْهُ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ, مِنْ جَلْبِ خَيْرٍ أَوْ دَفْعِ ضُرٍّ أَوْ شِفَاءِ مَرِيضٍ أَوْ رَدِّ غَائِبٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنْ قَضَاءِ الْحَوَائِجِ "فَقَدْ أَشْرَكَ" فِي فِعْلِهِ ذَلِكَ "بِاللَّهِ الْعَظِيمِ" الْمُتَعَالِي
عَنِ الأضداد والأنداد والكفؤ وَالْوَلِيِّ وَالشَّفِيعِ بِدُونِ إِذْنِهِ "وَجَحَدَ" حَقَّ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى عِبَادِهِ, وَهُوَ إِفْرَادُهُ بِالتَّوْحِيدِ وَعِبَادَتُهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَنَفْيُ ضِدِّ ذَلِكَ عَنْهُ, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 117] وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ، وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ} [يُونُسَ: 106, 107] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ، وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الْأَحْقَافِ: 5, 6] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الْأَعْرَافِ: 194] الْآيَاتِ. وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ، مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الْحَجِّ: 73] الْآيَاتِ وَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ، إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فَاطِرٍ: 13] وَقَالَ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الْإِسْرَاءِ: 57] الْآيَاتِ وَغَيْرَهَا مَا لَا يُحْصَى, يُخْبِرُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ مَنْ دَعَا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَوْ لَحْظَةً فَقَدْ كَفَرَ, وَإِنْ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ فَلَا فَلَاحَ لَهُ أَبَدًا, وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ نَبِيُّهُ لَكَانَ مِنَ الظَّالِمِينَ, وَأَنَّهُ لَا كَاشِفَ لِلضُّرِّ غَيْرُهُ وَلَا جَالِبَ لِلْخَيْرِ سِوَاهُ, وَأَنَّهُ لَا أَضَلَّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِهِ سِوَاهُ, وَأَنَّ مَنْ عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يَكُونُ عَدُوًّا لِعَابِدِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَكَافِرًا بِعِبَادَتِهِ إِيَّاهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ تَعَالَى, وَأَنَّهُمْ كُلَّهُمْ عِبَادٌ مِثْلُ عَابِدِيهِمْ مَخْلُوقُونَ مَرْبُوبُونَ مَمْلُوكُونَ تَحْتَ تَصَرُّفِ اللَّهِ وَقَهْرِهِ, لَا يَسْتَجِيبُونَ لِمَنْ دَعَاهُمْ وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى اسْتِنْقَاذِ مَا اسْتَلَبَهُ الذُّبَابُ, فَكَيْفَ يَقْدِرُونَ عَلَى قَضَاءِ شَيْءٍ مِنْ
حَوَائِجِ عَابِدِيهِمْ؟! بَلْ قَدْ أَخْبَرَنَا اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- أَنَّهُمْ لَا يَسْمَعُونَ دُعَاءَ مَنْ دَعَاهُمْ, وَلَوْ سَمِعُوا دُعَاءَهُ مَا اسْتَجَابُوا لَهُ, وَأَخْبَرَنَا أَنَّ مَنْ عَبَدُوهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ كَالْمَلَائِكَةِ وَعِيسَى وَعُزَيْرٍ وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ ضُرِّ مَنْ دَعَاهُمْ وَلَا تَحْوِيلَهُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ, بَلْ هُمْ يَبْتَغُونَ الْوَسِيلَةَ إِلَى رَبِّهِمْ وَالْقُرْبَ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ, فَيَنْبَغِي لِلْعِبَادِ الِاقْتِدَاءُ بِهِمْ فِي ذَلِكَ الِابْتِغَاءِ وَالرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ, لَا دُعَاؤُهُمْ دُونَهُ, تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ. "لَا يَقْبَلُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ" أَيْ: مِنْ ذَلِكَ الدَّاعِي مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ, الْمُتَّخِذِ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ "صَرْفًا" أَيْ: نَافِلَةً "وَلَا عَدْلًا" أَيْ: وَلَا فَرِيضَةً "فَيَعْفُو عَنْهُ" فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الكافر عمله كلا شَيْءَ, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الْكَهْفِ: 105] وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الْفَرْقَانِ: 23] وَقَالَ تَعَالَى: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ} [إِبْرَاهِيمَ: 18] وَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} [النُّورِ: 39] الْآيَاتِ, وَقَالَ تَعَالَى لِصَفْوَةِ خَلْقِهِ وَهُمُ الرُّسُلُ, عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الْأَنْعَامِ: 88] وَقَالَ لِسَيِّدِهِمْ وَخَاتَمِهِمْ وَأَكْرَمِهِمْ عَلَى رَبِّهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ، بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزُّمَرِ: 65] . "إِذْ" حَرْفُ تَعْلِيلٍ "كُلُّ ذَنْبٍ" لَقِيَ الْعَبْدُ رَبَّهُ بِهِ "مُوشِكُ الْغُفْرَانِ" أَيْ: يُرْجَى وَيُؤَمَّلُ أَنْ يُغْفَرَ وَيُعْفَى عَنْهُ "إِلَّا اتِّخَاذُ النِّدِّ لِلرَّحْمَنِ" فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُغْفَرُ وَلَا يَخْرُجُ صَاحِبُهُ مِنَ النَّارِ وَلَا يَجِدُ رِيحَ الْجَنَّةِ, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النِّسَاءِ: 48] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النِّسَاءِ: 116] .
الفصل السابع في بيان ما وقع فيه العامة اليوم مما يفعلونه عند القبور، وما يرتكبونه من الشرك الصريح والغلو المفرط في الأموات
وَقَالَ تَعَالَى: {مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [الْمَائِدَةِ: 72] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الْحَجِّ: 31] وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ, وَالْأَحَادِيثِ مَا فِيهِ كِفَايَةٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى مَا وَرَاءَهُ, وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. [[الفصل السابع في بيان ما وقع فيه العامة اليوم مما يفعلونه عند القبور، وما يرتكبونه من الشرك الصريح والغلو المفرط في الأموات]] فَصْلٌ: فِي بَيَانِ مَا وَقَعَ فِيهِ الْعَامَّةُ الْيَوْمَ مِمَّا يَفْعَلُونَهُ عِنْدَ الْقُبُورِ وَمَا يَرْتَكِبُونَهُ مِنَ الشِّرْكِ الصَّرِيحِ, وَالْغُلُوِّ الْمُفْرِطِ فِي الْأَمْوَاتِ هَذَا الْفَصْلُ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ مِنْ ذِكْرِ مَا قَبْلَهُ مِنْ تَقْسِيمِ الزِّيَارَةِ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ, وَهِيَ تَمْهِيدٌ لَهُ, فَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ ضَلَالِ الْأُمَمِ الْأُولَى هُوَ تَحْذِيرُ الْأَحْيَاءِ الْمَوْجُودِينَ لِئَلَّا يَقَعُوا فِيمَا وَقَعُوا فِيهِ, وَزَجْرُ مَنْ وَقَعَ مِنْهُمْ عَمَّا وَقَعَ فِيهِ لِئَلَّا يَحِلَّ بِهِمْ مَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ النَّكَالِ, كَمَا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَا قَصَّ عَلَيْنَا مِنْ أَخْبَارِ الْأُمَمِ الْأُولَى إِلَّا لِنَتَّعِظَ بِهِمْ وَنَعْتَبِرَ بِمَصَارِعِهِمْ, وَلِنَعْلَمَ أَسْبَابَ هَلَاكِهِمْ فَنَتَّقِيهِ, وَنَعْلَمَ سُبُلَ النَّجَاةِ الَّتِي سَلَكَهَا رُسُلُ اللَّهِ وَأَوْلِيَاؤُهُ فَفَازُوا بِخَيْرَيِ الدُّنْيَا والآخرة, فنسلكها ونقفو أَثَرَهُمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [الْأَعْرَافِ: 100] الْآيَةَ, وَقَالَ تَعَالَى: {وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ، وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ} [إِبْرَاهِيمَ: 45] وَقَالَ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ} [السَّجْدَةِ: 26] وَقَالَ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ قَصَّ عَلَيْنَا مَا قَصَّ فِي سُورَةِ هُودٍ: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ، وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ، وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}
حكم من أوقد سراجا على القبر أو بنى على الضريح مسجدا
[هُودٍ: 100-102] الْآيَاتِ, وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تَدْخُلُوا مَسَاكِنَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ, إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَهُمْ" 1. وَهُوَ فِي الصَّحِيحِ, فَإِذَا كَانَ هَذَا الْخَطَرُ عَلَى مَنْ دَخَلَ دِيَارَهُمْ فَمَا ظَنُّكَ بِمَنْ عَمِلَ مِثْلَ عَمَلِهِمْ وَزِيَادَةً, فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. [[حكم من أوقد سراجا على القبر أو بنى على الضريح مسجدا]] وَمَنْ عَلَى الْقَبْرِ سِرَاجًا أَوْقَدَا ... أَوِ ابْتَنَى عَلَى الضَّرِيحِ مَسْجِدًا فَإِنَّهُ مُجَدِّدٌ جِهَارَا ... لِسُنَنِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى "وَمَنْ عَلَى الْقَبْرِ" مُتَعَلِّقٌ بِأَوْقَدَ "سِرَاجًا" مَفْعُولُ "أَوْقَدَا" بِأَلِفِ الْإِطْلَاقِ, وَالْمَعْنَى: وَمَنْ أَوْقَدَ سِرَاجًا عَلَى الْقَبْرِ "أَوِ ابتنى" بمعنى: بنى وَزِيدَتِ التَّاءُ فِيهِ لِمَعْنَى الِاتِّخَاذِ "عَلَى الضَّرِيحِ" أَيْ: عَلَى الْقَبْرِ وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ الضَّرْحِ الَّذِي هُوَ الشَّقُّ "مَسْجِدًا" أَوِ اتَّخَذَ الْقَبْرَ نَفْسَهُ مَسْجِدًا وَلَوْ لَمْ يَبْنِ عَلَيْهِ "فَإِنَّهُ" أَيْ: فَاعِلُ ذَلِكَ "مُجَدِّدٌ" بِفِعْلِهِ ذَلِكَ "جِهَارًا" أَيْ: تَجْدِيدًا وَاضِحًا مُجَاهِرًا بِهِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَأَوْلِيَاءَهُ "لِسُنَنِ" أَيْ: لِطَرَائِقِ "الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى" فِي اتِّخَاذِهِمْ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ وَيَعْكُفُونَ عَلَيْهَا, وَأَعْيَادًا لَهُمْ يَنْتَابُونَهَا, وَيَتَرَدَّدُونَ إِلَيْهَا, كَيْفَ وَقَدْ قَالَ الرَّسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِلَّذِينَ طَلَبُوا مِنْهُ ذَاتَ أَنْوَاطٍ: "اللَّهُ أَكْبَرُ, إِنَّهَا السَّنَنُ, قُلْتُمْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ" 2. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ, شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ, حَتَّى لَوْ سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ" قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: "فَمَنْ"؟ أَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-3, وَقَدْ وَقَعَ
الْأَمْرُ -وَاللَّهِ- كَمَا أَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ, فَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. كَمْ حَذَّرَ الْمُخْتَارُ عَنْ ذَا وَلَعَنْ ... فَاعِلَهُ كَمَا رَوَى أَهْلُ السُّنَنْ بَلْ قَدْ نَهَى عَنِ ارْتِفَاعِ الْقَبْرِ ... وَأَنْ يُزَادَ فِيهِ فَوْقَ الشِّبْرِ وَكُلُّ قَبْرٍ مُشْرِفٍ فَقَدْ أَمَرْ ... بِأَنْ يُسَوَّى هَكَذَا صَحَّ الْخَبَرْ "كَمْ" خَبَرِيَّةٌ لِلتَّكْثِيرِ "حَذَّرَ الْمُخْتَارُ" نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "عَنْ ذَا" الْفِعْلِ مِنَ اتِّخَاذِ الْقُبُورِ مَسَاجِدَ وَأَعْيَادًا وَالْبِنَاءِ عَلَيْهَا وَإِيقَادِ السُّرُجِ عَلَيْهَا, كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ ذَكَرَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَنِيسَةً رَأَتْهَا بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ يُقَالُ لَهَا: مَارِيَةَ فَذَكَرَتْ لَهُ مَا رَأَتْ فِيهَا مِنَ الصُّوَرِ, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أُولَئِكَ قَوْمٌ إِذَا مَاتَ فِيهِمُ الْعَبْدُ الصَّالِحُ -أَوِ الرَّجُلُ الصَّالِحُ- بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا, وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ, أُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ" 1. وَفِيهِ عَنْهَا وَهِيَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- قَالَ: لَمَّا نَزَلَ بِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- طَفِقَ يَطْرَحُ خَمِيصَةً لَهُ عَلَى وَجْهِهِ, فَإِذَا اغْتَمَّ بِهَا كَشَفَهَا عَنْ وَجْهِهِ فَقَالَ وَهُوَ كَذَلِكَ: "لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى, اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ, يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا" 2. وَفِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى, اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ" 3. وَعَنْ أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تُصَلُّوا إِلَى الْقُبُورِ وَلَا تَجْلِسُوا عَلَيْهَا" رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إِلَّا
الْبُخَارِيَّ وَابْنَ مَاجَهْ1. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اجْعَلُوا مِنْ صَلَاتِكُمْ فِي بُيُوتِكُمْ, وَلَا تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا" رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إِلَّا ابْنُ مَاجَهْ2. وَعَنْ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسٍ وَهُوَ يَقُولُ: "إِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ مَسَاجِدَ, أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ, إِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ3. وَعَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يُجَصَّصَ الْقَبْرُ وَأَنْ يُقْعَدَ عَلَيْهِ وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ, رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالثَّلَاثَةُ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ, وَلَفْظُهُ: نَهَى أَنْ تُجَصَّصَ الْقُبُورُ وَأَنْ يُكْتَبَ عَلَيْهَا وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهَا وَأَنْ تُوطَأَ4. وَفِي لَفْظِ النَّسَائِيِّ: نَهَى أَنْ يُبْنَى عَلَى الْقَبْرِ أَوْ يُزَادَ عَلَيْهِ أَوْ يُجَصَّصَ أَوْ يُكْتَبَ عَلَيْهِ5. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- زَائِرَاتِ الْقُبُورِ وَالْمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ, رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ6. وَلِلتِّرْمِذِيِّ
وَصَحَّحَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ1, وَلِابْنِ مَاجَهْ مِثْلُهُ مِنْ حَدِيثِ حَسَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ2, وَلِأَحْمَدَ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا: "إِنَّ مِنْ شَرَارِ النَّاسِ مَنْ تُدْرِكُهُمُ السَّاعَةُ وَهُمْ أَحْيَاءٌ, وَالَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ" رَوَاهُ أَبُو حَاتِمٍ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ3. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا, وَلَا تَجْعَلُوا قَبْرِي عِيدًا, وَصَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي حَيْثُ كُنْتُمْ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ4. وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا يَجِيءُ إِلَى فُرْجَةٍ عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَيَدْخُلُ فَيَدْعُو فِيهَا, فَقَالَ: أَلَا أُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا سَمِعْتُهُ عَنْ أَبِي عَنْ جَدِّي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا, وَلَا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا, فَإِنَّ تَسْلِيمَكُمْ يَبْلُغُنِي أَيْنَمَا كُنْتُمْ" رَوَاهُ فِي الْمُخْتَارَةِ5. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ
أَخْبَرَنِي سُهَيْلُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ قَالَ: رَآنِي الْحَسَنُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عِنْدَ الْقَبْرِ, فَنَادَانِي وَهُوَ فِي بَيْتِ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا يَتَعَشَّى فَقَالَ: هَلُمَّ إِلَى الْعَشَاءِ فَقُلْتُ: لَا أُرِيدُهُ, فَقَالَ: مَا لِي رَأَيْتُكَ عِنْدَ الْقَبْرِ؟ فَقُلْتُ: سَلَّمْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِذَا دَخَلْتَ الْمَسْجِدَ فَسَلِّمْ. ثُمَّ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا, وَلَا تَتَّخِذُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ, وَصَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي حَيْثُ كُنْتُمْ, لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى, اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ, مَا أَنْتُمْ وَمَنْ بِالْأَنْدَلُسِ إِلَّا سَوَاءٌ" 1. وَرَوَى مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ, اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ" 2. وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ غَيْرُ مَا ذَكَرْنَا. "وَقَدْ نَهَى" النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "عَنِ ارْتِفَاعِ الْقَبْرِ" بِالْبِنَاءِ أَوْ نَحْوِهُ, كَمَا تَقَدَّمَ مِنَ النَّهْيِ عَنْ تَجْصِيصِهَا وَالْبِنَاءِ عَلَيْهَا, وَكَمَا سَيَأْتِي مِنَ الْأَمْرِ بِتَسْوِيَتِهَا "وَأَنْ يُزَادَ فِيهِ فَوْقَ شِبْرٍ" كَمَا فِي السُّنَنِ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُبْنَى عَلَى الْقَبْرِ أَوْ يُزَادَ عَلَيْهِ أَوْ يُجَصَّصَ3. "وَكُلُّ قَبْرٍ مُشْرِفٍ" يَعْنِي: مُرْتَفِعٍ "فَقَدْ أَمَرَ" النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "بِأَنْ يُسَوَّى" بِالْأَرْضِ أَوْ بِمَا عَدَاهُ مِنَ الْقُبُورِ الَّتِي لَمْ تُجَاوُزِ الشَّرْعَ فِي ارْتِفَاعِهَا "هَكَذَا صَحَّ الْخَبَرُ" وَهُوَ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ ثُمَامَةَ بْنِ شُفَيٍّ قَالَ: كُنَّا مَعَ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ بِأَرْضِ الرُّومِ بِرُودَسَ فَتُوُفِّيَ صَاحِبٌ لَنَا, فَأَمَرَ فَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ بِقَبْرِهِ فَسُوِّيَ, ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَأْمُرُ بِتَسْوِيَتِهَا4. وَلَهُ عَنْ أَبِي الْهَيَّاجِ الْأَسْدِي قَالَ: قَالَ لِي عَلِيُّ بْنُ
أَبِي طَالِبٍ: أَلَا أَبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثَنِي عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, أَلَّا تَدَعَ تِمْثَالًا إِلَّا طَمَسْتَهُ, وَلَا قَبْرًا مُشْرَفًا إِلَّا سَوَّيْتَهُ1. وَحَذَّرَ الْأُمَّةَ عَنْ إِطْرَائِهِ ... فَغَرَّهُمْ إِبْلِيسُ بِاسْتِجْرَائِهِ فَخَالَفُوهُ جَهْرَةً وَارْتَكَبُوا ... مَا قَدْ نَهَى عَنْهُ وَلَمْ يَجْتَنِبُوا "وَحَذَّرَ" النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "الْأُمَّةَ عَنْ إِطْرَائِهِ" أَيِ: الْغُلُوِّ فِيهِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ, إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ, فَقُولُوا: عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ" 2. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ, فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ" 3. وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ نَاسًا قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ يَا خَيْرَنَا وَابْنَ خَيْرِنَا وَسَيِّدَنَا وَابْنَ سَيِّدِنَا فَقَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ قُولُوا بِقَوْلِكُمْ أَوْ بَعْضِ قَوْلِكُمْ, وَلَا يَسْتَهْوِيَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ, أَنَا مُحَمَّدٌ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ, مَا أُحِبُّ أَنْ تَرْفَعُونِي فَوْقَ مَنْزِلَتِي الَّتِي أَنْزَلَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ" رَوَاهُ النَّسَائِيُّ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ4. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ قَالَ: انْطَلَقْتُ فِي وَفْدِ بَنِي عَامِرٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْنَا: أَنْتَ سَيِّدُنَا فَقَالَ: "السَّيِّدُ اللَّهُ تَعَالَى" قُلْنَا: وَأَفْضَلُنَا فَضْلًا وَأَعْظَمُنَا طَوْلًا فَقَالَ: "قُولُوا بِقَوْلِكُمْ أَوْ بَعْضِ قَوْلِكُمْ, وَلَا يَسْتَجْرِيَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ" 5 وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ حِمَايَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَنَابَ التَّوْحِيدِ. وَكَمَا قَالَ لِمَنْ قَالَ: تعالوا بنا نستغث بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَذَا الْمُنَافِقِ, قَالَ: "إِنَّهُ لَا يُسْتَغَاثُ بِي, وَإِنَّمَا يُسْتَغَاثُ بِاللَّهِ" 6. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى قَدْ بَيَّنَ مَا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ فِي حَقِّ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ, وَأَنَّهُ هُوَ تَصْدِيقُ خَبَرِهِمْ وَامْتِثَالُ أَمْرِهِمْ وَاجْتِنَابُ نَهْيِهِمْ وَاتِّبَاعُهُمْ عَلَى شَرِيعَتِهِمْ وَمَحَبَّتُهُمْ هُمْ وَأَتْبَاعُهُمْ وَتَوَابِعُ ذَلِكَ, وَهَذَا هُوَ الَّذِي دَعَوْا إِلَيْهِ؛ لَمْ يَدَّعِ أَحَدٌ مِنْهُمُ الرُّبُوبِيَّةَ وَلَا دَعَوْا إِلَى عِبَادَةِ أَنْفُسِهِمْ وَلَا يَنْبَغِي لَهُمْ ذَلِكَ, كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ، وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آلِ عِمْرَانَ: 79, 80] وَقَالَ تَعَالَى: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا} [النِّسَاءِ: 172] الْآيَاتِ, وَقَالَ: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ} [الْمَائِدَةِ: 75] الْآيَةَ, وَقَالَ تَعَالَى: {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [الزُّخْرُفِ: 59] وَقَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الْمَائِدَةِ: 17] وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ، لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ، يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ، وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 26-29] وَقَالَ تَعَالَى عَنْ نُوحٍ عليه السلام: {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ} [الْأَنْعَامِ: 50] وَقَالَ لِصَفْوَةِ خَلْقِهِ وَخَاتَمِ رُسُلِهِ وَسَيِّدِ وَلَدِ آدَمَ أَجْمَعِينَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ} [الْأَعْرَافِ: 188] وَقَالَ تَعَالَى لَهُ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آلِ عِمْرَانَ: 128] وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي
اغترار الأمة بإبليس ومخالفتهم نهي الرسول وتحذيره
وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا، قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا، قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا، إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ} [الْجِنِّ: 20-23] الْآيَاتِ, وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الْأَحْقَافِ: 9] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آلِ عِمْرَانَ: 144] الْآيَاتِ, وَقَدْ تَلَاهَا أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمَ مَاتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ, مَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ, وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ, إِلَى آخَرِ خُطْبَتِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ1. وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ, كَثِيرَةٌ النُّصُوصُ فِيهِ, بَلْ لَيْسَتِ النُّصُوصُ إِلَّا فِيهِ وَفِي مُتَعَلِّقَاتِهِ وَمُكَمِّلَاتِهِ. [[اغترار الأمة بإبليس ومخالفتهم نهي الرسول وتحذيره]] "فَغَرَّهُمْ" أَيْ: أَكْثَرَ الْأُمَّةِ بَعْدَمَا سَمِعُوا الزَّوَاجِرَ وَالنَّوَاهِيَ "إِبْلِيسُ" لَعَنَهُ اللَّهُ وَأَعَاذَنَا مِنْهُ "بِاسْتِجْرَائِهِ" أَيْ: بِاسْتِهْوَائِهِ إِيَّاهُمْ وَاسْتِدْرَاجِهِ لَهُمْ وَإِدْخَالِهِمْ فِي الْهَلَكَاتِ شَيْئًا فَشَيْئًا, كَمَا فَعَلَ بِالْأُمَمِ السَّالِفَةِ قَوْمِ نُوحٍ فَمَنْ بَعْدَهُمْ, وَأَتَاهُمْ عَلَى مَا يهوون إما بغلو وأما بِجَفَاءٍ, لَا يُبَالِي مَا أَهْلَكَ الْعَبْدَ بِهِ سَوَاءٌ قَصَرَهُ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ وَهَوَّنَ عَلَيْهِ أَمْرَهُ حَتَّى لَا يَدْخُلَهُ وَلَا يَسْلُكَهُ أَوْ جَاوَزَهُ بِهِ حَتَّى يَتَّبِعَ سَبِيلَ الضلال فتفرق به عَنْ سَبِيلِهِ, فَالَّذِينَ أَبْغَضُوا الرُّسُلَ مِنَ الْكُفَّارِ وَعَادُوهُمْ وَنَابَذُوهُمْ بِالْمُحَارَبَةِ مِنْ أَوَّلِ مَرَّةٍ زَيَّنَ لَهُمْ ذَلِكَ وَضَرَبَ لَهُمُ الْأَمْثِلَةَ وَالْمَقَايِيسَ, وَأَنَّهُمْ مِثْلُهُمْ بِشْرٌ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ, وَأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يَصُدُّوهُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ وَيَتَنَقَّصُوا شُيُوخَهُمْ بِذَلِكَ وَتَكُونَ لَهُمُ الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَغَيْرَ ذَلِكَ. وَالَّذِينَ صَدَّقُوا الرُّسُلَ وَاتَّبَعُوهُمْ أَتَى الْكَثِيرَ مِنْ خُلُوفِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الْغُلُوَّ فِيهِمْ بِالْكَذِبِ وَالْقَوْلِ عَلَيْهِمْ بِالْبُهْتَانِ وَرَفْعِهِمْ فَوْقَ مَنْزِلَتِهِمُ الَّتِي أَنْزَلَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ, وَأَتَاهُمْ بِذَلِكَ فِي صُورَةِ مَحَبَّتِهِمْ وَمُوَالَاتِهِمْ حَتَّى جَعَلَهُمْ مِثْلَهُ فِي الْبُعْدِ عَنِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يَسْلَمْ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا عِبَادُ اللَّهِ الْمُخْلَصُونَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ صِرَاطَهُ
الْمُسْتَقِيمَ, فَلَمْ يَقْصُرُوا عَنْهُ وَلَمْ يَسْتَبْدِلُوا بِهِ غَيْرَهُ, بَلِ اسْتَمْسَكُوا بِهِ وَاعْتَصَمُوا: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [آلِ عِمْرَانَ: 101] {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النِّسَاءِ: 69] . "فَخَالَفُوهُ" أَيِ: الَّذِينَ اسْتَهْوَاهُمُ الشَّيْطَانُ خَالَفُوا النَّصَّ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ "جَهْرَةً وَارْتَكَبُوا مَا قَدْ نَهَى عَنْهُ" مِنَ الْغُلُوِّ وَالْإِطْرَاءِ وَمَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ "وَلَمْ يَجْتَنِبُوا" ذَلِكَ وَلَا شَيْئًا, فَنَهَى عَنِ الْحَلِفِ بِغَيْرِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَهَؤُلَاءِ لَا يَحْلِفُونَ إِلَّا بِغَيْرِهِ, وَقَدْ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ عَلَى الْكَذِبِ وَلَا يَحْلِفُونَ بِالنِّدِّ فَيَكْذِبُونَ. وَنَهَى أَنْ تُقْرَنَ مَشِيئَةُ الْعَبْدِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى, وَهَؤُلَاءِ يُثْبِتُونَ لَهُ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْلَالِ, وَيَهْتِفُونَ بِاسْمِهِ فِي الْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَيَسْأَلُونَ مِنْهُمْ قَضَاءَ الْحَوَائِجِ دُونَ ذِي الْجَلَالِ, بَلْ يَعْتَقِدُ فِيهِمُ الْغُلَاةُ مِنْهُمْ أَنَّ بَعْضَ الْأَوْلِيَاءِ هُوَ الْمُتَصَرِّفُ فِي الْكَوْنِ وَالْمُدَبِّرُ لَهُ فِي كُلِّ حَالٍ. وَدَعَا الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ وَدُعَائِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ, فَدَعَوْا مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ, حَتَّى دَعَوُا الرَّسُولَ الْآتِي بِذَلِكَ نَفْسَهُ مَعَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَنَهَى عَنِ اتِّخَاذِ الْقُبُورِ مَسَاجِدَ وَهَؤُلَاءِ يَعْكُفُونَ عَلَيْهَا وَيُصَلُّونَ عَلَيْهَا وَإِلَيْهَا, بَلْ وَلَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ, وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يُفَضِّلُونَ الصَّلَاةَ فِيهَا عَلَى مَسَاجِدِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الَّتِي بُنِيَتْ لِذَلِكَ. وَنَهَى أَنْ تُجَصَّصَ الْقُبُورُ أَوْ يُبْنَى عَلَيْهَا, وَهَؤُلَاءِ قَدْ ضَرَبُوا عَلَيْهَا الْقِبَابَ وَزَخْرَفُوهَا, وَحَبَسُوا عَلَيْهَا الْعَقَارَاتِ وَغَيْرِهَا وَأَوْقَفُوهَا, وَجَعَلُوا لَهَا النُّذُورَ وَالْقُرُبَاتِ, وَكَمْ عِبَادَةٍ إِلَيْهَا دُونَ اللَّهِ صَرَفُوهَا, وَنَهَى عَنْ بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ عَلَيْهَا وَلَعَنَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَدَعَا عَلَيْهِ بِالْغَضَبِ, وَهَؤُلَاءِ قَدْ بَنَوْا عَلَيْهَا وَرَأَوْهَا مِنْ أَكْبَرِ حَسَنَاتِهِمْ وَمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ بِنَائِهِمْ عَلَيْهَا إِلَّا مَوْتُ أَهْلِهَا أَوْ حُلْمٌ يَتَمَثَّلُ لَهُمُ الشَّيْطَانُ فِيهِ أَوْ خَيَالٌ أَوْ سَمَاعُ صَوْتٍ فَيُسَارِعُونَ إِلَى ذَلِكَ أَسْرَعَ مِنْ مُسَارَعَةِ أَهْلِ الدِّينِ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَنَهَى عَنْ إِيقَادِ السُّرُجِ عليها وهؤلاء يوقفون الْوُقُوفَ عَلَى تَسْرِيجِهَا وَيَجْعَلُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشُّمُوعِ وَالْقَنَادِيلِ مَا لَمْ يَجْعَلُوهُ فِي مَسَاجِدِ اللَّهِ, وَكَأَنَّمَا نَدَبَهُمُ الرَّسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى ذَلِكَ بِتِلْكَ اللَّعْنَةِ الَّتِي عَنَى بِهَا مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى
ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ" 1 الْحَدِيثَ, وَهَؤُلَاءِ يَضْرِبُونَ أَكْبَادَ الْإِبِلِ إِلَى قُبُورِ الصَّالِحِينَ أَوْ مَنْ يَظُنُّونَهُمْ صَالِحِينَ مَسَافَةَ الْأَيَّامِ وَالْأَسَابِيعِ وَالشُّهُورِ, وَيَرَوْنَ ارْتِكَابَ ذَلِكَ الْمَنْهِيِّ مِنْ أَعْظَمِ الْقُرُبَاتِ. وَنَهَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ اتِّخَاذِهَا أَعْيَادًا2, وَهَؤُلَاءِ قَدْ اتَّخَذُوهَا أَعْيَادًا وَمَعَابِدَ لَا بَلْ مَعْبُودَاتٍ مِنْ دُونِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ, وَوَقَّتُوا لَهَا الْمَوَاقِيتَ زَمَانًا وَمَكَانًا وَصَنَّفُوا فِيهَا مَنَاسِكَ حَجِّ الْمَشَاهِدِ وَحَجُّوا إِلَيْهَا أَكْثَرَ مِمَّا يُحَجُّ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ, بَلْ رَأَوْهَا أَوْلَى بِالْحَجِّ مِنْهُ وَرَأَوْا مَنْ أَخَلَّ بِشَيْءٍ مِنْ مَنَاسِكِهَا أَعْظَمَ جُرْمًا مِمَّنْ أَخَلَّ بِشَيْءٍ مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ, حَتَّى أَنَّ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ قَدْ حَجَّ عَشَرَاتِ الْمَرَّاتِ أَوْ أَكْثَرَ يُبَايِعُ مَنْ شَهِدَ أَحَدَ الْمَشَاهِدِ أَنْ يُعَاوِضَهُ بِجَمِيعِ حِجَجِهِ بِتِلْكَ الزِّيَارَةِ فَيَمْتَنِعُ أَشَدَّ الِامْتِنَاعِ, وَيَخْشَعُونَ عِنْدَهَا أَكْثَرَ مِمَّا يُخْشَعُ عِنْدَ شَعَائِرِ اللَّهِ, وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ" 3 وَهَؤُلَاءِ قَدْ أَطْرَوْا مَنْ هُوَ دُونَهُ مَنْ أَمَّتِهِ بِكَثِيرٍ بَلْ قَدْ أَطْرَوْا مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاعَةً مِنَ الدَّهْرِ أَعْظَمَ مِنْ إِطْرَاءِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ, بَلْ جَعَلُوهُ هُوَ الرَّبُّ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْلَالِ, وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّهُ لَا يُسْتَغَاثُ بِي وَإِنَّمَا يُسْتَغَاثُ بِاللَّهِ" 4. هؤلاء قَدِ اسْتَغَاثُوا بِغَيْرِ اللَّهِ سِرًّا وَجَهْرًا وَهَتَفُوا بِاسْمِ غَيْرِ اللَّهِ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالشِّدَّةِ وَالرَّخَاءِ وَأَخْلَصُوا لَهُمُ الدُّعَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَصَرَفُوا إِلَيْهِمْ جُلَّ الْعِبَادَاتِ؛ مِنَ الصَّلَاةِ وَالنَّذْرِ وَالنُّسُكِ وَالطَّوَافِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَدْ أَنْكَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَنْ قَالَ: لَوْلَا اللَّهُ وَفُلَانٌ, فَكَيْفَ بِمَنْ يَقُولُ: يَا فُلَانُ مَا لِي سِوَاكَ, وَيَقُولُ: قَدِ اسْتَغَثْتُ اللَّهَ فَلَمْ يُغِثْنِي حَتَّى اسْتَغَثْتُ فُلَانًا فَأَغَاثَنِي؟! وَإِنَّهُ لَيَعْصِي اللَّهَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى مُخَالَفَةِ شَيْءٍ مِمَّا يَنْسِبُونَهُ إِلَى وَلِيِّهِ من الأكاذيب المختلقة وَالْحِكَايَاتِ الْمُلَفَّقَةِ وَتَرَى أَكْثَرَ مَسَاجِدِ اللَّهِ الْمَبْنِيَّةِ لِلصَّلَوَاتِ مُعَطَّلَةً حِسًّا وَمَعْنًى, وَفِيهَا مِنَ الْأَزْبَالِ وَالْكِنَاسَاتِ وَالْأَوْسَاخِ مَا لَا يُعَدُّ وَلَا يُحْصَى, فَإِذَا أَتَيْتَ قِبَابَ الْمَقَابِرِ وَالْمَسَاجِدَ الْمَبْنِيَّةِ عَلَيْهَا رَأَيْتَ بِهَا مِنَ الزِّينَةِ وَالزَّخَارِفِ وَالْأَعْطَارِ وَالزَّبْرَقَةِ وَالسُّتُورِ الْمُنَقَّشَةِ الْمُعَلَّمَةِ
الْمُرَصَّعَةِ وَالْأَبْوَابِ الْمُفَصَّصَةِ الْمُحْكَمَةِ, وَلَهَا مِنَ السَّدَنَةِ وَالْخُدَّامِ مَا لَمْ تَجِدْهُ فِي بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ, والداخل إِلَيْهَا وَالْخَارِجُ مِنْهَا مِنَ الزُّوَّارِ مَا لَا تُحْصِيهِمُ الْأَقْلَامُ وَعَلَيْهَا مِنَ الْأَكْسِيَةِ وَالرَّايَاتِ وَالْأَعْلَامِ مَا لَوْ قُسِّمَ لَاسْتَغْنَى بِهِ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَرَاءِ وَالْأَرَامِلِ وَالْأَيْتَامِ, فَمَا ظَنُّكَ بِالْوُقُوفِ الْمُحْبَسَةِ عَلَيْهَا وَالْأَمْوَالِ الْمَجْبِيَّةِ إِلَيْهَا مِنَ الثِّمَارِ وَالنُّقُودِ وَالْأَنْعَامِ, فَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ. فَأَيُّ فَاقِرَةٍ عَلَى الدِّينِ أَصْعَبُ مِنْ هَذِهِ الْأَفْعَالِ؟! وَهَلْ جَنَى الْأَخَابِثُ عَلَى الدِّينِ أَعْظَمَ مِنْ هَذَا الضَّلَالِ؟! وَهَلِ اسْتَطَاعَ الْأَعْدَاءُ مِنْ هَدْمِ قَوَاعِدِ الدِّينِ مَا هَدَمَهُ هَؤُلَاءِ الضُّلَّالُ؟! وَهَلْ تَلَاعَبَ الشَّيْطَانُ بِأَحَدٍ مَا تَلَاعَبَ بِهَؤُلَاءِ الْجُهَّالِ؟! فَأَيُّ مُنَافٍ لِلتَّوْحِيدِ وَأَيُّ مُنَاقِضٍ لَهُ أَقْبَحُ مِنْ هَذَا الشِّرْكِ وَالتَّنْدِيدِ! تَاللَّهِ مَا قَوْمُ نُوحٍ وَلَا عَادٌ وَلَا ثَمُودُ وَلَا أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ بِأَعْظَمَ شِرْكًا وَلَا أَشَدَّ كُفْرًا مِنْ هَؤُلَاءِ الْمَلَاحِيدِ وَلَيْسَ أُولَئِكَ بِأَحَقَّ مِنْهُمْ بِالْعَذَابِ الشَّدِيدِ وَلَيْسَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ خَيْرًا مِنْ أُولَئِكَ وَلَا بَرَاءَةَ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ الْوَعِيدِ, وَلَكِنَّ اللَّهَ يُمْهِلُ وَلَا يُهْمِلُ وَمَا بَطْشُهُ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هُودٍ: 102] . فَانْظُرْ إِلَيْهِمْ قَدْ غَلَوْا وَزَادُوا ... وَرَفَعُوا بِنَاءَهَا وَشَادُوا بِالشِّيدِ وَالْآجُرِّ وَالْأَحْجَارِ ... لَا سِيَّمَا فِي هَذِهِ الْأَعْصَارِ "فَانْظُرْ" أَيُّهَا الْمُؤْمِنُ "إِلَيْهِمْ" وَإِلَى أَعْمَالِهِمْ "قَدْ غَلَوْا" فِي أَهْلِ الْقُبُورِ الْغُلُوَّ الْمُفْرِطَ الَّذِي نَهَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ "وَزَادُوا" عَمَّا حَذَّرَهُمْ عَنْهُ الرُّسُلُ "وَرَفَعُوا بِنَاءَهَا" أَيْ: بِنَاءَ الْقُبُورِ الْمَنْهِيَّ عَنْ مُجَرَّدِهِ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ "وَشَادُوا" أَيْ: ضَرَبُوهُ "بِالشِّيدِ" وَهُوَ الْجِصُّ "وَالْآجُرِّ" اللَّبِنُ الْمَحْرُوقُ "وَالْأَحْجَارِ" الْمُنَقَّشَةِ الْمُزَخْرَفَةِ "لَا سِيَّمَا" بِزِيَادَةٍ "فِي هَذِهِ الْأَعْصَارِ" الْقَرِيبَةِ بَعْدَ ظُهُورِ دَوْلَةِ الْعَبِيدِيِّينَ1 الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ أَهْلُ الْعِلْمِ: ظَاهِرُهُمُ الرَّفْضُ وَبَاطِنُهُمُ الْكُفْرُ الْمَحْضُ, فَاعْتَنَوْا
بِبِنَاءِ الْقِبَابِ عَلَى الْقُبُورِ وَزَخْرَفَتِهَا وَتَشْيِيدِهَا وَجَعْلِهَا مَشَاهِدَ, وَنَدَبُوا النَّاسَ إِلَى زِيَارَتِهَا وَأَتَوْا بِذَلِكَ بِاسْمِ مَحَبَّةِ أَهْلِ الْبَيْتِ وَكُلُّ مَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ مِنَ الدُّوَلِ الْمُبْتَدِعَةِ زَادَ فِيهَا وَأَحْدَثَ أَكْثَرَ مِمَّا أَحْدَثَ مَنْ قَبْلَهُ, حَتَّى اتَّخَذُوهَا مَسَاجِدَ وَمَعَابِدَ, إِلَى أَنْ عُبِدَتْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَسَأَلُوا مِنْهَا مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا اللَّهُ وَفَعَلُوا بِهَا مَا يَفْعَلُ أَهْلُ الْأَوْثَانِ بِأَوْثَانِهِمْ وَزَادُوا كَثِيرًا فَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ, وَأَضَلُّوا مَنْ قَدَرُوا عَلَى إِضْلَالِهِ جِيلًا بَعْدَ جِيلٍ, وَلَمْ يَبْقَ مِنَ الدِّينِ عِنْدَهُمْ إِلَّا اسْمُهُ وَلَا مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لَدَيْهِمْ إِلَّا لَفْظُهُ وَرَسْمُهُ, وَلَكِنَّ الأرض لا تخلو مِنْ مُجَدِّدٍ لِمَعَالِمِ الشَّرِيعَةِ الْحَنِيفِيَّةِ وَمُنَبِّهٍ عَلَى مَا يُخِلُّ بِهَا أَوْ يُنَاقِضُهَا مِنَ الْبِدَعِ الشَّيْطَانِيَّةِ, وَلَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ -أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرَةً, لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ أَوْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى, وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ يَقُولُ: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الْحِجْرِ: 9] . وَلِلْقَنَادِيلِ عَلَيْهَا أَوْقَدُوا ... وَكَمْ لِوَاءٍ فَوْقَهَا قَدْ عَقَدُوا وَنَصَبُوا الْأَعْلَامَ وَالرَّايَاتِ ... وَافْتُتِنُوا بِالْأَعْظُمِ الرُّفَاتِ بَلْ نَحَرُوا فِي سُوحِهَا النَّحَائِرْ ... فِعْلَ أُولِي التَّسْيِيبِ وَالْبَحَائِرْ وَالْتَمَسُوا الْحَاجَاتِ مِنْ مَوْتَاهُمْ ... وَاتَّخَذُوا إِلَهَهُمْ هَوَاهُمْ "وَلِلْقَنَادِيلِ" مِنَ الشُّمُوعِ وَغَيْرِهَا "عَلَيْهَا" أَيْ: عَلَى الْقُبُورِ وَفِي قِبَابِهَا "أَوْقَدُوا" تَعَرُّضًا لِلَّعْنَةِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ إِذْ يَقُولُ: "لَعَنَ اللَّهُ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ, وَالْمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ" 1. فَأَوْقَفُوا لِتَسْرِيجِهَا الْوُقُوفَ الْكَثِيرَةَ وَجَعَلُوا عَلَيْهَا سَدَنَةً وَخُدَّامًا مُعَدِّينَ لِإِيقَادِهَا, وَوَيْلٌ لِلسَّادِنِ إِنْ طُفِئَ مِصْبَاحُ قَبْرِ الشَّيْخِ "وَكَمْ لواء فوقها قد عَقَدُوا" تَعْظِيمًا لَهَا وَتَأَلُّهًا وَرَغْبَةً وَرَهْبَةً "وَنَصَبُوا" عَلَيْهَا "الْأَعْلَامَ وَالرَّايَاتِ" لَا سِيَّمَا يَوْمَ عِيدِهَا؛ لِأَنَّهُمْ قَدِ اتَّخَذُوا لِكُلِّ قَبْرٍ عِيدًا أَيْ: يَوْمًا مُعْتَادًا يَجْتَمِعُونَ فِيهِ مِنْ أَقَاصِي الْبِلَادِ وَأَدْنَاهَا كَمَا أَنَّ الْحَجَّ يَوْمَ عَرَفَةَ, مُخَالَفَةً مِنْهُمْ وَمُشَاقَّةً لِلَّهِ وَرَسُولِهِ, إِذْ يَقُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا" 2. فَقَدِ اتَّخَذُوا قُبُورَ
مَنْ هُوَ دُونَهُ أَعْيَادًا, وَمَنْ فَاتَهُ يَوْمُ ذَلِكَ الْعِيدِ الْمُعْتَادِ فَقَدْ فَاتَهُ الْمَشْهَدُ وَفَاتَهُ خَيْرٌ كَثِيرٌ, وَفِي ذَلِكَ الْعِيدِ تُنْصَبُ الزِّينَةُ الْبَاهِرَةُ وَتُدَقُّ الطُّبُولُ وَالْأَعْوَادُ, وَيَجْتَمِعُ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ فِي مَيْدَانٍ وَاحِدٍ لَابِسِينَ زِينَتَهُمْ, قَدْ عُطِّرَ كُلٌّ مِنَ الْجِنْسَيْنِ بِأَطْيَبِ مَا يَجِدُ وَلَبِسَ أَطْيَبَ مَا يَجِدُ, وَتُجْبَى الْأَمْوَالُ مِنَ الْأَوْقَافِ وَالنُّذُورِ وَغَيْرِهَا عَلَى اخْتِلَافِ أَجْنَاسِهَا مِنْ نُقُودٍ وَثِمَارٍ وَأَنْعَامٍ وَخَرَاجَاتٍ وَغَيْرِهَا مِمَّا عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهَا لَا يُبْتَغَى بِهَا وَجْهُهُ وَلَمْ تُنْفَقْ فِي مَرْضَاتِهِ, بَلْ فِي مَسَاخِطِهِ "وَافْتُتِنُوا" فِي دِينِهِمْ "بِالْأَعْظُمِ الرُّفَاتِ" النَّخِرَةِ, فَعَبَدُوهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ, دُعَاءً وَتَوَكُّلًا وَخَوْفًا وَرَجَاءً وَنَذْرًا وَنُسُكًا وَغَيْرَ ذَلِكَ "بَلْ نَحَرُوا فِي سُوحِهَا" أَيْ: فِي أَفْنِيَةِ الْقُبُورِ "النَّحَائِرَ" مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ إِذَا نَابَهُمْ أَمْرٌ أَوْ طَلَبُوا حَاجَةً مِنْ شِفَاءِ مَرِيضٍ أَوْ رَدِّ غَائِبٍ أَوْ نَحْوِ ذلك, وأكثرهم يسمها لِلْقَبْرِ مِنْ حَيْثُ تُوْلَدُ وَيُرَبِّيهَا لَهُ إِلَى أَنْ تَصْلُحَ لِلْقُرْبَةِ فِي عُرْفِهِمْ, وَلَا يَجُوزَ عِنْدَهُمْ تَغْيِيرُهَا وَلَا تَبْدِيلُهَا وَلَا خَصْيُهَا وَلَا وِجَاؤُهَا لَا يَذْهَبُ شَيْءٌ مِنْ دَمِهَا؛ إِذْ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ نَقْصٌ فِيهَا وَبَخْسٌ "فِعْلَ أُولِي التَّسْيِيبِ وَالْبَحَائِرِ" أَيْ: كَفِعْلِ مُشْرِكِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ فِي تَسْيِيبِهِمُ السَّوَائِبَ وَتَبْحِيرِ الْبَحَائِرِ وَجَعْلِ الْحَامِ كَمَا قَدَّمْنَا عَنْهُمْ ذَلِكَ مَبْسُوطًا فِي مَوْضِعِهِ, غَيْرَ أَنَّ أُولَئِكَ سَمَّوْهُمْ آلِهَةً وَشُفَعَاءَ وَسَمَّوْا مِثْلَ هَذَا الْفِعْلِ بِهِمْ عِبَادَةً, وَهَؤُلَاءِ سَمَّوْهُمْ سَادَةً وَأَوْلِيَاءَ وَسَمَّوْا دُعَاءَهُمْ إِيَّاهُمْ تَبَرُّكًا وَتَوَسُّلًا, وَكِلَاهُمَا مُشْرِكٌ فِي فِعْلِهِ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ, وَهَؤُلَاءِ أَعْظَمُ شِرْكًا وَأَشَدُّ لِأَنَّهُمْ يُشْرِكُونَ فِي الرَّخَاءِ وَفِي الشِّدَّةِ, بَلْ هُمْ فِي الشِّدَّةِ أَكْثَرُ شِرْكًا وَأَشَدُّ تَعَلُّقًا بِهِمْ مِنْ حَالَةِ الرَّخَاءِ, وَأَمَّا مُشْرِكُو الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى فَيُشْرِكُونَ فِي الرَّخَاءِ وَيُخْلِصُونَ لِلَّهِ فِي الشِّدَّةِ, كَمَا أَخْبَرَنَا اللَّهُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [الْعَنْكَبُوتِ: 65] وَغَيْرَهَا مِنَ الْآيَاتِ. "وَالْتَمَسُوا الْحَاجَاتِ" الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ "مِنْ مَوْتَاهُمْ" مِنْ جَلْبِ الْخَيْرِ وَدَفْعِ الشَّرِّ "وَاتَّخَذُوا إِلَهَهُمْ هَوَاهُمْ" وَهَذَا هُوَ السَّبَبُ فِي عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ بَلْ فِي جَمِيعِ مَعَاصِي اللَّهِ, وَهُوَ الَّذِي كُلَّمَا هَوَى أَمْرًا أَتَاهُ, وَلَمْ يَأْتِهِمُ الشَّيْطَانُ مِنْ غَيْرِ بَابِ الْهَوَى وَلَمْ يَصْطَدْ أَحَدًا بِغَيْرِ شَبَكَتِهِ؛ لِأَنَّ الْهَوَى يُعْمِي عَنِ الْحَقِّ وَيُضِلُّ عَنِ السَّبِيلِ أَتْبَاعَهُ وَهُوَ سَبَبُ الشَّقَاوَةِ, كَمَا أَنَّ الْتِزَامَ الشَّرِيعَةِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا سَبَبُ السَّعَادَةِ, فَهُمَا ضِدَّانِ لَا
يَجْتَمِعَانِ وَلَا يَكُونُ الْحُكْمُ إِلَّا لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ الشَّرِيعَةَ تَدُلُّ عَلَى مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَأْمُرُ بِهَا, وَتُحَذِّرُ مِنْ مَسَاخِطِ اللَّهِ وَتَنْهَى عَنْهَا, وَالْهَوَى بِضِدِّ ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ" 1 يَعْنِي: لِمُخَالَفَةِ أَسْبَابِهَا مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ لِلْهَوَى "وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ" 2 لِمُوَافَقَةِ أَسْبَابِهَا مِنَ الْمَعَاصِي لِلْهَوَى. فَطُوبَى لِمَنْ كَانَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وَوَيْلٌ لِمَنْ قَدَّمَ هَوَاهُ عَلَى ذَلِكَ, لَقَدْ هَلَكَ. قَدْ صَادَهُمْ إِبْلِيسُ فِي فِخَاخِهِ ... بَلْ بَعْضُهُمْ قَدْ صَارَ مِنْ أَفْرَاخِهِ يَدْعُو إِلَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ ... بِالْمَالِ وَالنَّفْسِ وَبِاللِّسَانِ "قَدْ صَادَهُمْ" مِنْ الِاصْطِيَادِ بَلْ مِنْ مُطَاوِعِ اصْطَادَ؛ لِأَنَّ التَّاءَ الَّتِي قُلِبَتْ طَاءً هِيَ لِمَعْنَى الطَّلَبِ وَأَمَّا حَذْفُهَا فَيَدُلُّ عَلَى وُصُولِ الطَّالِبِ إِلَى مَطْلُوبِهِ "إِبْلِيسُ فِي فِخَاخِهِ" الَّتِي نَصَبَهَا لَهُمْ كَمَا نَصَبَهَا لِمَنْ قَبْلَهُمْ مِنْ تَزْيِينِ الْمَعَاصِي وَتَصْوِيرِهَا فِي صُورَةِ الطَّاعَاتِ, فَأَوَّلُ مَا زَيَّنَ لِقَوْمِ نُوحٍ العكوف على صور صَالِحِيهِمْ لِيَتَذَكَّرُوا عِبَادَتَهُمُ اللَّهَ تَعَالَى فَيَقْتَفُوا أَثَرَهُمْ فِيهَا, وَلَمْ يَزَلْ بِهِمْ حَتَّى عَبَدُوهَا كَمَا قَدَّمْنَا. وَكَذَلِكَ فَعَلَ بِسُفَهَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَوَّلُ مَا أَشَارَ عَلَيْهِمْ بِبِنَاءِ الْقِبَابِ عَلَى الْقُبُورِ بِاسْمِ مُحِبَّةِ الْأَوْلِيَاءِ ثُمَّ بِالْعُكُوفِ عَلَيْهَا وَعِبَادَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عِنْدَهَا تَبَرُّكًا وَتَيَمُّنًا بِتِلْكَ الْبِقَاعِ الَّتِي فُضِّلَتْ بِهِمْ, إِذْ دُفِنُوا فِيهَا ثُمَّ بِعِبَادَتِهِمْ أَنْفُسِهِمْ دُونَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ, ثُمَّ اسْتَرْسَلُوا فِي تِلْكَ الْعِبَادَةِ شَيْئًا فَشَيْئًا إِلَى أَنْ أَثْبَتُوا لِلْمَخْلُوقِ صِفَاتِ الرُّبُوبِيَّةِ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ, فَصَارَ الْأَمْرُ كَمَا تَرَى فِي جَمِيعِ الْأَقْطَارِ وَفِي كُلِّ الْقُرَى وَالْأَمْصَارِ وَفِي كُلِّ زَمَنٍ تَشِيعُ وَتَزِيدُ وَفِي كُلِّ عَصْرٍ مِنَ الْأَعْصَارِ "بَلْ بَعْضُهُمْ قَدْ صَارَ مِنْ أَفْرَاخِهِ" الْمُسَاعِدِينَ لَهُ الدَّاعِينَ إِلَى مَا دَعَا إِلَيْهِ حِزْبَهُ؛ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ "يَدْعُو إِلَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ" مِنَ الْقُبُورِ وَغَيْرِهَا "بِالْمَالِ وَالنَّفْسِ وَبِاللِّسَانِ" فَمِنْ دَعَايَتِهِمْ إِلَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ يَجْمَعُونَ أَنْوَاعًا مِنَ الْمَطَالِبِ وَيُدْخِلُونَهَا الْقَبْرَ إِلَى الْقُبَّةِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَيْهِ فِي سَرَادِيبَ مُعَدَّةٍ تَحْتَهَا فَإِذَا
أَتَى إِلَيْهِمُ الْجَاهِلُ الْمَفْتُونُ وَوَقَفَ عَلَى الْحَاجِبِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَطْلُوبٌ مُعَيَّنٌ قَالَ لَهُ: أَدْخِلْ يَدَكَ فَمَا خَرَجَ فِيهَا فَهُوَ الْبَابُ الَّذِي تُرْزَقُ مِنْهُ لَا تَعْدُوهُ إِلَى غَيْرِهِ, فَإِنْ خَرَجَ فِي يَدِهِ تُرَابٌ فَحَارِثٌ, وَإِنْ خَرَجَ قُطْنٌ فَحَائِكٌ, وَإِنْ خَرَجَ فَحْمٌ أَوْ نَحْوُهُ فَحَدَّادٌ أَوْ صَائِغٌ, وَإِنْ خَرَجَ آلَةُ حِجَامَةٍ فحجام, وإن خرح كَذَا وكذا, على قواعدهم يَعْرِفُونَهَا, وَمَخْرَقَةٍ لَهُمْ يَأْلَفُونَهَا, وَإِنْ كان له مَطْلُوبٌ مُعَيَّنٌ قَالَ لَهُ: مَا تُرِيدُ مِنَ الشَّيْخِ؟ قَالَ: أُرِيدُ كَذَا, فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ يُوجَدُ فِيهَا أُدْخِلُ الْقَبْرَ وَإِلَّا قَالَ: ارْجِعِ الْآنَ وَمَوْعِدُكَ الْوَقْتُ الْفُلَانِيُّ فَإِنَّ الشَّيْخَ الْآنَ مَشْغُولٌ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْذَارِ مَعَ مَا فِي قَلْبِهِ مِنْ تَعْظِيمِ الشَّيْخِ, فَلَا يُكَرِّرُ الطَّلَبَ أَدَبًا مَعَهُ, فَلَا يَأْتِي فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ إِلَّا وَقَدِ اسْتَعَدَّ له بمطلوبه, فإدا جَاءَ وَأَدْخَلَ يَدَهُ خَرَجَ فِيهَا ذَلِكَ الْمَطْلُوبُ فَحِينَئِذٍ خَرَجَ يُنَادِي: شَيْءٌ لِلَّهِ يَا شَيْخُ فُلَانُ وَكُلَّمَا وَجَدَ أَحَدًا أَرَاهُ ذَلِكَ وَقَالَ: هَذَا مِنْ كَرَامَاتِ الشَّيْخِ فُلَانٍ وَعَطَايَاهُ, فَيَجْمَعُونَ مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِهَذِهِ الْحِيَلِ وَالشَّعْوَذَةِ مَا لَا يُحْصَى, وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَحْتَالُوا لِأَخْذِ أَمْوَالِ النَّاسِ فَحَسْبُ, بَلِ احْتَالُوا لِسَلْبِ دِينِهِمْ وَأَخْرَجُوهُمْ مِنْ دَائِرَةِ الْإِسْلَامِ إِلَى دَائِرَةِ الْكُفْرِ, وَلَيْسَ هَذَا خَاصًّا بِقُبُورِ الصَّالِحِينَ الَّذِينَ عُرِفُوا فِي الدُّنْيَا بِالْأَمَانَةِ وَالدِّيَانَةِ, بَلْ أَيُّ قَبْرٍ تَمَثَّلَ فِيهِ الشَّيْطَانُ أَوْ حُكِيَتْ لَهُ حكاية أو رئيت لَهُ رُؤْيَا صِدْقًا كَانَتْ أَوْ كَذِبًا, فَقَدِ اسْتَحَقَّ عِنْدَهُمْ أَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ الْقِبَابُ وَيُعْكَفَ عِنْدَهُ وَيُنْذَرَ لَهُ وَيُذْبَحَ عَلَيْهِ وَيَسْتَشْفِيَ بِهِ الْمَرْضَى وَيُسْتَنْزَلَ بِهِ الْغَيْثُ وَيُسْتَغَاثَ بِهِ فِي الشَّدَائِدِ وَيُسْأَلَ مِنْهُ قَضَاءُ الْحَوَائِجِ وَيُخَافَ وَيُرْجَى وَيُتَّخَذَ نِدًّا مِنْ دون الله عر وَجَلَّ, تقدس وَتَنَزَّهَ عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ وَالْجَاحِدُونَ وَالْمُلْحِدُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا. اللَّهُ أَكْبَرُ لَوْ رَأَيْتَ عَلَى الْقُبُو ... رِ عُكُوفَهُمْ صُبْحًا وَبِالْإِمْسَاءِ وَاللَّهُ أَكْبَرُ لَوْ تَرَى أَعْيَادَهُمْ ... جَمْعُ الرِّجَالِ مَعًا وَجَمْعُ نِسَاءِ وَاللَّهُ أَكْبَرُ لَوْ رَأَيْتَ مَسَاجِدًا ... بُنِيَتْ عَلَى الْمَوْتَى بِأَيِّ بِنَاءِ قَدْ زُخْرِفَتْ بِحِجَارَةٍ مَنْقُوشَةٍ ... بِالشِّيدِ قَدْ ضُرِبَتْ مَعَ الْإِعْلَاءِ وَرُءُوسُهَا قَدْ زُيِّنَتْ بِأَهِلَّةٍ ... مِنْ أَنْفَسِ الْمَنْقُوشِ دُونَ مِرَاءِ قَدْ أُسْرِجَتْ وَلَكَمْ عَلَى تَسْرِيجِهَا ... وَقَفُوا الشُّمُوعَ لَهَا بِأَيِّ أَدَاءِ
كَمْ سَادِنٍ قَدْ وَكَّلُوهُ بِشَأْنِهَا ... طِيبًا وَتَنْظِيفًا وَشَأْنَ ضِيَاءِ وَيْلٌ لَهُ لَوْ قَدْ أَخَلَّ بِبَعْضِ ذَا ... مَاذَا يُقَاسِي مِنْ ضُرُوبِ بَلَاءِ وَلَكَمْ عَلَيْهَا رَايَةٌ قَدْ نُشِّرَتْ ... أَلْوَانُهَا سَلَبَتْ لِقَلْبِ الرَّائِي وَكَرَائِمُ الْأَنْعَامِ تُنْحَرُ سُوحَهَا ... مَنْذُورَةٌ يُؤْتَى بِهَا لِوَفَاءِ لَمْ يُفْرِدُوا رَبَّ السَّمَاءِ بِدَعْوَةٍ ... بَلْ لِلْقُبُورِ تَجَاوَبُوا بِنِدَاءِ يَدْعُونَهُمْ فِي كَشْفِ كُلِّ مُلِمَّةٍ ... فِي الْجَهْرِ قَدْ هَتَفُوا وَفِي الْإِخْفَاءِ وَيُعَظِّمُونَهُمُو بِكُلِّ عِبَادَةٍ ... يَا صَاحِ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَتَرَاهُ بِالرَّحْمَنِ يَحْلِفُ كَاذِبًا ... وَصِفَاتِهِ الْعُلْيَا وَبِالْأَسْمَاءِ لَكِنَّهُ لَا يستطيع الحلف ... بالمقبور ذَا إِنْ لَمْ يَكُنْ بِبَرَاءِ زَادُوا عَلَى شرك الذين إليهمو ... بُعِثَ الرَّسُولُ بِأَصْدَقِ الْأَنْبَاءِ إِذَا يُخْلِصُونَ لَدَى الْكُرُوبِ وَهَؤُلَا ... ءِ فَشِرْكُهُمْ فِي شِدَّةٍ وَرَخَاءِ بَلْ فِي الشَّدَائِدِ شِرْكُهُمْ أَضْعَافُ مَا ... قَدْ أَشْرَكُوا فِي حَالَةِ السَّرَّاءِ فَتَرَاهُ يَنْذِرُ فِي الرَّخَاءِ بِبَدْنَةٍ ... وَبِبَدْنَتَيْنِ لَدَى اشْتِدَادِ بَلَاءِ وَجَمِيعُ مَا يَأْتِيهِ فِي سَرَّائِهِ ... فَلَهُ بِهِ الْأَضْعَافُ فِي الضَّرَّاءِ تَاللَّهِ مَا ظَفِرَ اللَّعِينُ بِمِثْلِهَا ... مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الشِّرْعَةِ الْغَرَّاءِ حَتَّى إذا ما هيئوا لِعَدُوِّهِمْ ... سَبَبَ الدُّخُولِ وَسُلَّمَ الْإِغْوَاءِ طَمِعَ الْعَدُوُّ بِهِمْ لِنَيْلِ مُرَادِهِ ... مِنْهُمْ فَغَرَّ الْقَوْمَ بِاسْتِجْدَاءِ لَمَّا أَسَاءُوا الظن بالوحيين ... لكن أَحْسَنُوهُ بِزُخْرُفِ الْأَعْدَاءِ لَمْ يَهْتَدُوا بِالنَّصِّ قَطُّ بَلِ اقْتَفَوْا ... آرَاءَ مَنْ قَدْ كَانَ عَنْهَا نَائِي نَبَذُوا الْكِتَابَ فَلَمْ يُقِيمُوا نَصَّهُ ... إِذْ كَانَ مَيْلَهُمُو إِلَى الْأَهْوَاءِ وَعِبَادَةُ الْأَوْثَانِ قَدْ صَارَتْ لَهُمْ ... دِينًا, تَعَالَى اللَّهُ عَنْ شُرَكَاءِ وَطَرَائِقُ الْبِدَعِ الْمُضِلَّةِ صَيَّرُوا ... سُبُلًا مَكَانَ الْمِلَّةِ السَّمْحَاءِ يَا رَبِّ ثَبِّتْنَا عَلَى دِينِ الْهُدَى ... وَعَلَى سُلُوكِ طَرِيقِهِ الْبَيْضَاءِ
الفصل الثامن في بيان حقيقة السحر وحكم الساحر وذكر عقوبة من صدق كاهنا
وَارْدُدْ بِتَوْفِيقٍ إِلَيْهَا مَنْ نَأَى ... مِمَّنْ قَدِ اسْتَهْوَى أُولُو الْأَغْوَاءِ يَا رَبَّنَا فَاكْشِفْ غِطَاءَ قُلُوبِنَا ... بِالنُّورِ, أَخْرِجْنَا مِنَ الظَّلْمَاءِ وَاسْلُكْ بِنَا نَهْجَ النَّجَاةِ وَنَجِّنَا ... مِنْ حَيْرَةٍ وَضَلَالَةٍ عَمْيَاءِ وَاجْعَلْ كِتَابَكَ -يَا كَرِيمُ- إِمَامَنَا ... وَرَسُولَكَ الْمِقْدَامَ لِلْحُنَفَاءِ وَانْصُرْ عَلَى الْأَعْدَاءِ حِزْبَكَ, إِنَّهُمْ ... خَبَطَتْهُمُو فِتَنٌ مَنِ الْأَعْدَاءِ راموا بنا السوءى بِسُوءِ مَكَايِدٍ ... فَاقْصِمْهُمُو يَا رَبِّ لِلْأَسْوَاءِ وَارْدُدْ إِلَهِي كَيْدَهُمْ فِي بَيْدِهِمْ ... وَأَبِدْهُمُو بَيْدًا عَنِ الْبَيْدَاءِ أَظْهِرْ عَلَى الْأَدْيَانِ دِينَكَ جَهْرَةً ... وَشِعَارَهُ فَارْفَعْ بِدُونِ خَفَاءِ وَاجْعَلْ لِوَجْهِكَ خُلَّصَا أَعْمَالَنَا ... بِعِبَادَةٍ وَوِلَايَةٍ وَبَرَاءِ1 [[الفصل الثامن في بيان حقيقة السحر وحكم الساحر وذكر عقوبة من صدق كاهنا]] فَصْلٌ: أَذْكُرُ فِيهِ بَيَانَ حَقِيقَةِ السِّحْرِ وَحُكْمَ السَّاحِرِ وَذِكْرَ عُقُوبَةِ مَنْ صَدَّقَ كَاهِنًا أَيْ: مَا عَلَيْهِ مِنَ الْعُقُوبَةِ شَرْعًا, وَأَنَّ مِنْهُ أَيْ: مِنَ السِّحْرِ عِلْمَ التَّنْجِيمِ, وَهُوَ النَّظَرُ فِي النُّجُومِ الْآتِي بَيَانُهُ, وَذِكْرَ عُقُوبَةِ مَنْ صَدَّقَ كَاهِنًا بِقَلْبِهِ, وَيَعْنِي عُقُوبَتَهُ الْوَعِيدِيَّةِ. وَالْبَحْثُ فِي هَذَا الْفَصْلِ فِي أُمُورٌ: الْأَوَّلُ: هَلِ السِّحْرُ حَقِيقَةٌ وُقُوعُهُ وَوُجُودُهُ أَمْ لَا؟ الثاني: حكم متعلقه إِنْ عَمِلَ بِهِ, أَوْ لَمْ يَعْمَلْ. الثَّالِثُ: عُقُوبَتُهُ شَرْعًا وَوَعِيدًا. الرَّابِعُ: أَنْوَاعُهُ. وَالسِّحْرُ حَقٌّ وَلَهُ تَأْثِيرُ ... لَكِنْ بِمَا قَدَّرَهُ الْقَدِيرُ أَعْنِي بِذَا التَّقْدِيرِ مَا قَدْ قَدَّرَهْ ... فِي الْكَوْنِ لَا فِي الشِّرْعَةِ الْمُطَهَّرَهْ
البحث الأول في حقيقته وتأثيره
هَذَا هُوَ البحث الأول في حَقِيقَتُهُ وَتَأْثِيرُهُ: "وَالسِّحْرُ حَقٌّ" يَعْنِي: مُتَحَقِّقٌ وُقُوعُهُ وَوُجُودُهُ, وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا حَقِيقَةً لَمْ تَرِدِ النَّوَاهِي عَنْهُ فِي الشَّرْعِ وَالْوَعِيدُ عَلَى فَاعِلِهِ وَالْعُقُوبَاتُ الدِّينِيَّةُ وَالْأُخْرَوِيَّةُ عَلَى مُتَعَاطِيهِ وَالِاسْتِعَاذَةُ مِنْهُ أَمْرًا وَخَبَرًا. وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ كَانَ مَوْجُودًا فِي زَمَنِ فِرْعَوْنَ وَأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُعَارِضَ بِهِ مُعْجِزَاتِ نَبِيِّ اللَّهِ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي الْعَصَا, بَعْدَ أَنْ رَمَاهُ هُوَ وَقَوْمُهُ بِهِ بِقَوْلِهِمْ: {إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} إِلَى قَوْلِهِ: {يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ} [الشُّعَرَاءِ: 34-37] وَقَالَ تَعَالَى عَنِ السَّحَرَةِ: {فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الْأَعْرَافِ: 116] وَقَالَ تَعَالَى فِيهِمْ: {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى، فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى، قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى، وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه: 66-69] يُقَالُ: إِنَّهُمْ كَانُوا سَبْعِينَ أَلْفًا, مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَبْلٌ وَعَصَا فَأَخَذُوا بِأَبْصَارِ النَّاسِ بِسِحْرِهِمْ, وَأَلْقَوْا تِلْكَ الْحِبَالَ وَالْعِصِيَّ فَرَآهَا النَّاسُ حَيَّاتٍ عِظَامًا ضِخَامًا, وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} وَقَوْلُهُ: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى، قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى، وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ} [طه: 67-69] يَعْنِي الْعَصَا {تَلْقَفْ} تَبْتَلِعْ {مَا صَنَعُوا} أَيِ: السَّحَرَةُ, أَيْ: ما اختلقوا وائتفكوا مِنَ الزُّورِ وَالتَّخْيِيلِ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} [الْأَعْرَافِ: 117] وَهَوَّنَ اللَّهُ أَمَرَهُمْ عَلَى نَبِيِّهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ, بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ} مَكْرُهُ وَخِدَاعُهُ {وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} {فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ} [الْأَعْرَافِ: 119] إِلَى أَخِرِ الْآيَاتِ, وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ قَوْمِ صَالِحٍ وَكَانُوا قَبْلَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ, أَنَّهُمْ قَالُوا لِنَبِيِّهِمْ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} [الشُّعَرَاءِ: 153] وَكَذَا قَالَ قَوْمُ شُعَيْبٍ لَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} وَقَالَتْ قُرَيْشٌ لِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ عَنْهُمْ فِي
غَيْرِ مَوْضِعٍ, بَلْ ذَكَرَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- أَنَّ ذَلِكَ الْقَوْلَ تَدَاوَلَهُ كُلُّ الْكُفَّارِ لِرُسُلِهِمْ, فَقَالَ تَعَالَى: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ، أَتَوَاصَوْا بِهِ} [الذَّارِيَاتِ: 52] الْآيَةَ, قال سُبْحَانَهُ فِي ذَمِّ الْيَهُودِ: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [الْبَقَرَةِ: 101، 102] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الْفَلَقِ: 4] وَالنَّفَّاثَاتُ هُنَّ السَّوَاحِرُ يَعْقِدْنَ وَيَنْفُثْنَ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِهَذِهِ النُّصُوصِ وغيرها مما سَنَذْكُرُ وَمِمَّا لَا نَذْكُرُ, أَنَّ السِّحْرَ حَقِيقَةٌ وُجُودُهُ. "وَلَهُ تَأْثِيرٌ" فَمِنْهُ مَا يُمْرِضُ وَمِنْهُ مَا يَقْتُلُ وَمِنْهُ مَا يَأْخُذُ بِالْعُقُولِ وَمِنْهُ مَا يَأْخُذُ بِالْأَبْصَارِ وَمِنْهُ مَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ "لَكِنَّ" تَأْثِيرَهُ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ "بِمَا قَدَّرَهُ الْقَدِيرُ" سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَيْ: بِمَا قَضَاهُ وَقَدَّرَهُ وَخَلَقَهُ عِنْدَمَا يُلْقِي السَّاحِرُ مَا أَلْقَى؛ وَلِذَا قُلْنَا "أَعْنِي بِذَا التَّقْدِيرِ" فِي قَوْلِهِ: بِمَا قَدَّرَهُ الْقَدِيرُ "وما قَدْ قَدَّرَهُ فِي الْكَوْنِ" وَشَاءَهُ "لَا" أَنَّهُ أَمَرَ بِهِ "فِي الشِّرْعَةِ" الَّتِي أَرْسَلَ اللَّهُ بِهَا رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ بِهَا كُتُبَهُ "الْمُطَهَّرَةَ" مِنْ ذَلِكَ وَغَيْرِهِ كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْقَضَاءَ وَالْأَمْرَ وَالْحُكْمَ وَالْإِرَادَةَ, كُلٌّ منها ينقسم إلى كَوْنِيٍّ وَشَرْعِيٍّ؛ فَالْكَوْنِيُّ يَشْمَلُ مَا يَرْضَاهُ اللَّهُ وَيُحِبُّهُ شَرْعًا وَمَا لَا يَرْضَاهُ فِي الشَّرْعِ وَلَا يُحِبُّهُ, وَالشَّرْعِيُّ يَخْتَصُّ بِمَرْضَاتِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَمَحَابِّهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى فِي الشَّرْعِيِّ: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [الْبَقَرَةِ: 185] وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ}
[الزُّمَرِ: 7] فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ يُرِيدُ بِعِبَادِهِ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِهِمُ الْعُسْرَ, وَأَنَّهُ يَرْضَى لَهُمُ الشُّكْرَ وَلَا يَرْضَى لَهُمُ الْكُفْرَ, مَعَ كَوْنِ كُلٍّ مِنَ الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ والشكر والكفر واقعا بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرَهِ وَخَلْقِهِ وَتَكْوِينِهِ وَمَشِيئَتِهِ, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الزُّمَرِ: 62] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [الْقَمَرِ: 49] وَالْمَقْصُودُ أَنَّ السِّحْرَ لَيْسَ بِمُؤَثِّرٍ لِذَاتِهِ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَإِنَّمَا يُؤَثِّرُ بِقَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدَرِهِ وَخَلْقِهِ وَتَكْوِينِهِ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى خَالِقُ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ, وَالسِّحْرُ مِنَ الشَّرِّ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [الْبَقَرَةِ: 102] وَهُوَ الْقَضَاءُ الْكَوْنِيُّ الْقَدَرِيُّ, فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَأْذَنْ بِذَلِكَ شَرْعًا, وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ طُرُقٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: سُحِرَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى إِنَّهُ لَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَمَا فَعَلَهُ, حَتَّى إِذَا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ وَهُوَ عِنْدِي دَعَا اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- وَدَعَاهُ ثُمَّ قَالَ: "أَشَعَرْتِ يَا عَائِشَةُ, إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَفْتَانِي فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ" قُلْتُ: وَمَا ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "جَاءَنِي رَجُلَانِ فَجَلَسَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي وَالْآخَرُ عِنْدَ رِجْلِي ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: مَا وَجَعُ الرَّجُلِ؟ قَالَ: مَطْبُوبٌ قَالَ: وَمَنْ طَبَّهُ؟ قَالَ: لَبِيدُ بْنُ الْأَعْصَمِ الْيَهُودِيُّ مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ قَالَ: فَبِمَاذَا؟ قَالَ: مِشْطٍ وَمُشَاطَةٍ وَجُفِّ طَلْعَةٍ ذَكَرٍ, قَالَ: فَأَيْنَ؟ قَالَ: فِي بِئْرِ ذي أروان" قالت: فَذَهَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أُنَاسٍ مِنْ أَصَحَابِهِ إِلَى الْبِئْرِ فَنَظَرَ إِلَيْهَا وَعَلَيْهَا نَخْلٌ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى عَائِشَةَ فَقَالَ: "وَاللَّهِ لَكَأَنَّ مَاءَهَا نُقَاعَةُ الْحِنَّاءِ, وَلَكَأَنَّ نَخْلَهَا رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ" قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَأَخْرَجْتَهُ؟ قَالَ: "لَا أَمَّا أَنَا فَقَدْ عَافَانِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَشَفَانِي, وَخَشِيتُ أَنْ أُثَوِّرَ عَلَى النَّاسِ مِنْهُ شَرًّا" وَأَمَرَ بِهَا فَدُفِنَتْ1. وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: "وَمَنْ طَبَّهُ؟ قَالَ: لَبِيدُ بْنُ الْأَعْصَمِ رَجُلٌ مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ حَلِيفٌ لِيَهُودَ كَانَ مُنَافِقًا, قَالَ: وَفِيمَ؟ قَالَ: فِي مِشْطٍ وَمُشَاقَةٍ قَالَ: وَأَيْنَ؟ قَالَ: فِي جُفِّ طَلْعَةٍ ذَكَرٍ تَحْتَ رَاعُوفَةٍ فِي بِئْرِ ذَرْوَانَ" وَذَكَرَهُ2. هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ, الْمُشَاطَةُ مَا يَخْرُجُ مِنَ الشَّعْرِ وَالْمِشْطُ أَسْنَانُ مَا
يُمَشَّطُ بِهِ, وَالْمُشَاقَةُ مِنْ مُشَاقَةِ الْكَتَّانِ, وَجُفُّ طَلْعَةٍ غِشَاؤُهَا, وَهُوَ الْوِعَاءُ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ الطَّلْعُ, تَحْتَ رَاعُوفَةٍ هُوَ حَجَرٌ يُتْرَكُ فِي الْبِئْرِ عِنْدَ الْحَفْرِ ثَابِتٌ لَا يُسْتَطَاعُ قَلْعُهُ يَقُومُ عَلَيْهِ الْمُسْتَقِي, وَقِيلَ: حَجَرٌ عَلَى رَأْسِ الْبِئْرِ يَسْتَقِي عَلَيْهِ الْمُسْتَقِي, وَقِيلَ: حَجَرٌ بَارِزٌ مِنْ طيها يقف عليه الْمُسْتَقِي وَالنَّاظِرُ فِيهَا, وَقِيلَ: فِي أَسْفَلِ الْبِئْرِ يَجْلِسُ عَلَيْهِ الَّذِي يُنَظِّفُهَا لَا يُمْكِنُ قَلْعُهُ لِصَلَابَتِهِ, وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. قَالَ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: قَالَ الْمَازِرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَجُمْهُورِ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ عَلَى إِثْبَاتِ السِّحْرِ وَأَنَّ لَهُ حَقِيقَةً كَحَقِيقَةِ غَيْرِهِ مِنَ الْأَشْيَاءِ الثَّابِتَةِ, خِلَافًا لِمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ وَنَفَى حَقِيقَتَهُ وَأَضَافَ مَا يَقَعُ مِنْهُ إِلَى خَيَالَاتٍ بَاطِلَةٍ لَا حَقَائِقَ لَهَا, وَقَدْ ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ وَذَكَرَ أَنَّهُ مِمَّا يُتَعَلَّمُ, وَذَكَرَ مَا فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ مِمَّا يَكْفُرُ بِهِ وَأَنَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ, وَهَذَا كُلُّهُ لَا يُمْكِنُ فِيمَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ, وَهَذَا الْحَدِيثُ أَيْضًا مُصَرِّحٌ بِإِثْبَاتِهِ وَأَنَّهُ أَشْيَاءُ دُفِنَتْ وَأُخْرِجَتْ, وَهَذَا كُلُّهُ يُبْطِلُ ما قالوه فحالة كَوْنِهِ مِنَ الْحَقَائِقِ مُحَالٌ, وَلَا يُسْتَنْكَرُ فِي الْعَقْلِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَخْرِقُ الْعَادَةَ عِنْدَ النُّطْقِ بِكَلَامٍ مُلَفَّقٍ أَوْ تَرْكِيبِ أَجْسَامٍ أَوِ الْمَزْجِ بَيْنَ قُوَى عَلَى تَرْتِيبٍ لَا يَعْرِفُهُ إِلَّا السَّاحِرُ, وَإِذَا شَاهَدَ الْإِنْسَانُ بَعْضَ الْأَجْسَامِ مِنْهَا قَاتِلَةٌ كَالسُّمُومِ وَمِنْهَا مُسْقِمَةٌ كَالْأَدْوِيَةِ الْحَادَّةِ وَمِنْهَا مُضِرَّةٌ كَالْأَدْوِيَةِ الْمُضَادَّةِ لِلْمَرَضِ لَمْ يَسْتَبْعِدْ عَقْلُهُ أَنْ يَنْفَرِدَ السَّاحِرُ بِعِلْمِ قُوًى قَتَّالَةٍ أَوْ كَلَامٍ مُهْلِكٍ أَوْ مُؤَدٍّ إِلَى التفرقة. قال: ومن أَنْكَرَ بَعْضُ الْمُبْتَدَعَةِ هَذَا الْحَدِيثَ بِسَبَبٍ آخَرَ فَزَعَمَ أَنَّهُ يَحُطُّ مِنْ مَنْصِبِ النُّبُوَّةِ وَيُشَكِّكُ فِيهَا وَأَنَّ تَجْوِيزَهُ يَمْنَعُ الثِّقَةَ بِالشَّرْعِ, وَهَذَا الَّذِي ادَّعَاهُ هَؤُلَاءِ الْمُبْتَدَعَةُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الدَّلَائِلَ الْقَطْعِيَّةَ قَدْ قَامَتْ عَلَى صِدْقِهِ وَصِحَّتِهِ, وَعِصْمَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّبْلِيغِ وَالْمُعْجِزَةُ شَاهِدَةٌ بِذَلِكَ, وَتَجْوِيزُ مَا قَامَ الدَّلِيلُ بِخِلَافِهِ بَاطِلٌ. فَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِبَعْضِ أُمُورِ الدُّنْيَا الَّتِي لَمْ يُبْعَثْ بِسَبَبِهَا وَلَا كَانَ مُفَضَّلًا مِنْ أَجْلِهَا وَهُوَ مِمَّا يَعْرِضُ لِلْبَشَرِ فَغَيْرُ بَعِيدٍ أَنْ يُخَيَّلَ
إِلَيْهِ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا مَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ, وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ إِنَّمَا كَانَ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ وَطِئَ زَوْجَاتِهِ وَلَيْسَ بِوَاطِئٍ, وَقَدْ يَتَخَيَّلُ الْإِنْسَانُ مِثْلَ هَذَا فِي الْمَنَامِ فَلَا يَبْعُدُ تَخَيُّلُهُ فِي الْيَقَظَةِ وَلَا حَقِيقَةَ لَهُ, وَقِيلَ: إِنَّهُ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ فَعَلَهُ وَمَا فعله, ولكن لا يَعْتَقِدُ صِحَّةَ مَا يَتَخَيَّلُهُ فَتَكُونُ اعْتِقَادَاتُهُ عَلَى السَّدَادِ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَقَدْ جَاءَتْ رِوَايَاتُ هَذَا الْحَدِيثِ مُبَيِّنَةً أَنَّ السِّحْرَ إِنَّمَا تَسَلَّطَ عَلَى جَسَدِهِ وَظَوَاهِرِ جَوَارِحِهِ لَا عَلَى عَقْلِهِ وَقَلْبِهِ وَاعْتِقَادِهِ, وَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ حَتَّى يَظُنَّ أَنَّهُ يَأْتِي أَهْلَهُ وَلَا يَأْتِيهِنَّ, وَيُرْوَى يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَيْ: يَظْهَرُ لَهُ مِنْ نَشَاطِهِ وَمُتَقَدِّمُ عَادَتِهِ الْقُدْرَةُ عَلَيْهِنَّ, فَإِذَا دَنَا مِنْهُنَّ أَخَذَتْهُ أَخْذَةُ السِّحْرِ فَلَمْ يَأْتِهِنَّ وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ ذَلِكَ كَمَا يَعْتَرِي الْمَسْحُورَ. وَكُلُّ مَا جَاءَ فِي الرِّوَايَاتِ مِنْ أَنَّهُ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ فِعْلُ شَيْءٍ لَمْ يَفْعَلْهُ وَنَحْوُهُ فَمَحْمُولٌ عَلَى التَّخَيُّلِ بِالْبَصَرِ لَا كَالْخَلَلِ تَطَرَّقَ إِلَى الْعَقْلِ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يُدْخِلُ لَبْسًا عَلَى الرِّسَالَةِ وَلَا طَعْنًا لِأَهْلِ الضَّلَالَةِ والله أعلم ا. هـ.1. قُلْتُ: قَوْلُ الْمَازِرِيِّ خِلَافًا لِمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ, قَالَ ابْنُ هُبَيْرَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ السِّحْرَ لَهُ حَقِيقَةٌ, إِلَّا أَبَا حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ قَالَ: لَا حَقِيقَةَ لَهُ عِنْدَهُ. ثُمَّ ذَكَرَ الِاخْتِلَافَ فِي حُكْمِ السَّاحِرِ2, وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَعِنْدَنَا أَنَّ السِّحْرَ حَقٌّ وَلَهُ حَقِيقَةٌ يَخْلُقُ اللَّهُ عِنْدَهُ مَا يَشَاءُ, خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ وَأَبِي إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِينِيِّ حَيْثُ قَالُوا: إِنَّهُ تمويه وتخييل ا. هـ.3. قُلْتُ: قَدْ ثَبَتَ وَتَقَرَّرَ مِنْ هَذَا وَغَيْرِهِ تَحَقُّقُ السِّحْرِ وَتَأْثِيرِهِ بِإِذْنِ اللَّهِ بِظَوَاهِرِ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ وَأَقْوَالِ عَامَّةِ الصَّحَابَةِ وَجَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ بَعْدَهُمْ رِوَايَةً وَدِرَايَةً, فَأَمَّا الْقَتْلُ بِهِ وَالْأَمْرَاضُ وَالتَّفْرِقَةُ بَيْنَ المرء وزوجه وأخذه بِالْأَبْصَارِ فَحَقِيقَةٌ لَا مُكَابَرَةَ فِيهَا, وَأَمَّا قَلْبُ الْأَعْيَانِ كَقَلْبِ الْجَمَادِ حَيَوَانًا وَقَلْبِ الْحَيَوَانِ مَنْ شَكْلٍ إِلَى آخَرَ فَلَيْسَ بِمُحَالٍ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَا غَيْرَ مُمْكِنٍ, فَإِنَّهُ هُوَ الْفَاعِلُ فِي
البحث الثاني وهو حكم الساحر
الْحَقِيقَةِ وَهُوَ الْفَعَّالُ لِمَا يُرِيدُ, فَلَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يُحَوِّلَ اللَّهُ ذَلِكَ عِنْدَمَا يُلْقِي السَّاحِرُ مَا أَلْقَى امْتِحَانًا وَابْتِلَاءً وَفِتْنَةً لِعِبَادِهِ, وَلَكِنَّ الَّذِي أَخْبَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِهِ فِي الْوَاقِعِ مِنْ سَحَرَةِ فِرْعَوْنَ فِي قِصَّتِهِمْ مَعَ مُوسَى إِنَّمَا هُوَ التَّخْيِيلُ وَالْأَخْذُ بِالْأَبْصَارِ حَتَّى رَأَوُا الْحِبَالَ وَالْعِصِيَّ حَيَّاتٍ, فَنُؤْمِنُ بِالْخَبَرِ وَنُصَدِّقُهُ وَلَا نَتَعَدَّاهُ وَلَا نُبَدِّلُ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَنَا, وَلَا نَقُولُ عَلَى اللَّهِ مَا لَا نَعْلَمُ, وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. وَاحْكُمْ عَلَى السَّاحِرِ بِالتَّكْفِيرِ ... وَحَدُّهُ الْقَتْلُ بِلَا نَكِيرِ كَمَا أَتَى فِي السُّنَّةِ الْمُصَرِّحَهْ ... مِمَّا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ عَنْ جُنْدُبٍ وَهَكَذَا فِي أَثَرِ ... أَمَرَ بِقَتْلِهِمْ رُوِيَ عَنْ عُمَرِ وَصَحَّ عَنْ حَفْصَةَ عِنْدَ مَالِكِ ... مَا فِيهِ أَقْوَى مُرْشِدٍ لِلسَّالِكِ هَذَا هُوَ الْبَحْثُ الثَّانِي وَهُوَ حُكْمُ السَّاحِرِ: "وَاحْكُمْ عَلَى السَّاحِرِ" تَعَلَّمَهُ أَوْ عَلَّمَهُ, عَمِلَ بِهِ أَوْ لَمْ يَعْمَلْ "بِالتَّكْفِيرِ" أَيْ بِأَنَّهُ كَفَرَ بِهَذَا الذَّنْبِ الَّذِي هُوَ السِّحْرُ, وَذَلِكَ وَاضِحٌ صَرِيحٌ فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ بِأُمُورٍ: مِنْهَا سَبَبُ عُدُولِ الْيَهُودِ إِلَيْهِ وَهُوَ نَبْذُهُمُ الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الْبَقَرَةِ: 101] سَوَاءٌ أُرِيدَ بِالْكِتَابِ التَّوْرَاةُ الَّتِي بِأَيْدِيهِمْ أَوِ الْقُرْآنُ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, كُلُّ ذَلِكَ نَبْذُهُ كُفْرٌ, وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ السِّحْرَ لَا يَعْمَلُ إِلَّا مَعَ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ وَهَذَا مَعْلُومٌ مِنْ سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ, كَمَا قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَغَيْرُهُ: إِنَّ الْيَهُودَ سَأَلُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَمَانًا عن أمور من التَّوْرَاةِ لَا يَسْأَلُونَهُ عَنْ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ, إِلَّا أَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَا سَأَلُوهُ عَنْهُ فَيَخْصِمُهُمْ, فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ قَالُوا: هَذَا أَعْلَمُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْنَا مِنَّا, وَأَنَّهُمْ سَأَلُوهُ عَنِ السِّحْرِ وَخَاصَمُوهُ بِهِ, فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [الْبَقَرَةِ: 102] الْآيَاتِ1.
وَمِنْهَا قَوْلُهُ: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ} تَتَقَوَّلُهُ وَتُزَوِّرُهُ {عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} أَيْ: فِي مُلْكِهِ وَعَهْدِهِ, وَمَعْلُومٌ أَنَّ اسْتِبْدَالَ مَا تَتْلُوهُ الشَّيَاطِينُ وَتَتَقَوَّلُهُ وَالِانْقِيَادَ لَهُ وَالْعَمَلَ بِهِ عِوَضًا عَمَّا أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, هَذَا مِنْ أَعْظَمَ الْكُفْرِ, وَهُوَ مِنْ عِبَادَةِ الطَّاغُوتِ الَّتِي هِيَ أَصِلُ الْكُفْرِ, وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى طَاعَةَ الْعُلَمَاءِ وَالْأُمَرَاءِ فِي تَحْلِيلِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ أَوْ تَحْرِيمِ مَا أَحَلَّهُ, سَمَّى ذَلِكَ عِبَادَةً وَأَنَّهُ اتِّخَاذٌ لَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَالَ تَعَالَى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التَّوْبَةِ: 31] الْآيَةَ, قَالَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَتْلُوهَا: إِنَّا لَسْنَا نَعْبُدُهُمْ قَالَ: "أَلَيْسَ يُحِلُّونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَتُحِلُّونَهُ, وَيُحَرِّمُونَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فَتُحَرِّمُونَهُ"؟ قَالَ: بَلَى قَالَ: "فَتِلْكَ عبادتكم إياهم" 1؛ ولهدا قَالَ تَعَالَى بَعْدَهَا: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التَّوْبَةِ: 31] فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي طَاعَةِ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ فَكَيْفَ فِي طَاعَةِ الشَّيْطَانِ فِيمَا يُنَافِي الْوَحْيَ؟! فَهَلْ فَوْقَ هَذَا الشِّرْكِ مِنْ كُفْرٍ؟! {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} وَعِبَادَةُ الشَّيْطَانِ هِيَ اتِّبَاعُهُ فِيمَا أَمَرَ بِهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ وَدَعَا إِلَيْهِ, كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ: {إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} وَكَمَا يَقُولُ لِلْمُجْرِمِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ، وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ، وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} [يس: 60, 61] . وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} ، بَرَّأَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى نَبِيَّهُ عَلَيْهِ
السَّلَامُ مِنَ الكفر, وهذا الْكُفْرِ الَّذِي بَرَّأَهُ تَعَالَى مِنْهُ هُوَ عِلْمُ السَّاحِرِ وَعَمَلُهُ, وَإِنْ كَانَ بَرِيئًا مِنَ الْكُفْرِ كُلِّهِ مَعْصُومًا مِمَّا هُوَ دُونَهُ, لَكِنَّ سِيَاقَ الْآيَةِ فِي خُصُوصِ السِّحْرِ وَأَنَّهُ بَرِيءٌ مِنْهُ, وَلَوْ فُرِضَ وُجُودُ عَمَلِهِ بِهِ لَكَفَرَ لِأَنَّهُ شِرْكٌ وَالشِّرْكُ أَقْبَحُ الذُّنُوبِ وَأَعْظَمُ الْمُحْبِطَاتِ لِلْأَعْمَالِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي جَمِيعِ رُسُلِهِ سُلَيْمَانَ وَغَيْرِهِ -عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- بَعْدَ أَنْ ذَكَرَهُمْ: {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الْأَنْعَامِ: 88] وَهَذَا مَعْلُومٌ مِنْ أَصْلِ الْقِصَّةِ, فَإِنَّ الْيَهُودَ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ تَلَقَّوُا السِّحْرَ عَنِ الشَّيَاطِينِ وَنَسَبُوهُ إِلَى سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ, فَبَرَّأَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ إِفْكِهِمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ, كَمَا قَالَ مُجَاهِدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} قَالَ: كَانَتِ الشَّيَاطِينُ تَسْتَمِعُ الْوَحْيَ فَمَا سَمِعُوا مِنْ كَلِمَةٍ زَادُوا فِيهَا مِائَتَيْنِ مِثْلَهَا, فَأُرْسِلَ سُلَيْمَانُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- إِلَى مَا كَتَبُوا مِنْ ذَلِكَ, فَلَمَّا تُوُفِّيَ سُلَيْمَانُ وَجَدَتْهُ الشَّيَاطِينُ وَعَلَّمَتْهُ النَّاسَ وَهُوَ السِّحْرُ1. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: كَانَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَتَّبِعُ مَا فِي أَيْدِي الشَّيَاطِينِ مِنَ السِّحْرِ فَيَأْخُذُهُ مِنْهُمْ فَيَدْفِنُهُ تَحْتَ كُرْسِيِّهِ فِي بَيْتِ خِزَانَتِهِ, فَلَمْ تَقْدِرِ الشَّيَاطِينُ أَنْ يَصِلُوا إِلَيْهِ, فَدَنَتْ إِلَى الْإِنْسِ فَقَالُوا لَهُمْ: أَتَدْرُونَ مَا الْعِلْمُ الَّذِي كَانَ سُلَيْمَانُ يُسَخِّرُ بِهِ الشَّيَاطِينَ وَالرِّيَاحَ وَغَيْرَ ذَلِكَ؟ قَالُوا: نَعَمْ قَالُوا: فَإِنَّهُ في بيت خرانته وَتَحْتَ كُرْسِيِّهِ, فَاسْتَثَارَ بِهِ الْإِنْسُ وَاسْتَخْرَجُوهُ وَعَمِلُوا بِهِ, فَقَالَ أَهْلُ الْحِجَازِ, يَعْنِي الْيَهُودُ مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ: كَانَ سُلَيْمَانُ يَعْمَلُ بِهَذَا وَهَذَا سِحْرٌ, فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَرَاءَةَ سُلَيْمَانَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَقَالَ تَعَالَى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} 2. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ: عَمَدَتِ الشَّيَاطِينُ حِينَ عَرَفَتْ مَوْتَ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُدَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ, فَكَتَبُوا أَصْنَافَ السِّحْرِ, مَنْ كَانَ يُحِبُّ أَنْ يَبْلُغَ كَذَا وَكَذَا فَلْيَفْعَلْ كَذَا وَكَذَا, حَتَّى إِذَا صَنَّفُوا أَصْنَافَ السِّحْرِ جَعَلُوهُ
فِي كِتَابٍ ثُمَّ خَتَمُوهُ بِخَاتَمٍ عَلَى نَقْشِ خَاتَمِ سُلَيْمَانَ, وَكَتَبُوا فِي عُنْوَانِهِ: هَذَا مَا كَتَبَ آصَفُ بْنُ بَرْخِيَا الصِّدِّيقُ لِلْمَلِكِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ مِنْ ذَخَائِرِ كُنُوزِ الْعِلْمِ, ثُمَّ دَفَنُوهُ تَحْتَ كُرْسِيِّهِ وَاسْتَخْرَجَتْهُ بَعْدَ ذَلِكَ بَقَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ حَتَّى أَحْدَثُوا مَا أَحْدَثُوا, فَلَمَّا عَثَرُوا عَلَيْهِ قَالُوا: وَاللَّهِ مَا كَانَ مُلْكُ سُلَيْمَانَ إِلَّا بِهَذَا فَأَفْشَوُا السِّحْرَ فِي النَّاسِ فَتَعَلَّمُوهُ وَعَلَّمُوهُ, فَلَيْسَ هُوَ فِي أَحَدٍ أَكْثَرَ مِنْهُ فِي الْيَهُودِ لَعَنَهُمُ اللَّهُ, فَلَمَّا ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيمَا نَزَلَ عَلَيْهِ مِنَ اللَّهِ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُدَ وَعَدَّهُ فِيمَنْ عَدَّ مِنَ الْمُرْسَلِينَ, قَالَ مَنْ كَانَ بِالْمَدِينَةِ مِنَ الْيَهُودِ: تَعْجَبُونَ مِنْ مُحَمَّدٍ يَزْعُمُ أَنَّ ابْنَ دَاوُدَ كَانَ نَبِيًّا, وَاللَّهِ مَا كَانَ إِلَّا سَاحِرًا, وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} الْآيَةَ1. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ آصَفُ كَاتِبَ سُلَيْمَانَ وَكَانَ يَعْلَمُ الِاسْمَ الْأَعْظَمَ, وَكَانَ يَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ سُلَيْمَانَ وَيَدْفِنُهُ تَحْتَ كُرْسِيِّهِ, فَلَمَّا مَاتَ سُلَيْمَانُ أَخْرَجَتْهُ الشَّيَاطِينُ فَكَتَبُوا بَيْنَ كُلِّ سَطْرَيْنِ سِحْرًا وَكُفْرًا وَقَالُوا: هَذَا الَّذِي كَانَ سُلَيْمَانُ يَعْمَلُ بِهِ, قَالَ: فَأَكْفَرَهُ جُهَّالُ النَّاسِ وَسَبُّوهُ وَوَقَفَ عُلَمَاءُ النَّاسِ, فَلَمْ يَزَلْ جُهَّالُ النَّاسِ يَسُبُّونَهُ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} 2. وَتَفَاسِيرُ السَّلَفِ وَآثَارُهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ كَثِيرَةٌ جِدًّا, وَمَا كَانَ مِنْهُ إِسْرَائِيلِيًّا فَهُوَ مِنَ الْقِسْمِ الْمَقْبُولِ لِمُوَافَقَتِهِ ظَاهِرَ الْآيَةِ فِي أَنَّ الْيَهُودَ تَعَلَّمُوا السِّحْرَ مِنَ الشَّيَاطِينِ وَرَمَوْا بِهِ نَبِيَّ اللَّهِ سُلَيْمَانَ وَأَكْفَرُوهُ بِهِ وَسَبُّوهُ, وَخَاصَمُوا بِهِ مُحَمَّدًا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَنَبَذُوا كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ, فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى مَا لَبَّسُوهُ وَهَدَمَ مَا أَسَّسُوهُ وَبَرَّأَ نَبِيَّهُ سُلَيْمَانَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- مِمَّا ائْتَفَكُوهُ وَأَقَامَ الْحُجَّةَ عَلَيْهِمْ فِي بُطْلَانِ مَا انْتَحَلُوهُ, فَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ}
[الْبَقَرَةِ: 102] أَكْذَبَ اللَّهُ تَعَالَى الْيَهُودَ فِيمَا نَسَبُوهُ إِلَى نَبِيِّهِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِقَوْلِهِ: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} وَهُمْ إِنَّمَا نَسَبُوا السِّحْرَ إِلَيْهِ, وَلَازِمُ مَا نَسَبُوهُ إِلَيْهِ هُوَ الْكُفْرُ لِأَنَّ السِّحْرَ كُفْرٌ؛ وَلِهَذَا أَثْبَتَ كُفْرَ الشَّيَاطِينِ بِتَعْلِيمِهِمُ النَّاسَ السِّحْرَ فَقَالَ تَعَالَى: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ تَعَلَّمَ السِّحْرَ أَوْ عَلَّمَهُ أَوْ عَمِلَ بِهِ يَكْفُرُ كَكُفْرِ الشَّيَاطِينِ الَّذِينَ علموه الناس, إذا لَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ, بَلْ هُوَ تِلْمِيذُ الشَّيْطَانِ وَخِرِّيجُهُ, عَنْهُ رَوَى وَبِهِ تَخَرَّجَ وَإِيَّاهُ اتَّبَعَ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى فِي الْمَلَكَيْنِ: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ بِمُجَرَّدِ تَعَلُّمِهِ يَكْفُرُ سَوَاءٌ عَمِلَ بِهِ وَعَلَّمَهُ أَوْ لَا. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: فَإِذَا أَتَاهُمَا الْآتِي مُرِيدَ السِّحْرِ نَهَيَاهُ أَشَدَّ النَّهْيِ وَقَالَا لَهُ: إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ, وَذَلِكَ أَنَّهُمَا عَلِمَا الْخَيْرَ وَالشَّرَّ وَالْكُفْرَ وَالْإِيمَانَ فَعَرِفَا أَنَّ السِّحْرَ مِنَ الْكُفْرِ, قَالَ: فَإِذَا أَبَى عَلَيْهِمَا أَمَرَاهُ أَنْ يَأْتِيَ مَكَانَ كَذَا وَكَذَا فَإِذَا أَتَى عَايَنَ الشَّيْطَانَ فَعَلَّمَهُ, فَإِذَا تَعَلَّمَهُ خَرَجَ مِنْهُ النُّورُ فَنَظَرَ إِلَيْهِ سَاطِعًا فِي السَّمَاءِ فَيَقُولُ: يَا حَسْرَتَاهُ, يا وَيْلَهُ, مَاذَا صَنَعَ؟! 1. وروى ابن أبي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: نَعَمْ, أُنْزِلَ الْمَلَكَانِ بِالسِّحْرِ لِيُعَلِّمَا النَّاسَ الْبَلَاءَ الَّذِي أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَبْتَلِيَ بِهِ النَّاسَ, فَأُخِذَ عَلَيْهِمَا الْمِيثَاقُ أَنْ لَا يُعَلِّمَا أَحَدًا حَتَّى يَقُولَا: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرُ} 2. وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَ أَخَذَ عَلَيْهِمَا أَنْ لَا يُعَلِّمَا أَحَدًا حَتَّى يَقُولَا: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ} أَيْ: بَلَاءٌ ابْتُلِينَا بِهِ {فَلَا تَكْفُرْ} 3. وَقَالَ السُّدِّيُّ: إِذَا أَتَاهُمَا إِنْسَانٌ يُرِيدُ السِّحْرَ وَعَظَاهُ وَقَالَا لَهُ: لَا تَكْفُرْ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ, فَإِذَا أَبَى قَالَا لَهُ: ائْتِ هَذَا الرَّمَادَ فَبُلْ عَلَيْهِ, فَإِذَا بَالَ عَلَيْهِ خَرَجَ مِنْهُ نُورٌ فَسَطَعَ حَتَّى يَدْخُلَ السَّمَاءَ وَذَلِكَ الْإِيمَانُ, وَأَقْبَلَ شَيْءٌ أَسْوَدُ كَهَيْئَةِ الدُّخَانِ حَتَّى يَدْخُلَ فِي مَسَامِعِهِ وَكُلِّ شَيْءٍ وَذَلِكَ غَضَبُ اللَّهِ, فَإِذَا أَخْبَرَهُمَا بِذَلِكَ عَلَّمَاهُ السِّحْرَ, فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ}
المبحث الثالث: وهو عقوبة الساحر شرعا ووعيدا
الْآيَةَ1. وَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: لَا يَجْتَرِئُ عَلَى السِّحْرِ إِلَّا كَافِرٌ, وَالْفِتْنَةُ هِيَ الْمِحَنُهُ وَالِاخْتِبَارُ2. وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} [الْبَقَرَةِ: 102] يَعْنِي: مِنْ حَظٍّ وَلَا نَصِيبٍ, وَهَذَا الْوَعِيدُ لَمْ يُطْلَقْ إِلَّا فِيمَا هُوَ كُفْرٌ لَا بَقَاءَ لِلْإِيمَانِ مَعَهُ, فَإِنَّهُ مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إِلَّا ويدخل الْجَنَّةَ, وَكَفَى بِدُخُولِ الْجَنَّةِ خَلَاقًا, وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا نَفْسٌ مُؤْمِنَةٌ, ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [الْبَقَرَةِ: 102] . وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا} يُعْنَى: بِمُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالْقُرْآنِ {وَاتَّقَوْا} بِالسِّحْرِ وَسَائِرِ الذُّنُوبِ {لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [الْبَقَرَةِ: 103] وَهَذَا مِنْ أَصْرَحِ الْأَدِلَّةِ عَلَى كُفْرِ السَّاحِرِ وَنَفْيِ الْإِيمَانِ عَنْهُ بِالْكُلِّيَّةِ, فَإِنَّهُ لَا يُقَالُ لِلْمُؤْمِنِ الْمُتَّقِي: وَلَوْ أَنَّهُ آمَنَ وَاتَّقَى, وإنما قَالَ تَعَالَى ذَلِكَ لِمَنْ كَفَرَ وَفَجَرَ وَعَمِلَ بِالسِّحْرِ وَاتَّبَعَهُ وَخَاصَمَ بِهِ رَسُولَهُ وَرَمَى بِهِ نَبِيَّهُ وَنَبَذَ الْكِتَابَ وَرَاءَ ظَهْرِهِ, وَهَذَا ظَاهِرٌ لَا غُبَارَ عَلَيْهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ أَئِمَّةُ السَّلَفِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الْقَدْرِ الَّذِي يَصِيرُ بِهِ كَافِرًا3. وَالصَّحِيحُ أَنَّ السِّحْرَ الْمُتَعَلَّمَ مِنَ الشَّيَاطِينِ كُلُّهُ كُفْرٌ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ, كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ. [الْمَبْحَثُ الثَّالِثُ: وَهُوَ عُقُوبَةُ السَّاحِرِ شَرْعًا وَوَعِيدًا] : "وَحَدُّهُ" أَيْ: حَدُّ السَّاحِرِ "الْقَتْلُ" ضَرْبُهُ بِالسَّيْفِ "بِلَا نَكِيرٍ" بَلْ هُوَ ثَابِتٌ بِالْكِتَابِ مِنْ عُمُومِ النُّصُوصِ فِي الْكُفَّارِ الْمُرْتَدِّينَ وَغَيْرِهِمْ "كَمَا أَتَى" ثَابِتًا "فِي السُّنَّةِ الْمُصَرِّحَةِ" الثَّابِتَةِ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "مِمَّا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ" مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ سَوْرَةَ -بِمُهْمَلَتَيْنِ- بن مُوسَى بْنِ الضَّحَّاكِ السُّلَمِيُّ, أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ الْحَافِظُ الضَّرِيرُ, أَحَدُ الْأَعْلَامِ وَصَاحِبُ الْجَامِعِ وَالتَّفْسِيرِ عَنْ خَلْقٍ مَذْكُورِينَ فِي تَرَاجِمِهِمْ
مِنْ جَامِعِهِ وَغَيْرِهِ, وَعَنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ السَّمَرْقَنْدِيُّ وَحَمَّادُ بْنُ شُكْرٍ وَأَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْمَحْبُوبِيُّ رَاوِي الْجَامِعِ وَالْهَيْثَمُ بْنُ كُلَيْبٍ وَخَلْقٌ مِنْ أَهْلِ سَمَرْقَنْدَ وَنَسَفَ وَتِلْكَ الدِّيَارِ, وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: كَانَ مِمَّنْ جَمَعَ وَصَنَّفَ, قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْمُسْتَغْفَرِيُّ: مَاتَ سَنَةَ تِسْعٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ, مَرْفُوعًا "وَصَحَّحَهُ" مَوْقُوفًا "عَنْ جُنْدُبٍ" هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُفْيَانَ الْبَجَلِيُّ الْعَلْقَمِيُّ, أَوِ الْعَلَقِيُّ لَهُ ثَلَاثَةٌ وَأَرْبَعُونَ حَدِيثًا, اتَّفَقَا عَلَى سَبْعَةٍ وَانْفَرَدَ مُسْلِمٌ بِخَمْسَةٍ. رَوَى عَنْهُ الْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ وَأَبُو مِجْلَزٍ, مَاتَ بَعْدَ السِّتِّينَ, وَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: "بَابُ مَا جَاءَ فِي حَدِّ السَّاحِرِ" حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ جُنْدُبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "حَدُّ السَّاحِرِ ضَرْبُهُ بِالسَّيْفِ" هَذَا حَدِيثٌ لَا نَعْرِفُهُ مَرْفُوعًا إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ, وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ مُسْلِمٍ الْمَكِّيُّ يُضَعَّفُ فِي الْحَدِيثِ مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِ, وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ مُسْلِمٍ الْعَبْدِيُّ الْبَصْرِيُّ قَالَ وَكِيعٌ: هُوَ ثِقَةٌ وَيُرْوَى عَنِ الْحَسَنِ أَيْضًا وَالصَّحِيحُ عَنْ جُنْدُبٍ مَوْقُوفًا وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَغَيْرِهِمْ, وَهُوَ قَوْلُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ, وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنَّمَا يُقْتَلُ السَّاحِرُ إِذَا كَانَ يَعْمَلُ مِنْ سِحْرِهِ مَا يَبْلُغُ الْكُفْرَ, فَإِذَا عَمِلَ عَمَلًا دُونَ الْكُفْرِ فَلَمْ يَرَ عَلَيْهِ قَتْلًا1. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: مَا يَبْلُغُ الْكُفْرَ أَيْ: مَا كَانَ فِيهِ اعْتِقَادُ التَّصَرُّفِ لِغَيْرِ اللَّهِ وَصَرْفُ الْعِبَادَةِ لَهُ كَمَا يَفْعَلُهُ عُبَّادُ هَيَاكِلِ النُّجُومِ, مِنْ أَهْلِ بَابِلَ وَغَيْرِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. "وَهَكَذَا فِي أَثَرٍ أَمَرَ بِقَتْلِهِمْ" يَعْنِي: السَّحَرَةَ "رُوِيَ عَنْ عُمَرَ" ابْنِ الْخَطَّابِ بْنِ نُفَيْلِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى الْعَدَوِيِّ أَبِي حَفْصٍ الْمَدَنِيِّ أَحَدِ فُقَهَاءِ الصَّحَابَةِ, ثَانِي الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَأَحَدِ الْعَشْرَةِ الْمَشْهُودِ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ وَأَوَّلِ مَنْ سُمِّيَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ, لَهُ خَمْسُمِائَةٍ وَتِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ حَدِيثًا, اتَّفَقَا عَلَى عَشَرَةٍ وانفرد البخاري بتسعة وَمُسْلِمٌ بِخَمْسَةَ عَشَرَ, وَعَنْهُ أَبْنَاؤُهُ: عَبْدُ اللَّهِ وَعَاصِمٌ وَعُبَيْدُ اللَّهِ وَعَلْقَمَةُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَغَيْرُهُمْ, شَهِدَ بَدْرًا وَالْمَشَاهِدَ وَالْمَوَاقِفَ, وَوَلِيَ أَمْرَ الْخِلَافَةِ بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا, وَفَتَحَ فِي أَيَّامِهِ عِدَّةَ أَمْصَارٍ, أَسْلَمَ بَعْدَ أَرْبَعِينَ
رَجُلًا, عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- مَرْفُوعًا: "إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ وَقَلْبِهِ" 1. وَلَمَّا دُفِنَ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ذُهِبَ الْيَوْمَ بِتِسْعَةِ أَعْشَارِ الْعِلْمِ2. اسْتُشْهِدَ فِي آخِرِ سَنَةِ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ وَدُفِنَ فِي أَوَّلِ سَنَةِ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ فِي الْحُجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ وَصَلَّى عَلَيْهِ صُهَيْبٌ, وَمَنَاقِبُهُ جَمَّةٌ قَدْ أُفْرِدَتْ فِي مُجَلَّدَاتٍ. وَهَذَا الْأَثَرُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ فِي الْبَابِ هُوَ مَا رَوَاهُ الْإِمَامَانِ الْجَلِيلَانِ: أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ الشَّيْبَانِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَا: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ أَنَّهُ سَمِعَ بَجَالَةَ بْنَ عَبْدَةَ يَقُولُ: كَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنِ اقْتُلُوا كُلَّ سَاحِرٍ وَسَاحِرَةٍ, قَالَ: فَقَتَلْنَا ثَلَاثَ سَوَاحِرَ3. "وَصَحَّ" نَقْلًا "عَنْ حَفْصَةَ" بِنْتِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ الْعَدَوِيَّةِ, أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا "عِنْدَ مَالِكِ" ابن أَنَسِ بْنِ مَالِكِ بْنِ أَبِي عَامِرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ الْأَصْبَحِيِّ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْمَدَنِيِّ, أَحَدِ الْأَعْلَامِ فِي الْإِسْلَامِ وَإِمَامِ دَارِ الْهِجْرَةِ, وُلِدَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ وَحُمِلَ بِهِ ثَلَاثَ سِنِينَ, وَتُوُفِّيَ سَنَةَ تِسْعٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَرَضِيَ عَنْهُ "مَا" أَيِ: الَّذِي "فِيهِ أَقْوَى" دَلِيلٍ "مُرْشِدٍ لِلسَّالِكِ" وَهُوَ مَا رواه في موطئه فِي "بَابِ مَا جَاءَ فِي الْغِيلَةِ وَالسِّحْرِ مِنْ كِتَابِ الْعُقُولِ: عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعْدِ بْنِ زُرَارَةَ, أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ حَفْصَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَتَلَتْ جَارِيَةً لَهَا سَحَرَتْهَا, وَقَدْ كَانَتْ دَبَّرَتْهَا فَأَمَرَتْ بِهَا فَقُتِلَتْ, قَالَ مَالِكٌ: السَّاحِرُ الَّذِي يَعْمَلُ السِّحْرَ وَلَمْ يَعْمَلْ ذَلِكَ لَهُ غَيْرُهُ هُوَ مِثْلُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} فَأَرَى أَنْ يُقْتَلَ ذَلِكَ إِذَا عَمِلَ ذَلِكَ هُوَ نَفْسُهُ"ا. هـ.4. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى: وَقَدْ رُوِيَ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ كَانَ عِنْدَهُ سَاحِرٌ يَلْعَبُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَكَانَ يَضْرِبُ رَأْسَ الرَّجُلِ ثُمَّ يَصِيحُ بِهِ فَيُرَدُّ إليه رأسه, وقال النَّاسُ: سُبْحَانَ اللَّهِ يُحْيِي الْمَوْتَى! وَرَآهُ رَجُلٌ مِنْ صَالِحِ الْمُهَاجِرِينَ فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ جَاءَ مُشْتَمِلًا عَلَى سَيْفِهِ وَذَهَبَ يَلْعَبُ لِعْبَهُ ذَلِكَ, فَاخْتَرَطَ الرَّجُلُ سَيْفَهُ فَضَرَبَ عُنُقَ السَّاحِرِ وَقَالَ: إِنْ كَانَ صَادِقًا فَلْيُحْيِ نَفْسَهُ, وَتَلَا قَوْلَهُ تَعَالَى: {أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 3] فَغَضِبَ الْوَلِيدُ إِذْ لَمْ يَسْتَأْذِنْهُ فِي ذَلِكَ فَسَجَنَهُ ثُمَّ أَطْلَقَهُ, وَاللَّهُ أَعْلَمُ1. وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ حَدَّثَنِي أَبِي أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنِي أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ حَارِثَةَ قَالَ: كَانَ عِنْدَ بَعْضِ الْأُمَرَاءِ رَجُلٌ يَلْعَبُ, فَجَاءَ جُنْدُبٌ مُشْتَمِلًا عَلَى سَيْفِهِ فَقَتَلَهُ قَالَ: آرَاهُ كَانَ سَاحِرًا2. وَحَمَلَ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- قِصَّةَ عُمَرَ وَحَفْصَةَ عَلَى سِحْرٍ يَكُونُ شِرْكًا3, وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: فَصْلٌ: وَقَدْ ذَكَرَ الْوَزِيرُ أَبُو الْمُظَفَّرِ يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ هُبَيْرَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَنْ يَتَعَلَّمُ السِّحْرَ وَيَسْتَعْمِلُهُ, فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ: يَكْفُرُ بِذَلِكَ, وَمِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ مَنْ قَالَ: إِنْ تَعَلَّمَهُ لِيَتَّقِيَهُ أَوْ لِيَتَجَنَّبَهُ فَلَا يَكْفُرُ, وَمَنْ تَعَلَّمَهُ مُعْتَقِدًا جَوَازَهُ أَوْ أَنَّهُ يَنْفَعُهُ كَفَرَ, وَكَذَا مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ الشَّيَاطِينَ تَفْعَلُ لَهُ مَا يَشَاءُ فَهُوَ كَافِرٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: إِذَا تَعَلَّمَ
السِّحْرَ قُلْنَا لَهُ: صِفْ لَنَا سِحْرَكَ, فَإِنَّ وَصَفَ مَا يُوجِبُ الْكُفْرَ مِثْلَ مَا اعْتَقَدَهُ أَهْلُ بَابِلَ مِنَ التَّقَرُّبِ إِلَى الْكَوَاكِبِ السَّبْعَةِ وَأَنَّهَا تَفْعَلُ مَا يُلْتَمَسُ مِنْهَا فَهُوَ كَافِرٌ, وَإِنْ كَانَ لَا يُوجِبُ الْكُفْرَ فَإِنِ اعْتَقَدَ إِبَاحَتَهُ فَهُوَ كَافِرٌ. قَالَ ابْنُ هُبَيْرَةَ وَهَلْ يُقْتَلُ بِمُجَرَّدِ فِعْلِهِ وَاسْتِعْمَالِهِ؟ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ: نَعَمْ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَا فَأَمَّا إِنْ قتل بسحره إنسان فَإِنَّهُ يُقْتَلُ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ, وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُقْتَلُ حَتَّى يَتَكَرَّرَ مِنْهُ ذَلِكَ أَوْ يُقِرَّ بِذَلِكَ فِي حَقِّ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ وَإِذًا فَإِنَّهُ يُقْتَلُ حَدًّا عِنْدَهُمْ إِلَّا الشَّافِعِيُّ فَإِنَّهُ قَالَ: يُقْتَلُ والحالة هذه قصاص قَالَ: وَهَلْ إِذَا تَابَ السَّاحِرُ تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ؟ فَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ: لَا تُقْبَلُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ فِي الرِّوَايَةِ: تُقْبَلُ, وَأَمَّا سَاحِرُ أَهْلِ الْكِتَابِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُقْتَلُ كَمَا يُقْتَلُ السَّاحِرُ إِذَا كَانَ مُسْلِمًا, وَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يُقْتَلُ, يُعْفَى لِقِصَّةِ لَبِيدِ بْنِ الْأَعْصَمِ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُسْلِمَةِ السَّاحِرَةِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا لَا تُقْتَلُ وَلَكِنْ تُحْبَسُ, وَقَالَ الثَّلَاثَةُ: حُكْمُهَا حُكْمُ الرَّجُلِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ1. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْمَرْوَزِيُّ قَالَ: قَرَأَ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ -يَعْنِي أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ- عُمَرُ بْنُ هَارُونَ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: يُقْتَلُ سَاحِرُ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يُقْتَلُ سَاحِرُ الْمُشْرِكِينَ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَحَرَتْهُ امْرَأَةٌ مِنَ الْيَهُودِ فَلَمْ يَقْتُلْهَا2. وَقَدْ نَقَلَ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ قَالَ فِي الذِّمِّيِّ: يُقْتَلُ إِنْ قَتَلَ سِحْرُهُ3. وَحَكَى ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادُ عَنْ مَالِكٍ رِوَايَتَيْنِ فِي الذِّمِّيِّ إِذَا سَحَرَ أَحَدًا: الْأُولَى أنه يستتاب إن أَسْلَمَ وَإِلَّا قُتِلَ, وَالثَّانِيَةُ: أَنَّهُ يُقْتَلُ وَإِنْ أَسْلَمَ. وَأَمَّا السَّاحِرُ الْمُسْلِمُ فَإِنْ تَضَمَّنَ سِحْرُهُ كُفْرًا كَفَرَ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} لَكِنْ قَالَ مَالِكٌ: إِذَا ظَهَرَ عَلَيْهِ لَمْ تُقْبَلْ تَوْبَتُهُ؛ لِأَنَّهُ كَالزِّنْدِيقِ, فَإِنْ تَابَ قَبْلَ أَنْ يَظْهَرَ عَلَيْهِ وَجَاءَنَا تَائِبًا قَبِلْنَاهُ, فَإِنْ
البحث الرابع وهو "بيان أنواعه"
قَتَلَ بِسِحْرِهِ قُتِلَ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَإِنْ قَالَ: لَمْ أَتَعَمَّدِ الْقَتْلَ فَهُوَ مُخْطِئٌ, عَلَيْهِ الدِّيَةُ1. هَذَا وَمِنْ أَنْوَاعِهِ وَشُعَبِهْ ... عَلَمُ النُّجُومِ فَادِرِ هَذَا وَانْتَبِهْ هَذَا هُوَ الْبَحْثُ الرَّابِعُ وَهُوَ "بَيَانُ أَنْوَاعِهِ": فَمِنْهَا عِلْمُ التَّنْجِيمِ وَهُوَ أَنْوَاعٌ: أَعْظَمُهَا مَا يَفْعَلُهُ عَبْدَةُ النُّجُومِ وَيَعْتَقِدُونَهُ فِي السَّبْعَةِ السَّيَّارَةِ وَغَيْرِهَا, فَقَدْ بَنَوْا بُيُوتًا لِأَجْلِهَا وَصَوَّرُوا فِيهَا تَمَاثِيلَ سَمَّوْهَا بِأَسْمَاءِ النُّجُومِ, وَجَعَلُوا لَهَا مَنَاسِكَ وَشَرَائِعَ يَعْبُدُونَهَا بِكَيْفِيَّاتِهَا, وَيَلْبَسُونَ لَهَا لِبَاسًا خَاصًّا وَحِلْيَةً خَاصَّةً وَيَنْحَرُونَ لَهَا مِنَ الْأَنْعَامِ أَجْنَاسًا خَاصَّةً, لِكُلِّ نَجْمٍ مِنْهَا جِنْسٌ زَعَمُوا أَنَّهُ يُنَاسِبُهُ, وَكُلُّ نَجْمٍ جَعَلُوا لِعِبَادَتِهِ أَوْقَاتًا مَخْصُوصَةً كَأَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ, وَاعْتَقَدُوا تَصَرُّفَهَا فِي الْكَوْنِ. وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ عَنْ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ بِبَابِلَ وَغَيْرِهَا, وَإِيَّاهُمْ خَاطَبَ فِيمَا حَكَى اللَّهُ عنهم متحديا لهم مُبَيِّنًا سَخَافَةَ عُقُولِهِمْ وَضَلَالَ قُلُوبِهِمْ, قَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ، فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ، فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ، فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} [الْأَنْعَامِ: 75-78] إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ. وَمِنْهَا مَا يَفْعَلُهُ مَنْ يَكْتُبُ حُرُوفَ أَبِي جَادَ وَيَجْعَلُ لِكُلِّ حَرْفٍ مِنْهَا قَدْرًا مِنَ الْعَدَدِ مَعْلُومًا, وَيُجْرِي عَلَى ذَلِكَ أَسْمَاءَ الْآدَمِيِّينَ وَالْأَزْمِنَةَ وَالْأَمْكِنَةَ وَغَيْرَهَا, وَيَجْمَعُ جَمْعًا مَعْرُوفًا عِنْدَهُ, وَيَطْرَحُ مِنْهَا طَرْحًا خَاصًّا, وَيُثْبِتُ إِثْبَاتًا خَاصًّا وَيَنْسِبُهُ إِلَى الْأَبْرَاجِ الِاثْنَيْ عَشَرَ الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَ أَهِلِ الْحِسَابِ, ثُمَّ يَحْكُمُ عَلَى تِلْكَ الْقَوَاعِدِ بالسعود والنحوس وغيرهما مِمَّا يُوحِيهِ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ, وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يُغَيِّرُ الِاسْمَ لِأَجْلِ ذَلِكَ وَيُفَرِّقُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ بِذَلِكَ, وَيَعْتَقِدُ أَنَّهُمْ إِنْ جَمَعَهُمْ بَيْتٌ لَا
يَعِيشُ أَحَدُهُمْ. وَقَدْ يَتَحَكَّمُ بِذَلِكَ فِي الْغَيْبِ فَيَدَّعِي أَنَّ هَذَا يُولَدُ لَهُ وَهَذَا لَا, وَهَذَا الذَّكَرُ وَهَذَا الْأُنْثَى, وَهَذَا يَكُونُ غَنِيًّا وَهَذَا يَكُونُ فَقِيرًا, وَهَذَا يَكُونُ شَرِيفًا وَهَذَا وَضِيعًا, وَهَذَا مُحَبَّبًا وَهَذَا مُبْغَضًا, كَأَنَّهُ هُوَ الْكَاتِبُ ذَلِكَ لِلْجَنِينِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ, لَا وَاللَّهِ لَا يَدْرِيهِ الْمَلَكُ الَّذِي يَكْتُبُ ذَلِكَ حَتَّى يَسْأَلَ رَبَّهُ أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ شَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ؟ مَا الرِّزْقُ وَمَا الْأَجَلُ؟ فَيَقُولُ لَهُ فَيَكْتُبُ. وَهَذَا الْكَاذِبُ الْمُفْتَرِي يَدَّعِي عِلْمَ مَا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ وَيَدَّعِي أَنَّهُ يُدْرِكُهُ بِصِنَاعَةٍ اخْتَرَقَهَا, وَأَكَاذِيبَ اخْتَلَقَهَا وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الشِّرْكِ فِي الرُّبُوبِيَّةِ, وَمَنْ صَدَّقَهُ بِهِ وَاعْتَقَدَهُ فِيهِ كَفَرَ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ. وَمِنْهَا النَّظَرُ فِي حَرَكَاتِ الْأَفْلَاكِ وَدَوَرَانِهَا وَطُلُوعِهَا وَغُرُوبِهَا وَاقْتِرَانِهَا وَافْتِرَاقِهَا مُعْتَقِدِينَ أَنَّ لِكُلِّ نَجْمٍ مِنْهَا تَأْثِيرَاتٍ فِي كُلِّ حَرَكَاتِهِ مُنْفَرِدًا, وَلَهُ تَأْثِيرَاتٍ أُخَرَ عِنْدَ اقْتِرَانِهِ بِغَيْرِهِ فِي غَلَاءِ الْأَسْعَارِ وَرُخْصِهَا وَهُبُوبِ الرِّيَاحِ وَسُكُونِهَا وَوُقُوعِ الْكَوَائِنِ وَالْحَوَادِثِ. وَقَدْ يَنْسِبُونَ ذَلِكَ إِلَيْهَا مُطْلَقًا. وَمِنْ هَذَا الْقِسْمِ الِاسْتِسْقَاءُ بِالْأَنْوَاءِ وَسَيَأْتِي الْحَدِيثُ فِيهِ عِنْدَ ذِكْرِهِ فِي الْمَتْنِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَبِهِ الثِّقَةُ. وَمِنْهَا النَّظَرُ فِي مَنَازِلِ الْقَمَرِ الثَّمَانِيَةِ وَالْعِشْرِينَ مَعَ اعْتِقَادِ التَّأْثِيرَاتِ فِي اقْتِرَانِ الْقَمَرِ بِكُلٍّ مِنْهَا وَمُفَارَقَتِهِ, وَأَنَّ فِي تِلْكَ سُعُودًا أَوْ نُحُوسًا وَتَأْلِيفًا وَتَفْرِيقًا وَغَيْرَ ذَلِكَ, وَكُلُّ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ اعْتِقَادُ صِدْقِهَا مُحَادَّةٌ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَكْذِيبٌ بِشَرْعِهِ وَتَنْزِيلِهِ, وَاتِّبَاعٌ لِزَخَارِفِ الشَّيْطَانِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِذَلِكَ مِنْ سُلْطَانٍ, وَالنَّجْمُ مَخْلُوقٌ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ مَرْبُوبٌ مُسَخَّرٌ مُدَبَّرٌ كَائِنٌ بَعْدَ أَنْ لم يكن, مسبوق بِالْعَدَمِ الْمَحْضِ مُتَعَقَّبٌ بِهِ لَيْسَ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي حركة في الْكَوْنِ وَلَا سُكُونٍ لَا فِي نَفْسِهِ وَلَا فِي غَيْرِهِ, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الْأَعْرَافِ: 54] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فُصِّلَتْ: 37] وَقَالَ تَعَالَى: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ، وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ، لَا
الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 37-40] وَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا، وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الْفَرْقَانِ: 61، 62] وَقَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الْأَنْعَامِ: 97] وَقَالَ تَعَالَى: {وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النَّحْلِ: 66] وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ، وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ، لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ، إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [الصَّافَّاتِ: 6-10] وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ} [الْمُلْكِ: 5] وَقَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ} [يُونُسَ: 5] وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ, وَقَالَ تَعَالَى فِي ذَهَابِهَا وَفَنَائِهَا وَعَوْدِهَا إِلَى الْعَدَمِ كَمَا أُوجِدَتْ بَعْدَ الْعَدَمِ: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ، وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ} [التَّكْوِيرِ: 1، 2] وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ} [الِانْفِطَارِ: 2] وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَخَسَفَ الْقَمَرُ، وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} [الْقِيَامَةِ: 8، 9] . وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ قَتَادَةَ الْإِمَامِ فِي التَّفْسِيرِ وَغَيْرِهِ, قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّمَا جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ هَذِهِ النُّجُومَ لِثَلَاثِ خِصَالٍ؛ جَعَلَهَا زِينَةً لِلسَّمَاءِ وَجَعَلَهَا يُهْتَدَى بِهَا وَجَعَلَهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ. فَمَنْ تَعَاطَى فِيهَا غَيْرَ ذَلِكَ فَقَدْ قَالَ بِرَأْيِهِ وَأَخْطَأَ حَظَّهُ وَأَضَاعَ نَصِيبَهُ وَتَكَلَّفَ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ, وَإِنَّ نَاسًا جَهَلَةً بِأَمْرِ اللَّهِ قَدْ أَحْدَثُوا مِنْ هَذِهِ النُّجُومِ كِهَانَةً, مَنْ أَعْرَسَ بِنَجْمِ كَذَا وَكَذَا كَانَ كَذَا وَكَذَا, وَمَنْ سَافَرَ بِنَجْمِ كَذَا وَكَذَا كَانَ كَذَا وَكَذَا, وَمَنْ وُلِدَ بِنَجْمِ كَذَا وَكَذَا كَانَ كَذَا وَكَذَا, وَلَعَمْرِي مَا مِنْ نَجْمٍ إِلَّا يُولَدُ بِهِ الْأَحْمَرُ والأسود والقصير وَالطَّوِيلُ وَالْحَسَنُ وَالدَّمِيمُ, وَمَا عَلَى هَذَا النَّجْمِ وَهَذِهِ الدَّابَّةِ وَهَذَا الطَّيْرِ بِشَيْءٍ مِنَ الْغَيْبِ, وَقَضَى اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ: {لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النَّمْلِ: 65] 1. وَهَذَا كَلَامٌ جَلِيلٌ مَتِينٌ صَحِيحٌ, وَأَصْلُهُ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ تَعْلِيقًا2. وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِ الطِّبِّ مِنْ سُنَنِهِ "بَابٌ فِي النُّجُومِ": حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَمُسَدَّدٌ, الْمَعْنَى, قَالَا: حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَخْنَسِ عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَاهَكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنِ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنَ النُّجُومِ فَقَدِ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنَ السِّحْرِ, زَادَ مَا زَادَ" 3 وَذَكَرَ حَدِيثَ النَّوْءِ. وَرَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ رَجَاءِ بْنِ حَيْوَةَ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إِنَّمَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي التَّصْدِيقَ بِالنُّجُومِ, وَالتَّكْذِيبَ بِالْقَدَرِ, وَحَيْفَ الْأَئِمَّةِ" 4. وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ وَحَسَّنَهُ عَنْ أَبِي مِحْجَنٍ مَرْفُوعًا: "أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي ثَلَاثًا: حَيْفَ الْأَئِمَّةِ, وَإِيمَانًا بِالنُّجُومِ, وَتَكْذِيبًا بِالْقَدَرِ"5. وَرَوَى أَبُو يَعْلَى وَابْنُ عَدِيٍّ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا: "أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي بَعْدِي خَصْلَتَيْنِ: تَكْذِيبًا بِالْقَدَرِ, وَإِيمَانًا بِالنُّجُومِ"6. وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- مَرْفُوعًا: "رُبَّ مُعَلِّمٍ حُرُوفَ أَبِي جَادَ دَارِسٍ فِي النُّجُومِ, لَيْسَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ خَلَاقٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"7 وَرَوَاهُ حُمَيْدُ بْنُ زَنْجَوَيْهِ عَنْهُ بِلَفْظِ: "رُبَّ نَاظِرٍ فِي النُّجُومِ وَمُتَعَلِّمٍ حُرُوفَ أَبِي جَادٍ لَيْسَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ خَلَاقٌ"8.
وَمِنْ أَنْوَاعِ السِّحْرِ: زَجْرُ الطَّيْرِ وَالْخَطُّ بِالْأَرْضِ. قَالَ أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا عَوْفٌ حَدَّثَنَا حَيَّانُ -قَالَ غَيْرُ مُسَدَّدٍ: حَيَّانُ بْنُ الْعَلَاءِ- حَدَّثَنَا قَطَنُ بْنُ قُبَيْصَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "الْعِيَافَةُ وَالطِّيَرَةُ وَالطَّرْقُ مِنَ الْجِبْتِ" وَرَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ1. وَالْجِبْتُ هُوَ السِّحْرُ قَالَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ, وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَمُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَغَيْرُهُمْ2. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ أَيْضًا الْجِبْتُ الشَّيْطَانُ3, وَلَا يُنَافِي الْأَوَّلَ لِأَنَّ السِّحْرَ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ, وَعَنْهُ أَيْضًا الْجِبْتُ الشِّرْكُ4, وَعَنْهُ الْجِبْتُ الْأَصْنَامُ5, وَعَنْهُ الْجِبْتُ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ6, وَعَنِ الشَّعْبِيِّ الْجِبْتُ كَاهِنٌ7, وَعَنْ مُجَاهِدٍ الْجِبْتٌ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ8, وَلَا مُنَافَاةَ أَيْضًا فَإِنَّ السِّحْرَ مِنَ الشِّرْكِ الَّذِي يَشْمَلُهُ عِبَادَةُ غير الله, وحي بْنُ أَخْطَبَ وَكَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ مِمَّنْ خَاصَمَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالسِّحْرِ وَالْكَاهِنُ عَامِلٌ بِالسِّحْرِ, وَقَالَ فِي الْقَامُوسِ: الْجِبْتُ بِالْكَسْرِ الصَّنَمُ وَالْكَاهِنُ وَالسَّاحِرُ وَالسِّحْرُ وَالَّذِي لَا خَيْرَ فِيهِ وَكُلُّ مَا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ9. وَمِنْ أَنْوَاعِهِ: الْعَقْدُ وَالنَّفْثُ فِيهِ, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الْفَلَقِ: 4] وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ لَبِيدِ بْنِ الْأَعْصَمِ, وَقَدْ ثَبَتَ فِي حَدِيثِ نُزُولِ الْمُعَوِّذَتَيْنِ وَرُقَيَّةِ جِبْرِيلَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِهِمَا أَنَّهُ كَانَ كُلَّمَا قَرَأَ آيَةً
انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ1. وَقَالَ النَّسَائِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِ تَحْرِيمِ الدَّمِ مِنْ سُنَنِهِ "الْحُكْمُ فِي السَّحَرَةِ": أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ مَيْسَرَةَ الْمُنَقِّرِيُّ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ عَقَدَ عُقْدَةً ثُمَّ نَفَثَ فِيهَا فَقَدْ سَحَرَ, وَمَنْ سَحَرَ فَقَدْ أَشْرَكَ, وَمَنْ تَعَلَّقَ شَيْئًا وُكِّلَ إِلَيْهِ"2. وَقَدْ أُطْلِقَ السِّحْرُ عَلَى مَا فِيهِ التَّخْيِيلُ فِي قَلْبِ الْأَعْيَانِ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ السِّحْرُ الْحَقِيقِيُّ, كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: "إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا" 3 يَعْنِي: لِتَضَمُّنِهِ التَّخْيِيلَ فَيُخَيِّلُ الْبَاطِلَ فِي صُورَةِ الْحَقِّ, وَإِنَّمَا عُنِيَ بِهِ الْبَيَانُ فِي الْمُفَاخَرَةِ وَالْخُصُومَاتِ بِالْبَاطِلِ وَنَحْوِهَا كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَصْلُ الْقِصَّةِ فِي التَّمِيمِيَّيْنَ اللَّذَيْنِ تَفَاخَرَا عِنْدَهُ بِأَحْسَابِهِمَا وَطَعَنَ أَحَدُهُمَا فِي حَسَبِ الْآخَرِ وَنَسَبِهِ, وَكَذَلِكَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ, وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَحْكُمُ لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ, فَمَنْ حَكَمْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ بِشَيْءٍ فَإِنَّمَا هُوَ قِطْعَةٌ مِنَ النَّارِ" 4 أَوْ كَمَا قَالَ: وَهُوَ فِي الصَّحِيحِ, وَأَمَّا الْبَيَانُ بِالْحَقِّ لِنُصْرَةِ الْحَقِّ فَهُوَ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ مَا اسْتَطَاعَ إِلَى ذَلِكَ سَبِيلًا, وَهُوَ مِنَ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ, وَقَدْ سَمَّى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَعْمَلُ عَمَلَ السِّحْرِ سِحْرًا, وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سِحْرًا كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَلَا أُنَبِّئُكُمْ مَا الْعَضْهُ, هِيَ النَّمِيمَةُ الْقَالَةُ بَيْنَ النَّاسِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ5. وَالْعَضْهُ فِي لُغَةِ قُرَيْشٍ السِّحْرُ وَيَقُولُونَ لِلسَّاحِرِ: عَاضِهٌ, فَسَمَّى النَّمِيمَةَ سِحْرًا؛ لِأَنَّهَا تَعْمَلُ عَمَلَ السِّحْرِ فِي التَّفْرِقَةِ بَيْنَ المرء وزوجه وغيرها مِنَ الْمُتَحَابِّينَ, بَلْ هِيَ أَعْظَمُ فِي الْوِشَايَةِ لِأَنَّهَا
تُثِيرُ الْعَدَاوَةَ بَيْنَ الْأَخَوَيْنِ, وَتُسَعِّرُ الْحَرْبَ بَيْنَ الْمُتَسَالِمَيْنَ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ مَشَاهِدٌ لَا يُنْكَرُ. وَقَدْ جَاءَ الْوَعِيدُ لِلْقَتَّاتِ فِي الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ كَثِيرًا جِدًّا1, وَمَعَ هَذَا فَالْخِدَاعُ لِلْكُفَّارِ لِلْفَتْكِ بِهِمْ وَإِظْهَارِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ وَكَسْرِ شَوْكَتِهِمْ وَتَفْرِيقِ كَلِمَتِهِمْ مِنْ أَعْظَمِ الْجِهَادِ وَأَنْفَعِهِ وَأَشَدِّهِ نِكَايَةً فِيهِمْ, كَمَا فَعَلَهُ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ الْغَطَفَانِيُّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فِي تَفْرِيقِ كَلِمَةِ الْأَحْزَابِ بِإِذْنِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى فَرَّقَ بَيْنَ قُرَيْشٍ وَبَيْنَ يَهُودِ بَنِي قُرَيْظَةَ وَنَقَضَ اللَّهُ بِذَلِكَ مَا أَبْرَمُوهُ, وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ2. [حُرْمَةُ حَلِّ السِّحْرِ بِالسِّحْرِ] : وَحَلُّهُ بِالْوَحْيِ نَصًّا يُشْرَعُ ... أَمَّا بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَيُمْنَعُ "وَحَلُّهُ" يَعْنِي: حَلَّ السِّحْرِ عَنِ الْمَسْحُورِ "بِـ" الرُّقَى وَالتَّعَاوِيذِ وَالْأَدْعِيَةِ مِنْ "الْوَحْيِ" الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ "نَصًّا" أَيْ: بِالنَّصِّ "يُشْرَعُ" كَمَا رَقَى جِبْرِيلُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالْمُعَوِّذَتَيْنِ, وَكَمَا يَشْمَلُ ذَلِكَ أَحَادِيثَ الرُّقَى الْمُتَقَدِّمَةَ فِي بَابِهَا الَّتِي أَمَرَ بِهَا الشَّارِعُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَدَبَ إِلَيْهَا, وَمِنْ أَعْظَمِهَا فَاتِحَةُ الْكِتَابِ3 وَآيَةُ الْكُرْسِيِّ4 وَالْمُعَوِّذَتَانِ5 وَآخِرُ سُورَةِ الْحَشْرِ6, فَإِنْ ضُمَّ إِلَى ذَلِكَ الْآيَاتُ الَّتِي فِيهَا التَّعَوُّذُ
مِنَ الشَّيَاطِينِ مُطْلَقًا وَالْآيَاتُ الَّتِي يَتَضَمَّنُ لَفْظُهَا إِبْطَالَ السِّحْرِ, كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ} [الْأَعْرَافِ: 119] وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يُونُسَ: 81] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه: 69] وَنَحْوُهَا, كَانَ ذَلِكَ حَسَنًا, وَمِثْلُ الْأَدْعِيَةُ وَالتَّعَاوِيذُ الْمَأْثُورَةُ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْوَارِدَةُ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ كَمَا تَقَدَّمَ كَثِيرٌ مِنْهَا فِي بَابِ الرُّقَى, كحديث: "رَبُّنَا اللَّهُ الَّذِي فِي السَّمَاءِ, تَبَارَكَ اسْمُكَ, أَمْرُكَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ كَمَا رَحْمَتُكَ فِي السَّمَاءِ, أَنْزِلْ رَحْمَةً مِنْ رَحْمَتِكَ وَشِفَاءً مِنْ شِفَائِكَ عَلَى هَذَا الْوَجَعِ, فَيَبْرَأُ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ1، وَكَحَدِيثِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ أَنَّهُ قَالَ: أَتَانِي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَبِي وَجَعٌ قَدْ كَادَ يُهْلِكُنِي, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "امْسَحْ بِيَمِينِكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ, وَقُلْ: أَعُوذُ بِعِزَّةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ وَسُلْطَانِهِ مِنْ شَرِّ مَا أَجِدُ" قَالَ: فَفَعَلْتُ فَأَذْهَبَ اللَّهُ مَا كَانَ بِي فَلَمْ أَزَلْ آمُرُ بِهِ أَهْلِي وَغَيْرَهُمْ, قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ2. وَكُتُبُ السُّنَّةِ مِنَ الْأُمَّهَاتِ وَغَيْرِهَا مَشْحُونَاتٌ بِالْأَدْعِيَةِ وَالتَّعَوُّذَاتِ الْكَافِيَةِ الشَّافِيَةِ, بِإِذْنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ, فَمَنِ ابْتَغَى ذَلِكَ وَجَدَهُ, وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ. "أَمَّا" حَلُّ السِّحْرِ عَنِ الْمَسْحُورِ "بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَيَحْرُمُ" فَإِنَّهُ مُعَاوَنَةٌ لِلسَّاحِرِ وَإِقْرَارٌ لَهُ عَلَى عَمَلِهِ, وَتَقَرُّبٌ إِلَى الشَّيْطَانِ بِأَنْوَاعِ الْقُرَبِ لِيُبْطِلَ عَمَلَهُ عَنِ الْمَسْحُورِ؛ وَلِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ: لَا يُحِلُّ السِّحْرَ إِلَّا سَاحِرٌ3, وَلَمَّا قِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ تَنَشَّرْتَ فَقَالَ: "أَمَّا أَنَا فَقَدَ شَفَانِي اللَّهُ وَعَافَانِي, وَخَشِيتُ أَنْ أُثِيرَ عَلَى النَّاسِ
شَرًّا" 1. وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي كِتَابِ الطِّبِّ مِنْ سُنَنِهِ "بَابٌ فِي النَّشْرَةِ": حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ حَدَّثَنَا عَقِيلُ بْنُ مَعْقِلٍ قَالَ: "سَمِعْتُ وَهْبَ بْنِ مُنَبِّهٍ يُحَدِّثُ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ النَّشْرَةِ فَقَالَ: "هُوَ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ" 2. وَلِهَذَا تَرَى كَثِيرًا مِنَ السَّحَرَةِ الْفَجَرَةِ فِي الْأَزْمَانِ الَّتِي لَا سَيْفَ فِيهَا يَرْدَعُهُمْ, يَتَعَمَّدُ سِحْرَ النَّاسِ مِمَّنْ يُحِبُّهُ أَوْ يُبْغِضُهُ لِيَضْطَرَّهُ بِذَلِكَ إِلَى سُؤَالِهِ حَلَّهُ لِيَتَوَصَّلَ بِذَلِكَ إِلَى أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ, فَيَسْتَحْوِذَ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَدِينِهِمْ, نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى الْعَافِيَةَ. [تَصْدِيقُ الْكَاهِنِ كُفْرٌ] : وَمَنْ يُصَدِّقْ كَاهِنًا فَقَدْ كَفَرْ ... بِمَا أَتَى بِهِ الرَّسُولُ الْمُعْتَبَرْ "وَمَنْ يُصَدِّقْ كَاهِنًا" يَعْتَقِدُ بقلبه صدقه فيما ادَّعَاهُ مِنْ عِلْمِ الْمُغَيَّبَاتِ الَّتِي اسْتَأْثَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِعِلْمِهَا "فَقَدْ كَفَرَ" أَيْ: بَلَغَ دَرَكَةَ الْكُفْرِ بِتَصْدِيقِهِ الْكَاهِنَ "بِمَا أَتَى بِهِ الرَّسُولُ" مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ, وَبِمَا أَتَى بِهِ غَيْرُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. وَلْنَسُقِ الْكَلَامَ أَوَّلًا فِي تَعْرِيفِ الْكَاهِنِ, مَنْ هُوَ؟ ثُمَّ فِي بَيَانِ كَذِبِهِ وَكُفْرِهِ, ثُمَّ فِي كُفْرِ مَنْ صَدَّقَهُ بِمَا قَالَ, وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ, فَنَقُولُ: الْكَاهِنُ فِي الْأَصْلِ هُوَ مَنْ يَأْتِيهِ الرِّئِيُّ مِنَ الشَّيَاطِينِ الْمُسْتَرِقَةِ السَّمْعَ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ، تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ، يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} [الشُّعَرَاءِ: 221] وَهَذِهِ الْآيَاتُ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَا قَبْلَهَا, وَهِيَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ لَمَّا قَالَ الْمُشْرِكُونَ فِي رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّهُ كَاهِنٌ, وَقَالُوا: فِي الْقُرْآنِ كِهَانَةً وَأَنَّهُ مِمَّا يُلْقِيهِ الشَّيْطَانُ, فَنَفَى اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ وَبَرَّأَ رَسُولَهُ وَكِتَابَهُ مِمَّا أَفَكُوهُ وَافْتَرَوْهُ: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ
عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ، بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشُّعَرَاءِ: 192-195] إِلَى أَنْ قَالَ تَعَالَى: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ، وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ، إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} [الشُّعَرَاءِ: 210-212] فَأَثْبَتَ تَعَالَى أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُهُ وَتَنْزِيلُهُ, وَأَنَّ جِبْرِيلَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- رَسُولٌ مِنْهُ مُبَلِّغٌ كَلَامَهُ إِلَى الرَّسُولِ الْبِشْرِيِّ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وَهُوَ مُبَلِّغٌ لَهُ إِلَى النَّاسِ, ثُمَّ نَفَى مَا افْتَرَاهُ الْمُشْرِكُونَ عَلَيْهِ فَقَالَ: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ} وَقَرَّرَ انْتِفَاءَ ذَلِكَ بِثَلَاثَةِ أُمُورٍ: الْأَوَّلُ: بُعْدُ الشَّيَاطِينِ وَأَعْمَالِهِمْ عَنِ الْقُرْآنِ, وَبُعْدُهُ وَبُعْدُ مَقَاصِدِهِ مِنْهُمْ, فَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ} لِأَنَّ الشَّيَاطِينَ مَقَاصِدُهَا الْفَسَادُ وَالْكُفْرُ وَالْمَعَاصِي وَالْبَغْيُ وَالْعُتُوُّ وَالتَّمَرُّدُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْقَبَائِحِ, وَالْقُرْآنُ آتٍ بِصَلَاحِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ, آمِرٌ بِأُصُولِ الْإِيمَانِ وَشَرَائِعِهِ, مُقَرِّرٌ لَهَا مُرَغِّبٌ فِيهَا, زَاجِرٌ عَنِ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي ذَامٌّ لَهَا مُتَوَعِّدٌ عَلَيْهَا, آمِرٌ بِالْمَعْرُوفِ نَاهٍ عَنِ الْمُنْكَرِ, مَا مِنْ خَيْرٍ آجِلٍ وَلَا عَاجِلٍ إِلَّا وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَيْهِ وَالدَّعْوَةُ إِلَيْهِ وَالْبَيَانُ لَهُ, وَمَا مِنْ شَرٍّ عَاجِلٍ وَلَا آجِلٍ إِلَّا وَفِيهِ النَّهْيُ عَنْهُ وَالتَّحْذِيرُ مِنْهُ, فَأَيْنَ هَذَا مِنْ مَقَاصِدِ الشَّيَاطِينِ؟ الثَّانِي: عَجْزُهُمْ عَنْهُ فَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} أَيْ: لَوِ انْبَغَى لَهُمْ مَا اسْتَطَاعُوهُ؛ لِأَنَّهُ كَلَامُ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَيْسَ يُشْبِهُ كَلَامَ شَيْءٍ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ, وَلَيْسَ فِي وُسْعِهِمُ الْإِتْيَانُ بِهِ وَلَا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الْإِسْرَاءِ: 88] . الثَّالِثُ: عَزْلُهُمْ عَنِ السَّمْعِ وَطَرْدُهُمْ عَنْ مَقَاعِدِهِ الَّتِي كَانُوا يَقْعُدُونَ مِنَ السَّمَاءِ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ, فَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} فَبَيَّنَ تَعَالَى -مَعَ كَوْنِهِ لَا يَنْبَغِي لَهُمْ- أَنَّهُ لَوِ انْبَغَى مَا اسْتَطَاعُوا الْإِتْيَانَ بِهِ أَوْ بِمِثْلِهِ لَا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ وَلَا نَقْلًا عَنْ غَيْرِهِمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ, نَفَى عَنْهُمُ الْأَوَّلَ بِعَدَمِ الِاسْتِطَاعَةِ وَالثَّانِيَ بِعَزْلِهِمْ عَنِ السَّمْعِ وَطَرْدِهِمْ مِنْهُ, قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الْحِجْرِ: 9] إِلَى قَوْلِهِ: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ، وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ، إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ} [الْحِجْرِ: 16-18] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ، وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ، لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ
الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ، إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [الصَّافَّاتِ: 6-10] وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ} [الْمُلْكِ: 5] وَقَالَ تَعَالَى عَنْ مُؤْمِنِي الْجِنِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا، وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا، وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الْجِنِّ: 8-10] . وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: انْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ عَامِدِينَ إِلَى سُوقِ عُكَاظٍ وَقَدْ حِيلَ بَيْنَ الشَّيَاطِينِ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ وَأُرْسِلَتْ عَلَيْهِمُ الشُّهُبُ, فَرَجَعَتِ الشَّيَاطِينُ إِلَى قَوْمِهِمْ فَقَالُوا: مَا لَكُمْ؟ قَالُوا: حِيلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ وَأُرْسِلَتْ عَلَيْنَا الشُّهُبُ. قَالُوا: مَا ذَاكَ إِلَّا مِنْ شَيْءٍ حَدَثَ, فَاضْرِبُوا مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا فَانْظُرُوا مَا الَّذِي حَالَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ, فَانْطَلَقُوا يَضْرِبُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا فَمَرَّ النَّفَرُ الَّذِينَ أَخَذُوا نَحْوَ تِهَامَةَ وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَخْلٍ عَامِدًا إِلَى سُوقِ عُكَاظٍ وَهُوَ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ صَلَاةَ الْفَجْرِ, فَلَمَّا سَمِعُوا الْقُرْآنَ اسْتَمَعُوا لَهُ وَقَالُوا: هَذَا الَّذِي حَالَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ, فَرَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ {فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا، يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} [الْجِنِّ: 1، 2] فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} [الْجِنِّ: 1] وَهَذَا الْحَدِيثُ بِطُولِهِ وَطُرُقِهِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا1. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى فِي جَوَابِ الْكُفَّارِ مُبَيِّنًا لَهُمْ أَوْلِيَاءَ الشَّيَاطِينِ الَّذِينَ تَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ, فَقَالَ تَعَالَى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ} [الشُّعَرَاءِ: 221] الْآيَاتِ, وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: سَأَلَ نَاسٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْكُهَّانِ فَقَالَ: "إِنَّهُمْ لَيْسُوا بِشَيْءٍ" قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُمْ يُحَدِّثُونَ بِالشَّيْءِ يَكُونُ حَقًّا, فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تِلْكَ الْكَلِمَةُ مِنَ الْحَقِّ
يَحْفَظُهَا الْجِنِّيُّ فَيُقَرْقِرُهَا فِي أُذُنِ وَلَيِّهِ كَقَرْقَرَةِ الدَّجَاجِ، فَيَخْلِطُونَ مَعَهَا أَكْثَرَ من مائة كذبةت" 1. وَلَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عنه أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إِذَا قَضَى اللَّهُ الْأَمْرَ فِي السَّمَاءِ ضَرَبَتِ الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا لِقَوْلِهِ, كَأَنَّهُ سِلْسِلَةٌ عَلَى صَفْوَانٍ, فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا: الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ فَيَسْمَعُهَا مُسْتَرِقُو السَّمْعِ وَمُسْتَرِقُو السَّمْعِ هَكَذَا بَعْضُهُ فَوْقَ بَعْضٍ -وَصَفَهُ سُفْيَانُ بِكَفِّهِ فَحَرَّفَهَا وَبَدَّدَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ- فَيَسْمَعُ الْكَلِمَةَ فَيُلْقِيهَا إِلَى مَنْ تَحْتَهُ, ثُمَّ يُلْقِيهَا الْآخَرُ إِلَى مَنْ تَحْتَهُ, حَتَّى يُلْقِيَهَا عَلَى لِسَانِ السَّاحِرِ أَوِ الْكَاهِنِ فَرُبَّمَا أَدْرَكَهُ الشِّهَابُ قَبْلَ أَنْ يُلْقِيَهَا وَرُبَّمَا أَلْقَاهَا قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَهُ, فَيَكْذِبُ مَعَهَا مِائَةَ كَذِبَةٍ, فَيُقَالُ: أَوَلَيْسَ قَدْ قَالَ لَنَا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا, كَذَا وَكَذَا؟ فَيُصَدَّقُ بِتِلْكَ الْكَلِمَةِ الَّتِي سُمِعَتْ مِنَ السَّمَاءِ" وَلِمُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوُهُ2, وَلِلْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّ الْمَلَائِكَةَ تُحَدِّثَ فِي الْعَنَانِ -وَالْعَنَانُ: الْغَمَامُ- بِالْأَمْرِ فِي الْأَرْضِ, فَتَسْمَعُ الشَّيَاطِينُ الْكَلِمَةَ فَتَقُرُّهَا فِي أُذُنِ الْكَاهِنِ كَمَا تُقَرُّ الْقَارُورَةُ, فَيَزِيدُونَ مَعَهَا مِائَةَ كَذِبَةٍ" 3 وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى كَذِبَ الْكَاهِنِ بِقَوْلِهِ: {أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الشُّعَرَاءِ: 222] فَسَمَّاهُ أَفَّاكًا وَذَلِكَ مُبَالَغَةٌ فِي وَصْفِهِ بِالْكَذِبِ, وَسَمَّاهُ أَثِيمًا وَذَلِكَ مُبَالَغَةٌ فِي وَصْفِهِ بِالْفُجُورِ, وَقَوْلُهُ: {وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} أَيْ: أكثر ما يقولونه الْكَذِبَ, فَلَا يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ فِيهِمْ صَادِقًا, يُفَسِّرُهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَيَكْذِبُ مَعَهَا مِائَةَ كَذِبَةٍ" فَلَا يَكُونُ صِدْقًا إِلَّا الْكَلِمَةُ الَّتِي سُمِعَتْ مِنَ السَّمَاءِ. وَأَمَّا كُفْرُ الْكَاهِنِ فَمِنْ وُجُوهٍ: مِنْهَا كونه وليا للشيطان فَلَمْ يُوحِ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ إِلَّا بَعْدَ أَنْ تَوَلَّاهُ, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ} [الْأَنْعَامِ: 121] وَالشَّيْطَانُ لَا يَتَوَلَّى إِلَّا الْكُفَّارَ وَيَتَوَلَّوْنَهُ, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ
كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [الْبَقَرَةِ: 257] وَهَذَا وَجْهٌ ثَانٍ. وَالثَّالِثُ: قَوْلُهُ تَعَالَى {يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ} أَيْ: نُورِ الْإِيمَانِ وَالْهُدَى {إِلَى الظُّلُمَاتِ} أَيْ: ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ وَالضَّلَالَةِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا} [النِّسَاءِ: 119] وَهَذَا وَجْهٌ رَابِعٌ. وَالْخَامِسُ: تَسْمِيَتُهُ طَاغُوتًا فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدَ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النِّسَاءِ: 60] نَزَلَتْ فِي الْمُتَحَاكِمِينَ إِلَى كَاهِنِ جُهَيْنَةَ, وَقَوْلُهُ: {وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} أَيْ: بِالطَّاغُوتِ وَهَذَا وَجْهٌ سَادِسٌ. وَالسَّابِعُ: أَنَّ مَنْ هَدَاهُ اللَّهُ لِلْإِيمَانِ مِنَ الْكُهَّانِ كَسَوَادِ بْنِ قَارِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمْ يَأْتِهِ رِئِيُّهُ بَعْدَ أَنْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ, فَدَلَّ أَنَّهُ لَمْ يَتَنَزَّلْ عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِلَّا لِكُفْرِهِ وَتَوَلِّيهِ إِيَّاهُ, حَتَّى إِنَّهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَغْضَبُ إِذَا سُئِلَ عَنْهُ حَتَّى قَالَ لَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَا كُنَّا فِيهِ مِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ أَعْظَمُ1. الثَّامِنُ وَهُوَ أَعْظَمُهَا: تَشَبُّهُهُ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي صِفَاتِهِ وَمُنَازَعَتُهُ لَهُ تَعَالَى فِي رُبُوبِيَّتِهِ, فَإِنَّ عِلْمَ الْغَيْبِ مِنْ صِفَاتِ الرُّبُوبِيَّةِ الَّتِي اسْتَأْثَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا دُونَ مَنْ سِوَاهُ, فَلَا سَمِيَّ له ولا مُضَاهِيَ وَلَا مُشَارِكَ: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} ، {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} {عَالَمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا، إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمَنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} ، {أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ} {أَعْنَدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى} وَلِسَانُ حال الكاهن ومقاله يَقُولُ: نَعَمْ. التَّاسِعُ: أَنَّ دَعْوَاهُ تِلْكَ تَتَضَمَّنُ التَّكْذِيبَ بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلَ اللَّهُ بِهِ رُسُلَهُ. الْعَاشِرُ: النُّصُوصُ فِي كُفْرِ مَنْ سَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ, فَكَيْفَ بِهِ هُوَ نَفْسِهِ فِيمَا ادَّعَاهُ؟! فَقَدْ رَوَى الْأَرْبَعَةُ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِهِمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
"مَنْ أَتَى عَرَّافًا أَوْ كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ, فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " 1 وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَطَيَّرَ أَوْ تُطُيِّرَ لَهُ, أَوْ تَكَهَّنَ أَوْ تُكُهِّنَ لَهُ, أَوْ سَحَرَ أَوْ سُحِرَ لَهُ. وَمَنْ أَتَى كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ, فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" 2. وَلِمُسْلِمٍ عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ, لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً" 3 فَهَذَا حُكْمُ مَنْ سَأَلَهُ مُطْلَقًا, وَالْأَوَّلُ حُكْمُ مَنْ سَأَلَهُ وَصَدَّقَهُ بِمَا قَالَ. ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْكَاهِنَ وَإِنْ كَانَ أَصْلُهُ مَا ذَكَرْنَا فَهُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ مَنِ ادَّعَى مَعْرِفَةَ الْمُغَيَّبَاتِ وَلَوْ بِغَيْرِهِ, كَالرَّمَّالِ الَّذِي يَخُطُّ بِالْأَرْضِ أَوْ غَيْرِهَا, وَالْمُنَجِّمِ الَّذِي قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ أو الطارق بالحصا وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يَتَكَلَّمُ فِي مَعْرِفَةِ الْأُمُورِ الْغَائِبَةِ كَالدَّلَالَةِ عَلَى الْمَسْرُوقِ وَمَكَانِ الضَّالَّةِ وَنَحْوِهَا أَوِ الْمُسْتَقْبَلَةِ كَمَجِيءِ الْمَطَرِ أَوْ رُجُوعِ الْغَائِبِ أَوْ هُبُوبِ الرِّيَاحِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِعِلْمِهِ فَلَا يَعْلَمُهُ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ وَلَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ إِلَّا مِنْ طَرِيقِ الْوَحْيِ, كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا، إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} [الْجِنِّ: 26] مَلَائِكَةً يَحْفَظُونَهُ مِنْ مُسْتَرِقِي السَّمْعِ وَغَيْرِهِمْ: {لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا} [الْجِنِّ: 28] فَمَنْ ذَا الَّذِي يَدَّعِي عِلْمَ مَا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ عَنْ رُسُلِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْبَشَرِ, كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ}
[الْأَنْعَامِ: 50] الْآيَةَ, وَقَالَ تَعَالَى عَنْ هُودٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ} [الْأَحْقَافِ: 23] وَقَالَ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} [الأنعام: 50] الآية, وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} [الْأَعْرَافِ: 188] وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [الْأَحْقَافِ: 9] الْآيَةَ, وَقَالَ تَعَالَى عَنِ الْمَلَائِكَةِ: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [الْبَقَرَةِ: 31، 32] الْآيَاتِ, وَلَمْ يَعْلَمِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَانَ رَاحِلَتِهِ حَتَّى أَعْلَمَهُ اللَّهُ بِذَلِكَ1, وَقَالَ فِي سُؤَالِ الْحَبْرِ إِيَّاهُ فَأَجَابَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَدَّقَهُ الْحَبْرُ ثُمَّ انْصَرَفَ فَذَهَبَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَقَدْ سَأَلَنِي هَذَا عَنِ الَّذِي سَأَلَنِي عَنْهُ, وَمَا لِي عِلْمٌ بِشَيْءٍ مِنْهُ حَتَّى أَتَانِي اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- بِهِ" وَهِيَ فِي مُسْلِمٍ2. وَفِيهِ قَوْلُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لِمَسْرُوقٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ يُخْبِرُ بِمَا يَكُونُ فِي غَدٍ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ, وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} 3. وَلَمْ يَكُنْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْلَمُ شَيْئًا مِنَ الرِّسَالَةِ حَتَّى أَتَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضُّحَى: 6] وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} [الشُّورَى: 52] وَقَالَ تَعَالَى:
{تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا} [هُودٍ: 49] وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [يُونُسَ: 26] وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النِّسَاءِ: 113] . نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَظِيمَ مِنْ فَضْلِهِ الْعَظِيمِ.
الفصل التاسع يجمع معنى حديث جبريل في تعليمنا الدين وأنه ينقسم إلى ثلاث مراتب: الإسلام والإيمان والإحسان. وبيان كل منها
[[الفصل التاسع يجمع معنى حديث جبريل في تعليمنا الدين وأنه ينقسم إلى ثلاث مراتب: الإسلام والإيمان والإحسان. وبيان كل منها]] الْإِسْلَامُ وَالْإِيمَانُ وَالْإِحْسَانُ: هَذَا فَصْلٌ يَجْمَعُ مَعْنَى حَدِيثِ جِبْرِيلَ فِي تَعْلِيمِنَا الدِّينَ, وَأَنَّهُ يَنْقَسِمُ إِلَى ثَلَاثِ مَرَاتِبَ: الْإِسْلَامُ وَالْإِيمَانُ وَالْإِحْسَانُ, وَبَيَانُ كُلٍّ مِنْهَا. اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْفَصْلَ مُهِمٌّ جِدًّا, جَامِعٌ لِأُصُولِ الدِّينِ وَشَرَائِعِهِ وَمَرَاتِبِهِ وَشُعَبِهِ الْقَوْلِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ, وَهُوَ مَعْنَى حَدِيثِ جِبْرِيلَ فِي سُؤَالِهِ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَجَوَابِهِ إِيَّاهُ, وَهُوَ حَدِيثٌ عَظِيمُ الشَّأْنِ جَلِيلٌ, كَبِيرٌ جَامِعٌ نَافِعٌ, سَمَّى النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا احْتَوَى عَلَيْهِ "الدِّينَ" فَقَالَ: "هَذَا جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ" 1. وَهُوَ حَدِيثٌ مَشْهُورٌ فِي كُتُبِ السُّنَّةِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْهُمْ: عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَأَبُو ذَرٍّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو عَامِرٍ الْأَشْعَرِيُّ وَغَيْرُهُمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَهَا نَحْنُ نَذْكُرُ أَحَادِيثَهُمْ بِأَلْفَاظِهَا مَعَ بَيَانِ مُخْرِجِيهَا مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ, ثُمَّ نَتَكَلَّمُ عَلَى الْخِصَالِ الَّتِي فِيهَا عِنْدَ مَوَاضِعِهَا مِنْ هَذَا الْمَتْنِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى, وَهُوَ الْمُسْتَعَانُ وَبِهِ الثِّقَةُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ, وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ. حَدِيثُ جِبْرِيلَ, الْحَدِيثُ بِهِ عَنْ عُمَرَ: فَأَمَّا حَدِيثُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي أَوَّلِ جَامِعِهِ:
حَدَّثَنِي أَبُو خَيْثَمَةَ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ كَهْمَسٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ ح, وَحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ وَهَذَا حَدِيثُهُ: حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا كَهْمَسٍ عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ قَالَ: كَانَ أَوَّلُ مَنْ قَالَ فِي الْقَدَرِ بِالْبَصْرَةِ مَعْبَدٌ الْجُهَنِىُّ, فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَحُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِمْيَرِيُّ حَاجَّيْنَ -أَوْ مُعْتَمِرَيْنَ- فَقُلْنَا: لَوْ لَقِينَا أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَسَأَلْنَاهُ عَمَّا يَقُولُ هَؤُلَاءِ فِي الْقَدَرِ, فَوُفِّقَ لَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا دَاخِلًا الْمَسْجِدَ, فَاكْتَنَفْتُهُ أَنَا وَصَاحِبِي أَحَدُنَا عَنْ يَمِينِهِ وَالْآخَرُ عَنْ شِمَالِهِ فَظَنَنْتُ صَاحِبِي سَيَكِلُ الْكَلَامَ إِلَيَّ, فَقُلْتُ: أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِنَّهُ قَدْ ظَهَرَ قبلنا ناس يقرءون الْقُرْآنَ وَيَتَقَفَّرُونَ الْعِلْمَ, وَذَكَرَ مِنْ شَأْنِهِمْ وَأَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنْ لَا قَدَرَ وَأَنَّ الْأَمْرَ أُنُفٌ. قَالَ: فَإِذَا لَقِيتَ أُولَئِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنِّي بَرِيءٌ مِنْهُمْ وَأَنَّهُمْ بُرَآءُ مِنِّي, وَالَّذِي يَحْلِفُ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ لَوْ أَنَّ لِأَحَدِهِمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا فَأَنْفَقَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا قَبِلَهُ اللَّهُ مِنْهُ حَتَّى يُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ. ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذَاتَ يَوْمٍ إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعْرِ, لَا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ وَلَا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ, حَتَّى جَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ وَوَضَعَ كفيه على فخذيه وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِي عَنِ الْإِسْلَامِ, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْإِسْلَامُ أَنَّ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ وَتَصُومَ رَمَضَانَ وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا" قَالَ: صَدَقْتَ, فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ. قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْإِيمَانِ قَالَ: "أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ, وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ" قَالَ: صَدَقْتَ, فَأَخْبَرَنِي عَنِ الْإِحْسَانِ قَالَ: "أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ, فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ" قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ السَّاعَةِ قَالَ: "مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ" قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَمَارَاتِهَا قَالَ: "أَنْ تَلِدَ الْأَمَةُ رَبَّتَهَا, وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الْعَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ" قَالَ: ثُمَّ انْطَلَقَ فَلَبِثْتُ مَلِيًّا ثُمَّ قَالَ لِي: "يَا عُمَرُ أَتَدْرِي مَنِ السَّائِلُ "؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: "فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ" 1.
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْغُبَرِيُّ وَأَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ قَالُوا: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ مَطَرٍ الْوَرَّاقُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ قَالَ: لَمَّا تَكَلَّمَ مَعْبَدٌ بِمَا تَكَلَّمَ بِهِ فِي شَأْنِ الْقَدَرِ, أَنْكَرْنَا ذَلِكَ. قَالَ: فَحَجَجْتُ أَنَا وَحُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِمْيَرِيُّ حَجَّةً, وَسَاقُوا الْحَدِيثَ بِمَعْنَى حَدِيثِ كَهْمَسٍ وَإِسْنَادِهِ, وَفِيهِ بَعْضُ زِيَادَةٍ وَنُقْصَانِ أَحْرُفٍ1. وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ غِيَاثٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ وَحُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَا: لَقِينَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- فَذَكَرْنَا الْقَدَرَ وَمَا يَقُولُونَ فِيهِ, فَاقْتَصَّ الْحَدِيثَ كَنَحْوِ حَدِيثِهِمْ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وَفِيهِ شَيْءٌ مِنْ زيادة, وقد أنقص مِنْهُ شَيْئًا2. وَحَدَّثَنِي حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِنَحْوِ حَدِيثِهِمْ3. هَذِهِ طُرُقُهُ في مسلم بكمالها, وَلَمْ يُخْرِجْهُ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ كَهْمَسٍ فَقَالَ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ مِنْ سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا كَهْمَسٌ عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ فَذَكَرَهُ, وَفِيهِ: لَا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ وَلَا نَعْرِفُهُ, وَفِيهِ: فَلَبِثْتُ ثَلَاثًا4. وَمِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ بْنِ غِيَاثٍ فَقَالَ: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُثْمَانَ بْنِ غِيَاثٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ, وَفِيهِ: فَذَكَرَ نَحْوَهُ, وَزَادَ: قَالَ: وَسَأَلَهُ رَجُلٌ
مِنْ مُزَيْنَةَ أَوْ جُهَيْنَةَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فِيمَ نَعْمَلُ, أَفِي شَيْءٍ قَدْ خَلَا أَوْ مَضَى أَوْ شَيْءٍ يُسْتَأْنَفُ الْآنَ؟ قَالَ: "فِي شَيْءٍ قَدْ خَلَا وَمَضَى" فَقَالَ الرَّجُلُ أَوْ بَعْضُ الْقَوْمِ: فَفِيمَ الْعَمَلُ؟ قَالَ: "إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ, وَإِنَّ أَهْلَ النَّارِ يُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ"1. وَمِنْ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنِ ابْنِ يَعْمُرَ بِهَذَا الْحَدِيثِ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ: قَالَ: فَمَا الْإِسْلَامُ؟ قَالَ: "إِقَامُ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ وَحَجُّ الْبَيْتِ وَصَوْمُ رَمَضَانَ وَالِاغْتِسَالُ مِنَ الْجَنَابَةِ"2. وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ وَشَرَائِعِهِ مِنْ مُجْتَبَى سُنَنِهِ فَقَالَ: بَابُ نَعْتِ الْإِيمَانِ: أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ قَالَ: أَنْبَأَنَا كَهْمَسُ بْنُ الْحَسَنِ, فَذَكَرَ حَدِيثَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ كَلَفْظِ مُسْلِمٍ, وَلَمْ يَذْكُرْ حُمَيْدًا وَلَمْ يَذْكُرْ كَلَامَ يَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ وَلَا كَلَامَ ابْنِ عُمَرَ قَبْلَهُ3. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي أَبْوَابِ الْإِيمَانِ فَقَالَ: بَابُ مَا وَصَفَ جِبْرِيلُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِيمَانَ وَالْإِسْلَامَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَمَّارٍ الْحُسَيْنُ بْنُ حُرَيْثٍ الْخُزَاعِيُّ أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ عَنْ كَهْمَسِ بْنِ الْحَسَنِ فَذَكَرَ بِمَعْنَى لَفْظِ مُسْلِمٍ, غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: فَأَلْزَقَ رُكْبَتَيْهِ بِرُكْبَتَيْهِ ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ مَا الْإِيمَانُ؟ ثُمَّ قَالَ: فَمَا الْإِسْلَامُ؟ ثُمَّ قَالَ: فَمَا الْإِحْسَانُ؟ وَفِيهِ كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ لَهُ: صَدَقْتَ. قَالَ: فَتَعَجَّبْنَا مِنْهُ يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ, قَالَ: فَمَتَى السَّاعَةُ؟ وَقَالَ: فَمَا أَمَارَاتُهَا؟ وَفِي آخِرِهِ: فَلَقِيَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ بِثَلَاثٍ فَقَالَ: "يَا عُمَرُ هَلْ تَدْرِي مَنِ السَّائِلُ "؟ "ذَاكَ جِبْرِيلُ, أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ أَمْرَ دِينِكُمْ" وَفِي نُسْخَةٍ: "مَعَالِمَ دِينِكُمْ". حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ أَخْبَرَنَا كَهْمَسُ بْنُ الْحَسَنِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ نَحْوَهُ بِمَعْنَاهُ.
الحديث به عن ابن عمر
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى أَخْبَرَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ عَنْ كَهْمَسٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ نَحْوَهُ بِمَعْنَاهُ. وَفِي الْبَابِ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ, قَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ نَحْوُ هَذَا. وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والصحيح هو عن ابن عمر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ1. وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي بَابِ الْإِيمَانِ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ كَهْمَسِ بْنِ الْحَسَنِ فَذَكَرَهُ كَلَفْظِ التِّرْمِذِيَّ, غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ حُمَيْدًا وَلَا نَفْسَ الْقِصَّةِ وَلَا كَلَامَ ابْنِ عُمَرَ قَبْلَ الْحَدِيثِ, وَفِيهِ: قَالَ وَكِيعٌ فِي قَوْلِهِ "أَنْ تَلِدَ الْأَمَةُ رَبَّتَهَا": يَعْنِي تَلِدُ الْعَجَمُ الْعَرَبَ2. وَرَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ ابن الْإِمَامِ أَحْمَدَ: حَدَّثَنِي أَبِي حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا كَهْمَسٌ عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ, وَيَزِيدُ بْنُ هَارُونَ حَدَّثَنَا كَهْمَسٌ عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ قَالَ: حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ, الْحَدِيثَ3. وَالْحَاصِلُ: أَنَّ رَاوِيَهُ عَنْ عُمَرَ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ وَعَنْهُ يَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ وَحُمَيْدٌ الْحِمْيَرِيُّ, وَعَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ وَسُلَيْمَانُ بْنُ بُرَيْدَةَ وَسُلَيْمَانُ بْنُ طَرْخَانَ, وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ كَهْمَسٌ وَمَطَرٌ الْوَرَّاقُ وَعُثْمَانُ بْنُ غِيَاثٍ, وَعَنْ كَهْمَسٍ وَكِيعٌ وَمُعَاذٌ الْعَنْبَرِيُّ وَالنَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ وَيَزِيدُ بْنُ هَارُونَ, ثُمَّ اشْتُهِرَ عن كل من هَؤُلَاءِ, وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْحَدِيثُ بِهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: وَأَمَّا حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- فَهُوَ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ التِّرْمِذِيُّ وَقَدْ
رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ طُرُقٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إِنَّا نُسَافِرُ فِي الْآفَاقِ فَنَلْقَى قَوْمًا يَقُولُونَ: لَا قَدَرَ, فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَأَخْبِرُوهُمْ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ مِنْهُمْ بَرِيءٌ وَأَنَّهُمْ مِنْهُ بُرَآءُ "ثَلَاثًا" ثُمَّ إِنَّهُ أَنْشَأَ يُحَدِّثُ: بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَ رَجُلٌ فَذَكَرَ مِنْ هَيْئَتِهِ, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ادْنُهْ" فَدَنَا فَقَالَ: "ادْنُهْ" فَدَنَا فَقَالَ: "ادْنُهْ" فَدَنَا حَتَّى كَادَتْ رُكْبَتَاهُ تَمَسَّانِ رُكْبَتَيْهِ فَقَالَ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبَرَنِي مَا الْإِيمَانُ أَوْ عَنِ الْإِيمَانِ قَالَ: "تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ, وَتُؤْمِنُ بِالْقَدَرِ" قَالَ سُفْيَانُ: أَرَاهُ قَالَ: خَيْرِهِ وَشَرِّهِ قَالَ: فَمَا الْإِسْلَامُ؟ قَالَ: "إِقَامَةُ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ وَحَجُّ الْبَيْتِ وَصِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ وَغُسْلٌ مِنَ الْجَنَابَةِ" كُلُّ ذَلِكَ قَالَ: صَدَقْتَ, صَدَقْتَ, قَالَ الْقَوْمُ: مَا رَأَيْنَا رَجُلًا أَشَدَّ تَوْقِيرًا لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ هَذَا, كَأَنَّهُ يُعَلِّمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبَرَنِي عَنِ الْإِحْسَانِ قَالَ: "أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ أَوْ تَعْبُدَهُ كَأَنَّكَ تَرَاهُ, فَإِلَّا تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ" كُلُّ ذَلِكَ نَقُولُ: مَا رَأَيْنَا رَجُلًا أَشَدَّ تَوْقِيرًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَذَا, فَيَقُولُ: صَدَقْتَ صَدَقْتَ. قَالَ: أَخْبَرَنِي عَنِ السَّاعَةِ, قَالَ: "مَا الْمَسْئُولُ عنها بأعلم بها مِنَ السَّائِلِ" قَالَ: فَقَالَ: صَدَقْتَ قَالَ ذَلِكَ مِرَارًا: مَا رَأَيْنَا رَجُلًا أَشَدَّ تَوْقِيرًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَذَا, ثُمَّ وَلَّى. قَالَ سُفْيَانُ: فَبَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْتَمِسُوهُ" فَلَمْ يَجِدُوهُ, قَالَ: "هَذَا جِبْرِيلُ جَاءَكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ, مَا أَتَانَا فِي صُورَةٍ إِلَّا عَرَفْتُهُ غَيْرَ هَذِهِ الصُّورَةِ" وَإِسْنَادُهُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ حَدَّثَنِي أَبِي حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ ... إِلَخْ1. وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ: إِنَّ عِنْدَنَا رِجَالًا يَزْعُمُونَ أَنَّ الْأَمْرَ بِأَيْدِيهِمْ فَإِنْ شَاءُوا عَمِلُوا وَإِنْ شَاءُوا لَمْ يَعْمَلُوا فَقَالَ: أَخْبِرْهُمْ أَنِّي مِنْهُمْ بَرِيءٌ وَأَنَّهُمْ مِنَّا بُرَآءُ, ثُمَّ قَالَ: جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ مَا الْإِسْلَامُ؟ فَقَالَ: "تَعْبُدُ اللَّهَ لَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ وَتَصُومُ رَمَضَانَ وَتَحُجُّ الْبَيْتَ" قَالَ: فَإِذَا فَعَلْتُ ذَلِكَ فَأَنَا مُسْلِمٌ؟ قَالَ: "نَعَمْ" قَالَ: صَدَقْتَ قَالَ: فَمَا الْإِحْسَانُ؟ قَالَ:
"تَخْشَى اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ, فَإِنْ لَا تَكُ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ" قَالَ: فَإِذَا فَعَلْتُ ذَلِكَ فَأَنَا مُحْسِنٌ؟ قَالَ: "نَعَمْ" قَالَ: صَدَقْتَ قَالَ: فَمَا الْإِيمَانُ؟ قَالَ: "تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْبَعْثِ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالْقَدَرِ كُلِّهِ" قَالَ: فَإِذَا فَعَلْتُ ذَلِكَ فَأَنَا مُؤْمِنٌ؟ قَالَ: "نَعَمْ" قَالَ: صَدَقْتَ"1. زَادَ فِي رِوَايَةٍ: وَكَانَ جِبْرِيلُ يَأْتِي النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي صُورَةِ دِحْيَةَ, وَسَنَدُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ حَدَّثَنِي أَبِي حَدَّثَنَا عَفَّانُ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ ... إِلَخْ2. وَفِي أُخْرَى عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ جِبْرِيلَ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا الْإِيمَانُ؟ قَالَ: "أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ" فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: صَدَقْتَ قَالَ: فَتَعَجَّبْنَا مِنْهُ يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ, قَالَ: فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ذلك جِبْرِيلُ, أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ مَعَالِمَ دِينِكُمْ" وَسَنَدُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ حَدَّثَنِي أَبِي حَدَّثَنَا وَكِيعٌ حَدَّثَنَا كَهْمَسٌ عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ ... إِلَخْ3. وَرِوَايَةٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ وَحُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِمْيَرِيِّ قَالَ: لَقِينَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا, فَذَكَرْنَا الْقَدَرَ وَمَا يَقُولُونَ فِيهِ فَقَالَ لَنَا: إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ فَقُولُوا لَهُمْ: إِنَّ ابْنَ عُمَرَ مِنْكُمْ بَرِيءٌ وَأَنْتُمْ مِنْهُ بُرَآءُ "ثَلَاثَ مِرَارٍ" ثُمَّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُمْ بَيْنَمَا هُمْ جُلُوسٌ أَوْ قُعُودٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, جَاءَهُ رَجُلٌ يَمْشِي, حَسَنُ الْوَجْهِ حَسَنُ الشَّعْرِ عَلَيْهِ ثِيَابٌ بِيضٌ, فَنَظَرَ الْقَوْمُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ: مَا نَعْرِفُ هَذَا وَمَا هَذَا بِصَاحِبِ سَفَرٍ. ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ آتِيكَ؟ قَالَ: "نَعَمْ" فَجَاءَ فَوَضَعَ رُكْبَتَيْهِ عِنْدَ رُكْبَتَيْهِ ويديه على فخذيه وَسَاقَ
الحديث به عن أبي هريرة
الْحَدِيثَ بِنَحْوِ مَا تَقَدَّمَ فِي الصَّحِيحِ والسنن, وزاد في آخِرَهُ سُؤَالَ الرَّجُلِ مِنْ جُهَيْنَةَ أَوْ مُزَيْنَةَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ1. الْحَدِيثُ بِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو حَيَّانَ التَّيْمِيُّ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَارِزًا يَوْمًا لِلنَّاسِ فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: مَا الْإِيمَانُ؟ قَالَ: "الْإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَبِلِقَائِهِ وَرُسُلِهِ وَتُؤْمِنَ بِالْبَعْثِ" قَالَ: مَا الْإِسْلَامُ؟ قَالَ: "الْإِسْلَامُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا تُشْرِكَ بِهِ وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ وَتُؤَدِّيَ الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ وَتَصُومَ رَمَضَانَ" قَالَ: مَا الْإِحْسَانُ؟ قَالَ: "أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ" قَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: "مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ, وَسَأُخْبِرُكَ عَنْ أَشْرَاطِهَا: إِذَا وَلَدَتِ الْأَمَةُ رَبَّتَهَا وَإِذَا تَطَاوَلَ رُعَاةُ الْإِبِلِ الْبُهْمُ فِي الْبُنْيَانِ, فِي خَمْسٍ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى" ثُمَّ تَلَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} ثُمَّ أَدْبَرَ فَقَالَ: "رُدُّوهُ" فَلَمْ يَرَوْا شَيْئًا فَقَالَ: "هَذَا جِبْرِيلُ جَاءَ يُعَلِّمُ النَّاسُ دِينَهُمْ" 2. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: جَعَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنَ الْإِيمَانِ وَتَرْجَمَ عَلَيْهِ: باب سؤال جبريل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَالْإِحْسَانِ وَعِلْمِ السَّاعَةِ, وَبَيَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ. ثُمَّ قَالَ: "جَاءَ جِبْرِيلُ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ" فَجَعَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ دِينًا3. وَأَخْرَجَهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ لُقْمَانَ فَقَالَ: بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} : حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ عَنْ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي حَيَّانَ الْحَدِيثَ, وَفِيهِ: إِذْ أَتَاهُ رَجُلٌ يَمْشِي فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْإِيمَانُ؟ وَفِيهِ: قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: "مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ, وَلَكِنْ سَأُحَدِّثُكَ عَنْ أَشْرَاطِهَا: إِذَا وَلَدَتِ الْأَمَةُ رَبَّتَهَا فَذَاكَ مِنْ أَشْرَاطِهَا, وَإِذَا كَانَ الْحُفَاةُ الْعُرَاةُ رُءُوسَ النَّاسِ فَذَاكَ مِنْ
أَشْرَاطِهَا, فِي خَمْسٍ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} " ثُمَّ انْصَرَفَ الرَّجُلُ فَقَالَ: "ردوا علي" فأخدوا لِيَرُدُّوا فَلَمْ يَرَوْا شَيْئًا فَقَالَ: "هَذَا جِبْرِيلُ جَاءَ لِيُعَلِّمَ النَّاسَ دِينَهُمْ" 1. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ فَقَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ جَمِيعًا عَنِ ابْنِ عُلَيَّةَ قَالَ زُهَيْرٌ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِي حَيَّانَ الْحَدِيثَ وَزَادَ: "وَإِذَا تَطَاوَلَ رُعَاةُ الْبُهْمِ فِي الْبُنْيَانِ, فَذَاكَ مِنْ أَشْرَاطِهَا فِي خَمْسٍ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ" ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} قَالَ: ثُمَّ أَدْبَرَ ... إِلَخْ2. وَقَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ حَدَّثَنَا أَبُو حَيَّانَ التَّيْمِيُّ بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ, غَيْرَ أَنَّ فِي رِوَايَتِهِ: "إِذَا وَلَدَتِ الْأَمَةُ بَعْلَهَا" يَعْنِي: السراري3. وقال: حدثني زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ عُمَارَةَ وَهُوَ ابْنُ الْقَعْقَاعِ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "سَلُونِي" فَهَابُوهُ أَنْ يَسْأَلُوهُ, فَجَاءَ رَجُلٌ فَجَلَسَ عِنْدَ رُكْبَتَيْهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْإِسْلَامُ؟ قَالَ: "لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ شَيْئًا وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ وَتَصُومُ رَمَضَانَ" قَالَ: صَدَقْتَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْإِيمَانُ؟ قَالَ: "أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكِتَابِهِ وَلِقَائِهِ وَرُسُلِهِ وَتُؤْمِنَ بِالْبَعْثِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ كُلِّهِ" قَالَ: صَدَقْتَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْإِحْسَانُ؟ قَالَ: "أَنْ تَخْشَى اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنَّكَ إِلَّا تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ" قَالَ: صَدَقْتَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ؟ قَالَ: "مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ وَسَأُحَدِّثُكَ عَنْ أَشْرَاطِهَا: إِذَا رَأَيْتَ الْأَمَةَ تَلِدُ رَبَّهَا فَذَاكَ مِنْ أَشْرَاطِهَا, وَإِذَا رَأَيْتَ الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الصُّمَّ الْبُكْمَ مُلُوكَ الْأَرْضِ فَذَاكَ مِنْ أَشْرَاطِهَا, وَإِذَا رَأَيْتَ رِعَاءَ الْبُهْمِ
الحديث به عنه وعن أبي ذر
يتطاولون فِي الْبُنْيَانِ فَذَاكَ مِنْ أَشْرَاطِهَا, فِي خَمْسٍ مِنَ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ" ثُمَّ قَرَأَ {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} قَالَ: ثُمَّ قَامَ الرَّجُلُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "رُدُّوهُ عَلَيَّ" فَالْتُمِسَ فَلَمْ يَجِدُوهُ, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هَذَا جِبْرِيلُ أَرَادَ أَنْ تَعْلَّمُوا؛ إِذْ لَمْ تَسْأَلُوا" 1. وَأَشَارَ إِلَيْهِ التِّرْمِذِيُّ فِي بَابِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ عُمَرَ2. وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادِ مُسْلِمٍ وَلَفْظِهِ إِلَى آخَرِ الْآيَةِ3. وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ إِسْمَاعِيلَ: حَدَّثَنَا أَبُو حَيَّانَ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ بْنِ عُمَرَ بْنِ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ... إِلَخْ وَفِيهِ: "وَإِذَا كَانَتِ الْعُرَاةُ الْحُفَاةُ الْجُفَاةُ"4. الْحَدِيثُ بِهِ عَنْهُ وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ: وَأَمَّا حَدِيثُهُ مَعَ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَقَالَ النَّسَائِيُّ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ مِنْ مُجْتَبَى سُنَنِهِ: صِفَةُ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ. أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ قُدَامَةَ عَنْ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي فَرْوَةَ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَا: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْلِسُ بَيْنَ ظَهَرَانَيْ أَصْحَابِهِ فَيَجِيءُ الْغَرِيبُ فَلَا يَدْرِي أَيُّهُمْ هُوَ حَتَّى يَسْأَلَ, فَطَلَبْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَجْعَلَ لَهُ مَجْلِسًا يَعْرِفُهُ الْغَرِيبُ إِذَا أَتَاهُ, فَبَنَيْنَا لَهُ دُكَّانًا مِنْ طِينٍ كَانَ يَجْلِسُ عَلَيْهِ, وَإِنَّا لَجُلُوسٌ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَجْلِسِهِ, إِذْ أَقْبَلَ رِجْلٌ أَحْسَنَ النَّاسِ وَجْهًا وَأَطْيَبَ النَّاسِ رِيحًا كَأَنَّ ثِيَابَهُ لَمْ يَمَسَّهَا دَنَسٌ حَتَّى سَلَّمَ فِي طَرَفِ الْبِسَاطِ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ فَرَدَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: أَدْنُو يَا مُحَمَّدُ؟ قَالَ: ادْنُهْ فَمَا زَالَ يَقُولُ أَدْنُو مِرَارًا وَيَقُولُ لَهُ ادْنُ حَتَّى وَضَعَ يَدَهُ عَلَى رُكْبَتَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِي مَا الْإِسْلَامُ؟ قَالَ: "الْإِسْلَامُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا تُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ وَتَحُجَّ الْبَيْتَ وَتَصُومَ رَمَضَانَ".
قَالَ: إِذَا فَعَلْتُ ذَلِكَ فَقَدْ أَسْلَمْتُ؟ قَالَ: "نَعَمْ" قَالَ: صَدَقْتَ, فَلَمَّا سَمِعْنَا قَوْلَ الرَّجُلِ "صَدَقْتَ" أَنْكَرْنَا قَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِي مَا الْإِيمَانُ؟ قَالَ: "الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَتُؤْمِنُ بِالْقَدَرِ" قَالَ: فَإِذَا فَعَلْتُ ذَلِكَ فَقَدْ آمَنَتُ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نَعَمْ" قَالَ: صَدَقْتَ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِي مَا الْإِحْسَانُ؟ فَقَالَ: "أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ" قَالَ صَدَقْتَ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِي مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: فَنَكَّسَ فَلَمْ يُجِبْهُ شَيْئًا ثُمَّ أَعَادَ فَلَمْ يُجِبْهُ شَيْئًا ثُمَّ أَعَادَ فَلَمْ يُجِبْهُ شَيْئًا وَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: "مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ, وَلَكِنْ لَهَا عَلَامَاتٌ تُعْرَفَ بِهَا: إِذَا رَأَيْتَ الرِّعَاءَ الْبُهْمَ يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ, وَرَأَيْتَ الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ مُلُوكَ الْأَرْضِ, وَرَأَيْتَ الْأَمَةَ تَلِدُ رَبَّهَا فِي خَمْسٍ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} إِلَى قَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} " ثُمَّ قَالَ: "لَا وَالَّذِي بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ هَادِيًا وَبَشِيرًا مَا كُنْتُ بِأَعْلَمَ بِهِ مِنْ رَجُلٍ مِنْكُمْ, وَإِنَّهُ لَجِبْرِيلُ نَزَلَ فِي صُورَةِ دِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ" 1. وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي بَابِ الْقَدَرِ, مِنْ كِتَابِ السُّنَّةِ مِنْ سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ فَرْوَةَ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ بْنِ عُمَرَ بْنِ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ قَالَا: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْحَدِيثَ, وَفِيهِ: فَبَنَيْنَا لَهُ دُكَّانًا مِنْ طِينٍ فَجَلَسَ عَلَيْهِ, وَكُنَّا نَجْلِسُ بِجَنْبَتَيْهِ وَذَكَرَ نَحْوَ هَذَا الْخَبَرِ فَأَقْبَلَ رَجُلٌ, فَذَكَرَ هَيْئَتَهُ حَتَّى سَلَّمَ مِنْ طَرَفِ السِّمَاطِ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ قَالَ: فَرَدَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ2. فَحَاصِلُ طُرُقِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَحْدَهُ وَمَعَ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَبُو زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعَنْهُ أَبُو حَيَّانَ وَأَبُو فَرْوَةَ وَعُمَارَةُ بْنُ الْقَعْقَاعِ, وَعَنْ أَبِي حَيَّانَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُلَيَّةَ وَجَرِيرٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ, وَعَنْ إِسْمَاعِيلَ مُسَدَّدٌ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ, وَعَنْ جَرِيرٍ إِسْحَاقُ وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ قُدَامَةَ وَعُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ, وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بشر بن مُحَمَّدُ بْنُ
الحديث به عن ابن عباس
نُمَيْرٍ, وَعَنْ كُلٍّ مِنْ عُمَارَةَ وَأَبِي فَرْوَةَ جَرِيرٌ, وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْحَدِيثُ بِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو النَّضِرِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ حَدَّثَنَا شَهْرٌ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: جَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَجْلِسًا فَجَاءَ جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاضِعًا كَفَّيْهِ عَلَى رُكْبَتَيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ حَدِّثْنِي مَا الْإِسْلَامُ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْإِسْلَامُ أَنْ تُسْلِمَ وَجْهَكَ لِلَّهِ وَتَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ" قَالَ: إِذَا فَعَلْتُ ذَلِكَ فَأَنَا مُسْلِمٌ؟ قَالَ: "إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ فَقَدْ أَسْلَمْتَ" قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَحَدِّثْنِي مَا الْإِيمَانُ؟ قَالَ: "الْإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكُتُبِ وَالنَّبِيِّينَ وَتُؤْمِنَ بِالْمَوْتِ وَبِالْحَيَاةِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَتُؤْمِنَ بِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالْحِسَابِ وَالْمِيزَانِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ كُلِّهِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ" قَالَ: فَإِذَا فَعَلْتُ ذَلِكَ فَقَدْ آمَنْتُ؟ قَالَ: "إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ فَقَدْ آمَنْتَ" قَالَ: يَا رَسُولَ الله حدثني ما الْإِحْسَانِ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْإِحْسَانُ أَنْ تَعْمَلَ لِلَّهِ كَأَنَّكَ تَرَاهُ, فَإِنَّكَ إن لم تره فَإِنَّهُ يَرَاكَ" قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَحَدِّثْنِي مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "سُبْحَانَ اللَّهِ, فِي خَمْسٍ مِنَ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} وَلَكِنْ إِنْ شِئْتَ حَدَّثْتُكَ بِمَعَالِمَ لَهَا دُونَ ذَلِكَ" قَالَ: أَجَلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَحَدِّثْنِي قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا رَأَيْتَ الْأَمَةَ وَلَدَتْ رَبَّتَهَا أَوْ رَبَّهَا وَرَأَيْتَ أَصْحَابَ الشَّاءِ تَطَاوَلُوا بِالْبُنْيَانِ وَرَأَيْتَ الْحُفَاةَ الْجِيَاعَ الْعَالَةَ كَانُوا رُءُوسَ النَّاسِ, فَذَلِكَ مِنْ مَعَالِمِ السَّاعَةِ وَأَشْرَاطِهَا" قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ أَصْحَابُ الشَّاءِ وَالْحُفَاةُ الْجِيَاعُ الْعَالَةُ؟ قَالَ: "الْعَرَبُ" 1 وَحَسَّنَهُ الْحَافِظُ الْعَسْقَلَانِيُّ.
الحديث به عن أبي عامر
الْحَدِيثُ بِهِ عَنْ أَبِي عَامِرٍ: وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي عَامِرٍ فَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي حُسَيْنٍ حَدَّثَنَا شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ عَنْ عَامِرٍ أَوْ أَبِي عَامِرٍ أَوْ أَبِي مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ فِي مَجْلِسٍ فِيهِ أَصْحَابُهُ جَاءَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي غَيْرِ صُورَتِهِ, يَحْسَبُهُ رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَرَدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ, ثُمَّ وَضَعَ جِبْرِيلُ يَدَهُ عَلَى رُكْبَتَيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِنَحْوِ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ. وَفِيهِ: فَلَمَّا وَلَّى أَيِ: السَّائِلُ, فَلَمَّا لَمْ نَرَ طَرِيقَهُ بَعْدُ قَالَ أَيِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "سُبْحَانَ اللَّهِ -ثَلَاثًا- هَذَا جِبْرِيلُ جَاءَ لِيُعَلِّمَ النَّاسَ دِينَهُمْ" 1. وَحَسَّنَهُ الْحَافِظُ أَيْضًا وَهُوَ مِنْ مُفْرَدَاتِ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ الَّتِي قَبْلَهُ فَقَدْ خَرَّجَهَا غَيْرُ مَنْ ذَكَرْنَا وَإِنَّمَا اقْتَصَرْنَا عَلَى رِوَايَاتِ الْأُمَّهَاتِ لِشُهْرَتِهَا وَفِي الْبَابِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ غَيْرُ مَنْ ذُكِرَ, مِنْهُمْ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ2 وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ3 وَجَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيُّ4 رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ, وَسَنَذْكُرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مَا تَيَسَّرَ مِنَ النُّصُوصِ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ مِنْ مَسَائِلِهِ عِنْدَ ذِكْرِهَا فِي الْمَتْنِ, فَنَقُولُ, وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ: اعْلَمْ بِأَنَّ الدِّينَ قَوْلٌ وَعَمَلْ ... فَاحْفَظْهُ وَافْهَمْ مَا عَلَيْهِ ذَا اشْتَمَلْ "اعْلَمْ" يَا أَخِي وَفَّقَنِي اللَّهُ وَإِيَّاكَ وَالْمُسْلِمِينَ "بِأَنَّ الدِّينَ" الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ ورضيه لأهل سمواته وَأَرْضِهِ, وَأَمَرَ أَنْ لَا يُعْبَدَ إِلَّا بِهِ وَلَا يَقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ سِوَاهُ, وَلَا يَرْغَبُ عَنْهُ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ, وَلَا أَحْسَنَ دِينًا مِمَّنِ
الْتَزَمَهُ وَاتَّبَعَهُ هُوَ "قَوْلٌ" أَيْ: بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ "وَعَمَلٌ" أَيْ: بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَالْجَوَارِحِ, فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ جَامِعَةٌ لِأُمُورِ دِينِ الْإِسْلَامِ: الْأَوَّلُ: قَوْلُ الْقَلْبِ وَهُوَ تَصْدِيقُهُ وَإِيقَانُهُ, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ، لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} [الزُّمَرِ: 33، 34] وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الْأَنْعَامِ: 75] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الْحُجُرَاتِ: 15] صَدَّقُوا ثُمَّ لَمْ يَشُكُّوا. وَفِي حديث الدرجات العلا: "بَلَى وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ, رِجَالٌ آمَنُوا بِاللَّهِ وَصَدَّقُوا الْمُرْسَلِينَ" 1. وَقَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [الْبَقَرَةِ: 3] وَقَالَ تَعَالَى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ} [الْبَقَرَةِ: 136] الْآيَاتِ, وَقَالَ تَعَالَى: {وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ} [الشُّورَى: 15] وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَفِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ: "يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ, وَفِي قَلْبِهِ مِنَ الْخَيْرِ مَا يَزِنُ شَعِيرَةً" 2 الْحَدِيثَ. وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: "فَيُقَالُ: انْطَلِقْ فَمَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ بُرَّةٍ أَوْ شَعِيرَةٍ مِنْ إِيمَانٍ, ثُمَّ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ, ثُمَّ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ أَدْنَى أَدْنَى أَدْنَى مِنْ مِثْقَالِ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ" 3.
وَقَالَ تَعَالَى فِي الْمُكَذِّبِينَ: {أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [يس: 10] وَقَالَ تَعَالَى فِي الْمُرْتَابِينَ الشَّاكِّينَ: {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} [آلِ عِمْرَانَ: 167] وَقَالَ فِيهِمْ: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} [الْمَائِدَةِ: 41] وَقَالَ تَعَالَى فِيهِمْ: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [الْمُنَافِقُونَ: 1] أَيْ: فِي قَوْلِهِمْ نَشْهَدُ -أَيْ: كَذَبُوا- إِنَّهُمْ لَا يَشْهَدُونَ بِذَلِكَ بِقُلُوبِهِمْ, إِنَّمَا هُوَ بِأَلْسِنَتِهِمْ تَقِيَّةً وَنِفَاقًا وَمُخَادَعَةً. الثَّانِي: قَوْلُ اللِّسَانِ وَهُوَ النُّطْقُ بِالشَّهَادَتَيْنِ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَالْإِقْرَارُ بِلَوَازِمِهَا, قَالَ اللَّهُ: {وَقُولُوا آمَنَّا} [الْبَقَرَةِ: 136] {وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ} [الْقَصَصِ: 53] {وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ} [الشُّورَى: 15] وَقَالَ تَعَالَى: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ} [الزُّخْرُفِ: 86] {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الْأَحْقَافِ: 13] وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ" 1 وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِمَّا سَنَذْكُرُ وَمَا لَا نَذْكُرُ. الثَّالِثُ: عَمَلُ الْقَلْبِ, وَهُوَ النِّيَّةُ وَالْإِخْلَاصُ وَالْمَحَبَّةُ وَالِانْقِيَادُ وَالْإِقْبَالُ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ وَلَوَازِمُ ذَلِكَ وَتَوَابِعُهُ, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الْأَنْعَامِ: 52] {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى، إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} [اللَّيْلِ: 20] {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} [الْإِنْسَانِ: 9] {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الْحَجِّ: 35] {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 60] {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ
مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزُّمَرِ: 23] {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرَّعْدِ: 28] وَقَالَ تَعَالَى: {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي} وَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} ، {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} ، {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} ، {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} [النِّسَاءِ: 125] {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [لُقْمَانَ: 22] {فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} [الْحَجِّ: 34] {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النِّسَاءِ: 65] وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى؛ فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ, وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ" 1. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ, مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ مَعِي فِيهِ غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ" 2. وَقَدْ تَقَدَّمَ جُمْلَةٌ مِنْ نُصُوصِ الْإِخْلَاصِ فِي الْكَلَامِ عَلَى: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ, وَتَقَدَّمَ هُنَاكَ بَيَانُهُ وَمَا يُنَافِيهِ مِنَ الشِّرْكِ الْأَكْبَرِ وَمَا يُنَافِي كَمَالَهُ مِنَ الشِّرْكِ الْأَصْغَرِ, وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَحِبُّوا اللَّهَ مِنْ كُلِّ قُلُوبِكُمْ"3.
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا ... " 1 الْحَدِيثَ, وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ" 2. وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ حُبَّكَ وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكُ وَحُبَّ كُلِّ عَمَلٍ يُقَرِّبُنِي إِلَى حُبِّكَ" 3. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْإِيمَانَ وَزَيِّنْهُ فِي قُلُوبِنَا, وَكَرِّهْ إِلَيْنَا الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ, وَاجْعَلْنَا مِنَ الرَّاشِدِينَ" 4. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْتُ بِهِ"5 وَهَذَا غَايَةُ الِانْقِيَادِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ هَوًى غَيْرُ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وَقَدْ تَقَدَّمَتِ النُّصُوصُ فِي التَّوَكُّلِ وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ وَالْخَشْيَةِ وَالْخُضُوعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ. الرَّابِعُ: عَمَلُ اللِّسَانِ وَالْجَوَارِحِ, فَعَمَلُ اللِّسَانِ مَا لَا يُؤَدَّى إِلَّا بِهِ كَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَسَائِرِ الْأَذْكَارِ مِنَ التَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَالدُّعَاءِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ, وعمل الجوارح ما لَا يُؤَدَّى إِلَّا بِهَا مِثْلُ الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْمَشْيِ فِي مَرْضَاةِ اللَّهِ كَنَقْلِ الخطا إلى المساجد وإلى الْحَجِّ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ, وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَشْمَلُهُ حَدِيثُ
شُعَبِ الْإِيمَانِ, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} [الرَّعْدِ: 22] الْآيَاتِ, وَقَالَ تَعَالَى: {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} [الْكَهْفِ: 27] وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا، وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الْأَحْزَابِ: 41] وَقَالَ تَعَالَى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} [الْأَعْرَافِ: 205] الْآيَاتِ, وَقَالَ تَعَالَى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الْإِسْرَاءِ: 111] وَقَالَ تَعَالَى: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} [الْكَهْفِ: 46] وَهِيَ: "سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ" 1, وَقَالَ تَعَالَى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الْأَعْرَافِ: 55] الْآيَاتِ, وَقَالَ تَعَالَى: {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الْمُزَّمِّلِ: 20] وَقَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آلِ عِمْرَانَ: 191] الْآيَاتِ, وَقَالَ تَعَالَى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [الْبَقَرَةِ: 238] وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الْحَجِّ: 77، 78] الْآيَاتِ, وَقَالَ تَعَالَى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا، وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} [الْفَرْقَانِ: 63، 64] الْآيَاتِ, وقال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزُّمَرِ: 9] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ
اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [التَّوْبَةِ: 111، 112] . وَالْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ جِدًّا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِهَا, وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ تَقْرِيرُ هَذِهِ الْأُمُورِ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ, فَإِذَا حَقَّقْتَ هَذِهِ الْأُمُورَ الْأَرْبَعَةَ تَحْقِيقًا بَالِغًا وَعَرَفْتَ مَا يُرَادُ بِهَا مَعْرِفَةً تَامَّةً وَفَهِمْتَ فَهْمًا وَاضِحًا ثُمَّ أَمْعَنْتَ النَّظَرَ فِي أَضْدَادِهَا وَنَوَاقِضِهَا, تبين لك أن أَنْوَاعُ الْكُفْرِ لَا تَخْرُجُ عَنْ أَرْبَعَةٍ: كُفْرُ جَهْلٍ وَتَكْذِيبٍ. وَكَفْرُ جُحُودٍ. وَكُفْرُ عِنَادٍ وَاسْتِكْبَارٍ. وَكُفْرُ نِفَاقٍ. فَأَحَدُهَا يُخْرِجُ مِنَ الْمِلَّةِ بِالْكُلِّيَّةِ, وَإِنِ اجْتَمَعَتْ فِي شَخْصٍ فَظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا إِمَّا أَنْ تَنْتَفِيَ هَذِهِ الْأُمُورُ كُلُّهَا -قَوْلُ الْقَلْبِ وَعَمَلُهُ, وَقَوْلُ اللِّسَانِ, وَعَمَلُ الْجَوَارِحِ- أَوْ يَنْتَفِيَ بَعْضُهَا, فَإِنِ انْتَفَتْ كُلُّهَا اجْتَمَعَ أَنْوَاعُ الْكُفْرِ غَيْرُ النِّفَاقِ, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الْبَقَرَةِ: 6، 7] . وَإِنِ انْتَفَى تَصْدِيقُ الْقَلْبِ مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ بِالْحَقِّ فَكُفْرُ الْجَهْلِ وَالتَّكْذِيبِ, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} [يُونُسَ: 39] وَقَالَ تَعَالَى: {أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النَّمْلِ: 84] وَإِنْ كَتَمَ الْحَقَّ مَعَ الْعِلْمِ بِصِدْقِهِ فَكُفْرُ الْجُحُودِ وَالْكِتْمَانِ, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [النَّمْلِ: 14] وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى
الْكَافِرِينَ} [الْبَقَرَةِ: 89] وَقَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ، الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [الْبَقَرَةِ: 146، 147] . وَإِنِ انْتَفَى عَمَلُ الْقَلْبِ مِنَ النِّيَّةِ وَالْإِخْلَاصِ وَالْمَحَبَّةِ وَالْإِذْعَانِ مَعَ انْقِيَادِ الْجَوَارِحِ الظَّاهِرَةِ, فَكُفْرُ نِفَاقٍ, سَوَاءٌ وُجِدَ التَّصْدِيقُ الْمُطْلَقُ أَوِ انْتَفَى, وَسَوَاءٌ انْتَفَى بِتَكْذِيبٍ أَوْ شَكٍّ, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الْبَقَرَةِ: 8-20] . وَإِنِ انْتَفَى عَمَلُ الْقَلْبِ وَعَمَلُ الْجَوَارِحِ مَعَ الْمَعْرِفَةِ بِالْقَلْبِ وَالِاعْتِرَافِ بِاللِّسَانِ, فَكُفْرُ عِنَادٍ وَاسْتِكْبَارٍ, كَكُفْرِ إِبْلِيسَ وَكُفْرِ غَالِبِ الْيَهُودِ الَّذِينَ شَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَلَمْ يَتَّبِعُوهُ أَمْثَالِ: حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ وَكَعْبِ بن الأشرف وغيرهما, وَكَفْرِ مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ عِنَادًا وَاسْتِكْبَارًا, وَمُحَالٌ أَنْ يَنْتَفِيَ انْقِيَادُ الْجَوَارِحِ بِالْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ مَعَ ثُبُوتِ عَمَلِ الْقَلْبِ, قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ, وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ, أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ" 1. وَمِنْ هُنَا يَتَبَيَّنُ لَكَ أَنَّ مَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي الْإِيمَانِ: هُوَ التَّصْدِيقُ عَلَى ظَاهِرِ اللُّغَةِ, أَنَّهُمْ إِنَّمَا عَنَوُا التَّصْدِيقَ الْإِذْعَانِيَّ الْمُسْتَلْزِمَ لِلِانْقِيَادِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا بِلَا شَكٍّ, لَمْ يَعْنُوا مُجَرَّدَ التَّصْدِيقِ فَإِنَّ إِبْلِيسَ لَمْ يُكَذِّبْ فِي أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ بِالسُّجُودِ وَإِنَّمَا أَبَى عَنْ الِانْقِيَادِ كُفْرًا وَاسْتِكْبَارًا, وَالْيَهُودُ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ صِدْقَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَتَّبِعُوهُ, وَفِرْعَوْنُ كَانَ يَعْتَقِدُ صِدْقَ مُوسَى وَلَمْ يَنْقَدْ, بَلْ جَحَدَ بِآيَاتِ اللَّهِ ظُلْمًا وَعُلُوًّا, فَأَيْنَ هَذَا مِنْ تَصْدِيقِ مَنْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [الزُّمَرِ: 33] الْآيَاتِ؟! وَأَيْنَ تَصْدِيقُ مَنْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ: {قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} ، {قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ
لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ} [الْبَقَرَةِ: 76] مِنْ تَصْدِيقِ مَنْ قَالُوا: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [الْبَقَرَةِ: 285] ؟! وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ. كَفَاكَ مَا قَدْ قَالَهُ الرَّسُولُ ... إِذْ جَاءَهُ يَسْأَلُهُ جِبْرِيلُ عَلَى مَرَاتِبٍ ثَلَاثٍ فَصَّلَهْ ... جَاءَتْ عَلَى جَمِيعِهِ مُشْتَمِلَهْ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَالْإِحْسَانِ ... وَالْكُلُّ مَبْنِيٌّ عَلَى أَرْكَانِ "كَفَاكَ" أَيُّهَا الطَّالِبُ الْحَقَّ "مَا قَدْ قَالَ الرَّسُولُ" مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "إِذْ" حِينَ "جَاءَهُ يَسْأَلُهُ" عَنْ مَرَاتِبِ الدِّينِ وَشَرَائِعِهِ "جِبْرِيلُ" عَلَيْهِ السَّلَامُ كَمَا فِي الْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ "عَلَى مَرَاتِبٍ ثَلَاثٍ فَصَّلَهْ" فِي تِلْكَ الْأَجْوِبَةِ الصَّرِيحَةِ "جَاءَتْ" أَيِ: الثَّلَاثُ الْمَرَاتِبُ "عَلَى جَمِيعِهِ" أَيْ: عَلَى جَمِيعِ الدِّينِ "مُشْتَمِلَهْ" وَلِهَذَا سَمَّى النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تِلْكَ الْأُمُورَ "الدِّينَ" فَقَالَ: "هَذَا جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ"1. [مَرْتَبَةُ الْإِسْلَامِ] : "الْإِسْلَامِ" بِالْخَفْضِ بَدَلٌ مُفَصَّلٌ مِنْ مُجْمَلِ مَرَاتِبَ, وَيُقَالُ لَهُ: بَدَلُ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ, وَمَا بَعْدَهُ مَعْطُوفَانِ عَلَيْهِ. هَذِهِ هِيَ الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى فِي حَدِيثِ عُمَرَ وَمَا وَافَقَ لَفْظَهُ. وَالْإِسْلَامُ لُغَةً: الِانْقِيَادُ وَالْإِذْعَانُ, وَأَمَّا فِي الشَّرِيعَةِ فَلِإِطْلَاقِهِ حَالَتَانِ: "الْحَالَةُ الْأُولَى" أَنْ يُطْلَقَ عَلَى الْإِفْرَادِ غَيْرَ مُقْتَرِنٍ بِذِكْرِ الْإِيمَانِ, فَهُوَ حِينَئِذٍ يُرَادُ بِهِ الدِّينُ كُلُّهُ أُصُولُهُ وفروعه من اعتقاداته وَأَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ, كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آلِ عِمْرَانَ: 19] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [الْمَائِدَةِ: 3] وَقَوْلِهِ: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آلِ عِمْرَانَ: 85] وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً}
[الْبَقَرَةِ: 208] أَيْ: فِي كَافَّةِ شَرَائِعِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَكَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سَأَلَهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ حَيْدَةَ: مَا الْإِسْلَامُ؟ قَالَ: "أَنْ تَقُولَ: أَسْلَمْتُ وَجْهِي لِلَّهِ وَتَخَلَّيْتُ" 1 الْحَدِيثَ, وَفِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْإِسْلَامُ؟ قَالَ: "أَنْ يَسْلَمَ قَلْبُكَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ, وَأَنْ يَسْلَمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِكَ وَيَدِكَ" قَالَ: فَأَيُّ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "الْإِيمَانُ" قَالَ: وَمَا الْإِيمَانُ؟ قَالَ: "تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ" 2 فَجَعَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِيمَانَ مِنَ الْإِسْلَامِ وَهُوَ أَفْضَلُهُ, وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا أَسْلَمَ الْعَبْدُ فَحَسُنَ إِسْلَامُهُ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ كُلَّ حَسَنَةٍ كَانَ أَزْلَفَهَا, وَمُحِيَتْ عَنْهُ كُلُّ سَيِّئَةٍ كَانَ أَزْلَفَهَا" 3 الْحَدِيثَ. فَإِنَّ الِانْقِيَادَ ظَاهِرًا بِدُونِ إِيمَانٍ لَا يَكُونُ حُسْنَ إِسْلَامٍ بَلْ هُوَ النِّفَاقُ, فَكَيْفَ تُكْتَبُ لَهُ حَسَنَاتٌ أَوْ تُمْحَى عَنْهُ سَيِّئَاتٌ؟! وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ. "الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ" أَنْ يُطْلَقَ مُقْتَرِنًا بِالِاعْتِقَادِ, فَهُوَ حِينَئِذٍ يُرَادُ بِهِ الْأَعْمَالُ وَالْأَقْوَالُ الظَّاهِرَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الْحُجُرَاتِ: 14] الْآيَةَ, وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَالَ لَهُ سَعِيدٌ رَضِيَ الله عنه: مالك عَنْ فُلَانٍ, فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَرَاهُ مُؤْمِنًا, فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَوْ مُسْلِمٌ" 4 يَعْنِي أَنَّكَ لَمْ تَطَّلِعْ عَلَى إِيمَانِهِ وَإِنَّمَا اطَّلَعْتَ عَلَى إِسْلَامِهِ مِنَ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ. وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ: "لَا تَقُلْ: مُؤْمِنٌ وَقُلْ: مُسْلِمٌ" 5 وَكَحَدِيثٍ عُمَرَ هَذَا, وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ.
مرتبة الإيمان
[مَرْتَبَةُ الْإِيمَانِ] : "وَالْإِيمَانِ" هَذِهِ الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ, وَالْإِيمَانُ لُغَةً: التَّصْدِيقُ, قَالَ إِخْوَةُ يُوسُفَ لِأَبِيهِمْ: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} [يُوسُفَ: 17] يَقُولُ: بِمُصَدِّقٍ, وَأَمَّا فِي الشَّرِيعَةِ فَلِإِطْلَاقِهِ حَالَتَانِ: "الْحَالَةُ الْأُولَى" أَنْ يُطْلَقَ عَلَى الْإِفْرَادِ غَيْرَ مُقْتَرِنٍ بِذِكْرِ الْإِسْلَامِ, فَحِينَئِذٍ يُرَادُ بِهِ الدِّينُ كُلُّهُ, كَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [الْبَقَرَةِ: 257] وَقَوْلِهِ: {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} [آلِ عِمْرَانَ: 68] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الْحَدِيدِ: 16] وَقَوْلِهِ: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [إِبْرَاهِيمَ: 11] {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الْمَائِدَةِ: 23] وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا نَفْسٌ مُؤْمِنَةٌ" 1؛ وَلِهَذَا حَصَرَ اللَّهُ الْإِيمَانَ فِيمَنِ الْتَزَمَ الدِّينَ كُلَّهُ بَاطِنًا وَظَاهِرًا فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ، الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ، أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الْأَنْفَالِ: 2-4] وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [النُّورِ: 62] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ، تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ، فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السَّجْدَةِ: 15-17] وَفَسَّرَهُمْ بِمَنِ اتَّصَفَ بِذَلِكَ كُلِّهِ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {الم
ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ، وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ، أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الْبَقَرَةِ: 1-5] وَفِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ، وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ، أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آلِ عِمْرَانَ: 133-136] وَفِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الْأَعْرَافِ: 156، 157] وَفِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ، إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ، فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ، أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ، الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 1-11] وَفِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ، هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ، الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [النَّمْلِ: 1-3] وَغَيْرَهَا مِنَ الْآيَاتِ. وَقَدْ فَسَّرَ اللَّهُ تَعَالَى
"الْإِيمَانَ" بِذَلِكَ كُلِّهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [الْبَقَرَةِ: 177] . وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَنَّ أَبَا ذَرٍّ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا الْإِيمَانُ؟ فَتَلَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} [الْبَقَرَةِ: 177] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. ثُمَّ سَأَلَهُ أَيْضًا فَتَلَاهَا عَلَيْهِ ثُمَّ سَأَلَهُ فَقَالَ: "إِذَا عَمِلْتَ حَسَنَةً أَحَبَّهَا قَلْبُكَ, وَإِذَا عَمِلْتَ سَيِّئَةً أَبْغَضَهَا قَلْبُكَ"1 رَوَاهُ الْمَسْعُودِيُّ بِنَحْوِهِ, وَفَسَّرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ كُلِّهِ فِي حَدِيثِ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا فَقَالَ: "آمُرُكُمْ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَحْدَهُ" قَالَ: "أَتَدْرُونَ مَا الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَحْدَهُ "؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: "شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَإِقَامُ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ وَصِيَامُ رَمَضَانَ وَأَنْ تُؤَدُّوا مِنَ الْمَغْنَمِ الْخُمْسَ" 2, وَقَدْ جَعَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صِيَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا مِنَ الْإِيمَانِ, وَكَذَا قِيَامَ لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَكَذَا أَدَاءِ الْأَمَانَةِ وَكَذَا الْجِهَادَ وَالْحَجَّ وَاتِّبَاعَ الْجَنَائِزِ, وَغَيْرَ ذَلِكَ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: "الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً, فَأَعْلَاهَا: قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا: إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ" 3 وَهَذِهِ الشُّعَبُ الْمَذْكُورَةُ قَدْ جَاءَتْ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ فِي مَوَاضِعَ
مُتَفَرِّقَةٍ, مِنْهَا مَا هُوَ مِنْ قَوْلِ الْقَلْبِ وَعَمَلِهِ, وَمِنْهَا مَا هُوَ مِنْ قَوْلِ اللِّسَانِ, وَمِنْهَا مَا هُوَ مِنْ عَمَلِ الْجَوَارِحِ. وَلَمَّا كَانَتِ الصَّلَاةُ جَامِعَةً لِقَوْلِ الْقَلْبِ وَعَمَلِهِ وَقَوْلِ اللِّسَانِ وَعَمَلِهِ وَعَمَلِ الْجَوَارِحِ, سَمَّاهَا اللَّهُ تَعَالَى إِيمَانًا فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [الْبَقَرَةِ: 143] يَعْنِي: صَلَاتَكُمْ كَمَا يُعْلَمُ مِنْ سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ, وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ: كُنَّا عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فَذَكَرْنَا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَمَا سَبَقُونَا بِهِ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: إِنَّ أَمْرَ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ بَيِّنًا لِمَنْ رَآهُ, وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ مَا آمَنَ أَحَدٌ قَطُّ إِيمَانًا أَفْضَلَ مِنْ إِيمَانٍ بِالْغَيْبِ, ثُمَّ قَرَأَ: {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ} إِلَى قَوْلِهِ: {الْمُفْلِحُونَ} [الْبَقَرَةِ: 1-5] 1. وَالْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْبَابِ يَطُولُ ذِكْرُهَا, وَإِنَّمَا أَشَرْنَا إِلَى طَرَفٍ مِنْهَا يَدُلُّ عَلَى مَا وَرَاءَهُ, وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي قَصَدَهُ السَّلَفُ الصَّالِحُ بِقَوْلِهِمْ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ الْإِيمَانَ اعْتِقَادٌ وَقَوْلٌ وَعَمَلٌ, وَإِنَّ الْأَعْمَالَ كُلَّهَا دَاخِلَةٌ فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ. وَحَكَى الشَّافِعِيُّ عَلَى ذَلِكَ إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِمَّنْ أَدْرَكَهُمْ. وَأَنْكَرَ السَّلَفُ عَلَى مَنْ أَخْرَجَ الْأَعْمَالَ عَنِ الْإِيمَانِ إِنْكَارًا شَدِيدًا, وَمِمَّنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَى قَائِلِهِ وَجَعَلَهُ قَوْلًا مُحْدَثًا, مِمَّنْ سُمِّيَ لَنَا: سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ وَقَتَادَةُ وَأَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَالزُّهْرِيُّ وَإِبْرَاهِيمُ وَيَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَغَيْرُهُمْ2. قَالَ الثَّوْرِيُّ: هُوَ رَأْيٌ مُحْدَثٌ, أَدْرَكْنَا النَّاسَ عَلَى غَيْرِهِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: كَانَ مَنْ مَضَى مِنَ السَّلَفِ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْعَمَلِ وَالْإِيمَانِ. وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى الْأَمْصَارِ: أَمَّا بَعْدُ, فَإِنَّ الْإِيمَانَ فَرَائِضُ وَشَرَائِعُ, فَمَنِ اسْتَكْمَلَهَا اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ, وَمَنْ لَمْ
يَسْتَكْمِلْهَا لَمْ يَسْتَكْمِلِ الْإِيمَانَ1. وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي أَرَادَ الْبُخَارِيُّ إِثْبَاتَهُ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ وَعَلَيْهِ بَوَّبَ أَبْوَابَهُ كُلَّهَا, فَقَالَ: "بَابُ أُمُورِ الْإِيمَانِ" وَ"بَابُ الصَّلَاةِ مِنَ الْإِيمَانِ" وَ"بَابُ الزَّكَاةِ مِنَ الْإِيمَانِ" وَ"بَابُ الْجِهَادِ مِنَ الْإِيمَانِ" وَ"بَابُ حُبِّ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْإِيمَانِ" وَ"بَابُ الْحَيَاءِ مِنَ الْإِيمَانِ" وَ"بَابُ صَوْمِ رَمَضَانَ احْتِسَابًا مِنَ الْإِيمَانِ" وَ"بَابُ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ مِنَ الْإِيمَانِ" وَ"بَابُ أَدَاءِ الْخُمْسِ مِنَ الْإِيمَانِ" وَسَائِرَ أَبْوَابِهِ. وَكَذَلِكَ صَنَعَ النَّسَائِيُّ فِي الْمُجْتَبَى, وَبَوَّبَ التِّرْمِذِيُّ عَلَى حَدِيثِ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ "بَابُ مَا جَاءَ فِي إِضَافَةِ الْفَرَائِضِ إِلَى الْإِيمَانِ" وَكَلَامُ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ وَتَرَاجِمُهُمْ فِي كُتُبِهِمْ يَطُولُ ذِكْرُهُ وَهُوَ مَعْلُومٌ مَشْهُورٌ, وَمِمَّا قَصَدُوهُ بِذَلِكَ الرَّدُّ عَلَى أَهْلِ البدع ممن قالوا: هُوَ مُجَرَّدُ التَّصْدِيقِ فَقَطْ؛ كَابْنِ الرَّاوَنْدِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ, إِذْ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ الْيَهُودُ الَّذِينَ أَقَرُّوا بِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وَاسْتَيْقَنُوهَا وَلَمْ يَتَّبِعُوهُ مُؤْمِنِينَ بِذَلِكَ, وَقَدْ نَفَى اللَّهُ الْإِيمَانَ عَنْهُمْ. وَقَالَ جَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ وَأَتْبَاعُهُ: هُوَ الْمَعْرِفَةُ بِاللَّهِ فَقَطْ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَيْسَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ كَافِرٌ بِالْكُلِّيَّةِ, إذ لا يجهل الْخَالِقَ سُبْحَانَهُ أَحَدٌ, وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَهُ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي نُونِيَّتِهِ الْكَافِيَةِ الشَّافِيَةِ: قَالُوا: وَإِقْرَارُ الْعِبَادِ بِأَنَّهُ ... خَلَّاقُهُمْ هُوَ مُنْتَهَى الْإِيمَانِ وَالنَّاسُ مِنَ الْإِيمَانِ شَيْءٌ وَاحِدٌ ... كَالْمُشْطِ عِنْدَ تَمَاثُلِ الْأَسْنَانِ فَاسْأَلْ أَبَا جَهْلٍ وَشِيعَتَهُ وَمَنْ ... وَالَاهُمُو مِنْ عَابِدِي الْأَوْثَانِ وَسَلِ الْيَهُودَ وَكُلَّ أَقْلَفَ مُشْرِكٍ ... عَبَدَ الْمَسِيحَ مُقَبِّلَ الصُّلْبَانِ وَاسْأَلْ ثَمُودَ وَعَادَ بَلْ سَلْ قَبْلَهُمْ ... أَعْدَاءَ نُوحٍ أُمَّةَ الطُّوفَانِ وَاسْأَلْ أَبَا الْجِنِّ اللَّعِينَ أَتَعْرِفُ الْـ ... ـخَلَّاقَ أَمْ أَصْبَحْتَ ذَا نُكْرَانِ وَاسْأَلْ شِرَارَ الْخَلْقِ واَقْبَحَ أُمَّةٍ ... لُوطِيَّةٍ هُمْ نَاكِحُو الذُّكْرَانِ وَاسْأَلْ كَذَاكَ إِمَامَ كُلِّ مُعَطِّلٍ ... فِرْعَوْنَ مَعْ قَارُونَ مَعْ هَامَانِ
هَلْ كَانَ فِيهِمْ مُنْكِرٌ لِلْخَالِقِ الْـ ... ـرَبِّ الْعَظِيمِ مُكَوِّنِ الْأَكْوَانِ فليبشروا ما فيهمو مِنْ كَافِرٍ ... هُمْ عِنْدَ جَهْمٍ كَامِلُو الْإِيمَانِ1 وَقَالَتِ الْمُرْجِئَةُ وَالْكَرَّامِيَّةُ: الْإِيمَانُ هُوَ الْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ دُونَ عَقْدِ الْقَلْبِ, فَيَكُونُ الْمُنَافِقُونَ عَلَى هَذَا مُؤْمِنِينَ, وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِيهِمْ: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ, وَهُمْ قَدْ نَطَقُوا بِالشَّهَادَتَيْنِ بِأَلْسِنَتِهِمْ فَقَطْ وَكَذَّبَهُمُ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- فِي دَعْوَاهُمْ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنَ الْقُرْآنِ. وَقَالَ آخَرُونَ: التَّصْدِيقُ بِالْجَنَانِ وَالْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ. وَهَذَا الْقَوْلُ مُخْرِجٌ لِأَرْكَانِ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ, وَهُوَ ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ. وَذَهَبَ الْخَوَارِجُ وَالْعَلَّافُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ إِلَى أَنَّهُ الطَّاعَةُ بِأَسْرِهَا فَرْضًا كَانَتْ أَوْ نَفْلًا, وَهَذَا الْقَوْلُ مُصَادِمٌ لِتَعْلِيمِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِوُفُودِ الْعَرَبِ السَّائِلِينَ عَنِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ. وَكُلَّ مَا يَقُولُ لَهُ السَّائِلُ فِي فَرِيضَةٍ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: "لَا إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ شَيْئًا" 2. وَذَهَبَ الْجُبَّائِيُّ وَأَكْثَرُ الْمُعْتَزِلَةِ الْبَصْرِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ الطَّاعَاتُ الْمَفْرُوضَةُ مِنَ الْأَفْعَالِ وَالتُّرُوكِ دُونَ النَّوَافِلِ, وَهَذَا أَيْضًا يُدْخِلُ الْمُنَافِقِينَ فِي الْإِيمَانِ وَقَدْ نَفَاهُ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَقَالَ الْبَاقُونَ مِنْهُمْ: الْعَمَلُ وَالنُّطْقُ وَالِاعْتِقَادُ, وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ قَوْلِ السَّلَفِ الصَّالِحِ أَنَّ السَّلَفَ لَمْ يَجْعَلُوا كُلَّ الْأَعْمَالِ شَرْطًا فِي الصِّحَّةِ, بَلْ جَعَلُوا كَثِيرًا مِنْهَا شَرْطًا فِي الْكَمَالِ, كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِيهَا: مَنِ اسْتَكْمَلَهَا اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ وَمَنْ لَمْ يَسْتَكْمِلْهَا لَمْ يَسْتَكْمِلِ الْإِيمَانَ3, وَالْمُعْتَزِلَةُ جَعَلُوهَا كُلَّهَا شَرْطًا فِي الصِّحَّةِ, وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
"والحالة الثَّانِيَةُ" أَنَّ يُطْلَقَ الْإِيمَانُ مَقْرُونًا بِالْإِسْلَامِ, وَحِينَئِذٍ يُفَسَّرُ بِالِاعْتِقَادَاتِ الْبَاطِنَةِ كَمَا فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ هَذَا وَمَا فِي مَعْنَاهُ, وَكَمَا فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [النساء: 57] في غيرما مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ, وَكَمَا فِي قَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي دُعَاءِ الْجِنَازَةِ: "اللَّهُمَّ مَنْ أَحْيَيْتَهُ مِنَّا فَأَحْيِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ, وَمَنْ تَوَفَّيْتَهُ مِنَّا فَتَوَفِّهِ عَلَى الْإِيمَانِ" 1, وَذَلِكَ أَنَّ الْأَعْمَالَ بِالْجَوَارِحِ وَإِنَّمَا يَتَمَكَّنُ مِنْهَا فِي الْحَيَاةِ, فَأَمَّا عِنْدُ الْمَوْتِ فَلَا يَبْقَى غَيْرُ قَوْلِ الْقَلْبِ وَعَمَلِهِ. وَكَحَدِيثِ أَنَسٍ عِنْدَ أَحْمَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْإِسْلَامُ عَلَانِيَةٌ, وَالْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ" 2. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إِذَا أُفْرِدَ كُلٌّ مِنَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ بِالذِّكْرِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا حِينَئِذٍ, بَلْ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى انْفِرَادِهِ يَشْمَلُ الدِّينَ كُلَّهُ, وَإِنْ فُرِّقَ بَيْنَ الِاسْمَيْنِ كَانَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا بِمَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْجَلِيلِ. وَالْمَجْمُوعُ مَعَ الْإِحْسَانِ هُوَ الدِّينُ كَمَا سَمَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ كُلَّهُ دِينًا, وَبِهَذَا يَحْصُلُ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ وَبَيْنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي فِيهَا تَفْسِيرُ الْإِيمَانِ بِالْإِسْلَامِ وَالْإِسْلَامِ بِالْإِيمَانِ, وَبِذَلِكَ جمع بينه وبينها أَهْلُ الْعِلْمِ. قَالَ ابْنُ رَجَبٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَأَمَّا وَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ النُّصُوصِ وَبَيْنَ حَدِيثِ سُؤَالِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَتَفْرِيقِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا وَإِدْخَالِهِ الْأَعْمَالَ فِي مُسَمَّى الْإِسْلَامِ دُونَ الْإِيمَانِ, فَإِنَّهُ يَتَّضِحُ بِتَقْرِيرِ أَصْلٍ, وَهُوَ أَنَّ مِنَ الْأَسْمَاءِ مَا يَكُونُ شَامِلًا لِمُسَمَّيَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ عِنْدَ إِفْرَادِهِ وَإِطْلَاقِهِ, فَإِذَا قُرِنَ ذَلِكَ
الِاسْمُ بِغَيْرِهِ صَارَ دَالًّا على بعض تلك الْمُسَمَّيَاتِ, وَالِاسْمُ الْمَقْرُونُ بِهِ دَالًّا عَلَى بَاقِيهَا, وَهَذَا كَاسْمِ الْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ فَإِذَا أُفْرِدَ أَحَدُهُمَا دَخَلَ فِيهِ كُلُّ مَنْ هُوَ مُحْتَاجٌ, فَإِذَا قُرِنَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ دَلَّ أَحَدُ الِاسْمَيْنِ عَلَى بَعْضِ أَنْوَاعِ ذَوِي الْحَاجَاتِ وَالْآخَرُ عَلَى بَاقِيهَا, فَهَكَذَا اسْمُ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ إِذَا أُفْرِدَ أَحَدُهُمَا دَخَلَ فِيهِ الْآخَرُ وَدَلَّ بِانْفِرَادِهِ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْآخَرُ بِانْفِرَادِهِ, فَإِذَا قُرِنَ بَيْنَهُمَا دَلَّ أَحَدُهُمَا عَلَى بَعْضِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ بِانْفِرَادِهِ وَدَلَّ الْآخَرُ عَلَى الْبَاقِي. قَالَ: وَقَدْ صَرَّحَ بِهَذَا الْمَعْنَى جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ, قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي رِسَالَتِهِ إِلَى أَهْلِ الْجَبَلِ: قَالَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ: إِنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ, وَالْإِسْلَامُ فِعْلُ مَا فَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَفْعَلَهُ, إِذَا ذُكِرَ كُلُّ اسْمٍ عَلَى حِدَتِهِ مَضْمُومًا إِلَى الْآخَرِ فَقِيلَ: الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُسْلِمُونَ جَمِيعًا مُفْرَدَيْنَ أُرِيدُ بِأَحَدِهِمَا مَعْنًى لَمْ يُرَدْ بِهِ الْآخَرُ, وَإِذَا ذُكِرَ أَحَدُ الِاسْمَيْنِ شَمِلَ الْكُلَّ وَعَمَّهُمْ. وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا الْخَطَّابِيُّ فِي كِتَابِهِ مَعَالِمُ السُّنَنِ, وَتَبِعَهُ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْ بَعْدِهِ1. قُلْتُ: كَلَامُ الْخَطَّابِيِّ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ رَجَبٍ ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ قَالَ: قَالَ الْإِمَامُ أَبُو سُلَيْمَانَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَطَّابِيُّ الْبَسْتِيُّ الْفَقِيهُ الْأَدِيبُ الشَّافِعِيُّ الْمُحَقِّقُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى, فِي كِتَابِهِ مَعَالِمُ السُّنَنِ: مَا أَكْثَرَ مَا يَغْلَطُ النَّاسُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ, فَأَمَّا الزُّهْرِيُّ فَقَالَ: الْإِسْلَامُ الْكَلِمَةُ وَالْإِيمَانُ الْعَمَلُ, وَاحْتَجَّ بِالْآيَةِ يَعْنِي: قَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الْحُجُرَاتِ: 14] . وَذَهَبَ غَيْرُهُ إِلَى أَنَّ الْإِسْلَامَ وَالْإِيمَانَ شَيْءٌ وَاحِدٌ, وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذَّارِيَاتِ: 35، 36] قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَقَدْ تَكَلَّمَ فِي هَذَا الْبَابِ رَجُلَانِ مِنْ كُبَرَاءِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى قَوْلٍ مِنْ هَذَيْنِ, وَرَدَّ الْآخَرُ مِنْهُمَا عَلَى الْمُتَقَدِّمِ وَصَنَّفَ كِتَابًا يَبْلُغُ عَدَدُ أَوْرَاقِهِ الْمِئِينَ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَالصَّحِيحُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُقَيَّدَ الْكَلَامُ فِي هَذَا
وَلَا يُطْلَقُ, وَذَلِكَ أَنَّ الْمُسْلِمَ قَدْ يَكُونُ مُؤْمِنًا فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ وَلَا يَكُونُ مُؤْمِنًا فِي بَعْضِهَا, وَالْمُؤْمِنُ مُسْلِمٌ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ, فَكُلُّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ وَلَيْسَ كُلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنًا. وَإِذَا حَمَلْتَ الْأَمْرَ عَلَى هَذَا اسْتَقَامَ لَكَ تَأْوِيلُ الْآيَاتِ وَاعْتَدَلَ الْقَوْلُ فِيهَا, وَلَمْ يَخْتَلِفْ شَيْءٌ مِنْهَا. وَأَصْلُ الْإِيمَانِ التَّصْدِيقُ, وَأَصْلُ الْإِسْلَامِ الِاسْتِسْلَامُ وَالِانْقِيَادُ, فَقَدْ يَكُونُ الْمَرْءُ مُسْتَسْلِمًا فِي الظَّاهِرِ غَيْرَ مُنْقَادٍ فِي الْبَاطِنِ, وَقَدْ يَكُونُ مُصَدِّقًا فِي الْبَاطِنِ غَيْرَ مُنْقَادٍ فِي الظَّاهِرِ1. قُلْتُ: مَا رَوَاهُ الْخَطَّابِيُّ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: الْإِسْلَامُ الْكَلِمَةُ وَالْإِيمَانُ الْعَمَلُ, هَذَا عِنْدِي فِيهِ نَظَرٌ؛ فَإِنَّهُ غَيْرُ قَيِّمِ الْمَبْنَى وَلَا وَاضِحُ الْمَعْنَى, وَالزَّهْرِيُّ إِمَامٌ عَظِيمٌ مِنْ كِبَارِ حَمَلَةِ الشَّرِيعَةِ لَا يَجْهَلُ مِثْلَ هَذَا وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْعِبَارَةُ مَحْفُوظَةً عَنْهُ مِنْ وَجْهٍ يَصِحُّ بِهَذِهِ الْحُرُوفِ, فَإِنْ صَحَّ النَّقْلُ عَنْهُ فَفِي الْكَلَامِ تَصْحِيفٌ وَإِسْقَاطٌ لَعَلَّ الصَّوَابَ فِيهِ هَكَذَا: الْإِسْلَامُ: الْكَلِمَةُ وَالْإِيمَانُ وَالْعَمَلُ, فَسَقَطَتِ الْوَاوُ الْعَاطِفَةُ لِلْعَمَلِ عَلَى الْإِيمَانِ, وَهَذَا مُتَعَيِّنٌ لِمُوَافَقَتِهِ قَوْلَ أَهْلِ السُّنَّةِ قَاطِبَةً: أَنَّ الْإِيمَانَ اعْتِقَادٌ وَقَوْلٌ وَعَمَلٌ. وَالزُّهْرِيُّ مِنْ أَكْبَرِ أَئِمَّتِهِمْ وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ مَعَهُمْ فِيمَا رَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْهُمْ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى, وَيَكُونُ عَنَى بِالْإِسْلَامِ الدِّينَ كُلَّهُ كَمَا عَنَى غَيْرَهُ بِالْإِيمَانِ الدِّينَ كُلَّهُ, وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ اسْتِدْلَالُهُ بِالْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ إِلَّا عَلَى هَذَا وَلَا يَسْتَقِيمُ عَلَى مَعْنَى الْأَوَّلِ؛ لِإِهْمَالِ الِاعْتِقَادِ فِيهِ الْمَوْجُودِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الْحُجُرَاتِ: 14] الْآيَةَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَذَهَبَ غَيْرُهُ إِلَى أَنَّ الْإِسْلَامَ وَالْإِيمَانَ شَيْءٌ وَاحِدٌ, فَهَذَا إِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ الْغَيْرِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ فَهُمْ لَمْ يَجْعَلُوهُمَا شَيْئًا وَاحِدًا إِلَّا عِنْدَ الِانْفِرَادِ وَعَدَمِ الِاقْتِرَانِ لِشُمُولِ أَحَدِهِمَا مَعْنَى الْآخَرِ كَمَا قَدَّمْنَا, وَأَمَّا عِنْدُ اقْتِرَانِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ فَفَرَّقُوا بَيْنَهُمَا بِمَا فرق به الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَإِنْ أَرَادَ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ فَإِطْلَاقُ التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا وَالِاتِّحَادِ فِي كُلِّ حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ هُوَ رَأْيُ الْمُعْتَزِلَةِ, وَهُمُ الْمُحْتَجُّونَ عَلَى ذَلِكَ بِآيَتَيِ الذَّارِيَاتِ وَهُوَ احْتِجَاجٌ ضَعِيفٌ جِدًّا،
لِأَنَّ هَؤُلَاءِ كَانُوا قَوْمًا مُؤْمِنِينَ وَعِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ كُلَّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ وَلَا يَنْعَكِسُ, فاتفق الاسمان ههنا لِخُصُوصِيَّةِ الْحَالِ, وَلَا يَلْزَمُ ذَلِكَ فِي كُلِّ حَالٍ, وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَيْضًا فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً ... " 1: فِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيَانُ أَنَّ الْإِيمَانَ الشَّرْعِيَّ اسْمٌ لِمَعْنًى ذِي شُعَبٍ وَأَجْزَاءٍ, لَهُ أَعْلَى وَأَدْنَى, والاسم يتعلق ببعضها كَمَا يَتَعَلَّقُ بِكُلِّهَا, وَالْحَقِيقَةُ تَقْتَضِي جَمِيعَ شُعَبِهِ وَتَسْتَوْفِي جُمْلَةَ أَجْزَائِهِ؛ كَالصَّلَاةِ الشَّرْعِيَّةِ لَهَا شُعَبٌ وَأَجْزَاءٌ والاسم يتعلق ببعضها, وَالْحَقِيقَةُ تقتضي جميع أجزائها وَتَسْتَوْفِيهَا, وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ" 2 وفيه إثبات التفاضل فِي الْإِيمَانِ وَتَبَايُنِ الْمُؤْمِنِينَ في درجاته3. ا. هـ. وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْحُسَيْنُ بْنُ مَسْعُودٍ الْبَغَوِيُّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ, لَمَّا ذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ عِنْدَ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [الْبَقَرَةِ: 3] الْآيَاتِ, قَالَ: فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ الْإِسْلَامَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ اسْمًا لِمَا ظَهَرَ مِنَ الْأَعْمَالِ, وَالْإِيمَانَ اسْمًا لِمَا بَطَنَ مِنْ الِاعْتِقَادِ, وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْأَعْمَالَ لَيْسَتْ مِنَ الْإِيمَانِ وَالتَّصْدِيقَ بِالْقَلْبِ لَيْسَ مِنَ الْإِسْلَامِ, بَلْ ذَلِكَ تَفْصِيلٌ لِجُمْلَةٍ هِيَ كُلُّهَا شَيْءٌ وَاحِدٌ وَجُمَّاعُهَا الدِّينُ, وَلِذَلِكَ قَالَ: "ذَاكَ جِبْرِيلُ, أَتَاكُمْ يعلمكم دينكم" ا. هـ4. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرِو بْنُ الصَّلَاحِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْإِسْلَامُ أَنَّ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ وَتَصُومَ رَمَضَانَ وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا, وَالْإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ" قَالَ: هَذَا بَيَانٌ لِأَصْلِ الْإِيمَانِ, وَهُوَ التَّصْدِيقُ الْبَاطِنُ وَبَيَانٌ لِأَصْلِ الْإِسْلَامِ, وَهُوَ الِاسْتِسْلَامُ وَالِانْقِيَادُ الظَّاهِرُ, وَحُكْمُ الْإِسْلَامِ فِي الظَّاهِرِ يَثْبُتُ بِالشَّهَادَتَيْنِ, وَإِنَّمَا أَضَافَ إِلَيْهِمَا الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ وَالصَّوْمَ
وَالْحَجَّ لِكَوْنِهَا أَظْهَرَ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ وَأَعْظَمَهَا, وَبِقِيَامِهَا بِهِ يَتِمُّ اسْتِسْلَامُهُ, وَتَرْكُهُ لَهَا يُشْعِرُ بِانْحِلَالِ قَيْدِ انْقِيَادِهِ أَوِ اخْتِلَالِهِ. ثُمَّ إِنَّ اسْمَ الْإِيمَانِ يَتَنَاوَلُ مَا فُسِّرَ بِهِ الْإِسْلَامُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَسَائِرُ الطَّاعَاتِ لِكَوْنِهَا ثَمَرَاتِ التَّصْدِيقِ الْبَاطِنِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الْإِيمَانِ وَمُقَوِّيَاتٍ وَمُتَمِّمَاتٍ وَحَافِظَاتٍ؛ وَلِهَذَا فَسَّرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِيمَانَ فِي حَدِيثِ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَصَوْمِ رَمَضَانَ وَإِعْطَاءِ الْخُمْسِ مِنَ الْمَغْنَمِ؛ وَلِهَذَا لَا يَقَعُ اسْمُ الْمُؤْمِنِ الْمُطْلَقُ عَلَى مَنِ ارْتَكَبَ كَبِيرَةً أَوْ تَرَكَ فَرِيضَةً لِأَنَّ اسْمَ الشَّيْءِ مُطْلَقًا يَقَعُ عَلَى الكل منه, ولا يستعمل فِي النَّاقِصِ ظَاهِرًا إِلَّا بِقَيْدٍ؛ وَلِذَلِكَ جَازَ إِطْلَاقُ نَفْيِهِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ" 1، وَاسْمُ الْإِسْلَامِ يَتَنَاوَلُ أَيْضًا مَا هُوَ أَصْلُ الْإِيمَانِ وَهُوَ التَّصْدِيقُ الْبَاطِنُ, وَيَتَنَاوَلُ أَصْلَ الطَّاعَاتِ فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ اسْتِسْلَامٌ, قَالَ: فَخَرَجَ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ وَحَقَّقْنَاهُ أَنَّ الْإِيمَانَ وَالْإِسْلَامَ يَجْتَمِعَانِ وَيَفْتَرِقَانِ, وَأَنَّ كُلَّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ وَلَيْسَ كُلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنًا. قَالَ: وَهَذَا تَحْقِيقٌ وَافٍ بِالتَّوْفِيقِ بَيْنَ مُتَفَرِّقَاتِ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْوَارِدَةِ فِي الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ الَّتِي طَالَمَا غَلِطَ فِيهَا الْخَائِضُونَ, وَمَا حَقَّقْنَاهُ مِنْ ذَلِكَ مُوَافِقٌ لِمَذْهَبِ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ أَهْلِ الحديث وغيرهم2. ا. هـ. وَقَالَ ابْنُ رَجَبٍ الْحَنْبَلِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى, فِي الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ: قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْأَعْمَالَ تَدْخُلُ فِي مُسَمَّى الْإِسْلَامِ وَمُسَمَّى الْإِيمَانِ أَيْضًا, وَذَكَرْنَا مَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مِنْ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ الظَّاهِرَةِ, وَيَدْخُلُ فِي مُسَمَّاهَا أَيْضًا أَعْمَالُ الْجَوَارِحِ الْبَاطِنَةُ فَيَدْخُلُ فِي أَعْمَالِ الْإِسْلَامِ إِخْلَاصُ الدِّينِ لِلَّهِ تَعَالَى وَالنُّصْحُ لَهُ وَلِعِبَادِهِ وَسَلَامَةُ الْقَلْبِ لَهُمْ مِنَ الْغِشِّ وَالْحَسَدِ وَالْحِقْدِ وَتَوَابِعِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَذَى, وَيَدْخُلُ فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ وَجَلُ الْقُلُوبِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ, وَخُشُوعُهَا عِنْدَ سَمَاعِ ذِكْرِهِ وَكِتَابِهِ, وَزِيَادَةُ الْإِيمَانِ بِذَلِكَ وَتَحْقِيقُ التَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَخَوْفُ اللَّهِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَالرِّضَا بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَسُولًا, وَاخْتِيَارُ تَلَفِ النُّفُوسِ بِأَعْظَمِ أَنْوَاعِ الْآلَامِ عَلَى الْكُفْرِ, وَاسْتِشْعَارُ قُرْبِ اللَّهِ مِنَ
الْعَبْدِ وَدَوَامُ اسْتِحْضَارِهِ, وَإِيثَارُ مُحِبَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ عَلَى مَحَبَّةِ مَا سِوَاهُمَا, وَالْحُبُّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضُ فِيهِ وَالْعَطَاءُ لَهُ وَالْمَنْعُ لَهُ, وَأَنْ يَكُونَ جَمِيعُ الْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ لَهُ, وَسَمَاحَةُ النُّفُوسِ بِالطَّاعَةِ الْمَالِيَّةِ وَالْبَدَنِيَّةِ وَالِاسْتِبْشَارُ بِعَمَلِ الْحَسَنَاتِ وَالْفَرَحُ بِهَا وَالْمَسَاءَةُ بِعَمَلِ السَّيِّئَاتِ وَالْحُزْنُ عَلَيْهَا, وَإِيثَارُ الْمُؤْمِنِينَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ, وَكَثْرَةُ الْحَيَاءِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ, وَمَحَبَّةُ مَا يُحِبُّهُ لِنَفْسِهِ لِإِخْوَانِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَمُوَاسَاةُ الْمُؤْمِنِينَ خُصُوصًا الْجِيرَانَ وَمُعَاضَدَةُ الْمُؤْمِنِينَ وَمُنَاصَرَتُهُمْ وَالْحُزْنُ بِمَا يُحْزِنُهُمْ. ثُمَّ سَاقَ مِنَ النُّصُوصِ فِي ذَلِكَ جُمْلَةً وَافِيَةً, قَالَ: وَالرِّضَا بِرُبُوبِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى تَتَضَمَّنُ الرِّضَا بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ, وَالرِّضَا بِتَدْبِيرِهِ لِلْعَبْدِ وَاخْتِيَارِهِ لَهُ, وَالرِّضَا بِالْإِسْلَامِ دِينًا يَتَضَمَّنُ اخْتِيَارَهُ عَلَى سَائِرِ الْأَدْيَانِ, وَالرِّضَا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ سَلَّمَ رَسُولًا يَتَضَمَّنُ الرِّضَا بِجَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَقَبُولَ ذَلِكَ بِالتَّسْلِيمِ وَالِانْشِرَاحِ, كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] ا. هـ1. وَنُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَقْوَالُ أَئِمَّةِ الدِّينِ -سَلَفًا وَخَلَفًا- فِي هَذَا الْبَابِ يَطُولُ ذِكْرُهَا. ثُمَّ اعْلَمْ يَا أَخِي أَرْشَدَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ أَنَّ الْتِزَامَ الدِّينِ الَّذِي يَكُونُ بِهِ النَّجَاةُ مِنْ خِزْيِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْآخِرَةِ وَبِهِ يَفُوزُ الْعَبْدُ بِالْجَنَّةِ وَيُزَحْزَحُ عَنِ النَّارِ, إِنَّمَا هُوَ مَا كَانَ عَلَى الْحَقِيقَةِ فِي كُلِّ مَا ذُكِرَ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ, وَمَا لَمْ يَكُنْ مِنْهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَلَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ مَا يُنَاقِضُهُ أُجْرِيَتْ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُسْلِمِينَ فِي الدُّنْيَا وَوُكِّلَتْ سَرِيرَتُهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى, قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التَّوْبَةِ: 11] وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} وَغَيْرَهَا مِنَ الْآيَاتِ. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُسَامَةَ فِي قَتْلِهِ الْجُهَنِيَّ بَعْدَ أَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَقَتَلْتَهُ"؟! قَالَ: قَلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا قَالَهَا خَوْفًا مِنَ السِّلَاحِ, قَالَ: "أَفَلَا شَقَقْتَ
عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ أَقَالَهَا أَمْ لَا" 1، الْحَدِيثُ بِطُولِهِ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ طُرُقٍ بِأَلْفَاظٍ, وَفِي بَعْضِهَا: فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اسْتَغْفِرْ لِي قَالَ: "وَكَيْفَ تَصْنَعُ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِذَا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ "؟! 2. وَلَمَّا أَنِ اسْتَأْذَنَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَتْلِ الرَّجُلِ الَّذِي انْتَقَدَ عَلَيْهِ حُكْمَهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي قِسْمَةِ الذُّهَيْبَةِ قَالَ: "مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَنِّي أَقْتُلُ أَصْحَابِي" 3، وَقَالَ لَهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فِيهِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا أَضْرِبُ عُنُقَهُ؟ فَقَالَ: "لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ يُصَلِّي" قَالَ خَالِدٌ: وَكَمْ مِنْ مُصَلٍّ يَقُولُ بِلِسَانِهِ مَا لَيْسَ فِي قَلْبِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنِّي لَمْ أُومَرْ أَنْ أُنَقِّبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ, وَلَا أَشُقَّ بُطُونَهُمْ" 4 الْحَدِيثُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا مِنْ طُرُقٍ بِأَلْفَاظٍ. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ, فَإِذَا قَالُوهَا وَصَلَّوْا صَلَاتَنَا وَاسْتَقْبَلُوا قِبْلَتَنَا وَذَبَحُوا ذَبِيحَتَنَا, فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْنَا دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا, وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ" 5. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَنَسٍ نَفْسِهِ وَلَهُ حُكْمُ الْمَرْفُوعِ, بَلْ قَدْ رَفَعَهُ النَّسَائِيُّ كَمَا سَيَأْتِي: "مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا وَصَلَّى صَلَاتَنَا وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا فَهُوَ الْمُسْلِمُ, لَهُ مَا لِلْمُسْلِمِ وَعَلَيْهِ مَا عَلَى الْمُسْلِمِ" 6، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي الْجِهَادِ بِلَفْظِ: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَأَنْ يَسْتَقْبِلُوا قِبْلَتَنَا وَأَنْ يَأْكُلُوا ذَبِيحَتَنَا
وَأَنْ يُصَلُّوا صَلَاتَنَا, فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ حَرُمَتْ عَلَيْنَا دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ" 1. وَفِي رِوَايَةٍ: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ الْمُشْرِكِينَ" 2 بِمَعْنَاهُ. وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي تَحْرِيمِ الدَّمِ وَلَفْظُهُ: قَالَ: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ, فَإِذَا شَهِدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَاسْتَقْبَلُوا قِبْلَتَنَا وَأَكَلُوا ذَبِيحَتَنَا وَصَلَّوْا صَلَاتَنَا, فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْنَا دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا, لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَيْهِمْ" 3. وَفِيهِ قَوْلُ مَيْمُونِ بْنِ سِيَاهٍ لِأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: يَا أَبَا حَمْزَةَ, مَا يُحَرِّمُ دَمَ الْمُسْلِمِ وَمَالَهُ؟ فَقَالَ: مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا وَصَلَّى صَلَاتَنَا وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا فَهُوَ مُسْلِمٌ, لَهُ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ4. وَرَفَعَهُ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا, فَذَلِكُمُ الْمُسْلِمُ" 5 وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ أَيْضًا. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ, فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّ الْإِسْلَامِ, وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ" 6.
مرتبة الإحسان
وَفِي مُوَطَّأِ مَالِكٍ وَمُسْنَدِ أَحْمَدَ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ: عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ حَدَّثَهُ أَنَّهُ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ فِي مَجْلِسٍ فَسَارَّهُ يَسْتَأْذِنُهُ فِي قَتْلِ رَجُلٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ, فَجَهَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "أَلَيْسَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ "؟ فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا شَهَادَةَ لَهُ, قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَلَيْسَ يَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ "؟ قَالَ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: "أَلَيْسَ يُصَلِّي"؟ قَالَ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا صَلَاةَ لَهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أُولَئِكَ الَّذِينَ نَهَانِي اللَّهُ عَنْ قَتْلِهِمْ" 1. وَفِي الْبَابِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَحَادِيثُ مِنَ الصِّحَاحِ وَالْحِسَانِ وَفِيمَا ذَكَرْنَا كِفَايَةٌ. وَأَمَرَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْقُرْآنِ بِالْإِعْرَاضِ عَنِ المنافقين في غيرما مَوْضِعٍ مَعَ إِخْبَارِهِ بِصِفَاتِهِمْ وَتَعْرِيفِهِ بِسِيمَاهُمْ وَعَلَامَاتِهِمْ, وَلَمْ يَقْتُلِ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَحَدًا مِنْهُمْ, وَأَجْرَى عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا أَحْكَامَ الْمُسْلِمِينَ الظَّاهِرَةَ, وَكَانُوا يَخْرُجُونَ مَعَهُ لِلْحَجِّ وَالْجِهَادِ وَالصَّلَاةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَيُقِيمُ الْحُدُودَ عَلَيْهِمْ, غَيْرَ أَنَّهُ نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ وَالِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ, وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [مَرْتَبَةُ الْإِحْسَانِ] : "وَالْإِحْسَانِ" هَذِهِ الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ مِنْ مَرَاتِبِ الدِّينِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ. وَالْإِحْسَانُ لُغَةً: إِجَادَةُ الْعَمَلِ وَإِتْقَانُهُ وَإِخْلَاصُهُ, وَفِي الشَّرِيعَةِ هُوَ مَا فَسَّرَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِقَوْلِهِ: "أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ, فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ" وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى بَحْثُهُ, وَالنُّصُوصُ فِيهِ عِنْدَ ذِكْرِهِ فِي آخِرِ هَذَا الْفَصْلِ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَسَّرَ الْإِسْلَامَ هُنَا بِالْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ, وَفَسَّرَ الْإِيمَانَ بِالْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ الْبَاطِنَةِ, وَالْإِحْسَانُ هُوَ تَحْسِينُ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ, وَمَجْمُوعُ ذَلِكَ هُوَ الدِّينُ, وَالْكُلُّ مِنْ هَذِهِ الْمَرَاتِبِ "مَبْنِيٌّ عَلَى أَرْكَانٍ" لَا قِوَامَ لَهُ إِلَّا بِقِيَامِهَا, وَسَنَتَكَلَّمُ عَلَى كُلٍّ مِنْهَا إِجْمَالًا وَتَفْصِيلًا, وَنُحِيلُ مَا قُدِّمَ بَيَانُهُ مِنْهَا عَلَى مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
أركان الإسلام الخمسة
[أَرْكَانُ الْإِسْلَامِ الْخَمْسَةُ] : فَقَدْ أَتَى الْإِسْلَامُ مَبْنِيًّا عَلَى ... خَمْسٍ فَحَقِّقْ وَادْرِ مَا قَدْ نُقِلَا أَوَّلُهَا الرُّكْنُ الْأَسَاسُ الْأَعْظَمُ ... وَهْوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ الْأَقْوَمُ رُكْنُ الشَّهَادَتَيْنِ فَاثْبُتْ وَاعْتَصِمْ ... بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى الَّتِي لَا تَنْفَصِمْ وَثَانِيًا إِقَامَةُ الصَّلَاةِ ... وَثَالِثًا تَأْدِيَةُ الزَّكَاةِ وَالرَّابِعُ الصِّيَامُ فَاسْمَعْ وَاتَّبِعْ ... وَالْخَامِسُ الْحَجُّ على من يستطع وَهَذِهِ أَرْكَانُ الْمَرْتَبَةِ الْأُولَى مَرْتَبَةِ الْإِسْلَامِ, وَهِيَ عَلَى قِسْمَيْنِ: قَوْلِيَّةٍ وَعَمَلِيَّةٍ. فَالْقَوْلِيَّةُ: الشَّهَادَتَانِ, وَالْعَمَلِيَّةُ: الْبَاقِي. وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: بَدَنِيَّةٌ وَهِيَ الصَّلَاةُ وَالصَّوْمُ, وَمَالِيَّةٌ وَهِيَ الزَّكَاةُ, وَبَدَنِيَّةٌ مَالِيَّةٌ وَهُوَ الْحَجُّ. وَقَوْلُ الْقَلْبِ وَعَمَلُهُ شَرْطٌ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَالنُّصُوصُ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ الْخَمْسَةِ كَثِيرَةٌ جِدًّا, وَهِيَ عَلَى نَوْعَيْنِ: قِسْمٌ شَامِلٌ لِجَمِيعِهَا, وَقِسْمٌ يَخُصُّ كُلَّ خَصْلَةٍ مِنْهَا. فَلْنَبْدَأْ بِالْقِسْمِ الْأَوَّلِ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ عَلَى حِدَتِهِ, وَالْقِسْمُ الثَّانِي مَعَ حَلِّ أَلْفَاظِ الْمَتْنِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ جِبْرِيلَ السَّابِقُ ذِكْرُهُ عَنِ الْجَمِّ الْغَفِيرِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ, وَمِنْهَا حَدِيثُ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَيْضًا, وَمِنْهَا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا, قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ, وَإِقَامِ الصَّلَاةِ, وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ, وَحَجِّ الْبَيْتِ, وَصَوْمِ
رَمَضَانَ" فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: الْجِهَادُ حَسَنٌ. هَكَذَا حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ1. وَمِنْهَا حَدِيثُ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عِنْدَ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَحَجِّ الْبَيْتِ وَصَوْمِ رَمَضَانَ" 2 وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ. وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: كُنَّا نُهِينَا أَنْ نَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَيْءٍ, فَكَانَ يُعْجِبُنَا أَنْ يَجِيءَ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ الْعَاقِلُ فَيَسْأَلُهُ وَنَحْنُ نَسْمَعُ, فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ, أَتَانَا رَسُولُكَ فَزَعَمَ لَنَا أَنَّكَ تَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرْسَلَكَ, قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "صَدَقَ" قَالَ: فَمَنْ خَلَقَ السَّمَاءَ؟ قَالَ: "اللَّهُ" قَالَ: فَمَنْ خَلَقَ الْأَرْضَ؟ قَالَ: "اللَّهُ" قَالَ: فَمَنْ نَصَبَ هَذِهِ الْجِبَالَ وَجَعَلَ فِيهَا مَا جَعَلَ؟ قَالَ: "اللَّهُ" قَالَ: فَبِالَّذِي خَلَقَ السَّمَاءَ وَخَلَقَ الْأَرْضَ وَنَصَبَ هَذِهِ الْجِبَالَ آللَّهُ أَرْسَلَكَ؟ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نَعَمْ" قَالَ: فَزَعَمَ رَسُولُكَ أَنَّ عَلَيْنَا خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي يَوْمِنَا وَلَيْلَتِنَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "صَدَقَ" قَالَ: فَبِالَّذِي أَرْسَلَكَ آللَّهُ أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: "نَعَمْ" قَالَ: وَزَعَمَ رَسُولُكَ أَنَّ عَلَيْنَا صَوْمَ شَهْرِ رَمَضَانَ فِي سَنَتِنَا, قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نَعَمْ صَدَقَ" قَالَ: فَبِالَّذِي أَرْسَلَكَ آللَّهُ أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نَعَمْ" قَالَ: وَزَعَمَ رَسُولُكَ أَنَّ عَلَيْنَا حَجَّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "صَدَقَ" قَالَ: ثُمَّ وَلَّى فَقَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ نَبِيًّا, لَا أَزْيَدُ عَلَيْهِنَّ شَيْئًا وَلَا أَنْقُصُ مِنْهُنَّ شَيْئًا, فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَئِنْ صَدَقَ لَيَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ" رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ وَهَذَا لَفْظُ أَحْمَدَ3. وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: أَمَنْتُ بِمَا جِئْتَ بِهِ وَأَنَا رَسُولُ مَنْ وَرَائِي مِنْ قَوْمِي, قَالَ: وَأَنَا ضِمَامُ بْنُ ثَعْلَبَةَ أَخُو بَنِي سَعِيدِ بْنِ بَكْرٍ4.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ "أَنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثَائِرَ الرَّأْسِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي مَاذَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيَّ مِنَ الصَّلَاةِ؟ فَقَالَ: "الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ, إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ شَيْئًا" فَقَالَ: أَخْبِرْنِي مَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيَّ مِنَ الصِّيَامِ؟ فَقَالَ: "شَهْرَ رَمَضَانَ, إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ شَيْئًا" فَقَالَ: أَخْبِرْنِي بِمَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيَّ مِنَ الزَّكَاةِ؟ قَالَ: فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ. قَالَ: وَالَّذِي أَكْرَمَكَ لَا أَتَطَوَّعُ شَيْئًا وَلَا أَنْقُصُ مِمَّا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيَّ شَيْئًا, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ, أَوْ دَخَلَ الْجَنَّةَ إِنْ صَدَقَ" هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ فِي كِتَابِ الصَّوْمِ1. وَلَهُ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ؟ قَالَ: "مَا لَهُ مَا لَهُ". وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَرِبَ مَا لَهُ, تَعْبُدُ اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ وَتَصِلُ الرَّحِمَ" وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ2. وَلَهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إِذَا عَمِلْتُهُ دَخَلْتُ الْجَنَّةَ, قَالَ: "تَعْبُدُ اللَّهَ لَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ وَتُؤَدِّي الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ وَتَصُومُ رَمَضَانَ" قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا. فَلَمَّا وَلَّى قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ سَرَّهُ أَنَّ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ, فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا" 3. وَفِي حَدِيثِ ابْنِ الْمُنْتَفِقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي وِفَادَتِهِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, قَالَ: "قُلْتُ: ثِنْتَانِ أَسْأَلُكَ عَنْهُمَا: مَا يُنَجِّينِي مِنَ النَّارِ وَمَا يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ؟ قَالَ: فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ نَكَّسَ رَأْسَهُ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيَّ بِوَجْهِهِ قَالَ: "لَئِنْ كُنْتَ أَوْجَزْتَ فِي الْمَسْأَلَةِ لَقَدْ أَعْظَمْتَ وَأَطْوَلْتَ, فَاعْقِلْ عَنِّي إِذًا: اعْبُدِ اللَّهَ لَا تُشْرِكْ بِهِ
شَيْئًا وَأَقِمِ الصَّلَاةَ وَأَدِّ الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ وَصُمْ رَمَضَانَ, وَمَا تُحِبُّ أَنْ يَفْعَلَهُ بِكَ النَّاسُ فَافْعَلْ بِهِمْ وَمَا تَكْرَهُ أَنْ يَأْتِيَ إِلَيْكَ النَّاسُ فَذَرِ النَّاسَ مِنْهُ" رَوَاهُ أَحْمَدُ1. وَفِي رِوَايَةٍ: "لَئِنْ كُنْتَ قَصَّرْتَ فِي الْخُطْبَةِ لَقَدْ أَبْلَغْتَ فِي الْمَسْأَلَةِ: اتَّقِ اللَّهَ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ شَيْئًا, وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ وَتُؤَدِّي الزَّكَاةَ وَتَحُجُّ الْبَيْتَ وَتَصُومُ رَمَضَانَ" 2. وَلَعَلَّ ابْنَ الْمُنْتَفِقِ هَذَا هُوَ الرَّجُلُ الْمُبْهَمُ فِي رِوَايَةِ أَبِي أَيُّوبَ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي الصَّحِيحِ, فَإِنَّ فِي مُسْلِمٍ أَنَّ ذَلِكَ الرَّجُلَ أَخَذَ بِخِطَامِ نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ بِزِمَامِهَا, وَفِي آخِرِهَا: قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "دَعِ النَّاقَةَ" بَعْدَ أَنْ عَلَّمَهُ. وَابْنُ الْمُنْتَفِقِ قَالَ: فَأَخَذْتُ بِخِطَامٍ رَاحِلَةِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَوْ قَالَ: زِمَامَهَا, وَفِي آخِرِهِ: قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "خَلِّ سَبِيلَ الرَّاحِلَةِ". وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: "خَلِّ طَرِيقَ الرِّكَابِ" فَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هُوَ صَاحِبَ الْقِصَّةِ وَقَدْ حَفِظَ الصَّوْمَ وَالْحَجَّ زِيَادَةً عَلَى مَا فِي حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ, وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ3, وَهُوَ السَّائِلُ أَعْلَمُ بِجَوَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَوْعَى لَهُ وَأَحْفَظُ لَهُ وَأَضْبَطُ مِنْ غَيْرِهِ, وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَعَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَلِجُ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِخَادِمِهِ: "اخْرُجِي إِلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يُحْسِنُ الِاسْتِئْذَانَ فَقُولِي لَهُ: فَلْيَقُلِ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ, أَأَدْخُلُ "؟ قَالَ: فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ ذَلِكَ فَقُلْتُ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَأَدْخُلُ؟ قَالَ: فَأَذِنَ لِي أَوْ قَالَ: فَدَخَلْتُ فَقُلْتُ: بِمَ أَتَيْتَنَا بِهِ؟ قَالَ: "لَمْ آتِكُمْ إِلَّا بِخَيْرٍ, أَتَيْتُكُمْ بِأَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ" قَالَ شُعْبَةُ: وَأَحْسَبُهُ قَالَ: وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنْ تَدَعُوا اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَأَنْ تُصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ خَمْسَ صَلَوَاتٍ وَأَنْ تَصُومُوا مِنَ السَّنَةِ شَهْرًا وَأَنْ تَحُجُّوا الْبَيْتَ وَأَنْ تَأْخُذُوا مِنْ مال أغنيائكم فتردوه عَلَى فُقَرَائِكُمْ. قَالَ: فَقَالَ: فَهَلْ بَقِيَ مِنَ الْعِلْمِ شيء لا تعلمه؟ قَالَ: "قَدْ عَلَّمَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ خَيْرًا, وَإِنَّ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي
الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لُقْمَانَ: 34] " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ أَئِمَّةٌ, وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ طَرَفًا مِنْهُ1. وَعَنِ السَّدُوسِيِّ بْنِ الْخَصَاصِيَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِأُبَايِعَهُ, فَاشْتَرَطَ عَلَيَّ شَهَادَةَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَأَنْ أُقِيمَ الصَّلَاةَ وَأَنْ أُؤَدِّيَ الزَّكَاةَ وَأَنْ أَحُجَّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ وَأَنْ أَصُومَ شَهْرَ رَمَضَانَ وَأَنْ أُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ, فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمَّا اثْنَتَانِ فَوَاللَّهِ مَا أُطِيقُهُمَا: الْجِهَادُ وَالصَّدَقَةُ, فَإِنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّ مَنْ وَلَّى الدُّبُرَ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ, فَأَخَافُ إِنْ حَضَرْتُ تِلْكَ جَشِعَتْ نَفْسِي وَكَرِهَتِ الْمَوْتَ, وَالصَّدَقَةُ, فَوَاللَّهِ مَا لِي إلا غنيمة وعشرة ذَوْدٍ هُنَّ رِسْلُ أَهْلِي وَحُمُولَتِهِمْ, قَالَ: فَقَبَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ ثُمَّ حَرَّكَ يَدَهُ ثُمَّ قَالَ: "فَلَا جِهَادَ وَلَا صَدَقَةَ, فَلِمَ تَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِذًا "؟ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله أنا أبيعك قَالَ: فَبَايَعْتُ عَلَيْهِنَّ كُلِّهِنَّ2. وَعَنْ زِيَادِ بْنِ نُعَيْمٍ الْحَضْرَمِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَرْبَعٌ فَرَضَهُنَّ اللَّهُ فِي الْإِسْلَامِ, فَمَنْ جَاءَ بِثَلَاثٍ لَمْ يُغْنِينَ عَنْهُ شَيْئًا حَتَّى يَأْتِيَ بِهِنَّ جَمِيعًا: الصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ وَصِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ وَحَجُّ الْبَيْتِ"3 رَوَاهُ أَحْمَدُ مُرْسَلًا وفي الْآيَاتِ الصَّرِيحَةِ وَالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ لَا يَخْفَى. وَعَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَلَمَّا بَرَزْنَا من المدينة إذ رَاكِبٌ يُوضِعُ نَحْوَنَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كَأَنَّ هَذَا الرَّاكِبَ إِيَّاكُمْ يُرِيدُ" قَالَ: فَانْتَهَى الرَّجُلُ إِلَيْنَا فَسَلَّمَ فَرَدَدْنَا عَلَيْهِ, فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مِنْ أَيْنَ أَقْبَلْتَ"؟ قَالَ: مِنْ أَهْلِي وَوَلَدِي وَعَشِيرَتِي قَالَ: "فَأَيْنَ تُرِيدُ"؟ قَالَ: أُرِيدُ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, قَالَ: "فَقَدْ أَصَبْتَهُ" قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي مَا الْإِيمَانُ؟ قَالَ: "تَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ وَتَصُومُ رَمَضَانَ وَتَحُجُّ الْبَيْتَ" قَالَ: قَدْ أَقْرَرْتُ قَالَ: ثُمَّ إِنَّ بَعِيرَهُ دَخَلَتْ يَدُهُ فِي شَبَكَةِ جُرْذَانٍ فَهَوَى بَعِيرُهُ وَهَوَى الرَّجُلِ فَوَقَعَ عَلَى هَامَتِهِ فَمَاتَ, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "عَلَيَّ بِالرَّجُلِ" فَوَثَبَ إِلَيْهِ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ وَحُذَيْفَةُ فَأَقْعَدَاهُ فَقَالَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ قُبِضَ الرَّجُلُ قَالَ: فَأَعْرَضَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَمَّا رَأَيْتُمَا إِعْرَاضِي عَنِ الرَّجُلِ, فَإِنِّي رَأَيْتُ مَلَكَيْنِ يَدُسَّانِ فِي فِيهِ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ, فَعَلِمْتُ أَنَّهُ مَاتَ جَائِعًا" ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هَذَا وَاللَّهِ مِنَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الْأَنْعَامِ: 82] " ثُمَّ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "دُونَكُمْ أَخَاكُمْ" قَالَ: فَاحْتَمَلْنَاهُ إِلَى الْمَاءِ فَغَسَّلْنَاهُ وَحَنَّطْنَاهُ وَكَفَّنَّاهُ وَحَمَلْنَاهُ إِلَى الْقَبْرِ, فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, الْحَدِيثَ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَفِي إِسْنَادِهِ أَبُو جَنَابٍ, مُخْتَلَفٌ فِيهِ, وَالْمَتْنُ صَحِيحٌ1. وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ يَطُولُ اسْتِقْصَاؤُهَا, وَفِيمَا ذَكَرْنَا كِفَايَةٌ.
الأول الشهادتان
[الشَّهَادَتَانِ] : "أَوَّلُهَا" أَوْ أَوَّلُ هَذِهِ الْأَرْكَانِ "الرُّكْنُ الْأَسَاسُ الْأَعْظَمُ". الرُّكْنُ فِي اللُّغَةِ: الْجَانِبُ الْأَقْوَى وَهُوَ بِحَسَبِ مَا يُطْلَقُ فِيهِ كَرُكْنِ الْبِنَاءِ وَرُكْنِ الْقَوْمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ, فَمِنَ الْأَرْكَانِ مَا لَا يَتِمُّ الْبِنَاءُ إِلَّا بِهِ وَمِنْهَا مَا لَا يَقُومُ بِالْكُلِّيَّةِ إِلَّا بِهِ. وَإِنَّمَا قِيلَ لِهَذِهِ الْخَمْسَةِ الْأُمُورِ: أَرْكَانٌ وَدَعَائِمُ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ ... " فَشَبَّهَهُ بِالْبُنْيَانِ الْمُرَكَّبِ عَلَى خَمْسِ دَعَائِمَ, وَهَذَا الرُّكْنُ هُوَ أَصْلُ الْأَرْكَانِ الْبَاقِيَةِ؛ وَلِهَذَا قُلْنَا "الْأَسَاسُ" الَّذِي لَا يَقُومُ الْبِنَاءُ إِلَّا عَلَيْهِ وَلَا يُمْكِنُ إِلَّا بِهِ وَلَا يَحْصُلُ بِدُونِهِ "الْأَعْظَمُ" هَذِهِ الصِّيغَةُ مُشْعِرَةٌ بِتَعْظِيمِ بَقِيَّةِ الْأَرْكَانِ وَإِنَّمَا هَذَا أَعْظَمُهَا؛ فَإِنَّهَا كُلَّهَا تَابِعَةٌ لَهُ, وَلَا يَدْخُلُ الْعَبْدُ فِي شَيْءٍ مِنَ الشَّرِيعَةِ إِلَّا بِهِ. "وَهُوَ الصِّرَاطُ" الطَّرِيقُ الْوَاضِحُ "الْمُسْتَقِيمُ" الَّذِي لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ وَلَا غُبَارَ عَلَيْهِ, بَلْ هُوَ مُعْتَدِلٌ جَلِيٌّ نَيِّرٌ "الْأَقْوَمُ" أَيِ: الْأَعْدَلُ, مَنْ سَلَكَهُ أَوْصَلَهُ إِلَى جَنَّاتِ النَّعِيمِ, وَمَنِ انْحَرَفَ عَنْهُ هَوَى فِي قَعْرِ الْجَحِيمِ, فَإِنَّ مَنْ لَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَثْبُتْ عَلَى جِسْرِ جَهَنَّمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ, وَذَلِكَ الرُّكْنُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ هُوَ "رُكْنُ الشَّهَادَتَيْنِ" هَذَا مِنْ إِضَافَةِ الشَّيْءِ إِلَى نَفْسِهِ أَيِ: الرُّكْنِ الَّذِي هُوَ الشَّهَادَتَانِ, وَهُمَا: شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ, فَلَا يَدْخُلُ الْعَبْدُ فِي الْإِسْلَامِ إِلَّا بِهِمَا وَلَا يَخْرُجُ مِنْهُ إِلَّا بِمُنَاقَضَتِهِمَا إِمَّا بِجُحُودٍ لِمَا دَلَّتَا عَلَيْهِ أَوْ بِاسْتِكْبَارٍ عَمَّا اسْتَلْزَمَتَاهُ. وَلِهَذَا لَمْ يَدْعُ الرَّسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى شَيْءٍ قَبْلَهُمَا وَلَمْ يَقْبَلِ اللَّهُ تَعَالَى وَلَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ أَحَدٍ شَيْئًا دُونَهُمَا, فَبِالشَّهَادَةِ الْأُولَى يَعْرِفُ الْمَعْبُودَ وَمَا يَجِبُ لَهُ, وَبِالثَّانِيَةِ يَعْرِفُ كَيْفَ يَعْبُدُهُ وَبِأَيِّ طَرِيقٍ يَصِلُ إِلَيْهِ, وَكَيْفَ يُؤْمِنُ بِالْعِبَادَةِ أَحَدٌ قَبْلَ تَعْرِيفِهِ بِالْمَعْبُودِ, وَكَيْفَ يُؤَدِّيهَا مَنْ لَمْ يَعْرِفْ كَيْفَ أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُعْبَدَ؟ فَفِي الشَّهَادَةِ الْأُولَى تَوْحِيدُ الْمَعْبُودِ الَّذِي مَا خَلَقَ الْخَلْقَ إِلَّا لِيَعْبُدُوهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ, وَفِي الشَّهَادَةِ الثَّانِيَةِ تَوْحِيدُ الطَّرِيقِ الَّذِي لَا يُوصَلُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا
مِنْهُ, وَلَا يَقْبَلُ دِينًا مِمَّنِ ابْتَغَى غَيْرَهُ وَرَغِبَ عَنْهُ, فَإِنَّ عِبَادَةَ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي خَلَقَ الْخَلْقَ لَهَا وَقَضَى عَلَيْهِمْ إِفْرَادَهُ تَعَالَى بِهَا هِيَ أَمْرٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مَا يُحِبُّهُ تَعَالَى وَيَرْضَاهُ, اعْتِقَادًا وَقَوْلًا وَعَمَلًا, وَمَعْرِفَةُ مَحَابِّهِ تَعَالَى وَمَرْضَاتِهِ لَا تَحْصُلُ إِلَّا مِنْ طَرِيقِ الشَّرْعِ الَّذِي أَرْسَلَ بِهِ رَسُولَهُ وَأَنْزَلَ بِهِ كِتَابَهُ: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آلِ عِمْرَانَ: 31] . وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي النَّوْعِ الثَّانِي مِنْ أَنْوَاعِ التَّوْحِيدِ تَحْقِيقَ الشَّهَادَتَيْنِ وَبَيَانَ تَلَازُمِهِمَا وَتَوْضِيحَ نَوَاقِضِهِمَا, وَبَسَطْنَا الْكَلَامَ هُنَاكَ وَحَرَّرْنَا مِنَ الْأَدِلَّةِ مَا يُغْنِي عَنِ الْإِعَادَةِ هُنَا. "فَاثْبُتْ" أَيُّهَا الْعَبْدُ الْمُرِيدُ نَجَاةَ نَفْسِهِ مِنَ النَّارِ وَالْفَوْزَ بِالْجَنَّةِ عَلَى هَذَا الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ النَّيِّرِ الْوَاضِحِ الْجَلِيِّ, وَلَا تَسْتَوْحِشْ مِنْ قِلَّةِ السَّالِكِينَ, وَإِيَّاكَ أَنْ تَنْحَرِفَ عَنْهُ فَتَهْلِكَ مَعَ الْهَالِكِينَ, فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُنَادِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ: "يَا آدَمُ" فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ, فَيَقُولُ: "أَخْرِجْ بَعْثَ النَّارِ" فَيَقُولُ: مِنْ كَمْ؟ فَيَقُولُ: "مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَمِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ" فَالنَّاجِي حِينَئِذٍ وَاحِدٌ مِنْ أَلْفٍ1, فَاغْتَنِمْ أَنْ تَكُونَ مِنْ تِلْكَ الْآحَادِ, وَاحْذَرْ أَنْ تَغْتَرَّ بِجُمُوعِ الضَّلَالَةِ فَتَكُونَ مِنْ حَطَبِ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ. "وَاعْتَصِمْ" أَيِ: اسْتَمْسِكْ "بِالْعُرْوَةِ" أَيْ: بِالْعَقْدِ الْأَوْثَقِ فِي الدِّينِ وَالسَّبَبِ الْمُوَصِّلِ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ "الْوُثْقَى" تَأْنِيثُ الْأَوْثَقِ "الَّتِي لَا تَنْفَصِمُ" أَيْ: لَا تَنْقَطِعُ, وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْكَلَامِ عَلَى: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَنَّهَا هِيَ الْعُرْوَةُ الْوُثْقَى, وَذَلِكَ وَاضِحٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الْبَقَرَةِ: 256] وَتَقَدَّمَ أَنَّ شَهَادَةَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالْإِيمَانَ بِهِ هُوَ شَرْطٌ فِي الْإِيمَانِ بِاللَّهِ, وَمَا كَانَ مِنْ شَرْطٍ فِي الشَّهَادَةِ الْأُولَى فَهُوَ شَرْطٌ فِي الثَّانِيَةِ.
الثاني إقامة الصلاة
[الصَّلَاةُ] : "وَثَانِيًا" مِنَ الْأَرْكَانِ الْخَمْسَةِ "إِقَامَةُ الصَّلَاةِ" بِجَمِيعِ حُقُوقِهَا وَلَوَازِمِهَا "وَثَالِثًا تَأْدِيَةُ الزَّكَاةِ" إِعْطَاؤُهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ, وَقَدْ تَقَرَّرَ اقْتِرَانُ هَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ بِالتَّوْحِيدِ وَتَقْدِيمُهُمَا بَعْدَهُ عَلَى غَيْرِهِمَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنَ الْقُرْآنِ أَمْرًا وَخَبَرًا, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الْبَقَرَةِ: 2، 3] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الْبَقَرَةِ: 277] وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النُّورِ: 56] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [الْبَيِّنَةِ: 5] وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التَّوْبَةِ: 5] وَفِي حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- لَمَّا بَعَثَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى الْيَمَنِ قَالَ لَهُ: "إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ, فَلْيَكُنْ أَوَّلُ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ شَهَادَةَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ, فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ, فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ, فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ, وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ" وَفِي رِوَايَةٍ: "فَلْيَكُنْ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ عِبَادَةَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ, فَإِذَا عَرَفُوا اللَّهَ تَعَالَى فَأَخْبِرْهُمْ ... " الْحَدِيثَ.
وَلْنَذْكُرْ طَرَفًا مِنَ النُّصُوصِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالصَّلَاةِ عَلَى انْفِرَادِهَا, ثُمَّ نَذْكُرُ مَا تَيَسَّرَ مِنْ نُصُوصِ الزَّكَاةِ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. [فَضْلُ الصَّلَاةِ] : اعْلَمْ هَدَانَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ أَنَّ الصَّلَاةَ قَدِ اشْتَمَلَتْ عَلَى جُلِّ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ مِنَ الِاعْتِقَادِ بِالْقَلْبِ وَالِانْقِيَادِ وَالْإِخْلَاصِ وَالْمَحَبَّةِ وَالْخُشُوعِ وَالْخُضُوعِ وَالْمُشَاهَدَةِ وَالْمُرَاقَبَةِ وَالْإِقْبَالِ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِسْلَامِ الْوَجْهِ لَهُ وَالصُّمُودِ إِلَيْهِ وَالِاطِّرَاحِ بَيْنَ يَدَيْهِ, وَعَلَى أَقْوَالِ اللِّسَانِ وَأَعْمَالِهِ مِنَ الشَّهَادَتَيْنِ وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَالتَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّقْدِيسِ وَالتَّمْجِيدِ وَالتَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَالْأَدْعِيَةِ وَالتَّعَوُّذِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَالِاسْتِغَاثَةِ وَالِاسْتِعَانَةِ وَالِافْتِقَارِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَالِاعْتِذَارِ مِنَ الذَّنْبِ إِلَيْهِ وَالْإِقْرَارِ بِالنِّعَمِ لَهُ وَسَائِرِ أَنْوَاعِ الذِّكْرِ, وَعَلَى عَمَلِ الْجَوَارِحِ مِنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْقِيَامِ وَالِاعْتِدَالِ وَالْخَفْضِ وَالرَّفْعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ, هَذَا مَعَ مَا تَضَمَّنَتْهُ مِنَ الشَّرَائِطِ وَالْفَضَائِلِ -مِنْهَا الطَّهَارَةُ الْحِسِّيَّةُ مِنَ الْأَحْدَاثِ وَالْأَنْجَاسِ الْحِسِّيَّةِ, وَالْمَعْنَوِيَّةُ مِنَ الْإِشْرَاكِ وَالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكِرِ وَسَائِرِ الْأَرْجَاسِ- وَإِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ وَنَقْلُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يَجْتَمِعُ فِي غَيْرِهَا مِنَ الْعِبَادَاتِ؛ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ" 1 وَلِاشْتِمَالِهَا عَلَى مَعَانِي الْإِيمَانِ سَمَّاهَا اللَّهُ إِيمَانًا فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [الْبَقَرَةِ: 143] . وَهِيَ ثَانِيَةُ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ فِي الْفَرْضِيَّةِ, فَإِنَّهَا فُرِضَتْ فِي لَيْلَةِ الْمِعْرَاجِ بَعْدَ عَشْرٍ مِنَ الْبِعْثَةِ لَمْ يَدْعُ الرَّسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَبْلَهَا إِلَى شَيْءٍ غَيْرِ التَّوْحِيدِ الَّذِي هُوَ الرُّكْنُ الْأَوَّلُ, فَفُرِضَتْ خَمْسِينَ ثُمَّ خَفَّفَهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى خَمْسٍ كَمَا تَوَاتَرَتِ النُّصُوصُ بِذَلِكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا, وَهِيَ ثَانِيَةٌ فِي الذِّكْرِ فَمَا ذُكِرَتْ
شَرَائِعُ الْإِسْلَامِ فِي آيَةٍ مِنَ الْآيَاتِ أَوْ حَدِيثٍ مِنَ السُّنَّةِ إِلَّا وَبُدِئَ بِهَا بَعْدَ التَّوْحِيدِ, قَبْلَ غَيْرِهَا كَمَا فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ, وَكَمَا فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ وَحَدِيثِ "بُنِيَ الْإِسْلَامُ" وَحَدِيثِ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ وَحَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَحَدِيثِ: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ ... " 1 وَغَيْرِهَا مِمَّا لَا يُحْصَى. وَهِيَ ثَانِيَةٌ فِي آيَاتِ الْأَمْرِ بِالْجِهَادِ وَفِي آيَاتِ وَعِيدِ الْكُفَّارِ, كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ} [التَّوْبَةِ: 5] الْآيَةَ, وَقَوْلِهِ: {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ، وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ، وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ، وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [الْمُرْسَلَاتِ: 46-49] . وَهِيَ ثَانِيَةٌ فِي مَدْحِ الْمُؤْمِنِينَ, كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 1، 2] وَفِي ذَمِّ الْكُفَّارِ بِتَرْكِهَا كَمَا فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ} [الِانْشِقَاقِ: 20، 21] وَقَوْلِهِ: {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى، وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [الْقِيَامَةِ: 31، 32] وَكَذَا فِي ذَمِّ الْمُنَافِقِينَ بِعَدَمِ اهْتِمَامِهِمْ لَهَا, كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النِّسَاءِ: 142] . وَهِيَ ثَانِيَةٌ فِي حِسَابِ الْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ, كَمَا فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَوَّلُ مَا يُسْأَلُ عَنْهُ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَلَاتُهُ, فَإِنْ تُقُبِّلَتْ مِنْهُ تُقُبِّلَ مِنْهُ سَائِرُ عَمَلِهِ, وَإِنْ رُدَّتْ عَلَيْهِ رُدَّ عَلَيْهِ سَائِرُ عَمَلِهِ" 2 وَمَعْنَى قَوْلِهِ: "أَوَّلُ مَا يُسْأَلُ عَنْهُ الْعَبْدُ" أَيْ: بَعْدَ التَّوْحِيدِ.
وَهِيَ ثَانِيَةٌ فِيمَا يُذْكَرُ الْمُجْرِمُونَ أَنَّهُمْ عُوقِبُوا بِهِ, كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ، عَنِ الْمُجْرِمِينَ، مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ، قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [الْمُدَّثِّرِ: 40-43] الْآيَاتِ. وَالنُّصُوصُ فِي شَأْنِهَا كَثِيرَةٌ لَا تُحْصَى وَهِيَ مُتَنَوِّعَةٌ, فَمِنْهَا مَا فِيهِ الْأَمْرِ بِهَا كَقَوْلِهِ: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [الْبَقَرَةِ: 238] وَقَوْلِهِ: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [الْعَنْكَبُوتِ: 45] وَقَوْلِهِ: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الْإِسْرَاءِ: 78] وَمَا فِي مَعْنَاهَا. وَمِنْهَا مَا فِيهِ بَيَانُ مَحَلِّهَا مِنَ الدِّينِ, كَالنُّصُوصِ السَّابِقَةِ وَكَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذٍ: "رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ وَذِرْوَةُ سِنَامِهِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ الله " 1. ومنها ما فِي ثَوَابِ أَهْلِهَا, كَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ، أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ، الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 9-11] . وَمِنْهَا مَا فِيهِ ذِكْرُ نَجَاتِهِمْ مِنَ النَّارِ, كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عُصَاةِ الْمُوَحِّدِينَ: "فَيَعْرِفُونَهُمْ بِآثَارِ السُّجُودِ, تَأْكُلُ النَّارُ مِنَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا أَثَرَ السُّجُودِ, حَرَّمَ اللَّهُ عَلَى النَّارِ أَنْ تَأْكُلَ أَثَرَ السُّجُودٍ" 2. وَمِنْهَا مَا فِي عِقَابِ تَارِكِهَا, كَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ، الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} [الْمَاعُونِ: 4، 5] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا، إِلَّا مَنْ تَابَ} [مَرْيَمَ: 59،
60] الْآيَةَ, وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ، خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} [الْقَلَمِ: 42، 43] . وَمِنْهَا مَا فِيهِ تَكْفِيرُ تَارِكِهَا وَنَفْيُ الْإِيمَانِ عَنْهُ وَإِلْحَاقُهُ بِإِبْلِيسَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا، إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} [مَرْيَمَ: 59، 60] فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ مُضَيِّعُ الصَّلَاةِ مُؤْمِنًا لَمْ يُشْتَرَطْ فِي تَوْبَتِهِ الْإِيمَانُ, وَقَوْلِهِ: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التَّوْبَةِ: 11] فَعَلَّقَ أُخُوَّتَهُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ بِفِعْلِ الصَّلَاةِ, فَإِذَا لَمْ يَفْعَلُوا لَمْ يَكُونُوا إِخْوَةً لِلْمُؤْمِنِينَ, فَلَا يَكُونُونَ مُؤْمِنِينَ, وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} [السَّجْدَةِ: 15] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الْبَقَرَةِ: 34] . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا قَرَأَ ابْنُ آدَمَ السَّجْدَةَ فَسَجَدَ, اعْتَزَلَ الشَّيْطَانُ يَبْكِي يَقُولُ: يَا وَيْلَهُ -وَفِي رِوَايَةٍ: يَا وَيْلِي- أُمِرَ ابْنُ آدَمَ بِالسُّجُودِ فَسَجَدَ فَلَهُ الْجَنَّةُ, وَأُمِرْتُ بِالسُّجُودِ فَأَبَيْتُ فَلِيَ النَّارُ" 1. وَفِيهِ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ تَرْكَ الصَّلَاةِ" 2 ورواه التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ, وَلَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمُ الصَّلَاةُ, فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ" 3 قَالَ: وَفِي الْبَابِ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
وَابْنِ عَبَّاسٍ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ. وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ مِحْجَنِ بْنِ الْأَدْرَعِ الْأَسْلَمِيِّ "أَنَّهُ كَانَ فِي مَجْلِسٍ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَأُذِّنَ بِالصَّلَاةِ فَقَامَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثُمَّ رَجَعَ وَمِحْجَنٌ فِي مَجْلِسِهِ, فَقَالَ لَهُ: "مَا مَنْعُكَ أَنْ تُصَلِّي, أَلَسْتَ بِرَجُلٍ مُسْلِمٍ"؟ قَالَ: بَلَى, وَلَكِنِّي صَلَّيْتُ فِي أَهْلِي فَقَالَ لَهُ: "إِذَا جِئْتَ فَصَلِّ مَعَ النَّاسِ وَإِنْ كُنْتَ قَدْ صَلَّيْتَ" 1 فَجَعَلَ الْفَارِقَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ الصَّلَاةَ, وَلَفَظُ الْحَدِيثِ يَتَضَمَّنُ أَنَّكَ لَوْ كُنْتَ مُسْلِمًا لَصَلَّيْتَ. وَفِي الْمُسْنَدِ وَالْأَرْبَعِ السُّنَنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ ذَكَرَ الصَّلَاةَ يَوْمًا فَقَالَ لَهُ: "مَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا كَانَتْ لَهُ نُورًا وَبُرْهَانًا وَنَجَاةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ, وَمَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَيْهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نُورٌ وَلَا بُرْهَانٌ وَلَا نَجَاةٌ, وَكَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ قَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَأُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ" 2 وَرِجَالُ أَحْمَدَ ثِقَاتٌ. وَتَقَدَّمَ الْحَدِيثُ الَّذِي فِي الْبُخَارِيِّ فِي صِفَةِ الْمُسْلِمِ: "مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا وَصَلَّى صَلَاتَنَا" 3 الْحَدِيثَ. [حُكْمُ تَارِكِ الصَّلَاةِ] : وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ أَخْبَرَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ عَنِ الْجَرِيرِيِّ
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ الْعُقَيْلِيِّ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَرَوْنَ شَيْئًا مِنَ الْأَعْمَالِ تَرْكُهُ كُفْرٌ غَيْرَ الصَّلَاةِ1. وَمِنْهَا مَا فِيهِ التَّصْرِيحُ بِوُجُوبِ قَتْلِهِ, كَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ} [التَّوْبَةِ: 5] الْآيَةَ, وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ" 2 الْحَدِيثَ, وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ. وَأَمَّا الْآثَارُ فِي شَأْنِهَا عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ فَأَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَرَ, وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى قَتْلِهِ كُفْرًا إِذَا كَانَ تَرْكُهُ الصَّلَاةَ عَنْ جُحُودٍ لِفَرْضِيَّتِهَا أَوِ اسْتِكْبَارٍ عَنْهَا وَإِنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؛ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ, وَلِدُخُولِهِ فِي التَّارِكِ لِدِينِهِ الْمُفَارِقِ لِلْجَمَاعَةِ, وَفِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ" 3, فَإِنَّهُ بِذَلِكَ يَكُونُ مُرْتَدًّا مُبَدِّلًا لِدِينِهِ. وَأَمَّا إِنْ كَانَ تَرْكُهُ لَهَا لَا لِجُحُودٍ وَلَا لِاسْتِكْبَارٍ بَلْ لِنَوْعِ تَكَاسُلٍ وَتَهَاوُنٍ كَمَا هُوَ حَالُ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ فَقَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: قَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ؛ فَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَالْجَمَاهِيرُ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلْفِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ, بَلْ يَفْسُقُ وَيُسْتَتَابُ, فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قَتَلْنَاهُ حَدًّا كَالزَّانِي الْمُحْصَنِ, وَلَكِنَّهُ يُقْتَلُ بِالسَّيْفِ. وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ إِلَى أَنَّهُ يَكْفُرُ, وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ, وَهِيَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَبِهِ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ, وَهُوَ وَجْهٌ لِبَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ, وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَالْمُزَنِيُّ صَاحِبُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ وَلَا يُقْتَلُ, بَلْ يُعَزَّرُ وَيُحْبَسُ حَتَّى يُصَلِّيَ. قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِكُفْرِهِ بِظَاهِرِ حَدِيثِ جَابِرٍ: "إِنَّ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ
وَالْكُفْرِ تَرْكَ الصَّلَاةِ" 1 وَبِالْقِيَاسِ عَلَى كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ. وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ: لَا يُقْتَلُ بِحَدِيثِ: "لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ" 2 وَلَيْسَ فِيهِ الصَّلَاةُ. وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النِّسَاءِ: 48] وَبِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ, وَمَنْ مَاتَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ, وَلَا يَلْقَى اللَّهَ عَبْدٌ بِهِمَا غَيْرَ شَاكٍّ فَيُحْجَبُ عَنِ الْجَنَّةِ, وَحَرَّمَ اللَّهُ عَلَى النَّارِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ" 3 وَغَيْرِ ذَلِكَ, وَاحْتَجُّوا عَلَى قَتْلِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التَّوْبَةِ: 5] وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ, فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ" 4 وَتَأَوَّلُوا قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ الْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلَاةِ" 5 عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ بِتَرْكِ الصَّلَاةِ عُقُوبَةَ الْكَافِرِ وَهِيَ الْقَتْلُ, أَوْ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُسْتَحِلِّ, أَوْ عَلَى أنه قد يئول بِهِ إِلَى الْكُفْرِ, أَوْ أَنَّ فِعْلَهُ فِعْلُ الْكُفَّارِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ, انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي شُرُوطٍ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَفِي بَيَانِ مَرَاتِبِ الدِّينِ وَفِي بَيَانِ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ مَا فِيهِ غِنْيَةٌ, وَذَكَرْنَا هُنَا مَا تَيَسَّرَ مِنَ النُّصُوصِ فِي شَأْنِهَا. وَقَدْ بَسَطَ الْحَافِظُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ الْكَلَامَ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَسْطًا حَسَنًا, فَلْيُرَاجَعْ.
الثالث الزكاة
[الزَّكَاةُ] : وَأَمَّا الزَّكَاةُ فَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فِي نُصُوصِ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا، وَمِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهَا عَلَى انْفِرَادِهَا قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [التَّوْبَةِ: 103] وَقَوْلُهُ فِي صِفَاتِ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ: {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 4] وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي ذَمِّ الْكُفَّارِ وَوَعِيدِهِمْ: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ، الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فُصِّلَتْ: 6، 7] وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي زَكَاةِ النُّفُوسِ فَهِيَ عَامَّةٌ لِزَكَاةِ الْأَمْوَالِ أَيْضًا وَقَدْ فُسِّرَتْ بِهَا, وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي وَعِيدِ مَانِعِيهَا مُطْلَقًا: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ، يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} [التَّوْبَةِ: 34، 35] يُوَضِّحُ ذَلِكَ الْحَدِيثُ الَّذِي فِيهِ: "مَا أُدِّيَتْ زَكَاتُهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ" 1 وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ وَلَا فِضَّةٍ لَا يُؤَدِّي مِنْهَا حَقَّهَا إِلَّا إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ صُفِّحَتْ لَهُ صَفَائِحُ مِنْ نَارٍ فَأُحْمِيَ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ, فَيُكْوَى بِهَا جَنْبُهُ وَجَبِينُهُ وَظَهْرُهُ, كُلَّمَا بَرَدَتْ أُعِيدَتْ لَهُ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ, حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ الْعِبَادِ فَيَرَى سَبِيلَهُ, إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ" قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَالْإِبِلُ؟ قَالَ: "وَلَا صَاحِبِ إِبِلٍ لَا يُؤَدِّي مِنْهَا حَقَّهَا, وَمِنْ حَقِّهَا حَلْبُهَا يَوْمَ وِرْدِهَا, إِلَّا إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ بُطِحَ لَهَا بِقَاعٍ قَرْقَرٍ أَوْفَرَ مَا كَانَتْ, لَا يَفْقِدُ مِنْهَا فصيلا واحدا تطؤه بِأَخْفَافِهَا
وَتَعَضُّهُ بِأَفْوَاهِهَا, كُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ أُولَاهَا أُعِيدَ عَلَيْهِ أُخْرَاهَا, فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ, حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ الْعِبَادِ فَيَرَى سَبِيلَهُ, إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ" وَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ؟ قَالَ: "وَلَا صَاحِبِ بَقَرٍ وَلَا غَنَمٍ لَا يُؤَدِّي مِنْهَا حَقَّهَا, إِلَّا إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ بُطِحَ لَهَا بِقَاعٍ قَرْقَرٍ لا يَفْقِدُ مِنْهَا شَيْئًا لَيْسَ فِيهَا عَفْصَاءُ وَلَا جَلْحَاءُ وَلَا عَضْبَاءُ تنطحه بقرونها, وتطؤه بِأَظْلَافِهَا, كُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ أُولَاهَا رُدَّ عَلَيْهِ أُخْرَاهَا, فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ, حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ الْعِبَادِ فَيَرَى سَبِيلَهُ, إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ" 1 الْحَدِيثَ بِطُولِهِ. وَفِيهِ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا مِنْ صَاحِبِ إِبِلٍ وَلَا بَقَرٍ وَلَا غَنَمٍ لَا يُؤَدِّي حَقَّهَا إِلَّا أُقْعِدُ لَهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ بقاع قرقر تطؤه ذَاتُ الظِّلْفِ بِظِلْفِهَا وَتَنْطَحُهُ ذَاتُ الْقَرْنِ بِقَرْنِهَا, لَيْسَ فِيهَا يَوْمَئِذٍ جَمَّاءُ وَلَا مَكْسُورَةُ الْقَرْنِ" الْحَدِيثَ, وَفِيهِ: "وَلَا مِنْ صَاحِبِ مَالٍ لَا يُؤَدِّي زَكَاتَهُ إِلَّا تُحُوِّلَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ يَتْبَعُ صَاحِبَهُ حَيْثُمَا ذَهَبَ وَهُوَ يَفِرُّ مِنْهُ, وَيُقَالُ: هَذَا مَالُكُ الَّذِي كُنْتَ تَبْخَلُ بِهِ, فَإِذَا رَأَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهُ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي فِيهِ, فَجَعَلَ يَقْضِمُهَا كَمَا يَقْضِمُ الْفَحْلُ" 2. وَفِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَلَا يَأْتِي أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِشَاةٍ يَحْمِلُهَا عَلَى رَقَبَتِهِ لَهَا يُعَارٌ, فَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا, قَدْ بَلَّغْتُ, وَلَا يَأْتِي أَحَدُكُمْ بِبَعِيرٍ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ لَهُ رُغَاءٌ فَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ بَلَّغْتُ" 3. وَفِيهِ عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ, مُثِّلَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ لَهُ زَبِيبَتَانِ يُطَوَّقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ, ثُمَّ يَأْخُذُ بِلَهْزَمَتَيْهِ -يَعْنِي شِدْقَيْهِ- ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا مَالُكَ أَنَا كَنْزُكَ" ثُمَّ تَلَا: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} [النساء: 3] 4 الْآيَةَ.
وَفِيهِ عَنْ خَالِدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا, فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ: أَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التَّوْبَةِ: 34] قَالَ ابْنُ عُمَرَ: مَنْ كَنَزَهَا فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهَا فَوَيْلٌ لَهُ, إِنَّمَا كَانَ هَذَا قَبْلَ أَنْ تُنَزَّلَ الزَّكَاةُ, فَلَمَّا أُنْزِلَتْ جَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى طُهْرَةً لِلْأَمْوَالِ1. وَقَدْ ثَبَتَتِ الْبَيْعَةُ عَلَيْهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ, كَمَا قَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى "بَابُ الْبَيْعَةِ عَلَى إِيتَاءِ الزَّكَاةِ" {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التَّوْبَةِ: 11] : حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ عَنْ قَيْسٍ قَالَ: قَالَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى إِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ2. وَالنُّصُوصُ فيها كثيرة وفيما تَقَدَّمَ كِفَايَةٌ. [حُكْمُ مَانِعِ الزَّكَاةِ] : وَأَمَّا حُكْمُ تَارِكِهَا فَإِنْ كَانَ مَنْعُهُ إِنْكَارًا لِوُجُوبِهَا فَكَافِرٌ بِالْإِجْمَاعِ بَعْدَ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ, وَإِنْ كَانَ مُقِرًّا بِوُجُوبِهَا وَكَانُوا جَمَاعَةً وَلَهُمْ شَوْكَةٌ قَاتَلَهُمُ الْإِمَامُ لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ, وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنَ الْعَرَبِ فَقَالَ عُمَرُ: كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ, فَمَنْ قَالَهَا فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلَّا بِحَقِّهِ وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ"؟ فَقَالَ: وَاللَّهُ لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ, فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ, وَلَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهَا, قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ قَدْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ, فَعَرَفْتُ أَنَّهُ
الْحَقُّ, وَفِي رِوَايَةٍ: فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ رَأَيْتُ اللَّهَ قَدْ شَرَحَ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ لِلْقِتَالِ, فَعَلِمْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ1. وَهَذَا الَّذِي اسْتَنْبَطَهُ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي مَنْطُوقِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْمَرْفُوعَةِ, كَحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ, فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا, وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ" 2 وَغَيْرَهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ. وَقَدْ جَهَّزَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ لِغَزْوِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ حِينَ بَلَغَهُ أَنَّهُمْ مَنَعُوا الزَّكَاةَ وَلَمْ يَكُنْ مَا بَلَغَهُ عَنْهُمْ حَقًّا, فَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَابِقٍ حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ دِينَارٍ حَدَّثَنِي أَبِي أَنَّهُ سَمِعَ الْحَارِثَ بْنَ ضِرَارٍ الْخُزَاعِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَدَعَانِي إِلَى الْإِسْلَامِ فَدَخَلْتُ فِيهِ وَأَقْرَرْتُ بِهِ, وَدَعَانِي إِلَى الزَّكَاةِ فَأَقْرَرْتُ بِهَا, وَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرْجِعُ إِلَيْهِمْ فَأَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ وَأَدَاءِ الزَّكَاةِ, فَمَنِ اسْتَجَابَ لِي جَمَعْتُ زَكَاتَهُ, وَتُرْسِلُ إِلَيَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ رَسُولًا إِبَّانَ كَذَا وَكَذَا لِيَأْتِيَكَ بِمَا جَمَعْتُ مِنَ الزَّكَاةِ, فَلَمَّا جَمَعَ الْحَارِثُ الزَّكَاةَ مِمَّنِ اسْتَجَابَ لَهُ وَبَلَغَ الْإِبَّانُ الَّذِي أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَبْعَثَ إِلَيْهِ احْتَبَسَ عَلَيْهِ الرَّسُولُ وَلَمْ يَأْتِهِ, وَظَنَّ الْحَارِثُ أَنَّهُ قَدْ حَدَثَ فِيهِ سَخْطَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَدَعَا بِسَرَوَاتِ قَوْمِهِ فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ وَقَّتَ لِي وَقْتًا يُرْسِلُ إِلَيَّ رَسُولَهُ لِيَقْبِضَ مَا كَانَ عِنْدِي مِنَ الزَّكَاةِ وَلَيْسَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخُلْفُ, وَلَا أَرَى حَبْسَ رَسُولِهِ إِلَّا مِنْ سَخْطَةٍ, فَانْطَلِقُوا نَأْتِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ إِلَى الْحَارِثِ لِيَقْبِضَ مَا كَانَ عِنْدَهُ مِمَّا جَمَعَ مِنَ الزَّكَاةِ, فَلَمَّا أَنَّ سَارَ الْوَلِيدُ حَتَّى بَلَغَ بَعْضَ الطَّرِيقِ فَرَقَ -أَيْ خَافَ- فَرَجَعَ حَتَّى أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الْحَارِثَ قَدْ مَنَعَنِي
الزَّكَاةَ وَأَرَادَ قَتْلِي, فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَبَعَثَ الْبَعْثَ إِلَى الْحَارِثِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَقْبَلَ الْحَارِثُ بِأَصْحَابِهِ حَتَّى إِذَا اسْتَقْبَلَ الْبَعْثُ وَفَصَلَ عَنِ الْمَدِينَةِ لَقِيَهُمُ الْحَارِثُ فَقَالُوا: هَذَا الْحَارِثُ فَلَمَّا غَشِيَهُمْ قَالَ لَهُمْ: إِلَى مَنْ بُعِثْتُمْ؟ قَالُوا: إِلَيْكَ قَالَ: وَلِمَ؟ قَالُوا: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ إِلَيْكَ الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ, فَزَعَمَ أَنَّكَ مَنَعْتَهُ الزَّكَاةَ وَأَرَدْتَ قَتْلَهُ, قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَا وَالَّذِي بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَقِّ, مَا رَأَيْتُهُ بَتَّةً وَلَا أَتَانِي. فَلَمَّا دَخَلَ الْحَارِثُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنَعْتَ الزَّكَاةَ وَأَرَدْتَ قَتْلَ رَسُولِي" قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ, مَا رَأَيْتُهُ وَلَا أَتَانِي وَلَا أَقْبَلْتُ إِلَّا حِينَ احْتُبِسَ عَلَيَّ رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ كَانَتْ سَخْطَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, قَالَ: فَنَزَلَتِ الْحُجُرَاتُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} إِلَى قَوْلِهِ: {نَادِمِينَ} [الْحُجُرَاتِ: 6] وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْمُنْذِرِ بْنِ شَاذَانَ التَّمَّارِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَابِقٍ بِهِ, وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ سَابِقٍ بِهِ1. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ عَنْ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ عَنْ ثَابِتٍ مَوْلَى أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا فِي صَدَقَاتِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ بَعْدَ الْوَقِيعَةِ, فَسَمِعَ بِذَلِكَ الْقَوْمُ فَتَلَقَّوْهُ يُعَظِّمُونَ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: فَحَدَّثَهُ الشَّيْطَانُ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ قَتْلَهُ قَالَتْ: فَرَجَعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّ بَنِي الْمُصْطَلِقِ قَدْ مَنَعُونِي صَدَقَاتِهِمْ فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ قَالَتْ: فَبَلَغَ الْقَوْمَ رُجُوعُهُ فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَفُّوا لَهُ حِينَ صَلَّى الظُّهْرَ فَقَالُوا: نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ وَسَخَطِ رَسُولِهِ, بَعَثْتَ إِلَيْنَا رَجُلًا مُصَدِّقًا فسررنا بذلك وقررت بِهِ أَعْيُنُنَا, ثُمَّ إِنَّهُ رَجَعَ مِنْ بَعْضِ الطَّرِيقِ فَخَشِينَا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ غَضَبًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَمِنْ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَلَمْ يَزَالُوا يُكَلِّمُونَهُ حَتَّى جَاءَ بِلَالٌ فَأَذَّنَ لِصَلَاةِ الْعَصْرِ, قَالَتْ: وَنَزَلَتْ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ
فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الْحُجُرَاتِ: 6] 1. وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ إِلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ لِيَأْخُذَ مِنْهُمُ الصَّدَقَاتِ, وَأَنَّهُمْ لَمَّا أَتَاهُمُ الْخَبَرُ وفرحوا وَخَرَجُوا يَتَلَقَّوْنَهُ رَجَعَ الْوَلِيدُ إِلَى رَسُولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال رسول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنِّ بَنِي الْمُصْطَلِقِ قَدْ مَنَعُوا الصَّدَقَةَ" فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذَلِكَ غَضَبًا شَدِيدًا, فَبَيْنَمَا هُوَ يُحَدِّثُ نَفْسَهُ أَنْ يَغْزُوَهُمْ إِذْ أَتَاهُ الْوَفْدُ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا حُدِّثْنَا أَنَّ رَسُولَكَ رَجَعَ مِنْ نِصْفِ الطَّرِيقِ وإنا خشينا أن ما رَدَّهُ كِتَابٌ جَاءَ مِنْكَ لِغَضَبٍ غَضِبْتَهُ عَلَيْنَا, وَإِنَّا نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ غَضَبِهِ وَغَضَبِ رَسُولِهِ, وَأَنَّ النَّبِيَّ اسْتَغْشَّهُمْ وَعَمَّ بِهِمْ, فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عُذْرَهُمْ فِي الْكِتَابِ, فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} 2 [الْحُجُرَاتِ: 6] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: أَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ إِلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ لِيُصْدِقَهُمْ, فَتَلَقَّوْهُ بِالصَّدَقَةِ فَرَجَعَ فَقَالَ: إِنَّ بَنِي الْمُصْطَلِقِ قَدْ جَمَعَتْ لَكَ لِتُقَاتِلَكَ -زَادَ قَتَادَةُ: وَأَنَّهُمْ قَدِ ارْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَامِ- فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَيْهِمْ, وَأَمَرَهُ أَنْ يَتَثَبَّتَ وَلَا يَعْجَلَ, فَانْطَلَقَ حَتَّى أَتَاهُمْ لَيْلًا فَبَعَثَ عُيُونَهُ فَلَمَّا جَاءُوا أَخْبَرُوا خَالِدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُمْ مُسْتَمْسِكُونَ بِالْإِسْلَامِ وَسَمِعُوا أَذَانَهُمْ وَصَلَاتَهُمْ, فَلَمَّا أَصْبَحُوا أَتَاهُمْ خَالِدٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَرَأَى الَّذِي يُعْجِبُهُ, فَرَجَعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ, فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هذه الآية3 ا. هـ. مِنْ تَفْسِيرِ الْحُجُرَاتِ لِابْنِ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَذَكَرَ الْبَغَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى نَحْوَ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَفِيهِ: فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَمَّ أَنْ يَغْزُوَهُمْ فَبَلَغَ الْقَوْمَ رُجُوعُهُ فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ سَمِعْنَا بِرَسُولِكَ فَخَرَجْنَا نَتَلَقَّاهُ وَنُكْرِمُهُ وَنُؤَدِّي إِلَيْهِ مَا قَبِلْنَاهُ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى, فَبَدَا لَهُ فِي الرُّجُوعِ فَخَشِينَا أَنَّهُ إِنَّمَا رَدَّهُ مِنَ الطَّرِيقِ كِتَابٌ جَاءَهُ مِنْكَ لِغَضَبٍ غَضِبْتَهُ عَلَيْنَا, وَإِنَّا نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ غَضَبِهِ وَغَضَبِ رَسُولِهِ, فَاتَّهَمَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَعَثَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَيْهِمْ خُفْيَةً فِي عَسْكَرٍ وَأَمَرَهُ أَنْ يُخْفِيَ عَلَيْهِمْ قُدُومَ قَوْمِهِ, وَقَالَ لَهُ: انْظُرْ فَإِنْ رَأَيْتَ مِنْهُمْ مَا يَدُلُّ عَلَى إِيمَانِهِمْ فَخُذْ مِنْهُمْ زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ وَإِنْ لَمْ تَرَ ذَلِكَ فَاسْتَعْمِلْ فِيهِمْ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْكُفَّارِ. فَفَعَلَ ذَلِكَ خَالِدٌ وَوَافَاهُمْ فَسَمِعَ مِنْهُمْ أَذَانَ صَلَاتَيِ الْمَغْرِبِ وَالْعَشَاءِ فَأَخَذَ مِنْهُمْ صَدَقَاتِهِمْ وَلَمْ يَرَ مِنْهُمْ إِلَّا الطَّاعَةَ وَالْخَيْرَ, فَانْصَرَفَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ, فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الْحُجُرَاتِ: 6] 1 الْآيَةَ. وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْمُمْتَنِعُ عَنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ فَرْدًا مِنَ الْأَفْرَادِ فَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهَا تُؤْخَذُ مِنْهُ قَهْرًا, وَاخْتَلَفُوا مِنْ ذَلِكَ فِي مَسَائِلَ: إِحْدَاهَا: هَلْ يَكْفُرُ أَمْ لَا؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَقِيقٍ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَرَوْنَ مِنَ الْأَعْمَالِ شَيْئًا تَرْكُهُ كُفْرٌ إِلَّا الصَّلَاةَ. وَقَالَ أَيُّوبُ السَّخْتِيَانِيُّ: تَرْكُ الصَّلَاةِ كُفْرٌ لَا يُخْتَلَفُ فِيهِ. وَذَهَبَ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْمُبَارَكِ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَحَكَى إِسْحَاقُ: عَلَيْهَا إِجْمَاعَ أَهْلِ الْعِلْمِ, وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيُّ: هُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أهل الحديث, وذهبت طَائِفَةٌ مِنْهُمْ إِلَى أَنَّ مَنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْ أركان الإسلام الخمسة عَمْدًا, أَنَّهُ كَافِرٌ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَنَافِعٍ وَالْحَكَمِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ اخْتَارَهَا طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ, وَخَرَّجَ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ الْحَجُّ فِي كُلِّ عَامٍ؟ قَالَ: "لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَ عَلَيْكُمْ
وَلَوْ وَجَبَ عَلَيْكُمْ مَا أَطَقْتُمُوهُ, وَلَوْ تَرَكْتُمُوهُ لَكَفَرْتُمْ"1. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ تَارِكَ الزَّكَاةِ لَيْسَ بِمُسْلِمٍ, وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ: أَنَّ تَرْكَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ كُفْرٌ دُونَ الصِّيَامِ وَالْحَجِّ, وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: الْمُرْجِئَةُ سَمَّوْا تَرْكَ الْفَرَائِضِ ذَنْبًا بِمَنْزِلَةِ رُكُوبِ الْمَحَارِمِ وَلَيْسَ سَوَاءً؛ لِأَنَّ رُكُوبَ الْمَحَارِمِ مُتَعَمِّدًا مِنْ غَيْرِ اسْتِحْلَالٍ مَعْصِيَةٌ, وَتَرْكَ الْفَرَائِضِ مِنْ غَيْرِ جَهْلٍ وَلَا عُذْرٍ كُفْرٌ, وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي أَمْرِ إِبْلِيسَ, وَعُلَمَاءِ الْيَهُودِ الَّذِينَ أَقَرُّوا بِبَعْثِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِلِسَانِهِمْ وَلَمْ يَعْمَلُوا بِشَرَائِعِهِ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ هِيَ: يُقْتَلُ أَمْ لَا؟ الْأَوَّلُ: هُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى, وَيُسْتَدَلُّ لَهُ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ" 2 الْحَدِيثَ. وَالثَّانِي: لَا يُقْتَلُ, وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى. وَرَوَى اللَّالَكَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُؤَمَّلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَالِكٍ الْبَكْرِيِّ عَنْ أَبِي الْجَوْزَاءِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَا أَحْسَبُهُ إِلَّا رفعه قال: "عرا الْإِسْلَامِ وقواعد الدين ثلاث عَلَيْهِنَّ أُسِّسَ الْإِسْلَامُ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَالصَّلَاةُ وَصَوْمُ رَمَضَانَ, مَنْ تَرَكَ مِنْهُنَّ وَاحِدَةً فَهُوَ بِهَا كَافِرٌ وَيَحِلُّ دَمُهُ" وَتَجِدُهُ كَثِيرَ الْمَالِ لَمْ يَحُجَّ فَلَا يَزَالُ بِذَلِكَ كَافِرًا وَلَا يَحِلُّ بِذَلِكَ دَمُهُ, وَتَجِدُهُ كَثِيرَ الْمَالِ وَلَا يُزَكِّي فَلَا يَزَالُ بِذَلِكَ كَافِرًا وَلَا يَحِلُّ دَمُهُ. وَرَوَاهُ قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ مَرْفُوعًا مُخْتَصَرًا وَرَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ أَخُو حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَالِكٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ مَرْفُوعًا, وَقَالَ: مَنْ تَرَكَ مِنْهُنَّ وَاحِدَةً -يَعْنِي الثَّلَاثَ الْأُوَلَ- فَهُوَ بِاللَّهِ كَافِرٌ وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ وَقَدْ حَلَّ دَمُهُ وَمَالُهُ, وَلَمْ يَذْكُرْ مَا بَعْدَهُ3.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ لِمَنْ لَمْ يَرَ قَتْلَهُ: هَلْ يُنَكَّلُ بِأَخْذِ شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ مَعَ الزَّكَاةِ؟ وَقَدْ رُوِيَ فِي خُصُوصِ الْمَسْأَلَةِ حَدِيثُ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فِي كُلِّ سَائِمَةِ إِبِلٍ فِي أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ, لَا تُفَرَّقُ إِبِلٌ عَنْ حِسَابِهَا, مَنْ أَعْطَاهَا مُؤْتَجِرًا بِهَا فَلَهُ أَجْرُهَا, وَمَنْ مَنَعَهَا فَإِنَّا آخِذُوهَا وَشَطْرَ مَالِهِ عَزْمَةً مِنْ عَزَمَاتِ رَبِّنَا, لَا يَحِلُّ لِآلِ مُحَمَّدٍ مِنْهَا شَيْءٌ" رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ1, وَعَلَّقَ الشَّافِعِيُّ الْقَوْلَ بِهِ عَلَى ثُبُوتِهِ فَإِنَّهُ قَالَ: لَا يُثْبِتُهُ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ, وَلَوْ ثَبَتَ لَقُلْنَا بِهِ2. وَالرَّابِعُ الصِّيَامُ فَاسْمَعْ وَاتَّبِعْ ... وَالْخَامِسُ الْحَجُّ عَلَى مَنْ يَسْتَطِعْ
الرابع الصيام
[الصِّيَامُ] : الرُّكْنُ الرَّابِعُ مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ الصِّيَامُ, وَهُوَ فِي اللُّغَةِ: الْإِمْسَاكُ, وَفِي الشَّرْعِ: إِمْسَاكٌ مَخْصُوصٌ فِي زَمَنٍ مَخْصُوصٍ, بِشَرَائِطَ مَخْصُوصَةٍ. وَكَانَ فَرْضُ صَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ هُوَ وَالزَّكَاةُ قَبْلَ بَدْرٍ, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هَدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [الْبَقَرَةِ: 183-185] إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ, وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْأَحَادِيثُ فِيهِ. وَقَدْ ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ كُفْرُ مَنْ جَحَدَ فَرَضِيَّتَهُ, وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ بِقَتْلِ تَارِكِهِ مَعَ الْإِقْرَارِ وَالِاعْتِرَافِ بِوُجُوبِهِ, وَقَوْلُهُ: "فَاسْمَعْ وَاتَّبِعْ" مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وجل: {فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزُّمَرِ: 18] .
الخامس الحج
[الْحَجُّ] : الرُّكْنُ الْخَامِسُ الْحَجُّ: "وَهُوَ "عَلَى مَنْ يَسْتَطِعْ" أَيْ: مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آلِ عِمْرَانَ: 97] قَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى تَفْصِيلَهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} إِلَى قَوْلِهِ: {إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الْبَقَرَةِ: 196] . وَاشْتِرَاطُ الِاسْتِطَاعَةِ فِيهِ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي الْآيَةِ وَفِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ وَفِي حَدِيثِ مُعَاذٍ وَغَيْرِهَا, وَفَسَّرَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ1. وَلَا خِلَافَ فِي كُفْرِ مَنْ جَحَدَ فَرَضِيَّتَهُ, وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي كُفْرِ تَارِكِهِ مَعَ الْإِقْرَارِ بِفَرْضِيَّتِهِ. وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تَعَجَّلُوا الْحَجَّ -يَعْنِي الْفَرِيضَةَ- فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي مَا يَعْرِضُ لَهُ" 2. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِلَفْظِ: "مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ فَلْيَتَعَجَّلْ" 3. وَرَوَى الْإِسْمَاعِيلِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ
الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: مَنْ أَطَاقَ الْحَجَّ فَلَمْ يَحُجَّ, فَسَوَاءٌ عَلَيْهِ مَاتَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا1. وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَبْعَثَ رِجَالًا إِلَى هَذِهِ الْأَمْصَارِ فَيَنْظُرُوا إِلَى كُلِّ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ جِدَةٌ فَلَمْ يَحُجَّ فَيَضْرِبُوا عَلَيْهِمُ الْجِزْيَةَ, مَا هُمْ بِمُسْلِمِينَ2. وَرَوَى الْبَغَوِيُّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ لَمْ تَحْبِسْهُ حَاجَةٌ ظَاهِرَةٌ أَوْ مَرَضٌ حَابِسٌ أَوْ سُلْطَانٌ جَائِرٌ وَلَمْ يَحُجَّ, فَلْيَمُتْ إِنْ شَاءَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا"3. وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فُرِضَ عَلَيْكُمُ الْحَجُّ فَحُجُّوا" فَقَالَ رَجُلٌ: أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَسَكَتَ حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ, وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ" ثُمَّ قَالَ: "ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ, فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أنبيائهم, وإذا أمرتكم بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا استطعتم, وإذا نهيتكم عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ" 4 وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ بِنَحْوِ هَذَا, وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَرَوَى أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَتَبَ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ" فَقَامَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفِي كُلِّ عَامٍ؟ فَقَالَ: "لَوْ قُلْتُهَا
لَوَجَبَتْ, وَلَوْ وَجَبَتْ لَمْ يَعْمَلُوا بِهَا, وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْمَلُوا بِهَا, والحج مَرَّةٌ فَمَنْ زَادَ فَهُوَ تَطَوُّعٌ" 1.
أمور تدخل في مسمى الإيمان والإسلام
ذِكْرُ أُمُورٍ تَدْخُلُ فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ مِنَ الْأَوَامِرِ وَالْمَنَاهِي وَالْأَخْبَارِ: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {سَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا} [آلِ عِمْرَانَ: 133-136] الْآيَاتِ. وَقَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [الْقَصَصِ: 52-55] وَقَالَ تَعَالَى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ
{مَتَابًا وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} [الْفَرْقَانِ: 63-76] . وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [التَّوْبَةِ: 111-112] . وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ} [الْمَعَارِجِ: 19-35] وَقَالَ تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ} إِلَى قَوْلِهِ: {الْوَارِثُونَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 1 10] الْآيَاتِ. وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ
يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [الْمُؤْمِنُونَ: 57-62] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذَّارِيَاتِ: 15-19] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [الْبَقَرَةِ: 177] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الْأَحْزَابِ: 35] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [التوبة: 3] وَقَالَ تَعَالَى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ
سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [الْحَشْرِ: 9-10] . وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الْحَشْرِ: 18] الْآيَاتِ, وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الْمُمْتَحِنَةِ: 1] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ, وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الْحُجُرَاتِ: 1] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ, وَقَالَ تَعَالَى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} [النِّسَاءِ: 36] وَقَالَ تَعَالَى: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ} [الْأَنْعَامِ: 120] . وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الْأَنْعَامِ: 151-153] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي
صَغِيرًا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولًا وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا} [الْإِسْرَاءِ: 23-39] . وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الْأَعْرَافِ: 33] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [النَّحْلِ: 90-91] الْآيَاتِ, وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الْحَشْرِ: 7] وَقَالَ تَعَالَى: {اتَّبِعُوا مَا
حديث الإسلام بضع وسبعون شعبة
أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [الْأَعْرَافِ: 3] وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آلِ عِمْرَانَ: 31] الْآيَتَيْنِ. وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا} [فُصِّلَتْ: 30] الْآيَاتِ, وَقَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الْكَهْفِ: 11] . وَآيَاتُ الْقُرْآنِ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ وَشَهِيرَةٌ لَا تَخْفَى, بَلِ الْقُرْآنُ كُلُّهُ فِي تَقْرِيرِ الدِّينِ مِنْ فَاتِحَتِهِ إِلَى خَاتِمَتِهِ: دَعْوَةً وَبِشَارَةً وَنِذَارَةً, وَأَمْرًا وَنَهْيًا وَخَبَرًا , كُلُّهُ لَا يَخْرُجُ عَنْ شَأْنِ الدِّينِ: إِمَّا دَعْوَةً إِلَيْهِ أَوْ بِشَارَةً لِمَنِ اتَّبَعَهُ بِرِضَاءِ اللَّهِ وَالْجَنَّةِ أَوْ نِذَارَةً لِمَنْ أَبَى عَنْهُ مِنْ خِزْيِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الآخرة أو أمر بِشَرَائِعِهِ: أُصُولِهَا وَفُرُوعِهَا وَآدَابِهَا وَأَحْكَامِ كُلٍّ منها أو نهي عَنْ نَوَاقِضِهِ جَمِيعِهِ أَوْ نَوَاقِضِ شَيْءٍ مِنْهَا أَوْ مَا يُوجِبُ أَدْنَى خَلَلٍ فِيهِ أَوْ فِي شَيْءٍ مِنْ شرائعه أو خبر عَنْ نَصْرِ مَنْ جَاءَ بِهِ وَصَدَّقَ بِهِ وَحِفْظِهِ وَتَأْيِيدِهِ فِي الدنيا أو خبر عَمَّا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْفَوْزِ وَالنَّعِيمِ وَالنَّجَاةِ مِنْ عَذَابِ الجحيم أو خبر عَنْ إِهْلَاكِ مَنِ اسْتَكْبَرَ عَنْهُ فِي الدُّنْيَا وَمَا أَحَلَّهُ اللَّهُ بِهِمْ مِنْ غَضَبِهِ عَاجِلًا مِنَ الْخَسْفِ وَالْمَسْخِ وَالْقَذْفِ وَغَيْرِ ذَلِكَ, وَمَا أَعَدَّهُ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعِقَابِ, وَمَا فَاتَهُمْ وَحُرِمُوهُ مِنَ الثَّوَابِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ فَمِنْهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً, فَأَعْلَاهَا قَوْلُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ, وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ, وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ" 1. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بَايِعُونِي عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا تَسْرِقُوا وَلَا تَزْنُوا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ وَلَا تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ وَلَا تَعْصُوا فِي مَعْرُوفٍ, فَمَنْ وَفَّى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ, وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ فِي
الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ, وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَسَتَرَهُ اللَّهُ فَهُوَ إِلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ وَإِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ" قَالَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ: فَبَايَعْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ1. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ يُبَايِعُنِي على هذه الثلاث الْآيَاتِ: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [الْأَنْعَامِ: 151] الْآيَاتِ"2. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ لَمَّا قَالَ لَهُ: مَا الَّذِي بَعَثَكَ اللَّهُ بِهِ؟ قَالَ: "الْإِسْلَامُ" قُلْتُ: وَمَا الْإِسْلَامُ؟ قَالَ: "أَنَّ تُسْلِمَ قَلْبَكَ لِلَّهِ تَعَالَى وَأَنْ تُوَجِّهَ وَجْهَكَ لِلَّهِ وَأَنْ تُصَلِّيَ الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ وَتُؤَدِّيَ الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ" 3. وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: وَمَا آيَةُ الْإِسْلَامِ؟ قَالَ: "أَنْ تَقُولَ: أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَتَخَلَّيْتُ, وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ, وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ, وَكُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ" 4. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ثَلَاثٌ لَا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُسْلِمٍ: إِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ, وَمُنَاصَحَةُ وُلَاةِ الْأُمُورِ, وَلُزُومُ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تحيط من وراءهم" 5 وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَوَابِ: أَيُّ الْمُسْلِمِينَ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ" 6.
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تَحَاسَدُوا, وَلَا تَبَاغَضُوا, وَلَا تَدَابَرُوا, وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ, وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا, الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ, لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ وَلَا يحقره, التقوى ههنا -وَأَشَارَ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثًا- بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ" 1. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ, وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ" 2. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَوَابِ مَنْ قَالَ: أَيُّ الْإِسْلَامِ خَيْرٌ؟ قَالَ: "أَنْ تُطْعِمَ الطَّعَامَ وَتَقْرَأَ السَّلَامَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ, وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ" 3. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ" 4. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَوَابِ مَنْ سَأَلَهُ: قُلْ لِي فِي الْإِسْلَامِ قَوْلًا لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا غَيْرَكَ, قَالَ: "قُلْ: آمَنْتُ بِاللَّهِ ثُمَّ اسْتَقِمْ" 5. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَبِيًّا وَرَسُولًا" 6.
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا, وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ, وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ" 1. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يُؤْمَنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ"2 وَفِي رِوَايَةٍ: "مِنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ" 3. وَفِي حَدِيثِ أَبِي رَزِينٍ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْإِيمَانُ؟ قَالَ: "أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ, وَأَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِمَّا سِوَاهُمَا, وَأَنْ تَحْتَرِقَ فِي النَّارِ أَحَبُّ إِلَيْكَ مِنْ أَنْ تُشْرِكَ بِاللَّهِ شَيْئًا, وَأَنْ تُحِبَّ غَيْرَ ذِي نَسَبٍ لَا تُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ. فَإِذَا كُنْتَ كَذَلِكَ فَقَدْ دَخَلَ حُبُّ الْإِيمَانِ فِي قَلْبِكَ كَمَا دَخَلَ حُبُّ الْمَاءِ لِلظَّمْآنِ فِي الْيَوْمِ الْقَائِظِ" قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ لِي بِأَنْ أَعْلَمَ أَنِّي مُؤْمِنٌ؟ قَالَ: "مَا مِنْ أُمَّتِي -أَوْ قَالَ هَذِهِ الْأُمَّةِ- عَبْدٌ يَعْمَلُ حَسَنَةً فَيَعْلَمُ أَنَّهَا حَسَنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ مُجَازِيهِ بِهَا خَيْرًا, وَلَا يَعْمَلُ سَيِّئَةً فَيَعْلَمُ أَنَّهَا سَيِّئَةٌ وَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنْهَا وَيَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَغْفِرُهَا إِلَّا اللَّهُ, إِلَّا وَهُوَ مُؤْمِنٌ" 4. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ سَرَّتْهُ حَسَنَاتُهُ, وَسَاءَتْهُ سَيِّئَاتُهُ فَهُوَ مُؤْمِنٌ" 5. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "صَرِيحُ الْإِيمَانِ إِذَا أَسَأْتَ أَوْ ظَلَمْتَ عَبْدَكَ أَوْ أَمَتَكَ أَوْ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ صُمْتَ أَوْ تَصَدَّقْتَ, وَإِذَا أَحْسَنْتَ اسْتَبْشَرْتَ" 6.
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْمُؤْمِنُونَ فِي الدُّنْيَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَجْزَاءٍ: الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ, وَالَّذِي يَأْمَنُهُ النَّاسُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ, ثُمَّ الَّذِي إِذَا أَشْرَفَ عَلَى طَمَعٍ تَرَكَهُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ"1. وَفِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْإِسْلَامُ؟ قَالَ: "طِيبُ الْكَلَامِ وَإِطْعَامُ الطَّعَامِ" فَقُلْتُ: مَا الْإِيمَانُ؟ قَالَ: "الصَّبْرُ وَالسَّمَاحَةُ" قُلْتُ: أَيُّ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ" قُلْتُ: أَيُّ الْإِيمَانِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "خُلُقٌ حَسَنٌ"2. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا" 3. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ثَلَاثٌ مَنْ فَعَلَهُنَّ فَقَدْ طَعِمَ طَعْمَ الْإِيمَانِ: مَنْ عَبَدَ اللَّهَ وَحْدَهُ بِأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْطَى زَكَاةَ مَالِهِ طَيِّبَةً بِهَا نَفْسُهُ فِي كُلِّ عَامٍ" 4 الْحَدِيثَ وَفِي آخِرِهِ: فَقَالَ رَجُلٌ: فَمَا تَزْكِيَةُ الْمَرْءِ نَفْسَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ مَعَهُ حَيْثُمَا كَانَ" 5. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ الْوَاحِدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ" 6. وَفِي رِوَايَةٍ: "الْمُؤْمِنُونَ كَرَجُلٍ وَاحِدٍ, إِذَا اشْتَكَى عَيْنُهُ اشْتَكَى كُلُّهُ, وَإِنِ اشْتَكَى رَأْسُهُ اشْتَكَى كُلُّهُ" 7.
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا" وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ1. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْمُؤْمِنُ فِي أَهْلِ الْإِيمَانِ بِمَنْزِلَةِ الرَّأْسِ مِنَ الْجَسَدِ, يَأْلَمُ الْمُؤْمِنُ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ كَمَا يَأْلَمُ الْجَسَدُ لِمَا فِي الرَّأْسِ"2، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْمُؤْمِنُ مِرْآةُ الْمُؤْمِنِ, أَخُو الْمُؤْمِنِ, يَكُفُّ عَنْهُ ضَيْعَتَهُ وَيَحُوطُهُ مِنْ وَرَائِهِ" 3، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ" 4، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ, وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ, وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ" 5. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ, وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ, وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ" قَالُوا: مَنْ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ" 6، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَيْسَ الْمُؤْمِنُ الَّذِي يَشْبَعُ وَجَارُهُ جَائِعٌ" 7.
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ أَعْطَى لِلَّهِ وَمَنَعَ لِلَّهِ وَأَحَبَّ لِلَّهِ وَأَبْغَضَ لِلَّهِ, فَقَدِ اسْتَكْمَلَ إِيمَانَهُ" 1، وَسُئِلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَفْضَلِ الْإِيمَانِ فَقَالَ: "أَنْ تُحِبَّ لِلَّهِ وَتُبْغِضَ لِلَّهِ وَتُعْمِلَ لِسَانَكَ فِي ذِكْرِ اللَّهِ" فَقَالَ: وَمَاذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "أَنْ تُحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ, وَتَكْرَهَ لَهُمْ مَا تَكْرَهُ لِنَفْسِكَ"2، وَفِي رِوَايَةٍ: "وَأَنْ تَقُولَ خَيْرًا أَوْ تَصْمُتَ"3، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَسْتَحِقُّ الْعَبْدُ صَرِيحَ الْإِيمَانِ حَتَّى يُحِبَّ لِلَّهِ وَيُبْغِضَ لِلَّهِ, فَإِذَا أَحَبَّ لِلَّهِ وَأَبْغَضَ لِلَّهِ فَقَدِ اسْتَحَقَّ الْوِلَايَةَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى"4، وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أوثق عرا الْإِيمَانِ أَنْ تُحِبَّ فِي اللَّهِ, وَتُبْغِضَ فِي اللَّهِ" 5. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذٍ بَعْدَ مَا أَخْبَرَهُ بِأَرْكَانِ الْإِسْلَامِ قَالَ: "أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى أَبْوَابِ الْخَيْرِ؟ الصَّوْمُ جُنَّةٌ, وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ, وَصَلَاةُ الرَّجُلِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ" ثُمَّ تَلَا: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [السَّجْدَةِ: 16] ثُمَّ قَالَ: "أَلَا أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ الْأَمْرِ وَعَمُودِهِ وَذُرْوَةِ سَنَامِهِ؟ رَأَسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ, وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ, وَذُرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ" ثُمَّ قَالَ لَهُ: "أَلَا أُخْبِرُكَ بِمَلَاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ"؟ فَأَخَذَ بِلِسَانِ نَفْسِهِ وَقَالَ: "كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا" 1.
شرح هذا الحديث
شَرْحُ حَدِيثِ شُعَبِ الْإِيمَانِ وَيُنَاسِبُ هُنَا أَنْ نَنْقُلَ شَرْحَ حَدِيثِ شُعَبِ الْإِيمَانِ وَكَلَامَ الْعُلَمَاءِ فِي إِحْصَائِهَا مِنْ فَتْحِ الْبَارِي. فَتِلْكَ خَمْسَةٌ وَلِلْإِيمَانِ ... سِتَّةُ أَرْكَانٍ بِلَا نُكْرَانِ إِيمَانُنَا بِاللَّهِ ذِي الْجَلَالِ ... وَمَا لَهُ مِنْ صِفَةِ الْكَمَالِ وَبِالْمَلَائِكَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَهْ ... وَكُتُبِهِ الْمُنَزَّلَةِ الْمُطَهَّرَةْ وَرُسُلِهِ الْهُدَاةِ لِلْأَنَامِ ... مِنْ غَيْرِ تَفْرِيقٍ وَلَا إِيهَامِ (فَتِلْكَ) الْأَرْكَانُ الْمُتَقَدِّمَةُ الَّتِي هِيَ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَإِقَامُ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ وَصَوْمُ رَمَضَانَ وَحَجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا (خَمْسَةٌ) فَسَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا الْإِسْلَامَ فَاعْلَمْهَا وَاحْتَفِظْ بِهَا وَاعْمَلْهَا وَعَلِّمْهَا، فَسَوْفَ تُسْأَلُ عَنْهَا وَتُحَاسَبُ عَلَيْهَا، فَأَعْدِدْ لِلسُّؤَالِ جَوَابًا، وَإِيَّاكَ أَنْ تُخِلَّ بِشَيْءٍ مِنْهَا فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ. [أَرْكَانُ الْإِيمَانِ] : "وَلِلْإِيمَانِ سِتَّةُ أَرْكَانٍ" فَسَّرَهُ بِهَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ وَغَيْرِهِ "بِلَا نُكْرَانٍ" لِلنَّقْلِ وَلَا تَكْذِيبٍ لِلْخَبَرِ وَلَا شَكَّ فِي الِاعْتِقَادِ وَلَا اسْتِكْبَارَ عَنِ الِانْقِيَادِ. [الْإِيمَانُ بِاللَّهِ] : الْأَوَّلُ مِنْهَا "إِيمَانُنَا بِاللَّهِ": بِإِلَهِيَّتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ, لَا شَرِيكَ لَهُ فِي الْمُلْكِ وَلَا مُنَازِعَ لَهُ فِيهِ, وَلَا إِلَهَ غَيْرُهُ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ, وَاحِدٌ أَحَدٌ فَرْدٌ صمد لم يتخذ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا وَلَا
الثاني الإيمان بالملائكة
يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا, وَلَا ضِدَّ لَهُ وَلَا نِدَّ, وَلَمْ يَكُنْ له كفوا أحدا "ذِي الْجَلَالِ" ذِي الْعَظَمَةِ وَالْكِبْرِيَاءِ الَّذِي هُوَ أَهْلٌ أَنْ يُجَلَّ؛ فَلَا يُعْصَى, وَيُذْكَرَ فَلَا يُنْسَى, وَيُشْكَرَ فَلَا يُكْفَرُ, وَيُوَحَّدَ فَلَا يُشْرَكُ مَعَهُ غَيْرُهُ, وَلَا يُوَالَى إِلَّا هُوَ {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} [الْأَنْعَامِ: 164] {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الْأَنْعَامِ: 14] {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا} [الْأَنْعَامِ: 114] {أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} [الزُّمَرِ: 64] {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الْأَنْعَامِ: 102، 103] . "وَ" الْإِيمَانُ بِـ "مَا لَهُ" تَعَالَى "مِنْ صِفَةِ الْكَمَالِ" مِمَّا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَوَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنَ الْأَسْمَاءِ الحسنى والصفات العلا وَإِمْرَارُهَا كَمَا جَاءَتْ بِلَا تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ وَلَا تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ, وَأَنَّ كُلَّ مَا سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى وَوَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَوَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْكُلُّ حَقٌّ عَلَى حَقِيقَتِهِ عَلَى مَا أَرَادَ اللَّهُ وَأَرَادَ رَسُولُهُ, وَعَلَى مَا يَلِيقُ بِجَلَالِ اللَّهِ وَعَظَمَتِهِ {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آلِ عِمْرَانَ: 7] . وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا يَسَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ تَقْرِيرِ الْكَلَامِ فِي تَوْحِيدِ الْإِلَهِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ وَالْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَأَنْوَاعِ الشِّرْكِ الْمُضَادَّةِ لَهُ, فَلْيُرَاجَعْ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. [الْإِيمَانُ بِالْمَلَائِكَةِ] : "وَ" الثَّانِي الْإِيمَانُ "بِالْمَلَائِكَةِ" الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ اللَّهِ الْمُكْرَمُونَ وَالسَّفَرَةُ بَيْنَهُ تَعَالَى وَبَيْنَ رُسُلِهِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ "الْكِرَامُ" خَلْقًا وَخُلُقًا وَالْكِرَامُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى "الْبَرَرَةُ" الطَّاهِرِينَ ذَاتًا وَصِفَةً وَأَفْعَالًا, الْمُطِيعِينَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَهُمْ عِبَادٌ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ, خَلَقَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ النُّورِ لِعِبَادَتِهِ, لَيْسُوا بَنَاتًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَا أَوْلَادًا وَلَا شُرَكَاءَ مَعَهُ وَلَا أَنْدَادًا, تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ وَالْجَاحِدُونَ وَالْمُلْحِدُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا
خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 26-29] وَقَالَ تَعَالَى: {أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} [الصَّافَّاتِ: 151-166] وَقَالَ تَعَالَى: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} [الزُّخْرُفِ: 15-19] الْآيَاتِ. وَقَالَ تَعَالَى: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا} [النِّسَاءِ: 172] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 19، 20] وَقَالَ تَعَالَى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فَاطِرٍ: 1] وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ} وَقَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا} [الْفُرْقَانِ: 22] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [الْأَعْرَافِ: 206] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مَرْيَمَ: 64] وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ
منهم الموكل بالوحي
كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سَبَأٍ: 40] وَقَالَ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [الْبَقَرَةِ: 98] وَالْآيَاتُ فِي ذِكْرِ الْمَلَائِكَةِ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرَةٌ. [أَقْسَامُ الْمَلَائِكَةِ وَخَصَائِصُهُمْ] : ثُمَّ هُمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا هَيَّأَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ وَوَكَّلَهُمْ بِهِ عَلَى أَقْسَامٍ: فَمِنْهُمُ الْمُوَكَّلُ بِالْوَحْيِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى رُسُلِهِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ, وَهُوَ الرُّوحُ الْأَمِينُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [الْبَقَرَةِ: 97] وَقَالَ تَعَالَى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشُّعَرَاءِ: 193] وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [النَّحْلِ: 102] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النَّجْمِ: 4-9] وَهَذَا فِي رُؤْيَةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَهُ فِي الْأَبْطَحِ حِينَ تَجَلَّى لَهُ عَلَى صُورَتِهِ الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا, لَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ قَدْ سَدَّ عَظْمُ خَلْقِهِ الْأُفُقَ, ثُمَّ رَآهُ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ أَيْضًا فِي السَّمَاءِ, كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} [النَّجْمِ: 13-15] . وَلَمْ يَرَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صُورَتِهِ إِلَّا هَاتَيْنِ الْمَرَّتَيْنِ, وَبَقِيَّةَ الْأَوْقَاتِ فِي صُورَةِ رَجُلٍ, وَغَالِبًا فِي صُورَةِ دِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ1. وَقَالَ تَعَالَى فِيهِ: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ} [التَّكْوِيرِ: 19-23] الْآيَاتِ, وَقَالَ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا
ومنهم الموكل بالغيث وتصاريفه
مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سَبَأٍ: 23] تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ. وَفِيهِ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَيَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يَرْفَعُ رَأْسَهُ جِبْرِيلُ, فَيُكَلِّمُهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ وَحْيِهِ بِمَا أَرَادَ, ثُمَّ يَمُرُّ جِبْرِيلُ بِأَهْلِ السَّمَاوَاتِ كُلَّمَا مَرَّ بِسَمَاءٍ سَأَلَهُ مَلَائِكَتُهَا: مَاذَا قَالَ رَبُّنَا يَا جِبْرِيلُ؟ فَيَقُولُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: قَالَ الْحَقَّ وَهُوَ العلي الكبير" فيقولون كُلُّهُمْ مِثْلَ مَا قَالَ جِبْرِيلُ. ثُمَّ يَنْتَهِي جِبْرِيلُ بِالْوَحْيِ إِلَى حَيْثُ أَمَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ1. وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُ بَعْضِ الْأَحَادِيثِ فِي بَدْءِ الْوَحْيِ مِنَ الْفَصْلِ الْآتِي. وَمِنْهُمُ الْمُوَكَّلُ بِالْقَطْرِ وَتَصَارِيفِهِ إِلَى حَيْثُ أَمَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ, وَهُوَ مِيكَائِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ, وَهُوَ ذُو مَكَانَةٍ عَلِيَّةٍ وَمَنْزِلَةٍ رَفِيعَةٍ وَشَرَفٍ عِنْدَ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ, وَلَهُ أَعْوَانٌ يَفْعَلُونَ مَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ بِأَمْرِ رَبِّهِ, وَيُصَرِّفُونَ الرِّيَاحَ وَالسَّحَابَ كَمَا يَشَاءُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الْآثَارِ: مَا مِنْ قَطْرَةٍ تَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ إِلَّا وَمَعَهَا مَلَكٌ يُقَرِّرُهَا فِي مَوْضِعِهَا مِنَ الْأَرْضِ. وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِجِبْرِيلَ: "عَلَى أَيِّ شَيْءٍ مِيكَائِيلُ "؟ قَالَ: عَلَى النَّبَاتِ وَالْقَطْرِ2 وَلِأَحْمَدَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ لِجِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "مَا لِي لَمْ أَرَ مِيكَائِيلَ ضَاحِكًا قَطُّ "؟ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: مَا ضَحِكَ مِيكَائِيلُ مُنْذُ خُلِقَتِ النَّارُ3 عِيَاذًا بِاللَّهِ مِنْهَا. وَمِنْهُمُ الْمُوَكَّلُ بِالصُّورِ, وَهُوَ إِسْرَافِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ, يَنْفُخُ فِيهِ ثَلَاثَ نَفَخَاتٍ
بِأَمْرِ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ: الْأُولَى: نَفْخَةُ الْفَزَعِ, وَالثَّانِيَةُ: نَفْخَةُ الصَّعْقِ, وَالثَّالِثَةُ: نَفْخَةُ الْقِيَامِ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ, كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى بَسْطُهُ فِي مَوْضِعِهِ. وَلِأَحْمَدَ وَالتِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كَيْفَ أَنْعَمُ وَصَاحِبُ الْقَرْنِ قَدِ الْتَقَمَ الْقَرْنَ وَحَنَى جَبْهَتَهُ وَانْتَظَرَ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ "؟! قَالُوا: كَيْفَ نَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "قُولُوا: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ, عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا" 1. وَهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ هُمُ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي دُعَائِهِ مِنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ: "اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ, فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ, عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ, أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ, اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ, إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ" 2. وَمِنْهُمُ الْمُوَكَّلُ بِقَبْضِ الْأَرْوَاحِ وَهُوَ مَلَكُ الْمَوْتِ وَأَعْوَانُهُ, وَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الْآثَارِ تَسْمِيَتُهُ عِزْرَائِيلَ3, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} [السَّجْدَةِ: 11] وَقَالَ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الْأَنْعَامِ: 61] وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الْأَنْفَالِ: 50] وَقَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا
والموكل بحفظ العبد في كل حالاته
الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النَّحْلِ: 28-32] وَغَيْرُهَا مِنَ الْآيَاتِ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ أَنَّ أَعْوَانَهُ يَأْتُونَ الْعَبْدَ بِحَسَبِ عَمَلِهِ, إِنْ كَانَ مُحْسِنًا فَفِي أَحْسَنِ هَيْئَةٍ وَأَجْمَلِ صُورَةٍ بِأَعْظَمِ بِشَارَةٍ, وَإِنْ كَانَ مُسِيئًا فَفِي أَشْنَعِ هَيْئَةٍ وَأَفْظَعِ مَنْظَرٍ بِأَغْلَظِ وَعِيدٍ, ثُمَّ يَسُوقُونَ الرُّوحَ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ قَبَضَهَا مَلَكُ الْمَوْتِ فَلَا يَدْعُونَهَا فِي يَدِهِ بَلْ يَضَعُونَهَا فِي أَكْفَانٍ وَحَنُوطٍ يَلِيقُ بِهَا, كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الْوَاقِعَةِ: 83-96] سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ, سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ, نَسْتَغْفِرُ اللَّهَ. وَمِنْهُمُ الْمُوَكَّلُ بِحِفْظِ الْعَبْدِ فِي حِلِّهِ وَارْتِحَالِهِ وَفِي نَوْمِهِ وَيَقَظَتِهِ وَفِي كُلِّ حَالَاتِهِ, وَهُمُ الْمُعَقِّبَاتُ, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرَّعْدِ: 10، 11] وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ} [الْأَنْبِيَاءِ: 42] وَقَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً} [الْأَنْعَامِ: 18] . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- فِي الْآيَةِ الْأُولَى {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرَّعْدِ: 11] : وَالْمُعَقِّبَاتُ مِنَ اللَّهِ هم الملائكة يحفظونه مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ, فَإِذَا جَاءَ قَدَرُ اللَّهِ تَعَالَى خَلَّوْا عَنْهُ1.
والموكل بحفظ الأعمال من خير وشر
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَا مِنْ عَبْدٍ إِلَّا لَهُ مَلَكٌ مُوَكَّلٌ بِحِفْظِهِ فِي نَوْمِهِ وَيَقَظَتِهِ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالْهَوَامِّ, فَمَا مِنْهَا شَيْءٌ يَأْتِيهِ إِلَّا قَالَ لَهُ الْمَلَكُ: وَرَاءَكَ, إِلَّا شَيْءٌ أَذِنَ اللَّهُ فِيهِ فَيُصِيبُهُ1. وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ} [الْأَنْبِيَاءِ: 42] قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: أَيْ بَدَلُ الرَّحْمَنِ, يَمْتَنُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِنِعْمَتِهِ عَلَى عَبِيدِهِ وَحِفْظِهِ لَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَكِلَاءَتِهِ وَحِرَاسَتِهِ لَهُمْ بِعَيْنِهِ الَّتِي لا تنام2. ا. هـ. وَمِنْهُمُ الْمُوَكَّلُ بِحِفْظِ عَمَلِ الْعَبْدِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ, وَهُمُ الْكِرَامُ الْكَاتِبُونَ, وَهَؤُلَاءِ يَشْمَلُهُمْ مَعَ مَا قَبْلَهُمْ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً} [الْأَنْعَامِ: 61] وَقَالَ تَعَالَى فِيهِمْ: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزُّخْرُفِ: 80] وَقَالَ تَعَالَى: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 17, 18] فَالَّذِي عَنِ الْيَمِينِ يَكْتُبُ الْحَسَنَاتِ, وَالَّذِي عَنِ الشِّمَالِ يَكْتُبُ السَّيِّئَاتِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الِانْفِطَارِ: 10] . عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ الْمُزَنِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ تَعَالَى مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ, يَكْتُبُ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- لَهُ بِهَا رِضْوَانَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ, وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ تَعَالَى مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ, يَكْتُبُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ بِهَا سَخَطَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ" فَكَانَ عَلْقَمَةُ يَقُولُ: كَمْ مِنْ كَلَامٍ قَدْ مَنَعَنِيهِ حَدِيثُ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ, وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ, وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ3.
وَرَوَى الْبَغَوِيُّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كَاتِبُ الْحَسَنَاتِ عَلَى يَمِينِ الرَّجُلِ, وَكَاتِبُ السَّيِّئَاتِ عَلَى يَسَارِ الرَّجُلِ, وَكَاتِبُ الْحَسَنَاتِ أَمِيرٌ عَلَى كَاتِبِ السَّيِّئَاتِ, فَإِذَا عَمِلَ حَسَنَةً كَتَبَهَا صَاحِبُ الْيَمِينِ عَشْرًا, وَإِنْ عَمِلَ سَيِّئَةً قَالَ صَاحِبُ الْيَمِينِ لِصَاحِبِ الشِّمَالِ: دَعْهُ سَبْعَ سَاعَاتٍ؛ لَعَلَّهُ يُسَبِّحُ أَوْ يَسْتَغْفِرُ"1. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَجَاوَزَ لِي عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا, مَا لَمْ يَتَكَلَّمُوا أَوْ يَعْمَلُوا بِهِ" وَفِي رِوَايَةٍ: "مَا لَمْ تَعْمَلْ أَوْ تُكَلِّمْ بِهِ" 2 وَفِيهِ عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ, قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِذَا هَمَّ عَبْدِي بِسَيِّئَةٍ فَلَا تَكْتُبُوهَا عَلَيْهِ, فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا سَيِّئَةً. وَإِذَا هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا فَاكْتُبُوهَا حَسَنَةً, فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا عَشْرًا" 3 وَفِي رِوَايَةٍ: "قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِذَا هَمَّ عَبْدِي بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبْتُهَا لَهُ حَسَنَةً, فَإِنْ عَمِلَهَا كَتَبْتُهَا عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ. وَإِذَا هَمَّ بِسَيِّئَةٍ وَلَمْ يَعْمَلْهَا لَمْ أَكْتُبْهَا عَلَيْهِ, فَإِنْ عَمِلَهَا كَتَبْتُهَا سَيِّئَةً وَاحِدَةً" 4. وَفِي أُخْرَى: "قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِذَا تَحَدَّثَ عَبْدِي بِأَنْ يَعْمَلَ حَسَنَةً فَأَنَا أَكْتُبُهَا لَهُ حَسَنَةً مَا لَمْ يَعْمَلْ, فَإِذَا عَمِلَهَا فَأَنَا أَكْتُبُهَا بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا. وَإِذَا تَحَدَّثَ بِأَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً فَأَنَا أَغْفِرُهَا لَهُ مَا لَمْ يَعْمَلْهَا, فَإِذَا عَمِلَهَا فَأَنَا أَكْتُبُهَا لَهُ بِمِثْلِهَا" 5. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: رَبِّ ذَاكَ
عَبْدُكَ يُرِيدُ أَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً -وَهُوَ تَعَالَى أَبْصَرُ بِهِ- فَقَالَ: ارْقُبُوهُ, فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ بِمِثْلِهَا, وَإِنْ تَرَكَهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً, إِنَّمَا تَرَكَهَا مِنْ جَرَّايَ" 1. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا أَحْسَنَ أَحَدُكُمْ إِسْلَامَهُ فَكُلُّ حَسَنَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ, وَكُلُّ سَيِّئَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ بِمِثْلِهَا حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ" 2. وَفِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى كَتَبَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ, فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً, وَإِنْ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ. وَإِنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً, وَإِنْ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً -زَادَ فِي رِوَايَةٍ: أَوْ مَحَاهَا اللَّهُ- وَلَا يَهْلَكُ عَلَى اللَّهِ إِلَّا هَالِكٌ" 3. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} [ق: 17] : يابن آدَمَ بُسِطَتْ لَكَ صَحِيفَةٌ, وَوُكِّلَ بِكَ مَلَكَانِ كَرِيمَانِ أَحَدُهُمَا عَنْ يَمِينِكَ وَالْآخَرُ عَنْ شِمَالِكَ, فَأَمَّا الَّذِي عَنْ يَمِينِكَ فَيَحْفَظُ حَسَنَاتِكَ وَأَمَّا الَّذِي عَنْ يَسَارِكَ فَيَحْفَظُ سَيِّئَاتِكَ, فَاعْمَلْ مَا شِئْتَ أَقْلِلْ أَوْ أَكْثِرْ, حَتَّى إِذَا مِتَّ طُوِيَتْ صَحِيفَتُكَ وَجُعِلَتْ فِي عُنُقِكَ مَعَكَ فِي قَبْرِكَ حَتَّى تَخْرُجَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ, فَعِنْدَ ذَلِكَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الْإِسْرَاءِ: 14] ثُمَّ يَقُولُ: عَدَلَ وَاللَّهِ فِيكَ مَنْ جَعَلَكَ حسيب نفسك4. ا. هـ. وَيُنَاسِبُ ذِكْرَ الْمُعَقِّبَاتِ وَالْحَفَظَةِ مَا رَوَى الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي "بَابِ
والموكلون بفتنة القبر والمبشرون للمؤمنين وخزنة جهنم
قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلَائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلَائِكَةٌ بِالنَّهَارِ, وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلَاةِ الْعَصْرِ وَصَلَاةِ الْفَجْرِ, ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ فَيَسْأَلُهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ فَيَقُولُ: كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟ فَيَقُولُونَ: تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ" 1 وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا. وَفِيهِمَا عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ فَقَالَ: "إِنَّ اللَّهَ لَا يَنَامُ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أن ينام, يحفظ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ, يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ" 2 الْحَدِيثُ تَقَدَّمَ فِي الْعُلُوِّ. وَالْأَحَادِيثُ فِي ذِكْرِ الْحَفَظَةِ كَثِيرَةٌ. وَمِنْهُمُ الْمُوَكَّلُونَ بِفِتْنَةِ الْقَبْرِ, وَهُمْ مُنْكَرٌ وَنَكِيرٌ, وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُ النُّصُوصِ فِي ذَلِكَ قَرِيبًا, نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى الثَّبَاتَ وَالتَّوْفِيقَ. وَمِنْهُمْ خَزَنَةُ الْجَنَّةِ, ومقدمهم رضوان عليه السَّلَامُ, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزُّمَرِ: 73] وَقَالَ تَعَالَى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرَّعْدِ: 23] . وَمِنْهُمُ الْمُبَشِّرُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ وَفَيَاتِهِمْ وَفِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ, كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ
والموكلون بالنطفة في الرحم
رَحِيمٍ} [فُصِّلَتْ: 30، 31] وَقَالَ تَعَالَى فِيهِمْ: {لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 103] . وَمِنْهُمْ خَزَنَةُ جَهَنَّمَ -عِيَاذًا بِاللَّهِ مِنْهَا- وَهُمُ الزَّبَانِيَةُ, وَرُؤَسَاؤُهُمْ تِسْعَةَ عَشَرَ, ومقدمهم مالك عليه السَّلَامُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} [الزُّمَرِ: 71] الْآيَاتِ, وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} [غَافِرٍ: 49, 50] وَقَالَ تَعَالَى: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} [الْعَلَقِ: 17، 18] وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التَّحْرِيمِ: 6] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} [الْمُدَّثِّرِ: 27-31] وَقَالَ تَعَالَى: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزُّخْرُفِ: 77] . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: "يُؤْتَى بِجَهَنَّمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَهَا سَبْعُونَ أَلْفَ زِمَامٍ, كُلُّ زِمَامٍ فِي يَدِ سَبْعِينَ أَلْفَ مَلَكٍ يَجُرُّونَهَا" 1. وَمِنْهُمُ الْمُوَكَّلُونَ بِالنُّطْفَةِ فِي الرَّحِمِ, كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ أَنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً, ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ, ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ, ثُمَّ يُرْسَلُ إِلَيْهِ الْمَلَكُ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: يَكْتُبُ رِزْقَهُ
ومنهم حملة العرش والكروبيون
وَأَجَلَهُ وَعَمَلَهُ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ" 1 الْحَدِيثَ. وَفِي بَابِهِ مِنَ الْأَحَادِيثِ كَثِيرٌ, وَفِيهَا "أَنَّ الْمَلَكَ يَقُولُ: يَا رَبِّ مُخَلَّقَةٌ أَوْ غَيْرُ مخلقة؟ أو توءم؟ ذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ شَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ؟ مَا الرِّزْقُ وَمَا الْأَجَلُ؟ فَيَقْضِي اللَّهُ تَعَالَى مَا يَشَاءُ, فَيَكْتُبُ الْمَلَكُ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَلَا يُغَيَّرُ وَلَا يُبَدَّلُ" 2. وَمِنْهُمْ حَمَلَةُ الْعَرْشِ وَالْكَرُوبِيُّونَ, وَهُمُ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [غَافِرٍ: 7] الْآيَاتِ, وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الْحَاقَّةِ: 17] وَمَفْهُومُ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَوْمَئِذٍ} أَنَّ حَمَلَةَ الْعَرْشِ لَيْسُوا الْيَوْمَ ثَمَانِيَةً, وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا, قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "صَدَقَ أُمَيَّةُ بْنُ الصَّلْتِ فِي شَيْءٍ مِنْ شِعْرِهِ, فَقَالَ: رَجُلٌ وَثَوْرٌ تَحْتَ رِجْلِ يَمِينِهِ ... وَالنَّسْرُ لِلْأُخْرَى وَلَيْثٌ مُرْصَدُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "صَدَقَ" فَقَالَ: وَالشَّمْسُ تَطْلُعُ كُلَّ آخَرِ لَيْلَةٍ ... حَمْرَاءَ يُصْبِحُ لَوْنُهَا يَتَوَرَّدُ تَأْبَى فَمَا تَطَلُعْ لَنَا فِي رِسْلِهَا ... إِلَّا مُعَذَّبَةً وَإِلَّا تُجْلَدُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "صَدَقَ" 3 وَهَذَا إِسْنَادُهُ جَيِّدٌ, لَكِنْ قَدْ وَرَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا أَيْضًا ثَمَانِيَةٌ, وَهُوَ حَدِيثُ الْعِنَانِ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ وَقَدْ
تَقَدَّمَ فِي الْعُلُوِّ وَفِيهِ: "ثُمَّ فَوْقَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ بَحْرٌ بَيْنَ أَسْفَلِهِ وَأَعْلَاهُ مِثْلُ مَا بَيْنَ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ, ثُمَّ فَوْقَ ذَلِكَ ثَمَانِيَةُ أَوْعَالٍ بَيْنَ أَظْلَافِهِنَّ وَرُكَبِهِنَّ مِثْلُ مَا بَيْنَ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ, ثُمَّ عَلَى ظُهُورِهِنَّ الْعَرْشُ بَيْنَ أَسْفَلِهِ وَأَعْلَاهُ مِثْلُ مَا بَيْنَ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ, ثُمَّ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَوْقَ ذَلِكَ"1. وَلَهُ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذِنَ لِي أَنْ أُحَدِّثَ عَنْ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَةِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ حَمَلَةِ الْعَرْشِ أَنَّ مَا بَيْنَ شَحْمَةِ أُذُنِهِ إِلَى عَاتِقِهِ مَسِيرَةُ سَبْعِمِائَةِ عَامٍ" 2، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالشَّعْبِيُّ وَعِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ وَابْنُ جُرَيْجٍ: ثَمَانِيَةُ صُفُوفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ3. وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْكَرُوبِيُّونَ ثَمَانِيَةُ أَجْزَاءٍ, كُلُّ جُزْءٍ مِنْهُمْ بِعِدَّةِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ وَالْمَلَائِكَةِ4. وَفِي حَدِيثِ الصُّورِ الطَّوِيلِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَأَرْجِعُ فَأَقِفُ مَعَ النَّاسِ, فَبَيْنَمَا نَحْنُ وُقُوفٌ إِذْ سَمِعْنَا مِنَ السَّمَاءِ حِسًّا شَدِيدًا فَهَالَنَا, فَيَنْزِلُ أَهْلُ السَّمَاءِ الدُّنْيَا بِمِثْلَيْ مَنْ فِي الْأَرْضِ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ حَتَّى إِذَا دَنَوْا مِنَ الْأَرْضِ أَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِهِمْ وَأَخَذُوا مَصَافَّهُمْ وَقُلْنَا لَهُمْ: أَفِيكُمْ رَبُّنَا؟ قَالُوا: لَا وَهُوَ آتٍ ثُمَّ يَنْزِلُ أَهْلُ السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ بِمِثْلَيْ مَنْ نَزَلَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَبِمِثْلَيْ مَنْ فِيهَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ حَتَّى إِذَا دَنَوْا مِنَ الْأَرْضِ أَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِهِمْ وَأَخَذُوا مَصَافَّهُمْ وَقُلْنَا لَهُمْ: أَفِيكُمْ رَبُّنَا؟ فَيَقُولُونَ: لَا وَهُوَ آتٍ ثُمَّ يَنْزِلُونَ عَلَى قَدْرِ ذَلِكَ مِنَ التَّضْعِيفِ حَتَّى يَنْزِلَ الْجَبَّارُ عَزَّ وَجَلَّ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ, فَيَحْمِلُ عَرْشَهُ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ وَهُمُ الْيَوْمَ أَرْبَعَةٌ, أَقْدَامُهُمْ فِي تُخُومِ الْأَرْضِ السُّفْلَى وَالْأَرْضُ وَالسَّمَاوَاتُ إِلَى حُجَزِهِمْ وَالْعَرْشُ عَلَى مَنَاكِبِهِمْ, لَهُمْ زَجَلٌ فِي تَسْبِيحِهِمْ يَقُولُونَ: سُبْحَانَ ذِي الْعِزَّةِ وَالْجَبَرُوتِ سُبْحَانَ ذِي الْمُلْكِ وَالْمَلَكُوتِ سُبْحَانَ الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ سُبْحَانَ الَّذِي يُمِيتُ الْخَلَائِقَ وَلَا يَمُوتُ. سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ, سُبْحَانَ رَبِّنَا الْأَعْلَى رَبِّ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّوحِ.
ومنهم ملائكة سياحون, يتبعون مجالس الذكر
سُبْحَانَ رَبِّنَا الْأَعْلَى الَّذِي يُمِيتُ الْخَلَائِقَ وَلَا يَمُوتُ" 1 الْحَدِيثُ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَالْطَبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُمَا. وَمِنْهُمْ مَلَائِكَةٌ سَيَّاحُونَ يَتَّبِعُونَ مَجَالِسَ الذِّكْرِ, فَإِذَا وَجَدُوا قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ تَنَادَوْا: هَلُمُّوا إِلَى حَاجَتِكُمْ, فَيَحُفُّونَهُمْ بِأَجْنِحَتِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ مِنْهُمْ: "مَا يَقُولُ عِبَادِي"؟ قَالُوا: يُسَبِّحُونَكَ وَيُكَبِّرُونَكَ وَيُحْمَدُونَكَ وَيُمَجِّدُونَكَ2 الْحَدِيثُ تَقَدَّمَ فِي الْعُلُوِّ, وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السِّكِّينَةُ وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ وذكرهم الله فيمن عِنْدَهُ" 3 الْحَدِيثُ بِطُولِهِ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَمِنْهُمُ الْمُوَكَّلُ بِالْجِبَالِ, وَقَدْ ثَبَتَ ذِكْرُهُ فِي حَدِيثِ خُرُوجِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى بَنِي عَبْدِ يَالِيلَ وَعَوْدِهِ مِنْهُمْ, وَفِيهِ قَوْلُ جِبْرِيلَ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوهُ عَلَيْكَ, وَفِيهِ قَوْلُ مَلَكِ الْجِبَالِ: إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الْأَخْشَبَيْنِ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بَلِ اسْتَأْنِ بِهِمْ؛ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا" 4. وَفِيهِمْ زُوَّارُ الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ الَّذِي أَقْسَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ فِي كِتَابِهِ, ثَبَتَ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ الْمِعْرَاجِ, وَهُوَ بَيْتٌ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ بِحِيَالِ الْكَعْبَةِ فِي الْأَرْضِ لَوْ سَقَطَ لَوَقَعَ عَلَيْهَا, حُرْمَتُهُ فِي السَّمَاءِ كَحُرْمَةِ الْكَعْبَةِ فِي الْأَرْضِ, يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ ثُمَّ لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ آخِرَ مَا عَلَيْهِمْ5، يَعْنِي: لَا تُحَوَّلُ نَوْبَتُهُمْ لِكَثَرَتِهِمْ. وَالْحَدِيثُ بِأَلْفَاظِهِ فِي الصَّحِيحَيْنِ.
وَمِنْهُمْ مَلَائِكَةٌ صفوف لا يفتون, وَقِيَامٌ لَا يَرْكَعُونَ, وَرُكَّعٌ وَسُجَّدٌ لَا يَرْفَعُونَ, وَمِنْهُمْ غَيْرُ ذَلِكَ: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} [الْمُدَّثِّرِ: 31] . رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ, وَأَسْمَعُ مَا لَا تَسْمَعُونَ. أَطَّتِ السَّمَاءُ وَحَقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ, مَا فِيهَا مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ إِلَّا عَلَيْهِ مَلَكٌ سَاجِدٌ. لَوْ عَلِمْتُمْ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا وَلَمَا تَلَذَّذْتُمْ بِالنِّسَاءِ عَلَى الْفُرُشَاتِ وَلَخَرَجْتُمْ إِلَى الصَّعَدَاتِ تَجْأَرُونَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى" فَقَالَ أَبُو ذَرٍّ: وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي شَجَرَةٌ تُعْضَدُ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: غَرِيبٌ وَيُرْوَى عَنْ أَبِي ذَرٍّ مَوْقُوفًا قُلْتُ: وَلَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ, وَمِنْ أَيْنَ لِأَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِثْلُ هَذَا إِلَّا عَنْ تَوْقِيفٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ1. وَعَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَصْحَابِهِ إِذْ قَالَ لَهُمْ: "هَلْ تَسْمَعُونَ مَا أَسْمَعُ "؟ قَالُوا: مَا نَسْمَعُ مِنْ شَيْءٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَسْمَعُ أَطِيطَ السَّمَاءِ وَمَا تُلَامُ أَنْ تَئِطَّ, مَا فِيهَا مَوْضِعُ شِبْرٍ إِلَّا وَعَلَيْهِ مَلَكٌ رَاكِعٌ أَوْ سَاجِدٌ" 2. وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا مَوْضِعٌ إِلَّا عَلَيْهِ مَلَكٌ سَاجِدٌ أَوْ قَائِمٌ, وَذَلِكَ قَوْلُ الْمَلَائِكَةِ: {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} " 3. وَعَنِ الْعَلَاءِ بْنِ سَعْدٍ وَقَدْ شَهِدَ الْفَتْحَ وَمَا بَعْدَهُ, أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ يَوْمًا لِجُلَسَائِهِ:
الركن الثالث الإيمان بكتب الله المنزلة
"هَلْ تَسْمَعُونَ مَا أَسْمَعُ "؟ قَالُوا: وَمَا تَسْمَعُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "أَطَّتِ السَّمَاءُ وَحَقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ, إِنَّهُ لَيْسَ فِيهَا مَوْضِعُ قَدَمٍ إِلَّا وَعَلَيْهِ مَلَكٌ قَائِمٌ أَوْ رَاكِعٌ أَوْ سَاجِدٌ وَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} " 1. وَعَنْ رَجُلٍ صَحِبَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إِنَّ لِلَّهِ تَعَالَى مَلَائِكَةً تَرْعَدُ فَرَائِصُهُمْ مِنْ خِيفَتِهِ, ما مِنْهُمْ مَلَكٌ تَقْطُرُ مِنْهُ دمعة من عينه إِلَّا وَقَعَتْ عَلَى مَلَكٍ يُصَلِّي, وَإِنَّ مِنْهُمْ مَلَائِكَةً سُجُودًا مُنْذُ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَمْ يَرْفَعُوا رُءُوسَهُمْ وَلَا يَرْفَعُونَهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ, وَإِنَّ مِنْهُمْ مَلَائِكَةً رُكُوعًا لَمْ يَرْفَعُوا رُءُوسَهُمْ مُنْذُ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَرْفَعُونَهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ, فَإِذَا رَفَعُوا رُءُوسَهُمْ نَظَرُوا إِلَى وَجْهِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَقَالُوا: سُبْحَانَكَ مَا عَبَدْنَاكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ" 2. وَإِسْنَادُهُ لَا بَأْسَ بِهِ, وَهُوَ وَالَّذِي قَبْلَهُ أَخْرَجَهُمَا مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيُّ, وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَلَا تَصُفُّونَ كَمَا تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا "؟ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا؟ قَالَ: "يُتِمُّونَ الصُّفُوفَ الْأُوَلَ, وَيَتَرَاصُّونَ فِي الصَّفِّ" 3. وَفِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "خُلِقَتِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ نُورِ الْعَرْشِ, وَخُلِقَ الْجَانُّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ, وَخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وُصِفَ لَكُمْ" 4. [الْإِيمَانُ بِالْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ] : "وَ" الثَّالِثُ: الْإِيمَانُ "بِكُتُبِهِ الْمُنَزَّلَةِ" عَلَى رُسُلِهِ "الْمُطَهَّرَةِ" مِنَ الْكَذِبِ وَالزُّورِ وَمِنْ كُلِّ بَاطِلٍ وَمِنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِهَا, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ
{إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [الْبَقَرَةِ: 136] وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ} [آلِ عِمْرَانَ: 84] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النِّسَاءِ: 136] وَقَالَ تَعَالَى: {وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} [الشُّورَى: 15] وَقَالَ تَعَالَى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا} [التَّغَابُنِ: 8] وَقَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [غَافِرٍ: 70] الْآيَاتِ, وَقَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الْحَدِيدِ: 25] . وَمَعْنَى الْإِيمَانِ بِالْكُتُبِ التَّصْدِيقُ الْجَازِمُ بِأَنَّ كُلَّهَا مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى رُسُلِهِ إِلَى عِبَادِهِ بِالْحَقِّ الْمُبِينِ وَالْهُدَى الْمُسْتَبِينِ, وَأَنَّهَا كَلَامُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا كَلَامَ غَيْرِهِ, وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَكَلَّمَ بِهَا حَقِيقَةً كَمَا شَاءَ وَعَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَرَادَ, فَمِنْهَا الْمَسْمُوعُ مِنْهُ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ بِدُونِ وَاسِطَةٍ, وَمِنْهَا مَا يَسْمَعُهُ الرَّسُولُ الْمَلَكِيُّ وَيَأْمُرُهُ بِتَبْلِيغِهِ مِنْهُ إِلَى الرَّسُولِ الْبَشَرِيِّ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الشُّورَى: 51] وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النِّسَاءِ: 164] ، {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الْأَعْرَافِ: 143] ، {يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي} [الْأَعْرَافِ: 144] ، {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النَّجْمِ: 10] ، {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [الشُّورَى: 52] ، {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [النَّحْلِ: 2] ، {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} وَمِنْهَا مَا خَطَّهُ بِيَدِهِ عَزَّ وَجَلَّ.
الإيمان بكل ما فيها من الشرائع
كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا} [الْأَعْرَافِ: 145] . وَالْإِيمَانُ بِكُلِّ مَا فِيهَا مِنَ الشَّرَائِعِ وَأَنَّهُ كَانَ وَاجِبًا عَلَى الْأُمَمِ الَّذِينَ نَزَلَتْ إِلَيْهِمُ الصُّحُفُ الْأُولَى الِانْقِيَادُ لَهَا وَالْحُكْمُ بِمَا فِيهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُون} إِلَى قَوْلِهِ: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [الْمَائِدَةِ: 44-49] . وَإِنَّ جَمِيعَهَا يُصَدِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا لَا يُكَذِّبُهُ, كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْإِنْجِيلِ: {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ} [الْمَائِدَةِ: 46] وَقَالَ فِي الْقُرْآنِ: {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [الْمَائِدَةِ: 48] . وَإِنَّ كُلَّ مَنْ كَذَّبَ بِشَيْءٍ مِنْهَا أَوْ أَبَى عَنِ الِانْقِيَادِ لَهَا مَعَ تَعَلُّقِ خِطَابِهِ بِهِ, يَكْفُرُ بِذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الْأَعْرَافِ: 40] . وَأَنَّ نَسْخَ الْكُتُبِ الْأُولَى بَعْضِهَا بِبَعْضٍ حَقٌّ, كَمَا نُسِخَ بَعْضُ شَرَائِعِ التَّوْرَاةِ
بِالْإِنْجِيلِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي عيسى عليه السلام: {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [آلِ عِمْرَانَ: 48-50] ، وَكَمَا نُسِخَ كَثِيرٌ مِنْ شَرَائِعِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الْأَعْرَافِ: 156-158] الْآيَةَ. وَأَنَّ نَسْخَ الْقُرْآنِ بَعْضَ آيَاتِهِ بِبَعْضِ حَقٌّ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [الْبَقَرَةِ: 106] وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [النَّحْلِ: 101] الْآيَاتِ, وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [الْأَنْفَالِ: 66] ، بَعْدَ قَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الْأَنْفَالِ: 65] . وَالنَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ آيَاتٌ مَشْهُورَاتٌ مَذْكُورَاتٌ فِي مَوَاضِعِهَا مِنْ كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَغَيْرِهَا. وَأَنَّهُ لَا يَأْتِي كِتَابٌ بَعْدَهُ وَلَا مُغَيِّرَ وَلَا مُبَدِّلَ لِشَيْءٍ مِنْ شَرَائِعِهِ بَعْدَهُ, وَأَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ الْخُرُوجُ عَنْ شَيْءٍ مِنْ أَحْكَامِهِ وَأَنَّ مَنْ كَذَّبَ بِشَيْءٍ مِنْهُ مِنَ الْأُمَمِ الْأُولَى
الركن الرابع الإيمان برسل الله
فَقَدْ كَذَّبَ بِكِتَابِهِ, كَمَا أَنَّ مَنْ كَذَّبَ بِمَا أَخْبَرَ عَنْهُ الْقُرْآنُ مِنَ الْكُتُبِ فَقَدْ كَذَّبَ بِهِ, وَأَنَّ مَنِ اتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِهِ وَلَمْ يَقْتَفِ أَثَرَهُ ضَلَّ قَالَ تَعَالَى: {المص كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [الْأَعْرَافِ: 1-3] . ثُمَّ الْإِيمَانُ بِكُتُبِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يَجِبُ إِجْمَالًا فِيمَا أَجْمَلَ وَتَفْصِيلًا فِيمَا فَصَّلَ, فَقَدْ سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى مِنْ كُتُبِهِ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى وَالْإِنْجِيلَ عَلَى عِيسَى وَالزَّبُورَ عَلَى دَاوُدَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا} [النِّسَاءِ: 163] وَالْقُرْآنَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وَذَكَرَ صُحُفَ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى, وَقَدْ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنِ التَّنْزِيلِ عَلَى رُسُلِهِ مُجْمَلًا فِي قَوْلِهِ: {وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ} [النِّسَاءِ: 136] وَقَالَ تَعَالَى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} إِلَى قَوْلِهِ: {وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} [الْبَقَرَةِ: 136] وَقَالَ: {وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ} [الشُّورَى: 15] فَنَقُولُ كَمَا أَمَرَنَا رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ: آمَنَّا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَمَا أَرْسَلَ مِنْ رَسُولٍ, وَقَالَ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الْحَشْرِ: 7] ، {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آلِ عِمْرَانَ: 7] . فَلَا بُدَّ فِي الْإِيمَانِ بِهِ مِنَ امْتِثَالِ أَوَامِرِهِ وَاجْتِنَابِ مَنَاهِيهِ وَتَحْلِيلِ حَلَالِهِ وَتَحْرِيمِ حَرَامِهِ وَالِاعْتِبَارِ بِأَمْثَالِهِ وَالِاتِّعَاظِ بِقَصَصِهِ وَالْعَمَلِ بِمُحْكَمِهِ وَالتَّسْلِيمِ لِمُتَشَابِهِهِ وَالْوُقُوفِ عِنْدَ حُدُودِهِ وَتِلَاوَتِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالذَّبِّ عَنْهُ لِتَحْرِيفِ الغالين وانتحال المبطلين وَالنَّصِيحَةِ لَهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا بِجَمِيعِ مَعَانِيهَا, نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَرْزُقَنَا كُلَّ ذَلِكَ وَيُوَفِّقَنَا لَهُ وَيُعِينَنَا عَلَيْهِ وَيُثَبِّتَنَا بِهِ وَجَمِيعَ إِخْوَانِنَا الْمُسْلِمِينَ إِنَّهُ وَلِيُّ التَّوْفِيقِ. [الْإِيمَانُ بِالرُّسُلِ] : "وَ" الرَّابِعُ الْإِيمَانُ "بِرُسُلِهِ" وَهُمْ كُلُّ مَنْ أُوحِيَ إِلَيْهِ وَأُمِرَ بِالتَّبْلِيغِ, أَمَّا مَنْ
أُوحِيَ إِلَيْهِ وَلَمْ يُؤْمَرْ بِالتَّبْلِيغِ فَهُوَ نَبِيٌّ فَقَطْ وَلَيْسَ بِرَسُولٍ, فَكُلُّ رَسُولٍ نَبِيٌّ وَلَا كُلُّ نَبِيٍّ رَسُولٌ. "الْهُدَاةُ" جَمْعُ هَادٍ وَالْمُرَادُ بِهِ: هِدَايَةُ الدَّعْوَةِ وَالدَّلَالَةِ وَالْإِرْشَادِ إِلَى سَبِيلِ الْهُدَى كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرَّعْدِ: 7] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ} [الشُّورَى: 52، 53] . وَأَمَّا هِدَايَةُ التَّوْفِيقِ وَالتَّسْدِيدِ وَالتَّثْبِيتِ فَلَيْسَتْ إِلَّا بِيَدِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ, هُوَ مُقَلِّبُ الْقُلُوبِ وَمُصَرِّفُ الْأُمُورِ, لَيْسَ لِمَلَكٍ مقرب ولا لنبي مُرْسَلٍ تَصْرِيفٌ فِي شَيْءٍ مِنْهُمَا فَضْلًا عَمَّنْ دُونَهُمَا؛ وَلِذَا قَالَ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [الْبَقَرَةِ: 272] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [الْقَصَصِ: 56] . وَالْإِيمَانُ بِرُسُلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مُتَلَازِمٌ, مَنْ كَفَرَ بِوَاحِدٍ مِنْهُمْ فَقَدْ كَفَرَ بِاللَّهِ تَعَالَى وَبِجَمِيعِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ, كَمَا قَالَ تَعَالَى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [الْبَقَرَةِ: 285] ، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النِّسَاءِ: 150-152] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النِّسَاءِ: 136] وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الْبَقَرَةِ: 91] وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا
بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الصَّفِّ: 7، 6] وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [آلِ عِمْرَانَ: 81، 82] . وَمَعْنَى الْإِيمَانِ بِالرُّسُلِ هُوَ التَّصْدِيقُ الْجَازِمُ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَ فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا يَدْعُوهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَالْكُفْرُ بِمَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِهِ, وَأَنَّ جَمِيعَهُمْ صَادِقُونَ مُصَدِّقُونَ بَارُّونَ رَاشِدُونَ كِرَامٌ بَرَرَةٌ أَتْقِيَاءُ أُمَنَاءُ هُدَاةٌ مُهْتَدُونَ, وَبِالْبَرَاهِينِ الظَّاهِرَةِ وَالْآيَاتِ الْبَاهِرَةِ مِنْ رَبِّهِمْ مُؤَيِّدُونَ, وَأَنَّهُمْ بَلَّغُوا جَمِيعَ مَا أَرْسَلَهُمُ اللَّهُ بِهِ, لَمْ يَكْتُمُوا مِنْهُ حَرْفًا وَلَمْ يُغَيِّرُوهُ وَلَمْ يَزِيدُوا فِيهِ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ حَرْفًا وَلَمْ يَنْقُصُوهُ, فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ. وَأَنَّهُمْ كُلَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ وَالْهُدَى الْمُسْتَبِينِ, وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا وَاتَّخَذَ مُحَمَّدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَلِيلًا, وَكَلَّمَ مُوسَى تَكْلِيمًا, وَرَفَعَ إِدْرِيسَ مَكَانًا عَلِيًّا, وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ, وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَضَّلَ بَعْضَهُمْ على بعض ورفع بعضهم عَلَى بَعْضٍ دَرَجَاتٍ. وَقَدِ اتَّفَقَتْ دَعْوَتُهُمْ مِنْ أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِمْ فِي أَصْلِ الدِّينِ وَهُوَ تَوْحِيدُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ, بِإِلَهِيَّتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَنَفْيُ مَا يُضَادُّ ذَلِكَ أَوْ يُنَافِي كَمَالَهُ كَمَا تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي تَقْرِيرِ تَوْحِيدِ الطَّلَبِ وَالْقَصْدِ. وَأَمَّا فُرُوعُ الشَّرَائِعِ مِنَ الْفَرَائِضِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ فَقَدْ تَخْتَلِفُ فَيَفْرِضُ عَلَى هَؤُلَاءِ مَا لَا يَفْرِضُ عَلَى هَؤُلَاءِ, وَيُخَفِّفُ عَلَى هَؤُلَاءِ مَا شَدَّدَ عَلَى أُولَئِكَ, وَيُحَرِّمُ عَلَى أُمَّةٍ مَا يُحِلُّ لِلْأُخْرَى, وَبِالْعَكْسِ لِحِكْمَةٍ بَالِغَةٍ وَغَايَةٍ مَحْمُودَةٍ قَضَاهَا رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ؛ لِيَبْلُوَكُمْ فِيمَا آتَاكُمْ, {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} .
وأول رسل الله نوح وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم
وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ مِنْهُمْ آدَمَ وَنُوحًا وَإِدْرِيسَ وَهُودًا وَصَالِحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَيُوسُفَ وَلُوطًا وَشُعَيْبًا وَيُونُسَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَإِلْيَاسَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ, وَذَكَرَ الْأَسْبَاطَ جُمْلَةً, وَعِيسَى وَمُحَمَّدًا, وَقَصَّ عَلَيْنَا مِنْ أَنْبَائِهِمْ وَنَبَّأَنَا مِنْ أَخْبَارِهِمْ مَا فِيهِ كِفَايَةٌ وَعِبْرَةٌ وَمَوْعِظَةٌ, إِجْمَالًا وَتَفْصِيلًا ثُمَّ قَالَ: {وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النِّسَاءِ: 162] وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ} [غَافِرٍ: 78] فَنُؤْمِنُ بِجَمِيعِهِمْ تَفْصِيلًا فِيمَا فَصَّلَ, وَإِجْمَالًا فِيمَا أَجْمَلَ. أَوَّلُهُمْ نُوحٌ بِلَا شَكٍّ كَمَا ... أَنَّ مُحَمَّدًا لَهُمْ قَدْ خَتَمَا "أَوَّلُهُمْ" يَعْنِي: أَوَّلَ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ "نُوحٌ بِلَا شَكٍّ" وَهُوَ نُوحُ بْنُ لَامَكَ بْنِ مَتُّوشَلَخَ بْنِ أَخْنُوخَ بْنِ يَرْدَ بْنِ مَهْلَايِيلَ بْنِ قَايِنَ بْنِ أَنُوشَ بْنِ شِيثِ بْنِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ1. وَالْمَعْنَى: أَنَّ نُوحًا أَوَّلُ الرُّسُلِ وَالنَّبِيِّينَ بَعْدَ الِاخْتِلَافِ, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النِّسَاءِ: 163] لِأَنَّ أُمَّتَهُ أَوَّلُ مَنِ اخْتَلَفَ وَغَيَّرَ وَبَدَّلَ وَكَذَّبَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ} [غَافِرٍ: 5] وَإِلَّا فَآدَمُ قَبْلَهُ كَانَ نَبِيًّا رَسُولًا, وَكَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً عَلَى دِينِهِ وَدِينِ وَصِيَّةِ شِيثٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَابْنُ مَسْعُودٍ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَقَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} [الْبَقَرَةِ: 213] الْآيَةَ, قَالُوا: كَانَ بَيْنَ نُوحٍ وَآدَمَ عَشَرَةُ قُرُونٍ كُلُّهُمْ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْحَقِّ, فَاخْتَلَفُوا فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ2 "كَمَا أَنَّ مُحَمَّدًا" صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "لَهُمْ" أَيْ لِلرُّسُلِ "قَدْ خَتَمَا" فَلَا نَبِيَّ بَعْدَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ
وخمسة منهم من أولي العزم
النَّبِيِّينَ} [الْأَحْزَابِ: 40] وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى تَقْرِيرُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ هَذَا الْمَتْنِ. وَخَمْسَةٌ مِنْهُمْ أولو العزم الألى ... فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ وَالشُّورَى تَلَا "وَخَمْسَةٌ مِنْهُمْ" أَيْ: مِنَ الرُّسُلِ "أُولُو" أَيْ: أَصْحَابِ "الْعَزْمِ" يَعْنِي: الْجَزْمَ وَالْجِدَّ وَالصَّبْرَ وَكَمَالَ الْعَقْلِ, وَلَمْ يُرْسِلِ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ رَسُولٍ إِلَّا وَهَذِهِ الصِّفَاتُ فِيهِ مُجْتَمِعَةٌ, غَيْرَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْخَمْسَةَ أَصْحَابُ الشَّرَائِعِ الْمَشْهُورَةِ كَانَتْ هَذِهِ الصِّفَاتُ فِيهِمْ أَكْمَلَ وَأَعْظَمَ مِنْ غَيْرِهِمْ؛ لِذَا خُصُّوا بِالذِّكْرِ "فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ" يَعْنِي: قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [الْأَحْزَابِ: 7] فَذَكَرَ تَعَالَى أَخْذَهُ الْمِيثَاقَ عَلَى جَمِيعِ النَّبِيِّينَ جُمْلَةً, وَنَصَّ مِنْهُمْ عَلَى هَؤُلَاءِ الْخَمْسَةِ: مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ خَاتَمُهُمْ, وَنُوحٍ وَهُوَ فَاتِحُهُمْ, وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى وَهُمْ بَيْنَهُمَا "وَ" كَذَا ذَكَرَهُمْ عَلَى وَجْهِ التَّخْصِيصِ فِي سُورَةِ "الشُّورَى" إِذْ يَقُولُ تَعَالَى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشُّورَى: 13] . وَهَؤُلَاءِ الْخَمْسَةُ هُمُ الَّذِينَ يَتَرَاجَعُونَ الشَّفَاعَةَ بَعْدَ أَبِيهِمْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَيَقُولُ: "أَنَا لَهَا" كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} [الْأَحْزَابِ: 7] الْآيَةَ, قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كُنْتُ أَوَّلَ النَّبِيِّينَ فِي الْخَلْقِ, وَآخِرَهُمْ فِي الْبَعْثِ, فَبَدَأَ بِي قَبْلَهُمْ"1 وَفِيهِ ضَعْفٌ, وَيُرْوَى مُرْسَلًا وَمَوْقُوفًا عَلَى قَتَادَةَ, وَلِلْبَزَّارِ عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ قَالَ: "خِيَارُ وَلَدِ آدَمَ خَمْسَةٌ: نُوحٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَمُوسَى وَعِيسَى وَمُحَمَّدٌ" 2 صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ, وَخَيْرُهُمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وَالْقَوْلُ بِأَنَّ أُولِي الْعَزْمِ هُمْ هَؤُلَاءِ الْخَمْسَةُ هُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ وَمَنْ وَافَقَهُمَا وَهُوَ الْأَشْهَرُ, وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: هُمُ الَّذِينَ أُمِرُوا بِالْجِهَادِ وَأَظْهَرُوا الْمُكَاشَفَةَ مَعَ أَعْدَاءِ الدِّينِ, وَقِيلَ: هُمْ سِتَّةٌ: نُوحٌ وَهُودٌ وَصَالِحٌ وَلُوطٌ وَشُعَيْبٌ وَمُوسَى عَلَيْهِمُ السَّلَامُ, وَهُمُ الْمَذْكُورُونَ عَلَى النَّسَقِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَهُودٍ وَالشُّعَرَاءِ, وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هُمْ سِتَّةٌ: نُوحٌ صَبَرَ عَلَى أَذَى قَوْمِهِ وَإِبْرَاهِيمُ صَبَرَ على النار وإسحاق صَبَرَ عَلَى الذَّبْحِ وَيَعْقُوبُ صَبَرَ عَلَى فَقْدِ وَلَدِهِ وَذَهَابِ بَصَرِهِ وَيُوسُفُ صَبَرَ عَلَى الْبِئْرِ وَالسِّجْنِ وَأَيُّوبُ صَبَرَ عَلَى الضُّرِّ. قُلْتُ: وَقَوْلُهُ: إِسْحَاقُ صَبَرَ عَلَى الذَّبْحِ هُوَ قَوْلٌ مَرْجُوحٌ أَوْ مَرْدُودٌ, وَإِنَّمَا كَانَ الذَّبِيحُ إِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ, كما في سورتي الصَّافَّاتِ وَهُودٍ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: كُلُّ الرُّسُلِ كَانُوا أُولِي عَزْمٍ, لَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا كَانَ ذا عزم وجزم وَرَأْيٍ وَكَمَالِ عَقْلٍ, وَإِنَّمَا أُدْخِلَتْ مِنْ لِلتَّجْنِيسِ لَا لِلتَّبْعِيضِ كَمَا يُقَالُ: اشْتَرَيْتُ أَكْسِيَةً مِنَ الْخَزِّ وَأَرْدِيَةً مِنَ الْبَزِّ, وَقَالَ قَوْمٌ: هُمْ نُجَبَاءُ الرُّسُلِ الْمَذْكُورُونَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَهُمْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِهِمْ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الْأَنْعَامِ: 90] . وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِسَنَدِهِ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: ظَلَّ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صَائِمًا ثُمَّ طَوَاهُ ثُمَّ ظَلَّ صَائِمًا ثُمَّ طَوَاهُ ثُمَّ ظَلَّ صَائِمًا ثُمَّ قَالَ: "يَا عَائِشَةُ إِنَّ الدُّنْيَا لَا تَنْبَغِي لِمُحَمَّدٍ وَلَا لِآلِ مُحَمَّدٍ. يَا عَائِشَةُ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَرْضَ مِنْ أُولِي الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ إِلَّا بِالصَّبْرِ عَلَى مَكْرُوهِهَا وَالصَّبْرِ عَلَى مَحْبُوبِهَا, ثُمَّ لَمْ يَرْضَ مِنِّي أَنْ يُكَلِّفَنِي مَا كَلَّفَهُمْ فَقَالَ: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الْأَحْقَافِ: 35] وَإِنِّي وَاللَّهِ لَأَصْبِرَنَّ كَمَا صَبَرُوا جُهْدِي, وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ"1.
الركن الخامس الإيمان بالمعاد وقيام الساعة
[الْإِيمَانُ بِالْمَعَادِ وَقِيَامِ السَّاعَةِ] : وَبِالْمَعَادِ أَيْقَنَ بِلَا تَرَدُّدٍ ... وَلَا ادِّعَا عِلْمٍ بِوَقْتِ الْمَوْعِدِ لَكِنَّنَا نُؤْمِنُ مِنْ غَيْرِ امْتِرَا ... بِكُلِّ مَا قَدْ صَحَّ عَنْ خَيْرِ الْوَرَى مِنْ ذِكْرِ آيَاتٍ تَكُونُ قَبْلَهَا ... وَهِيَ عَلَامَاتٌ وَأَشْرَاطٌ لَهَا "وَبِالْمَعَادِ" وَهُوَ الْمَرَدُّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالْإِيَابُ إِلَيْهِ "أَيْقَنَ" اسْتَيْقَنَ بِذَلِكَ يَقِينًا جَازِمًا "بِلَا تَرَدُّدٍ" هَذَا هُوَ الرُّكْنُ الْخَامِسُ مِنْ أَرْكَانِ الْإِيمَانِ, وَهُوَ الْإِيمَانُ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا يَدْخُلُ فِيهِ, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [الْبَقَرَةِ: 4] وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [الْبَقَرَةِ: 177] الْآيَةَ, وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الْبَقَرَةِ: 254] وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [الْبَقَرَةِ: 264] وَقَالَ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [الْبَقَرَةِ: 281] وَقَالَ تَعَالَى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آلِ عِمْرَانَ: 7-9] وَقَالَ تَعَالَى: {فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [آلِ عِمْرَانَ: 25] وَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ} [النِّسَاءِ: 38، 39] الْآيَاتَ.
وَقَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النِّسَاءِ: 87] وَقَالَ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ} [الشُّورَى: 20] الْآيَةَ, وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ} [النَّمْلِ: 4] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} [الْحِجْرِ: 85] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} [طه: 16] وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [الْحَجِّ: 7] وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ} [النَّمْلِ: 71-72] وَقَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ} [سَبَأٍ: 30] {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ} [السَّجْدَةِ: 28، 29] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ} [هُودٍ: 103، 104] وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لُقْمَانَ: 33] وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [فَاطِرٍ: 5] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الْأَنْعَامِ: 134] وَقَالَ تَعَالَى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النَّحْلِ: 1] وَقَالَ تَعَالَى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزُّمَرِ: 9] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ} [غَافِرٍ: 59] وَقَالَ تَعَالَى: {فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ
بَعِيدًا وَنَرَاهُ قَرِيبًا} [الْمَعَارِجِ: 5] وَقَالَ تَعَالَى: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} [الزُّخْرُفِ: 83] الْآيَاتِ, وَقَالَ: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} [الْوَاقِعَةِ: 1] إِلَخْ السُّورَةِ, وَقَالَ تَعَالَى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الْإِنْسَانِ: 7] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ. قَالَ تَعَالَى: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} [الذَّارِيَاتِ: 1-6] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ لِيَوْمِ الْفَصْلِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [الْمُرْسَلَاتِ: 7-15] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ وَالَّتِي تَلِيهَا وَالَّتِي تَلِيهَا وَالَّتِي تَلِيهَا وَالَّتِي تَلِيهَا وَالَّتِي تَلِيهَا وَالَّتِي تَلِيهَا والتي تليها وَالَّتِي تَلِيهَا وَغَيْرِهَا مِنَ الْآيَاتِ بَلْ وَغَيْرِهَا مِنَ السُّوَرِ, وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مَزِيدُ نُصُوصٍ فِي اللِّقَاءِ وَالْبَعْثِ وَالنُّشُورِ. "وَ" بِـ "لَا ادِّعَا" بِالْقَصْرِ لِلْوَزْنِ, وَهُوَ مَصْدَرُ: ادَّعَى يَدَّعِي ادِّعَاءً "عَلِمَ" بِوَقْتِ الْمَوْعِدِ مَتَى هُوَ, فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ مَفَاتِحِ الْغَيْبِ الَّتِي لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وجل, قال الله تَعَالَى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الْأَنْعَامِ: 59] الْآيَةَ, وَقَالَ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الْأَعْرَافِ: 187] وَالَّتِي بَعْدَهَا, وَقَالَ تَعَالَى: {بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 40] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} [لُقْمَانَ: 34] الْآيَةَ, وَقَالَ تَعَالَى: {إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ} [فُصِّلَتْ: 47] الْآيَاتِ. وَقَالَ تَعَالَى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ
يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} [الْأَحْقَافِ: 35] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا} [الْأَحْزَابِ: 63] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ} [الشُّورَى: 17، 18] وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ} [الملك: 25-27] وقال الله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} [النَّازِعَاتِ: 42-46] وَغَيْرِهَا مِنَ الآيات. وتقدم في حَدِيثُ جِبْرِيلَ الْمَشْهُورِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَخْبِرْنِي عَنِ السَّاعَةِ؟ قال: "ما المسئول عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ" 1 الْحَدِيثَ. وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ بُرَيْدَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "خَمْسٌ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ, إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ" 2. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَفَاتِحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ" ثُمَّ قَرَأَ: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} 3. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَتَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَنَادَاهُ بِصَوْتٍ جَهُورِيٍّ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هَاؤُمُ" عَلَى نَحْوِ مَا صَوْتُهُ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ مَتَى
السَّاعَةُ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَيْحَكَ إِنَّ السَّاعَةَ آتِيةٌ فَمَا أَعْدَدْتَ لَهَا"؟ قَالَ: مَا أَعْدَدْتُ لَهَا كَبِيرَ صَلَاةٍ وَلَا صِيَامٍ, وَلَكِنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ, فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ: "الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ" فَمَا فَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بشيء فرحهم بهدا الْحَدِيثِ1. فَفِيهِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ إِذَا سُئِلَ عَنْ هَذَا الَّذِي لَا يَحْتَاجُونَ إِلَى عِلْمِهِ أَرْشَدَهُمْ إِلَى مَا هُوَ الْأَهَمُّ فِي حَقِّهِمْ وَهُوَ الِاسْتِعْدَادُ لِوُقُوعِ ذَلِكَ وَالتَّهَيُّؤُ لَهُ قَبْلَ نُزُولِهِ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفُوا تَعْيِينَ وَقْتِهِ. وَلِمُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَتِ الْأَعْرَابُ إِذَا قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَأَلُوهُ عَنِ السَّاعَةِ مَتَى السَّاعَةُ, فَيَنْظُرُ إِلَى أَحْدَثِ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ فَيَقُولُ: "إِنْ يَعِشْ هَذَا لَمْ يُدْرِكْهُ الْهَرَمُ قَامَتْ عَلَيْكُمْ سَاعَتُكُمْ" 2، يَعْنِي بِذَلِكَ مَوْتَهُمِ الَّذِي يُفْضِي بِهِمْ إِلَى الْحُصُولِ فِي بَرْزَخِ الدَّارِ الْآخِرَةِ. وَلَهُ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ السَّاعَةِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنْ يَعِشْ هَذَا الْغُلَامُ فَعَسَى أَنْ لَا يُدْرِكَهُ الْهَرَمُ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ" 3. وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُنَيْهَةً, ثُمَّ نَظَرَ إِلَى غُلَامٍ بَيْنَ يَدَيْهِ مَنْ أَزْدِ شَنُوءَةَ فَقَالَ: "إِنَّ عُمَرَ هَذَا لَمْ يُدْرِكْهُ الْهَرَمُ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ" قَالَ أَنَسٌ: ذَلِكَ الْغُلَامُ مِنْ أَتْرَابِي4. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: مَرَّ غُلَامٌ لِلْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ وَكَانَ مِنْ أَتْرَابِي فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"إِنْ يُؤَخَّرْ هَذَا لَمْ يُدْرِكْهُ الْهَرَمُ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ" 1. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ أَتَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَتَى السَّاعَةُ قَائِمَةٌ؟ قَالَ: "وَيْلَكَ وَمَا أَعْدَدْتَ لَهَا"؟ قَالَ: مَا أَعْدَدْتُ لَهَا إِلَّا أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ قَالَ: "إِنَّكَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ" فَقُلْنَا: وَنَحْنُ كَذَلِكَ؟ قَالَ: "نَعَمْ" فَفَرِحْنَا يَوْمَئِذٍ فَرَحًا شَدِيدًا فَمَرَّ غُلَامٌ لِلْمُغِيرَةِ وَكَانَ مِنْ أَقْرَانِي فَقَالَ: "إِنْ أُخِّرَ هَذَا فَلَنْ يُدْرِكَهُ الْهَرَمُ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ" 2. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَهَذَا الْإِطْلَاقُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَاتِ مَحْمُولٌ عَلَى التَّقْيِيدِ بِسَاعَتِكُمْ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا3. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِشَهْرٍ: "تَسْأَلُونَ عَنِ السَّاعَةِ وَإِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ, وَأَقْسَمَ بِاللَّهِ مَا عَلَى وَجْهِ ظَهْرِ الْأَرْضِ الْيَوْمَ مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ تَأْتِي عَلَيْهَا مِائَةُ سَنَةٍ" 4 رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِثْلَهُ, قَالَ ابْنُ عُمَرَ: وَإِنَّمَا أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- انْخِرَامَ ذَلِكَ الْقَرْنِ5. وَرَوَى أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَقِيتُ لَيْلَةَ أُسَرِيَ بِي إِبْرَاهِيمَ وموسى وعيسى, فتذاكروا أَمْرَ السَّاعَةِ قَالَ: فَرَدُّوا أَمْرَهُمْ إِلَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ: لَا عِلْمَ لِي بِهَا, فَرَدُّوا أَمْرَهُمْ إِلَى مُوسَى فَقَالَ: لَا عِلْمَ لِي بِهَا, فَرَدُّوا أَمْرَهُمْ إِلَى عِيسَى فَقَالَ عِيسَى: أَمَّا وَجْبَتُهَا فَلَمْ يَعْلَمْ بِهَا أَحَدٌ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ, وَفِيمَا عَهِدَ إِلَيَّ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ أَنَّ الدَّجَّالَ خَارِجٌ, قَالَ: وَمَعِي قَضِيبَانِ, فَإِذَا رَآنِي ذَابَ كَمَا يَذُوبُ الرَّصَاصُ, وَقَالَ: فَيُهْلِكُهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ
يَرْجِعُ النَّاسُ إِلَى بِلَادِهِمْ وَأَوْطَانِهِمْ قَالَ: فَعِنْدَ ذَلِكَ يَخْرُجُ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ فَيَطَئُونَ بِلَادَهُمْ لَا يَأْتُونَ عَلَى شَيْءٍ إِلَّا أَهْلَكُوهُ, وَلَا يَمُرُّونَ عَلَى مَاءٍ إِلَّا شَرِبُوهُ قَالَ: ثُمَّ يَرْجِعُ النَّاسُ إلي فيشكونهم, فأدعو الله عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِمْ فَيُهْلِكُهُمْ وَيُمِيتُهُمْ, حَتَّى تَجْوَى الْأَرْضُ مِنْ نَتَنِ رِيحِهِمْ أَيْ: تُنْتِنُ, قَالَ: فَيُنَزِّلُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمَطَرَ فَيَجْتَرِفُ أَجْسَادَهُمْ حَتَّى يَقْذِفَهُمْ فِي الْبَحْرِ" قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: قَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ: "ثُمَّ تَنْسِفُ الْجِبَالَ وَتُمَدُّ الْأَرْضُ مَدَّ الْأَدِيمِ" ثُمَّ رَجَعَ إِلَى حَدِيثِ هُشَيْمٍ قَالَ: "فَفِيمَا عَهِدَ إِلَيَّ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ أَنَّ ذَلِكَ إِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِنَّ السَّاعَةَ كَالْحَامِلِ الْمُتِمِّ لَا يَدْرِي أهلها متى تفجؤهم بِوِلَادَتِهَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا" 1 وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ بِنَحْوِهِ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: هَؤُلَاءِ أَكَابِرُ أُولِي الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ لَيْسَ عِنْدَهُمْ عِلْمٌ بِوَقْتِ السَّاعَةِ عَلَى التَّعْيِينِ, وَإِنَّمَا رَدُّوا الْأَمْرَ إِلَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَتَكَلَّمَ عَلَى أَشْرَاطِهَا؛ لِأَنَّهُ يَنْزِلُ فِي آخِرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ مُنَفِّذًا لأحكام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, ويقتل المسيح الدجال ويجعل الله هلاك يأجوج ومأجوج بِبَرَكَةِ دُعَائِهِ, فَأَخْبَرَ بِمَا أَعْلَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ2. وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ السَّاعَةِ فَقَالَ: "عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ, وَلَكِنْ سَأُخْبِرُكُمْ بِمَشَارِيطِهَا وَمَا يَكُونُ بَيْنَ يَدَيْهَا: إِنَّ بَيْنَ يَدَيْهَا فِتْنَةً وَهَرَجًا" قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ الْفِتْنَةُ قَدْ عَرَفْنَاهَا فَمَا الْهَرْجُ؟ قَالَ بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ: "الْقَتْلُ -قَالَ- وَيُلْقَى بَيْنَ النَّاسِ التَّنَاكُرُ فَلَا يَكَادُ أَحَدُهُمْ يَعْرِفُ أَحَدًا" 3. وَرَوَى النَّسَائِيُّ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَزَالُ يَذْكُرُ مِنْ
الإيمان بأمارات الساعة
شَأْنِ السَّاعَةِ حَتَّى نَزَلَتْ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا} [النَّازِعَاتِ: 42] الْآيَةَ, وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ قَوِيٌّ1. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: فَهَذَا النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ سَيِّدُ الرُّسُلِ وَخَاتَمُهُمْ مُحَمَّدٌ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ نَبِيُّ الرَّحْمَةِ وَنَبِيُّ التَّوْبَةِ وَنَبِيُّ الْمَلْحَمَةِ وَالْعَاقِبُ وَالْمُقَفَّى وَالْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمَيْهِ مَعَ قَوْلِهِ فِيمَا ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ, مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَسُهَيْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: "بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ" وَقَرَنَ بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ: السَّبَّابَةِ وَالَّتِي تَلِيهَا2. وَمَعَ هَذَا كُلِّهِ قَدْ أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَرُدَّ عِلْمَ وَقْتِ الساعة إليه, إذ سُئِلَ عَنْهَا فَقَالَ: {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ. . . وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 187] ا. هـ. [الْإِيمَانُ بِأَمَارَاتِ السَّاعَةِ] : "وَلَكِنَّنَا نُؤْمِنُ" وَنُصَدِّقُ "مِنْ غَيْرِ امْتِرَا" مِنْ غَيْرِ شَكِّ "بِكُلِّ مَا قَدْ صَحَّ" سَنَدُهُ وَصَرُحَ لَفْظُهُ "عَنْ خَيْرِ الْوَرَى" نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الَّذِي لَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يوحى "من ذكر آيات" أَمَارَاتٍ "تَكُونُ" تَقَعُ "قَبْلَهَا" قَبْلَ السَّاعَةِ "وَهِيَ" أَيْ: تِلْكَ الْأَمَارَاتُ "عَلَامَاتٌ" لِمَجِيءِ السَّاعَةِ وَقُرْبِهَا وَدُنُوِّهَا "وَأَشْرَاطٌ لَهَا" أَيْ: لِاقْتِرَابِهَا. وَقَدْ أَشَارَ الْقُرْآنُ إِلَى قُرْبِهَا وَدُنُوِّهَا وَكَثِيرٌ مِنْ عَلَامَاتِهَا, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النَّحْلِ: 1] وَقَالَ تَعَالَى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 1] الْآيَاتِ.
وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى أن بعثه نبينا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ أَشْرَاطِهَا, كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى أَزِفَتِ الْآزِفَةُ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ} [النَّجْمِ: 56، 57] وَقَالَ تَعَالَى: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ} [مُحَمَّدٍ: 8] وَقَالَ تَعَالَى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [الْقَمَرِ: 1] الْآيَاتِ. وَانْشِقَاقُ الْقَمَرِ مِنْ مُعْجِزَاتِ نَبِيِّنَا بِمَكَّةَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُهَاجِرَ إِلَى الْمَدِينَةِ, وَذَكَرَ تَعَالَى مِنْ كِبَارِ أَشْرَاطِهَا الدُّخَانَ وَنُزُولَ عِيسَى لِقَتْلِ الدَّجَّالِ وَخُرُوجَ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَطُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا وَخُرُوجَ دَابَّةِ الْأَرْضِ وَغَيْرَهَا, كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدُّخَانِ: 10] الْآيَاتِ. وَقَالَ تَعَالَى فِي شَأْنِ عِيسَى: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} [النِّسَاءِ: 158، 159] . وَقَالَ تَعَالَى فِي شَأْنِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ: {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا} [الْكَهْفِ: 92-99] وَقَالَ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} [الْأَنْبِيَاءِ: 96] الْآيَاتِ.
وَقَالَ تَعَالَى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ} [الْأَنْعَامِ: 158] وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ} [النَّمْلِ: 82] وَقَالَ تَعَالَى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [يس: 38] . وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ فِي أَشْرَاطِ السَّاعَةِ فَكَثِيرَةٌ مُتَوَاتِرَةٌ, وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ عَلَى اخْتِلَافِ أَلْفَاظِهِ وَتَبَايُنِ طُرُقِهِ ذِكْرُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَمَارَاتِهَا: أَنْ تَلِدَ الْأَمَةُ رَبَّتَهَا وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الْعَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ, وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ" وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى1. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَقَامًا مَا تَرَكَ شَيْئًا يَكُونُ فِي مَقَامِهِ ذَلِكَ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ إِلَّا حَدَّثَ بِهِ, حَفِظَهُ مَنْ حَفِظَهُ وَنَسِيَهُ مَنْ نَسِيَهُ, قَدْ عَلِمَهُ أَصْحَابِي هَؤُلَاءِ, وَإِنَّهُ لَيَكُونُ مِنْهُ الشَّيْءُ قَدْ نَسِيتُهُ فَأَرَاهُ فَأَذْكُرُهُ كَمَا يَذْكُرُ الرَّجُلُ وَجْهَ الرَّجُلِ إِذَا غَابَ عَنْهُ, ثُمَّ إِذَا رَآهُ عَرَفَهُ2. وَفِيهِ عَنْ أَبِي زَيْدٍ عَمْرِو بْنِ أَخْطَبَ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْفَجْرَ وَصَعِدَ الْمِنْبَرَ فَخَطَبَنَا حَتَّى حَضَرَتِ الظَّهْرُ, فَنَزَلَ فَصَلَّى, ثُمَّ صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَخَطَبَنَا حَتَّى حَضَرَتِ الْعَصْرُ ثُمَّ نَزَلَ فَصَلَّى ثُمَّ صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَخَطَبَنَا حَتَّى غَرُبَتِ الشَّمْسُ, فَأَخْبَرَنَا بِمَا كَانَ وَبِمَا هُوَ كَائِنٌ فَأَعْلَمَنَا أَحَفَظَنَا"3. وَفِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَحْسِرَ الْفُرَاتُ عَنْ جَبَلٍ مِنْ ذَهَبٍ, يَقْتَتِلُ النَّاسُ عَلَيْهِ فَيُقْتَلُ مِنْ كُلِّ مِائَةٍ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ, ويقول كل
رَجُلٍ مِنْهُمْ لَعَلِّي أَكُونُ أَنَا الَّذِي أَنْجُو ". وَفِي رِوَايَةٍ: فَمَنْ حَضَرَهُ فَلَا يَأْخُذْ مِنْهُ شَيْئًا " 1. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَنْزِلَ الرُّومُ بِالْأَعْمَاقِ - أَوْ بِدَابَقَ - فَيَخْرُجُ إِلَيْهِمْ جَيْشٌ مِنَ الْمَدِينَةِ مِنْ خِيَارِ أَهْلِ الْأَرْضِ يَوْمَئِذٍ، فَإِذَا تَصَافُّوا قَالَتِ الرُّومُ: خَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الَّذِينَ سَيَّبُوا مِنَّا نُقَاتِلْهُمْ، فَيَقُولُ الْمُسْلِمُونَ: لَا وَاللَّهِ لَا نُخَلِّي بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ إِخْوَانِنَا فَيُقَاتِلُونَهُمْ، فَيَنْهَزِمُ ثُلُثٌ لَا يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَبَدًا، وَيُقْتَلُ ثُلُثٌ هُمْ أَفْضَلُ الشُّهَدَاءِ عِنْدَ اللَّهِ، وَيَفْتَتِحُ الثُّلْثُ لَا يُفْتَنُونَ أَبَدًا فَيَفْتَتِحُونَ قُسْطَنْطِينِيَّةَ، فَبَيْنَمَا هُمْ يَقْتَسِمُونَ الْغَنَائِمَ قَدْ عَلَّقُوا سُيُوفَهُمْ بِالزَّيْتُونِ إِذْ صَاحَ فِيهِمُ الشَّيْطَانُ: إِنَّ الْمَسِيحَ 2 قَدْ خَلَّفَكُمْ فِي أَهْلِيكُمْ، فَيَخْرُجُونَ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ فَإِذَا جَاءُوا الشَّامَ خَرَجَ، فَبَيْنَمَا هُمْ يُعِدُّونَ لِلْقِتَالِ يُسَوُّونَ الصُّفُوفَ إِذْ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، فَيَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَيَأُمُّهُمْ فَإِذَا رَآهُ عَدُوُّ اللَّهِ ذَابَ كَمَا يَذُوبُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ فَلَوْ تَرَكَهُ لَانْذَابَ حَتَّى يَهْلَكَ، وَلَكِنْ يَقْتُلُهُ اللَّهُ بِيَدِهِ فَيُرِيهِمْ دَمَهُ فِي حَرْبَتِهِ " 3. وَالْأَعْمَاقُ قَالَ فِي الْقَامُوسِ: بَلَدٌ بَيْنَ حَلَبَ وَأَنْطَاكِيَةَ مَصَبُّ مِيَاهٍ كَثِيرَةٍ لَا تَجِفُّ إِلَّا صَيْفًا وَهُوَ الْعُمْقُ جَمْعٌ بِأَجْزَائِهِ 4 اهـ. وَقَالَ أَيْضًا: دَابَقُ كَصَاحَبَ وَهَاجَرَ قَرْيَةٌ بِحَلَبَ، وَفِي الْأَصْلِ اسْمُ نَهْرٍ، وَدُوَيْبِقٌ قَرْيَةٌ بِقُرْبِهَا 5. وَفِيهِ عَنْ يُسَيْرِ بْنِ جَابِرٍ قَالَ: هَاجَتْ رِيحٌ حَمْرَاءُ بِالْكُوفَةِ فَجَاءَ رَجُلٌ لَيْسَ لَهُ هِجِّيرِيٌّ إِلَّا " يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ جَاءَتِ السَّاعَةُ " قَالَ فَقَعَدَ وَكَانَ مُتَّكِئًا فَقَالَ: إِنَّ السَّاعَةَ لَا تَقُومُ حَتَّى لَا يُقْسَمَ مِيرَاثٌ وَلَا يُفْرَحَ بِغَنِيمَةٍ، ثُمَّ قَالَ بِيَدِهِ هَكَذَا وَنَحَّاهَا نَحْوَ الشَّامِ فَقَالَ: عَدُوٌّ يَجْمَعُونَ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ وَيَجْمَعُ لَهُمْ أَهْلُ الْإِسْلَامِ. قُلْتُ:
الرُّومَ تَعْنِي؟ قَالَ: نَعَمْ وَتَكُونُ عِنْدَ ذَاكُمُ الْقِتَالِ رِدَّةٌ شَدِيدَةٌ فَيَشْتَرِطُ الْمُسْلِمُونَ شُرْطَةً لِلْمَوْتِ لَا تَرْجِعُ إِلَّا غَالِبَةً, فَيَقْتَتِلُونَ حَتَّى يَحْجِزَ بَيْنَهُمُ اللَّيْلُ, فَيَفِيءُ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ كُلٌّ غَيْرُ غَالِبٍ وَتَفْنَى الشُّرْطَةُ, ثُمَّ يَشْتَرِطُ الْمُسْلِمُونَ شُرْطَةً لِلْمَوْتِ لَا تَرْجِعُ إِلَّا غَالِبَةً فَيَقْتَتِلُونَ حَتَّى يَحْجِزَ بَيْنَهُمُ اللَّيْلُ فَيَفِيءُ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ وَكُلٌّ غَيْرُ غَالِبٍ وَتَفْنَى الشُّرْطَةُ, ثُمَّ يَشْتَرِطُ الْمُسْلِمُونَ شُرْطَةً لِلْمَوْتِ لَا تَرْجِعُ إِلَّا غَالِبَةً فَيَقْتَتِلُونَ حَتَّى يُمْسُوا فَيَفِيءُ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ كُلٌّ غَيْرُ غَالِبٍ وَتَفْنَى الشُّرْطَةُ, فَإِذَا كَانَ الْيَوْمُ الرَّابِعُ نَهَدَ إِلَيْهِمْ بَقِيَّةُ أَهْلِ الْإِسْلَامِ فَيَجْعَلُ اللَّهُ الدَّبَرَةَ عَلَيْهِمْ فَيُقْتَلُونَ مَقْتَلَةً, إِمَّا قَالَ: لَا يُرَى مِثْلُهَا وَإِمَّا قَالَ: لَمْ يُرَ مِثْلُهَا حَتَّى إِنَّ الطَّائِرَ لَيَمُرُّ بِجَنْبَاتِهِمْ فَمَا يُخَلِّفُهُمْ حَتَّى يَخِرَّ مَيِّتًا, فَيَتَعَادُّ بَنُو الْأَبِ كَانُوا مِائَةً فَلَا يَجِدُونَهُ بَقِيَ مِنْهُمْ إِلَّا الرَّجُلُ الْوَاحِدُ فَبِأَيِّ غَنِيمَةٍ يَفْرَحُ أَوْ أَيِّ مِيرَاثٍ يُقَاسِمُ, فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ سَمِعُوا بِبَأْسٍ هُوَ أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ فَجَاءَهُمُ الصَّرِيخُ أَنَّ الدَّجَّالَ قَدْ خَلَّفَهُمْ فِي ذَرَارِيهِمْ, فَيَرْفُضُونَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ وَيَقْبَلُونَ فَيَبْعَثُونَ عَشَرَةَ فَوَارِسَ طَلِيعَةً, قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنِّي لَأَعْرِفُ أَسْمَاءَهُمْ وَأَسْمَاءَ آبَائِهِمْ وَأَلْوَانَ خُيُولِهِمْ, هُمْ خَيْرُ فَوَارِسَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ يَوْمَئِذٍ, أَوْ مِنْ خَيْرِ فَوَارِسَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ يَوْمَئِذٍ" 1. وَفِيهِ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ أُسَيْدٍ الْغِفَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: طَلَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْنَا وَنَحْنُ نَتَذَاكَرُ فَقَالَ: "مَا تُذَاكِرُونَ"؟ قَالُوا: نَذْكُرُ السَّاعَةَ قَالَ: "إِنَّهَا لَنْ تَقُومَ حَتَّى تَرَوْا قَبْلَهَا عَشْرَ آيَاتٍ" فَذَكَرَ الدُّخَانَ وَالدَّجَّالَ وَالدَّابَّةَ وَطُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا وَنُزُولَ عِيسَى ابن مريم عليه السلام وَيَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَثَلَاثَةَ خُسُوفٍ: خَسْفٌ بِالْمَشْرِقِ وَخَسْفٌ بِالْمَغْرِبِ وَخَسْفٌ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ, وَآخِرُ ذَلِكَ نَارٌ تَخْرُجُ مِنَ الْيَمَنِ تَطْرُدُ النَّاسَ إِلَى مَحْشَرِهِمْ2, وَفِي رِوَايَةٍ: "وَنَارٌ تَخْرُجُ مِنْ قَعْرَةِ عَدَنٍ تَرْحَلُ
النَّاسَ" 1 زَادَ فِي أُخْرَى: "تَنْزِلُ مَعَهُمْ إِذَا نَزَلُوا, وَتُقِيلُ مَعَهُمْ حَيْثُ قَالُوا" 2. وَفِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سِتًّا: طُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا أَوِ الدُّخَانَ أَوِ الدَّجَّالَ أَوِ الدَّابَّةَ أَوْ خَاصَّةَ أَحَدِكُمْ أَوْ أَمْرَ الْعَامَّةِ" وَفِي رِوَايَةٍ: "الدَّجَّالَ والدخان ودابة أورض وَطُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا وَأَمْرَ الْعَامَّةِ وَخُوَيْصَّةَ أَحَدِكُمْ" 3. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: بَابُ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا عِمَارَةُ حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا, فَإِذَا رَآهَا النَّاسُ آمَنَ مَنْ عَلَيْهَا, فَذَاكَ حِينَ لَا يَنْفَعُ نَفْسَا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ" 4. وَقَالَ أَيْضًا رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِ الْفِتَنِ: "حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَقْتَتِلَ فِئَتَانِ عَظِيمَتَانِ يَكُونُ بَيْنَهُمَا مَقْتَلَةٌ عَظِيمَةٌ دَعْوَتُهُمَا وَاحِدَةٌ, وَحَتَّى يُبْعَثَ دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ قَرِيبٌ مِنْ ثَلَاثِينَ كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ, وَحَتَّى يُقْبَضَ الْعَلَمُ وَتَكْثُرَ الزَّلَازِلُ وَيَتَقَارَبَ الزَّمَانُ وَتَظْهَرَ الْفِتَنُ وَيَكْثُرَ الْهَرْجُ -وَهُوَ الْقَتْلُ- وَحَتَّى يَكْثُرَ فِيكُمُ الْمَالُ فَيَفِيضُ حَتَّى يُهِمَّ رَبَّ الْمَالِ مَنْ يَقْبَلُ صَدَقَتَهُ, وَحَتَّى يَعْرِضَهُ فَيَقُولُ الَّذِي يَعْرِضُهُ عَلَيْهِ: لَا أَرَبَ لِي بِهِ, وَحَتَّى يَتَطَاوَلَ النَّاسُ فِي الْبُنْيَانِ, وَحَتَّى يَمُرَّ الرَّجُلُ بِقَبْرِ الرَّجُلِ فَيَقُولُ: يَا لَيْتَنِي مَكَانَهُ, وَحَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا فَإِذَا طَلَعَتْ وَرَآهَا النَّاسُ آمَنُوا أَجْمَعُونَ, فَذَلِكَ حِينَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا.
وَلَتَقُوَمَنَّ السَّاعَةُ وَقَدْ نَشَرَ الرَّجُلَانِ ثَوْبَهُمَا بَيْنَهُمَا فَلَا يَتَبَايَعَانِهِ وَلَا يَطْوِيَانِهِ, وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدِ انْصَرَفَ الرَّجُلُ بِلَبَنِ لِقْحَتِهِ فَلَا يَطْعَمُهُ, وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَهُوَ يَلِيطُ حَوْضَهُ فَلَا يَسْقِي فِيهِ, وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدْ رَفَعَ أُكْلَتَهُ إِلَى فِيهِ فَلَا يَطْعَمُهَا" 1. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِأَبِي ذَرٍّ حِينَ غَرَبَتِ الشَّمْسُ: "أَتَدْرِي أَيْنَ تَذْهَبُ"؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: "فَإِنَّهَا تَذْهَبُ حَتَّى تَسْجُدَ تَحْتَ الْعَرْشِ فَتَسْتَأْذِنُ فَيُؤْذِنُ لَهَا, وَيُوشِكُ أَنْ تَسْجُدَ فَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا وَتَسْتَأْذِنَ فَلَا يُؤْذَنُ لَهَا يُقَالُ لَهَا: ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ فَتَطْلُعُ مِنْ مَغْرِبِهَا, فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} 2 [يس: 38] ". وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثًا لَمْ أَنْسَهُ بَعْدُ, سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّ أَوَّلَ الْآيَاتِ خُرُوجًا طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا وَخُرُوجُ الدَّابَّةِ عَلَى النَّاسِ ضُحًى, وَأَيُّهُمَا مَا كَانَتْ قَبْلَ صَاحِبَتِهَا فَالْأُخْرَى عَلَى إِثْرِهَا قَرِيبًا" 3. وَفِيهِ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ -وَكَانَتْ مِنَ الْمُهَاجِرَاتِ الْأُوَلِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: سَمِعْتُ نِدَاءَ الْمُنَادِي -مُنَادَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُنَادِي: الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ, فَخَرَجْتُ إِلَى الْمَسْجِدِ فَصَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكُنْتُ فِي صَفِّ النِّسَاءِ الَّتِي تَلِي ظُهُورَ الْقَوْمِ. فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاتَهُ جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَهُوَ يَضْحَكُ فَقَالَ: "لِيَلْزَمْ كُلُّ إِنْسَانٍ مُصَلَّاهُ" ثُمَّ قَالَ: "أَتَدْرُونَ لِمَ جَمَعْتُكُمْ"؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: "إِنِّي وَاللَّهِ مَا جَمَعْتُكُمْ لِرَغْبَةٍ وَلَا لِرَهْبَةٍ, وَلَكِنْ جَمَعْتُكُمْ
لِأَنَّ تَمِيمًا الدَّارِيَّ كَانَ رَجُلًا نَصْرَانِيًّا فَجَاءَ فَبَايَعَ وَأَسْلَمَ, وَحَدَّثَنِي حَدِيثًا وَافَقَ الَّذِي كُنْتُ أحدثكم عن المسيح الدَّجَّالِ, حَدَّثَنِي أَنَّهُ رَكِبَ فِي سَفِينَةٍ بَحْرِيَّةٍ مَعَ ثَلَاثِينَ رَجُلًا مِنْ لَخْمٍ وَجُذَامٍ فَلَعِبَ بِهِمُ الْمَوْجُ شَهْرًا فِي البحر ثم أرفئوا إِلَى جَزِيرَةٍ فِي الْبَحْرِ حَتَّى مَغْرِبِ الشَّمْسِ فَجَلَسُوا فِي أَقْرَبِ السَّفِينَةِ فَدَخَلُوا الْجَزِيرَةَ, فَلَقِيَتْهُمْ دابة أهلب كثيرة الشَّعَرِ لَا يَدْرُونَ مَا قُبُلُهُ مِنْ دُبُرِهِ مِنْ كَثْرَةِ الشَّعَرِ, فَقَالُوا: وَيْلَكَ مَا أَنْتِ؟ فَقَالَتْ: أَنَا الْجَسَّاسَةُ قَالُوا: وَمَا الْجَسَّاسَةُ؟ قَالَتْ: أَيُّهَا الْقَوْمُ انْطَلِقُوا إِلَى هَذَا الرَّجُلِ فِي الدَّيْرِ فَإِنَّهُ إِلَى خَبَرِكُمْ بِالْأَشْوَاقِ قَالَ: لَمَّا سَمَّتْ لَنَا رَجُلًا فَرِقْنَا1 مِنْهَا أَنْ تَكُونَ شَيْطَانَةً قَالَ: فَانْطَلَقْنَا سِرَاعًا حَتَّى دَخَلْنَا الدَّيْرَ فَإِذَا فِيهِ أَعْظَمُ إِنْسَانٍ رَأَيْنَاهُ قَطُّ خَلْقًا وَأَشَدُّهُ وِثَاقًا مَجْمُوعَةٌ يَدَاهُ إِلَى عُنُقِهِ مَا بَيْنَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى كَعْبَيْهِ بِالْحَدِيدِ قُلْنَا: وَيْلَكَ مَا أَنْتَ؟ قَالَ: قَدْ قَدَرْتُمْ عَلَى خَبَرِي فَأَخْبِرُونِي مَا أَنْتُمْ؟ قَالُوا: نَحْنُ أُنَاسٌ مِنَ الْعَرَبِ رَكِبْنَا فِي سَفِينَةٍ بَحْرِيَّةٍ فَصَادَفْنَا الْبَحْرَ حِينَ اغْتَلَمَ2 فَلَعِبَ بِنَا الْمَوْجُ شَهْرًا ثُمَّ أَرْفَأْنَا إِلَى جَزِيرَتِكَ هَذِهِ فَجَلَسْنَا فِي أَقْرَبِهَا فَدَخَلْنَا الْجَزِيرَةَ فَلَقِيَتْنَا دَابَّةٌ أَهْلَبُ كَثِيرَةُ الشَّعْرِ لَا يُدْرَى مَا قُبُلُهُ مِنْ دُبُرِهِ مِنْ كَثْرَةِ الشَّعْرِ فَقُلْنَا: وَيْلَكِ ما أنت؟ فقلت: أَنَا الْجَسَّاسَةُ قُلْنَا: وَمَا الْجَسَّاسَةُ؟ قَالَتِ: اعْمَدُوا إِلَى هَذَا الرَّجُلِ فِي الدَّيْرِ فَإِنَّهُ إِلَى خَبَرِكُمْ بِالْأَشْوَاقِ فَأَقْبَلْنَا إِلَيْكَ سِرَاعًا وَفَزِعْنَا مِنْهَا وَلَمْ نَأْمَنْ أَنْ تَكُونَ شَيْطَانَةً فَقَالَ: أَخْبِرُونِي عَنْ نَخْلِ بَيْسَانَ3. قُلْنَا: عَنْ أَيِّ شَأْنِهَا تَسْتَخْبِرُ؟ قَالَ: أَسْأَلُكُمْ عَنْ نَخْلِهَا هَلْ يُثْمِرُ؟ قُلْنَا لَهُ: نَعَمْ قَالَ: أَمَا إِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ لَا يُثْمِرَ قَالَ: أَخْبِرُونِي عَنْ بُحَيْرَةِ طَبَرِيَّةَ4. قَالُوا: عَنْ أَيِّ شَأْنِهَا تَسْتَخْبِرُ؟ قَالَ: هَلْ فِيهَا مَاءٌ؟ قَالُوا: هِيَ كَثِيرَةُ الْمَاءِ قَالَ: أَمَّا إِنَّ مَاءَهَا يُوشِكُ أَنْ يَذْهَبَ قَالَ: أَخْبِرُونِي عَنْ عَيْنِ زُغَرَ5. قَالُوا: عَنْ أَيِّ شَأْنِهَا تَسْتَخْبِرُ؟ قَالَ: هَلْ فِيهَا مَاءٌ وَهَلْ يَزْرَعُ أَهْلُهَا بِمَاءِ الْعَيْنِ؟ قُلْنَا لَهُ: نَعَمْ هِيَ كَثِيرَةُ الْمَاءِ وَأَهْلُهَا يَزْرَعُونَ مِنْ مَائِهَا قَالَ: أَخْبَرُونِي عَنْ نَبِيِّ الْأُمِّيِّينَ مَا فَعَلَ؟ قَالُوا: قَدْ خَرَجَ مِنْ
مَكَّةَ وَنَزَلَ يَثْرِبَ قَالَ: أَقَاتَلَهُ الْعَرَبُ؟ قُلْنَا: نَعَمْ قَالَ: كَيْفَ صَنَعَ بِهِمْ؟ فَأَخْبَرْنَاهُ أَنَّهُ قَدْ ظَهَرَ عَلَى مَنْ يَلِيهِ مِنَ الْعَرَبِ وَأَطَاعُوهُ قَالَ لَهُمْ: قَدْ كَانَ ذَلِكَ؟ قُلْنَا: نَعَمْ قَالَ: أَمَا إِنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ لَهُمْ أَنْ يُطِيعُوهُ وَإِنِّي مُخْبِرُكُمْ عَنِّي, إِنِّي أَنَا الْمَسِيحُ وَإِنِّي أُوشِكُ أَنْ يُؤْذَنَ لِي فِي الْخُرُوجِ فَأَخْرُجَ فَأَسِيرَ فِي الْأَرْضِ فَلَا أَدَعَ قَرْيَةً إِلَّا هَبَطْتُهَا فِي أَرْبَعِينَ لَيْلَةً غَيْرَ مَكَّةَ وَطِيبَةَ, فَهُمَا مُحَرَّمَتَانِ عَلَيَّ كِلْتَاهُمَا, كُلَّمَا أَرَدْتُ أَنْ أَدْخُلَ وَاحِدَةً أَوْ وَاحِدًا مِنْهُمَا اسْتَقْبَلَنِي مَلَكٌ بِيَدِهِ السَّيْفُ صَلْتًا يَصُدُّنِي عَنْهَا, وَإِنَّ عَلَى كُلِّ نَقْبٍ مِنْهَا مَلَائِكَةً يَحْرُسُونَهَا" قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطَعَنَ بِمِخْصَرَتِهِ فِي الْمِنْبَرِ: "هَذِهِ طِيبَةُ هَذِهِ طِيبَةُ هَذِهِ طِيبَةُ -يَعْنِي الْمَدِينَةَ- أَلَا هَلْ كُنْتُ حَدَّثْتُكُمْ ذَلِكَ"؟ فَقَالَ النَّاسُ: نَعَمْ قَالَ: "فَإِنَّهُ أَعْجَبَنِي حَدِيثُ تَمِيمٍ أَنَّهُ وَافَقَ الَّذِي كُنْتُ أُحَدِّثُكُمْ عَنْهُ وَعَنِ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ إِلَّا أَنَّهُ فِي بَحْرِ الشَّامِ أَوْ بَحْرِ الْيَمَنِ لَا بَلْ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ مَا هُوَ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ مَا هُوَ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ مَا هُوَ" وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى الْمَشْرِقِ قَالَتْ: فَحَفِظْتُ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ1. قَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: الْأَهْلَبُ الْغَلِيظُ الشَّعْرِ كَثِيرُهُ, وَسُمِّيَتِ الْجَسَّاسَةَ لِتَجَسُّسِهَا الْأَخْبَارَ لِلدَّجَّالِ2. وَجَاءَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهَا دَابَّةُ الْأَرْضِ الْمَذْكُورَةُ فِي الْقُرْآنِ, وَاللَّهُ أَعْلَمُ3. وَفِيهِ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ بِنْتَ أَبِي سفيان أخبرتها أن زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ زَوْجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا فَزِعًا مُحْمَرًّا وَجْهُهُ يَقُولُ: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ, وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ, فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ" وَحَلَّقَ بِإِصْبَعِهِ الْإِبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيهَا قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: "نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ" 4.
وَفِيهِ عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ قَالَ: ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الدَّجَّالَ ذَاتَ غَدَاةٍ فَخَفَّضَ فِيهِ وَرَفَّعَ حَتَّى ظَنَنَّاهُ فِي طَائِفَةِ النَّخْلِ, فَلَمَّا رُحْنَا إِلَيْهِ عَرَفَ ذَلِكَ فِينَا فَقَالَ: "مَا شَأْنُكُمْ"؟ قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَكَرْتَ الدَّجَّالَ غَدَاةً فَخَفَّضْتَ فِيهِ وَرَفَّعْتَ حَتَّى ظَنَنَّاهُ فِي طَائِفَةِ النَّخْلِ فَقَالَ: "غَيْرُ الدَّجَّالِ أَخْوَفَنِي عَلَيْكُمْ, إِنْ يَخْرُجْ وَأَنَا فِيكُمْ فَأَنَا حَجِيجُهُ دُونَكُمْ, وَإِنْ يَخْرُجْ وَلَسْتُ فِيكُمْ فَامْرُؤٌ حَجِيجُ نَفْسِهِ وَاللَّهُ خَلِيفَتِي عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ, إِنَّهُ شَابٌّ قَطَطٌ عَيْنُهُ طَافِئَةٌ كَأَنِّي أُشَبِّهُهُ بِعَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قَطَنٍ, فَمَنْ أَدْرَكَهُ مِنْكُمْ فَلْيَقْرَأْ عَلَيْهِ فَوَاتِحَ سُورَةِ الْكَهْفِ 1، إِنَّهُ خَارِجٌ خَلَّةً بَيْنَ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ فَعَاثَ يَمِينًا وَعَاثَ شِمَالًا, يَا عِبَادَ اللَّهِ فَاثْبُتُوا" قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا لَبْثُهُ فِي الْأَرْضِ؟ قَالَ: "أَرْبَعُونَ يَوْمًا, يَوْمٌ كَسَنَةٍ وَيَوْمٌ كَشَهْرٍ وَيَوْمٌ كَجُمُعَةٍ وَسَائِرُ أَيَّامِهِ كَأَيَّامِكُمْ" قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَسَنَةٍ أَتَكْفِينَا فِيهِ صَلَاةُ يَوْمٍ؟ قَالَ: "لَا, اقْدُرُوا لَهُ قَدْرَهُ" قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا إِسْرَاعُهُ فِي الْأَرْضِ؟ قَالَ: "كَالْغَيْثِ اسْتَدْبَرَتْهُ الرِّيحُ, فَيَأْتِي عَلَى الْقَوْمِ فَيَدْعُوهُمْ فَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَجِيبُونَ لَهُ, فَيَأْمُرُ السَّمَاءَ فَتُمْطِرُ وَالْأَرْضَ فَتَنْبُتُ فَتَرُوحُ عَلَيْهِمْ سَارِحَتُهُمْ 2 أَطْوَلَ مَا كَانَتْ دُرًّا وَأَسْبَغَهُ ضُرُوعًا وَأَمَدَّهُ خَوَاصِرَ 3، ثُمَّ يَأْتِي الْقَوْمَ فَيَدْعُوهُمْ فَيَرُدُّونَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ فَيَنْصَرِفُ عَنْهُمْ فَيُصْبِحُونَ مُمْحِلِينَ 4 لَيْسَ بِأَيْدِيهِمْ شَيْءٌ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَيَمُرُّ بِالْخَرِبَةِ فَيَقُولُ لَهَا: أَخْرِجِي كُنُوزَكِ فَتَتْبَعُهُ كُنُوزُهَا كَيَعَاسِيبِ النَّحْلِ 5، ثُمَّ يَدْعُو رَجُلًا مُمْتَلِئًا شَبَابًا فَيَضْرِبُهُ بِالسَّيْفِ فَيَقْطَعُهُ جَزْلَتَيْنِ رَمْيَةَ الْغَرَضِ, ثُمَّ يَدْعُوهُ فَيُقْبِلُ وَيَتَهَلَّلُ وَجْهُهُ يَضْحَكُ. فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ بَعَثَ اللَّهُ الْمَسِيحَ ابن مَرْيَمَ فَيُنْزِلُ عِنْدَ الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ شَرْقِيِّ دِمَشْقَ بَيْنَ مَهْرُودَتَيْنِ 6 وَاضِعًا كَفَّيْهِ عَلَى أَجْنِحَةِ مَلَكَيْنِ إِذَا طَأْطَأَ رَأْسَهُ قَطَرَ وَإِذَا رَفَعَهُ تَحَدَّرَ مِنْهُ جُمَانٌ كَجُمَانِ اللُّؤْلُؤِ فَلَا يَحِلُّ لِكَافِرٍ يَجِدُ رِيحَ
نَفْسِهِ إِلَّا مَاتَ وَنَفْسُهُ يَنْتَهِي حَيْثُ يَنْتَهِي طَرْفُهُ 1 , فَيَطْلُبُهُ حَتَّى يُدْرِكَهُ بِبَابِ لُدٍّ 2 فَيَقْتُلَهُ, ثُمَّ يَأْتِي عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ قَوْمٌ قَدْ عَصَمَهُمُ اللَّهُ مِنْهُ فَيَمْسَحُ عَنْ وُجُوهِهِمْ وَيُحَدِّثُهُمْ بِدَرَجَاتِهِمْ فِي الْجَنَّةِ, فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ أَوْحَى اللَّهُ إِلَى عِيسَى إِنِّي قَدْ أَخْرَجْتُ عِبَادًا لِي لَا يَدَانِ 3 لأحد بقتالهم فحرز عِبَادِي إِلَى الطُّورِ 4. وَيَبْعَثُ اللَّهُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ فَيَمُرُّ أَوَائِلُهُمْ عَلَى بُحَيْرَةِ طَبَرِيَّةَ فَيَشْرَبُونَ مَا فِيهَا وَيَمُرُّ آخِرُهُمْ فَيَقُولُ: لَقَدْ كَانَ بِهَذِهِ مَرَّةً مَاءٌ وَيُحْصَرُ نَبِيُّ اللَّهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ حَتَّى يَكُونَ رَأْسُ الثَّوْرِ لِأَحَدِهِمْ خَيْرًا مِنْ مِائَةِ دِينَارٍ لِأَحَدِكُمُ الْيَوْمَ, فَيَرْغَبُ نَبِيُّ اللَّهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ فَيُرْسِلُ اللَّهُ عَلَيْهِمُ النَّغَفَ 5 فِي رِقَابِهِمْ فَيُصْبِحُونَ فَرْسَى كَمَوْتِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ, ثُمَّ يَهْبِطُ نَبِيُّ اللَّهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ إِلَى الْأَرْضِ فَلَا يَجِدُونَ فِي الْأَرْضِ مَوْضِعَ شِبْرٍ إِلَّا مَلَأَهُ زَهَمُهُمْ 6 وَنَتْنُهُمْ, فَيَرْغَبُ نَبِيُّ اللَّهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَيُرْسِلُ اللَّهُ تَعَالَى طَيْرًا كَأَعْنَاقِ الْبُخْتِ 7 فَتَحْمِلُهُمْ فَتَطْرَحُهُمْ حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ مَطَرًا لَا يَكُنُّ مِنْهُ بَيْتُ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ فَيَغْسِلُ الْأَرْضَ حَتَّى يَتْرُكَهَا كَالزَّلَقَةِ 8 ثُمَّ يُقَالُ لِلْأَرْضِ: أَنْبِتِي ثَمَرَكِ وَرُدِّي بَرَكَتَكِ فَيَوْمَئِذٍ تَأْكُلُ الْعِصَابَةُ 9 مِنَ الرُّمَّانَةِ وَيَسْتَظِلُّونَ بِقِحْفِهَا, وَيُبَارِكُ فِي الرِّسْلِ حَتَّى أَنَّ اللِّقْحَةَ مِنَ الْإِبِلِ لَتَكْفِي الْفِئَامَ مِنَ النَّاسِ وَاللِّقْحَةَ مِنَ الْبَقَرِ لَتَكْفِي الْقَبِيلَةَ مِنَ النَّاسِ وَاللِّقْحَةَ مِنَ الْغَنَمِ لَتَكْفِي الْفَخِذَ مِنَ النَّاسِ, فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ بَعَثَ اللَّهُ رِيحًا طَيِّبَةً فَتَأْخُذُهُمْ تَحْتَ إِبَاطِهِمْ فَتَقْبِضُ رُوحَ كُلِّ مُؤْمِنٍ وَكُلِّ مُسْلِمٍ, وَيَبْقَى شِرَارُ النَّاسِ يَتَهَارَجُونَ فِيهَا تَهَارُجَ الْحُمُرِ 10 فَعَلَيْهِمْ تَقُومُ
السَّاعَةُ" وزاد فِي رِوَايَةٍ بَعْدَ قَوْلِهِ "لَقَدْ كَانَ بِهَذِهِ مَرَّةً مَاءٌ": "ثُمَّ يَسِيرُونَ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى جَبَلِ الْخَمْرِ وَهُوَ جَبَلُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَيَقُولُونَ: لَقَدْ قَتَلْنَا مَنْ فِي الْأَرْضِ, هَلُمَّ فَلْنَقْتُلْ مَنْ فِي السَّمَاءِ فَيَرْمُونَ بِنِشَابِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ, فَيَرُدُّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ نِشَابَهُمْ مَخْضُوبَةً دَمًا" 1. وَفِيهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذَكَرَ الدَّجَّالَ بَيْنَ ظَهْرَانَيِ النَّاسِ فَقَالَ: "إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَيْسَ بِأَعْوَرَ, أَلَا وَإِنَّ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ أَعْوَرُ الْعَيْنِ الْيُمْنَى, كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ" 2. وَفِيهِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَقَدْ أَنْذَرَ أُمَّتَهُ الْأَعْوَرَ الْكَذَّابَ, أَلَا إِنَّهُ أَعْوَرُ وَإِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ, مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ ك ف ر" 3، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الدَّجَّالُ مَمْسُوحُ الْعَيْنِ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ كَافِرٌ -ثُمَّ تَهَجَّاهَا ك ف ر- يقرؤه كُلُّ مُسْلِمٍ" 4. وَفِيهِ عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا مَعَ الدَّجَّالِ مِنْهُ, مَعَهُ نَهْرَانِ يَجْرِيَانِ أَحَدُهُمَا رَأَيَ الْعَيْنِ ماء أبيض والآخر رَأْيَ الْعَيْنِ نَارٌ تَأَجُّجُ, فَإِمَّا أَدْرَكَهُمَا أَحَدٌ فَلْيَأْتِ النَّهْرَ الَّذِي يَرَاهُ نَارًا وَلْيُغْمِضْ ثُمَّ لْيُطَأْطِئْ رَأْسَهُ فَيَشْرَبْ مِنْهُ, فَإِنَّهُ مَاءٌ بَارِدٌ. وَإِنَّ الدَّجَّالَ مَمْسُوحُ الْعَيْنِ عَلَيْهَا ظَفَرَةٌ غَلِيظَةٌ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عينيه "كافر" يقرؤه كُلُّ مُؤْمِنٍ كَاتِبٌ وَغَيْرُ كَاتِبٍ" 5 قال النَّوَوِيُّ: ظَفَرَةٌ بِفَتْحِ الظَّاءِ الْمُعْجَمَةِ وَالْفَاءِ وَهِيَ جِلْدَةٌ تَغْشَى الْبَصَرَ, وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: لَحْمَةٌ تَنْبُتُ عِنْدَ الْمَآقِي6. وَفِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا حَدِيثًا طَوِيلًا عَنْ
الدَّجَّالِ, فَكَانَ فِيمَا حَدَّثَنَا قَالَ: "يَأْتِي وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ أَنْ يَدْخُلَ نِقَابَ الْمَدِينَةِ فَيَنْتَهِي إِلَى بَعْضِ السِّبَاخِ الَّتِي تَلِي الْمَدِينَةَ فَيَخْرُجُ إِلَيْهِ يَوْمَئِذٍ رَجُلٌ هُوَ خَيْرُ النَّاسِ -أَوْ مِنْ خَيْرِ النَّاسِ- فَيَقُولُ لَهُ: أَشْهَدُ أَنَّكَ الدَّجَّالُ الَّذِي حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَيَقُولُ الدَّجَّالُ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ قَتَلْتُ هَذَا ثُمَّ أَحْيَيْتُهُ أَتَشُكُّونَ فِي الْأَمْرِ؟ فَيَقُولُونَ: لَا قَالَ: فَيَقْتُلُهُ ثُمَّ يُحْيِيهِ فَيَقُولُ حِينَ يُحْيِيهِ: وَاللَّهِ مَا كُنْتَ فِيكَ قَطُّ أَشَدَّ بَصِيرَةً مِنِّي الْآنَ قَالَ: فَيُرِيدُ الدَّجَّالُ أَنْ يَقْتُلَهُ فَلَا يُسَلَّطُ عَلَيْهِ" 1. وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَخْرُجُ الدَّجَّالُ فَيَتَوَجَّهُ قِبَلَهُ رَجُلٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَتَلْقَاهُ الْمَسَائِحُ مَسَائِحُ الدَّجَّالِ فَيَقُولُونَ لَهُ: أَيْنَ تَعْمِدُ؟ فَيَقُولُ: أَعْمِدُ إِلَى هَذَا الَّذِي خَرَجَ قَالَ فَيَقُولُونَ لَهُ: أَوَمَا تُؤْمِنُ بِرَبِّنَا؟ فَيَقُولُ: مَا بِرَبِّنَا خَفَاءٌ, فَيَقُولُونَ: اقْتُلُوهُ فَيَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَلَيْسَ قَدْ نَهَاكُمْ رَبُّكُمْ أَنْ تَقْتُلُوا أَحَدًا دُونَهُ؟ قَالَ: فَيَنْطَلِقُونَ بِهِ إِلَى الدَّجَّالِ فَإِذَا رَآهُ الْمُؤْمِنُ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ هَذَا الدَّجَّالُ الَّذِي ذَكَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: فَيَأْمُرُ الدَّجَّالُ بِهِ فَيُشَجُّ فَيَقُولُ: خُذُوهُ وَشُجُّوهُ فَيُوسَعُ ظَهْرُهُ وَبَطْنُهُ ضَرْبًا قَالَ فَيَقُولُ: أَوَمَا تُؤْمِنُ بِي؟ قَالَ فَيَقُولُ: أَنْتَ الْمَسِيحُ الْكَذَّابُ قَالَ فيؤمر به فينشر بالمنشار مِنْ مَفْرَقِهِ حَتَّى يُفَرَّقَ بَيْنَ رِجْلَيْهِ قَالَ: ثُمَّ يَمْشِي بَيْنَ الْقِطْعَتَيْنِ ثُمَّ يَقُولُ: قُمْ فَيَسْتَوِي قَائِمًا قَالَ: ثُمَّ يَقُولُ لَهُ: أَتُؤْمِنُ بِي؟ فَيَقُولُ: مَا ازْدَدْتُ فِيكَ إِلَّا بَصِيرَةً قَالَ: ثُمَّ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ لَا يَفْعَلُ بَعْدِي بِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ قَالَ: فَيَأْخُذُهُ الدَّجَّالُ لِيَذْبَحَهُ فَيَجْعَلُ مَا بَيْنَ رَقَبَتِهِ إِلَى تَرْقُوَتِهِ نُحَاسًا فَلَا يَسْتَطِيعُ إِلَيْهِ سَبِيلًا قَالَ: فَيُؤْخَذُ بِيَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ فَيَقْذِفُ بِهِ فَيَحْسِبُ النَّاسُ أَنَّمَا قَذَفَهُ إِلَى النَّارِ وَإِنَّمَا أُلْقِيَ فِي الْجَنَّةِ" فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هَذَا أَعْظَمُ النَّاسِ شَهَادَةً عِنْدَ رَبِّ الْعَالَمِينَ" 2. وَفِيهِ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ سَالِمٍ قَالَ: سَمِعْتُ يَعْقُوبَ بْنَ عَاصِمِ بْنِ عُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو وَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: مَا هَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي
تُحَدِّثُ بِهِ تَقُولُ: إِنَّ السَّاعَةَ تَقُومُ إِلَى كَذَا وَكَذَا؟ فَقَالَ: سُبْحَانَ الله -أو لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا- لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ لَا أُحَدِّثَ أَحَدًا شَيْئًا أَبَدًا, إِنَّمَا قُلْتُ: إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدَ قَلِيلٍ أَمْرًا عَظِيمًا؛ يَحْرُقُ الْبَيْتَ وَيَكُونُ وَيَكُونُ ثُمَّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَخْرُجُ الدَّجَّالُ فِي أُمَّتِي فَيَمْكُثُ أَرْبَعِينَ -لَا أَدْرِي أَرْبَعِينَ يَوْمًا أَوْ أَرْبَعِينَ شَهْرًا أَوْ أَرْبَعِينَ عَامًا- فَيَبْعَثُ اللَّهُ تَعَالَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ كَأَنَّهُ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ فَيَطْلُبُهُ فَيُهْلِكُهُ, ثُمَّ يَمْكُثُ النَّاسُ سَبْعَ سِنِينَ ليس بَيْنَ اثْنَيْنِ عَدَاوَةٌ ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ رِيحًا بَارِدَةً مِنْ قِبَلِ الشَّامِ فَلَا يَبْقَى عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَحَدٌ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ -أَوْ إِيمَانٍ- إِلَّا قَبِضَتْهُ حَتَّى لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ دَخَلَ فِي كَبَدِ جَبَلٍ لَدَخَلَتْهُ عَلَيْهِ حَتَّى تَقْبِضَهُ" قَالَ: سَمِعْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "فَيَبْقَى شِرَارُ النَّاسِ فِي خِفَّةِ الطَّيْرِ وَأَحْلَامِ السِّبَاعِ لَا يَعْرِفُونَ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُونَ مُنْكَرًا, فَيَتَمَثَّلُ لَهُمُ الشَّيْطَانُ فَيَقُولُ: أَلَا تَسْتَجِيبُونَ؟ فَيَقُولُونَ: فَمَا تَأْمُرُنَا؟ فَيَأْمُرُهُمْ بِعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَهُمْ فِي ذَلِكَ دَارٌّ رِزْقُهُمْ حَسَنٌ عَيْشُهُمْ, ثُمَّ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَلَا يَسْمَعُهُ أَحَدٌ إِلَّا أَصْغَى لِيتًا وَرَفَعَ لِيتًا قَالَ: وَأَوَّلُ مَنْ يَسْمَعُهُ رَجُلٌ يَلُوطُ حَوْضَ إِبِلِهِ قَالَ: فَيَصْعَقُ وَيَصْعَقُ النَّاسُ ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ -أَوْ قَالَ يُنْزِلُ اللَّهُ- عَزَّ وَجَلَّ مَطَرًا كَأَنَّهُ الطَّلُّ أَوِ الظِّلُّ "نُعْمَانُ الشَّاكُّ" فَتَنْبُتُ مِنْهُ أَجْسَادُ النَّاسِ ثُمَّ يَنْفُخُ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ ثُمَّ يُقَالُ: يَا أيها الناس هلموا إِلَى رَبِّكُمْ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ قَالَ: ثُمَّ يُقَالُ: أَخْرِجُوا بَعْثَ النَّارِ فَيُقَالُ: مِنْ كَمْ؟ فَيُقَالُ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَمِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ قَالَ: فَذَاكَ يَوْمَ يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا وَذَلِكَ يَوْمَ يَكْشِفُ عَنْ سَاقٍ" 1. وَفِيهِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَيْسَ مِنْ بلد إلا سيطؤه الدَّجَّالُ إِلَّا مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ, وَلَيْسَ نَقْبٌ مِنْ أَنْقَابِهَا إِلَّا عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ صَافِّينَ تَحْرُسُهَا, فَيَنْزِلُ بِالسِّبْخَةِ فَتَرْجُفُ الْمَدِينَةُ ثَلَاثَ رَجَفَاتٍ يَخْرُجُ إِلَيْهِ مِنْهَا كُلُّ كَافِرٍ وَمُنَافِقٍ" وَفِي رِوَايَةٍ: "فَيَأْتِي سَبْخَةَ الْجُرُفِ فَيَضْرِبُ رِوَاقَهُ وَقَالَ فَيَخْرُجُ إِلَيْهِ
كُلُّ مُنَافِقٍ وَمُنَافِقَةٍ" 1. قَالَ النَّوَوِيُّ: فَيَضْرِبُ رِوَاقَهُ أَيْ: يَنْزِلُ هُنَاكَ وَيَضَعُ ثِقَلَهُ, وَالْجَرْفُ قَالَ فِي الْقَامُوسِ: مَوْضِعٌ بِقُرْبِ الْمَدِينَةِ وَمَوْضِعٌ قُرْبَ مَكَّةَ وَمَوْضِعٌ بِالْيَمَنِ وَمَوْضِعٌ بِالْيَمَامَةِ, وَالْمَقْصُودُ فِي الْحَدِيثِ هُوَ الْأَوَّلُ, وَفِيهِ عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "يَتْبَعُ الدَّجَّالَ مِنْ يَهُودِ أَصْبَهَانَ سَبْعُونَ أَلْفًا عَلَيْهِمُ الطَّيَالِسَةُ" 2. وَفِيهِ عَنْ أُمِّ شَرِيكٍ أَنَّهَا سَمِعْتِ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "لِيَفِرَّنَّ النَّاسُ مِنَ الدَّجَّالِ فِي الْجِبَالِ" قَالَتْ أُمُّ شَرِيكٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَيْنَ الْعَرَبُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: "هُمْ قَلِيلٌ" 3. وَفِيهِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَا بَيْنَ خَلْقِ آدَمَ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ خَلْقٌ أَكْبَرُ مِنَ الدَّجَّالِ" 4. وَالْأَحَادِيثُ فِي ذِكْرِ الدَّجَّالِ وَصِفَتِهِ وَالْإِنْذَارِ مِنْهُ وَالتَّحْذِيرِ عَنْهُ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى وَأَعْظَمُ مِنْ أَنْ تُسْتَقْصَى, وَكَذَا الْأَحَادِيثُ فِي الْفِتَنِ وَالْمَلَاحِمِ بَيْنَ يَدَيِ الْقِيَامَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ وَقَدْ أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالِاسْتِعَاذَةِ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ فِي كُلِّ صَلَاةِ, فَرِيضَةً أَوْ نَافِلَةً. وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ مُحْرِزِ بْنِ هَارُونَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سَبْعًا: هَلْ تَنْتَظِرُونَ إِلَّا فَقْرًا مُنْسِيًا أَوْ غِنًى مُطْغِيًا أَوْ هَرَمًا مُفَنِّدًا أَوِ الدَّجَّالَ فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ أَوِ السَّاعَةَ فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ" ثُمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ مِنْ حَدِيثِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ مُحْرِزِ بْنِ هَارُونَ5. وَرَوَى مَعْمَرٌ هَذَا الْحَدِيثَ عَمَّنْ سَمِعَ سَعِيدًا الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَحْوَ هَذَا.
ومن الإيمان باليوم الآخر الإيمان بالموت
[الْإِيمَانُ بِالْمَوْتِ] : وَيَدْخُلُ الْإِيمَانُ بِالْمَوْتِ وَمَا ... مِنْ بَعْدِهِ عَلَى الْعِبَادِ حَتْمَا "وَيَدْخُلُ" فِي الْإِيمَانِ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ "الْإِيمَانُ بِالْمَوْتِ" الَّذِي هُوَ الْمُفْضِي بِالْعَبْدِ إِلَى مَنَازِلِ الْآخِرَةِ, وَهُوَ سَاعَةُ كُلِّ إِنْسَانٍ بِخُصُوصِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ: "إِنْ يَعِشْ هَذَا لَمْ يُدْرِكْهُ الْهَرَمُ, قَامَتْ عَلَيْكُمْ سَاعَتُكُمْ" 1. وَالْإِيمَانُ بِالْمَوْتِ يَتَنَاوَلُ أُمُورًا: مِنْهَا تَحَتُّمُهُ عَلَى مَنْ كَانَ فِي الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَالْمَلَائِكَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ, قَالَ تَعَالَى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الْقَصَصِ: 88] وَقَالَ تَعَالَى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرَّحْمَنِ: 27] وَقَالَ تَعَالَى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آلِ عِمْرَانَ: 185] وَقَالَ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} [الزُّمَرِ: 30] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 34, 35] وَقَالَ تَعَالَى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الْعَنْكَبُوتِ: 57] قَالَ تَعَالَى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} [السَّجْدَةِ: 11] وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ
لكل مخلوق أجل محدود وأمد ينتهي إليه لا نعلمه
يَقُولُ: "أَعُوذُ بِعِزَّتِكَ -الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ- أَنْ تُضِلَّنِي, أَنْتَ الْحَيُّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ يَمُوتُونَ" 1. وَمِنْهَا إِنَّ كُلًّا لَهُ أَجْلٌ مَحْدُودٌ وَأَمَدٌ مَمْدُودٌ يَنْتَهِي إِلَيْهِ لَا يَتَجَاوَزُهُ وَلَا يُقَصِّرُ عَنْهُ, وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى جَمِيعَ ذَلِكَ بِعِلْمِهِ الَّذِي هُوَ صِفَتُهُ, وَجَرَى بِهِ الْقَلَمُ بِأَمْرِهِ يَوْمَ خَلْقِهِ, ثُمَّ كَتَبَهُ الْمَلَكُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ فِي بَطْنِ أُمِّهِ بِأَمْرِ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ عِنْدَ تَخْلِيقِ النُّطْفَةِ فِي عَيْنِهِ, فِي أَيِّ مَكَانٍ يَكُونُ وَفِي أَيِّ زَمَانٍ فَلَا يُزَادُ فِيهِ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُ وَلَا يُغَيَّرُ وَلَا يُبَدَّلُ عَمَّا سَبَقَ بِهِ عِلْمُ اللَّهِ تَعَالَى وَجَرَى بِهِ قَضَاؤُهُ وَقَدَرُهُ, وَأَنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ مَاتَ أَوْ قُتِلَ أَوْ حُرِقَ أَوْ غَرِقَ أَوْ بِأَيِّ حَتْفٍ هَلَكَ بِأَجَلِهِ لَمْ يَسْتَأْخِرْ عَنْهُ وَلَمْ يَسْتَقْدِمْ طَرْفَةَ عَيْنٍ وَأَنَّ ذَلِكَ السَّبَبَ الَّذِي كَانَ فِيهِ حَتْفُهُ هُوَ الَّذِي قَدَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَقَضَاهُ عَلَيْهِ وَأَمْضَاهُ فِيهِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ بُدٌّ مِنْهُ وَلَا مَحِيصَ عَنْهُ وَلَا مَفَرَّ لَهُ وَلَا مَهْرَبَ وَلَا فِكَاكَ وَلَا خَلَاصَ, وَأَنَّى وَكَيْفَ وَإِلَى أَيْنَ وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا} [آلِ عِمْرَانَ: 145] الْآيَةَ, وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} [آل عمران: 154] الآيات وَقَالَ تَعَالَى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النِّسَاءِ: 78] وَقَالَ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الْأَنْعَامِ: 61] وَقَالَ تَعَالَى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [الْأَعْرَافِ: 34] فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ, وَقَالَ تَعَالَى: {كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى} [الرَّعْدِ: 2] وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى} [طه: 129] وَقَالَ تَعَالَى: {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} [الرَّعْدِ: 8] وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ
تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الْجُمُعَةِ: 8] وَقَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الزُّمَرِ: 42] وَقَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الْأَنْعَامِ: 60] وَغَيْرُهَا مِنَ الْآيَاتِ. وَرَوَى مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي صَحِيحِهِ عَنِ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: اللَّهُمَّ مَتِّعْنِي بِزَوْجِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِأَبِي أَبِي سُفْيَانَ وَبِأَخِي مُعَاوِيَةَ, فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّكِ سَأَلْتِ اللَّهَ تَعَالَى لِآجَالٍ مَضْرُوبَةٍ وَآثَارٍ مَوْطُوءَةٍ وَأَرْزَاقٍ مَقْسُومَةٍ لَا يُعَجَّلُ شَيْءٌ مِنْهَا قَبْلَ حِلِّهِ وَلَا يُؤَخِّرُ مِنْهَا يَوْمًا بَعْدَ حِلِّهِ, وَلَوْ سَأَلْتِ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُعَافِيَكِ مِنْ عَذَابٍ فِي النَّارِ وَعَذَابٍ فِي الْقَبْرِ لَكَانَ خَيْرًا لَكِ" 1. وَفِي رِوَايَةٍ: "قَدْ سَأَلَتِ اللَّهَ لِآجَالٍ مَضْرُوبَةٍ وَأَيَّامٍ مَعْدُودَةٍ وَأَرْزَاقٍ مَقْسُومَةٍ لَنْ يُعَجِّلَ شَيْئًا قَبْلَ حِلِّهِ أَوْ يُؤَخِّرَ شَيْئًا عَنْ حِلِّهِ, وَلَوْ كُنْتِ سَأَلْتِ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُعِيذَكِ مِنْ عَذَابٍ فِي النَّارِ أَوْ عَذَابٍ فِي الْقَبْرِ كَانَ خَيْرًا وَأَفْضَلَ" 2 وَفِي أُخْرَى: "وَآثَارٍ مَبْلُوغَةٍ" 3. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [فَاطِرٍ: 11] يَقُولُ: لَيْسَ أَحَدٌ قَضَيْتُ لَهُ بِطُولِ الْعُمْرِ وَالْحَيَاةِ إِلَّا وَهُوَ بَالِغٌ مَا قَدَّرْتُ لَهُ مِنَ الْعُمْرِ, وَقَدْ قَضَيْتُ ذَلِكَ لَهُ فَإِنَّمَا يَنْتَهِي إِلَى الْكِتَابِ الَّذِي كُتِبَ لَهُ, فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [فَاطِرٍ: 11] يَقُولُ: كُلُّ ذَلِكَ
فِي كِتَابٍ عِنْدَهُ1, وَهَكَذَا قَالَ الضَّحَّاكُ بْنُ مُزَاحِمٍ. وَأَمَّا حَدِيثُ أَنَسٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ وَيُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ" 2 فَإِنَّهُ يُفَسَّرُ بِحَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عِنْدَ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: ذَكَرْنَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الزِّيَادَةَ فِي الْعُمْرِ فَقَالَ: "إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُؤَخِّرُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا, وَإِنَّمَا زِيَادَةُ الْعُمْرِ بِالذُّرِّيَّةِ الصَّالِحَةِ يَرْزُقُهَا الْعَبْدَ فَيَدْعُونَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ فَيَلْحَقُهُ دُعَاؤُهُمْ فِي قَبْرِهِ, فَذَلِكَ زِيَادَةُ الْعُمْرِ"3. وَمِنْهَا الْإِيمَانُ بِأَنَّ ذَلِكَ الْأَجَلَ الْمَحْتُومَ وَالْحَدَّ الْمَرْسُومَ لِانْتِهَاءِ كُلِّ عُمْرٍ إِلَيْهِ لَا اطِّلَاعَ لَنَا عَلَيْهِ وَلَا عِلْمَ لَنَا بِهِ, وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ مَفَاتِحِ الْغَيْبِ الَّتِي اسْتَأْثَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِعِلْمِهَا عَنْ جَمِيعِ خَلْقِهِ, فَلَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الْأَنْعَامِ: 59] الْآيَةَ, وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لُقْمَانَ: 34] الْآيَةَ. وَتَقَدَّمَتِ الْأَحَادِيثُ فِي مَعْنَاهَا, وَفِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ عِنْدَ أَحْمَدَ وَالتِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِمَا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى قَبْضَ رُوحِ عَبْدٍ بِأَرْضٍ جَعَلَ لَهُ فِيهَا -أَوْ قَالَ: بِهَا- حَاجَةً" 4.
أن يكون الموت في بال كل امرئ فيعمل صالحا
وَمِنْهَا ذِكْرُ الْعَبْدِ الْمَوْتَ وَجَعْلُهُ عَلَى بَالِهِ كَمَا هُوَ الرَّدْمُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ آمَالِهِ, وَهُوَ الْمُفْضِي بِهِ إِلَى أَعْمَالِهِ وَإِلَى الْحَسَنِ وَالْقَبِيحِ مِنْ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَإِلَى الْجَزَاءِ الْأَوْفَى مِنَ الْحُكْمِ الْعَدْلِ فِي شَرْعِهِ وَقَدَرِهِ وَقَضَائِهِ وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ فَلَا يُعَاقِبُ أَحَدًا بِذَنْبِ غَيْرِهِ وَلَا يَهْضِمُهُ ذَرَّةً مِنْ حُسْنِ أَعْمَالِهِ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ وَابْنِ حِبَّانَ وَصَحَّحَهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَادِمِ اللَّذَّاتِ" 1 الْمَوْتَ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ مِنْ صَحِيحِهِ: بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ" حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَبُو الْمُنْذِرِ الطُّفَاوِيُّ عَنْ سُلَيْمَانَ الْأَعْمَشِ قَالَ: حَدَّثَنِي مُجَاهِدٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَنْكِبِي فَقَالَ: "كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ" وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ: إِذَا أَمْسَيْتَ فَلَا تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلَا تَنْتَظِرِ الْمَسَاءَ, وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ, وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ2 ثُمَّ قَالَ: بَابٌ فِي الْأَمَلِ وَطُولِهِ وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آلِ عِمْرَانَ: 185] بِمُزَحْزِحِهِ: بِمُبَاعِدِهِ, وَقَالَ تَعَالَى: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الْحِجْرِ: 3] وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ارْتَحَلَتِ الدُّنْيَا مُدْبِرَةً وَارْتَحَلَتِ الْآخِرَةُ مُقْبِلَةً, وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَنُونَ. فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الْآخِرَةِ وَلَا تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا, فَإِنَّ الْيَوْمَ عَمَلٌ وَلَا حِسَابَ, وَغَدًا
التأهب للمصير قبل نزوله
حِسَابٌ وَلَا عَمَلَ1. حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ سُفْيَانَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ مُنْذِرٍ عَنْ رَبِيعِ بْنِ خُثَيْمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: خَطَّ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَطًّا مُرَبَّعًا وَخَطَّ خَطًّا فِي الْوَسَطِ خَارِجًا منه وخط خطوطا صِغَارًا إِلَى هَذَا الَّذِي فِي الْوَسَطِ مِنْ جَانِبِهِ الَّذِي فِي الْوَسَطِ وَقَالَ: "هَذَا الْإِنْسَانُ, وَهَذَا أَجْلُهُ مُحِيطٌ بِهِ أَوْ قَدْ أَحَاطَ بِهِ, وَهَذَا الَّذِي هُوَ خَارِجٌ أمله, وهذه الخطوط الصِّغَارُ الْأَعْرَاضِ, فَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا نَهَشَهُ هَذَا وَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا نَهَشَهُ هَذَا" 2 حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: خَطَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُطُوطًا فَقَالَ: "هَذَا الْأَمَلُ وَهَذَا أَجَلُهُ, فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ جَاءَهُ الْخَطُّ الْأَقْرَبُ" 3. وَمِنْهَا -وَهُوَ الْمَقْصُودُ الْأَعْظَمُ- التَّأَهُّبُ لَهُ قَبْلَ نُزُولِهِ, وَالِاسْتِعْدَادُ لِمَا بَعْدَهُ قَبْلَ حُصُولِهِ وَالْمُبَادَرَةُ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَالسَّعْيِ النَّافِعِ قَبْلَ دُهُومِ الْبَلَاءِ وَحُلُولِهِ, إِذْ هُوَ الْفَيْصَلُ بَيْنَ هَذِهِ الدَّارِ وَبَيْنَ دَارِ الْقَرَارِ وَهُوَ الْفَصْلُ بَيْنَ سَاعَةِ الْعَمَلِ وَالْجَزَاءِ عَلَيْهِ, وَالْحَدُّ الْفَارِقُ بَيْنَ أَوَانِ تَقْدِيمِ الزَّادِ وَالْقُدُومِ عَلَيْهِ, إِذْ لَيْسَ بَعْدَهُ لِأَحَدٍ مِنْ مُسْتَعْتِبٍ وَلَا اعْتِذَارٍ, وَلَا زِيَادَةٍ فِي الْحَسَنَاتِ وَلَا نَقْصٍ مِنَ السَّيِّئَاتِ وَلَا حِيلَةٍ وَلَا افْتِدَاءٍ وَلَا دِرْهَمٍ وَلَا دِينَارٍ وَلَا مَقْعَدٍ وَلَا مَنْزِلٍ إِلَّا الْقَبْرَ وَهُوَ إِمَّا رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ أَوْ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النَّارِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ وَجَمْعِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ وَأَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرَضِينَ وَالْمَوْقِفِ الطَّوِيلِ بَيْنَ يَدَيِ الْقَوِيِّ الْمَتِينِ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ الْحَكِيمِ الْعَلِيمِ الْمُقْسِطِ الْعَدْلِ الْحَكِيمِ الَّذِي لَا يَحِيفُ وَلَا يَجُورُ وَلَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ, ثُمَّ إِمَّا نُعَيْمٌ مُقِيمٌ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَإِمَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي نَارِ الْجَحِيمِ, وَإِنَّ لِكُلِّ ظَاعِنٍ مَقَرًّا وَلِكُلِّ نَبَأٍ مُسْتَقَرًّا وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 99، 100] الْآيَاتِ, وَقَالَ تَعَالَى: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الْحَشْرِ: 18] الْآيَاتِ, وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الْمُنَافِقُونَ: 9-11] . (وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ) (الشُّورَى: 44) وَهَذَا سُؤَالُهُمُ الرَّجْعَةَ عِنْدَ الِاحْتِضَارِ وَكَذَلِكَ يَسْأَلُونَ الرَّجْعَةَ عِنْدَ مُعَايَنَةِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ, كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ} [إِبْرَاهِيمَ: 44] الْآيَاتِ. وَكَذَلِكَ يَسْأَلُونَ الرَّجْعَةَ إِذَا وُقِفُوا عَلَى النَّارِ وَرَأَوْا مَا فِيهَا مِنْ عَظِيمِ الْأَهْوَالِ وَشَدِيدِ الْأَنْكَالِ وَالْمَقَامِعِ وَالْأَغْلَالِ وَالسَّلَاسِلِ الطِّوَالِ وَمَا لَا يَصِفُهُ عَقْلٌ وَلَا يُعَبِّرُ عَنْهُ مَقَالٌ وَلَا يُغْنِي بِالْخَبَرِ عَنْهُ ضَرْبُ الْأَمْثَالِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الْأَنْعَامِ: 27، 28] الْآيَاتِ, وَكَذَلِكَ يَسْأَلُونَ الرَّجْعَةَ إِذَا وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ وَعُرِضُوا عَلَيْهِ وَهُمْ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ بَيْنَ يَدَيْهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} [السَّجْدَةِ: 12] الْآيَاتِ, وَكَذَلِكَ يَسْأَلُونَ الرَّجْعَةَ وَهُمْ فِي غَمَرَاتِ الْجَحِيمِ وَعَذَابِهَا الْأَلِيمِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فَاطِرٍ: 37] الْآيَاتِ, وَقَالَ تَعَالَى: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ} [غَافِرٍ: 11] وَغَيْرُهَا مِنَ الْآيَاتِ.
وَيَجْمَعُ كُلَّ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الْأَعْرَافِ: 53] وَغَيْرُهَا مِنَ الْآيَاتِ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا مِنْ أَحَدٍ يَمُوتُ إِلَّا نَدِمَ" قَالُوا: وَمَا نَدَامَتُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "إِنْ كَانَ مُحْسِنًا نَدِمَ أَنْ لَا يَكُونَ ازْدَادَ, وَإِنْ كَانَ مُسِيئًا نَدِمَ أَنْ لَا يَكُونَ نَزَعَ" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ1، وَلَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: مَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ يُبَلِّغُهُ حَجَّ بَيْتِ رَبِّهِ أَوْ تَجِبُ عَلَيْهِ فِيهِ زَكَاةٌ فَلَمْ يَفْعَلْ, سَأَلَ الرَّجْعَةَ عِنْدَ الْمَوْتِ. فقال رجل: يابن عَبَّاسٍ اتَّقِ اللَّهَ فَإِنَّمَا يَسْأَلُ الرَّجْعَةَ الكفار فقال: سأتلو عَلَيْكَ بِذَلِكَ قُرْآنًا: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الْمُنَافِقُونَ: 10، 11] قَالَ: فَمَا يُوجِبُ الزَّكَاةَ؟ قَالَ: إِذَا بَلَغَ الْمَالُ مِائَتَيْنِ فَصَاعِدًا قَالَ: فَمَا يُوجِبُ الْحَجَّ؟ قَالَ: الزَّادُ وَالْبَعِيرُ2. وَقَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ} [الْمُؤْمِنُونَ: 99] قَالَ: كَانَ الْعَلَاءُ بْنُ زِيَادٍ يَقُولُ: لِيُنْزِلْ أَحَدُكُمْ نَفْسَهُ أَنَّهُ قَدْ حَضَرَهُ الْمَوْتُ فَاسْتَقَالَ رَبَّهُ فَأَقَالَهُ فَلْيَعْمَلْ بِطَاعَةِ رَبِّهِ تَعَالَى. وَقَالَ قَتَادَةُ: وَاللَّهِ مَا تَمَنَّى إِلَّا أَنْ يَرْجِعَ فَيَعْمَلَ بِطَاعَةِ اللَّهِ, فَانْظُرُوا أُمْنِيَةَ الْكَافِرِ الْمُفَرِّطِ فَاعْمَلُوا بِهَا وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: إِذَا وُضِعَ -يَعْنِي الْكَافِرَ- فِي قَبْرِهِ فَيَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ قَالَ: فَيَقُولُ: رَبِّ ارْجِعُونِ أَتُوبُ وَأَعْمَلُ صَالِحًا قَالَ:
فَيُقَالُ: قَدْ عَمَّرْتَ مَا كُنْتَ مُعَمَّرًا. قَالَ: فَيُضَيَّقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ وَيَلْتَئِمُ فَهُوَ كَالْمَنْهُوشِ يَنَامُ, أَوْ يَفْزَعُ تَهْوِي إِلَيْهِ هَوَامُّ الْأَرْضِ وَحَيَّاتُهَا وَعَقَارِبُهَا1. وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كُلُّ أَهْلِ النَّارِ يَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ فَيَقُولُ: لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي, فَتَكُونَ عَلَيْهِ حَسْرَةً قَالَ: وَكُلُّ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ فَيَقُولُ: لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي قَالَ: فَيَكُونُ لَهُمُ الشُّكْرُ" 2 وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ: "بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سِتًّا: طُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا" 3 الْحَدِيثَ, وَحَدِيثُهُ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ: «بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سَبْعًا: هَلْ تَنْتَظِرُونَ إِلَّا» إِلَى: «فَقْرٍ مُنْسٍ» الْحَدِيثَ. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ" 5. وَلِلْحَاكِمِ عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ لِرَجُلٍ وَهُوَ يَعِظُهُ: "اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ, وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ, وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ, وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ, وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ" 6. يَعْنِي أَنَّ هَذِهِ الْخَمْسَ: أَيَّامَ الشَّبَابِ وَالصِّحَّةِ وَالْغِنَى وَالْفَرَاغِ وَالْحَيَاةِ هِيَ أَيَّامُ الْعَمَلِ وَالتَّأَهُّبِ وَالِاسْتِعْدَادِ وَالِاسْتِكْثَارِ مِنَ الزَّادِ, فَمَنْ فَاتَهُ الْعَمَلُ فِيهَا لَمْ يُدْرِكْهُ عِنْدَ مَجِيءِ أَضْدَادِهَا, وَلَا يَنْفَعْهُ التَّمَنِّي لِلْأَعْمَالِ بَعْدَ التَّفْرِيطِ مِنْهُ وَالْإِهْمَالِ فِي زَمَنِ الْفُرْصَةِ وَالْإِمْهَالِ فَإِنَّ بَعْدَ كُلِّ شَبَابٍ هَرَمًا وَبَعْدَ كُلِّ صِحَّةٍ سَقَمًا وَبَعْدَ كُلِّ غِنًى فَقْرًا وَبَعْدَ كُلِّ فَرَاغٍ شُغْلًا وَبَعْدَ كُلِّ حَيَاةٍ مَوْتًا, فَمَنْ فَرَّطَ فِي الْعَمَلِ أَيَّامَ الشَّبَابِ لَمْ يُدْرِكْهُ فِي
الإيمان بما بعد الموت ومنه سؤال القبر
أَيَّامِ الْهَرَمِ, وَمَنْ فَرَّطَ فِيهِ فِي أَوْقَاتِ الصِّحَّةِ لَمْ يُدْرِكْهُ فِي أَوْقَاتِ السَّقَمِ, وَمَنْ فَرَّطَ فِيهِ فِي حَالَةِ الْغِنَى فَلَمْ يَنَلِ الْقُرَبَ الَّتِي لَمْ تُنَلْ إِلَّا بِالْغِنَى لَمْ يُدْرِكْهُ فِي حَالَةِ الْفَقْرِ, وَمَنْ فَرَّطَ فِيهِ فِي سَاعَةِ الْفَرَاغِ لَمْ يُدْرِكْهُ عِنْدَ مَجِيءِ الشَّوَاغِلِ, وَمَنْ فَرَّطَ فِي الْعَمَلِ فِي زَمَنِ الْحَيَاةِ لَمْ يُدْرِكْهُ بَعْدَ حَيْلُولَةِ الْمَمَاتِ, فَعِنْدَ ذَلِكَ يَتَمَنَّى الرُّجُوعَ وَقَدْ فَاتَ وَيَطْلُبُ الْكَرَّةَ وَهَيْهَاتَ وَحِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذَلِكَ وَعَظُمَتْ حَسَرَاتُهُ حِينَ لَا مَدْفَعَ لِلْحَسَرَاتِ. وَلَقَدْ حَثَّنَا اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- أَعْظَمَ الْحَثِّ وَحَضَّنَا أَشَدَّ الْحَضِّ وَدَعَانَا إِلَى اغْتِنَامِ الْفُرَصِ فِي زَمَنِ الْمُهْلَةِ وَأَخْبَرَنَا أَنَّ مَنْ فَرَّطَ فِي ذَلِكَ تَمَنَّاهُ وَقَدْ حِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ إِذْ يَقُولُ تَعَالَى فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ دَاعِيًا عِبَادَهُ إِلَى بَابِهِ, يَا مَنْ يُسْمَعُ صَرِيحُ خِطَابِهِ وَيُتَأَمَّلُ لَطِيفُ عِتَابِهِ: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الزُّمَرِ: 53-59] الْآيَاتِ, وَقَالَ تَعَالَى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ} [الرُّومِ: 43] الْآيَاتِ, وَقَالَ تَعَالَى: {اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ} [الشُّورَى: 47] الْآيَاتِ, وَغَيْرُهَا. [الْإِيمَانُ بِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ] : وَمِنْهَا الْإِيمَانُ بِـ "مَا" الَّذِي "مِنْ بَعْدِهِ" أَيْ: مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ "عَلَى الْعِبَادِ حَتْمًا" مِنْ أَحْوَالِ الِاحْتِضَارِ إِلَى الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ إِلَى أَنْ يَقْضِيَ اللَّهُ بَيْنَ عِبَادِهِ وَيَسْتَقِرَّ كُلٌّ
الكلام على آية {لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى} وآية {قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين}
مِنَ الْفَرِيقَيْنِ, فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ. وَنَذْكُرُ مَا تَيَسَّرَ مِنَ التَّقْدِيرِ عَلَى كُلِّ أَمْرِ مِنْهَا فِي مَحَلِّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَبْيَاتِ الْآتِيَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى, وهذا أَوَّلُهَا: وَإِنَّ كل مقعد مسئول ... مَا الرَّبُّ مَا الدِّينُ وَمَا الرَّسُولُ وَعِنْدَ ذَا يُثَبِّتُ الْمُهَيْمِنُ ... بِثَابِتِ الْقَوْلِ الَّذِينَ آمَنُوا وَيُوقِنُ الْمُرْتَابُ عِنْدَ ذَلِكَ ... بِأَنَّمَا مَوْرِدُهُ الْمَهَالِكُ [إِثْبَاتُ عَذَابِ الْقَبْرِ] : فِي هَذِهِ الْأَبْيَاتِ إِثْبَاتُ الْمَسْأَلَةِ الْعَظِيمَةِ, وَهِيَ إِثْبَاتُ سُؤَالِ الْقَبْرِ وَفِتْنَتِهِ وَعَذَابِهِ وَنَعِيمِهِ, وَقَدْ تَظَاهَرَتْ بِذَلِكَ نُصُوصُ الشَّرِيعَةِ كِتَابًا وَسُنَّةً وَأَجْمَعَ عَلَى ذَلِكَ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ, وَإِنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ بِشْرٌ الْمَرِيسِيُّ وَأَضْرَابُهُ وَأَتْبَاعُهُمْ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَحَمَلُوا عَلَى فَاسِدِ فَهْمِهِمْ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} [الدُّخَانِ: 56] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فَاطِرٍ: 22] . قَالُوا فِي الْآيَةِ الْأُولَى: لَوْ صَارُوا أَحْيَاءً فِي الْقُبُورِ لَذَاقُوا الْمَوْتَ مَرَّتَيْنِ لَا مَوْتَةً وَاحِدَةً وَقَالُوا فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ: إِنَّ الْغَرَضَ مِنْ سِيَاقِهَا تَشْبِيهُ الْكَفَرَةِ بِأَهْلِ الْقُبُورِ فِي عَدَمِ الْإِسْمَاعِ, وَلَوْ كَانَ الْمَيِّتُ حَيًّا فِي قَبْرِهِ أَوْ حَاسًّا لَمْ يَسْتَقِمِ التَّشْبِيهُ. قَالُوا: وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ فَإِنَّا نَرَى شَخْصًا يُصْلَبُ وَيَبْقَى مَصْلُوبًا إِلَى أَنْ تَذْهَبَ أَجْزَاؤُهُ وَلَا نُشَاهِدُ فِيهِ إِحْيَاءً وَمَسْأَلَةً وَالْقَوْلُ لَهُمْ بِهِمَا مَعَ الْمُشَاهَدَةِ سَفْسَطَةٌ ظَاهِرَةٌ, وَأَبْلَغُ مِنْهُ مَنْ أَكَلَتْهُ السِّبَاعُ وَالطُّيُورُ وَتَفَرَّقَتْ أَجْزَاؤُهُ فِي بُطُونِهَا وَحَوَاصِلِهَا, وَأَبْلَغُ مِنْهُ مَنْ أُحْرِقَ حتى يفتت وذريت أَجْزَاؤُهُ الْمُتَفَتِّتَةُ فِي الرِّيَاحِ الْعَاصِفَةِ شَمَالًا وَجَنُوبًا وَقُبُولًا وَدُبُورًا فَإِنَّا نَعْلَمُ عَدَمَ إِحْيَائِهِ وَمَسْأَلَتِهِ وَعَذَابِهِ ضَرُورَةً. هَذِهِ خُلَاصَةُ شُبَهِهِمِ الدَّاحِضَةِ وَمُحَصِّلَةُ آرَائِهِمُ الْكَاسِدَةِ وَأَفْهَامِهِمُ الْفَاسِدَةِ وَأَذْهَانِهِمُ الْبَائِدَةِ وَلَا عَجَبَ وَلَا اسْتِغْرَابَ مِمَّنْ أَلْحَدَ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَجَحَدَ مَا صَرَّحَ بِهِ تَعَالَى فِي مُحْكَمِ آيَاتِهِ, وَرَدَّ مَا صَحَّ عَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مِنْ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَتَقْرِيرَاتِهِ, وَحَكَّمَ الْعَقْلَ فِي الشَّرْعِ وَعَارَضَ الْوَحْيَ الرَّحْمَانِيَّ بِالْحَدْسِ الشَّيْطَانِيِّ, وَقَدَّمَ الْآرَاءَ السَّقِيمَةَ عَلَى السُّنَنِ الْمُسْتَقِيمَةِ, وَآثَرَ الْأَهْوَاءَ الذَّمِيمَةَ عَلَى الْمَحَجَّةِ الْقَوِيمَةِ فَلَيْسَ بِعَجِيبٍ وَلَا غَرِيبٍ مِمَّنْ هَذَا شَأْنُهُ أَنْ يُنْكِرَ عَذَابَ الْقَبْرِ وَغَيْرَهُ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ الَّتِي لَا يُشَاهِدُهَا, وَمَا لَهُ لَا يُنْكِرُ ذَلِكَ وَهُوَ لَا يَعْرِفُ الْإِنْسَانَ إِلَّا هَذَا الْجِسْمَ الَّذِي هُوَ الْجِلْدُ وَاللَّحْمُ وَالْعَظْمُ وَالْعُرُوقُ وَالْأَعْصَابُ وَالشَّرَايِينُ وَنَحْوُهَا مِمَّا يَمْتَلِئُ بِكَثْرَةِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فيه ويخلو بقلتهما عَلَيْهِ وَمَا لَهُ لَا يُنْكِرُ ذَلِكَ وَهُوَ لَا يُقِرُّ بِمَوْجُودٍ إِلَّا مَسْمُوعًا مُتَكَلِّمًا بِهِ مُبْصِرًا مَشْمُومًا مَلْمُوسًا, وَمَا لَهُ لَا يُنْكِرُ ذَلِكَ وَطَرِيقَتُهُ فِي النُّصُوصِ أَبَدًا تَأْوِيلُ الصَّرِيحِ وَتَضْعِيفُ الصَّحِيحِ وَأَنَّهَا آحَادٌ ظَنِّيَّةٌ لَا تُفِيدُ الْيَقِينَ وَلَيْسَتْ بِأَصْلٍ بِزَعْمِهِ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ. وَلَا ذَنْبَ لِلنُّصُوصِ وَمَا نَقَمَ مِنْهَا إِلَّا أَنَّهَا خَالَفَتْ هَوَاهُ وَصَرَّحَتْ بِنَقْضِ دَعْوَاهُ وَسَدَّتْ عَلَيْهِ بَابَ مَغْزَاهُ وَأَوْجَبَتْ عَلَيْهِ نَبْذَ أَقْوَالِ شُيُوخِهِ وَهَدَمَتْ عَلَيْهِ مَا قَدْ بَنَاهُ, وَأَلْزَمَتْهُ بِاطِّرَاحِ كُلِّ قَوْلٍ غَيْرِ مَا قَالَهُ اللَّهُ أَوْ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وَنَادَتْ عَلَيْهِ بِأَبْلَغِ صَوْتٍ: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشُّورَى: 21] . وَالْجَوَابُ عَنِ الشُّبْهَةِ الْأُولَى: أَنَّ الْآيَةَ لَا تَدُلُّ عَلَى مُدَّعَاهُمْ بِوَجْهٍ, فَإِنَّهَا فِي صِفَةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَمَا لَهُمْ فِيهَا مِنْ كَمَالِ النَّعِيمِ وَالْخُلْدِ الْمُقِيمِ, وَأَنَّهُمْ لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ بَلْ يَنْعَمُونَ وَلَا يَبْأَسُونَ وَيُخَلَّدُونَ فَلَا يَمُوتُونَ, وَأَيْنَ هَذَا مِنْ نَفْيِ عَذَابِ الْقَبْرِ الَّذِي ادَّعَوْهُ, وَقَوْلُهُ: {إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} [الدُّخَانِ: 56] تَأْكِيدٌ لِنَفْيِ الْمَوْتِ عَنْهُمْ فِي الْجَنَّةِ, وَمَا الْمَانِعُ مِنْ كَوْنِ الرُّوحِ تَتَّصِلُ بِالْجَسَدِ فِي الْبَرْزَخِ اتِّصَالًا خَاصًّا لِيَتَأَلَّمَ الْجَسَدُ بِمَا يَتَأَلَّمُ بِهِ مِنْ دُونِ أَنْ تَكُونَ حَيَاتُهُ كَالْحَيَاةِ الدُّنْيَوِيَّةِ, بَلْ مَا الْمَانِعُ مِنْ كَوْنِهَا حَيَاةً مُسْتَقِرَّةً لَا تُشْبِهُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَهِيَ أَعْظَمُ مِنْهَا فَحَجَبَ اللَّهُ تَعَالَى رُؤْيَةَ ذَلِكَ عَنْ عِبَادِهِ رَحْمَةً مِنْهُ بِهِمْ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا أَخْبَرَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَحَادِيثِ الْآتِيَةِ مِنَ الْإِقْعَادِ وَالْمُخَاطَبَةِ وَالسُّؤَالِ وَالْجَوَابِ كِفَاحًا كَمَا يَشَاءُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَالْفَتْحِ لِبَابِ الْجَنَّةِ لِلْمُؤْمِنِ وَفُرُشِهِ مِنْهَا, وَفَتْحِ بَابِ النَّارِ لِلْمُرْتَابِ وَقَمْعِهِ بِالْمَطَارِقِ وَالْمَرَازِبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى بَسْطُهُ. وَأَيْضًا فَأَهْلُ الْجَنَّةِ الْمُشَارُ إِلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ
الْأُولَى} [الدُّخَانِ: 56] . وقد وَرَدَتْ فِيهِمُ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ أَنَّ أَرْوَاحَهُمْ تَسْرَحُ فِي الْجَنَّةِ فِي حَوَاصِلِ طُيُورٍ خُضْرٍ, كَمَا رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنِ الْإِمَامِ مُحَمَّدِ بْنِ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيِّ عَنِ الْإِمَامِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ عَنِ الْإِمَامِ مُحَمَّدِ بْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّمَا نَسَمَةُ الْمُؤْمِنِ طَائِرٌ يُعَلَّقُ فِي شَجَرِ الْجَنَّةِ حَتَّى يُرْجِعَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى جَسَدِهِ يَوْمَ يَبْعَثُهُ" 1، وَفِيهِمُ الشُّهَدَاءُ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ} [الْبَقَرَةِ: 154] يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَصْحَابِهِ: {وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ} فَهَلْ شَعَرْتُمْ بِذَلِكَ يَا مُعَاشِرَ الزَّنَادِقَةِ دُونَهُمْ؟ وَيَقُولُ تَعَالَى فِيهِمْ: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آلِ عِمْرَانَ: 169] الْآيَاتِ, وَذَلِكَ بِخِلَافِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَإِنَّهُمْ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} [غَافِرٍ: 11] وَالْمَوْتَةُ الثَّانِيَةُ عَلَى أَحَدِ التَّفْسِيرَيْنِ هِيَ مَوْتَتُهُمْ بَعْدَ فِتْنَةِ الْقَبْرِ, وَتَفْسِيرُ الْجُمْهُورِ لَا يُنَافِي ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ حَمَلُوا الْمَوْتَةَ الْأُولَى عَلَى الْعَدَمِ الَّذِي قَبْلَ وُجُودِهِمْ, وَالثَّانِيَةَ عَلَى الْخُرُوجِ مِنَ الدُّنْيَا وَلَمْ يَعُدُّوا نَوْمَتَهُمْ بَعْدَ الْفِتْنَةِ فِي الْقَبْرِ مَوْتَةً مُسْتَقِلَّةً؛ لِأَنَّ حَالَ الْبَرْزَخِ مِنَ الْمَوْتَةِ الثَّانِيَةِ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ دَارِ الدُّنْيَا وَلَا دَارِ الْآخِرَةِ بَلْ هُوَ حَاجِزٌ بينهما, والتفسير الأول مَحْمُولٍ عَلَى مَوْتَتَيْنِ بَعْدَ الْوُجُودِ خَلَا حَالَةِ الْعَدَمِ الْمَحْضِ قَبْلَ إِيجَادِهِمْ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِسَنَدِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: إِذَا وُضِعَ -يَعْنِي الْكَافِرَ- فِي قَبْرِهِ فَيَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ قَالَ: فَيَقُولُ: رَبِّ ارْجِعُونِ أَتُوبُ وَأَعْمَلُ صَالِحًا قَالَ: فَيُقَالُ: قَدْ عُمِّرْتَ مَا كُنْتَ مُعَمَّرًا قَالَ: فَيُضَيَّقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ وَيَلْتَئِمُ فَهُوَ كَالْمَنْهُوشِ يَنَامُ وَيَفْزَعُ تَهْوِي إِلَيْهِ هَوَامُّ الْأَرْضِ وَحَيَّاتُهَا وَعَقَارِبُهَا2.
وَعَنِ الشُّبْهَةِ الثَّانِيَةِ الْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فَاطِرٍ: 22] نَفْيٌ لِاسْتِطَاعَةِ الرَّسُولِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يُسْمِعَهُمْ, وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُحَالٍ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ أَنْ يُسْمِعَهُمْ كَمَا أَسْمَعَ أَهْلَ الْقَلِيبِ تَبْكِيتَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا" 1 الْحَدِيثَ سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَهَذَا إِذَا حُمِلَ عَلَى نَفْيِ مُطْلَقِ السَّمَاعِ بِالْكُلِّيَّةِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَمْ يَنْفِ مُطْلَقَ السَّمَاعِ وَإِنَّمَا نَفَى سَمَاعَ الِاسْتِجَابَةِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ الْقَلِيبِ: "مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ, وَلَكِنَّهُمْ لَا يُجِيبُونَ" 2 وَبِهَذَا يَتَّضِحُ تَشْبِيهُ الْكُفَّارِ بِهِمْ فَإِنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يَسْمَعُونَ كَلَامَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَسْمَعُونَ مِنْهُ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ يَتْلُوهُ عَلَيْهِمْ وَلَكِنْ لَيْسَ ذَلِكَ بِسَمَاعِ اسْتِجَابَةٍ؛ وَلِهَذَا أَثْبَتَ تَعَالَى هَذَا السَّمَاعَ الظَّاهِرَ لَهُمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا} [الْجَاثِيَةِ: 8] وَلَوْ كَانَ الْكُفَّارُ لَمْ يَسْمَعُوا مُطْلَقًا لَا سَمَاعَ اسْتِجَابَةٍ وَلَا مُطْلَقًا لَمْ يَكُنِ الْقُرْآنُ حُجَّةً عَلَيْهِ وَلَمْ يَكُنِ الرَّسُولُ بَلَّغَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ مَا سَمِعُوهُ مِنْهُ وَلَا أَفْسَدَ مِنْ قَوْلٍ هَذَا لَازِمُهُ. وَأَمَّا شُبْهَتُهُمُ الْعَقْلِيَّةُ: فَهِيَ لَا تَلِيقُ إِلَّا بِعُقُولِهِمُ السَّخِيفَةِ, فَإِنَّ الرُّوحَ الَّتِي عَلَيْهَا الْعَذَابُ أَوِ النَّعِيمُ الْمُتَّصِلُ بِالْجِسْمِ أَلَمُهُ لَيْسَ بِمُدْرَكٍ فِي الدُّنْيَا وَلَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ فَمَنْ كَانَ لَا يُدْرِكُ رُوحَ مَنْ يَمْشِي مَعَهُ وَيُكَلِّمُهُ وَيَأْتَمِنُهُ وَيُعَامِلُهُ فَكَيْفَ يُدْرِكُهُ إِذَا صَارَ من عَالَمِ الْآخِرَةِ لَيْسَ مِنْ عَالَمِ الدُّنْيَا؟ وَأَيْضًا فَاحْتِجَابُ ذَلِكَ عَنْ أَهْلِ الدُّنْيَا مِنْ حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى الْبَالِغَةِ وَرَحْمَتِهِ بِهِمْ, وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْلَا أَنْ لَا تَدَافَنُوا لَدَعَوْتُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُسْمِعَكُمْ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ الَّذِي أَسْمَعُ" 3 وَأَيْضًا فَأَكْثَرُ أُمُورِ الْإِيمَانِ اعْتِقَادَاتٌ بَاطِنَةٌ مِنَّا لِأُمُورٍ غَائِبَةٍ عَنَّا وَهِيَ أَعْلَى صِفَاتِ أَهْلِ الْإِيمَانِ {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [الْبَقَرَةِ: 3] وَذَلِكَ غَائِبٌ عَنَّا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَنَحْنُ نَعْلَمُهُ عَنِ اللَّهِ عِلْمَ الْيَقِينِ فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ هَذِهِ الدَّارِ صَارَ الْغَيْبُ شَهَادَةً
وَرَأَيْنَا ذَلِكَ عَيْنَ الْيَقِينِ: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} [يُونُسَ: 39] وَالَّذِي أُحْرِقَتْ أَعْضَاؤُهُ وَتَفَرَّقَتْ أَجْزَاؤُهُ يَجْمَعُهُ الَّذِي أَبْدَأَهُ مَنْ لَا أَجْزَاءَ وَلَا أَعْضَاءَ, وَسَيَأْتِي الْحَدِيثُ فِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَنْ كَذَّبَ بِجَمْعِ هَذَا وَبَيْنَ مَنْ كَذَّبَ بِجَمْعِ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [الْأَعْرَافِ: 39] الْآيَةَ. فَيَا أَيُّهَا الطَّالِبُ الْحَقَّ الْمُتَحَرِّي الْإِنْصَافَ, إِلَيْكَ نُصُوصَ الْآيَاتِ الْمُحْكَمَةِ وَالسُّنَنِ الْقَائِمَةِ, فَأَلْقِ لَهَا سَمْعَكَ وَأَحْضِرْ قَلْبَكَ وَانْظُرْ بِمَاذَا عَارَضَهَا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ وَكَيْفَ تَتَبَّعُوا مَا تَشَابَهَ, وَأَعْرَضُوا عَنِ الْمُحْكَمِ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ, كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ, فَرَدُّوا الْمُحْكَمَ بِالْمُتَشَابِهِ وَلَمْ يَرُدُّوا عِلْمَ مَا غَرِبَ عَنْهُمْ عِلْمُهُ إِلَى عَالِمِهِ, وَأَحْمَدُ اللَّهَ تَعَالَى إِذْ هَدَاكَ لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَوَفَّقَكَ لِمَا انْحَرَفُوا عَنْهُ مِنَ الْحَقِّ الْمُبِينِ, وَقُلْ كَمَا قَالَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آلِ عِمْرَانَ: 8] . قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} [الْأَنْعَامِ: 93] الْآيَةَ. قَالَ أَئِمَّةُ التَّفْسِيرِ: {وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ} [الْأَنْعَامِ: 93] أَيْ: إِلَيْهِمْ بِالضَّرْبِ وَالنَّكَالِ وَأَنْوَاعِ الْعَذَابِ حَتَّى تَخْرُجَ أَنْفُسُهُمْ مِنْ أَجْسَادِهِمْ؛ وَلِهَذَا يَقُولُونَ لَهُمْ: {أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ} [الْأَنْعَامِ: 93] وَذَلِكَ أَنَّ الْكَافِرَ إِذَا احْتَضَرَ بَشَرَّتْهُ الْمَلَائِكَةُ بِالْعَذَابِ وَالنَّكَالِ وَالْأَغْلَالِ وَالسَّلَاسِلِ وَالْجَحِيمِ وَالْحَمِيمِ وَغَضَبِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ, فَتُفَرَّقُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ وَتَعْصِي وَتَأْبَى الْخُرُوجَ فَتَضْرِبُهُمُ الْمَلَائِكَةُ حَتَّى تَخْرُجَ أَرْوَاحُهُمْ مِنْ أَجْسَادِهِمْ قَائِلِينَ لَهُمْ: {أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ} [الْأَنْعَامِ: 93] أَيِ: الْيَوْمِ تُهَانُونَ غَايَةَ الْإِهَانَةِ كَمَا كُنْتُمْ تَكْذِبُونَ عَلَى اللَّهِ وَتَسْتَكْبِرُونَ عَنِ اتِّبَاعِ آيَاتِهِ وَالِانْقِيَادِ لِرُسُلِهِ،
وَسَيَأْتِي فِي الْأَحَادِيثِ كَيْفِيَّةُ احْتِضَارِ الْمُؤْمِنِ, وَالْكَافِرِ قَرِيبًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّهُ إِذَا كَانَ يَفْعَلُ بِهِ هَذَا وَهُوَ مُحْتَضِرٌ بَيْنَ ظَهَرَانَيْ أَهْلِهِ صَغِيرِهِمْ وَكَبِيرِهِمْ وَذَكَرِهِمْ وَأُنْثَاهُمْ وَهُمْ لَا يَرَوْنَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَلَا يَسْمَعُونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ التَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ وَلَا يَدْرُونَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ الضَّرْبِ, غَيْرَ أَنَّهُمْ يَرَوْنَ مُجَرَّدَ احْتِضَارِهِ وَسِيَاقِ نَفْسِهِ لَا يَعْلَمُونَ بِشَيْءٍ مِمَّا يُقَاسُونَ الشَّدَائِدَ, فَلِأَنْ يُفْعَلَ بِهِ فِي قَبْرِهِ ذَلِكَ وَأَعْظَمُ مِنْهُ وَلَا يَعْلَمُهُ مَنْ كَشَفَ عَنْهُ أَوْلَى وَأَظْهَرُ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَطَّلِعُوا عَلَى مَا يَنَالُهُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ فَكَيْفَ وَقَدِ انْتَقَلَ إِلَى عَالَمٍ غَيْرِ عَالَمِهِمْ وَدَارٍ غَيْرِ دَارِهِمْ, فَلَا بُدَّ لِلْمُخَالِفِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يُقِرَّ بِمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ فِي الْمُحْتَضِرِ فَيُلْزِمُهُمْ مَا وَرَدَ فِي عَذَابِ الْقَبْرِ, أَوْ يَجْحَدُ هَذَا وَهَذَا, فَيَكْفُرُ بِتَكْذِيبِهِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ, فَبَشَّرَهُ بِتَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ إِذَا صَارَ إِلَى مَا صَارَ إِلَيْهِ الْمُكَذِّبُونَ. وَقَالَ: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إِبْرَاهِيمَ: 27] وَهَذِهِ الْآيَةُ نَصُّهَا فِي عَذَابِ الْقَبْرِ بِصَرِيحِ الْأَحَادِيثِ الْآتِيَةِ وَبِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ التَّفْسِيرِ مِنَ الصَّحَابَةِ فَالتَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ, وَإِنَّ الْمُرَادَ بِالتَّثْبِيتِ هُوَ عِنْدَ السُّؤَالِ فِي الْقَبْرِ حَقِيقَةً, وَأَنَّ مَنْ أَنْكَرَ ذَاكَ اعْتِمَادًا عَلَى كَوْنِهِ لَا يَرَاهُ وَلَا يَسْمَعُهُ فَقَدْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ. وَقَالَ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 99] . روى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِسَنَدِهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهَا قَالَتْ: وَيْلٌ لِأَهْلِ الْمَعَاصِي مِنْ أَهْلِ الْقُبُورِ, تَدْخُلُ عَلَيْهِمْ فِي قُبُورِهِمْ حَيَّاتٌ سُودٌ -أَوْ دُهْمٌ- حَيَّةٌ عِنْدَ رَأْسِهِ وَحَيَّةٌ عِنْدَ رِجْلَيْهِ, يَقْرُصَانِهِ حَتَّى يَلْتَقِيَا فِي وَسَطِهِ, فَذَلِكَ الْعَذَابُ فِي الْبَرْزَخِ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 99] 1. وَتَقَدَّمَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي ذَلِكَ قَرِيبًا, وَسَيَأْتِي الْأَحَادِيثُ فِيهِ.
وَقَالَ تَعَالَى: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} [غَافِرٍ: 11] ذَكَرَ الْعَيْنِيُّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي شَرْحِ هَذَا الْبَابِ مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَقَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ الْمَوْتَةَ مَرَّتَيْنِ, وَهُمَا لَا تَتَحَقَّقَانِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْقَبْرِ حَيَاةٌ وَمَوْتٌ, حَتَّى تَكُونَ إِحْدَى الْمَوْتَتَيْنِ مَا يَتَحَصَّلُ عَقِيبَ الْحَيَاةِ فِي الدُّنْيَا, وَالْأُخْرَى مَا يَتَحَصَّلُ عَقِيبَ الْحَيَاةِ الَّتِي في القبر ا. هـ. قُلْتُ: وَهَذَا هُوَ تَفْسِيرُ السُّدِّيِّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ, حَيْثُ قَالَ: أُمِيتُوا فِي الدُّنْيَا ثُمَّ أُحْيُوا فِي قُبُورِهِمْ فَخُوطِبُوا, ثُمَّ أُمِيتُوا فَأُحْيُوا يوم القيامة ا. هـ. وَالْآيَةُ تَحْتَمِلُهُ, لَكِنَّ الْمَشْهُورَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكِ وَقَتَادَةَ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ كَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [الْبَقَرَةِ: 28] وَقَدْ قَدَّمْنَا الْجَمْعَ بَيْنَ هَذَيْنِ التَّفْسِيرَيْنِ, وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. وَقَالَ تَعَالَى: {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ} [التَّوْبَةِ: 101] قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو مَالِكٍ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَسَعِيدٌ وَقَتَادَةُ وَابْنُ إِسْحَاقَ مَا حَاصِلُهُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ: عَذَابُ الدُّنْيَا وَعَذَابُ الْقَبْرِ ثُمَّ يَرُدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ, هُوَ عَذَابُ النَّارِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ} [السَّجْدَةِ: 21] قَالَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ وَمُجَاهِدٌ وَأَبُو عُبَيْدَةَ: يَعْنِي بِهِ عَذَابَ الْقَبْرِ. وَقَالَ تَعَالَى فِي قَوْمِ نُوحٍ: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا} [نُوحٍ: 25] وَقَالَ تَعَالَى: {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غَافِرٍ: 46] . رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: إِنَّ أَرْوَاحَ الشُّهَدَاءِ فِي أَجْوَافِ طُيُورٍ خُضْرٍ تَسْرَحُ بِهِمْ فِي الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءُوا, وَإِنَّ أَرْوَاحَ وِلْدَانِ الْمُؤْمِنِينَ فِي أَجْوَافِ عَصَافِيرَ تَسْرَحُ فِي الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ, فَتَأْوِي إِلَى قَنَادِيلَ مُعَلَّقَةٍ فِي
الْعَرْشِ, وَإِنَّ أَرْوَاحَ آلِ فِرْعَوْنَ فِي أَجْوَافِ طُيُورٍ سُودٍ تَغْدُو عَلَى جَهَنَّمَ وَتَرُوحُ عَلَيْهَا, فَذَلِكَ عَرْضُهَا1. وَفِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ الطَّوِيلِ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هَارُونَ الْعَبْدِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِيهِ: "ثُمَّ انْطَلَقَ بِي إِلَى خَلْقٍ كَثِيرٍ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ, رِجَالٍ, كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ بَطْنُهُ مِثْلُ الْبَيْتِ الضَّخْمِ, مُصَفَّدُونَ عَلَى سَابِلَةِ آلِ فِرْعَوْنَ, وَآلُ فِرْعَوْنَ يُعْرَضُونَ عَلَى النَّارِ غُدُوًّا وَعَشِيًّا {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} وَآلُ فِرْعَوْنَ كالإبل المسومة يخبطون الْحِجَارَةَ وَالشَّجَرَ وَلَا يَعْقِلُونَ"2. وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ الْيَهُودِيَّةِ الَّتِي قَالَتْ لَهَا: وَقَاكِ اللَّهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ فَأَنْكَرَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ذَلِكَ, فَلَمَّا رَأَتِ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَتْ لَهُ: فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا" قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: ثُمَّ قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَعْدَ ذَلِكَ: "وَإِنَّهُ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي قُبُورِكُمْ" 3 وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ قَرِيبًا. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: فَيُقَالُ: مَا الْجَمْعُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ كَوْنِ الْآيَةِ مَكِّيَّةً وَفِيهَا الدَّلَالَةُ عَلَى عَذَابِ الْبَرْزَخِ؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى عَرْضِ الْأَرْوَاحِ عَلَى النَّارِ غُدُوًّا وَعَشِيًّا فِي الْبَرْزَخِ, وَلَيْسَ فِيهَا دَلَالَةٌ -يَعْنِي تَامَّةً- عَلَى اتِّصَالِ تَأَلُّمِهَا بِأَجْسَادِهَا فِي الْقُبُورِ, إِذْ قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ مُخْتَصًّا بِالرُّوحِ, فَأَمَّا حُصُولُ ذَلِكَ لِلْجَسَدِ فِي الْبَرْزَخِ وَتَأَلُّمُهُ بِسَبَبِهِ فَلَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ إِلَّا السُّنَّةُ فِي الْأَحَادِيثِ الْمَرْضِيَّةِ. وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ إِنَّمَا دَلَّتْ عَلَى عَذَابِ الْكُفَّارِ فِي الْبَرْزَخِ, وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُعَذِّبَ الْمُؤْمِنُ فِي قَبْرِهِ بِذَنْبِهِ. وَهَذَا الْجَوَابُ هُوَ الرَّاجِحُ عِنْدِي لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّمَا يُفْتَنُ
نصوص السنة في إثبات عذاب القبر
يَهُودُ" 1، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ أَنَّ أُمَّتَهُ تُفْتَنُ. والجواب الأول مرجوح لِأَنَّ الْآيَاتِ أَيْضًا صَرِيحَةٌ فِي اتِّصَالِ عَذَابِ الْقَبْرِ بِالرُّوحِ وَالْجَسَدِ, وَمَا لَيْسَ صَرِيحًا مِنْهَا فَمُحْتَمَلٌ يُحْمَلُ عَلَى الصَّرِيحِ إذ لم يجئ فِي آيَةٍ تَخْصِيصُهُ بِالرُّوحِ دُونَ الْجَسَدِ وَنَفْيُهُ عَنِ الْجَسَدِ, وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} [النَّحْلِ: 29] . قال ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَهُمْ يَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ مِنْ يَوْمِ مَمَاتِهِمْ بِأَرْوَاحِهِمْ, وَيَنَالُ أَجْسَادُهُمْ فِي قُبُورِهَا مِنْ حَرِّهَا وَسَمُومِهَا, فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ سَلَكَتْ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ وَخَلَدَتْ فِي نَارِ جَهَنَّمَ2، {لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} [فَاطِرٍ: 36] . وَكَذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النَّحْلِ: 32] وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الْفَجْرِ: 28] . [نُصُوصُ السُّنَّةِ فِي إِثْبَاتِ عَذَابِ الْقَبْرِ] : "فَصْلٌ" وَأَمَّا نُصُوصُ السُّنَّةِ فِي إِثْبَاتِ عَذَابِ الْقَبْرِ فَقَدْ بَلَغَتِ الْأَحَادِيثُ فِي ذَلِكَ مَبْلَغَ التَّوَاتُرِ, إِذْ رَوَاهَا أَئِمَّةُ السُّنَّةِ وَحَمَلَةُ الْحَدِيثِ وَنُقَّادُهُ عَنِ الْجَمِّ الْغَفِيرِ وَالْجَمْعِ الْكَثِيرِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, مِنْهُمْ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَالْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ وَعَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ وَأَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ وَأَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ وَأُمُّ خَالِدٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ وَسَمُرَةُ بْنُ جُنْدَبٍ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَزَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ وَأَبُو بَكْرَةَ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَمُرَةَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَأَبُوهُ عَمْرٌو وَأُمُّ مُبَشِّرٍ وَأَبُو قَتَادَةَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو طَلْحَةَ
وَأَسْمَاءُ أَيْضًا وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَسَنَةَ وَتَمِيمٌ الدَّارِيُّ وَحُذَيْفَةُ وَأَبُو مُوسَى وَالنُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ وَعَوْفُ بْنُ مَالِكٍ: فَأَمَّا حَدِيثُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فَقَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدَّثَنَا عَيَّاشٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى حَدَّثَنَا سَعِيدٌ وَقَالَ لِي خَلِيفَةُ: حَدَّثَنَا ابْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "الْعَبْدُ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ وَتَوَلَّى وَذَهَبَ أَصْحَابُهُ حَتَّى أَنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ, أَتَاهُ مَلَكَانِ فَأَقْعَدَاهُ فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ فَيُقَالُ: انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنَ النَّارِ أَبْدَلَكَ اللَّهُ بِهِ مَقْعَدًا مِنَ الْجَنَّةِ". قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَيَرَاهُمَا جَمِيعًا. وَأَمَّا الْكَافِرُ أَوِ الْمُنَافِقُ فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي, كُنْتُ أَقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُ فَيُقَالُ: لَا دَرَيْتَ وَلَا تَلَيْتَ, ثُمَّ يُضْرَبُ بِمِطْرَقَةٍ مِنْ حَدِيدٍ ضَرْبَةً بَيْنَ أُذُنَيْهِ فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيهِ إِلَّا الثَّقَلَيْنِ" 1 وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ طُرُقٍ عَنْ قَتَادَةَ بِنَحْوِهِ, وَزَادَ فِيهِ: قَالَ قَتَادَةُ: وَذَكَرَ لَنَا أَنَّهُ يُفْسِحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ سَبْعُونَ ذِرَاعًا -يَعْنِي الْمُؤْمِنَ- وَيَمْلَأُ عَلَيْهِ خُضْرًا إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ2. وَلَهُمَا عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ" 3. وَلِمُسْلِمٍ عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "لَوْلَا أَنْ لَا تَدَافَنُوا لَدَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُسْمِعَكُمْ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ الَّذِي أَسْمَعُ" 4. وَأَمَّا حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ طَاوُسٍ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَبْرَيْنِ فَقَالَ: "إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ, وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ" ثُمَّ قَالَ: "بَلَى أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ يَسْعَى بِالنَّمِيمَةِ, وَأَمَّا الْآخَرُ فَكَانَ لَا يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ" ثُمَّ
قَالَ: أَخَذَ عُودًا رَطْبًا فَكَسَرَهُ بِاثْنَتَيْنِ, ثُمَّ غَرَزَ كُلَّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَى قَبْرٍ ثُمَّ قَالَ: "لَعَلَّهُ يُخَفِّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا" رَوَاهُ فِي مَوَاضِعَ مِنْ صَحِيحِهِ, وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا وَغَيْرُهُ1. وَلَهُمَا وَلِلنَّسَائِيِّ عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُعَلِّمُهُمْ هَذَا الدُّعَاءَ كَمَا يُعَلِّمُ السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ: "قُولُوا: اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ, وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ, وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ, وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ" 2. وَأَمَّا حَدِيثُ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ فَقَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مرثد عن سعيد بْنِ عُبَيْدَةَ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا أُقْعِدَ الْمُؤْمِنُ فِي قَبْرِهِ أُتِيَ ثُمَّ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ, فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} [إِبْرَاهِيمَ: 27] "، رَوَاهُ فِي مَوَاضِعَ وَوَافَقَهُ عَلَيْهِ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ3. وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي جِنَازَةِ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ, فَانْتَهَيْنَا إِلَى الْقَبْرِ وَلَمَّا يُلْحَدْ, فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ كَأَنَّ عَلَى رُءُوسِنَا الطَّيْرَ وَفِي يَدِهِ عُودٌ يَنْكُتُ بِهِ فِي الْأَرْضِ, فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: "اسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ -مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا, ثُمَّ قَالَ- إِنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ من الدنيا وإقبال إِلَى الْآخِرَةِ نَزَلَ إِلَيْهِ مَلَائِكَةٌ مِنَ
السَّمَاءِ بِيضُ الْوُجُوهِ كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الشَّمْسُ, مَعَهُمْ كَفَنٌ مِنْ أَكْفَانِ الْجَنَّةِ وَحَنُوطٌ مِنْ حَنُوطِ الْجَنَّةِ, حَتَّى يَجْلِسُوا مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ, ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَيَقُولَ: أيتها النفس المطمئنة اخْرُجِي إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنَ الله ورضوان -قال- فَتَخْرُجُ تَسِيلُ كَمَا تَسِيلُ الْقَطْرَةُ مِنْ فِي السِّقَاءِ فَيَأْخُذُهَا, فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ حَتَّى يَأْخُذُوهَا فَيَجْعَلُوهَا فِي ذَلِكَ الْكَفَنِ وَفِي ذَلِكَ الْحَنُوطِ, وَيَخْرُجُ مِنْهَا كَأَطْيَبِ نَفْحَةِ مِسْكٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ, فَيَصْعَدُونَ بِهَا فَلَا يَمُرُّونَ بِهَا عَلَى مَلَإٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِلَّا قَالُوا: مَا هذه الريح الطيبة؟ فَيَقُولُونَ: فُلَانُ ابن فُلَانٍ بِأَحْسَنِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانُوا يُسَمُّونَهُ بِهَا فِي الدُّنْيَا, حتى ينتهوا به إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيَسْتَفْتِحُونَ له فيفتح لَهُ, فَيُشَيِّعُهُ مِنْ كُلِّ سَمَاءٍ مُقَرِّبُوهَا إِلَى السَّمَاءِ الَّتِي تَلِيهَا حتى ينتهى بها إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ, فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: اكْتُبُوا كِتَابَ عَبْدِي فِي عِلِّيِّينَ وَأَعِيدُوهُ إِلَى الْأَرْضِ, فَإِنِّي مِنْهَا خَلَقْتُهُمْ وَفِيهَا أُعِيدُهُمْ وَمِنْهَا أُخْرِجُهُمْ تَارَةً أُخْرَى قَالَ: فَتُعَادُ رُوحُهُ فَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ فَيَقُولَانِ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: رَبِّيَ اللَّهُ فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا دِينُكَ؟ فَيَقُولُ: دِينِيَ الْإِسْلَامُ فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ فَيَقُولُ: هُوَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَيَقُولَانِ لَهُ: وَمَا عِلْمُكَ؟ فَيَقُولُ: قَرَأْتُ كتاب الله تعالى فَآمَنْتُ بِهِ وَصَدَّقْتُ. فينادي منادٍ من السَّمَاءِ أَنْ صَدَقَ عَبْدِي فَأَفْرِشُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ وَأَلْبِسُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى الْجَنَّةِ, فَيَأْتِيهِ مِنْ رَوْحِهَا وَطِيبِهَا وَيُفْسَحُ لَهُ فِي قبره مد البصر قَالَ: وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ حَسَنُ الْوَجْهِ حَسَنُ الثِّيَابِ طَيِّبُ الرِّيحِ فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُرُّكَ هَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ, فَيَقُولُ لَهُ: مَنْ أَنْتَ, فوجهك الوجه الذي يَجِيءُ بِالْخَيْرِ؟! فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ فَيَقُولُ: رَبِّ أقم الساعة رب أَقِمِ السَّاعَةَ حَتَّى أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي وَمَالِي -قَالَ- وَإِنَّ الْعَبْدَ الْكَافِرَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنَ الدنيا وإقبال إلى الْآخِرَةِ نَزَلَ إِلَيْهِ مِنَ السَّمَاءِ مَلَائِكَةٌ سُودُ الْوُجُوهِ مَعَهُمُ الْمُسُوحُ فَيَجْلِسُونَ مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ, ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَيَقُولَ: أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ اخْرُجِي إِلَى سَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَغَضَبٍ قَالَ: فَتُفَرَّقُ فِي جَسَدِهِ فَيَنْتَزِعُهَا كَمَا يُنْتَزَعُ السَّفُّودُ مِنَ الصُّوفِ الْمَبْلُولِ فَيَأْخُذُهَا, فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ حَتَّى يَجْعَلُوهَا فِي تِلْكَ الْمُسُوحِ, وَيَخْرُجُ مِنْهَا كَأَنْتَنِ
رِيحِ جِيفَةٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ, فَيَصْعَدُونَ بِهَا فَلَا يَمُرُّونَ بِهَا عَلَى مَلَإٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِلَّا قالوا: ما هذه الرُّوحُ الخبيثة؟ فَيَقُولُونَ: فُلَانُ ابن فُلَانٍ بِأَقْبَحِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانَ يُسَمَّى بِهَا فِي الدُّنْيَا, حتى ينتهى بها إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا, فَيُسْتَفْتَحُ فَلَا يُفْتَحُ لَهُ -ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الْأَعْرَافِ: 40]- فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: اكْتُبُوا كِتَابَهُ فِي سِجِّينٍ الأرض السفلى, فيطرح رُوحُهُ طَرْحًا -ثُمَّ قَرَأَ: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الْحَجِّ: 31] فَتُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ وَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ فَيَقُولَانِ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ, لَا أَدْرِي فَيَقُولَانِ: مَا دِينُكَ؟ فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ لَا أَدْرِي, فَيَقُولَانِ: مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ لَا أَدْرِي. فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ أَنْ كَذَبَ عبدي, فأفرشوه مِنَ النَّارِ وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى النَّارِ, فَيَأْتِيهِ مِنْ حَرِّهَا وَسَمُومِهَا وَيُضَيَّقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ حَتَّى تَخْتَلِفَ فِيهِ أَضْلَاعُهُ, وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ قَبِيحُ الْوَجْهِ قَبِيحُ الثِّيَابِ مُنْتِنُ الرِّيحِ فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُوءُكَ هَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ. فَيَقُولُ: مَنْ أَنْتَ, فوجهك الوجه الذي يَجِيءُ بِالشَّرِّ؟! فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الْخَبِيثُ فَيَقُولُ: رَبِّ لَا تُقِمِ السَّاعَةَ" زَادَ فِي رِوَايَةٍ فِي قِصَّةِ الْمُؤْمِنِ: "حَتَّى إِذَا خَرَجَ رُوحُهُ صَلَّى عَلَيْهِ كُلُّ مَلَكٍ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَكُلُّ مَلَكٍ فِي السَّمَاءِ, وَفُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ, وَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ بَابٍ إِلَّا وَهُمْ يَدْعُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُعْرَجَ بِرُوحِهِ مِنْ قِبَلِهِمْ" وَزَادَ فِي قِصَّةِ الْكَافِرِ: "ثُمَّ يُقَيَّضُ لَهُ أَعْمَى أَصَمُّ أَبْكَمُ فِي يَدِهِ مِرْزَبَّةٌ لَوْ ضُرِبَ بِهَا جَبَلٌ كَانَ تُرَابًا, فَيَضْرِبُهُ ضَرْبَةً فَيَصِيرُ تُرَابًا. ثُمَّ يُعِيدُهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ كَمَا كَانَ فَيَضْرِبُهُ ضَرْبَةً أُخْرَى فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا الثَّقَلَيْنِ -قَالَ الْبَرَاءُ- ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ مِنَ النَّارِ, وَيُمَهَّدُ لَهُ فِرَاشٌ مِنَ النَّارِ" وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ بِنَحْوِهِ1.
وَأَمَّا حَدِيثُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَرَوَاهُ مُسْلِمٍ مِنْ طُرُقٍ عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يُرِينَا مَصَارِعَ أَهْلِ بَدْرٍ بِالْأَمْسِ يَقُولُ: "هَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى" قَالَ فَقَالَ عُمَرُ: فَوَالَّذِي بَعَثَهُ بالحق ما أخطئوا الْحُدُودَ الَّتِي حَدَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: فَجُعِلُوا فِي بِئْرٍ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ, وَانْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى انْتَهَى إِلَيْهِمْ فَقَالَ: "يَا فُلَانُ ابن فُلَانٍ وَيَا فُلَانُ ابن فُلَانٍ, هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ حَقًّا؟ فَإِنِّي وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي اللَّهُ حَقًّا" قَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تُكَلِّمُ أَجْسَادًا لَا أَرْوَاحَ فِيهَا؟! قَالَ: "مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ, غَيْرَ أَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَرُدُّوا عَلَيَّ شَيْئًا" 1. وَلِأَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَتَعَوَّذُ مِنَ الْجُبْنِ وَالْبُخْلِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ وَفِتْنَةِ الصَّدْرِ2. وَأَمَّا حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- فَقَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: "بَابُ الْمَيِّتِ يُعْرَضُ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ" حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا مَاتَ عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ, إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ, وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَمِنْ أَهْلِ النَّارِ, فَيُقَالُ: هَذَا مَقْعَدُكَ حَتَّى يَبْعَثَكَ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" 3. وَلَهُ عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: اطَّلَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَهْلِ الْقَلِيبِ
فَقَالَ: "وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمْ رَبُّكُمْ حَقًّا"؟ فَقِيلَ لَهُ: تَدْعُو أَمْوَاتًا؟! فَقَالَ: "مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ مِنْهُمْ, وَلَكِنْ لَا يُجِيبُونَ" 1. وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: "بَابُ التَّعَوُّذِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ فِي الْكُسُوفِ" حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ يَهُودِيَّةً جَاءَتْ تَسْأَلُهَا فَقَالَتْ لَهَا: أَعَاذَكِ اللَّهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ, فَسَأَلَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُعَذَّبُ النَّاسُ فِي قُبُورِهِمْ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَائِذًا بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ -ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ الْكُسُوفِ بِطُولِهِ وَفِيهِ آخِرُهُ- ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَتَعَوَّذُوا مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ, وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ بِنَحْوِهِ2. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا: حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنِي أَبِي سَمِعْتُ الْأَشْعَثَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ يَهُودِيَّةً دَخَلَتْ عَلَيْهَا فَذَكَرَتْ عَذَابَ الْقَبْرِ, فَسَأَلَتْ عَائِشَةُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عَذَابِ الْقَبْرِ فَقَالَ: "عَذَابُ الْقَبْرِ حَقٌّ" قَالَتْ عَائِشَةُ: فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَعْدُ صَلَّى صَلَاةً إِلَّا تَعَوَّذَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ. وَوَافَقَهُ عَلَيْهِ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ3. وَقَالَ مُسْلِمٌ أَيْضًا: حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ وَحَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى, قَالَ هَارُونُ: حَدَّثَنَا -وَقَالَ حَرْمَلَةُ: أَخْبَرَنَا- ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَعِنْدِي امْرَأَةٌ مِنَ الْيَهُودِ وَهِيَ تَقُولُ: هَلْ شَعَرْتِ أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي الْقُبُورِ؟ قَالَتْ: فَارْتَاعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: "إِنَّمَا تُفْتَنُ يَهُودُ" قَالَتْ عَائِشَةُ: فَلَبِثْنَا لَيَالِيَ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هَلْ شَعَرْتِ أَنَّهُ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي الْقُبُورِ"؟ قَالَتْ عَائِشَةُ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: فَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَعْدُ يَسْتَعِيذُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ1. وَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَيْضًا: حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ كِلَاهُمَا عَنْ جَرِيرٍ قَالَ زُهَيْرٌ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: دَخَلَتْ عَلَيَّ عَجُوزَانِ مِنْ عُجُزِ يَهُودِ الْمَدِينَةِ فَقَالَتَا: إِنَّ أَهْلَ الْقُبُورِ يُعَذَّبُونَ فِي قُبُورِهِمْ قَالَتْ: فَكَذَّبْتُهُمَا وَلَمْ أَنْعَمْ أَنْ أُصَدِّقَهُمَا, فَخَرَجَتَا وَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَلْتُ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ عَجُوزَيْنِ مِنْ عُجُزِ يَهُودِ الْمَدِينَةِ دَخَلَتَا عَلَيَّ, فَزَعَمَتَا أَنَّ أَهْلَ الْقُبُورِ يُعَذَّبُونَ فِي قُبُورِهِمْ! فَقَالَ: "صَدَقَتَا, إِنَّهُمْ يُعَذَّبُونَ عَذَابًا تَسْمَعُهُ الْبَهَائِمُ" ثُمَّ قَالَتْ: فَمَا رَأَيْتُهُ بَعْدُ فِي صَلَاةٍ إِلَّا يَتَعَوَّذُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ2. وَلَهُمَا عَنْهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْكَسَلِ وَالْهَرَمِ وَالْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ وَمِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ وَمِنْ فِتْنَةِ النَّارِ وَعَذَابِ النَّارِ وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْغِنَى, وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْفَقْرِ, وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ. اللَّهُمَّ اغْسِلْ عَنِّي خَطَايَايَ بِمَاءِ الثَّلْجِ وَالْبَرَدِ, وَنَقِّ قَلْبِي مِنَ الْخَطَايَا كَمَا نَقَّيْتَ الثَّوْبَ الْأَبْيَضَ مِنَ الدَّنَسِ, وَبَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ" 3. وَلِمُسْلِمٍ عَنْهَا مِنْ حَدِيثِهَا فِي الْكُسُوفِ, وَفِيهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خُطْبَتِهِ: "وَلَقَدْ رَأَيْتُ جَهَنَّمَ يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا حِينَ رَأَيْتُمُونِي تَأَخَّرْتُ, وَرَأَيْتُ فِيهَا ابْنَ لُحَيٍّ وَهُوَ الَّذِي سَيَّبَ السَّوَائِبَ" 4. وَأَمَّا حَدِيثُ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَقَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا تَقُولُ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَطِيبًا فَذَكَرَ فِتْنَةَ الْقَبْرِ الَّتِي يُفْتَنُ فِيهَا الْمَرْءُ, فَلَمَّا ذَكَرَ ذَلِكَ ضَجَّ الْمُسْلِمُونَ ضَجَّةً1. وَلَهُمَا عَنْهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا حَدِيثُ الْكُسُوفِ بِطُولِهِ, وَفِيهِ: فَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: "مَا مِنْ شَيْءٍ كُنْتُ لَمْ أَرَهُ إِلَّا قَدْ رَأَيْتُهُ فِي مَقَامِي هَذَا حَتَّى الْجَنَّةَ وَالنَّارَ, لَقَدْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي الْقُبُورِ مِثْلَ -أَوْ قَرِيبًا مِنْ- فِتْنَةِ الدَّجَّالِ -لا أدري أيتهما قَالَتْ أَسْمَاءُ- يُؤْتَى أَحَدُكُمْ فَيُقَالُ: مَا عِلْمُكَ بِهَذَا الرَّجُلِ؟ فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ أَوِ الْمُوقِنُ -لَا أَدْرِي أَيَّ ذَلِكَ قَالَتْ أَسْمَاءُ- فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- , جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى فَأَجَبْنَا وَآمَنَّا وَاتَّبَعْنَا. فَيُقَالُ لَهُ: نَمْ صَالِحًا فَقَدْ عَلِمْنَاكَ كُنْتَ لَمُوقِنًا, وَأَمَّا الْمُنَافِقُ أَوِ الْمُرْتَابُ -لَا أَدْرِي أَيَّ ذَلِكَ قَالَتْ أَسْمَاءُ- فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي, سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْتُهُ" 2 قَوْلُهُ: لَا أَدْرِي أَيَّ ذَلِكَ ... إِلَخْ, التَّرَدُّدُ فِيهِ مِنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ الرَّاوِيَةِ عَنْ أَسْمَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ فَقَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: حدثني عون بن أَبِي جُحَيْفَةَ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ: خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ وَجَبَتِ الشَّمْسُ, فَسَمِعَ صَوْتًا فَقَالَ: "يَهُودُ تُعَذَّبُ فِي قُبُورِهَا" رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ جَمَاعَةٍ عَنْ شُعْبَةَ بِهِ3. وَأَمَّا حَدِيثُ أُمِّ خَالِدٍ, فَقَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدَّثَنَا مُعَلَّى حَدَّثَنَا
وُهَيْبٌ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ قَالَ: حَدَّثَتْنِي ابْنَةُ خَالِدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ أَنَّهَا سَمِعَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَتَعَوَّذُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ1. وَقَالَ فِي كِتَابِ الدَّعَوَاتِ: حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ بِهِ2 إِلَخْ. وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَالَ مُسْلِمٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ حَدَّثَنَا بُدَيْلٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "إِذَا خَرَجَتْ رُوحُ الْمُؤْمِنِ تَلَقَّاهَا مَلَكَانِ يُصْعِدَانِهَا" قَالَ حَمَّادٌ: فَذَكَرَ مِنْ طَيَّبِ ريحها وذكر المسك قَالَ: "وَيَقُولُ أَهْلُ السَّمَاءِ: رُوحٌ طَيِّبَةٌ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِ الْأَرْضِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكَ وَعَلَى جَسَدٍ كُنْتِ تَعْمُرِينَهُ, فَيَنْطَلِقُ بِهِ إِلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ يَقُولُ: انْطَلِقُوا بِهِ إِلَى آخِرِ الْأَجَلِ قَالَ: وَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا خَرَجَتْ رُوحُهُ" قَالَ حَمَّادٌ وَذَكَرَ مِنْ نَتْنِهَا وَذَكَرَ لَعْنًا "وَيَقُولُ أَهْلُ السَّمَاءِ: رُوحٌ خَبِيثَةٌ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِ الْأَرْضِ قَالَ: فَيُقَالُ: انْطَلِقُوا بِهِ إِلَى آخِرِ الْأَجَلِ" , قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَرَدَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَيْطَةً كَانَتْ عَلَيْهِ عَلَى أَنْفِهِ هَكَذَا"3. وَلَهُمَا عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَمِنْ عَذَابِ النَّارِ وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ" 4. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: بَابُ مَا جَاءَ فِي عَذَابِ الْقَبْرِ. حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ يَحْيَى بْنُ خَلَفٍ الْبَصْرِيُّ أَخْبَرَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا قُبِرَ الْمَيِّتُ -أَوْ قَالَ: أَحَدُكُمْ- أَتَاهُ مَلَكَانِ أَسْوَدَانِ أَزْرَقَانِ يُقَالُ لِأَحَدِهِمَا: الْمُنْكَرُ وَالْآخَرِ: النَّكِيرُ فَيَقُولَانِ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ؟ فَيَقُولُ مَا
كَانَ يَقُولُ: هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ, أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ فَيَقُولَانِ: قَدْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُولُ هَذَا. ثُمَّ يُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ سَبْعُونَ ذِرَاعًا فِي سَبْعِينَ ثُمَّ يُنَوَّرُ لَهُ فِيهِ ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: نَمْ فَيَقُولُ: أَرْجِعُ إِلَى أهلي فأخبرهم, فيقولان: نَمْ كَنَوْمَةِ الْعَرُوسِ الَّذِي لَا يُوقِظُهُ إلا أحب أهليه إِلَيْهِ, حَتَّى يَبْعَثَهُ اللَّهُ مِنْ مَضْجَعِهِ ذَلِكَ, وَإِنْ كَانَ مُنَافِقًا قَالَ: سَمِعْتُ النَّاسَ يقولون فقلت مثلهم, لَا أَدْرِي, فَيَقُولَانِ: قَدْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُولُ ذَلِكَ فَيُقَالُ لِلْأَرْضِ: الْتَئِمِي عَلَيْهِ فَتَلْتَئِمُ عَلَيْهِ, فَتَخْتَلِفُ أَضْلَاعُهُ, فَلَا يَزَالُ فِيهَا مُعَذَّبًا حَتَّى يَبْعَثَهُ اللَّهُ مِنْ مَضْجَعِهِ ذَلِكَ" 1. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ الْمَيِّتَ يَحْضُرُهُ الْمَلَائِكَةُ فَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ الصَّالِحُ قَالُوا: اخْرُجِي أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الطَّيِّبِ, اخْرُجِي حَمِيدَةً وَأَبْشِرِي بِرَوْحٍ وَرَيْحَانٍ, وَرَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانَ. قَالَ: فَلَا يَزَالُ يُقَالُ لَهَا ذَلِكَ حَتَّى تَخْرُجَ, ثُمَّ يُعْرَجُ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ فَيُسْتَفْتَحُ لَهَا فَيُقَالُ: مَنْ هَذَا؟ فَيُقَالُ: فُلَانٌ فَيَقُولُونَ: مَرْحَبًا بِالرُّوحِ الطَّيِّبَةِ كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الطَّيِّبِ, ادْخُلِي حَمِيدَةً وَأَبْشِرِي بِرَوْحٍ وَرَيْحَانٍ وَرَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانَ, قَالَ: فَلَا يَزَالُ يُقَالُ لَهَا ذَلِكَ حَتَّى يَنْتَهِيَ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ الَّتِي فِيهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ السَّوْءُ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ قَالُوا: اخْرُجِي أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الْخَبِيثِ, اخْرُجِي ذَمِيمَةً وَأَبْشِرِي بِجَحِيمٍ وَغَسَّاقٍ وَآخَرَ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٍ, فَلَا يَزَالُ يُقَالُ لَهَا ذَلِكَ حَتَّى تَخْرُجَ ثُمَّ يعرج بها إلى السَّمَاءَ فَيُسْتَفْتَحُ لَهَا فَيُقَالُ: مَنْ هَذَا؟ فَيُقَالُ: هَذَا فُلَانٌ فَيَقُولُونَ: لَا مَرْحَبًا بِالنَّفْسِ الْخَبِيثَةِ كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الْخَبِيثِ, ارْجِعِي ذَمِيمَةً فَإِنَّهُ لَا تُفْتَحُ لَكِ أَبْوَابُ السَّمَاءِ, فَيُرْسَلُ مِنَ السَّمَاءِ ثُمَّ يَصِيرُ إِلَى الْقَبْرِ 2.
وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْهَمْدَانِيُّ حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ أَخْزَمَ حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ قَتَادَةَ عَنْ قَسَامَةَ بْنِ زُهَيْرٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا قُبِضَ أَتَتْهُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ بِحَرِيرَةٍ بَيْضَاءَ فَيَقُولُونَ: اخْرُجِي إِلَى رُوحِ اللَّهِ فَتَخْرُجُ كَأَطْيَبِ رِيحِ مِسْكٍ, حَتَّى أَنَّهُ لَيُنَاوِلُهُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا يَشُمُّونَهُ حَتَّى يَأْتُوا بِهِ بَابَ السَّمَاءِ فَيُقَالُ: مَا هَذِهِ الرِّيحُ الطَّيِّبَةُ الَّتِي جَاءَتْ مِنْ قِبَلِ الْأَرْضِ؟ وَلَا يَأْتُونَ السَّمَاءَ إِلَّا قَالُوا مِثْلَ ذَلِكَ حَتَّى يَأْتُوا بِهِ أَرْوَاحَ الْمُؤْمِنِينَ, فَلَهُمْ أَشَدُّ فَرَحًا بِهِ مِنْ أَهْلِ الْغَائِبِ بِغَائِبِهِمْ. فَيَقُولُونَ: مَا فَعَلَ فُلَانٌ؟ فَيَقُولُونَ: دَعُوهُ حَتَّى يَسْتَرِيحَ فَإِنَّهُ كَانَ فِي غَمٍّ فَيَقُولُ: قَدْ مَاتَ أَمَا أَتَاكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: ذَهَبَ بِهِ إِلَى أُمِّهِ الْهَاوِيَةِ. وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيَأْتِيهِ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ بِمَسْحٍ فَيَقُولُونَ: اخْرُجِي إِلَى غَضَبِ اللَّهِ تَعَالَى فَتَخْرُجُ كَأَنْتَنِ رِيحِ جِيفَةٍ فَيَذْهَبُ بِهِ إِلَى بَابِ الْأَرْضِ" 1 زَادَ فِي رِوَايَةٍ: "وَأَمَّا الْكَافِرُ إِذَا قُبِضَتْ نَفْسُهُ وَذُهِبَ بِهَا إِلَى بَابِ الْأَرْضِ تَقُولُ خَزَنَةُ الْأَرْضِ: مَا وَجَدْنَا رِيحًا أَنْتَنَ مِنْ هَذِهِ فَيَبْلُغُ الْأَرْضَ السُّفْلَى" 2. وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إِبْرَاهِيمَ: 27]-قَالَ- ذَلِكَ إِذَا قِيلَ لَهُ فِي الْقَبْرِ: مَنْ رَبُّكَ وَمَا دِينُكَ وَمَنْ نَبِيُّكَ؟ فَيَقُولُ: رَبِّيَ اللَّهُ وَدِينِيَ الْإِسْلَامُ وَنَبِيِّي مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- , جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَآمَنْتُ بِهِ وَصَدَّقْتُ فَيُقَالُ لَهُ: صَدَقْتَ, عَلَى هَذَا عِشْتَ وَعَلَيْهِ مُتَّ وَعَلَيْهِ تُبْعَثُ" 3. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدَّثَنَا مُجَاهِدُ بْنُ مُوسَى وَالْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَا: حَدَّثَنَا يَزِيدُ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ, إِنَّ الْمَيِّتَ لَيَسْمَعُ خَفْقَ نِعَالِكُمْ حِينَ
تُوَلُّونَ عَنْهُ مُدْبِرِينَ, فَإِنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَانَتِ الصَّلَاةُ عِنْدَ رَأْسِهِ وَالزَّكَاةُ عَنْ يَمِينِهِ وَالصَّوْمُ عَنْ يَسَارِهِ وَكَانَ فِعْلُ الْخَيْرَاتِ مِنَ الصَّدَقَةِ وَالصِّلَةِ وَالْمَعْرُوفِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى النَّاسِ عِنْدَ رِجْلَيْهِ, فَيُؤْتَى مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ فَتَقُولُ الصَّلَاةُ: مَا قِبَلِي مَدْخَلٌ, فَيُؤْتَى عَنْ يَمِينِهِ فَتَقُولُ الزَّكَاةُ: مَا قِبَلِي مَدْخَلٌ, فَيُؤْتَى عَنْ يَسَارِهِ فَيَقُولُ الصِّيَامُ: مَا قِبَلِي مَدْخَلٌ, فَيُؤْتَى مِنْ رِجْلَيْهِ فَيَقُولُ فِعْلُ الْخَيْرَاتِ: مَا قِبَلِي مَدْخَلٌ فَيُقَالُ لَهُ: اجْلِسْ فَيَجْلِسُ, قَدْ مَثَلَتْ لَهُ الشَّمْسُ قَدْ دَنَتْ لِلْغُرُوبِ فَيُقَالُ: أَخْبِرْنَا عَمَّا نَسْأَلُكَ فَيَقُولُ: دَعْنِي حَتَّى أُصَلِّيَ فَيُقَالُ لَهُ: إِنَّكَ سَتَفْعَلُ فَأَخْبِرْنَا عَمَّا نَسْأَلُكَ فَيَقُولُ: وَعَمَّ تَسْأَلُونِي؟ فَيُقَالُ: أَرَأَيْتَ هَذَا الرَّجُلَ الَّذِي كَانَ فِيكُمْ مَاذَا تَقُولُ فِيهِ, وَمَا تَشْهَدُ بِهِ عَلَيْهِ؟ فَيَقُولُ: أَمُحَمَّدٌ؟ فَيُقَالُ لَهُ: نَعَمْ فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ وَأَنَّهُ جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَصَدَّقْنَاهُ, فَيُقَالُ لَهُ: عَلَى ذَلِكَ حَيِيتَ وَعَلَى ذَلِكَ مُتَّ وَعَلَيْهِ تُبْعَثُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى, ثُمَّ يُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ سَبْعُونَ ذِرَاعًا وَيُنَوَّرُ لَهُ وَيُفْتَحُ له باب إلى الْجَنَّةِ فَيُقَالُ لَهُ: انْظُرْ إِلَى مَا أَعَدَّ اللَّهُ لَكَ فِيهَا فَيَزْدَادُ غِبْطَةً وَسُرُورًا, ثُمَّ تُجْعَلُ نَسَمَتُهُ فِي النَّسَمِ الطَّيِّبِ وَهِيَ طَيْرٌ خُضْرٌ يَعْلُقُ بِشَجَرِ الْجَنَّةِ, وَيُعَادُ الْجَسَدُ إلى ما بدأ مِنَ التُّرَابِ, وَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إِبْرَاهِيمَ: 27] " وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ الْمُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو, وَذَكَرَ جَوَابَ الْكَافِرِ وَعَذَابَهُ1. وَقَالَ الْبَزَّارُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ بَحْرٍ الْقَرَاطِيسِيُّ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ الْقَاسِمِ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ كَيْسَانَ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -أَحْسَبُهُ رَفَعَهُ- قَالَ: "إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَنْزِلُ بِهِ الْمَوْتُ وَيُعَايِنُ مَا يُعَايِنُ فَيَوَدُّ لَوْ خَرَجَتْ -يَعْنِي نَفْسَهُ- وَاللَّهُ يُحِبُّ لِقَاءَهُ, وَإِنَّ الْمُؤْمِنَ يَصْعَدُ بِرُوحِهِ إِلَى السَّمَاءِ فَتَأْتِيهِ أَرْوَاحُ الْمُؤْمِنِينَ فَتَسْتَخْبِرُهُ عَنْ مَعَارِفِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ, فَإِذَا قَالَ: تَرَكْتُ فُلَانًا فِي الْأَرْضِ أَعْجَبَهُمْ
ذَلِكَ, وَإِذَا قَالَ: إِنَّ فُلَانًا قَدْ مَاتَ قَالُوا: مَا جِيءَ بِهِ إِلَيْنَا! وَإِنَّ الْمُؤْمِنَ يَجْلِسُ فِي قَبْرِهِ فَيُسْأَلُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: رَبِّيَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ, وَيُسْأَلُ: مَنْ نَبِيُّكَ؟ فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَبِيِّي فَيُقَالُ: مَاذَا دِينُكَ؟ قَالَ: دِينِيَ الْإِسْلَامُ, فَيُفْتَحُ لَهُ بَابٌ فِي قَبْرِهِ فَيَقُولُ أَوْ يُقَالُ: انْظُرْ إِلَى مَجْلِسِكَ ثُمَّ يَرَى الْقَبْرَ فَكَأَنَّمَا كَانَتْ رَقْدَةً. وَإِذَا كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ نَزَلَ بِهِ الْمَوْتُ وَعَايَنَ مَا عَايَنَ فَإِنَّهُ لَا يُحِبُّ أَنْ تَخْرُجَ رُوحُهُ أَبَدًا وَاللَّهُ يُبْغِضُ لِقَاءَهُ, فَإِذَا جَلَسَ فِي قبره أو أُجلس فَيُقَالُ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي فَيُقَالُ: لَا دَرَيْتَ, فَيُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إِلَى جَهَنَّمَ ثُمَّ يُضْرَبُ ضَرْبَةً تَسْمَعُهَا كُلُّ دَابَّةٍ إِلَّا الثَّقَلَيْنِ, ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: نَمْ كَمَا يَنَامُ الْمَنْهُوشُ" قُلْتُ لِأَبِي هُرَيْرَةَ: مَا الْمَنْهُوشُ؟ قَالَ: الَّذِي تَنْهَشُهُ الدَّوَابُّ وَالْحَيَّاتُ ثُمَّ يُضَيَّقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ ثُمَّ قَالَ: لَا نَعْلَمُ رَوَاهُ إِلَّا الْوَلِيدَ بْنَ مُسْلِمٍ, وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ ابْنَ قَاسِمٍ1. وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ وَسَلْمَانَ فَقَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الْأَسْوَدِ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ سَمِعْتُ أَبِي حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عن عقبة بن عَبْدِ الْغَافِرِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ ذَكَرَ رَجُلًا فيمن سلف وفيمن كَانَ قَبْلَكُمْ قَالَ كَلِمَةً يَعْنِي: أَعْطَاهُ اللَّهُ مَالًا وَوَلَدًا, فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قَالَ لِبَنِيهِ: أَيَّ أَبٍ كُنْتُ لَكُمْ؟ قَالُوا: خَيْرَ أَبٍ قَالَ: فَإِنَّهُ لَمْ يَبْتَئِرْ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرًا وَإِنْ يَقْدِرِ اللَّهُ عَلَيْهِ يُعَذِّبْهُ, فَانْظُرُوا إِذَا مُتُّ فَأَحْرِقُونِي حَتَّى إِذَا صِرْتُ فَحَمَا فَاسْحَقُونِي -أَوْ قَالَ: فَاسْحَكُونِي- فَإِذَا كَانَ يَوْمُ رِيحٍ عَاصِفٍ فَاذْرُونِي فِيهَا فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَأَخَذَ مَوَاثِيقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَرَبِّي, فَفَعَلُوا ثُمَّ أَذَرَوْهُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: كُنْ فَإِذَا هُوَ رَجُلٌ قَائِمٌ قَالَ اللَّهُ: أَيْ عَبْدِي, مَا حَمَلَكَ عَلَى أَنْ فَعَلْتَ مَا فَعَلْتَ؟ قَالَ: مَخَافَتُكَ أَوْ فَرَقٌ مِنْكَ قَالَ: فَمَا تَلَافَاهُ أَنْ رَحِمَهُ عِنْدَهَا" وَقَالَ مَرَّةً أُخْرَى: "فَمَا تلافاه" فحدثت به أَبَا عُثْمَانَ فَقَالَ: سَمِعْتُ هَذَا مِنْ سَلْمَانَ غَيْرَ أَنَّهُ زَادَ
فِيهِ: "اذْرُونِي فِي الْبَحْرِ" 1 أَوْ كَمَا حَدَّثَ. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: "فَفَعَلُوا فَجَمَعَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَ: مَا حَمَلَكَ؟ قَالَ: مَخَافَتُكَ فَتَلَقَّاهُ بِرَحْمَةٍ" 2. وَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: بَابُ كَلَامِ الْمَيِّتِ عَلَى الْجِنَازَةِ, حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا وُضِعَتِ الْجِنَازَةُ فَاحْتَمَلَهَا الرِّجَالُ عَلَى أَعْنَاقِهِمْ فَإِنْ كَانَتْ صَالِحَةً قَالَتْ: قَدِّمُونِي قَدِّمُونِي, وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ صَالِحَةٍ قَالَتْ: يَا وَيْلَهَا, أَيْنَ يَذْهَبُونَ بِهَا؟ يَسْمَعُ صَوْتَهَا كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا الْإِنْسَانَ, وَلَوْ سَمِعَهَا الْإِنْسَانُ لَصُعِقَ" 3. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ رَاشِدٍ عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: شَهِدْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِنَازَةً, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ تُبْتَلَى فِي قُبُورِهَا, فَإِذَا الْإِنْسَانُ دُفِنَ وَتَفَرَّقَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ جَاءَهُ مَلَكٌ فِي يَدِهِ مِطْرَاقٌ مِنْ حَدِيدٍ فَأَقْعَدَهُ فَقَالَ: مَا تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ؟ فَإِنْ كَانَ مُؤْمِنًا قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ, فَيَقُولُ لَهُ: صَدَقْتَ ثُمَّ يَفْتَحُ له باب إلى النَّارِ فَيَقُولُ: كَانَ هَذَا مَنْزِلَكَ لَوْ كَفَرْتَ بربك, فأما إذ آمَنْتَ فَهَذَا مَنْزِلُكَ, فَيَفْتَحُ لَهُ بَابًا إِلَى الْجَنَّةِ, فَيُرِيدُ أَنْ يَنْهَضَ إِلَيْهِ فَيَقُولُ لَهُ: اسْكُنِ اسْكُنْ وَيُفْسِحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ. وَإِنْ كَانَ كَافِرًا أَوْ مُنَافِقًا يَقُولُ لَهُ: مَا تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ؟ فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَيَقُولُ: لَا دَرَيْتَ وَلَا تَلَيْتَ وَلَا اهْتَدَيْتَ. ثُمَّ يَفْتَحُ لَهُ بَابًا إِلَى الْجَنَّةِ فَيَقُولُ: هَذَا مَنْزِلُكَ لَوْ كُنْتَ آمَنْتَ بربك, فأما إذ كَفَرْتَ بِهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَبْدَلَكَ بِهِ هَذَا, فَيَفْتَحُ لَهُ بَابًا إِلَى النَّارِ ثُمَّ يَقْمَعُهُ قَمْعَةً بِالْمِطْرَاقِ, فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا
خَلْقُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كُلُّهُمْ غَيْرَ الثَّقَلَيْنِ. فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَحَدٌ يَقُومُ عَلَيْهِ مَلَكٌ فِي يَدِهِ مِطْرَاقٌ إِلَّا هِيلَ عِنْدَ ذَلِكَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} " 1. وَلِابْنِ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} فِي الْقَبْرِ" 2. وَأَمَّا حَدِيثُ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ حَدَّثَنَا أَبُو رَجَاءٍ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا صَلَّى صَلَاةً أَقْبَلُ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ فَقَالَ: "مَنْ رَأَى مِنْكُمُ اللَّيْلَةَ رُؤْيَا"؟ قَالَ: فَإِنْ رَأَى أَحَدٌ قَصَّهَا فَيَقُولُ: "مَا شَاءَ اللَّهُ" فَسَأَلَنَا يَوْمًا فَقَالَ: "هَلْ رَأَى أَحَدٌ مِنْكُمْ رُؤْيَا"؟ قُلْنَا: لَا قَالَ: "لَكِنِّي رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيَانِي فَأَخْرَجَانِي إِلَى الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ, فَإِذَا رَجُلٌ جَالِسٌ وَرَجُلٌ قَائِمٌ بِيَدِهِ -قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنْ مُوسَى- كَلُّوبٌ مِنْ حَدِيدٍ يُدْخِلُهُ فِي شِدْقِهِ حَتَّى يَبْلُغَ قَفَاهُ, ثُمَّ يَفْعَلُ بِشِدْقِهِ الْآخَرِ مِثْلَ ذَلِكَ وَيَلْتَئِمُ شِدْقُهُ هَذَا, فَيَعُودُ فَيَصْنَعُ مِثْلَهُ, قُلْتُ: مَا هَذَا؟ قَالَا: انْطَلِقْ فَانْطَلَقْنَا حَتَّى آتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مُضْطَجِعٍ عَلَى قَفَاهُ وَرَجُلٍ قَائِمٍ عَلَى رَأْسِهِ بِفِهْرٍ -أَوْ صَخْرَةٍ- فَيَشْرَخُ بِهِ رَأْسَهُ, فَإِذَا ضَرَبَهُ تَدَهْدَهَ الْحَجَرُ, فَانْطَلَقَ إِلَيْهِ لِيَأْخُذَهُ فَلَا يَرْجِعُ إِلَى هَذَا حَتَّى يَلْتَئِمَ رَأْسُهُ, وَعَادَ رَأْسُهُ كَمَا هُوَ فَعَادَ إِلَيْهِ قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قالا: انطلق, فانطلقنا إِلَى ثَقْبٍ مِثْلِ التَّنُّورِ أَعْلَاهُ ضَيِّقٌ وَأَسْفَلَهُ وَاسِعٌ يَتَوَقَّدُ تَحْتَهُ نَارًا, فَإِذَا اقْتَرَبَ ارْتَفَعُوا حَتَّى كَادَ أَنْ يَخْرُجُوا فَإِذَا خَمَدَتْ رَجَعُوا فِيهَا, وَفِيهَا رِجَالٌ وَنِسَاءٌ عُرَاةٌ فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَا: انْطَلِقْ فَانْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى نَهْرٍ مِنْ دَمٍ فِيهِ رَجُلٌ قَائِمٌ عَلَى وَسَطِ النَّهْرِ وَرَجُلٌ بَيْنَ يَدَيْهِ حِجَارَةٌ, فَأَقْبَلَ الرَّجُلُ الَّذِي فِي النَّهْرِ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ رَمَى الرَّجُلُ بِحَجَرٍ فِي فِيهِ فَرَدَّهُ
حَيْثُ كَانَ فَجَعَلَ كُلَّمَا جَاءَ لِيَخْرُجَ رَمَى فِي فِيهِ بِحَجَرٍ فَيَرْجِعُ كَمَا كَانَ, فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ قَالَا: انْطَلِقْ فَانْطَلَقْنَا حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى رَوْضَةٍ خَضْرَاءَ فِيهَا شَجَرَةٌ عَظِيمَةٌ وَفِي أَصْلِهَا شَيْخٌ وَصِبْيَانٌ وَإِذَا رَجُلٌ قَرِيبٌ مِنَ الشَّجَرَةِ بَيْنَ يَدَيْهِ نَارٌ يُوقِدُهَا فَصَعِدَا بِي فِي الشَّجَرَةِ وَأَدْخَلَانِي دَارًا لَمْ أَرَ قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهَا, فِيهَا رِجَالٌ شُيُوخٌ وَشَبَابٌ وَنِسَاءٌ وَصِبْيَانٌ ثُمَّ أَخْرَجَانِي مِنْهَا فَصَعِدَا بِي إِلَى الشَّجَرَةِ فَأَدْخَلَانِي دَارًا هِيَ أَحْسَنُ وَأَفْضَلُ فِيهَا شُيُوخٌ وَشُبَّانٌ قُلْتُ: طَوَّفْتُمَانِي اللَّيْلَةَ فَأَخْبِرَانِي عَمَّا رَأَيْتُ قَالَا: نَعَمْ, أَمَّا الَّذِي رَأَيْتَهُ يُشَقُّ شِدْقُهُ فَكَذَّابٌ يُحَدِّثُ بِالْكَذْبَةِ تُحْمَلُ عَنْهُ حَتَّى تَبْلُغَ الْآفَاقَ, فَيُصْنَعُ بِهِ مَا رَأَيْتَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ, وَالَّذِي رَأَيْتَهُ يُشْرَخُ رَأْسُهُ فَرَجُلٌ عَلَّمَهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَنَامَ عَنْهُ بِاللَّيْلِ وَلَمْ يَعْمَلْ فِيهِ بِالنَّهَارِ يُفْعَلُ بِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ, وَالَّذِي رَأَيْتَهُ فِي الثَّقْبِ فَهُمُ الزُّنَاةُ. وَالَّذِي رَأَيْتَهُ في النهر آكلو الرِّبَا, وَالشَّيْخُ فِي أَصْلِ الشَّجَرَةِ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ, وَالصِّبْيَانُ حَوْلَهُ فَأَوْلَادُ النَّاسِ, وَالَّذِي يُوقِدُ النَّارَ مَالِكٌ خَازِنُ النَّارِ, وَالدَّارُ الْأُولَى الَّتِي دَخَلْتَ دَارُ عَامَّةِ الْمُؤْمِنِينَ, وَأَمَّا هَذِهِ الدَّارُ فَدَارُ الشُّهَدَاءِ وَأَنَا جِبْرِيلُ وَهَذَا مِيكَائِيلُ فَارْفَعْ رَأْسَكَ, فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا فَوْقِي مِثْلُ السَّحَابِ قَالَا: ذَاكَ منزلك قلت: دعياني أَدْخُلْ مَنْزِلِي قَالُوا: إِنَّهُ بَقِيَ لَكَ عُمْرٌ لَمْ تَسْتَكْمِلْهُ, فَلَوِ اسْتَكْمَلْتَ أَتَيْتَ مَنْزِلَكَ" 1. وَأَمَّا حَدِيثُ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى الرَّازِيُّ حَدَّثَنَا هِشَامٌ هُوَ ابْنُ يُوسُفَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُجَيْرٍ عَنْ هَانِئٍ مَوْلَى عُثْمَانَ عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا فَرَغَ مِنْ دَفْنِ الرَّجُلِ وَقَفَ عَلَيْهِ وَقَالَ: "اسْتَغْفِرُوا لِأَخِيكُمْ وَاسْأَلُوا لَهُ التَّثْبِيتَ, فَإِنَّهُ الْآنَ يُسْأَلُ" 2 قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ.
وَأَمَّا حَدِيثُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ التِّرْمِذِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ الْمُؤَدِّبُ أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ ثَابِتٍ حَدَّثَنِي قَيْسُ بْنُ الرَّبِيعِ وَكَانَ مِنْ بَنِي أَسَدٍ عَنِ الْأَغَرِّ بْنِ الصَّبَاحِ عَنْ خَلِيفَةَ بْنِ حُصَيْنٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: أَكْثَرُ مَا دَعَا بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ فِي الْمَوْقِفِ: "اللَّهُمَّ لَكَ الحمد كالذي تقول وَخَيْرًا مِمَّا نَقُولُ. اللَّهُمَّ لَكَ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي, وَإِلَيْكَ مَآبِي وَلَكَ رَبِّ تُرَاثِي. اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَوَسْوَسَةِ الصَّدْرِ وَشَتَاتِ الْأَمْرِ. اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا تَجِيءُ بِهِ الرِّيحُ" 1. وَأَمَّا حَدِيثُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ فَقَالَ مُسْلِمٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ جَمِيعًا عَنِ ابْنِ عُلَيَّةَ قَالَ ابْنُ أَيُّوبَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ قَالَ: وَأَخْبَرَنِي سَعِيدٌ الْجُرَيْرِيُّ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: وَلَمْ أَشْهَدْهُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَائِطٍ لِبَنِي النَّجَّارِ عَلَى بَغْلَةٍ لَهُ وَنَحْنُ مَعَهُ إِذْ حَادَتْ بِهِ فَكَادَتْ تُلْقِيهِ, وَإِذَا أَقْبَرَ سِتَّةً أَوْ خَمْسَةً أَوْ أَرْبَعَةً قَالَ: كَذَا كَانَ يَقُولُ الْجُرَيْرِيُّ فَقَالَ: "مَنْ يَعْرِفُ أَصْحَابَ هَذِهِ الْأَقْبُرِ"؟ فَقَالَ رَجُلٌ: أَنَا قَالَ: "فَمَتَى مَاتَ هَؤُلَاءِ "؟ قَالَ: مَاتُوا فِي الْإِشْرَاكِ فَقَالَ: "إِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ تُبْتَلَى فِي قُبُورِهَا, فَلَوْلَا أَنْ لَا تَدَافَنُوا لَدَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُسْمِعَكُمْ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ الَّذِي أَسْمَعُ مِنْهُ" ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ فَقَالَ: "تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ" قَالُوا: نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ فَقَالَ: "تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ" قَالُوا: نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ قَالَ: "تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنَ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ" قَالُوا: نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ قَالَ: "تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ" قَالُوا: نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ2.
وَأَمَّا حَدِيثُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ, أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَأَلَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ فَتَّانِي الْقَبْرِ فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ تُبْتَلَى فِي قُبُورِهَا, فَإِذَا أُدْخِلَ الْمُؤْمِنُ قَبَرَهُ وَتَوَلَّى عَنْهُ أَصْحَابُهُ, جَاءَ مَلَكٌ شَدِيدُ الِانْتِهَارِ فَيَقُولُ لَهُ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ؟ فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيَقُولُ: إِنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ وَعَبْدُهُ فَيَقُولُ لَهُ الْمَلَكُ: انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ الَّذِي كَانَ لَكَ فِي النَّارِ قَدْ أَنْجَاكَ اللَّهُ مِنْهُ وَأَبْدَلَكَ بِمَقْعَدِكَ الَّذِي تَرَى مِنَ النَّارِ مَقْعَدَكَ الَّذِي تَرَى مِنَ الْجَنَّةِ. فَيَرَاهُمَا كِلَيْهِمَا, فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ: دَعُونِي أُبَشِّرْ أَهْلِي فَيُقَالُ لَهُ: اسْكُنْ. وَأَمَّا الْمُنَافِقُ فَيَقْعُدُ إِذَا تَوَلَّى عَنْهُ أَهْلُهُ فَيُقَالُ لَهُ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ؟ فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي أَقُولُ كَمَا يَقُولُ النَّاسُ فَيُقَالُ لَهُ: لَا دَرَيْتَ هَذَا مَقْعَدُكَ الَّذِي كَانَ لَكَ فِي الْجَنَّةِ أَبْدَلَكَ مَكَانَهُ مَقْعَدَكَ مِنَ النَّارِ". قَالَ جَابِرٌ: فَسَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "يُبْعَثُ كُلُّ عَبْدٍ فِي الْقَبْرِ عَلَى مَا مَاتَ, الْمُؤْمِنُ عَلَى إِيمَانِهِ وَالْمُنَافِقُ عَلَى نِفَاقِهِ" 1. وَلِمُسْلِمٍ عَنْهُ مِنْ حَدِيثِ الْكُسُوفِ وَفِيهِ: "وَعُرِضَتْ عَلَيَّ النَّارُ فَرَأَيْتُ فِيهَا امْرَأَةً مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ تُعَذَّبُ فِي هِرَّةٍ لَهَا, رَبَطَتْهَا فَلَمْ تُطْعِمْهَا وَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ, وَرَأَيْتُ أَبَا ثُمَامَةَ عَمْرَو بْنَ مَالِكٍ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ" وَفِي رِوَايَةٍ: "لَقَدْ جِيءَ بِالنَّارِ وَذَلِكَ حِينَ رَأَيْتُمُونِي تَأَخَّرْتُ مخافة أن يصيبني مِنْ لَفَحِهَا, وَحَتَّى رَأَيْتُ فِيهَا صَاحِبَ الْمِحْجَنِ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ كَانَ يَسْرِقُ الْحَاجَّ بِمِحْجَنِهِ, فَإِنْ فَطِنَ لَهُ قَالَ: إِنَّمَا تَعَلَّقَ بِمِحْجَنِي وَإِنْ غَفَلَ عَنْهُ ذَهَبَ بِهِ. وَحَتَّى رَأَيْتُ فِيهَا صَاحِبَةَ الْهِرَّةِ الَّتِي رَبَطْتُهَا فَلَمْ تُطْعِمْهَا وَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ حَتَّى مَاتَتْ جُوعًا" 2 الْحَدِيثَ.
وَأَمَّا حَدِيثُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ, فَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُنَا هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ كَمَا تُعَلَّمُ الْكِتَابَةُ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْبُخْلِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُبْنِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ أُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْقَبْرِ" 1. وَأَمَّا حَدِيثُ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ فَقَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدُ بْنُ نُمَيْرٍ وَاللَّفْظُ لِابْنِ نُمَيْرٍ قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا -وَقَالَ الْآخَرَانِ: حَدَّثَنَا- أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ وَعَنْ أَبِي عُثْمَانَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَا أَقُولُ لَكُمْ إِلَّا كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ, كَانَ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَالْجُبْنِ وَالْبُخْلِ وَالْهَرَمِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ. اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلَاهَا. اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ وَمَنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ وَمِنْ دَعْوَةٍ لَا يُسْتَجَابُ لَهَا" رَوَاهُ النَّسَائِيُّ2. وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي بَكْرَةَ فَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي أَثَرِ الصَّلَاةِ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْكُفْرِ وَالْفَقْرِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ" 3. وَأَمَّا حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ فِي كِتَابِهِ "نَوَادِرُ الْأُصُولِ": حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ أَبِي فُدَيْكٍ عَنْ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ وَنَحْنُ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ فَقَالَ: "إِنِّي رَأَيْتُ الْبَارِحَةَ عَجِيبًا, رَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي جَاءَ مَلَكُ الْمَوْتِ لِيَقْبِضَ رُوحَهُ فَجَاءَ بَرُّهُ بِوَالِدَيْهِ فَرَدَّ عَنْهُ, وَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي قَدْ بُسِطَ عَلَيْهِ عَذَابُ القبر فجاءه وضوءه فَاسْتَنْقَذَهُ مِنْ ذَلِكَ, وَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي قَدِ احْتَوَشَتْهُ الشَّيَاطِينُ فَجَاءَهُ ذِكْرُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَخَلَّصَهُ مِنْ بَيْنِهِمْ وَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي قَدِ احْتَوَشَتْهُ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ فَجَاءَتْهُ صَلَاتُهُ فَاسْتَنْقَذَتْهُ مِنْ أَيْدِيهِمْ, وَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي يَلْتَهِبُ عَطَشًا كُلَّمَا وَرَدَ حَوْضًا مُنِعَ مِنْهُ, فَجَاءَهُ صِيَامُهُ فَسَقَاهُ وَأَرْوَاهُ, وَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ ظُلْمَةٌ وَمَنْ خَلْفِهِ ظُلْمَةٌ وَعَنْ يَمِينِهِ ظُلْمَةٌ وَعَنْ شِمَالِهِ ظُلْمَةٌ وَمِنْ فَوْقِهِ ظُلْمَةٌ وَمِنْ تَحْتِهِ ظُلْمَةٌ وَهُوَ مُتَحَيِّرٌ فِيهَا, فَجَاءَتْهُ حِجَّتُهُ وَعُمْرَتُهُ فَاسْتَخْرَجَاهُ مِنَ الظُّلْمَةِ وَأَدْخَلَاهُ النُّورَ, وَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي يُكَلِّمُ الْمُؤْمِنِينَ فَلَا يُكَلِّمُونَهُ فَجَاءَتْهُ صِلَةُ الرَّحِمِ فَقَالَتْ: يَا مَعْشَرَ الْمُؤْمِنِينَ كَلِّمُوهُ فَكَلَّمُوهُ, وَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي يَتَّقِي وَهَجَ النَّارِ وَشَرَرَهَا بِيَدِهِ عَنْ وَجْهِهِ فَجَاءَتْهُ صَدَقَتُهُ فَصَارَتْ لَهُ سِتْرًا عَلَى وَجْهِهِ وَظِلًّا عَلَى رَأْسِهِ, وَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي أَخَذَتْهُ الزَّبَانِيَةُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَجَاءَهُ أَمْرُهُ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيُهُ عَنِ الْمُنْكَرِ فَاسْتَنْقَذَاهُ مِنْ أَيْدِيهِمْ وَأَدْخَلَاهُ مَعَ مَلَائِكَةِ الرَّحْمَةِ, وَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي جَاثِيًا عَلَى رُكْبَتَيْهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ فَجَاءَهُ حُسْنُ خُلُقِهِ فَأَخَذَ بِيَدِهِ فَأَدْخَلَهُ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ, وَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي قَدْ هَوَتْ صَحِيفَتُهُ مِنْ قِبَلِ شِمَالِهِ فَجَاءَهُ خَوْفُهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فَأَخَذَ صَحِيفَتَهُ فَجَعَلَهَا فِي يَمِينِهِ وَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي قَدْ خف ميزانه فجاءته أَفْرَاطُهُ فَثَقَلُوا مِيزَانَهُ, وَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي قَائِمًا عَلَى شَفِيرِ جَهَنَّمَ فَجَاءَهُ وَجَلُهُ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَنْقَذَهُ مِنْ ذَلِكَ وَمَضَى, وَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي هَوَى فِي النَّارِ فَجَاءَتْهُ دُمُوعُهُ الَّتِي بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا فَاسْتَخْرَجَتْهُ مِنَ النَّارِ وَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي قَائِمًا عَلَى الصِّرَاطِ كَمَا تَرْعَدُ السَّعَفَةُ فَجَاءَ حُسْنُ ظَنِّهِ بِاللَّهِ فَسَكَنَ رِعْدَتُهُ وَمَضَى, وَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي عَلَى الصِّرَاطِ يَزْحَفُ أَحْيَانًا وَيَحْبُو أَحْيَانًا فَجَاءَتْهُ صَلَاتُهُ فَأَخَذَتْ بِيَدِهِ فَأَقَامَتْهُ وَمَضَى عَلَى الصِّرَاطِ, وَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي انْتَهَى إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ فَغُلِّقَتِ الْأَبْوَابُ دُونَهُ فَجَاءَتْهُ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَفَتَحَتْ لَهُ الْأَبْوَابُ وَأَدْخَلَتْهُ
الْجَنَّةَ" 1. وَرَوَاهُ الْقُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَذْكِرَتِهِ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ عَظِيمٌ, ذَكَرَ فِيهِ أَعْمَالًا خَاصَّةً تُنْجِي مِنْ أَهْوَالٍ خَاصَّةٍ. وَأَمَّا حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْكَسَلِ وَالْهَرَمِ وَالْمَغْرَمِ وَالْمَأْثَمِ, وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ, وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ, وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ النَّارِ" 2. وَلِلْحَكِيمِ التِّرْمِذِيِّ عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ فَتَّانِي الْقَبْرِ, فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَتُرَدُّ لَنَا عُقُولُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "نَعَمْ كَهَيْئَتِكُمُ الْيَوْمَ" فَقَالَ عُمَرُ: فِي فِيهِ الْحَجَرُ3. وَرَوَى الْبَغَوِيُّ عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ: "إِذَا تُوُفِّيَ الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ أَرْسَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَلَكَيْنِ وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ بِتُحْفَةٍ مِنَ الْجَنَّةِ فَيُقَالُ لَهَا: اخْرُجِي يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ اخْرُجِي إِلَى رَوْحٍ وَرَيْحَانٍ وَرَبٍّ عَنْكِ رَاضٍ, فَتَخْرُجُ كَأَطْيَبِ رِيحِ مِسْكٍ وَجَدَهُ أَحَدٌ فِي أَنْفِهِ, وَالْمَلَائِكَةُ عَلَى أَرْجَاءِ السَّمَاءِ يَقُولُونَ: قَدْ جَاءَ مِنَ الْأَرْضِ رُوحٌ طَيِّبَةٌ -أَوْ نَسَمَةٌ طَيِّبَةٌ- فَلَا تَمُرُّ بِبَابٍ إِلَّا فُتِحَ لَهَا وَلَا بِمَلَكٍ إِلَّا صَلَّى عَلَيْهَا, حَتَّى يُؤْتَى بِهَا الرَّحْمَنَ عَزَّ وَجَلَّ فَتَسْجُدُ, ثُمَّ قَالَ لِمِيكَائِيلَ: اذْهَبْ بِهَذِهِ فَاجْعَلْهَا مَعَ أَنْفُسِ الْمُؤْمِنِينَ, ثُمَّ يُؤْمَرُ فَيُوَسَّعُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ, سَبْعُونَ ذِرَاعًا عَرْضُهُ وَسَبْعُونَ ذِرَاعًا طُولُهُ, وينبذ له الريحان وَإِنْ كَانَ مَعَهُ شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ
كَفَاهُ نُورُهُ, وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جُعِلَ لَهُ نُورٌ مِثْلُ الشَّمْسِ فِي قَبْرِهِ, وَيَكُونُ مَثَلُهُ مَثَلَ الْعَرُوسِ يَنَامُ فَلَا يُوقِظُهُ إِلَّا أَحَبُّ أَهْلِهِ إِلَيْهِ. وَإِذَا تُوُفِّيَ الْكَافِرُ أَرْسَلَ اللَّهُ إِلَيْهِ مَلَكَيْنِ وَأَرْسَلَ قطعة من بحاد أَنْتَنَ وَأَخْشَنَ مِنْ كُلِّ خَشِنٍ فَيُقَالُ: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ اخْرُجِي إِلَى جَهَنَّمَ وَعَذَابٍ أَلِيمٍ وَرَبٍّ عَلَيْكِ غَضْبَانُ" 1. وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِيهِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَرَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي قِصَّةِ وَفَاتِهِ مُطَوَّلًا, وَفِيهِ: "فَإِذَا أَنَا مُتُّ فَلَا تَصْحَبُنِي نَائِحَةٌ وَلَا نَارٌ, فَإِذَا دَفَنْتُمُونِي فَشُنُّوا عَلَيَّ التُّرَابَ شَنًّا, ثُمَّ أَقِيمُوا حَوْلَ قَبْرِي قَدْرَ مَا تُنْحَرُ جَزُورٌ وَيُقْسَمُ لَحْمُهَا, حَتَّى أَسْتَأْنِسَ بِكُمْ وَأَنْظُرَ مَاذَا أُرَاجِعُ بِهِ رُسُلَ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ"2. وَأَمَّا حَدِيثُ أُمِّ مُبَشِّرٍ فَأَخْرَجَهُ عَنْهَا ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا فِي حَائِطٍ مِنْ حَوَائِطِ بَنِي النَّجَّارِ فِيهِ قُبُورٌ مِنْهُمْ قَدْ مَاتُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَالَتْ: فَخَرَجَ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: "اسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ" قُلْتُ: يَا رَسُولِ اللَّهِ وَلِلْقَبْرِ عَذَابٌ؟ قَالَ: "إِنَّهُمْ لَيُعَذَّبُونَ عَذَابًا فِي قُبُورِهِمْ تَسْمَعُهُ الْبَهَائِمُ" 3. وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ حَكِيمٍ الْأَوْدِيُّ حَدَّثَنَا شُرَيْحُ بْنُ مَسْلَمَةَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ الْبَجَلِيِّ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إِبْرَاهِيمَ: 27] الْآيَةَ قَالَ: "إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا مَاتَ أُجْلِسَ فِي قَبْرِهِ فَيُقَالُ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَيُقَالُ لَهُ: مَنْ نَبِيُّكَ؟ فَيَقُولُ: مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُقَالُ لَهُ ذَلِكَ مَرَّاتٍ, ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إِلَى النَّارِ فَيُقَالُ لَهُ: انْظُرْ إِلَى مَنْزِلِكَ مِنَ النَّارِ لَوْ زُغْتَ, ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إِلَى الْجَنَّةِ فَيُقَالُ لَهُ: انْظُرْ إِلَى مَنْزِلِكَ
مِنَ الْجَنَّةِ إِذْ ثَبَتَّ, وَإِذَا مَاتَ الْكَافِرُ أُجْلِسَ فِي قَبْرِهِ فَيُقَالُ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ مَنْ نَبِيُّكَ؟ فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي, كُنْتُ أَسْمَعُ النَّاسَ يَقُولُونَ فَيُقَالُ لَهُ: لَا دَرَيْتَ ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إِلَى الْجَنَّةِ فَيُقَالُ: انْظُرْ إِلَى مَجْلِسِكَ مِنَ الْجَنَّةِ لَوْ ثَبَتَّ ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إِلَى النَّارِ فَيُقَالُ لَهُ: انْظُرْ إلى منزلك إذ زُغْتَ, فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إِبْرَاهِيمَ: 27] " 1. وَأَمَّا حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فَقَالَ مُسْلِمٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سُوَيْدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَمْسَى قَالَ: "أَمْسَيْنَا وَأَمْسَى الْمُلْكُ لِلَّهِ, وَالْحَمْدُ لِلَّهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ" قَالَ: أَرَاهُ قَالَ فِيهِنَّ: لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ, رَبِّ أَسْأَلُكَ خَيْرَ مَا فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ وَخَيْرَ مَا بَعْدَهَا, وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ هَذِهِ اللَّيْلَةِ وَشَرِّ مَا بَعْدَهَا, رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْكَسَلِ وَسُوءِ الْكِبَرِ, رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابٍ فِي النَّارِ وَعَذَابٍ فِي الْقُبُورِ, وَإِذَا أَصْبَحَ قَالَ ذَلِكَ أَيْضًا: "أَصْبَحْنَا وَأَصْبَحَ الْمُلْكُ لِلَّهِ" 2. حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ زَائِدَةَ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ إِلَخْ بِنَحْوِهِ وَفِيهِ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْكَسَلِ وَالْهَرَمِ وَسُوءِ الْكِبَرِ وَفِتْنَةِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْقَبْرِ" 3. وَقَالَ النَّسَائِيُّ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ: حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى عَنْ زَكَرِيَّا عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:
كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَعَوَّذُ مِنْ خَمْسٍ: مِنَ الْبُخْلِ وَالْجُبْنِ وَسُوءِ الْعُمُرِ وَفِتْنَةِ الصَّدْرِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ1. وَرَوَى الطَّحَاوِيُّ عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أُمِرَ بِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ أَنْ يُضْرَبَ فِي قَبْرِهِ مِائَةَ جَلْدَةٍ فَلَمْ يَزَلْ يَسْأَلُ اللَّهَ وَيَدْعُوهُ حَتَّى صَارَتْ وَاحِدَةً فَامْتَلَأَ عَلَيْهِ قَبْرُهُ نَارًا" 2 الْحَدِيثُ ذَكَرَهُ الْعَيْنِيُّ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّتِهِ. وَعَزَاهُ فِي التَّبْصِرَةِ إِلَى أَبِي الْقَاسِمِ الْحَرِيرِيِّ وَتَقَدَّمَ عَنْهُ قَرِيبًا حَدِيثُ أُمِّ حَبِيبَةَ, وَفِيهِ الِاسْتِعَاذَةُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ. وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي طَلْحَةَ فَقَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ سَمِعَ رَوْحَ بْنَ عُبَادَةَ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: ذَكَرَ لَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ يَوْمَ بَدْرٍ بِأَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ رَجُلًا مِنْ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ فَقُذِفُوا فِي طُوًى مِنْ أَطْوَاءِ بَدْرٍ خَبِيثٍ مُخَبَّثٍ, وَكَانَ إِذَا ظَهَرَ عَلَى قَوْمٍ أَقَامَ بِالْعَرْصَةِ ثَلَاثَ لَيَالٍ. فَلَمَّا كَانَ بِبَدْرٍ الْيَوْمَ الثَّالِثَ أَمَرَ بِرَاحِلَتِهِ فَشَدَّ عَلَيْهَا رَحْلَهَا ثُمَّ مَشَى وَاتَّبَعَهُ أَصْحَابُهُ وَقَالُوا مَا نَرَى يَنْطَلِقُ إِلَّا لِبَعْضِ حَاجَةٍ حَتَّى قَامَ عَلَى شَفَةِ الرَّكِيِّ فَجَعَلَ يُنَادِيهِمْ بِأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ: "يَا فُلَانُ ابن فُلَانٍ, يَا فُلَانُ ابن فُلَانٍ أَيَسُرُّكُمْ أَنَّكُمْ أَطَعْتُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّا قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا, فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمْ رَبُّكُمْ حَقًّا"؟ قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا تُكَلِّمُ مِنْ أَجْسَادٍ لَا أَرْوَاحَ لَهَا؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ" 3 قَالَ قَتَادَةُ: أَحْيَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى حَتَّى أَسْمَعَهُمْ قَوْلَهُ تَوْبِيخًا وَتَصْغِيرًا وَنِقْمَةً وَحَسْرَةً وَنَدَمًا. وَأَمَّا حَدِيثُ أَسْمَاءَ الْآخَرُ فَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدَّثَنَا حُجَيْنُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ الْمَاجِشُونُ عَنْ محمد بن المكندر
قَالَ: كَانَتْ أَسْمَاءُ -يَعْنِي بِنْتَ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- تُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: قَالَ: "إِذَا دَخَلَ الْإِنْسَانُ قَبْرَهُ فَإِنْ كَانَ مُؤْمِنًا أَحَفَّ بِهِ عَمَلُهُ الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ, -قَالَ: فَيَأْتِيهِ الْمَلَكُ مِنْ نَحْوِ الصَّلَاةِ فَتَرُدُّهُ وَمِنْ نَحْوِ الصِّيَامِ فَيَرُدُّهُ -قَالَ: فَيُنَادِيهِ: اجْلِسْ فَيَجْلِسُ فَيَقُولُ لَهُ: مَاذَا تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ -يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ قَالَ: مَنْ؟ قَالَ: مُحَمَّدٍ قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ قَالَ: فَيَقُولُ: عَلَى ذَلِكَ عِشْتَ وَعَلَيْهِ مُتَّ وَعَلَيْهِ تُبْعَثُ. وَإِنْ كَانَ فَاجِرًا أَوْ كَافِرًا جَاءَهُ الْمَلَكُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ شَيْءٌ يَرُدُّهُ, فَأَجْلَسَهُ فَيَقُولُ لَهُ: مَاذَا تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ؟ قَالَ: أَيُّ رَجُلٍ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ قَالَ: يَقُولُ: وَاللَّهِ مَا أَدْرِي, سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْتُهُ قَالَ لَهُ الْمَلَكُ: عَلَى ذَلِكَ عِشْتَ وَعَلَيْهِ مُتَّ وَعَلَيْهِ تُبْعَثُ. قَالَ: وَيُسَلَّطُ عَلَيْهِ دَابَّةٌ فِي قَبْرِهِ مَعَهَا سَوْطٌ ثَمَرَتُهُ جَمْرَةٌ مِثْلُ عُرْفِ الْبَعِيرِ تَضْرِبُهُ مَا شَاءَ اللَّهُ, صَمَّاءُ لَا تَسْمَعُ صَوْتَهُ فَتَرْحَمَهُ" 1 وَالْأَنْسَبُ لِمَكَانِ هَذَا الْحَدِيثِ أَنْ يُنْقَلَ عِنْدَ حَدِيثَيْ أَسْمَاءَ الْأَوَّلَيْنِ. وَأَمَّا حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَسَنَةَ فَقَالَ: أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَسَنَةَ قَالَ: انْطَلَقْتُ أَنَا وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَرَجَ وَمَعَهُ دَرَقَةٌ ثُمَّ اسْتَتَرَ بِهَا ثُمَّ بَالَ فَقُلْنَا: انْظُرُوا إِلَيْهِ يَبُولُ كَمَا تَبُولُ الْمَرْأَةُ, فَسَمِعَ ذَلِكَ فَقَالَ: "أَلَمْ تَعْلَمُوا مَا لَقِيَ صَاحِبُ بَنِي إِسْرَائِيلَ, كَانُوا إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَوْلُ قَطَعُوا مَا أَصَابَهُ الْبَوْلُ مِنْهُمْ فَنَهَاهُمْ فَعُذِّبَ فِي قَبْرِهِ" وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ2. وَأَمَّا حَدِيثُ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ فَرَوَاهُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ بِسَنَدِهِ عَنْهُ مُطَوَّلًا بِسِيَاقٍ عَجِيبٍ وَمَتْنٍ غَرِيبٍ3 وَغَالِبُ مَعْنَاهُ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ, فَلَا نُطِيلُ بِسِيَاقِهِ اسْتِغْنَاءً عَنْهُ بِغَيْرِهِ, وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَأَمَّا حَدِيثُ حُذَيْفَةَ فَقَالَ: الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ عَبْدِ الْمَلَكِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ قَالَ: قَالَ عُقْبَةُ لِحُذَيْفَةَ: أَلَا تُحَدِّثُنَا مَا سَمِعْتَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: "إِنَّ رَجُلًا حَضَرَهُ الْمَوْتُ لَمَّا يَئِسَ مِنَ الْحَيَاةِ أَوْصَى أَهْلَهُ إذا مت فاجمعوا لِي حَطَبًا كَثِيرًا ثُمَّ أَوْرُوا نَارًا حَتَّى إِذَا أَكَلَتْ لَحْمِي وَخَلَصَتْ إِلَى عَظْمِي فَخُذُوهَا فَاطْحَنُوهَا فَذَرُّونِي فِي الْيَمِّ فِي يَوْمٍ حَارٍّ أَوْ رَاحٍ فَجَمَعَهُ اللَّهُ" فَقَالَ: "لِمَ فَعَلْتَ؟ قَالَ: خَشْيَتَكَ فَغَفَرَ لَهُ" قَالَ عُقْبَةُ: وَأَنَا سَمِعْتُهُ يَقُولُ: حَدَّثَنَا مُوسَى حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلَكِ وَقَالَ: "فِي يَوْمٍ رَاحٍ" 1. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ. وَقَدْ رَوَاهَا الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا هِشَامٌ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "كَانَ رَجُلٌ يُسْرِفُ عَلَى نَفْسِهِ, فَلَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ قَالَ لِبَنِيهِ: إِذَا أَنَا مُتُّ فَأَحْرِقُونِي ثُمَّ اطْحَنُونِي ثُمَّ ذَرُّونِي فِي الرِّيحِ, فَوَاللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ عَلَيَّ رَبِّي لَيُعَذِّبُنِي عَذَابًا مَا عَذَّبَهُ أَحَدًا. فَلَمَّا مَاتَ فُعِلَ بِهِ ذَلِكَ, فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْأَرْضَ فَقَالَ: اجْمَعِي مَا فِيكِ مِنْهُ فَفَعَلَتْ فَإِذَا هُوَ قَائِمٌ فَقَالَ: مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟ فَقَالَ: يَا رَبِّ خَشْيَتُكَ حَمَلَتْنِي, فَغَفَرَ لَهُ" وَقَالَ غَيْرُهُ: "مَخَافَتُكَ يَا رَبِّ" 2، وَمَحَلُّ هَذَا الْحَدِيثِ مَعَ أَحَادِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُتَقَدِّمَةِ, فَلْيُنْقَلْ إِلَى هُنَاكَ. وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي مُوسَى فَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَهَذَا لَفْظُ أَحْمَدَ: عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْمَيِّتُ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الْحَيِّ, إِذَا قَالَتِ النَّائِحَةُ: وَاعَضُدَاهُ وَانَاصِرَاهُ وَاكَاسِبَاهُ, جُبِذَ الْمَيِّتُ وَقِيلَ: أَنْتَ عَضُدُهَا أَنْتَ نَاصِرُهَا أَنْتَ كَاسِبُهَا"؟ وَلَفْظُ التِّرْمِذِيِّ: "مَا مِنْ مَيِّتٍ يَمُوتُ
نصوص الكتاب والسنة في لقاء الله
فَيَقُومُ بَاكِيهِ فَيَقُولُ: وَاجَبَلَاهُ وَاسَنَدَاهُ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ, إِلَّا وُكِّلَ بِهِ مَلَكَانِ يَلْهَزَانِهِ: أَهَكَذَا كُنْتَ"؟ 1. وَأَمَّا حَدِيثُ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ فَرَوَاهُ الشَّيْخَانِ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "أُغْمِيَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ فَجَعَلَتْ أُخْتُهُ عَمْرَةُ تَبْكِي: وَاجَبَلَاهُ وَاكَذَا وَاكَذَا تُعَدِّدُ عَلَيْهِ, فَقَالَ: حِينَ أَفَاقَ: مَا قُلْتِ شَيْئًا إِلَّا قِيلَ لِي: آنْتَ كَذَلِكَ؟ فَلَمَّا مَاتَ لَمْ تَبْكِ عَلَيْهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ"2. وَأَمَّا حَدِيثُ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ فَقَالَ: مُسْلِمٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِيُّ أَخْبَرَنِي ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ حَبِيبِ بْنِ عُبَيْدٍ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ سَمِعَهُ يَقُولُ: سَمِعْتُ عَوْفَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى جِنَازَةٍ فَحَفِظْتُ مِنْ دُعَائِهِ وَهُوَ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ وَعَافِهِ وَاعْفُ عَنْهُ وَأَكْرِمْ نُزُلَهُ وَوَسِّعْ مُدْخَلَهُ وَاغْسِلْهُ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ وَنَقِّهِ مِنَ الْخَطَايَا كَمَا نَقَّيْتَ الثَّوْبَ الْأَبْيَضَ مِنَ الدَّنَسِ, وَأَبْدِلْهُ دَارًا خَيْرًا مِنْ دَارِهِ وَأَهْلًا خَيْرًا مِنْ أَهْلِهِ وَزَوْجًا خَيْرًا مِنْ زَوْجِهِ, وَأَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ وَأَعِذْهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَمِنْ عَذَابِ النَّارِ" 3 قَالَ: حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنْ أَكُونَ ذَلِكَ الْمَيِّتَ. وَفِي رِوَايَةٍ: "وَقِهِ فِتْنَةَ الْقَبْرِ وَعَذَابَ النَّارِ" 3. [نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي لِقَاءِ اللَّهِ] : وَبِاللِّقَا وَالْبَعْثِ وَالنُّشُورِ ... وَبِقِيَامِنَا مِنَ الْقُبُورِ غُرْلًا حُفَاةً كَجَرَادٍ مُنْتَشِرْ ... يَقُولُ ذُو الْكُفْرَانِ ذَا يَوْمٌ عَسِرْ
أَيْ: وَيَدْخُلُ فِي الْإِيمَانِ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ الْإِيمَانُ بِلِقَاءِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الْحَاصِلُ فِيهِ, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [الْبَقَرَةِ: 45] وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ} [الِانْشِقَاقِ: 6] وَقَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الْكَهْفِ: 110] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يُونُسَ: 7] وَقَالَ تَعَالَى: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا} [الْأَنْعَامِ: 31] وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ} [يُونُسَ: 15] وَقَالَ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الْعَنْكَبُوتِ: 5] وَقَالَ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ} [الْبَقَرَةِ: 223] وَقَالَ تَعَالَى: {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [الْبَقَرَةِ: 249] وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} [الْفُرْقَانِ: 32] وَقَالَ تَعَالَى: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التَّوْبَةِ: 77] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا} [النَّبَأِ: 27] وَغَيْرُهَا مِنَ الْآيَاتِ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ, وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ" فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ, فَكُلُّنَا نَكْرَهُ الْمَوْتَ؟ فَقَالَ: "لَيْسَ كَذَلِكَ وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا بُشِّرَ بِرَحْمَةِ اللَّهِ وَرِضْوَانِهِ وَجَنَّتِهِ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ فَأَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ, وَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا بُشِّرَ بِعَذَابِ اللَّهِ وَسَخَطِهِ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ وَكَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ, وَفِي رِوَايَةٍ: وَالْمَوْتَ قَبْلَ لِقَاءِ اللَّهِ" 1.
وَفِيهِ عَنْ شُرَيْحِ بْنِ هَانِئٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ, وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ" قَالَ: فَأَتَيْتُ عَائِشَةَ فَقُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَذْكُرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثًا, إِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ هَلَكْنَا. فَقَالَتْ: إِنَّ الْهَالِكَ مَنْ هَلَكَ بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ" وَلَيْسَ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَهُوَ يَكْرَهُ الْمَوْتَ فَقَالَتْ: قد قَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَ بِالَّذِي تَذْهَبُ إِلَيْهِ وَلَكِنْ إِذَا شَخَصَ الْبَصَرُ وَحَشْرَجَ الصَّدْرُ وَاقْشَعَرَّ الْجِلْدُ وَتَشَنَّجَتِ الْأَصَابِعُ فَعِنْدَ ذَلِكَ مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ, وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ1. وَفِيهِ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ2 وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ3 عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَرْفُوعُ مِنْهُ دُونَ شَرْحِهِ. وَفِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: "هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ فِي الظَّهِيرَةِ لَيْسَتْ فِي سَحَابَةٍ"؟ قَالُوا: لَا قَالَ: "فَهَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَيْسَ فِي سَحَابَةٍ"؟ قَالُوا: لَا قَالَ: "فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ رَبِّكُمْ إِلَّا كَمَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ أَحَدِهِمَا -قَالَ- فَيَلْقَى الْعَبْدَ فَيَقُولُ: أَيْ فُلْ أَلَمْ أُكْرِمْكَ وَأُسَوِّدْكَ وَأُزَوِّجْكَ وَأُسَخِّرْ لَكَ الْخَيْلَ وَالْإِبِلَ وَأَذَرْكَ تَرْأَسُ وَتَرْبَعُ؟ فَيَقُولُ: بَلَى قَالَ: فَيَقُولُ: أَفَظَنَنْتَ أَنَّكَ ملاقيَّ؟ فيقول: لا فَيَقُولُ: فَإِنِّي أَنْسَاكَ كَمَا نَسِيتَنِي ثُمَّ يَلْقَى الثَّانِي فَيَقُولُ: أَيْ فُلْ أَلَمْ أُكْرِمْكَ وَأُسَوِّدْكَ وَأُزَوِّجْكَ وَأُسَخِّرْ لَكَ الْخَيْلَ وَالْإِبِلَ وَأَذَرْكَ تَرْأَسُ وَتَرْبَعُ؟ فَيَقُولُ: بَلَى أَيْ رَبِّ فَيَقُولُ: أَفَظَنَنْتَ أَنَّكَ مُلَاقِيَّ؟ فَيَقُولُ: لَا, فَيَقُولُ: فَإِنِّي أَنْسَاكَ كَمَا نَسِيتَنِي ثُمَّ يَلْقَى الثَّالِثَ فَيَقُولُ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ آمَنْتُ بِكَ وَبِكِتَابِكَ وَبِرُسُلِكَ وَصَلَّيْتُ وَصُمْتُ وَتَصَدَّقْتُ وَيُثْنِي بِخَيْرٍ مَا استطاع فيقول: ههنا إِذًا قَالَ ثُمَّ يُقَالُ لَهُ:
ومن الإيمان باليوم الآخر الإيمان بالبعث والنشور رواية لقيط بن عامر عند وفوده على النبي صلى الله عليه وسلم
الْآنَ نَبْعَثُ شَاهِدَنَا عَلَيْكَ. وَيَتَفَكَّرُ فِي نَفْسِهِ: مَنِ الَّذِي يَشْهَدُ عَلَيَّ؟ فَيُخْتَمُ عَلَى فِيهِ وَيُقَالُ لِفَخِذِهِ وَلَحْمِهِ وَعِظَامِهِ: انْطِقِي, فَتَنْطِقُ فَخِذُهُ وَلَحْمُهُ وَعِظَامُهُ بِعَمَلِهِ وَذَلِكَ لِيُعْذِرَ مِنْ نَفْسِهِ, وَذَلِكَ الْمُنَافِقُ وَذَلِكَ الَّذِي يَسْخَطُ اللَّهُ عَلَيْهِ" 1. وَفِي حَدِيثِ الْقُرَّاءِ أَصْحَابِ بِئْرِ مَعُونَةَ: "بَلِّغُوا قَوْمَنَا عَنَّا أَنْ قَدْ لَقِينَا رَبَّنَا فَرَضِيَ عَنَّا, وَرَضِينَا عَنْهُ" 2. وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ قُرْآنًا, فَنُسِخَتْ تِلَاوَتُهُ. وَالْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ فِي إِثْبَاتِ لِقَاءِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَثِيرَةٌ جِدًّا, وَمَنْ كَذَّبَ بِذَلِكَ كَفَرَ. [الْإِيمَانُ بِالْبَعْثِ وَالنُّشُور] : "وَالْبَعْثُ وَالنُّشُورُ" أَيْ: وَيَدْخُلُ فِي الْإِيمَانِ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ الْإِيمَانُ بِالْبَعْثِ وَالنُّشُورِ, قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الْبَقَرَةِ: 56] وَقَالَ تَعَالَى: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الْبَقَرَةِ: 73] وَقَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ: َ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ} [الْبَقَرَةِ: 243] وَقَالَ تَعَالَى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الْبَقَرَةِ: 28] . وَقَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي
بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الْبَقَرَةِ: 260] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الْأَعْرَافِ: 57] وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الرَّعْدِ: 5] وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ} [الْأَنْعَامِ: 30، 31] الْآيَاتِ, وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} [إِبْرَاهِيمَ: 47، 48] الْآيَاتِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الْحِجْرِ: 23-25] وَقَالَ تَعَالَى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ
وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [التَّوْبَةِ: 105] وَقَالَ تعالى: {وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا} [الْإِسْرَاءِ: 49-52] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ} [الْإِسْرَاءِ: 97-99] وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا} [الْإِسْرَاءِ: 104] وَقَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا} [الْكَهْفِ: 12] وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا} [الْكَهْفِ: 19-21] وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا} [الْكَهْفِ: 47، 48] الْآيَاتِ, وَقَالَ تَعَالَى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا} [الْكَهْفِ: 99] الْآيَاتِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا} [مَرْيَمَ: 68] الْآيَاتِ إِلَى آخِرِ السُّورَةِ, وَقَالَ تَعَالَى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه: 55] وَقَالَ تَعَالَى:
{يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} [طه: 102-108] الْآيَاتِ. وَقَالَ تَعَالَى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 1] وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 38، 39] وَقَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 104] وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [الْحَجِّ: 1-7] وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ
فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 12-16] . وَقَالَ تَعَالَى عَنْ كُفْرِ عَادٍ: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 33-37] الْآيَاتِ, وَقَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 80-83] وَقَالَ تَعَالَى: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [الْمُؤْمِنُونَ: 112-116] وَقَالَ تَعَالَى: {أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النُّورِ: 64] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا} [الْفُرْقَانِ: 3] وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [يُونُسَ: 45] وَقَالَ تَعَالَى: (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) (يُونُسَ: 34) وَقَالَ تَعَالَى: {أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ
{مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} إِلَى قَوْلِهِ: {قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} [النَّمْلِ: 64-87] الْآيَاتِ. وَقَالَ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [الْعَنْكَبُوتِ: 19-22] وَقَالَ تَعَالَى: {وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ} إِلَى قَوْلِهِ: {اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الرُّومِ: 6-11] الْآيَاتِ إِلَى قَوْلِهِ: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الرُّومِ: 25-27] الْآيَاتِ. وَقَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الرُّومِ: 40] وَقَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ
كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الرُّومِ: 48-50] وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [الرُّومِ: 55-56] الْآيَاتِ. وَقَالَ تَعَالَى: {مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [لُقْمَانَ: 28] وَقَالَ تعالى: {وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} [السَّجْدَةِ: 10 11] الْآيَاتِ, وَقَالَ تَعَالَى: {يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا} [الْأَحْزَابِ: 63] وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ} [سَبَأٍ: 29، 30] الْآيَاتِ, وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} [سَبَأٍ: 51] الْآيَاتِ, وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [سَبَأٍ: 7] وَقَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ} [فَاطِرٍ: 9] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس: 12] وَقَالَ تَعَالَى: {وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ} [يس: 33] الْآيَاتِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا
{صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ، فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ، وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ، قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ، إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس: 48-53] الْآيَاتِ. وَقَالَ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس: 77-83] وَقَالَ تَعَالَى: {أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الصَّافَّاتِ: 11-23] . وَقَالَ تَعَالَى: {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} [الْحِجْرِ: 36] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} [الزُّمَرِ: 30] وَقَالَ تَعَالَى: {لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ} [غَافِرٍ: 16] الْآيَاتِ. وَقَالَ تَعَالَى عَنْ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ {وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ} [غَافِرٍ: 33] الْآيَاتِ, وَقَالَ تَعَالَى:
{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فُصِّلَتْ: 39] وَقَالَ تَعَالَى: {أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ} [فُصِّلَتْ: 54] وَقَالَ تَعَالَى: {وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشُّورَى: 7] وَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} [الزُّخْرُفِ: 11] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ} [الدُّخَانِ: 34-40] الْآيَاتِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [الْجَاثِيَةِ: 22] وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الْجَاثِيَةِ: 24-26] الْآيَاتِ. وَقَالَ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الْأَحْقَافِ: 23] وَقَالَ تَعَالَى: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ: َ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} [ق: 1-4] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ, وَقَالَ تَعَالَى: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا} إِلَى قَوْلِهِ: {إِنَّمَا
تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} [الذَّارِيَاتِ: 1-6] , وَقَالَ تَعَالَى: {وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} إِلَى قَوْلِهِ: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [الطُّورِ: 1-11] الْآيَاتِ, وَقَالَ تَعَالَى: {فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ} [الطُّورِ: 45] الْآيَاتِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا} [النَّجْمِ: 44] الْآيَاتِ, وَقَالَ تَعَالَى: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} [الْقَمَرِ: 7] الْآيَاتِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} [الْقَمَرِ: 46] وَقَالَ تَعَالَى: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ} [الرَّحْمَنِ: 31] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ, وَسُورَةُ الْوَاقِعَةِ بِتَمَامِهَا, وَقَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} [الْحَدِيدِ: 12] الْآيَاتِ. وَقَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} إِلَى قَوْلِهِ: {ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الْمُجَادَلَةِ: 6 7] وَقَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [الْمُجَادَلَةِ: 18] وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} [الْمُمْتَحِنَةِ: 13] وَقَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} [التَّغَابُنِ: 9] الْآيَةَ, وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التَّحْرِيمِ: 8] وَقَالَ تَعَالَى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الْمُلْكِ: 2] وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} [الْقَلَمِ: 35] الْآيَاتِ, وَسُورَةُ الْحَاقَّةِ بِكَمَالِهَا, وَقَالَ تَعَالَى: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} [المعارج: 1] الآيات, وَقَالَ تَعَالَى: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [الْمَعَارِجِ: 42، 43] وَقَالَ تَعَالَى: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا} [الْمُزَّمِّلِ: 11] الْآيَاتِ, وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} [الْمُدَّثِّرِ: 8] وَقَالَ تَعَالَى: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} [الْقِيَامَةِ: 1-4] الْآيَاتِ, وَقَالَ تَعَالَى: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [الْقِيَامَةِ: 36-40] وَجَاءَ جَوَابُهُ فِي الْحَدِيثِ بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ1. وَقَالَ تَعَالَى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الْإِنْسَانِ: 1] الْآيَاتِ بَلِ السُّورَةَ بِتَمَامِهَا, وَجَمِيعَ السُّوَرِ الَّتِي بَعْدَهَا الْمُرْسَلَاتِ وَالنَّبَأِ وَالنَّازِعَاتِ وَعَبَسَ وَالتَّكْوِيرِ وَالِانْفِطَارِ وَالْمُطَفِّفِينَ وَالِانْشِقَاقِ
وَالطَّارِقِ وَالْغَاشِيَةِ وَالْفَجْرِ وَالْبَلَدِ وَغَيْرِهَا مِنَ السُّورِ, بَلِ الْقُرْآنَ كُلَّهُ مِنْ فَاتِحَتِهِ إِلَى خَاتِمَتِهِ مَمْلُوءٌ بِذِكْرِ أَحْوَالِ الْيَوْمِ الْآخِرِ, وَتَفَاصِيلِ مَا فِيهِ وَتَقْرِيرِ ذَلِكَ بِأَصْدَقِ الْأَخْبَارِ وَضَرْبِ الْأَمْثَالِ لِلِاعْتِبَارِ وَالْإِرْشَادِ إِلَى دَلِيلِ ذَلِكَ لِكُلِّ امْرِئٍ بِأَنْ يَعْتَبِرَ فِي بَدَنِهِ وَيَسْتَدِلَّ بِهِ عَلَى إِعَادَتِهِ, وَكَذَلِكَ إِحْيَاءُ الْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِهَا فَيُحْيِيهَا تَعَالَى بِالْمَطَرِ فَتُصْبِحُ مُخْضَرَّةً تَهْتَزُّ بَعْدَ مَوْتِهَا بِالْقَحْطِ وَهُمُودِهَا وَخُمُودِهَا وَاسْوِدَادِهَا, فِإِذَا أُنْزِلَ عَلَيْهَا الْمَاءُ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ وَلِهَذَا يُذْكَرُ إِحْيَاءُ الْمَوْتَى بَعْدَ ذِكْرِ إِحْيَائِهِ الْأَرْضَ لِيَسْتَدِلَّ مَنْ لَهُ قَلْبٌ شَهِيدٌ عَلَى الْآجِلِ بِالْعَاجِلِ وَعَلَى الْغَيْبِ بِالشَّهَادَةِ, فَيَقُولُ عَزَّ وَجَلَّ {كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} {كَذَلِكَ النُّشُورُ} {كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} {كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} . وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْبَابِ فَكَثِيرَةٌ جِدًّا, وَقَدْ تَقَدَّمَ كَثِيرٌ مِنْهَا فِي مَوَاضِعَ مُتَفَرِّقَةٍ, وَقَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "قَالَ اللَّهُ كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ, وَشَتَمَنِي، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ فَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: لَنْ يُعِيدَنِي كَمَا بَدَأَنِي وَلَيْسَ أَوَّلُ الْخَلْقِ بِأَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ إِعَادَتِهِ، وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا, وَأَنَا الْأَحَدُ الصَّمَدُ لَمْ أَلِدْ وَلَمْ أُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لِي كُفُوًا أَحَدٌ" 1. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي مُسْنَدِهِ حَدَّثَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ حَدَّثَنَا حُرَيْزٌ حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَيْسَرَةَ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ عَنْ بُسْرِ بْنِ جَحَّاشٍ قَالَ إِنَّ: رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَصَقَ يَوْمًا فِي كَفِّهِ فَوَضَعَ عَلَيْهَا إِصْبَعَهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قَالَ اللَّهُ تَعَالَى بَنِي آدَمَ, أَنَّى تُعْجِزُنِي، وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِثْلَ هَذِهِ, حَتَّى إِذَا سَوَّيْتُكَ وَعَدَلْتُكَ مَشَيْتَ بَيْنَ بُرْدَيْكَ وَلِلْأَرْضِ مِنْكَ وَئِيدٌ, فَجَمَعْتُ وَمَنَعْتُ, حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ قُلْتُ أَتَصَدَّقُ وَأَنَّى أَوَانُ الصَّدَقَةِ" وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ عَنْ حُرَيْزِ بْنِ عُثْمَانَ بِهِ2.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ الْجُنَيْدِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الزَّيَّاتُ عَنْ هُشَيْمٍ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ إِنَّ الْعَاصَ بْنَ وَائِلٍ أَخَذَ عَظْمًا مِنَ الْبَطْحَاءِ فَفَتَّهُ بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُحْيِي اللَّهُ هَذَا بَعْدَ مَا أَرَمَّ، فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نَعَمْ, يُمِيتُكَ اللَّهُ ثُمَّ يُحْيِيكَ ثُمَّ يُدْخِلُكَ جَهَنَّمَ" قَالَ وَنَزَلَتِ الْآيَاتُ مِنْ آخِرِ يس1. وَرَوَى مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَذَكَرَ أَحَادِيثَ مِنْهَا وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ فِي الْإِنْسَانِ عَظْمًا لَا تَأْكُلُهُ الْأَرْضُ أَبَدًا فِيهِ يَرْكَبُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" قَالُوا أَيُّ عَظْمٍ هُوَ يَا رَسُولُ اللَّهِ قَالَ: "عَجْبُ الذَّنَبِ" 2 وَفِيهِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "كُلُّ ابْنِ آدَمَ يَأْكُلُهُ التُّرَابُ إِلَّا عَجْبَ الذَّنَبِ, مِنْهُ خُلِقَ وَفِيهِ يُرَكَّبُ" 3. وَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أَرْبَعُونَ" -قَالُوا يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَرْبَعُونَ يَوْمًا قَالَ أَبَيْتُ قَالُوا أَرْبَعُونَ شَهْرًا قَالَ أَبَيْتُ قَالُوا أَرْبَعُونَ سَنَةً قَالَ أَبَيْتُ- "ثُمَّ يُنْزِلُ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيَنْبُتُونَ كَمَا يَنْبُتُ الْبَقْلُ -قَالَ- وَلَيْسَ مِنَ الْإِنْسَانِ شيء إلا يبلى
إِلَّا عَظْمًا وَاحِدًا وَهُوَ عَجْبُ الذَّنَبِ, وَمِنْهُ يُرَكَّبُ الْخَلْقُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" 1 وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عُمَرَ بْنِ حَفْصٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ الْأَعْمَشِ بِمَعْنَاهُ دُونَ قَوْلِهِ ثُمَّ يُنْزِلُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ السَّمَاءِ مَاءً2. وَتَقَدَّمَ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَرِيبًا وَفِيهِ "ثُمَّ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَلَا يَسْمَعُهُ أَحَدٌ إِلَّا أَصْغَى لِيتًا وَرَفَعَ لِيتًا, قَالَ وَأَوَّلُ مَنْ يَسْمَعُهُ رَجُلٌ يَلُوطُ حَوْضَ إِبِلِهِ قَالَ فَيُصْعَقُ وَيُصْعَقُ النَّاسُ, ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ -أَوْ قَالَ يُنْزِلُ اللَّهُ- مَطَرًا كَأَنَّهُ الطَّلُّ -أَوِ الظِّلُّ, نُعْمَانُ الشَّاكُّ- فَتَنْبُتُ مِنْهُ أَجْسَادُ النَّاسِ ثُمَّ يَنْفُخُ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ ثُمَّ يُقَالُ يَا أَيُّهَا النَّاسُ هَلُمُّوا إِلَى رَبِّكُمْ, وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ قَالَ ثُمَّ يُقَالُ أَخْرِجُوا بَعْثَ النَّارِ فَيَقُولُ مِنْ كَمْ فَيُقَالُ مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَمِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ قَالَ فَذَلِكَ يَوْمَ يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا وَذَلِكَ يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ" 3. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ "إِنِّي أَوَّلُ مَنْ يَرْفَعُ رَأْسَهُ بَعْدَ النَّفْخَةِ الْآخِرَةِ, فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى مُتَعَلِّقٍ بِالْعَرْشِ, فَلَا أَدْرِي كَذَلِكَ كَانَ أَمْ بَعْدَ النَّفْخَةِ" 4. وَفِي حَدِيثِ الصُّورِ الْآتِي قَرِيبًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ "ثُمَّ يُنْزِلُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَاءً مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ ثُمَّ يَأْمُرُ اللَّهُ السَّمَاءَ أَنْ تُمْطِرَ, فَتُمْطِرَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا حَتَّى يَكُونَ الْمَاءُ فَوْقَهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ ذِرَاعًا, ثُمَّ يَأْمُرُ اللَّهُ الْأَجْسَادَ أَنْ تَنْبُتَ فَتَنْبُتَ كَنَبَاتِ الطَّرَاثِيتِ أَوْ كَنَبَاتِ الْبَقْلِ, حَتَّى إِذَا تَكَامَلَتْ أَجْسَادُهُمْ فَكَانَتْ كَمَا كَانَتْ قَالَ اللَّهُ عز وجل ليحي حَمَلَةَ الْعَرْشِ فَيُحْيَوْنَ, وَيَأْمُرُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِسْرَافِيلَ فَيَأْخُذُ الصُّورَ فَيَضَعُهُ
الحديث الطويل عن علم الغيب
عَلَى فِيهِ ثم يقول ليحي جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ, فَيُحْيَيَانِ ثُمَّ يَدْعُو اللَّهُ بِالْأَرْوَاحِ لِيُؤْتَى بِهَا تَتَوَهَّجُ أَرْوَاحُ الْمُسْلِمِينَ نُورًا وَأَرْوَاحُ الْكَافِرِينَ ظُلْمَةً, فَيَقْبِضُهَا جَمِيعًا ثُمَّ يُلْقِيهَا فِي الصُّورِ ثُمَّ يَأْمُرُ اللَّهُ تَعَالَى إِسْرَافِيلَ أَنْ يَنْفُخَ نفخة البعث فينفخ نَفْخَةَ الْبَعْثِ, فَتَخْرُجُ الْأَرْوَاحُ كَأَنَّهَا النَّحْلُ قَدْ مَلَأَتْ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَيَقُولُ وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لِيَرْجِعْنَ كُلُّ رُوحٍ إِلَى جَسَدِهِ فَتَدْخُلُ الْأَرْوَاحُ فِي الْأَرْضِ إِلَى الْأَجْسَادِ فَتَدْخُلُ فِي الْخَيَاشِيمِ ثُمَّ تَمْشِي فِي الْأَجْسَادِ كَمَا يَمْشِي السُّمُّ فِي اللَّدِيغِ ثُمَّ تَنْشَقُّ الْأَرْضُ عَنْهُمْ, وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ الْأَرْضُ عَنْهُ, فَتَخْرُجُونَ سِرَاعًا إِلَى رَبِّكُمْ تَنْسِلُونَ" 1 الْحَدِيثَ. وَرَوَى الْإِمَامُ عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي مُسْنَدِ أَبِيهِ وَفِي كِتَابِ السُّنَّةِ لَهُ قَالَ كَتَبَ إِلَيَّ إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَمْزَةَ بْنِ مُصْعَبِ بن الزبير الربيري كَتَبْتُ إِلَيْكَ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَقَدْ عَرَضْتُهُ وَسَمِعْتُهُ عَلَى مَا كَتَبْتُ بِهِ إِلَيْكَ فَحَدِّثْ بِذَلِكَ عَنِّي قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْمُغِيرَةِ الْحِزَامِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَيَّاشٍ الْأَنْصَارِيُّ عَنْ دَلْهَمِ بْنِ الْأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَاجِبِ بْنِ عَامِرِ بْنِ الْمُنْتَفِقِ الْعُقَيْلِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَمِّهِ لَقِيطِ بْنِ عَامِرٍ أَنَّهُ خَرَجَ وَافِدًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَمَعَهُ صَاحِبٌ لَهُ نَهِيكُ بْنُ عَاصِمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْمُنْتَفِقِ قَالَ لَقِيطٌ خَرَجْتُ أَنَا وَصَاحِبِي حَتَّى قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَافَيْنَاهُ حِينَ انْصَرَفَ مِنْ صَلَاةِ الْغَدَاةِ فَقَامَ فِي النَّاسِ خَطِيبًا فَقَالَ: "أَيُّهَا النَّاسُ أَلَا إِنِّي قَدْ خَبَّأْتُ لَكُمْ صَوْتِي مُنْذُ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ, أَلَا لِتَسْمَعُوا الْيَوْمَ, أَلَا فَهَلْ مِنِ امْرِئٍ بعثه قومه فقال: وا لَهُ اعْلَمْ لَنَا مَا يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَا ثُمَّ رَجُلٌ لَعَلَّهُ يُلْهِيهِ حَدِيثُ نَفْسِهِ أَوْ حَدِيثُ صَاحِبِهِ أَوْ يُلْهِيهِ ضَالٌّ أَلَا إِنِّي مَسْئُولٌ هَلْ بَلَّغْتُ أَلَا اسْمَعُوا تَعِيشُوا أَلَا اجْلِسُوا فَجَلَسَ النَّاسُ، وَقُمْتُ أَنَا وَصَاحِبِي حَتَّى إِذَا فَرَغَ لَنَا فُؤَادُهُ وَنَظَرُهُ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عِنْدَكَ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ فَضَحِكَ فَقَالَ: ضَنَّ رَبُّكَ بِمَفَاتِيحِ خَمْسٍ مِنَ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَأَشَارَ بِيَدِهِ فَقُلْتُ مَا هُنَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: "عِلْمُ الْمَنِيَّةِ, قَدْ عَلِمَ مَتَى مَنِيَّةُ أَحَدِكُمْ، وَلَا تَعْلَمُونَهُ, وَعِلْمُ الْمَنِيِّ حِينَ يَكُونُ.
فِي الرَّحِمِ قَدْ عَلِمَهُ وَمَا تَعْلَمُونَهُ, وَعِلْمُ مَا فِي غَدٍ, قَدْ عَلِمَ مَا أَنْتَ صَانِعٌ وَلَا تَعْلَمُهُ وَعِلْمُ يَوْمِ الْغَيْثِ, يُشْرِفُ عَلَيْكُمْ آزِلِينَ 1 مُشْفِقَيْنِ فَيَظَلُّ يَضْحَكُ قَدْ عَلِمَ أَنَّ غَوْثَكُمْ إِلَى قَرِيبٍ" قَالَ لَقِيطٌ فَقُلْتُ لَنْ نَعْدَمَ مِنْ رَبٍّ يَضْحَكُ خَيْرًا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ "وَعِلْمُ يَوْمِ السَّاعَةِ" قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنَا مِمَّا تُعَلِّمُ النَّاسَ وتعلم, فَإِنَّا مِنْ قَبِيلٍ لَا يُصَدِّقُ تَصْدِيقَنَا أَحَدٌ, مِنْ مذحج التي تدنو عَلَيْنَا وَخَثْعَمٍ الَّتِي تُوَالِينَا وَعَشِيرَتِنَا الَّتِي نَحْنُ مَنْهَا قال "تلبثون فيها مَا لَبِثْتُمْ ثُمَّ يُتَوَفَّى نَبِيُّكُمْ ثُمَّ يَبْعَثُ الصَّيْحَةَ فَلَعَمْرُ إِلَهِكَ مَا تَدَعُ على ظهرها شيئا إِلَّا مَاتَ وَالْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ مَعَ رَبِّكَ, فَأَصْبَحَ رَبُّكَ عَزَّ وَجَلَّ يَطُوفُ فِي الْأَرْضِ وَخَلَتِ الْبِلَادُ فَأَرْسَلَ رَبُّكَ السَّمَاءَ تَهْضِبُ مِنْ عِنْدِ الْعَرْشِ, فَلَعَمْرُ إِلَهِكَ مَا تَدَعُ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ مَصْرَعِ قَتِيلٍ وَلَا مَدْفَنِ مَيِّتٍ إِلَّا شَقَّتِ الْقَبْرَ عنه حتى تخلفه مِنْ عِنْدِ رَأْسِهِ فَيَسْتَوِي جَالِسًا فَيَقُولُ رَبُّكَ مَهْيَمْ لِمَا كَانَ فِيهِ يَقُولُ يَا رَبِّ أَمْسِ الْيَوْمَ لِعَهْدِهِ بِالْحَيَاةِ يَحْسَبُهُ حَدِيثًا بِأَهْلِهِ" فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فكيف يجمعنا بعدما تُمَزِّقُنَا الرِّيَاحُ وَالْبَلَاءُ وَالسِّبَاعُ قَالَ "أُنَبِّئُكَ بِمِثْلِ ذَلِكَ فِي آلَاءِ اللَّهِ الْأَرْضُ أَشْرَفْتَ عليها وهي في مَدَرَةٌ بَالِيَةٌ فَقُلْتَ لَا تَحْيَا أَبَدًا ثُمَّ أَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهَا السَّمَاءَ فَلَمْ تَلْبَثْ عَلَيْكَ إِلَّا أَيَّامًا حَتَّى أَشْرَفْتَ عَلَيْهَا وَهِيَ شَرْبَةٌ وَاحِدَةٌ وَلَعَمْرُ إِلَهِكَ لَهُوَ أَقْدَرُ عَلَى أَنْ يَجْمَعَكُمْ مِنَ الْمَاءِ عَلَى أَنْ يَجْمَعَ نَبَاتَ الْأَرْضِ فَتَخْرُجُونَ مِنَ الْأَصْوَاءِ 2 وَمِنْ مَصَارِعِكِمْ فَتَنْظُرُونَ إِلَيْهِ وَيَنْظُرُ إِلَيْكُمْ" قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ وَنَحْنُ مِلْءُ الْأَرْضِ وَهُوَ شَخْصٌ وَاحِدٌ يَنْظُرُ إِلَيْنَا وَنَنْظُرُ إِلَيْهِ قَالَ "أُنَبِّئُكَ بِمِثْلِ هَذَا فِي آلَاءِ اللَّهِ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ آيَةٌ مِنْهُ صَغِيرَةٌ تَرَوْنَهَا وَتَرَيَانِكُمْ سَاعَةً واحدة ولا تضامون فِي رُؤْيَتِهِمَا قُلْتُ فَمَا يَفْعَلُ بِنَا رَبُّنَا إِذَا لَقِينَاهُ قَالَ تُعْرَضُونَ عَلَيْهِ بَادِيَةٌ لَهُ صَفَحَاتُكُمْ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ مِنْكُمْ خَافِيَةٌ, فَيَأْخُذُ رَبُّكَ عَزَّ وَجَلَّ بِيَدِهِ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ فَيَنْضَحُ بِهَا قَبْلَكُمْ, فَلَعَمْرُ إِلَهِكَ مَا يُخْطِئُ وَجْهَ أَحَدٍ مِنْكُمْ مِنْهَا قَطْرَةٌ, فَأَمَّا الْمُسْلِمُ فَتَدَعُ وَجْهَهُ مِثْلَ الرَّيْطَةِ الْبَيْضَاءِ وَأَمَّا الْكَافِرُ -فَيُنْضِحُهُ أَوْ قَالَ فَيَنْطَحُهُ- بِمِثْلِ الْحَمِيمِ الْأَسْوَدِ أَلَا ثُمَّ يَنْصَرِفُ نَبِيُّكُمْ وَيَتَفَرَّقُ.
عَلَى أَثَرِهِ الصَّالِحُونَ فَيَسْلُكُونَ جِسْرًا مِنَ النَّارِ يَطَأُ أَحَدُكُمُ الْجَمْرَةَ يَقُولُ حَسِّ يَقُولُ رَبُّكُ عَزَّ وَجَلَّ أَوْ أَنَّهُ, أَلَا فَتَطَّلِعُونَ عَلَى حَوْضِ نَبِيِّكُمْ عَلَى أَظْمَأِ -وَاللَّهَ- نَاهِلَةٍ قَطُّ مَا رَأَيْتُهَا, فَلَعَمْرُ إِلَهِكَ مَا يَبْسُطُ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَدَهُ إِلَّا وَقَعَ عَلَيْهَا قَدَحٌ يُطَهِّرُهُ مِنَ الطَّوْفِ وَالْبَوْلِ وَالْأَذَى, وَتُحْبَسُ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ فلا ترون منهما أَحَدًا" قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَبِمَ نُبْصِرُ قَالَ "بِمِثْلِ بَصَرِكَ سَاعَتَكَ هَذِهِ وَذَلِكَ مَعَ طُلُوعِ الشَّمْسِ فِي يَوْمٍ أَشْرَقَتِ الْأَرْضُ وَوَاجَهَتْ بِهِ الْجَبَّارَ" قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَبِمَ نُجْزَى مِنْ حَسَنَاتِنَا وَسَيِّئَاتِنَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا وَالسَّيِّئَةُ بِمِثْلِهَا إِلَّا أَنْ يَعْفُوَ" قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْجَنَّةُ وَمَا النَّارُ قَالَ: "لَعَمْرُ إِلَهِكَ إِنَّ النَّارَ لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ مَا مِنْهَا بَابَانِ إِلَّا يَسِيرُ الرَّاكِبُ بَيْنَهُمَا سَبْعِينَ عَامًا" قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَعَلَامَ نَطَّلِعُ مِنَ الْجَنَّةِ قَالَ: "عَلَى أَنْهَارٍ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَأَنْهَارٍ مِنْ خَمْرٍ مَا بِهَا صُدَاعٌ وَلَا نَدَامَةٌ وَأَنْهَارٍ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَمَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَفَاكِهَةٍ وَلَعَمْرُ إِلَهِكَ مَا تَعْلَمُونَ وَخَيْرٌ مِنْ مِثْلِهِ مَعَهُ وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ" قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَلَنَا فِيهَا أَزْوَاجٌ وَمِنْهُنَّ الْمُصْلِحَاتُ قَالَ "الْمُصْلِحَاتُ لِلصَّالِحِينَ -وَفِي لَفْظٍ الصَّالِحَاتُ للصالحين- تلذونهن ويلذنكم مِثْلَ لَذَّاتِكُمْ فِي الدُّنْيَا غَيْرَ أَنْ لَا تَوَالُدَ قَالَ: "لَقِيطٌ" فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَقْصَى مَا نَحْنُ بَالِغُونَ وَمُنْتَهُونَ إِلَيْهِ فَلَمْ يَجُبْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَامَ أُبَايِعُكَ فَبَسَطَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ وَقَالَ: "عَلَى إِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وزيال المشرك وأن لا تُشْرِكَ بِاللَّهِ إِلَهًا غَيْرَهُ" قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنَّ لَنَا مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ فَقَبَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ وظن أني مشترك مَا لَا يُعْطِينِيهِ قَالَ قُلْتُ نُحِلُّ مِنْهَا حَيْثُ شِئْنَا وَلَا يَجْنِي عَلَى امْرِئٍ إِلَّا نَفْسُهُ فَبَسَطَ يَدَهُ وَقَالَ: "لَكَ ذَلِكَ تَحِلُّ حَيْثُ شِئْتَ وَلَا يَجْنِي عَلَيْكَ إِلَّا نَفْسُكَ" قَالَ: فَانْصَرَفْنَا عَنْهُ ثُمَّ قَالَ: "هَا إِنَّ ذَيْنِ, هَا إِنَّ ذَيْنِ -مَرَّتَيْنِ- " "مِنْ أَتْقَى النَّاسِ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ" فَقَالَ: لَهُ كَعْبُ بْنُ الْخُدَارِيَّةِ أَحَدُ بني بكر بن كِلَابٍ مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: "بَنُو الْمُنْتَفِقِ, بَنُو الْمُنْتَفِقِ أَهْلُ ذَلِكَ مِنْهُمْ" قَالَ: فَانْصَرَفْنَا وَأَقْبَلْتُ عَلَيْهِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ لِأَحَدٍ مِمَّنْ مَضَى مِنْ خَيْرٍ فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ فَقَالَ: "رَجُلٌ مِنْ عُرْضِ قُرَيْشٍ وَاللَّهِ إِنَّ أَبَاكَ الْمُنْتَفِقَ لَفِي النَّارِ" قَالَ: فَكَأَنَّهُ وَقَعَ حَرٌّ بَيْنَ جِلْدِ وَجْهِي وَلَحْمِهِ مِمَّا قَالَ لِأَبِي عَلَى رُءُوسِ النَّاسِ فَهَمَمْتُ
تعليق ابن القيم على هذا الحديث
أَنْ أَقُولَ وَأَبُوكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا الْأُخْرَى أَجْمَلُ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَهْلُكَ قَالَ: "وَأَهْلِي, لعمر الله حيثما أَتَيْتَ عَلَى قَبْرِ [كَافِرٍ] عَامِرِيٍّ أَوْ قُرَشِيٍّ أَوْ دَوْسِيٍّ قُلْ أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ مُحَمَّدٌ فأبشر بما يسوءك تُجَرُّ عَلَى وَجْهِكَ وَبَطْنِكَ فِي النَّارِ" قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا فَعَلَ بِهِمْ ذَلِكَ وَقَدْ كَانُوا عَلَى عَمَلٍ لا يحسنون إلا إِيَّاهُ وَكَانُوا يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُصْلِحُونَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ بَعَثَ فِي آخِرِ كُلِّ سَبْعِ أُمَمٍ نَبِيًّا فَمَنْ عَصَى نَبِيَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ, وَمَنْ أَطَاعَ نَبِيَّهُ كَانَ مِنَ الْمُهْتَدِينَ" 1. وَرَوَاهُ إِمَامُ الْأَئِمَّةِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ الْجَوَّازُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عِيسَى الزُّهْرِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَيَّاشٍ الْأَنْصَارِيُّ ثُمَّ السَّمْعِيُّ عَنْ دَلْهَمِ بْنِ الْأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَمِّهِ لَقِيطِ بْنِ عَامِرٍ أَنَّهُ خَرَجَ وَافِدًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ نُهَيْكُ بْنُ عَاصِمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْمُنْتَفِقِ قَالَ فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ لِانْسِلَاخِ رَجَبٍ فَصَلَّيْنَا مَعَهُ صَلَاةَ الْغَدَاةِ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّاسِ خَطِيبًا, وَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِنَحْوِ مَا تَقَدَّمَ مَعَ مُغَايَرَةٍ فِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ2. وَقَالَ الْحَافِظُ ابْنُ الْقَيِّمِ بَعْدَ أَنْ سَاقَهُ فِي الْهُدَى عَنْ زَوَائِدِ الْمُسْنَدِ هَذَا حَدِيثٌ كَبِيرٌ جَلِيلٌ تُنَادِي جَلَالَتُهُ وَفَخَامَتُهُ وَعَظَمَتُهُ على أنه قد خَرَجَ مِنْ مِشْكَاةِ النُّبُوَّةِ لَا يُعْرَفُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَدَنِيِّ, رَوَاهُ عَنْهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ الزُّبَيْرِيُّ وَهُمَا مِنْ كِبَارِ عُلَمَاءِ الْمَدِينَةِ ثِقَتَانِ, مُحْتَجٌّ بِهِمَا فِي الصَّحِيحِ, احْتَجَّ بِهِمَا إِمَامُ أَهْلِ الْحَدِيثِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيُّ, ورواه أَئِمَّةُ
تفسير ابن القيم لغريب مفردات هذا الحديث
السُّنَّةِ فِي كُتُبِهِمْ وَتَلَقَّوْهُ بِالْقَبُولِ وَقَابَلُوهُ بِالتَّسْلِيمِ وَالِانْقِيَادِ وَلَمْ يَطْعَنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ فِيهِ وَلَا فِي أَحَدٍ مِنْ رُوَاتِهِ, فَمِمَّنْ رَوَاهُ الْإِمَامُ ابْنُ الْإِمَامِ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي مُسْنَدِ أَبِيهِ وَفِي كِتَابِ السُّنَّةِ وَقَالَ كَتَبَ إِلَيَّ إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ بْنِ مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ كَتَبْتُ إِلَيْكَ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَقَدْ عَرَضْتُهُ وَسَمَّعْتُهُ على ما كتبت بِهِ إِلَيْكَ فَحَدِّثْ بِهِ عَنِّي وَمِنْهُمُ الْحَافِظُ الْجَلِيلُ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرٍو النَّبِيلُ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ لَهُ, وَمِنْهُمُ الْحَافِظُ أَبُو أَحْمَدَ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سُلَيْمَانَ الْعَسَّالُ فِي كِتَابِ الْمَعْرِفَةِ, وَمِنْهُمْ حَافِظُ زَمَانِهِ وَمُحَدِّثُ أَوَانِهِ أَبُو الْقَاسِمِ سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ الطَّبَرَانِيُّ فِي كَثِيرٍ مِنْ كُتُبِهِ, وَمِنْهُمُ الْحَافِظُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَيَّانَ أَبُو الشَّيْخِ الْأَصْبَهَانِيُّ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ وَمِنْهُمُ الحافظ ابن الحافظ أبو عَبْدُ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ مَنْدَهْ حَافِظُ أَصْبَهَانَ, وَمِنْهُمُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُوسَى بْنِ مَرْدَوَيْهِ وَمِنْهُمْ حَافِظُ عَصْرِهِ أَبُو نُعَيْمٍ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِسْحَاقَ الْأَصْبَهَانِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْحُفَّاظِ سِوَاهُمْ يَطُولُ ذِكْرُهُمْ وَقَالَ ابْنُ مَنْدَهْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الصَّنْعَانِيُّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُمَا قَدْ رَوَاهُ بِالْعِرَاقِ بِمَجْمَعِ الْعُلَمَاءِ وَأَهْلِ الدِّينِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ مِنْهُمْ أَبُو زُرْعَةَ الرَّازِّيُّ وَأَبُو حَاتِمٍ وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ وَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ فِي إِسْنَادِهِ بَلْ رَوَوْهُ عَلَى سَبِيلِ الْقَبُولِ وَالتَّسْلِيمِ وَلَا يُنْكِرُ هَذَا الْحَدِيثَ إِلَّا جَاهِلٌ أَوْ مُتَجَاهِلٌ أَوْ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ, هَذَا كَلَامُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَنْدَهْ1. قُلْتُ وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ بَعْدَ إِيرَادِهِ فِي الْوُفُودِ هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا, وَأَلْفَاظُهُ فِي بَعْضِهَا نَكَارَةٌ وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ, وَعَبْدُ الْحَقِّ الْإِشْبِيلِيُّ فِي الْعَاقِبَةِ وَالْقُرْطُبِيُّ فِي كِتَابِ التَّذْكِرَةِ فِي أَحْوَالِ الْآخِرَةِ2 انْتَهَى. قُلْتُ وَقَدْ تَكَلَّمَ ابْنُ الْقَيِّمِ عَنْ غَرِيبِ بَعْضِ مُفْرَدَاتِهِ فَقَالَ: رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
قَوْلُهُ "تَهْضِبُ" أَيْ تُمْطِرُ والأصواء الْقُبُورُ والشربة بِفَتْحِ الرَّاءِ الْحَوْضُ الَّذِي يُجْمَعُ فِيهِ الْمَاءُ وَبِالسُّكُونِ الْحِنْطَةُ, يُرِيدُ أَنَّ الْمَاءَ قَدْ كَثُرَ فَمِنْ حَيْثُ شِئْتَ تَشْرَبُ وَعَلَى رِوَايَةِ السُّكُونِ يَكُونُ شَبَّهَ الْأَرْضَ بِخُضْرَتِهَا بِالنَّبَاتِ بِخُضْرَةِ الْحِنْطَةِ وَاسْتِوَائِهَا وَقَوْلُهُ حَسِّ كَلِمَةٌ يَقُولُهَا الْإِنْسَانُ إِذَا أَصَابَهُ عَلَى غَفْلَةٍ مَا يَحْرِقُهُ أَوْ يُؤْلِمُهُ, قَالَ الْأَصْمَعِيُّ وَهِيَ مِثْلُ أَوْهِ وَقَوْلُهُ يَقُولُ عَزَّ وَجَلَّ أَوْ أَنَّهُ قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِيهِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى نَعَمْ وَالْآخَرُ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ مَحْذُوفًا كَأَنَّهُ قَالَ أَنْتُمْ كَذَلِكَ أَوْ أَنَّهُ عَلَى مَا يَقُولُ والطوف الْغَائِطُ وَفِي الْحَدِيثِ لَا يُصَلِّ أَحَدُكُمْ وَهُوَ يُدَافِعُ الطَّوْفَ وَالْبَوْلَ والجسر الصِّرَاطُ وَقَوْلُهُ فَيَقُولُ رَبُّكَ مَهْيَمْ أَيْ مَا شَأْنُكَ وَمَا أَمْرُكَ وَفِيمَ كُنْتَ وَقَوْلُهُ يُشْرِفُ عَلَيْكُمْ أَزْلَيْنِ الْأَزْلُ بِسُكُونِ الزَّايِ الشِّدَّةُ وَالْأَزِلُ عَلَى وَزْنِ الْكَتِفِ هُوَ الَّذِي قَدْ أَصَابَهُ الْأَزْلُ وَاشْتَدَّ بِهِ حَتَّى كَادَ يَقْنَطُ وَقَوْلُهُ فَيَظَلُّ يَضْحَكُ هُوَ مِنْ صِفَاتِ أَفْعَالِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الَّتِي لَا يُشْبِهُهُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ كَصِفَاتِ ذَاتِهِ وَقَدْ وَرَدَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ لَا سَبِيلَ إِلَى رَدِّهَا كَمَا لَا سَبِيلَ إِلَى تَشْبِيهِهَا وَتَحْرِيفِهَا, وَكَذَلِكَ فَأَصْبَحَ رَبُّكَ يَطُوفُ فِي الْأَرْضِ هُوَ مِنْ صِفَاتِ فِعْلِهِ كَقَوْلِهِ: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ} [الْفَجْرِ: 22] {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} [الأنعام: 153] و"ينزل رَبُّنَا كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا, وَيَدْنُو عَشِيَّةَ عَرَفَةَ فَيُبَاهِي بِأَهْلِ الْمَوْقِفِ الْمَلَائِكَةَ" 1 وَالْكَلَامُ فِي الْجَمِيعِ صِرَاطٌ وَاحِدٌ مُسْتَقِيمٌ إِثْبَاتٌ بِلَا تَمْثِيلٍ, وَتَنْزِيهٌ بِلَا تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٌ. وَقَوْلُهُ وَالْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا أَعْلَمُ مَوْتَ الْمَلَائِكَةِ جَاءَ فِي حَدِيثٍ صَرِيحٍ إِلَّا هَذَا وَحَدِيثِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ رَافِعٍ الطَّوِيلِ فِي الصُّورِ, وَقَدْ يُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزُّمَرِ: 68] . وَقَوْلُهُ فَلَعَمْرُ إِلَهِكَ هُوَ قَسَمٌ بِحَيَاةِ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ, وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْإِقْسَامِ بِصِفَاتِهِ وَانْعِقَادِ الْيَمِينِ بِهَا وَأَنَّهَا قَدِيمَةٌ وَأَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَيْهِ مِنْهَا أَسْمَاءُ
الْمَصَادِرِ وَيُوصَفُ بِهَا, ذَلِكَ قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى مُجَرَّدِ الْأَسْمَاءِ وَأَنَّ الْأَسْمَاءَ الْحُسْنَى مُشْتَقَّةٌ مِنْ هَذِهِ الْمَصَادِرِ دَالَّةٌ عَلَيْهَا وَقَوْلُهُ ثُمَّ تَجِيءُ الصَّائِحَةُ هِيَ صَيْحَةُ الْبَعْثِ وَنَفْخَتُهُ وَقَوْلُهُ حَتَّى يُخْلَفَ مِنْ عِنْدِ رَأْسِهِ هُوَ مِنْ أَخْلَفَ الزَّرْعَ إِذَا نَبَتَ بَعْدَ حَصَادِهِ, تَشْبِيهُ النَّشْأَةِ الْأُخْرَى بَعْدَ الْمَوْتِ بِخِلَافِ الزَّرْعِ بَعْدَمَا حُصِدَ, وَتِلْكَ الخلفة من عند رَأْسِهِ كَمَا يَنْبُتُ الزَّرْعُ وَقَوْلُهُ فَيَسْتَوِي جَالِسًا هَذَا عِنْدَ تَمَامِ خِلْقَتِهِ وَكَمَالِ حَيَاتِهِ ثُمَّ يَقُومُ بَعْدَ جُلُوسِهِ قَائِمًا, ثُمَّ يُسَاقُ إِلَى مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ إِمَّا رَاكِبًا وَإِمَّا مَاشِيًا. وَقَوْلُهُ يَقُولُ يَا رَبِّ أَمْسِ الْيَوْمَ اسْتِقْلَالًا لِمُدَّةِ لُبْثِهِ فِي الْأَرْضِ كَأَنَّهُ لَبِثَ فِيهَا يَوْمًا فَقَالَ: أَمْسِ, أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَقَالَ: الْيَوْمَ, يَحْسَبُ أَنَّهُ حَدِيثُ عَهْدٍ بِأَهْلِهِ وَأَنَّهُ إِنَّمَا فَارَقَهُمْ أَمْسِ أَوِ الْيَوْمَ وَقَوْلُهُ كَيْفَ يَجْمَعُنَا بَعْدَمَا تُمَزِّقُنَا الرِّيَاحُ وَالْبَلَاءُ وَالسِّبَاعُ، وَإِقْرَارُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ عَلَى هَذَا السُّؤَالِ رَدٌّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْقَوْمَ لَمْ يَكُونُوا يَخُوضُونَ فِي دَقَائِقِ الْمَسَائِلِ وَلَمْ يَكُونُوا يَفْهَمُونَ حَقَائِقَ الْإِيمَانِ, بَلْ كَانُوا مَشْغُولِينَ بِالْعَمَلِيَّاتِ وَإِنَّ أَفْرَاخَ الصَّابِئَةِ وَالْمَجُوسِ مَنِ الْجَهْمِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ أَعْرَفُ مِنْهُمْ بِالْعَمَلِيَّاتِ وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّهُمْ كَانُوا يُورِدُونَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا يُشْكَلُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْأَسْئِلَةِ وَالشُّبَهَاتِ, فَيُجِيبُهُمْ عَنْهَا بِمَا يُثْلِجُ صُدُورَهُمْ وَقَدْ أَوْرَدَ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَسْئِلَةَ أَعْدَاؤُهُ وَأَصْحَابُهُ, أَمَّا أَعْدَاؤُهُ فَلِلتَّعَنُّتِ وَالْمُغَالَبَةِ وأما أَصْحَابُهُ فَلِلْفَهْمِ وَالْبَيَانِ وَزِيَادَةِ الْإِيمَانِ وَهُوَ يُجِيبُ كُلًّا عَلَى سُؤَالِهِ, إِلَّا مَا لَا جَوَابَ عَنْهُ كَسُؤَالٍ عَنْ وَقْتِ السَّاعَةِ وَفِي هَذَا السُّؤَالِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَجْمَعُ أَجْزَاءَ الْعَبْدِ بَعْدَ مَا فَرَّقَهَا وَيُنْشِئُهَا نَشْأَةً أُخْرَى أَوْ يَخْلُقُهُ خَلْقًا جَدِيدًا كَمَا سَمَّوْا فِي كِتَابِهِ كَذَلِكَ فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْهُ وَقَوْلُهُ "أُنَبِّئُكَ بِمِثْلِ ذَلِكَ فِي آلَاءِ اللَّهِ" آلَاؤُهُ نِعَمُهُ وَآيَاتُهُ الَّتِي تُعْرَفُ بِهَا إِلَى عِبَادِهِ, وَفِيهِ إِثْبَاتُ الْقِيَاسِ فِي أَدِلَّةِ التَّوْحِيدِ وَالْمَعَادِ, وَالْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ مِنْهُ, وَفِيهِ أَنَّ حُكْمَ الشَّيْءِ حُكْمُ نَظِيرِهِ وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ إِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى شَيْءٍ فَكَيْفَ تَعْجَزُ قُدْرَتُهُ عَنْ نَظِيرِهِ وَمِثْلِهِ, فَقَدْ قَرَّرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَدِلَّةَ الْمَعَادِ فِي كِتَابِهِ أَحْسَنَ تَقْرِيرٍ وَأَبْيَنَهُ وَأَبْلَغَهُ وَأَوْصَلَهُ إِلَى الْعُقُولِ وَالْفِطَرِ, فَأَبَى أَعْدَاؤُهُ الْجَاحِدُونَ إِلَّا تَكْذِيبًا لَهُ وَتَعْجِيزًا لَهُ وَطَعْنًا فِي حُكْمِهِ, تَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا
وَقَوْلُهُ فِي الْأَرْضِ أَشْرَفْتَ عَلَيْهَا وَهِيَ مُدَرَةٌ بَالِيَةٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الرُّومِ: 50] وَقَوْلُهُ: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فُصِّلَتْ: 39] وَنَظَائِرُهُ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرَةٌ. وَقَوْلُهُ فَتَنْظُرُونَ إِلَيْهِ وَيَنْظُرُ إِلَيْكُمْ فِيهِ إِثْبَاتُ صِفَةِ التَّجَلِّي لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِثْبَاتُ النَّظَرِ لَهُ وَإِثْبَاتُ رُؤْيَتِهِ فِي الْآخِرَةِ وَنَظَرُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَيْهِ. وَقَوْلُهُ كَيْفَ وَنَحْنُ مِلْءُ الْأَرْضِ وَهُوَ شَخْصٌ وَاحِدٌ قَدْ جَاءَ هَذَا الْحَدِيثُ وَفِي قَوْلِهِ فِي حَدِيثٍ آخَرَ "لَا شَخْصَ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ" 1 وَالْمُخَاطَبُونَ بِهَذَا قَوْمٌ عَرَبٌ يَعْلَمُونَ الْمُرَادَ مِنْهُ وَلَا يَقَعُ فِي قُلُوبِهِمْ تَشْبِيهُهُ سُبْحَانَهُ بِالْأَشْخَاصِ, بَلْ هُمْ أَشْرَفُ عُقُولًا وَأَصَحُّ أَذْهَانًا وَأَسْلَمُ قُلُوبًا مِنْ ذَلِكَ, وَحَقَّقَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وُقُوعَ الرُّؤْيَةِ عِيَانًا بِرُؤْيَةِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ تَحْقِيقًا لَهَا وَنَفْيًا لِتَوَهُّمِ الْمَجَازِ الَّذِي يَظُنُّهُ الْمُعَطِّلُونَ. وَقَوْلُهُ فَيَأْخُذُ رَبُّكَ بِيَدِهِ غَرْفَةً مِنَ الْمَاءِ فَيَنْضَحُ بِهَا قَبْلَكُمْ فِيهِ إِثْبَاتُ صِفَةِ الْيَدِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِقَوْلِهِ وَإِثْبَاتُ الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ النَّضْحُ, والريطة الْمُلَاءَةُ والحمم جَمْعُ حُمَمَةٍ وَهِيَ الْفَحْمَةُ. وَقَوْلُهُ "ثُمَّ يَنْصَرِفُ نَبِيُّكُمْ" هَذَا انْصِرَافٌ مِنْ مَوْضِعِ الْقِيَامَةِ إِلَى الْجَنَّةِ. وَقَوْلُهُ وَيُفَرَّقُ عَلَى أَثَرِهِ الصَّالِحُونَ أَيْ يَفْزَعُونَ وَيَمْضُونَ عَلَى أَثَرِهِ قَوْلُهُ فَتَطَّلِعُونَ عَلَى حَوْضِ نَبِيِّكُمْ ظَاهِرُ هَذَا أَنَّ الْحَوْضَ مِنْ وَرَاءِ الْجِسْرِ فَكَأَنَّهُمْ لَا يَصِلُونَ إِلَيْهِ حَتَّى يَقْطَعُوا الْجِسْرَ وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "بَيْنَا أَنَا قَائِمٌ عَلَى الْحَوْضِ إِذَا زُمْرَةٌ حَتَّى إِذَا عَرَفْتُهُمْ خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ بَيْنِي وَبَيْنِهِمْ فَقَالَ لَهُمْ هَلُمَّ فَقُلْتُ إِلَى أَيْنَ فَقَالَ: إِلَى النَّارِ وَاللَّهِ قُلْتُ مَا شَأْنُهُمْ قَالَ إِنَّهُمُ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ فَلَا أَرَاهُ يَخْلُصُ مِنْهُمْ إِلَّا مَثَلُ هَمَلِ النَّعَمِ" 2 قَالَ: فَهَذَا الْحَدِيثُ مَعَ صِحَّتِهِ أَدَلُّ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ الْحَوْضَ يَكُونُ
فِي الْمَوْقِفِ قَبْلَ الصِّرَاطِ لِأَنَّ الصِّرَاطَ إِنَّمَا هُوَ جِسْرٌ مَمْدُودٌ عَلَى جَهَنَّمَ, فَمَنْ جَازَهُ سَلِمَ مِنَ النَّارِ. قُلْتُ1 وَلَيْسَ بَيْنَ أَحَادِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعَارُضٌ وَلَا تَنَاقُضٌ وَلَا اخْتِلَافٌ, وَحَدِيثُهُ كُلُّهُ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا, وَأَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ إِنْ أَرَادُوا أَنَّ الْحَوْضَ لَا يُرَى وَلَا يُوصَلُ إِلَيْهِ إِلَّا بَعْدَ قَطْعِ الصِّرَاطِ فَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ هَذَا وَغَيْرُهُ يَرُدُّ قَوْلَهُمْ, وَإِنْ أَرَادُوا أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا جَازُوا الصِّرَاطَ وَقَطَعُوهُ بَدَا لَهُمُ الْحَوْضُ فَشَرِبُوا مِنْهُ, فَهَذَا يَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ لَقِيطٍ هَذَا وَهُوَ لَا يُنَاقِضُ كَوْنَهُ قَبْلَ الصِّرَاطِ, فَإِنَّ قَوْلَهُ "طُولُهُ شَهْرٌ وَعَرْضُهُ شَهْرٌ" فَإِذَا كَانَ بِهَذَا الطُّولِ وَالسَّعَةِ فَمَا الَّذِي يُحِيلُ امْتِدَادَهُ إِلَى وَرَاءِ الْجِسْرِ فَيَرِدُهُ الْمُؤْمِنُونَ قَبْلَ الصِّرَاطِ وَبَعْدَهُ, فَهَذَا فِي حَيِّزِ الْإِمْكَانِ وَوُقُوعُهُ مَوْقُوفٌ عَلَى خَبَرِ الصَّادِقِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ "وَاللَّهِ عَلَى أَظْمَأِ نَاهِلَةٍ قَطُّ" النَّاهِلَةُ الْعِطَاشُ الْوَارِدُونَ الْمَاءَ أَيْ يَرِدُونَهُ أَظْمَأَ مَا هُمْ إِلَيْهِ, وَهَذَا يُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الصِّرَاطِ فَإِنَّهُ جِسْرُ النار وقد وردوه كُلُّهُمْ, فَلَمَّا قطعوه اشتد ظمؤهم إِلَى الْمَاءِ فَوَرَدُوا حَوْضَهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَمَا وَرَدُوهُ فِي مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ. وَقَوْلُهُ "تُحْبَسُ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ" أَيْ تُخْتَفَيَانِ فَتُحْتَبَسَانِ وَلَا يُرَيَانِ وَالِاحْتِبَاسُ التَّوَارِي وَالِاخْتِفَاءُ, وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ فَانْحَبَسَتْ وَقَوْلُهُ مَا بَيْنَ الْبَابَيْنِ مَسِيرَةُ سَبْعِينَ عَامًا يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ مَا بَيْنَ الْبَابِ وَالْبَابِ هَذَا الْمِقْدَارُ, وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِالْبَابَيْنِ الْمِصْرَاعَيْنِ, وَلَا يُنَاقِضُ هَذَا مَا جَاءَ مِنْ تَقْدِيرِهِ بِأَرْبَعِينَ عَامًا لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ فِيهِ رَاوِيهِ بِالرَّفْعِ, بَلْ قَالَ وَلَقَدْ ذَكَرَ لَنَا أَنَّ مَا بَيْنَ الْمِصْرَاعَيْنِ مَسِيرَةَ أَرْبَعِينَ عَامًا وَالثَّانِي أَنَّ الْمَسَافَةَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ سُرْعَةِ السَّيْرِ فِيهَا وَبُطْئِهِ, وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ فِي خَمْرِ الْجَنَّةِ "مَا بِهَا صُدَاعٌ وَلَا نَدَامَةٌ" تَعْرِيضٌ بِخَمْرِ الدُّنْيَا وَمَا يَلْحَقُ بِهَا مِنْ صُدَاعِ الرَّأْسِ وَالنَّدَامَةِ عَلَى ذَهَابِ الْعَقْلِ وَالْمَالِ وَحُصُولِ الشَّرِّ الَّذِي يُوجِبُهُ زَوَالُ الْعَقْلِ وَمَاءٌ غَيْرُ آسِنٍ هُوَ الَّذِي لَمْ يَتَغَيَّرْ بِطُولِ مُكْثِهِ.
وَقَوْلُهُ فِي نِسَاءِ الْجَنَّةِ غَيْرَ أَنْ لَا تَوَالُدَ قَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ هَلْ تَلِدُ نِسَاءُ أَهْلِ الْجَنَّةِ على قولين فقال: ت طَائِفَةٌ لَا يَكُونُ فِيهَا حَبَلٌ وَلَا وِلَادَةٌ وَاحْتَجَّتْ هَذِهِ الطَّائِفَةُ بِهَذَا الْحَدِيثِ, وَبِحَدِيثٍ آخَرَ أَظُنُّهُ فِي الْمُسْنَدِ وَفِيهِ "غَيْرَ أَنَّ لَا مَنِيَّ وَلَا مَنِيَّةَ1. وَأَثْبَتَتْ طَائِفَةٌ مِنَ السَّلَفِ الْوِلَادَةَ فِي الْجَنَّةِ, وَاحْتَجَّتْ بِمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الصِّدِّيقِ النَّاجِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْمُؤْمِنُ إِذَا اشْتَهَى الْوَلَدَ فِي الْجَنَّةِ كَانَ حَمْلُهُ، وَوَضْعُهُ وَسِنُّهُ فِي سَاعَةٍ كَمَا يَشْتَهِي" قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ, وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ2. قَالَتِ الطَّائِفَةُ الْأُولَى هَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى وُقُوعِ الْوِلَادَةِ فِي الْجَنَّةِ, فَإِنَّهُ عَلَّقَهُ بِالشَّرْطِ فَقَالَ: "إِذَا اشْتَهَى وَلَكِنَّهُ لَا يَشْتَهِي" وَهَذَا تَأْوِيلُ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ حَكَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْهُ قَالُوا وَالْجَنَّةُ دَارُ جَزَاءٍ عَلَى الْأَعْمَالِ وَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْجَزَاءِ, قَالُوا وَالْجَنَّةُ دَارُ خُلُودٍ وَلَا يَمُوتُ فِيهَا, فَلَوْ تَوَالَدَ فِيهَا أَهْلُهَا عَلَى الدَّوَامِ وَالْأَوَابِدِ لَمَا وَسِعَتْهُمْ, وَإِنَّمَا وَسِعَتْهُمُ الدُّنْيَا بِالْمَوْتِ وَأَجَابَتِ الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ وَقَالَتْ إِذًا إِنَّمَا تَكُونُ لِلْمُحَقَّقِ وُقُوعُهُ لَا الْمَشْكُوكِ فِيهِ, وَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يُنْشِئُ فِي الْجَنَّةِ خَلْقًا لِيُسْكِنَهُمْ إِيَّاهَا بِلَا عَمَلٍ, قَالُوا وَأَطْفَالُ الْمُسْلِمِينَ أَيْضًا فِيهَا بِغَيْرِ عَمَلٍ, وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ سَعَتِهَا فَلَوْ رُزِقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَشَرَةَ آلَافٍ مِنَ الْوَلَدِ وَسِعَتْهُمْ, فَإِنَّ أَدْنَاهُمْ مَنْ يُنْظَرُ فِي مُلْكِهِ مَسِيرَةَ أَلْفَيْ عَامٍ. وَقَوْلُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَقْصَى مَا نَحْنُ بَالِغُونَ وَمُنْتَهُونَ لَا جَوَابَ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِأَنَّهُ إِنْ أَرَادَ أَقْصَى مدة الدنيا وانتهاءها فَلَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ وَإِنْ أَرَادَ أَقْصَى مَا نَحْنُ بَالِغُونَ إِلَيْهِ بَعْدَ دُخُولِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ, فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ أَقْصَى مَا يَنْتَهِي إِلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ.
وَإِنْ كَانَ الِانْتِهَاءُ إِلَى نَعِيمٍ وَجَحِيمٍ وَلِهَذَا لَمْ يُجِبْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَوْلُهُ فِي عَقْدِ الْبَيْعَةِ وَزِيَالِ الْمُشْرِكِ أَيْ مُفَارَقَتِهِ وَمُعَادَاتِهِ فَلَا تُجَاوِرْهُ وَلَا تَوَالِيهِ, كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي السنن "لا ترأى نَارَاهُمَا" 1 يَعْنِي الْمُسْلِمِينَ والمشركين. وقوله حيثما مَرَرْتَ بِقَبْرِ كَافِرٍ فَقُلْ أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ مُحَمَّدٌ هَذَا إِرْسَالُ تَقْرِيعٍ وَتَوْبِيخٍ لَا تَبْلِيغِ أَمْرٍ وَنَهْيٍ, وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى سَمَاعِ أَصْحَابِ الْقُبُورِ كَلَامَ الْأَحْيَاءِ وَخِطَابِهِمْ لَهُمْ, وَدَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ مَاتَ مُشْرِكًا فَهُوَ فِي النَّارِ وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ الْبَعْثَةِ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا قَدْ غَيَّرُوا الْحَنِيفِيَّةَ دِينَ إِبْرَاهِيمَ وَاسْتَبْدَلُوا بِهَا الشِّرْكَ وَارْتَكَبُوهُ, وَلَيْسَ مَعَهُمْ حُجَّةٌ مِنَ اللَّهِ بِهِ, وَقُبْحِهِ وَالْوَعِيدُ عَلَيْهِ بِالنَّارِ لَمْ يَزَلْ مَعْلُومًا مِنْ دِينِ الرُّسُلِ كُلِّهِمْ مِنْ أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِمْ وَأَخْبَارُ عُقُوبَاتِ اللَّهِ لِأَهْلِهِ مُتَدَاوَلَةٌ بَيْنَ الْأُمَمِ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ, فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إِلَّا مَا فَطَرَ عِبَادَهُ عَلَيْهِ مِنْ تَوْحِيدِ رُبُوبِيَّتِهِ الْمُسْتَلْزِمِ لِتَوْحِيدِ إِلَهِيَّتِهِ وَأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ فِي كُلِّ فِطْرَةٍ وَعَقْلٍ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ إِلَهٌ آخَرُ, وَإِنْ كَانَ سُبْحَانَهُ لَا يُعَذِّبُ بِمُقْتَضَى هَذِهِ الْفِطْرَةِ وَحْدَهَا, فَلَمْ تَزَلْ دَعْوَةُ الرُّسُلِ إِلَى التَّوْحِيدِ فِي الْأَرْضِ مَعْلُومَةً لِأَهْلِهَا, فَالْمُشْرِكُ يَسْتَحِقُّ الْعَذَابَ بِمُخَالَفَتِهِ دَعْوَةَ الرُّسُلِ, وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فصل منكرو البعث أربعة أصناف الطبائعية والدورية ومشركو العرب وملاحدة الجهمية وشرح أبيات عنهم في نونية ابن القيم
فَصَلٌ: [مُنْكِرُو الْبَعْثِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَصْنَافٍ] : ثُمَّ مُنْكِرُو الْبَعْثِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَصْنَافٍ: صِنْفٌ أَنْكَرُوا الْمَبْدَأَ وَالْمَعَادَ, وَزَعَمُوا أَنَّ الْأَكْوَانَ تَتَصَرَّفُ بِطَبِيعَتِهَا فَتُوجَدُ وَتَعْدَمُ بِأَنْفُسِهَا, لَيْسَ لَهَا رَبٌّ يَتَصَرَّفُ فِيهَا, إِنَّمَا هِيَ أَرْحَامٌ تَدْفَعُ وَأَرْضٌ تَبْلَعُ, وَهَؤُلَاءِ هُمْ جُمْهُورُ الْفَلَاسِفَةِ الدَّهْرِيَّةِ وَالْطَبَائِعِيَّةِ. وَالصِّنْفُ الثَّانِي مِنَ الدَّهْرِيَّةِ طَائِفَةٌ يُقَالُ لَهُمُ الدَّوْرِيَّةُ, وَهُمْ مُنْكِرُونَ لِلْخَالِقِ أَيْضًا وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّ فِي كُلِّ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ أَلْفَ سَنَةٍ يَعُودُ كُلُّ شَيْءٍ إِلَيَّ مَا كَانَ عَلَيْهِ وَزَعَمُوا أَنَّ هَذَا قَدْ تَكَرَّرَ مَرَّاتٍ لَا تَتَنَاهَى فَكَابَرُوا فِي الْمَعْقُولِ وَكَذَّبُوا الْمَنْقُولَ قَبَّحَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى وَهَاتَانِ الطَّائِفَتَانِ يَعُمُّهُمْ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الْجَاثِيَةِ: 34] وَلِهَذَا عَنِ السَّلَفِ الصَّالِحِ فِيهَا تَفْسِيرَانِ الْأَوَّلُ مَعْنَى قَوْلُهُمْ {نَمُوتُ وَنَحْيَا} أَيْ يموت الآباء ويحيا الْأَبْنَاءُ هَكَذَا أَبَدًا, وَهُوَ قَوْلُ الطَّائِفَةِ الْأُولَى وَالْمَعْنَى الثَّانِي أَنَّهُمْ عَنَوْا كَوْنَهُمْ يَمُوتُونَ وَيُحْيَوْنَ هُمْ أَنْفُسُهُمْ وَيَتَكَرَّرُ ذَلِكَ مِنْهُمْ أَبَدًا وَلَا حِسَابَ وَلَا جَزَاءَ, بل ولا موجد وَلَا مُعْدَمَ وَلَا مُحَاسِبَ وَلَا مُجَازِيَ, وَهَذَا قَوْلُ الدَّوْرِيَّةِ. الصِّنْفُ الثَّالِثُ الدَّهْرِيَّةُ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ, وَهُمْ مُقِرُّونَ بِالْبُدَاءَةِ وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَبُّهُمْ وَخَالِقُهُمْ {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزُّخْرُفِ: 87] وَمَعَ هَذَا قَالُوا {إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ} [الدُّخَانِ: 35] فَأَقَرُّوا بِالْبُدَاءَةِ وَالْمُبْدِئِ, وَأَنْكَرُوا الْبَعْثَ وَالْمَعَادَ وَهُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الصَّحِيحِ "وَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ لَنْ يُعِيدَنِي كَمَا بَدَأَنِي, وَلَيْسَ أَوَّلُ الْخَلْقِ بِأَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ إِعَادَتِهِ" 1. وَالصِّنْفُ الرَّابِعُ مَلَاحِدَةُ الْجَهْمِيَّةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ, أَقَرُّوا بِمَعَادٍ لَيْسَ عَلَى مَا فِي
الْقُرْآنِ وَلَا فِيمَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ, بَلْ زَعَمُوا أَنَّ هَذَا الْعَالَمَ يَعْدَمُ عَدَمًا مَحْضًا وَلَيْسَ الْمَعَادُ هُوَ بَلْ عَالَمٌ آخَرُ غَيْرُهُ, فَحِينَئِذٍ تَكُونُ الْأَرْضُ الَّتِي تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا وَتُخْبِرُ بِمَا عُمِلَ عَلَيْهَا مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ لَيْسَتْ هِيَ هَذِهِ, وَتَكُونُ الْأَجْسَادُ الَّتِي تُعَذَّبُ وَتُجَازَى وَتَشْهَدُ عَلَى مَنْ عَمِلَ بِهَا الْمَعَاصِي لَيْسَتْ هِيَ الَّتِي أُعِيدَتْ بَلْ هِيَ غَيْرُهَا, وَالْأَبْدَانُ التي تنعم في الجنة وَتُثَابُ لَيْسَتْ هِيَ الَّتِي عَمِلَتِ الطَّاعَةَ وَلَا أَنَّهَا تَحَوَّلَتْ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ, بَلْ هِيَ غَيْرُهَا تُبْتَدَأُ ابْتِدَاءً مَحْضًا, فَأَنْكَرُوا مَعَادَ الْأَبْدَانِ وَزَعَمُوا أَنَّ الْمَعَادَ بَدَاءَةٌ أُخْرَى وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيهِمْ فِي كَافِيَتِهِ. وَقَضَى بِأَنَّ اللَّهَ يَجْعَلُ خَلْقَهُ ... عَدَمًا وَيُقَلِّبُهُ وُجُودًا ثَانِي الْعَرْشُ وَالْكُرْسِيُّ وَالْأَرْوَاحُ وَالْـ ... أَمْلَاكُ وَالْأَفْلَاكُ وَالْقَمَرَانِ وَالْأَرْضُ وَالْبَحْرُ وَالْمُحِيطُ وَسَائِرُ الْـ ... أَكْوَانِ مِنْ عَرْضٍ وَمِنْ جُثْمَانِ كُلٌّ سَيُفْنِيهِ الْفَنَاءُ الْمَحْضُ لَا ... يَبْقَى لَهُ أَثَرٌ كَظِلِّ فَانِ وَيُعِيدُ ذَا الْمَعْدُومِ أَيْضًا ثَانِيًا ... مَحْضُ الْوُجُودِ إِعَادَةٌ بِزَمَانِ هَذَا الْمَعَادُ وَذَلِكَ الْمَبْدَأُ لَدَى ... جَهْمٍ وَقَدْ نَسَبُوهُ لِلْقُرْآنِ هَذَا الَّذِي قَادَ ابْنَ سِينَا وَالْأُلَى ... قَالُوا مَقَالَتَهُ إِلَى الْكُفْرَانِ لَمْ تَقْبَلِ الْأَذْهَانُ ذَا وَتَوَهَّمُوا ... أَنَّ الرَّسُولَ عَنَاهُ بِالْإِيمَانِ هَذَا كِتَابُ اللَّهِ أَنَّى قَالَ ذَا ... أَوْ عَبْدُهُ الْمَبْعُوثُ بِالْبُرْهَانِ أَوْ صَحْبُهُ مِنْ بَعْدِهِ أَوْ تَابِعٌ ... لَهُمُو عَلَى الْإِيمَانِ وَالْإِحْسَانِ بَلْ صَرَّحَ الْوَحْيُ الْمُبِينُ بِأَنَّهُ ... حَقًّا مُغَيِّرُ هَذِهِ الْأَكْوَانِ فَيُبَدِّلُ الله السماوات العلا ... وَالْأَرْضَ أَيْضًا ذَانِ تَبْدِيلَانِ وَهُمَا كَتَبْدِيلِ الجلود لساكني ... النيران عِنْدَ النُّضْجِ مِنْ نِيرَانِ وَكَذَاكَ يَقْبِضُ أَرْضَهُ وَسَمَاءَهُ ... بِيَدَيْهِ مَا الْعَدَمَانِ مَقْبُوضَانِ وَتُحَدِّثُ الْأَرْضُ الَّتِي كُنَّا بِهَا ... أَخْبَارَهَا فِي الْحَشْرِ لِلرَّحْمَنِ وَتَظَلُّ تَشْهَدُ وَهِيَ عَدْلٌ بِالَّذِي ... مِنْ فَوْقِهَا قَدْ أَحْدَثَ الثَّقَلَانِ أَفَيَشْهَدُ الْعَدَمُ الَّذِي هُوَ كَاسْمِهِ ... لَا شَيْءَ هَذَا لَيْسَ فِي الْإِمْكَانِ لَكِنْ تُسَوَّى ثُمَّ تبسط ثم تشهد ... ثُمَّ تُبَدَّلُ وَهِيَ ذَاتُ كِيَانِ
وَتُمَدُّ أَيْضًا مِثْلَ مَدِّ أَدِيمِنَا ... مِنْ غَيْرِ أَوْدِيَةٍ وَلَا كُثْبَانِ وَتَقِيءُ يَوْمَ الْعَرْضِ مِنْ أَكْبَادِهَا ... كَالِاسْطُوَانِ نَفَائِسُ الْأَثْمَانِ كُلٌّ يَرَاهُ بِعَيْنِهِ وَعِيَانِهِ ... مَا لِامْرِئٍ بِالْأَخْذِ مِنْهُ يَدَانِ وَكَذَا الْجِبَالُ تُفَتُّ فَتًّا مُحْكَمًا ... فَتَعُودُ مِثْلَ الرَّمْلِ ذِي الْكُثْبَانِ وَتَكُونُ كَالْعِهْنِ الَّذِي لَوْ أَنَّهُ ... وَصِبَاغُهُ مِنْ سَائِرِ الْأَلْوَانِ وَتُبَسُّ بَسًّا مِثْلَ ذَاكَ فَتَنْثَنِي ... مِثْلَ الْهَبَاءِ لِنَاظِرِ الْإِنْسَانِ وَكَذَا الْبِحَارُ فَإِنَّهَا مَسْجُورَةٌ ... قَدْ فُجِّرَتْ تَفْجِيرَ ذِي سُلْطَانِ وَكَذَلِكَ الْقَمَرَانِ يَأْذَنُ رَبُّنَا ... لَهُمَا فَيَجْتَمِعَانِ يَلْتَقِيَانِ هَذِي مُكَوَّرَةٌ وَهَذَا خَاسِفٌ ... وَكِلَاهُمَا فِي النَّارِ مَطْرُوحَانِ وَكَوَاكِبُ الْأَفْلَاكِ تُنْثَرُ كُلُّهَا ... كَلَآلِئٍ نُثِرَتْ عَلَى مَيْدَانِ وَكَذَا السَّمَاءُ تُشَقُّ شَقًّا ظَاهِرًا ... وَتَمُورُ أَيْضًا أَيَّمَا مَوَرَانِ وَتَصِيرُ بَعْدَ الانشقاق كمثل هذا ... الْمُهْلِ أَوْ تَكُ وَرْدَةً كَدِهَانِ وَالْعَرْشُ وَالْكُرْسِيُّ لَا يُفْنِيهِمَا ... أَيْضًا وَإِنَّهُمَا لَمَخْلُوقَانِ وَالْحُورُ لَا تَفْنَى كذلك جنة ... المأوى وَمَا فِيهَا مِنَ الْوِلْدَانِ وَلِأَجْلِ هَذَا قَالَ جَهْمٌ إِنَّهَا ... عَدَمٌ وَلَمْ تُخْلَقْ إِلَى ذَا الْآنِ وَالْأَنْبِيَاءُ فَإِنَّهُمْ تَحْتَ الثَّرَى ... أَجْسَادُهُمْ حُفِظَتْ مِنَ الدِّيدَانِ مَا لِلْبِلَى بِلُحُومِهِمْ وَجُسُومِهِمْ ... أَبَدًا وَهُمْ تَحْتَ التُّرَابِ يَدَانِ وَكَذَاكَ عَجَبُ الظَّهْرِ لَا يَبْلَى بَلَى ... مِنْهُ تُرَّكَبُ خِلْقَةُ الْإِنْسَانِ وَكَذَلِكَ الْأَرْوَاحُ لَا تَبْلَى كَمَا ... تَبْلَى الْجُسُومُ وَلَا بَلَى اللَّحِمَانِ وَلِأَجْلِ ذَلِكَ لَمْ يُقِرَّ الْجَهْمُ مَا ... الْأَرْوَاحُ خَارِجَةٌ عَنِ الْأَبْدَانِ لَكِنَّهَا مِنْ بَعْضِ أَعْرَاضٍ بِهَا ... قَامَتْ وَذَا فِي غَايَةِ الْبُطْلَانِ فَالشَّأْنُ لِلْأَرْوَاحِ بَعْدَ فِرَاقِهَا ... أَبْدَانَهَا وَاللَّهُ أَعْظَمُ شَانِ إِمَّا عَذَابٌ أَوْ نُعَيْمٌ دَائِمٌ ... قَدْ نَعِمَتْ بِالرَّوْحِ وَالرَّيْحَانِ وَتَصِيرُ طَيْرًا سَارِحًا مَعَ شَكْلِهَا ... تَجْنِي الثِّمَارَ بِجَنَّةِ الْحَيَوَانِ وَتَظَلُّ وَارِدَةً لِأَنْهَارٍ بِهَا ... حَتَّى تَعُودَ لِذَلِكَ الْجُثْمَانِ لَكِنَّ أَرْوَاحَ الَّذِينَ اسْتُشْهِدُوا ... فِي جَوْفِ طَيْرٍ أَخْضَرٍ رِيَّانِ
فَلَهُمْ بِذَاكَ مَزِيَّةٌ فِي عيشهم ... ونعيمهم للأرواح وَالْأَبْدَانِ بَذَلُوا الْجُسُومَ لِرَبِّهِمْ فَأَعَاضَهُمْ ... أَجْسَامَ تِلْكَ الطَّيْرِ بِالْإِحْسَانِ وَلَهَا قَنَادِيلٌ إِلَيْهَا تَنْتَهِي ... مَأْوَى لَهَا كَمَسَاكِنِ الْإِنْسَانِ فَالرُّوحُ بَعْدَ الْمَوْتِ أَكْمَلُ حَالَةٍ ... مِنْهَا بِهَذِي الدَّارِ فِي جُثْمَانِ وَعَذَابُ أَشْقَاهَا أَشَدُّ مِنَ الَّذِي ... قَدْ عَايَنَتْ أَبْصَارُنَا بِعِيَانِ وَالْقَائِلُونَ بِأَنَّهَا عَرَضٌ أَبَوْا ... ذَا كُلَّهُ تَبًّا لِذِي نُكْرَانِ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ إِخْرَاجَ الْوَرَى ... بَعْدَ الْمَمَاتِ إِلَى الْمَعَادِ الثَّانِي أَلْقَى عَلَى الْأَرْضِ الَّتِي هُمْ تَحْتَهَا ... وَاللَّهُ مُقْتَدِرٌ وَذُو سُلْطَانِ مَطَرًا غَلِيظًا أَبْيَضًا مُتَتَابِعًا ... عَشْرًا وَعَشْرًا بَعْدَهَا عَشْرَانِ فَتَظَلُّ تَنْبُتُ مِنْهُ أَجْسَامُ الْوَرَى ... وَلُحُومُهُمْ كَمَنَابِتِ الرَّيْحَانِ حَتَّى إِذَا مَا الْأُمُّ حَانَ وِلَادُهَا ... وَتَمَخَّضَتْ فَنِفَاسُهَا مُتَدَانِ أَوْحَى لَهَا رَبُّ السَّمَا فَتَشَقَّقَتْ ... فَبَدَا الْجَنِينُ كَأَكْمَلِ الشُّبَّانِ وَتَخَلَّتِ الْأُمُّ الْوَلُودُ وَأَخْرَجَتْ ... أَثْقَالُهَا أُنْثَى وَمِنْ ذُكْرَانِ وَاللَّهُ يُنْشِئُ خَلْقَهُ فِي نَشْأَةٍ ... أُخْرَى كَمَا قَدْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ هَذَا الَّذِي جَاءَ الكتاب وسنة ... الهادي بِهِ فَاحْرِصْ عَلَى الْإِيمَانِ مَا قَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْدَمُ خَلْقَهُ ... طُرًّا كَقَوْلِ الْجَاهِلِ الْحَيْرَانِ قَوْلُهُ هَذَا الْمَعَادُ وَذَلِكَ الْمَبْدَأُ لَدَى جَهْمٍ تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ وَتَقَدَّمَ تَرْجَمَةُ جَهْمٍ وَبَيَانُ مَذْهَبِهِ وَعَمَّنْ أَخَذَهُ وَمَنْ أَخَذَ عَنْهُ, وَقَوْلُهُ وَهُوَ الَّذِي قَادَ ابْنَ سِينَا هُوَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ سِينَا وَاسْمُهُ الْحَسَنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ رَئِيسُ الْفَلَاسِفَةِ وَمُهَذِّبُ مَذْهَبِهِمْ, لَهُ كِتَابُ الْإِشَارَاتِ الَّذِي هَذَّبَ فِيهِ مَذْهَبَ أَرِسْطُو وَقَرَّبَهُ قَلِيلًا إِلَى الْأَدْيَانِ وَكَانَ -فِيمَا ذَكَرَ ابْنُ الْقَيِّمِ- يَقُولُ بِقِدَمِ الْعَالَمِ وَإِنْكَارِ الْمَعَادِ وَنَفْيِ عِلْمِ الرَّبِّ تَعَالَى وَقُدْرَتِهِ وَخَلْقِهِ الْعَالِمَ وَبَعْثِهُ مَنْ فِي الْقُبُورِ, وَكَانَ ابْنُ سِينَا هَذَا تَفَقَّهَ مَذْهَبَ الْفَلَاسِفَةِ مِنْ كُتُبِ الْفَارَابِيِّ أَبِي نَصْرٍ التُّرْكِيِّ الْفَيْلَسُوفِ وَكَانَ الْفَارَابِيُّ هَذَا قَبَّحَهُ اللَّهُ يَقُولُ بِالْمَعَادِ الرُّوحَانِيِّ لَا الْجُثْمَانِيِّ, وَيُخَصِّصُ بِالْمَعَادِ الْأَرْوَاحَ الْعَالِمَةَ لَا الْجَاهِلَةَ وَلَهُ مَذَاهِبُ فِي ذَلِكَ, يُخَالِفُ الْمُسْلِمِينَ وَالْفَلَاسِفَةَ مِنْ سَلَفِهِ الْأَقْدَمِينَ, وَتَحَمَّلَ ذَلِكَ عَنْهُ ابْنُ سِينَا وَنَصَرَهُ, وَقَدْ رَدَّ عَلَيْهِ الْغَزَالِيُّ فِي تَهَافُتِ الْفَلَاسِفَةِ فِي
عِشْرِينَ مَجْلِسًا لَهُ, كَفَّرَهُ فِي ثَلَاثٍ مِنْهَا وَهِيَ قَوْلُهُ بِقِدَمِ الْعَالَمِ وَعَدَمِ الْمَعَادِ الْجُثْمَانِيِّ وَقَوْلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ الْجُزْئِيَّاتِ وَبَدَّعَهُ فِي الْبَوَاقِي قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ وَيُقَالُ إِنَّهُ تَابَ عِنْدَ الْمَوْتِ فَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالْأُلَى قَالُوا مَقَالَتَهُ إِلَى الْكُفْرَانِ يَعْنِي بِذَلِكَ أَتْبَاعَ ابْنِ سِينَا وَأَنْصَارَ زَنْدَقَتِهِ وَمِنْ أَكْبَرِهِمْ وَأَشْهَرِهِمُ النَّصِيرُ الطُّوسِيُّ وَاسْمُهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَيُقَالُ لَهُ الْخَوَاجَا نَصِيرُ الدِّينِ فَإِنَّهُ انْتُدِبَ لِنَصْرِ مَذْهَبِ ابْنِ سِينَا وَالذَّبِّ عَنْهُ وَقَامَ فِي ذَلِكَ وَقَعَدَ وَشَرَحَ إِشَارَاتِهِ وَكَانَ يُسَمِّيهَا فِيمَا يَزْعُمُونَ قُرْآنَ الْخَاصَّةِ, وَيُسَمِّي كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى قُرْآنَ الْعَامَّةِ, وَرَدَّ عَلَى الشِّهْرِسْتَانِيِّ فِي مُصَارَعَتِهِ ابْنَ سِينَا بِكِتَابٍ سَمَّاهُ مُصَارَعَةَ الْمُصَارِعِ, قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ وَقَفْنَا عَلَى الْكِتَابَيْنِ نَصَرَ فِيهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَخْلُقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ, وَأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ شَيْئًا وَأَنَّهُ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا بِقُدْرَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ, وَلَا يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ وَذَكَرَ عَنْهُ أَنَّهُ تَعَلَّمَ السِّحْرَ فِي آخِرِ الْأَمْرِ فَكَانَ سَاحِرًا يَعْبُدُ الْأَصْنَامَ إِلَى أَنْ قَالَ وَبِالْجُمْلَةِ فَكَانَ هَذَا الْمُلْحِدُ هُوَ وَأَتْبَاعُهُ مِنَ الْكَافِرِينَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قُلْتُ وَكَانَ الطُّوسِيُّ هَذَا فِيمَا ذَكَرَ أَهْلُ التَّارِيخِ وَزِيرًا لِهُولَاكُو خَانْ وَهُوَ الَّذِي بَنَى الرَّصَدَ بِمَرَاغَةَ وَرَتَّبَ فِيهِ الْحُكَمَاءَ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ وَالْأَطِبَّاءِ وَغَيْرِهِمْ, وَنَقَلَ إِلَيْهَا أَوْقَافَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ النَّفَقَاتِ وَالْمَكَاتِبِ وَغَيْرِهَا قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِنَّهُ عَمِلَ الرَّصَدَ بِمَدِينَةِ مَرَاغَةَ سَنَةَ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ وَسِتِّمِائَةٍ فَعَمِلَ دَارَ حِكْمَةٍ وَرَتَّبَ فِيهَا فَلَاسِفَةً وَرَتَّبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ, وَدَارَ طِبٍّ فِيهَا لِلطَّبِيبِ فِي الْيَوْمِ دِرْهَمَانِ, وَمَدْرَسَةً لِكُلِّ فَقِيهٍ فِي الْيَوْمِ دِرْهَمٌ, وحديث لِكُلِّ مُحَدِّثٍ نِصْفُ دِرْهَمٍ فِي الْيَوْمِ وَقَدْ أَطَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْكَلَامِ عَلَيْهِ فَلْيُرَاجَعْ, وَأَمَّا هُولَاكُو خَانْ مَلِكُ التَّتَارِ الَّذِي كَانَ الطُّوسِيُّ وَزِيرًا لَهُ فَذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ هَلَاكَهُ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ وَسِتِّمِائَةٍ وَقَالَ كَانَ مَلِكًا جَبَّارًا كَفَّارًا لَعَنَهُ اللَّهُ تَعَالَى, قَتَلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ شَرْقًا وَغَرْبًا مَا لَا يَعْلَمُ عَدَدَهُمْ إِلَّا الَّذِي خَلَقَهُمْ وَسَيُجَازِيهِ عَلَى ذَلِكَ شَرَّ الْجَزَاءِ كَانَ لَا يَتَقَيَّدُ بِدِينٍ مِنَ الْأَدْيَانِ وَإِنَّمَا كَانَتْ زَوْجَتُهُ ظُفْرُ خَاتُونَ قَدْ تَنَصَّرَتْ وَكَانَتْ تُفَضِّلُ النَّصَارَى عَلَى سَائِرِ الْخَلْقِ, وَكَانَ أَهْلُهَا مِنْ أَفْرَاخِ الْفَلَاسِفَةِ لَهُمْ عِنْدَهُ وَجَاهَةٌ وَمَكَانَةٌ, وَهُوَ كَانَ يَتَرَامَى عَلَى مَحَبَّةِ الْمَعْقُولَاتِ وَلَا يُتَصَوَّرُ مِنْهَا شَيْئًا
وَإِنَّمَا كانت هِمَّتُهُ فِي تَدْبِيرِ الْمُلْكِ وَتَمَلُّكِ الْبِلَادِ شَيْئًا فَشَيْئًا, حَتَّى أَبَادَهُ اللَّهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ, وَقِيلَ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ وَدُفِنَ فِي مَدِينَةِ تَلَا1, لَا رَحِمَهُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: وَقَوْلُ ابْنِ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ. بَلْ صَرَّحَ الْوَحْيُ الْمُبِينُ بِأَنَّهُ ... حَقًّا مُغَيِّرُ هَذِهِ الْأَكْوَانِ إِلَخْ يُشِيرُ بِذَلِكَ إِلَى قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} [إِبْرَاهِيمَ: 48] الْآيَاتِ, وَإِلَى مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى أَرْضٍ بَيْضَاءَ عَفْرَاءَ كَقُرْصَةِ النَّقِيِّ, لَيْسَ فِيهَا مَعْلَمٌ لِأَحَدٍ" 2 وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تَكُونُ الْأَرْضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خُبْزَةً وَاحِدَةً, يَتَكَفَّؤُهَا الْجَبَّارُ بِيَدِهِ كَمَا يَتَكَفَّأُ أَحَدُكُمْ خُبْزَتَهُ فِي السَّفَرِ نُزُلًا لِأَهْلِ الْجَنَّةِ " 3. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ أَنَا أَوَّلُ النَّاسِ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} [إِبْرَاهِيمَ: 48] قَالَتْ قُلْتُ أَيْنَ النَّاسُ يَوْمَئِذٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ عَلَى الصِّرَاطِ4. وَفِيهِ مِنْ حَدِيثِ الْيَهُودِيِّ الَّذِي سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْنَ يَكُونُ النَّاسُ يَوْمَ تُبَدَّلُ
الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "هُمْ فِي الظُّلْمَةِ دُونَ الْجِسْرِ" 1 الْحَدِيثَ. وَلِابْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ أَبِي أَيُّوبٍ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ حَبْرًا مِنَ الْيَهُودِ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَرَأَيْتَ إِذْ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} [إِبْرَاهِيمَ: 48] فَأَيْنَ الْخَلْقُ عِنْدَ ذَلِكَ فَقَالَ: "أَضْيَافُ اللَّهِ, فَلَنْ يُعْجِزَهُمْ مَا لَدَيْهِ" 2 وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَيْضًا وَفِي حَدِيثِ الصُّورِ الطَّوِيلِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "يُبَدِّلُ اللَّهُ الْأَرْضَ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ فَيَبْسُطُهَا وَيَمُدُّهَا مَدَّ الْأَدِيمِ الْعُكَاظِيِّ, لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا ثُمَّ يَزْجُرُ اللَّهُ الْخَلْقَ زَجْرَةً فَإِذَا هُمْ فِي هَذِهِ الْمُبْدَلَةِ" 3 وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَشَارَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ وَتُمَدُّ أَيْضًا مِثْلَ مَدِّ أَدِيمِنَا إِلَخْ الْبَيْتِ وَقَوْلُهُ وَهُمَا كَتَبْدِيلِ الْجُلُودِ لِسَاكِنِي النِّيرَانِ إِلَى آخَرَ, يُشِيرُ إِلَى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النِّسَاءِ: 56] وَوَجْهُ الْمُشَابَهَةِ بَيْنَ التَّبْدِيلَيْنِ أَنَّ جُلُودَ الْكُفَّارِ كُلَّمَا احْتَرَقَتْ قِيلَ لَهَا عُودِي فَعَادَتْ كَمَا كَانَتْ وَمَعْنَى قَوْلِهِ غَيْرَهَا أَيْ صَارَتْ غيرها لعودها بعد ما نَضِجَتْ وَاحْتَرَقَتْ, وَإِلَّا فَهِيَ هِيَ الَّتِي عَمِلَتِ الْمَعَاصِيَ فِي الدُّنْيَا وَبِهَا تُجَازَى فِي الْآخِرَةِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يُبَدَّلُونَ جُلُودًا بِيضًا أَمْثَالَ الْقَرَاطِيسِ يَعْنِي تُجَدَّدُ لَهُمُ الْجُلُودُ الَّتِي نَضِجَتْ كَذَلِكَ لِيَتَجَدَّدَ لَهُمُ الْعَذَابُ أَبَدًا وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ وَكَذَلِكَ تَبْدِيلُ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ هُوَ تَغْيِيرُهَا مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ وَإِلَّا فَهِيَ هِيَ, وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَكَذَلِكَ يَقْبِضُ أَرْضَهُ وَسَمَاءَهُ بِيَدَيْهِ إِلَخْ يُشِيرُ إِلَى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 104] وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزُّمَرِ: 67] وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْأَحْبَارِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّا نَجِدُ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَجْعَلُ السَّمَاوَاتِ عَلَى إِصْبَعٍ وَالْأَرَضِينَ عَلَى إِصْبَعٍ وَالشَّجَرَ عَلَى إِصْبَعٍ وَالْمَاءَ وَالثَّرَى عَلَى إِصْبَعٍ وَسَائِرَ الْخَلْقِ عَلَى إِصْبَعٍ فَيَقُولُ أَنَا الْمَلِكُ فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ تَصْدِيقًا لِقَوْلِ الْحَبْرِ, ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزُّمَرِ: 67] 1 الْآيَةَ. وَلِلْإِمَامِ أَحْمَدَ وَالتِّرْمِذِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ مَرَّ يَهُودِيٌّ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ جَالِسٌ فَقَالَ: كَيْفَ تَقُولُ يَا أَبَا الْقَاسِمِ يَوْمَ يَجْعَلُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى السَّمَاءَ عَلَى ذِهْ وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ, وَالْأَرْضَ عَلَى ذِهْ وَالْجِبَالَ عَلَى ذِهْ وَسَائِرَ الْخَلْقِ عَلَى ذِهْ, كُلُّ ذَلِكَ وَيُشِيرُ بِأَصَابِعِهِ قَالَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزُّمَرِ: 67] 2 الْآيَةَ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "يَقْبِضُ اللَّهُ تَعَالَى الْأَرْضَ وَيَطْوِي السَّمَاءَ بِيَمِينِهِ ثُمَّ يَقُولُ أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ مُلُوكُ الْأَرْضِ" 3 وَفِيهِمَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ.
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقْبِضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْأَرَضِينَ عَلَى إِصْبَعٍ وَتَكُونُ السَّمَاوَاتُ بِيَمِينِهِ ثُمَّ يَقُولُ أَنَا الْمَلِكُ" 1 وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ يَأْخُذُ اللَّهُ تبارك وتعالى سمواته وَأَرْضَهُ بِيَدِهِ وَيَقُولُ أَنَا الْمَلِكُ -وَيَقْبِضُ أَصَابِعَهُ وَيَبْسُطُهَا- أَنَا الْمَلِكُ, حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى الْمِنْبَرِ يَتَحَرَّكُ مِنْ أَسْفَلِ شَيْءٍ مِنْهُ حَتَّى إِنِّي لَأَقُولُ أَسَاقِطٌ هُوَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ2 وَلَفْظُ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى الْمِنْبَرِ {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزُّمَرِ: 67] وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "هَكَذَا بِيَدِهِ يُحَرِّكُهَا, يُقْبِلُ بِهَا وَيُدْبِرُ يُمَجِّدُ الرَّبُّ نَفْسَهُ أَنَا الْجَبَّارُ أَنَا الْمُتَكَبِّرُ أَنَا الْمَلِكُ أَنَا الْعَزِيزُ أَنَا الْكَرِيمُ" فَرَجَفَ بِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْمِنْبَرُ حَتَّى قُلْنَا لَيَخِرَّنَّ بِهِ3. وَلِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ يَطْوِي اللَّهُ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ بِمَا فِيهَا مِنَ الْخَلِيقَةِ, وَالْأَرَضِينَ السَّبْعَ بِمَا فِيهَا مِنَ الْخَلِيقَةِ, يَطْوِي ذَلِكَ كُلَّهُ بِيَمِينِهِ, يَكُونُ ذَلِكَ كُلُّهُ فِي يَدِهِ بِمَنْزِلَةِ خَرْدَلَةٍ4 وَقَوْلُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَتُحَدِّثُ الْأَرْضُ الَّتِي كُنَّا بِهَا, أَخْبَارَهَا إِلَخْ يُشِيرُ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} [الزَّلْزَلَةِ: 4-5] وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هَذِهِ الْآيَةَ {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [الزَّلْزَلَةِ: 4] "أَتَدْرُونَ مَا أَخْبَارُهَا" قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: "فَإِنَّ أَخْبَارَهَا أَنْ تَشْهَدَ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ بِمَا عَمِلَ عَلَى ظَهْرِهَا, أَنْ تَقُولَ عَمِلَ كَذَا وَكَذَا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا, فَهَذِهِ أَخْبَارُهَا" ثُمَّ قَالَ: التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ5.
وَفِي مُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ لَهِيعَةَ حَدَّثَنِي الْحَارِثُ بْنُ يَزِيدَ سَمِعَ رَبِيعَةُ الْجُرَشِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "تَحَفَّظُوا مِنَ الْأَرْضِ فَإِنَّهَا أُمُّكُمْ, وَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَحَدٍ عَامِلٌ عَلَيْهَا خَيْرًا أَوْ شَرًّا إِلَّا وَهِيَ مُخْبَرَةٌ" 1 وَقَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَوْحَى لَهَا وَأَوْحَى إِلَيْهَا, وَوَحَى لَهَا وَوَحَى إِلَيْهَا وَاحِدٌ وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ لَهَا ربها قولي فقال: ت, وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَوْحَى لَهَا أَيْ أَمَرَهَا. وَقَوْلُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَتَقِيءُ يَوْمَ الْعَرْضِ مِنْ أَكْبَادِهَا ... كَالِاسْطُوَانِ نَفَائِسُ الْأَثْمَانِ كُلٌّ يَرَاهُ بِعَيْنِهِ إِلَخْ, يُشِيرُ إِلَى قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا} [الزَّلْزَلَةِ: 2] وَإِلَى مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تُلْقِي الْأَرْضُ أَفْلَاذَ كَبِدِهَا أَمْثَالَ الْأُسْطُوَانِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ, فَيَجِيءُ الْقَاتِلُ فَيَقُولُ فِي هَذَا قَتَلْتُ, ويجيء القاطع فيقول فِي هَذَا قَطَعْتُ رَحِمِي, وَيَجِيءُ السَّارِقُ فَيَقُولُ فِي هَذَا قُطِعَتْ يَدِي, ثُمَّ يَدْعُونَهُ فَلَا يَأُخُذُونَ مِنْهُ شَيْئًا " 2. وَقَوْلُهُ وَكَذَا الْجِبَالُ تُفَتُّ فَتًّا مُحْكَمًا إِلَخْ يُشِيرُ إِلَى قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا} [طه: 106] وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [النَّمْلِ: 88] الْآيَةَ, وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا} [الْوَاقِعَةِ: 5 6] وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ} [الْمَعَارِجِ: 9] وَفِي سُورَةِ الْقَارِعَةِ {كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} [الْقَارِعَةِ: 5] وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ
{يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا} [الْمُزَّمِّلِ: 14] وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ} [الْمُرْسَلَاتِ: 10] وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ} [التَّكْوِيرِ: 3] وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا} [النَّبَأِ: 20] وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً} [الْحَاقَّةِ: 14] وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً} [الْكَهْفِ: 47] وَمَا فِي مَعَانِيهَا مِنَ الْآيَاتِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا سَأَلَ رَجُلٌ مِنْ ثَقِيفٍ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفَ تَكُونُ الْجِبَالُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ} 1 أَيْ هَلْ تَبْقَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَوْ تَزُولُ {فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا} [طه: 105] أَيْ يُذْهِبُهَا عَنْ أَمَاكِنِهَا وَيُسَيِّرُهَا تَسْيِيرًا فَيَذْرُهَا أَيِ الْأَرْضَ قَاعًا صَفْصَفًا أَيْ بُسُطًا وَاحِدًا, وَالْقَاعُ هُوَ الْمُنْبَسِطُ الْمُسْتَوِي مِنَ الْأَرْضِ وَالصَّفْصَفُ الْأَمْلَسُ {لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا} [طه: 107] أَيْ لَا تَرَى فِي الْأَرْضِ يَوْمَئِذٍ وَادِيًا وَلَا رَابِيَةً وَلَا صَدْعًا وَلَا أَكَمَةً وَلَا مَكَانًا مُنْخَفِضًا وَلَا مُرْتَفِعًا كَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَالضَّحَّاكُ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى, وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {تَحْسَبُهَا جَامِدَةً} أَيْ قَائِمَةً وَاقِفَةً {وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [النَّمْلِ: 88] أَيْ تَسِيرُ سَيْرَ السَّحَابِ حَتَّى تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ, قَالَ الْبَغَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ عَظِيمٍ وَكُلَّ جَمْعٍ كَثِيرٍ يَقْصُرُ عَنْهُ الْبَصَرُ لِكَثْرَتِهِ وَبَعُدَ مَا بَيْنَ أَطْرَافِهِ فَهُوَ فِي حُسْبَانِ النَّاظِرِ وَاقِفٌ وَهُوَ سَائِرٌ, كذلك سير الجبال لا يرى يوم القيامة لعظمها, كما أن سير السحاب لا يرى لعظمه وهو سائر وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا} [الْوَاقِعَةِ: 5] أَيْ فُتِّتَتْ فَتًّا, وَقَالَ عَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ وَمُقَاتِلٌ فَصَارَتْ كَالدَّقِيقِ الْمَبْسُوسِ وَهُوَ الْمَبْلُولُ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَالسُّدِّيُّ كُسِرَتْ كَسْرًا وَقَالَ الْكَلْبِيُّ سُيِّرَتْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ تَسْيِيرًا, وَقَالَ الْحَسَنُ قُلِعَتْ مِنْ أَصْلِهَا فَذَهَبَتْ, وَنَظِيرُهَا {فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا} [طه: 105] وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ.
جُعِلَتْ كَثِيبًا مَهِيلًا بَعْدَ أَنْ كَانَتْ شَامِخَةً طَوِيلَةً {فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا} [الْوَاقِعَةِ: 6] غُبَارًا مُتَفَرِّقًا كَالَّذِي يُرَى فِي شُعَاعِ الشَّمْسِ إِذَا دَخَلَ الْكُوَّةَ وَهُوَ الْهَبَاءُ وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ عَنِ الْحَارِثِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ {هَبَاءً مُنْبَثًّا} كَوَهَجِ الْغُبَارِ يَسْطَعُ ثُمَّ يَذْهَبُ, فَلَا يَبْقَى مِنْهُ شَيْءٌ1. وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْهَبَاءُ يَطِيرُ مِنَ النَّارِ إِذَا اضْطَرَمَتْ, يَطِيرُ مِنْهُ الشَّرَرُ, فَإِذَا وَقَعَ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا2. وَقَالَ عِكْرِمَةُ الْمُنْبَثُّ الَّذِي قَدْ ذَرَتْهُ الرِّيحُ وَبَثَّتْهُ, وَقَالَ قَتَادَةُ هَبَاءً مُنْبَثًّا كَيَبِيسِ الشَّجَرِ الَّذِي تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ, وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ وَالضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ الْعِهْنُ الصُّوفُ, وَقَالَ الْبَغَوِيُّ كَالصُّوفِ الْمَصْبُوغِ, وَلَا يُقَالُ عِهْنٌ إِلَّا لِلْمَصْبُوغِ, وَقَالَ الْحَسَنُ كَالصُّوفِ الْأَحْمَرِ وَهُوَ أَضْعَفُ الصُّوفِ, وَقَالَ الْمَنْفُوشُ الْمَنْدُوفُ وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ الْمَنْفُوشُ الَّذِي قَدْ شَرَعَ فِي الذَّهَابِ وَالتَّمَزُّقِ, وَقَالَ فِي قَوْلِهِ: {كَثِيبًا مَهِيلًا} أَيْ تَصِيرُ كَكُثْبَانِ الرَّمْلِ بَعْدَمَا كَانَتْ حِجَارَةً صَمَّاءَ, وَقَالَ الْبَغَوِيُّ رَمْلًا سَائِلًا قَالَ الْكَلْبِيُّ هُوَ الرَّمْلُ الَّذِي إِذَا أَخَذْتَ مِنْهُ شَيْئًا تَبِعَكَ مَا بَعْدَهُ يُقَالُ أَهَلْتُ الرَّمْلَ أُهِيلُهُ هَيْلًا إِذَا حَرَّكْتَ أَسْفَلَهُ حَتَّى انْهَالَ مِنْ أَعْلَاهُ وَقَالَ {نُسِفَتْ} قُلِعَتْ مِنْ أَمَاكِنِهَا, وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ ذَهَبَ بِهَا فَلَا يَبْقَى لَهَا عَيْنٌ وَلَا أَثَرٌ, وَقَالَ فِي {فَكَانَتْ سَرَابًا} أَيْ يُخَيَّلُ إِلَى النَّاظِرِ أَنَّهَا شَيْءٌ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ, وَبَعْدَ هَذَا تَذْهَبُ بِالْكُلِّيَّةِ فَلَا عَيْنَ وَلَا أَثَرَ وَقَالَ فِي {وَتَسِيرُ الْجِبَالُ} تَذْهَبُ عَنْ أَمَاكِنِهَا وَتَزُولُ, {وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً} [الْكَهْفِ: 47] أَيْ بَادِيَةً ظَاهِرَةً لَيْسَ فِيهَا مَعْلَمٌ لِأَحَدٍ وَلَا مَكَانٌ يُوَارِي أَحَدًا, بَلِ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ ضَاحُونَ لِرَبِّهِمْ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُمْ خَافِيَةٌ قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ {وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً} [الْكَهْفِ: 47] لَا حَجَرَ فِيهَا وَلَا غَيَابَةَ, وَقَالَ قَتَادَةُ أَيْضًا لَا بِنَاءَ وَلَا شَجَرَ وَقَالَ الْبَغَوِيُّ {فَدُكَّتَا} كُسَرَتَا {دَكَّةً} كَسْرَةً
{وَاحِدَةً} قَالَ وَأَوَّلُ مَا تَتَغَيَّرُ الْجِبَالُ تَصِيرُ رَمْلًا مَهِيلًا, ثُمَّ عِهْنًا مَنْفُوشًا, ثُمَّ تَصِيرُ هَبَاءً مَنْثُورًا. وَقَوْلُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَكَذَا الْبِحَارُ فَإِنَّهَا مَسْجُورَةٌ, قَدْ فُجِّرَتْ إِلَخْ, يُشِيرُ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} [التَّكْوِيرِ: 6] وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ} [الِانْفِطَارِ: 3] قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَجَّرَ اللَّهُ تَعَالَى بَعْضَهَا فِي بَعْضٍ1 وَقَالَ الْحَسَنُ فَجَّرَ اللَّهُ تَعَالَى بَعْضَهَا فِي بَعْضٍ فَذَهَبَ مَاؤُهَا وَقَالَ قَتَادَةُ اخْتَلَطَ عَذْبُهَا بِمَالِحِهَا وَقَالَ الْكَلْبِيُّ مُلِئَتْ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {سُجِّرَتْ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أُوقِدَتْ فَصَارَتْ نَارًا تَضْطَرِمُ وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَمُقَاتِلٌ يَعْنِي فُجِّرَ بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ, الْعَذْبُ وَالْمِلْحُ, فَصَارَتْ كُلُّهَا بَحْرًا وَاحِدًا وَقَالَ الْكَلْبِيُّ مُلِئَتْ وَقِيلَ صَارَتْ مِيَاهُهَا بَحْرًا وَاحِدًا مِنَ الْحَمِيمِ لِأَهْلِ النَّارِ وَقَالَ الْحَسَنُ يَبِسَتْ وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ, قَالَ ذَهَبَ مَاؤُهَا فلم يبق فيها قَطْرَةٌ وَالْمَعْنَى الْمُتَحَصِّلُ مِنْ أَقْوَالِهِمْ رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَنَّهَا يُفَجَّرُ بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ فَتَمْتَلِئُ ثُمَّ تُسَجَّرُ نَارًا فَيَذْهَبُ مَاؤُهَا وَلِهَذَا جَمَعَ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَهُمَا فَقَالَ: مَسْجُورَةٌ قَدْ فُجِّرَتْ والله تعالى أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَكَذَلِكَ الْقَمَرَانِ يَأْذَنُ رَبُّنَا لَهُمَا فَيَجْتَمِعَانِ إِلَخْ يُشِيرُ إِلَى قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَخَسَفَ الْقَمَرُ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} [الْقِيَامَةِ: 8-9] وَقَوْلِهِ: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التَّكْوِيرِ: 1] خَسَفَ أَظْلَمَ وذهب نوره وضوءه {وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} [الْقِيَامَةِ: 9] أَيْ صَارَا أَسْوَدَيْنِ مُكَوَّرَيْنِ كَأَنَّهُمَا ثَوْرَانِ عَقِيرَانِ وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التَّكْوِيرِ: 1] أَظْلَمَتْ, وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنْهُ ذَهَبَتْ وَقَالَ مُجَاهِدٌ اضْمَحَلَّتْ وَذَهَبَتْ, وَكَذَا قَالَ الضَّحَّاكُ وَقَالَ قتادة ذهب ضوءها وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ كُوِّرَتْ غُوِّرَتْ, وَقَالَ ربيع بن خثيم رُمِيَ بِهَا وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ أُلْقِيَتْ وَعَنْهُ أَيْضًا نُكِّسَتْ وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ تَقَعُ فِي الْأَرْضِ وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَالصَّوَابُ عِنْدَنَا مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنَّ التَّكْوِيرَ جَمْعُ الشَّيْءِ بَعْضِهِ عَلَى بَعْضٍ, وَمِنْهُ تَكْوِيرُ.
الْعِمَامَةِ, وَجَمْعُ الثِّيَابِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ, فَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {كُوِّرَتْ} جُمِعَ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ ثُمَّ لُفَّتَ فَرُمِيَ بِهَا, وَإِذَا فُعِلَ بِهَا ذلك ذهب ضوءها وَلِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التَّكْوِيرِ: 1] قَالَ يُكَوِّرُ اللَّهُ تَعَالَى الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الْبَحْرِ, وَيَبْعَثُ اللَّهُ تَعَالَى رِيحًا دَبُورًا فَيُضْرِمُهَا نَارًا وَكَذَا قَالَ عَامِرٌ الشَّعْبِيُّ وَلِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ يَزِيدَ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التَّكْوِيرِ: 1] قَالَ كُوِّرَتْ فِي جَهَنَّمَ1 وَلِلْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ يُكَوَّرَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ2 وَلِلْبَزَّارِ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ثَوْرَانِ فِي النَّارِ عَقِيرَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ3. وَقَوْلُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَكَوَاكِبُ الْأَفْلَاكِ تُنْثَرُ كُلُّهَا إِلَخْ يُشِيرُ إِلَى قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ} [التَّكْوِيرِ: 2] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ} [الِانْفِطَارِ: 2] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ} [الْمُرْسَلَاتِ: 8] أَيْ مُحِيَ نورها وذهب ضوءها وَانْكَدَرَتْ تَنَاثَرَتْ مِنَ السَّمَاءِ وَتَسَاقَطَتْ عَلَى الْأَرْضِ, يُقَالُ انْكَدَرَ الطَّائِرُ إِذَا سَقَطَ عَنْ عُشِّهِ قَالَ الْكَلْبِيُّ وَعَطَاءٌ تُمْطِرُ السَّمَاءُ يَوْمَئِذٍ نُجُومًا, فَلَا يَبْقَى نَجْمٌ إِلَّا وَقَعَ. وَقَوْلُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَكَذَا السَّمَاءُ تُشَقُّ شَقًّا ظَاهِرًا وَتَمُورُ إِلَخْ يُشِيرُ إِلَى
قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الِانْشِقَاقِ: 1] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ} [الْحَاقَّةِ: 16] وَقَوْلِهِ: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ} [الْفُرْقَانِ: 25] وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ} [الْمُزَّمِّلِ: 18] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} [الِانْفِطَارِ: 1] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ} [التَّكْوِيرِ: 11] وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ} [الْمُرْسَلَاتِ: 9] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا} [النَّبَأِ: 19] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا} [الطُّورِ: 9] وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ} [الْمَعَارِجِ: 8] وَقَوْلِهُ: {فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} [الرَّحْمَنِ: 37] وَقَوْلِهِ: {انْشَقَّتْ} أَيْ صَارَتْ أَبْوَابًا لِنُزُولِ الْمَلَائِكَةِ {فَكَانَتْ وَرْدَةً} عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ تَغَيَّرَ لَوْنُهَا, وَعَنْهُ قَالَ كَالْفَرَسِ الْوَرْدِ وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ كَالْبِرْذَوْنِ الْوَرْدِ, وَحَكَى الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ الْفَرَسَ الْوَرْدَ تَكُونُ فِي الرَّبِيعِ صَفْرَاءَ وَفِي الشِّتَاءِ حَمْرَاءَ, فَإِذَا اشْتَدَّ الْبَرْدُ اغبر لونها, فشبه السَّمَاءَ فِي تَلَوُّنِهَا عِنْدَ انْشِقَاقِهَا بِهَذَا الْفَرَسِ فِي تَلَوُّنِهِ {كَالدِّهَانِ} قَالَ الضَّحَّاكُ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ هُوَ جَمْعُ دُهْنٍ, شَبَّهَ السَّمَاءَ فِي تَلَوُّنِهَا بِلَوْنِ الْوَرْدِ مِنَ الْخَيْلِ, وَشَبَّهَ الْوَرْدَةَ فِي اخْتِلَافِ أَلْوَانِهَا بِالدُّهْنِ وَاخْتِلَافِ أَلْوَانِهِ وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ كَالدِّهَانِ كَعَصِيرِ الزَّيْتِ يَتَلَوَّنُ فِي السَّاعَةِ أَلْوَانًا, وَقَالَ مُقَاتِلٌ كَدُهْنِ الْوَرْدِ الصَّافِي وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ تَصِيرُ السَّمَاءُ كَالدُّهْنِ الذَّائِبِ, وَذَلِكَ حِينَ يُصِيبُهَا حَرُّ جَهَنَّمَ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْكَلْبِيُّ كَالدِّهَانِ أَيْ كَالْأَدِيمِ الْأَحْمَرِ وَجَمْعُهُ دُهْنَةٌ وَدُهْنٌ, وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ كَلَوْنِ الدُّهْنِ فِي الصُّفْرَةِ وَقَالَ قَتَادَةُ هِيَ الْيَوْمَ خَضْرَاءُ وَيَوْمَئِذٍ لَوْنُهَا إِلَى الْحُمْرَةِ, يَوْمٌ ذُو أَلْوَانٍ وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَذُوبُ كَمَا يَذُوبُ الدُّرْدِيُّ وَالْفِضَّةُ فِي السَّبْكِ, وَتَتَلَوَّنُ كَمَا تَتَلَوَّنُ الْأَصْبَاغُ الَّتِي يُدْهَنُ بِهَا, فَتَارَةً حَمْرَاءُ وَصَفْرَاءُ وَزَرْقَاءُ وَخَضْرَاءُ وَذَلِكَ مِنْ شِدَّةِ الْأَمْرِ وَهَوْلِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ الْعَظِيمِ وَلِلْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبْعَثُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاءُ تَطِشُّ عَلَيْهِمْ1 قَالَ الْجَوْهَرِيُّ الطَّشُّ الْمَطَرُ الضَّعِيفُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا} [الطُّورِ: 9] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ تَتَحَرَّكُ تَحْرِيكًا وَعَنْهُ هُوَ تَشَقُّقُهَا, وَقَالَ مُجَاهِدٌ تَدُورُ دَوْرًا وَقَالَ الضَّحَّاكُ اسْتِدَارَتُهَا وَتَحَرُّكُهَا لِأَمْرِ اللَّهِ وَمَوْجِ بَعْضِهَا فِي بَعْضٍ, وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ أَنَّهُ التَّحَرُّكُ فِي اسْتِدَارَةٍ وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ تَخْتَلِفُ أَجْزَاؤُهَا بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ وَقِيلَ تَضْطَرِبُ وَقَالَ الْبَغَوِيُّ تَدُورُ كَدَوَرَانِ الرَّحَى وَتَتَكَفَّأُ بِأَهْلِهَا تَكَفُّؤَ السَّفِينَةِ, قَالَ وَالْمَوْرُ يَجْمَعُ هَذِهِ الْمَعَانِي كُلَّهَا فَهُوَ فِي اللُّغَةِ الذَّهَابُ وَالْمَجِيءُ وَالتَّرَدُّدُ وَالدَّوَرَانُ وَالِاضْطِرَابُ وَقَالَ تَعَالَى: {وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا} [الْحَاقَّةِ: 16] عَنْ عَلِيٍّ قَالَ تَنْشَقُّ السَّمَاءُ مِنَ الْمَجَرَّةِ, رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ, وَالْمَلَكُ اسْمُ جِنْسٍ أَيِ الْمَلَائِكَةُ, عَلَى أَرْجَاءِ السَّمَاءِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى مَا لَمْ يَرَ مِنْهَا أَيْ حَافَاتِهَا, وَكَذَلِكَ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَقَالَ الضَّحَّاكُ أَيْ أَطْرَافِهَا وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ أَبْوَابِهَا وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ عَلَى مَا اسْتَرَقَ مِنَ السَّمَاءِ يَنْظُرُونَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ} [الْمُزَّمِّلِ: 18] مُتَشَقِّقٌ, قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ أَيْ بِسَبَبِهِ مِنْ شِدَّتِهِ وَهَوْلِهِ وَ {فُرِجَتْ} قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ أَيِ انْفَطَرَتْ وَانْشَقَّتْ وَتَدَلَّتْ أَرْجَاؤُهَا وَوَهَتْ أَطْرَافُهَا. وَقَوْلُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالْعَرْشُ وَالْكُرْسِيُّ لَا يُفْنِيهِمَا إِلَخْ وَكَذَا قَوْلُهُ وَالْحُورُ لَا تَفْنَى كَذَلِكَ جَنَّةُ الْمَأْوَى إِلَخْ يَعْنِي أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مَخْلُوقَةٌ لِلْبَقَاءِ لَا لِلْفَنَاءِ, وَالْمَخْلُوقُ لِلْبَقَاءِ بَاقٍ لَا بِنَفْسِهِ بَلْ بِإِبْقَاءِ اللَّهِ إِيَّاهُ, وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْجَنَّةَ وَنَعِيمَهَا وَدَوَامَهَا وَخُلُودَ أَهْلِهَا فِيهَا, وَذَكَرَ النَّارَ وَجَحِيمَهَا وَدَوَامَ عَذَابِهَا وَخُلُودَ أَهْلِهَا فِيهَا فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِهِ, وَسَيَأْتِي ذِكْرُ مَا تَيَسَّرَ مِنْهَا وَقَدْ جَاءَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزُّمَرِ: 68] إِنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ الشُّهَدَاءُ وَالْحُورُ الْعِينِ وَرِضْوَانُ وَزَبَانِيَةُ الْعَذَابِ, وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي ذَلِكَ إِنَّهُ هُوَ اعْتِقَادُ السَّلَفِ الصَّالِحِ قَالَ فَإِنِ احْتَجَّ مُبْتَدِعٌ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [الْقَصَصِ: 88] وَ {كُلُّ
مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرَّحْمَنِ: 26] قِيلَ إِنَّ الْمُرَادَ كُلُّ شَيْءٍ كُتِبَ عَلَيْهِ الْهَلَاكُ وَالْفَنَاءُ هَالِكٌ فَانٍ, وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ الِاسْتِثْنَاءُ الْمَذْكُورُ فِي سُورَةِ الزُّمَرِ, وَأَيْضًا فَإِنَّ الْجَنَّةَ دَارُ مَقَامٍ وَسُرُورٍ وَسَلَامَةٍ وَالْمَوْتَ ضِدُّ ذَلِكَ فَكَيْفَ يُكْتَبُ عَلَى مَنْ فِيهَا مَوْتٌ وَكَذَا جَاءَ فِي الْعَرْشِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُهُ أَنْ يَأْخُذَ الصُّورَ مِنْ إِسْرَافِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَ مَوْتِهِ كَمَا فِي حَدِيثِ الصُّورِ الطَّوِيلِ وَقَوْلُهُ وَلِأَجْلِ هَذَا قَالَ جَهْمٌ إِنَّهَا عَدَمٌ إِلَخْ يَعْنِي أَنَّ لِجَهْمٍ إِلْحَادًا فِي آيَاتِ اللَّهِ جَمِيعِهَا, فَكَمَا أَلْحَدَ فِي آيَاتِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ أَلْحَدَ أَيْضًا فِي آيَاتِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَجَحَدَ وُجُودَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ الْآنَ, وَكَذَلِكَ الْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِيهِمَا وَقَضَى أَيْضًا بِفَنَائِهِمَا وَأَنَّهُمَا يَفْنَيَانِ وَمَنْ فِيهِمَا, وَذَلِكَ بِخِلَافِ النُّصُوصِ الْقَوِيمَةِ وَالْفِطَرِ الْمُسْتَقِيمَةِ كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَقَوْلُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالْأَنْبِيَاءُ فَإِنَّهُمْ تَحْتَ الثَّرَى ... أَجْسَادُهُمْ حُفِظَتْ مِنَ الدِّيدَانِ إِلَخْ يُشِيرُ إِلَى مَا فِي السُّنَنِ وَغَيْرِهَا وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ أَوْسِ بْنِ أَوْسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ أَفْضَلَ أَيَّامِكُمْ يَوْمُ الْجُمُعَةِ, فِيهِ خُلِقَ آدَمُ وَفِيهِ قُبِضَ, وَفِيهِ النَّفْخَةُ وَفِيهِ الصَّعْقَةُ, فَأَكْثِرُوا عَلَيَّ مِنَ الصَّلَاةِ فِيهِ, فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَيَّ" قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تُعْرَضُ صَلَاتُنَا عَلَيْكَ وَقَدْ أَرِمْتَ قَالَ: "يَقُولُونَ بَلَيْتَ" قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى الْأَرْضِ أَنْ تَأْكُلَ أَجْسَادَ الْأَنْبِيَاءِ" 1. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَيْمَنَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ نُسَيٍّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَكْثِرُوا عَلَيَّ مِنَ الصَّلَاةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَإِنَّهُ يَوْمٌ مَشْهُودٌ تَشَهَدُهُ الْمَلَائِكَةُ, وَإِنَّ أَحَدًا لَا
يُصَلِّي عَلَيَّ إِلَّا عُرِضَتْ عَلَيَّ صِلَاتُهُ حَتَّى يَفْرُغَ" قَالَ قُلْتُ: وَبَعْدَ الْمَوْتِ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى الْأَرْضِ أَنْ تَأْكُلَ أَجْسَادَ الْأَنْبِيَاءِ" 1 وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ وَفِي رِوَايَةٍ لِلطَّبَرَانِيِّ لَيْسَ مِنْ عَبْدٍ يُصَلِّي عَلَيَّ إِلَّا بَلَغَنِي صَلَاتُهُ قُلْنَا وَبَعْدَ وَفَاتِكَ قَالَ وَبَعْدَ وَفَاتِي, إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَرَّمَ عَلَى الْأَرْضِ أَنْ تَأْكُلَ أَجْسَادَ الْأَنْبِيَاءِ2 وَالْأَحَادِيثُ فِي بُلُوغِ صَلَاتِنَا إِلَيْهِ وَعَرْضِ أَعْمَالِنَا عَلَيْهِ كَثِيرَةٌ جِدًّا, وَبَعْضُهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ لَكِنْ بِدُونِ ذِكْرِ الْأَجْسَادِ. وَقَدْ ثَبَتَ أَيْضًا فِي أَجْسَادِ الشُّهَدَاءِ أَنَّهَا لَا تَبْلَى فَكَيْفَ بِأَجْسَادِ الْأَنْبِيَاءِ كَمَا قَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ الْمُعَلِّمُ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ لَمَّا حَضَرَ أَحَدٌ دَعَانِي أَبِي مِنَ اللَّيْلِ فَقَالَ: لِي مَا أُرَانِي إِلَّا مَقْتُولًا فِي أَوَّلِ مَنْ يُقْتَلُ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنِّي لَا أَتْرُكُ بَعْدِي أَعَزَّ عَلَيَّ مِنْكَ غَيْرَ نَفْسِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وَإِنَّ عَلَيَّ دَيْنًا فَاقْضِهِ وَاسْتَوْصِ بِأَخَوَاتِكَ خَيْرًا فَأَصْبَحْنَا وَكَانَ أَوَّلَ قَتِيلٍ فَدَفَنْتُ مَعَهُ آخَرَ فِي قَبْرِهِ, ثُمَّ لَمْ تَطِبْ نَفْسِي أَنْ أَتْرُكَهُ مَعَ آخَرَ فَاسْتَخْرَجْتُهُ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَإِذَا هُوَ كَيَوْمِ وَضَعْتُهُ هُنَيَّةَ غَيْرَ أُذُنِهِ3. وَلِأَصْحَابِ السُّنَنِ عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ حَدِيثٍ طَوِيلٍ وَفِيهِ فَبَيْنَا أَنَا فِي خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ إِذْ جَاءَنِي رَجُلٌ فَقَالَ: يَا جَابِرُ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ وَاللَّهِ لَقَدْ أَثَارَ أَبَاكَ عُمَّالُ مُعَاوِيَةَ فَبَدَأَ فَخَرَجَ طَائِفَةٌ مِنْهُ, فَأَتَيْتُهُ فَوَجَدْتُهُ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي دَفَنْتُهُ لَمْ يَتَغَيَّرْ إِلَّا مَا لَمْ يَدَعِ الْقَتْلَ أَوِ الْقَتِيلَ4
وَلِلْبَيْهَقِيِّ عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لَمَّا أَجْرَى مُعَاوِيَةُ الْعَيْنَ عِنْدَ قَتْلَى أُحُدٍ بَعْدَ أَرْبَعِينَ سَنَةً اسْتَصْرَخْنَاهُمْ إِلَيْهِمْ فَأَتَيْنَاهُمْ فَأَخْرَجْنَاهُمْ, فَأَصَابَتِ الْمِسْحَاةُ قَدَمَ حَمْزَةَ فَانْبَعَثَ دَمًا1 وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنْهُ قَالَ فَأَخْرَجْنَاهُمْ كَأَنَّمَا دُفِنُوا بِالْأَمْسِ2. وَذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّ مُعَاوِيَةَ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يُجْرِيَ الْعَيْنَ نَادَى مُنَادِيهِ مَنْ كَانَ لَهُ قَتِيلٌ بِأُحُدٍ فَلْيَشْهَدْ قَالَ جَابِرٌ فَحُفِرَ عَنْهُمْ فَوَجَدْتُ أَبِي فِي قَبْرِهِ كَأَنَّمَا هُوَ نَائِمٌ عَلَى هَيْئَتِهِ وَوَجَدْنَا جَارَهُ فِي قَبْرِهِ -عَمْرَو بْنَ الْجَمُوحِ- وَيَدُهُ عَلَى جُرْحِهِ, فَأُزِيلَتْ عَنْهُ فَانْبَعَثَ جُرْحُهُ دَمًا وَيُقَالُ إِنَّهُ فَاحَ مِنْ قُبُورِهِمْ مِثْلَ رِيحِ الْمِسْكِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ, وَذَلِكَ بَعْدَ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً مِنْ يَوْمِ دُفِنُوا3 وَفِي ذَلِكَ آثَارٌ كَثِيرَةٌ. وَقَوْلُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَكَذَاكَ عَجَبُ الظَّهْرِ لَا يَبْلَى إِلَخْ يُشِيرُ إِلَى حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُتَقَدِّمِ قَرِيبًا وَفِيهِ "وَلَيْسَ مِنَ الْإِنْسَانِ شَيْءٌ إِلَّا سَيَبْلَى, إِلَّا عَظْمًا وَهُوَ عَجْبُ الذَّنَبِ, وَمِنْهُ يُرَّكَبُ الْخَلْقُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" 4. وَقَوْلُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَكَذَلِكَ الْأَرْوَاحُ لَا تَبْلَى إِلَخْ يُشِيرُ إِلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُ بَعْضِهِ قَرِيبًا مِنَ الْآيَاتِ الصَّرِيحَةِ وَالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ مِنْ أَنَّ الْأَرْوَاحَ لَيْسَتْ هِيَ مُطْلَقَ حَيَاةِ الْجِسْمِ الْعَارِضَةِ, بَلْ هِيَ حَقِيقَةٌ أُخْرَى مُسْتَقِلَّةٌ يَعْمُرُ الْجَسَدُ بِحُلُولِهَا.
فِيهِ وَيَفْسَدُ بِخُرُوجِهَا مِنْهُ, وَهِيَ النَّسَمَةُ الَّتِي يَمُوتُ الْإِنْسَانُ بِخُرُوجِهَا مِنْ جَسَدِهِ وَأَنَّهَا لَهَا حَقِيقَةٌ, وَأَنَّهَا تُنْفَخُ وَتُقْبَضُ وَتُصْعَدُ وَتُهْبَطُ, وَأَنَّهَا بَعْدَ مُفَارَقَتِهَا الْجَسَدَ إِمَّا أَنْ تَنْعَمَ أَوْ تُعَذَّبَ, وَإِمَّا أَنْ تُفْتَحَ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ حَتَّى يَنْتَهِيَ بِهَا إِلَى اللَّهِ أَوْ تُغْلَقَ دُونَهَا فَيَذْهَبُ بِهَا إِلَى سِجِّينٍ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ, كَمَا قَدَّمْنَا ذَلِكَ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ, وَأَنَّهَا تُجْمَعُ فِي الصُّورِ وَتَطِيرُ بِنَفْخِ إِسْرَافِيلَ إِذَا أَمَرَهُ اللَّهُ فَتَطِيرُ كُلُّ رُوحٍ إِلَى جَسَدِهَا الَّذِي كَانَتْ تَعْمُرُهُ فِي الدُّنْيَا حَتَّى تَدْخُلَهُ وَتَدِبَّ فِيهِ دَبِيبَ السُّمِّ فِي اللَّدِيغِ حَتَّى يَقُومَ بَشَرًا سَوِيًّا وَأَنَّهَا بَعْدَ خُرُوجِهَا مِنَ الْجَسَدِ تُكَلَّمُ وَتَتَكَلَّمُ وَتُسْأَلُ وَتُجِيبُ وَتُخْبَرُ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ بِنُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ, وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ الرُّوحِ وَكُنْهِهَا فَلَيْسَ لِبَشَرٍ الْعِلْمُ بِهِ وَلَا الِاطِّلَاعُ عَلَيْهِ وَلِهَذَا لَمَّا سَأَلَتِ الْيَهُودُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْهُ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى جَوَابَهُمْ {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الْإِسْرَاءِ: 85] 1 وَقَوْلُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَلِأَجْلِ ذَلِكَ لَمْ يُقِرَّ الْجَهْمُ مَا ... الْأَرْوَاحُ خارجة من الْأَبْدَانِ ولكنها مِنْ بَعْضِ أَعْرَاضٍ بِهَا إِلَخْ يَعْنِي أَنَّ مَذْهَبَ الْجَهْمِ فِي الرُّوحِ هُوَ مَذْهَبُ الْفَلَاسِفَةِ الْحَائِرِينَ, أَنَّ الرُّوحَ لَيْسَتْ شَيْئًا يَقُومُ بِنَفْسِهِ بَلْ عَرَضٌ وَالْعَرَضُ فِي اصْطِلَاحِهِمْ هُوَ مَا لَا يَسْتَقِلُّ وَلَا يَسْتَقِرُّ, فَمَنْزِلَةُ الرُّوحِ عِنْدَهُمْ مِنَ الْجَسَدِ كَمَنْزِلَةِ السَّمْعِ مِنَ السَّامِعِ وَالْبَصَرِ مِنَ الْمُبْصِرِ, يَذْهَبُ بِذَهَابِهِ, بَلْ قَدْ يَذْهَبُ الْبَصَرُ وَالسَّمْعُ وَالذَّاتُ الَّتِي يَقُومُ بِهَا مَوْجُودَةٌ, فجحدوا أن لكون النَّفْسُ الَّتِي هِيَ الرُّوحُ شَيْئًا قَائِمًا بِنَفْسِهِ وَأَنَّهُ يُنْفَخُ فِي الْجَنِينِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ بَعْدَ الْأَرْبَعِينَ الثَّالِثَةِ وَأَنَّ {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الزُّمَرِ: 42] وَجَحَدُوا كَوْنَهَا شَيْئًا يُسَاقُ وَيُنْزَعُ عِنْدَ الْمَوْتِ, وَيُعْرَجُ بِهَا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَيَفْتَحُ لَهَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ إِنْ كَانَتْ مُحْسِنَةً أَوْ تُغْلَقُ دُونَهَا إِنْ
كَانَتْ مُسِيئَةً, وَلَا أَنَّ رُوحَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُؤْمِنِينَ فِي الرَّفِيقِ الْأَعْلَى وَأَرْوَاحَ الْكُفَّارِ فِي سِجِّينٍ فَكَذَّبُوا بِالْكِتَابِ, وَبِمَا أَرْسَلَ اللَّهُ بِهِ رُسُلَهُ, فَضَّلُوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ. وَقَوْلُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: فالشأن للأرواح عند فِرَاقِهَا ... أَبْدَانَهَا وَاللَّهُ أَعْظَمُ شَانِ يَعْنِي أَنَّهُ أَعْظَمُ شَأْنًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَكُونُ إِذْ ذَاكَ الْخَبَرُ عِيَانًا وَالْغَيْبُ شَهَادَةً وَالْمَسْتُورُ مَكْشُوفًا وَالْمَخْبَأُ ظَاهِرًا, فَلَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ وَلَا عِلْمَ الْيَقِينِ كَعَيْنِ الْيَقِينِ, فَالْمُصَدِّقُ يَرَى وَيَجِدُ مِصْدَاقَ مَا جَاءَ بِهِ النَّصُّ كَمَا عَلِمَهُ وَتَيَقَّنَهُ فَيَزْدَادُ بُشْرَى وَفَرَحًا وَسُرُورًا, وَالْمُكَذِّبُ يَرَى وَيَجِدُ حَوَرَ تَكْذِيبِهِ بِذَلِكَ, وَغِبَّ مَا جَنَاهُ عَلَى نَفْسِهِ وَيَذُوقُ وَبَالَ أَمْرِهِ, وَكُلٌّ يُفْضِي إِلَى مَا قَدَّمَ. وَقَوْلُهُ إِمَّا نُعَيْمٌ أَوْ عَذَابٌ إِلَخْ يُشِيرُ إِلَى قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الْوَاقِعَةِ: 88-96] سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ, سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ, وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا فِي مَعْنَاهُ مِنَ الْآيَاتِ, وَقَدَّمْنَا مِنْهَا جُمْلَةً وَقَدَّمْنَا مِنَ الْأَحَادِيثِ فِي أَحْوَالِ الِاحْتِضَارِ وَالْبَرْزَخِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ مَا يَبْلُغُ حَدَّ التَّوَاتُرِ, فَلْيَرْجِعْ إِلَيْهِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. وَقَوْلُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ وَتَصِيرُ طَيْرًا سَارِحًا مَعَ شَكْلِهَا إِلَخْ يُشِيرُ إِلَى حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ الْمُسَلْسَلِ بِالْأَئِمَّةِ نَسَمَةُ الْمُؤْمِنِ طَائِرٌ يَعْلُقُ فِي شَجَرِ الْجَنَّةِ, حَتَّى يُرْجِعَهُ اللَّهُ إِلَى جَسَدِهِ يَوْمَ يَبْعَثُهُ1.
وَقَوْلُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَكِنَّ أَرْوَاحَ الَّذِينَ اسْتُشْهِدُوا فِي جَوْفِ طَيْرٍ أَخْضَرَ إِلَخْ يُشِيرُ إِلَى قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آلِ: عِمْرَانَ 169] الْآيَاتِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا. وَفِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ سَأَلْنَا عَبْدَ اللَّهِ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آلِ: عِمْرَانَ 169] قَالَ أَمَّا إِنَّا قَدْ سَأَلْنَا عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: "أَرْوَاحُهُمْ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ لَهَا قَنَادِيلُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ تَسْرَحُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ, ثُمَّ تَأْوِي إِلَى الْقَنَادِيلِ, فَاطَّلَعَ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ عَزَّ وَجَلَّ اطِّلَاعَةً فَقَالَ: هَلْ تَشْتَهُونَ شَيْئًا قَالُوا أَيُّ شَيْءٍ نَشْتَهِي وَنَحْنُ نَسْرَحُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ شِئْنَا فَفَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ, فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّهُمْ لَمْ يَتْرُكُوا مِنْ أَنْ يُسْأَلُوا قَالُوا يَا رَبِّ نُرِيدُ أَنْ تَرُدَّ أَرْوَاحَنَا فِي أَجْسَادِنَا حَتَّى نُقْتَلَ فِي سَبِيلِكَ مَرَّةً أُخْرَى, فَلَمَّا رَأَى أَنْ لَيْسَ لَهُمْ حَاجَةٌ تُرِكُوا" 1 وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ. وَقَوْلُهُ: وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ إِخْرَاجَ الْوَرَى ... بَعْدَ الممات إلى معاد ثان أَلْقَى عَلَى الْأَرْضِ الَّتِي هُمْ تَحْتَهَا ... ................إِلَخْ. يُشِيرُ إِلَى حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بِطُولِهِ وَفِيهِ "ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ -أَوْ قَالَ يُنْزِلُ اللَّهُ- تَعَالَى مَطَرًا كَأَنَّهُ الطَّلُّ أَوِ الظِّلُّ, فَتَنْبُتُ مِنْهُ أَجْسَادُ النَّاسِ" 2 الْحَدِيثَ وَفِي حَدِيثِ الصُّورِ الطَّوِيلِ ثُمَّ يُنْزِلُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَاءً مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ, "ثُمَّ يَأْمُرُ اللَّهُ السَّمَاءَ أَنْ تُمْطِرَ فَتُمْطِرُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا حَتَّى يَكُونَ الْمَاءُ فَوْقَهُمُ اثَّنَى عَشَرَ ذِرَاعًا, ثُمَّ يَأْمُرُ اللَّهُ الْأَجْسَادَ أَنْ تَنْبُتَ, فَتَنْبُتُ كَنَبَاتِ الطَّرَاثِيثِ أَوْ كَنَبَاتِ الْبَقْلِ" 3 وَهُوَ الَّذِي عَنَاهُ بِقَوْلِهِ عَشْرًا وَعَشْرًا بَعْدَهَا عَشْرَانِ
وَقَوْلُهُ أَوْحَى لَهَا رَبُّ السَّمَاءِ فَتَشَقَّقَتْ إِلَخْ يُشِيرُ إِلَى قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ} [الِانْفِطَارِ: 4] وَقَوْلِهِ: {أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ} [الْعَادِيَّاتِ: 9] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ بُحِثَتْ, وَقَالَ السُّدِّيُّ تَبَعْثَرَ تَحَرَّكَ فَيَخْرُجُ مَنْ فِيهَا وَقَالَ الْبَغَوِيُّ بُحِثَتْ وَقُلِبَ تُرَابُهَا وَبُعِثَ مَنْ فِيهَا مِنَ الْمَوْتَى أَحْيَاءً يُقَالُ بَعْثَرْتُ الْحَوْضَ وَبَحْثَرْتُهُ إِذَا قَلَبْتُهُ فَجَعَلْتُ أَسْفَلَهُ أَعْلَاهُ, وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى {إِذَا بُعْثِرَ} أُثِيرَ وَأُخْرِجَ {مَا فِي الْقُبُورِ} أَيْ مِنَ الْأَمْوَاتِ. وَقَوْلُهُ وَتَخَلَّتِ الْأُمُّ الْوَلُودُ إِلَخْ يُشِيرُ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ} [الِانْشِقَاقِ: 4] قَالَ مُجَاهِدٌ وَسَعِيدٌ وَقَتَادَةُ أَلْقَتْ مَا فِي بَطْنِهَا مِنَ الْأَمْوَاتِ وتخلت منهم اهـ. وَقَوْلُهُ وَأَخْرَجَتْ أَثْقَالَهَا إِلَخْ يُشِيرُ إِلَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا} إِلَى قَوْلِهِ: {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} [الزَّلْزَلَةِ: 2-5] قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَعْنِي أَلْقَتْ مَا فِيهَا مِنَ الْمَوْتَى, قَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا بِإِلْقَائِهَا أَفْلَاذَ كَبِدِهَا أَمْثَالَ الْأُسْطُوَانِ وَقَالَ الْبَغَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَثْقَالُهَا مَوْتَاهَا وَكُنُوزُهَا, فَتُلْقِيهَا عَلَى ظَهْرِهَا. وَقَوْلُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ وَاللَّهُ يُنْشِئُ خَلْقَهُ أَيْ هُمْ أَنْفُسَهُمْ لَا غَيْرَهُمْ بَعْدَ مَوْتِهِمْ فِي نَشْأَةٍ أُخْرَى إِلَخْ يُشِيرُ إِلَى قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى} [النَّجْمِ: 45] فَهَذِهِ هِيَ النَّشْأَةُ الْأُولَى قَالَ تَعَالَى: {وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى} [النَّجْمِ:4 47] وَهُوَ الْبَعْثُ بَعْدَ الْمَوْتِ قَالَ تَعَالَى: {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ} [الْوَاقِعَةِ: 57-62] وَمَا فِي مَعْنَى ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ وَالْمَقْصُودُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَبْعَثُ الْمَوْتَى أَنْفُسَهُمْ وَيَجْمَعُهُمْ بَعْدَ مَا فَرَّقَهُمْ وَيَنْشُرُهُمْ بَعْدَ مَا مَزَّقَهُمْ, وَيُعِيدُهُمْ كَمَا خَلَقَهُمْ, قَدْ عَلِمَ اللَّهُ مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ
ومن الإيمان باليوم الآخر الإيمان بالنفخ في الصور
مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} [فَاطِرٍ: 44] . وَقَوْلُهُ مَا قَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْدَمُ خَلْقَهُ إِلَخْ أَيْ لَمْ يَقُلِ اللَّهُ تَعَالَى وَلَا رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّهُ يَعْدَمُهُمُ الْعَدَمَ الْمَحْضَ وَيَأْتِي بِغَيْرِهِمْ, وَلَا إِنَّ الْمُثَابَ غَيْرُ مَنْ عَمِلَ الطَّاعَاتِ فِي الدُّنْيَا وَلَا إِنَّ الْمُعَذَّبَ غَيْرُ مَنْ مَرَدَ عَلَى الْمَعَاصِي {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النِّسَاءِ: 40] {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فُصِّلَتْ: 46] {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ} [غَافِرٍ: 31] بَلْ قَالَ تَعَالَى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه: 55] فَالَّذِينَ خَلَقَهُمْ مِنَ الْأَرْضِ هُمُ الَّذِينَ أَعَادَهُمْ فِيهَا, وَهُمُ الَّذِينَ يُخْرِجُهُمْ مِنْهَا, لَيْسُوا غَيْرَهُمْ كَمَا يَقُولُ الزَّنَادِقَةُ قَبَّحَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَتَخْرُجُونَ مِنَ الْأَصْوَاءِ وَمِنْ مَصَارِعِكُمْ"1 وَلَمْ يَقُلْ إِنَّهُ غَيْرُكُمُ الَّذِي يَخْرُجُ. وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْبَابِ يَطُولُ جِدًّا, وَالنُّصُوصُ فِيهَا لَا تُحْصَى كَثْرَةً, وَإِنَّمَا أَشَرْنَا إِلَى بَعْضٍ مِنْ كُلِّ وَدَقٍ مِنْ جَلٍّ وَقَطْرَةٍ مِنْ بَحْرٍ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ إِلَى آخِرِ مَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّعْلِيقِ عَلَى الْأَبْيَاتِ الَّتِي سُقْنَا مِنْ نُونِيَّةِ ابْنِ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مَعَ غَايَةِ الِاخْتِصَارِ وَالْإِيجَازِ, وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ وَلْنَرْجِعْ إِلَى شَرْحِ أَبْيَاتِ الْمَتْنِ الْمَذْكُورِ. [الْإِيمَانُ: بِالنَّفْخِ فِي الصُّورِ] : وَبِقِيَامِنَا بِنَفْخِ الصُّورِ أَيْ وَكَمَا يَدْخُلُ فِي الْإِيمَانِ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ الْمَوْتُ وَمَا بَعْدَهُ مِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ وَنَعِيمِهِ أَوْ عَذَابِهِ وَبِاللِّقَاءِ وَالْبَعْثِ وَالنُّشُورِ وَالْقِيَامِ مِنَ الْقُبُورِ, كَذَلِكَ يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْإِيمَانُ بِالصُّورِ وَالنَّفْخِ فِيهِ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ سَبَبَ الْفَزَعِ وَالصَّعْقِ وَالْقِيَامِ مِنَ الْقُبُورِ, وَهُوَ الْقَرْنُ الَّذِي وَكَّلَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ إِسْرَافِيلَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي ذِكْرِ الْمَلَائِكَةِ وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ النَّفْخَ فِيهِ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ, كَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ
حديث الصور يرويه إسماعيل بن رافع قاضي المدينة بسنده عن أبي هريرة
شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزُّمَرِ: 68] الْآيَاتِ, وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} [النَّمْلِ: 87] الْآيَاتِ, وَقَالَ تَعَالَى: {قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 73] ولنسق ههنا حَدِيثَ الصُّورِ بِطُولِهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمُنَاسَبَةِ لِهَذِهِ الْآيَاتِ, وَلِمَا اجْتَمَعَ فِيهِ مِمَّا تَفَرَّقَ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْأَحَادِيثِ, وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ هَذِهِ الْآيَةِ الْأُخْرَى وَقَدْ رَوَيْنَا حَدِيثَ الصُّورِ بِطُولِهِ مِنْ طَرِيقِ الْحَافِظِ أَبِي الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيِّ فِي كِتَابِهِ الْمُطَوَّلَاتِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْمِصْرِيُّ الْأَيْلِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ النَّبِيلُ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ رَافِعٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: "إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا فَرَغَ مِنْ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ خَلَقَ الصُّورَ, فَأَعْطَاهُ إِسْرَافِيلَ فَهُوَ وَاضِعُهُ عَلَى فِيهِ شَاخِصًا بَصَرَهُ فِي الْعَرْشِ يَنْتَظِرُ مَتَى يُؤْمَرُ" قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الصُّورُ قَالَ: "الْقَرْنُ" قُلْتُ: كَيْفَ هُوَ قَالَ: "عَظِيمٌ, وَالَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ إِنَّ عَظِمَ دَارَةٍ فِيهِ كَعَرْضِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ, يَنْفُخُ فِيهِ ثَلَاثَ نَفَخَاتٍ النَّفْخَةُ الْأُولَى نَفْخَةُ الْفَزَعِ وَالثَّانِيَةُ نَفْخَةُ الْقِيَامِ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ, يَأْمُرُ اللَّهُ تَعَالَى إِسْرَافِيلَ بِالنَّفْخَةِ الْأُولَى فَيَقُولُ انْفُخْ فَيَنْفُخُ نَفْخَةَ الْفَزَعِ فَيَفْزَعُ أَهْلُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ, ويأمره فَيُطِيلُهَا وَيُدِيمُهَا وَلَا يَفْتُرُ وَهُوَ كَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ} [يس: 49] فَيُسَيِّرُ اللَّهُ الْجِبَالَ فَتَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ فَتَكُونُ سَرَابًا ثُمَّ تَرْتَجُّ الْأَرْضُ بِأَهْلِهَا رَجًّا فَتَكُونُ كَالسَّفِينَةِ الْمَرْمِيَّةِ فِي الْبَحْرِ, تَضْرِبُهَا الْأَمْوَاجُ تَكْفَأُ بِأَهْلِهَا كَالْقِنْدِيلِ الْمُعَلَّقِ فِي الْعَرْشِ تُرَجْرِجُهُ الرِّيَاحُ, وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ: {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ} [النَّازِعَاتِ: 6] فَيَمِيدُ النَّاسُ عَلَى ظَهْرِهَا وَتَذْهَلُ الْمَرَاضِعُ وَتَضَعُ الْحَوَامِلُ وَتَشِيبُ الْوَلَدَانُ وَتَطِيرُ الشَّيَاطِينُ هَارِبَةً مِنَ الْفَزَعِ حَتَّى تَأْتِيَ الْأَقْطَارَ, فَتَأْتِيهَا الْمَلَائِكَةُ فَتَضْرِبُ وُجُوهَهَا فَتَرْجِعُ, وَيُوَلِّي النَّاسُ مُدْبِرِينَ مَا لَهُمْ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ
يُنَادِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا, وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى {يَوْمَ التَّنَادِ} فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ إِذْ تَصَدَّعَتِ الْأَرْضُ مِنْ قُطْرٍ إِلَى قُطْرٍ, فَرَأَوْا أَمْرًا عَظِيمًا لَمْ يَرَوْا مِثْلَهُ, وَأَخَذَهُمْ لِذَلِكَ مِنَ الْكَرْبِ وَالْهَوْلِ مَا اللَّهُ بِهِ عَلِيمٌ ثُمَّ نَظَرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَإِذَا هِيَ كَالْمُهْلِ, ثُمَّ انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَانْتَثَرَتْ نُجُومُهَا وَانْخَسَفَتْ شَمْسُهَا وَقَمَرُهَا" قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "الْأَمْوَاتُ لَا يَعْلَمُونَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ" قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, مَنِ اسْتَثْنَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ حِينَ يَقُولُ: {فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [النَّمْلِ: 87] قَالَ: "أُولَئِكَ الشُّهَدَاءُ وَإِنَّمَا يَصِلُ الْفَزَعُ إِلَى الْأَحْيَاءِ وَهُمْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ, وَقَاهُمُ اللَّهُ فَزَعَ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَآمَنُهُمْ مِنْهُ, وَهُوَ عَذَابُ اللَّهِ يَبْعَثُهُ عَلَى شِرَارِ خَلْقِهِ" قَالَ: "وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الْحَجِّ: 1 2] فَيَقُومُونَ فِي ذَلِكَ الْعَذَابِ مَا شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَّا أَنَّهُ يَطُولُ, ثُمَّ يَأْمُرُ اللَّهُ إِسْرَافِيلَ بنفخة الصعق, فينفخ نفخة الصَّعْقِ فَيُصْعَقُ أَهْلُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ, فَإِذَا هُمْ قَدْ خَمَدُوا جاء مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى الْجَبَّارِ عَزَّ وَجَلَّ فَيَقُولُ يَا رَبِّ قَدْ مَاتَ أَهْلُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شِئْتَ فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ بَقِيَ فَمَنْ بَقِيَ فَيَقُولُ يَا رَبِّ بَقِيتَ أَنْتَ الْحَيُّ الَّذِي لَا تَمُوتُ وَبَقِيَتْ حَمَلَةُ الْعَرْشِ وَبَقِيَ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ وَبَقِيتُ أَنَا فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِيَمُتْ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ, فَيُنْطِقُ اللَّهُ تَعَالَى الْعَرْشَ فَيَقُولُ يَا رَبِّ يَمُوتُ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ فَيَقُولُ اسْكُتْ فَإِنِّي كَتَبْتُ الْمَوْتَ عَلَى كُلِّ مَنْ كَانَ تَحْتَ عَرْشِي فَيَمُوتَانِ ثُمَّ يَأْتِي مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى الْجَبَّارِ فَيَقُولُ يَا رَبِّ قَدْ مَاتَ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ بَقِيَ فَمَنْ بَقِيَ فَيَقُولُ بَقِيتَ أَنْتَ الْحَيُّ الَّذِي لَا تَمُوتُ وَبَقِيَتْ حَمْلَةُ عَرْشِكَ وَبَقِيتُ أَنَا فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لِتَمُتْ حَمَلَةُ الْعَرْشِ فَتَمُوتُ وَيَأْمُرُ اللَّهُ تَعَالَى الْعَرْشَ فَيَقْبِضُ الصُّورَ مِنْ إِسْرَافِيلَ, ثُمَّ يَأْتِي مَلَكُ الْمَوْتِ فَيَقُولُ يَا رَبِّ قَدْ مَاتَ حَمَلَةُ عَرْشِكَ فَيَقُولُ اللَّهُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ بَقِيَ فَمَنْ بَقِيَ فَيَقُولُ يَا رَبِّ بَقِيتَ أَنْتَ الْحَيُّ الَّذِي لَا تَمُوتُ وَبَقِيتُ أَنَا فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْتَ خَلْقٌ
مِنْ خَلْقِي خَلَقْتُكَ لِمَا رَأَيْتَ فَمُتْ, فَيَمُوتُ فَإِذَا لَمْ يَبْقَ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ الْأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ كَانَ آخِرًا كَمَا كَانَ أَوَّلًا, طَوَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ طَيَّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ثُمَّ دَحَاهُمَا ثُمَّ يَلْقَفُهُمَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ يَقُولُ أَنَا الْجَبَّارُ أنا الجبار أَنَا الْجَبَّارُ -ثَلَاثًا- ثُمَّ هَتَفَ بِصَوْتِهِ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ -ثَلَاثَ مَرَّاتٍ- فَلَا يُجِيبُهُ أَحَدٌ ثُمَّ يَقُولُ لِنَفْسِهِ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} [إِبْرَاهِيمَ: 48] فَيَبْسُطُهُمَا وَيُسَطِّحُهُمَا ثُمَّ يَمُدُّهُمَا مَدَّ الْأَدِيمِ الْعُكَاظِيِّ لا ترى فيهما عِوَجًا وَلَا أَمْتًا, ثُمَّ يَزْجُرُ اللَّهُ الْخَلْقَ زَجْرَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ الْمُبَدَّلَةِ مِثْلَ مَا كَانُوا فِيهَا مِنَ الْأُولَى مَنْ كَانَ فِي بَطْنِهَا كَانَ فِي بَطْنِهَا وَمَنْ كَانَ عَلَى ظَهْرِهَا كَانَ عَلَى ظَهْرِهَا ثُمَّ يُنْزِلُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ مَاءً مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ ثُمَّ يَأْمُرُ اللَّهُ السَّمَاءَ أَنْ تُمْطِرَ, فَتُمْطِرُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا حَتَّى يَكُونَ الْمَاءُ فَوْقَهُمُ اثَّنَيْ عَشَرَ ذِرَاعًا, ثُمَّ يَأْمُرُ اللَّهُ الْأَجْسَادَ أَنْ تَنْبُتَ فَتَنْبُتُ كَنَبَاتِ الطَّرَاثِيثِ أَوْ كَنَبَاتِ الْبَقْلِ حَتَّى إِذَا تَكَامَلَتْ أَجْسَادُهُمْ فَكَانَتْ كَمَا كَانَتْ, قَالَ اللَّهُ عز وجل ليحي حَمْلَةُ عَرْشِي فَيُحْيَوْنَ وَيَأْمُرُ اللَّهُ إِسْرَافِيلَ فَيَأْخُذُ الصُّورَ فَيَضَعُهُ عَلَى فِيهِ ثم يقول ليحي جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ, فَيُحْيَيَانِ ثُمَّ يَدْعُو اللَّهُ بِالْأَرْوَاحِ فَيُؤْتَى بِهَا, تَتَوَهَّجُ أَرْوَاحُ الْمُؤْمِنِينَ نُورًا وَأَرْوَاحُ الْكَافِرِينَ ظُلْمَةً, فَيَقْبِضُهَا جَمِيعًا ثُمَّ يُلْقِيهَا فِي الصُّورِ, ثُمَّ يَأْمُرُ اللَّهُ إِسْرَافِيلَ أَنْ يَنْفُخَ نَفْخَةَ الْبَعْثِ فَيَنْفُخُ نَفْخَةَ الْبَعْثِ فَتَخْرُجُ الْأَرْوَاحُ كَأَنَّهَا النَّحْلُ, قَدْ مَلَأَتْ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَيَقُولُ وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَيَرْجِعَنَّ كُلُّ رُوحٍ إِلَى جَسَدِهِ فَتَدْخُلُ الْأَرْوَاحُ فِي الْأَرْضِ إِلَى الْأَجْسَادِ فَتَدْخُلُ فِي الْخَيَاشِيمِ ثُمَّ تَمْشِي فِي الْأَجْسَادِ كَمَا يَمْشِي السُّمُّ فِي اللَّدِيغِ, ثُمَّ تَنْشَقُّ الْأَرْضُ عَنْهُمْ وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ الْأَرْضُ عَنْهُ, فَتَخْرُجُونَ سِرَاعًا إِلَى رَبِّكُمْ تَنْسِلُونَ {مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} [القمر: 8] حفاة عرة غُرْلًا, فَتَقِفُونَ مَوْقِفًا وَاحِدًا مِقْدَارُهُ سَبْعُونَ عَامًا لَا يُنْظَرُ إِلَيْكُمْ وَلَا يُقْضَى بَيْنَكُمْ, فَتَبْكُونَ حَتَّى تَنْقَطِعَ الدُّمُوعُ ثُمَّ تَدْمَعُونَ دَمًا وَتَعْرَقُونَ حَتَّى يلجمكم العرق أو يبلغ الْأَذْقَانَ وَتَقُولُونَ مَنْ يَشْفَعُ لَنَا إِلَى رَبِّنَا فَيَقْضِي بَيْنَنَا فَتَقُولُونَ مَنْ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْ أَبِيكُمْ آدَمَ خَلَقَهُ اللَّهُ بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَكَلَّمَهُ قُبُلًا, فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَطْلُبُونَ ذَلِكَ إِلَيْهِ فَيَأْبَى وَيَقُولُ مَا أَنَا بِصَاحِبِ
ذَلِكَ, فَيَسْتَقْرِئُونَ الْأَنْبِيَاءَ نَبِيًّا نَبِيًّا كُلَّمَا جَاءُوا نَبِيًّا أَبَى عَلَيْهِمْ" قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "حَتَّى يَأْتُونِي, فَأَنْطَلِقُ إِلَى الْفَحْصِ فَأَخِرُّ سَاجِدًا" قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْفَحْصُ قَالَ "قُدَّامَ الْعَرْشِ, حَتَّى يَبْعَثَ اللَّهُ إِلَيَّ مَلَكًا فَيَأْخُذُ بِعَضُدِي وَيَرْفَعُنِي فَيَقُولُ لِي يَا مُحَمَّدُ فَأَقُولُ نَعَمْ يَا رَبِّ فَيَقُولُ عَزَّ وَجَلَّ مَا شَأْنُكَ وَهُوَ أَعْلَمُ فَأَقُولُ يَا رَبِّ وَعَدْتَنِي الشَّفَاعَةَ, فَشَفِّعْنِي فِي خَلْقِكِ فَاقْضِ بَيْنَهُمْ قَالَ اللَّهُ قَدْ شَفَّعْتُكَ, أَنَا آتِيكُمْ أَقْضِي بَيْنَكُمْ" قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "فَأَرْجِعُ فَأَقِفُ مَعَ النَّاسِ, فَبَيْنَمَا نَحْنُ وُقُوفٌ إِذْ سَمِعْنَا مِنَ السَّمَاءِ حِسًّا شَدِيدًا فَهَالَنَا, فَيَنْزِلُ أَهْلُ السَّمَاءِ الدُّنْيَا بِمِثْلَيْ مَنْ فِي الْأَرْضِ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ, حَتَّى إِذَا دَنَوْا مِنَ الْأَرْضِ أَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِهِمْ وَأَخَذُوا مَصَافَّهُمْ وَقُلْنَا لَهُمْ أَفِيكُمُ رَبُّنَا قَالُوا لَا وَهُوَ آتٍ ثُمَّ يَنْزِلُ أَهْلُ السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ بِمِثْلَيْ مَنْ نَزَلَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَبِمِثْلَيْ مَنْ فِيهَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ, حَتَّى إِذَا دَنَوْا مِنَ الْأَرْضِ أَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِهِمْ وَأَخَذُوا مَصَافَّهُمْ, وَقُلْنَا لَهُمْ أَفِيكُمْ رَبُّنَا فَيَقُولُونَ لَا وَهُوَ آتٍ ثُمَّ يَنْزِلُونَ عَلَى قَدْرِ ذَلِكَ مِنَ التَّضْعِيفِ حَتَّى يَنْزِلَ الْجَبَّارُ عَزَّ وَجَلَّ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ فَيَحْمِلُ عَرْشَهُ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ وَهُمُ الْيَوْمَ أَرْبَعَةٌ, أَقْدَامُهُمْ فِي تُخُومِ الْأَرْضِ السُّفْلَى وَالْأَرْضُ وَالسَّمَاوَاتُ إِلَى حُجَزِهِمْ وَالْعَرْشُ عَلَى مَنَاكِبِهِمْ, لَهُمْ زَجَلٌ فِي تَسْبِيحِهِمْ يَقُولُونَ سُبْحَانَ ذِي الْعِزَّةِ وَالْجَبَرُوتِ, سُبْحَانَ ذِي الْمُلْكِ وَالْمَلَكُوتِ, سُبْحَانَ الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ, سُبْحَانَ الَّذِي يُمِيتُ الْخَلَائِقَ وَلَا يَمُوتُ, سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ, سُبْحَانَ رَبِّنَا الْأَعْلَى رَبِّ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّوحِ, سُبْحَانَ رَبِّنَا الْأَعْلَى الَّذِي يُمِيتُ الْخَلَائِقَ وَلَا يَمُوتُ, فَيَضَعُ اللَّهُ كُرْسِيَّهُ حَيْثُ يَشَاءُ مِنْ أَرْضِهِ ثُمَّ يَهْتِفُ بِصَوْتِهِ فَيَقُولُ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ, إِنِّي قَدْ أَنْصَتُّ لَكُمْ مُنْذُ خَلَقْتُكُمْ إِلَى يَوْمِكُمْ هَذَا أَسْمَعُ قَوْلَكُمْ وَأُبْصِرُ أَعْمَالَكُمْ, فَأَنْصِتُوا إِلَيَّ فَإِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ وَصُحُفُكُمْ تُقْرَأُ عَلَيْكُمْ, فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ ثُمَّ يَأْمُرُ اللَّهُ جَهَنَّمَ فَيَخْرُجُ مِنْهَا عُنُقٌ سَاطِعٌ مُظْلِمٌ ثُمَّ يَقُولُ {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [يس: 60-63] أَوْ {بِهَا
تُكَذِّبُونَ} شَكَّ أَبُو عَاصِمٍ {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} [يس: 59] فَيُمَيِّزُ اللَّهُ النَّاسَ وَتَجْثُو الْأُمَمُ, يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الْجَاثِيَةِ: 28] فَيَقْضِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بَيْنَ خَلْقِهِ إِلَّا الثَّقَلَيْنِ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ فَيَقْضِي بَيْنَ الْوُحُوشِ وَالْبَهَائِمِ حَتَّى إِنَّهُ لَيَقْضِي لِلْجَمَّاءِ مِنْ ذَاتِ الْقَرْنِ فَإِذَا فَرَغَ مِنْ ذَلِكَ فَلَمْ تَبْقَ تَبَعَةً عِنْدَ وَاحِدَةٍ لِلْأُخْرَى قَالَ اللَّهُ لَهَا كُونِي تُرَابًا, فَعِنْدَ ذَلِكَ يَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا ثُمَّ يَقْضِي اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ الْعِبَادِ, فَكَانَ أَوَّلَ مَا يَقْضِي فِيهِ الدِّمَاءُ وَيَأْتِي كُلُّ قَتِيلٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَيَأْمُرُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ كُلَّ مَنْ قُتِلَ فَيَحْمِلُ رَأْسَهُ تَشْخَبُ أَوْدَاجُهُ فَيَقُولُ يَا رَبِّ فِيمَ قَتَلَنِي هَذَا فَيَقُولُ وَهُوَ أَعْلَمُ فِيمَ قَتَلْتَهُمْ فَيَقُولُ قَتَلْتُهُمْ لِتَكُونَ الْعِزَّةُ لَكَ فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ صَدَقْتَ فَيَجْعَلُ اللَّهُ وَجْهَهُ مِثْلَ نُورِ الشَّمْسِ ثُمَّ تَمُرُّ بِهِ الْمَلَائِكَةُ إِلَى الْجَنَّةِ ثُمَّ يَأْتِي كُلُّ مَنْ قَتَلَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ يَحْمِلُ رَأْسَهُ وَتَشْخَبُ أَوْدَاجُهُ فَيَقُولُ يَا رَبِّ قَتَلَنِي هَذَا فَيَقُولُ تَعَالَى وَهُوَ أَعْلَمُ لِمَ قَتَلْتَهُمْ فَيَقُولُ يَا رَبِّ قَتَلْتُهُمْ لِتَكُونَ الْعِزَّةُ لِي فَيَقُولُ تَعِسْتَ ثُمَّ لَا تَبْقَى نَفْسٌ قَتَلَهَا إِلَّا قُتِلَ بِهَا وَلَا مَظْلَمَةٌ ظَلَمَهَا إِلَّا أُخِذَ بِهَا وَكَانَ فِي مَشِيئَةِ اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ رَحِمَهُ ثُمَّ يَقْضِي اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ مَنْ بَقِيَ مِنْ خَلْقِهِ حَتَّى لَا تَبْقَى مَظْلَمَةٌ لِأَحَدٍ عِنْدَ أَحَدٍ إِلَّا أَخَذَهَا اللَّهُ لِلْمَظْلُومِ مِنَ الظَّالِمِ حَتَّى إِنَّهُ لَيُكَلِّفُ شَائِبَ اللَّبَنِ بِالْمَاءِ ثُمَّ يَبِيعُهُ أَنْ يُخَلِّصَ اللَّبَنَ مِنَ الْمَاءِ فَإِذَا فَرَغَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ نَادَى مُنَادٍ يُسْمِعُ الْخَلَائِقَ أَلَا لِيَلْحَقْ كُلُّ قَوْمٍ بِآلِهَتِهِمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ, فَلَا يَبْقَى أَحَدٌ عَبَدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِلَّا مَثَلَتْ لَهُ آلِهَتُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ, وَيُجْعَلُ يَوْمَئِذٍ مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ عَلَى صُورَةِ عُزَيْرٍ وَيُجْعَلُ مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ عَلَى صُورَةِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ثُمَّ يَتْبَعُ هَذَا الْيَهُودُ وَهَذَا النَّصَارَى, ثُمَّ قَادَتْهُمْ آلِهَتُهُمْ إِلَى النَّارِ وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ {لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 99] فَإِذَا لَمْ يَبْقَ إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ فِيهِمُ الْمُنَافِقُونَ جَاءَهُمُ اللَّهُ فِيمَا شَاءَ مِنْ هَيْئَتِهِ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ فَالْحَقُوا بِآلِهَتِكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ فَيَقُولُونَ وَاللَّهِ وَاللَّهِ مَا لَنَا إِلَهٌ إِلَّا اللَّهُ وَمَا كُنَّا نَعْبُدُ غَيْرَهُ, فَيَكْشِفُ لَهُمْ عَنْ سَاقِهِ وَيَتَجَلَّى لَهُمْ مِنْ عَظَمَتِهِ مَا يَعْرِفُونَ أَنَّهُ رَبُّهُمْ, فَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا عَلَى وُجُوهِهِمْ وَيَخِرُّ كُلُّ مُنَافِقٍ عَلَى قَفَاهُ, وَيَجْعَلُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَصْلَابَهُمْ
كَصَيَاصِيِّ الْبَقَرِ ثُمَّ يَأْذَنُ اللَّهُ لَهُمْ فَيُرْفَعُونَ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الصِّرَاطَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ جَهَنَّمَ كَحَدِّ الشَّفْرَةِ أَوْ كَحَدِّ السَّيْفِ عَلَيْهِ كَلَالِيبُ وَخَطَاطِيفُ وَحَسَكٌ كَحَسَكِ السَّعْدَانِ دُونَهُ جِسْرٌ دَحْضٌ مَزِلَّةٌ, فَيَمُرُّونَ كَطَرَفِ الْعَيْنِ أَوْ كَلَمْحِ الْبَرْقِ أَوْ كَمَرِّ الرِّيحِ أَوْ كَجِيَادِ الْخَيْلِ أَوْ كَجِيَادِ الرِّكَابِ أَوْ كَجِيَادِ الرِّجَالِ فَنَاجٍ سَالِمٌ وَنَاجٍ مَخْدُوشٌ وَمَكْدُوسٌ عَلَى وَجْهِهِ فِي جَهَنَّمَ". فَإِذَا أَفْضَى أَهْلُ الْجَنَّةِ إِلَى الْجَنَّةِ قَالُوا مَنْ يَشْفَعُ لَنَا إِلَى رَبِّنَا فَنَدْخُلِ الْجَنَّةَ فَيَقُولُونَ مَنْ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْ أَبِيكُمْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَلَقَهُ اللَّهُ بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَكَلَّمَهُ قُبُلًا فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيُطْلَبُ ذَلِكَ إِلَيْهِ فَيَذْكُرُ ذَنْبًا وَيَقُولُ مَا أَنَا بِصَاحِبِ ذَلِكَ وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِنُوحٍ فَإِنَّهُ أَوَّلُ رسل الله فيؤتى نُوحٌ فَيُطْلَبُ ذَلِكَ إِلَيْهِ فَيَذْكُرُ ذَنْبًا وَيَقُولُ مَا أَنَا بِصَاحِبِ ذَلِكَ وَيَقُولُ عَلَيْكُمْ بِإِبْرَاهِيمَ فَإِنَّ اللَّهَ تَخَيَّرَهُ خَلِيلًا فَيُؤْتَى إِبْرَاهِيمُ فَيُطْلَبُ ذَلِكَ إِلَيْهِ فَيَذْكُرُ ذَنْبًا وَيَقُولُ مَا أَنَا بِصَاحِبِ ذَلِكَ وَيَقُولُ عَلَيْكُمْ بِمُوسَى فَإِنَّ اللَّهَ قَرَّبَهُ نَجِيًّا وَكَلَّمَهُ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ التَّوْرَاةَ فَيُؤْتَى مُوسَى فَيُطْلَبُ ذَلِكَ إِلَيْهِ فَيَذْكُرُ ذَنْبًا وَيَقُولُ لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِرُوحِ اللَّهِ وَكَلِمَتِهِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فَيُؤْتَى عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ فَيُطْلَبُ ذَلِكَ إِلَيْهِ فَيَقُولُ مَا أَنَا بِصَاحِبِكُمْ وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِمُحَمَّدٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَيَأْتُونِي وَلِي عِنْدَ رَبِّي ثَلَاثُ شَفَاعَاتٍ وَعَدَنِيهِنَّ, فَأَنْطَلِقُ فَآتِي الْجَنَّةَ فَآخُذُ بِحَلْقَةِ الْبَابِ فَأَسْتَفْتِحُ فَيُفْتَحُ لِي فَأُحَيَّا وَيُرَحَّبُ بِي فَإِذَا دَخَلْتُ الْجَنَّةَ فَنَظَرْتُ إِلَى رَبِّي خَرَرْتُ لَهُ سَاجِدًا فَيَأْذَنُ اللَّهُ لِي مِنْ تَحْمِيدِهِ وَتَمْجِيدِهِ بِشَيْءٍ مَا أَذِنَ بِهِ لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ ثُمَّ يَقُولُ ارْفَعْ رَأْسَكَ يَا مُحَمَّدُ, وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ, وَسَلْ تُعْطَ, فَإِذَا رَفَعْتُ رَأْسِي يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ أَعْلَمُ مَا شَأْنُكَ فَأَقُولُ يَا رَبِّ وَعَدْتَنِي الشَّفَاعَةَ فَشَفِّعْنِي فِي أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ, فَيَقُولُ اللَّهُ قَدْ شَفَّعْتُكَ وَقَدْ أَذِنْتُ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أَنْتُمْ فِي الدُّنْيَا بِأَعْرَفَ بِأَزْوَاجِكُمْ وَمَسَاكِنِكُمْ مِنْ أهل الجنة بأزواجهم وَمَسَاكِنِهِمْ فَيَدْخُلُ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ عَلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ زَوْجَةً سَبْعِينَ مِمَّا يُنْشِئُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَثِنْتَيْنِ آدَمِيَّتَيْنِ مِنْ وَلَدِ آدَمَ لَهُمَا فَضْلٌ عَلَى مَنْ أَنْشَأَ اللَّهُ لِعِبَادَتِهِمَا اللَّهَ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا فَيَدْخُلُ عَلَى الْأُولَى فِي غُرْفَةٍ مِنْ يَاقُوتَةٍ عَلَى سَرِيرٍ مُكَلَّلٍ بِاللُّؤْلُؤِ عَلَيْهَا سَبْعُونَ زَوْجًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ, ثُمَّ إِنَّهُ يَضَعُ
يَدَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهَا ثُمَّ يَنْظُرُ إِلَى يَدِهِ مِنْ صَدْرِهَا وَمِنْ وَرَاءِ ثِيَابِهَا وَجِلْدِهَا وَلَحْمِهَا وَإِنَّهُ لَيَنْظُرُ إِلَى مُخِّ سَاقِهَا كَمَا يَنْظُرُ أَحَدُكُمْ إِلَى السِّلْكِ فِي قَصَبَةِ الْيَاقُوتِ, كَبِدُهَا لَهُ مِرْآةٌ وَكَبِدُهُ لَهَا مِرْآةٌ فَبَيْنَا هُوَ عِنْدَهَا لَا يَمَلُّهَا وَلَا تَمَلُّهُ مَا يَأْتِيهَا مِنْ مَرَّةٍ إِلَّا وَجَدَهَا عَذْرَاءَ مَا يَفْتُرُ ذَكَرُهُ وَمَا تَشْتَكِي قُبُلَهَا, فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ نُودِيَ إِنَّا قَدْ عَرَفْنَا أَنَّكَ لَا تَمَلُّ وَلَا تُمَلُّ, إِلَّا أَنَّهُ لَا مَنِيَّ وَلَا مَنِيَّةَ إِلَّا أَنَّ لَكَ أَزْوَاجًا غَيْرَهَا, فَيَخْرُجُ فَيَأْتِيهِنَّ وَاحِدَةً وَاحِدَةً كُلَّمَا أَتَى وَاحِدَةً قَالَتْ لَهُ وَاللَّهِ مَا أَرَى فِي الْجَنَّةِ شَيْئًا أَحْسَنَ مِنْكَ وَلَا في الجنة شيئا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْكَ. وَإِذَا وَقَعَ أَهْلُ النَّارِ فِي النَّارِ وَقَعَ فِيهَا خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ رَبِّكَ أَوْبَقَتْهُمْ أَعْمَالَهُمْ, فَمِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُ النَّارُ قَدَمَيْهِ وَلَا تُجَاوِزُ ذَلِكَ, وَمِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ إِلَى أَنْصَافِ سَاقَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ إِلَى حَقْوَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُ جَسَدَهُ كُلَّهُ إِلَّا وَجْهَهُ حَرَّمَ اللَّهُ صُورَتَهُ عَلَيْهَا" قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَقُولُ "يَا رَبِّ شَفِّعْنِي فِيمَنْ وَقَعَ فِي النَّارِ مِنْ أُمَّتِي فَيَقُولُ أَخْرِجُوا مَنْ عَرَفْتُمْ فَيَخْرُجُ أُولَئِكَ حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْهُمْ أَحَدٌ ثُمَّ يَأْذَنُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الشَّفَاعَةِ فَلَا يَبْقَى نَبِيٌّ وَلَا شَهِيدٌ إِلَّا شَفَعَ فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى أَخْرِجُوا مَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ زِنَةَ دِينَارٍ إِيمَانًا فَيَخْرُجُ أُولَئِكَ حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْهُمْ أَحَدٌ, ثُمَّ يُشَفَّعُ اللَّهُ تَعَالَى فَيَقُولُ أَخْرِجُوا مَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ إِيمَانًا ثُلُثَيْ دِينَارٍ, ثُمَّ يَقُولُ ثُلُثَ دِينَارٍ ثُمَّ يَقُولُ رُبُعَ دِينَارٍ ثم يقول قيراط ثُمَّ يَقُولُ حَبَّةً مِنْ خَرْدَلٍ فَيَخْرُجُ أُولَئِكَ حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْهُمْ أَحَدٌ وَحَتَّى لَا يَبْقَى فِي النَّارِ مِنْ عَمَلٍ لِلَّهِ خَيْرًا قَطُّ وَلَا يَبْقَى أَحَدٌ لَهُ شَفَاعَةٌ إِلَّا شَفَعَ, حَتَّى إِنَّ إِبْلِيسَ يَتَطَاوَلُ مِمَّا يَرَى مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى رَجَاءَ أَنْ يَشْفَعَ لَهُ ثُمَّ يَقُولُ بَقِيتُ وَأَنَا أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَيُدْخِلُ يَدَهُ فِي جَهَنَّمَ فَيَخْرُجُ مِنْهَا مَا لَا يُحْصِيهِ غَيْرُهُ كَأَنَّهُمْ حُمَمٌ فَيُلْقَوْنَ عَلَى نَهْرٍ يُقَالُ لَهُ الْحَيَوَانِ فَيَنْبُتُونَ كَمَا تَنْبُتُ الْحَبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ, فَمَا يَلِي الشَّمْسَ مِنْهَا أُخَيْضَرُ وَمَا يَلِي الظِّلَّ مِنْهَا أُصَيْفَرُ, فَيَنْبُتُونَ كَنَبَاتِ الطَّرَاثِيثِ حَتَّى يَكُونُوا أَمْثَالَ الذَّرِّ, مَكْتُوبٌ فِي رِقَابِهِمْ الْجُهَنَّمِيُّونَ عُتَقَاءُ الرَّحْمَنِ, يَعْرِفُهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ بِذَلِكَ الْكِتَابِ, مَا عَمِلُوا خَيْرًا لِلَّهِ قَطُّ فَيَمْكُثُونَ فِي الْجَنَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ وَذَلِكَ الْكِتَابُ فِي رِقَابِهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ رَبَّنَا امْحُ عَنَّا هَذَا
تعليق ابن كثير على حديث إسماعيل بن رافع
الْكِتَابَ, فَيَمْحُوهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهُمْ" 1. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ ثُمَّ ذَكَرَهُ بِطُولِهِ ثُمَّ قَالَ هَذَا حَدِيثٌ مَشْهُورٌ وَهُوَ غَرِيبٌ جِدًّا وَلِبَعْضِهِ شَوَاهِدُ فِي الْأَحَادِيثِ الْمُتَفَرِّقَةِ, وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ نَكَارَةٌ, تَفَرَّدَ بِهِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ رَافِعٍ قَاضِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ فَمِنْهُمْ مَنْ وَثَّقَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ ضَعَّفَهُ, وَنَصَّ عَلَى نَكَارَةِ حَدِيثِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ كَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَأَبِي حَاتِمٍ الرَّازِيِّ وَعَمْرِو بْنِ عَلِيٍّ الْفَلَّاسِ, وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ فِيهِ هُوَ مَتْرُوكٌ وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ أَحَادِيثُهُ كُلُّهَا فِيهَا نَظَرٌ إِلَّا أَنَّهُ يُكْتَبُ حَدِيثُهُ فِي جُمْلَةِ الضُّعَفَاءِ قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قُلْتُ وَقَدِ اخْتُلِفَ عَلَيْهِ فِي إِسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ قَدْ أَفْرَدْتُهَا فِي جُزْءٍ عَلَى حِدَةٍ, وَأَمَّا سِيَاقُهُ فَغَرِيبٌ جِدًّا وَيُقَالُ إِنَّهُ جَمَعَهُ مِنْ أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ وَجَعَلَهُ سِيَاقًا وَاحِدًا فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ بِسَبَبِ ذَلِكَ وَسَمِعْتُ شَيْخَنَا الْحَافِظَ أَبَا الْحَجَّاجِ الْمِزِّيَّ يَقُولُ إِنَّهُ رَأَى لِلْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ مُصَنَّفًا قَدْ جَمَعَهُ كَالشَّوَاهِدِ لِبَعْضِ مُفْرَدَاتِ هَذَا الْحَدِيثِ, فَاللَّهُ أَعْلَمُ2 انْتَهَى كَلَامُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "مَا الصُّورُ" فَقَالَ: "قَرْنٌ يُنْفَخُ فِيهِ" 3 وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "كَيْفَ أَنْعَمُ وَصَاحِبُ الصُّورِ قَدِ الْتَقَمَهُ وَأَصْغَى سَمْعَهُ وَحَنَى جَبْهَتَهُ يَنْتَظِرُ متى يؤمر" فقال: وا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا تَأْمُرُنَا قَالَ "قُولُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ" 4.
غُرْلًا حُفَاةً الْأَغْرَلُ الْأَقْلَفُ, حُفَاةً غَيْرَ مُنْتَعِلِينَ كَجَرَادٍ مُنْتَشِرٍ شُبِّهُوا بِالْجَرَادِ الْمُنْتَشِرِ لِكَثْرَتِهِ وَلِكَوْنِهِ لَيْسَ لَهُ وِجْهَةٌ يَقْصِدُهَا بَلْ يَخْتَلِفُ وَيَمُوجُ بَعْضُهُ فِي بَعْضٍ وَهُمْ كَذَلِكَ, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} [الْقَمَرِ: 6-8] وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} [الْمُدَّثِّرِ: 8-10] . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَحْشَرُ النَّاسُ عَلَى ثَلَاثِ طَرَائِقَ رَاغِبِينَ رَاهِبِينَ وَاثْنَانِ عَلَى بَعِيرٍ وَثَلَاثَةٌ عَلَى بَعِيرٍ وَأَرْبَعَةٌ عَلَى بَعِيرٍ وَعَشْرَةٌ عَلَى بَعِيرٍ, وَيَحْشُرُ بَقِيَّتُهُمِ النَّارُ تَقِيلُ مَعَهُمْ حَيْثُ قَالُوا وَتَبِيتُ مَعَهُمْ حَيْثُ بَاتُوا وَتُصْبِحُ مَعَهُمْ حَيْثُ أَصْبَحُوا وَتُمْسِي مَعَهُمْ حَيْثُ أَمْسَوْا" 1 وَفِيهِمَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَخْطُبُ فَقَالَ: "إِنَّكُمْ مَحْشُورُونَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الْأَنْبِيَاءِ: 104] الْآيَةَ, وَأَنَّ أَوَّلَ الْخَلَائِقِ يُكْسَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِبْرَاهِيمُ, وَإِنَّهُ سَيُجَاءُ بِرِجَالٍ مِنْ أُمَّتِي فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ فَأَقُولُ يَا رَبِّ أُصَيْحَابِي فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ, فَأَقُولُ كَمَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ} [الْمَائِدَةِ: 117 118] قَالَ "فَيُقَالُ إِنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ". وَفِي رِوَايَةٍ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ "إِنَّكُمْ مُلَاقُو اللَّهِ حُفَاةً عُرَاةً مُشَاةً غُرْلًا" وَفِي أُخْرَى قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَخْطُبُ عَلَى الْمِنْبَرِ.1 وَفِيهِمَا عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تُحْشَرُونَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا" قَالَتْ: عَائِشَةُ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ فَقَالَ: "الْأَمْرُ أَشَدُّ مِنْ أَنْ يُهِمَّهُمْ ذَلِكَ" 2 وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ فَقَالَتْ: عَائِشَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَكَيْفَ بِالْعَوْرَاتِ فَقَالَ: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} 3 وَرَوَى هُوَ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تُحْشَرُونَ حُفَاةً عُرَاةً مُشَاةً غُرْلًا": قَالَ: فَقَالَتْ: زَوْجَتُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ يَنْظُرُ -أَوْ يَرَى- بَعْضُنَا عَوْرَةَ بَعْضٍ قَالَ {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} أَوْ قَالَ: "مَا أَشْغَلَهُمْ عَنِ النَّظَرِ" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِنَحْوِهِ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ4. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَأَلَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي إِنِّي سَائِلَتُكَ عَنْ حَدِيثٍ فَتُخْبِرُنِي أَنْتَ بِهِ قَالَ إِنْ كَانَ عِنْدِي مِنْهُ عِلْمٌ قَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ كَيْفَ يُحْشَرُ الرِّجَالُ قَالَ: "حُفَاةً عراة" قالت: واسوءتاه مِنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ قَالَ: "وَعَنْ أَيِّ ذَلِكَ تَسْأَلِينَ إِنَّهُ قَدْ نَزَلَ عَلَيَّ آيَةٌ, لَا يَضُرُّكِ كَانَ عَلَيْكِ ثِيَابٌ أَوْ لَا يَكُونُ" قَالَتْ: أَيَّةُ آيَةٍ يَا نَبِيَّ اللَّهِ قَالَ: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} 5.
وَرَوَى الْبَغَوِيُّ بِإِسْنَادِ الثَّعْلَبِيِّ عَنْ سَوْدَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يُبْعَثُ النَّاسُ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا قَدْ أَلْجَمَهُمُ الْعَرَقُ وَبَلَغَ شُحُومَ الْآذَانِ" فَقُلْتُ: يَا رسول الله واسوءتاه يَنْظُرُ بَعْضُنَا إِلَى بَعْضٍ فَقَالَ: "قَدْ شُغِلَ النَّاسُ, {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} " 1. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا قَالَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ كَيْفَ يُحْشَرُ الْكَافِرُ عَلَى وَجْهِهِ قَالَ أَلَيْسَ الَّذِي أَمْشَاهُ عَلَى الرِّجْلَيْنِ فِي الدُّنْيَا قَادِرًا عَلَى أَنْ يُمْشِيَهُ عَلَى وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ قَتَادَةُ بَلَى وَعِزَّةِ رَبِّنَا2. قُلْتُ وَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} [الْإِسْرَاءِ: 97] الْآيَاتِ فَشَتَّانَ مَا بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ, وَفُرْقَانَ مَا بَيْنَ الطَّرِيقَيْنِ أُولَئِكَ يَفِدُونَ رَكْبًا إِلَى جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَرَحْمَةِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَزِيَارَةِ الرَّبِّ الْعَظِيمِ, وَهَؤُلَاءِ يُسْحَبُونَ سَحْبًا إِلَى نَارِ الْجَحِيمِ وَنَكَالِهَا الْأَلِيمِ وَعَذَابِهَا الْمُقِيمِ {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا} [مَرْيَمَ: 85 86] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَفْدًا رُكْبَانًا, وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَلَى الْإِبِلِ وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَلَى النَّجَائِبِ وَقَالَ الثَّوْرِيُّ عَلَى الْإِبِلِ النُّوقِ, قَالَ قَتَادَةُ إِلَى الْجَنَّةِ, وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا يُحْشَرُونَ وَاللَّهِ عَلَى أَرْجُلِهِمْ, وَلَكِنْ عَلَى نُوقٍ رِحَالُهَا الذَّهَبُ, وَنَجَائِبُ سَرْجِهَا يَوَاقِيتُ, إِنْ هَمُّوا بِهَا سَارَتْ وَإِنْ هَمُّوا بِهَا طَارَتْ
وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ ابن الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي مُسْنَدِ أَبِيهِ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ سُوَيْدٍ قَالَ كُنَّا عِنْدَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ {نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا} [مَرْيَمَ: 85] قَالَ لَا وَاللَّهِ مَا عَلَى أَرْجُلِهِمْ يُحْشَرُونَ وَلَا يُحْشَرُ الْوَفْدُ عَلَى أَرْجُلِهِمْ, وَلَكِنْ بِنُوقٍ لَمْ يَرَ الْخَلَائِقَ مِثْلَهَا, عَلَيْهَا رَحَائِلُ مِنْ ذَهْبٍ فَيَرْكَبُونَ عَلَيْهَا حَتَّى يَضْرِبُوا أَبْوَابَ الْجَنَّةِ وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَزَادَ عَلَيْهَا رَحَائِلُ الذَّهَبِ وَأَزِمَّتُهَا الزَّبَرْجَدُ1. وَلِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا} [مَرْيَمَ: 85] فَقَالَ: مَا أَظُنُّ الْوَفْدَ إِلَّا الرَّكْبَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ, إِنَّهُمْ إِذَا خَرَجُوا مِنْ قُبُورِهِمْ يَسْتَقْبِلُونَ -أَوْ يَؤْتُونَ- بِنُوقٍ بِيضٍ لَهَا أَجْنِحَةٌ وَعَلَيْهَا رِحَالُ الذَّهَبِ, شَرَكُ نِعَالِهِمْ نُورٌ يَتَلَأْلَأُ كُلُّ خَطْوَةٍ مِنْهَا مَدُّ الْبَصَرِ, فَيَنْتَهُونَ إِلَى شَجَرَةٍ يَنْبُعُ مِنْ أَصْلِهَا عَيْنَانِ فَيَشْرَبُونَ مِنْ إِحْدَاهُمَا فَتَغْسِلُ مَا فِي بُطُونِهِمْ مِنْ دَنَسٍ, وَيَغْتَسِلُونَ مِنَ الْأُخْرَى فَلَا تَشْعَثُ أَبْشَارُهُمْ وَلَا أَشْعَارُهُمْ بَعْدَهَا أَبَدًا, وَتَجْرِي عَلَيْهِمْ نَضْرَةُ النَّعِيمِ فَيَنْتَهُونَ -أَوْ فَيَأْتُونَ- بَابَ الْجَنَّةِ فَإِذَا حلقة من ياقوتة حَمْرَاءُ عَلَى صَفَائِحِ الذَّهَبِ, فَيَضْرِبُونَ بِالْحَلْقَةِ عَلَى الصَّفْحَةِ فَيُسْمَعُ لَهَا طَنِينٌ"2 وَذَكَرَ الْحَدِيثَ مُطَوَّلًا وَالصَّحِيحُ وَقْفُهُ. {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا} [مَرْيَمَ: 86] أَيْ عِطَاشًا قَدْ تَقَطَّعَتْ أَعْنَاقُهُمْ مِنَ الْعَطَشِ, وَالْوِرْدُ الْجَمَاعَةُ يَرِدُونَ الْمَاءَ وَلَا يَرِدُ أَحَدٌ الْمَاءَ إِلَّا بَعْدَ عَطَشٍ قُلْتُ وَلَكِنَّهُمْ وَرَدُوا لَا إِلَى مَاءٍ, بَلْ إِلَى جَهَنَّمَ وَجَحِيمِهَا, وَمُهْلِهَا
وَحَمِيمِهَا وَفِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ الطَّوِيلِ فَيُقَالُ لَهُمْ "مَاذَا تَشْتَهُونَ" فَيَقُولُونَ "عَطِشْنَا فَيُشَارُ لَهُمْ إِلَى جَهَنَّمَ كَأَنَّهَا سَرَابٌ يُحَطِّمُ بَعْضُهَا بَعْضًا, فَيُقَالُ لَهُمْ أَلَا تَرِدُونَ"1 الْحَدِيثَ. فَسُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ اللَّهُ أَكْبَرُ, كانوا فِي الدُّنْيَا عَلَى السَّوَاءِ يُرْزَقُونَ وَيَسِيرُونَ وَيَذْهَبُونَ وَيَجِيئُونَ, يُؤْتَاهَا مَنْ يُحِبُّهُ اللَّهُ وَمَنْ لَا يُحِبُّ, فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْمَوْتُ عَرَفَ كُلٌّ مِنْهُمْ سَبِيلَهُ وَاتَّضَحَ لَهُ مَقِيلُهُ فَلَمَّا كَانُوا فِي الْبَرْزَخِ خَلَا كُلٌّ مِنْهُمْ بِعَمَلِهِ وَأَفْضَى إِلَى مَا قَدَّمَ قَبْلَ أَجَلِهِ, فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ صَرَخَ بِهِمُ الصَّارِخُ وَصَاحَ بِهِمُ الصَّائِحُ فَخَرَجُوا مِنَ الْأَجْدَاثِ مُسْرِعِينَ وَإِلَى الدَّاعِي مُهْطِعِينَ, هَذَا عَلَى النَّجَائِبِ وَهَذَا عَلَى الرَّكَائِبِ, وَهَذَا عَلَى قَدَمَيْهِ وَهَذَا عَلَى وَجْهِهِ هَؤُلَاءِ فِي النُّورِ يَنْظُرُونَ وَأُولَئِكَ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ هَؤُلَاءِ إِلَى الرَّحْمَنِ يَفِدُونَ وَأُولَئِكَ إِلَى النَّارِ يَرِدُونَ هَؤُلَاءِ حُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا, وَأُولَئِكَ غُلُّوا بِالسَّلَاسِلِ وَعَلَتْهُمُ الزَّبَانِيَةُ بِالْمَقَامِعِ يَضْرِبُونَ بُطُونًا مِنْهُمْ وَظُهُورًا هَؤُلَاءِ وَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا, مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا, وَأُولَئِكَ أَعْتَدَ اللَّهُ لَهُمْ سَعِيرًا {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا} هَؤُلَاءِ عَلَيْهِمْ حُلَلُ السُّنْدُسِ وَالْإِسْتَبْرَقِ وَسَائِرِ الْأَلْوَانِ وَأُولَئِكَ مُقَرَّنُونَ فِي الْأَصْفَادِ سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ هَؤُلَاءِ إِلَى زِيَارَةِ رَبِّهِمْ يَرْكَبُونَ وَأُولَئِكَ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ هَؤُلَاءِ يَنْظُرُونَ إِلَى رَبِّهِمْ بُكْرَةً وَعَشِيًّا وَأُولَئِكَ تُرِكُوا فِي جَهَنَّمَ جِثِيًّا هَؤُلَاءِ يَقُولُ لَهُمْ رَبُّهُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ وَأُولَئِكَ يَقُولُ لَهُمُ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النار هؤلاء يقرون بِذُنُوبِهِمْ فَيَغْفِرُهَا لَهُمْ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَأُولَئِكَ يُنَادِي بِهِمْ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ, فَحِينَئِذٍ ظَهَرَ الْفُرْقَانِ وَافْتَرَقَ الطَّرِيقَانِ, وَامْتَازَ الْفَرِيقَانِ, وَصَارَ الْغَيْبُ شَهَادَةً
وَالسِّرُّ عَلَانِيَةً, وَالْمَسْتُورُ مَكْشُوفًا, وَالْمَخْبَأُ ظَاهِرًا {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص: 28] {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الْجَاثِيَةِ: 21] كَمْ كَاسٍ فِي الدُّنْيَا طَالَ يَوْمَئِذٍ عُرْيُهُ, كَمْ طَاعِمٍ فِي الدُّنْيَا عَظُمَ يَوْمَئِذٍ جُوعُهُ, كَمْ رَيَّانٍ فِي الدُّنْيَا اشْتَدَّ يَوْمَئِذٍ عَطَشُهُ, كَمْ نَاعِمٍ فِي الدُّنْيَا حَقَّ بِهِ يَوْمَئِذٍ بُؤْسُهُ {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الْقَصَصِ: 83-84] .
الاجتماع ليوم الفصل وهو يوم التغابن
[الِاجْتِمَاعُ: لِيَوْمِ الْفَصْلِ] : وَيُجْمَعُ الْخَلْقُ لِيَوْمِ الْفَصْلِ: ... جَمِيعُهُمْ عُلْوِيُّهُمْ وَالسُّفْلَى فِي مَوْقِفٍ يَجِلُّ فِيهِ الْخَطْبُ ... وَيَعْظُمُ الْهَوْلُ بِهِ وَالْكَرْبُ وَيُجْمَعُ الْخَلْقُ أَوَّلُهُمْ وَآخِرُهُمْ لِيَوْمِ الْفَصْلِ يَوْمَ يَفْصِلُ الرَّحْمَنُ بَيْنَ الْخَلَائِقِ سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ الْفَصْلِ لِذَلِكَ, وَسَمَّاهُ يَوْمَ التَّغَابُنِ لِكَثْرَةِ الْمَغْبُونِينَ يَوْمَئِذٍ, وَسَمَّاهُ يَوْمَ الْجَمْعِ لِأَنَّهُ يَجْمَعُ فِيهِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ يَسْمَعُهُمُ الدَّاعِي وَيُنْفِذُهُمُ الْبَصَرَ, وَسَمَّاهُ يَوْمَ التَّلَاقِ لِأَنَّهُ يَلْقَى فِيهِ الْعَبْدُ رَبَّهُ وَيَلْقَى فِيهِ الْعَامِلُ عَمَلَهُ وَيَلْتَقِي فِيهِ الْأَوَّلُونَ بِالْآخِرِينَ وَيَلْتَقِي فِيهِ أَهْلُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرَضِينَ, وَسَمَّاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِأَنَّ فِيهِ قِيَامَ الْخَلَائِقِ مِنَ الْقُبُورِ, وَسَمَّاهُ يَوْمَ التَّنَادِ لِتَنَادِي الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا, وَلِمُنَادَاةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عِبَادَهُ فِيهِ, وَبِنِدَائِهِمْ لِيَتْبَعَ كُلُّ قَوْمٍ مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ, وَلِتَنَادِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَأَصْحَابِ النَّارِ, وَلِمُنَادَاةِ أَصْحَابِ الْأَعْرَافِ كُلًّا مِنَ الْفَرِيقَيْنِ وَلِلْمُنَادَاةِ عَلَى كُلِّ عَامِلٍ بِعَمَلِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ, قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ} [النِّسَاءِ: 87] وَقَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} [التَّغَابُنِ: 9] وَقَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ} [الْمَائِدَةِ: 109] وَقَالَ تَعَالَى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا} [الْكَهْفِ: 99] وَقَالَ تَعَالَى: {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الْكَهْفِ: 47] وَقَالَ تَعَالَى: {لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ لِيَوْمِ الْفَصْلِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [الْمُرْسَلَاتِ: 13 14] وَقَالَ تَعَالَى: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ} [غَافِرٍ: 16] وَقَالَ تَعَالَى: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} [التَّوْبَةِ: 77] وَقَالَ تَعَالَى: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ
النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزَّلْزَلَةِ: 6-8] وَقَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا} [النَّبَأِ: 38] {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا} [الْفُرْقَانِ: 25] وَقَبْلَ ذَلِكَ {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ} [الْفُرْقَانِ: 22] وَقَالَ فِي السُّعَدَاءِ {لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ} [الْأَنْبِيَاءِ: 103] وَقَالَ تَعَالَى عَنْ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ {وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ} [غَافِرٍ: 32] وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [الْقَصَصِ: 62-65] وَقَالَ تَعَالَى فِي مُنَادَاةِ الْمُنَافِقِينَ الْمُؤْمِنِينَ {يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ} [الْحَدِيدِ: 14] الْآيَاتِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} إِلَى قَوْلِهِ فِي أَصْحَابِ الْأَعْرَافِ {وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} [الْأَعْرَافِ: 43-50] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ} [هُودٍ: 18] وَغَيْرُهَا مِنَ الْآيَاتِ. وَجَمِيعُهُمْ عُلْوِيُّهُمْ وَهُمْ عَوَالِمُ السَّمَاوَاتِ وَالسُّفْلَى وَهُمْ عَوَالِمُ الْأَرَضِينَ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ الصُّورِ كَيْفِيَّةُ صُفُوفِهِمْ وتضعيفهم وإحاطة بعضهم بِبَعْضٍ فِي مَوْقِفٍ عَظِيمٍ يَجِلُّ يَشْتَدُّ فِيهِ الْخَطْبُ الشَّأْنُ وَالْأَمْرُ وَيَعْظُمُ الْهَوْلُ الْأَمْرُ
الْفَظِيعُ الْهَائِلُ بِهِ أَيْ فِيهِ وَالْكَرْبُ الْحُزْنُ الْأَخْذُ بِالنَّفْسِ وَالْهَمُّ وَالْغَمُّ وَقَدْ وَصَفَ تَعَالَى مَوْقِفَ الْقِيَامَةِ بِشِدَّةِ ذَلِكَ كُلِّهِ كَمَا قَالَ {أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الْمُطَفِّفِينَ: 4] وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} [إِبْرَاهِيمَ: 43] وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ} [غَافِرٍ: 18] وَقَالَ تَعَالَى: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ} [الْمَعَارِجِ: 11-14] وَقَالَ تَعَالَى: {فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} [الْمُدَّثِّرِ: 9] وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} إِلَى قَوْلِهِ: {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ} [الْإِنْسَانِ: 7-11] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا} [الْإِنْسَانِ: 27] . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: " يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ حَتَّى يَغِيبَ أَحَدُهُمْ فِي رَشْحِهِ إِلَى أَنْصَافِ أُذُنَيْهِ" 1. وَرَوَاهُ أَحْمَدُ بِلَفْظِ "يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ لِعَظَمَةِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ, حَتَّى إِنَّ الْعَرَقَ لَيُلْجِمُ الرِّجَالَ إِلَى أَنْصَافِ آذَانِهِمْ" 2. وَلَهُ عَنِ الْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ الْكِنْدِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أُدْنِيَتِ الشَّمْسُ مِنَ الْعِبَادِ حَتَّى تَكُونَ قَدْرَ مَيْلٍ أَوْ
مَيْلَيْنِ -قَالَ- فَتُصْهِرُهُمُ الشَّمْسُ, فَيَكُونُونَ فِي الْعَرَقِ كَقَدْرِ أَعْمَالِهِمْ, منهم مَنْ يَأْخُذُهُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ, وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُهُ إِلَى حَقْوَيْهِ, وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ إِلْجَامًا" 1. رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ. وَرَوَى أَحْمَدُ أَيْضًا عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ تَدْنُو الشَّمْسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى قَدْرِ مَيْلٍ وَيُزَادُ فِي حَرِّهَا كَذَا وَكَذَا, تَغْلِي مِنْهَا الْهَوَامُّ كَمَا تَغْلِي الْقُدُورُ, يَعْرَقُونَ فِيهَا عَلَى قَدْرِ خَطَايَاهُمْ مِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ إِلَى كَعْبَيْهِ, وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ إِلَى سَاقَيْهِ, وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ إِلَى وَسَطِهِ, وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ الْعَرَقُ2. وَفِيهِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "تَدْنُو الشَّمْسُ مِنَ الْأَرْضِ فَيَعْرَقُ النَّاسُ فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَبْلُغُ عَرَقُهُ كَعْبَيْهِ, وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ إِلَى نِصْفِ السَّاقِ, وَمِنْهُمْ مَنْ يبلغ إلى ركبتيه, وَمِنْهُمْ من يبلغ الحجر, وَمِنْهُمْ من يبلغ الخاصرة, وَمِنْهُمْ من يبلغ منكبيه, ومنهم مَنْ يَبْلُغُ وَسَطَ فِيهِ وَأَشَارَ بِيَدِهِ فَأَلْجَمَهَا فَاهُ, رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُشِيرُ بِيَدَيْهِ هَكَذَا- وَمِنْهُمْ مَنْ يُغَطِّيهِ عَرَقُهُ وَضَرَبَ بِيَدِهِ إِشَارَةً" 3. وَفِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَعْرَقُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَذْهَبَ عَرَقُهُمْ فِي الْأَرْضِ سَبْعِينَ ذِرَاعًا, وَيُلْجِمُهُمْ حَتَّى يَبْلُغَ آذَانَهُمْ" 4.
وَلِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبَشِيرٍ الْغِفَارِيِّ: "كَيْفَ أَنْتَ صَانِعٌ فِي يَوْمٍ يَقُومُ الناس فيه ثلاثمائة سَنَةٍ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا, لَا يَأْتِيهِمْ فِيهِ خَبَرٌ مِنَ السَّمَاءِ وَلَا يُؤْمَرُ فِيهِمْ بِأَمْرٍ قَالَ بَشِيرٌ الْمُسْتَعَانُ اللَّهُ قَالَ فَإِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْ كَرْبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسُوءِ الْحِسَابِ"1. وَفِي السُّنَنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَعَوَّذُ بِاللَّهِ مِنْ ضِيقِ الْمَقَامِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ2. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {مُهْطِعِينَ} قَالَ قَتَادَةُ مُسْرِعِينَ قَالَ مُجَاهِدٌ مُدِيمِي النَّظَرِ وَمَعْنَى الْإِهْطَاعِ أَنَّهُمْ لَا يَلْتَفِتُونَ يَمِينًا وَلَا شِمَالًا وَلَا يَعْرِفُونَ مَوَاطِنَ أقدامهم {مُقْنِعِي رُؤُوسِهِمْ} قَالَ الْقُتَيْبِيُّ الْمُقْنِعُ الَّذِي يَرْفَعُ رَأْسَهُ وَيُقْبِلُ بِبَصَرِهِ عَلَى مَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَقَالَ الْحَسَنُ وُجُوهُ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ إِلَى السَّمَاءِ لَا يَنْظُرُ أَحَدٌ إِلَى أَحَدٍ {لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ} لَا تَرْجِعُ إِلَيْهِمْ أَبْصَارُهُمْ مِنْ شِدَّةِ النَّظَرِ وَهِيَ شَاخِصَةٌ قَدْ شَغَلَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} أَيْ هِيَ خَالِيَةٌ قَالَ قَتَادَةُ خَرَجَتْ قُلُوبُهُمْ عَنْ صُدُورِهِمْ فَصَارَتْ فِي حَنَاجِرِهِمْ لَا تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَلَا تَعُودُ إِلَى أَمَاكِنِهَا, فَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ لَا شَيْءَ فِيهَا, وَمِنْهُ سُمِّيَ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ هَوَاءً لِخُلُوِّهِ وَقِيلَ خَالِيَةٌ لَا تَعِي شَيْئًا وَلَا تَعْقِلُ مِنَ الْخَوْفِ وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ مُتَرَدِّدَةٌ تَمُورُ فِي أَجْوَافِهِمْ لَيْسَ لَهَا مَكَانٌ تَسْتَقِرُّ فِيهِ قَالَ الْبَغَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَحَقِيقَةُ الْمَعْنَى أَنَّ الْقُلُوبَ زَائِلَةٌ عَنْ أَمَاكِنِهَا وَالْأَبْصَارَ شَاخِصَةٌ مِنْ هَوْلِ ذلك اليوم اهـ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ} [غَافِرٍ: 18] قَالَ قَتَادَةُ وَقَفَتِ الْقُلُوبُ فِي الْحَنَاجِرِ مِنَ الْخَوْفِ فَلَا تَخْرُجُ وَلَا تَعُودُ إِلَى
أَمَاكِنِهَا, وَكَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ وَالسُّدِّيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ وَمَعْنَى كَاظِمِينَ أَيْ سَاكِتِينَ لَا يَتَكَلَّمُ أَحَدٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} [النَّبَأِ: 38] وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ بَاكِينَ وَقَالَ الْبَغَوِيُّ مَكْرُوبِينَ مُمْتَلِئِينَ خَوْفًا وَجَزَعًا, وَالْكَظْمُ تَرَدُّدُ الْغَيْظِ وَالْخَوْفِ وَالْحُزْنِ فِي الْقَلْبِ حَتَّى يَضِيقَ بِهِ {كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [الْمَعَارِجِ: 4] فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الزَّكَاةِ وَفِيهِ مَنْ كَانَتْ لَهُ إِبِلٌ لَا يُعْطَى فِيهَا حَقَّهَا فِي نَجْدَتِهَا وَرِسْلِهَا قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا نَجْدَتُهَا وَرِسْلُهَا قَالَ: "فِي عُسْرِهَا وَيُسْرِهَا, فَإِنَّهَا تَأْتِي يوم القيامة كأغذ مَا كَانَتْ وَأَكْثَرِهِ وَأَسْمَنِهِ وَآشَرِهِ حَتَّى يُبْطَحَ لَهَا بِقَاعٍ قَرْقَرٍ فَتَطَأَهُ بِأَخْفَافِهَا فَإِذَا جَاوَزَتْ أُخْرَاهَا أُعِيدَتْ عَلَيْهِ أُولَاهَا {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [الْمَعَارِجِ: 4] حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ فَيَرَى سَبِيلَهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ" 1 الْحَدِيثَ {وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا يُبَصَّرُونَهُمْ} [الْمَعَارِجِ: 11] لَا يَسْأَلُ الْقَرِيبُ قَرِيبَهُ عَنْ حَالِهِ وَهُوَ يَرَاهُ فِي أَسْوَأِ الْأَحْوَالِ فَتَشْغَلُهُ نَفْسُهُ عَنْ غَيْرِهِ قَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَعْرِفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَفِرُّ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ بَعْدَ ذَلِكَ, يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عَبَسَ: 37] وَهَذِهِ الْآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [لُقْمَانَ: 33] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [فَاطِرٍ: 18] قَالَ عِكْرِمَةُ هُوَ الْجَارُ يَتَعَلَّقُ بِجَارِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ يَا رَبِّ سَلْ هَذَا لِمَ كَانَ يُغْلِقُ بَابَهُ دُونِي وَإِنَّ الْكَافِرَ لَيَتَعَلَّقُ بِالْمُؤْمِنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ يَا مُؤْمِنُ إِنَّ لِي عِنْدَكَ يَدًا قَدْ عَرَفْتَ كَيْفَ كُنْتُ لَكَ فِي الدُّنْيَا وَقَدِ احْتَجْتَ إِلَيْكَ الْيَوْمَ, فَلَا يَزَالُ الْمُؤْمِنُ يُشَفِّعُ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ حَتَّى يَرُدَّهُ إِلَى مَنْزِلٍ دُونَ مَنْزِلِهِ وَهُوَ النَّارُ, وَإِنَّ الْوَالِدَ لَيَتَعَلَّقُ بِوَلَدِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
فَيَقُولُ يَا بُنَيَّ أَيُّ وَالِدٍ كُنْتُ لَكَ فَيُثْنِي خَيْرًا فَيَقُولُ يَا بُنَيَّ إِنِّي قَدِ احْتَجْتُ إِلَى مِثْقَالِ ذَرَّةٍ مِنْ حَسَنَاتِكَ أَنْجُو بِهَا مِمَّا تَرَى, فَيَقُولُ وَلَدُهُ يَا أَبَتِ مَا أَيْسَرُ مَا طَلَبْتَ وَلَكِنِّي أَتَخَوَّفُ مِثْلَ مَا تَتَخَوَّفُ, فَلَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أُعْطِيَكَ شَيْئًا, ثُمَّ يَتَعَلَّقُ بزوجته فيقول لها يَا فُلَانَةُ أَوْ يَا هَذِهِ أَيُّ زَوْجٍ كُنْتُ لَكِ فَتُثْنِي خَيْرًا فَيَقُولُ لَهَا إِنِّي أَطْلُبُ إِلَيْكِ حَسَنَةً وَاحِدَةً تَهَبِينَهَا إِلَيَّ لَعَلِّي أَنْجُو بِهَا مِمَّا تَرِينَ, قَالَ فَتَقُولُ مَا أَيْسَرُ مَا طَلَبْتَ وَلَكِنِّي لَا أُطِيقُ أَنْ أُعْطِيَكَ شَيْئًا, إِنِّي أَتَخَوَّفُ مِثْلَ الَّذِي تَتَخَوَّفُ, يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى {وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا} [فَاطِرٍ: 18] الْآيَةَ وَيَقُولُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا} [لُقْمَانَ: 33] وَيَقُولُ تَعَالَى {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عَبَسَ: 34] . {فَإِذَا نُقِرَ} نُفِخَ {فِي النَّاقُورِ} الصُّورِ, رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كيف أنعم وَصَاحِبُ الْقَرْنِ قَدِ الْتَقَمَ الْقَرْنَ وَحَنَى جَبْهَتَهُ, يَنْتَظِرُ مَتَى يُؤْمَرُ فَيَنْفُخُ" فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَمَا تَأْمُرُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: "قُولُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ, عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا" 1 رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ جَرِيرٍ {فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ} شَدِيدٌ {عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} عَلَيْهِمْ, وَرُوِيَ عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى قَاضِي الْبَصْرَةِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ قَرَأَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ بِالْمُدَّثِّرِ فَلَمَّا بَلَغَ هَذِهِ الْآيَةَ {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} [الْمُدَّثِّرِ: 9] شَهِقَ شَهْقَةً فَمَاتَ2 أولئك قوم قرءوا الْقُرْآنَ بِقُلُوبٍ حَاضِرَةٍ وَآذَانٍ وَاعِيَةٍ وَبَصَائِرَ نَافِذَةٍ وَأَفْهَامٍ جَلِيَّةٍ وَنُفُوسٍ عَلِيَّةٍ, مُسْتَحْضِرِينَ تَأْوِيلَ مَعَانِيهِ حِينَ وُقُوعِهَا وَأَوَانِ وَعِيدِهَا, شَاهِدِينَ بِبَصَائِرِهِمْ مَنْ تَكَلَّمَ بِهِ فَأَنْزَلَهُ فَأَثْمَرَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِهِمْ خَشْيَةَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ, فَذَابُوا خَوْفًا وَحَيَاءً مِنْ رَبِّهِمْ وَشَوْقًا إِلَيْهِ {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فَاطِرٍ: 28] وَقَالَ تَعَالَى
فِيهِمْ: {وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الْإِنْسَانِ: 7] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَاشِيًا, وَقَالَ قَتَادَةُ اسْتَطَارَ وَاللَّهِ شَرُّ ذَلِكَ الْيَوْمِ حَتَّى مَلَأَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ, وَقَالَ مُقَاتِلٌ كَانَ شَرُّهُ فَاشِيًا فِي السَّمَاوَاتِ فَانْشَقَّتْ, وَتَنَاثَرَتِ الْكَوَاكِبُ وَكُوِّرَتِ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَفَزِعَتِ الْمَلَائِكَةُ, وَفِي الْأَرْضِ نُسِفَتِ الْجِبَالُ وَغَارَتِ الْمِيَاهُ وَتَكَسَّرَ كُلُّ شَيْءٍ عَلَى الْأَرْضِ مِنْ جَبَلٍ وَبِنَاءٍ, قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَمِنْهُ قَوْلُهُمُ اسْتَطَارَ الصَّدْعُ فِي الزُّجَاجَةِ وَاسْتَطَالَ. وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى: فَبَانَتْ وَقَدْ أَثْأَرَتْ فِي الْفُؤَا ... دِ صَدْعًا عَلَى نَأْيِهَا مُسْتَطِيرًا يَعْنِي مُمْتَدًّا فَاشِيًا وَقَوْلُهُ: {عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ضَيِّقًا طَوِيلًا وَعَنْهُ قَالَ يَعْبِسُ الْكَافِرُ يَوْمَئِذٍ, حَتَّى يَسِيلَ مِنْ بَيْنِ عَيْنَيْهِ عَرَقٌ مِثْلُ الْقَطِرَانِ, وَقَالَ مُجَاهِدٌ {عَبُوسًا} الْعَابِسُ الشَّفَتَيْنِ {قَمْطَرِيرًا} تَقَبُّضُ الْوَجْهِ بِالسُّيُورِ, وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةُ تَعْبِسُ فِيهِ الْوُجُوهُ مِنَ الْهَوْلِ {قَمْطَرِيرًا} تَقْلِيصُ الْجَبِينِ وَمَا بَيْنَ الْعَيْنَيْنِ مِنَ الْهَوْلِ, وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ الْعَبُوسُ الشَّرُّ وَالْقَمْطَرِيرُ الشَّدِيدُ, وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَالْقَمْطَرِيرُ هُوَ الشَّدِيدُ يُقَالُ هُوَ يَوْمٌ قَمْطَرِيرٌ وَيَوْمٌ قُمَاطِرٌ وَيَوْمٌ عَصِيبٌ وَعَصَبْصَبٌ, وَقَدِ اقْمَطَرَّ الْيَوْمُ يُقَمْطِرُ اقْمِطْرَارًا وَذَلِكَ أَشَدُّ الْأَيَّامَ وَأَطْوَلُهَا فِي الْبَلَاءِ وَالشِّدَّةِ, وَمِنْهُ قَوْلُ بَعْضِهِمْ: بَنِي عَمِّنَا هَلْ تَذْكُرُونَ بَلَاءَنَا ... عَلَيْكُمْ إِذَا مَا كَانَ يَوْمٌ قُمَاطِرُ
حشر الخلائق للعرض ومعنى العرض
[حَشْرُ: الْخَلَائِقِ لِلْعَرْض] : وَأُحْضِرُوا لِلْعَرْضِ وَالْحِسَابِ ... وَانْقَطَعَتْ عَلَائِقُ الْأَنْسَابِ وَارْتَكَمَتْ سَحَائِبُ الْأَهْوَالِ ... وَانْعَجَمَ الْبَلِيغُ فِي الْمَقَالِ وَأُحْضِرُوا لِلْعَرْضِ الْعَرْضُ لَهُ مَعْنَيَانِ: مَعْنَى عَامٌّ وَهُوَ عَرْضُ الْخَلَائِقِ كُلِّهِمْ عَلَى رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ, بَادِيَةٌ لَهُ صَفَحَاتُهُمْ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُمْ خَافِيَةٌ هَذَا يَدْخُلُ فِيهِ مَنْ يُنَاقَشُ الْحِسَابَ وَمَنْ لَا يُحَاسَبُ. وَالْمَعْنَى الثَّانِي عَرْضُ مَعَاصِي الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِمْ وَتَقْرِيرُهُمْ بِهَا وَسَتْرُهَا عَلَيْهِمْ وَمَغْفِرَتُهَا لَهُمْ, وَالْحِسَابِ وَالْمُنَاقَشَةِ وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ العزيز في غيرما مَوْضِعٍ إِجْمَالًا وَتَفْصِيلًا كَمَا قَالَ {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الْحَاقَّةِ: 18] الْآيَاتِ, وَقَالَ تَعَالَى: {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الْكَهْفِ: 48] الْآيَاتِ, وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ} [النَّمْلِ: 83 84] وَقَالَ تَعَالَى: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزَّلْزَلَةِ: 6-8] وَقَالَ تَعَالَى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الْحِجْرِ: 92] وَقَالَ تَعَالَى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ} [الصَّافَّاتِ: 24] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} [الْغَاشِيَةِ: 26] وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا, وَزِنَوْا أَعْمَالَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُوزَنُوا فَإِنَّهُ أَخَفُّ عَلَيْكُمْ فِي الْحِسَابِ غَدًا أَنْ
تُحَاسِبُوا أنفسكم اليوم, وتزينوا لِلْعَرْضِ الْأَكْبَرِ {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} 1 [الْحَاقَّةِ: 18] وَرَوَى أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يُعْرَضُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَلَاثَ عَرْضَاتٍ فَأَمَّا عَرْضَتَانِ فَجِدَالٌ وَمَعَاذِيرُ, وَأَمَّا الثَّالِثَةُ فَعِنْدَ ذَلِكَ تَطِيرُ الصُّحُفُ فِي الْأَيْدِي فَآخِذٌ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ وَآخِذٌ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ" 2، وَلِلتِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَحْوُهُ3 وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ نَحْوَهُ مَوْقُوفًا4. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ الْحُمُرِ فَقَالَ: "مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهَا إِلَّا هَذِهِ الْآيَةَ الْفَاذَّةَ الْجَامِعَةَ {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} 5 [الزَّلْزَلَةِ: 7 8] . وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ صَعْصَعَةَ بْنِ مُعَاوِيَةَ عَمِّ الْفَرَزْدَقِ أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَأَ عَلَيْهِ {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزَّلْزَلَةِ: 7 8] قَالَ حَسْبِي, لَا أُبَالِي أَنْ لَا أَسْمَعَ غَيْرَهَا6.
وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ كَانَ أَبُو بَكْرٍ يَأْكُلُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزَّلْزَلَةِ: 7 8] فَرَفَعَ أَبُو بَكْرٍ يَدَهُ وَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أُجْزَى بِمَا عَمِلْتُ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ مِنْ شَرٍّ فَقَالَ يَا أَبَا بَكْرٍ مَا رَأَيْتَ فِي الدُّنْيَا مِمَّا تَكْرَهُ فَبِمَثَاقِيلِ ذَرِّ الشَّرَّ, وَيَدَّخِرُ اللَّهُ لَكَ مَثَاقِيلَ ذَرِّ الْخَيْرِ حَتَّى تَوَفَّاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ1 وَعَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الْحِجْرِ: 92] قَالَ يَسْأَلُ الْعِبَادَ كُلَّهُمْ عَنْ خُلَّتَيْنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَعْبُدُونَ وَعَمَّاذَا أَجَابُوا الْمُرْسَلِينَ2 وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا سَيَخْلُو اللَّهُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا يَخْلُو أَحَدُكُمْ بِالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ فَيَقُولُ: ابْنَ آدَمَ مَاذَا غَرَّكَ مِنِّي بِي، ابْنَ آدَمَ مَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا عَلِمْتَ، ابْنَ آدَمَ مَاذَا أَجَبْتَ الْمُرْسَلِينَ3. وَلِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا مُعَاذُ, إِنَّ الْمَرْءَ يُسْأَلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ جَمِيعِ سَعْيِهِ حَتَّى كُحْلَ عَيْنَيْهِ, وَعَنْ فُتَاتِ الطِّينَةِ بِأُصْبُعَيْهِ, فَلَا أَلْفَيَنَّكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَحَدٌ غَيْرُكَ أَسْعَدُ بِمَا آتَاكَ اللَّهُ مِنْكَ" 4.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الْحِجْرِ: 92] قَالَ {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ} [الرَّحْمَنِ: 39] قَالَ لَا يَسْأَلُهُمْ هَلْ عَمِلْتُمْ كَذَا لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنْهُمْ, وَلَكِنْ يَقُولُ لِمَ عَمِلْتُمْ كَذَا وَكَذَا وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَيْسَ أَحَدٌ يُحَاسَبُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا هَلَكَ" فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَيْسَ قَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الِانْشِقَاقِ: 8] فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّمَا ذَلِكَ الْعَرْضُ, وَلَيْسَ أَحَدٌ يُنَاقَشُ الْحِسَابَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا عُذِّبَ" 1. وَفِيهِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَقُولُ: "يُجَاءُ بِالْكَافِرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ لَهُ أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا أَكُنْتَ تَفْتَدِي بِهِ فَيَقُولُ نَعَمْ فَيُقَالُ لَهُ قَدْ كُنْتَ سُئِلْتَ مَا هُوَ أَيْسَرُ مِنْ ذَلِكَ" 2. وَفِيهِ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ: "مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَسَيُكَلِّمُهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَيْسَ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ, فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ مِنْ عَمَلِهِ, وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ, وَيَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلَا يَرَى إِلَّا النَّارَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ, فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ" 3. وَفِيهِ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ قَالَ بَيْنَمَا ابْنُ عُمَرَ يَطُوفُ إِذْ عَرَضَ رَجُلٌ فَقَالَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ -أو قال يابن عُمَرَ- هَلْ سمعت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في النجوى فقال: سَمِعْتَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "يَدْنُو الْمُؤْمِنُ مِنْ رَبِّهِ حَتَّى يضع عليه كنفه فَيُقَرِّرَهُ بِذُنُوبِهِ تَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا يَقُولُ أَعْرِفُ يَقُولُ رَبِّ أَعْرِفُ مَرَّتَيْنِ فَيَقُولُ أَنَا سَتَرْتُهَا فِي الدُّنْيَا وَأَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ, ثُمَّ تُطْوَى صَحِيفَةُ حَسَنَاتِهِ وَأَمَّا الْآخَرُونَ أَوِ الْكُفَّارُ
براءة الناس يومئذ بعضهم من بعض
فَيُنَادَى عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ" 1. وَفِي التِّرْمِذِيِّ عن أبي بزرة الْأَسْلَمِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمْرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَا عَمِلَ فِيهِ وَعَنْ مَالِهِ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ, وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَا أَبْلَاهُ" 2 وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ. [بَرَاءَةُ: النَّاسِ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ] : وَانْقَطَعَتْ عَلَائِقُ الْأَنْسَابِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 101] وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا} [الْمَعَارِجِ: 10] الْآيَاتِ, وَقَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ} [عَبَسَ: 34] الْآيَاتِ وَقَالَ تَعَالَى عَنِ الْكَافِرِينَ {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشُّعَرَاءِ: 100] وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ جَمَعَ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ ثُمَّ نَادَى مُنَادٍ أَلَا مَنْ كَانَ لَهُ مَظْلَمَةٌ فَلْيَجِئْ فَلْيَأْخُذْ حَقَّهُ, قَالَ فَيُفْرِحُ الْمَرْءُ أَنْ يَكُونَ لَهُ الْحَقُّ عَلَى وَالِدِهِ أَوْ وَلَدِهِ أَوْ زَوْجَتِهِ وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا, وَمِصْدَاقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 101] 3 رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ, وَرَوَى الْبَغَوِيُّ بِإِسْنَادِ الثَّعْلَبِيِّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "يَقُولُ إِنَّ الرَّجُلَ لَيَقُولُ فِي الْجَنَّةِ مَا فُعِلَ بِصَدِيقِي فُلَانٍ وَصَدِيقُهُ فِي الْجَحِيمِ, فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى أَخْرِجُوا لَهُ صَدِيقَهُ إِلَى
الْجَنَّةِ فَيَقُولُ مَنْ بَقِيَ فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ"1، قَالَ الْحَسَنُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: اسْتَكْثِرُوا مِنَ الْأَصْدِقَاءِ الْمُؤْمِنِينَ, فَإِنَّ لَهُمْ شَفَاعَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} [عَبَسَ: 34 35] قَالَ يَفِرُّ هَابِيلُ مِنْ قَابِيلَ وَيَفِرُّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أُمِّهِ, وَإِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ أَبِيهِ, وَلُوطٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ صَاحِبَتِهِ, وَنُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ ابْنِهِ {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عَبَسَ: 37] يَشْغَلُهُ عَنْ شَأْنِ غَيْرِهِ. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي أَمْرِ الشَّفَاعَةِ "أَنَّهُ إِذَا طَلَبَ إِلَى كُلٍّ مِنْ أُولِي الْعَزْمِ أَنْ يَشْفَعَ عِنْدَ اللَّهِ فِي الْخَلَائِقِ يَقُولُ نَفْسِي نَفْسِي لَا أَسْأَلُكَ إِلَّا نَفْسِي, حَتَّى إِنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ يَقُولُ لَا أَسْأَلُهُ الْيَوْمَ إِلَّا نَفْسِي, لَا أَسَالُهُ مَرْيَمَ الَّتِي وَلَدَتْنِي" 2. وَارْتَكَمَتْ سَحَائِبُ الْأَهْوَالِ ... وَانْعَجَمَ الْبَلِيغُ فِي الْمَقَالِ وَعَنَتِ الوجوه للقيوم واقـ ... ـتص مِنْ ذِي الظُّلْمِ لِلْمَظْلُومِ وَارْتَكَمَتْ اجْتَمَعَتْ سَحَائِبُ الْأَهْوَالِ جَمْعُ هَوْلٍ وَهُوَ الْأَمْرُ الشَّدِيدُ الْهَائِلُ الْمُفْظِعُ وَانْعَجَمَ أَسْكَتَ فَلَمْ يَتَكَلَّمْ الْبَلِيغُ الَّذِي كَانَ فِي الدُّنْيَا مُقْتَدِرًا عَلَى الْبَلَاغَةِ وَالْفَصَاحَةِ فِي الْمَقَالِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [هُودٍ: 105] وَقَالَ تَعَالَى: {وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} [طه: 108] وَقَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} [النَّبَأِ: 38] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ} [طه: 108] سَكَنَتْ {فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} [طه: 108] قَالَ تَحْرِيكُ الشِّفَاهِ مِنْ غَيْرِ مَنْطِقٍ, وَعَنْهُ الْهَمْسُ الصَّوْتُ الْخَفِيُّ, وَعَنْهُ هُوَ وَعِكْرِمَةَ وَمُجَاهِدٍ وَالضَّحَّاكِ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ وَقَتَادَةَ وَابْنِ زَيْدٍ وَغَيْرِهِمْ الْهَمْسُ نَقْلُ الْأَقْدَامِ إِلَى
الْمَحْشَرِ كَأَخْفَافِ الْإِبِلِ, وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ هَمْسًا سِرُّ الْحَدِيثِ وَوَطْءُ الْأَقْدَامِ فَجَمَعَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ, وَفِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ "وَلَا يَتَكَلَّمُ يَوْمَئِذٍ إِلَّا الرُّسُلُ" 1 الْحَدِيثَ وَعَنَتِ الْوُجُوهُ ذَلَّتْ وَخَضَعَتْ وَمِنْهُ قِيلَ لِلْأَسِيرِ عَانٍ الْقَيُّومِ تَضْمِينٌ لِمَعْنَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} [طه: 11] وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ خَضَعَتْ وَذَلَّتْ وَاسْتَسْلَمَتِ الْخَلَائِقُ لِجَبَّارِهَا الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ الْقَيُّومُ الَّذِي لَا يَنَامُ, وَهُوَ قَيِّمٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ يُدِيرُهُ وَيَحْفَظُهُ, فَهُوَ الْكَامِلُ فِي نَفْسِهِ الَّذِي كَلُّ شَيْءٍ فَقِيرٌ إِلَيْهِ, لَا قِوَامَ لَهُ إِلَّا بِهِ {وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} [طه: 111] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ خَسِرَ مَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ وَالظُّلْمُ هُوَ الشِّرْكُ وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالظُّلْمِ هُنَا الْعُمُومُ, فَيَتَنَاوَلُ الشِّرْكَ وَغَيْرَهُ مِنْ ظُلْمِ الْعَبْدِ نَفْسَهُ وَظُلْمِ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا, فَإِنَّ اللَّهَ سَيُؤَدِّي كُلَّ حَقٍّ إِلَى صَاحِبِهِ حَتَّى يَقْتَصَّ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ وَفِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَا يُجَاوِزُنِي الْيَوْمَ ظُلْمُ ظَالِمٍ2 وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: "إِيَّاكُمْ وَالظُّلْمَ فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" 3 فَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى ظُلْمٌ دُونَ ظُلْمٍ وَخَيْبَةٌ دُونَ خَيْبَةٍ, وَالْخَيْبَةُ كُلُّ الْخَيْبَةِ لِمَنْ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ بِهِ مُشْرِكٌ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لُقْمَانَ: 13] وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ عَائِشَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ "الدَّوَاوِينُ ثَلَاثَةٌ دِيوَانٌ لَا يَغْفِرُهُ اللَّهُ وَدِيوَانٌ لَا يَعْبَأُ اللَّهُ بِهِ وَدِيوَانٌ لَا يَتْرُكُ اللَّهُ مِنْهُ شَيْئًا" 4 الْحَدِيثَ وَاقْتُصَّ مِنْ ذِي الظُّلْمِ أَيِ اقْتُضَى مِنَ الظَّالِمِ لِلْمَظْلُومِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} [النِّسَاءِ: 40] وَقَالَ تَعَالَى: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ} [غَافِرٍ: 17-20] وَقَالَ تَعَالَى: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [الزُّمَرِ: 69] {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
[الزُّمَرِ: 75] وَقَالَ تَعَالَى: {وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ} [الزُّمَرِ: 70] وَغَيْرُهَا مِنَ الْآيَاتِ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بَابُ الْقَصَاصِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهِيَ الْحَاقَّةُ لِأَنَّ فِيهَا الثَّوَابَ وَحَوَاقُّ الْأُمُورِ الْحَقَّةُ وَالْحَاقَّةُ وَاحِدٌ, وَالْقَارِعَةُ وَالْغَاشِيَةُ وَالصَّارِخَةُ وَالتَّغَابُنُ غَبْنُ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَهْلَ النَّارِ ثُمَّ سَاقَ بِسَنَدِهِ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ بِالدِّمَاءِ" 1. وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلَمَةٌ لِأَخِيهِ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهَا, فَإِنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ, مِنْ قَبْلِ أَنْ يُؤْخَذَ لِأَخِيهِ مِنْ حَسَنَاتِهِ, فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ أَخِيهِ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ" 2. وَحَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَخْلُصُ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ, فَيُحْبَسُونَ عَلَى قَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ, فَيَقُصُّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ مَظَالِمَ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا, حَتَّى إِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا أَذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ, فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَأَحَدُهُمْ أَهْدَى بِمَنْزِلِهِ فِي الْجَنَّةِ مِنْهُ بِمَنْزِلِهِ كَانَ فِي الدُّنْيَا" 3. وَلِلتِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَتُدْرُونَ مِنَ الْمُفْلِسِ" قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ, قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْمُفْلِسُ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا, فَيَقْعُدُ فَيَقْتَصُّ هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ, فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْتَصَّ مَا
عَلَيْهِ مِنَ الْخَطَايَا, أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ" 1 هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ". وَلَهُ عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا حَتَّى تُقَادَ الشَّاةُ الْجَلْحَاءُ مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ" 2 قَالَ وَفِي الْبَابِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ, وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ بَلَغَنِي حَدِيثٌ عَنْ رَجُلٍ سَمِعَهُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَاشْتَرَيْتُ بَعِيرًا ثُمَّ شَدَدْتُ عَلَيْهِ رَحْلًا فَسِرْتُ عَلَيْهِ شَهْرًا حَتَّى قَدِمْتُ عَلَيْهِ الشَّامَ, فَإِذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ فَقُلْتُ لِلْبَوَّابِ قُلْ لَهُ جَابِرٌ عَلَى الْبَابِ فَقَالَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ قُلْتُ: نَعَمْ فَخَرَجَ يَطَأُ ثَوْبَهُ فَاعْتَنَقَنِي واعتنقته, فقلت حديث بَلَغَنِي عَنْكَ أَنَّكَ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْقِصَاصِ فَخَشِيتُ أَنْ تَمُوتَ وَأَمُوتَ قَبْلَ أَنْ أَسْمَعَهُ فَقَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "يَحْشُرُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ -أَوْ قَالَ الْعِبَادَ- عُرَاةً غُرْلًا بُهْمًا قُلْتُ وَمَا بُهْمًا قَالَ لَيْسَ مَعَهُمْ شَيْءٌ ثُمَّ يُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ أَنَا الْمَلِكُ أَنَا الدَّيَّانُ, لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ أَنْ يَدْخُلَ النَّارَ وَلَهُ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَقٌّ حَتَّى أَقْضِيَهُ مِنْهُ, وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ وَلَهُ عِنْدَ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ حَقٌّ حَتَّى أَقْضِيَهُ مِنْهُ حَتَّى اللَّطْمَةُ قَالَ قُلْنَا كَيْفَ وَإِنَّمَا نَأْتِي اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا بُهْمًا قَالَ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ وَقَدْ أَشَارَ الْبُخَارِيُّ إِلَى هَذَا الْحَدِيثِ فِي مَوَاضِعَ مِنْ صَحِيحِهِ تَعْلِيقًا, وَوَصَلَهُ فِي كِتَابِ خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ" 3.
وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ الْجَمَّاءَ لَتَقْتَصُّ مِنَ الْقَرْنَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ1 وَرَوَى رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ رَأَى رَسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شاتين تنتطحان فَقَالَ: "أتدري ما تنتطحان يَا أَبَا هُرَيْرَةَ قُلْتُ: لَا قَالَ: "لَكِنَّ اللَّهَ يَدْرِي وَسَيَحْكُمُ بَيْنَهُمَا" 2 وَسَاوَتِ الْمُلُوكُ لِلْأَجْنَادِ ... وَجِيءَ بِالْكِتَابِ وَالْأَشْهَادِ وَشَهِدَ الْأَعْضَاءُ والجوارح ... وبدت السوءات وَالْفَضَائِحْ وَابْتُلِيَتْ هُنَالِكَ السَّرَائِرْ ... وَانْكَشَفَ الْمَخْفِيُّ فِي الضَّمَائِرْ وَسَاوَتِ الْمُلُوكُ الْعُظَمَاءُ الرُّؤَسَاءُ الْكُبَرَاءُ لِلْأَجْنَادِ الرَّعَايَا أَيْ صَارُوا سَوَاءً فِي ذَلِكَ الْمَوْقِفِ مُشْتَرِكِينَ فِي هَوْلِهِ الْفَظِيعِ وَكَرْبِهِ الشَّدِيدِ إِلَّا مَنْ رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ مَقَالٌ وَلَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ وَلَا لِغَيْرِهِ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا, كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الْفَاتِحَةِ: 4] وَقَالَ تَعَالَى: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} [الْحَجِّ: 56] وَقَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غَافِرٍ: 16] وَقَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الِانْفِطَارِ: 19] وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الْفَاتِحَةِ: 4]
يَقُولُ لَا يَمْلِكُ أَحَدٌ مَعَهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ حُكْمًا كَمُلْكِهِمْ فِي الدُّنْيَا قَالَ وَيَوْمَ الدِّينِ يَوْمَ الْحِسَابِ لِلْخَلَائِقِ وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ, يُدِينُهُمْ بِأَعْمَالِهِمْ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنَّ شَرًّا فَشَرٌّ إِلَّا مَنْ عَفَا عَنْهُ وَقَالَ الْبَغَوِيُّ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ} [الْفُرْقَانِ: 26] أَيِ الْمُلْكُ الَّذِي هُوَ الْمُلْكُ الْحَقُّ مُلْكُ الرَّحْمَنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُرِيدُ أَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا مَلِكٌ يَقْضِي غَيْرُهُ وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْمُتَقَدِّمِ يَقْبِضُ اللَّهُ تَعَالَى الْأَرْضَ وَيَطْوِي السَّمَاءَ بِيَمِينِهِ ثُمَّ يَقُولُ أَنَا الْمَلِكُ, أَيْنَ مُلُوكُ الْأَرْضِ وَفِي لَفْظٍ أَيْنَ الْجَبَّارُونَ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ1 وَقَالَ قَتَادَةُ {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الِانْفِطَارِ: 19] وَالْأَمْرُ وَاللَّهِ الْيَوْمَ لِلَّهِ, وَلَكِنَّهُ لَا يُنَازِعُهُ فِيهِ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ وَقَالَ الْبَغَوِيُّ يَوْمَ لَا يُمَلِّكُ اللَّهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ شَيْئًا كَمَا مَلَّكَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَجِيءَ بِالْكِتَابِ وَالْأَشْهَادِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الْكَهْفِ: 49] وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ} [الزُّمَرِ: 69] وَقَالَ تَعَالَى: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [الْبَقَرَةِ: 143] وَقَالَ تَعَالَى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} [النِّسَاءِ: 41] وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} [النَّحْلِ: 84] إِلَى قَوْلِهِ: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ} [النَّحْلِ: 89] وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} [الْقَصَصِ: 74 75] الْآيَةَ, وَقَالَ تَعَالَى: {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} [ق: 21] وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ رَاشِدٍ حَدَّثَنَا ابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو أُسَامَةَ - وَاللَّفْظُ لِجَرِيرٍ - عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ. وَقَالَ أَبُو أُسَامَةَ: حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يُدْعَى نُوحٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ يَا رَبِّ فَيَقُولُ هَلْ بَلَّغْتَ فَيَقُولُ نَعَمْ فَيُقَالُ لِأُمَّتِهِ هَلْ بَلَّغَكُمْ فَيَقُولُونَ مَا أَتَانَا مِنْ نَذِيرٍ فَيَقُولُ مَنْ يَشْهَدُ لَكَ فَيَقُولُ مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأُمَّتُهُ, فَتَشْهَدُونَ أَنَّهُ قَدْ بَلَّغَ, وَيَكُونُ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا, فَذَلِكَ قَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} 1 [الْبَقَرَةِ: 143] وَالْوَسَطُ الْعَدْلُ" , وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ. وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا بِلَفْظِ "يَجِيءُ النَّبِيُّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَعَهُ الرَّجُلَانِ وَأَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ فَيُدْعَى قَوْمُهُ فَيُقَالُ لَهُمْ هَلْ بَلَّغَكُمْ هَذَا فَيَقُولُونَ لَا فَيُقَالُ لَهُ هَلْ بَلَّغْتَ قَوْمَكَ فَيَقُولُ نَعَمْ فَيُقَالُ مَنْ يَشْهَدُ لَكَ فَيَقُولُ مُحَمَّدٌ وأمته, فيدعى محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأُمَّتُهُ فَيُقَالُ لَهُمْ هَلْ بَلَّغَ هَذَا قَوْمَهُ فَيَقُولُونَ نَعَمْ فَيُقَالُ وَمَا عِلْمُكُمْ فَيَقُولُونَ جَاءَنَا نَبِيُّنَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَخْبَرَنَا أَنَّ الرُّسُلَ قَدْ بَلَّغُوا فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} قَالَ عَدْلًا {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} 2 [الْبَقَرَةِ: 143] ". وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اقْرَأْ عَلَيَّ" فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ قَالَ "نَعَمْ ", إِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي" فَقَرَأْتُ سُورَةَ النِّسَاءِ حَتَّى أَتَيْتُ إِلَى هَذِهِ الْآيَةِ {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} [النِّسَاءِ: 41] " فَقَالَ حَسْبُكَ الْآنَ" فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ"3.
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى {وَوُضِعَ الْكِتَابُ} أَيْ كِتَابُ الْأَعْمَالِ الَّذِي فِيهِ الْجَلِيلُ وَالْحَقِيرُ وَالْفَتِيلُ وَالْقِطْمِيرُ وَالصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ {فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ} [الْكَهْفِ: 49] أَيْ مِنْ أَعْمَالِهِمُ السَّيِّئَةِ وَأَفْعَالِهِمُ الْقَبِيحَةِ {وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا} أَيْ يَا حَسْرَتَنَا وَوَيْلَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِي أَعْمَالِنَا {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} [الْكَهْفِ: 49] أَيْ لَا يَتْرُكُ ذَنْبًا صَغِيرًا وَلَا كَبِيرًا وَلَا عَمَلًا وَإِنْ صَغُرَ إِلَّا أَحْصَاهَا أَيْ ضَبَطَهَا وَحَفِظَهَا1. وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ بإسناده عن سعد بْنِ جُنَادَةَ قَالَ لَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَزْوَةِ حُنَيْنٍ, نَزَلْنَا قَفْرًا مِنَ الْأَرْضِ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اجْمَعُوا, مَنْ وَجَدَ عُودًا فَلْيَأْتِ بِهِ, وَمَنْ وَجَدَ حَطَبًا أَوْ شَيْئًا فَلْيَأْتِ بِهِ قَالَ فَمَا كَانَ إِلَّا سَاعَةً حَتَّى جَعَلْنَاهُ رُكَامًا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَرَوْنَ هَذَا فَكَذَلِكَ تُجْمَعُ الذُّنُوبُ عَلَى الرَّجُلِ مِنْكُمْ كَمَا جَمَعْتُمْ هَذَا, فَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَجُلٌ وَلَا يُذْنِبْ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً فَإِنَّهَا مُحْصَاةٌ عَلَيْهِ"2. وَرَوَى الْبَغَوِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ فَإِنَّمَا مَثَلُ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ مَثَلُ قَوْمٍ نَزَلُوا بَطْنَ وَادٍ فَجَاءَ هَذَا بِعُودٍ وَجَاءَ هَذَا بِعُودٍ وَجَاءَ هَذَا بِعُودٍ فَأَنْضَجُوا خُبْزَتَهُمْ, وَإِنَّ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ لَمُوبِقَاتٌ" 3. وَقَوْلُهُ: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا} [الْكَهْفِ: 49] كَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {يَوْمَ تَجِدُ}
كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ} [آلِ: عِمْرَانَ 30] وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} [التَّكْوِيرِ: 14] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} [الِانْفِطَارِ: 5] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} [الْقِيَامَةِ: 13] وَغَيْرُهَا مِنَ الْآيَاتِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا} [الْقَصَصِ: 75] قَالَ الْبَغَوِيُّ يَعْنِي رَسُولَهُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ, وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أَنَّهُ خَطَبَ فَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} [ق: 21] فَقَالَ سَائِقٌ يَسُوقُهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَشَاهِدٌ يَشْهَدُ عَلَيْهَا بِمَا عَمِلَتْ, وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ السَّائِقُ الْمَلِكُ وَالشَّهِيدُ الْعَمَلُ وَكَذَا قَالَ الضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ, وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا السَّائِقُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالشَّهِيدُ الْإِنْسَانُ نَفْسُهُ يَشْهَدُ عَلَى نَفْسِهِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ} أَضَاءَتْ {بِنُورِ رَبِّهَا} بِنُورِ خَالِقِهَا, ذلك حِينَ يَتَجَلَّى الرَّبُّ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ بَيْنَ خَلْقِهِ, فَمَا يَتَضَارُّونَ فِي نُورِهِ كَمَا لَا يَتَضَارُّونَ فِي الشَّمْسِ فِي الْيَوْمِ الصَّحْوِ, قَالَهُ الْبَغَوِيُّ وَالْحَدِيثُ لَا يَتَضَارُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ1. {وَوُضِعَ الْكِتَابُ} قَالَ قَتَادَةُ كِتَابُ الْأَعْمَالِ {وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَشْهَدُونَ عَلَى الْأُمَمِ بِأَنَّهُمْ بَلَّغُوهُمْ رِسَالَاتِ اللَّهِ إِلَيْهِمْ {وَالشُّهَدَاءِ} أي من الْمَلَائِكَةُ الْحَفَظَةُ عَلَى أَعْمَالِ الْعِبَادِ قَالَ ذَلِكَ عَطَاءٌ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} [ق: 21] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَعْنِي الَّذِينَ يَشْهَدُونَ لِلرُّسُلِ بِتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ وَهُمْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قوله تعالى: {وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [الْبَقَرَةِ: 143] وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غَافِرٍ: 51] يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ, قَالَ الْبَغَوِيُّ يَشْهَدُونَ لِلرُّسُلِ بِالتَّبْلِيغِ وَعَلَى الْكُفَّارِ بِالتَّكْذِيبِ. وَشَهِدَتْ عَلَى كُلِّ جَاحِدٍ الْأَعْضَاءُ أَعْضَاؤُهُ وَالْجَوَارِحُ عَطْفُ تَفْسِيرٍ, قَالَ تَعَالَى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا
يَكْسِبُونَ} [يس: 65] الْآيَاتِ, وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [فُصِّلَتْ: 19-22] الْآيَاتِ وَغَيْرَهَا. وَرَوَى مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ, ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَتَدْرُونَ مِمَّ أَضْحَكُ" قُلْنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مِنْ مُجَادَلَةِ الْعَبْدِ رَبَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ, يَقُولُ رَبِّ أَلَمْ تُجِرْنِي مِنَ الظُّلْمِ فَيَقُولُ بَلَى فَيَقُولُ لَا أُجِيزُ عَلَى نَفْسِي إِلَّا شَاهِدًا مِنِّي فَيَقُولُ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا, وَبِالْكِرَامِ الْكُتَّابِ شُهُودًا, فَيُخْتَمُ عَلَى فِيهِ وَيُقَالُ لِأَرْكَانِهِ انْطِقِي فَتَنْطِقُ بِعَمَلِهِ, ثُمَّ يُخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَلَامِ فَيَقُولُ بُعْدًا وَسُحْقًا, فَعَنْكُنَّ كُنْتُ أُنَاضِلُ" 1. وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّكُمْ تُدْعَوْنَ مُفْدَمًا عَلَى أَفْوَاهِكُمْ بِالْفِدَامِ, فَأَوَّلُ مَا يُسْأَلُ عَنْ أَحَدِكُمْ فَخِذُهُ وَكَتِفُهُ" 2 وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ رَافِعٍ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِهِ وَلَهُ هُوَ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ الْقِيَامَةِ الطَّوِيلِ قَالَ فِيهِ "ثُمَّ يَلْقَى الثَّالِثَ فَيَقُولُ مَا أَنْتَ فَيَقُولُ أَنَا عَبْدُكَ, آمَنْتُ بِكَ وَبِنَبِيِّكَ وَبِكِتَابِكَ وَصُمْتُ وَصَلَّيْتُ وَتَصَدَّقْتُ, وَيُثْنِي بِخَيْرٍ مَا اسْتَطَاعَ قَالَ فَيُقَالُ لَهُ أَلَا نَبْعَثُ عَلَيْكَ شَاهِدَنَا قَالَ فَيُفَكِّرُ فِي نَفْسِهِ مَنِ الَّذِي يَشْهَدُ
عَلَيْهِ فَيُخْتَمُ عَلَى فِيهِ وَيُقَالُ لِفَخِذِهِ انْطِقِي, قال فتنطق فخذه وَلَحْمُهُ وَعِظَامُهُ بِمَا كَانَ يَعْمَلُ, وَذَلِكَ الْمُنَافِقُ, وَذَلِكَ لِيُعْذِرَ مِنْ نَفْسِهِ, وَذَلِكَ الَّذِي يَسْخَطُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ" 1 وَهَذَا الْحَدِيثُ تَقَدَّمَ قَرِيبًا بِطُولِهِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَهَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ يَتَضَمَّنُ بَيَانَ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ} [الْمُجَادَلَةِ: 18] الْآيَةَ, وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَحْمَدُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَقُولُ: "إِنْ أَوَّلَ عَظْمٍ مِنَ الْإِنْسَانِ يَتَكَلَّمُ يَوْمَ يُخْتَمُ عَلَى الْأَفْوَاهِ فَخِذُهُ مِنَ الرِّجْلِ الْيُسْرَى وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ مِنَ الرِّجْلِ الشِّمَالِ"2. وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ قَالَ قَالَ أَبُو بُرْدَةَ قَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُدْعَى الْمُؤْمِنُ لِلْحِسَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ, فَيَعْرِضُ عَلَيْهِ رَبُّهُ عَمَلَهُ فِيمَا بينه وبينه فيعترف فَيَقُولُ نَعَمْ أَيْ رَبِّ عَمِلْتُ عَمِلْتُ عَمِلْتُ قَالَ فَيَغْفِرُ اللَّهُ لَهُ ذُنُوبَهُ وَيَسْتُرُهُ مِنْهَا قَالَ فَمَا عَلَى الْأَرْضِ خَلِيقَةٌ تَرَى مِنْ تِلْكَ الذُّنُوبِ شَيْئًا وَتَبْدُو حَسَنَاتُهُ فَوَدَّ أَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ يَرَوْنَهَا وَيُدْعَى الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُ لِلْحِسَابِ فَيَعْرِضُ عَلَيْهِ رَبُّهُ عَمَلَهُ فَيَجْحَدُ وَيَقُولُ أَيْ رَبِّ وَعِزَّتِكَ لَقَدْ كَتَبَ عَلَيَّ هَذَا الْمَلَكُ مَا لَمْ أَعْمَلْ فَيَقُولُ لَهُ الْمَلَكُ أَمَا عَمِلْتَ كَذَا فِي يَوْمِ كَذَا فِي مَكَانِ كَذَا فَيَقُولُ لَا وَعَزَّتِكَ أَيْ رَبِّ مَا عَمِلْتُهُ فإذا فعل ذلك ختم الله تعالى على فيه قال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه فَأَنَا أَحْسَبُ أَوَّلَ مَا يَنْطِقُ مِنْهُ فَخِذُهُ الْيُمْنَى, ثُمَّ تَلَا {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس: 65] 3. وَرَوَى أَبُو يَعْلَى عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ عُرِّفَ الْكَافِرُ بِعَمَلِهِ فَجَحَدَ وَخَاصَمَ, فَيَقُولُ هَؤُلَاءِ جِيرَانُكَ
يَشْهَدُونَ عَلَيْكَ فَيَقُولُ كَذَبُوا, فَيَقُولُ أَهْلُكَ وَعَشِيرَتُكَ فَيَقُولُ كَذَبُوا فَيَقُولُ احْلِفُوا, فَيَحْلِفُونَ, ثُمَّ يُصْمِتُهُمُ اللَّهُ تَعَالَى وَتَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ النَّارَ"1. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ لِابْنِ الْأَزْرَقِ إِنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَأْتِي عَلَى النَّاسِ مِنْهُ حِينَ, لَا يَنْطِقُونَ وَلَا يَعْتَذِرُونَ وَلَا يَتَكَلَّمُونَ حَتَّى يُؤْذَنَ لَهُمْ, ثُمَّ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَخْتَصِمُونَ فَيَجْحَدُ الْجَاحِدُ بِشِرْكِهِ بِاللَّهِ تَعَالَى فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ, فَيَبْعَثُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ حِينَ يَجْحَدُونَ شُهَدَاءَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ جُلُودُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ وَيَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ ثُمَّ يَفْتَحُ لَهُمُ الْأَفْوَاهَ فَتُخَاصِمُ الْجَوَارِحُ فَتَقُولُ {أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [فُصِّلَتْ: 21] فَتُقِرُّ الْأَلْسِنَةُ بَعْدَ الْجُحُودِ2 وَرَوَى أَيْضًا عَنْ رَافِعٍ أَبِي الْحَسَنِ قَالَ وَصَفَ رَجُلًا جَحَدَ قَالَ فَيُشِيرُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى لِسَانِهِ فَيَرْبُو فِي فَمِهِ حَتَّى يَمْلَأَهُ فَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنْطِقَ بِكَلِمَةٍ, ثُمَّ يَقُولُ لِآرَابِهِ3 تَكَلَّمِي وَاشْهَدِي عَلَيْهِ فَيَشْهَدُ عَلَيْهِ سَمْعُهُ وَبَصَرُهُ وَجِلْدُهُ وَفَرْجُهُ وَيَدَاهُ وَرِجْلَاهُ صَنَعْنَا عَمِلْنَا فَعَلْنَا4 وَلَهُ أَيْضًا عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ لَمَّا رَجَعَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُهَاجِرَةُ الْبَحْرِ قَالَ: "أَلَا تُحَدِّثُونَ بِأَعَاجِيبَ مَا رَأَيْتُمْ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ" فَقَالَ فِتْيَةٌ مِنْهُمْ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ بينما نحن جلوس إِذْ مَرَّتْ عَلَيْنَا عَجُوزٌ مِنْ عَجَائِزِ رَهَابِينِهِمْ تَحْمِلُ عَلَى رَأْسِهَا قُلَّةً مِنْ مَاءٍ, فَمَرَّتْ بِفَتًى مِنْهُمْ فَجَعَلَ إِحْدَى يَدَيْهِ بَيْنَ كَتِفَيْهَا ثُمَّ دَفَعَهَا فَخَرَّتْ عَلَى رُكْبَتَيْهَا فَانْكَسَرَتْ قُلَّتُهَا, فَلَمَّا ارْتَفَعَتِ الْتَفَتَتْ إِلَيْهِ فَقَالَتْ سَوْفَ تَعْلَمُ يَا غُدَرُ إِذَا وَضَعَ اللَّهُ الْكُرْسِيَّ وَجَمَعَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ وَتَكَلَّمَتِ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ, فَسَوْفَ تَعْلَمُ كَيْفَ أَمْرِي وَأَمْرُكُ عِنْدَهُ غَدًا قَالَ: يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "صَدَقَتْ صَدَقَتْ, كَيْفَ يُقَدِّسُ
اللَّهُ تَعَالَى قَوْمًا لَا يُؤْخَذُ لِضَعِيفِهِمْ مِنْ شَدِيدِهِمْ"1 وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَقَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى حَدَّثَنَا الصَّلْتُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ عَنْ رَوْحِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ} [فُصِّلَتْ: 22] الْآيَةَ كَانَ رَجُلَانِ مِنْ قُرَيْشٍ وَخَتَنٌ لَهُمَا مِنْ ثَقِيفٍ, أَوْ رَجُلَانِ مِنْ ثَقِيفٍ وَخَتَنٌ لَهُمَا مِنْ قُرَيْشٍ فِي بَيْتٍ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَتَرَوْنَ أَنَّ اللَّهَ يَسْمَعُ حَدِيثَنَا قَالَ بَعْضُهُمْ يَسْمَعُ بَعْضَهُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَئِنْ كَانَ يَسْمَعُ بَعْضَهُ لَقَدْ يَسْمَعُ كُلَّهُ, فَأُنْزِلَتْ {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ} 2 [فُصِّلَتْ: 22] الْحَدِيثُ تَقَدَّمَ لَفْظُهُ فِي إِثْبَاتِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ, وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَابْتُلِيَتْ أَيِ اخْتُبِرَتْ هُنَالِكَ الْإِشَارَةُ إِلَى مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ الْعَظِيمِ وَهَوْلِهِ الْجَسِيمِ السَّرَائِرُ جَمْعُ سَرِيرَةٍ وَهِيَ ضِدُّ الْعَلَانِيَةِ وَانْكَشَفَ الْمَخْفِيُّ الْمَسْتُورُ فِي الضَّمَائِرِ إِشَارَةً إِلَى قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} [الطَّارِقِ: 9] قَالَ الْبَغَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْلَى السَّرَائِرُ, تَظْهَرُ الْخَفَايَا, قَالَ قَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ تُخْتَبَرُ, قَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ السَّرَائِرُ فَرَائِضُ الْأَعْمَالِ كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَالْوُضُوءِ وَالِاغْتِسَالِ مِنَ الْجَنَابَةِ فَإِنَّهَا سَرَائِرُ بَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَبَيْنَ الْعَبْدِ, فَلَوْ شَاءَ الْعَبْدُ لَقَالَ صُمْتُ وَلَمْ يَصُمْ, وَصَلَّيْتُ وَلَمْ يُصَلِّ, وَاغْتَسَلْتُ وَلَمْ يَغْتَسِلْ, فَيُخْتَبَرُ حَتَّى يَظْهَرَ مَنْ أَدَّاهَا مِمَّنْ ضَيَّعَهَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يُبْدِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كُلَّ سِرٍّ, فَيَكُونُ زَيْنًا فِي وُجُوهٍ وَشَيْنًا فِي وُجُوهٍ, يَعْنِي مَنْ أَدَّاهَا كَانَ وَجْهُهُ مُشْرِقًا وَمَنْ ضَيَّعَهَا كَانَ وَجْهُهُ أَغْبَرَ وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يُرْفَعُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ عِنْدَ اسْتِهِ يُقَالُ هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانِ ابن فُلَانٍ" 3 عِيَاذًا بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ
صحائف الأعمال تؤخذ باليمين وبالشمال
[صَحَائِفُ: الْأَعْمَالِ تُؤْخَذُ بِالْيَمِينِ وَالشِّمَالِ] : وَنُشِرَتْ صَحَائِفُ الْأَعْمَالِ ... تُؤْخَذُ بِالْيَمِينِ وَالشِّمَالِ طُوبَى لِمَنْ يَأْخُذُ بِالْيَمِينِ ... كِتَابَهُ بُشْرَى بِحُورٍ عِينِ وَالْوَيْلُ لِلْآخِذِ بِالشِّمَالِ ... وَرَاءَ ظَهْرٍ لِلْجَحِيمِ صَالِي وَنُشِرَتْ صَحَائِفُ كُتُبُ الْأَعْمَالِ مِنْ حَسَنَاتٍ وَسَيِّئَاتٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ} تُؤْخَذُ بِالْيَمِينِ لِلْمُؤْمِنِ وَالشِّمَالِ لِلْكَافِرِ طُوبَى أَطْيَبُ شَيْءٍ, وَاسْمُ شَجَرَةٍ فِي الْجَنَّةِ يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا مِائَةَ عَامٍ لَا يَقْطَعُهَا لِمَنْ يَأْخُذُ بِالْيَمِينِ كِتَابَهُ بُشْرَى أَعْظَمُ بِشَارَةٍ بِحُورٍ جَمْعُ حَوْرَاءَ, صِفَةٌ لَهُنَّ مِنْ حَوَرِ الْعَيْنِ, وَهُوَ شِدَّةُ سَوَادِ الْعَيْنَيْنِ فِي شِدَّةِ بَيَاضِهِمَا عِينِ عِينِ الْأَعْيُنِ وَالْوَيْلُ كَلِمَةُ عَذَابٍ وَوَادٍ فِي جَهَنَّمَ لِلْآخِذِ بِالشِّمَالِ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظهر للجحيم صال اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ صَلَى يَصْلَى غُمِرَ فِيهَا, وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى تَطَايُرَ الصُّحُفِ وَنَشْرَهَا وَتَنَاوَلَهَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ مَعَ بَيَانِ مَنَازِلِ أَهْلِهَا, كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الْإِسْرَاءِ: 14] وَقَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا} [الْإِسْرَاءِ: 71] وَقَالَ تَعَالَى: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ، فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ، إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ، فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ، فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ، قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ، كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ، وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ، وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ، يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ، مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ، هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ، خُذُوهُ فَغُلُّوهُ، ثُمَّ
الْجَحِيمَ صَلُّوهُ، ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ، إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ، وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ، فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ، وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ، لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ} [الْحَاقَّةِ: 18-37] وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا وَيَصْلَى سَعِيرًا إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا} [الِانْشِقَاقِ: 6-15] وَقَالَ تَعَالَى: {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الْجَاثِيَةِ: 29] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُمَا {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الْإِسْرَاءِ: 13] طَائِرُهُ هُوَ مَا طَارَ عَنْهُ مِنْ عَمَلِهِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ, وَيَلْزَمُ بِهِ وَيُجَازَى عَلَيْهِ {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا} [الْإِسْرَاءِ: 13] قَالَ مَعْمَرٌ وَتَلَا الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} [ق: 17] يابن آدَمَ بُسِطَتْ لَكَ صحيفتك, ووكل بك مَلَكَانِ كَرِيمَانِ أَحَدُهُمَا عَنْ يَمِينِكَ وَالْآخَرُ عَنْ شِمَالِكَ, فَأَمَّا الَّذِي عَنْ يَمِينِكَ فَيَحْفَظُ حَسَنَاتِكَ, وَأَمَّا الَّذِي عَنْ شِمَالِكَ فَيَحْفَظُ سَيِّئَاتِكَ, فَاعْمَلْ مَا شِئْتَ أَقْلِلْ أَوْ أَكْثِرْ, حَتَّى إِذَا مُتَّ طُوِيَتْ صَحِيفَتُكَ فَجُعِلَتْ فِي عُنُقِكَ مَعَكَ فِي قَبْرِكَ, حَتَّى تَخْرُجَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا تَلْقَاهُ مَنْشُورًا {اقْرَأْ كِتَابَكَ} الْآيَةَ, فَقَدْ عَدَلَ وَاللَّهِ مَنْ جَعَلَكَ حَسِيبَ نَفْسِكَ. وَرَوَى الْبَزَّارُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي قَوْلِهِ تعالى: {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} [الْإِسْرَاءِ: 71] قَالَ: "يُدْعَى أَحَدُهُمْ فَيُعْطَى كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ وَيُمَدُّ لَهُ فِي جِسْمِهِ وَيَبْيَضُّ وَجْهُهُ, وَيُجْعَلُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجٌ مِنْ لُؤْلُؤَةٍ يَتَلَأْلَأُ فَيَنْطَلِقُ إِلَى أَصْحَابِهِ فَيَرَوْنَهُ مِنْ بَعِيدٍ فَيَقُولُونَ اللَّهُمَّ آتِنَا بِهَذَا وَبَارِكْ لَنَا فِي هَذَا فَيَأْتِيهِمْ فَيَقُولُ لَهُمْ أَبْشِرُوا فَإِنَّ لِكُلِّ رَجُلٍ مِنْكُمْ مِثْلَ هَذَا وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيَسْوَدُّ وَجْهُهُ وَيُمَدُّ لَهُ فِي جِسْمِهِ وَيَرَاهُ أَصْحَابُهُ فَيَقُولُونَ نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ هَذَا أَوْ مِنْ شَرِّ هَذَا, اللَّهُمَّ لَا تَأْتِنَا بِهِ, فَيَأْتِيهِمْ فَيَقُولُونَ اللَّهُمَّ أَخْزِهِ فَيَقُولُ أَبْعَدَكُمُ اللَّهُ فَإِنَّ
لِكُلِّ رَجُلٍ مِنْكُمْ مِثْلَ هَذَا" 1، حَدِيثٌ غَرِيبٌ حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَفِي السُّنَنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ الله عنها أنها ذَكَرَتِ النَّارَ فَبَكَتْ, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يُبْكِيكِ قَالَتْ ذكرت النار فبكيت فَهَلْ تَذْكُرُونَ أَهْلِيكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَمَّا فِي ثَلَاثَةِ مَوَاطِنَ فَلَا يَذْكُرُ أَحَدٌ أَحَدًا عِنْدَ الْمِيزَانِ حَتَّى يَعْلَمَ أَيَخِفُّ مِيزَانُهُ أَوْ يَثْقُلُ, وَعِنْدَ الْكِتَابِ حِينَ يقول: {هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ} [الْحَاقَّةِ: 19] حَتَّى يَعْلَمَ أَيْنَ يَقَعُ كِتَابُهُ أَفِي يَمِينِهِ أَوْ فِي شِمَالِهِ أَمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ, وَعِنْدَ الصِّرَاطِ إِذَا وُضِعَ بَيْنَ ظَهْرَيْ جَهَنَّمَ" 2. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ قَالَ الْمُؤْمِنُ يُعْطَى كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فِي سَتْرٍ مِنَ اللَّهِ فَيَقْرَأُ سَيِّئَاتِهِ, فَكُلَّمَا قَرَأَ سَيِّئَاتِهِ تَغَيَّرَ لَوْنُهُ حَتَّى يمر بحسناته فيقرأها فَيَرْجِعُ إِلَيْهِ لَوْنُهُ, ثُمَّ يَنْظُرُ فَإِذَا سَيِّئَاتُهُ قَدْ بُدِّلَتْ حَسَنَاتٍ, قَالَ فَعِنْدَ ذَلِكَ يَقُولُ: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} 3. وَلَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْظَلَةَ غَسِيلِ الْمَلَائِكَةِ قَالَ "إِنَّ اللَّهَ يُوقِفُ عَبْدَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُبْدِي -أَيْ يُظْهِرُ- سَيِّئَاتِهِ فِي ظَهْرِ صَحِيفَتِهِ فَيَقُولُ لَهُ: أَنْتَ عَمِلْتَ هَذَا فَيَقُولُ نَعَمْ: أَيْ رَبِّ فَيَقُولُ لَهُ إِنِّي لَمْ أَفْضَحْكَ بِهِ وَإِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَكَ فَيَقُولُ عِنْدَ ذَلِكَ {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ}
[الْحَاقَّةِ: 19] حِينَ نَجَا مِنْ فَضِيحَتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" 1 وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الصَّحِيحُ فِي النَّجْوَى وَفِيهِ فِي الْمُؤْمِنِ "ثُمَّ يُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ بِيَمِينِهِ وَأَمَّا الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُ فَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ, أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ" 2. وَعَنِ ابْنِ السَّائِبِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ} [الْحَاقَةِ: 25] قَالَ ابْنُ السَّائِبِ تُلْوَى يَدُهُ الْيُسْرَى خَلْفَ ظَهْرِهِ, ثُمَّ يُعْطَى كِتَابَهُ وَقِيلَ تُنْزَعُ يَدُهُ الْيُسْرَى مِنْ صَدْرِهِ إِلَى خَلْفِ ظَهْرِهِ ثُمَّ يُعْطَى كِتَابَهُ, وَقَالَ مُجَاهِدٌ تُخْلَعُ يَدُهُ الْيُسْرَى مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ وَقَالَ الْبَغَوِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ} [الِانْشِقَاقِ: 10] قَالَ فَتُغَلُّ يَدُهُ الْيُمْنَى إِلَى عُنُقِهِ وَتُجْعَلُ يَدُهُ الشِّمَالُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ, فَيُؤْتَى كِتَابَهُ بِشَمَالِهِ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ.
فصل فيما جاء في الميزان
فَصْلٌ: فِيمَا جَاءَ فِي الْمِيزَانِ وَالْوَزْنُ بِالْقِسْطِ فَلَا ظُلْمَ وَلَا ... يُؤْخَذُ عَبْدٌ بِسِوَى مَا عَمِلَا فَبَيْنَ نَاجٍ رَاجِحٌ مِيزَانُهُ ... وَمَقْرِفٍ أَوْبَقَهُ عُدْوَانُهُ وَالْوَزْنُ لِأَعْمَالِ الْعِبَادِ بِالْقِسْطِ الْعَدْلِ فَلَا ظُلْمَ عَلَى أَحَدٍ يَوْمَئِذٍ لِأَنَّ الْحَاكِمَ فِيهِ هُوَ الْعَدْلُ الْحَكِيمُ الَّذِي حَرَّمَ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِهِ وَجَعَلَهُ عَلَى عِبَادِهِ مُحَرَّمًا, فَلَا يُهْضَمُ أَحَدٌ مِنْ حَسَنَاتِهِ وَلَا يُؤْخَذُ عَبْدٌ بِسِوَى مَا عَمِلَا الْأَلِفُ لِلْإِطْلَاقِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ} [غافر: 17] وقال تعالى: {فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [يس: 54] وَقَالَ تَعَالَى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 47] وَقَالَ تَعَالَى عَنْ لُقْمَانَ {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لُقْمَانَ: 16] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} [النِّسَاءِ: 40] فَبَيْنَ نَاجٍ رَاجِحٌ مِيزَانُهُ إِلَخْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ} [الْأَعْرَافِ: 9] وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 102] الْآيَاتِ.
وَقَالَ تَعَالَى: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ} [الْقَارِعَةِ: 6-11] وَقَالَ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الْكَهْفِ: 105] وَفِي التِّرْمِذِيَّ عَنِ النَّضْرِ بْنِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ سَأَلْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يَشْفَعَ لِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ, فَقَالَ: "أَنَا فَاعِلٌ" , يَعْنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَيْنَ أَطْلُبُكَ قَالَ: "اطْلُبْنِي أَوَّلَ مَا تَطْلُبُنِي عَلَى الصِّرَاطِ" قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَلْقَكَ عَلَى الصِّرَاطِ قَالَ: "فَاطْلُبْنِي عِنْدَ الْمِيزَانِ" قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَلْقَكَ عِنْدَ الْمِيزَانِ قَالَ: "فَاطْلُبْنِي عِنْدَ الْحَوْضِ, فَإِنِّي لَا أخطئ هذه الثلاثة الْمُوَاطِنَ" 1، هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ حَدِيثُ عَائِشَةَ الْمُتَقَدِّمُ, وَفِيهِ "وَعِنْدَ الْمِيزَانِ حَتَّى يَثْقُلَ أَوْ يَخِفَّ" 2 الْحَدِيثَ. وَالْقَوْلُ فِي الْمَوْزُونِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ أَنَّهُ الْأَعْمَالُ نَفْسُهَا هِيَ الَّتِي تُوزَنُ, وَأَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ تَجَسَّمُ فَتُوضَعُ فِي الْمِيزَانِ. وَيَدُلُّ لِذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كَلِمَتَانِ حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ, خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ, ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ, سبحان اللَّهِ الْعَظِيمِ" 3. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "اقرءوا
الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شفيعا لأصحابه, اقرءوا الزَّهْرَاوَيْنِ الْبَقَرَةَ وَسُورَةَ آلِ عِمْرَانَ فَإِنَّهُمَا تَأْتِيَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ أَوْ كَأَنَّهُمَا غَيَايَتَانِ أَوْ كَأَنَّهُمَا فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافٍّ, تُحَاجَّانِ عَنْ أَصْحَابِهِمَا اقْرَءُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ وَلَا تَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ" قَالَ مُعَاوِيَةُ بَلَغَنِي أَنَّ الْبَطَلَةَ السَّحَرَةُ1, وَمُعَاوِيَةُ هُوَ ابْنُ سَلَّامٍ. وَفِيهِ عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ الْكِلَابِيِّ قال: سمعت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "يُؤْتَى بِالْقُرْآنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَهْلِهِ الَّذِينَ كَانُوا يَعْمَلُونَ بِهِ, تَقْدُمُهُ سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ" وَضَرَبَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَةَ أَمْثَالٍ مَا نَسِيتُهُنَّ بَعْدُ قَالَ "كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ أَوْ ظُلَّتَانِ سَوْدَاوَانِ بَيْنَهُمَا شَرْقٌ, أَوْ كَأَنَّهُمَا فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافٍّ تُحَاجَّانِ عَنْ صَاحِبِهِمَا" 2 وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ يجيء ثواب قراءته, كذا فسر بعض أهل العلم هذا الحديث وما يشبه هذا من الأحاديث أنه يجيء ثواب قراءة القرآن وَفِي حَدِيثِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَدُلُّ عَلَى مَا فَسَّرُوا, إِذْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "وَأَهْلِهِ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ بِهِ فِي الدُّنْيَا" فَفِي هَذَا دَلَالَةٌ أَنَّهُ يَجِيءُ ثواب العمل3 اهـ. قُلْتُ وَلَا مَانِعَ مِنْ كَوْنِ الْآتِي هُوَ الْعَمَلَ نَفْسَهُ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ, فَأَمَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّ الْآتِيَ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ نَفْسُهُ فَحَاشَا وَكَلَّا وَمَعَاذَ اللَّهِ لِأَنَّ كَلَامَهُ تَعَالَى صِفَتُهُ لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ, وَالَّذِي يُوضَعُ فِي الْمِيزَانِ هُوَ فِعْلُ الْعَبْدِ وَعَمَلُهُ {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصَّافَّاتِ: 96] . وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: "تَعَلَّمُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ وَلَا تَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ" قَالَ: ثُمَّ سَكَتَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ: "تَعَلَّمُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ فَإِنَّهُمَا الزَّهْرَاوَانِ, يُظِلَّانِ صَاحِبَهُمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ أَوْ غَيَايَتَانِ أَوْ فِرْقَانِ
مِنْ طَيْرٍ صَوَافٍّ, وَإِنَّ الْقُرْآنَ يَلْقَى صَاحِبَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يَنْشَقُّ عَنْهُ قَبْرُهُ كَالرَّجُلِ الشَّاحِبِ فَيَقُولُ لَهُ هَلْ تَعْرِفُنِي فَيَقُولُ مَا أَعْرِفُكَ فَيَقُولُ أَنَا صَاحِبُكَ الْقُرْآنُ الَّذِي أَظْمَأْتُكَ فِي الْهَوَاجِرِ وَأَسْهَرْتُ مُقْلَتَكَ وَإِنَّ كُلَّ تَاجِرٍ من وراء تجارته, وَإِنَّكَ الْيَوْمَ مِنْ وَرَاءِ كُلِّ تِجَارَةٍ, فَيُعْطَى الْمُلْكَ بِيَمِينِهِ وَالْخُلْدَ بِشِمَالِهِ وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجٌ مِنَ الْوَقَارِ, ويكسى والداه حلتين لَا يَقُومُ لَهُمَا أَهْلُ الدنيا فيقولان بم كُسِينَا هَذَا فَيُقَالُ بِأَخْذِ وَلَدِكُمَا الْقُرْآنَ, ثُمَّ يُقَالُ اقْرَأْ وَاصْعَدْ فِي دَرَجِ الْجَنَّةِ وَغُرَفِهَا, فَهُوَ فِي صُعُودٍ مَا دَامَ يَقْرَأُ هَذَا كَانَ أَوْ تَرْتِيلًا" 1. وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ. وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْأَعْمَالَ هِيَ ذَاتُهَا الَّتِي تُوزَنُ, ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي أَنَّ صَحَائِفَ الْأَعْمَالِ هِيَ الَّتِي تُوزَنُ. وَيَدُلُّ لِذَلِكَ مَا رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَسْتَخْلِصُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُنْشَرُ لَهُ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ سِجِلًّا, كُلُّ سِجِلٍّ مَدُّ الْبَصَرِ ثُمَّ يَقُولُ أَتُنْكِرُ مِنْ هَذَا شَيْئًا, أَظَلَمَكَ كَتَبَتِي الْحَافِظُونَ قَالَ لَا يَا رَبِّ قَالَ أَفَلَكَ عُذْرٌ أَوْ حَسَنَةٌ قَالَ فَبُهِتَ الرَّجُلُ فَيَقُولُ لَا يَا رَبِّ فَيَقُولُ بَلَى إِنَّ لَكَ عِنْدَنَا حَسَنَةً وَاحِدَةً لَا ظُلْمَ عَلَيْكَ الْيَوْمَ, فَيُخْرِجُ لَهُ بِطَاقَةً فِيهَا أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَيَقُولُ أَحْضِرُوهُ فَيَقُولُ يَا رَبِّ مَا هَذِهِ الْبِطَاقَةُ مَعَ هَذِهِ السِّجِلَّاتِ فَيَقُولُ إِنَّكَ لَا تَظْلِمُ قَالَ فَتُوضَعُ السِّجِلَّاتُ فِي كِفَّةٍ وَالْبِطَاقَةُ فِي كِفَّةٍ قَالَ فَطَاشَتِ السِّجِلَّاتُ وَثَقُلَتِ الْبِطَاقَةُ قَالَ وَلَا يَثْقُلُ شَيْءٌ مَعَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" 2 وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ غَرِيبٌ
وَالثَّالِثُ أَنَّ الْمَوْزُونَ ثَوَابُ الْعَمَلِ, وَهُوَ اطِّرَادُ مَا نَقَلَهُ التِّرْمِذِيُّ فِي مَعْنَى حَدِيثِ النَّوَّاسِ. الرَّابِعُ أَنَّ الْمَوْزُونَ هُوَ الْعَامِلُ نَفْسُهُ. وَيَدُلُّ لِذَلِكَ مَا روى أحمد عن عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَعِدَ شَجَرَةً يَجْتَنِي الْكَبَاثَ, فَجَعَلَ النَّاسُ يَعْجَبُونَ مِنْ دِقَّةِ سَاقَيْهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ, هُمَا فِي الْمِيزَانِ أَثْقَلُ مِنْ أُحُدٍ" 1. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّهُ لَيَأْتِي الرَّجُلُ الْعَظِيمُ السَّمِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحُ بعوضة وقال اقرءوا {فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الْكَهْفِ: 105] " 2، وَلِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يُؤْتَى بِالرَّجُلِ الْأَكُولِ الشَّرُوبِ الْعَظِيمِ, فَيُوزَنُ بِحَبَّةٍ فَلَا يَزِنُهَا قَالَ وَقَرَأَ {فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الْكَهْفِ: 105] " رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ3. وَرَوَى الْبَزَّارُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ يَخْطِرُ فِي حُلَّةٍ لَهُ, فَلَمَّا قَامَ عَلَى النَّبِيِّ قَالَ: "يَا بُرَيْدَةُ, هَذَا مِمَّنْ لَا يُقِيمُ اللَّهُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا" 4. قُلْتُ وَالَّذِي اسْتُظْهِرَ مِنَ النُّصُوصِ -وَاللَّهُ أَعْلَمُ- أَنَّ الْعَامِلَ وَعَمَلَهُ وَصَحِيفَةَ
عَمَلِهِ كُلُّ ذَلِكَ يُوزَنُ لِأَنَّ الْأَحَادِيثَ الَّتِي فِي بَيَانِ الْقُرْآنِ قَدْ وَرَدَتْ بِكُلٍّ مِنْ ذَلِكَ وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهَا, وَيَدُلُّ لِذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فِي قِصَّةِ صَاحِبِ الْبِطَاقَةِ بِلَفْظِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تُوضَعُ الْمَوَازِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ, فَيُؤْتَى بِالرَّجُلِ فَيُوضَعُ فِي كِفَّةٍ وَيُوضَعُ مَا أُحْصِيَ عَلَيْهِ فَيُمَايِلُ بِهِ الْمِيزَانُ قَالَ فَيُبْعَثُ بِهِ إِلَى النَّارِ قَالَ فَإِذَا أَدْبَرَ إِذَا صَائِحٌ مِنْ عِنْدِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ لَا تُعَجِّلُوا فَإِنَّهُ قَدْ بَقِيَ لَهُ, فيؤتى ببطاقة فيها لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ, فَتُوضَعُ مَعَ الرَّجُلِ فِي كِفَّةٍ حَتَّى يَمِيلَ بِهِ الْمِيزَانُ" 1 فَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ يُوضَعُ هُوَ وَحَسَنَاتُهُ وَصَحِيفَتُهَا فِي كِفَّةٍ وَسَيِّئَاتُهُ مَعَ صَحِيفَتِهَا فِي الْكِفَّةِ الْأُخْرَى, وَهَذَا غَايَةُ الْجَمْعِ بَيْنَ مَا تَفَرَّقَ ذِكْرُهُ فِي سَائِرِ أَحَادِيثِ الْوَزْنِ, وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. وَرَوَى أَحْمَدُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي مَمْلُوكِينَ يَكْذِبُونَنِي وَيَخُونُونَنِي وَيَعْصُونَنِي وَأَضْرِبُهُمْ وَأَشْتُمُهُمْ فَكَيْفَ أَنَا مِنْهُمْ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَحْسِبُ مَا خَانُوكَ وَعَصَوْكَ وَكَذَبُوكَ وَعِقَابُكَ إِيَّاهُمْ, فَإِنْ كَانَ عِقَابُكَ إِيَّاهُمْ بِقَدْرِ ذُنُوبِهِمْ كَانَ كَفَافًا, لَا لَكَ وَلَا عَلَيْكَ, وَإِنْ كَانَ عِقَابُكَ إِيَّاهُمْ دُونَ ذُنُوبِهِمْ كَانَ فَضْلًا لَكَ, وَإِنْ كَانَ عِقَابُكَ إِيَّاهُمْ فَوْقَ ذُنُوبِهِمُ اقْتُصَّ لَهُمْ مِنْكَ الْفَضْلُ الَّذِي بَقِيَ قِبَلَكَ" فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَبْكِي بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ وَيَهْتِفُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: "مَا لَهُ لَا يَقْرَأُ كِتَابَ اللَّهِ {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} " فَقَالَ الرَّجُلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَجِدُ شَيْئًا خَيْرًا مِنْ فِرَاقِ هَؤُلَاءِ -يَعْنِي عَبِيدَهُ- إِنِّي أُشْهِدُكَ أَنَّهُمْ أَحْرَارٌ كُلُّهُمْ2
فصل فيما جاء في الصراط
فَصْلٌ: فِيمَا جَاءَ فِي الصِّرَاطِ وَيُنْصَبُ الْجِسْرُ بِلَا امْتِرَاءِ ... كَمَا أَتَى فِي مُحْكَمِ الْأَنْبَاءِ يَجُوزُهُ النَّاسُ عَلَى أَحْوَالِ ... بِقَدْرِ كَسْبِهِمْ مِنَ الْأَعْمَالِ فَبَيْنَ مُجْتَازٍ إِلَى الْجِنَانِ ... وَمُسْرِفٍ يُكَبُّ فِي النِّيرَانِ وَيُنْصَبُ الْجِسْرَ وَهُوَ الصِّرَاطُ عَلَى مَتْنِ جَهَنَّمَ بِلَا امْتِرَاءِ بِلَا شَكٍّ كَمَا أَتَى فِي مُحْكَمِ الْأَنْبَاءِ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ يَجُوزُهُ يَمُرُّ عَلَيْهِ النَّاسُ عَلَى أَحْوَالِ مُتَفَاوِتَةٍ بِقَدْرِ كَسْبِهِمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْأَعْمَالِ مِنْ إِحْسَانٍ أَوْ إِسَاءَةٍ أَوْ تَخْلِيطٍ فَـ هُمْ بَيْنَ مُجْتَازٍ عَلَيْهِ إِلَى الْجِنَانِ وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ عَلَى تَفَاوُتِ دَرَجَاتِهِمْ وَمَرَاتِبِهِمْ فِي الْبُطْءِ وَالْإِسْرَاعِ وَمُسْرِفٍ عَلَى نَفْسِهِ يُكَبُّ فِي النِّيرَانِ فَلَا يَنْجُو, وَمِنْهُمْ مَنْ تَلْفَحُهُ وَتَمَسُّهُ النَّارُ بِقَدْرِ ذَنْبِهِ, ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} [مَرْيَمَ: 71] وَقَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الْحَدِيدِ: 12-15] . وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ كَثِيرِ بْنِ زِيَادٍ الْبُرْسَانِيِّ عَنْ أَبِي سُمَيَّةَ قَالَ اخْتَلَفْنَا فِي الْوُرُودِ فَقَالَ بَعْضُنَا لَا يَدْخُلُهَا مُؤْمِنٌ وَقَالَ بَعْضُنَا يَدْخُلُونَهَا جَمِيعًا ثُمَّ يُنَجِّي اللَّهُ
الَّذِينَ اتَّقَوْا, فَلَقِيتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ فَقُلْتُ لَهُ إِنَّا اخْتَلَفْنَا فِي الْوُرُودِ فَقَالَ يَرِدُونَهَا جَمِيعًا وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ مُرَّةَ يَدْخُلُونَهَا جَمِيعًا, وَأَهْوَى بِأُصْبُعَيْهِ إِلَى أُذُنَيْهِ وَقَالَ صُمَّتَا إِنْ لَمْ أَكُنْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "لَا يَبْقَى بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ إِلَّا دَخَلَهَا, فَتَكُونُ عَلَى الْمُؤْمِنِ بَرْدًا وَسَلَامًا كَمَا كَانَتْ عَلَى إِبْرَاهِيمَ, حَتَّى إِنَّ لِلنَّارِ ضَجِيجًا مَنْ بَرْدِهِمْ, ثُمَّ يُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَيَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا" 1. وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ قَالَ قَالَ أَهْلُ الْجَنَّةِ بَعْدَمَا دَخَلُوا الْجَنَّةَ أَلَمْ يَعِدْنَا رَبُّنَا الْوُرُودَ عَلَى النَّارِ قَالَ قَدْ مَرَرْتُمْ عَلَيْهَا وَهِيَ خَامِدَةٌ2. وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ قَيْسِ بْنِ حَازِمٍ قَالَ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ وَاضِعًا رَأْسَهُ فِي حِجْرِ امْرَأَتِهِ فَبَكَى فَبَكَتِ امْرَأَتُهُ, فَقَالَ مَا يُبْكِيكِ قَالَتْ رَأَيْتُكَ تَبْكِي فَبَكَيْتُ, قَالَ إِنِّي ذَكَرْتُ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71] فَلَا أَدْرِي أَأَنْجُو مِنْهَا أَمْ لَا3. وَلَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قِصَّةِ مُخَاصَمَتِهِ نَافِعَ بْنَ الْأَزْرَقِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْوُرُودُ الدُّخُولُ فَقَالَ نَافِعٌ لَا, فَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 98] أَوَرَدُوهَا أَمْ لَا وَقَالَ {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ} [هُودٍ: 98] أَوَرَدُوهَا أَمْ لَا أَمَّا أَنَا وَأَنْتَ فَسَنَدْخُلُهَا فَانْظُرْ هَلْ نَخْرُجُ مِنْهَا أَمْ لَا, وَمَا أَرَى اللَّهَ تَعَالَى مُخْرِجَكَ مِنْهَا بِتَكْذِيبِكَ, فَضَحِكَ نَافِعٌ4. وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ فَأَتَاهُ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ أَبُو
رَاشِدٍ وَهُوَ نَافِعُ بْنُ الْأَزْرَقِ فقال له يابن عَبَّاسٍ أَرَأَيْتَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} [مَرْيَمَ: 71] قَالَ أَمَّا أَنَا وَأَنْتَ يَا أَبَا رَاشِدٍ فَسَنَرِدُهَا, فَانْظُرْ هَلْ نُصْدِرُ عَنْهَا أَمْ لَا1 وَعَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مَرْيَمَ: 71] قَالَ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ, أَلَا تَسْمَعُ إِلَى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى لِفِرْعَوْنَ {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ} [هُودٍ: 98] الْآيَةَ {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا} [مَرْيَمَ: 86] فَسَمَّى الْوُرُودَ عَلَى النَّارِ دُخُولًا, وَلَيْسَ بِصَادِرٍ2. وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مَرْيَمَ: 71] قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَرِدُ النَّاسُ كُلُّهُمْ ثُمَّ يُصْدِرُونَ عَنْهَا بِأَعْمَالِهِمْ" 3 وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ هَكَذَا مَرْفُوعًا وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ مَوْقُوفًا قَالَ: "يَرِدُ النَّاسُ جَمِيعًا الصِّرَاطَ, وُرُودُهُمْ قِيَامُهُمْ حَوْلَ النَّارِ ثُمَّ يُصْدِرُونَ عَنِ الصِّرَاطِ بِأَعْمَالِهِمْ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ مِثْلَ الْبَرْقِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ مِثْلَ الرِّيحِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ مِثْلَ الطَّيْرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَأَجْوَدِ الْخَيْلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَأَجْوَدِ الْإِبِلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَعَدْوِ الرَّجُلِ حَتَّى إِنَّ آخِرَهُمْ مَرًّا رَجُلٌ نُورُهُ عَلَى مَوْضِعِ إِبْهَامَيْ قَدَمَيْهِ يَمُرُّ فَيَتَكَفَّأُ بِهِ الصِّرَاطُ, وَالصِّرَاطُ دَحْضٌ مَزِلَّةٌ عَلَيْهِ حَسَكٌ كَحَسَكِ الْقَتَادِ, حَافَّتَاهُ مَلَائِكَةٌ مَعَهُمْ كَلَالِيبُ مِنْ نَارٍ يَخْتَطِفُونَ بِهَا النَّاسَ" 4 الْحَدِيثَ. وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ فِي {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مَرْيَمَ: 71] قَالَ: "الصِّرَاطُ عَلَى جَهَنَّمَ مِثْلَ حَدِّ السَّيْفِ, فَتَمُرُّ الطَّبَقَةُ الْأُولَى كَالْبَرْقِ وَالثَّانِيَةُ كَالرِّيحِ وَالثَّالِثَةُ
كَأَجْوَدِ الْخَيْلِ وَالرَّابِعَةُ كَأَجْوَدِ الْبَهَائِمِ, ثُمَّ يَمُرُّونَ وَالْمَلَائِكَةُ يَقُولُونَ اللَّهُمَّ سَلِّمْ سِلِّمْ" 1. وَقَالَ قَتَادَةُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مَرْيَمَ: 71] قَالَ: "هُوَ الْمَمَرُّ عَلَيْهَا" 2 وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وُرُودُ الْمُسْلِمِينَ الْمُرُورُ عَلَى الْجِسْرِ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهَا, وَوُرُودُ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يَدْخُلُوهَا3. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَمُوتُ لِأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ثَلَاثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ فَتَمَسَّهُ النَّارُ إِلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ" 4 قَالَ الزُّهْرِيُّ: كَأَنَّهُ يُرِيدُ هَذِهِ الْآيَةَ: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} [مَرْيَمَ: 71] قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ قَسَمًا وَاجِبًا, وَفِيهِمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَيْضًا مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيثِهِ الطَّوِيلِ فِي الرُّؤْيَةِ وَالشَّفَاعَةِ، وَفِيهِ: "وَيُضْرَبُ الصِّرَاطُ بَيْنَ ظَهْرَيْ جَهَنَّمَ، فَأَكُونُ أَنَا وَأُمَّتِي أَوَّلَ مَنْ يُجِيزُهَا, وَلَا يَتَكَلَّمُ يَوْمَئِذٍ إِلَّا الرُّسُلُ, وَدَعْوَى الرُّسُلِ يَوْمَئِذٍ اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ, وَفِي جَهَنَّمَ كَلَالِيبُ مِثْلَ شَوْكِ السَّعْدَانِ هَلْ رَأَيْتُمُ السَّعْدَانَ -قَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: فَإِنَّهَا مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ مَا قَدْرُ عِظَمِهَا إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ, تَخْطَفُ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ فَمِنْهُمُ الْمُوبَقُ بِعَمَلِهِ، وَالْمُوثَقُ بِعَمَلِهِ، وَمِنْهُمُ الْمُخَرْدَلُ أَوِ الْمُجَازَى أَوْ نَحْوُهُ" 5 الْحَدِيثَ. وَفِيهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ حَدِيثِهِ الطَّوِيلِ فِي ذَلِكَ مَرْفُوعًا وَفِيهِ: "ثُمَّ يُؤْتَى بِالْجِسْرِ فَيُجْعَلُ بَيْنَ ظَهْرَيْ جَهَنَّمَ" قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الْجِسْرُ قَالَ: "مَدْحَضَةٌ مَزِلَّةٌ, عَلَيْهِ خَطَاطِيفُ وَكَلَالِيبُ وَحَسَكَةٌ مُفَلْطَحَةٌ لَهَا
شَوْكَةٌ عُقَيْفَاءُ تَكُونُ بِنَجْدٍ يُقَالُ لَهَا السَّعْدَانُ, يَمُرُّ الْمُؤَمَّنُ عَلَيْهَا كَالطَّرْفِ وَكَالْبَرْقِ وَكَالرِّيحِ وَكَأَجَاوِيدِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ, فَنَاجٍ مُسَلَّمٌ وَنَاجٍ مَخْدُوشٌ وَمَكْدُوسٌ فِي نَارِ جَهَنَّمَ حَتَّى يَمُرَّ آخِرُهُمْ يُسْحَبُ سَحْبًا" 1 الْحَدِيثَ. وَلِمُسْلِمٍ عَنْ أَنَسٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ "آخِرُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ رَجُلٌ فَهُوَ يَمْشِي مَرَّةً وَيَكْبُو مَرَّةً وَتَسْفَعُهُ النَّارُ مَرَّةً, فَإِذَا مَا جَاوَزَهَا الْتَفَتَ إِلَيْهَا فَقَالَ تَبَارَكَ الَّذِي نَجَّانِي مِنْكِ, لَقَدْ أَعْطَانِي اللَّهُ شَيْئًا مَا أَعْطَاهُ أَحَدًا مِنَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ" الْحَدِيثَ وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ "رَجُلٌ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ حَبْوًا" 2. وَفِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَحُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي حَدِيثِ اسْتِفْتَاحِ الْجَنَّةِ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُطَوَّلًا, وَفِيهِ: "وَتُرْسَلُ الْأَمَانَةُ وَالرَّحِمُ فَتَقُومَانِ جَنَبَتَيِ الصِّرَاطِ يَمِينًا وَشِمَالًا, فَيَمُرُّ أَوَّلُكُمْ كَالْبَرْقِ قَالَ قُلْتُ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي أَيُّ شَيْءٍ كَمَرِّ الْبَرْقِ قال: ألم ترو إِلَى الْبَرْقِ كَيْفَ يَمُرُّ وَيَرْجِعُ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ ثُمَّ كَمَرِّ الطَّيْرِ وَتَشُدُّ الرِّجَالُ تَجْرِي بِهِمْ أَعْمَالُهُمْ قَالَ: وَنَبِيُّكُمْ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَائِمٌ عَلَى الصِّرَاطِ يَقُولُ رَبِّ سَلِّمْ سَلِّمْ حَتَّى تَعْجِزَ أَعْمَالُ الْعِبَادِ حَتَّى يَجِيءَ الرَّجُلُ فَلَا يَسْتَطِيعُ السَّيْرَ إِلَّا زِحَافًا قَالَ وَفِي حَافَّتَيِ الصِّرَاطِ كَلَالِيبُ مُعَلَّقَةٌ مَأْمُورَةٌ بِأَخْذِ مَنْ أُمِرَتْ بِهِ فَمَخْدُوشٌ نَاجٍ وَمَكْدُوسٌ فِي النَّارِ وَالَّذِي نَفْسُ أَبِي هُرَيْرَةَ بِيَدِهِ إِنَّ جَهَنَّمَ لَسَبْعُونَ خَرِيفًا" 3 وَفِيهِ أَيْضًا فِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْمُتَقَدِّمِ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ بَلَغَنِي أَنَّ الْجِسْرَ أَدَقُّ مِنَ الشَّعْرَةِ وَأَحَدُّ مِنَ السَّيْفِ4 وَفِيهِ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَسْأَلُ عَنِ الْوُرُودِ الْحَدِيثَ5 وَفِيهِ رُؤْيَةُ اللَّهِ تَعَالَى فَيَتَجَلَّى لَهُمْ يَضْحَكُ, قَالَ فَيَنْطَلِقُ بِهِمْ وَيَتَّبِعُونَهُ وَيُعْطِي كُلَّ إِنْسَانٍ -مُنَافِقٍ
أَوْ مُؤْمِنٍ- نُورًا ثُمَّ يَتَّبِعُونَهُ وَعَلَى جِسْرِ جَهَنَّمَ كَلَالِيبُ وَحَسَكٌ تَأْخُذُ مَنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى, ثُمَّ يُطْفَأُ نُورُ الْمُنَافِقِينَ ثُمَّ ينجو المؤمنون فتنجون, أَوَّلُ زُمْرَةٍ وُجُوهُهُمْ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ سَبْعُونَ أَلْفًا لَا يُحَاسَبُونَ" 1 وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} [الْحَدِيدِ: 12] قَالَ "عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ يَمُرُّونَ عَلَى الصِّرَاطِ مِنْهُمْ مَنْ نُورُهُ مِثْلُ الْجَبَلِ وَمِنْهُمْ مَنْ نُورُهُ مِثْلُ النَّخْلَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ نُورُهُ مِثْلُ الرَّجُلِ الْقَائِمِ وَأَدْنَاهُمْ نُورًا مَنْ نُورُهُ فِي إِبْهَامِهِ يَتَّقِدُ مَرَّةً وَيُطْفَأُ مَرَّةً" 2, رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ جَرِيرٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ ذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَقُولُ "مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ يُضِيءُ نُورُهُ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى عَدَنَ أَبْيَنَ وَصَنْعَاءَ فَدُونَ ذَلِكَ, حَتَّى إِنَّ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ يُضِيءُ نُورُهُ مَوْضِعَ قَدَمَيْهِ"3. وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَدْعُو النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَسْمَائِهِمْ سَتْرًا مِنْهُ عَلَى عِبَادِهِ, وَأَمَّا عِنْدَ الصِّرَاطِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُعْطِي كُلَّ مُؤْمِنٍ نُورًا وَكُلَّ مُنَافِقٍ نُورًا, فَإِذَا اسْتَوَوْا عَلَى الصِّرَاطِ سَلَبَ اللَّهُ تَعَالَى نُورَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ فَقَالَ الْمُنَافِقُونَ انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ, وَقَالَ الْمُؤْمِنُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا فَلَا يَذْكُرُ عِنْدَ ذَلِكَ أَحَدٌ أَحَدًا" 4. قُلْتُ وَذَلِكَ مِنْ تَأْوِيلِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا
إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم: 8] وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَأَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَنَا أَوَّلُ مَنْ يُؤْذَنُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالسُّجُودِ, وَأَوَّلُ مَنْ يُؤْذَنُ لَهُ بِرَفْعِ رَأْسِهِ, فَأَنْظُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ وَمِنْ خَلْفِي، وَعَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي فَأَعْرِفُ أُمَّتِي مِنْ بَيْنِ الْأُمَمِ" فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ يَا نَبِيَّ اللَّهِ: كَيْفَ تَعْرِفُ أُمَّتَكَ مِنْ بَيْنِ الْأُمَمِ مَا بَيْنَ نُوحٍ إِلَى أُمَّتِكَ، فَقَالَ: "أَعْرِفُهُمْ, مُحَجَّلُونَ مِنْ أَثَرِ الْوُضُوءِ، وَلَا يَكُونُ لِأَحَدٍ مِنَ الْأُمَمِ غَيْرِهِمْ, وَأَعْرِفُهُمْ يُؤْتَوْنَ كُتُبَهُمْ بِأَيْمَانِهِمْ, وَأَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ فِي وَجُوهِهِمْ, وَأَعْرِفُهُمْ بِنُورِهِمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ" 1، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: لَيْسَ أَحَدٌ إِلَّا يُعْطَى نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ, فَإِذَا انْتَهَوْا إِلَى الصِّرَاطِ طُفِئَ نُورُ الْمُنَافِقِينَ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ الْمُؤْمِنُونَ أَشْفَقُوا أَنْ يُطْفَأَ نُورُهُمْ كَمَا طُفِئَ نُورُ الْمُنَافِقِينَ فَقَالُوا: رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَقَالَ الْحَسَنُ رَحِمَهُ اللَّهُ: {يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} [الْحَدِيدِ: 12] قَالَ على الصراط اهـ. وَقَدْ أَنْكَرَ الصِّرَاطَ وَالْمُرُورَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْبِدْعَةِ وَالْهَوَى مِنَ الْخَوَارِجِ، وَمَنْ تَابَعَهُمْ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ, وَتَأَوَّلُوا الْوُرُودَ بِرُؤْيَةِ النَّارِ لَا أَنَّهُ الدُّخُولُ وَالْمُرُورُ عَلَى ظَهْرِهَا وَذَلِكَ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ مَنْ دَخَلَ النَّارَ لَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَلَوْ بِالْإِصْرَارِ عَلَى صَغِيرَةٍ فَخَالَفُوا الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَالْجَمَاعَةَ وَرَدُّوا الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي الْوُرُودِ وَالْمَقَامِ الْمَحْمُودِ وَالشَّفَاعَةِ؛ وَلِذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِيمَا رَوَى ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ أَنَّ نَافِعَ بْنَ الْأَزْرَقِ مَارَى ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي الْوُرُودِ, فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا هُوَ الدُّخُولُ وَقَالَ نَافِعٌ لَيْسَ الْوُرُودُ الدُّخُولَ, فَتَلَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَوْلَهُ تَعَالَى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 98] أَدَخَلَهَا هَؤُلَاءِ أَمْ لَا ثُمَّ قَالَ يَا نَافِعُ أَمَا وَاللَّهِ أَنْتَ وَأَنَا سَنَرِدُهَا, وَأَنَا أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَنِي اللَّهُ مِنْهَا, وَمَا أَرَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُخْرِجَكَ مِنْهَا بِتَكْذِيبِكَ2.
فصل فيما ورد في الجنة والنار وأنهما حق
فَصْلٌ: فِيمَا وَرَدَ فِي الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالنَّارُ وَالْجَنَّةُ حَقٌّ وَهُمَا ... مَوْجُودَتَانِ لَا فَنَاءَ لَهُمَا أَيْ وَمِنَ الْإِيمَانِ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ الْإِيمَانُ بِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ, وَالْبَحْثُ فِيهِ يَنْحَصِرُ فِي ثَلَاثَةِ أُمُورٍ: الْأَوَّلُ كَوْنُهُمَا حَقًّا لَا رَيْبَ فِيهِمَا وَلَا شَكَّ, وَأَنَّ النَّارَ دَارُ أَعْدَاءِ اللَّهِ, وَالْجَنَّةَ دَارُ أَوْلِيَائِهِ. وَهَذَا هُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقَوْلِنَا حَقٌّ, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [التَّحْرِيمِ: 6-8] الْآيَاتِ وَقَالَ تَعَالَى: {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [الْبَقَرَةِ: 25] الْآيَةَ, وَقَالَ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آلِ: عِمْرَانَ 131-133] الْآيَاتِ وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا
أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا} [النِّسَاءِ: 55-57] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ، أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ، إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ، دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يُونُسَ: 7 8] وَقَالَ تَعَالَى: فِي أَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا، أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النِّسَاءِ: 120-122] وَقَالَ تَعَالَى: لِإِبْلِيسَ {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ، وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ، لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ، إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ} [الْحِجْرِ: 42-46] الْآيَاتِ. وَغَيْرُهَا كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ شَهِيرَةٌ, كُلَّمَا يَذْكُرُ الْجَنَّةَ عَطَفَ عَلَيْهَا بِذِكْرِ النَّارِ وَكُلَّمَا يَذْكُرُ أَهْلَ النَّارِ عَطَفَ عَلَيْهِمْ بِذِكْرِ أَهْلِ الْجَنَّةِ, فَتَارَةً يَعِدُ وَيَتَوَعَّدُ, وَتَارَةً يُخْبِرُ عَمَّا أَعَدَّ فِي الْجَنَّةِ مِنَ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ لِأَوْلِيَائِهِ وَيُخْبِرُ عَمَّا أَرْصَدُ فِي النَّارِ مِنَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ لِأَعْدَائِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَمَنْ رَامَ اسْتِقْصَاءَهُ فَلْيَقْرَأِ الْقُرْآنَ مِنْ فَاتِحَتِهِ إِلَى خَاتِمَتِهِ بِتَدَبُّرٍ وَقَلْبٍ شَهِيدٍ, وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ قَالَ حَدَّثَنِي عُمَيْرُ بْنُ هَانِئٍ قَالَ حَدَّثَنِي جَنَادَةُ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ عَنْ عُبَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ, وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٍ مِنْهُ, وَالْجَنَّةُ حُقٌّ وَالنَّارُ حَقٌّ, أَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنَ الْعَمَلِ" زَادَ فِي رِوَايَةٍ "مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةِ أَيُّهَا شَاءَ" 1 وَوَافَقَهُ عَلَى إِخْرَاجِهِ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ
وَلَهُمَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يَتَهَجَّدُ قَالَ: "اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ, أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ, وَلَكَ الْحَمْدُ لَكَ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ, وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ, وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ مَلِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ, وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ الْحَقُّ وَوَعْدُكَ الْحَقُّ وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ وَقَوْلُكَ حَقٌّ وَالْجَنَّةُ حُقٌّ وَالنَّارُ حَقُّ وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ وَمُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَقٌّ وَالسَّاعَةُ حَقٌّ اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ وَبِكَ خَاصَمْتُ وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ, فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ, وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ, أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ أَوْ لَا إِلَهَ غَيْرُكُ زَادَ فِي رِوَايَةٍ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ" 1 هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ فِي بَابِ التَّهَجُّدِ. وَقَدْ رَوَيَاهُ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ بِأَلْفَاظٍ مُتَقَارِبَةٍ, وَفِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَنَ الشَّهَادَةَ بِحَقِّيَّةِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ مَعَ الشَّهَادَةِ بِحَقِّيَّةِ اللَّهِ وَحَقِّيَّةِ رُسُلِهِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَحَقِّيَّةِ وَعْدِهِ الصَّادِقِ وَهُمَا أَيِ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ مِنْ وَعْدِهِ الصَّادِقِ الَّذِي أَقْسَمَ عَلَى صِدْقِهِ وَحَقِّيَّتِهِ ووقوعه في غيرما مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ وَفِي حَدِيثِ عُبَادَةَ هَذَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّقَ دُخُولَ الْجَنَّةِ وَالنَّجَاةَ مِنَ النَّارِ بِالتَّصْدِيقِ بِهِمَا وَالشَّهَادَةِ بِذَلِكَ وَلِهَذَا يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِأَهْلِ النَّارِ {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} [يس: 63 64] وَقَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ أَفَسِحْرٌ هَذَا} [الطُّورِ: 13-15] الْآيَاتِ وَغَيْرَهَا وَتَقَدَّمَ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ حَدِيثِ جِبْرِيلَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ أَحْمَدَ قَالَ فَحَدِّثْنِي مَا الْإِيمَانُ قَالَ "الْإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ, وَتُؤْمِنَ بِالْمَوْتِ وَبِالْحَيَاةِ بَعْدَ الْمَوْتِ, وَتُؤْمِنَ بِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالْحِسَابِ وَالْمِيزَانِ" 2 الْحَدِيثَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ
اعتقاد وجودهما الآن
الْبَحْثُ الثَّانِي اعْتِقَادُ وَجُودِهِمَا الْآنَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْجَنَّةِ {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} {أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السَّجْدَةِ: 17] وَقَالَ تَعَالَى: {عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} [النَّجْمِ: 14 15] وَغَيْرُهَا مِنَ الْآيَاتِ يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهَا مُعَدَّةٌ قَدْ أُوجِدَتْ, وَأَنَّهَا مَخْفِيَّةٌ لِأَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى مُدَّخَرَةٌ لَهُمْ, وَأَنَّهَا فِي السَّمَاءِ, وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَاهَا لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ وَرَآهَا وَقَالَ تَعَالَى: فِي النَّارِ {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} وَقَالَ {وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا} {وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا لِلطَّاغِينَ مَآبًا} فَهِيَ أَيْضًا مُعَدَّةٌ لِأَعْدَاءِ اللَّهِ تَعَالَى, مُرْصَدَةٌ لَهُمْ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ بَابُ مَا جَاءَ فِي صِفَةِ الْجَنَّةِ وَأَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ ثُمَّ ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا مَاتَ أَحَدُكُمْ فَإِنَّهُ يَعْرِضُ عَلَيْهِ مَقْعَدَهُ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ, فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ, وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَمِنْ أَهْلِ النَّارِ" 1 وَحَدِيثَ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "اطَّلَعْتُ فِي الْجَنَّةِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا الْفُقَرَاءَ, وَاطَّلَعْتُ فِي النَّارِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ" 2 وَحَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذْ قَالَ: "بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُنِي فِي الْجَنَّةِ, فَإِذَا امْرَأَةٌ تَتَوَضَّأُ إِلَى جَانِبِ قَصْرٍ فَقُلْتُ لِمَنْ هَذَا الْقَصْرُ فَقَالُوا: لَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ, فَذَكَرْتُ غَيْرَتَهُ فَوَلَّيْتُ مُدْبِرًا فَبَكَى عمر وقال عليك أَغَارُ يَا رَسُولَ اللَّهِ" 3 وَحَدِيثَهُ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ أَيْضًا قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ, فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} " 1. ثُمَّ سَاقَ الْأَحَادِيثَ فِي صِفَتِهَا ثُمَّ قَالَ بَابُ صِفَةِ النَّارِ وَأَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ ثُمَّ ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي ذَرٍّ وَأَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ" 2 وَحَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا، فَقَالَتْ رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا, فَأَذِنَ لَهَا بِنَفْسَيْنِ نَفْسٌ فِي الشِّتَاءِ، وَنَفْسٌ فِي الصَّيْفِ, فَأَشُدُّ مَا تَجِدُونَ فِي الْحَرِّ وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ" 3 وَحَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَرَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ وَعَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ, فَأَبْرِدُوهَا بِالْمَاءِ" 4 وَحَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "نَارُكُمْ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ" قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ كَانَتْ لَكَافِيَةً قَالَ: "فُضِّلَتْ عَلَيْهَا بِتِسْعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا كُلُّهُنَّ مِثْلُ حَرِّهَا" 5 وَفِيهِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فِي الْمِعْرَاجِ ثُمَّ انْطَلَقَ بِي حَتَّى انْتَهَى بِي إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى وَغَشِيَهَا أَلْوَانٌ لَا أَدْرِي مَا هِيَ, ثُمَّ أُدْخِلْتُ الْجَنَّةَ فَإِذَا فِيهَا حَبَائِلُ اللُّؤْلُؤِ, وَإِذَا تُرَابُهَا الْمِسْكُ6
وَفِيهِ مِنْ حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ فِي ذَلِكَ وَفِيهِ: "ثُمَّ رُفِعَتْ إِلَيَّ سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى فَإِذَا نُبْقُهَا مِثْلُ قِلَالِ هَجَرَ, وَإِذَا وَرَقُهَا مِثْلُ آذَانِ الْفِيَلَةِ" قَالَ: هَذِهِ سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى، وَإِذَا أَرْبَعَةُ أَنْهَارٍ نَهْرَانِ بَاطِنَانِ وَنَهْرَانِ ظَاهِرَانِ فَقُلْتُ: "مَا هَذَانِ يَا جِبْرِيلُ" قَالَ: "أَمَّا الْبَاطِنَانِ فَنَهْرَانِ فِي الْجَنَّةِ, وَأَمَّا الظَّاهِرَانِ فَالنِّيلُ وَالْفُرَاتُ" 1 الْحَدِيثَ. وَفِيهِمَا مِنْ حَدِيثِ صَلَاةِ الْكُسُوفِ وَخُطْبَتِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيهَا وَأَنَّهُ عُرِضَتْ عَلَيْهِ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ وَأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ أَنْ يَتَنَاوَلَ مِنَ الْجَنَّةِ عُنْقُودًا فَقَصُرَتْ يَدُهُ عَنْهُ, وَأَنَّهُ لَوْ أَخَذَ لَأَكَلُوا مِنْهُ مَا بَقِيَتِ الدُّنْيَا, وَأَنَّهُ رَأَى النَّارَ، وَرَأَى فِيهَا صَاحِبَ الْمِحْجَنِ الَّذِي كَانَ يَسْرِقُ الْحَاجَّ, وَرَأَى فِيهَا عَمْرَو بْنَ لُحَيٍّ يَجُرُّ قَصَبَهُ فِي النَّارِ, وَرَأَى الْمَرْأَةَ التي تعذب في هِرَّةً حَبَسَتْهَا, وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَمْ أَرَ مَنْظَرًا كَالْيَوْمِ أَفْظَعَ" 2. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَالسُّنَنِ وَالْمُسْنَدِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ أَرْسَلَ جِبْرَائِيلَ إِلَى الْجَنَّةِ، فَقَالَ اذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَيْهَا وَإِلَى مَا أَعْدَدْتُ لِأَهْلِهَا فِيهَا فَذَهَبَ فَنَظَرَ إِلَيْهَا وَإِلَى مَا أَعَدَّ اللَّهُ لِأَهْلِهَا فِيهَا فَرَجَعَ فَقَالَ وَعِزَّتِكَ لَا يَسْمَعُ بِهَا أَحَدٌ إِلَّا دَخَلَهَا، فَأَمَرَ بِالْجَنَّةِ فَحُفَّتْ بِالْمَكَارِهِ، فَقَالَ ارْجِعْ فَانْظُرْ إِلَيْهَا وَإِلَى مَا أَعْدَدْتُ لِأَهْلِهَا فِيهَا قَالَ فَنَظَرَ إِلَيْهَا ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ وَعِزَّتِكَ لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ لَا يَدْخُلَهَا أَحَدٌ قَالَ ثُمَّ أَرْسَلَهُ إِلَى النَّارِ قَالَ اذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَيْهَا وَإِلَى مَا أَعْدَدْتُ لِأَهْلِهَا فِيهَا، قَالَ فَنَظَرَ إِلَيْهَا فَإِذَا هِيَ يَرْكَبُ بَعْضُهَا بَعْضًا ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ وَعِزَّتِكَ لَا يَدْخُلُهَا أَحَدٌ سَمِعَ بِهَا فَأَمَرَ بِهَا فَحُفَّتْ بِالشَّهَوَاتِ ثُمَّ قَالَ اذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَى مَا أَعْدَدْتُ لِأَهْلِهَا فِيهَا فَذَهَبَ فَنَظَرَ إِلَيْهَا فَرَجَعَ فَقَالَ وَعِزَّتِكَ لَقَدْ خَشَيْتُ أَنْ لَا يَنْجُوَ مِنْهَا أَحَدٌ إِلَّا دَخَلَهَا" 3.
دوامهما وبقاؤهما بإبقاء الله لهما
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَحَادِيثِ عَذَابِ الْقَبْرِ وَأَحْوَالِ الْبَرْزَخِ ذكر الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَرُؤْيَةِ كُلِّ مَنْزِلَةٍ فِيهَا وَعَرْضِ مَقْعَدِهِ عَلَيْهِ وفتح باب أحدهما إِلَيْهِ وَأَنَّ أَرْوَاحَ الْمُؤْمِنِينَ فِي عِلِّيِّينَ وَأَرْوَاحَ الْفُجَّارِ فِي سِجِّينٍ وَغَيْرِ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْآيَاتِ الصَّرِيحَةِ وَالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ مَا لَا يُحْصَى, وَإِلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِنَا مَوْجُودَتَانِ. الْبَحْثُ الثَّالِثُ فِي دَوَامِهِمَا وَبَقَائِهِمَا بِإِبْقَاءِ اللَّهِ لَهُمَا وَأَنَّهُمَا لَا تَفْنَيَانِ أَبَدًا وَلَا يَفْنَى مَنْ فِيهِمَا: وَإِلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِنَا لَا فَنَاءَ لَهُمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْجَنَّةِ {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التَّوْبَةِ: 100] وَقَالَ تَعَالَى: {لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الْحِجْرِ: 48] وَقَالَ تَعَالَى: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هُودٍ: 108] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} [ص: 54] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ} إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الدُّخَانِ: 51-57] وَقَالَ تَعَالَى: {لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ} [الْوَاقِعَةِ: 33] وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ, فَأَخْبَرَ تَعَالَى بِأَبَدِيَّتِهَا بِقَوْلِهِ: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} [ص: 54] وَأَبَدِيَّةِ حَيَاةِ أَهْلِهَا بِقَوْلِهِ: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} [الدُّخَانِ: 56] وَعَدَمِ انْقِطَاعِهَا عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: {لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ} {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [الواقعة: 33] وَبِعَدَمِ خُرُوجِهِمْ بِقَوْلِهِ: {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الْحِجْرِ: 48] وَكَذَلِكَ النَّارُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [النِّسَاءِ: 168] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} [الْأَحْزَابِ: 64] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ
خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} (الْجِنِّ: 23) وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} [الْفُرْقَانِ: 65 66] وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [التَّوْبَةِ: 68] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [الْبَقَرَةِ: 167] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزُّخْرُفِ: 74-77] الْآيَاتِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فَاطِرٍ: 36 37] وَقَالَ تَعَالَى: {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} [الْمُؤْمِنُونَ: 106-108] وَقَالَ تَعَالَى: {أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ} [الشُّورَى: 45] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى} [طه: 74] وَقَالَ تَعَالَى: {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى} [الْأَعْلَى: 10-13] وَقَالَ تَعَالَى: {لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} إِلَى قَوْلِهِ: {فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا} [النَّبَأِ: 23-30] وَغَيْرُ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ, فَأَخْبَرَنَا تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَاتِ وَأَمْثَالِهَا أَنَّ أَهْلَ النَّارِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُهَا خُلِقَتْ لَهُمْ وَخُلِقُوا لَهَا وَأَنَّهُمْ خَالِدُونَ فِيهَا أَبَدَ الْآبِدِينَ وَدَهْرَ الدَّاهِرِينَ, لَا فِكَاكَ لَهُمْ مِنْهَا وَلَا خَلَاصَ, وَلَاتَ حِينَ مَنَاصِ فَأَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ أَبَدِيَّتِهِمْ فِيهَا بِقَوْلِهِ: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} وَنَفَى تَعَالَى خُرُوجَهُمْ مِنْهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [الْبَقَرَةِ: 167] وَنَفَى تَعَالَى انْقِطَاعَهَا عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} [فَاطِرٍ: 36] وَقَالَ تَعَالَى: {لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ} [الزُّخْرُفِ: 75] ونفى فناءهم فيما بعد بِقَوْلِهِ
حديث يؤتى بالموت يوم القيامة كهيئة كبش أملح فيذبح
عَزَّ وَجَلَّ: (ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا) (الْأَعْلَى: 13) وَقَوْلِهِ: (كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ) [النِّسَاءِ: 56] وَقَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ} [مَرْيَمَ: 39] حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يُؤْتَى بِالْمَوْتِ كَهَيْئَةِ كَبْشٍ أَمْلَحَ, فَيُنَادِي مُنَادٍ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ، فَيَقُولُ هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا فَيَقُولُونَ نَعَمْ هَذَا الْمَوْتُ، وَكُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ ثُمَّ يُنَادِي يَا أَهْلَ النَّارِ فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ فَيَقُولُ هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا فَيَقُولُونَ نَعَمْ هَذَا الْمَوْتُ، وَكُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ فَيُذْبَحُ ثُمَّ يَقُولُ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ وَيَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ", ثُمَّ قَرَأَ: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ} [مَرْيَمَ: 39] وَهَؤُلَاءِ فِي غَفْلَةِ أَهْلِ الدُّنْيَا وَهُمْ لَا يُؤَمِّنُونَ" 1 وَوَافَقَهُ عَلَى إِخْرَاجِهِ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ هَذَا. وَأَخْرَجَاهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا صَارَ أَهْلُ الْجَنَّةِ إِلَى الْجَنَّةِ وَأَهْلُ النَّارِ إِلَى النَّارِ, جِيءَ بِالْمَوْتِ حَتَّى يُجْعَلَ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ ثُمَّ يُذْبَحُ, ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ لَا مَوْتَ وَيَا أَهْلَ النَّارِ لَا مَوْتَ, فَيَزْدَادُ أَهْلُ الْجَنَّةِ فَرَحًا إِلَى فَرَحِهِمْ وَيَزْدَادُ أَهْلُ النَّارِ حُزْنًا إِلَى حُزْنِهِمْ" 2. وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ هُوَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يُدْخِلُ اللَّهُ أَهْلَ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ وَأَهْلَ النَّارِ النَّارَ, ثُمَّ يَقُومُ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ فَيَقُولُ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ لَا مَوْتَ وَيَا أَهْلَ النَّارِ لَا مَوْتَ, كُلٌّ خَالِدٌ فِيمَا هُوَ
إخراج عصاة الموحدين من النار بعد أن تمسهم بقدر ذنوبهم
فِيهِ"1. وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ دُونَ قَوْلِهِ كُلٌّ خَالِدٌ إِلَخْ. وَلَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله نه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يُقَالُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ خُلُودٌ لَا مَوْتَ وَلِأَهْلِ النَّارِ يَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ لَا مَوْتَ" 2. وَقَالَ مُسْلِمٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيِّ حَدَّثَنَا بِشْرٌ يَعْنِي ابْنَ الْمُفَضَّلِ عَنْ أَبِي مَسْلَمَةَ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رسول الله صلى الله عليه: "أَمَّا أَهْلُ النَّارِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُهَا فَإِنَّهُمْ لَا يَمُوتُونَ فِيهَا وَلَا يُحْيَوْنَ, وَلَكِنْ نَاسٌ أَصَابَتْهُمُ النَّارُ بِذُنُوبِهِمْ -أَوْ قَالَ بِخَطَايَاهُمْ- فَأَمَاتَهُمْ إِمَاتَةً حَتَّى إِذَا كَانُوا فَحْمًا أَذِنَ بِالشَّفَاعَةِ فَجِيءَ بِهِمْ ضَبَائِرَ ضَبَائِرَ فَبُثُّوا عَلَى أَنْهَارِ الْجَنَّةِ، ثُمَّ قِيلَ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ أَفِيضُوا عَلَيْهِمْ, فَيَنْبُتُونَ نَبَاتَ الْحَبَّةِ تَكُونُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ" فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ كَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَانَ بِالْبَادِيَةِ"3, وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ طُرُقٍ بِأَلْفَاظٍ مُتَقَارِبَةٍ نَحْوَ هَذَا اللَّفْظِ, وَفِي الْبَابِ آيَاتٌ وَأَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ غَيْرَ مَا ذَكَرْنَا وَفِي هَذَا الْقَدْرِ كِفَايَةٌ, وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. [إِخْرَاجُ: عُصَاةِ الْمُوَحِّدِينَ مِنَ النَّارِ] : نَعَمْ جَاءَتِ الْأَحَادِيثُ الصَّرِيحَةُ بِإِخْرَاجِ عُصَاةِ الْمُوَحِّدِينَ الَّذِينَ تَمَسُّهُمُ النَّارُ بِقَدْرِ جِنَايَتِهِمْ, وَأَنَّهُمْ يَخْرُجُونَ مِنْهَا بِرَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى ثُمَّ بِشَفَاعَةِ الشَّافِعِينَ كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ قَرِيبًا, وَأَنَّ هَؤُلَاءِ الْعُصَاةَ يُسْكِنُونَ الطَّبَقَةَ الْعُلْيَا مِنَ النَّارِ عَلَى تَفَاوُتِهِمْ فِي مِقْدَارِ مَا تَأْخُذُ مِنْهُمْ وَجَاءَ فِيهَا آثَارٌ أَنَّ هَذِهِ الطَّبَقَةَ تَفْنَى بَعْدَهُمْ إِذَا أُخْرِجُوا مِنْهَا وَأُدْخِلُوا الْجَنَّةَ وَأَنَّهَا لَيَأْتِيَنَّ عَلَيْهَا يَوْمٌ وَهِيَ تُصَفِّقُ فِي أَبْوَابِهَا لَيْسَ بِهَا أَحَدٌ4, وَعَلَى ذَلِكَ حَمَلَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ الِاسْتِثْنَاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَّا مَا
ما قالته اليهود في النار
شَاءَ رَبُّكَ} الْآيَةَ. وَعَلَى ذَلِكَ يُحْمَلُ مَا وَرَدَ مِنْ آثَارِ الصَّحَابَةِ. وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْوَابِلُ الصَّيِّبُ قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَمَّا كَانَ النَّاسُ ثَلَاثَ طَبَقَاتٍ طَيِّبٌ لَا يَشُوبُهُ خَبَثٌ وَخَبِيثٌ لَا طِيبَ فِيهِ، وَآخَرُونَ فِيهِمْ خَبَثٌ وَطِيبٌ, كانت دورهم ثلاثا دَارُ الطَّيِّبِ الْمَحْضِ وَدَارُ الْخَبِيثِ الْمَحْضِ -وَهَاتَانِ الدَّارَانِ لَا تَفْنَيَانِ- وَدَارٌ لِمَنْ مَعَهُ خَبَثٌ وَطِيبٌ وَهِيَ الدَّارُ الَّتِي تَفْنَى وَهِيَ دَارُ الْعُصَاةِ, فَإِنَّهُ لَا يَبْقَى فِي جَهَنَّمَ مِنْ عُصَاةِ الْمُوَحِّدِينَ أَحَدٌ, فَإِنَّهُمْ إِذَا عُذِّبُوا بِقَدْرِ جَزَائِهِمْ أُخْرِجُوا مِنَ النَّارِ فَأُدْخِلُوا الْجَنَّةَ وَلَا يَبْقَى إِلَّا دَارُ الطَّيِّبِ الْمَحْضِ وَدَارُ الْخَبِيثِ الْمَحْضِ1 انْتَهَى كَلَامُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَصْلٌ: [مَا قَالَتْهُ الْيَهُودُ فِي النَّارِ] قَالَتِ الْيَهُودُ قَبَّحَهُمُ اللَّهُ إِنَّ النَّارَ يَدْخُلُهَا قَوْمٌ مِنَ الْكُفَّارِ وَيَخْرُجُونَ مِنْهَا بَعْدَ أَيَّامٍ ثُمَّ يَخْلِفُهُمْ آخَرُونَ كَمَا قَصَّ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ عَنْهُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ, إِذْ يَقُولُ تَعَالَى: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} [الْبَقَرَةِ: 80] ثُمَّ رَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الْبَقَرَةِ: 80-82] وَقَالَ تَعَالَى: فِي آلِ عِمْرَانَ {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ فَكَيْفَ إِذَا
جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} (آلِ عِمْرَانَ: 24 - 25) وَقَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لَمَّا فُتِحَتْ خَيْبَرُ أُهْدِيَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شَاةٌ فِيهَا سُمٌّ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اجْمَعُوا لِي من كان ههنا مَنْ الْيَهُودِ" فَجَمَعُوا لَهُ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنِّي سَائِلُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَهَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيَّ عَنْهُ" فَقَالُوا: نَعَمْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ أَبُوكُمْ" قَالُوا أَبُونَا فُلَانٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كَذَبْتُمْ, بَلْ أَبُوكُمْ فُلَانٌ" فَقَالُوا: صَدَقْتَ وَبَرِرْتَ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيَّ عَنْ شَيْءٍ إِنْ سَأَلْتُكُمْ عَنْهُ" فَقَالُوا نَعَمْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، وَإِنْ كَذَّبْنَاكَ عَرَفْتَ كِذْبَنَا كَمَا عَرَفْتَهُ لِأَبِينَا, قَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ أَهْلُ النَّارِ" فَقَالُوا نَكُونُ فِيهَا يَسِيرًا ثُمَّ تَخْلُفُونَنَا فِيهَا، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اخْسَئُوا فِيهَا وَاللَّهِ لَا نَخْلُفُكُمْ فِيهَا أَبَدًا" ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: "فَهَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيَّ عَنْ شَيْءٍ إِنْ سَأَلْتُكُمْ عَنْهُ" قَالُوا: نَعَمْ فَقَالَ: "هَلْ جَعَلْتُمْ فِي هَذِهِ الشَّاةِ سُمًّا" فَقَالُوا: نَعَمْ فَقَالَ: "مَا حَمَلَكُمْ عَلَى ذَلِكَ" فَقَالُوا أَرَدْنَا إِنْ كُنْتَ كَذَّابًا نَسْتَرِيحُ مِنْكَ, وَإِنْ كُنْتَ نَبِيًّا لَمْ يَضُرَّكَ1. وَقَالَ ابْنُ عَرَبِيٍّ إمام الاتحادية محيي الزَّنْدَقَةِ وَالْإِلْحَادِ فِي آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى إِنَّ أَهْلَهَا يُعَذَّبُونَ فِيهَا ثُمَّ تَنْقَلِبُ طَبِيعَتُهُمْ وَتَبْقَى طَبِيعَةُ النَّارِيَّةِ يَتَلَذَّذُونَ بِهَا لِمُوَافَقَتِهَا طَبْعَهُمْ2. وَقَالَ الْجَهْمُ وَشِيعَتُهُ إِنَّ الْجَنَّةَ والنار تفنيان كلتاهما لِأَنَّهُمَا حَادِثَتَانِ, وَمَا ثَبَتَ حُدُوثُهُ اسْتَحَالَ بَقَاؤُهُ, بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ الْفَاسِدِ فِي مَنْعِ تَسَلْسُلِ الْحَوَادِثِ وَبَقَائِهَا بِإِبْقَاءِ اللَّهِ تَعَالَى لَهَا. وَقَالَ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ والقدرية، لم تكونا الْآنَ مَوْجُودَتَيْنِ بَلْ يُنْشِئُهُمَا اللَّهُ
أبيات من نونية ابن القيم عن عقيدة جهم في النار
تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَحَمَلَهُمْ عَلَى ذَلِكَ أَصْلُهُمُ الْفَاسِدُ الَّذِي وَضَعُوا بِهِ شَرِيعَةً لِمَا يَفْعَلُهُ اللَّهُ وَأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَفْعَلَ كَذَا وَلَا يَنْبَغِيَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ كَذَا, قِيَاسًا لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى خَلْقِهِ فِي أَفْعَالِهِمْ, فَهُمْ مُشَبِّهَةٌ فِي الْأَفْعَالِ, وَدَخَلَ التَّجْسِيمُ فِيهِمْ فَصَارُوا مَعَ ذَلِكَ مُعَطِّلَةً وَقَالُوا خَلْقُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ قَبْلَ الْجَزَاءِ عَبَثٌ لِأَنَّهَا تَصِيرُ مُعَطَّلَةً مُدَدًا مُتَطَاوِلَةً, فَرَدُّوا مِنْ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَا خَالَفَ هَذِهِ الشَّرِيعَةَ الْبَاطِلَةَ الَّتِي وَضَعُوهَا لِلرَّبِّ تَعَالَى وَحَرَّفُوا النُّصُوصَ عَنْ مَوَاضِعِهَا وَضَلَّلُوا وَبَدَّعُوا مَنْ خَالَفَ شَرِيعَتَهُمْ, قَبَّحَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ أَبُو الْهُذَيْلِ الْعَلَّافُ تَفْنَى حَرَكَاتُ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَيَصِيرُونَ جَمَادًا لَا يُحِسُّونَ بِنَعِيمٍ وَلَا أَلَمٍ وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ مُخَالِفَةٌ لِصَحِيحِ الْمَعْقُولِ وَصَرِيحِ الْمَنْقُولِ, وَمُحَادَّةٌ وَمُشَاقَّةٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَلِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وَتَقْدِيمٌ لِلْعُقُولِ السَّخِيفَةِ وَزُبَالَةُ الْأَذْهَانِ الْبَعِيدَةِ وَالْقُلُوبِ الشَّقِيَّةِ الطَّرِيدَةِ, وَزَخَارِفُ فَاسِدِي السِّيرَةِ وَالسَّرِيرَةِ وَالظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ وَالْعَمَلِ وَالْعَقِيدَةِ وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي نُونِيَّتِهِ الْكَافِيَةِ الشَّافِيَةِ, فِي أَثْنَاءِ حِكَايَتِهِ عَقِيدَةَ جَهْمٍ وَشِيعَتِهِ, دَمَّرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى وَقَضَى بِأَنَّ اللَّهَ كَانَ مُعَطَّلًا ... وَالْفِعْلُ مُمْتَنِعٌ بِلَا إِمْكَانِ ثُمَّ اسْتَحَالَ وَصَارَ مَقْدُورًا لَهُ ... مِنْ غَيْرِ أَمْرٍ قَامَ بِالدَّيَّانِ بَلْ حَالُهُ سُبْحَانَهُ فِي ذَاتِهِ ... قَبْلَ الْحُدُوثِ وَبَعْدَهُ سِيَّانِ وَقَضَى بِأَنَّ النَّارَ لَمْ تُخْلَقْ وَلَا ... جَنَّاتُ عَدْنٍ بَلْ هُمَا عَدَمَانِ فَإِذَا هُمَا خُلِقَا لِيَوْمِ مَعَادِنَا ... فَهُمَا عَلَى الْأَوْقَاتِ فَانِيَتَانِ وَتَلَطَّفَ الْعَلَّافُ مِنْ أَتْبَاعِهِ ... فَأَتَى بِضِحْكَةِ جَاهِلٍ مَجَّانِ قَالَ الْفَنَاءُ يَكُونُ فِي الْحَرَكَاتِ لَا ... فِي الذَّاتِ وَاعَجَبًا لِذَا الْهَذَيَانِ أَيَصِيرُ أَهْلُ الْخُلْدِ فِي جَنَّاتِهِمْ ... وَجَحِيمِهِمْ كَحِجَارَةِ الْبُنْيَانِ مَا حَالُ مَنْ قَدْ كَانَ يَغْشَى أَهْلَهُ ... عِنْدَ انْقِضَاءِ تَحَرُّكِ الْحَيَوَانِ وَكَذَاكَ مَا حَالُ الَّذِي رَفَعَتْ يَدَا ... هُ أَكْلَةً مِنْ صَحْفَةٍ وَخِوَانِ فَتَنَاهَتِ الْحَرَكَاتُ قَبْلَ وُصُولِهَا ... لِلْفَمِّ عِنْدَ تَفَتُّحِ الْأَسْنَانِ وَكَذَاكَ مَا حَالُ الَّذِي امْتَدَّتْ يَدٌ ... مِنْهُ إِلَى قِنْوٍ مِنَ الْقِنْوَانِ
فَتَنَاهَتِ الْحَرَكَاتُ قَبْلَ الْأَخْذِ هَلْ ... يَبْقَى كَذَلِكَ سَائِرُ الْأَزْمَانِ تَبًّا لَهَاتِيكَ الْعُقُولِ فَإِنَّهَا ... وَاللَّهِ قَدْ مُسِخَتْ عَلَى الْأَبْدَانِ تَبًّا لِمَنْ أَضْحَى يُقَدِّمُهَا عَلَى الْـ ... آثَارِ وَالْأَخْبَارِ وَالْقُرْآنِ
فصل فيما جاء في الحوض والكوثر
فَصْلٌ: فِيمَا جَاءَ فِي الْحَوْضِ وَالْكَوْثَرِ وَحَوْضُ خَيْرِ الْخَلْقِ حَقٌّ وَبِهِ ... يَشْرَبُ فِي الْأُخْرَى جَمِيعُ حِزْبِهِ وَحَوْضُ خَيْرِ الْخَلْقِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ الْكَوْثَرُ الَّذِي أَعْطَاهُ رَبُّهُ عَزَّ وَجَلَّ حَقٌّ لَا مِرْيَةَ فِيهِ وَبِهِ بِالْحَوْضِ يَشْرَبُ أَيْ يُرْوَى وَلِذَا عُدِّيَ بِالْبَاءِ دُونَ مَنْ لتضمن الشرب ههنا مَعْنَى الرَّيِّ فِي الْأُخْرَى أَيْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ وَجَمِيعُ حِزْبِهِ وَهُمْ أُمَّةُ الْإِجَابَةِ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَصَدَّقُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أَنْزَلَهُ مَعَهُ, قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} [الْكَوْثَرِ] وَرَوَى الْبُخَارِيُّ بِسَنَدِهِ إِلَى أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ فِي الْكَوْثَرِ هُوَ الْخَيْرُ الَّذِي أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ, قَالَ أَبُو بِشْرٍ قُلْتُ لِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فَإِنَّ النَّاسَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ نَهْرٌ فِي الْجَنَّةِ فَقَالَ سَعِيدٌ النَّهْرُ الَّذِي فِي الْجَنَّةِ مِنَ الْخَيْرِ الَّذِي أَعْطَاهُ الله إياه1 اهـ وَقَدْ وَرَدَ فِي ذِكْرِ الْحَوْضِ وَتَفْسِيرِ الْكَوْثَرِ بِهِ وَإِثْبَاتِهِ وَصَفْتِهِ مِنْ طُرُقِ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاشْتَهَرَ، وَاسْتَفَاضَ بَلْ تَوَاتَرَ فِي كُتُبِ السُّنَّةِ مِنَ الصِّحَاحِ وَالْحِسَانِ وَالْمَسَانِيدِ وَالسُّنَنِ فَمِمَّنْ رَوَى ذَلِكَ عَنْهُ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَحَارِثَةُ بْنُ وَهْبٍ وَجُنْدَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَسَهْلُ بْنُ سَعْدٍ وَعَائِشَةُ وَعَقَبَةُ بْنُ عَامِرٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو وَابْنُ عَبَّاسٍ وَأَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ وَثَوْبَانُ وَأَبُو ذَرٍّ وَأُمُّ سَلَمَةَ وَجَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ وَزَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ وَسَمُرَةُ بْنُ جُنْدَبَ وَحُذَيْفَةُ وَأَبُو بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيُّ وَالْمُسْتَوْرِدُ بْنُ شَدَّادٍ وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ
فَأَمَّا عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فَقَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لِمَا عُرِجَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى السَّمَاءِ قَالَ: "أَتَيْتُ عَلَى نَهْرٍ حَافَّتَاهُ قِبَابُ اللُّؤْلُؤِ الْمُجَوَّفِ فَقُلْتُ مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ قَالَ: هَذَا الْكَوْثَرُ" 1. وَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحَدَّثَنَا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا هَمَّامُ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "بَيْنَمَا أَنَا أَسِيرُ فِي الْجَنَّةِ إِذْ أَنَا بِنَهْرٍ حَافَّتَاهُ قِبَابُ الدُّرِّ الْمُجَوَّفِ قُلْتُ مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ قَالَ: هَذَا الْكَوْثَرُ الَّذِي أَعْطَاكَ رَبُّكَ, فَإِذَا طِينُهُ -أَوْ طِيبُهُ- مِسْكٌ أَذْفَرُ" 2 شَكَّ هُدْبَةُ. وَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إِنَّ قَدْرَ حَوْضِي كَمَا بَيْنَ أَيْلَةَ وَصَنْعَاءَ مِنَ الْيَمَنِ, وَإِنَّ فِيهِ مِنَ الْأَبَارِيقِ بِعَدَدِ نُجُومِ السَّمَاءِ" 3 وَوَافَقَهُ عَلَى إِخْرَاجِهِ مُسْلِمٌ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَبِلَفْظِ: "مَا بَيْنَ نَاحِيَتَيْ حَوْضِي كَمَا بَيْنَ صَنْعَاءَ وَالْمَدِينَةِ" وَبِلَفْظِ تَرَى فِيهِ أَبَارِيقَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ كَعَدَدِ نُجُومِ السَّمَاءِ4. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَيَرِدَنَّ عَلَيَّ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِي الْحَوْضَ حَتَّى إِذَا عَرَفْتُهُمُ اخْتُلِجُوا دُونِي, فَأَقُولُ أَصْحَابِي، فَيَقُولُ: لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ" 5 وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ بِلَفْظِ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَيَرِدَنَّ عَلَيَّ الْحَوْضَ رِجَالٌ مِمَّنْ صَاحَبَنِي حَتَّى إِذَا رَأَيْتُهُمْ وَرُفِعُوا إِلَيَّ اخْتُلِجُوا دُونِي
فَلَأَقُولَنَّ أَيْ رَبِّ أَصْحَابِي، فَلَيُقَالَنَّ لِي إنك لا ندري مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ" 1. وَأَمَّا عَنِ ابْنِ عُمَرَ فَقَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ حَدَّثَنِي نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "أَمَامَكُمْ حَوْضٌ كَمَا بَيْنَ جَرْبَاءَ وَأَذْرُحَ" 2 وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ بِلَفْظِ: "مَا بَيْنَ نَاحِيَتَيْهِ كَمَا بَيْنَ جَرْبَاءَ وَأَذْرُحَ" 3 وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ فِيهِ: "أَبَارِيقُ كَنُجُومِ السَّمَاءِ, مَنْ وَرَدَهُ فَشَرِبَ مِنْهُ لَا يَظْمَأُ بَعْدَهَا أَبَدًا" 3 زَادَ فِي أُخْرَى قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ: "قَرْيَتَيْنِ بِالشَّامِ بَيْنَهُمَا مَسِيرَةُ ثَلَاثِ لَيَالٍ" 3. وَأَمَّا عَنْ حَارِثَةَ بْنِ وَهْبٍ فَقَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا حَرَمِيُّ بْنُ عِمَارَةَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مَعْبَدِ بْنِ خَالِدٍ أَنَّهُ سَمِعَ حَارِثَةَ بْنَ وَهْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرَ الْحَوْضَ فَقَالَ: "كَمَا بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَصَنْعَاءَ" وَزَادَ ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ مَعْبَدِ بْنِ خَالِدٍ عَنْ حَارِثَةَ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلَهُ: "حَوْضُهُ مَا بَيْنَ صَنْعَاءَ وَالْمَدِينَةِ" فَقَالَ لَهُ الْمُسْتَوْرِدُ أَلَمْ تَسْمَعْهُ قَالَ الْأَوَانِي قَالَ لَا, قَالَ الْمُسْتَوْرِدُ تُرَى فِيهِ الْآنِيَةُ مِثْلَ الْكَوَاكِبِ4, وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ بِهَذَا اللَّفْظِ. وَأَمَّا عَنْ جُنْدَبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ شُعْبَةَ عَنْ عَبْدِ الْمَلَكِ قَالَ سَمِعْتُ جُنْدَبًا قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ" 5 وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ هَكَذَا. وَأَمَّا عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ فَقَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا محمد بن مطوف حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ قَالَ
النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "أني فرطكم فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ، مَنْ مَرَّ عَلَيَّ شَرِبَ، وَمَنْ شَرِبَ لَمْ يَظْمَأْ أَبَدًا. لَيَرِدَنَّ عَلَيَّ أقوام أعرفهم، ويعرفونني ثُمَّ يُحَالُ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ" قَالَ أَبُو حَازِمٍ فَسَمِعَنِي النُّعْمَانُ بْنُ أَبِي عَيَّاشٍ فَقَالَ: هَكَذَا سَمِعْتُ مِنْ سَهْلٍ فَقُلْتُ: نَعَمْ فَقَالَ أَشْهَدُ عَلَى أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ لَسَمِعْتُهُ هُوَ يَزِيدُ فِيهَا فَأَقُولُ إِنَّهُمْ مِنِّي فَيُقَالُ: "إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ, فَأَقُولُ سُحْقًا سُحْقًا لِمَنْ غَيَّرَ بَعْدِي" وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ وَفِيهِ: "لِمَنْ بَدَّلَ بَعْدِي" 1. وَأَمَّا عَنْ عَائِشَةَ فَقَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ الْكَاهِلِيُّ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَ سَأَلْتُهَا عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الْكَوْثَرِ: 1] قَالَتْ نَهْرٌ أُعْطِيَهُ نَبِيُّكُمْ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شَاطِئَاهُ عَلَيْهِ دُرٌّ مُجَوَّفٌ, آنِيَتُهُ كَعَدَدِ النُّجُومِ2. وَقَالَ مُسْلِمٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ عَنِ ابْنِ خُثَيْمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّهُ سَمِعَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "وَهُوَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ أَصْحَابِهِ إِنِّي عَلَى الْحَوْضِ أَنْتَظِرُ مَنْ يَرِدُ عَلَيَّ مِنْكُمْ, فَوَاللَّهِ لَيُقْتَطَعَنَّ دُونِي رِجَالٌ فَلَأَقُولَنَّ أَيْ رَبِّ مِنِّي، وَمِنْ أُمَّتِي فَيَقُولُ إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا عَمِلُوا بَعْدَكَ, مَا زَالُوا يَرْجِعُونَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ" 3. وَأَمَّا عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ فَقَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يَزِيدَ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ عَنْ عُقْبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَرَجَ يَوْمًا فَصَلَّى عَلَى أَهْلِ أُحُدٍ صَلَاتَهُ عَلَى الْمَيِّتِ, ثُمَّ انْصَرَفَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ: "إِنِّي فَرَطٌ لَكُمْ وَأَنَا شَهِيدٌ عَلَيْكُمْ, وَإِنِّي وَاللَّهِ لَأَنْظُرُ إِلَى حَوْضِي الْآنَ، وَإِنِّي أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ الْأَرْضِ -أَوْ مَفَاتِيحَ الْأَرْضِ- وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا أَخَافُ أَنْ تُشْرِكُوا بَعْدِي, وَلَكِنْ أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنَافَسُوا فِيهَا" 4, وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ بِهَذَا اللَّفْظِ وَبِلَفْظِ.
"صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَى قَتْلَى أُحُدٍ، ثُمَّ صعد المنبر كالموع لِلْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ فَقَالَ: "إِنِّي فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ, وَإِنَّ عَرْضَهُ كَمَا بَيْنَ أَيْلَةَ إِلَى الْجُحْفَةِ إِنِّي لَسْتُ أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُشْرِكُوا بَعْدِي وَلَكِنِّي أَخْشَى عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا أَنْ تَنَافَسُوا فِيهَا وَتَقْتَتِلُوا, فَتَهْلِكُوا كَمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ" قَالَ عُقْبَةُ: وَكَانَتْ آخِرَ مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى الْمِنْبَرِ1. وَأَمَّا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فَقَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ شَقِيقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ2. وَحَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنِ الْمُغِيرَةِ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ, وَلَيُرْفَعَنَّ رِجَالٌ مِنْكُمْ ثُمَّ لَيُخْتَلَجُنَّ دُونِي فَأَقُولُ يَا رَبِّ أَصْحَابِي فَيُقَالُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ" تَابَعَهُ عَاصِمٌ عَنْ أَبِي وَائِلٍ وَقَالَ حُصَيْنٌ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ حُذَيْفَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ3 وَرَوَى مُسْلِمٌ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ بِلَفْظِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ وَلَأُنَازِعَنَّ أَقْوَامًا ثُمَّ لَأَغْلِبَنَّ عَلَيْهِمْ، فَأَقُولُ يَا رَبِّ أَصْحَابِي أَصْحَابِي فَيُقَالُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ" 4 وَأَشَارَ إِلَى حَدِيثِ حُذَيْفَةَ بِنَحْوِ رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ وَمُغِيرَةَ. وَأَمَّا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ الْحِزَامِيُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُلَيْحٍ حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ حَدَّثَنَا هِلَالٌ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "بَيْنَا أَنَا قَائِمٌ فَإِذَا زُمْرَةٌ حَتَّى إِذَا
عَرَفْتُهُمْ خَرَجَ رجل من بني فَقَالَ هلم، قال هَلُمَّ، فَقُلْتُ إِلَى أَيْنَ؟ قَالَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهِ، قُلْتُ وَمَا شَأْنُهُمْ، قَالَ إِنَّهُمُ ارْتَدَوْا عَلَى أَدْبَارِهِمُ الْقَهْقَرَى، ثُمَّ إِذَا زُمْرَةٌ حَتَّى إِذَا عَرَفْتُهُمْ خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ بَيْنِي وَبَيْنِهِمْ قَالَ هَلُمَّ، قُلْتُ إِلَى أَيْنَ؟ قَالَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهِ، قُلْتُ مَا شَأْنُهُمْ، قَالَ إِنَّهُمُ ارْتَدَوْا عَلَى أَدْبَارِهِمُ الْقَهْقَرَى فَلَا أَرَاهُ يَخْلُصُ مِنْهُمْ إِلَّا مِثْلُ هَمَلِ النَّعَمِ" 1. وَلَهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "يَرِدُ عَلَيَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَهْطٌ من أصحابي فيحلأون عَنِ الْحَوْضِ فَأَقُولُ يَا رَبِّ أَصْحَابِي فَيَقُولُ إِنَّكَ لَا عِلْمَ لَكَ بِمَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ, إِنَّهُمُ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمُ الْقَهْقَرَى" 2 وَلَهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ, وَمِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي" 3. وَقَالَ مُسْلِمٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَلَّامٍ الْجُمَحِيُّ حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ يَعْنِي ابْنَ مُسْلِمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "لَأَذُودَنَّ عَنْ حَوْضِي رِجَالًا كَمَا تُذَادُ الْغَرِيبَةُ مِنَ الْإِبِلِ" 4. وَلَهُ عَنْ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ حَوْضِي أَبْعَدُ مِنْ أَيْلَةَ مِنْ عَدَنَ, لَهُوَ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ الثَّلْجِ وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ بِاللَّبَنِ, وَلَآنِيَتُهُ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ النُّجُومِ, وَإِنِّي لَأَصُدُّ النَّاسَ عَنْهُ كَمَا يَصُدُّ الرَّجُلُ إِبِلَ النَّاسِ عَنْ حَوْضِهِ" قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَعْرِفُنَا يَوْمَئِذٍ قَالَ: "نَعَمْ لَكُمْ سِيمَا لَيْسَتْ لِأَحَدٍ مِنَ الْأُمَمِ, تَرِدُونَ عَلَيَّ غَرَّا مُحَجَّلِينَ مِنْ أَثَرِ الْوُضُوءِ" 5. وَأَمَّا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَقَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى حَدَّثَنَا
سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا نَافِعُ بْنُ عُمَرَ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "حَوْضِي مَسِيرَةُ شَهْرٍ, مَاؤُهُ أَبْيَضُ مِنَ اللَّبَنِ، وَرِيحُهُ أَطْيَبُ مِنَ الْمِسْكِ وَكِيزَانُهُ كَنُجُومِ السَّمَاءِ, من شرب منه فَلَا يَظْمَأُ أَبَدًا" 1 وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ بِلَفْظِ: "حَوْضِي مَسِيرَةُ شَهْرٍ وَزَوَايَاهُ سَوَاءٌ, وَمَاؤُهُ أَبْيَضُ مِنَ الْوَرِقِ، وَرِيحُهُ أَطْيَبُ مِنَ الْمِسْكِ، وَكِيزَانُهُ كَنُجُومِ السَّمَاءِ, فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَا يَظْمَأُ بَعْدَهُ أَبَدًا" 2. وَأَمَّا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَهُوَ مَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْبَابِ, وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "الْكَوْثَرُ نَهْرٌ فِي الْجَنَّةِ, حَافَّتَاهُ مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ, يَجْرِي عَلَى الْيَاقُوتِ وَالدُّرِّ, مَاؤُهُ أَبْيَضُ مِنَ الثَّلْجِ وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ" 3. وَلَهُ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ قَالَ قَالَ لِي مُحَارِبُ بْنُ دِثَارٍ مَا قَالُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فِي الْكَوْثَرِ قُلْتُ حَدَّثَنَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ الْخَيْرُ الْكَثِيرُ, فَقَالَ صَدَقَ وَاللَّهِ إِنَّهُ لَلْخَيْرُ الْكَثِيرُ, وَلَكِنْ حَدَّثَنَا ابْنُ عُمَرَ قَالَ {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الْكَوْثَرِ: 1] قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْكَوْثَرُ نَهْرٌ فِي الْجَنَّةِ, حَافَّتَاهُ مِنْ ذَهَبٍ, يَجْرِي عَلَى الدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ" 4. وَأَمَّا عَنْ أَسْمَاءَ فَقَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ عَنْ نَافِعِ بْنِ عُمَرَ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنِّي عَلَى الْحَوْضِ حَتَّى أَنْظُرَ مَنْ يَرِدُ عَلَيَّ مِنْكُمْ, وَسَيُؤْخَذُ نَاسٌ دُونِي فَأَقُولُ يَا رَبِّ مِنِّي، وَمِنْ أُمَّتِي فَيُقَالُ هَلْ شَعَرْتَ مَا عَمِلُوا بَعْدَكَ وَاللَّهِ مَا بَرِحُوا يَرْجِعُونَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ" وَكَانَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ أَنْ نَرْجِعَ عَلَى أَعْقَابِنَا أَوْ نُفْتَنَ عَنْ دِينِنَا, وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ بِسَنَدِ حَدِيثِ.
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو مُتَّصِلًا بِمَتْنِهِ, وَلَفْظُهُ كَلَفْظِ الْبُخَارِيِّ1. وَأَمَّا عَنْ ثَوْبَانَ فَقَالَ مُسْلِمٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ الْمِسْمَعِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمَثْنَى وَابْنُ بَشَّارٍ وَأَلْفَاظُهُمْ مُتَقَارِبَةٌ قَالُوا حَدَّثَنَا مُعَاذٌ وَهُوَ ابْنُ هِشَامٍ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ قَتَادَةَ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ مَعْدَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ الْيَعْمَرِيِّ عَنْ ثَوْبَانَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إِنِّي لَبِعُقْرِ حَوْضِي أَذُودُ النَّاسَ لِأَهْلِ الْيَمَنِ, أَضْرِبُ بِعَصَايَ حَتَّى يَرْفَضَّ عَلَيْهِمْ" فَسُئِلَ عَنْ عَرْضِهِ فَقَالَ: "مِنْ مَقَامِي إِلَى عَمَّانَ" وَسُئِلَ عَنْ شَرَابِهِ فَقَالَ: "أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ يَغُتُّ فِيهِ مِيزَابَانِ يَمُدَّانِهِ مِنَ الْجَنَّةِ, أَحَدُهُمَا مَنْ ذَهَبٍ وَالْآخَرُ مِنْ وَرِقٍ" 2. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَنْبَأَنَا يَحْيَى بْنُ صَالِحٍ أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُهَاجِرٍ عَنِ الْعَبَّاسِ عَنْ أَبِي سَلَّامٍ الْحَبَشِيِّ: قَالَ بَعَثَ إِلَيَّ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَحُمِلْتُ عَلَى الْبَرِيدِ, فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَقَدْ شَقَّ عَلَيَّ مَرْكَبِي الْبَرِيدُ، فَقَالَ يَا أَبَا سَلَّامٍ: مَا أَرَدْتُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ، وَلَكِنْ بَلَغَنِي عَنْكَ حَدِيثٌ تُحَدِّثُهُ عَنْ ثَوْبَانَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَوْضِ, فَأَحْبَبْتُ أَنْ تُشَافِهَنِي بِهِ, قَالَ أَبُو سَلَّامٍ حَدَّثَنِي ثَوْبَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "حَوْضِي مِنْ عَدَنَ إِلَى عَمَّانَ الْبَلْقَاءِ, مَاؤُهُ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ, وَأَكْوَابُهُ 3 عَدَدُ نُجُومِ السَّمَاءِ, مَنْ شَرِبَ مِنْهُ لَمْ يَظْمَأْ بَعْدَهَا أَبَدًا, أَوَّلُ النَّاسِ وُرُودًا عَلَيْهِ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ, الشُّعْثُ رُءُوسًا الدُّنْسُ ثِيَابًا, الَّذِينَ لَا يَنْكِحُونَ الْمُتَنَعِّمَاتِ وَلَا تُفْتَحُ لَهُمُ السُّدَدُ" قَالَ عُمَرُ لَكِنِّي نَكَحْتُ الْمُتَنَعِّمَاتِ وَفُتِحَتْ لِي السُّدَدُ وَنَكَحْتُ فَاطِمَةَ بِنْتَ عَبْدِ الْمَلَكِ, لَا جَرَمَ إِنِّي لَا أَغْسِلُ رَأْسِي حَتَّى يَشْعَثَ، وَلَا أَغْسِلُ ثَوْبِي الَّذِي يَلِي جَسَدِي حَتَّى يَتَّسِخَ4 وَرَوَاهُ ابْنُ
مَاجَهْ بِلَفْظِ: "إِنَّ حَوْضِي مَا بَيْنَ عَدَنَ إِلَى أَيْلَةَ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ, أَكَاوِيبُهُ كَعَدَدِ نُجُومِ السَّمَاءِ, مَنْ شَرِبَ مِنْهُ شَرْبَةً لَمْ يَظْمَأْ بَعْدَهَا أَبَدًا" الْحَدِيثَ وَفِيهِ قَالَ فَبَكَى عُمَرُ حَتَّى اخْضَلَّتْ لِحْيَتُهُ، وَفِيهِ: "وَلَا أَدْهُنُ رَأْسِي حَتَّى يَشْعَثَ" 1. وَأَمَّا عَنْ أَبِي ذَرٍّ فَقَالَ مُسْلِمٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَاللَّفْظُ لِابْنِ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا -وَقَالَ الْآخَرَانِ حَدَّثَنَا- عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ الْعَمِّيُّ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الصَّامِتِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا آنِيَةُ الْحَوْضِ قَالَ: "وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَآنِيَتُهُ أَكْثَرُ مَنْ عَدَدِ نُجُومِ السَّمَاءِ وَكَوَاكِبِهَا, أَلَا فِي اللَّيْلَةِ الْمُظْلِمَةِ الْمُصْحِيَةِ آنِيَةُ الْجَنَّةِ مَنْ شَرِبَ مِنْهَا لَمْ يَظْمَأْ آخِرَ مَا عليه يشخب فيه مِيزَابَانِ مِنَ الْجَنَّةِ مَنْ شَرِبَ مِنْهُ لَمْ يَظْمَأْ عَرْضُهُ مِثْلُ طُولِهِ مَا بَيْنَ عَمَّانَ إِلَى أَيْلَةَ, مَاؤُهُ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ" 2 رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِهَذَا اللَّفْظِ, وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ. وَأَمَّا عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى الصَّدَفِيُّ أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي عَمْرٌو وَهُوَ ابْنُ الْحَارِثِ أَنَّ بُكَيْرًا حَدَّثَهُ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبَّاسٍ الْهَاشِمِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَافِعٍ مَوْلَى أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهَا قَالَتْ كُنْتُ أَسْمَعُ النَّاسَ يَذْكُرُونَ الْحَوْضَ وَلَمْ أَسْمَعْ ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَلَمَّا كَانَ يَوْمًا مِنْ ذَلِكَ وَالْجَارِيَةُ تُمَشِّطُنِي فَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "أَيُّهَا النَّاسُ" فَقُلْتُ لِلْجَارِيَةِ: اسْتَأْخِرِي عَنِّي قَالَتْ إِنَّمَا دَعَا الرِّجَالَ وَلَمْ يَدْعُ النِّسَاءَ فَقُلْتُ إِنِّي مِنَ النَّاسِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنِّي لَكُمْ فَرَطٌ عَلَى الْحَوْضِ, فَإِيَّايَ لَا يَأْتِيَنَّ أَحَدُكُمْ فَيَذُبُّ عَنِّي
كَمَا يَذُبُّ الْبَعِيرُ الضَّالُّ فَأَقُولُ فِيمَ هَذَا، فَيُقَالُ إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ فَأَقُولُ سُحْقًا" 1. وَأَمَّا عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ فَقَالَ مُسْلِمٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى حَدَّثَنِي الْوَلِيدُ بْنُ شُجَاعِ بْنِ الْوَلِيدِ السَّكُونِيُّ حَدَّثَنِي أَبِي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى حَدَّثَنِي زِيَادُ بْنُ خَيْثَمَةَ عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "أَلَا إِنِّي فَرَطٌ لَكُمْ عَلَى الْحَوْضِ, وَإِنَّ بُعْدَ مَا بَيْنَ طَرَفَيْهِ كَمَا بَيْنَ صَنْعَاءَ وَأَيْلَةَ, كَأَنَّ الْأَبَارِيقَ فِيهِ النُّجُومُ" 2. وَأَمَّا عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ فَقَالَ أَبُو دَاوُدَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ النَّمِرِيُّ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا فَقَالَ: "مَا أَنْتُمْ بِجُزْءٍ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ جُزْءٍ مِمَّنْ يَرِدُ عَلَى الْحَوْضِ" قَالَ قُلْتُ كَمْ كُنْتُمْ يَوْمَئِذٍ قَالَ: "سَبْعَمِائَةٍ أَوْ ثَمَانِمِائَةٍ" 3. وَأَمَّا عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ فَقَالَ التِّرْمِذِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ نِيزَكَ الْبَغْدَادِيُّ أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بكار الدمشقي أنبأنا سَعِيدُ بْنُ بَشِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوْضًا وَإِنَّهُمْ يَتَبَاهَوْنَ أَيُّهُمْ أَكْثَرُ وَارِدُهُ, وَإِنِّي أَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ وَارِدُهُ" هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ وَقَدْ رَوَى الْأَشْعَثُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ هَذَا الْحَدِيثَ عَنِ الْحَسَنِ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُرْسَلًا, وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ عَنْ سَمُرَةَ وهو أصح4 اهـ
وَأَمَّا عَنْ حُذَيْفَةَ, فَتَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ بَعْدَ رِوَايَتِهِمَا حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَقَالَ ابْنُ مَاجَهْ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ أَبِي مَالِكٍ سَعْدِ بْنِ طَارِقٍ عَنْ رِبْعِيٍّ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ حَوْضِي لَأَبْعَدُ مِنْ أَيْلَةَ إِلَى عَدَنَ, وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَآنِيَتُهُ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ النُّجُومِ, وَلَهُوَ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ, وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنِّي لَأَذُودُ عَنْهُ الرِّجَالَ كَمَا يَذُودُ الرَّجُلُ الْإِبِلَ الْغَرِيبَةَ عَنْ حَوْضِهِ" قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَعْرِفُنَا، قَالَ: "نَعَمْ, تَرِدُونَ عَلَيَّ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ أَثَرِ الْوُضُوءِ, لَيْسَتْ لِأَحَدٍ غَيْرَكُمْ" وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي الطَّهَارَةِ بِهَذَا اللَّفْظِ وَبِهَذَا السَّنَدِ1. وَأَمَّا عَنْ أَبِي بَرْزَةَ فَقَالَ أَبُو دَاوُدَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ أَبُو طَالُوتَ قَالَ شَهِدْتُ أَبَا بَرْزَةَ دَخَلَ عَلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ فَحَدَّثَنِي فُلَانٌ سَمَّاهُ مُسْلِمٌ وَكَانَ فِي السِّمَاطِ, فَلَمَّا رَآهُ عُبَيْدُ اللَّهِ قَالَ إِنَّ محمديكم هذا لدحداح2 فَفَهِمَهَا الشَّيْخُ فَقَالَ مَا كُنْتُ أَحْسَبُ أَنِّي أَبْقَى في قوم يعيرونني بِصُحْبَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ: إِنَّ صُحْبَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكَ زَيْنٌ غَيْرُ شَيْنٍ ثُمَّ قَالَ إِنَّمَا بُعِثْتُ إِلَيْكَ لِأَسْأَلَكَ عَنِ الْحَوْضِ, سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ فِيهِ شَيْئًا, فَقَالَ أَبُو بَرْزَةَ: نَعَمْ لَا مَرَّةً وَلَا اثْنَتَيْنِ وَلَا ثَلَاثًا، وَلَا أَرْبَعًا، وَلَا خَمْسًا, فَمَنْ كَذَّبَ بِهِ فَلَا سَقَاهُ اللَّهُ مِنْهُ ثُمَّ خَرَجَ مُغْضَبًا3. وَأَمَّا عَنِ الْمُسْتَوْرِدِ, فَتَقَدَّمَ فِي الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ حَارِثَةَ بْنِ وَهْبٍ. وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فَقَالَ ابْنُ مَاجَهْ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى حَدَّثَنَا أَبُو
بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا حَدَّثَنَا عَطِيَّةُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إِنَّ لِي حَوْضًا مَا بَيْنَ الْكَعْبَةِ وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ أَبْيَضَ مِنَ اللَّبَنِ, آنِيَتُهُ عَدَدُ النُّجُومِ, وَإِنِّي لَأَكْثَرُ الْأَنْبِيَاءِ تَبَعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ" 1. وَأَمَّا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ فَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْهُ مُطَوَّلًا فِي قِصَّةِ قَسْمِ غَنَائِمِ حُنَيْنٍ, وَفِي آخِرِهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْأَنْصَارِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: "إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً, فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ" 2. وَأَمَّا عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ فَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى حَدَّثَنِي الْبَرْنِيُّ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي كَثِيرٍ أَخْبَرَنِي حَرَامُ بْنُ عُثْمَانَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَتَى حَمْزَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَلَمْ يَجِدْهُ, فَسَأَلَ عَنْهُ امْرَأَتَهُ وَكَانَتْ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ فَقَالَتْ: خَرَجَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ عَامِدًا نَحْوَكَ, فَأَظُنُّهُ أَخْطَأَكَ فِي بَعْضِ أَزِقَّةِ بَنِي النَّجَّارِ, أَوَلَا تَدْخُلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَدَخَلَ فَقَدَّمَتْ إِلَيْهِ حَيْسًا فَأَكَلَ مِنْهُ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَنِيئًا لَكَ وَمَرِيئًا, لَقَدْ جِئْتَ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ آتِيَكَ لِأُهَنِّيَكَ وَأُمْرِيَكَ, أَخْبَرَنِي أَبُو عُمَارَةَ أَنَّكَ أُعْطِيتَ نَهْرًا فِي الْجَنَّةِ يُدْعَى الْكَوْثَرَ فَقَالَ: "أَجَلْ وَعَرْضُهُ -يَعْنِي أَرْضَهُ- يَاقُوتٌ وَمَرْجَانٌ وَزَبَرْجَدٌ وَلُؤْلُؤٌ" 3 قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَرَامُ بْنُ عُثْمَانَ ضَعِيفٌ, وَلَكِنَّ هَذَا سِيَاقٌ حَسَنٌ وَقَدْ صَحَّ أَصْلُ هَذَا بَلْ قَدْ تَوَاتَرَ مِنْ طُرُقٍ تُفِيدُ الْقَطْعَ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ أئمة الحديث4 اهـ قُلْتُ وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْهَا مَا تَيَسَّرَ, وَفِي الْبَابِ عِدَّةُ أَحَادِيثَ غَيْرَ مَا ذَكَرْنَا, وَلِمَنْ ذَكَرْنَا مِنَ الصَّحَابَةِ أَحَادِيثُ أُخَرُ لَمْ
نَذْكُرُهَا, وَلَهُمْ رِوَايَاتٌ فِي الْأُصُولِ الَّتِي عَزَوْنَا إِلَيْهَا غَيْرَ مَا سُقْنَا, وَإِنَّمَا أَشَرْنَا إِشَارَةً إِلَى بَعْضِهَا لِتَعْرِفَ شُهْرَةَ هَذَا الْبَابِ وَاسْتِفَاضَتِهِ وَتَوَاتُرِهِ مَعَ الْإِيجَازِ وَالِاخْتِصَارِ1 وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ
فصل في الأحاديث عن لواء الحمد
فَصْلٌ: فِي الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ عَنْ لِوَاءِ الْحَمْدِ كَذَا لَهُ لِوَاءُ حَمْدٍ يُنْشَرُ ... وَتَحْتَهُ الرُّسُلُ جَمِيعًا تُحْشَرُ قَالَ التِّرْمِذِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ يَزِيدَ الْكُوفِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ حَرْبٍ عَنْ لَيْثٍ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنَا أَوَّلُ النَّاسِ خُرُوجًا إِذَا بُعِثُوا, وَأَنَا خَطِيبُهُمْ إِذَا وَفَدُوا, وَأَنَا مُبَشِّرُهُمْ إِذَا يَئِسُوا, لِوَاءُ الْحَمْدِ يَوْمَئِذٍ بِيَدِي, وَأَنَا أَكْرَمُ عَلَى رَبِّي وَلَا فَخْرَ" هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ1. وَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ أَنْبَأَنَا أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ أَنْبَأَنَا زُهَيْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ عَنِ الطُّفَيْلِ بْنِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَثَلِي فِي النَّبِيِّينَ كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى دَارًا فَأَحْسَنَهَا وَأَكْمَلَهَا وَأَجْمَلَهَا وَتَرَكَ مِنْهَا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ, فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ بِالْبِنَاءِ وَيَعْجَبُونَ مِنْهُ وَيَقُولُونَ لَوْ تَمَّ مَوْضِعُ تِلْكَ اللَّبِنَةِ, وَأَنَا فِي النَّبِيِّينَ مَوْضِعُ تِلْكَ اللَّبِنَةِ" وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ كَنْتُ إِمَامَ النَّبِيِّينَ وَخَطِيبَهُمْ وَصَاحِبَ شَفَاعَتِهِمْ غَيْرُ فَخْرٍ" هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ2. حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ أَنْبَأَنَا سُفْيَانُ عَنِ ابْنِ جُدْعَانَ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ, وَمَا
مِنْ نَبِيٍّ يَوْمَئِذٍ آدَمَ فَمَنْ سِوَاهُ إِلَّا تَحْتَ لِوَائِي، وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ وَلَا فَخْرَ" وَفِي الْحَدِيثِ قِصَّةٌ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ1. وَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ نَصْرِ بْنِ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ أَنْبَأَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ أَنْبَأَنَا زَمْعَةُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ وَهْرَامَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ جَلَسَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَنْتَظِرُونَهُ قَالَ فَخَرَجَ حَتَّى إِذَا دَنَا مِنْهُمْ سَمِعَهُمْ يَتَذَاكَرُونَ, فَسَمِعَ حَدِيثَهُمْ فَقَالَ بَعْضُهُمْ عَجَبًا إِنَّ اللَّهَ اتَّخَذَ مِنْ خَلْقِهِ خَلِيلًا, اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا وَقَالَ آخَرُ مَاذَا بِأَعْجَبَ مِنْ كَلَامِ مُوسَى كَلَّمَهُ تَكْلِيمًا وَقَالَ آخَرُ فَعِيسَى كَلِمَةُ اللَّهِ وَرُوحُهُ وَقَالَ آخَرُ آدَمُ اصْطَفَاهُ اللَّهُ, فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ فَسَلَّمَ وَقَالَ "قَدْ سَمِعْتُ كَلَامَكُمْ وَعَجَبَكُمْ, إِنَّ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلُ اللَّهِ وَهُوَ كَذَلِكَ وَمُوسَى نَجِيُّ اللَّهِ وَهُوَ كَذَلِكَ وَعِيسَى رُوحُهُ وَكَلِمَتُهُ وَهُوَ كَذَلِكَ وَآدَمُ اصْطَفَاهُ اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ كَذَلِكَ, أَلَا وَأَنَا حَبِيبُ اللَّهِ وَلَا فَخْرَ, وَأَنَا حَامِلُ لِوَاءِ الْحَمْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ, وَأَنَا أَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ, وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ يُحَرِّكُ حِلَقَ الْجَنَّةِ فَيَفْتَحُ اللَّهُ لِي فَيُدْخِلُنِيهَا وَمَعِي فُقَرَاءُ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا فَخْرَ, وَأَنَا أَكْرَمُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ وَلَا فَخْرَ هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ2. قُلْتُ وَمَعْنَاهُ ثَابِتٌ فِي الْآيَاتِ الصَّرِيحَةِ وَالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ كَمَا جَاءَ وَكَمَا سَيَأْتِي وَكَمَا هُوَ مَعْلُومٌ عِنْدَ مَنْ لَهُ خِبْرَةٌ بِالْعِلْمِ
فصل في آيات الشفاعة وأحاديثها والمقام المحمود
فَصْلٌ: فِي آيَاتِ الشَّفَاعَةِ وَأَحَادِيثِهَا وَالْمَقَامِ الْمَحْمُودِ كَذَا لَهُ الشَّفَاعَةُ الْعُظْمَى كَمَا ... قَدْ خَصَّهُ اللَّهُ بِهَا تَكَرُّمَا مِنْ بَعْدِ إِذْنِ اللَّهِ لَا كَمَا يَرَى ... كُلُّ قُبُورِيٍّ عَلَى اللَّهِ افْتَرَى كَذَا لَهُ لِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشَّفَاعَةُ الْعُظْمَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ, وَهُوَ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الْإِسْرَاءِ: 79] وَلِذَا قُلْنَا قَدْ خَصَّهُ اللَّهُ بِهَا بِالشَّفَاعَةِ تَكَرُّمًا مِنْهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَعَلَى أُمَّتِهِ بِهِ كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ "أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ, وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا, فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ, وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي, وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ, وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً" 1 وَفِيهِ عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ قَدْ دَعَا بِهَا فِي أُمَّتِهِ, وَخَبَّأْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ" 2 وَفِيهِ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ "لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ دَعَاهَا لِأُمَّتِهِ, وَإِنِّي اخْتَبَأْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ" 3 وَفِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ, فَتَعَجَّلَ كُلُّ نَبِيٍّ دَعْوَتَهُ, وَإِنِّي اخْتَبَأْتُ
دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ, فَهِيَ نَائِلَةٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِي لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا" 1. وَفِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَلَا قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي إِبْرَاهِيمَ {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وَقَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الْمَائِدَةِ: 118] فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ: "اللَّهُمَّ أُمَّتِي وَبَكَى فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ -وَرَبُّكَ أَعْلَمُ- فَسَلْهُ مَا يُبْكِيكَ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَسَأَلَهُ فَأَخْبَرَهُ -رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِمَا قَالَ -وَهُوَ أَعْلَمُ- فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ فَقُلْ إِنَّا سَنُرْضِيكَ فِي أمتك ولا نسوءك" 2 وَفِيهِ عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِذَا سَمِعْتُمُ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ, فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا, ثُمَّ سَلُوا اللَّهَ لِيَ الْوَسِيلَةَ فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا تَنْبَغِي إِلَّا لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ, وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ, فَمَنْ سَأَلَ اللَّهَ لِيَ الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ لَهُ الشَّفَاعَةُ" 3. وَفِيهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ وَالصَّلَاةِ الْقَائِمَةِ آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْتَهُ, حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ" 4. وَتِلْكَ الشَّفَاعَةُ لَا تَكُونُ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ, سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ شَفَاعَةُ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَفَاعَةُ مَنْ دُونَهُ, وَذَلِكَ الْإِذْنُ يَتَعَلَّقُ بِالشَّافِعِ وَالْمَشْفُوعِ فِيهِ وَبِوَقْتِ
الشَّفَاعَةِ, فَلَيْسَ يَشْفَعُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ اللَّهُ لَهُ فِي الشَّفَاعَةِ, وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَشْفَعَ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لَهُ, وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَشْفَعَ إِلَّا فِيمَنْ أَذِنَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ أَنْ يُشَفَّعَ فِيهِ, كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [الْبَقَرَةِ: 255] {مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} [يُونُسَ: 3] {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سَبَأٍ: 23] {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النَّجْمِ: 26] {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} [الزُّمَرِ: 44] {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزُّخْرُفِ: 86] {لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} [مَرْيَمَ: 87] {لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} [النَّبَأِ: 38] {يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} [طه: 109] {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 28] وَقَالَ تَعَالَى: فِي الْكُفَّارِ {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [الْمُدَّثِّرِ: 48] {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غَافِرٍ: 18] وَقَالَ عَنْهُمْ {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشُّعَرَاءِ: 100] وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الْبَقَرَةِ: 254] وَسَيَأْتِي فِي ذِكْرِ الْأَحَادِيثِ مُرَاجَعَةُ الرُّسُلِ الشَّفَاعَةَ بَيْنَهُمْ حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى نَبِيِّنَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَنَّهُ يَأْتِي فَيَسْتَأْذِنُ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ, ثُمَّ يَسْجُدُ وَيَحْمَدُهُ بِمَحَامِدَ يُعْلِمُهُ تَعَالَى إِيَّاهَا وَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى يُؤْذَنَ لَهُ وَيُقَالَ ارْفَعْ رَأْسَكَ وَقُلْ يُسْمَعْ وَسَلْ تُعْطَ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ, وَأَنَّهُ يُحَدُّ لَهُ حَدًّا فَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ ثُمَّ يَرْجِعُ كَذَلِكَ, وَفِي كُلِّ مَرَّةٍ يَسْتَأْذِنُ وَيَدْعُو حَتَّى يُؤْذَنَ لَهُ وَيُحَدُّ لَهُ حَدًّا حَتَّى يَنْجُوَ جَمِيعُ الْمُوَحِّدِينَ, وَهَكَذَا كُلُّ شَافِعٍ بَعْدَهُ يَسْأَلُ الشَّفَاعَةَ مِنْ مَالِكِهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَهُ, إِلَى أَنْ يَقُولَ الشُّفَعَاءُ لَمْ يَبْقَ إِلَّا مَنْ حَبَسَهُ الْقُرْآنُ وَحَقَّ عَلَيْهِ الْخُلُودُ وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الشَّفَاعَةَ مِلْكٌ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَا تُسْأَلُ إِلَّا مِنْهُ, كَمَا لَا
تَكُونُ إِلَّا بِإِذْنِهِ لِلشَّافِعِ فِي الْمَشْفُوعِ حِينَ يَأْذَنُ فِي الشَّفَاعَةِ. لَا كَمَا يَرَى كُلُّ قُبُورِيٍّ نِسْبَةٌ إِلَى الْقُبُورِ لِعِبَادَتِهِ أَهْلَهَا عَلَى الله افترى فيما يَنْسُبُهُ إِلَى أَهْلِ الْقُبُورِ وَيُضِيفُهُ إِلَيْهِمْ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي هِيَ مِلْكٌ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا غَيْرُهُ تَعَالَى وَلَا شَرِيكَ لَهُ فِيهَا, وَرَتَّبُوا عَلَى ذَلِكَ صَرْفَ الْعِبَادَاتِ إِلَى الْأَمْوَاتِ وَدُعَاءَهُمْ إِيَّاهُمْ وَالذَّبْحَ وَالنُّذُرَ لَهُمْ دُونَ جَبَّارِ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ, وَسُؤَالِهِمْ مِنْهُمْ قَضَاءَ الْحَاجَاتِ وَدَفْعِ الْمُلِمَّاتِ, وَكَشْفِ الْكُرُبَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ مُعْتَقِدِينَ فِيهِمْ أَنَّهُمْ يَسْمَعُونَ دُعَاءَهُمْ وَيَسْتَطِيعُونَ إِجَابَتَهُمْ وَقَدْ تقدم كشف عوارهم وَهَتْكُ أَسْتَارِهِمْ بِمَا يَشْفِي وَيَكْفِي, وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. يَشْفَعُ أَوَّلًا إِلَى الرَّحْمَنِ فِي ... فَصْلِ الْقَضَاءِ بَيْنَ أَهْلِ الْمَوْقِفِ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَطْلُبَهَا النَّاسُ إِلَى ... كُلِّ أُولِي الْعَزْمِ الْهُدَاةِ الْفَضْلَا هَذِهِ الشَّفَاعَةُ الْأُولَى لِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وَهِيَ أَعْظَمُ الشَّفَاعَاتِ وَهِيَ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ وَوَعَدَهُ إِيَّاهُ وَأَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَسْأَلَ اللَّهَ إِيَّاهُ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, بَعْدَ كُلِّ أَذَانٍ وَقَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بَابُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الْإِسْرَاءِ: 79] حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبَانَ حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ عَنْ آدَمَ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ إِنَّ النَّاسَ يَصِيرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ جُثًا, كُلُّ أُمَّةٍ تَتْبَعُ نَبِيَّهَا يَقُولُونَ يَا فُلَانُ اشْفَعْ, حَتَّى تَنْتَهِيَ الشَّفَاعَةُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَذَلِكَ يَوْمَ يَبْعَثُهُ اللَّهُ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ1. وَقَالَ مُسْلِمٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ وَاتَّفَقَا فِي سِيَاقِ الْحَدِيثِ إِلَّا مَا يَزِيدُ أَحَدُهُمَا مِنَ الْحَرْفِ بَعْدَ الْحَرْفِ, قَالَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ حَدَّثَنَا أَبُو حَيَّانَ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمًا بِلَحْمٍ فَرُفِعَ إِلَيْهِ الذِّرَاعُ وَكَانَتْ تُعْجِبُهُ فَنَهَسَ مِنْهَا نَهْسَةً فَقَالَ: "أَنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ, وَهَلْ تَدْرُونَ بِمَ ذَاكَ يَجْمَعُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَيُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي, وَيَنْفُذُهُمُ الْبَصَرُ
وَتَدْنُو الشَّمْسُ فَيَبْلُغُ النَّاسَ مِنَ الْغَمِّ وَالْكَرْبِ مَا لَا يُطِيقُونَ وَمَا لَا يَحْتَمِلُونَ, فَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ لِبَعْضٍ أَلَا تَرَوْنَ مَا أَنْتُمْ فِيهِ أَلَا تَرَوْنَ مَا قَدْ بَلَغَكُمْ أَلَا تَنْظُرُونَ مَنْ يَشْفَعُ لَكُمْ إِلَى رَبِّكُمْ فَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ لِبَعْضٍ ائْتُوا آدَمَ فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ يَا آدَمُ أَنْتَ أَبُو الْبَشَرِ, خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ وَأَمَرَ الْمَلَائِكَةَ فَسَجَدُوا لَكَ, اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا فَيَقُولُ آدَمُ إِنَّ رَبِّي غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ, وَإِنَّهُ نَهَانِي عَنِ الشَّجَرَةِ فَعَصَيْتُهُ, نَفْسِي نَفْسِي, اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي اذْهَبُوا إِلَى نُوحٍ فَيَأْتُونَ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ فَيَقُولُونَ يَا نُوحُ أَنْتَ أَوَّلُ الرُّسُلِ إِلَى الْأَرْضِ وَسَمَّاكَ اللَّهُ عَبْدًا شَكُورًا, اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ, أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا فَيَقُولُ لَهُمْ إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ, وَإِنَّهُ قَدْ كَانَتْ دَعْوَةٌ دَعَوْتُ بِهَا عَلَى قَوْمِي, نَفْسِي نَفْسِي, اذْهَبُوا إلى إبراهيم عليه السلام فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ فَيَقُولُونَ أَنْتَ نَبِيُّ اللَّهِ وَخَلِيلُهُ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ, اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ أَلَا تَرَى إِلَى مَا قَدْ بَلَغَنَا فَيَقُولُ لهم إبراهيم عليه السلام إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ, وَذَكَرَ كِذْبَاتِهِ نَفْسِي نَفْسِي, اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي, اذْهَبُوا إِلَى مُوسَى فَيَأْتُونَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَيَقُولُونَ يَا مُوسَى أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ, فَضَّلَكَ اللَّهُ بِرِسَالَاتِهِ وَبِتَكْلِيمِهِ عَلَى النَّاسِ, اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ أَلَا تَرَى إِلَى مَا قَدْ بَلَغَنَا فَيَقُولُ لَهُمْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ, وَإِنِّي قَتَلْتُ نَفْسًا لَمْ أُؤْمَرْ بِقَتْلِهَا, نَفْسِي نَفْسِي اذْهَبُوا إِلَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَيَأْتُونَ عِيسَى فَيَقُولُونَ يَا عِيسَى أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلَّمْتَ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَلِمَةٌ مِنْهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ, فَاشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ, أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا فَيَقُولُ لَهُمْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ ولم يذكر لهم ذَنْبًا, نَفْسِي نَفْسِي, اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي اذْهَبُوا إلى محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيأتونني فَيَقُولُونَ يَا مُحَمَّدُ أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ وَخَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ وَغَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ, اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ, أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ
فِيهِ أَلَا تَرَى إِلَى مَا قَدْ بَلَغَنَا فَأَنْطَلِقُ فَآتِي تَحْتَ الْعَرْشِ فَأَقَعُ سَاجِدًا لِرَبِّي, ثُمَّ يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَيَّ وَيُلْهِمُنِي مِنْ مَحَامِدِهِ وَحُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ شَيْئًا لَمْ يَفْتَحْهُ لِأَحَدٍ قَبْلِي ثُمَّ قَالَ يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ سَلْ تُعْطَهْ اشْفَعْ تُشَفَّعْ, فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأَقُولُ يَا رَبِّ أُمَّتِي أُمَّتِي فَيُقَالُ يَا مُحَمَّدُ أَدْخِلِ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِكَ مَنْ لَا حِسَابَ عَلَيْهِ مِنَ الْبَابِ الْأَيْمَنِ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ وَهُمْ شُرَكَاءُ النَّاسِ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الْأَبْوَابِ, وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنَّ مَا بَيْنَ الْمِصْرَاعَيْنِ مِنْ مصاريع الجنة لكما بَيْنَ مَكَّةَ وَهَجَرَ أَوْ كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَبُصْرَى" 1. قَالَ وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ وُضِعَتْ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَصْعَةٌ مِنْ ثَرِيدٍ وَلَحْمٍ فَتَنَاوَلَ الذِّرَاعَ وَكَانَتْ أَحَبَّ الشَّاةِ إِلَيْهِ, فَنَهَسَ نَهْسَةً فَقَالَ: "أَنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" ثُمَّ نَهَسَ أُخْرَى فَقَالَ: "أَنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" فَلَمَّا رَأَى أَصْحَابَهُ لَا يَسْأَلُونَهُ قَالَ: "أَلَا تَقُولُونَ كَيْفَ" قَالُوا: كَيْفَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: "يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ" وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِمَعْنَى حَدِيثِ أَبِي حَيَّانَ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ, وَزَادَ فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ فَقَالَ وَذَكَرَ قَوْلَهُ فِي الْكَوْكَبِ "هَذَا رَبِّي وَقَوْلَهُ لِآلِهَتِهِمْ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا وَقَوْلَهُ إِنِّي سَقِيمٌ قَالَ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنَّ مَا بَيْنَ الْمِصْرَاعَيْنِ مِنْ مَصَارِيعِ الْجَنَّةِ إِلَى عِضَادَتَيِ الْبَابِ لَكَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَهَجَرَ أَوْ هَجَرَ وَمَكَّةَ قَالَ لَا أَدْرِي أَيُّ ذَلِكَ قَالَ" 2. وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "قَالَ يُبْعَثُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَكُونُ أَنَا وَأُمَّتِي عَلَى تَلٍّ, وَيَكْسُونِي رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ حُلَّةً خَضْرَاءَ, ثُمَّ يُؤْذَنُ لِي فَأَقُولُ مَا شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ أَقُولَ فَذَلِكَ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ" 3. وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي حَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَجْمَعُ اللَّهُ
النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَهْتَمُّونَ لِذَلِكَ -وَفِي لَفْظَةٍ فَيُلْهَمُونَ لِذَلِكَ- فَيَقُولُونَ لَوِ اسْتَشْفَعْنَا إِلَى رَبِّنَا حَتَّى يُرِيحَنَا مِنْ مَكَانِنَا هَذَا قَالَ فَيَأْتُونَ آدَمَ" 1. الْحَدِيثَ, وَتَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ الصُّورِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَتَقِفُونَ مَوْقِفًا وَاحِدًا مِقْدَارُهُ سَبْعُونَ عَامًا, لَا يُنْظَرُ إِلَيْكُمْ وَلَا يُقْضَى بَيْنَكُمْ, فَتَبْكُونَ حَتَّى تَنْقَطِعَ الدُّمُوعُ, ثُمَّ تَدْمَعُونَ دَمًا, وَتَعْرَقُونَ حَتَّى يُلْجِمَكُمُ الْعَرَقُ وَيَبْلُغَ الْأَذْقَانَ, وَتَقُولُونَ مَنْ يَشْفَعُ لَنَا إِلَى رَبِّنَا فَيَقْضِي بَيْنَنَا فَتَقُولُونَ مَنْ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْ أَبِيكُمْ آدَمَ خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَكَلَّمَهُ قُبُلًا فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَطْلُبُونَ ذَلِكَ إِلَيْهِ فَيَأْتِي وَيَقُولُ مَا أَنَا بِصَاحِبِ ذَلِكَ, فَيَسْتَقْرِئُونَ الْأَنْبِيَاءَ نَبِيًّا نَبِيًّا كُلَّمَا جَاءُوا نَبِيًّا أَبَى عَلَيْهِمْ" قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "حَتَّى يَأْتُونِي فَأَنْطَلِقُ إِلَى الْفَحْصِ فَأَخِرُّ سَاجِدًا" قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْفَحْصُ قَالَ: "قُدَّامَ الْعَرْشِ, حَتَّى يَبْعَثَ اللَّهُ إِلَيَّ مَلَكًا فَيَأْخُذُ بِعَضُدَيَّ وَيَرْفَعُنِي فَيَقُولُ لِي يَا مُحَمَّدُ فَأَقُولُ نَعَمْ يَا رَبِّ فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَا شَأْنُكَ وَهُوَ أَعْلَمُ فَأَقُولُ يَا رَبِّ وَعَدْتَنِي الشَّفَاعَةَ, فَشَفِّعْنِي فِي خَلْقِكَ فَاقْضِ بَيْنَهُمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ شَفَّعْتُكَ, أَنَا آتِيكُمْ أَقْضِي بَيْنَكُمْ" 2. الْحَدِيثَ. وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ حَدَّثَنِي نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنِّي لَقَائِمٌ أَنْتَظِرُ أُمَّتِي تَعْبُرُ عَلَى الصِّرَاطِ, إِذْ جَاءَنِي عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ هَذِهِ الْأَنْبِيَاءُ قَدْ جَاءَتْكَ يَا مُحَمَّدُ يَسْأَلُونَ -أَوْ قَالَ يَجْتَمِعُونَ إِلَيْكَ- وَيَدْعُونَ اللَّهَ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ جَمِيعِ الْأُمَمِ إِلَى حَيْثُ يَشَاءُ اللَّهُ لِغَمٍّ جَاءَهُمْ فِيهِ, فَالْخَلْقُ مُلْجَمُونَ بِالْعَرَقِ, فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَهُوَ عَلَيْهِ كَالرُّكْمَةِ وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيَغْشَاهُ الْمَوْتُ فَقَالَ انْتَظِرْ حَتَّى أَرْجِعَ إِلَيْكَ, فَذَهَبَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَامَ تَحْتَ الْعَرْشِ فَلَقِيَ مَا لَمْ يَلْقَ مَلَكٌ مُصْطَفًى, وَلَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ, فَأَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى جِبْرِيلَ أَنِ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ وَقُلْ لَهُ ارْفَعْ رَأْسَكَ سَلْ تُعْطَ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ" 3. الْحَدِيثَ وَعِنْدَ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ نُزُولِ الْقُرْآنِ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ "فَلَكَ بِكُلِّ رِدَّةٍ
رَدَدْتُكَهَا مَسْأَلَةٌ تَسْأَلُنِيهَا فَقُلْتُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأُمَّتِي, اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأُمَّتِي, وَأَخَّرْتُ الثَّالِثَةَ لِيَوْمٍ يَرْغَبُ إِلَيَّ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ حتى إبراهيم عليه السلام" 1.
فصل في اختصاصه صلى الله عليه وسلم باستفتاح باب الجنة
فَصْلٌ: اخْتِصَاصُهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِاسْتِفْتَاحِ بَابِ الْجَنَّةِ وَثَانِيًا يَشْفَعُ فِي اسْتِفْتَاحِ ... دَارِ النَّعِيمِ لِأُولِي الْفَلَاحِ هَذَا وَهَاتَانِ الشَّفَاعَتَانِ ... قَدْ خُصَّتَا بِهِ بِلَا نُكْرَانِ هَذِهِ الشَّفَاعَةُ الثَّانِيَةُ فِي اسْتِفْتَاحِ بَابِ الْجَنَّةِ, وَقَدْ جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ أَنَّهَا أَيْضًا مِنَ الْمَقَامِ الْمَحْمُودِ, وَقَالَ مُسْلِمٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنِ الْمُخْتَارِ بْنِ فُلْفُلٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنَا أَوَّلُ النَّاسِ يَشْفَعُ فِي الْجَنَّةِ, وَأَنَا أَكْثَرُ الْأَنْبِيَاءِ تَبَعًا" 1. وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ هِشَامٍ عَنْ سُفْيَانَ عَنِ الْمُخْتَارِ بْنِ فُلْفُلٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنَا أَكْثَرُ الْأَنْبِيَاءِ تَبَعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ, وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ يَقْرَعُ بَابَ الْجَنَّةِ" 2. وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ زَائِدَةَ عَنِ الْمُخْتَارِ بْنِ فُلْفُلٍ قَالَ: قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنَا أَوَّلُ شَفِيعٍ فِي الْجَنَّةِ, لَمْ يُصَدَّقْ نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مَا صُدِّقْتُ, وَإِنَّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ نَبِيًّا مَا يُصَدِّقُهُ مِنْ أُمَّتِهِ إِلَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ" 3. وَحَدَّثَنِي عَمْرٌو النَّاقِدُ وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ قَالَا حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ حَدَّثَنَا
سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "آتِي بَابَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَسْتَفْتِحُ, فَيَقُولُ الْخَازِنُ مَنْ أَنْتَ فَأَقُولُ مُحَمَّدٌ فَيَقُولُ بِكَ أُمِرْتُ لَا أَفْتَحُ لِأَحَدٍ قَبْلَكَ" 1. قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ طَرِيفِ بْنِ خَلِيفَةَ الْبَجَلِيُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ حَدَّثَنَا أَبُو مَالِكٍ الْأَشْجَعِيُّ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ, وَأَبُو مَالِكٍ عَنْ رِبْعِيٍّ عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَجْمَعُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى النَّاسَ, فَيَقُومُ الْمُؤْمِنُونَ حَتَّى تُزْلَفَ لَهُمُ الْجَنَّةُ, فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ يَا أَبَانَا اسْتَفْتِحْ لَنَا الْجَنَّةَ فَيَقُولُ وَهَلْ أَخْرَجَكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَّا خَطِيئَةُ أَبِيكُمْ آدَمَ لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ, اذْهَبُوا إِلَى ابْنِي إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ فَيَقُولُ إِبْرَاهِيمُ لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ وَإِنَّمَا كُنْتُ خَلِيلًا مِنْ وَرَاءَ وَرَاءَ, اعْمِدُوا إِلَى مُوسَى الَّذِي كَلَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى تَكْلِيمًا فَيَأْتُونَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَيَقُولُ لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ, اذْهَبُوا إِلَى عِيسَى كَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَرُوحِهِ, فَيَقُولُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ فَيَأْتُونَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُومُ فَيُؤْذَنُ لَهُ, وَتُرْسَلُ الْأَمَانَةُ وَالرَّحِمُ فَتَقُومَانِ جَنَبَتَيِ الصِّرَاطِ فَيَمُرُّ أَوَّلُكُمْ كَالْبَرْقِ" 2 الْحَدِيثَ, تَقَدَّمَ بَاقِيهِ فِي الصِّرَاطِ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ قَالَ سَمِعْتُ حَمْزَةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَسْأَلُ النَّاسَ حَتَّى يَأْتِيَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَيْسَ فِي وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ, وَقَالَ إِنَّ الشَّمْسَ تَدْنُو يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَبْلُغَ الْعَرَقُ نِصْفَ الْأُذُنِ فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ اسْتَغَاثُوا بِآدَمَ ثُمَّ بِمُوسَى ثُمَّ بِمُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " 3. وَزَادَ عَبْدُ اللَّهِ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ فَيَشْفَعُ لِيُقْضَى بَيْنَ الْخَلْقِ, فَيَمْشِي حَتَّى يَأْخُذَ بِحَلْقَةِ الْبَابِ فَيَوْمَئِذٍ يَبْعَثُهُ اللَّهُ مَقَامًا مَحْمُودًا, يَحْمَدُهُ أَهْلُ الْجَمْعِ كُلُّهُمْ4.
فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ الْجَمْعُ بَيْنَ ذِكْرِ الشَّفَاعَتَيْنِ الْأُولَى فِي فَصْلِ الْقَضَاءِ وَالثَّانِيَةُ فِي اسْتِفْتَاحِ بَابِ الْجَنَّةِ, وَسُمِّيَ ذَلِكَ كُلُّهُ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ هَذَا أَيْ مَا ذُكِرَ وَهَاتَانِ الشَّفَاعَتَانِ الْمَذْكُورَتَانِ اللَّتَانِ هُمَا الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ قَدْ خُصَّتَا أَيْ جَعَلَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى خَاصَّتَيْنِ بِهِ أَيْ بِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَتَا لِأَحَدٍ غَيْرِهِ بِلَا نُكْرَانِ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ, بَلْ وَلَمْ يُنْكِرْهُمَا الْمُعْتَزِلَةُ الَّذِينَ أَنْكَرُوا الشَّفَاعَةَ الثَّالِثَةَ فِي إِخْرَاجِ عُصَاةِ الْمُوَحِّدِينَ مِنَ النَّارِ, وَهِيَ الْمُشَارُ إِلَيْهَا بِقَوْلِنَا: وَثَالِثًا يَشْفَعُ فِي أَقْوَامٍ ... مَاتُوا عَلَى دِينِ الْهُدَى الْإِسْلَامِ وَأَوْبَقَتْهُمْ كَثْرَةُ الْآثَامِ ... فَأُدْخِلُوا النَّارَ بِذَا الْإِجْرَامِ أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا إِلَى الْجِنَانِ ... بِفَضْلِ رَبِّ الْعَرْشِ ذِي الْإِحْسَانِ فَهَذِهِ الشَّفَاعَةُ حَقٌّ يُؤْمِنُ بِهَا أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ كَمَا آمَنَ بِهَا الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ وَدَرَجَ عَلَى الْإِيمَانِ بِذَلِكَ التَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ, وَأَنْكَرَهَا فِي آخِرِ عَصْرِ الصَّحَابَةِ الْخَوَارِجُ, وَأَنْكَرَهَا فِي عَصْرِ التَّابِعِينَ الْمُعْتَزِلَةُ وَقَالُوا بِخُلُودِ مَنْ دَخَلَ النَّارَ مِنْ عُصَاةِ الْمُوَحِّدِينَ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَيَشْهَدُونَ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيَصُومُونَ رَمَضَانَ وَيَحُجُّونَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ وَيَسْأَلُونَ اللَّهَ الْجَنَّةَ وَيَسْتَعِيذُونَ بِهِ مِنَ النَّارِ فِي كُلِّ صَلَاةٍ وَدُعَاءٍ, غَيْرَ أَنَّهُمْ مَاتُوا مُصِرِّينَ عَلَى مَعْصِيَةٍ عَمَلِيَّةٍ عَالِمِينَ بِتَحْرِيمِهَا مُعْتَقِدِينَ مُؤْمِنِينَ بِمَا جَاءَ فِيهِ الْوَعِيدُ الشَّدِيدُ, فَقَضَوْا بِتَخْلِيدِهِمْ فِي جَهَنَّمَ مَعَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ, فَجَحَدُوا قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص: 28] وَقَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية: 21] وقول تَعَالَى {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [الْقَلَمِ: 35-37] وَغَيْرَهَا مِنَ الْآيَاتِ, وَسَائِرَ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى
حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "قَالَ يُحْبَسُ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُهِمُّوا بِذَلِكَ فَيَقُولُونَ لَوِ اسْتَشْفَعْنَا إِلَى رَبِّنَا فَيُرِيحُنَا مِنْ مَكَانِنَا, فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ أَنْتَ أَبُو النَّاسِ, خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ وَأَسْكَنَكَ جَنَّتَهُ وَأَسْجَدَ لَكَ مَلَائِكَتَهُ وَعَلَّمَكَ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ, لِتَشْفَعْ لَنَا عِنْدَ رَبِّكَ حَتَّى يُرِيحَنَا مِنْ مَكَانِنَا هَذَا, قَالَ فَيَقُولُ لَسْتُ هُنَاكُمْ قَالَ وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَ أَكْلَهُ مِنَ الشَّجَرَةِ وَقَدْ نُهِيَ عَنْهَا, وَلَكِنِ ائْتُوا نُوحًا أَوَّلَ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فَيَأْتُونَ نُوحًا فَيَقُولُ لَسْتُ هُنَاكُمْ وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَ سُؤَالَهُ رَبَّهُ بِغَيْرِ عِلْمٍ, وَلَكِنِ ائْتُوا إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَ الرَّحْمَنِ قَالَ فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ فَيَقُولُ إِنِّي لَسْتُ هُنَاكُمْ وَيَذْكُرُ ثَلَاثَ كَلِمَاتٍ كَذَبَهُنَّ وَلَكِنِ ائْتُوا مُوسَى عَبْدًا آتَاهُ اللَّهُ التَّوْرَاةَ وَكَلَّمَهُ وَقَرَّبَهُ نَجِيًّا قَالَ فَيَأْتُونَ مُوسَى فَيَقُولُ إِنِّي لَسْتُ هُنَاكُمْ وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَ قَتْلَهُ النَّفْسَ, وَلَكِنِ ائْتُوا عِيسَى عَبْدَ اللَّهِ وَرَسُولَهُ وَرُوحَ اللَّهِ تَعَالَى وَكَلِمَتَهُ قَالَ فَيَأْتُونَ عِيسَى فَيَقُولُ لَسْتُ هُنَاكُمْ وَلَكِنِ ائْتُوا مُحَمَّدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَبْدًا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وما تأخر, فيأتونني فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي فِي دَارِهِ فَيُؤْذَنُ لِي فَإِذَا رَأَيْتُهُ وَقَعْتُ سَاجِدًا فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَدَعَنِي فَيَقُولُ ارْفَعْ مُحَمَّدُ وَقُلْ يُسْمَعْ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ وَسَلْ تُعْطَ قَالَ فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأُثْنِي عَلَى رَبِّي بِثَنَاءٍ وَتَحْمِيدٍ يُعَلِّمُنِيهِ ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا فَأَخْرُجُ فَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ قَالَ قَتَادَةُ وَقَدْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ فَأَخْرُجُ فَأُخْرِجُهُمْ مِنَ النَّارِ وَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ, ثُمَّ أُعُودُ فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي فِي دَارِهِ فَيُؤْذَنُ لِي عَلَيْهِ, فَإِذَا رَأَيْتُهُ وَقَعْتُ لَهُ سَاجِدًا فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِي ثُمَّ يَقُولُ ارْفَعْ مُحَمَّدُ وَقُلْ يُسْمَعْ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ وَسَلْ تُعْطَ قَالَ فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأُثْنِي عَلَى رَبِّي بِثَنَاءٍ وَتَحْمِيدٍ يُعَلِّمُنِيهِ قَالَ ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا فَأَخْرُجُ فَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ". قَالَ قَتَادَةُ وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ "فَأَخْرُجُ فَأُخْرِجُهُمْ مِنَ النَّارِ وَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ, ثم أعود الثالث فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي فِي دَارِهِ فَيُؤْذَنُ لِي عَلَيْهِ, فَإِذَا رَأَيْتُهُ وَقَعْتُ سَاجِدًا فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِي ثُمَّ يَقُولُ ارْفَعْ مُحَمَّدُ وَقُلْ يُسْمَعْ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ وَسَلْ تُعْطَ قَالَ فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأُثْنِي عَلَى رَبِّي بِثَنَاءٍ وَتَحْمِيدٍ يُعَلِّمُنِيهِ قَالَ ثُمَّ أَشْفَعُ فيحد لي حدا فَأَخْرُجُ فَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ" قَالَ قَتَادَةُ وَقَدْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ "فَأَخْرُجُ فَأُخْرِجُهُمْ مِنَ النَّارِ وَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ, حَتَّى مَا يَبْقَى فِي النَّارِ إِلَّا
مَنْ حَبَسَهُ الْقُرْآنُ" أَيْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْخُلُودُ قَالَ ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الْإِسْرَاءِ: 79] قَالَ وَهَذَا الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ الَّذِي وُعِدَهُ نَبِيُّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ1. وَقَالَ أَيْضًا حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَجْمَعُ اللَّهُ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُونَ لَوِ اسْتَشْفَعْنَا إِلَى رَبِّنَا حَتَّى يُرِيحَنَا مِنْ مَكَانِنَا -وَذَكَرَهُ مُخْتَصَرًا وَقَالَ فِي الثَّالِثَةِ أَوِ الرَّابِعَةِ- حَتَّى مَا بَقِيَ فِي النَّارِ إِلَّا مَنْ حَبَسَهُ الْقُرْآنُ" وَكَانَ قَتَادَةُ يَقُولُ عِنْدَ هَذَا أَيْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْخُلُودُ2. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مَنْ طُرُقٍ بِنَحْوِهِ وَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى حَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ الْعَتَكِيُّ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ حَدَّثَنَا مَعْبَدُ بْنُ هِلَالٍ الْعَنَزِيُّ ح وَحَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَاللَّفْظُ لَهُ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ حَدَّثَنَا مَعْبَدُ بْنُ هِلَالٍ الْعَنَزِيُّ قَالَ انْطَلَقْنَا إِلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَتَشَفَّعْنَا بِثَابِتٍ فَانْتَهَيْنَا إِلَيْهِ وَهُوَ يُصَلِّي الضُّحِي فَاسْتَأْذَنَ لَنَا ثَابِتٌ فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ وَأَجْلَسَ ثَابِتًا مَعَهُ عَلَى سَرِيرِهِ فَقَالَ يَا أَبَا حَمْزَةَ إِنَّ إِخْوَانَكَ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ يَسْأَلُونَكَ أَنْ تُحَدِّثَهُمْ حَدِيثَ الشَّفَاعَةِ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قَالَ إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ مَاجَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ لَهُ اشْفَعْ لِذُرِّيَّتِكَ فَيَقُولُ لَسْتُ لَهَا وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّهُ خَلِيلُ اللَّهِ, فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ فَيَقُولُ لَسْتُ لَهَا وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّهُ كَلِيمُ اللَّهِ فَيُؤْتَى مُوسَى فَيَقُولُ لَسْتُ لَهَا وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ, فَإِنَّهُ رُوحُ وَكَلِمَتُهُ فَيُؤْتَى عِيسَى فَيَقُولُ لَسْتُ لَهَا وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِمُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأُوتَى فَأَقُولُ أَنَا لَهَا, فَأَنْطَلِقُ فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي فَيُؤْذَنُ لِي فَأَقُومُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَأَحْمَدُهُ بِمَحَامِدَ لا أقدر عليها الْآنَ, يُلْهِمُنِيهِ اللَّهُ ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا فَيُقَالُ لِي يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ وَسَلْ تُعْطَهْ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ فَأَقُولُ رَبِّ أُمَّتِي أُمَّتِي
فَيُقَالُ انْطَلِقْ فَمَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ بُرَّةٍ أَوْ شَعِيرَةٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجْهُ مِنْهَا, فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ ثُمَّ أُرْجِعُ إِلَى رَبِّي فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ, ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا, فَيُقَالُ لِي يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ وَسَلْ تُعْطَهْ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ فَأَقُولُ أُمَّتِي أُمَّتِي فَيُقَالُ لِي انْطَلِقْ فَمَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجْهُ مِنْهَا, فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ, ثُمَّ أَعُودُ إِلَى رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ فَأَحْمَدُهُ تِلْكَ الْمَحَامِدَ ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا فَيُقَالُ لِي يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ وَسَلْ تُعْطَهْ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ فَأَقُولُ يَا رَبِّ أُمَّتِي فَيُقَالُ لِي انْطَلِقْ فَمَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ أَدْنَى أَدْنَى مِنْ مِثْقَالِ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجْهُ مِنَ النَّارِ, فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ". هَذَا حَدِيثُ أَنَسٍ الَّذِي أَنْبَأَنَا بِهِ, فَخَرَجْنَا مِنْ عِنْدِهِ فَلَمَّا كُنَّا بِظَهْرِ الْجَبَّانِ قُلْنَا لَوْ مِلْنَا إِلَى الْحَسَنِ فَسَلَّمْنَا عليه وهو مستحف فِي دَارِ أَبِي خَلِيفَةَ, قَالَ فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ فَسَلَّمْنَا عَلَيْهِ فَقُلْنَا يَا أَبَا سَعِيدٍ جِئْنَا مِنْ عِنْدِ أَخِيكَ أَبِي حَمْزَةَ فَلَمْ نَسْمَعْ مِثْلَ حَدِيثٍ حَدَّثَنَاهُ فِي الشَّفَاعَةِ قَالَ هِيهِ فَحَدَّثَنَاهُ الْحَدِيثَ فَقَالَ هِيهِ قُلْنَا مَا زَادَنَا قَالَ قَدْ حَدَّثَنَا بِهِ مُنْذُ عِشْرِينَ سَنَةً وَهُوَ يَوْمَئِذٍ جَمِيعٌ, وَلَقَدْ تَرَكَ شَيْئًا مَا أَدْرِي أَنَسِيَ الشَّيْخُ أَوْ كَرِهَ أَنْ يُحَدِّثَكُمْ فَتَتَّكِلُوا قُلْنَا لَهُ حَدِّثْنَا فَضَحِكَ وَقَالَ خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ, مَا ذَكَرْتُ لَكُمْ هَذَا إِلَّا وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُحَدِّثَكُمُوهُ ثُمَّ أَرْجِعُ إِلَى رَبِّي فِي الرَّابِعَةِ فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا فَيُقَالُ لِي يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ وَسَلْ تُعْطَ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ فَأَقُولُ يَا رَبِّ ائْذَنْ لِي فِيمَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ قَالَ لَيْسَ ذَاكَ لَكَ أَوْ قَالَ لَيْسَ ذَاكَ إِلَيْكَ, وَلَكِنْ وَعِزَّتِي وَكِبْرِيَائِي وَعَظَمَتِي وَجِبْرِيَائِي لَأُخْرِجَنَّ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ قَالَ فَأَشْهَدُ عَلَى الْحَسَنِ أَنَّهُ حَدَّثَنَا بِهِ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَرَاهُ قَالَ قَبْلَ عِشْرِينَ سَنَةً وَهُوَ يَوْمَئِذٍ جَمِيعٌ1. وَقَالَ أَيْضًا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مِنْهَالٍ الضَّرِيرُ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ وَهِشَامٌ صَاحِبُ الدَّسْتُوَائِيِّ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ح وَحَدَّثَنِي أَبُو غَسَّانَ الْمَسْمَعِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَا
حَدَّثَنَا مُعَاذٌ وَهُوَ ابْنُ هِشَامٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ قَتَادَةَ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "قَالَ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَكَانَ فِي قَلْبِهِ مِنَ الْخَيْرِ مَا يَزِنُ شَعِيرَةً, ثُمَّ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَكَانَ فِي قَلْبِهِ مِنَ الْخَيْرِ مَا يَزِنُ بُرَّةً, ثُمَّ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَكَانَ فِي قَلْبِهِ مِنَ الْخَيْرِ مَا يَزِنُ ذَرَّةً". زَادَ ابْنُ مِنْهَالٍ فِي رِوَايَتِهِ قَالَ يَزِيدُ فَلَقِيتُ شُعْبَةَ فَحَدَّثْتُهُ بِالْحَدِيثِ فَقَالَ شُعْبَةُ حَدَّثَنَا بِهِ قَتَادَةُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَدِيثِ, إِلَّا أَنَّ شُعْبَةَ جَعَلَ مَكَانَ الذَّرَّةِ ذُرَةً قَالَ يَزِيدُ صَحَّفَ فِيهَا أَبُو بِسْطَامٍ1. وَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ -يَعْنِي مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي أَيُّوبَ- قَالَ حَدَّثَنِي يَزِيدُ الْفَقِيرُ قَالَ كُنْتُ قَدْ شَغَفَنِي رَأْيٌ مِنْ رَأْيِ الْخَوَارِجِ فَخَرَجْنَا فِي عِصَابَةِ ذَوِي عَدَدٍ نُرِيدُ أَنْ نَحُجَّ, ثُمَّ نَخْرُجَ عَلَى النَّاسِ قَالَ فَمَرَرْنَا عَلَى الْمَدِينَةِ فَإِذَا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يُحَدِّثُ الْقَوْمَ, جَالِسٌ إِلَى سَارِيَةٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, قَالَ فَإِذَا هُوَ قَدْ ذَكَرَ الْجَهَنَّمِيِّينَ قَالَ فَقُلْتُ لَهُ يَا صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا هَذَا الَّذِي تُحَدِّثُونَ وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ {إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} [آلِ: عِمْرَانَ 192] وَ {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا} [الْحَجِّ: 22] فَمَا هَذَا الَّذِي تَقُولُونَ قَالَ فَقَالَ أَتَقْرَأُ الْقُرْآنَ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ فَهَلْ سَمِعْتَ بِمَقَامِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, يَعْنِي الَّذِي يَبْعَثُهُ اللَّهُ فِيهِ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ فَإِنَّهُ مَقَامُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَحْمُودُ الَّذِي يُخْرِجُ اللَّهُ بِهِ مَنْ يُخْرِجُ قَالَ ثُمَّ نَعَتَ وَضْعَ الصِّرَاطِ وَمَرَّ النَّاسِ عَلَيْهِ قَالَ وَأَخَافُ أَنْ لَا أَكُونَ أَحْفَظُ ذَاكَ قَالَ غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ زَعَمَ أَنَّ قَوْمًا يَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ بَعْدَ أَنْ يَكُونُوا فِيهَا قَالَ يَعْنِي فَيَخْرُجُونَ كَأَنَّهُمْ عِيدَانُ السَّمَاسِمِ قَالَ فَيَدْخُلُونَ نَهْرًا مِنْ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ فَيَغْتَسِلُونَ فِيهِ فَيَخْرُجُونَ كَأَنَّهُمُ الْقَرَاطِيسُ, فَرَجَعْنَا قُلْنَا وَيْحَكُمْ أَتَرَوْنَ الشَّيْخَ يَكْذِبُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَجَعْنَا فَلَا وَاللَّهِ مَا خَرَجَ مِنَّا غَيْرُ رَجُلٍ وَاحِدٍ أَوْ كَمَا قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ2.
وَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرٍو, سَمِعَ جَابِرًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ سَمِعَهُ مِنَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِأُذُنِهِ يَقُولُ: "إِنَّ اللَّهَ يُخْرِجُ نَاسًا مِنَ النَّارِ فَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ" 1. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ قُلْتُ لِعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ أَسَمِعْتَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنَّ اللَّهَ يُخْرِجُ قَوْمًا مِنَ النَّارِ بِالشَّفَاعَةِ قَالَ: نَعَمْ" 2 وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَخْرُجُ قَوْمٌ مِنَ النَّارِ بِالشَّفَاعَةِ كَأَنَّهُمُ الثَّعَارِيرُ" قَالَ الضَّغَابِيسُ، وَكَانَ قَدْ سَقَطَ فَمُهُ3. وَقَالَ حَدَّثَنَا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قَالَ يَخْرُجُ قَوْمٌ مِنَ النَّارِ بَعْدَ مَا مَسَّهُمْ مِنْهَا سَفْعٌ فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ, فَيُسَمِّيهِمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَهَنَّمِيِّينَ" 4. وَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ عَمْرٍو عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَقَالَ لَقَدْ ظَنَنْتُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَنْ لَا يَسْأَلَنِي عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَحَدٌ أَوَّلُ مِنْكَ, لِمَا رَأَيْتُ مِنْ حِرْصِكَ عَلَى الْحَدِيثِ, أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ5. وَهَذِهِ الشَّفَاعَةُ الثَّالِثَةُ قَدْ فُسِّرَ بِهَا الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ أَيْضًا, كَمَا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ
وَحَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَيَكُونُ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ عَامًّا لِجَمِيعِ الشَّفَاعَاتِ الَّتِي أُوتِيهَا نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَكِنَّ جُمْهُورَ الْمُفَسِّرِينَ فَسَرُّوهُ بِالشَّفَاعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ لِاخْتِصَاصِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِهِمَا دُونَ غَيْرِهِ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ الْمُكْرَمِينَ, وَأَمَّا هَذِهِ الشَّفَاعَةُ الثَّالِثَةُ فَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ مِنَ الْمَقَامِ الْمَحْمُودِ الَّذِي وُعِدَهُ فَلَيْسَتْ خَاصَّةً بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, بَلْ يُؤْتَاهَا كَثِيرٌ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ وَلَكِنْ هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُقَدَّمُ فِيهَا, وَلَمْ يَشْفَعْ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى فِي مِثْلِ مَا يَشْفَعُ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وَلَا يُدَانِيهِ فِي ذَلِكَ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ وَلَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ, ثُمَّ بَعْدَهُ يَشْفَعُ مَنْ أَذِنَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَسَائِرِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ, وَيَشْفَعُ الْأَفْرَاطُ كُلٌّ مِنْهُمْ يُكْرِمُهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى قَدْرِ مَا هُوَ لَهُ أَهْلٌ, ثُمَّ يُخْرِجُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ النَّارِ بِرَحْمَتِهِ أَقْوَامًا بِدُونِ شَفَاعَةِ الشَّافِعِينَ وَلِذَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ: وَبَعْدَهُ يَشْفَعُ كُلُّ مُرْسَلِ ... وَكُلُّ عَبْدٍ ذِي صَلَاحٍ وَوَلِي وَيُخْرِجُ اللَّهُ مِنَ النِّيرَانِ ... جَمِيعَ مَنْ مَاتَ عَلَى الْإِيمَانِ فِي نَهَرِ الْحَيَاةِ يُطْرَحُونَا ... فَحْمًا فَيُحْيَوْنَ وَيَنْبُتُونَا كَأَنَّمَا ينبت في هيئاته ... عَبُّ حَمِيلِ السَّيْلِ فِي حَافَاتِهِ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ فِي طَرِيقِ الرُّؤْيَةِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "حَتَّى إِذَا فَرَغَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ فَصْلِ الْقَضَاءِ بَيْنَ الْعِبَادِ وَأَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ بِرَحْمَتِهِ مَنْ أَرَادَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ, أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ أَنْ يُخْرِجُوا مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا مِمَّنْ أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَرْحَمَهُ, مِمَّنْ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَيَعْرِفُونَهُمْ فِي النَّارِ بِأَثَرِ السُّجُودِ, تَأْكُلُ النَّارُ مِنَ ابْنِ أَدَمَ إِلَّا أَثَرَ السُّجُودِ, حَرَّمَ اللَّهُ عَلَى النَّارِ أَنْ تَأْكُلَ أَثَرَ السُّجُودِ, فَيَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ قَدِ امْتَحَشُوا فَيُصَبُّ عَلَيْهِمْ مَاءُ الْحَيَاةِ فَيَنْبُتُونَ تَحْتَهُ كَمَا تَنْبُتُ الْحَبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ, ثُمَّ يَفْرَغُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْقَضَاءِ بَيْنَ الْعِبَادِ وَيَبْقَى رَجُلٌ مُقْبِلٌ بِوَجْهِهِ عَلَى النَّارِ, هُوَ آخِرُ أَهْلِ النَّارِ دُخُولًا الْجَنَّةَ" 1 الْحَدِيثُ تَقَدَّمَ بِطُولِهِ. وَتَقَدَّمَ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ أَيْضًا بِطُولِهِ, وَفِيهِ فِي نَعْتِ الْمُرُورِ عَلَى
الصِّرَاطِ "حَتَّى يَمُرَّ آخِرُهُمْ يُسْحَبُ سَحْبًا, فَمَا أَنْتُمْ بِأَشَدَّ لِي مُنَاشَدَةً فِي الْحَقِّ, قَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِ يَوْمَئِذٍ لِلْجَبَّارِ إِذَا رَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ نَجَوْا فِي إِخْوَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِخْوَانُنَا كَانُوا يُصَلُّونَ مَعَنَا وَيَصُومُونَ مَعَنَا وَيَعْمَلُونَ مَعَنَا فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى اذْهَبُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ دِينَارٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجُوهُ وَيُحَرِّمُ اللَّهُ تَعَالَى صُوَرَهُمْ عَلَى النَّارِ, فَيَأْتُونَهُمْ وَبَعْضُهُمْ قَدْ غَارَ فِي النَّارِ إِلَى قَدَمِهِ وَإِلَى أَنْصَافِ سَاقَيْهِ فَيُخْرِجُونَ مَنْ عَرَفُوا ثُمَّ يَعُودُونَ فَيَقُولُ اذْهَبُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ نِصْفِ دِينَارٍ فَأَخْرِجُوهُ, فَيُخْرِجُونَ مَنْ عَرَفُوا ثُمَّ يَعُودُونَ فَيَقُولُ اذْهَبُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجُوهُ, فَيُخْرِجُونَ مَنْ عَرَفُوا -قَالَ أَبُو سَعِيدٍ فَإِنْ لَمْ تُصَدِّقُونِي فَاقْرَءُوا {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} [النِّسَاءِ: 40]- فَيَشْفَعُ النَّبِيُّونَ وَالْمَلَائِكَةُ وَالْمُؤْمِنُونَ فَيَقُولُ الْجَبَّارُ بَقِيَتْ شَفَاعَتِي, فَيَقْبِضُ قَبْضَةً مِنَ النَّارِ فَيُخْرِجُ أَقْوَامًا قَدِ امْتُحِشُوا فَيُلْقَوْنَ فِي نَهْرٍ بِأَفْوَاهِ الْجَنَّةِ يُقَالُ لَهُ مَاءُ الْحَيَاةِ, فَيَنْبُتُونَ فِي حَافَّتَيْهِ كَمَا تَنْبُتُ الْحَبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ قَدْ رَأَيْتُمُوهَا إِلَى جَانِبِ الصَّخْرَةِ إِلَى جَانِبِ الشَّجَرَةِ, فَمَا كَانَ إِلَى الشَّمْسِ مِنْهَا كَانَ أَخْضَرَ وَمَا كَانَ إِلَى الظِّلِّ كَانَ أَبْيَضَ, فَيَخْرُجُونَ كَأَنَّهُمُ اللُّؤْلُؤُ فَيُجْعَلُ فِي رِقَابِهِمُ الْخَوَاتِيمُ فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ, فَيَقُولُ أَهْلُ الْجَنَّةِ هَؤُلَاءِ عُتَقَاءُ الرَّحْمَنِ أَدْخَلَهُمُ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ عَمَلٍ عَمِلُوهُ وَلَا خَيْرٍ قَدَّمُوهُ فَيُقَالُ لَهُمْ لَكُمْ مَا رَأَيْتُمْ وَمِثْلُهُ مَعَهُ 1 -وَفِي لَفْظِ مُسْلِمٍ- حَتَّى إِذَا خَلَصَ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ بِأَشَدَّ مُنَاشَدَةً لِلَّهِ فِي اسْتِقْصَاءِ الْحَقِّ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لِلَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ فِي النَّارِ, يَقُولُونَ رَبَّنَا كَانُوا يَصُومُونَ مَعَنَا وَيُصَلُّونَ مَعَنَا وَيَحُجُّونَ فَيُقَالُ لَهُمْ أَخْرِجُوا مَنْ عَرَفْتُمْ, فَتُحَرَّمُ صُوَرُهُمْ عَلَى النَّارِ فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا قَدْ أَخَذَتِ النَّارُ إِلَى نِصْفِ سَاقَيْهِ وَإِلَى رُكْبَتَيْهِ, ثُمَّ يَقُولُونَ رَبَّنَا مَا بَقِيَ فِيهَا أَحَدٌ مِمَّنْ أَمَرْتَنَا بِهِ فَيَقُولُ ارْجِعُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ دِينَارٍ مِنْ خَيْرٍ فَأَخْرِجُوهُ, فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا ثُمَّ يَقُولُونَ رَبَّنَا لَمْ نَذَرْ فِيهَا أَحَدًا مِمَّنْ أَمَرْتَنَا بِهِمْ يَقُولُ ارْجِعُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ نِصْفِ دِينَارٍ مِنْ خَيْرٍ فَأَخْرِجُوهُ, فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا ثُمَّ يَقُولُونَ رَبَّنَا لَمْ نَذَرْ فِيهَا مِمَّنْ أَمَرْتَنَا أَحَدًا ثُمَّ يَقُولُ
ارْجِعُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ فَأَخْرِجُوهُ فَيُخْرِجُونَ كَثِيرًا, ثُمَّ يَقُولُونَ رَبَّنَا لَمْ نَذَرْ فِيهَا خَيْرًا" وَكَانَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ إِنْ لَمْ تُصَدِّقُونِي بِهَذَا الْحَدِيثِ فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النِّسَاءِ: 40] "فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ شَفَعَتِ الْمَلَائِكَةُ وَشَفَعَ النَّبِيُّونَ وَشَفَعَ الْمُؤْمِنُونَ وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ, فَيَقْبِضُ قَبْضَةً مِنَ النَّارِ فَيُخْرِجُ مِنْهَا قَوْمًا لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ قَدْ عَادُوا حُمَمًا, فَيُلْقِيهِمْ فِي نَهَرٍ فِي أَفْوَاهِ الْجَنَّةِ يُقَالُ لَهُ نَهَرُ الْحَيَاةِ فَيَخْرُجُونَ كَمَا تَخْرُجُ الْحَبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ, أَلَا تَرَوْنَهَا تَكُونُ إِلَى الْحَجَرِ أَوْ إِلَى الشَّجَرِ, مَا يَكُونُ مِنْهَا إِلَى الشَّمْسِ أُصَيْفِرُ وَأُخَيْضِرُ وَمَا يَكُونُ مِنْهَا إِلَى الظِّلِّ يَكُونُ أَبْيَضَ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ كَأَنَّكَ كُنْتَ تَرْعَى بِالْبَادِيَةِ قَالَ فَيَخْرُجُونَ كَاللُّؤْلُؤِ فِي رِقَابِهِمُ الْخَوَاتِمُ يَعْرِفُهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ, هَؤُلَاءِ عُتَقَاءُ اللَّهِ الَّذِينَ أَدْخَلَهُمُ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ عَمَلٍ عَمِلُوهُ وَلَا خَيْرٍ قَدَّمُوهُ, ثُمَّ يَقُولُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ فَمَا رَأَيْتُمُوهُ فَهُوَ لَكُمْ فَيَقُولُونَ رَبَّنَا أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ فَيَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي أَفْضَلُ مِنْ هَذَا, فَيَقُولُونَ رَبَّنَا أَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ هَذَا فَيَقُولُ رِضَايَ فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا" 1. وَفِيهِمَا مِنْ حَدِيثِهِ أَيْضًا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "يُدْخِلُ اللَّهُ أَهْلَ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ, يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ, وَيُدْخِلُ أَهْلَ النَّارِ النَّارَ ثُمَّ يَقُولُ انْظُرُوا مَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجُوهُ, فَيَخْرُجُونَ مِنْهَا حُمَمًا قَدِ امْتَحَشُوا فَيُلْقَوْنَ فِي نَهَرِ الْحَيَاةِ أَوِ الْحَيَا فَيَنْبُتُونَ فِيهِ كَمَا تَنْبُتُ الْحَبَّةُ إِلَى جَانِبِ السَّيْلِ, أَلَمْ تَرَوْهَا كَيْفَ تَخْرُجُ صَفْرَاءَ مُلْتَوِيَةً, وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ كَمَا تَنْبُتُ الْغُثَاءَةُ فِي جَانِبِ السَّيْلِ" 2. وَلَهُ عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَمَّا أَهْلُ النَّارِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُهَا, فَإِنَّهُمْ لَا يَمُوتُونَ فِيهَا وَلَا يُحْيَوْنَ, وَلَكِنْ نَاسٌ أَصَابَتْهُمُ النَّارُ بِذُنُوبِهِمْ - أَوْ قَالَ
بِخَطَايَاهُمْ- فَأَمَاتَهُمْ إِمَاتَةً حَتَّى إِذَا كَانُوا فَحْمًا أُذِنَ بِالشَّفَاعَةِ فَجِيءَ بِهِمْ ضَبَائِرَ ضَبَائِرَ فَبُثُّوا عَلَى أَنْهَارِ الْجَنَّةِ, ثُمَّ قِيلَ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ أَفِيضُوا عَلَيْهِمْ, فَيَنْبُتُونَ نَبَاتَ الْحَبَّةِ تَكُونُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ". فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ كَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ كَانَ بِالْبَادِيَةِ" 1. وَلِلتِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَقُولُ وَعَدَنِي رَبِّي أَنْ يُدْخِلَ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعِينَ أَلْفًا لَا حِسَابَ عَلَيْهِمْ وَلَا عَذَابَ, مَعَ كُلِّ أَلْفٍ سَبْعُونَ أَلْفًا وَثَلَاثُ حَثَيَاتٍ مِنْ حَثَيَاتِ رَبِّي" هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ2. وَلَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ قَالَ كُنْتُ مَعَ رَهْطٍ بِإِيلِيَاءَ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِشَفَاعَةِ رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَكْثَرُ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ" قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ سِوَاكَ قَالَ: "سِوَايَ" فَلَمَّا قَامَ قُلْتُ مَنْ هَذَا قَالُوا هَذَا ابْنُ أَبِي الْجَذْعَاءِ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ وَابْنُ أَبِي الْجَذْعَاءِ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ, وَإِنَّمَا يُعْرَفُ لَهُ هَذَا الْحَدِيثُ الْوَاحِدُ وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ3. وَلِلتِّرْمِذِيِّ أَيْضًا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَشْفَعُ لِلْفِئَامِ مِنَ النَّاسِ, ومنهم مَنْ يَشْفَعُ لِلْقَبِيلَةِ, وَمِنْهُمْ مَنْ يَشْفَعُ لِلْعَصَبَةِ, وَمِنْهُمْ مَنْ يَشْفَعُ لِلرَّجُلِ, حَتَّى يَدْخُلُوا الْجَنَّةَ" هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ4.
وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "يَخْرُجُ قَوْمٌ مِنَ النَّارِ بِشَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ, وَيُسَمَّوْنَ الْجَهَنَّمِيِّينَ" وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ1 وَلَهُ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "خُيِّرْتُ بَيْنَ الشَّفَاعَةِ وَبَيْنَ أَنْ يَدْخُلَ نِصْفُ أُمَّتِي الْجَنَّةَ, فَاخْتَرْتُ الشَّفَاعَةَ لِأَنَّهَا أَعَمُّ وَأَكْفَى, تَرَوْنَهَا لِلْمُتَّقِينَ, لَا وَلَكِنَّهَا لِلْمُذْنِبِينَ الْخَطَّائِينَ الْمُتَلَوِّثِينَ" 2. وَلَهُ عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَتَدْرُونَ مَا خَيَّرَنِي رَبِّي اللَّيْلَةَ" قُلْنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمُ قَالَ "فَإِنَّهُ خَيَّرَنِي بَيْنَ أَنْ يُدْخِلَ نِصْفَ أُمَّتِي الْجَنَّةَ وَبَيْنَ الشَّفَاعَةِ" , فَاخْتَرْتُ الشَّفَاعَةَ قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنَا مِنْ أَهْلِهَا قَالَ "هِيَ لِكُلِّ مُسْلِمٍ" 3 وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِلَفْظِ "فَاخْتَرْتُ الشَّفَاعَةَ, وَهِيَ لِمَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا" 4 وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ جِدًّا مَشْهُورَةٌ مُسْتَفِيضَةٌ بَلْ مُتَوَاتِرَةٌ, وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْهَا مَا فِيهِ كِفَايَةٌ, وَتَقَدَّمَ فِي أَحَادِيثِ الرُّؤْيَةِ جُمْلَةٌ مِنْهَا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَبَقِيَ مِنَ النُّصُوصِ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرٌ, وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
باب الإيمان بالقضاء والقدر، وهو الركن السادس
المجلد الثالث تابع النوع الثاني: توحيد الطلب والقصد تابع أركان الإيمان: بَابُ الْإِيمَانِ بِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ وَالسَّادِسُ الْإِيمَانُ بِالْأَقْدَارِ ... فَأَيْقِنَنْ بِهَا وَلَا تُمَارِ فَكُلُّ شَيْءٍ بِقَضَاءٍ وَقَدَرْ ... وَالْكُلُّ فِي أُمِّ الْكِتَابِ مُسْتَطَرْ السادس مِنْ أَرْكَانِ الْإِيمَانِ الْمَشْرُوحَةِ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ وَغَيْرِهِ هُوَ الْإِيمَانُ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [الْقَمَرِ: 49] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [الْأَحْزَابِ: 38] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} [الْأَحْزَابِ: 37] وَقَالَ تَعَالَى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التَّغَابُنِ: 11] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ} [آلِ عِمْرَانَ: 166] وَقَالَ تَعَالَى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ، الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [الْبَقَرَةِ: 156] وَقَالَ تَعَالَى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى، وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى، وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [اللَّيْلِ: 5-10] وَقَالَ تَعَالَى: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الْفَاتِحَةِ] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ. وَقَالَ مُسْلِمٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى بْنُ حَمَّادٍ قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكِ بن أنس "ح" وحدثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ مَالِكٍ فِيمَا قُرِئَ عَلَيْهِ عَنْ زِيَادِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ طَاوُسٍ أَنَّهُ قَالَ: أَدْرَكْتُ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُونَ: "كُلُّ شَيْءٍ بِقَدَرٍ". قَالَ: وَسَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَقُولُ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كُلُّ شَيْءٍ بِقَدَرٍ, حَتَّى الْعَجْزِ وَالْكَيْسِ" أَوِ "الْكَيْسِ وَالْعَجْزِ"1. حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَبُو كُرَيْبٍ قَالَا حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ زِيَادِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِبَادِ بْنِ جَعْفَرٍ الْمَخْزُومِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ يُخَاصِمُونَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الْقَدَرِ. فَنَزَلَتْ {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ، إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [الْقَمَرِ: 48- 49] وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ2. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: بَابَ {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [الْأَحْزَابِ: 38] حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تَسْأَلِ الْمَرْأَةُ طَلَاقَ أُخْتِهَا لِتَسْتَفْرِغَ صَحْفَتَهَا وَلِتُنْكَحَ فَإِنَّ لَهَا مَا قُدِّرَ لَهَا" 3. حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ عَنْ أُسَامَةَ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذْ جَاءَهُ رَسُولُ إِحْدَى بَنَاتِهِ وَعِنْدَهُ سَعْدٌ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَمُعَاذٌ أَنَّ ابْنَهَا يَجُودُ بِنَفْسِهِ فَبَعَثَ إِلَيْهَا: "لِلَّهِ مَا أَخَذَ وَلِلَّهِ مَا أَعْطَى, كُلٌّ بِأَجَلٍ فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ" 4. حَدَّثَنَا حِبَّانُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَيْرِيْزٍ الْجُمَحِيُّ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نُصِيبُ سَبْيًا وَنُحِبُّ الْمَالَ كَيْفَ تَرَى فِي الْعَزْلِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَوَإِنَّكُمْ تَفْعَلُونَ ذَلِكَ؟ لَا عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَفْعَلُوا؛ فَإِنَّهُ لَيْسَتْ نَسَمَةٌ كَتَبَ اللَّهُ أَنْ تَخْرُجَ إِلَّا هِيَ كَائِنَةٌ"5.
وَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "لَا يَأْتِي ابْنَ آدَمَ النَّذْرُ بِشَيْءٍ لَمْ يَكُنْ قَدْ قَدَّرْتُهُ وَلَكِنْ يُلْقِيهِ الْقَدَرُ وَقَدْ قَدَّرْتُهُ لَهُ أَسْتَخْرِجُ بِهِ مِنَ الْبَخِيلِ" 1. وَقَالَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَأْتِي ابْنَ آدَمَ النَّذْرُ بِشَيْءٍ لم يكن قد قُدِّرَ لَهُ وَلَكِنْ يُلْقِيهِ النَّذْرُ إِلَى الْقَدَرِ قَدْ قُدِّرَ لَهُ فيستخرج الله تعالى بِهِ مِنَ الْبَخِيلِ فَيُؤْتِي عَلَيْهِ مَا لَمْ يَكُنْ يُؤْتِي عَلَيْهِ مِنْ قَبْلُ" 2. وَقَالَ مُسْلِمٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ نُمَيْرٍ قَالَا حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ عُثْمَانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ, احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجَزْ وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا. وَلَكِنْ قُلْ: قَدَّرَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ" 3. وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ قَوْلُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَهُ: "وَاعْلَمْ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ, وَمَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ".4 الْحَدِيثَ. وَالْأَحَادِيثُ فِي الْقَدَرِ كَثِيرَةٌ جِدًّا قَدْ تَقَدَّمَ مِنْهَا أَشْيَاءُ مُتَفَرِّقَةٌ وَسَنَذْكُرُ مِنْهَا مَا يُيَسِّرُهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي هَذَا الْبَابِ.
فصل: الإيمان بالقدر على أربع مراتب
فَصْلٌ: الْإِيمَانُ بِالْقَدَرِ عَلَى أَرْبَعِ مَرَاتِبَ وَاعْلَمْ رَحِمَكَ اللَّهُ تَعَالَى وَوَفَّقَنَا وَإِيَّاكَ لِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ وَهَدَانَاهُ وَإِيَّاكَ صِرَاطَهُ الْمُسْتَقِيمَ أَنَّ الْإِيمَانَ بِالْقَدَرِ عَلَى أَرْبَعِ مَرَاتِبَ: الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى: الْإِيمَانُ بِعِلْمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الْمُحِيطِ بِكُلِّ شَيْءٍ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ وَالْمَعْدُومَاتِ وَالْمُمْكِنَاتِ وَالْمُسْتَحِيلَاتِ, فَعَلِمَ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ وَمَا لَمْ يَكُنْ لَوْ كَانَ كَيْفَ يَكُونُ, وَأَنَّهُ عَلِمَ مَا الْخَلْقُ عَامِلُونَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُمْ وَعَلِمَ أَرْزَاقَهُمْ وَآجَالَهُمْ وَأَحْوَالَهُمْ وَأَعْمَالَهُمْ فِي جَمِيعِ حَرَكَاتِهِمْ وَسَكَنَاتِهِمْ وَشَقَاوَتِهِمْ وَسَعَادَتِهِمْ وَمَنْ هُوَ مِنْهُمْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَمَنْ هُوَ مِنْهُمْ مَنْ أَهْلِ النَّارِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَخْلُقَهُمْ وَمِنْ قَبْلِ أَنْ يَخْلُقَ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ عَلِمَ دِقَّ ذَلِكَ وَجَلِيلَهُ وَكَثِيرَهُ وَقَلِيلَهُ وَظَاهِرَهُ وَبَاطِنَهُ وَسِرَّهُ وَعَلَانِيَتَهُ وَمَبْدَأَهُ وَمُنْتَهَاهُ, كُلُّ ذَلِكَ بِعِلْمِهِ الَّذِي هُوَ صِفَتُهُ وَمُقْتَضَى اسْمِهِ الْعَلِيمِ الْخَبِيرِ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ عَلَّامِ الْغُيُوبِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [الْحَشْرِ: 22] وَقَالَ تَعَالَى: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطَّلَاقِ: 12] وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا} [الْجِنِّ: 28] وَقَالَ تَعَالَى: {عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ} [سَبَأٍ: 3] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى} , {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ ... } , {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْم ... } , {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النَّجْمِ: 30] وَقَالَ تَعَالَى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام: 53]- {أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ} [الْعَنْكَبُوتِ: 10] وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا
تَعْلَمُونَ} [الْبَقَرَةِ: 30] الْآيَاتِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [الْبَقَرَةِ: 216] . وَقَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: بَابَ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ, حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ أَوْلَادِ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ: "اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ" 1. حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يُونُسَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ وَأَخْبَرَنِي عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ ذَرَارِيِّ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ: "اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ" 2. حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ, قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوَ يُنَصِّرَانِهِ كَمَا تُنْتِجُونَ الْبَهِيمَةَ هَلْ تَجِدُونَ فِيهَا مِنْ جدعاء حتى تكوتوا أَنْتُمْ تَجْدَعُونَهَا". قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَفَرَأَيْتَ مَنْ يَمُوتُ وَهُوَ صَغِيرٌ؟ قَالَ: "اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ" 3. وَقَالَ أَيْضًا رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا يَزِيدُ الرِّشْكُ قَالَ: سَمِعْتُ مُطَرِّفَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ يُحَدِّثُ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُعْرَفُ أَهْلُ الْجَنَّةِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ؟ قَالَ: "نَعَمْ". قَالَ: فَلِمَ يَعْمَلُ
الْعَامِلُونَ؟ قَالَ: "كُلٌّ يَعْمَلُ لِمَا خُلِقَ لَهُ" أَوْ "لِمَا يُسِّرَ لَهُ" 1. وَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَعْظَمِ الْمُسْلِمِينَ غَنَاءً عَنِ الْمُسْلِمِينَ فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَنَظَرَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: "مَنْ أَحَبَّ أَنْ ينظر إلى رجل مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا". فَاتَّبَعَهُ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ حَتَّى جُرِحَ فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ فَجَعَلَ ذُبَابَةَ سَيْفِهِ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ حَتَّى خَرَجَ مِنْ بَيْنِ كَتِفَيْهِ فَأَقْبَلَ الرَّجُلُ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُسْرِعًا فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ: "وَمَا ذَاكَ؟ " قَالَ: قُلْتَ لِفُلَانٍ: مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَلْيَنْظُرْ إِلَيْهِ وَكَانَ مِنْ أَعْظَمِنَا غَنَاءً عَنِ الْمُسْلِمِينَ فَعَرَفْتُ أَنَّهُ لَا يَمُوتُ عَلَى ذَلِكَ. فَلَمَّا جُرِحَ اسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ فَقَتَلَ نَفْسَهُ. فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عِنْدَ ذَلِكَ: "إِنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ وَإِنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ, وَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَإِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ, وَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ" 2. وَقَالَ مُسْلِمٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ رَقَبَةَ بْنِ مَسْقَلَةَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ الْغُلَامَ الَّذِي قَتَلَهُ الْخَضِرُ طُبِعَ كَافِرًا, وَلَوْ عَاشَ لَأَرْهَقَ أَبَوَيْهِ طُغْيَانًا وَكُفْرًا" 3. حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ فُضَيْلِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: تُوُفِّيَ صَبِيٌّ فَقُلْتُ: طُوبَى لَهُ عُصْفُورٌ مِنْ عَصَافِيرِ الْجَنَّةِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَوَلَا تَدْرِينَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ
الْجَنَّةَ وَخَلَقَ النَّارَ فَخَلَقَ لِهَذِهِ أَهْلًا وَلِهَذِهِ أَهْلًا" 1. حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ يَحْيَى عَنْ عَمَّتِهِ عَائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: دُعِيَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى جِنَازَةِ صَبِيٍّ مِنَ الْأَنْصَارِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ طُوبَى لَهُ عُصْفُورٌ مِنْ عَصَافِيرِ الْجَنَّةِ لَمْ يَعْمَلِ السُّوءَ وَلَمْ يُدْرِكْهُ قَالَ: "أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ يَا عَائِشَةُ؛ إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ لِلْجَنَّةِ أَهْلًا خَلَقَهُمْ لَهَا وَهُمْ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ, وَخَلَقَ لِلنَّارِ أَهْلًا خَلَقَهُمْ لَهَا وَهُمْ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ" 2. وَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ -يَعْنِي ابْنَ مُحَمَّدٍ- عَنِ الْعَلَاءِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ الزَّمَنَ الطَّوِيلَ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ ثُمَّ يُخْتَمُ لَهُ عَمَلُهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ, وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ الزَّمَنَ الطَّوِيلَ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ ثُمَّ يُخْتَمُ لَهُ عَمَلُهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ" 3. قُلْتُ: وَهَذَا الْحَدِيثُ وَمَا فِي مَعْنَاهُ تَفْسِيرُهُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالسُّنَّةِ عَلَى حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ -يَعْنِي ابْنَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ الْقَارِيَّ- عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إِنِ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ, وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ" 4 الْحَدِيثُ يُفَسِّرُ الْأَوَّلَ أَنَّ عَمَلَ الْمَخْتُومِ لَهُ بِالشَّقَاوَةِ إِذَا ظَهَرَ صَلَاحُهُ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ. وَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا عَزْرَةُ بْنُ ثَابِتٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ عُقَيْلٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ عَنْ أبي الأسود الدؤلي قَالَ: قَالَ لِيَ عِمْرَانُ بْنُ الْحُصَيْنِ أَرَأَيْتَ مَا يَعْمَلُ النَّاسُ الْيَوْمَ وَيَكْدَحُونَ
المرتبة الثانية: أن كتاب الله لم يفرط فيه من شيء
فِيهِ, أَشَيْءٌ قُضِيَ عَلَيْهِمْ وَمَضَى عَلَيْهِمْ مِنْ قَدَرِ مَا سَبَقَ؟ أَوْ فِيمَا يُسْتَقْبَلُونَ بِهِ مِمَّا أَتَاهُمْ بِهِ نَبِيُّهُمْ وَثَبَتَتِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ؟ فَقُلْتُ: بَلْ شَيْءٌ قُضِيَ عَلَيْهِمْ وَمَضَى عَلَيْهِمْ. قَالَ: فَقَالَ أَفَلَا يَكُونُ ظُلْمًا؟ قَالَ فَفَزِعْتُ مِنْ ذَلِكَ فَزَعًا شَدِيدًا وَقُلْتُ: كُلُّ شَيْءٍ خَلْقُ اللَّهِ وَمِلْكُ يده فلا يسئل عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ, فَقَالَ لِي: يرحمك الله تعالى إِنِّي لَمْ أُرِدْ بِمَا سَأَلْتُكَ إِلَّا لِأَحْزُرَ عَقْلَكَ, إِنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ مُزَيْنَةَ أَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ مَا يَعْمَلُ النَّاسُ الْيَوْمَ وَيَكْدَحُونَ فِيهِ, أَفِي شَيْءٍ قُضِيَ عَلَيْهِمْ وَمَضَى فِيهِمْ مِنْ قَدَرٍ قَدْ سَبَقَ أَوْ فِيمَا يُسْتَقْبَلُونَ بِهِ مِمَّا أَتَاهُمْ بِهِ نَبِيُّهُم -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَثَبَتَتِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ؟ فَقَالَ: "لَا بَلْ شَيْءٌ قُضِيَ عَلَيْهِمْ وَمَضَى فِيهِمْ وَتَصْدِيقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ": {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشَّمْسِ: 8] 1. وَفِيهِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذَاتَ يَوْمٍ جَالِسًا وَفِي يَدِهِ عُودٌ يَنْكُتُ بِهِ, فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: "مَا مِنْكُمْ مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إِلَّا وَقَدْ عُلِمَ مَنْزِلُهَا مِنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ". قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَلِمَ نَعْمَلُ أَفَلَا نَتَّكِلُ قَالَ: "اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ" ثُمَّ قَرَأَ {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى إِلَى قَوْلِهِ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [اللَّيْلِ: 5-10] 2 وَالْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ شَهِيرَةٌ يَطُولُ اسْتِقْصَاؤُهَا وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْهَا جُمْلَةٌ فِي إِثْبَاتِ عِلْمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ تَوْحِيدِ الْمَعْرِفَةِ وَالْإِثْبَاتِ. "فَصْلٌ" الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ مَرَاتِبِ الْإِيمَانِ بِالْقَدَرِ: الْإِيمَانُ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي لَمْ يُفَرِّطْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الْأَنْعَامِ: 38] وَقَالَ تَعَالَى: {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس: 12] وَقَالَ تَعَالَى: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ، وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ} [الْقَمَرِ: 53] وَقَالَ تَعَالَى: عَنْ مُوسَى حِينَ قَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ {فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى، قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ
رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} [طه: 52] . وَقَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الْحَجِّ: 70] وَقَالَ تَعَالَى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الْأَنْعَامِ: 59] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [يُونُسَ: 61] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [فَاطِرٍ: 11] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي يُقْرَنُ فِيهَا بَيْنَ إِثْبَاتِ الْعِلْمِ وَالْكِتَابِ أَوْ يُذْكَرُ كُلٌّ عَلَى حِدَتِهِ, وَكِتَابُهُ تَعَالَى مِنْ عِلْمِهِ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدَّثَنَا عَبْدَانُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَمَعَهُ عُودٌ يَنْكُتُ فِي الْأَرْضِ وَقَالَ: "مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا قَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنَ النَّارِ أَوْ مِنَ الْجَنَّةِ". فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: أَلَا نَتَّكِلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "لَا, اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ" ثُمَّ قَرَأَ {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} [اللَّيْلِ: 5] 1. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ بِأَبْسَطَ مِنْهُ فَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ -وَاللَّفْظُ لِزُهَيْرٍ- قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا. وَقَالَ الْآخَرَانِ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كُنَّا فِي جِنَازَةٍ فِي بَقِيعِ الْغَرْقَدِ, فَأَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَعَدَ وَقَعَدْنَا حَوْلَهُ وَمَعَهُ مِخْصَرَةٌ, فَنَكَّسَ فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِمِخْصَرَتِهِ ثُمَّ قَالَ: "مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ, مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إِلَّا وَقَدْ كَتَبَ اللَّهُ تَعَالَى مَكَانَهَا مِنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ, وَإِلَّا وَقَدْ كُتِبَتْ شَقِيَّةً أَوْ سَعِيدَةً. قَالَ فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ
أَفَلَا نَمْكُثُ عَلَى كِتَابِنَا وَنَدَعُ الْعَمَلَ؟ فَقَالَ: "مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَسَيَصِيرُ إِلَى عَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ, وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ فَسَيَصِيرُ إِلَى عَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ. فَقَالَ: اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ. وأما أَهْلُ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ, وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ. ثُمَّ قَرَأَ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى، وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى، وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} 1 [اللَّيْلِ: 5-10] . وَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزُّبَيْرِ "ح" وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى أَخْبَرَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: جَاءَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ, قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بَيِّنْ لَنَا دِينَنَا كَأَنَّا خُلِقْنَا الْآنَ. فِيمَا الْعَمَلُ الْيَوْمَ؟ أَفِيمَا جَفَّتْ بِهِ الْأَقْلَامُ وَجَرَتْ بِهِ الْمَقَادِيرُ أَمْ فِيمَا نَسْتَقْبِلُ؟ قَالَ: "لَا, بَلْ فِيمَا جَفَّتْ بِهِ الْأَقْلَامُ وَجَرَتْ بِهِ الْمَقَادِيرُ" قَالَ: فَفِيمَ الْعَمَلُ؟ قَالَ زُهَيْرٌ: ثُمَّ تَكَلَّمَ أَبُو الزُّبَيْرِ بِشَيْءٍ لَمْ أَفْهَمْهُ. فَسَأَلْتُ مَا قَالَ؟ فَقَالَ: "اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ" وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كُلُّ عَامِلٍ مُيَسَّرٌ لِعَمَلِهِ" 2. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: بَابَ {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 95] {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هُودٍ: 36] {وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نُوحٍ: 27] وَقَالَ مَنْصُورُ بْنُ النُّعْمَانِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: وَحِرْمٌ بِالْحَبَشِيَّةِ وَجَبَ3. حَدَّثَنِي مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابن عباس رضي الله عنهما قَالَ: مَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَشْبَهَ بِاللَّمَمِ مِمَّا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَا أَدْرَكَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ فَزِنَا الْعَيْنِ النَّظَرُ وَزِنَا اللِّسَانِ الْمَنْطِقُ وَالنَّفْسُ تَمَنَّى وَتَشْتَهِي وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ" وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ
بِهَذَا اللَّفْظِ1. وَبِلَفْظٍ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كُتِبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ نَصِيبُهُ مِنَ الزِّنَا مُدْرِكٌ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ, فَالْعَيْنَانِ زِنَاهُمَا النَّظَرُ وَالْأُذُنَانِ زِنَاهُمَا الِاسْتِمَاعُ وَاللِّسَانُ زِنَاهُ الْكَلَامُ وَالْيَدُ زِنَاهَا الْبَطْشُ وَالرِّجْلُ زِنَاهَا الْخُطَا وَالْقَلْبُ يَهْوَى وَيَتَمَنَّى وَيُصَدِّقُ ذَلِكَ الْفَرْجُ وَيُكَذِّبُهُ" 2. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدَّثَنَا يُونُسُ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ قَيْسِ بْنِ الْحَجَّاجِ عَنْ حَنَشٍ الصَّنْعَانِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ رَكِبَ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمًا فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا غُلَامُ إِنِّي مُعْلِمُكَ كَلِمَاتٍ يَنْفَعُكَ اللَّهُ بِهِنَّ؛ احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ, احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ, وإذا سألت فسأل اللَّهَ, وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ, وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ, وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ لَمْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ, رُفِعَتِ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ" , وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِنَحْوِهِ وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ3. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ حَدَّثَنَا لَيْثٌ حَدَّثَنِي أَبُو قَبِيلٍ الْمَعَافِرِيُّ عَنْ شُفَيٍّ الْأَصْبَحِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَفِي يَدِهِ كِتَابَانِ فَقَالَ: "أَتَدْرُونَ مَا هَذَانِ الْكِتَابَانِ" قَالَ: قُلْنَا: إِلَّا أَنْ تُخْبِرَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ, قَالَ لِلَّذِي فِي يَدِهِ الْيُمْنَى: "هَذَا كِتَابٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِأَسْمَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ وَقَبَائِلِهِمْ ثُمَّ أُجْمِلَ على آخرهم فلا يُزَادُ فِيهِمْ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُمْ أَبَدًا" ثُمَّ قَالَ لِلَّذِي فِي يَسَارِهِ: "هَذَا كِتَابُ أَهْلِ النَّارِ بِأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ وَقَبَائِلِهِمْ ثُمَّ أُجْمِلَ عَلَى آخِرِهِمْ لَا يُزَادُ فِيهِمْ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُمْ أَبَدًا". فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فلأي شيء إذًا نَعْمَلُ إِنْ كان هذا أمر قَدْ فُرِغَ مِنْهُ؟ قَالَ
الإيمان بكتابة المقادير يدخل فيه خمسة تقادير
رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "سَدِّدُوا وَقَارِبُوا فَإِنَّ صَاحِبَ الْجَنَّةِ يُخْتَمُ بِعَمَلِ الْجَنَّةِ وَإِنْ عَمِلَ أَيَّ عَمَلٍ, وَإِنَّ صَاحِبَ النَّارِ لَيُخْتَمُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ وَإِنْ عَمِلَ أَيَّ عَمَلٍ, ثُمَّ قَالَ بِيَدِهِ فَقَبَضَهَا ثُمَّ قَالَ: فَرَغَ رَبُّكُمْ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الْعِبَادِ ثُمَّ قَالَ بِالْيُمْنَى فَنَبَذَ بِهَا فَقَالَ: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ. وَنَبَذَ بِالْيُسْرَى فَقَالَ: فَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ" وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِنَحْوِهِ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ1. وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ كَثِيرٌ. "فَصْلٌ" وَالْإِيمَانُ بِكِتَابَةِ الْمَقَادِيرِ يَدْخُلُ فِيهِ خَمْسَةُ تَقَادِيرَ: "الْأَوَّلُ" التَّقْدِيرُ الْأَزَلِيُّ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عِنْدَمَا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى الْقَلَمَ, كَمَا قَالَ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التَّوْبَةِ: 51] الْآيَةَ. وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الْحَدِيدِ: 22] . وَقَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ حَدَّثَنَا جَامِعُ بْنُ شَدَّادٍ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ أَنَّهُ حَدَّثَهُ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَعَقَلْتُ نَاقَتِي بِالْبَابِ, فَأَتَاهُ نَاسٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ فَقَالَ: "اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا بَنِي تَمِيمٍ". قَالُوا: قَدْ بَشَّرْتَنَا فَأَعْطِنَا "مَرَّتَيْنِ". ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهِ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ فَقَالَ: "اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا أَهْلَ الْيَمَنِ إِذْ لَمْ يَقْبَلْهَا بَنُو تَمِيمٍ" قَالُوا: قَبِلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالُوا جِئْنَاكَ نَسْأَلُكَ عَنْ أَوَّلِ هَذَا الْأَمْرِ. قَالَ: "كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ غَيْرُهُ, وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ, وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شيء, وخلق السماوات وَالْأَرْضَ. فَنَادَى مُنَادٍ: ذهبت ناقتك يابن الْحُصَيْنِ, فَانْطَلَقْتُ فَإِذَا هِيَ يَقْطَعُ دُونَهَا السَّرَابُ, فَوَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ تَرَكْتُهَا" 2.
وَقَالَ مُسْلِمٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ الله بن عمرو بْنِ سَرْحٍ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي أَبُو هَانِئٍ الْخَوْلَانِيُّ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "كَتَبَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ قَالَ وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ". وَلَهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ حَدِيثُ احْتِجَاجِ آدَمَ وَمُوسَى, وَهَذَا اللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ عِنْدَ رَبِّهِمَا, فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى. قَالَ مُوسَى: أَنْتَ آدَمُ الَّذِي خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ, وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ, وَأَسْجَدَ لَكَ مَلَائِكَتَهُ وَأَسْكَنَكَ فِي جَنَّتِهِ, ثُمَّ أَهْبَطْتَ النَّاسَ بِخَطِيئَتِكَ إِلَى الْأَرْضِ. فَقَالَ آدَمُ: أَنْتَ مُوسَى الَّذِي اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِرِسَالَتِهِ وَبِكَلَامِهِ, وَأَعْطَاكَ الْأَلْوَاحَ فِيهَا تِبْيَانُ كُلِّ شَيْءٍ, وَقَرَّبَكَ نَجِيًّا, فَبِكَمْ وجدت الله تعالى كَتَبَ التَّوْرَاةَ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ؟ قال موسى: بأريعين عَامًا. قَالَ آدَمُ: فَهَلْ وَجَدْتَ فِيهَا {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه: 122] ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: أَفَتَلُومُنِي عَلَى أَنْ عَمِلْتُ عَمَلًا كَتَبَ اللَّهُ عَلَيَّ أَنْ أَعْمَلَهُ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي بِأَرْبَعِينَ سَنَةً". قَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى" 2. وَلَهُ عِنْدَهُمَا وَغَيْرَهُمَا أَلْفَاظٌ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ. وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُسَافِرٍ الْهُذَلِيُّ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَسَّانَ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ رَبَاحٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ ابن أَبِي عَبْلَةَ عَنْ أَبِي حَفْصَةَ قَالَ: قَالَ عِبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ إِنَّكَ لَنْ تَجِدَ طَعْمَ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ حَتَّى تَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ, وَمَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ, سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلْقَ اللَّهُ الْقَلَمُ فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ. قَالَ: رَبِّ وَمَاذَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: مَقَادِيرَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ". يَا بُنَيَّ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "مَنْ مَاتَ عَلَى غَيْرِ هَذَا فَلَيْسَ مِنِّي" 3.
الثاني كتابة الميثاق يوم "ألست بربكم"
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ سُلَيْمٍ قَالَ: قَدِمْتُ مَكَّةَ فَلَقِيْتُ عَطَاءَ بْنَ أَبِي رَبَاحٍ فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ إِنَّ أَهْلَ الْبَصْرَةِ يَقُولُونَ فِي الْقَدَرِ. قَالَ: يَا بُنَيَّ أَتَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ فَاقْرَأِ الزُّخْرُفَ. قَالَ: فَقَرَأْتُ {حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الزُّخْرُفِ: 1-4] قَالَ أَتَدْرِي مَا أُمِّ الْكِتَابِ؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: فَإِنَّهُ كِتَابٌ كَتَبَهُ اللَّهُ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاءَ وَقَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْأَرْضَ فِيهِ: إِنَّ فِرْعَوْنَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ, وَفِيهِ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ. قَالَ عَطَاءٌ: فَلَقِيتُ الْوَلِيدَ بْنَ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَسَأَلْتُهُ: مَا كَانَتْ وَصِيَّةُ أَبِيكَ عِنْدَ الْمَوْتِ؟ قَالَ: دَعَانِي فَقَالَ: يَا بُنَيَّ اتَّقِ اللَّهَ, وَاعْلَمْ أَنَّكَ لَنْ تَتَّقِيَ اللَّهَ تَعَالَى حَتَّى تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ كُلِّهِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ, فَإِنْ مُتَّ عَلَى غَيْرِ هَذَا دَخَلْتَ النَّارَ. إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى الْقَلَمَ فَقَالَ: اكْتُبْ, قَالَ: مَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اكْتُبِ الْقَدَرَ مَا كَانَ وَمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى الْأَبَدِ". هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ1. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَالَ أَصْبَغُ أَخْبَرَنِي ابْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي رَجُلٌ شَابٌّ وَأَخَافُ عَلَى نَفْسِيَ الْعَنَتَ وَلَا أَجِدُ مَا أَتَزَوَّجُ بِهِ النِّسَاءَ فَسَكَتَ عَنِّي, ثُمَّ قُلْتُ مِثْلَ ذَلِكَ, فَسَكَتَ عَنِّي, ثُمَّ قُلْتُ مِثْلَ ذَلِكَ فَسَكَتَ عَنِّي, ثُمَّ قُلْتُ مِثْلَ ذَلِكَ فَقَالَ النَّبِيُّ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا أَبَا هُرَيْرَةَ جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا أَنْتَ لَاقٍ فَاخْتَصِرْ عَلَى ذَلِكَ أَوْ ذَرْ" 2, وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ. "فَصْلٌ": التَّقْدِيرُ "الثَّانِي" مِنْ تَقَادِيْرِ الْكِتَابَةِ: كِتَابَةُ الْمِيثَاقِ يَوْمَ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ
قَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الْأَعْرَافِ: 172-173] وَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} [الْأَعْرَافِ: 102] . وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَبُو إِسْحَاقَ الْفَزَارِيُّ حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ حَدَّثَنِي رَبِيعَةُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الدَّيْلَمِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَ خَلْقَهُ فِي ظُلْمَةٍ ثُمَّ أَلْقَى عَلَيْهِمْ مِنْ نُورِهِ يَوْمَئِذٍ فَمَنْ أَصَابَهُ مِنْ نُورِهِ يَوْمَئِذٍ اهْتَدَى وَمَنْ أَخْطَأَهُ ضَلَّ, فَلِذَلِكَ أَقُولُ جَفَّ الْقَلَمُ عَلَى عِلْمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ" حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ1. وَقَالَ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ وَسَمِعْتُهُ أَنَا مِنْهُ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ عَنْ يُونُسَ عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ حِينَ خَلَقَهُ فَضَرَبَ كَتِفَهُ الْيُمْنَى فَأَخْرَجَ ذُرِّيَّةً بَيْضَاءَ كَأَنَّهُمُ الذَّرُّ, وَضَرَبَ كَتِفَهُ الْيُسْرَى فَأَخْرَجَ ذُرِّيَّةً سَوْدَاءَ كَأَنَّهُمُ الْحُمَمُ, فَقَالَ لِلَّذِي فِي يَمِينِهِ: إِلَى الْجَنَّةِ وَلَا أُبَالِي, وَقَالَ لِلَّذِي فِي كَفِّهِ الْيُسْرَى: إِلَى النَّارِ وَلَا أُبَالِي" 2. وَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ سوار حدثنا الليث -يَعْنِي ابْنَ سَعْدٍ- عَنْ معاوية بن رَاشِدِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ قَتَادَةَ السُّلَمِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَ آدَمَ ثُمَّ أَخَذَ الْخَلْقَ مِنْ ظَهْرِهِ وقال: هَؤُلَاءِ فِي الْجَنَّةِ وَلَا أُبَالِي وَهَؤُلَاءِ فِي النَّارِ وَلَا أُبَالِي " قَالَ: فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَعَلَى مَاذَا نَعْمَلُ؟ قَالَ: "عَلَى مَوَاقِعِ الْقَدَرِ". وَفِي الْبَابِ عَنْ مَعَاذٍ وَنَضْرَةَ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَحَدِيثُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ هَذَا رِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحَيْنِ إِلَى الصَّحَابِيِّ. وَرَوَى إِمَامُ دَارِ الْهِجْرَةِ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ زَيْدِ بْنِ أُنَيْسَةَ عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ سُئِلَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الْأَعْرَافِ: 172] فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَسْأَلُ عَنْهَا, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى خَلَقَ آدَمَ ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ بِيَمِينِهِ حَتَّى اسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً فَقَالَ: خَلَقْتُ هَؤُلَاءِ لِلْجَنَّةِ وَبِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَعْمَلُونَ. ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً فَقَالَ: خَلَقْتُ هَؤُلَاءِ لِلنَّارِ وَبِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ يَعْمَلُونَ". فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَفِيمَ الْعَمَلُ؟ قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ إِذَا خَلَقَ الْعَبْدَ لِلْجَنَّةِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيُدْخِلُهُ رَبُّهُ الْجَنَّةَ وَإِذَا خَلَقَ الْعَبْدَ لِلنَّارِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ النَّارِ فَيُدْخِلُهُ رَبُّهُ النَّارَ" 2.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ -يَعْنِي ابْنَ أَبِي حَازِمٍ- عَنْ كُلْثُومِ بْنِ جَبْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "أَخَذَ اللَّهُ تَعَالَى الْمِيثَاقَ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ بِنُعْمَانَ -يَعْنِي عَرَفَةَ- فَأَخْرَجَ مِنْ صُلْبِهِ كُلَّ ذُرِّيَّةٍ ذَرَأَهَا فَنَثَرَهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ كَالذَّرِّ ثُمَّ كَلَّمَهُمْ قُبُلًا {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ، أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [الْأَعْرَافِ: 172] صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ1. وَرَوَى ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ فِي زَوَائِدِهِ عَلَى مُسْنَدِ أَبِيهِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الرَّبَالِيُّ حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ رَفِيعٍ أَبِي الْعَالِيَةِ عَنْ أُبَّيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الْأَعْرَافِ: 172] الْآيَةَ. قَالَ: "جَمَعَهُمْ فَجَعَلَهُمْ أَرْوَاحًا ثُمَّ صَوَّرَهُمْ فَاسْتَنْطَقَهُمْ فَتَكَلَّمُوا ثُمَّ أَخَذَ عَلَيْهِمُ الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا: بَلَى. قَالَ: فَإِنِّي أُشْهِدُ عَلَيْكُمُ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ وَالْأَرَضِينَ السَّبْعَ, وَأُشْهِدُ عَلَيْكُمْ أَبَاكُمْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَمْ نَعْلَمْ بِذَلِكَ. اعْلَمُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ غَيْرِي وَلَا رَبَّ غَيْرِي فَلَا تُشْرِكُوا بِي شَيْئًا إِنِّي سَأُرْسِلُ إِلَيْكُمْ رُسُلِي يُذَكِّرُونَكُمْ عَهْدِي وَمِيثَاقِي وَأُنْزِلُ عَلَيْكُمْ كُتُبِي. قَالُوا: شَهِدْنَا بِأَنَّكَ رَبُّنَا وَإِلَهُنَا لَا رَبَّ غَيْرُكَ. فَأَقَرُّوا بِذَلِكَ" الْحَدِيثِ. وَقَالَ الْإِمَامُ الْحَاكِمُ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ2.
الثالث التقدير العمري عند تخليق النطفة في الرحم
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غَنْدُرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لِأَهْوَنِ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ: لَوْ أَنَّ لَكَ مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ أَكُنْتَ تَفْتَدِي بِهِ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ, فَيَقُولُ: أَرَدْتُ مِنْكَ أَهْوَنَ مِنْ هَذَا وَأَنْتَ فِي صُلْبِ آدَمَ أَنْ لَا تُشْرِكَ بِي, فَأَبَيْتَ إِلَّا أَنْ تُشْرِكَ بِي" وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ1. وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ, وَقَدْ قَدَّمْنَا مِنْهَا جُمْلَةً وَافِيَةً فِي أَوَّلِ هَذَا الشَّرْحِ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى الْمِيثَاقِ. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. "فَصْلٌ" التَّقْدِيرُ "الثَّالِثُ" الْعُمْرِيُّ عِنْدَ تَخْلِيقِ النُّطْفَةِ فِي الرَّحِمِ, فَيُكْتَبُ إِذْ ذَاكَ ذُكُورِيَّتُهَا وَأُنُوثَتُهَا وَالْأَجْلُ وَالْعَمَلُ وَالشَّقَاوَةُ وَالسَّعَادَةُ وَالرِّزْقُ وَجَمِيعُ مَا هُوَ لَاقٍ فَلَا يُزَادُ فِيهِ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا} [الْحَجِّ: 5] الْآيَاتِ, وَقَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [فَاطِرٍ: 11] وَقَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [غَافِرٍ: 67] وَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ
هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} [النَّجْمِ: 32] وَغَيْرِهَا مِنَ الْآيَاتِ. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ بِإسْنَادَيْهِمَا إِلَى سُلَيْمَانَ الْأَعْمَشِ قَالَ: سَمِعْتُ زَيْدَ بْنَ وَهْبٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ -يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ "إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا, ثم يكون في ذلك عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ, ثم يكون في ذلك مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ, ثُمَّ يُرْسَلُ الْمَلَكُ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ تُكْتَبُ: رِزْقِهِ, وَأَجَلِهِ, وَعَمَلِهِ, وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ, فَوَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرَهُ إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا. وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا" 1 وَهَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ. وَلَهُمَا مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "وَكَّلَ اللَّهُ تَعَالَى بِالرَّحِمِ مَلَكًا فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ نُطْفَةٌ, أَيْ رَبِّ عَلَقَةٌ, أَيْ رَبِّ مُضْغَةٌ. فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَقْضِيَ خَلْقَهَا قَالَ: أَيْ رَبِّ ذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ أَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ؟ فَمَا الرِّزْقُ؟ فَمَا الْأَجَلُ؟ فَيُكْتَبُ كَذَلِكَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ" 2. وَقَالَ مُسْلِمٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ سَرْحٍ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ الْمَكِّيِّ أَنَّ عَامِرَ بْنَ وَاثِلَةَ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: الشَّقِيُّ مَنْ شَقِيَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ, وَالسَّعِيدُ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ. فَأَتَى رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُقَالُ
لَهُ حُذَيْفَةُ بْنُ أُسَيْدٍ الْغِفَارِيُّ فَحَدَّثَهُ بِذَلِكَ مِنْ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَقَالَ: وَكَيْفَ يَشْقَى رَجُلٌ بِغَيْرِ عَمَلٍ فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: أَتَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "إِذَا مَرَّ بِالنُّطْفَةِ اثْنَتَانِ وَأَرْبَعُونَ لَيْلَةً بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهَا مَلَكًا فَصَوَّرَهَا وَخَلَقَ سَمْعَهَا وَبَصَرَهَا وَجِلْدَهَا وَلَحْمَهَا وَعِظَامَهَا ثُمَّ قَالَ: يَا رَبِّ ذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ فَيَقْضِي رَبُّكَ مَا شَاءَ وَيَكْتُبُ الْمَلَكُ, ثُمَّ يَقُولُ: يَا رَبِّ أَجَلُهُ؟ فَيَقُولُ: رَبُّكَ مَا شَاءَ وَيَكْتُبُ الْمَلَكُ, ثُمَّ يَقُولُ: يَا رَبِّ مَا رِزْقُهُ؟ فَيَقْضِي رَبُّكَ مَا شَاءَ وَيَكْتُبُ الْمَلَكُ ثُمَّ يَخْرُجُ الْمَلَكُ بِالصَّحِيفَةِ فِي يَدِهِ فَلَا يَزِيدُ عَلَى أَمْرٍ وَلَا يَنْقُصُ" وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى "فَيَقُولُ: يَا رَبِّ أَذَكَرٌ أَوْ أُنْثَى؟ فَيَجْعَلُهُ اللَّهُ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى. ثُمَّ يَقُولُ: يَا رَبِّ أَسَوِيٌّ أَوْ غَيْرُ سَوِيٍّ؟ فَيَجْعَلُهُ اللَّهُ سَوِيًّا أَوْ غَيْرَ سَوِيٍّ. ثُمَّ يَقُولُ: يَا رَبِّ مَا رِزْقُهُ؟ مَا أَجَلُهُ؟ مَا خُلُقُهُ؟ ثُمَّ يَجْعَلُهُ اللَّهُ تَعَالَى شَقِيًّا أَوْ سَعِيدًا" 1. وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ "فَيَقُولُ يَا رَبِّ مَاذَا أَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ؟ فَيَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَيُكْتَبَانِ, فَيَقُولُ: مَاذَا؟ أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَيُكْتَبَانِ: فَيُكْتَبُ عَمَلَهُ وَأَثَرَهُ وَمُصِيبَتَهُ وَرِزْقَهُ ثُمَّ تُطْوَى الصَّحِيفَةُ فَلَا يُزَادُ عَلَى مَا فِيهَا وَلَا يُنْقَصُ" 2. وَلَهُ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا اسْتَقَرَّتِ النُّطْفَةُ فِي الرَّحِمِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا أَوْ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِ مَلَكًا فَيَقُولُ يَا رَبِّ مَا رِزْقُهُ؟ فَيُقَالُ لَهُ. فَيَقُولُ: يَا رَبِّ مَا أَجَلُهُ؟ فَيُقَالُ لَهُ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ ذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ فَيُعْلِمُهُ. فَيَقُولُ: يَا رَبِّ شَقِّيٌ أَوْ سَعِيدٌ؟ فَيُعْلِمُهُ" 3, تَفَرَّدَ وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ. وَلَهُ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "فَرَغَ اللَّهُ إِلَى كُلِّ عَبْدٍ مِنْ خَمْسٍ: مِنْ أَجَلِهِ وَرِزْقِهِ وَأَثَرِهِ وَشَقِيٍّ أَمْ سَعِيدٍ" 4 وَالْأَحَادِيثُ فِي ذَلِكَ كَثِيرٌ.
الرابع التقدير الحولي في ليلة القدر
"فَصْلٌ" وَالرَّابِعُ التَّقْدِيرُ الْحَوْلِيُّ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ, يُقَدَّرُ فِيهَا كُلُّ مَا يَكُونُ فِي السَّنَةِ إِلَى مِثْلِهِ, قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ حم? وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} [الدُّخَانِ: 1-5] الْآيَاتِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْحُكْمِ, وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: يُؤَذَّنُ لِلْحُجَّاجِ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ فَيُكْتَبُونَ بِأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ فَلَا يُغَادِرُ مِنْهُمْ أَحَدً وَلَا يُزَادُ فِيهِمْ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُمْ, وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِنَّهَا لَفِي رَمَضَانَ وَإِنَّهَا لَلَيْلَةُ الْقَدْرِ, يُفْرَقُ فِيهَا كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ, فِيهَا يَقْضِي اللَّهُ تَعَالَى كُلُّ أَجَلٍ وَعَمَلٍ وَرِزْقٍ إِلَى مِثْلِهَا, وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُكْتَبُ مِنْ أُمِّ الْكِتَابِ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ مَا يَكُونُ فِي السَّنَةِ مِنْ مَوْتٍ وَحَيَاةٍ وَرِزْقٍ وَمَطَرٍ حَتَّى الْحُجَّاجِ يُقَالُ يَحُجُّ فُلَانٌ وَيَحُجُّ فُلَانٌ, وَقَالَ مُقَاتِلٌ: يُقَدِّرُ اللَّهُ تَعَالَى فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ أَمْرَ السَّنَةِ فِي بِلَادِهِ وَعِبَادِهِ إِلَى السَّنَةِ الْقَابِلَةِ, وَقَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السَّلَمِيُّ: يُقَدِّرُ أَمْرَ السَّنَةِ كُلِّهَا فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ, وَذُكِرَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: إِنَّكَ لَتَرَى الرَّجُلَ غَشِي فِي الْأَسْوَاقِ وَقَدْ وَقَعَ اسْمُهُ فِي الْمَوْتَى, وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَمُجَاهِدٍ وَأَبِي مَالِكٍ وَالضَّحَّاكِ: فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ يُفَصَّلُ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ إِلَى الْكَتَبَةِ أَمْرُ السَّنَةِ وَمَا يَكُونُ فِيهَا مِنَ الْآجَالِ وَالْأَرْزَاقِ وَمَا يَكُونُ فِيهَا إِلَى آخِرِهَا, وَالْآثَارُ فِي ذَلِكَ عَنِ الصَّحَابَةِ وَأَئِمَّةِ التَّفْسِيرِ مِنْ تَابِعَيْهِمْ بِإِحْسَانٍ كَثِيرَةٌ شَهِيرَةٌ. "فَصْلٌ" وَالْخَامِسُ التَّقْدِيرُ الْيَوْمِيُّ وَهُوَ سَوْقُ الْمَقَادِيرِ إِلَى الْمَوَاقِيتِ الَّتِي قُدِّرَتْ لَهَا فِيمَا سَبَقَ, قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرَّحْمَنِ: 29] وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ مُنِيبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُنِيبٍ الْأَزْدِيِّ عَنِ أَبِيْهِ قَالَ: تَلَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هَذِهِ الْآيَةَ {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن: 29] فقلت: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا ذَاكَ الشَّأْنُ؟ قَالَ: "أَنْ يَغْفِرَ ذَنْبًا
وَيُفَرِّجَ كَرْبًا وَيَرْفَعَ قَوْمًا وَيَضَعَ آخَرِينَ" 1. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرَّحْمَنِ: 29] قَالَ: "مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَغْفِرَ ذَنْبًا وَيُفَرِّجَ كَرْبًا وَيَرْفَعَ مَقَامًا وَيَضَعَ آخَرِينَ" 2, وَعَلَّقَهُ الْبُخَارِيُّ مَوْقُوفًا. وَرَوَى الْبَزَّارُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرَّحْمَنِ: 29] قَالَ: "يَغْفِرُ ذَنْبًا وَيَكْشِفُ كَرْبًا"3. وَلَهُ هُوَ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ لَوْحًا مَحْفُوظًا مِنْ دُرَّةٍ بَيْضَاءَ دَفَّتَاهُ يَاقُوتَةٌ حَمْرَاءُ قَلَمُهُ نُورٌ, وَكِتَابُهُ نُورٌ, وَعَرْضُهُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ, يَنْظُرُ فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ ثَلَاثَمِائَةٍ وَسِتِّينَ نَظْرَةً يَخْلُقُ فِي كُلِّ نَظْرَةٍ وَيُحْيِي وَيُمِيتُ وَيُعِزُّ وَيُذِلُّ وَيَفْعَلُ مَا يَشَاءُ4. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سُوَيْدِ بْنِ جَبَلَةَ الْفَزَارِيِّ قَالَ: إِنَّ رَبَّكُمْ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ فَيَعْتِقُ رِقَابًا, وَيُعْطِي رِغَابًا وَيُقْحِمُ عِقَابًا5. وَقَالَ الْأَعْمَشُ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ}
[الرَّحْمَنِ: 29] قَالَ: مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُجِيبَ دَاعِيًا. أَوْ يُعْطِيَ سَائِلًا أَوْ يَفُكَّ عَانَيًا أَوْ يُشْفِيَ سَقِيمًا1, وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ يُجِيبُ دَاعِيًا وَيَكْشِفُ كَرْبًا, وَيُجِيبُ مُضْطَرًّا وَيَغْفِرُ ذَنْبًا. وَقَالَ قَتَادَةُ: لَا يَسْتَغْنِي عنه أهل السموات وَالْأَرْضِ يُحْيِي حَيًّا وَيُمِيتُ مَيِّتًا, وَيُرَبِّي صَغِيرًا وَيَفُكُّ أَسِيرًا, وَهُوَ مُنْتَهَى حَاجَاتِ الصَّالِحِينَ وَصَرِيخِهِمْ, وَمُنْتَهَى شَكْوَاهُمْ. وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ فَضْلٍ: هُوَ سَوقُ الْمَقَادِيرِ إِلَى الْمَوَاقِيتِ. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: كُلَّ يَوْمٍ لَهُ إِلَى الْعَبِيدِ بَرًّ جَدِيدً2. وَذَكَرَ الْبَغَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَوْلُ الْمُفَسِّرِينَ: مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُحْيِيَ وَيُمِيتَ وَيَخْلُقَ وَيَرْزُقَ وَيُعِزَّ قَوْمًا وَيُذِلَّ قَوْمًا وَيَشْفِيَ مَرِيضًا وَيَفُكَّ عَانَيًا وَيُفَرِّجَ مَكْرُوبًا وَيُجِيبَ دَاعِيًا وَيُعْطِيَ سَائِلًا وَيَغْفِرَ ذَنْبًا إِلَى مَا لَا يُحْصَى مِنْ أَفْعَالِهِ وَإِحْدَاثِهِ فِي خَلْقِهِ مَا يَشَاءُ. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنَّ التَّقْدِيرَ الْيَوْمِيَّ هُوَ تَأْوِيلُ الْمَقْدُورِ عَلَى الْعَبْدِ وَإِنْفَاذُهُ فِيهِ, فِي الْوَقْتِ الَّذِي سَبَقَ أَنَّهُ يَنَالُهُ فِيهِ, لَا يَتَقَدَّمُهُ وَلَا يَتَأَخَرُهُ, كَمَا أَنَّ فِي الْآخِرَةِ يَأْتِي تَأْوِيلُ الْجَزَاءِ الْمَوْعُودِ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ, ولكل نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ. وَلِهَذَا قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ فِيمَا ذَكَرَهُ عَنْهُ الْبَغَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: الدَّهْرُ كُلُّهُ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَانِ: أَحَدُهُمَا مُدَّةَ أَيَّامِ الدُّنْيَا, وَالْآَخَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ, فَالشَّأْنُ الَّذِي هُوَ فِيهِ الْيَوْمَ الَّذِي هُوَ مُدَّةُ الدُّنْيَا الِاخْتِبَارُ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ وَالْإِعْطَاءِ وَالْمَنْعِ يَعْنِي وَغَيْرِ ذَلِكَ, وَشَأْنُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ الْجَزَاءُ وَالْحِسَابُ والثواب والعقاب3 ا. هـ. ثُمَّ هَذَا التَّقْدِيرُ الْيَوْمِيُّ تَفْصِيلٌ مِنَ التَّقْدِيرِ الْحَوْلِيِّ وَالْحَوْلِيُّ تَفْصِيلٌ مِنَ التَّقْدِيرِ الْعُمْرِيِّ عِنْدَ تَخْلِيقِ النُّطْفَةِ, وَالْعُمْرِيُّ تَفْصِيلٌ مِنَ التَّقْدِيرِ الْعُمْرِيِّ الْأَوَّلِ يَوْمَ الْمِيثَاقِ, وَهُوَ تَفْضِيلٌ مِنَ التَّقْدِيرِ الْأَزَلِيِّ الَّذِي خَطَّهُ الْقَلَمُ فِي الْإِمَامِ الْمُبِينِ؛ وَالْإِمَامُ الْمُبِينُ هُوَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ, وَكَذَلِكَ مُنْتَهَى الْمَقَادِيرِ فِي آخِرِيَّتِهَا إِلَى
المرتبة الثالثة الإيمان بمشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة
عِلْمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ, فَانْتَهَتِ الْأَوَائِلُ إِلَى أَوَّلِيَّتِهِ وَانْتَهَتِ الْأَوَاخِرُ إِلَى آخِرِيَّتَهُ {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} [النَّجْمِ: 42] . "فَصْلٌ" وَالْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ مِنْ مَرَاتِبِ الْإِيمَانِ بِالْقَدَرِ: الْإِيمَانُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ النَّافِذَةِ وَقُدْرَتِهِ الشَّامِلَةِ وَهُمَا يَجْتَمِعَانِ فِيمَا كَانَ وَمَا سَيَكُونُ, وَيَفْتَرِقَانِ فِي مَا لَمْ يَكُنْ وَلَا هُوَ كَائِنٌ. فَمَا شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى كَوْنَهُ فَهُوَ كَائِنٌ بِقُدْرَتِهِ لَا مَحَالَةَ {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82] وَمَا لَمْ يَشَأِ اللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَكُنْ لِعَدَمِ مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ لَيْسَ لِعَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} , {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} , {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} , {أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا} , {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا} , {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} فَالسَّبَبُ فِي عَدَمِ وُجُودِ الشَّيْءِ هُوَ عَدَمُ مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى إِيجَادَهُ, لَا أَنَّهُ عَجَزَ عَنْهُ, تَعَالَى اللَّهُ وَتَقَدَّسَ وَتَنَزَّهَ عَنْ ذَلِكَ {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} [فَاطِرٍ: 44] . "فَصْلٌ" وَالْمَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ: مَرْتَبَةُ الْخَلْقِ وَهُوَ الْإِيمَانُ بِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَهُوَ خَالِقُ كُلِّ عَامِلٍ وَعَمَلِهِ, وَكُلِّ مُتَحَرِّكٍ وَحَرَكَتِهِ, وَكُلِّ سَاكِنٍ وَسُكُونِهِ, وَمَا مِنْ ذرة في السموات وَلَا فِي الْأَرْضِ إِلَّا وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَالِقُهَا وَخَالِقُ حَرَكَتِهَا وَسُكُونِهَا, سُبْحَانَهُ لَا خَالِقَ غَيْرُهُ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ. وَهَاتَانِ الْمَرْتَبَتَانِ قَدْ تَقَدَّمَ بَسْطُ الْكَلَامِ عَلَيْهِمَا فِي تَوْحِيدِ الْمَعْرِفَةِ وَالْإِثْبَاتِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ وَبِهِ التَّوْفِيقُ وَالْعِصْمَةُ. فَصْلٌ: وَلِلْعِبَادِ قُدْرَةٌ عَلَى أَعْمَالِهِمْ وَلَهُمْ مَشِيئَةٌ, وَاللَّهُ تَعَالَى خَالِقُهُمْ وَخَالِقُ قُدْرَتِهِمْ وَمَشِيئَتِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ, وَهُوَ تَعَالَى الَّذِي مَنَحَهُمْ إِيَّاهَا وَأَقْدَرَهُمْ عَلَيْهَا وَجَعَلَهَا قَائِمَةً بِهِمْ مُضَافَةً إِلَيْهِمْ حَقِيقَةً, وَبِحَسَبِهَا كُلِّفُوا عَلَيْهَا يُثَابُونَ وَيُعَاقَبُونَ, وَلَمْ يُكَلِّفْهُمُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَّا وُسْعَهُمْ وَلَمْ يُحَمِّلْهُمْ إِلَّا طَاقَتَهُمْ,
وَقَدْ أَثْبَتَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ لَهُمْ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَةِ, وَوَصَفَهُمْ بِهِ, ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ إِلَّا عَلَى مَا أَقْدَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَلَا يَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ, وَلَا يَفْعَلُونَ إِلَّا بِجَعْلِهِ إِيَّاهُمْ فَاعِلِينَ, كَمَا جَمَعَ تَعَالَى بَيْنَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَا مَوْضِعٍ مِنْ كتابه كقوله عزوجل: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الْأَعْرَافِ: 179] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الْمُزَّمِّلِ: 19] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التَّكْوِيرِ: 27-29] وَقَالَ تَعَالَى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [الْبَقَرَةِ: 286] الْآيَةَ. وَقَالَ تَعَالَى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطَّلَاقِ: 7] وَقَالَ تَعَالَى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزُّخْرُفِ: 72] أَيْ: بِسَبَبِهِ وَقَالَ تَعَالَى: {وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [السَّجْدَةِ: 14] وَقَالَ النَّبِيُّ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِيْنُهُ وَنَسْتَهْدِيُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَتُوبُ إِلَيْهِ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا, مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ" 1. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: بَابَ {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الْأَعْرَافِ: 43] {لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [الزُّمَرِ: 57] حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ هُوَ ابْنُ حَازِمٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ الْخَنْدَقِ يَنْقُلُ مَعَنَا التُّرَابَ وَهُوَ يَقُولُ: "وَاللَّهِ لَوْلَا اللَّهُ مَا اهْتَدَيْنَا, وَلَا صُمْنَا وَلَا صَلَّيْنَا, فَأَنْزِلَنَّ سَكِينَةً عَلَيْنَا, وَثَبِّتِ الْأَقْدَامَ إِنْ لَاقَيْنَا, وَالْمُشْرِكُونَ قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا, إِذَا أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَا" 2.
وَقَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الْحُمُرِ: "مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيَّ فِيهَا شَيْئًا إِلَّا هَذِهِ الْآيَةِ الْجَامِعَةِ الْفَاذَّةِ" {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} 1 [الزَّلْزَلَةِ: 7-8] وَغَيْرُ ذَلِكَ مَا لَا يُحْصَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْهَا جُمْلَةٌ وَافِيَةٌ فِي إِثْبَاتِ الْإِرَادَةِ وَالْمَشِيئَةِ وَالْخَلْقِ, فَكَمَا لَمْ يُوجِدِ الْعِبَادُ أَنْفُسَهُمْ لَمْ يُوجِدُوا أَفْعَالَهُمْ, فَقُدْرَتُهُمْ وَإِرَادَتُهُمْ وَمَشِيئَتُهُمْ وَأَفْعَالُهُمْ تَبَعٌ لِقُدْرَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَإِرَادَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَأَفْعَالِهِ, إِذْ هُوَ تَعَالَى خَالِقُهُمْ وَخَالِقُ قُدْرَتِهِمْ وَمَشِيئَتِهِمْ وَإِرَادَتِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ, وَلَيْسَ مَشِيئَتُهُمْ وَإِرَادَتُهُمْ وَقُدْرَتُهُمْ وَأَفْعَالُهُمْ هِيَ عَيْنُ مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِرَادَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَفِعْلِهِ, كَمَا لَيْسُوا هُمْ إِيَّاهُ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ بَلْ أَفْعَالُهُمُ الْمَخْلُوقَةُ لِلَّهِ قَائِمَةٌ بِهِمْ لَائِقَةٌ بِهِمْ مُضَافَةٌ إِلَيْهِمْ حَقِيقَةً, وَهِيَ مِنْ آثَارِ أَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى الْقَائِمَةِ بِهِ اللَّائِقَةِ بِهِ الْمُضَافَةِ إِلَيْهِ حَقِيقَةً, فَاللَّهُ فَاعِلٌ حَقِيقَةً وَالْعَبْدُ مُنْفَعِلٌ حَقِيقَةً, وَاللَّهُ تَعَالَى هَادٍ حَقِيقَةً, وَالْعَبْدُ مُهْتَدٍ حَقِيقَةً, وَلِهَذَا أَضَافَ تَعَالَى كُلًّا مِنَ الْفِعْلَيْنِ إِلَى مَنْ قَامَ بِهِ فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ} [الْإِسْرَاءِ: 97] فَإِضَافَةُ الْهِدَايَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى حَقِيقَةً, وَإِضَافَةُ الِاهْتِدَاءِ إِلَى الْعَبْدِ حَقِيقَةً, وَكَمَا أَنَّ الْهَادِيَ تَعَالَى لَيْسَ هُوَ عَيْنُ الْمُهْتَدِي, فَكَذَلِكَ لَيْسَتِ الْهِدَايَةُ هِيَ عَيْنُ الِاهْتِدَاءِ, وَكَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ يَشَاءُ حَقِيقَةً وَذَلِكَ الْعَبْدُ يَكُونُ ضَالًّا حَقِيقَةً, وَهُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَالِقُ الْمُؤْمِنِ وَإِيمَانِهِ وَالْكَافِرِ وَكُفْرِهِ كَمَا قَالَ جَلَّ وَعَلَا: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [التَّغَابُنِ: 2] أَيْ: هُوَ الْخَالِقُ لَكُمْ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ وَأَرَادَ مِنْكُمْ ذَلِكَ كَوْنًا لَا شَرْعًا, فَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ, وَهُوَ الْبَصِيرُ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ الْهِدَايَةَ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ الضَّلَالَ, وَهُوَ شَهِيدٌ عَلَى أَعْمَالِ عِبَادِهِ وَسَيَجْزِيهِمْ بِهَا أَتَمَّ الْجَزَاءِ, وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فَأَضَافَ اللَّهُ تَعَالَى الْخَلْقَ الَّذِي هُوَ فِعْلُهُ الْقَائِمُ بِهِ إِلَيْهِ حَقِيقَةً, وَأَضَافَ الْإِيمَانَ وَالْكُفْرَ الَّذِي هُوَ عَمَلُهُمُ الْقَائِمُ بِهِمْ إِلَيْهِمْ حَقِيقَةً, وَاللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى هُوَ الَّذِي جَعَلَهُمْ كَذَلِكَ, وَهُمْ فَعَلُوهُ بِاخْتِيَارِهِمْ وَقُدْرَتِهِمْ وَمَشِيئَتِهِمُ الَّتِي مَنَحَهُمُ اللَّهُ إِيَّاهَا, وَخَلَقَهَا فِيهِمْ وَأَمَرَهُمْ وَنَهَاهُمْ بِحَسَبِهَا.
مذهب الجهمية والمعتزلة في إنكار القدر
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ فِي جَمِيعِ تَصَرُّفَاتِهِ فِي عِبَادِهِ فَاعِلٌ حَقِيقَةً, وَالْعَبْدُ مُنْفَعِلٌ حَقِيقَةً. فَمَنْ أَضَافَ الْفِعْلَ وَالِانْفِعَالَ كِلَاهُمَا إِلَى الْمَخْلُوقِ كَفَرَ1. وَمَنْ أَضَافَهُمَا كِلَاهُمَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى كَفَرَ2, وَمَنْ أَضَافَ الْفِعْلَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى حَقِيقَةً وَالِانْفِعَالَ إِلَى الْمَخْلُوقِ حقيقة كما أضافهما اللَّهُ تَعَالَى فَهُوَ الْمُؤْمِنُ حَقِيقَةً. فَالْأَوَّلُ قَوْلُ الْقَدَرِيَّةُ النُّفَاةُ, وَأَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَهُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ مَعْبَدُ الْجُهَنِيُّ فِي آخِرِ عَصْرِ الصَّحَابَةِ كَمَا قَدَّمْنَا عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ فِي سِيَاقِ حَدِيثِ جِبْرِيلَ السَّابِقِ فِي سُؤَالِهِ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ الدِّينِ, وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ بَقِيَّةُ الصَّحَابَةِ وَأَئِمَّةُ التَّابِعِينَ وَتَبَرَّءُوا مِنْ هَذَا الِاعْتِقَادِ وَكَفَّرُوا مُنْتَحِلِيهِ وَنَفَوْا عَنْهُ الْإِيمَانَ, وَأَوْصَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِمُجَانَبَتِهِ وَالْفِرَارِ مِنْ مُجَالَسَتِهِ. ثُمَّ تَقَلَّدَ عَنْهُ ذَلِكَ الْمَذْهَبَ الْفَاسِدَ وَالسُّنَّةَ السَّيِّئَةَ الَّتِي انْتَحَلَهَا هُوَ رءوس الْمُعْتَزِلَةِ وَأَئِمَّتُهُمُ الْمُضِلُّونَ كَوَاصِلِ بْنِ عَطَاءٍ الْغَزَّالِ, وَعَمْرِو بْنِ عَبِيدٍ وَمَنْ فِي مَعْنَاهُمْ وَعَلَى طَرِيقَتِهِمْ حَتَّى بَالَغَ بَعْضُهُمْ فَأَنْكَرَ عِلْمَ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنْكَرَ كِتَابَةَ الْمَقَادِيرِ السَّابِقَةِ وَجَعَلَ الْعِبَادَ هُمُ الْخَالِقِينَ لِأَفْعَالِهِمْ, وَلِهَذَا كَانُوا هُمْ مَجُوسُ هَذِهِ الْأُمَّةِ, فَأَمَّا وَاصِلُ بْنُ عَطَاءٍ فَقَالَ فِيهِ أَبُو الْفَتْحِ الْأَزْدِيُّ: رَجُلُ سُوءٍ كَافِرٌ. قَالَ الذَّهَبِيُّ: كَانَ مِنْ أَجْلَادِ الْمُعْتَزِلَةِ وُلِدَ سَنَةَ ثَمَانِينَ بِالْمَدِينَةِ, وَمِمَّا قِيلَ فِيهِ: وَيَجْعَلُ الْبُرَّ قَمْحًا فِي تَصَرُّفِهِ ... وَخَالَفَ الرَّاءَ حَتَّى احْتَالَ لِلشِّعْرِ وَلَمْ يُطِقْ مَطَرًا فِي الْقَوْلِ يَجْعَلُهُ ... فَعَاذَ بِالْغَيْثِ إِشْفَاقًا مِنَ الْمَطَرِ وَكَانَ يَتَوَقَّفُ فِي عَدَالَةِ أَهْلِ الْجَمَلِ وَيَقُولُ: إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ فَسَقَتْ لَا بِعَيْنِهَا, فَلَوْ شَهِدَتْ عِنْدِي عَائِشَةُ وَعَلِيٌّ وَطِلْحَةُ عَلَى بَاقَةِ بَقْلٍ لَمْ أَحْكُمْ بِشَهَادَتِهِمْ. هَلَكَ سَنَةَ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ3. وَأَمَّا عَمْرُو بْنُ عَبِيدٍ فَهُوَ ابْنُ ثَوْبَانَ -
وَيُقَالُ ابْنُ كَيْسَانَ- الْتَيْمِيُّ مَوْلَاهُمْ أَبُو عُثْمَانَ الْبَصْرِيُّ مِنْ أَبْنَاءِ فَارِسٍ, قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: هُوَ شَيْخُ الْقَدَرِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ, رَوَى الْحَدِيثَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَأَبِي قِلَابَةَ, وَعَنْهُ الْحَمَّادَانِ وَسُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ وَالْأَعْمَشُ وَكَانَ مِنْ أَقْرَانِهِ وَعَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سَعِيدٍ وَهَارُونُ بْنُ مُوسَى وَيَحْيَى الْقَطَّانُ وَيَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: لَيْسَ بِأَهْلٍ أَنْ يُحَدَّثَ عَنْهُ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: لَيْسَ بِشَيْءٍ. وَزَادَ ابْنُ مَعِينٍ: وَكَانَ رَجُلَ سَوْءٍ وَكَانَ مِنَ الدَّهْرِيَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ إِنَّمَا النَّاسُ مِثْلَ الزَّرْعِ. وَقَالَ الْفَلَّاسُ: مَتْرُوكٌ صَاحِبُ بِدْعَةٍ كَانَ يَحْيَى الْقَطَّانُ يُحَدِّثُنَا عَنْهُ ثُمَّ تَرَكَهُ. وَكَانَ ابْنُ مَهْدِيٍّ لَا يُحَدَّثُ عَنْهُ, وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: مَتْرُوكٌ. وَقَالَ النَّسَائِيُّ: لَيْسَ بِثِقَةٍ, وَقَالَ شُعْبَةُ عَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ: كَانَ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ يَكْذِبُ فِي الْحَدِيثِ. وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ: قَالَ لِي حُمَيْدٌ: لَا تَأْخُذْ عَنْهُ فَإِنَّهُ كَانَ يَكْذِبُ عَلَى الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ. وَكَذَا قَالَ أَيُّوبُ وَعَوْفُ بْنُ عَوْنٍ, وَقَالَ أَيُّوبُ: مَا كُنْتُ أَعُدُّ لَهُ عَقْلًا, وَقَالَ مَطَرٌ الْوَرَّاقُ وَاللَّهِ لَا أُصَدِّقُهُ فِي شَيْءٍ, وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: إِنَّمَا تَرَكُوا حَدِيثَهُ لِأَنَّهُ كَانَ يَدْعُو إِلَى الْقَدَرِ, وَقَدْ ضَعَّفَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ, وَأَثْنَى عَلَيْهِ آخَرُونَ فِي عِبَادَتِهِ وَزُهْدِهِ وَتَقَشُّفِهِ, قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: هَذَا سَيِّدُ شَبَابِ الْقُرَّاءِ مَا لَمْ يُحْدِثْ. قَالُوا: فَأَحْدَثَ وَاللَّهِ أَشَدَّ الْحَدَثِ. وقال ابن جبان: كَانَ مِنْ أَهْلِ الْوَرَعِ وَالْعِبَادَةِ إِلَى أَنْ أَحْدَثَ مَا أَحْدَثَ, وَاعْتَزَلَ مَجْلِسَ الْحَسَنِ هُوَ وَجَمَاعَةٌ مَعَهُ فَسُمُّوَا الْمُعْتَزِلَةِ. وَكَانَ يَشْتِمُّ الصَّحَابَةَ وَيَكْذِبُ فِي الْحَدِيثِ وَهْمًا لَا تَعَمُّدًا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إِنْ كَانَتْ {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} [الْمَسَدِ: 1] فِي اللَّوْحِ فَمَا تُعَدُّ مِنْهُ عَلَى ابْنِ آدَمَ حُجَّةً. وَرُوِيَ لَهُ حَدِيثُ ابْنُ مَسْعُودٍ: حَدَّثَنَا الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ "إِنَّ خَلْقَ أَحَدِكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا -حَتَّى قَالَ- فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: رِزْقِهِ وَأَجَلِهِ وَعَمَلِهِ وَشَقِيٍّ أَوْ سَعِيدٍ" 1 إِلَى آخِرِهِ, فَقَالَ: لَوْ سَمِعْتُ الْأَعْمَشَ يَرْوِيهِ لَكَذَّبْتُهُ, وَلَوْ سَمِعْتُهُ مِنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ لَمَا أَحْبَبْتُهُ, وَلَوْ سَمِعْتُهُ مِنَ ابْنِ مَسْعُودٍ لَمَا قَبِلْتُهُ, وَلَوْ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَرَدَدْتُهُ, وَلَوْ سَمِعْتُ اللَّهَ يَقُولُ
هَذَا لَقُلْتُ: مَا عَلَى هَذَا أَخَذْتَ عَلَيْنَا الْمِيثَاقَ. وَهَذَا مِنْ أَقْبَحِ الْكُفْرِ, لَعَنَهُ اللَّهُ إِنْ كَانَ قَالَ هَذَا, وَإِذَا كَانَ مَكْذُوبًا عَلَيْهِ فَعَلَى مَنْ كَذَبَهُ عَلَيْهِ مَا يَسْتَحِقُّهُ. وَقَدْ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: أَيُّهَا الطَّالِبُ عِلْمًا ... ائْتِ حَمَّادَ بْنَ زَيْدِ فَخُذِ الْعِلْمَ بِحِلْمٍ ... ثُمَّ قَيِّدْهُ بِقَيْدِ وَذَرِ الْبِدْعَةَ مِنْ ... آثَارِ عَمْرِو بْنِ عَبِيدِ وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: كَانَ عَمْرُو يُغْرِ النَّاسَ بِتَقَشُّفِهِ, وَهُوَ مَذْمُومٌ ضَعِيفُ الْحَدِيثِ جِدًّا مُعْلِنٌ بِالْبِدَعِ. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: ضَعِيفُ الْحَدِيثِ. وَقَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ: جَالَسَ الْحَسَنَ وَاشْتُهِرَ بِصُحْبَتِهِ, ثُمَّ أَزَالَهُ وَاصِلُ بْنُ عَطَاءٍ عَنْ مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَقَالَ بِالْقَدَرِ وَدَعَا إِلَيْهِ وَاعْتَزَلَ أَصْحَابَ الْحَدِيثِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى1. ثُمَّ تَوَارَثَ الْقَدَرِيَّةُ هَذَا الْمَذْهَبَ الْفَاسِدَ بَعْدَ هَؤُلَاءِ وَتَوَاصَوْا بِهِ, ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ نَفَى عَلِمَ اللَّهِ تَعَالَى كَأَوَّلِيهِمْ, فَفِيهِمْ مَنْ نَفَى عِلْمَهُ بِالْكُلِّيَّاتِ وَالْجُزْئِيَّاتِ وَمِنْهُمْ مَنْ أَثْبَتَ الْعِلْمَ بِالْكُلِّيَّاتِ دُونَ الْجُزْئِيَّاتِ, ثُمَّ افْتَرَقُوا فِي أَفْعَالِ اللَّهِ كَمَا افْتَرَقُوا فِي عِلْمِهِ: فَفِرْقَةٌ قَالَتْ: كُلُّ أَفْعَالِ الْعِبَادِ لَيْسَتْ مَقْدُورَةً لِلَّهِ وَلَا مَخْلُوقَةً لَهُ, لَا خَيْرُهَا وَلَا شَرُهَا. وَالْأُخْرَى قَالَتْ: الْخَيْرُ مِنْ أَفْعَالِهِمْ مَخْلُوقٌ لَهُ تَعَالَى وَمَقْدُورٌ لَهُ, وَأَمَّا الشَّرُّ فَلَيْسَ عِنْدَهُمْ مَخْلُوقًا لِلَّهِ وَلَا مَقْدُورًا لَهُ, فَأَثْبَتُوا نِصْفَ الْقَدَرِ وَنَفَوْا نِصْفَهُ, وَأَثْبَتُوا خَالِقَيْنِ. فَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ مَجُوسٌ ثَنَوِيَّةٌ, بَلْ أَعْظَمُ مِنْهُمْ؛ فَإِنَّ الثَّنَوِيَّةَ أَثْبَتُوا خَالِقَيْنِ لِلْكَوْنِ كُلِّهِ, وَهَؤُلَاءِ أَثْبَتُوا خَالِقَيْنِ لِكُلِّ فَرْدٍ مِنَ الْأَفْرَادِ وَلِكُلِّ فِعْلٍ مِنَ الْأَفْعَالِ بَلْ جَعَلُوا الْمَخْلُوقِينَ كُلَّهُمْ خَالِقِينَ, وَلَوْلَا تَنَاقُضُهُمْ لَكَانُوا أَكْفَرَ مِنَ الْمَجُوسِ, فَإِنَّ اطِّرَادَ قَوْلِهِمْ وَلَازَمَهُ وَحَاصِلَهُ هُوَ إِخْرَاجُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ عَنْ خَلْقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمُلْكِهِ وَأَنَّهَا لَيْسَتْ دَاخِلَةً فِي رُبُوبِيَّتِهِ عَزَّ وَجَلَّ, وَأَنَّهُ يَكُونُ فِي مُلْكِهِ مَا
مذهب الجبرية في إضافة الفعل والانفعال إلى الله وقبائح أقوالهم في ذلك
لَا يُرِيدُ وَيُرِيدُ مَا لَا يَكُونُ, وَأَنَّهُمْ أَغْنِيَاءُ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَلَا يَسْتَعِينُونَ عَلَى طَاعَتِهِ وَلَا تَرْكِ مَعْصِيَتِهِ وَلَا يَعُوذُونَ بِهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِهِمْ وَلَا سَيِّئَاتِ أَعْمَالِهِمْ وَلَا يَسْتَهْدُونَهُ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ, فَقَوْلُ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ وَقَوْلُ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ لَا مَعْنَى لَهُ عِنْدَهُمْ وَرُبَّمَا اسْتَنْكَرُوهُ كَمَا جَحَدُوا قَوْلَهُ تَعَالَى: {مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الْأَنْعَامِ: 39] هَذَا مَعَ إِنْكَارِهِمْ عِلْمَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَقُدْرَتَهُ وَمَشِيئَتَهُ وَإِرَادَتَهُ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ وَالْجَاحِدُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا. "فَصْلٌ" وَالْقَوْلُ الثَّانِي وَهُوَ إِضَافَةُ الْفِعْلِ وَالِانْفِعَالِ كِلَاهُمَا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ هُوَ قَوْلُ الْجَبْرِيَّةِ الْغُلَاةِ الْجُفَاةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّ الْعَبْدَ مَجْبُورٌ عَلَى أَفْعَالِهِ مَقْسُورٌ عَلَيْهَا كَالسَّعَفَةِ يُحَرِّكُهَا الرِّيحُ الْعَاصِفُ وَكَالْهَاوِي مِنْ أَعْلَى إِلَى أَسْفَلَ. وَأَنَّ تَكْلِيفَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عِبَادَهُ -مِنْ أَمْرِهِمْ بِالطَّاعَاتِ وَنَهْيِهِمْ عَنِ الْمَعَاصِي- كَتَكْلِيفِ الْحَيَوَانِ الْبَهِيمِ بِالطَّيَرَانِ وَتَكْلِيفِ الْمُقْعَدِ بِالْمَشْيِ وَتَكْلِيفِ الْأَعْمَى بِنَقْطِ الْكِتَابِ, وَأَنَّ تَعْذِيبَهُ إِيَّاهُمْ عَلَى مَعْصِيَتِهِمْ إِيَّاهُ هُوَ تَعْذِيبٌ لَهُمْ عَلَى فِعْلِهِ لَا عَلَى أَفْعَالِهِمْ, وَأَنَّ ذَلِكَ كَتَعْذِيبِ الطَّوِيلِ لِمَ لَمْ يَكُنْ قَصِيرًا وَالْقَصِيرِ لِمَ لَمْ يَكُنْ طَوِيلًا وَالْأَسْوَدِ لِمَ لَمْ يَكُنْ أَبْيَضَ وَالْأَبْيَضِ لِمَ لَمْ يَكُنْ أَسْوَدَ, فَسَلَبُوا الْعَبْدَ قُدْرَتَهُ وَاخْتِيَارَهُ, وَأَخْرَجُوا عَنْ أَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَحْكَامِهِ حِكَمَهَا وَمَصَالِحَهَا, وَنَفَوْا عَنِ اللَّهِ تَعَالَى حِكْمَتَهُ الْبَالِغَةَ, وَجَحَدُوا حُجَّتَهُ الدَّامِغَةَ, وَأَثْبَتُوا عَلَيْهِ تَعَالَى الْحُجَّةَ لِعِبَادِهِ, وَنَسَبُوهُ تَعَالَى إِلَى الظُّلْمِ وَطَعَنُوا فِي عَدْلِهِ وَشَرْعِهِ. فَلَا قِيَامَ عِنْدِهِمْ لِسَوْقِ الْجِهَادِ, وَلَا مَعْنَى لِإِقَامَةِ الْحُدُودِ وَلَا لِلثَّوَابِ وَالْعِقَابِ, بَلْ وَلَا لِإِرْسَالِ الرُّسُلِ وَالْكُتُبِ إِلَّا التَّكْلِيفُ فِي غَيْرِ وسع وتحميل ما لا يُطَاقُ, وَالظُّلْمُ الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى نَفْسِهِ وَجَعَلَهُ بَيْنَ عِبَادِهِ مُحَرَّمًا فَأَقَامُوا عُذْرَ إِبْلِيسَ اللَّعِينِ وَعُذْرَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ وَسَائِرَ الْأُمَمِ الْعُصَاةِ الْمَمْقُوتِينَ الْمَقْبُوحِينَ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمُ الْمَخْسُوفِ بِهِمُ الْمُعَدَّةِ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا, وَأَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَلَعْنَهُ وَعِقَابَهُ إِيَّاهُمْ عَلَى فِعْلِهِ لَا عَلَى أَفْعَالِهِمْ, بَلْ قَالُوا: إِنَّهُ عَاقَبَهُمْ وَمَقَتَهُمْ عَلَى طَاعَتِهِمْ إِيَّاهُ؛ لِأَنَّهُمْ إِنْ كَانُوا خَالَفُوا شَرْعَهُ فَقَدْ أَطَاعُوا إِرَادَتَهُ وَمَشِيئَتَهُ. هَذَا مَعْنَى إِثْبَاتِ الْقَدَرِ عِنْدَ هَذِهِ الْفِرْقَةِ الْإِبْلِيْسِيَةِ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ الْقِيَمِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى كَثِيرًا
مِنْ عِبَارَاتِهِمُ1 الَّتِي لَا يَسْتَطِيعُ الْمُؤْمِنُ حِكَايَتَهَا لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكَى فِي كِتَابِهِ أَقْوَالَ الْكُفَّارِ قَبَّحَهُمُ اللَّهُ, فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ بَعْضِهِمْ: أَلْقَاهُ فِي الْيَمِّ مَكْتُوفًا وَقَالَ لَهُ ... إِيَّاكَ إِيَّاكَ أَنْ تَبْتَلَّ بِالْمَاءِ وَقَوْلُ آخَرَ قَبَّحَهُ اللَّهُ: دَعَانِي وَسَدَّ الْبَابَ عَنِّي فَهَلْ إِلَى ... دُخُولِي سَبِيلٌ بَيِّنُوا لِي قَضِيَّتِي وَقَوْلُ كَافِرٍ آخَرَ فَضَّ اللَّهُ فَاهُ: وضعوا اللحم للبزاة ... عَلَى ذِرْوَتَيْ عَدَنِ ثُمَّ لَامُوا الْبُزَاةَ إِذْ ... خَلَعُوا عَنْهُمُ الرَّسَنِ لَوْ أَرَادُوا صِيَانَتِي ... سَتَرُوا وَجْهَكَ الْحَسَنِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ وَقَدْ ذُكِرَ لَهُ من يخاف له ومن يَخَافُ إِفْسَادَهُ فَقَالَ: لِي خَمْسُ بَنَاتٍ لَا أَخَافُ عَلَى إِفْسَادِهِنَّ غَيْرَهُ. وَصَعَدَ رَجُلٌ يَوْمًا عَلَى سَطْحِ دَارٍ لَهُ فَأَشْرَفَ عَلَى غُلَامٍ لَهُ يَفْجُرُ بِجَارِيَتِهِ فَنَزَلَ وَأَخَذَهُمَا لِيُعَاقِبَهُمَا, فَقَالَ الْغُلَامُ: إِنِ الْقَضَاءَ وَالْقَدَرَ لَمْ يَدَعَانَا حَتَّى فَعَلْنَا ذَلِكَ, فَقَالَ: لَعِلْمُكَ بِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ, أَنْتَ حُرٌّ لِوَجْهِ اللَّهِ. وَرَأَى آخَرَ يَفْجُرُ بِامْرَأَتِهِ فَبَادَرَ لِيَأْخُذَهُ فَهَرَبَ فَأَقْبَلَ يَضْرِبُ الْمَرْأَةَ وَهِيَ تَقُولُ: الْقَضَاءُ وَالْقَدَرُ. فَقَالَ: يَا عَدُوَّةَ اللَّهِ أَتَزْنِينَ وَتَعْتَذِرِينَ بِمِثْلِ هذا؟ فقالت: أوه تَرَكْتَ السُّنَّةَ وَأَخَذْتَ بِمَذْهَبِ ابْنِ عَبَّاسٍ, فَتَنَبَّهَ وَرَمَى بِالسَّوْطِ مِنْ يَدِهِ وَاعْتَذَرَ إِلَيْهَا وَقَالَ: لَوْلَاكِ لَضَلَلْتُ. وَرَأَى آخَرُ رَجُلًا يَفْجُرُ بِامْرَأَتِهِ فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقَالَتْ: هَذَا قَضَاءُ اللَّهِ وَقَدَرُهُ. فَقَالَ: الْخِيَرَةُ فِيمَا قَضَى اللَّهُ. فَلُقِّبَ بِالْخِيَرَةِ فِيمَا قَضَى اللَّهُ. وَكَانَ إِذَا دُعِيَ بِهِ غَضِبَ, وَقِيلَ لِبَعْضِ هَؤُلَاءِ: أَلَيْسَ هُوَ يَقُولُ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ؟ فَقَالَ: دَعْنَا مِنْ هَذَا, رَضِيَهُ وَأَحَبَّهُ وَأَرَادَهُ, وَمَا أَفْسَدْنَا غَيْرَهُ. وَلَقَدْ بَالَغَ بَعْضُهُمْ فِي ذَلِكَ حَتَّى قَالَ: الْقَدَرُ عُذْرٌ لِجَمِيعِ الْعُصَاةِ, وَإِنَّمَا مَثَلُنَا فِي ذَلِكَ كَمَا قِيلَ:
إِذَا مَرِضْنَا أَتَيْنَاكُمْ نَعُودَكُمْ ... وَتُذْنِبُونَ فَنَأْتِيكُمْ فَنَعْتَذِرُ وَبَلَغَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ أَنَّ عَلِيًّا مَرَّ بِقَتْلَى الْنَهْرَوَانِ فَقَالَ: بُؤْسًا لَكُمْ, لَقَدْ ضَرَّكُمْ مَنْ غَرَّكُمْ. فَقِيلَ: مَنْ غَرَّهُمْ؟ فَقَالَ: الشَّيْطَانُ وَالنَّفْسُ الْأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ وَالْأَمَانِي. فَقَالَ هَذَا الْقَائِلُ: كَانَ عَلَيٌّ قَدَرِيًّا, وَإِلَّا فَاللَّهُ غَرَّهُمْ وَفَعَلَ بِهِمْ مَا فَعَلَ وَأَوْرَدَهُمْ تِلْكَ الْمَوَارِدَ. وَاجْتَمَعَ جَمَاعَةٌ مِنْ هَؤُلَاءِ يَوْمًا فَتَذَاكَرُوا الْقَدَرَ, فَجَرَى ذِكْرُ الْهُدْهُدِ وَقَوْلُهُ: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} [النَّمْلِ: 24] فَقَالَ: كَانَ الْهُدْهُدُ قَدَرِيًّا؛ أَضَافَ الْعَمَلَ إِلَيْهِمْ وَالتَّزْيِينَ إِلَى الشَّيْطَانِ وَجَمِيعُ ذَلِكَ فِعْلُ اللَّهِ. وَسُئِلَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى لِإِبْلِيسَ: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] أَيَمْنَعُهُ ثُمَّ يَسْأَلُهُ مَا مَنَعَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ قَضَى عَلَيْهِ فِي السِّرِّ مَا مَنَعَهُ فِي الْعَلَانِيَةِ وَلَعَنَهُ عَلَيْهِ. قَالَ لَهُ: فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ} [النِّسَاءِ: 39] إِذَا كَانَ هُوَ الَّذِي مَنَعَهُمْ؟ قَالَ: اسْتِهْزَاءٌ بِهِمْ. قَالَ: فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} [النِّسَاءِ: 147] ؟ قَالَ: فَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ مِنْ غَيْرِ ذَنْبٍ جَنَوْهُ, بَلِ ابْتَدَأَهُمْ بِالْكُفْرِ ثُمَّ عَذَّبَهُمْ عَلَيْهِ وَلَيْسَ لِلْآيَةِ مَعْنًى. وَقَالَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ, وَقَدْ عُوتِبَ عَلَى ارْتِكَابِهِ مَعَاصِي اللَّهِ, فَقَالَ: إِنْ كُنْتُ عَاصِيًا لِأَمْرِهِ فَأَنَا مُطِيعٌ لِإِرَادَتِهِ. وَجَرَى عِنْدَ بَعْضِ هَؤُلَاءِ ذِكْرُ إِبْلِيسَ وَإِبَائِهِ وَامْتِنَاعِهِ مِنَ السُّجُودِ لِآدَمَ, فَأَخَذَ الْجَمَاعَةُ يَلْعَنُونَهُ وَيَذُمُّونَهُ فَقَالَ: إِلَى مَتَى هَذَا اللَّوْمُ؟ وَلَوْ خُلِّيَ لَسَجَدَ, وَلَكِنْ مُنِعَ, وَأَخَذَ يُقِيمُ عُذْرَهُ. فَقَالَ بَعْضُ الْحَاضِرِينَ: تَبًّا لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ, أَتَذُبُّ عَنِ الشَّيْطَانِ وَتَلُومُ الرَّحْمَنَ؟ وَجَاءَ جَمَاعَةٌ إِلَى مَنْزِلِ رَجُلٍ مِنْ هَؤُلَاءِ فَلَمْ يَجِدُوهُ فَلَمَّا رَجَعَ قَالَ: كُنْتُ أُصْلِحُ بَيْنَ قَوْمٍ فَقِيلَ لَهُ: وَأَصْلَحْتَ بَيْنَهُمْ؟ قَالَ: أَصْلَحْتُ إِنْ لَمْ يُفْسِدِ اللَّهُ, فَقِيلَ لَهُ: بُؤْسًا لَكَ أَتُحْسِنُ الثَّنَاءَ عَلَى نَفْسِكَ وَتُسِيءُ الثَّنَاءَ عَلَى رَبِّكَ. وَمُرَّ بِلِصٍّ مَقْطُوعِ الْيَدِ عَلَى بَعْضِ هَؤُلَاءِ فَقَالَ: مِسْكِينٌ مَظْلُومٌ أَجْبَرَهُ عَلَى السَّرِقَةِ ثُمَّ قَطَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا. وَقِيلَ لِبَعْضِهِمْ: أَتَرَى اللَّهَ كَلَّفَ عِبَادَهُ مَا لَا يُطِيقُونَ ثُمَّ يُعَذِّبُهُمْ عَلَيْهِ؟ قَالَ: وَاللَّهِ قَدْ فَعَلَ ذَلِكَ, وَلَكِنْ لَا نَجْسَرْ أَنْ نَتَكَلَّمَ. وَقَالَ بَعْضُ هؤلاء: ذنبة أنذبها أَحَبُّ إِلَيَّ مَنْ عِبَادَةِ الْمَلَائِكَةِ قِيلَ: وَلِمَ؟ قَالَ: لِعِلْمِي بِأَنَّ اللَّهَ قَضَاهَا عَلَيَّ وَقَدَّرَهَا, وَلَمْ يَقْضِهَا إِلَّا وَالْخِيَرَةُ لِي فِيهَا, وَقَالَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ: الْعَارِفُ لَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا لِاسْتِبْصَارِهِ
بِسِرِّ اللَّهِ فِي الْقَدَرِ. قَالَ: وَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ: عَاتَبْتُ بَعْضَ شُيُوخِ هَؤُلَاءِ فَقَالَ لِي: الْمَحَبَّةُ نَارٌ تَحْرِقُ مِنَ الْقَلْبِ مَا سِوَى مُرَادِ الْمَحْبُوبِ, وَالْكَوْنُ كُلُّهُ مُرَادُهُ, فَأَيُّ شَيْءٍ أَبْغَضُ مِنْهُ؟ قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: إِذَا كَانَ الْمَحْبُوبُ قَدْ أَبْغَضَ بَعْضَ مَنْ فِي الْكَوْنِ وَعَادَاهُمْ وَلَعَنَهُمْ فَأَحْبَبْتَهُمْ أَنْتَ وَوَالَيْتَهُمْ أَكُنْتَ وَلِيًّا لِلْمَحْبُوبِ أَوْ عَدُوًّا لَهُ؟ قَالَ: فَكَأَنَّمَا أُلْقِمَ حَجَرًا. وَقَرَأَ قَارِئٌ بِحَضْرَةِ بَعْضِ هَؤُلَاءِ {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] فَقَالَ: هُوَ اللَّهُ مَنَعَهُ, وَلَوْ قَالَ إِبْلِيسُ ذَلِكَ لَكَانَ صَادِقًا, وَقَدْ أَخْطَأَ إِبْلِيسُ الْحُجَّةَ, وَلَوْ كُنْتُ حَاضِرًا لَقُلْتُ لَهُ: أَنْتَ مَنَعْتَهُ. وَسَمِعَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ قَارِئًا يَقْرَأُ {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فُصِّلَتْ: 17] فَقَالَ: لَيْسَ مِنْ هَذَا شَيْءٌ, بَلْ أضلهم وأعماهم ا. هـ. إِلَى أَنْ قَالَ: فَيُقَالُ: اللَّهُ أَكْبَرُ عَلَى هَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةِ أَعْدَاءِ اللَّهِ حَقًّا, الَّذِينَ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَلَا عَرَفُوهُ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ وَلَا عَظَّمُوهُ حَقَّ تَعْظِيْمِهِ وَلَا نَزَّهُوهُ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ, وَبَغَّضُوهُ إِلَى عِبَادِهِ وَبَغَّضُوهُمْ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ, وَأَسَاءُوا الثَّنَاءَ عَلَيْهِ جُهْدَهُمْ وَطَاقَتَهُمْ, وَهَؤُلَاءِ خُصَمَاءُ اللَّهِ حَقًّا الَّذِينَ جَاءَ فِيهِمُ الْحَدِيثُ "يُقَالُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَيْنَ خُصَمَاءُ اللَّهِ؟ فَيُؤْمَرُ بِهِمْ إِلَى النَّارِ" قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَائِيَّتِهِ2: وَيُدْعَى خُصُومُ اللَّهِ يَوْمَ مَعَادِهِمْ ... إِلَى النَّارِ طُرًّا فِرْقَةُ الْقَدَرِيَّةِ سَوَاءٌ نَفَوْهُ أَوْ سَعَوْا لِيُخَاصِمُوا ... بِهِ اللَّهَ أَوْ مَارَوْا بِهِ لِلشَّرِيعَةِ وَقَالَ وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: الْقَدَرِيَّةُ الْمَذْمُومُونَ فِي السُّنَّةِ وَعَلَى لِسَانِ السَّلَفِ هُمْ هَؤُلَاءِ الْفِرَقُ الثَّلَاثُ: نُفَاتُهُ وَهُمُ الْقَدَرِيَّةُ الْمَجُوسِيَّةُ. وَالْمُعَارِضُونَ بِهِ لِلشَّرِيعَةِ
القضاء والقدر أربع مراتب
الَّذِينَ قَالُوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} [الْأَنْعَامِ: 148] وَهُمُ الْقَدَرِيَّةُ الْمُشْرِكُونَ وَالْمُخَاصِمُونَ بِهِ لِلرَّبِّ سُبْحَانَهُ, وَهُمُ أَعْدَاءُ اللَّهِ تَعَالَى وَخُصُومُهُ وَهُمُ الْقَدَرِيَّةُ الْإِبْلِيسِيَةُ وَشَيْخُهُمْ إِبْلِيسُ وَهُوَ أَوَّلُ مَنِ احْتَجَّ عَلَى اللَّهِ بِالْقَدَرِ فَقَالَ: {بِمَا أَغْوَيْتَنِي} وَلَمْ يَعْتَرِفْ بِالذَّنْبِ وَيَبُوءُ بِهِ كَمَا اعْتَرَفَ بِهِ آدَمُ. فَمَنْ أَقَرَّ بِالذَّنْبِ وَبَاءَ بِهِ وَنَزَّهَ رَبَّهُ فَقَدْ أَشْبَهَ أَبَاهُ آدَمَ, وَمَنْ أَشْبَهَ أَبَاهُ فَمَا ظَلَمَ وَمَنْ بَرَّأَ نَفْسَهُ وَاحْتَجَّ بِالْقَدَرِ فَقَدْ أَشْبَهَ إِبْلِيسَ. ثُمَّ سَاقَ كَلَامًا طَوِيلًا فِي فِرَقِ الْقَدَرِيَّةِ وَضَلَالَهُمْ إِلَى أَنْ قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: فَانْظُرْ كَيْفَ انْقَسَمَتْ هَذِهِ الْمَوَارِيثُ عَلَى هَذِهِ السِّهَامِ وَوَرِثَ كُلُّ قَوْمٍ أَئِمَّتَهُمْ وَأَسْلَافَهُمْ إِمَّا فِي جَمِيعِ تَرِكَتِهِمْ وَإِمَّا فِي كَثِيرٍ مِنْهَا وَإِمَّا فِي جُزْءٍ مِنْهَا, وَهَدَى اللَّهُ بِفَضْلِهِ وَرَثَةَ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ لِمِيرَاثِ نَبِيِّهِمْ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ, فَلَمْ يُؤْمِنُوا بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَيَكْفُرُوا بِبَعْضِ بَلْ آمَنُوا بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ وَمَشِيئَتِهِ الْعَامَّةِ النَّافِذَةِ وَأَنَّهُ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ, وَأَنَّهُ مُقَلِّبُ الْقُلُوبَ وَمُصَرِّفُهَا كَيْفَ أَرَادَ, وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الْمُؤْمِنَ مُؤْمِنًا وَالْمُصَلِّيَ مُصَلِّيًا وَالْمُتَّقِيَ مُتَّقِيًا, وَجَعَلَ أَئِمَّةَ الْهُدَى يَهْدُونَ بِأَمْرِهِ, وَأَئِمَّةُ الضَّلَالَةِ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ, وَأَنَّهُ أَلْهَمَ كُلَّ نَفْسٍ فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا, وَأَنَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ بِعَدْلِهِ وَحِكْمَتِهِ, وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي وَفَّقَ أَهْلَ الطَّاعَةِ لِطَاعَتِهِ فَأَطَاعُوهُ وَلَوْ شَاءَ لَخَذَلَهُمْ فَعَصَوْهُ, وَأَنَّهُ تَعَالَى حَالَ بَيْنَ الْكُفَّارِ وَقُلُوبِهِمْ فَإِنَّهُ تَعَالَى يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ فَكَفَرُوا بِهِ, وَلَوْ شَاءَ لَوَفَّقَهُمْ فَآمَنُوا بِهِ وَأَطَاعُوهُ, وَأَنَّهُ مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ, وَأَنَّهُ لَوْ شَاءَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا إِيمَانًا يُثَابُونَ عَلَيْهِ وَيُقْبَلُ مِنْهُمْ وَيُرْضَى بِهِ عَنْهُمْ, وَأَنَّهُ لَوْ شَاءَ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ, وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ. الْقَضَاءُ وَالْقَدَرُ أَرْبَعُ مَرَاتِبَ: وَالْقَضَاءُ وَالْقَدَرُ عِنْدَهُمْ أَرْبَعُ مَرَاتِبَ جَاءَ بِهَا نَبِيُّهُمْ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَخْبَرَ بِهَا عَنْ رَبِّهِ تَعَالَى: الْأَوَّلُ: عِلْمُهُ السَّابِقُ بِمَا هُمْ عَامِلُوهُ قَبْلَ إِيجَادِهِمْ. الثَّانِيَةُ: كِتَابَتُهُ ذَلِكَ فِي الذَّكَرِ عِنْدَهُ قبل خلق السموات وَالْأَرْضَ.
الثَّالِثَةُ: مَشِيئَتُةُ الْمُتَنَاوِلَةُ لِكُلِّ مَوْجُودٍ فَلَا خُرُوجَ لِكَائِنٍ عَنْ مَشِيْئَتِهِ كَمَا لَا خُرُوجَ لَهُ عَنْ عِلْمِهِ. الرَّابِعَةُ: خَلْقُهُ لَهُ وَإِيجَادُهُ وَتَكْوِينُهُ فَإِنَّهُ لَا خَالِقَ إِلَّا اللَّهُ, وَاللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ. فَالْخَالِقُ عِنْدَهُمْ وَاحِدٌ وَمَا سِوَاهُ فَمَخْلُوقٌ, وَلَا وَاسِطَةَ عِنْدَهُمْ بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ. وَيُؤْمِنُونَ مَعَ ذَلِكَ بِحِكْمَتِهِ وَأَنَّهُ حَكِيمٌ فِي كُلِّ مَا فَعَلَهُ وَخَلَقَهُ, وَأَنَّ مَصْدَرَ ذَلِكَ جَمِيعَهُ عَنْ حِكْمَةٍ تَامَّةٍ هِيَ الَّتِي اقْتَضَتْ صُدُورَ ذَلِكَ وَخَلْقَهُ, وَأَنَّ حِكْمَتَهُ حِكْمَةُ حَقٍّ عَائِدَةٌ إِلَيْهِ قَائِمَةٌ بِهِ كَسَائِرِ صِفَاتِهِ, وَلَيْسَتْ عِبَارَةً عَنْ مُطَابَقَةِ عِلْمِهِ لِمَعْلُومِهِ وَقُدْرَتِهِ لِمَقْدُورِهِ كَمَا يَقُولُهُ نُفَاةُ الْحِكْمَةِ الَّذِينَ يُقِرُّونَ بِلَفْظِهَا دُونَ حَقِيقَتِهَا, بَلْ هِيَ أَمَرٌّ وَرَاءَ ذَلِكَ, وَهِيَ الْغَايَةُ الْمَحْبُوبَةُ لَهُ الْمَطْلُوبَةُ الَّتِي هِيَ مُتَعَلَّقُ مَحَبَّتِهِ وَحَمْدِهِ وَلِأَجْلِهَا خَلْقَ فَسَوَّى وَقَدَّرَ فَهَدَى وَأَمَاتَ وَأَحْيَا وَأَسْعَدَ وَأَشْقَى وَأَضَلَّ وَهَدَى وَمَنَعَ وَأَعْطَى, وَهَذِهِ الْحِكْمَةُ هِيَ الْغَايَةُ وَالْفِعْلُ وَسِيلَةٌ إِلَيْهَا, فَإِثْبَاتُ الْفِعْلِ مَعَ نَفْيِهَا إِثْبَاتٌ لِلْوَسَائِلِ وَنَفْيٌ لِلْغَايَاتِ وَهُوَ مُحَالٌ, إِذْ نَفِيُ الْغَايَةِ مُسْتَلْزِمٌ لِنَفْيِ الْوَسِيلَةِ, فَنَفْيُ الْوَسِيلَةِ وَهِيَ الْفِعْلُ لَازِمٌ لِنَفْيِ الْغَايَةِ وَهِيَ الْحِكْمَةُ وَنَفْيُ قِيَامِ الْفِعْلِ وَالْحِكْمَةُ بِهِ نَفْيٌ لَهُمَا فِي الْحَقِيقَةِ, إِذْ فِعْلٌ لَا يَقُومُ بِفَاعِلِهِ وَحِكْمَةٌ لَا تَقُومُ بِالْحَكِيمِ شَيْءٌ لَا يُعْقَلُ وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ إِنْكَارَ رُبُوبِيَّتِهِ وَإِلَهِيَّتِهِ, وَهَذَا لَازِمٌ لِمَنْ نَفَى ذَلِكَ وَلَا مَحِيدَ لَهُ عَنْهُ وَإِنْ أَبَى الْتِزَامَهُ وَأَمَّا مَنْ أَثْبَتَ حِكْمَتَهُ تَعَالَى وَأَفْعَالَهُ عَلَى الْوَجْهِ الْمُطَابِقِ لِلْعَقْلِ وَالْفِطْرَةِ وَلِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ لَمْ يَلْزَمْ مِنْ قَوْلِهِ مَحْذُورٌ الْبَتَّةَ بَلْ قَوْلُهُ حَقٌّ وَلَازِمُ الْحَقِّ حَقٌّ كَائِنًا مَا كَانَ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ وَرَثَةَ الرُّسُلِ وَخُلَفَاءَهُمْ لِكَمَالِ مِيرَاثِهِمْ لِنَبِيِّهِمْ آمَنُوا بِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ وَالْحُكْمِ وَالْغَايَاتِ الْمَحْمُودَةِ فِي أَفْعَالِ الرَّبِّ تَعَالَى وَأَوَامِرِهِ, وَقَامُوا مَعَ ذَلِكَ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَصَدَّقُوا بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ, فَآمَنُوا بِالْخَالِقِ الَّذِي مِنْ تَمَامِ الْإِيمَانِ بِهِ إِثْبَاتُ الْقَدَرِ وَالْحِكْمَةِ, وَبِالْأَمْرِ الَّذِي مِنْ تَمَامِ الْإِيمَانِ بِهِ الْإِيمَانُ بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَحَشْرُ الْأَجْسَادِ وَالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ, فَصَدَّقُوا بِالْخَلْقِ وَالْأَمْرِ وَلَمْ يَنْفُوهُمَا بِنَفْيِ لَوَازِمِهِمَا كَمَا فَعَلَتِ الْقَدَرِيَّةُ الْمَجُوسِيَّةُ وَالْقَدَرِيَّةُ الْمُعَارِضَةُ لِلْأَمْرِ بِالْقَدَرِ, وَكَانُوا أَسْعَدَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَأَقْرَبَهُمْ عَصَبَةً فِي هَذَا الْمِيرَاثِ النَّبَوِيِّ,
وَذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ1. انْتَهَى مَا سُقْنَا مِنْ كَلَامِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ بَسَطَ الْكَلَامَ قَبْلَ ذَلِكَ وَبَعْدَهُ فَشَفَى وَكَفَى. رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْإِيمَانَ بِالْقَدَرِ مُرْتَبِطٌ بِامْتِثَالِ الشَّرْعِ, وَامْتِثَالَ الشَّرْعِ مُرْتَبِطٌ بِالْإِيمَانِ بِالْقَدَرِ, وَانْفِكَاكُ أَحَدِهِمَا مِنَ الْآخَرِ مُحَالٌ: فَإِنَّ الْإِقْرَارَ بِالْقَدَرِ مَعَ الِاحْتِجَاجِ بِهِ عَلَى الشَّرْعِ وَمُحَارَبَتِهِ بِهِ مُخَاصَمَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى فِي أَمْرِهِ وَشَرْعِهِ وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ وَثَوَابِهِ وَعِقَابِهِ, وَطَعْنٌ فِي حِكْمَتِهِ وَعَدْلِهِ, وَانْتِقَادٌ عَلَيْهِ فِي إِرْسَالِ الرُّسُلِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ, وَخَلْقِ الْجَنَّةِ لِأَوْلِيَائِهِ الْمُصَدِّقِينَ بِهَا, وَخَلْقِ النَّارِ لِأَعْدَائِهِ الْمُكَذِّبِينَ, وَنِسْبَةٌ لِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ وَأَعْدَلِ الْعَادِلِينَ -الْحَكِيمُ فِي خَلْقِهِ وَشَرْعِهِ, الْعَدْلُ فِي قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ وَحُكْمِهِ- إِلَى الْعَبَثِ وَالظُّلْمِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ. وَكَذَلِكَ الِانْقِيَادُ فِي الشَّرْعِ مَعَ نَفْيِ الْقَدَرِ وَإِخْرَاجِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ عَنْ قُدْرَةِ الْبَارِي وَجَعْلِهِمْ مُسْتَقِلِّينَ بِهَا مُسْتَغْنِينَ عَنْهُ طَعْنٌ فِي رُبُوبِيَّةِ الْمَعْبُودِ وَمَلَكُوتِهِ وَنِسْبَتِهِ إِلَى الْعَجْزِ وَوَصْفِهِ بِمَا لَا يَسْتَحِقُّ الْإِلَهِيَّةَ وَلَا يَتَّصِفُ بِهَا مِمَّا لَا يُبْدِئُ وَلَا يُعِيدُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا, تَعَالَى رَبُّنَا وَتَقَدَّسَ وَتَنَزَّهَ وَجَلَّ وَعَلَا عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ الْجَاحِدُونَ الْمُلْحِدُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا. بَلِ الْإِيمَانُ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ هُوَ نِظَامُ التَّوْحِيدِ, كَمَا أَنَّ الْإِتْيَانَ بِالْأَسْبَابِ الَّتِي تُوَصِّلُ إِلَى خَيْرِهِ وَتَحْجِزُ عَنْ شَرِهِ, وَاسْتِعَانَةَ اللَّهِ عَلَيْهَا هُوَ نِظَامُ الشَّرْعِ, وَلَا يَنْتَظِمُ أَمْرُ الدِّينِ وَلَا يَسْتَقِيمُ إِلَّا لِمَنْ آمَنَ بِالْقَدَرِ وَامْتَثَلَ الشَّرْعَ كَمَا قَرَّرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْإِيمَانُ بِالْقَدَرِ ثُمَّ قَالَ لَمَّا قِيلَ لَهُ: أَفَلَا نَتَّكِلُ عَلَى كِتَابِنَا وَنَدَعُ الْعَمَلَ؟ قَالَ "لَا اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ" 2. فَمَنْ نَفَى الْقَدَرَ رَغْمَ مُنَافَاتِهِ لِلشَّرْعِ فَقَدْ عَطَّلَ اللَّهَ تَعَالَى عَنْ عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَمَعَانِي رُبُوبِيَّتِهِ, وَجَعَلَ الْعَبْدَ مُسْتَقِلًّا بِأَفْعَالِهِ خَالِقًا لَهَا, فَأَثْبَتَ خَالِقًا مَعَ اللَّهِ
تَعَالَى, بَلْ أَثْبَتَ أَنَّ جَمِيعَ الْمَخْلُوقِينَ خَالِقُونَ, وَمَنْ أَثْبَتَهُ مُحْتَجًّا بِهِ عَلَى الشَّرْعِ مُحَارِبًا لَهُ بِهِ نَافِيًا عَنِ الْعَبْدِ قُدْرَتَهُ وَاخْتِيَارَهُ الَّتِي مَنَحَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِيَّاهَا وَأَمْرَهُ وَنَهَاهُ وَأَخْبَرَهُ بِحَسَبِهَا زَاعِمًا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَلَّفَ عِبَادَهُ مَا لَا يُطَاقُ فَقَدْ نَسَبَ اللَّهَ تَعَالَى إِلَى الظُّلْمِ وَإِلَى الْعَبَثِ وَإِلَى مَا لَا يَلِيقُ بِهِ, وَرَجَّحَ حُجَّةَ إِبْلِيسَ وَأَثْبَتَهَا وَأَقَامَ عُذْرَهُ وَكَانَ هُوَ إِمَامَهُ فِي ذَلِكَ إِذْ يَقُولُ: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} [الْأَعْرَافِ: 16] وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا فَيُؤْمِنُونَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ, وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَالِقُ ذَلِكَ كُلِّهِ لَا خَالِقَ غَيْرَهُ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ, وَيَنْقَادُونَ لِلشَّرْعِ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ, وَيُصَدِّقُونَ خَبَرَ الْكِتَابِ وَالرَّسُولِ, وَيُحَكِّمُونَهُ فِي أَنْفُسِهِمْ سِرًّا وَجَهْرًا, وَأَنَّ الْهِدَايَةَ وَالْإِضْلَالَ بِيَدِ اللَّهِ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ بِعَدْلِهِ وَحِكْمَتِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَوَاقِعِ فَضْلِهِ وَعَدْلِهِ {هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى} [النَّجْمِ: 30] وَلَهُ فِي ذَلِكَ الْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ وَالْحُجَّةُ الدَّامِغَةُ, وَأَنَّ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ مُتَرَتِّبٌ عَلَى الشَّرْعِ فِعْلًا وَتَرْكًا لَا عَلَى الْقَدَرِ, وَيُعَزُّونَ أَنْفُسَهُمْ بِالْقَدَرِ عِنْدَ الْمَصَائِبِ, وَلَا يَحْتَجُّونَ بِهِ عَلَى الْمَعَاصِي وَالْمَعَايِبِ فَإِذَا وُفِقُوا لِحَسَنَةٍ عَرَفُوا الْحَقَّ لِأَهْلِهِ فَقَالُوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا سُبُلَنَا {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الْأَعْرَافِ: 43] وَلَمْ يَقُولُوا كَمَا قَالَ الْفَاجِرُ {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [الْقَصَصِ: 78] وَإِذَا اقْتَرَفُوا سَيِّئَةً بَاءُوا بِذَنْبِهِمْ وَأَقَرُّوا بِهِ وَقَالُوا كَمَا قَالَ الْأَبَوَانِ: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الْأَعْرَافِ: 23] وَلَمْ يَحْمِلُوا ذَنْبَهُمْ وَظُلْمَهُمْ عَلَى الْقَدَرِ وَيَحْتَجُّوا بِهِ عَلَيْهِ, وَلَمْ يَقُولُوا كَمَا قَالَ إِبْلِيسُ لَعَنَهُ اللَّهُ {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} [الْأَعْرَافِ: 16] وَإِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ رَضُوا بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ وَاسْتَسْلَمُوا لِتَصَرُّفِ رَبِّهِمْ وَمَالِكِهِمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَقَالُوا كَلِمَةَ الصَّابِرِينَ: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [الْبَقَرَةِ: 156] وَلَمْ يَقُولُوا كَمَا قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا {وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [آلِ عِمْرَانَ: 156] .
القدر السابق لا يمنع العمل، ولا يوجب الاتكال
فَصْلٌ: الْقَدَرُ السَّابِقُ لَا يَمْنَعُ الْعَمَلَ وَلَا يُوجِبُ الِاتِّكَالَ وَاتَّفَقَتْ جَمِيعُ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ وَالسُّنَنِ النَّبَوِيَّةِ عَلَى أَنَّ الْقَدَرَ السَّابِقَ لَا يَمْنَعُ الْعَمَلَ وَلَا يُوجِبُ الِاتِّكَالَ, بَلْ يُوجِبُ الْجِدَّ وَالِاجْتِهَادَ وَالْحِرْصَ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ, وَلِهَذَا لَمَّا أَخْبَرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَصْحَابَهُ بِسَبْقِ الْمَقَادِيرِ وَجَرَيَانِهَا وَجُفُوفِ الْقَلَمِ بِهَا فَقِيلَ لَهُ: أَفَلَا نَتَّكِلُ عَلَى كِتَابِنَا وَنَدَعُ الْعَمَلَ؟ قَالَ: "لَا, اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ" ثُمَّ قَرَأَ {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [اللَّيْلِ: 5-10] 1 كَمَا فِي الْأَحَادِيثِ الَّتِي قَدَّمَنَا وَغَيْرِهَا. فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَدَّرَ الْمَقَادِيرَ وَهَيَّأَ لَهَا أَسْبَابًا وَهُوَ الْحَكِيمُ بِمَا نَصَبَهُ مِنَ الْأَسْبَابِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ, وقد يسر كلا مَنْ خَلَقَهُ لِمَا خَلَقَهُ لَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ, فَهُوَ مُهَيَّأٌ لَهُ مُيَسَّرٌ لَهُ, فَإِذَا عَلِمَ الْعَبْدُ أَنَّ مَصَالِحَ آخِرَتِهِ مُرْتَبِطَةٌ بِالْأَسْبَابِ الْمُوَّصِلَةِ إِلَيْهَا كَانَ أَشَدَّ اجْتِهَادًا فِي فِعْلِهَا وَالْقِيَامِ بِهَا وَأَعْظَمَ مِنْهُ فِي أَسْبَابِ مَعَاشِهِ وَمَصَالِحِ دُنْيَاهُ مِنْ كَوْنِ الْحَرْثِ سَبَبًا فِي وُجُودِ الزَّرْعِ, وَالنِّكَاحِ سَبَبًا فِي وُجُودِ النَّسْلِ, وَكَذَلِكَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ سَبَبٌ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ, وَالْعَمَلُ السَّيِّئُ سَبَبٌ فِي دُخُولِ النَّارِ. وَقَدْ فَقِهَ هَذَا كُلُّ الْفِقْهِ مَنْ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ لَمَّا سَمِعَ أَحَادِيثَ الْقَدَرِ "مَا كنت بأشد اجتهاد مِنِّي الْآنَ"2 وَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ "احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجَزَنَّ, وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَذَا لَكَانَ كَذَا وَكَذَا, وَلَكِنْ قُلْ: قَدَّرَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ"3. وَفِي الْمُسْنَدِ وَالتِّرْمِذِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ عَنِ ابْنِ أَبِي خُزَامَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: أَرَأَيْتَ رُقًى نَسْتَرْقِيهَا وَدَوَاءً نَتَدَاوَى بِهِ وَتُقَاةً
ما جاء من الأحاديث في ذم منكري القدر
نَتَّقِيهَا هَلْ تَرُدُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهَ شَيْئًا؟ قَالَ: "هِيَ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ" 1 يَعْنِي أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَدَّرَ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ وَأَسْبَابَ كُلٍّ مِنْهُمَا. ذِكْرُ مَا جَاءَ مِنَ الْأَحَادِيثِ فِي ذَمِّ الْقَدَرِيَّةِ: تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [الْقَمَرِ: 47-49] أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْمُخَاصِمِينَ فِي الْقَدَرِ2. وَتَقَدَّمَ فِيهِمْ أَحَادِيثُ الصَّحَابَةِ مِنْ رِوَايَتِهِمْ سُؤَالِ جِبْرِيلَ عَنِ الدِّينِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي سُقْنَاهَا مُتَفَرِّقَةً فِي مَوَاضِعَ مِنْ هَذَا الْمَجْمُوعِ. وَقَالَ أَبُو دَاوُدُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيْلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ قَالَ حَدَّثَنِي بِمِنًى عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "الْقَدَرِيَّةُ مَجُوسُ هَذِهِ الْأُمَّةِ, إِنْ مَرِضُوا فَلَا تَعُودُوهُمْ وَإِنْ مَاتُوا فَلَا تَشْهَدُوهُمْ" 3, وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْهُ بِلَفْظِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "لِكُلِّ أَمَةٍ
مَجُوسٌ, وَمَجُوسُ أُمَّتَيِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: لَا قَدَرَ, إِنْ مَرِضُوا فَلَا تَعُودُوهُمْ" , الْخَ1 وَفِي رِوَايَةٍ "إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ مَجُوسًا وَإِنَّ مَجُوسَ أُمَّتِي الْمُكَذِّبُونَ بِالْقَدَرِ" 2 الْخَ. وَلَهُ عَنْهُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "سَيَكُونُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ مَسْخٌ, أَلَا وَذَاكَ فِي الْمُكَذِّبِينَ بِالْقَدَرِ وَالزِّنْدِيقِيَّةِ" 3. وَلَهُ عَنْ نَافِعٍ قَالَ: كَانَ لِابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا صَدِيقٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ يُكَاتِبُهُ, فَكَتَبَ إِلَيْهِ مَرَّةً عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّكَ تَكَلَّمْتَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْقَدَرِ, فإياك أن تكب إِلَيَّ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "سَيَكُونُ فِي أُمَّتِي أَقْوَامٌ يُكَذِّبُونَ بِالْقَدَرِ" 4 وَلِلتِّرْمِذِيِّ عَنْ نَافِعٍ عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: إِنَّ فَلَانًا يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ. فَقَالَ: إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّهُ قَدْ أَحْدَثَ, فَإِنْ كَانَ قَدْ أَحْدَثَ فَلَا تُقْرِئُهُ مِنِّي السَّلَامَ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَقُولُ: "فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ -أَوْ فِي أُمَّتِي, الشَّكُّ مِنْهُ- خَسْفٌ أَوْ مَسْخٌ أَوْ قَذْفٌ فِي أَهْلِ الْقَدَرِ" 1 هَذَا الْحَدِيثُ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ1. وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عُمَرَ مَوْلَى غُفْرَةَ عَنْ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لِكُلِّ أمة مجوس, وَمَجُوسِ هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: لَا قَدَرَ. مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ فَلَا تَشْهَدُوا جِنَازَتَهُ, وَمَنْ مَرِضَ مِنْهُمْ فَلَا تَعُودُوهُمْ, وَهُمْ شِيعَةُ الدَّجَّالِ, وَحَقٌّ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُلْحِقَهُمْ بِالدَّجَّالِ" 2. وَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْمُقْرِيُّ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ قَالَ: حَدَّثَنِي عَطَاءُ بْنُ دِينَارٍ عَنْ حَكِيمِ بْنِ شَرِيكٍ الْهُذَلِيِّ عَنْ يَحْيَى بْنِ مَيْمُونٍ الْحَضْرَمِيِّ عَنْ رَبِيعَةَ الْحَرَشِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "لَا تُجَالِسُوا أَهْلَ الْقَدَرِ وَلَا تُفَاتِحُوهُمْ" 3 صَحِيحٌ. وَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي سِنَانٍ عَنْ وَهْبِ بْنِ خَالِدٍ الْحِمْصِيِّ عَنِ ابْنِ الدَّيْلَمِيِّ قَالَ: أَتَيْتُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ فَقُلْتُ لَهُ: وَقَعَ فِي نَفْسِي شَيْءٌ مِنَ الْقَدَرِ فَحَدِّثَنِي بِشَيْءٍ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُذْهَبَهُ مِنْ قَلْبِي, فَقَالَ: لَوْ أَنَّ اللَّهَ عذب أهل سمواته وأهل أَرْضِهِ عَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمِهِمْ, وَلَوْ رَحِمَهُمْ كَانَتْ رَحْمَتُهُ خَيْرًا لَهُمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ, وَلَوْ أَنْفَقْتَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا قَبِلَهُ اللَّهُ مِنْكَ حَتَّى تُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ وَتَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ وَأَنَّ مَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ, وَلَوْ مُتَّ عَلَى غَيْرِ هَذَا لَدَخَلْتَ النَّارَ, قَالَ: ثُمَّ أَتَيْتُ
عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ, قَالَ: ثُمَّ أَتَيْتُ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ, قَالَ: ثُمَّ أَتَيْتُ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ فَحَدَّثَنِي عَنِ النَّبِيِّ مِثْلَ ذَلِكَ1. وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ وَصِيَّةِ عُبَادَةَ لِابْنِهِ فِي ذَلِكَ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدَّثَنَا وَاصِلُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ حَبِيبٍ وَعَلِيِّ بْنِ نِزَارٍ عَنْ نِزَارٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "صِنْفَانِ مِنْ أُمَّتِي لَيْسَ لَهُمَا فِي الْإِسْلَامِ نَصِيبٌ: الْمُرْجِئَةُ وَالْقَدَرِيَّةُ" هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ2. وَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ أَخْبَرَنَا أَبُو دَاوُدَ أَنْبَأَنَا شُعْبَةُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ عَنْ عَلَيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى يُؤْمِنَ بِأَرْبَعٍ: يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ بَعَثَنِي بِالْحَقِّ, وَيُؤْمِنُ بِالْمَوْتِ وَيُؤْمِنُ بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَيُؤْمِنُ بِالْقَدَرِ" 3. وَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: بَابَ مَا جَاءَ مِنَ التَّشْدِيدِ فِي الْخَوْضِ فِي الْقَدَرِ. حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْجُمَحِيُّ أَنْبَأَنَا صَالِحٌ الْمُرِّيُّ عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَنَحْنُ نَتَنَازَعُ فِي الْقَدَرِ, فَغَضِبَ حَتَّى احْمَرَّ وَجْهُهُ حَتَّى كَأَنَّمَا فُقِئَ فِي وَجْنَتَيْهِ حَبُّ الرُّمَّانِ, فَقَالَ: "أَبِهَذَا أُمِرْتُمْ, أَمْ بِهَذَا أُرْسِلْتُ إِلَيْكُمْ؟ إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حِينَ تَنَازَعُوا فِي هَذَا الْأَمْرِ, عَزَمْتُ عَلَيْكُمْ أَلَا تُنَازِعُوا فِيهِ" 1. وَلِأَحْمَدَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: "خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذَاتَ يَوْمٍ وَالنَّاسُ يَتَكَلَّمُونَ فِي الْقَدَرِ قَالَ وَكَأَنَّمَا تَفَقَّأَ فِي وَجْهِهِ حَبُّ الرُّمَّانِ مِنَ الْغَضَبِ, قَالَ: فَقَالَ لَهُمْ: "مَا لَكُمْ تَضْرِبُونَ كِتَابَ اللَّهِ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ؟ بِهَذَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ". قَالَ: فَمَا غَبَطْتُ نَفْسِي بِمَجْلِسٍ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمْ أَشْهَدْهُ بِمَا غَبَطْتُ نَفْسِي بِذَلِكَ الْمَجْلِسِ أَنِّي لَمْ أَشْهَدْهُ" وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ2 وَلِأَحْمَدَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَاقٌّ وَلَا مُدْمِنُ خَمْرٍ وَلَا مُكَذِّبٌ بِقَدَرٍ" 3. وَلَهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبِيدٍ الْمَكِّيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إِنْ رَجُلًا قَدِمَ عَلَيْنَا يُكَذِّبُ بِالْقَدَرِ. فَقَالَ: دُلُّونِي عَلَيْهِ, وَهُوَ يَوْمَئِذٍ قَدْ عَمِيَ, قَالُوا: وَمَا تَصْنَعُ بِهِ يَا أَبَا عَبَّاسٍ؟ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَئِنِ اسْتَمْكَنْتُ مِنْهُ لَأَعُضَّنَّ أَنْفَهُ حَتَّى أَقْطَعَهُ, وَلَئِنْ وَقَعَتْ رَقَبَتُهُ فِي يَدِي لَأَدُقَّنَّهَا فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "كَأَنِّي بِنِسَاءِ بَنِي فِهْرٍ يَطُفْنَ بِالْخَزْرَجِ تَصْطَفِقُ أَلْيَاتُهُنَّ مُشْرِكَاتٍ" هَذَا أَوَّلُ شِرْكِ هَذِهِ الْأُمَّةِ, وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لِيَنْتَهِيَنَّ بِهِمْ سُوءُ رَأْيِهِمْ
حَتَّى يُخْرِجُوا اللَّهَ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَدَّرَ خَيْرًا كَمَا أَخْرَجُوهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَدَّرَ شَرًّا" 1. وَرَوَى الْبَزَّارُ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: مَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [الْقَمَرِ: 47-49] إِلَّا فِي أَهْلِ الْقَدَرِ2. وَلِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ زُرَارَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ {ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [الْقَمَرِ: 48-49] قَالَ: "نَزَلَتْ فِي أُنَاسٍ مِنْ أُمَّتِي يَكُونُونَ فِي آخِرِ الزَّمَانِ يُكَذِّبُونَ بِقَدَرِ اللَّهِ" 3. وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ: أَتَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ وَهُوَ يَنْزِعُ مِنْ زَمْزَمَ وَقَدِ ابْتَلَتْ أَسَافِلَ ثِيَابِهِ, فَقُلْتُ لَهُ: تَكَلَّمْ فِي القدر. فقال: أوقد فَعَلُوهَا؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ إِلَّا فِيهِمْ {ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [الْقَمَرِ: 48-49] أُولَئِكَ شِرَارُ هَذِهِ الْأُمَّةِ, فَلَا تَعُودُوا مَرْضَاهُمْ, وَلَا تُصَلُّوا عَلَى مَوْتَاهُمْ, إِنْ رَأَيْتُ أَحَدًا مِنْهُمْ فَقَأْتُ عَيْنَيْهِ بِأُصْبُعَيَّ هَاتَيْنِ4.
ذِكْرُ أَقْوَالِ الصَّحَابِةِ فِي هَذَا الْبَابِ: تَقَدَّمَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ لِيَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ وَقَوْلُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ لِابْنِ الدَّيْلَمِيِّ, وَوَصِيَّةُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ لِابْنِهِ. وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمُ ثُمَّ قَالَ: اكْتُبْ. قَالَ: مَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اكْتُبْ مَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَلَهُ عَنْهُ فَكَتَبَ فِيمَا كَتَبَ {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} 1 [الْمَسَدِ: 1] .وَلَهُ عَنْهُ قَالَ: أَخْرَجَ اللَّهُ ذُرِّيَّةَ آدَمَ مِنْ ظَهْرِهِ مِثْلَ الذَّرِّ فَسَمَّاهُمْ, قَالَ هَذَا فُلَانٌ وَهَذَا فُلَانٌ, ثُمَّ قَبَضَ قَبْضَتَيْنِ فَقَالَ لِلَّتِي فِي يَمِينِهِ: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ, وَقَالَ لِلَّتِي فِي يَدِهِ الْأُخْرَى: ادْخُلُوا النَّارَ وَلَا أُبَالِي2. وَلَهُ عَنْهُ قَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ لَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ وَإِنَّ اسْمَهُ لَفِي الْمَوْتَى3. وَلَهُ عَنْهُ {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرَّعْدِ: 39] قَالَ: إِلَّا الشَّقَاوَةَ وَالسَّعَادَةَ وَالْحَيَاةَ وَالْمَوْتَ4 وَلَهُ عَنْهُ إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ الْقَلَمُ فَأَمَرَهُ أَنْ يَكْتُبَ مَا يُرِيدُهُ أَنْ يَخْلُقَ فَالْكِتَابُ
عِنْدَهُ ثُمَّ قَرَأَ {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} 1 [الزُّخْرُفِ: 4] . وَلَهُ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ كَيْفَ تَفَقَّدَ سُلَيْمَانُ الْهُدْهُدَ مِنْ بَيْنِ الطَّيْرِ؟ قَالَ: إِنَّ سُلَيْمَانَ نَزَلَ مَنْزِلًا فَلَمْ يَدْرِ مَا بُعْدُ الْمَاءِ وَكَانَ الْهُدْهُدُ مُهَنْدِسًا. قَالَ: فَأَرَادَ أَنْ يَسْأَلَهُ عَنِ الْمَاءِ فَفَقَدَهُ. قُلْتُ: وَكَيْفَ يَكُونُ مُهَنْدِسًا وَالصَّبِيُّ يَنْصُبُ لَهُ الْحِبَالَةَ فَيَصِيدُهُ. قَالَ: إِذَا جَاءَ الْقَدَرُ حَالَ دُونَ الْبَصَرِ2. وَلَهُ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ أَنَّهُ كَانَ يَطُوفُ مَعَ طَاوُسٍ بِالْبَيْتِ فَمَرَّ بِمَعْبَدٍ الْجُهَنِيِّ. فَقَالَ قَائِلٌ لِطَاوُسٍ: هَذَا مَعْبَدٌ الْجُهَنِيُّ الَّذِي يَقُولُ فِي الْقَدَرِ, فَعَدَلَ إِلَيْهِ طَاوُسٌ حَتَّى وَقَفَ عَلَيْهِ, فَقَالَ: أَنْتَ الْمُفْتَرِي عَلَى اللَّهِ الْقَائِلُ مَا لَا تَعْلَمُ. قَالَ مَعْبَدٌ: يُكْذَبُ عَلَيَّ. قَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ: فَعَدَلْتُ مَعَ طَاوُسٍ حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ, فَقَالَ لَهُ طَاوُسٌ: يَا أَبَا عَبَّاسٍ الَّذِينَ يَقُولُونَ فِي الْقَدَرِ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَرُونِي بَعْضَهُمْ. قَالَ: قُلْنَا: صَانِعٌ مَاذَا؟ قَالَ: إِذَنْ أَجْعَلُ يَدِي فِي رَأْسِهِ ثُمَّ أَدُقُّ عُنُقَهُ3. وَلَهُ عَنْهُ قَالَ: لَيْسَ قَوْمٌ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنَ الْقَدَرِيَّةِ إِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ قُدْرَةَ اللَّهِ, إِنَّ الله تعالى يقول: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 23] . وَلَهُ عَنْ طَاوُسٍ قَالَ: كُنْتُ مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي حَلْقَةٍ قَالَ فَذَكَرُوا أَهْلَ الْقَدَرِ, قَالَ فَقَالَ: أَفِي الْحَلْقَةِ مِنْهُمْ أَحَدٌ فَآخُذُ بِرَأْسِهِ ثُمَّ أَقْرَأُ عَلَيْهِ {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} [الْإِسْرَاءِ: 4] وَأَقْرَأُ عَلَيْهِ آيَةَ كَذَا وَآيَةَ كَذَا5. وَلَهُ عَنْهُ وَذُكِرَ عِنْدَهُ الْقَدَرِيَّةُ قَالَ: فَقَالَ: لَوْ رَأَيْتُ أَحَدًا مِنْهُمْ لَعَضِضْتُ أَنْفَهُ6.
وَلَهُ عَنْهُ قَالَ: الْإِيمَانُ بِالْقَدَرِ نِظَامُ التَّوْحِيدِ, فَمَنْ آمَنَ وَكَذَّبَ بِالْقَدَرِ فَهُوَ نَقْضٌ لِلتَّوْحِيدِ1. وَفِي لَفْظٍ: فَمَنْ وَحَّدَ وَكَذَّبَ بِالْقَدَرِ فَقَدْ نَقَضَ التَّوْحِيدَ2. وَلَهُ عَنْ أَبِي يَحْيَى مَوْلَى ابْنِ عَفْرَاءَ قَالَ: أَتَيْتُ ابْنَ عباس ومعي رجلا مِنَ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ الْقَدَرَ أَوْ ينكرونه. فقلت: يابن عَبَّاسٍ مَا تَقُولُ فِي الْقَدَرِ لَوْ أَنَّ هَؤُلَاءِ أَتَوْكَ يَسْأَلُونَكَ -وَقَالَ مَرَّةً- يَسْأَلُونَكَ عَنِ القدر إن زنا وإن سَرَقَ أَوْ شَرِبَ. فَحَسَرَ قَمِيصَهُ حَتَّى أَخْرَجَ مَنْكِبَيْهِ وَقَالَ: يَا أَبَا يَحْيَى لَعَلَّكَ مِنَ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ الْقَدَرَ وَيُكَذِّبُونَ بِهِ, وَاللَّهِ لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكَ مِنْهُمْ أَوْ هَذَيْنِ مَعَكَ لجاهدتهم, إن زنا فَبِقَدَرٍ, وَإِنْ سَرَقَ فَبِقَدَرٍ, وَإِنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَبِقَدَرٍ3. وَرَوَى إِسْحَاقُ بْنُ الْمُلَائِيِّ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الْأَعْرَافِ: 172] قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخَذَ عَلَى آدَمَ مِيثَاقَهُ أَنَّهُ رَبُّهُ, وَكَتَبَ رِزْقَهُ وَأَجَلَهُ وَمُصِيبَاتِهِ, ثُمَّ أَخْرَجَ مِنْ ظَهْرِهِ وَلَدَهُ كَهَيْئَةِ الذَّرِّ فَأَخَذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقَ أَنَّهُ رَبُّهُمْ, وَكَتَبَ رِزْقَهُمْ وَأَجَلَهُمْ وَمُصِيبَاتِهِمْ4. وَفِي تَفْسِيرِ أَسْبَاطٍ عَنِ السُّدِّيِّ عَنْ أَصْحَابِهِ أَبِي مَالِكٍ وَأَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ, وَعَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ, وَعَنْ أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَرَضِيَ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الْأَعْرَافِ: 172] الْآيَةَ. قَالَ: لَمَّا أَخْرَجَ اللَّهُ آدَمَ مِنَ الْجَنَّةِ قَبْلَ أَنْ يَهْبِطَ مِنَ السَّمَاءِ مَسْحَ صَفْحَةَ ظَهْرِ آدَمَ الْيُمْنَى فَأَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً بَيْضَاءَ مِثْلَ اللُّؤْلُؤِ كَهَيْئَةِ الذَّرِّ فَقَالَ
لَهُمْ: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي, وَمَسَحَ صَفْحَةَ ظَهْرِهِ الْيُسْرَى فَأَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً سَوْدَاءَ كَهَيْئَةِ الذَّرِّ فَقَالَ: ادْخُلُوا النَّارَ وَلَا أُبَالِي. فَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ أَصْحَابُ الْيَمِينِ وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ, ثُمَّ أَخَذَ مِنْهُمُ الْمِيثَاقَ فَقَالَ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى. فَأَعْطَاهُ طَائِفَةً طَائِعِينَ وَطَائِفَةً كَارِهِينَ عَلَى وَجْهِ التَّقِيَّةِ, فَقَالَ هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ: {شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ} [الْأَعْرَافِ: 172] الْآيَةَ. فَلِذَلِكَ لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ وَلَدِ آدَمَ إِلَّا وَهُوَ يَعْرِفُ أَنَّ اللَّهَ رَبُّهُ, وَلَا مُشْرِكٌ إِلَّا وَهُوَ يَقُولُ: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزُّخْرُفِ: 23] فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الْأَعْرَافِ: 172] وَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ تَعَالَى: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [آلِ عِمْرَانَ: 83] وَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الْأَنْعَامِ: 149] قَالَ: يَعْنِي يَوْمَ الْمِيثَاقِ1. وَعَنْ مِقْسَمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الْجَاثِيَةِ: 29] قَالَ: تَسْتَنْسِخُ الْحَفَظَةُ مِنْ أُمِّ الْكِتَابِ مَا يَعْمَلُ بَنُو آدَمَ, فَإِنَّمَا يَعْمَلُ الْإِنْسَانُ عَلَى مَا اسْتَنْسَخَ الْمَلَكُ مِنْ أُمِّ الْكِتَابِ2. وَعَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كُتِبَ فِي الذِّكْرِ عِنْدَهُ كُلُّ شَيْءٍ هُوَ كَائِنٌ ثُمَّ بَعَثَ الْحَفَظَةَ عَلَى آدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ وَكُلُّ مَلَائِكَتِهِ يَنْسَخُونَ مِنَ الذِّكْرِ مَا يَعْمَلُ الْعِبَادُ, ثُمَّ قَرَأَ {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الْجَاثِيَةِ: 29] 3 وَفِي تَفْسِيرِ الضَّحَّاكِ عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: هِيَ أَعْمَالُ أَهْلِ الدُّنْيَا الْحَسَنَاتُ وَالسَّيِّئَاتُ تَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ كُلَّ غَدَاةٍ وَعَشِيَّةٍ مَا يُصِيبُ الْإِنْسَانَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَوِ اللَّيْلَةِ الَّذِي يُقْتَلُ وَالَّذِي يَغْرَقُ وَالَّذِي يَقَعُ مِنْ فَوْقِ بَيْتٍ وَالَّذِي يَتَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ وَالَّذِي يَقَعُ وَالَّذِي يُحْرَقُ بِالنَّارِ فَيَحْفَظُونَ عَلَيْهِ ذَلِكَ كُلَّهُ, وَإِذَا كَانَ الشَّيْءُ صَعِدُوا بِهِ إِلَى السَّمَاءِ فَيَجِدُونَهُ كَمَا فِي السَّمَاءِ مَكْتُوبًا فِي الذِّكْرِ الْحَكِيمِ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ قَبْضَتَيْنِ, فَقَالَ لِمَنْ فِي يَمِينِهِ: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ, وَقَالَ لِمَنْ فِي يَدِهِ الْأُخْرَى: ادْخُلُوا النَّارَ وَلَا أُبَالِي1. وَلِعَبْدِ اللَّهِ ابْنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَا يَزَالُ أَمْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ قَوَامًا, أَوْ مُقَارِبًا, مَا لَمْ يَتَكَلَّمُوا فِي الْقَدَرِ2. وَلَهُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ حِينَ طُعِنَ: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} 3 [الْأَحْزَابِ: 38] . وَلَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ الْهَاشِمِيِّ قَالَ: خَطَبَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالْجَابِيَةِ وَفِي لَفْظٍ بِالشَّامِ وَالْجَاثَلِيقُ مَاثِلٌ فَتَشَهَّدَ فَقَالَ: "مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ, وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ, فَقَالَ الْجَاثَلِيقُ بِقَمِيصِهِ هَكَذَا يَعْنِي نَفَضَهُ, وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِلُّ أَحَدًا, فَقَالَ: مَا يَقُولُ: فَقَالُوا: مَا قَالَ. فَقَالَ: كَذَبْتَ عَدُوَّ اللَّهِ, اللَّهُ خَلَقَكَ, وَاللَّهُ أَضَلَّكَ, ثُمَّ يُمِيتُكَ فَيُدْخِلُكَ النَّارَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَاللَّهِ لَوْلَا عَقْدٌ لَكَ لَضَرَبْتُ عُنُقَكَ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ فَنَثَرَ ذُرِّيَّتَهُ فِي يَدَيْهِ ثُمَّ كَتَبَ أَهْلَ الْجَنَّةِ وَمَا هُمْ عَامِلُونَ, وَكَتَبَ أَهْلَ النَّارِ وَمَا هُمْ عَامِلُونَ, ثُمَّ قَالَ: هَؤُلَاءِ لِهَذِهِ وَهَؤُلَاءِ لِهَذِهِ. قَالَ: فَتَصَدَّعَ النَّاسُ وَمَا يُتَنَازَعُ فِي الْقَدَرِ4.
وَقَالَ عَلَيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَا مِنْ آدَمِيٍّ إِلَّا وَمَعَهُ مَلَكٌ يَقِيهِ مَا لَمْ يُقَدَّرْ لَهُ, فَإِذَا جَاءَ الْقَدَرُ خَلَّاهُ وَإِيَّاهُ1. وَلَهُ عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ وَذُكِرَ عِنْدَهُ الْقَدَرُ يَوْمًا فَأَدْخَلَ إِصْبِعَهُ السَّبَّابَةَ وَالْوُسْطَى فِي فِيهِ فَرَقَّمَ بِهِمَا بَاطِنَ يَدَيْهِ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ هَاتَيْنِ الرَّقْمَتَيْنِ كَانَتَا فِي أُمِّ الْكِتَابِ2. وَلَهُ عَنْ أَسِيرِ بْنِ جَابِرٍ قَالَ: طَلَبْتُ عَلِيًّا فِي مَنْزِلِهِ فَلَمْ أَجِدْهُ, فَنَظَرْتُ فَإِذَا هُوَ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ, قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ -كَأَنَّهُ خَوَّفَهُ- قَالَ فَقَالَ: إِيهِ لَيْسَ أَحَدٌ إِلَّا وَمَعَهُ مَلَكٌ يَدْفَعُ عَنْهُ مَا لَمْ يَنْزِلِ الْقَدَرُ. فَإِذَا نَزَلَ الْقَدَرُ لَمْ يُغْنِ شَيْئًا3. وَلَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: إِنَّا نُسَافِرُ فَنَلْقَى قَوْمًا يَقُولُونَ: لَا قَدَرَ- قَالَ: إِذَا لَقِيتَ أُولَئِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ مِنْهُمْ بَرِيءٌ وَهُمْ مِنْهُ بَرَآءُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ4. وَلِعَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ قَالَ قُلْتُ: لِابْنِ عُمَرَ إِنَّ أُنَاسًا عِنْدَنَا يَقُولُونَ: الْخَيْرُ والشر بقدر. وناس عِنْدَنَا يَقُولُونَ: الْخَيْرُ بِقَدَرٍ وَالشَّرُّ لَيْسَ بِقَدَرٍ. فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: إِذَا رَجَعْتَ إِلَيْهِمْ فَقُلْ لَهُمْ: إِنَّ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: إِنَّهُ مِنْكُمْ بَرِيءٌ وَأَنْتُمْ مِنْهُ بُرَآءُ5. وَلِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: مَنْ زَعَمَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ بَارِئًا أَوْ قَاضِيًا أَوْ رَازِقًا أَوْ يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ ضُرًّا أَوْ نَفْعًا أَوْ مَوْتًا أَوْ حَيَاةً أَوْ نُشُورًا بَعَثَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَخْرَسَهُ وَأَعْمَى بَصَرَهُ وَجَعَلَ عَمَلَهُ هَبَاءً مَنْثُورًا وَقَطَعَ بِهِ الْأَسْبَابَ وَكَبَّهُ عَلَى وَجْهِهِ فِي النَّارِ6.
وَلَهُ عَنْ نَافِعٍ قَالَ: قِيلَ لِابْنِ عُمَرَ: إِنَّ قَوْمًا يَقُولُونَ: لَا قَدَرَ. فَقَالَ: أُولَئِكَ الْقَدَرِيُّونَ. أُولَئِكَ مَجُوسُ هَذِهِ الْأُمَّةِ1. وَلَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: مَضَتِ الْكُتُبُ وَجَفَّتِ الْأَقْلَامُ فَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ. فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ2. وَلَهُ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: رُفِعَ الْكِتَابُ وَجَفَّتِ الْأَقْلَامُ وَأُمُورٌ تُقْضَى فِي كِتَابٍ قَدْ خَلَا. وَفِي رِوَايَةٍ قُضِيَ الْقَضَاءُ وَجَفَّ الْقَلَمُ وَأُمُورٌ تَكْفِي فِي كِتَابٍ قَدْ خَلَا3. وَلَهُ عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَيَكُونُ نَاسٌ يُصَدِّقُونَ بِقَدَرٍ وَيُكَذِّبُونَ بِقَدَرٍ فَيَلْعَنُهُمْ أَبُو هُرَيْرَةَ عِنْدَ قَوْلِهِ هَذَا4. وَلَهُ عَنْ عَمَّارٍ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ عَنِ الْقَدَرِ فَقَالَ: اكْتَفِي بِآخِرِ سُورَةِ الْفَتْحِ5. وَلَهُ عَنْ أَبِي الْحَجَّاجِ الأزدي عن سلمان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَقِيتُهُ بِمَاءِ سَبَذَانَ. قَالَ فَقُلْتُ لَهُ: أَخْبِرْنِي كَيْفَ الْإِيمَانُ بِالْقَدَرِ؟ قَالَ: أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ, وَمَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ, وَلَا تَقُلْ لَوْ كَانَ كَذَا لَكَانَ كَذَا وَلَوْ نَفْعَلُ كَذَا لَكَانَ كَذَا6. وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ قَالَ: قَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ لِأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ: وَدِدْتُ أَنِّي وَجَدْتُ مَنْ أُخَاصِمُ إِلَيْهِ رَبِّي. فَقَالَ أَبُو مُوسَى: أَنَا. فَقَالَ
عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: أَيُقَدِّرُ عَلَيَّ شَيْئًا يُعَذِّبُنِي عَلَيْهِ؟ فَقَالَ أَبُو مُوسَى: نَعَمْ, قَالَ: لِمَ؟ قَالَ: لِأَنَّهُ لَا يَظْلِمُكَ. فَقَالَ عَمْرٌو: صَدَقْتَ1. وَلَهُ عَنِ ابْنِ الدَّيْلَمِيِّ سَأَلَتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو عَنْ "جَفَّ الْقَلَمُ" فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ حِينَ خَلَقَ الْخَلْقَ أَلْقَى عَلَيْهِمْ مِنْ نُورِهِ, فَمَنْ أَصَابَهُ شَيْءٌ مِنْهُ اهْتَدَى2. وَكَلَامُ الصَّحَابَةِ فِي هَذَا الْبَابِ يَطُولُ ذِكْرِهِ, وَقَدْ جُمِعَتْ فِيهِ التَّصَانِيفُ الْكَثِيرَةُ
أقوال التابعين
ذِكْرُ أَقْوَالِ التَّابِعِينَ: قَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: إِنَّكُمْ مَكْتُوبُونَ عِنْدَ اللَّهِ بِأَسْمَائِكُمْ وَسِيْمَاكُمُ وَنَجْوَاكُمْ وَحُلَاكُمْ وَمَجَالِسِكُمْ1. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: {يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الْأَنْفَالِ: 24] قَالَ: يَحُولُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكُفْرِ, وَبَيْنَ الْكَافِرِ وَالْإِيمَانِ2. وَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَذَكَرَ قِصَّةَ بُخْتُ نَصَّرَ وَمُلْكَ ابْنِهِ فَرَأَى كَفًّا فَرَّجَتْ بَيْنَ لَوْحَيْنِ ثُمَّ كَتَبَتْ سَطْرَيْنِ, فَدَعَا الْكُهَّانَ وَالْعُلَمَاءَ فَلَمْ يَجِدْ عِنْدَهُمْ مِنْهُ عِلْمًا. فَقَالَتْ لَهُ أُمُّهُ: إِنَّكَ لَوْ أَعَدْتَ لِدَانْيَالَ مَنْزِلَتَهُ الَّتِي كَانَتْ لَهُ مِنْ أَبِيكَ -وَكَانَ قَدْ جَفَاهُ- أَخْبَرَكَ. فَدَعَاهُ فَقَالَ: إِنِّي مُعِيدٌ لَكَ مَنْزِلَتَكَ مِنْ أَبِي فَأَخْبِرْنَا مَا هَذَانِ السَّطْرَانِ؟ قَالَ: أَمَّا مَا ذَكَرْتَ أَنَّكَ مُعِيدٌ لِي مَنْزِلَتِي مِنْ أَبِيكَ فَلَا حَاجَةَ لِي بِذَلِكَ. وَأَمَّا هَذَانِ السَّطْرَانِ فَإِنَّكَ تُقْتَلُ اللَّيْلَةَ. فَأَخْرَجَ مَنْ فِي الْقَصْرِ أَجْمَعِينَ وَأَمَرَ بِقُفْلَةِ جَلَّادٍ فَقُفِلَتْ بِهَا الْأَبْوَابُ عَلَيْهِ, وَأُدْخِلَ مَعَهُ آمَنُ أَهْلِ الْقَرْيَةِ فِي نَفْسِهِ, مَعَهُ سَيْفٌ وَقَالَ لَهُ: مَنْ جَاءَ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ فَاقْتُلْهُ وَإِنْ قَالَ أَنَا فُلَانٌ. وَبَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْبَطْنَ فَجَعَلَ يَمْشِي وَالْآخَرُ مُسْتَيْقِظٌ, حَتَّى إِذَا كَانَ عَلَى شَطْرِ اللَّيْلِ رَقَدَ وَرَقَدَ صَاحِبُهُ ثُمَّ نَبَّهَهُ الْبَطْنُ فَذَهَبَ يَمْشِي وَالْآخَرُ رَاقِدٌ فَرَجَعَ فَاسْتَيْقَظَ. فَقَالَ: أَنَا فُلَانٌ وَضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ فَقَتَلَهُ3. وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: مَا قَدَّرَ اللَّهُ فَهُوَ قَدَرٌ4. وَكَانَ إِيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ يَقُولُ: أَعْلَمُ النَّاسِ بِالْقَدَرِ ضُعَفَاؤُهُمْ يَقُولُ: إِنَّ كُلَّ
مَنْ لَمْ يَدْخُلْ فِي خُصُومَةِ الْقَدَرِ كَانَ مِنْ قَوْلِهِ إِذَا تَكَلَّمَ: كَانَ مِنْ قَدَرِ اللَّهَ كَذَا وَكَذَا1. وَقَالَ مَعْمَرٌ: إِنَّ ابْنَ شُبْرُمَةَ كَانَ يَغْضَبُ إِذَا قِيلَ لَهُ: مَدَّ اللَّهُ فِي عُمْرِكَ, يَقُولُ: إِنَّ الْعُمْرَ لَا يُزَادُ فِيهِ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُ2. وَقَالَ أَبُو حَازِمٍ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشَّمْسِ: 8] قَالَ: فَالْفَاجِرَةُ أَلْهَمَهَا اللَّهُ الْفُجُورَ, وَالتَّقِيَّةُ أَلْهَمَهَا اللَّهُ التَّقْوَى3. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: قَوْلُ اللَّهِ: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} قَالَ: عَلِمَ مِنْ إِبْلِيسَ الْمَعْصِيَةَ وَخَلَقَهُ لَهَا4. وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي عَبْلَةَ قَالَ: وَقَفَ رَجَاءُ بْنُ حَيْوَةَ عَلَى مَكْحُولٍ وَأَنَا مَعَهُ فَقَالَ: يَا مَكْحُولُ بَلَغَنِي أَنَّكَ تَكَلَّمْتَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْقَدَرِ, وَوَاللَّهِ لَوْ أَعْلَمُ ذَلِكَ لَكُنْتُ صَاحِبَكَ مِنْ بَيْنِ النَّاسِ, فَقَالَ مَكْحُولٌ: لَا وَاللَّهِ أَصْلَحَكَ اللَّهُ, مَا ذَاكَ مِنْ شَأْنِي وَلَا مِنْ قَوْلِي أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ5. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيِّ: إِنَّ آفَةَ كُلِّ دِينٍ كَانَ قَبْلَكُمْ -أَوْ قَالَ:- آفَةُ كُلِّ دِينٍ الْقَدَرُ6. وَقَالَ مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ: لَمْ نُوَكَّلْ فِي الْقُرْآنِ إِلَى الْقَدَرِ. وَأَخْبَرَنَا أَنَّا إِلَيْهِ نَصِيرُ7. وَكَانَ طَاوُسٌ بِمَكَّةَ يُصَلِّي وَرَجُلَانِ خَلْفَهُ يَتَجَادَلَانِ فِي الْقَدَرِ, فَانْصَرَفَ إِلَيْهِمَا فَقَالَ: يَرْحَمُكُمَا اللَّهُ تُجَادِلَانِ فِي حُكْمِ اللَّهِ8؟.
وَقَالَ مَيْمُونٌ: لَا تَسُبُّوا أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وَلَا تَعْلَمُوا النُّجُومَ, وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْقَدَرِ1. وَقَالَ طَاوُسٌ أَيْضًا: أَدْرَكْتُ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُونَ: كُلُّ شَيْءٍ بِقَدَرٍ2. وَقَالَ أَبُو حَازِمٍ: لَعَنَ اللَّهُ دِينًا أَنَا أَكْبَرُ مِنْهُ -يَعْنِي التَّكْذِيبَ بِالْقَدَرِ- يَقُولُ هَذَا عِنْدَمَا يُرْوَى حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "لَا يُؤْمِنُ الْمَرْءُ حَتَّى يُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ" 3. وَعَنْ عَمْرِو بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: الزِّنَا بِقَدَرٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. قَالَ: كَتَبَهُ عَلَيَّ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: وَيُعَذِّبُنِي عَلَيْهِ؟ قَالَ: فَأَخَذَ لَهُ الْحَصَى4. وَقَالَ الْحَسَنُ: مَنْ كَذَّبَ بِالْقَدَرِ فَقَدْ كَذَّبَ بِالْقُرْآنِ5. وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 63] قَالَ: أَعْمَالٌ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ أَنْ يَعْمَلُوهَا6. وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النِّسَاءِ: 79] وَأَنَا قَدَّرْتُهَا عَلَيْكَ7. وَقَالَ حُمَيْدٌ: قَدِمَ الْحَسَنُ مَكَّةَ, فَقَالَ لِي فُقَهَاءُ مَكَّةَ -الْحَسَنُ بْنُ مُسْلِمٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدٍ- لَوْ كَلَّمْتَ الْحَسَنَ فَأَخْلَانَا يَوْمًا. فَكَلَّمْتُ الْحَسَنَ فَقُلْتُ: يَا أَبَا
سَعِيدٍ إِخْوَانُكَ يُحِبُّونَ أَنْ تَجْلِسَ لَهُمْ يَوْمًا. قَالَ: نَعَمْ وَنِعْمَتْ عَيْنٌ, فَوَاعَدَهُمْ يَوْمًا فَجَاءُوا وَاجْتَمَعُوا, وَتَكَلَّمَ الْحَسَنُ وَمَا رَأَيْتُهُ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَا بَعْدَهُ أَبْلَغَ مِنْهُ ذَلِكَ الْيَوْمِ, فَسَأَلُوهُ عَنْ صَحِيفَةٍ طَوِيلَةٍ فَلَمْ يُخْطِئْ فِيهَا شَيْئًا إِلَّا فِي مَسْأَلَةٍ. فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا سَعِيدٍ مَنْ خَلَقَ الشَّيْطَانَ؟ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَهَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ؟ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الشَّيْطَانَ وَخَلَقَ الشَّرَّ وَخَلَقَ الْخَيْرَ. فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: قَاتَلَهُمُ اللَّهُ يَكْذِبُونَ عَلَى الشَّيْخِ1. وَقَالَ أَيْضًا: قَرَأْتُ عَلَى الْحَسَنِ فِي بَيْتِ أَبِي خَلِيفَةَ الْقُرْآنَ أَجْمَعَ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ, وَكَانَ يُفَسِّرُهُ عَلَى الْإِثْبَاتِ2. وَقَالَ خَالِدٌ الْحَذَّاءُ: قُلْتُ لِلْحَسَنِ: أَرَأَيْتَ آدَمَ أَلِلْجَنَّةِ خُلِقَ أَمْ لِلْأَرْضِ؟ قَالَ: لِلْأَرْضِ. قَالَ قُلْتُ: أَرَأَيْتَ لَوِ اعْتَصَمَ. قَالَ: لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ أَنْ يَأْتِيَ عَلَى الْخَطِيئَةِ3. وَقَالَ إِيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ: مَا كَلَّمْتُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ بِعَقْلِي كُلِّهِ, إِلَّا الْقَدَرِيَّةَ فَإِنِّي قُلْتُ لَهُمْ: مَا الظُّلْمُ فِيكُمْ؟ فَقَالُوا: أَنْ يَأْخُذَ الْإِنْسَانُ مَا لَيْسَ لَهُ. فَقُلْتُ لَهُمْ: فَإِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ4. وَلِعَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى عَدِيِّ بْنِ أَرْطَاةَ "أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اسْتِعْمَالَكَ سَعْدَ بْنَ مَسْعُودٍ عَلَى عُمَانَ كَانَ مِنَ الْخَطَايَا الَّتِي قَدَّرَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَقَدَّرَ أَنْ تُبْتَلَى بِهَا". وَلِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. قَالَ: لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ لَا يُعْصَى لَمْ
يَخْلُقْ إِبْلِيسَ. ثُمَّ قَرَأَ {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} [الصَّافَّاتِ: 163] 1. وَلَهُ عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِغَيْلَانَ: أَلَسْتَ تُقِرُّ بِالْعِلْمِ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: فَمَا تُرِيدُ مَعَ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} [الصَّافَّاتِ: 162-163] 2. وَلَهُ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْخَطْمِىِّ قَالَ: شَهِدْتُ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَقَدْ دَعَا غَيْلَانَ لِشَيْءٍ بَلَغَهُ فِي الْقَدَرِ, فَقَالَ: وَيْحَكَ يَا غَيْلَانُ مَا هَذَا الَّذِي بَلَغَنِي عَنْكَ؟ قَالَ: يُكْذَبُ عَلَيَّ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ, وَيُقَالُ عَلَيَّ مَا لَمْ أَقُلْ. قَالَ: مَا تَقُولُ فِي الْعِلْمِ؟ قَالَ: قَدْ نَفَذَ الْعِلْمُ. قَالَ: فَأَنْتَ مَخْصُومٌ. اذْهَبِ الْآنَ فَقُلْ مَا شِئْتَ. وَيْحَكَ يَا غَيْلَانُ إِنَّكَ إِنْ أَقْرَرْتَ بِالْعِلْمِ خُصِمْتَ, وَإِنْ جَحَدْتَهُ كَفَرْتَ, وَإِنَّكَ أَنْ تُقِرَّ بِهِ فَتُخْصَمَ خَيْرُ لَكَ مِنْ أَنْ تَجْحَدَهُ فَتَكْفُرَ. قَالَ: ثُمَّ قَالَ لَهُ: تَقْرَأُ يس؟ فَقَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ لَهُ: اقْرَأْ {يس، وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} [يس: 1-2] فَقَرَأَ {يس، وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} إِلَى قَوْلِهِ: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [يس: 1-7] قَالَ: قِفْ, كَيْفَ تَرَى؟ قَالَ: كَأَنِّي لَمْ أَقْرَأْ هَذِهِ الْآيَةَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: زِدْ {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا} [يس: 8-9] قَالَ لَهُ عُمَرُ: قُلْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ قَالَ: قَالَ لَهُ عُمَرُ: قُلْ: {فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [يس: 9-10] قَالَ: كَيْفَ تَرَى؟ قَالَ: كَأَنِّي لَمْ أَقْرَأْ هَذِهِ الْآيَاتِ وَإِنِّي أُعَاهِدُ اللَّهَ أَنْ لَا أَتَكَلَّمَ فِي شَيْءٍ مِمَّا كُنْتُ أَتَكَلَّمُ فِيهِ أَبَدًا. قَالَ: اذْهَبْ. فَلَمَّا وَلَّى قَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ كَاذِبًا فِيمَا قَالَ فَأَذِقْهُ حَرَّ السِّلَاحِ. قَالَ: فَلَمْ يَتَكَلَّمْ زَمَنَ عُمَرَ, فَلَمَّا كَانَ زَمَنُ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ جَاءَ رَجُلٌ لَا يَهْتَمُّ لِهَذَا وَلَا يَنْظُرُ فِيهِ, قَالَ: فَتَكَلَّمَ غَيْلَانُ فَلَمَّا وَلِيَ هِشَامٌ أَرْسَلَ إِلَيْهِ فَقَالَ: أَلَيْسَ قَدْ عَاهَدْتَ اللَّهَ تَعَالَى
لِعُمَرَ أَنْ لَا تَتَكَلَّمَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ أَبَدًا؟ قَالَ: أَقِلْنِي, فَلَا وَاللَّهِ لَا أَعُودُ. قَالَ: لَا أَقَالَنِي اللَّهُ إِنْ أَقَلْتُكَ, هَلْ تَقْرَأُ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: اقْرَأْهَا. فَقَرَأَ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الْفَاتِحَةِ: 2-5] قَالَ: قِفْ علام تستعينه؟ على أَمْرٍ بِيَدِهِ لَا تَسْتَطِيعُهُ إِلَّا بِهِ, أَوْ عَلَى أَمْرٍ فِي يَدِكَ أَوْ بِيَدِكَ؟ اذْهَبَا بِهِ فَاقْطَعَا يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ, وَاضْرِبُوا عُنُقَهُ وَاصْلُبُوهُ1. قَالَ ابْنُ عَوْنٍ: أَنَا رَأَيْتُ غَيْلَانَ مَصْلُوبًا عَلَى بَابِ دِمَشْقَ2. وَعَنْهُ قَالَ فِي أَصْحَابِ الْقَدَرِ: فَإِنْ تَابُوا وَإِلَّا نُفُوا مِنْ دَارِ الْمُسْلِمِينَ3. وَقَالَ مَالِكٌ عَنْ عَمِّهِ سَهْلٍ قَالَ: كُنْتُ مَعَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَقَالَ لِي: مَا تَرَى فِي هَؤُلَاءِ الْقَدَرِيَّةِ؟ قَالَ: قُلْتُ: أَرَى أَنْ تَسْتَتِيبَهُمْ فَإِنْ قَبِلُوا وَإِلَّا عَرَضْتَهُمْ عَلَى السَّيْفِ. فَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: ذَلِكَ رَأْيِي. قُلْتُ: أَسْأَلُكَ فَمَا رَأْيُكَ أَنْتَ؟ قَالَ: هُوَ رَأْيِي. الْقَائِلُ لِمَالِكٍ فَمَا رَأْيُكَ؟ هُوَ إِسْحَاقُ بْنُ عِيسَى4. وَكَانَ نَافِعٌ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ يَقُولُ لِأَمِيرٍ كَانَ عَلَى الْمَدِينَةِ: أَصْلَحَكَ اللَّهُ اضْرِبْ أَعْنَاقَهُمْ يَعْنِي الْقَدَرِيَّةَ5. وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: إِنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُ الْقَدَرِ مِنَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ فَلَا أَدْرِي مَنْ هُمْ6. وَقَالَ مُجَاهِدٌ لَا يَكُونُ مَجُوسِيَّةٌ حَتَّى يَكُونَ قَدَرِيَّةٌ ثُمَّ تَزَنْدَقُوا ثُمَّ تَمَجَّسُوا7.
وَقَالَ مَنْصُورُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ سَأَلْتُ الْحَسَنَ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} [هُودٍ: 118] فَقَالَ: النَّاسُ مُخْتَلِفُونَ عَلَى أَدْيَانٍ شَتَّى إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ, وَمَنْ رَحِمَ غَيْرُ مُخْتَلِفٍ فِيهِ, فَلَقَّنْتُهُ {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} قَالَ: نَعَمْ, خَلَقَ هَؤُلَاءِ لِجَنَّتِهِ وَخَلَقَ هَؤُلَاءِ لِنَارِهِ. وَخَلَقَ هَؤُلَاءِ لِرَحْمَتِهِ وَهَؤُلَاءِ لِعَذَابِهِ1. وَقَالَ أَيْضًا: قُلْتُ لِلْحَسَنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الْحَدِيدِ: 22] قَالَ: قِسْمَةُ اللَّهِ, وَمَنْ يَشُكُّ فِي هَذَا؟ كُلُّ مُصِيبَةٍ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَفِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى قَبْلَ أَنْ يَبْرَأَ النَّسَمَةَ2. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [الْقَمَرِ: 47-49] فِي أَهْلِ الْقَدَرِ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ قَالَ: نَزَلَتْ تَعْيِيرًا لِأَهْلِ الْقَدَرِ3. وَعَنْهُ أَنَّ الْفَضْلَ الرَّقَاشِيَّ قَعَدَ إِلَيْهِ فَذَاكَرَهُ شَيْئًا مِنَ الْقَدَرِ, فَقَالَ لَهُ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: تَشْهَدُهُ فَلَمَّا بَلَغَ مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ رَفَعَ مُحَمَّدٌ عَصًا مَعَهُ فَضَرَبَ بِهَا رَأَسَهُ وَقَالَ: قُمْ. فَلَمَّا قَامَ فَذَهَبَ. قَالَ: لَا يَرْجِعُ هَذَا عَنْ رَأْيِهِ أَبَدًا4. وَقَالَ مَطَرٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَقِيَنِي عَمْرُو بْنُ عَبِيدٍ فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي وَإِيَّاكَ لَعَلَى أَمْرٍ وَاحِدٍ. قَالَ: كذب وَاللَّهِ. إِنَّمَا عَنَى عَلَى الْأَرْضِ. وَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أُصِدِّقُهُ فِي شَيْءٍ5.
وَعَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ قَالَ: رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ عُبَيْدٍ وَهُوَ يَحُكُّ الْمُصْحَفَ, فَقُلْتُ: مَا تَصْنَعُ؟ فَقَالَ: أُثْبِتُ مَكَانَهُ خَيْرًا مِنْهُ1. وَعَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: كُنْتُ مَعَ أَيُّوبَ وَيُونُسَ وَابْنِ عَوْنٍ وَغَيْرِهِمْ, فَمَرَّ بِهِمْ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ وَوَقَفَ وَقْفَتَهُ فَمَا رَدُّوا عَلَيْهِ السَّلَامَ, ثُمَّ جَازَ فَمَا ذَكَرُوهُ2. وَعَنِ الْحَسَنِ بْنِ شَقِيقٍ قَالَ: قُلْتُ لِعَبْدِ اللَّهِ: يَعْنِي ابْنَ الْمُبَارَكِ سَمِعْتُ مِنْ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ؟ قَالَ هَكَذَا بِيَدِهِ, أَيْ: كَثِيرًا. قُلْتُ: فَلِمَ لَا تُسَمِّيهِ وَأَنْتَ تُسَمِّي غَيْرَهُ مِنَ الْقَدَرِيَّةِ؟ قَالَ: لِأَنَّ هَذَا كَانَ رَأْسًا3. وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ مُكْرَمٍ قَالَ: رَآنِي ابْنُ عَوْنٍ مَعَ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ فِي السُّوقِ فَأَعْرَضَ عَنِّي, قَالَ: فَاعْتَذَرْتُ إِلَيْهِ, قَالَ: أَمَّا إِنِّي قَدْ رَأَيْتُكَ فَمَا زَادَنِي4. وَعَنْ أَبِي بَحْرٍ الْبَكْرَاوِيِّ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِعَمْرٍو -يَعْنِي ابْنَ عُبَيْدٍ- وَقَرَأَ عِنْدَهُ هَذِهِ الْآيَةَ {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [الْبُرُوجِ: 22] فَقَالَ لَهُ: أَخْبِرْنِي عَنْ {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} [الْمَسَدِ: 1] كَانَتْ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ؟ قَالَ: لَيْسَتْ هَكَذَا كَانَتْ. قَالُوا: وَكَيْفَ كَانَتْ؟ قَالَ: كَانَتْ تَبَّتْ يَدَا مَنْ عَمِلَ بِمِثْلِ مَا عَمِلَ أَبُو لَهَبٍ, فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: وَهَكَذَا يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَقْرَأَ إِذَا قُمْنَا إِلَى الصَّلَاةِ؟ فَغَضِبَ عَمْرٌو, فَتَرَكَهُ حَتَّى سَكَنَ ثُمَّ قَالَ لَهُ: يَا أَبَا عُثْمَانَ أَخْبِرْنِي عَنْ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ كَانَتْ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ؟ فَقَالَ: لَيْسَ هَكَذَا كَانَتْ. قَالَ: فَكَيْفَ كَانَتْ؟ قَالَ: تَبَّتْ يَدَا مَنْ عَمِلَ بِمِثْلِ عَمَلِ أَبِي لَهَبٍ, قَالَ: فَرَدَدْتُ عَلَيْهِ, قَالَ عَمْرٌو: إِنَّ عِلْمَ اللَّهِ لَيْسَ بِسُلْطَانٍ, إِنَّ عِلْمَ اللَّهِ لَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ. قُلْتُ: إِنْ كَانَ قَالَ هَذَا وَمَاتَ عَلَيْهِ
فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ. وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَكْذُوبًا عَلَيْهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ1. وَعَنْ سَلَّامِ بْنِ أَبِي مُطِيعٍ قَالَ: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ أَيُّوبَ فِي جِنَازَةٍ وَبَيْنَ أَيْدِينَا ثَلَاثَةُ رَهْطٍ قَدْ كَانُوا مَعَ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ فِي الْإِعْتِزَالِ ثُمَّ تَرَكُوا رَأْيَهُ ذَلِكَ وَفَارَقُوهُ, قَالَ: فَقَالَ لِي أَيُّوبُ مِنْ غَيْرِ أَنْ أَسْأَلَهُ: لَا تَرْجِعُ قُلُوبُهُمْ إِلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ2. وَعَنْ أَبِي رَجَاءٍ قَالَ: رَأَيْتُ رَجُلَيْنِ يَتَكَلَّمَانِ فِي الْمِرْبَدِ فِي الْقَدَرِ, فَقَالَ فَضْلٌ الرَّقَاشِيُّ لِصَاحِبِهِ: لَا تُقِرُّ لَهُ بِالْعِلْمِ, إِنْ أَقْرَرْتَ لَهُ بِالْعِلْمِ فَأَمْكَنْتَ مِنْ نَفْسِكِ؛ يَسْحَبُكَ عَرْضَ الْمِرْبَدِ3. وَعَنْ حَوْثَرَةَ بْنِ أَشْرَسَ قَالَ: سَمِعْتُ سَلَّامًا أَبَا الْمُنْذِرِ غَيْرَ مَرَّةٍ وَهُوَ يَقُولُ: سَلُوهُمْ عَنِ الْعِلْمِ. هَلْ عَلِمَ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ؟ فَإِنْ قَالُوا قَدْ عَلِمَ فَلَيْسَ فِي أَيْدِيهِمْ شَيْءٌ, وَإِنْ قَالُوا لَمْ يَعْلَمْ فَقَدْ حَلَّتْ دِمَاؤُهُمْ4. قَالَ حَوْثَرَةُ: وَحَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْخَطْمِيِّ قَالَ: قِيلَ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: إِنَّ غَيْلَانَ يَقُولُ الْقَدَرُ كَذَا وَكَذَا, قَالَ: فَمَرَّ بِهِ فَقَالَ: أَخْبِرْنِي عَنِ الْعِلْمِ, قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ فَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا هِيَ عَامِلَةٌ وَإِلَى مَا هِيَ صَائِرَةٌ. فَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ قُلْتَ غَيْرَ هَذَا لَضَرَبْتُ عُنُقَكَ, اذْهَبِ الْآنَ فَجَاهِدْ جهدك5. وعن معاد بْنِ مُعَاذٍ قَالَ: صَلَّيْتُ خَلْفَ رَجُلٍ مِنْ بَنِي سَعْدٍ, ثُمَّ بَلَغَنِي أَنَّهُ قَدَرِيٌّ, فَأَعَدْتُ الصَّلَاةَ بَعْدَ أَرْبَعِينَ سَنَةً أَوْ ثَلَاثِينَ سَنَةً6. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ: الْجَهْمِيَّةُ كُفَّارٌ, وَالْقَدَرِيَّةُ كُفَّارٌ7.
وَقَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: قَالَ لَنَا طاوس: اخزوا معبد الْجُهَنِيَّ فَإِنَّهُ قَدَرِيٌّ1. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ: لَا تُجَالِسُوا أَهْلَ الْقَدَرِ2. وَقَالَ عِكْرِمَةُ ابن عَمَّارٍ: سَمِعْتُ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ وَسَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَلْعَنَانِ الْقَدَرِيَّةَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِقَدَرِ اللَّهِ حَتَّى يُؤْمِنُوا بِخَيْرِهِ وَشَرِّهِ3. وَقَالَ مَرْحُومُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْعَطَّارُ: سَمِعْتُ أَبِي وَعَمِّي يَقُولَانِ: سَمِعْنَا الْحَسَنَ -وَهُوَ يَنْهَى عَنْ مُجَالَسَةِ مَعْبَدٍ الْجُهَنِيِّ- يَقُولُ: لَا تُجَالِسُوا مَعْبَدًا فَإِنَّهُ ضَالٌّ مُضِلٌّ. قَالَ مَرْحُومٌ قَالَ أَبِي: وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا يَوْمَئِذٍ يَتَكَلَّمُ فِي الْقَدَرِ غَيْرَ مَعْبَدٍ وَرَجُلٍ مَنِ الْأَسَاوِرَةِ يقال له سنسويه4. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: سَأَلْتُ يَحْيَى بْنَ أَبِي كَثِيرٍ عَنِ الْقَدَرِيَّةِ فَقَالَ: هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ إِنَّ اللَّهَ لَمْ يُقَدِّرِ الشَّرَّ5. وَقَالَ مُسْلِمُ بْنُ يَسَارٍ: إِنَّ مَعْبَدًا يَقُولُ بِقَوْلِ النَّصَارَى6. وَقَالَ عِمَارَةُ بْنُ زَاذَانَ: بَلَغَنِي أَنَّ الْقَدَرِيَّةَ يُحْشَرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ الْمُشْرِكِينَ, فَيَقُولُونَ: وَاللَّهِ مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ فَيُقَالُ لَهُمْ: إِنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ مِنْ حَيْثُ لَا تَعْلَمُونَ. قَالَ: وَبَلَغَنِي أَنَّهُ يُقَالُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْتُمْ خُصَمَاءُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ7. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: لَا يُصَلَّى خَلْفَ الْقَدَرِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ8.
وَسَأَلْتُ أَبِي مَرَّةً أُخْرَى عَنِ الصَّلَاةِ خَلْفَ الْقَدَرِيِّ. فَقَالَ: إِنْ كَانَ يُخَاصِمُ فِيهِ أَوْ يَدْعُو إِلَيْهِ فَلَا يُصَلَّى خَلْفَهُ1. سَمِعْتُ أَبِي وَسَأَلَهُ عَلِيُّ بْنُ الْجَهْمِ عَمَّنْ قَالَ بِالْقَدَرِ يَكُونُ كَافِرًا؟ قَالَ: إِذَا جَحَدَ الْعِلْمَ, إِذَا قَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا حَتَّى خَلَقَ عِلْمًا فَعَلِمَ فَجَحَدَ عِلْمَ اللَّهِ فهو كافر2 ا. هـ مِنْ كِتَابِ السُّنَّةِ. وَكَلَامُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَسَائِرِ الْأَئِمَّةِ مِنَ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ الْمُفَضَّلَةِ يَطُولُ ذِكْرُهُ, وَمَحَلُّهُ كُتُبُ النَّقْلِ الْجَامِعَةِ, وَفِيمَا ذَكَرْنَا كِفَايَةٌ, وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. اللَّهُمَّ يَا رَبَّنَا وَمَلِيكَنَا وَإِلَهَنَا قَدْ عَلِمْتَ مَنْ سَعِدَ بِطَاعَتِكَ وَالْجَنَّةِ, وَمَنْ شَقِيَ بِمَعْصِيَتِكَ وَالنَّارِ, وَكَتَبْتَ ذَلِكَ وَسَطَرْتَهُ وَقَدَّرْتَهُ وَقَضَيْتَهُ وَشَمِلَتِ الْجَمِيعَ قُدْرَتُكَ وَنَفَذَتْ فِيهِ مَشِيئَتُكَ, وَلَكَ الْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ وَالْحُجَّةُ الدَّامِغَةُ, وَلَا يَدْرِي عَبْدُكَ فِي أَيِّ الْقِسْمَيْنِ وَلَا فِي أَيِّ الْقَبْضَتَيْنِ هُوَ, وَأَنْتَ تَعْلَمُ. اللَّهُمَّ إِيَّاكَ نَعْبُدُ إِيمَانًا بِكُتُبِكَ وَتَصْدِيقًا لِرُسُلِكَ وَانْقِيَادًا لِشَرْعِكَ وَقِيَامًا بِأَمْرِكَ وَدِينِكَ, وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ إِيمَانًا بِرُبُوبِيَّتِكَ وَاسْتِسْلَامًا لِقَضَائِكَ وَقَدَرِكَ وَافْتِقَارًا إِلَيْكَ وَتَوْحِيدًا لَكَ فِي إِلَهِيَّتِكَ وَرُبُوبِيَّتِكَ وَأَسْمَائِكَ وَصِفَاتِكَ وَخَلْقِكَ وَتَكْوِينِكَ. وَلَا مَشِيئَةَ إِلَّا أَنْ تَشَاءَ, وَلَا قُدْرَةَ لَنَا إِلَّا عَلَى مَا أَقْدَرْتَنَا عَلَيْهِ, وَلَا مَعْصُومَ إِلَّا مَنْ عَصَمْتَ, وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ. اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِمَّنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَيَسَّرْتَهُ لِلْيُسْرَى, اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا, غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ مِمَّنْ عَلِمَ الْحَقَّ وَكَتَمَهُ وَتَرَكَهُ وَأَبَاهُ وَاشْتَرَى بِآيَاتِكَ ثَمَنًا قَلِيلًا, وَلَا الضَّالِّينَ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا. اللَّهُمَّ يَا مَنْ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ حُلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعْصِيَتِكَ وَالْكُفْرِ, يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى دِينِكَ حَتَّى نَلْقَاكَ بِهِ {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آلِ عِمْرَانَ: 8] .
الكلام على النوء
الْكَلَامُ عَلَى خِصَالٍ سِتٍّ فِي نَفْيِهَا إِيمَانٌ بِالْقَدَرِ: لَا نَوْءَ لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَ وَلَا ... عَمَّا قَضَى اللَّهُ تَعَالَى حِوَلَا لَا غَوْلَ لَا هَامَةَ وَلَا صَفَرَ ... كَمَا بِذَا خَبَّرَ سَيِّدُ الْبَشَرِ هَذَانِ الْبَيْتَانِ مِنْ تَتِمَّةِ بَحْثِ الْقَدَرِ فَإِنَّ نَفْيَ هَذِهِ الْخِصَالِ السِّتِّ وَمَا فِي مَعْنَاهَا إِيمَانٌ بِالْقَدَرِ وَتَوَكُّلٌ عَلَى خَالِقِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ, الَّذِي بِيَدِهِ النَّفْعُ وَالضُّرُّ, وَاعْتِقَادُ صِحَّةِ شَيْءٍ مِنْهَا شِرْكٌ مُنَافٍ لِلتَّوْحِيدِ أَوْ لِكَمَالِهِ, مُنَاقِضٌ لِلتَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عِيَاذًا بِاللَّهِ مِنْهُ. الْكَلَامُ عَلَى النَّوْءِ: فَأَمَّا النَّوْءُ فَهُوَ مِنَ الِاعْتِقَادِ فِي النُّجُومِ الَّذِي سَبَقَ بَسْطُ الْقَوْلِ فِي بَيَانِ بُطْلَانِهِ فَإِنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ لِمَطَالِعَ الْكَوَاكِبَ وَمَغَارِبِهَا وَسَيْرِهَا وَانْتِقَالِهَا وَاقْتِرَانِهَا وَافْتِرَاقِهَا تَأْثِيرًا فِي هُبُوبِ الرِّيَاحِ وَسُكُونِهَا, وَفِي مَجِيءِ الْمَطَرِ وَتَأَخُّرِهِ, وَفِي رُخْصِ الْأَسْعَارِ وَغَلَائِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَإِذَا وَقَعَ شَيْءٌ مِنَ الْحَوَادِثِ نَسَبُوهُ إِلَى النُّجُومِ فَقَالُوا: هَذَا بِنَوْءِ عُطَارِدَ أَوِ الْمُشْتَرِي أَوِ الْمِرِّيخِ أَوْ كَذَا أَوْ كَذَا. وَرَدَّ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَأَكْذَبَهُمْ بِمَا أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الرُّومِ: 48-50] وَقَالَ تَعَالَى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ
مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ, هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [لُقْمَانَ: 10-11] وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الْوَاقِعَةِ: 75-82] . وَقَالَ الْإِمَامُ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ فِي مُوَطِّئِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: بَابُ الِاسْتِمْطَارِ بِالنُّجُومِ. عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّهُ قَالَ: صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صَلَاةَ الصُّبْحِ بِالْحُدَيْبِيَةِ عَلَى إِثْرِ سَمَاءٍ كَانَتْ مِنَ اللَّيْلِ, فَلَمَّا انْصَرَفَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: "أَتَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ" قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: "قَالَ: أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ بِي فَأَمَّا مَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ". وَرَوَاهُ الشَّيْخَانِ مِنْ طَرِيقِهِ بِلَفْظِهِ, وَعَلَيْهِ تَرْجَمَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الْوَاقِعَةِ: 82] . وَقَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدَّثَنَا حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى وَعُمَرُ بْنُ سَوَادٍ الْعَامِرِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ الْمُرَادِيُّ. قَالَ الْمُرَادِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ, وَقَالَ الْآخَرَانِ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ. قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ, قَالَ: حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَلَمْ تَرَوْا إِلَى مَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالَ: مَا أَنْعَمْتُ عَلَى عِبَادِي مِنْ نِعْمَةٍ إِلَّا أَصْبَحَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِهَا كَافِرِينَ يَقُولُونَ الْكَوَاكِبَ وَبِالْكَوَاكِبِ" 2.
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ الْمُرَادِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ "ح" وَحَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ سَوَادٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ أَنَّ أَبَا يُونُسَ مَوْلَى أَبِي هُرَيْرَةَ حَدَّثَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ بَرَكَةٍ إِلَّا أَصْبَحَ فَرِيقٌ مِنَ النَّاسِ بِهَا كَافِرِينَ, يُنَزِّلُ اللَّهُ الْغَيْثَ فَيَقُولُونَ: الْكَوَاكِبُ كَذَا وَكَذَا" وَفِي حَدِيثِ الْمُرَادِيِّ "بِكَوْكَبِ كَذَا وَكَذَا" 1. وَحَدَّثَنِي عَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْعَظِيمِ الْعَنْبَرِيُّ حَدَّثَنَا النَّضْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ -وَهُوَ ابْنُ عَمَّارٍ- حَدَّثَنَا أَبُو زُمَيْلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: مُطِرَ النَّاسُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ النَّبِيُّ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَصْبَحَ مِنَ النَّاسِ شَاكِرٌ وَمِنْهُمْ كَافِرٌ, قَالُوا: هَذِهِ رَحْمَةُ اللَّهِ, وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَقَدْ صَدَقَ نَوْءُ كَذَا وَكَذَا". قَالَ: فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} حَتَّى بَلَغَ {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الْوَاقِعَةِ: 75-82] 2. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الْوَاقِعَةِ: 82] قَالَ: "شُكْرُكُمْ تَقُولُونَ مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا وَبِنَجْمِ كَذَا وَكَذَا". هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ3. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي يُونُسُ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إِنِ اللَّهَ لَيُصَبِّحَ الْقَوْمَ بِالنِّعْمَةِ أَوْ يُمْسِيهِمِ بِهَا فَيُصْبِحُ بِهَا قَوْمٌ
كَافِرِينَ يَقُولُونَ مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا" قَالَ مُحَمَّدٌ هُوَ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ: فَذَكَرْتُ هَذَا الْحَدِيثَ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ فَقَالَ: وَنَحْنُ قَدْ سَمِعْنَا مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ1. وَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدَّثَنِي يُونُسُ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ -فِيمَا أَحْسَبُهُ أَوْ غَيْرُهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَمِعَ رَجُلًا وَمُطِرُوا يَقُولُ: مُطِرْنَا بِبَعْضِ عَثَانِينَ الْأَسَدِ. فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كَذَبْتَ بَلْ هُوَ رِزْقُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ" 2, وَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدَّثَنِي أَبُو صَالِحٍ الصِّرَارِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو جَابِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْأَزْدِيُّ حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ الزُّبَيْرِ عَنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مَا مُطِرَ قَوْمٌ مِنْ لَيْلَةٍ إِلَّا أَصْبَحَ قَوْمٌ بِهَا كَافِرِينَ". ثُمَّ قَالَ: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الْوَاقِعَةِ: 82] يَقُولُ قَائِلٌ مُطِرْنَا بِنَجْمِ كَذَا وَكَذَا" 3. وَعَنِ الْإِمَامِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَقُولُ إِذَا أَصْبَحَ وَقَدْ مُطِرَ النَّاسُ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ الْفَتْحِ ثُمَّ يَتْلُو هَذِهِ الْآيَةَ {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} 4 [فَاطِرٍ: 2] . وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ بِسَنَدِهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: مَا مُطِرَ قَوْمٌ قَطُّ إِلَّا أَصْبَحَ بَعْضُهُمْ كَافِرًا يَقُولُونَ مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الْوَاقِعَةِ: 82] وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ5.
ما ورد في العدوى
مَا وَرَدَ فِي الْعَدْوَى: وَأَمَّا الْعَدْوَى فَكَانُوا يَعْتَقِدُونَ سَرَيَانَ الْمَرَضِ مِنْ جَسَدٍ إِلَى جَسَدٍ بِطَبِيعَتِهِ1, فَنَفَى اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التَّوْبَةِ: 51] وَقَالَ تَعَالَى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التَّغَابُنِ: 11] وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آلِ عِمْرَانَ: 168] وَقَالَ تَعَالَى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النِّسَاءِ: 78] الْآيَاتِ, وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ} [الْجُمُعَةِ: 8] . وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي سِنَانُ بْنُ أَبِي سِنَانٍ الدُّؤَلِيُّ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "لَا عَدْوَى" فَقَامَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: أَرَأَيْتَ الْإِبِلَ تَكُونُ فِي الرِّمَالِ أَمْثَالَ الظِّبَاءِ فَيَأْتِيهَا الْبَعِيرُ الْأَجْرَبُ فَتُجْرَبُ, قَالَ النَّبِيُّ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَمَنْ أَعْدَى الْأَوَّلَ" وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ بِنَحْوِهِ2. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: سَمِعْتُ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ وَيُعْجِبُنِي الْفَأْلُ". قَالُوا: وَمَا الْفَأْلُ؟ قَالَ: "كَلِمَةٌ طَيِّبَةٌ" وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ3.
الجمع بين نفي العدوى وبين النهي عن إيراد الممرض على المصح
وَلَهُمَا مِنْ طُرُقٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ وَلَا هَامَةَ وَلَا صَفَرَ" هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ1. وَالْأَحَادِيثُ فِي نَفْيِ الْعَدْوَى كَثِيرَةٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَالسُّنَنِ وَغَيْرِهِمَا, وَلَا يُعَارِضُ ذَلِكَ حَدِيثُ "لَا يُورِدُ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ" , وَحَدِيثُ "وَفِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ فِرَارَكَ مِنَ الْأَسَدِ" وَكِلَاهُمَا فِي الصَّحِيحِ مُتَّصِلًا بِحَدِيثِ "لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ" فَإِنَّ الْبُخَارِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قال: إن الرسول اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: لَا عَدْوَى. قَالَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: "لَا تُورِدُوا الْمُمْرِضَ عَلَى الْمُصِحِّ" 2. وَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَالَ عَفَّانُ: حَدَّثَنَا سُلَيْمُ بْنُ حَيَّانَ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مِينَاءَ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ وَلَا هَامَةَ وَلَا صَفَرَ, وَفِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الْأَسَدِ" 3. الْجَمْعُ بَيْنَ نَفْيِ الْعَدْوَى وَبَيْنَ النَّهْيِ عَنْ إِيرَادِ الْمُمْرِضِ عَلَى الْمُصِحِّ: وَالْجَمْعُ بَيْنَ نَفْيِ الْعَدْوَى وَبَيْنَ النَّهْيِ عَنْ إِيرَادِ الْمُمْرِضِ عَلَى الْمُصِحِّ وَالْأَمْرُ بِالْفِرَارِ مِنَ الْمَجْذُومِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ كُلُّهَا نَفْيُ الْعَدْوَى فِيهَا عَلَى إِطْلَاقِهِ. الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَمَرَ بِالْفِرَارِ مِنَ الْمَجْذُومِ لِئَلَّا يَتَّفِقُ لِلْمَخَالِطِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ ابْتِدَاءً لَا بِالْعَدْوَى الْمَنْفِيَّةِ فَيَظُنُّ أَنَّهُ بِسَبَبِ الْمُخَالَطَةِ فَيَعْتَقِدُ ثُبُوتَ الْعَدْوَى
الَّتِي نَفَاهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَيَقَعُ فِي الْحَرَجِ, فَأَمَرَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِتَجَنُّبِ ذَلِكَ شَفَقَةً مِنْهُ عَلَى أُمَّتِهِ وَرَحْمَةً بِهِمْ وَحَسْمًا لِلْمَادَّةِ وَسَدًّا لِلذَّرِيعَةِ لَا إِثْبَاتًا لِلْعَدْوَى كَمَا يَظُنُّ بَعْضُ الْجَهَلَةِ مِنَ الْأَطِبَّاءِ وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِلْأَعْرَابِيِّ الَّذِي اسْتَشْهَدَ لِصِحَّةِ الْعَدْوَى بِكَوْنِ الْبَعِيرِ الْأَجْرَبِ يَدْخُلُ فِي الْإِبِلِ الصِّحَاحِ فَتُجْرَبُ, فَقَالَ لَهُ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَمَنْ أَعْدَى الْأَوَّلَ" يَعْنِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ابْتَدَأَ الْمَرَضَ فِي الْبَاقِي كَمَا ابْتَدَأَهُ فِي الْأَوَّلِ لَا أَنَّ ذَلِكَ مِنْ سَرَيَانِ الْمَرَضِ بِطَبِيعَتِهِ مِنْ جَسَدٍ إِلَى آخَرَ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ نَهْيَهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ الْمُخَالَطَةِ لِأَنَّهَا مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي أَجْرَى اللَّهُ تَعَالَى الْعَادَةَ بِأَنَّهَا تُفْضِي إِلَى مُسَبَّبَاتِهَا لَا اسْتِقْلَالًا بِطَبْعِهَا, وَلَكِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ الَّذِي خَلَقَ الْأَسْبَابَ وَمُسَبَّبَاتِهَا فَإِنْ شَاءَ تَعَالَى أَبْقَى السَّبَبَ وَأَثَّرَ فِي مُسَبَّبِهِ بِقَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدَرِهِ, وَإِنْ شَاءَ سَلَبَ الْأَسْبَابَ قُوَاهَا فَلَا تُؤَثِّرُ شَيْئًا, وَمَنْ قَوِيَ إِيمَانُهُ وَكَمُلَ تَوَكُّلُهُ وَثِقَتُهُ بِاللَّهِ, وَشَاهَدَ مَصِيرَ الْأُمُورِ كُلِّهَا إِلَى رَبِّ الْأَرْبَابِ وَمُسَبِّبِ الْأَسْبَابِ كَمَا أَنَّ مَصْدَرَهَا مِنْ عِنْدِهِ عَزَّ وَجَلَّ فَنَفْسُهُ أَبِيَّةٌ وَهِمَّتُهُ عَلِيَّةٌ وَقَلْبُهُ مُمْتَلِئٌ بِنُورِ التَّوْحِيدِ فَهُوَ وَاثِقٌ بِخَالِقِ السَّبَبِ لَيْسَ لِقَلْبِهِ إِلَى الْأَسْبَابِ أَدْنَى الْتِفَاتٍ سَوَاءٌ عَلَيْهِ فَعَلَهَا أَوْ لَمْ يَفْعَلْهَا. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا مُفَضَّلُ بْنُ فَضَالَةَ عَنْ حَبِيبِ بْنِ الشَّهِيدِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَخَذَ بِيَدِ مَجْذُومٍ فَوَضَعَهَا مَعَهُ فِي الْقَصْعَةِ وَقَالَ: "كُلْ ثِقَةً بِاللَّهِ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ"1. فَفِي أَمْرِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِمُجَانَبَةِ الْمَجْذُومِ إِثْبَاتٌ لِلْأَسْبَابِ الَّتِي خَلَقَهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَفِي أَكْلِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَعَهُ تَعْلِيمٌ لَنَا بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ مَالِكُهَا فَلَا تُؤَثِّرُ إِلَّا بِإِذْنِهِ وَلَا يُصِيبُ الْعَبْدَ إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ النُّفُوسَ تَسْتَقْذِرُ ذَلِكَ وَتَنْقَبِضُ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ وَتَشْمَئِزُّ مِنْ مُخَالَطَتِهِ وَتَكْرَهُهُ جِدًّا لَا سِيَّمَا مَعَ مُلَامَسَتِهِ وَشَمِّ رَائِحَتَهُ فَيَحْصُلُ بِذَلِكَ تَأْثِيرٌ بِإِذْنِ
اللَّهِ فِي سِقَمِهَا قَضَاءً مِنَ اللَّهِ وَقَدَرًا لَا بِانْتِقَالِ الدَّاءِ بِطَبِيعَتِهِ كَمَا يَعْتَقِدُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ, وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدَّثَنَا مَخْلَدُ بْنُ خَالِدٍ وَعَبَّاسُ الْعَنْبَرِيُّ قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَحِيرٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي مَنْ سَمِعَ فَرْوَةَ بْنَ مُسَيْكٍ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرْضٌ عِنْدَنَا يُقَالُ لَهَا أَرْضُ أَبْيَنَ هِيَ أَرْضُ رِيفِنَا وَمِيرَتِنَا وَإِنَّهَا وَبِئَةٌ -أَوْ قَالَ وَبَاؤُهَا شَدِيدٌ- فَقَالَ النَّبِيُّ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "دَعْهَا عَنْكَ فَإِنَّ مِنَ الْقَرَفِ التَّلَفَ" 1 وَالْقَرَفُ بِالتَّحْرِيكِ هُوَ مُقَارَبَةُ الْوَبَاءِ وَمُدَانَاةُ الْمَرَضِ, وَالتَّلَفُ بِوَزْنِهِ هُوَ الْهَلَاكُ, يَعْنِي أَنَّهُ سَبَبٌ فِيهِ قَدْ يُؤَثِّرُ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى لَا سِيَّمَا مَعَ كَرَاهَةِ النَّفْسِ لَهُ وَاشْمِئْزَازِهَا مِنْهُ {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يُوسُفَ: 64] . فَإِذَا تَبَيَّنَ لَكَ هَذَا الْجَمْعَ بَيْنَ نَفْيِ الْعَدْوَى وَبَيْنَ الْأَمْرِ بِمُجَانَبَةِ الدَّاءِ؛ تَبَيَّنَ لَكَ الْجَمْعُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّهْيِ عَنْ إِيرَادِ الْمُمْرِضِ عَلَى الْمُصِحِّ فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ أَمَرَ الْمُصِحَّ بِمُجَانَبَةِ الدَّاءِ فَلِأَنْ يَنْهَى الْمُمْرِضَ عَنْ إِيرَادِهِ عَلَى الْمُصِحِّ مِنْ بَابٍ أَوْلَى, فَإِنَّ الْعِلَلَ الَّتِي قَدَّمْنَا أَنَّهَا مِنْ سَبَبِ النَّهْيِ عَنِ الْقُدُومِ عَلَى الْوَبَاءِ وَالْأَمْرُ بِمُجَانَبَتِهِ مَوْجُودَةٌ فِي إِيرَادِ الْمُمْرِضِ عَلَى الْمُصِحِّ بِزِيَادَةِ كَوْنِهَا لَيْسَتْ بِاخْتِيَارِ الْمُصِحِّ كَقُدُومِهِ هُوَ بَلْ مَعَ كَرَاهَتِهِ لَهَا وَانْقِبَاضِهِ مِنْ ذَلِكَ الْمُمْرِضِ وَرُبَّمَا أَدَّى ذَلِكَ إِلَى بُغْضِهِ إِيَّاهُ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ نَفْيَ الْعَدْوَى مُطْلَقٌ عَلَى عُمُومِهِ, وَفِيهِ إِفْرَادُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِالتَّصَرُّفِ فِي خَلْقِهِ, وَأَنَّهُ مَالِكُ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَبِيَدِهِ النَّفْعُ وَالضُّرُّ, لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَى, وَلَا مُعْطَى لِمَا مَنَعَ, وَلَا رَادَّ لِقَضَائِهِ, وَلَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ, وَلَا مُغَالِبَ لَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ, وَفِي ذَلِكَ تَقْوِيَةٌ لِقُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ وَإِمْدَادٌ لَهُمْ بِقُوَّةِ التَّوَكُّلِ وَصِحَّةِ الْيَقِينِ, وَحُجَّةٌ لَهُمْ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَسَائِرِ الْمُعَانِدِينَ, وَلَيْسَ فِي الْأَمْرِ بِمُجَانَبَةِ الْبَلَاءِ وَلَا فِي النَّهْيِ عَنْ إِيرَادِهِ عَلَى الْمُعَافَى مِنْهُ مُنَافَاةً وَلَا مُنَاقَضَةً. بَلْ ذَلِكَ مَعَ الثِّقَةِ بِاللَّهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ مِنْ فِعْلِ الْأَسْبَابِ النَّافِعَةِ وَتَوَقِّي الْأَسْبَابَ الْمُؤْذِيَةَ وَدَفْعِ الْقَدَرِ بِالْقَدَرِ وَالْإِلْتِجَاءِ مِنَ اللَّهِ إِلَيْهِ,
وَلَيْسَ فِي فِعْلِ الْأَسْبَابِ مَا يُنَافِي التَّوَكُّلَ مَعَ اعْتِمَادِ الْقَلْبِ عَلَى خَالِقِ السَّبَبِ, وَلَيْسَ التَّوَكُّلُ بِتَرْكِ الْأَسْبَابِ, بَلِ التَّوَكُّلُ مِنَ الْأَسْبَابِ, وَهُوَ أَعْظَمُهَا وَأَنْفَعُهَا وَأَنْجَحُهَا وَأَرْجَحُهَا, كَمَا أَنَّ مَنِ اضْطَرَبَتْ نَفْسُهُ وَوَجِلَ قَلْبُهُ فَرَقًا وَخَوْفًا وَارْتِيَابًا وَعَدَمَ يَقِينٍ بِالْقَدَرِ, لَا يَكُونُ مُتَوَكِّلًا عَلَى اللَّهِ بِمُدَانَاتِهِ الْمَرْضَى وَالْمُبْتَلِينَ وَتَرْكِهِ فِعْلَ الْأَسْبَابِ, فَكَمَا لَا يَكُونُ الْمُرْتَابُ مُتَوَكِّلًا بِمُجَرَّدِ تَرْكِهِ الْأَسْبَابَ, كَذَلِكَ لَا يَكُونُ الْمُوَحِّدُ تَارِكًا التَّوَكُّلَ أَوْ نَاقِصَهُ بِمُجَرَّدِ فِعْلِ الْأَسْبَابِ النَّافِعَةِ وَتَوَقِّي الْمَضَرَّةِ وَحِرْصِهِ عَلَى مَا يَنْفَعُهُ, فَإِنَّمَا الشَّأْنُ فِيمَا وَقَرَ فِي الْقُلُوبِ وَسَكَنَتْ إِلَيْهِ النُّفُوسُ, وَالتَّوْفِيقُ بِيَدِ اللَّهِ, وَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ نَهْيُهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ الْقُدُومِ عَلَى الْبِلَادِ الَّتِي بِهَا الطَّاعُونُ وَعَنِ الْخُرُوجِ مِنْهَا فِرَارًا مِنْهُ فَإِنَّ فِي الْقُدُومِ عَلَيْهِ تَعَرُّضًا لِلْبَلَاءِ, وَإِلْقَاءً بِالْأَيْدِي إِلَى التَّهْلُكَةِ وَتَسَبُّبًا لِلْأُمُورِ الَّتِي أَجْرَى اللَّهُ تَعَالَى الْعَادَةَ بِمَضَرَّتِهَا. وَفِي الفرار منه تسخط لِقَضَاءِ اللَّهِ عز وجل وارتياب فِي قَدَرِهِ وَسُوءَ ظَنٍّ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ, فَأَيْنَ الْمَهْرَبُ مِنَ اللَّهِ وَإِلَى أَيْنَ الْمَفَرُّ, لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ كَمَا رَوَى مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَرَجَ إِلَى الشَّامِ حَتَّى إِذَا كَانَ بِسَرْغَ لَقِيَهُ أُمَرَاءُ الْأَجْنَادِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ وَأَصْحَابُهُ فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ الْوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِأَرْضِ الشَّامِ, قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَقَالَ عُمَرُ بن الخطاب: ادع إلى الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ, فَدَعَاهُمْ فَاسْتَشَارَهُمْ وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الْوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِالشَّامِ فَاخْتَلَفُوا, فَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَدْ خَرَجْتَ لِأَمْرٍ وَلَا نَرَى أَنْ تَرْجِعَ عَنْهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعَكَ بَقِيَّةُ النَّاسِ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلَا نَرَى أَنْ تُقْدِمَهُمْ عَلَى هَذَا الْوَبَاءِ. فَقَالَ عُمَرُ: ارْتَفِعُوا عَنِّي ثُمَّ قَالَ: ادْعُ لي الأنصار فدعاهم فَاسْتَشَارَهُمْ فَسَلَكُوا سَبِيلَ الْمُهَاجِرِينَ وَاخْتَلَفُوا كَاخْتِلَافِهِمْ فَقَالَ: ارْتَفِعُوا عَنِّي ثُمَّ قَالَ: ادْعُ لِي من كان ههنا مَنْ مَشْيَخَةِ قُرَيْشٍ مِنْ مهاجرة الفتح, فدعوهم فَلَمْ يَخْتَلِفْ عَلَيْهِ مِنْهُمْ رَجُلَانِ فَقَالُوا: نَرَى أَنْ تَرْجِعَ بِالنَّاسِ وَلَا تُقْدِمَهُمْ عَلَى هَذَا الْوَبَاءِ فَنَادَى عُمَرُ فِي النَّاسِ: إِنِّي مُصْبِحٌ عَلَى ظَهْرٍ, فأصبحوا عليه, فقال أَبُو عُبَيْدَةَ: أَفِرَارًا مِنْ قَدَرِ اللَّهِ؟ فَقَالَ عُمَرُ: لَوْ غَيْرُكَ
قَالَهَا يَا أَبَا عُبَيْدَةَ, نَعَمْ. نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ إِلَى قَدَرِ اللَّهِ. أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ إِبِلٌ فَهَبَطَتْ وَادِيًا لَهُ عدوتان إحداهما مخصبة وَالْأُخْرَى جَدْبَةٌ, أَلَيْسَ إِنْ رَعَيْتَ الْخَصِبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ, وَإِنْ رَعَيْتَ الْجَدْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ؟ فَجَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَكَانَ غَائِبًا فِي بَعْضِ حَاجَتِهِ فَقَالَ: إِنَّ عِنْدِي مِنْ هَذَا عِلْمًا, سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ, وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فلا تخرجوا فرار مِنْهُ" قَالَ فَحَمِدَ اللَّهَ عُمَرُ ثُمَّ انْصَرَفَ. وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ مِنْ طَرِيقِهِ بِلَفْظِهِ1. وَقَوْلُهُ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ" تَقْيِيدً لِلنَّهْيِ بِخُرُوجٍ لِقَصْدِ الْفِرَارِ, فَلَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَنْ خَرَجَ لِحَاجَتِهِ اللَّازِمَةِ, كَمَا قَيَّدَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الشَّهَادَةَ بِهِ لِلْمَاكِثِ بِبَلَدِهِ, بِمَا إِذَا كَانَ صَابِرًا مُحْتَسِبًا صَحِيحَ الْيَقِينِ ثَابِتَ الْعَزِيمَةِ قَوِيَ التَّوَكُّلِ مُسْتَسْلِمًا لِقَضَاءِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ, كَمَا قَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: بَابَ أَجْرِ الصَّابِرِ فِي الطَّاعُونِ, حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا حِبَّانُ حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ أَبِي الْفُرَاتِ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا أَخْبَرَتْنَا أَنَّهَا سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ الطَّاعُونِ فَأَخْبَرَهَا نَبِيُّ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنَّهُ كَانَ عَذَابًا يَبْعَثُهُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ, فَجَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ, فَلَيْسَ مِنْ عَبْدٍ يَقَعُ الطَّاعُونُ فَيَمْكُثُ فِي بَلَدِهِ صَابِرًا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَنْ يُصِيبَهُ إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ إِلَّا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ الشَّهِيدِ" 2. فَخَرَجَ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ مَنْ مَكَثَ فِي أَرْضِهِ مَعَ نُقْصَانِ تَوَكُّلِهِ وَضَعْفِ يَقِينِهِ فَلَيْسَ لَهُ هَذِهِ الْفَضِيلَةَ, وَمَعَ هَذَا فَلَا يَحِلُّ لَهُ الْفِرَارُ مِنْهُ لِعُمُومِ النَّهْيِ وَلَهُ أَجْرُهُ عَلَى امْتِثَالِ الشَّرْعِ بِحَسَبِ نِيَّتِهِ وَقُوَّةِ إِيمَانِهِ, وَإِنْ خَرَجَ فِرَارًا مِنْهُ فَهِيَ مَعْصِيَةٌ أَضَافَهَا إِلَى ارْتِيَابِهِ وَضَعْفِ يَقِينِهِ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ حَدِيثُ أَنَسٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ أَيْضًا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الطَّاعُونُ شَهَادَةٌ
الكلام على الطيرة والتطير والغول والهامة والصفر
لِكُلِّ مُسْلِمٍ" 1 فَإِنَّ مَفْهُومَ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ أَنَّ مَنْ لَمْ يَتَّصِفْ بِالصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ لَا يَكُونُ شَهِيدًا وَذَلِكَ لِضَعْفِ يَقِينِهِ, وَقَدْ يُقَالُ هُوَ شَهِيدٌ فِي الصُّورَةِ وَلَيْسَ مِثْلَ الْمُتَّصِفِ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ, كَمَا أَنَّ شُهَدَاءَ الْمَعْرَكَةِ الَّذِينَ يُقْتَلُونَ فِي مَعْرَكَةِ الْكُفَّارِ لَيْسُوا سَوَاءً؛ بَلْ يَتَفَاوَتُونَ بِتَفَاوُتِ نِيَّاتِهِمْ وَمَا فِي قُلُوبِهِمْ, وَذَلِكَ مَعْلُومٌ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ. وَاللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. الْكَلَامُ عَلَى الطِّيَرَةِ وَالتَّطَيُّرِ وَالْغُولِ: وَأَمَّا الطِّيَرَةُ فَهِيَ: تَرْكُ الْإِنْسَانِ حَاجَتَهُ, وَاعْتِقَادُهُ عَدَمَ نَجَاحِهَا, تَشَاؤُمًا بِسَمَاعِ بَعْضِ الْكُلَيْمَاتِ الْقَبِيحَةِ كَيَا هَالِكُ أَوْ يَا مَمْحُوقُ وَنَحْوَهَا. وَكَذَا التَّشَاؤُمُ بِبَعْضِ الطُّيُورِ كَالْبُومَةِ وَمَا شَاكَلَهَا إِذَا صَاحَتْ, قَالُوا إِنَّهَا نَاعِبَةٌ أَوْ مُخْبِرَةٌ بِشَرٍّ, وَكَذَا التَّشَاؤُمُ بِمُلَاقَاةِ الْأَعْوَرِ أَوِ الْأَعْرَجِ أَوِ الْمَهْزُولِ أَوِ الشَّيْخِ الْهَرِمِ أَوِ الْعَجُوزِ الشَّمْطَاءِ, وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ إِذَا لَقِيَهُ وَهُوَ ذَاهِبٌ لِحَاجَةٍ صَدَّهُ ذَلِكَ عَنْهَا وَرَجِعَ مُعْتَقِدًا عَدَمَ نَجَاحِهَا, وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْبَيْعِ لَا يَبِيعُ مِمَّنْ هَذِهِ صِفَتُهُ إِذَا جَاءَهُ أَوَّلَ النَّهَارِ, حَتَّى يَبِيعَ مِنْ غَيْرِهِ تَشَاؤُمًا بِهِ وَكَرَاهَةً لَهُ, وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ لَا يَنَالُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ خَيْرًا قَطُّ, وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَتَشَاءَمُ بِمَا يَعْرِضُ لَهُ نَفْسَهُ فِي حَالِ خُرُوجُهُ كَمَا إِذَا عُثِرَ أَوْ شِيكَ يَرَى أَنَّهُ لَا يَجِدُ خَيْرًا, وَمِنْ ذَلِكَ التَّشَاؤُمِ بِبَعْضِ الْأَيَّامِ أَوْ بِبَعْضِ السَّاعَاتِ كَالْحَادِي وَالْعِشْرِينَ مِنَ الشَّهْرِ وَآخِرِ أَرْبِعَاءَ فِيهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَلَا يُسَافِرُ فِيهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَعْقِدُ فِيهَا نِكَاحًا وَلَا يَعْمَلُ فِيهَا عَمَلًا مُهِمًّا ابْتِدَاءً, يَظُنُّ أَوْ يَعْتَقِدُ أَنَّ تِلْكَ السَّاعَةَ نَحْسٌ, وَكَذَا التَّشَاؤُمُ بِبَعْضِ الْجِهَاتِ فِي بَعْضِ السَّاعَاتِ فَلَا يَسْتَقْبِلُهَا فِي سَفَرٍ وَلَا أَمْرٍ حَتَّى تَنْقَضِيَ تِلْكَ السَّاعَةُ أَوِ السَّاعَاتُ. وَهِيَ مِنْ أَكَاذِيبِ الْمُنَجِّمِينَ الْمَلَاعِينَ؛ يَزْعُمُونَ أَنَّ هُنَاكَ فَلَكًا دَوَّارًا يَكُونُ كُلَّ يَوْمٍ أَوْ لَيْلَةٍ فِي جِهَةٍ مِنَ الْجِهَاتِ فَمَنِ اسْتَقْبَلَ تِلْكَ الْجِهَةِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَكُونُ فِيهَا هَذَا الْفَلَكُ لَا يَنَالُ خَيْرًا وَلَا يَأْمَنُ شَرًّا, وَهُمْ فِي ذَلِكَ كَاذِبُونَ مُفْتَرُونَ قَبَّحَهُمُ اللَّهُ
وَلَعَنَهُمْ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ, وَمِنْ ذَلِكَ التَّشَاؤُمُ بِوُقُوعِ بَعْضِ الطُّيُورِ عَلَى الْبُيُوتِ يَرَوْنَ أَنَّهَا مُعْلِمَةٌ بِشْرٍّ, وَكَذَا صَوْتُ الثَّعْلَبِ عِنْدَهُمْ, وَمِنْ ذَلِكَ الِاسْتِقْسَامُ بِتَنْفِيرِ الطَّيْرِ وَالظِّبَاءِ فَإِنْ تَيَامَنَتْ ذَهَبُوا لِحَاجَتِهِمْ وَإِنْ تَيَاسَرَتْ تَرَكُوهَا, وَهَذَا مِنَ الِاسْتِقْسَامِ بِالْأَزْلَامِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِاجْتِنَابِهِ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ, وَهَذَا وَمَا شَاكَلَهُ كَثِيرٌ مِنْهُ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَبْلَ النُّبُوَّةِ, وَقَدْ أَبْطَلَهُ الْإِسْلَامُ فَأَعَادَهُ الشَّيْطَانُ فِي هَذَا الزَّمَانِ أَكْثَرَ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِأَضْعَافٍ مُضَاعَفَةٍ, وَوَسَّعَ دَائِرَةَ ذَلِكَ وَسَاعَدَهُ عَلَيْهِ شَيَاطِينُ الْإِنْسِ مِنَ الْكَهَنَةِ وَالْمُنَجِّمِينَ وَأَضْرَابِهِمْ وَأَتْبَاعِهِمْ, أَرْدَاهُمُ اللَّهُ وَأَلْحَقَهُمْ بِهِ آمِينَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الْأَعْرَافِ: 131] , وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} [النَّمْلِ: 45-47] وَقَالَ تَعَالَى: فِي قِصَّةِ الثَّلَاثَةِ رُسُلِ عِيسَى: {قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ} [يس16-18] قَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ} قَالُوا: الْعَافِيَةُ وَالرَّخَاءُ نَحْنُ أَحَقُّ بِهَا {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} قَالَ: بَلَاءٌ وَعُقُوبَةٌ {يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى} قَالَ: يَتَشَاءَمُوا بِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ} [الْأَعْرَافِ: 131] قَالَ: الْأَمْرُ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ. وَقَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: {طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ} [النَّحْلِ: 47] قَالَ: الشُّؤْمُ أَتَاكُمْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِكُفْرِكُمْ, وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الطِّيَرَةِ وَنَفْيُهَا فِي الْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ
عُمَرَ حَدَّثَنَا يُونُسُ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ, وَالشُّؤْمُ فِي ثَلَاثٍ: فِي الْمَرْأَةِ وَالدَّارِ وَالدَّابَّةِ" 1. وَالشُّؤْمُ ضِدُّ الْيُمْنِ وَهُوَ عَدَمُ الْبَرَكَةِ وَالْمُرَادُ بِهِ الْأَمْرُ الْمَحْسُوسُ الْمُشَاهَدُ كَالْمَرْأَةِ الْعَاقِرِ الَّتِي لَا تَلِدُ أَوِ اللَّسِنَةِ الْمُؤْذِيَةِ أَوِ الْمُبَذِّرَةِ بِمَالِ زَوْجِهَا سَفَاهَةً وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَكَذَا الدَّارُ الْجَدْبَةُ أَوِ الضَّيِّقَةُ أَوِ الْوَبِيئَةُ الْوَخِيمَةُ الْمَشْرَبِ أَوِ السَّيِّئَةُ الْجِيرَانِ وَمَا فِي مَعْنَى ذَلِكَ, وَكَذَا الدَّابَّةُ الَّتِي لَا تَلِدُ وَلَا نَسْلَ لَهَا أَوِ الْكَثِيرَةُ الْعُيُوبِ الشَّيِّنَةُ الطَّبْعِ وَمَا فِي معنى ذلك, فهدا كُلُّهُ شَيْءٌ ضَرُورِيٌّ مُشَاهَدٌ مَعْلُومٌ لَيْسَ هُوَ مِنْ بَابِ الطِّيَرَةِ الْمَنْفِيَّةِ فإن ذلك أمر آخَرَ عِنْدَ مَنْ يَعْتَقِدُهُ لَيْسَ مِنْ هَذَا لِأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهَا نَحْسٌّ عَلَى صَاحِبِهَا لِذَاتِهَا لَا لِعَدَمِ مَصْلَحَتِهَا وَانْتِفَائِهَا فَيَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ إِنْ كَانَ غَنِيًّا افْتَقَرَ لَيْسَ بِتَبْذِيرِهَا بَلْ لِنَحَاسَتِهَا عَلَيْهِ, وَإِنَّهُ إِنْ يَأْخُذْهَا يَمُوتُ بِمُجَرَّدِ دُخُولِهَا عَلَيْهِ لَا بِسَبَبٍ مَحْسُوسٍ, بَلْ عِنْدَهُمْ أَنَّ لَهَا نَجْمًا لَا يُوَافِقُ نَجْمَهُ بَلْ يَنْطَحُهُ وَيَكْسِرُهُ, وَذَلِكَ مِنْ وَحْيِ الشَّيْطَانِ يُوحِيهِ إِلَى أَوْلِيَائِهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ} [الأنعام: 121] وقال الله تَعَالَى: {إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} [الْأَعْرَافِ: 127] . حَتَّى إِنَّ رَجُلًا فِي زَمَانِنَا هَذَا كَانَ يُشَعْوِذُ عَلَى النَّاسِ بِذَلِكَ وَيُفَرِّقُ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ, فَتَنَبَّهَ لَهُ بَعْضُ الْعَامَّةِ مِمَّنْ يَحْضُرُ مَجَالِسِ الذِّكْرِ وَيَسْمَعُ ذَمَّ الْمُنَجِّمِينَ وَتَكْذِيبِهِمْ بِالْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ فَقَالَ لَهُ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَنْكِحَ امْرَأَةً, مَا تَرَى فِيهَا هَلْ هِيَ سَعْدٌ لِي أَوْ نَحْسٌ عَلَيَّ؟ فَعَرَضَ ذَلِكَ عَلَى قَوَاعِدِهِ الشَّيْطَانِيَّةِ ثُمَّ قَالَ لَهُ: دَعْهَا فَإِنَّكَ إِنْ أَخَذْتَهَا لَا تُبْلِيَ مَعَهَا ثَوْبًا, يَعْنِي يَمُوتُ سَرِيعًا لَا تَطُولُ مَعَهَا صُحْبَتَهُ, وَكَانَتْ تِلْكَ الْمَرْأَةُ الَّتِي سَأَلَهُ عَنْهَا وَسَمَّاهَا لَهُ هِيَ زَوْجَتُهُ وَقَدْ طَالَتْ صُحْبَتَهُ مَعَهَا وَلَهُ مِنْهَا نَحْوُ خَمْسَةٍ مِنَ الْأَوْلَادِ, فَدَعَاهُمْ كُلَّهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ حَتَّى حَضَرُوا فَقَالَ لَهُ: هَؤُلَاءِ أَوْلَادِي مِنْهَا. وَلِهَذَا نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ مِنْ خُرَافَاتِهِمْ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الشُّؤْمَ الْمُثْبَتَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَمْرٌ مَحْسُوسٌ ضَرُورِيٌّ مُشَاهَدٌ لَيْسَ مِنْ بَابِ الطِّيَرَةِ الْمَنْفِيَّةِ الَّتِي يَعْتَقِدُهَا أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "لَا طِيَرَةَ, وَخَيْرُهَا الْفَأْلُ" قَالُوا: وَمَا الْفَأْلُ؟ قَالَ: "الْكَلِمَةُ الصَّالِحَةُ. يَسْمَعُهَا أَحَدُكُمْ" 1. قَالَ حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ "لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ وَيُعْجِبُنِي الْفَأْلُ الصَّالِحُ الْكَلِمَةُ الْحَسَنَةُ" 2. قُلْتُ: وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ حِينَ جَاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: "سَهَّلَ اللَّهُ أَمْرَكُمْ" 3 الْحَدِيثَ وَمَا شَاكَلَهُ. وَمِنْ شَرْطِ الْفَأْلِ أَنْ لَا يُعْتَمَدَ عَلَيْهِ وَأَنْ لَا يَكُونَ مَقْصُودًا بَلْ أَنْ يَتَّفِقَ لِلْإِنْسَانِ؛ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ عَلَى بَالٍ. وَمِنَ الْبِدَعِ الذَّمِيمَةِ وَالْمُحْدَثَاتِ الْوَخِيمَةِ مَأْخَذُ الْفَأْلِ مِنَ الْمُصْحَفِ فَإِنَّهُ مِنَ اتِّخَاذِ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَلَعِبًا وَلَهْوًا, سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ. وَمَا أَدْرِي كَيْفَ حَالُ مَنْ فَتَحَ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الْمَائِدَةِ: 78] وَقَوْلِهِ: {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ} [النِّسَاءِ: 93] وَأَمْثَالِ هَذِهِ الْآيَاتِ. وَيُرْوَى أَنَّ أَوَّلَ مَنْ أَحْدَثَ هَذِهِ الْبِدْعَةَ بَعْضُ الْمَرْوَانِيَّةِ وَأَنَّهُ تَفَاءَلَ يَوْمًا فَفَتَحَ الْمُصْحَفَ فَاتَّفَقَ لِاسْتِفْتَاحِهِ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} [إِبْرَاهِيمَ: 15] الْآيَاتِ. فَيُقَالُ إِنَّهُ أَحْرَقَ الْمُصْحَفَ غَضَبًا مِنْ ذَلِكَ, وَقَالَ أَبْيَاتًا لَا نُسَوِّدُ بِهَا الْأَوْرَاقَ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذِهِ بِدْعَةٌ قَبِيحَةٌ, وَالْفَأْلُ إِذَا قَصَدَهُ الْمُتَفَائِلُ فَهُوَ طِيَرَةٌ كَالِاسْتِقْسَامِ بِالْأَزْلَامِ, وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي تَعْرِيفِ الطِّيَرَةُ حَدِيثَ الْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "إِنَّمَا الطِّيَرَةُ مَا أَمْضَاكَ أَوْ رَدَّكَ" 4,
وَرَوَى فِي كَفَّارَتِهَا حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَّفَهُ "مَنْ رَدَّتْهُ الطِّيَرَةُ عَنْ حَاجَتِهِ فَقَدْ أَشْرَكَ" قَالُوا: فَمَا كَفَّارَةُ ذَلِكَ؟ قَالَ: "أَنْ تَقُولَ اللَّهُمَّ لَا خَيْرَ إِلَّا خَيْرُكَ, وَلَا طَيْرَ إِلَّا طَيْرُكَ, وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ" 1. وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ عَنْ عِيسَى بْنِ عَاصِمٍ عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "الطِّيَرَةُ شِرْكٌ" ثَلَاثًا "وَمَا مِنَّا إِلَّا, وَلَكِنَّ اللَّهَ يُذْهِبُهُ بِالتَّوَكُّلِ"2 وَقَوْلُهُ: "وَمَا مِنَّا إِلَّا" الْخَ هُوَ مِنْ كَلَامِ ابْنِ مَسْعُودٍ كَمَا فَصَلَّهُ التِّرْمِذِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي رِوَايَتِهِ عَنِ الْمَرْفُوعِ حَيْثُ قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ يَقُولُ: كَانَ سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ يَقُولُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: "وَمَا مِنَّا إِلَّا, وَلَكِنَّ اللَّهَ يُذْهِبُهُ بِالتَّوَكُّلِ" كُلُّ هَذَا عِنْدِي قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ3. وَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَا: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ عَامِرٍ "قَالَ أَحْمَدُ: الْقُرَشِيُّ" قَالَ: ذُكِرَتِ الطِّيَرَةُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: " أَحْسَنُهَا الْفَأْلُ وَلَا تَرُدُّ مُسْلِمًا. فَإِذَا رَأَى أَحَدَكُمْ مَا يَكْرَهُ فَلْيَقُلْ اللَّهُمَّ لَا يَأْتِي بِالْحَسَنَاتِ إِلَّا أَنْتَ, وَلَا يَدْفَعُ السَّيِّئَاتِ إِلَّا أَنْتَ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ" 4. وَأَمَّا الْغُولُ فَهِيَ, وَاحِدُ الْغِيلَانِ وَهِيَ مِنْ شَرِّ شَيَاطِينِ الْجِنِّ وَسَحَرَتِهِمْ5
وَالنَّفْيُ لِمَا كَانَ يَعْتَقِدُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ فِيهِمْ مِنَ الضُّرِّ وَالنَّفْعِ, وَكَانُوا يَخَافُونَهُمْ خَوْفًا شَدِيدًا وَيَسْتَعِيذُونَ بِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الْجِنِّ: 6] زَادَ الْإِنْسُ الْجِنَّ جَرَأَةً عَلَيْهِمْ وَشَرًّا وَطُغْيَانًا, وَزَادَتْهُمُ الْجِنُّ إِخَافَةً وَخَبَلًا وَكُفْرَانًا, وَكَانَ أَحَدُهُمْ إِذَا نَزَلَ وَادِيًا قَالَ: أَعُوذُ بِسَيِّدِ هَذَا الْوَادِيَ مِنْ سُفَهَائِهِ فَيَأْتِي الشَّيْطَانُ فَيَأْخُذُ مِنْ مَالِ هَذَا الْمُسْتَعِيذِ أَوْ يُرَوِّعُهُ فِي نَفْسِهِ, فَيَقُولُ: يَا صَاحِبَ الْوَادِي جَارُكَ, أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ, فَيَسْمَعُ مُنَادِيًا يُنَادِي ذَلِكَ الْمُعْتَدِيَ أَنِ اتْرُكْهُ أَوْ دَعْهُ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ1. فَأَبْطَلَ اللَّهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذَلِكَ وَنَفَى أَنْ يَضُرُّوا أَحَدًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَأَبْدَلَنَا عَنِ الِاسْتِعَاذَةِ بِالْمَخْلُوقِينَ الاستعاذة بجبار السموات وَالْأَرْضِ رَبِّ الْكَوْنِ وَخَالِقِهِ وَمَالِكِهِ وَإِلَهِهِ وَبِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلْيَا وَكَلِمَاتِهِ التَّامَّاتِ الَّتِي لَا يُجَاوِزُهُنَّ جَبَّارٌ وَلَا مُتَكَبِّرٌ, فَقَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} [الْمُؤْمِنُونَ: 97] وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [الْأَعْرَافِ: 200] وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الْفَلَقِ: 1] إِلَى آخَرِ السُّورَةِ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [النَّاسِ: 1] إِلَى آخَرِ السُّورَةِ. وَغَيْرِهَا مِنَ الْآيَاتِ. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ: "مَا سَأَلَ سَائِلٌ بِمِثْلِهَا وَلَا اسْتَعَاذَ مُسْتَعِيذٌ بِمِثْلِهَا" 2 وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ نَزَلَ مَنْزِلًا فَقَالَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ, لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ حَتَّى يَرْحَلَ مِنْ مَنْزِلِهِ ذَلِكَ" 3 وَهُوَ فِي الصَّحِيحِ. وَفِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ "إِذَا تَغَوَّلَتِ الْغِيلَانُ فَبَادِرُوا بِالْأَذَانِ" 4 وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ
"إِنَّ الشَّيْطَانَ إِذَا سَمِعَ النِّدَاءَ أَدْبَرَ وَلَهُ ضُرَاطٌ. وَفِي لَفْظٍ حُصَاصٌ" 1 وَأَحَادِيثُ الِاسْتِعَاذَةِ وَالْأَذْكَارِ فِي طَرْدِ الشَّيْطَانِ وَغَيْرِهِ كَثِيرَةٌ مَشْهُورَةٌ مَسْبُورَةٌ فِي مَوَاضِعِهَا مِنْ كُتُبِ السُّنَّةِ, وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ إِنِ الْمُرَادَ فِي الْحَدِيثِ نَفِيُ وُجُودِ الْغِيلَانِ مُطْلَقًا فَلَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ ذَلِكَ مُكَابَرَةً لِلْأُمُورِ الْمُشَاهَدَةِ الْمَعْلُومَةِ بِالضَّرُورَةِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَبْلَهُ وَبَعْدَهُ مِنْ إِتْيَانِهِمْ وَانْصِرَافِهِمْ وَمُخَاطَبَتِهِمْ وَتَشَكُّلِهِمْ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا الهامة والصفر: فقالوا أَبُو دَاوُدَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُصَفَّى حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ قَالَ: قُلْتُ لِمُحَمَّدٍ -يَعْنِي ابْنَ رَاشِدٍ- قَوْلُهُ: "هَامَ" قَالَ: كَانَتِ الْجَاهِلِيَّةُ تَقُولُ: لَيْسَ أَحَدٌ يَمُوتُ فَيُدْفَنُ إِلَّا خَرَجَ مِنْ قَبْرِهِ هَامَةٌ. قُلْتُ: فَقَوْلُهُ: "صَفَرَ" قَالَ: سَمِعْتُ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ يَسْتَشْئِمُونَ بِصَفَرٍ. فَقَالَ النَّبِيُّ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا صَفَرَ" قَالَ مُحَمَّدٌ: وَقَدْ سَمِعْنَا مَنْ يَقُولُ هُوَ وَجَعٌ يَأْخُذُ فِي الْبَطْنِ, فَكَانُوا يَقُولُونَ هُوَ يُعْدِي فَقَالَ: "لَا صَفَرَ" 2, وَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ خَلَفٍ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: يَقُولُ النَّاسُ الصَّفَرُ وَجَعٌ يَأْخُذُ فِي الْبَطْنِ. قُلْتُ: فَمَا الْهَامَةُ؟ قَالَ: يَقُولُ النَّاسُ: الْهَامَةُ الَّتِي تَصْرُخُ هَامَةَ النَّاسِ, وَلَيْسَتْ بِهَامَةِ الْإِنْسَانِ, إِنَّمَا هِيَ دَابَّةٌ3. وَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: قُرِئَ عَلَى الْحَارِثِ بْنِ مِسْكِينٍ وَأَنَا شَاهِدٌ أَخْبَرَكُمْ أَشْهَبُ قَالَ: سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ قَوْلِهِ: "لَا صَفَرَ" قَالَ: إِنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يُحِلُّونَ صَفَرَ, يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا, فَقَالَ النَّبِيُّ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا صَفَرَ" 4. قُلْتُ: وَكُلُّ هَذِهِ الْمَعَانِي لِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ قَدِ اعْتَقَدَهَا الْجُهَّالُ وَكُلُّهَا بِجَمِيعِ مَعَانِيهَا الْمَذْكُورَةِ مَنْفِيَّةٌ بِنَصِّ الْحَدِيثِ. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
مرتبة الإحسان "وهي الثالثة من مراتب الدين في حديث جبريل"
مَرْتَبَةُ الْإِحْسَانِ: وَثَالِثٌ مَرْتَبَةُ الْإِحْسَانِ ... وَتِلْكَ أَعْلَاهَا لَدَى الرَّحْمَنِ وَهِيَ رُسُوخُ الْقَلْبِ فِي الْعِرْفَانِ ... حَتَّى يَكُونَ الْغَيْبُ كَالْعِيَانِ هَذِهِ الْمَرْتَبَةُ هِيَ الثَّالِثَةُ مِنْ مَرَاتِبِ الدِّينِ الْمُفَصَّلَةِ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ الْمُتَقَدِّمِ وَهِيَ أَعْلَى مَرَاتِبِ الدِّينِ وَأَعْظَمُهَا خَطَرًا وَأَهْلُهَا هُمُ الْمُسْتَكْمِلُونَ لَهَا السَّابِقُونَ بِالْخَيِّرَاتِ الْمُقَرَّبُونَ فِي عُلُوِّ الدَّرَجَاتِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الْأَرْكَانُ الظَّاهِرَةُ عِنْدَ التَّفْصِيلِ وَاقْتِرَانِهِ بِالْإِيمَانِ, وَالْإِيمَانُ إِذْ ذَاكَ هُوَ الْأَرْكَانُ الْبَاطِنَةُ وَالْإِحْسَانُ هُوَ تَحْسِينُ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ, وَأَمَّا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ فَكُلٌّ مِنْهَا يَشْمَلُ دِينَ اللَّهِ كُلَّهُ, وَقَدْ جَاءَ الْإِحْسَانُ فِي الْقُرْآنِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ, تَارَةً مُقْتَرِنًا بِالْإِيمَانِ, وَتَارَةً بِالتَّقْوَى, وَتَارَةً بِهِمَا مَعًا, وَتَارَةً بِالْجِهَادِ, وَتَارَةً بِالْإِسْلَامِ, وَتَارَةً بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ مُطْلَقًا. قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [الْمَائِدَةِ: 93] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النَّحْلِ: 128] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} [الْكَهْفِ: 30] وَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [الْعَنْكَبُوتِ: 69] وَقَالَ تَعَالَى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الْبَقَرَةِ: 112] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [لُقْمَانَ: 22] . وَتَارَةً بِالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَهُوَ مِنَ الْجِهَادِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ
هي على مقامين: أولهما أن تعبد الله كأنك تراه
اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [الْبَقَرَةِ: 195] . وَقَدْ فَسَّرَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَفْسِيرًا لَا يَسْتَطِيعُهُ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ أَحَدٌ غَيْرَهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِمَا أَعْطَاهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ فَقَالَ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ" 1 أَخْبَرَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّ مَرْتَبَةَ الْإِحْسَانِ عَلَى دَرَجَتَيْنِ, وَأَنَّ لِلْمُحْسِنِينَ فِي الْإِحْسَانِ مَقَامَيْنِ مُتَفَاوِتَيْنِ: الْمَقَامُ الْأَوَّلُ -وَهُوَ أَعْلَاهُمَا- أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ, وَهَذَا مَقَامُ الْمُشَاهِدَةِ, وَهُوَ أَنْ يَعْمَلَ الْعَبْدُ عَلَى مُقْتَضَى مُشَاهَدَتِهِ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بِقَلْبِهِ, وَهُوَ أَنْ يَتَنَوَّرَ الْقَلْبُ بِالْإِيمَانِ وَتَنْفُذَ الْبَصِيرَةُ فِي الْعِرْفَانِ حَتَّى يَصِيرَ الْغَيْبُ كَالْعِيَانِ, فَمَنْ عَبَدَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى اسْتِحْضَارِ قُرْبِهِ مِنْهُ وَإِقْبَالِهِ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ بَيْنَ يَدَيْهِ كَأَنَّهُ يَرَاهُ أَوْجَبَ لَهُ ذَلِكَ الْخَشْيَةَ وَالْخَوْفَ وَالْهَيْبَةَ وَالتَّعْظِيمَ, وَفِي حَدِيثِ حَارِثَةَ الْمُرْسَلِ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ لَهُ: "يَا حَارِثَةُ كَيْفَ أَصْبَحْتَ؟ " قَالَ: أَصْبَحْتُ مُؤْمِنًا حَقًّا. قَالَ: "انْظُرْ مَا تَقُولُ فَإِنَّ لِكُلِّ قَوْلٍ حَقِيقَةٌ" قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: عَزَفَتْ نَفْسِي عَنِ الدُّنْيَا فَأَسْهَرْتُ لَيْلِيَ وَأَظْمَأْتُ نَهَارِيَ وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى عَرْشِ رَبِّي بَارِزًا, وَكَأَنِّي أَنْظُرُ أَهْلَ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ يَتَزَاوَرُونَ فِيهَا, وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ النَّارِ فِي النَّارِ كَيْفَ يَتَعَاوَوْنَ فِيهَا. قَالَ: "أَبْصَرْتَ فَالْزَمْ, عَبْدٌ نَوَّرَ اللَّهُ تَعَالَى بَصِيرَتَهُ" 2. الْمَقَامُ الثَّانِي: مَقَامُ الْإِخْلَاصِ, وَهُوَ أَنْ يَعْمَلَ الْعَبْدُ عَلَى اسْتِحْضَارِ مُشَاهَدَةِ اللَّهِ إِيَّاهُ وَإِطِّلَاعِهِ عَلَيْهِ وَقُرْبِهِ مِنْهُ, فَإِذَا اسْتَحْضَرَ الْعَبْدُ هَذَا فِي عَمَلِهِ وَعَمِلَ عَلَيْهِ فَهُوَ مُخْلِصٌ لِلَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ اسْتِحْضَارَهُ ذَلِكَ فِي عَمَلِهِ يَمْنَعُهُ مِنَ الِالْتِفَاتِ إِلَى غَيْرِ
اللَّهِ وَإِرَادَتِهِ بِالْعَمَلِ. وَهَذَا الْمَقَامُ هُوَ الْوَسِيلَةُ الْمُوَصِّلَةُ إِلَى الْمَقَامِ الْأَوَّلِ. وَلِهَذَا أَتَى بِهِ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَعْلِيلًا لِلْأَوَّلِ فَقَالَ: "فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ" وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ "فَإِنَّكَ إِلَّا تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ" فَإِذَا تَحَقَّقَ فِي عِبَادَتِهِ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَرَاهُ وَيَطَّلِعُ عَلَى سِرِّهِ وَعَلَانِيَتِهِ وَبَاطِنِهِ وَظَاهِرِهِ وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِهِ فَحِينَئِذٍ يَسْهُلُ عَلَيْهِ الِانْتِقَالُ إِلَى الْمَقَامِ الثَّانِي وَهُوَ دَوَامُ التَّحْقِيقِ بِالْبَصِيرَةِ إِلَى قُرْبِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ عَبْدِهِ وَمَعِيَّتِهِ حَتَّى كَأَنَّهُ يَرَاهُ. وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى هَذَا الْمَعْنَى فِي غَيْرِ مَا مَوْضِعٍ مِنَ الْقُرْآنِ. كَمَا قَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [يُونُسَ: 61-64] وَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [الْبَقَرَةِ: 186] وَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الشُّعَرَاءِ: 217-220] وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. فَأَوْلِيَاءُ اللَّهِ الْمُتَّقُونَ الْمُحْسِنُونَ هُمُ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَبِإِلَهِيَّتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ. وَأَفْرَدُوهُ بِالْعِبَادَةِ محبة وتذللا وانقياد وَخَوْفًا وَرَجَاءً وَرَغْبَةً وَرَهْبَةً وَخَشْيَةً وَخُشُوعًا وَمَهَابَةً وَتَعْظِيمًا وَتَوَكُّلًا عَلَيْهِ وَافْتِقَارًا إِلَيْهِ وَاسْتِغْنَاءً بِهِ عَمَّا سِوَاهُ, وَاتَّقَوْهُ بِامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ وَمَحَبَّةِ مَرْضَاتِهِ وَتَرْكِ مَنَاهِيْهِ وَمُوجِبَاتِ سُخْطِهِ سِرًّا وَعَلَنًا وَظَاهِرًا وَبَاطِنًا قَوْلًا وَعَمَلًا وَاعْتِقَادًا, وَاسْتَشْعَرَتْ قُلُوبُهُمْ وَنُفُوسُهُمْ إِحَاطَةَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِهِمْ عِلْمًا وَقُدْرَةً وَلُطْفًا وَخِبْرَةً بِأَقْوَالِهِمْ وَنِيَّاتِهِمْ وَأَسْرَارِهِمْ وَعَلَانِيَاتِهِمْ وَحَرَكَاتِهِمْ وَسَكَنَاتِهِمْ وَجَمِيعِ أَحْوَالِهِمْ كَيْفَ عَمِلُوا وَأَيْنَ عَمِلُوا وَمَتَى عَمِلُوا فَكَانَ عَمَلُهُمْ خَالِصًا لِلَّهِ مُوَافِقًا لِشَرْعِهِ مُنَاطًا بِمَا جَاءَتْ بِهِ رُسُلُهُ وَنَطَقَتْ بِهِ كُتُبُهُ, مُسْتَحْضِرِينَ ذَلِكَ بِقُلُوبِهِمْ نَافِذَةً فِيهِ بَصَائِرُهُمْ فَأَخْلَصُوا لِلَّهِ الْعَمَلَ وَرَاقَبُوهُ مُرَاقَبَةَ
مَنْ يَنْظُرُ إِلَى رَبِّهِ, لِكَمَالِ عِلْمِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَيَرَى حَالَهُمْ وَيَسْمَعُ مَقَالَهُمْ, فَطَرَحُوا النُّفُوسَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَقْبَلُوا بِكُلِّيَّتِهِمْ عَلَيْهِ وَالْتَجَئُوا مِنْهُ إِلَيْهِ وَعَاذُوا بِهِ مِنْهُ وَأَحَبُّوهُ مِنْ كُلِّ قُلُوبِهِمْ فَامْتَلَأَتْ بِنُورِ مَعْرِفَتِهِ فَلَمْ تَتَّسِعْ لِغَيْرِهِ, فَبِهِ يُبْصِرُونَ وَبِهِ يَسْمَعُونَ وَبِهِ يَبْطِشُونَ وَبِهِ يَمْشُونَ, وَبِرُؤْيَتِهِمْ يُذْكَرُ اللَّهُ تَعَالَى وَبِذِكْرِهِ يُذْكَرُونَ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ سَمِعْتُ أَبَا صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي, فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي, وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَأٍ خَيْرٌ مِنْهُمْ, وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا, وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا, وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً" 1. وَقَالَ رَحِمَهُ الله تعالى: حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ كَرَامَةَ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ حَدَّثَنِي شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رسول الله عليه وسلم: "إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ, وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إلي مما افترضته عَلَيْهِ, وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا, وَإِنْ سَأَلَنِي لأعطينه ولئن عاذ بي لَأُعِيذَنَّهُ, وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عن نفس عبدي الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مُسَاءَتَهُ" 2. ذَكَرُوا اللَّهَ تَعَالَى فَذَكَرَهُمْ, وَشَكَرُوهُ فَشَكَرَهُمْ, وَتَوَلَّوْهُ وَوَالَوْا فِيهِ فَتَوَلَّاهُمْ, وَعَادُوا أَعْدَاءَهُ لِأَجْلِهِ فَآذَنَ بالحرب من عادهم, وَأَحْسَنُوا عِبَادَةَ رَبِّهِمْ فَأَحْسَنَ جَزَاءَهُمْ وَأَجْزَلَهُ, عَبَدُوهُ عَلَى قَدْرِ مَعْرِفَتِهِمْ بِهِ فَجَازَاهُمْ بِفَضْلِهِ وَزَادَهُمْ {لِلَّذِينَ
حديث "أنا عند حسن ظن عبد بي، وأنا معه إذا ذكرني"
أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يُوسُفَ: 26] {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرَّحْمَنِ: 60] وَلَمَّا ذُكِرَ أَهْلُ الْجَنَّةِ وَمَا وَعَدَهُمْ بِهِ مِنَ النِّعَمِ وَصَفَهُمْ أَنَّ ذَلِكَ جَزَاءَ إِحْسَانِهِمْ فَقَالَ: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} [الذَّارِيَاتِ: 16] ثُمَّ فَسَّرَ إِحْسَانَهُمْ {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذَّارِيَاتِ: 17-19] وَقَدَّمْنَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْحُسْنَى الَّتِي وَعَدَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُحْسِنِينَ هِيَ الْجَنَّةُ وَالزِّيَادَةُ هِيَ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ, كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ صُهَيْبٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ1. فَلَمَّا كَانُوا يَعْبُدُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِي الدُّنْيَا عَلَى وَجْهِ الْحُضُورِ وَالْمُرَاقَبَةِ كَأَنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بِقُلُوبِهِمْ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ فِي حَالِ عِبَادَتِهِمْ إِيَّاهُ؛ كَانَ جَزَاؤُهُمْ عَلَى ذَلِكَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي الْآخِرَةِ عِيَانًا بِأَبْصَارِهِمْ, وَعَكْسُ هَذَا مَا أَخْبَرَ بِهِ عَنِ الْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ فَقَالَ تَعَالَى فِيهِمْ: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [الْمُطَفِّفِينَ: 15] لَمَّا كَانَ حَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا التَّكْذِيبَ وَأَعْقَبَهُمْ ذَلِكَ التَّكْذِيبُ تَرَاكُمَ الرَّانِ عَلَى قُلُوبِهِمْ حَتَّى حُجِبَتْ عَنْ مَعْرِفَتِهِ وَمُرَاقَبَتِهِ فِي الدُّنْيَا فَكَانَ جَزَاؤُهُمْ عَلَى ذَلِكَ أَنْ حُجِبُوا عَنْ رُؤْيَتِهِ فِي الْآخِرَةِ, وَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [النَّجْمِ: 31] {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [الْبَقَرَةِ: 201] . هَذَا آخِرُ مَا يَسَّرَ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْكَلَامِ عَلَى مُفْرَدَاتِ حَدِيثِ جِبْرِيلَ, وَقَدْ قَالَ ابْنُ رَجَبٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي شَرْحِ الْأَرْبَعِينَ بَعْدَ كَلَامِهِ عَلَى مَرَاتِبِ الدِّينِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ, قَالَ: فَمَنْ تَأْمَّلَ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِمَّا دَلَّ عَلَيْهِ هَذَا الْحَدِيثُ الْعَظِيمُ عَلِمَ أَنَّ جَمِيعَ الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ يَرْجِعُ إِلَى هَذَا الْحَدِيثِ وَيَدْخُلُ تَحْتَهُ, وَأَنَّ جَمِيعَ الْعُلَمَاءِ مِنْ فِرَقِ هَذِهِ الْأُمَّةِ لَا تَخْرُجُ عُلُومُهُمُ الَّتِي يَتَكَلَّمُونَ فِيهَا عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ, وَمَا دَلَّ عَلَيْهِ مُجْمَلًا وَمُفَصَّلًا, فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ إِنَّمَا يَتَكَلَّمُونَ فِي الْعِبَادَاتِ.
الَّتِي هِيَ مِنْ جُمْلَةِ خِصَالِ الْإِسْلَامِ, وَيُضِيفُونَ إِلَى ذَلِكَ الْكَلَامَ فِي أَحْكَامِ الْأَمْوَالِ وَالْأَبْضَاعِ وَالدِّمَاءِ, وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ عِلْمِ الْإِسْلَامِ كَمَا سَبَقَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ, وَيَبْقَى كَثِيرٌ مِنْ عِلْمِ الْإِسْلَامِ -مِنَ الْآدَابِ وَالْأَخْلَاقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ- لَا يَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ إِلَّا الْقَلِيلُ مِنْهُمْ, وَلَا يَتَكَلَّمُونَ عَلَى مَعْنَى الشَّهَادَتَيْنِ وَهُمَا أَصْلُ الْإِسْلَامِ كُلِّهِ. وَالَّذِينَ يَتَكَلَّمُونَ عَلَى أُصُولِ الدِّيَانَاتِ يَتَكَلَّمُونَ عَلَى الشَّهَادَتَيْنِ وَعَلَى الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْإِيمَانِ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ, وَالَّذِينَ يَتَكَلَّمُونَ عَلَى عِلْمِ الْمَعَارِفِ وَمَقَامَاتِ الْعِبَادِ يَتَكَلَّمُونَ عَلَى مَقَامِ الْإِحْسَانِ وَعَلَى الْأَعْمَالِ الْبَاطِنَةِ الَّتِي تَدْخُلُ فِي الْإِيمَانِ أَيْضًا كَالْخَشْيَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالتَّوَكُّلِ وَالرِّضَا وَالصَّبْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ, فَانْحَصَرَتِ الْعُلُومُ الشَّرْعِيَّةُ الَّتِي يَتَكَلَّمُ عَلَيْهَا فِرَقُ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَرَجَعَتْ كُلُّهَا إِلَيْهِ, فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ وَحْدَهُ كِفَايَةٌ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ1. انْتَهَى كَلَامُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
الفصل العاشر: في ست مسائل تتعلق بمباحث الدين
[[الفصل العاشر: في ست مسائل تتعلق بمباحث الدين]] فَصْلٌ: سِتُّ مَسَائِلَ تَتَعَلَّقُ بِمَبَاحِثِ الدِّينِ: فِي مَسَائِلَ تَتَعَلَّقُ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ مَبَاحِثِ الدِّينَ: الْأُولَى: كَوْنُ الْإِيمَانِ يَزِيدُ بِالطَّاعَةِ وَيَنْقُصُ بِالْمَعْصِيَةِ. وَالثَّانِيَةُ: تَفَاضُلُ أَهْلِهِ فِيهِ. وَالثَّالِثَةُ: أَنَّ فَاسِقَ أَهْلِ الْمِلَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ لَا يُكَفَّرُ بِذَنَبٍ دُونَ الشِّرْكِ وَلَوَازِمِهِ إِلَّا إِذَا اسْتَحَلَّهُ. وَالرَّابِعَةُ: أَنَّهُ لَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ. وَالْخَامِسَةُ: أَنَّهُ فِي الْعِقَابِ وَعَدَمِهِ تَحْتَ الْمَشِيئَةِ. وَالسَّادِسَةُ: أَنَّ التَّوْبَةَ فِي حَقِّ كُلِّ فَرْدٍ مَقْبُولَةٌ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ سَوَاءٌ مِنْ كُفْرٍ أَوْ دُونِهِ مِنْ أَيِّ ذَنْبٍ كَانَ. 1- الْإِيمَانُ يزيد وينقص: إيمانا يَزِيدُ بِالطَّاعَاتِ ... وَنَقْصُهُ يَكُونُ بِالزَّلَّاتِ هَذِهِ هِيَ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى مِنْ مَسَائِلِ الْفَصْلِ, وَهِيَ أَنَّ الْإِيمَانَ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ وَعَلَى ذَلِكَ تَرْجَمَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ فَقَالَ فِي جَامِعِهِ: كِتَابِ
الْإِيمَانِ بَابَ قَوْلِ النَّبِيِّ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ" وَهُوَ قَوْلٌ وَفِعْلٌ وَيَزِيدُ وَيَنْقُصُ, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الْفَتْحِ: 4] {وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الْكَهْفِ: 13] {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} [مري: 76] وَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [مُحَمَّدٍ: 17] {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} [الْمُدَّثِّرِ: 31] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الْأَحْزَابِ: 22] 1. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: بَابٌ فِي اسْتِكْمَالِ الْإِيمَانِ وَالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ, وَسَاقَ فِيهِ حَدِيثَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ أَكْمَلَ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا وَأَلْطَفُهُمْ بِأَهْلِهِ" 2 وَحَدِيثَ "يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ" الْخَ, وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ, وَالشَّاهِدُ مِنْهُ قَوْلُهُ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَغْلَبَ لِذَوِي الْأَلْبَابِ وَذَوِي الرَّأْيِ مِنْكُنَّ" 3. وَذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ بَابًا, فَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ وَأَرْفَعُهَا قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ" هَذَا لَفْظُ التِّرْمِذِيِّ, وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ وَلَفْظُهُ "بِضْعٌ وَسِتُّونَ" وَلِمُسْلِمٍ رِوَايَةُ "بِضْعٌ وَسَبْعُونَ" لَكِنْ قَالَا: "شُعْبَةً" بَدَلَ "بَابًا"4. وَقَالَ النَّسَائِيُّ: بَابَ زِيَادَةِ الْإِيمَانِ5 وَذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ الشَّفَاعَةِ وَدَلَالَتِهِ مَنْطُوقًا
عَلَى تُفَاضِلِ أَهْلِ الْإِيْمَانِ فِيهِ, وَأَمَّا الزِّيَادَةُ وَالنَّقْصُ فَدَلَالَتُهُ عَلَيْهَا مَفْهُومًا لَا مَنْطُوقًا, وَمِثْلُهُ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ "رَأَيْتُ النَّاسَ وَعَلَيْهِمْ قُمُصٌ مِنْهَا مَا يَبْلُغُ الثَّدْيَ" الْحَدِيثَ. وَفِيهِ "وَعُرِضَ عَلَيَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ يَجُرُّهُ" قَالُوا: فَمَا أَوَّلْتَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "الدِّينَ"1 ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ عُمَرَ فِي نُزُولِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [الْمَائِدَةِ: 3] وَدَلَالَتَهَا عَلَى ذَلِكَ مَنْطُوقًا, وَعَلَى ذَلِكَ تَرْجَمَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الصَّبَّاحِ سَمِعَ جَعْفَرَ بْنَ عَوْنٍ حَدَّثَنَا أَبُو الْعُمَيْسِ قَالَ: أَخْبَرَنَا قَيْسُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْيَهُودِ قَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ آيَةٌ فِي كِتَابِكُمْ تَقْرَءُونَهَا لَوْ عَلَيْنَا مَعْشَرَ اليهود نزلت لاتخدنا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا, قَالَ: أَيُّ آيَةٍ. قَالَ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [الْمَائِدَةِ: 3] قَالَ عُمَرُ: قَدْ عَرَفْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ وَالْمَكَانَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ قَائِمٌ بِعَرَفَةَ يَوْمَ جُمْعَةٍ2. وَعَلَى ذَلِكَ تَرْجَمَ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ, وَسَاقُوا فِي ذَلِكَ أَحَادِيثَ تَتَضَمَّنُهُ مَنْطُوقًا وَمَفْهُومًا, قَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّيْمِيُّ وَقَطَنُ بْنُ نُسَيْرٍ وَاللَّفْظُ لِيَحْيَى أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ سُلَيْمَانَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ إِيَاسٍ الْجُرَيْرِيِّ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ عَنْ حَنْظَلَةَ الْأُسَيْدِيِّ قَالَ: وَكَانَ مِنْ كُتَّابِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: لَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: كَيْفَ أَنْتَ يَا حَنْظَلَةُ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ. قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ. مَا تَقُولُ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَكُونُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ, فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ
2- تفاضل أهل الإيمان
وَالْأَوْلَادَ الصِّغَارَ فَنَسِينَا كَثِيرًا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فَوَاللَّهِ إِنَّا لَنَلْقَى مِثْلَ هَذَا. فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَمَا ذَاكَ" قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَكُونُ عِنْدَكَ تُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ, فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ؛ نَسِينَا كَثِيرًا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "والذي نفسي يده أَنْ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي وَفِي الذِّكْرِ لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلَائِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِي طُرُقِكُمْ, وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ, سَاعَةً وَسَاعَةً" ثَلَاثُ مَرَّاتٍ1. حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ الْجُرَيْرِيُّ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ عَنْ حَنْظَلَةَ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَوَعَظَنَا فَذَكَرَ النَّارَ. قَالَ: ثُمَّ جِئْتُ إِلَى الْبَيْتِ فَضَاحَكْتُ الصِّبْيَانَ وَلَاعَبْتُ الْمَرْأَةَ. قَالَ: فَخَرَجْتُ فَلَقِيتُ أَبَا بَكْرٍ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ. قَالَ: وَأَنَا قَدْ فَعَلْتُ مِثْلَ مَا تَذْكُرُ. فَلَقِينَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَافَقَ حَنْظَلَةُ. فَقَالَ: "مَهْ" فَحَدَّثْتُهُ بِالْحَدِيثِ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَأَنَا قَدْ فَعَلْتُ مِثْلَ مَا فَعَلَ. فَقَالَ: "يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً سَاعَةً, وَلَوْ كَانَتْ تَكُونُ قُلُوبُكُمْ كَمَا تَكُونُ عِنْدَ الذِّكْرِ لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلَائِكَةُ حَتَّى تُسَلِّمَ عَلَيْكُمْ فِي الطُّرُقِ" 2. وَمِنْ طَرِيقٍ ثَالِثٍ فَذَكَرْنَا الْجَنَّةَ وَالنَّارَ الْحَدِيثَ3. وَعَلَى هَذَا إِجْمَاعُ الْأَئِمَّةِ الْمُعْتَدِّ بِإِجْمَاعِهِمْ, وَأَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَيَزِيدُ وَيَنْقُصُ, وَإِذَا كَانَ يَنْقُصُ بِالْفَتْرَةِ عَنِ الذِّكْرِ فَلِأَنْ يَنْقُصَ بِفِعْلِ الْمَعَاصِي مِنْ بَابِ أَوْلَى كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بَيَانُهُ قَرِيبًا. 2- تُفَاضُلُ أَهْلِ الْإِيمَانِ: وَأَهْلُهُ فِيهِ عَلَى تَفَاضُلٍ ... هَلْ أَنْتَ كَالْأَمْلَاكِ أَوْ كَالرُّسُلِ هَذِهِ هِيَ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ, وَهِيَ تَفَاضُلُ أَهْلِ الْإِيمَانِ فِيهِ, كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ تَبَارَكَ
وَتَعَالَى أَقْسَامَهُمِ الَّتِي قَسَمَهُمْ عَلَيْهَا بِمُقْتَضَى حِكْمَتِهِ فَقَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فَاطِرٍ: 32] الْآيَاتِ. فَقَسَّمَ تَعَالَى النَّاجِينَ مِنْهُمْ إِلَى مُقْتَصِدِينَ, وَهُمُ الْأَبْرَارُ أَصْحَابُ الْيَمِينِ الَّذِينَ اقْتَصَرُوا عَلَى الْتِزَامِ الْوَاجِبَاتِ وَاجْتِنَابِ الْمُحَرَّمَاتِ فَلَمْ يَزِيدُوا عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يَنْقُصُوا مِنْهُ. وَإِلَى سَابِقٍ بِالْخَيْرَاتِ, وَهُمُ الْمُقَرَّبُونَ الَّذِينَ تَقَرَّبُوا إِلَيْهِ بِالنَّوَافِلِ بَعْدَ الْفَرَائِضِ وَتَرَكُوا مَا لَا بَأْسَ بِهِ خَوْفًا مِمَّا بِهِ بَأْسٌ, وَمَا زَالُوا يَتَقَرَّبُونَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِذَلِكَ حَتَّى كَانَ سَمْعَهُمِ الَّذِي يَسْمَعُونَ بِهِ وَبَصَرَهُمِ الَّذِي يُبْصِرُونَ بِهِ إِلَى آخِرِ مَعْنَى الْحَدِيثِ السَّابِقِ, فَبِهِ يَسْمَعُونَ وَبِهِ يُبْصِرُونَ وَبِهِ يَبْطِشُونَ وَبِهِ يَمْشُونَ وَبِهِ يَنْطِقُونَ وَبِهِ يَعْقِلُونَ, يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ. وَأَمَّا الظَّالِمُ لِنَفْسِهِ فَفِي الْمُرَادِ بِهِ عَنِ السَّلَفِ الصَّالِحِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْكَافِرُ؛ فَيَكُونُ كَقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي تَقْسِيمِهِمْ فِي سُورَةِ الْوَاقِعَةِ عِنْدَ الْبَعْثِ: {وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الْوَاقِعَةِ: 7-11] إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ. وَقَسَّمَهُمْ عِنْدَ الِاحْتِضَارِ كَذَلِكَ فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} [الْوَاقِعَةِ: 88-94] فَإِنْ تَفَاضَلَ أَهْلُ الْإِيمَانِ فِي تَقْسِيمِ هَذِهِ السُّورَةِ إِنَّمَا هُوَ عَلَى دَرَجَتَيْنِ: سَابِقِينَ مُقَرَّبِينَ, وَأَبْرَارٍ هُمْ أَصْحَابُ الْيَمِينِ. وَأَمَّا أَصْحَابُ الشِّمَالِ الَّذِينَ هُمُ الْمُكَذِّبُونَ الضَّالُّونَ فَلَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ بِاتِّفَاقٍ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي الظَّالِمِ نَفْسَهُ فِي آيَةِ فَاطِرٍ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ عُصَاةُ الْمُوَحِّدِينَ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ لِأَنْفُسِهِمْ, وَلَكِنْ ظُلْمٌ دُونَ ظُلْمٍ, لَا يَخْرُجُ مِنَ الدِّينِ وَلَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ, فَعَلَى هَذَا يَكُونُ قِسْمٌ
ثَالِثٌ فِي تُفَاضِلِ أَهْلِ الْإِيمَانِ. وَرَجَّحَ هَذَا الْقَوْلَ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى1, فَإِذَا كَانَ هَذَا التَّفَاوُتُ بَيْنَ أَتِّبَاعِ الرُّسُلِ فَكَيْفَ تَفَاوَتَ مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رُسُلِهِمْ, وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّ الرُّسُلَ مُتَفَاضِلُونَ فَقَالَ {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} [الْبَقَرَةِ: 253] وَقَدْ تَقَدَّمَ تَقْرِيرُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ, وَكَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْ تَفَاوُتِهِمْ فِي الْإِيمَانِ فِي دَارِ التَّكْلِيفِ كَذَلِكَ جَعَلَ الْجَنَّةَ الَّتِي هِيَ دَارُ الثَّوَابِ مُتَفَاوِتَةَ الدَّرَجَاتِ مَعَ كَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمْ فِيهَا, فَقَالَ فِي سُورَةِ الرَّحْمَنِ: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ذَوَاتَا أَفْنَانٍ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرَّحْمَنِ: 46-59] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ. وَكَذَا فِي سُورَةِ الْوَاقِعَةِ أَخْبَرَ بِصِفَةِ الْجَنَّةِ الَّتِي يَدْخُلُهَا السَّابِقُونَ أَعْظَمَ وَأَعْلَى مِنْ صِفَاتِ الْجَنَّةِ الَّتِي يَدْخُلُهَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ, وَكَذَلِكَ فِي سُورَةِ الْمُطَفِّفِينَ؛ قَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} [الْمُطَفِّفِينَ: 22-28] وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَالَ النَّبِيُّ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "جَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا, وَجَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا, وَمَا بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ إِلَّا رِدَاءُ الْكِبْرِيَاءِ عَلَى وَجْهِهِ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ" 2.
وَأَهْلُ الْجَنَّةِ مُتَفَاوِتُونَ فِي الدَّرَجَاتِ حَتَّى إِنَّهُمْ يَتَرَاءَوْنَ, أَهْلُ عِلِّيِّينَ يَرَوْنَ غُرَفَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ كَمَا يُرَى الْكَوْكَبُ فِي الْأُفُقِ الشَّرْقِيِّ أَوِ الْغَرْبِيِّ, وَمُتَفَاوِتُونَ فِي الْأَزْوَاجِ, وَمُتَفَاوِتُونَ فِي الْفَوَاكِهِ مِنَ الْمَطْعُومِ وَالْمَشْرُوبِ, وَمُتَفَاوِتُونَ فِي الْفُرُشِ وَالْمَلْبُوسَاتِ, وَمُتَفَاوِتُونَ فِي الْمِلْكِ, وَمُتَفَاوِتُونَ فِي الْحُسْنِ وَالْجَمَالِ وَالنُّورِ وَمُتَفَاوِتُونَ فِي قُرْبِهِمْ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ, وَمُتَفَاوِتُونَ فِي تَكْثِيرِ زِيَارَتِهِمْ إِيَّاهُ, وَمُتَفَاوِتُونَ فِي مَقَاعِدِهِمْ يَوْمَ الْمَزِيدِ, وَمُتَفَاوِتُونَ تَفَاوُتًا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَحَادِيثَ الشَّفَاعَةِ وَفِيهَا أَنَّ عُصَاةَ الْمُوَحِّدِينَ الَّذِينَ تَمَسُّهُمُ النَّارُ بِقَدْرِ ذُنُوبِهِمْ, مُتَفَاوِتُونَ تَفَاوُتًا بَعِيدًا: مُتَفَاوِتُونَ فِي مِقْدَارِ مَا تَأْخُذُ مِنْهُمْ, فَمِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ النَّارُ إِلَى كَعْبَيْهِ, وَمِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ إِلَى أَنْصَافِ سَاقَيْهِ, وَمِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ, وَمِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ إِلَى حِقْوَيْهِ, ومنهم من تأخده كُلَّهُ إِلَّا مَوَاضِعَ السُّجُودِ. وَكَذَلِكَ يَتَفَاوَتُونَ فِي مِقْدَارِ لَبْثِهُمْ فِيهَا وَسُرْعَةِ خُرُوجِهِمْ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُمْ مُتَفَاوِتُونَ فِي الْإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ الَّذِي بِسَبَبِهِ يَخْرُجُونَ مِنْهَا وَلَوْلَاهُ لَكَانُوا مَعَ الْكَافِرِينَ خَالِدِينَ مُخَلَّدِينَ أَبَدًا, فَيُقَالُ لِلشُّفَعَاءِ أَخْرِجُوا مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ دِينَارٍ مِنْ إِيمَانٍ ثُمَّ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ نِصْفُ دِينَارٍ مِنْ إِيمَانٍ, ثُمَّ مِنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ وَزْنُ بُرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ, ثُمَّ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ ذَرَّةٌ مِنْ إِيمَانٍ, ثُمَّ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ أَدْنَى أَدْنَى أَدْنَى مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ, فَأَيْنَ هَذَا مِمَّنِ الْإِيمَانُ فِي قَلْبِهِ مِثْلَ الْجَبَلِ الْعَظِيمِ, وَأَيْنَ مَنَّ نُورُهُ عَلَى الصِّرَاطِ كَالشَّمْسِ, مِمَّنْ نُورُهُ عَلَى إِبْهَامِ قَدَمِهِ يُنَوْنِصُ تَارَةً وَيُطْفَأُ أُخْرَى {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [الْقَلَمِ: 36] . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُ النَّاسَ عُرِضُوا عَلَيَّ وَعَلَيْهِمْ قُمُصٌ, فَمِنْهَا مَا يَبْلُغُ الثَّدْيَ, وَمِنْهَا مَا يَبْلُغُ دُونَ ذَلِكَ. وَعُرِضَ عَلَيَّ عُمَرُ وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ يَجُرُّهُ" قَالُوا: فَمَا أَوَّلْتَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "الدِّينَ" 1. وَقَالَ ابن أبي ملكية: أَدْرَكْتُ
ثَلَاثِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ. مَا مِنْهُمْ أَحَدٌ يَقُولُ إِنَّهُ عَلَى إِيمَانِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ1. ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا مَجْزُومًا بِهِ. وَقَالَ النَّبِيُّ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مُلِئَ عَمَّارٌ إِيمَانًا إِلَى مُشَاشِهِ" 2 وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ, فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ, فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ" 3. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَوْ وُزِنَ إِيمَانُ أَبِي بَكْرٍ بِإِيمَانِ أَهْلِ الْأَرْضِ لَرَجَحَ4. وَقَرَأَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ5 رَحِمَهُ اللَّهُ أَوَّلَ الْأَنْفَالِ حَتَّى بَلَغَ {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الْأَنْفَالِ: 4] قَالَ حِينَ فرغ: إن هذا الْآيَةَ تُخْبِرُكَ أَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ, وَأَنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا كَانَ مُؤْمِنًا حَقًّا فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ, فَمَنْ لَمْ يَشْهَدْ أَنَّ الْمُؤْمِنَ حَقًّا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَهُوَ شَاكٌّ فِي كِتَابِ اللَّهِ مُكَذِّبٌ بِهِ, أَوْ جَاهِلٌ لَا يَعْلَمُ. فَمَنْ كَانَ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ حَقًّا مُسْتَكْمِلُ الْإِيمَانِ, وَلَا يَسْتَكْمِلُ الْإِيمَانَ إِلَّا بِالْعَمَلِ, وَلَا يَسْتَكْمِلُ عَبْدٌ الْإِيمَانَ وَلَا يَكُونُ مُؤْمِنًا حَقًّا حَتَّى يُؤْثِرَ دِينَهُ عَلَى شَهْوَتِهِ, وَلَنْ يَهْلِكَ عَبْدٌ حَتَّى يُؤْثِرَ شَهْوَتَهُ عَلَى دِينِهِ. يَا سَفِيهُ مَا أَجْهَلَكَ, لَا تَرْضَى أَنْ تَقُولَ أَنَا مُؤْمِنٌ حَتَّى
تَقُولَ أَنَا مُؤْمِنٌ حَقًّا مُسْتَكْمِلُ الْإِيمَانِ؟ وَاللَّهِ لَا تَكُونُ مُؤْمِنًا حَقًّا مُسْتَكْمِلَ الْإِيمَانِ حَتَّى تُؤَدِّيَ مَا افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَتَجْتَنِبَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَتَرْضَى بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَكَ ثُمَّ تَخَافَ مَعَ هَذَا أَنْ لَا يَقْبَلَ اللَّهُ مِنْكَ. وَوَصَفَ فُضَيْلٌ الْإِيمَانَ بِأَنَّهُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ, وَقَرَأَ {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [الْبَيِّنَةِ: 5] فَقَدْ سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى دِينَ الْقَيِّمَةِ بِالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ, فَالْقَوْلُ الْإِقْرَارُ بِالتَّوْحِيدِ وَالشَّهَادَةُ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالْعَمَلُ أَدَاءُ الْفَرَائِضِ وَاجْتِنَابُ الْمَحَارِمِ, وَقَرَأَ {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} [مَرْيَمَ: 55] وَقَالَ: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا} [الشُّورَى: 13] فَالدِّينُ التَّصْدِيقُ بِالْعَمَلِ كَمَا وَصَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى, وَكَمَا أَمَرَ أَنْبِيَاءَهُ وَرُسُلَهُ بِإِقَامَتِهِ. وَالتَّفَرُّقُ فِيهِ تَرْكُ الْعَمَلِ وَالتَّفْرِيقُ بَيْنَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ, قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التَّوْبَةِ: 11] فَالتَّوْبَةُ مِنَ الشِّرْكِ جَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى قَوْلًا وَعَمَلًا بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَيْسَ الصَّلَاةُ وَلَا الزَّكَاةُ وَلَا شَيْءٌ مِنَ الْفَرَائِضِ مِنَ الْإِيمَانِ, افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ وَخِلَافًا لِكِتَابِهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ, وَلَوْ كَانَ الْقَوْلُ كَمَا يَقُولُونَ لَمْ يُقَاتِلْ أَبُو بَكْرٍ أَهْلَ الرِّدَّةِ. وَقَالَ فُضَيْلٌ: يَقُولُ أَهْلُ الْبِدَعِ: الْإِيمَانُ الْإِقْرَارُ بِلَا عَمَلٍ, وَالْإِيمَانُ وَاحِدٌ, وَإِنَّمَا يَتَفَاضَلُ النَّاسُ بِالْأَعْمَالِ وَلَا يَتَفَاضَلُونَ بِالْإِيمَانِ. قَالَ: فَمَنْ قَالَ ذَلِكَ فَقَدْ خَالَفَ الْأَثَرَ, وَرَدَّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَوْلَهُ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً؛ أَفْضَلُهَا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ, وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ, وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ" 1, وَتَفْسِيرُ مَنْ يَقُولُ الْإِيمَانُ لَا يَتَفَاضَلُ يَقُولُ إِنَّ فَرَائِضَ
اللَّهِ لَيْسَتْ مِنَ الْإِيمَانِ فَمَيَّزَ أَهْلُ الْبِدَعِ الْعَمَلَ مِنَ الْإِيمَانِ وَقَالُوا: إِنْ فَرَائِضَ اللَّهِ لَيْسَتْ مِنَ الْإِيمَانِ, وَمَنْ قَالَ ذَلِكَ فَقَدْ أَعْظَمَ الْفِرْيَةَ, أَخَافُ أَنْ يَكُونَ جَاحِدًا لِلْفَرَائِضِ رَادًّا عَلَى اللَّهِ أَمْرَهُ. وَيَقُولُ أَهْلُ السُّنَّةِ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَرَّرَ الْعَمَلَ بِالْإِيمَانِ وَإِنَّ فَرَائِضَ اللَّهِ مِنَ الْإِيمَانِ. قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الْعَنْكَبُوتِ: 7] فَهَذَا مَوْصُولُ الْعَمَلِ بِالْإِيمَانِ. وَيَقُولُ أَهْلُ الْإِرْجَاءِ: لَا وَلَكِنَّهُ مَقْطُوعٌ غَيْرُ مَوْصُولٍ. وَقَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [النِّسَاءِ: 124] فَهَذَا مَوْصُولٌ, وَأَهْلُ الْإِرْجَاءِ يَقُولُونَ: بَلْ هُوَ مَقْطُوعٌ. وَقَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [الْإِسْرَاءِ: 19] فَهَذَا مَوْصُولٌ, وَكُلُّ شَيْءٍ فِي الْقُرْآنِ مِنْ أَشْبَاهِ هَذَا فَأَهْلُ السُّنَّةِ يَقُولُونَ: هُوَ مَوْصُولٌ مُجْتَمِعٌ, وَأَهْلُ الْإِرْجَاءِ يَقُولُونَ: بَلْ هُوَ مَقْطُوعٌ مُتَفَرِّقٌ. وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا يَقُولُونَ كَانَ مَنْ عَصَى وَارْتَكَبَ الْمَعَاصِيَ وَالْمَحَارِمَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ سَبِيلٌ فَكَانَ إِقْرَارُهُ يَكْفِيهِ مِنَ الْعَمَلِ, فَمَا أَسْوَأَ هَذَا مِنْ قَوْلٍ وَأَقْبَحَهُ, فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. وَقَالَ فُضَيْلٌ: أَصْلُ الْإِيمَانِ عِنْدَنَا وَفَرْعُهُ -بَعْدَ الشَّهَادَةِ لِلَّهِ بِالتَّوْحِيدِ, وَالشَّهَادَةِ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالْبَلَاغِ, وَبَعْدَ أَدَاءِ الْفَرَائِضِ- صِدْقُ الْحَدِيثِ, وَحِفْظُ الْأَمَانَةِ وَتَرْكُ ,الْخِيَانَةِ وَالْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ, وَصِلَةُ الرَّحِمِ, وَالنَّصِيحَةُ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ, وَالرَّحْمَةُ لِلنَّاسِ عَامَّةً. قِيلَ لَهُ -يَعْنِي فُضَيْلًا- هَذَا مِنْ رَأْيِكَ تَقُولُهُ أَوْ سَمِعْتَهُ؟ قَالَ: بَلْ سَمِعْنَاهُ وَتَعَلَّمْنَاهُ. وَلَوْ لَمْ آخُذْهُ مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْفَضْلِ لَمْ أَتَكَلَّمْ بِهِ. وَقَالَ فُضَيْلٌ: يَقُولُ أَهْلُ الْإِرْجَاءِ: الْإِيمَانُ قَوْلٌ بِلَا عَمَلٍ, وَيَقُولُ الْجَهْمِيَّةُ: الْإِيمَانُ الْمَعْرِفَةُ بِلَا قَوْلٍ وَلَا عَمَلٍ, وَيَقُولُ أَهْلُ السُّنَّةِ: الْإِيمَانُ الْمَعْرِفَةُ وَالْقَوْلُ وَالْعَمَلُ. فَمَنْ قَالَ الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ فَقَدْ أَخَذَ بِالْوَثِيقَةِ. وَمَنْ قَالَ الْإِيمَانُ قَوْلٌ بِلَا عَمَلٍ فَقَدْ خَاطَرَ؛ لِأَنَّهُ لَا
يَدْرِي أَيُقْبَلُ إِقْرَارُهُ أَوْ يُرَدُّ عَلَيْهِ بِذُنُوبِهِ. وَقَالَ يَعْنِي فُضَيْلًا: قَدْ بَيَّنْتُ لَكَ إِلَّا أَنْ تَكُونَ أَعْمَى. وَقَالَ فُضَيْلٌ: لَوْ قَالَ لِي رَجُلٌ: مُؤْمِنٌ أَنْتَ؟ مَا كَلَّمْتُهُ مَا عِشْتَ. وَقَالَ: إِذَا قُلْتَ آمَنْتُ بِاللَّهِ فَهُوَ يَجْزِيكَ مِنْ أَنْ تَقُولَ أَنَا مُؤْمِنٌ. وَإِذَا قُلْتَ أَنَا مُؤْمِنٌ لَا يَجْزِيكَ مِنْ أن تقول اآمنت بِاللَّهِ؛ لِأَنَّ آمَنْتُ بِاللَّهِ أَمْرٌ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ} [الْبَقَرَةِ: 136] الْآيَةَ, وَقَوْلُكَ أَنَا مُؤْمِنٌ تَكَلُّفٌ لَا يَضُرُّكَ أَنْ لَا تَقَوُّلَهُ وَلَا بَأْسَ إِنْ قُلْتَهُ عَلَى وَجْهِ الْإِقْرَارِ وَأَكْرَهُهُ عَلَى وَجْهِ التَّزْكِيَةِ. وَقَالَ فُضَيْلٌ سَمِعْتُ الثَّوْرِيَّ يَقُولُ: مَنْ صَلَّى إِلَى هَذِهِ الْقِبْلَةِ فَهُوَ عِنْدَنَا مُؤْمِنٌ, وَالنَّاسُ عِنْدَنَا مُؤْمِنُونَ بِالْإِقْرَارِ فِي الْمَوَارِيثِ وَالْمُنَاكَحَةِ وَالْحُدُودِ وَالذَّبَائِحِ وَالنُّسُكِ. وَلَهُمْ ذُنُوبٌ وَخَطَايَا اللَّهُ حَسْبُهُمْ, إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُمْ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُمْ, لَا نَدْرِي مَا لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَالَ فُضَيْلٌ سَمِعْتُ الْمُغِيرَةَ الضَّبِّيَّ يَقُولُ: مَنْ شَكَّ فِي دِينِهِ فَهُوَ كَافِرٌ وَأَنَا مُؤْمِنٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. قَالَ فُضَيْلٌ: الِاسْتِثْنَاءُ لَيْسَ بِشَكٍّ. وَقَالَ فُضَيْلٌ: الْمُرْجِئَةُ كُلَّمَا سَمِعُوا حَدِيثًا فِيهِ تَخْوِيفٌ قَالُوا: هَذَا تَهْدِيدٌ. وَإِنَّ الْمُؤْمِنَ يَخَافُ تَهْدِيدَ اللَّهِ وَتَحْذِيرَهُ وَتَخْوِيفَهُ وَوَعِيدَهُ وَيَرْجُو وَعْدَهَ, وَإِنَّ الْمُنَافِقَ لَا يَخَافُ تَهْدِيدَ اللَّهِ وَلَا تَحْذِيرَهُ وَلَا تَخْوِيفَهُ وَلَا وَعِيدَهُ وَلَا يَرْجُو وَعْدَهُ. وَقَالَ فُضَيْلٌ: الْأَعْمَالُ تُحْبِطُ الْأَعْمَالَ, وَالْأَعْمَالُ تَحُولُ دُونَ الْأَعْمَالِ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ قَالَ أَبِي: أُخْبِرْتُ عَنْ فُضَيْلٍ عَنْ لَيْثٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [الْبَقَرَةِ: 269] قَالَ: الفقه والعلم. ا. هـ مِنْ كِتَابِ السُّنَّةِ1. وَفِيهِ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "الْقُلُوبُ أَرْبَعَةٌ: قَلْبٌ أَجْرَدُ كَأَنَّمَا
فِيهِ سِرَاجٌ يُزْهِرُ, فَذَلِكَ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ. وَقَلْبٌ أَغْلَفُ, فَذَلِكَ قَلْبُ الْكَافِرِ. وَقَلْبٌ مُصْفَحٌ, فَذَلِكَ قَلْبُ الْمُنَافِقِ. وَقَلْبٌ فِيهِ إِيمَانٌ وَنِفَاقٌ, وَمَثَلُ الْإِيمَانِ فِيهِ كَمَثَلِ شَجَرَةٍ يَسْقِيهَا مَاءٌ طَيِّبٌ, وَمَثَلُ النِّفَاقِ فِيهِ كَمَثَلِ قُرْحَةٍ يَمُدُّهَا قَيْحٌ وَدَمٌ, فَأَيُّهُمَا غَلَبَ عليه غلبه" 1 ا. هـ. وَهَذَا الْمَوْقُوفُ قَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ حَسَنٍ, فَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ لَيْثٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْقُلُوبُ أَرْبَعَةٌ: قَلْبٌ أَجْرَدُ فِيهِ مِثْلُ السِّرَاجِ يُزْهِرُ, وَقَلْبٌ أَغْلَفُ مَرْبُوطٌ عَلَى غِلَافِهِ, وَقَلْبٌ مَنْكُوسٌ, وَقَلْبٌ مُصْفَحٌ, فَأَمَّا الْقَلْبُ الْأَجْرَدُ فَقَلْبُ الْمُؤْمِنِ سِرَاجُهُ فِيهِ نُورُهُ, وَأَمَّا الْقَلْبُ الْأَغْلَفُ فَقَلْبُ الْكَافِرِ. وَأَمَّا الْقَلْبُ الْمَنْكُوسُ فَقَلْبُ الْمُنَافِقِ عَرَفَ ثُمَّ أَنْكَرَ, وَأَمَّا الْقَلْبُ الْمُصْفَحُ فَقَلْبٌ فِيهِ إِيمَانٌ وَنِفَاقٌ, وَمَثَلُ الْإِيمَانِ فِيهِ كَمَثَلِ الْبَقْلَةِ يَمُدُّهَا الْمَاءُ الطَّيِّبُ, وَمَثَلُ النِّفَاقِ فِيهِ كَمَثَلِ الْقُرْحَةِ يَمُدُّهَا الدَّمُ وَالْقَيْحُ, فَأَيُّ الْمَادَّتَيْنِ غَلَبَتْ عَلَى الْأُخْرَى غَلَبَتْ عَلَيْهِ" 2. وَالْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ وَآثَارُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فِي هَذَا الْبَابِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تَحْصُرَ وَأَشْهَرُ مِنْ أَنْ تُذْكَرَ. وَالْمَقْصُودُ بَيَانُ أَنَّ النَّاسَ مُتَفَاوِتُونَ فِي الدِّينِ بِتَفَاوُتِ الْإِيمَانِ فِي قُلُوبِهِمْ, مُتَفَاضِلُونَ فِيهِ بِحَسَبِ ذَلِكَ, فَأَفْضَلُهُمْ وَأَعْلَاهُمْ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ. وَأَدْنَاهُمُ الْمُخَلِّطُونَ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ. وَبَيْنَ ذَلِكَ مَرَاتِبُ وَدَرَجَاتٌ لَا يُحِيطُ بِهَا إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الَّذِي خَلَقَهُمْ وَرَزَقَهُمْ, وَكَمَا يَتَفَاوَتُونَ فِي مَبْلَغِ الْإِيمَانِ مِنْ قُلُوبِهِمْ يَتَفَاوَتُونَ فِي أَعْمَالِ الْإِيمَانِ الظَّاهِرَةِ, بَلْ وَاللَّهِ يَتَفَاضَلُونَ فِي عَمَلٍ وَاحِدٍ يَعْمَلُهُ كُلُّهُمْ فِي آنٍ وَاحِدٍ وَفِي مَكَانٍ وَاحِدٍ, فَإِنَّ الْجَمَاعَةَ فِي الصَّلَاةِ صَافُّونَ كُلُّهُمْ فِي رَأْيِ الْعَيْنِ, مُسْتَوُونَ فِي الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ, وَالْخَفْضِ وَالرَّفْعِ, وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّحْمِيدِ, وَالتَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ, وَالتِّلَاوَةِ وَسَائِرِ الْأَذْكَارِ, وَالْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ, فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ وَوَقْتٍ وَاحِدٍ وَخَلَفَ إِمَامٍ وَاحِدٍ, وَبَيْنَهُمْ مِنَ التَّفَاوُتِ
وَالتَّفَاضُلِ مَا لَا يُحْصَى: فَهَذَا قُرَّةُ عَيْنِهِ فِي الصَّلَاةِ يَوَدُّ إِطَالَتَهَا مَا دَامَ عُمْرُهُ, وَآخَرُ يَرَى نَفْسَهُ فِي أَضْيَقِ سِجْنٍ يَوَدُّ انْقِضَاءَهَا فِي أَسْرَعِ مِنْ طَرْفَةِ عَيْنٍ, أَوْ يَوَدُّ الْخُرُوجَ مِنْهَا, بَلْ يَتَنَدَّمُ عَلَى الدُّخُولِ فِيهَا, وَهَذَا يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى وَجْهِ الْحُضُورِ وَالْمُرَاقَبَةِ كَأَنَّهُ يُشَاهِدُهُ, وَآخَرُ قَلْبُهُ فِي الْفَلَوَاتِ قَدْ تَشَعَّبَتْ بِهِ الضَّيَعَاتُ وَتَفَرَّقَتْ بِهِ الطُّرُقَاتُ حَتَّى لَا يَدْرِيَ مَا يَقُولُ, وَلَا مَا يَفْعَلُ وَلَا كَمْ صَلَّى. وَهَذَا تُرْفَعُ صَلَاتُهُ تَتَوَهَّجُ بِالنُّورِ حتى تخترق السموات إِلَى عَرْشِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ. وَهَذَا تَخْرُجُ مُظْلِمَةً لِظُلْمَةِ قَلْبِهِ فَتُغْلَقُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ دُونَهَا فَتُلَفُّ كَمَا يُلَفُّ الثَّوْبُ الْخَلِقُ فَيُضْرَبُ بِهَا وَجْهُ صَاحِبِهَا, وَهَذَا يُكْتَبُ لَهُ أَضْعَافُهَا وَأَضْعَافٌ مُضَاعَفَةٌ, وَهَذَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا كُتِبَ لَهُ إِلَّا نِصْفَهَا إِلَّا رُبُعَهَا إِلَّا ثُمُنَهَا إِلَّا عُشْرَهَا, وَهَذَا يَحْضُرُهَا صُورَةً وَلَمْ يُكْتَبْ لَهُ مِنْهَا شَيْءٌ. وَهَذَا مُنَافِقٌ يَأْتِيهَا رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. هَذَا وَالنَّاظِرُ إِلَيْهِمْ يَرَاهُمْ مُسْتَوِينَ فِي فِعْلِهَا, وَلَوْ كُشِفَ لَهُ الْحِجَابُ لَرَأَى مِنَ الْفُرْقَانِ مَا لَا يُقَدِّرُ قَدْرَهُ إِلَّا اللَّهُ الرَّقِيبُ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ, الَّذِي أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ, وَكَذَلِكَ الْجِهَادُ تَرَى الْأُمَّةَ مِنَ النَّاسِ يَخْرُجُونَ فِيهِ مَعَ إِمَامٍ وَاحِدٍ وَيُقَاتِلُونَ عَدُوًّا وَاحِدًا عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ مُتَسَاوِينَ ظَاهِرًا فِي الْقُوَى وَالْعُدَدِ, فَهَذَا يُقَاتِلُ حَمِيَّةً وَعَصَبِيَّةً, وَهَذَا يُقَاتِلُ رِيَاءً وَسُمْعَةً لِتُعْلَمَ شَجَاعَتُهُ وَيُرَى مَكَانُهُ, وَهَذَا يُقَاتِلُ لِلْمَغْنَمِ لَيْسَ لَهُ هَمٌ غَيْرَهُ, وَهَذَا يُقَاتِلُ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَذَا هُوَ الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا لِغَيْرِهِ. وَهَذَا هُوَ الَّذِي يُكْتَبُ لَهُ بِكُلِّ حَرَكَةٍ أَوْ سُكُونٍ أَوْ نَصْبٍ أَوْ مَخْمَصَةٍ عَمَلٌ صَالِحٌ. وَهَكَذَا الزَّكَاةُ وَالصَّوْمُ والحج والأمر بالعروف وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ وَجَمِيعُ أَعْمَالِ الْإِيمَانِ, النَّاسُ فِيهَا عَلَى هَذَا التَّفَاوُتِ وَالتَّفَاضُلِ بِحَسَبِ مَا وَقَرَ فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْعِلْمِ وَالْيَقِينِ. وَعَلَى ذَلِكَ يَمُوتُونَ, وَعَلَيْهِ يُبْعَثُونَ, وَعَلَى قَدْرِهِ يَقِفُونَ فِي عَرَقِ الْمَوْقِفَ, وَعَلَى ذَلِكَ الْوَزْنِ وَالصُّحُفِ. وَعَلَى ذَلِكَ تُقَسَمُ الْأَنْوَارُ عَلَى الصِّرَاطِ. وَبِحَسَبِ ذَلِكَ يَمُرُّونَ عَلَيْهِ. وَمَنْ يُبْطِأُ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ. وَبِذَلِكَ يَتَسَابَقُونَ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ. وَعَلَى حَسَبِهِ رَفْعُ دَرَجَاتِهِمْ. وَبِقَدْرِهِ تَكُونُ مَقَاعِدُهُمْ مِنْ رَبِّهِمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي يَوْمِ الْمَزِيدِ. وَبِمِقْدَارِ ذَلِكَ مَمَالِكُهُمْ فِيهَا وَنَعِيمُهُمْ, وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ. وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.
3- فاسق أهل القبلة مؤمن ناقص الإيمان
3- فَاسْقُ أَهْلِ الْقِبْلَةِ مُؤْمِنٌ نَاقِصُ الْإِيمَانِ: وَالْفَاسِقُ الْمَلِّيُّ ذُو الْعِصْيَانِ ... لَمْ يُنْفَ عَنْهُ مُطَلَقُ الْإِيمَانِ لَكِنْ بِقَدْرِ الْفِسْقِ وَالْمَعَاصِي ... إِيمَانُهُ مَا زَالَ فِي انْتِقَاصِ هَذِهِ هِيَ الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: وَهِيَ أَنَّ فَاسِقَ أَهْلِ الْقِبْلَةِ لَا يُنْفَى عَنْهُ مُطْلَقُ الْإِيمَانِ بِفُسُوقِهِ, وَلَا يُوصَفُ بِالْإِيمَانِ التَّامِّ. وَلَكِنْ هُوَ مُؤْمِنٌ نَاقِصُ الْإِيمَانِ. أَوْ مُؤْمِنٌ بِإِيمَانِهِ, فَاسِقٌ بِكَبِيرَتِهِ. فَلَا يُعْطَى الِاسْمُ الْمُطْلَقُ وَلَا يُسْلَبُ مُطْلَقَ الِاسْمِ. وَالْمُرَادُ بِالْفِسْقِ هُنَا هُوَ الْأَصْغَرُ. وَهُوَ عَمَلُ الذُّنُوبِ الْكَبَائِرِ الَّتِي سَمَّاهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ فِسْقًا وَكُفْرًا وَظُلْمًا مَعَ إِجْرَاءِ أَحْكَامِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى عَامِلِهَا. فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى الْكَاذِبَ فَاسِقًا فَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الْحُجُرَاتِ: 6] وَمَعَ هَذَا لَمْ يَخْرُجْ ذَلِكَ الرَّجُلُ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ الْآيَةُ مِنَ الدِّينِ بِالْكُلِّيَّةِ وَلَمْ يَنْفِ عَنْهُ الْإِيمَانَ مُطْلَقًا وَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ جَرَيَانِ أَحْكَامِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ" 1. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ" 2 الْحَدِيثَ وَغَيْرَهُ. وَقَدِ اسْتَبَّ كَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلَى عَهْدِهِ وَمِنْ حُضُورِهِ. فَوَعَظَهُمْ وَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ وَلَمْ يُكَفِّرْهُمْ بَلْ بَقُوا أَنْصَارَهُ وَوُزَرَاءَهُ فِي الدِّينِ. وَقَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الْحُجُرَاتِ: 9] فَسَمَّى اللَّهُ تَعَالَى كُلًّا مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ
الْمُقْتَتِلَتَيْنِ مُؤْمِنَةً وَأَمَرَ بِالْإِصْلَاحِ بَيْنَهُمَا وَلَوْ بِقِتَالِ الْبَاغِيَةِ ثُمَّ قَالَ: {فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الْحُجُرَاتِ: 9] ثُمَّ لَمْ يَنْفِ عَنْهُمُ الْأُخُوَّةَ أُخُوَّةَ الْإِيمَانِ لَا فِيمَا بَيْنَ الْمُقْتَتِلِينَ, وَلَا فِيمَا بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ بَقِيَّةِ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ أُثْبِتَتْ أُخُوَّةُ الْإِيمَانِ لَهُمْ مُطْلَقًا فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الْحُجُرَاتِ: 10] . وَكَذَلِكَ فِي آيَةِ الْقِصَاصِ أَثْبَتَ الْإِيمَانَ لِلْقَاتِلِ وَالْمَقْتُولِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَثْبَتَ لَهُمْ أُخُوَّةُ الْإِيمَانِ فَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [الْبَقَرَةِ: 178] وَكَذَلِكَ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ" 1 سَمَّاهُمْ أَيْضًا مُسْلِمِينَ بَعْدَ أَنْ رَجَعُوا كَذَلِكَ, فَقَالَ فِي صِفَةِ الْخَوَارِجِ "وَتَمْرُقُ مَارِقَةٌ عِنْدَ فِرْقَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَقْتُلُهَا أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ" 2. وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَصْحَابَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَأَهْلَ الشَّامِ هُمَا الْفِرْقَتَانِ اللَّتَانِ مَرَقَتِ الْخَوَارِجُ مِنْ بَيْنِهِمَا وَقَدِ اقْتَتَلَا قِتَالًا عَظِيمًا, فَسُمِّيَ الْجَمِيعُ مُسْلِمِينَ, وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سِبْطِهِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ: "إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ, وَسَيُصْلِحُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ بَيْنَ فِرْقَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ" 3, فَأَصْلَحَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْفِرْقَتَيْنِ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي عَامِ الْجَمَاعَةِ, وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ تَسْمِيَةِ الْعَمَلِ فِسْقًا أَوْ عَامِلِهِ فَاسِقًا, وَبَيْنَ تَسْمِيَتِهِ مُسْلِمًا وَجَرَيَانِ أَحْكَامِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ فِسْقٍ يَكُونُ كُفْرًا, وَلَا كُلُّ مَا سُمِّيَ كُفْرًا وَظُلْمًا يَكُونُ مُخْرِجًا مِنَ الْمِلَّةِ حَتَّى يَنْظُرَ إِلَى لَوَازِمِهِ وَمَلْزُومَاتِهِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ كُلًّا مِنَ الْكُفْرِ وَالظُّلْمِ وَالْفُسُوقِ وَالنِّفَاقِ جَاءَتْ فِي النُّصُوصِ عَلَى قِسْمَيْنِ:
أَكْبَرُ يُخْرِجُ مِنَ الْمِلَّةِ لِمُنَافَاتِهِ أَصْلُ الدِّينِ بِالْكُلِّيَّةِ. وَأَصْغَرُ يُنْقِصُ الْإِيمَانَ وَيُنَافِي الْمِلَّةَ وَلَا يَخْرُجُ صَاحِبُهُ مِنْهُ. فَكُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ, وَظُلْمٌ دُونَ ظُلْمٍ, وَفُسُوقٌ دُونَ فُسُوقٍ. وَنِفَاقٌ دُونَ نِفَاقٍ. قَالَ تَعَالَى فِي بَيَانِ الْكُفْرِ: {إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الْبَقَرَةِ: 34] وَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [النِّسَاءِ: 167] . وَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي بَيَانِ الْكُفْرِ الْأَصْغَرِ: "سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ" 1. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الظُّلْمِ الْأَكْبَرِ: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لُقْمَانَ: 13] وَقَالَ فِي الظُّلْمِ الْأَصْغَرِ: {وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطَّلَاقِ: 1] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النِّسَاءِ: 10] . وَقَالَ فِي الْفُسُوقِ الْأَكْبَرِ: {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الْكَهْفِ: 50] وَقَالَ تَعَالَى: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 254] . وَقَالَ تَعَالَى فِي النِّفَاقِ الْأَكْبَرِ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [الْبَقَرَةِ: 8] وَقَالَ: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النِّسَاءِ: 145] وَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي النِّفَاقِ الْأَصْغَرِ: "أَرْبَعٌ مَنْ كُنْ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا, وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ,
وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ, وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ, وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ" 1. فَهَذِهِ الْخِصَالُ كُلُّهَا نِفَاقٌ عَمَلِيٌّ لَا يُخْرِجُ مِنَ الدِّينِ إِلَّا إِذَا صَحِبَهُ النِّفَاقُ الِاعْتِقَادِيُّ الْمُتَقَدِّمُ. وَمَا تَمَسَّكَ بِهِ الْخَوَارِجُ وَالْمُعْتَزِلَةُ وَأَضْرَابُهُمْ مِنَ التَّشَبُّثِ بِنُصُوصِ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ الْأَصْغَرِ وَاسْتِدْلَالِهِمْ بِهِ عَلَى الْأَكْبَرِ فَذَلِكَ مِمَّا جَنَتْهُ أَفْهَامُهُمُ الْفَاسِدَةُ وَأَذْهَانُهُمُ الْبَعِيدَةُ وَقُلُوبُهُمُ الْغُلْفُ, فَضَرَبُوا نُصُوصَ الْوَحْيِ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ, وَاتَّبَعُوا مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ. فَقَالَتِ الْخَوَارِجُ: الْمُصِرُّ عَلَى كَبِيرَةٍ مِنْ زِنًا أَوْ شُرْبِ خَمْرٍ أَوْ رِبًا كَافِرٌ مُرْتَدٌّ خَارِجٌ مِنَ الدِّينِ بِالْكُلِّيَّةِ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ وَلَا يُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ وَلَوْ أَقَرَّ لِلَّهِ تَعَالَى بِالتَّوْحِيدِ وَلِلرَّسُولِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالْبَلَاغِ, وَصَلَّى وَصَامَ وَزَكَّى وَحَجَّ وَجَاهَدَ وَهُوَ مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ أَبَدًا مَعَ إِبْلِيسَ وَجُنُودِهِ وَمَعَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ. وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: الْعُصَاةُ لَيْسُوا مُؤْمِنِينَ وَلَا كَافِرِينَ وَلَكِنْ نُسَمِّيهِمْ فَاسِقِينَ, فَجَعَلُوا الْفِسْقَ مَنْزِلَةً بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ. وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَحْكُمُوا لَهُ بِمَنْزِلَةٍ فِي الْآخِرَةِ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ. بَلْ قَضَوْا بِتَخْلِيدِهِ فِي النَّارِ أَبَدًا كَالَّذِينِ قَبْلَهُمْ, فَوَافَقُوا الْخَوَارِجَ مَآلًا وَخَالَفُوهُمْ مَقَالًا, وَكَانَ الْكُلُّ مُخْطِئِينَ ضُلَّالًا. وَقَابَلَ ذَلِكَ الْمُرْجِئَةُ فَقَالُوا: لَا تَضُرُّ الْمَعَاصِي مَعَ الْإِيمَانِ لَا بِنَقْصٍ ولا مُنَافَاةٍ, وَلَا يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ بِذَنْبٍ دُونَ الْكُفْرِ بِالْكُلِّيَّةِ. وَلَا تَفَاضُلَ عِنْدَهُمْ بَيْنَ إِيمَانِ الْفَاسِقِ الْمُوَحِّدِ وَبَيْنَ إِيمَانِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ, حَتَّى وَلَا تَفَاضُلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمَلَائِكَةِ, لَا وَلَا فَرْقَ عِنْدَهُمْ بَيْنَ المؤمنين والمنافقين, إذ الْكُلُّ مُسْتَوْفِي النُّطْقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ كَمَا قَدَّمْنَا اعْتِقَادَهُمْ فِي بَحْثِ الْإِيمَانِ. نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى الْعَافِيَةَ.
4- العاصي لا يخلد في النار وأمره إلى الله
4- الْعَاصِي لَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ: وَلَا نَقُولُ إِنَّهُ فِي النَّارِ ... مُخَلَّدٌ بَلْ أَمْرُهُ لِلْبَارِي تَحْتَ مَشِيئَةِ الْإِلَهِ النَّافِذَهْ ... إِنْ شَا عَفَا عَنْهُ وَإِنْ شَا آخَذَهْ بِقَدْرِ ذَنْبِهِ إِلَى الْجِنَانِ ... يَخْرُجُ إِنْ مَاتَ عَلَى الْإِيمَانِ "وَلَا نَقُولُ إِنَّهُ" أَيِ: الْفَاسِقِ بِالْمَعَاصِي الَّتِي لَا تُوجِبُ كُفْرًا "فِي النَّارِ مُخَلَّدٌ" هَذِهِ هِيَ الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ مِنْ مَسَائِلِ الْفَصْلِ "بَلْ نَقُولُ أَمْرُهُ" مَرْدُودٌ حُكْمَهُ "لِلْبَارِي" فِي الْجَزَاءِ وَالْعَفْوِ "تَحْتَ مَشِيئَةِ الْإِلَهِ النَّافِذَهْ" فِي خَلْقِهِ "إِنْ شَاءَ" اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ "عَفَا عَنْهُ" وَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ بِرَحْمَتِهِ وَفَضْلِهِ "وَإِنْ شَاءَ آخَذَهْ" أَيْ: جَازَاهُ وَعَاقَبَهُ "بِقَدْرِ ذَنْبِهِ" الَّذِي مَاتَ مُصِرًّا عَلَيْهِ, كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةِ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ وَحَوْلَهُ عِصَابَةً مِنْ أَصْحَابِهِ: "بَايِعُونِي عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا, وَلَا تَسْرِقُوا, وَلَا تَزْنُوا, وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ, وَلَا تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ, وَلَا تَعْصُوا فِي مَعْرُوفٍ. فَمَنْ وَفَّى مِنْكُمْ فَأَجُرُهُ عَلَى اللَّهِ, وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ بِهِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ, وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا ثُمَّ سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ فَهُوَ إِلَى اللَّهِ: إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ, وَإِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ" فَبَايَعْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ1, "وَإِلَى الْجِنَانِ يَخْرُجُ" مِنَ النَّارِ "إِنْ" كَانَ "مَاتَ عَلَى الْإِيمَانِ" كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَحَادِيثِ الشَّفَاعَةِ وَإِنَّهُ لَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ أَحَدٌ مَاتَ عَلَى التَّوْحِيدِ بَلْ يَخْرُجُ مِنْهَا بِرَحْمَةِ أَرْحَمِ الرَّحِمِينَ ثُمَّ بِشَفَاعَةِ الشَّافِعِينَ. وَالْعَرْضُ تَيْسِيرُ الْحِسَابِ فِي النَّبَا ... من يُنَاقَشِ الْحِسَابَ عُذِّبَا فِي هَذَا الْبَيْتِ إِشَارَةٌ إِلَى تَفْسِيرِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الِانْشِقَاقِ: 8] الْآيَاتِ. كَمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ طُرُقٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَيْسَ أَحَدٌ يُحَاسَبُ إِلَّا هَلَكَ" قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ, أَلَيْسَ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الِانْشِقَاقِ: 8] قَالَ: "ذَلِكَ الْعَرْضُ, يُعْرَضُونَ, وَمَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ هَلَكَ" 1. وَفِي رِوَايَةٍ "عُذِّبَ" وَقَدْ قَدَّمْنَا مِنْ نُصُوصِ الْحَشْرِ وَأَحْوَالِ الْمَوْقِفِ وَالْمِيزَانِ وَنَشْرِ الصُّحُفِ وَالْعَرْضِ وَالْحِسَابِ وَالصِّرَاطِ وَالْشَفَاعَاتِ وَغَيْرِهَا مَا يُعْلَمُ بِهِ تَفَاوُتُ مَرَاتِبِ النَّاسِ وَتَبَايُنُ أَحْوَالِهِمْ فِي الْآخِرَةِ بِحَسَبِ تَفَاوُتِهِمْ فِي الدَّارِ الدُّنْيَا فِي طَاعَةِ رَبِّهِمْ وَضِدِّهَا مِنْ سَابِقٍ وَمُقْتَصِدٍ وَظَالِمٍ لِنَفْسِهِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّ الَّذِي أَثْبَتَتْهُ الْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ وَالسُّنَنُ النَّبَوِيَّةُ وَدَرَجَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ وَالصَّدْرُ الْأَوَّلُ مِنَ الصَّحَابَةِ والتابعين لهم لإحسان مِنْ أَئِمَّةِ التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ أَنَّ الْعُصَاةَ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ عَلَى ثَلَاثِ طَبَقَاتٍ: الطَّبَقَةُ الْأُولَى: قَوْمٌ رُجِّحَتْ حَسَنَاتُهُمْ بِسَيِّئَاتِهِمْ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ وَلَا تَمَسُّهُمُ النَّارُ أَبَدًا. الطَّبَقَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْمٌ تَسَاوَتْ حَسَنَاتُهُمْ وَسَيِّئَاتُهُمْ وَتَكَافَأَتْ فَقَصَّرَتْ بِهِمْ سَيِّئَاتِهِمْ عَنِ الْجَنَّةِ وَتَجَاوَزَتْ بِهِمْ حَسَنَاتُهُمْ عَنِ النَّارِ, وَهَؤُلَاءِ هُمْ أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ؛ الَّذِينَ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ يُوقَفُونَ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يُوقَفُوا, ثُمَّ يُؤْذَنُ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ, كَمَا قَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بَعْدَ أَنْ دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ
رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ، أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} [الْأَعْرَافِ: 44-49] . الطَّبَقَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْمٌ لَقَوُا اللَّهَ تَعَالَى مُصِرِّينَ عَلَى كَبَائِرِ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشِ, وَمَعَهُمْ أَصْلُ التَّوْحِيدِ, فَرُجِّحَتْ سَيِّئَاتُهُمْ بِحَسَنَاتِهِمْ, فَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ النَّارَ بِقَدْرِ ذُنُوبِهِمْ, فَمِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ إِلَى كَعْبَيْهِ, وَمِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ إِلَى أَنْصَافِ سَاقَيْهِ, وَمِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ, وَمِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ إِلَى حِقْوَيْهِ, وَمِنْهُمْ فَوْقَ ذَلِكَ, حَتَّى إِنَّ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُحَرَّمْ مِنْهُ عَلَى النَّارِ إِلَّا أَثَرَ السُّجُودِ؛ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَى النَّارِ أَنْ تَأْكُلَ أَثَرَ السُّجُودِ, وَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ يَأْذَنُ اللَّهُ تَعَالَى بِالشَّفَاعَةِ فِيهِمْ لِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلِغَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ بَعْدِهِ وَالْأَوْلِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ وَمَنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يُكْرِمَهُ, فَيَحِدُّ لَهُمْ حَدًّا فَيُخْرِجُونَهُمْ, ثُمَّ يَحِدُّ لَهُمْ حَدًّا فَيُخْرِجُونَهُمْ, ثُمَّ هَكَذَا فَيُخْرِجُونَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ وَزْنُ دِينَارٍ مِنْ خَيْرٍ, ثُمَّ مِنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ نِصْفُ دِينَارٍ مِنْ خَيْرٍ, ثُمَّ بُرَّةٌ, ثُمَّ خَرْدَلَةٌ, ثُمَّ ذَرَّةٌ, ثُمَّ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ إِلَى أَنْ يَقُولَ الشُّفَعَاءُ: رَبَّنَا لَمْ نَذَرَ فِيهَا خَيْرًا. وَيُخْرِجُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ النَّارِ أَقْوَامًا لَا يَعْلَمُ عِدَّتَهُمْ إِلَّا هُوَ بِدُونِ شَفَاعَةِ الشَّافِعِينَ, وَلَمْ يُخَلَّدْ فِي النَّارِ أَحَدٌ مِنَ الْمُوَحِّدِينَ؛ وَلَوْ عَمِلَ أَيَّ عَمَلٍ: وَلَكِنْ كُلُّ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ أَعْظَمَ إِيمَانًا وَأَخَفَّ ذَنْبًا كَانَ أَخَفَّ عَذَابًا فِي النَّارِ وَأَقَلَّ مُكْثًا فِيهَا وَأَسْرَعَ خُرُوجًا مِنْهَا, وَكُلُّ مَنْ كَانَ أَضْعَفَ إِيمَانًا وَأَعْظَمَ ذَنْبًا كَانَ بِضِدِّ ذَلِكَ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ, وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْبَابِ لَا تُحْصَى كَثْرَةً, وَقَدْ قَدَّمْنَا مِنْهَا مَا فِيهِ كِفَايَةٌ. وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى أَشَارَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِقَوْلِهِ: "مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ نَفَعَتْهُ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ يُصِيبُهُ قَبْلَ ذَلِكَ مَا أَصَابَهُ" 1. وَهَذَا مَقَامٌ ضَلَّتْ فِيهِ الْأَفْهَامُ, وَزَلَّتْ فِيهِ الْأَقْدَامُ, وَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ, وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.
قَالَ إِمَامُ الْأَئِمَّةِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ بَعْدَ سَرْدِهِ أَحَادِيثَ الشَّفَاعَةِ بِأَسَانِيدِهَا قَالَ1: قَدْ رَوَيْنَا أَخْبَارًا عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَحْسَبُ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْجَهْلِ وَالْعِنَادِ أَنَّهَا خِلَافَ هَذِهِ الْأَخْبَارِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا مَعَ كَثْرَتِهَا وَعَدَالَةِ نَاقِلِيهَا فِي الشَّفَاعَةِ وَفِي إِخْرَاجِ بَعْضِ أَهْلِ التَّوْحِيدِ مِنَ النَّارِ بَعْدَ مَا دَخَلُوهَا بِذُنُوبِهِمْ وَخَطَايَاهُمْ, وَلَيْسَتْ بِخِلَافِ تِلْكَ الْأَخْبَارِ عِنْدَنَا بِحَمْدِ اللَّهِ وَنِعْمَتِهِ, وَأَهْلُ الْجَهْلِ الَّذِينَ ذَكَرْتُهُمْ فِي هَذَا الْفَصْلِ صِنْفَانِ: صِنْفٌ مِنْهُمْ مَنِ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ أَنْكَرَتْ إِخْرَاجَ أَحَدٍ مِنَ النَّارِ مِمَّنْ يَدْخُلُ النَّارَ, وَأَنْكَرَتْ هَذِهِ الْأَخْبَارَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي الشَّفَاعَةِ. الصِّنْفُ الثَّانِي: الْغَالِيَةُ مِنَ الْمُرْجِئَةِ الَّتِي تَزْعُمُ أَنَّ النَّارَ حُرِّمَتْ عَلَى مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا الله, تتأول هذا الْأَخْبَارَ الَّتِي رُوِيَتْ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ عَلَى خِلَافِ تَأْوِيلِهَا. فَأَوَّلُ مَا نَبْدَأُ بِذِكْرِ الْأَخْبَارِ بِأَسَانِيدِهَا وَأَلْفَاظِ مُتُونِهَا ثُمَّ نُبَيِّنُ مَعَانِيهَا بِعَوْنِ اللَّهِ وَمَشِيئَتِهِ وَنَشْرَحُ وَنُوَضِّحُ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِمُخَالِفَةٍ لِلْأَخْبَارِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي الشَّفَاعَةِ وَفِي إِخْرَاجِ مَنْ قَضَى اللَّهُ إِخْرَاجَهُمْ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ مِنَ النَّارِ. ثُمَّ سَاقَ مِنْهَا حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ, وَلَا يَدْخُلُ النَّارَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ" 2. وَحَدِيثَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "إِنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً لَا يَقُولُهَا عَبْدٌ حَقًّا مِنْ قَلْبِهِ فَيَمُوتُ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا حُرِّمَ عَلَى النَّارِ؛ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ" 3.
وَحَدِيثَ عِتْبَانَ بْنِ مَالِكٍ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَنْ يُوَافَى عَبْدٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُوَ يَقُولُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا حُرِّمَ عَلَى النَّارِ" -وَفِي رِوَايَةٍ: "فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ- أَنْ تَأْكُلَ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ" 1. وَحَدِيثَ عُثْمَانَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مَنْ مَاتَ وَهُوَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ" 2. وَحَدِيثَ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ مَاتَ وَهُوَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ صَادِقًا مِنْ قَلْبِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ" 3. وَحَدِيثَ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "مَنْ لَقِيَ اللَّهَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ" , وَفِي رِوَايَةٍ "حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ" 4. وَحَدِيثَ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَعَثَهُ فَقَالَ: "اذْهَبْ فَنَادِ فِي النَّاسِ أَنَّ مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُوقِنًا -أَوْ مُخْلِصًا- دَخَلَ الْجَنَّةَ" 5.
وَحَدِيثَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا تَرَكْتُ مِنْ حَاجَةٍ وَلَا دَاجَةٍ إِلَّا أَتَيْتُ عليها, قال: "أوتشهد أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ" قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: "فَإِنَّ هَذَا يَأْتِي عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ" 1. وَحَدِيثَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَمَرَهُ أَنْ يُؤَذِّنَ النَّاسَ أَنَّ مَنْ يَشْهَدْ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ مُخْلِصًا فَلَهُ الْجَنَّةُ. قَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِذًا يَتَّكِلُوا. قَالَ: "فَدَعْهُمْ" 2. وَحَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ" 3. وَحَدِيثَ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قَالَ لِي جِبْرِيلُ: مَنْ مَاتَ من أمتك لايشرك بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ وَلَمْ يَدْخُلِ النَّارَ. قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ. قَالَ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ" 4. وَحَدِيثَ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَرَأَ {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرَّحْمَنِ: 46] قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرَّحْمَنِ: 46] قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرَّحْمَنِ: 46] قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرَّحْمَنِ: 46] قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟ قَالَ: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرَّحْمَنِ: 46]
وَإِنْ زَنَى وَسَرَقَ, وَرَغْمَ أَنْفِ أَبِي الدَّرْدَاءِ" فَلَا أَزَالُ أَقْرَؤُهَا كَذَلِكَ حَتَّى أَلْقَاهُ1. حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ, قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَلِمَةٌ وَأَنَا أَقُولُ أُخْرَى قَالَ: "مَنْ مَاتَ وَهُوَ يَجْعَلُ لِلَّهِ نِدًّا دَخَلَ النَّارَ". قَالَ وَأَقُولُ: مَنْ مَاتَ وَهُوَ لَا يَجْعَلُ لِلَّهِ نِدًّا دَخَلَ الْجَنَّةَ2. قَالَ أَبُو بَكْرٍ3: قَدْ كُنْتُ أَمْلَيْتُ أَكْثَرَ هَذَا الْبَابِ مِنْ كِتَابِ الْإِيمَانِ وَبَيَّنْتُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مَعْنَى هَذِهِ الْأَخْبَارِ وَأَنَّ مَعْنَاهَا لَيْسَ كَمَا يَتَوَهَّمُهُ الْمُرْجِئَةُ, وَبِيَقِينٍ يَعْلَمُ كُلُّ عَالِمٍ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمْ يُرِدْ بِهَذِهِ الْأَخْبَارِ أَنَّ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَوْ زَادَ مَعَهَا شَهَادَةَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِأَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ غَيْرِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلَا آمَنَ بِشَيْءٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَا بِجَنَّةٍ وَلَا نَارٍ وَلَا بَعْثٍ وَلَا حِسَابٍ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ لَا يُعَذَّبُ بِالنَّارِ. وَلَئِنْ جَازَ لِلْمُرْجِئَةِ الِاحْتِجَاجُ بِهَذِهِ الْأَخْبَارِ, وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْأَخْبَارُ ظَاهِرُهَا خِلَافُ أَصْلِهِمْ وَخِلَافُ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَخِلَافُ سُنَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَجَازَ لِلْجَهْمِيَّةِ الِاحْتِجَاجُ بِأَخْبَارٍ رُوِيَتْ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا تُؤُوِّلَتْ عَلَى ظَاهِرِهَا اسْتَحَقَّ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ رَبُّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا نَبِيُّهُ وَإِنْ لَمْ يَنْطِقْ بِذَلِكَ لِسَانُهُ وَلَا يَزَالُ يُسْمَعُ أَهْلُ الْجَهْلِ وَالْعِنَادِ يَحْتَجُّونَ بِأَخْبَارٍ مُخْتَصَرَةٍ غَيْرِ مُتَقَصَّاةٍ وَبِأَخْبَارٍ مُجْمَلَةٍ غَيْرِ مُفَصَّلَةٍ لَا يَفْهَمُونَ أُصُولَ الْعِلْمِ فَيَسْتَدِلُّونَ بِالْمُتَقَصِّي مِنَ الْأَخْبَارِ عَلَى مُخْتَصَرِهَا وَبِالْمُفَسَّرِ مِنْهَا عَلَى مُجْمَلِهَا, قَدْ ثَبَتَتِ الْأَخْبَارُ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِلَفْظِهِ لَوْ حُمِلَتْ عَلَى ظَاهِرِهَا كَمَا حَمَلَتِ الْمُرْجِئَةُ الْأَخْبَارَ
الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ عَلَى ظَاهِرِهَا لَكَانَ الْعَالِمُ بِقَلْبِهِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُسْتَحِقًّا لِلْجَنَّةِ, وَإِنْ لَمْ يُقِرَّ بِذَلِكَ بِلِسَانِهِ وَلَا أَقَرَّ بِشَيْءٍ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْإِقْرَارِ بِهِ, وَلَا آمَنَ بِقَلْبِهِ بِشَيْءٍ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِالْإِيمَانِ بِهِ, وَلَا عَمِلَ بِجَوَارِحِهِ شَيْئًا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ, وَلَا انْزَجَرَ عَنْ شَيْءٍ حَرَّمَهُ اللَّهُ مِنْ سَفْكِ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَسَبْيِ ذَرَارِيهِمْ وَأَخْذِ أَمْوَالِهِمْ وَاسْتِحْلَالِ حَرَمِهِمْ, فَاسْمَعِ الْخَبَرَ الَّذِي ذَكَرْتَ أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى ظَاهِرِهِ كَمَا حَمَلَتِ الْمُرْجِئَةُ الْأَخْبَارَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا عَلَى ظَاهِرِهَا1. ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ عُثْمَانَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مَنْ مَاتَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ" 2. وَحَدِيثَ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "مَنْ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ رَبُّهُ وَأَنِّي نَبِيُّهُ صَادِقًا مِنْ قَلْبِهِ -وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى فِلْذَةِ صَدْرِهِ- حَرَّمَ اللَّهُ لَحْمَهُ عَلَى النَّارِ" 3, وَحَدِيثُ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "مَنْ مَاتَ وَهُوَ يُوقِنُ بِقَلْبِهِ أَنَّ اللَّهَ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ قَائِمَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ" قَالَ ابْنُ سِيرِينَ: "إِمَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ" وَإِمَّا قَالَ: "نَجَا مِنَ النَّارِ"4, كَيْفَ جَازَ لِلْجَهْمِيِّ الِاحْتِجَاجُ بِهَذِهِ الْأَخْبَارِ أَنَّ الْمَرْءَ يَسْتَحِقُّ الْجَنَّةَ بِتَصْدِيقِ الْقَلْبِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَبِأَنَّ اللَّهَ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ قَائِمَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ, وَيَتْرُكُ الِاسْتِدْلَالَ بِمَا سَنُبَيِّنُهُ بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ مَعْنَى هَذِهِ الْأَخْبَارِ, لَمْ يُؤْمَنْ أَنْ يَحْتَجَّ جَاهِلٌ لَمْ يَعْرِفْ دِينَ اللَّهِ وَلَا أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ بِخَبَرِ عُثْمَانَ عَنِ النَّبِيِّ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "مَنْ عَلِمَ أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ حَقٌّ وَاجِبٌ دَخَلَ الْجَنَّةَ" 5.
فَيَدَّعِي أَنَّ جَمِيعَ الْإِيمَانِ هُوَ الْعِلْمُ بِأَنَّ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ حَقٌّ وَاجِبٌ وَإِنْ لَمْ يُقِرَّ بِلِسَانِهِ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِالْإِقْرَارِ بِهِ, وَلَا صَدَّقَ بِقَلْبِهِ بِشَيْءٍ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِالتَّصْدِيقِ بِهِ وَلَا أَطَاعَ فِي شَيْءٍ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَلَا انْزَجَرَ عَنْ شَيْءٍ حَرَّمَهُ اللَّهُ, إِذِ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ أَخْبَرَ أَنَّ مَنْ عَلِمَ أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ حَقٌّ وَاجِبٌ دَخَلَ الْجَنَّةَ كَمَا أَخْبَرَ أَنَّ مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ عُثْمَانَ بِسَنَدِهِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَإِنْ جَازَ الِاحْتِجَاجُ بِمِثْلِ هَذَا الْخَبَرِ الْمُخْتَصَرِ فِي الْإِيمَانِ وَاسْتِحْقَاقِ الْمَرْءِ بِهِ الْجَنَّةَ وَتُرِكَ الِاسْتِدْلَالُ بِالْأَخْبَارِ الْمُفَسَّرَةِ الْمُتَقَصَّاةِ لَمْ يُؤْمَنْ أَنْ يَحْتَجَّ جَاهِلٌ مُعَانِدٌ فَيَقُولُ: بَلِ الْإِيمَانُ إِقَامُ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَصَلَاةِ الْعَصْرِ وَأَنَّ مُصَلِّيَهَا يَسْتَوْجِبُ الْجَنَّةَ وَيُعَاذُ مِنَ النَّارِ وَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِالتَّصْدِيقِ وَلَا بِالْإِقْرَارِ بِمَا أُمِرَ أَنْ يُصَدِّقَ بِهِ وَيُقَرَّ بِهِ, وَلَا يَعْمَلُ بِشَيْءٍ مِنَ الطَّاعَاتِ الَّتِي فَرَضَ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ, وَلَا الزَّجْرِ عَنْ شَيْءٍ مِنَ الْمَعَاصِي الَّتِي حَرَّمَهَا اللَّهُ, ويحتج بخبر عمار بْنِ رُؤَيْبَةَ فَذَكَرَهُ بإسناده إلى عمار بْنِ رُؤَيْبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "مَنْ صَلَّى قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ" فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ: وَأَنَا سَمِعْتُهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ1. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ أَمْلَيْتُ طُرُقَ هَذَا الْخَبَرِ فِي كِتَابِ الْمُخْتَصَرِ مِنْ كِتَابِ الصَّلَاةِ مَعَ أَخْبَارِ النَّبِيِّ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "مَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فَهُوَ فِي ذِمَّةِ اللَّهِ" 2 وَكُلُّ عَالِمٍ يَعْلَمُ دِينَ اللَّهِ وَأَحْكَامِهِ يَعْلَمُ أَنَّ هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ لَا تُوجِبَانِ الْجَنَّةَ مَعَ ارْتِكَابِ جَمِيعِ الْمَعَاصِي, إِنَّمَا رُوِيَتْ فِي فَضَائِلِ هَذِهِ الْأَعْمَالِ, وَإِنَّمَا رُوِيَتْ أَخْبَارَ النَّبِيِّ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ" 3 فَضِيلَةً لِهَذَا الْقَوْلِ, لَا أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ كُلُّ الْإِيمَانِ. قُلْتُ4: لِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ لَوَازِمُ وَمُقْتَضَيَاتٌ وَشُرُوطٌ مُقَيِّدٌ دُخُولَ الْجَنَّةِ بِالْتِزَامِ
قَائِلِهَا لِجَمِيعِهَا وَاسْتِكْمَالِهِ إِيَّاهَا كَمَا قَدَّمْنَا بَسْطَهُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَئِنْ جَازَ لِجَاهِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ شَهَادَةَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ جَمِيعُ الْإِيمَانِ, إِذِ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَخْبَرَ أَنَّ قَائِلَهَا يَسْتَوْجِبُ الْجَنَّةَ وَيُعَاذُ مِنَ النَّارِ لَمْ يُؤْمَنْ أَنْ يَدَّعِيَ جَاهِلٌ مُعَانِدٌ أَيْضًا أَنَّ جَمِيعَ الْإِيمَانِ الْقِتَالُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَوَاقَ نَاقَةٍ فَيَحْتَجُّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ قَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَوَاقَ نَاقَةٍ دَخَلَ الْجَنَّةَ" 1 كَاحْتِجَاجِ الْمُرْجِئَةِ بِقَوْلِ النَّبِيِّ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ" وَيَقُولُ مُعَانِدٌ آخَرُ جَاهِلٌ: إِنَّ الْإِيمَانَ بِكَمَالِهِ الْمَشْيُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى تُغَبَّرَ قَدَمَا الْمَاشِي, وَيَحْتَجُّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنِ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ" 2 وَبِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يجتمع غبار فب سَبِيلِ اللَّهِ وَدُخَانُ جَهَنَّمَ فِي مَنْخَرَيْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ" 3. وَيَدَّعِي جَاهِلٌ آخَرُ أَنَّ الْإِيمَانَ كُلَّهُ عِتْقُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَيَحْتَجُّ بِأَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً أَعْتَقَ اللَّهُ بكل عضوا مِنْهُ عُضْوًا مِنَ النَّارِ" 4, وَيَدَّعِي جَاهِلٌ آخَرُ أَنَّ جَمِيعَ الْإِيمَانِ الْبُكَاءُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى, وَيَحْتَجُّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَدْخُلُ النَّارَ مَنْ بَكَى مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى" 5, وَيَدَّعِي جَاهِلٌ آخَرُ أَنَّ جَمِيعَ
الْإِيمَانِ صَوْمُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَيَحْتَجُّ بِأَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بَاعَدَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا" 1, وَيَدَّعِي جَاهِلٌ آخَرُ أَنَّ جَمِيعَ الْإِيمَانِ قَتْلُ كَافِرٍ وَيَحْتَجُّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَجْتَمِعُ كَافِرٌ وَقَاتِلُهُ فِي النَّارِ أَبَدًا" 2 ثُمَّ ذَكَرَهُ بِسَنَدِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. ثُمَّ قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَهَذَا الْجِنْسُ مِنْ فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ يَطُولُ بِتَقَصِّيهِ الْكِتَابُ, وَفِي قَدْرِ مَا ذَكَرْنَا غُنْيَةٌ وَكِفَايَةٌ لِمَا لَهُ قَصَدْنَا أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِنَّمَا أَخْبَرَ بِفَضَائِلِ هَذِهِ الْأَعْمَالِ الَّتِي ذَكَرْنَا وَمَا هُوَ مِثْلُهَا لَا أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَرَادَ أَنَّ كُلَّ عَمَلٍ ذَكَرَهُ أَعْلَمَ أَنَّ عَامِلَهُ يَسْتَوْجِبُ بِفِعْلِهِ الْجَنَّةَ أَوْ يُعَاذُ مِنَ النَّارِ أَنَّهُ جَمِيعُ الْإِيمَانِ, وَكَذَاكَ إِنَّمَا أَرَادَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِقَوْلِهِ: "مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ" أَوْ "حُرِّمَ عَلَى النَّارِ" فَضِيلَةً لِهَذَا الْقَوْلِ لَا أَنَّ جَمِيعَ الْإِيمَانِ كَمَا ادَّعَى مَنْ لَا يَفْهَمُ الْعِلْمَ وَيُعَانِدُ فَلَا يَتَعَلَّمُ هَذِهِ الصِّنَاعَةَ مِنْ أَهْلِهَا. وَمَعْنَى قَوْلِهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَجْتَمِعُ كَافِرٌ وَقَاتِلُهُ فِي النَّارِ أَبَدًا" هَذَا لَفْظٌ مُخْتَصَرُهُ الْخَبَرُ الْمُقْتَضِي لِهَذِهِ اللَّفْظَةِ الْمُخْتَصَرَةِ مَا حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبُ بْنُ اللَّيْثِ قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْعَجْلَانَ عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "لَا يَجْتَمِعَانِ فِي النَّارِ اجْتِمَاعًا يَعْنِي أَحَدُهُمَا مُسْلِمٌ قَتَلَ كَافِرًا ثُمَّ سَدَّدَ الْمُسْلِمُ وَقَارَبَ" 3. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لِذَاكَ نَقُولُ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ الَّتِي ذَكَرْنَا: مَنْ عَمِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بَعْضَ تِلْكَ الْأَعْمَالِ ثُمَّ سَدَّدَ وَقَارَبَ وَمَاتَ عَلَى إِيمَانِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ وَلَمْ يَدْخُلِ النَّارَ مَوْضِعَ الْكُفْرِ مِنْهَا وَإِنِ ارْتَكَبَ بَعْضَ الْمَعَاصِي, لِذَاكَ لَا يَجْتَمِعُ قَاتِلُ الْكَافِرِ إِذَا مَاتَ عَلَى إِيمَانِهِ مَعَ الْكَافِرِ الْمَقْتُولِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ مِنَ النَّارِ, لَا إِنَّهُ
لَا يَدْخُلُ النَّارَ وَلَا مَوْضِعًا مِنْهَا وَإِنِ ارْتَكَبَ جَمِيعَ الْكَبَائِرِ خَلَا الشِّرْكَ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا لَمْ يَشَأْ تَعَالَى أَنْ يَغْفِرَ لَهُ مَا دُونَ الشِّرْكِ, فَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّ لِلنَّارِ سَبْعَةَ أَبْوَابٍ فَقَالَ لِإِبْلِيسَ: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ} [الْحِجْرِ: 44-42] فَأَعْلَمْنَا رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ قَسَّمَ تَابِعِي إِبْلِيسَ مِنَ الْغَاوِينَ سَبْعَةَ أَجْزَاءَ عَلَى عَدَدِ أَبْوَابِ النَّارِ, فَجَعَلَ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءًا مَعْلُومًا, وَاسْتَثْنَى عِبَادَهُ الْمُخْلِصِينَ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ, فَكُلُّ مُرْتَكِبٍ مَعْصِيَةً زَجَرَ اللَّهُ عَنْهَا فَقَدْ أَغْوَاهُ إِبْلِيسُ, وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ يَشَاءُ غُفْرَانَ كُلِّ مَعْصِيَةٍ يَرْتَكِبُهَا الْمُسْلِمُ دُونَ الشِّرْكِ وَإِنْ لَمْ يَتُبْ مِنْهَا, لِذَاكَ أَعْلَمَنَا فِي مُحْكَمِ تَنْزِيلِهِ قَوْلَهُ: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النِّسَاءِ: 116] وَأَعْلَمَنَا خَالِقُنَا عَزَّ وَجَلَّ أَنَّ آدَمَ الَّذِي خَلَقَهُ اللَّهُ بِيَدِهِ وَأَسْكَنَهُ جَنَّتَهُ وَأَمْرَ مَلَائِكَتِهِ بِالسُّجُودِ لَهُ عَصَاهُ فَغَوَى, وَأَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِرَأْفَتِهِ وَرَحْمَتِهِ اجْتَبَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى, وَلَمْ يَحْرِمْهُ اللَّهُ بِارْتِكَابِ هَذَا الْحُوبَ بَعْدَ ارْتِكَابِهِ إِيَّاهُ, فَمَنْ لَمْ يَغْفِرِ اللَّهُ لَهُ حَوْبَتَهُ الَّتِي ارْتَكَبَهَا وَأَوْقَعَ عَلَيْهِ اسْمَ غَاوٍ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الْأَجْزَاءِ جُزْءًا وَقِسْمًا لِأَبْوَابِ النَّارِ السَّبْعَةِ. وَفِي ذِكْرِهِ آدَمَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه: 121] مَا يُبَيِّنُ وَيُوَضِّحُ أَنَّ اسْمَ الْغَاوِي قَدْ يَقَعُ عَلَى مُرْتَكِبِ خَطِيئَةٍ قَدْ زَجَرَ اللَّهُ عَنِ إِتْيَانِهَا وَأَنْ لَمْ تَكُنْ تِلْكَ الْخَطِيئَةُ كُفْرًا وَلَا شِرْكًا وَلَا مَا يُقَارِبُهُمَا وَيُشْبِهُهُمَا, وَمُحَالٌ أَنْ يَكُونَ الْمُؤْمِنُ الْمُوَحِّدُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَلْبُهُ وَلِسَانُهُ الْمُطِيعُ لِخَالِقِهِ فِي أَكْثَرِ مَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَنَدَبَهُ إِلَيْهِ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ غَيْرَ الْمَفْرُوضِ عَلَيْهِ وَالْمُنْتَهِي عَنْ أَكْثَرِ الْمَعَاصِي وَإِنِ ارْتَكَبَ بَعْضَ الْمَعَاصِي وَالْحَوْبَاتِ فِي قِسْمِ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ وَدَعَا مَعَهُ آلِهَةً لَهُ أَوْ صَاحِبَةً أَوْ وَلَدًا -تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا- وَلَمْ يُؤْمِنْ بِشَيْءٍ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْإِيمَانِ بِهِ وَلَا أَطَاعَ اللَّهَ فِي شَيْءٍ أَمَرَ بِهِ مِنَ الْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ وَلَا انْزَجَرَ عَنْ مَعْصِيَةٍ نَهَى اللَّهُ عَنْهَا مُحَالٌ أَنْ يَجْتَمِعَ هَذَانِ فِي دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ مِنَ النَّارِ, وَالْعَقْلُ مُرَكَّبٌ عَلَى أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ أَعْظَمَ خَطِيئَةً وَأَكْثَرَ ذُنُوبًا لَمْ يَتَجَاوَزِ اللَّهُ عَنْ ذُنُوبِهِ كَانَ أَشَدَّ عَذَابًا فِي النَّارِ, كَمَا يَعْلَمُ كُلُّ عَاقِلٍ أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ أَكْثَرَ طَاعَةً لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَتَقَرُّبًا إِلَيْهِ بِفِعْلِ الْخَيْرَاتِ وَاجْتِنَابِ السَّيِّئَاتِ كَانَ أَرْفَعَ دَرَجَةً فِي الْجِنَانِ وَأَعْظَمَ ثَوَابًا وَأَجْزَلَ نِعْمَةً, فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ
يَتَوَهَّمَ عَاقِلٌ مُسْلِمٌ أَنَّ أَهْلَ التَّوْحِيدِ يَجْتَمِعُونَ فِي النَّارِ فِي الدَّرَجَةِ مَعَ مَنْ كَانَ يَفْتَرِي عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَيَدْعُو لَهُ شَرِيكًا أَوْ شُرَكَاءَ فَيَدْعُونَ لَهُ صَاحِبَةً وَوَلَدًا وَيَكْفُرُ بِهِ وَيُشْرِكُ وَيَكْفُرُ بِكُلِّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِالْإِيمَانِ بِهِ وَيُكَذِّبُ جَمِيعَ الرُّسُلِ وَيَتْرُكُ جَمِيعَ الْفَرَائِضِ وَيَرْتَكِبُ الْمَعَاصِيَ فَيَعْبُدُ النِّيرَانَ وَيَسْجُدُ لِلْأَصْنَامِ وَالصُّلْبَانِ, فَمَنْ لَمْ يَفْهَمْ هَذَا الْبَابَ لَمْ يَجِدْ بُدًّا مِنْ تَكْذِيبِ الْأَخْبَارِ الثَّابِتَةِ مِنَ الَّتِي ذَكَرْتُهَا عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي إِخْرَاجِ أَهْلِ التَّوْحِيدِ مِنَ النَّارِ, إِذْ مُحَالٌ أَنْ يُقَالَ أَخْرِجُوا مِنَ النَّارِ مَنْ لَيْسَ فِيهَا, وَأَكْثَرُ اسْتِحَالَةً مِنْ هَذَا أَنْ يُقَالَ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ لَيْسَ فِيهَا. وَفِي إِبْطَالِ أَخْبَارِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اضْمِحْلَالُ الدِّينِ وَإِبْطَالُ الْإِسْلَامِ, وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَ جَمِيعِ الْكُفَّارِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ مِنَ النَّارِ, وَلَا سَوَّى بَيْنِ عَذَابِ جَمِيعِهِمْ, قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النِّسَاءِ: 145] وَقَالَ: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غَافِرٍ: 46] . ثُمَّ لَمَّا انْتَهَى مِنَ الْكَلَامِ عَلَى مَا احْتَجَّ بِهِ الْمُرْجِئَةُ عَلَى بَاطِلِهِمْ وَكَفَرَ بِهِ الْخَوَارِجُ وَرَدُّوهُ بِبَاطِلٍ آخَرَ, شَرَعَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي بَيَانِ مَا تَشَبَّثَ بِهِ الْخَوَارِجُ وَاحْتَجُّوا بِهِ عَلَى بَاطِلِهِمْ, وَمَا كَفَرَ بِهِ الْمُرْجِئَةُ وَرَدُّوهُ بِبَاطِلٍ آخَرَ. فَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: بَابُ ذِكْرِ أَخْبَارٍ رُوِيَتْ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثَابِتَةً مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ, جَهِلَ مَعْنَاهَا فِرْقَتَانِ: فِرْقَةُ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْخَوَارِجِ احْتَجُّوا بِهَا وَادَّعُوا أَنَّ مُرْتَكِبَ الْكَبِيرَةِ إِذَا مَاتَ قَبْلَ التَّوْبَةِ مِنْهَا مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ الْجِنَانُ. وَالْفِرْقَةُ الْأُخْرَى الْمُرْجِئَةُ كَفَرَتْ بِهَذِهِ الْأَخْبَارِ وَأَنْكَرَتْهَا وَدَفَعَتْهَا جَهْلًا مِنْهَا بِمَعَانِيهَا. وَأَنَا ذَاكِرُهَا بِأَسَانِيدِهَا وَأَلْفَاظِ مُتُونِهَا وَمُبِينٌ مَعَانِيهَا بِتَوْفِيقِ اللَّهِ. ثُمَّ ذَكَرَ بِأَسَانِيدِهِ حَدِيثَ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَأَبِي بَكْرَةَ وَسَعْدِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ, قَالَ رَسُولَ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنِ ادَّعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ غَيْرُ أَبِيهِ فَالْجَنَّةُ عَلَيْهِ حَرَامٌ" 1.
وَحَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مَنِ انْتَسَبَ لِغَيْرِ أَبِيهِ فَلَنْ يَرِحَ بِرِيحِ الْجَنَّةِ, وَرِيحُهَا يُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ سَبْعِينَ عَامًا" 1. وَحَدِيثَ حُذَيْفَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَتَّاتٌ" 2 وَفِي رِوَايَةٍ "نَمَّامٌ"3. وَحَدِيثَ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ فَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ لَهُ النَّارَ وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ" فَقَالَ رَجُلٌ: إن كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا؟ قَالَ: "وَإِنْ كَانَ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ" 4. وَحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنِ النَّبِيِّ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ نَمَّامٌ وَلَا عَاقٌّ وَلَا مُدْمِنُ خَمْرٍ" 5.
وَحَدِيثَ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعٌ" 1. وَحَدِيثَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ثَلَاثَةٌ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ: الْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ, وَالدَّيُّوثُ وَرَجْلَةُ النِّسَاءِ" 2. وَحَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ثَلَاثَةٌ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: الْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ, وَمُدْمِنُ الْخَمْرِ, وَالْمَنَّانُ بِمَا أَعْطَى" 3 وَحَدِيثُ أَبِي بَكْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مَنْ قَتَلَ نَفْسَا مُعَاهِدَةً بِغَيْرِ حَقِّهَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ أَنْ يَشُمَّ رِيحَهَا" 4. ثُمَّ قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: مَعْنَى هَذِهِ الْأَخْبَارِ إِنَّمَا هُوَ عَلَى أَحَدِ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ أَيْ: بَعْضَ الْجِنَانِ؛ إِذِ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ أَعْلَمَ أَنَّهَا جِنَانٌ مِنْ جَنَّةٍ, وَاسْمُ الْجَنَّةِ وَاقِعٌ عَلَى كُلِّ جَنَّةٍ مِنْهَا, فَمَعْنَى هَذِهِ الْأَخْبَارِ الَّتِي ذَكَرَهَا مِنْ فِعْلِ كَذَا لِبَعْضِ الْمَعَاصِي حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ أَوْ لَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ مَعْنَاهُ لَا يَدْخُلُ بَعْضَ الْجِنَانِ الَّتِي هِيَ أَعْلَى وَأَشْرَفُ وَأَنْبَلُ وَأَكْثَرُ نَعِيمًا وَسُرُورًا وَبَهْجَةً وَأَوْسَعُ؛ لِأَنَّهُ أَرَادَ لَا يَدْخُلُ شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْجِنَانِ الَّتِي هِيَ فِي الْجَنَّةِ, وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو قَدْ بَيَّنَ خَبَرَهُ الَّذِي رَوَى عَنِ النَّبِيِّ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَاقٌّ وَلَا مَنَّانٌ وَلَا مُدْمِنُ خَمْرٍ" 5, إِنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ حَظِيرَةَ الْقُدُسِ مِنَ الْجَنَّةِ عَلَى مَا تُأُوِّلَتْ عَلَى أَحَدِ
الْمَعْنَيَيْنِ. ثُمَّ سَاقَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ قَالَ: "لَا يَدْخُلُ حَظِيرَةَ الْقُدُسِ سِكِّيرٌ وَلَا عَاقٌّ وَلَا مَنَّانٌ" 1. قَالَ: وَالْمَعْنَى الثَّانِي مَا قَدْ أَعْلَمْتُ أَصْحَابِي مَا لَا أُحْصِي مِنْ مَرَّةٍ أَنَّ كُلَّ وَعِيدٍ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لِأَهْلِ التَّوْحِيدِ فَإِنَّمَا هُوَ عَلَى شَرِيطَةٍ, أَيْ: إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَغْفِرَ وَيَصْفَحَ وَيَتَكَرَّمَ وَيَتَفَضَّلَ فَلَا يُعَذِّبُ عَلَى ارْتِكَابِ تِلْكَ الْخَطِيئَةِ, إِذِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ خَبَّرَ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ أَنَّهُ قَدْ يَشَاءُ أَنْ يَغْفِرَ دُونَ الشِّرْكِ مِنَ الذُّنُوبِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النِّسَاءِ: 116] قَدْ أَمْلَيْتُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ مَعَانِي الْقُرْآنِ الْكِتَابِ الْأَوَّلِ, وَاسْتَدْلَلْتُ أَيْضًا بِخَبَرٍ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِهَذَا الْمَعْنَى: وَسَاقَ بِإِسْنَادِهِ إِلَى قَيْسِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَشْعَثِ أَنَّ الْأَشْعَثَ وَهَبَ لَهُ غُلَامًا, فَغَضِبَ عَلَيْهِ وَقَالَ: وَاللَّهِ مَا وَهَبْتُ لَكَ شَيْئًا. فَلَمَّا أَصْبَحَ رَدَّهُ عَلَيْهِ وَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ صَبْرًا لِيَقْتَطِعَ مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَقِيَ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُوَ مُجْتَمِعٌ عَلَيْهِ غَضْبَانُ, إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ وَإِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ" 2. قُلْتُ3: وَتَقَدَّمَ حَدِيثُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ فِي قِصَّةِ الْبَيْعَةِ وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَاسْمَعُوا الْخَبَرَ الْمُصَرِّحَ بِصِحَّةِ مَا ذَكَرْتُ أَنَّهَا جِنَانٌ فِي جَنَّةٍ وَاسْمُ الْجَنَّةِ وَاقِعٌ عَلَى كُلِّ جَنَّةٍ مِنْهَا عَلَى الِانْفِرَادِ لِتَسْتَدِلُّوا بِذَلِكَ عَلَى صِحَّةِ تَأْوِيلِنَا الْأَخْبَارَ الَّتِي ذَكَرْنَا عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَنْ فَعَلَ كَذَا وَكَذَا لِبَعْضِ الْمَعَاصِي لَمْ
يَدْخُلِ الْجَنَّةَ إِنَّمَا أَرَادَ بَعْضَ الَّتِي هِيَ أَعْلَى وَأَشْرَفُ وَأَفْضَلُ وَأَنْبَلُ وَأَكْثَرُ نَعِيمًا وَأَوْسَعُ, إِذْ مُحَالٌ أَنْ يَقُولَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَنْ فَعَلَ كَذَا وَكَذَا لَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ يُرِيدُ لَا يَدْخُلُ شَيْئًا مِنَ الْجِنَانِ, وَيُخْبِرُ أَنَّهُ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ فَتَكُونُ إِحْدَى الْكَلِمَتَيْنِ دَافِعَةً الْأُخْرَى وَأَحَدُ الْخَبْرَيْنِ دَافِعًا الْآخَرَ؛ لِأَنَّ هَذَا الْجِنْسَ مِمَّا لَا يَدْخُلُهُ التَّنَاسُخُ, وَلَكِنَّهُ مِنْ أَلْفَاظِ الْعَامُ الَّذِي يُرَادُ بِهِ الْخَاصُّ. ثُمَّ سَاقَ بِإِسْنَادِهِ إِلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ الرُّبَيِّعَ أَتَتِ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْبِئْنِي عَنْ حَارِثَةَ أُصِيبَ يَوْمَ بَدْرٍ, فَإِنْ كَانَ فِي الْجَنَّةِ صَبَرْتُ وَاحْتَسَبْتُ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ اجْتَهَدْتُ فِي الْبُكَاءِ. فَقَالَ: "يَا أُمَّ حَارِثَةَ إِنَّهَا جِنَانٌ فِي جَنَّةٍ, وَإِنَّهُ أَصَابَ الْفِرْدَوْسَ الْأَعْلَى" 1. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ أَمْلَيْتُ أَكْثَرَ طُرُقِ هَذَا الْخَبَرِ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ, وَقَدْ أَمْلَيْتُ فِي كِتَابِ ذِكْرِ نَعِيْمِ الْجَنَّةِ ذِكْرَ دَرَجَاتِ الْجَنَّةِ وَبُعْدَ مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ. مِنْهَا أَنَّ إِخْبَارَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَيَتَرَاءَوْنَ أَهْلَ الْغُرَفِ كَمَا تَرَوْنَ الْكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ فِي أُفُقٍ مِنْ آفَاقِ السَّمَاءِ لِتَفَاضُلِ مَا بَيْنَهُمَا, وَقَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِهِ: تِلْكَ مَنَازِلُ الْأَنْبِيَاءِ لَا يَبْلُغُهَا غَيْرُهُمْ, قَالَ: "بَلَى رِجَالٌ آمَنُوا بِاللَّهِ وَصَدَّقُوا الْمُرْسَلِينَ" 2, وَأَمْلَيْتُ أَخْبَارَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ مِنْ دَرَجِ الْجَنَّةِ مَسِيرَةَ مِائَةِ عَامٍ3. فَمَعْنَى هَذِهِ الْأَخْبَارِ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ بعض الذنوب الذي يَرْتَكِبُهُ بَعْضُ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ مُرْتَكِبَهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ, مَعْنَاهَا لَا يَدْخُلُ الْعَالِي مِنَ الْجِنَانِ الَّتِي هِيَ دَارُ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ لَمْ يَرْتَكِبُوا تِلْكَ الذُّنُوبَ وَالْحَوْبَاتِ وَالْخَطَايَا. ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَنْ فَعَلَ كَذَا وَكَذَا لَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ يُرِيدُ لَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ الَّتِي يَدْخُلُهَا فِيهِ مَنْ لَمْ يَرْتَكِبْ هَذِهِ الْحَوْبَةَ؛ لِأَنَّهُ يُحْبَسُ عَنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ إِمَّا لِلْمُحَاسَبَةِ عَلَى الذَّنْبِ أَوْ لِإِدْخَالِهِ النَّارَ لِيُعَذَّبَ بِقَدْرِ ذَلِكَ الذَّنْبِ, إِنْ
كَانَ ذَلِكَ الذَّنْبُ مِمَّا يَسْتَوْجِبُ بِهِ الْمُرْتَكِبُ النَّارَ إِنْ لَمْ يَعْفُ اللَّهُ وَيَصْفَحْ وَيَتَكَرَّمْ فَيَغْفِرْ ذَلِكَ الذَّنْبَ فَمَعْنَى هَذِهِ الْأَخْبَارِ عَلَى هَذِهِ الْمَعَانِي؛ لِأَنَّهَا إِذَا لَمْ تُحْمَلْ عَلَى هَذِهِ الْمَعَانِي كَانَتْ عَلَى وَجْهِ التَّهَاتُرَ وَالتَّكَاذُبَ وَعَلَى الْعُلَمَاءِ أَنْ يَتَأَوَّلُوا أَخْبَارَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى مَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِذَا حَدَّثْتُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَظَنُّوا بِهِ الَّذِي هُوَ أَهْنَاهُ وَأَهْدَاهُ وَأَتْقَاهُ. ثُمَّ سَاقَهُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَذَكَرَهُ1. انْتَهَى كَلَامُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِاخْتِصَارِ بَعْضِ مُكَرَّرَهُ فَلَا تَسْتَطِلْهُ فَإِنَّهُ كَلَامٌ مَتِينٌ مِنْ إِمَامٍ مُتَضَلِّعٍ مِنْ مَعَانِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ذِي خِبْرَةٍ وَعِلْمٍ لِمَوَارِدِهَا وَمَصَادِرِهَا. وَقَوْلُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَعَلَى الْعُلَمَاءِ أَنْ يَتَأَوَّلُوا أَخْبَارَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمْ يَعِنْ رَحِمَهُ اللَّهُ التَّأْوِيلَ الَّذِي اصْطَلَحَهُ الْمُتَكَلِّمُونَ لِصَرْفِ النُّصُوصِ عَنْ مَعَانِيهَا إِلَى الِاحْتِمَالَاتِ الْبَعِيدَةِ الَّتِي هَضَمُوا بِهَا مَعَانِيَ النُّصُوصِ بِمَا اقتضته عقولهم إلى السَّخِيفَةُ وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ طَرِيقَتِهِ وَلَا مِنْ شَأْنِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ وَإِنَّمَا عَنَى مَا أَشَارَ إِلَيْهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كُتُبِهِ مِنْ حَمْلِ الْمُجْمَلِ عَلَى الْمُفَسَّرِ, وَالْمُخْتَصَرِ عَلَى الْمُتَقَصِّي, وَالْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ وَالْعُمُومِ عَلَى الْخُصُوصِ, وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ التَّأْلِيفِ بَيْنَ النُّصُوصِ وَمَدْلُولَاتِهَا لِئَلَّا تَكُونُ مُتَنَاقِضَةً يَرُدُّ بَعْضُهَا مَعْنَى بَعْضٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُنَزَّهُ عَنْهُ كَلَامُ اللَّهِ وَكَلَامُ رَسُولِهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهَذِهِ طَرِيقَةُ جَمِيعِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ عُلَمَاءِ التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى وَرَضِيَ عَنْهُمْ. مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ قِيلَ وَمَا الْجَمْعُ بَيْنَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ فِيمَنِ ارْتَكَبَ حَدًّا لَمْ يَقُمْ عَلَيْهِ قَالَ: فَهُوَ إِلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ وَإِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ, وَبَيْنَ مَا صَرَّحَتْ بِهِ النُّصُوصُ الَّتِي فِي الْمِيزَانِ وَالْحِسَابِ وَالْجَنَّةِ مِنْ أَنَّ مَنْ رُجِّحَتْ خَطَايَاهُ وَسَيِّئَاتُهُ بِحَسَنَاتِهِ تَمَسُّهُ النَّارُ وَلَا بُدَّ؟ قُلْنَا: لَا إِشْكَالَ فِي ذَلِكَ وَلَا مُنَافَاةَ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَقَدْ حَصَلَ الْجَمْعُ الْفَاصِلُ لِلنِّزَاعِ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا الَّذِي ذَكَرْنَا فِي شَرْحِ الْبَيْتِ الْأَدْنَى بِأَنَّ مَنْ
5- لا يكفر المؤمن بالمعاصي إلا إذا استحلها
يَشَأْ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ يُحَاسِبْهُ الْحِسَابَ الْيَسِيرَ الَّذِي فَسَّرَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالْعَرْضِ وَقَالَ فِي مَعْنَى الْعَرْضَ فِي الْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ فِي صِفَتِهِ: "يَدْنُوَا أَحَدُكُمْ مِنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ حَتَّى يَضَعَ عَلَيْهِ كَنَفَهُ, فَيَقُولُ: أَعَمِلْتَ كَذَا وَكَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ. وَيَقُولُ: أَعَمِلْتَ كَذَا وَكَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ. فَيُقَرِّرُهُ ثُمَّ يَقُولُ: إِنِّي سَتَرْتُ عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ" 1. وَأَمَّا الَّذِينَ يَدْخُلُونَ النَّارَ بِذُنُوبِهِمْ فَهُمْ مِمَّنْ يُنَاقَشُ الْحِسَابَ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ عُذِّبَ" 2. نَسْأَلُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُيَسِّرَ حِسَابَنَا وَيَتَجَاوَزَ عَنَّا وَيَغْفِرَ لَنَا بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ آمِينَ. 5- عَامِلُ الْكَبِيرَةِ يُكَفَّرُ بِاسْتِحْلَالِهِ إِيَّاهَا: وَلَا نُكَفِّرُ بِالْمَعَاصِي مُؤْمِنًا ... إِلَّا مَعَ اسْتِحْلَالِهِ لِمَا جَنَى "وَلَا نُكَفِّرُ بِالْمَعَاصِي" الَّتِي قَدَّمْنَا ذِكْرَهَا وَأَنَّهَا لَا تُوجِبُ كُفْرًا, وَالْمُرَادُ بِهَا الْكَبَائِرُ الَّتِي لَيْسَتْ بِشِرْكٍ, وَلَا تَسْتَلْزِمُهُ وَلَا تُنَافِي اعْتِقَادَ الْقَلْبِ وَلَا عَمَلَهُ "مُؤْمِنًا" مُقِرًّا بِتَحْرِيمِهَا مُعْتَقَدًا لَهُ, مُؤْمِنًا بِالْحُدُودِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَيْهَا, وَلَكِنْ نَقُولُ يَفْسُقُ بِفِعْلِهَا, وَيُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ بِارْتِكَابِهَا, وَيَنْقُصُ إِيمَانُهُ بِقَدْرِ مَا تَجَارَأَ عَلَيْهِ مِنْهَا. وَالدَّلِيلُ عَلَى فِسْقِهِ وَنُقْصَانِ إِيمَانِهِ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النُّورِ: 4-5] . وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنْ آيَاتِ الْحُدُودِ وَالْكَبَائِرِ, وَقَوْلُ النَّبِيِّ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَزْنِي الزَّانِي
6 - التوبة في حق كل فرد إذا استكملت شروطها مقبولة ما لم يغرغر
حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَشْرَبُ حِينَ يَشْرَبُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ, وَالتَّوْبَةُ مَعْرُوضَةٌ بَعْدُ" 1 الْحَدِيثُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ النَّفْيَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِ لَيْسَ لِمُطْلَقِ الْإِيمَانِ بَلْ لِكَمَالِهِ هُوَ مَا قَدَّمْنَا مِنَ النُّصُوصِ الَّتِي صَرَّحَتْ بِتَسْمِيَتِهِ مُؤْمِنًا وَأَثْبَتَتْ لَهُ أُخُوَّةَ الْإِيمَانِ, وَأَبْقَتْ لَهُ أَحْكَامَ الْمُؤْمِنِينَ. "إِلَّا مَعَ اسْتِحْلَالِهِ لِمَا جَنَى" هَذِهِ هِيَ الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ, وَهُوَ أَنَّ عَامِلُ الْكَبِيرَةِ يُكَفَّرُ بِاسْتِحْلَالِهِ إِيَّاهَا بَلْ يُكَفَّرُ بِمُجَرَّدِ اعْتِقَادِهِ بِتَحْلِيلِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ لَوْ لَمْ يَعْمَلْ بِهِ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ مُكَذِّبًا بِالْكِتَابِ وَمُكَذِّبًا بِالرَّسُولِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَذَلِكَ كُفْرٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ. فَمَنْ جَحَدَ أَمْرًا مُجْتَمَعًا عَلَيْهِ مَعْلُومًا مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ فَلَا شَكَّ فِي كُفْرِهِ. [6 - التَّوْبَةُ فِي حَقِّ كُلِّ فَرْدٍ إِذَا اسْتُكْمِلَتْ شُرُوطُهَا مَقْبُولَةٌ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ] : وَتُقْبَلُ التَّوْبَةُ قَبْلَ الْغَرْغَرَهْ ... كَمَا أَتَى فِي الشِّرْعَةِ الْمُطَهَّرَهْ هَذِهِ هِيَ الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ وَهِيَ أَنَّ التَّوْبَةَ إِذَا اسْتُكْمِلَتْ شُرُوطُهَا مَقْبُولَةٌ مِنْ كُلِّ ذَنَبٍ كُفْرًا كَانَ أَوْ دُونَهُ, وَقَدْ دَعَا اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِلَيْهَا جَمِيعَ عِبَادِهِ فَدَعَا إِلَيْهَا مَنْ قَالَ: الْمَسِيحُ هُوَ اللَّهُ, وَمَنْ قَالَ: هُوَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ, وَمَنْ قَالَ: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ, وَمَنْ قَالَ: إِنِ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ, وَمَنْ دَعَا لِلَّهِ الصَّاحِبَةَ وَالْوَلَدَ فَقَالَ لَهُمْ جَمِيعًا {أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الْمَائِدَةِ: 74] . وَدَعَا إِلَيْهَا مَنْ هُوَ أَعْظَمُ مُحَادَّةً لِلَّهِ مِنْ هَؤُلَاءِ وَهُوَ مَنْ قَالَ: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى مَا
عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهِ غَيْرِي فَقَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِرَسُولِهِ مُوسَى: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} [النَّازِعَاتِ: 17-19] وَقَالَ لَهُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ} [الشُّعَرَاءِ: 11] وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 43] . وَدَعَا إِلَى التَّوْبَةِ مِنْ عَمَلِ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ وَهِيَ الشِّرْكُ وَقَتْلُ النَّفْسِ بِدُونِ حَقٍّ وَالزِّنَا, فَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الْفُرْقَانِ: 68-70] . وَدَعَا إِلَيْهَا مَنْ كَتَمَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى فَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [الْبَقَرَةِ: 159160-] . وَدَعَا إِلَيْهَا الْمُشْرِكِينَ قَاطِبَةً فَقَالَ بَعْدَ الْأَمْرِ بِقَتْلِهِمْ حَيْثُ وُجِدُوا: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التَّوْبَةِ: 5] وَدَعَا إِلَيْهَا الْمُنَافِقِينَ قَاطِبَةً فَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} [النِّسَاءِ: 146] . وَدَعَا إِلَيْهَا جَمِيعَ الْمُسْرِفِينَ بِأَيِّ ذَنْبٍ كَانَ فَقَالَ تَعَالَى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} [الزُّمَرِ: 53-54] الْآيَاتِ. وَغَيْرُهَا مَا لَا يُحْصَى, بَلْ لَمْ يُرْسِلِ اللَّهُ تَعَالَى الرُّسُلَ وَيُنْزِلِ الْكُتُبَ إِلَّا دَعْوَةً مِنْهُ لِعِبَادِهِ إِلَى التَّوْبَةِ لِيَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ.
وَفِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فَلَاةٍ فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فَأَيِسَ مِنْهَا, فَأَتَى شَجَرَةً فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ, فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ هُوَ بِهَا قَائِمَةً عِنْدَهُ فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ؛ أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ" 1. وَفِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيمَا يَحْكِي عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: "أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا فَقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي, فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ. ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ فَقَالَ: أَيْ رَبِّي اغْفِرْ لِي ذَنْبِي, فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ, اعْمَلْ مَا شِئْتَ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكَ" 2. وَفِيهِ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ, وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ, حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا" 3. وَفِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا, فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ, فَدُلَّ عَلَى رَاهِبٍ فَأَتَاهُ فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا, فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: لَا. فَقَتَلَهُ, فَكَمَّلَ بِهِ مِائَةً. ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ, فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ عَالِمٍ فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ, فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ؟ انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا فَإِنَّ بِهَا أُنَاسًا يَعْبُدُونَ اللَّهَ تَعَالَى, فَاعْبُدِ اللَّهَ مَعَهُمْ, وَلَا تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ فَإِنَّهَا أَرْضُ سَوْءٍ. فَانْطَلَقَ حَتَّى إِذَا نَصَفَ الطَّرِيقَ
أَتَاهُ الْمَوْتُ, فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ, فَقَالَتْ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ: جَاءَ تَائِبًا مُقْبِلًا بِقَلْبِهِ إِلَى اللَّهِ. وَقَالَتْ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ: إِنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ. فَأَتَاهُمْ مَلَكٌ فِي صُورَةِ آدَمِيٍّ فَجَعَلُوهُ بَيْنَهُمْ, فَقَالَ: قِيسُوا مَا بَيْنَ الْأَرْضَيْنِ, فَإِلَى أَيَّتِهِمَا كَانَ أَدْنَى فَهُوَ لَهُ. فَقَاسُوهُ, فَوَجَدُوهُ أَدْنَى إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي أَرَادَ, فَقَبَضَتْهُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ", قَالَ قَتَادَةُ فَقَالَ الْحَسَنُ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ "لَمَّا أَتَاهُ الْمَوْتُ نَاءَ بِصَدْرِهِ وَفِي رِوَايَةٍ "فَلَمَّا كَانَ فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ أَدْرَكَهُ الْمَوْتُ؛ فَنَاءَ بِصَدْرِهِ ثُمَّ مَاتَ؛ فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ, فَكَانَ إِلَى الْقَرْيَةِ الصَّالِحَةِ أَقْرَبَ مِنْهَا شِبْرًا فَجُعِلَ مِنْ أَهْلِهَا" 1. وَفِيهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ أُنَاسًا مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ كَانُوا قَدْ قَتَلُوا وَأَكْثَرُوا, وَزَنَوْا وَأَكْثَرُوا, فَأَتَوْا مُحَمَّدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالُوا: إِنَّ الَّذِي تَقُولُ وَتَدْعُو إِلَيْهِ لَحَسَنٌ, لَوْ تُخْبِرُنَا هَلْ لِمَا عَمِلْنَا كَفَّارَةً, فَنَزَلَ {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ} [الْفُرْقَانِ: 68] وَنَزَلَ {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزُّمَرِ: 53] 2. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: قَالَ نَافِعٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي حَدِيثِهِ قَالَ: "وَكُنَّا نَقُولُ: مَا اللَّهُ بِقَابِلٍ مِمَّنِ افْتُتِنَ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا وَلَا تَوْبَةً, عَرَفُوا اللَّهَ ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى الْكُفْرِ لِبَلَاءٍ أَصَابَهُمْ. قَالَ: وَكَانُوا يَقُولُونَ ذَلِكَ لِأَنْفُسِهِمْ. قَالَ: فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْمَدِينَةَ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ وَفِي قَوْلِنَا وَقَوْلِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا
شروط التوبة النصوح
لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} [الزُّمَرِ: 53-55] قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فَكَتَبْتُهَا بِيَدِي فِي صَحِيفَةٍ, وَبَعَثْتُ بِهَا إِلَى هِشَامِ بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ, قَالَ: فَقَالَ هِشَامٌ: لَمَّا أتتني جعلت أقرؤها بِذِي طُوًى, أَصْعَدُ بِهَا فِيهِ وَأُصَوِّبُ وَلَا أَفْهَمُهَا, حَتَّى قُلْتُ: اللَّهُمَّ أَفْهِمْنِيهَا. قَالَ: فَأَلْقَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي قَلْبِي أَنَّهَا إِنَّمَا أُنْزِلَتْ فِينَا وَفِيمَا كُنَّا نَقُولُ فِي أَنْفُسِنَا وَيُقَالُ فِينَا, فَرَجَعْتُ إِلَى بَعِيرِي فَجَلَسْتُ عَلَيْهِ فَلَحِقْتُ بِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالْمَدِينَةِ"1. [شُرُوطُ التَّوْبَةِ النَّصُوحِ] : وَالْأَحَادِيثُ فِي شَأْنِ التَّوْبَةِ وَالْحَثِّ عَلَيْهَا وَفِي تَكْفِيرِهَا لِلذُّنُوبِ كَثِيرَةٌ جِدًّا, لَهَا مُصَنَّفَاتٌ مُسْتَقِلَّةٌ, وَحَيْثُ ذُكِرَتْ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ فَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهَا التَّوْبَةُ النَّصُوحُ, وَهِيَ الَّتِي اجْتَمَعَ فِيهَا ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ: الْأَوَّلُ: الْإِقْلَاعُ عَنِ الذَّنْبِ. الثَّانِي: النَّدَمُ عَلَى فِعْلِهِ. الثَّالِثُ: الْعَزْمُ عَلَى أَنْ لَا يَعُودَ فِيهِ. فَإِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ الذَّنْبِ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ لَزِمَ اسْتِحْلَالُهُ مِنْهُ إِنْ أَمْكَنَ, لِلْحَدِيثِ الَّذِي قَدَّمْنَا "مَنْ كَانَ عِنْدَهُ لِأَخِيهِ مَظْلِمَةٌ فَلْيَتَحَلَّلْ مِنْهُ الْيَوْمَ, فَإِنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ" 2 الْحَدِيثُ فِي الصَّحِيحِ. وَهَذِهِ الشُّرُوطُ فِي كَيْفِيَّةِ التَّوْبَةِ. وَأَمَّا الشَّرْطُ فِي زَمَانِهَا فَهُوَ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ فِي الْمَتْنِ بِقَوْلِنَا "قَبْلَ الْغَرْغَرَةِ" وَهِيَ حَشْرَجَةُ الرُّوحِ فِي الصَّدْرِ, وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ الِاحْتِضَارُ عِنْدَمَا يَرَى الْمَلَائِكَةَ وَيَبْدَأُ بِهَا السِّيَاقُ, قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ
بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا، وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النِّسَاءِ: 17-18] . وَعَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانُوا يَقُولُونَ: كُلُّ ذَنْبٍ أَصَابَهُ عَبْدٌ فَهُوَ جَهَالَةٌ1, رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: اجْتَمَعَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَرَأَوْا أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ عُصِيَ اللَّهُ بِهِ فَهُوَ جَهَالَةٌ عَمْدًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ2. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كُلُّ عَامِلٍ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ فَهُوَ جَاهِلٌ حِينَ عَمِلَهَا3. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: مِنْ جَهَالَتِهِ عَمَلُ السُّوءِ4, وَعَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: {ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} قَالَ: بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى مَلَكِ الْمَوْتِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: مَا كَانَ دُونَ الْمَوْتِ فَهُوَ قَرِيبٌ6, وَقَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: مَا دَامَ فِي صِحَّتِهِ7. وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ8. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: الدُّنْيَا كُلُّهَا قَرِيبٌ9, وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ "إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ" 10.
وَلَهُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْبَيْلَمَانِيِّ قَالَ: اجْتَمَعَ أَرْبَعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ أَحَدُهُمْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِيَوْمٍ" فَقَالَ الْآخَرُ: أَنْتَ سَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: وَأَنَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِنِصْفِ يَوْمٍ" فَقَالَ الثَّالِثُ: أَنْتَ سَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: وَأَنَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِضَحْوَةٍ" وَقَالَ الرَّابِعُ: أَنْتَ سَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: وَأَنَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ بِنَفْسِهِ" 1. وَرَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ عَبْدِهِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ" 1. وَهَذَا تَوْقِيتُ زَمَانِ التَّوْبَةِ فِي حَقِّ كُلِّ فَرْدٍ مِنَ الْعِبَادِ, وَأَمَّا فِي حَقِّ عُمْرِ الدُّنْيَا, فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ أَنَّهَا تَنْقَطِعُ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا لِأَنَّهَا أَوَّلُ آيَاتِ الْقِيَامَةِ الْعِظَامِ وَحِينَ الْإِيَاسِ مِنَ الدُّنْيَا, كَمَا أَنَّ رُؤْيَةَ مَلَكِ الْمَوْتِ آيَةُ الِانْتِقَالِ مِنَ الدُّنْيَا وَحِينَ الْإِيَاسِ مِنَ الْحَيَاةِ, وَكَذَلِكَ الْأُمَمُ الْمَخْسُوفُ بِهَا انْقَطَعَتِ التَّوْبَةُ عَنْهُمْ بِرُؤْيَتِهِمُ الْعَذَابَ. قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ، فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ، فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ، فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} [غَافِرٍ: 82-85]
الفصل الحادي عشر معرفة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم
[[الفصل الحادي عشر معرفة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم]] فَصْلٌ: فِي مَعْرِفَةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَتَبْلِيغِهِ الرِّسَالَةَ وَإِكْمَالِ اللَّهِ لَنَا بِهِ الدِّينَ, وَأَنَّهُ خَاتَمُ الْنَبِيِّينَ, وَأَفْضَلُ الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ, وَأَنَّ مَنِ ادَّعَى النُّبُوَّةَ بَعْدَهُ فَهُوَ كَاذِبٌ يُكَفَّرُ مَنْ صَدَّقَهُ وَاتَّبَعَهُ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ مِنْ هَاشِمِ ... إِلَى الذَّبِيحِ دُونَ شَكٍّ يَنْتَمِي "نَسَبُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ": "نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ" صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "مِنْ" وَلَدِ "هَاشِمٍ" وَهُوَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَبُو الْقَاسِمِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَاسْمُهُ شَيْبَةُ الْحَمْدِ بْنُ هَاشِمٍ وَاسْمُهُ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ مَنَافٍ وَاسْمُهُ مُغِيرَةُ بْنُ قُصَيٍّ وَاسْمُهُ زَيْدُ بْنُ كِلَابِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ مُدْرِكَةَ بْنِ إِلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعَدَ بْنِ عَدْنَانَ. وَأُمُّهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- آمِنَةُ بِنْتُ وَهْبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ زُهْرَةَ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ. وَأُمُّ عَبْدِ اللَّهِ فَاطِمَةُ بِنْتُ عَمْرِو بْنِ عَائِذِ بْنِ عِمْرَانَ بْنِ مَخْزُومِ بْنِ يَقَظَةَ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ.
وَأُمُّ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ سَلْمَى بِنْتُ عَمْرِو بْنِ زَيْدِ بْنِ لَبِيدِ بْنِ خِدَاشِ بْنِ عَامِرِ بْنِ غَنْمِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ. وَأُمُّ هَاشِمٍ عَاتِكَةُ بِنْتُ مُرَّةَ بْنِ هِلَالٍ. وَأُمُّ عَبْدِ مَنَافٍ حُبَّى بِنْتُ حَلِيلِ بْنِ حَبَشِيَّةَ بْنِ سَلُولَ بْنِ كَعْبِ بْنِ عَمْرٍو الْخُزَاعِيِّ. وَأُمُّ قُصَيٍّ فَاطِمَةُ بِنْتُ سَعِيدِ بْنِ سَيْلٍ أَحَدُ الْجُدَرَةُ مِنْ جَعْثَمَةَ الْأَسَدِ مِنَ الْيَمَنِ. وَأُمُّ كِلَابٍ هِنْدُ بِنْتُ سَرِيرِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ مَالِكِ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ. وَأُمُّ مُرَّةَ حَبَشِيَّةُ بِنْتُ شَيْبَانَ بْنِ مُحَارِبِ بْنِ فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ. وَأُمُّ كَعْبٍ مَاوِيَّةُ بِنْتُ كَعْبِ بْنِ الْقَيْنِ بْنِ الْجِسْرِ مِنْ قُضَاعَةَ. وَأُمُّ لُؤَيٍّ سَلْمَى بِنْتُ عَمْرٍو الْخُزَاعِيِّ. وَأُمُّ غَالِبٍ لَيْلَى بِنْتُ سَعْدِ بْنِ هُذَيْلِ بْنِ مُدْرِكَةَ. وَأُمُّ فِهْرِ بْنِ مَالِكٍ جَنْدَلَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ مُضَاضٍ الْجُرْهُمِيِّ. وَأُمُّ مَالِكٍ عَاتِكَةُ بِنْتُ عَدْوَانَ بْنِ عَمْرِو بْنِ قَيْسِ بْنِ عَيْلَانَ. وَأُمُّ النَّضْرِ بَرَّةُ بِنْتُ مُرِّ بْنِ أَدِّ بْنِ طَابِخَةَ بْنِ إِلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ وَأُمُّ كِنَانَةَ عِوَانَةُ بِنْتُ سَعْدِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَيْلَانَ بْنِ مُضَرَ. وَأُمُّ خُزَيْمَةَ اِمْرَأَةٌ مِنْ قُضَاعَةَ. وَأُمُّ مُدْرِكَةَ بْنِ إِلْيَاسَ خَنْدَفُ بِنْتُ عِمْرَانَ بْنِ الْحَافِّ بْنِ قُضَاعَةَ. وَأُمُّ إِلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ جُرْهُمِيَّةٌ. وَأُمُّ مُضَرَ سَوْدَةُ بِنْتُ عَكِّ بْنِ عَدْنَانَ. وَأُمُّ رَبِيعَةَ أَخِي مُضَرَ شَقِيقَةُ بِنْتُ عَكِّ بْنِ عَدْنَانَ, وَهَاتَانِ الْقَبِيلَتَانِ الْمَضْرُوبُ بِهِمَا الْمَثَلُ -رَبِيعَةُ وَمُضَرُ- ابْنَا نِزَارِ بْنَ مَعَدَ بْنِ عَدْنَانَ. وَلِمُضَرَ أَخٌ شَقِيقٌ وَهُوَ إِيَادُ بْنُ نِزَارٍ, وَلِرَبِيعَةَ أَخٌ شَقِيقٌ أَيْضًا وَهُوَ أَنْمَارُ بْنُ نِزَارٍ. وَهَذَا هُوَ النَّسَبُ الْمُتَّفَقُ عَلَى سَرْدِهِ, لَا خِلَافَ فِيهِ لِأَحَدٍ. وَكَذَا لَا خِلَافَ فِي
أَنَّ نَسَبَ عَدْنَانَ إِلَى الذَّبِيحِ إِسْمَاعِيلَ الْحَلِيمِ ابْنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَكَذَا لَا خِلَافَ فِي أَنَّ إِبْرَاهِيمَ يَنْتَمِي إِلَى سَامِ بْنِ نُوحٍ وَهُوَ أَبُو الْعَرَبِ قَاطِبَةً, وَكَذَا لَا خِلَافَ فِي أَنَّ نُوحًا يَنْتَمِي إِلَى شِيثِ بْنِ آدَمَ وَهُوَ وَصِيُّ أَبِيهِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي كَمِّيَّةِ الْآبَاءِ بَيْنَ عَدْنَانَ وَإِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ, وَبَيْنَ إِبْرَاهِيمَ وِسَامِ بْنِ نُوحٍ, وَبَيْنَ نُوحٍ وَشِيثِ بْنِ آدَمَ. وَقَدْ كَانَ كَثِيرٌ مِنْ أَئِمَّةِ الدِّينِ -كَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ الْإِمَامِ وَغَيْرِهِ- يَكْرَهُونَ تَعْدَادَ الْآبَاءِ مِنْ فَوْقِ عَدْنَانَ. وَيَقُولُونَ: هُمْ رَجْمٌ بِالْغَيْبِ, وَمَا يَدْرِي مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ, وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا} [الْفُرْقَانِ: 38] وَقَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ رَحِمَهُ اللَّهُ: كَانَ قَوْمٌ مِنَ السَّلَفِ -مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بن مسعود وعمرو بْنُ مَيْمُونَ الْأَوْدِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعَّبٍ الْقُرَظِيُّ- إِذَا تَلَوَا {وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ} [إِبْرَاهِيمَ: 9] قَالُوا: كَذَبَ النَّسَّابُونَ, وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ كَانَ إِذَا بَلَغَ عَدْنَانَ يَقُولُ: كَذَبَ النَّسَّابُونَ. قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَقَدْ رَأَى جَمَاعَةٌ جَوَازُ ذَلِكَ, مِنْهُمُ ابْنُ إِسْحَاقَ وَالْبُخَارِيُّ وَالزَّبِيرُ بْنُ بَكَّارٍ وَالطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ, قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَالَّذِي عَلَيْهِ أَئِمَّةُ هَذَا الشَّأْنِ فِي نَسَبِ عَدْنَانَ قَالُوا: عَدْنَانُ بْنُ أَدَدَ بْنِ مُقَوِّمِ بْنِ نَاحُورَ بْنِ تَيْرَحَ بْنِ يَعْرُبَ بْنِ يَشْجُبَ بْنِ نَابِتِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ1. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَخْرَجَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ أَوْسَطِ الْعَرَبِ نَسَبًا وَأَكْرَمِهِمْ حَسَبًا, وَأَعْلَاهُمْ كَعْبًا, وَأَعْظَمِهِمْ جُرْثُومَةً, وَأَشْرَفِهِمْ أَصْلًا وَأَطْيَبِهِمْ فَرْعًا1. وَقَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مِهْرَانَ الرَّازِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَهْمٍ جَمِيعًا عَنِ الْوَلِيدِ. قَالَ ابْنُ مِهْرَانَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ أَبِي عَمَّارٍ شَدَّادٍ أَنَّهُ سَمِعَ وَاثِلَةَ بْنَ الْأَسْقَعِ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى كِنَانَةَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ
مولده
وَاصْطَفَى قُرَيْشًا مِنْ كِنَانَةَ وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ" 1. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ قُرَيْشًا جَلَسُوا فَتَذَاكَرُوا أَحْسَابَهُمْ بَيْنَهُمْ فَجَعَلُوا مَثَلَكَ مَثَلَ نَخْلَةٍ فِي كَبْوَةٍ مِنَ الْأَرْضِ. فَقَالَ النَّبِيُّ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْخَلْقَ فَجَعَلَنِي مِنْ خَيْرِ فِرَقِهِمْ وَخَيْرِ الْفَرِيقَيْنِ, ثُمَّ خَيْرِ الْقَبَائِلِ فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِ قَبِيلَةٍ, ثُمَّ خَيْرِ الْبُيُوتِ فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِ بُيُوتِهِمْ, فَأَنَا خَيْرُهُمْ نَفْسًا وَخَيْرُهُمْ بَيْتًا" 2. وَفِي رِوَايَةٍ فَقَامَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ: "مَنْ أَنَا؟ " فَقَالُوا: أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْكَ السَّلَامُ. قَالَ: "أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ, إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْخَلْقَ فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِهِمْ, ثُمَّ جَعَلَهُمْ فِرْقَتَيْنِ فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِهِمْ فِرْقَةً, ثُمَّ جَعَلَهُمْ قَبَائِلَ فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِهِمْ قَبِيلَةً, ثُمَّ جَعَلَهُمْ بُيُوتًا فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِهِمْ بَيْتًا وَخَيْرِهِمْ نَفْسًا" 3 هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَحَمَى اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أُصُولَ نَبِيِّنَا مِنْ سِفَاحِ الْجَاهِلِيَّةِ فَلَمْ يَشُبْ نَسَبَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَا مِنْ جِهَةِ آبَائِهِ وَلَا مِنْ جِهَةِ أُمَّهَاتِهِ وَلَمْ يُولَدْ إِلَّا مِنْ نِكَاحٍ كَنِكَاحِ الْإِسْلَامِ كَمَا رَوَاهُ جَمَاعَةٌ عَنْ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ عَنْ آبَائِهِ مَرْفُوعًا "إِنِّي وُلِدْتُ مِنْ نِكَاحٍ وَلَمْ أُولَدْ مِنْ سِفَاحٍ" 4. مَوْلِدُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَكَانَ مَوْلِدُهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَامَ الْفِيلِ كَمَا رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ
بدء الوحي إليه
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسِ بْنِ مَخْرَمَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: وُلِدْتُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عام الفيل. قال: وَسَأَلَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ قُبَاثَ بْنَ أَشْيَمَ أَخَا بَنِي يَعْمَرَ بن ليث: أنت أَكْبَرُ أَمْ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنِّي, وَأَنَا أَقْدَمُ مِنْهُ فِي الْمِيلَادِ. قَالَ: وَرَأَيْتُ خَذْقَ الْفِيلِ أَخْضَرَ مُحِيلًا1. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. مَوْلِدُهُ بِمَكَّةَ الْمُطَهَّرَهْ ... هِجْرَتُهُ لِطِيبَةَ الْمُنَوَّرَهْ بَعْدَ أَرْبَعِينَ بَدَا الْوَحْيُ بِهِ ... ثُمَّ دَعَا إِلَى سَبِيلِ رَبِّهِ عَشْرَ سِنِينَ أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا ... رَبًّا تَعَالَى شَأْنُهُ وَوَحِّدُوا وَكَانَ قَبْلَ ذَاكَ فِي غَارِ حِرَا ... يَخْلُو بِذِكْرِ رَبِّهِ عَنِ الْوَرَى "مَوْلِدُهُ" صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "بِمَكَّةَ الْمُطَهَّرَهْ" مِنْ كُلِّ رِجْسٍ حِسًّا وَمَعْنًى "هِجْرَتُهُ" صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "لِطِيبَةَ" الْمَدِينَةِ "الْمُنَوَّرَةِ" وَكَانَ ذَلِكَ مَوْجُودًا فِي الصُّحُفِ الَّتِي بَشَّرَتْ بِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَغَيْرِهِمَا, وَالْآيَاتُ فِي ذَلِكَ وَالدَّلَائِلُ عَلَى ذَلِكَ لَا تُحْصَى. ثُمَّ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا بَشَّرَتْ, فَوُلِدَ بِمَكَّةَ وَأُوحِيَ إِلَيْهِ فِيهَا وَبُعِثَ بِالدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ فِيهَا. ثُمَّ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى الْمَدِينَةِ كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. بَدْءُ الْوَحْيِ: "بَعْدَ أَرْبَعِينَ" سَنَةً مِنْ عُمْرِهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "بَدَأَ الْوَحْيُ" مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِ "بِهِ" صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَبْعَةً مِنَ الْقَوْمِ, لَيْسَ بِالطَّوِيلِ الْبَائِنِ وَلَا بِالْقَصِيرِ, أَزْهَرَ اللَّوْنِ, لَيْسَ بِأَبْيَضَ أَمْهَقَ وَلَا آدَمَ, لَيْسَ بِجَعْدٍ قَطَطٍ وَلَا سَبْطٍ رَجِلٍ, بَعَثَهُ اللَّهُ عَلَى رَأْسِ أَرْبَعِينَ سَنَةً فَأَقَامَ بِمَكَّةَ عَشْرَ سِنِينَ"2 الْحَدِيثَ.
وَكَيْفِيَّةُ بَدْءِ الْوَحْيِ مَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ أم المؤمنين رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ, فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ. ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ, وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ -وَهُوَ التَّعَبُّدُ- اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ. ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا, حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ: اقْرَأْ. قَالَ: "مَا أَنَا بِقَارِئٍ". قَالَ: "فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ, ثُمَّ أَرْسَلَنِي فقال: اقرأ. فقلت: مَا أَنَا بِقَارِئٍ. فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ. ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ. فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ. فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ, ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} [الْعَلَقِ: 1-3] " فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَرْجُفُ فُؤَادُهُ, فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ فَقَالَ: "زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي" , فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ, فَقَالَ لِخَدِيجَةَ وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ: "لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي". فَقَالَتْ خَدِيجَةُ: كلا والله لا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا؛ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَحْمِلُ الْكَلَّ وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ, وَتَقْرِي الضَّيْفَ, وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ. فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى ابْنَ عَمِّ خديجة وكان امرءا قَدْ تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ, وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعِبْرَانِيَّ, فَيَكْتُبُ مِنَ الْإِنْجِيلِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ, وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ, فَقَالَتْ له خديجة: يابن عَمِّ اسْمَعْ مِنِ ابْنِ أَخِيكَ. فَقَالَ له ورقة: يابن أَخِي مَاذَا تَرَى؟ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَبَرَ مَا رَأَى. فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى, يَا ليتني فيها جذع. لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ؟ " قَالَ: نَعَمْ. لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ. وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا. ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ وَفَتَرَ الْوَحْيُ" قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَأَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيَّ قَالَ وَهُوَ يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ
الْوَحْيِ. فَقَالَ فِي حَدِيثِهِ بَيْنَا أَنَا أَمْشِي إِذْ سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ فَرَفَعْتُ بَصَرِي فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ, فَرُعِبْتُ مِنْهُ, فَرَجَعْتُ فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [الْمُدَّثِّرِ: 1-5] فَحَمِيَ الْوَحْيُ وَتَتَابَعَ". تَابَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ وَأَبُو صَالِحٍ وَتَابَعَهُ هِلَالُ بْنُ رَدَّادٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ. وَقَالَ يُونُسُ وَمَعْمَرٌ "بَوَادِرُهُ"1. حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ أَبِي عَائِشَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} [الْقِيَامَةِ: 16] قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُعَالِجُ مِنَ التَّنْزِيلِ شِدَّةً وَكَانَ مِمَّا يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فأنا أحركهما لك كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُحَرِّكُهُمَا. وَقَالَ سَعِيدٌ: وأنا أُحَرِّكُهُمَا كَمَا رَأَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يُحَرِّكُهُمَا. فَحَرَّكَ شَفَتَيْهِ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [الْقِيَامَةِ: 16-17] قَالَ جمعه لك بصدرك وَتَقْرَأُهُ {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [الْقِيَامَةِ: 18] قَالَ: فَاسْتَمِعْ لَهُ وَأَنْصِتْ {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [الْقِيَامَةِ: 19] ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا أَنْ تَقْرَأَهُ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا أَتَاهُ جِبْرِيلُ اسْتَمَعَ فَإِذَا انْطَلَقَ جِبْرِيلُ قَرَأَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَمَا قَرَأَهُ"2 وَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ رَضِيَ عَنْهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يَأْتِيكَ الْوَحْيُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَحْيَانًا يَأْتِينِي مِثْلَ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ, فَيُفْصَمُ عَنِّي وَقَدْ وَعَيْتُ عَنْهُ مَا قَالَ, وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ لِي الْمَلَكُ رَجُلًا فَيُكَلِّمُنِي فَأَعِي مَا يَقُولُ"
دعوته إلى سبيل ربه
قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ فَيَفْصِمُ عَنْهُ وَإِنَّ جَبِينَهُ لَيَتَفَصَّدُ عَرَقًا"1. [دَعْوَتُهُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّهِ] "ثُمَّ دَعَا إِلَى سَبِيلِ رَبِّهِ" وَهُوَ عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ الَّذِي أَرْسَلَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ, وَهُوَ دِينُهُ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَنْ يَقْبَلَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ أَحَدٍ دِينًا سِوَاهُ "عَشْرَ سِنِينَ" دَعْوَتُهُ إِلَى التَّوْحِيدِ وَتَرْكِ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ فَقَطْ قَبْلَ أَنْ يَفْرِضَ عَلَيْهِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ وَلَا غَيْرِهَا قَائِلًا: "أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبًّا تَعَالَى شَأْنُهُ" لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ "وَوَحِّدُوا" تَفْسِيرٌ لِذَلِكَ. وَهَذِهِ دَعْوَةُ مَنْ قَبْلَهُ مِنْ نُوحٍ إِلَى خَاتَمِهِمْ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كُلُّهُمْ يَقُولُ: {يَا قَوْم اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الْأَعْرَافِ: 59] وَكَانَتِ الدَّعْوَةُ فِي أَوَّلِ الْبَعْثَةِ سِرًّا ثَلَاثَ سِنِينَ فِيمَا ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ2. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَا زَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُسْتَخْفِيًا حَتَّى نَزَلَتْ {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الْحِجْرِ: 94] 3. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الشُّعَرَاءِ: قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ} [الشُّعَرَاءِ: 214] حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ قَالَ: حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "لِمَا نَزَلَتْ {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشُّعَرَاءِ: 214] صَعِدَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى الصَّفَا فَجَعَلَ يُنَادِيَ: "يَا بَنِي فَهْرٍ, يَا بَنِي عَدِيٍّ" لِبُطُونِ قُرَيْشٍ حَتَّى اجْتَمَعُوا" , فَجَعَلَ الرَّجُلُ إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَخْرُجَ أَرْسَلَ رَسُولًا لِيَنْظُرَ مَا هُوَ, فَجَاءَ أَبُو لَهَبٍ وَقُرَيْشٌ فَقَالَ: "أَرَأَيْتُكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلًا بِالْوَادِي تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ أَكَنَتُّمْ مُصَدِّقِيَّ؟ " قَالُوا: نَعَمْ, مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إِلَّا صِدْقًا. قَالَ: "فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ" فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: تَبًّا لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا؟ فَنَزَلَتْ {تَبَّتْ
يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} [الْمَسَدِ: 1-2] 1. حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشُّعَرَاءِ: 214] . قَالَ: "يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ -أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا- اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ, لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا. يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ, لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا. يَا عَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ, لَا أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا. وَيَا صَفِيَّةُ -عَمَّةُ رَسُولِ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا, وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا" 2. وَرَوَاهُمَا مُسْلِمٌ أَيْضًا وَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ قَالَا: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشُّعَرَاءِ: 214] دَعَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قُرَيْشًا فَاجْتَمَعُوا, فَعَمَّ وَخَصَّ, فَقَالَ: "يَا بَنِي كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ, أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ, يَا بَنِي مُرَّةَ بْنِ كَعْبٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ, يَا بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ. يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ, يَا بَنِي هَاشِمٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ, يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ, يَا فَاطِمَةُ أَنْقِذِي نَفْسَكِ مِنَ النَّارِ؛ فَإِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا غَيْرَ أَنَّ لَكُمْ رَحِمًا سَأَبُلُّهَا بِبَلَالِهَا" 3. وَلَهُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: لَمَّا نَزَلَتْ {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشُّعَرَاءِ: 214] قَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى الصَّفَا فَقَالَ: "يَا فَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ, يَا صَفِيَّةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ, يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ, لَا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا, سَلُونِي مِنْ مَالِي مَا شِئْتُمْ" 4, وَلَهُ عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ الْمُخَارِقِ
وَزُهَيْرِ بْنِ عَمْرٍو قَالَا: لَمَّا نَزَلَتْ {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشُّعَرَاءِ: 214] انْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى رَضْمَةٍ مِنْ جَبَلٍ فَعَلَا أَعْلَاهَا حَجَرًا ثُمَّ نَادَى: "يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ إِنِّي نَذِيرٌ, إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ كَمَثَلِ رَجُلٍ رَأَى الْعَدُوَّ فَانْطَلَقَ يَرْبَأُ أَهْلَهُ, فَخَشِيَ أَنْ يَسْبِقُوهُ, فَجَعَلَ يَهْتِفُ: يَا صَبَاحَاهُ". وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ فِي غَارِ حِرَاءٍ الْخَ1 تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ فِي حَدِيثِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ.
حديث الإسراء والمعراج
حَدِيثُ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ: وَبَعْدَ خَمْسِينَ مِنَ الْأَعْوَامِ ... مَضَتْ لِعُمْرِ سَيِّدِ الْأَنَامِ أَسْرَى بِهِ اللَّهُ إِلَيْهِ فِي الظُّلَمِ ... وَفَرَضَ الْخَمْسَ عَلَيْهِ وَحَتَمِ وَكَانَ الْإِسْرَاءُ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى, وَالْمِعْرَاجُ مِنَ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى ثُمَّ إِلَى حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ, قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي ذِكْرِ الْإِسْرَاءِ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الْإِسْرَاءِ: 1] وَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي ذِكْرِ الْمِعْرَاجِ: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النَّجْمِ: 13-18] . وَقَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: بَابَ حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الْإِسْرَاءِ: 1] حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: "لما كذبني قُرَيْشٌ, قُمْتُ في الحجر, فجلى اللَّهُ لِي بَيْتَ الْمَقْدِسِ, فَطَفِقْتُ أُخْبِرُهُمْ عَنْ آيَاتِهِ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ" 1. بَابَ الْمِعْرَاجِ. حَدَّثَنَا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ
صَعْصَعَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَدَّثَهُمْ عَنْ لَيْلَةِ أُسْرِيَ بِهِ قَالَ: "بَيْنَمَا أَنَا فِي الْحَطِيمِ -وَرُبَّمَا قَالَ فِي الْحِجْرِ- مُضْطَجِعًا إِذْ أَتَانِي آتٍ, فَقَدْ قَالَ وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: فَشَقَّ مَا بَيْنَ هَذِهِ إِلَى هَذِهِ" فَقُلْتُ لِلْجَارُودِ وَهُوَ إِلَى جَنْبِي: مَا يَعْنِي بِهِ؟ قَالَ: مِنْ ثُغْرَةِ نَحْرِهِ إِلَى شِعْرَتِهِ. وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: مِنْ قَصِّهِ إِلَى شِعْرَتِهِ "فَاسْتَخْرَجَ قَلْبِي, ثُمَّ أُتِيتُ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مَمْلُوءَةٍ إِيمَانًا فَغُسِلَ قَلْبِي, ثُمَّ حُشِيَ, ثُمَّ أُعِيدَ. ثُمَّ أُتِيتُ بِدَابَّةٍ دُونَ الْبَغْلِ وَفَوْقَ الْحِمَارِ أَبْيَضَ" فَقَالَ الْجَارُودُ: هُوَ الْبُرَاقُ يَا أَبَا حَمْزَةَ؟ قَالَ أَنَسٌ: نَعَمْ. "يَضَعُ خَطْوَهُ عِنْدَ أَقْصَى طَرْفِهِ, فَحُمِلْتُ عَلَيْهِ فَانْطَلَقَ بِي جِبْرِيلُ حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الدُّنْيَا فَاسْتَفْتَحَ, فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. قِيلَ: وقد أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ, فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ. فَفُتِحَ فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا فِيهَا آدَمُ, فَقَالَ: هَذَا أَبُوكَ آدَمُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ. فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ السَّلَامَ ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالِابْنِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ. ثُمَّ صَعِدَ حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الثَّانِيَةَ فَاسْتَفْتَحَ, قِيلَ مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. قِيلَ: وقد أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ, فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ. فَفَتَحَ فَلَمَّا خَلَصْتُ إِذَا يَحْيَى وَعِيسَى وَهُمَا ابْنَا الْخَالَةِ, قَالَ: هَذَا يَحْيَى وَعِيسَى فَسَلِّمْ عَلَيْهِمَا. فَسَلَّمْتُ فَرَدَّا ثُمَّ قَالَا: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ. ثُمَّ صَعِدَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ فَاسْتَفْتَحَ قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قِيلَ: وقد أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ. فَفُتِحَ فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا يُوسُفُ قَالَ: هَذَا يُوسُفُ, فَسَلِّمْ عَلَيْهِ. فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ. ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الرَّابِعَةَ فَاسْتَفْتَحَ قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قيل: أوقد أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ, فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ. فلما خلصت إذا إِدْرِيسَ قَالَ: هَذَا إِدْرِيسُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ. فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ. ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الْخَامِسَةَ فَاسْتَفْتَحَ قِيلَ مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قيل: أوقد أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ, فَنِعْمَ المجيء جاء. فلم خَلَصْتُ فَإِذَا هَارُونُ قَالَ: هَذَا هَارُونُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ. فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالْأَخِ
الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ. ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ السَّادِسَةَ فَاسْتَفْتَحَ, قِيلَ مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ: ومن مَعَكَ؟ قَالَ: محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قيل: أوقد أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: مَرْحَبًا بِهِ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ. فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا مُوسَى قَالَ: هَذَا مُوسَى فَسَلِّمْ عَلَيْهِ. فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ. فَلَمَّا تَجَاوَزْتُ بَكَى, قِيلَ لَهُ: مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ: أَبْكِي لِأَنَّ غُلَامًا بُعِثَ بَعْدِي يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِهِ أَكْثَرُ مِمَّنْ يَدْخُلُهَا مِنْ أُمَّتِي. ثُمَّ صَعِدَ بِي إِلَى السَّابِعَةِ فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ. قِيلَ مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: مَرْحَبًا بِهِ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ. فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا إِبْرَاهِيمُ قَالَ: هَذَا أَبُوكَ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ. فَسَلَّمْتُ عليه فرد علي السَّلَامَ قَالَ: مَرْحَبًا بِالِابْنِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ. ثُمَّ رُفِعَتْ إِلَيَّ سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى فَإِذَا نَبْقُهَا مِثْلُ قلال هجر, وإذ وَرَقُهَا مِثْلُ آذَانِ الْفِيَلَةِ. قَالَ: هَذِهِ سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى, وَإِذَا أَرْبَعَةُ أَنْهَارٍ: نَهْرَانِ بَاطِنَانِ وَنَهْرَانِ ظَاهِرَانِ فَقُلْتُ: مَا هَذَانِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: أَمَّا الْبَاطِنَانِ فَنَهْرَانِ فِي الْجَنَّةِ وَأَمَّا الظَّاهِرَانِ فَالنِّيلُ وَالْفُرَاتُ. ثُمَّ رُفِعَ لِي الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ ثُمَّ أُتِيتُ بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ وَإِنَاءٍ مِنْ عَسَلٍ, فَأَخَذْتُ اللَّبَنَ فَقَالَ: هِيَ الْفِطْرَةُ أَنْتَ عَلَيْهَا وَأُمَّتُكَ, ثُمَّ فُرِضَتْ عَلَيَّ الصَّلَوَاتُ خَمْسِينَ صَلَاةً كُلَّ يَوْمٍ, فَرَجَعْتُ فَمَرَرْتُ عَلَى مُوسَى فَقَالَ: بِمَا أُمِرْتَ؟ قَالَ: أُمِرْتُ بِخَمْسِينَ صَلَاةً كُلَّ يَوْمٍ. قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لَا تَسْتَطِيعُ خَمْسِينَ صَلَاةً كُلَّ يَوْمٍ, وَإِنِّي وَاللَّهِ قَدْ جَرَّبْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ, فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ. فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا, فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ, فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا, فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ, فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا, فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ, فَرَجَعْتُ فَأُمِرْتُ بِعَشْرِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ, فَرَجَعْتُ فَقَالَ مِثْلَهُ, فَرَجَعْتُ فَأُمِرْتُ بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ, فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ: بِمَا أُمِرْتَ؟ قُلْتُ: أُمِرْتُ بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لَا تَسْتَطِيعُ خَمْسَ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ, وَإِنِّي جَرَّبْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ؛ فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ. قَالَ: سَأَلْتُ رَبِّي حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ, وَلَكِنِّي أَرْضَى وَأُسَلِّمُ. قال: فلما تجاوزت ناداني مُنَادٍ: أَمْضَيْتُ فَرِيضَتِي وَخَفَّفْتُ عَنْ
عِبَادِي"1. رَوَاهُ مُسْلِمٌ مُخْتَصَرًا. قُلْتُ: وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ عَنْ إِدْرِيسَ مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ, هَذَا قَدْ يُشْكِلُ؛ لَانَ إِدْرِيسَ مِنْ آبَائِهِ؛ وَالْمَعْنَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ عَلَى مَا فِي الْحَدِيثِ "نَحْنُ مَعَاشِرِ الْأَنْبِيَاءِ أَبْنَاءُ عِلَّاتٍ" 2. الْخَ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ عَنْ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ مَالِكٍ -يَعْنِي أَنَسًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يَقُولُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ مَسْجِدِ الْكَعْبَةِ "أَنَّهُ جَاءَهُ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ وَهُوَ نَائِمٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ, فَقَالَ أَوَّلُهُمْ: أَيُّهُمْ هُوَ؟ فَقَالَ أَوْسَطُهُمْ: هُوَ خَيْرُهُمْ, فَقَالَ آخِرُهُمْ: خُذُوا خَيْرَهُمْ, فَكَانَتْ تِلْكَ اللَّيْلَةُ فَلَمْ يَرَهُمْ حَتَّى أَتَوْهُ لَيْلَةً أُخْرَى فِيمَا يَرَى قَلْبُهُ وَتَنَامُ عَيْنُهُ وَلَا يَنَامُ قَلْبُهُ, وَكَذَلِكَ الْأَنْبِيَاءُ تَنَامُ أَعْيُنُهُمْ وَلَا تَنَامُ قُلُوبُهُمْ. فَلَمْ يُكَلِّمُوهُ حَتَّى احْتَمَلُوهُ فَوَضَعُوهُ عِنْدَ بِئْرِ زَمْزَمَ فَتَوَلَّاهُ مِنْهُمْ جِبْرِيلُ فَشَقَّ جِبْرِيلُ مَا بَيْنَ نَحْرِهِ إِلَى لَبَّتِهِ حَتَّى أَفَرَغَ مِنْ صَدْرِهِ وَجَوْفِهِ فَغَسَلَهُ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ بِيَدِهِ حَتَّى أَنْقَى جَوْفَهُ. ثُمَّ أُتِيَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ فِيهِ تَوْرٌ مِنْ ذَهَبٍ مَحْشُوّ إِيمَانًا وَحِكْمَةً فَحَشَا بِهِ صَدْرَهُ وَلَغَادِيدَهُ -يَعْنِي عُرُوقَ حَلْقِهِ- ثُمَّ أَطْبَقَهُ. ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَضَرَبَ بَابًا مِنْ أَبْوَابِهَا فَنَادَاهُ أَهْلُ السَّمَاءِ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: جِبْرِيلُ. قَالُوا: وَمَنْ مَعَكَ؟ قال: محمد. قالوا: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ, قَالُوا: فَمَرْحَبًا بِهِ وَأَهْلًا, فَيَسْتَبْشِرُ أَهْلُ السَّمَاءِ لَا يَعْلَمُ أَهْلُ السَّمَاءِ بِمَا يُرِيدُ اللَّهُ بِهِ فِي الْأَرْضِ حَتَّى يُعْلِمَهُمْ, فَوَجَدَ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا آدَمَ فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: هَذَا أَبُوكَ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ, فَسَلَّمَ وَرَدَّ عَلَيْهِ آدَمُ وَقَالَ: مَرْحَبًا وَأَهْلًا يَا بُنَيَّ, نِعْمَ الِابْنُ أَنْتَ. فَإِذَا هُوَ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا بِنَهَرَيْنِ يَطَّرِدَانِ, فَقَالَ: مَا هَذَانِ النَّهَرَانِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَذَا النِّيلُ وَالْفُرَاتُ. ثُمَّ مَضَى بِهِ فِي السَّمَاءِ فَإِذَا هُوَ بِنَهَرٍ آخَرَ عَلَيْهِ قَصْرٌ مِنْ لُؤْلُؤٍ وَزَبَرْجَدٍ, فَضَرَبَ يَدَهُ فَإِذَا هُوَ مِسْكٌ, فَقَالَ: مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَذَا الْكَوْثَرُ الَّذِي خَبَأَ لَكَ
رَبُّكَ. ثُمَّ عَرَجَ إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ, فَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَتْ لَهُ الْأُولَى: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ, قَالُوا: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالُوا: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالُوا: مَرْحَبًا بِهِ وَأَهْلًا. ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ, وَقَالُوا مِثْلَ مَا قَالَتِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ, ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى الرَّابِعَةِ, فَقَالُوا لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ, ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الْخَامِسَةِ فَقَالُوا لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ, ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ السَّادِسَةِ فَقَالُوا لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ, ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ فَقَالُوا لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ, كُلُّ سَمَاءٍ فِيهَا أَنْبِيَاءُ قَدْ سَمَّاهُمْ فَأَوْعَيْتُ مِنْهُمْ إِدْرِيسَ فِي الثَّانِيَةِ وَهَارُونَ فِي الرَّابِعَةِ وَآخَرَ فِي الْخَامِسَةِ لَمْ أَحْفَظِ اسْمَهُ وَإِبْرَاهِيمَ فِي السَّادِسَةِ وَمُوسَى فِي السَّابِعَةِ بِتَفْضِيلِ كَلَامِ اللَّهِ, فَقَالَ مُوسَى: رَبِّ لَمْ أَظُنَّ أَنْ يُرْفَعَ عَلَيَّ أَحَدٌ, ثُمَّ عَلَا بِهِ فَوْقَ ذَلِكَ بِمَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى, حَتَّى جَاءَ سِدْرَةَ المنتهى ودنا الجبار رَبِّ الْعِزَّةِ فَتَدَلَّى حَتَّى كَانَ مِنْهُ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى, فَأَوْحَى اللَّهُ فِيمَا أَوْحَى إِلَيْهِ خَمْسِينَ صَلَاةً عَلَى أُمَّتِكَ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ, ثُمَّ هَبَطَ حَتَّى بَلَغَ مُوسَى فَاحْتَبَسَهُ مُوسَى فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ مَاذَا عَهِدَ إِلَيْكَ رَبُّكَ؟ قَالَ: عَهِدَ إِلَيَّ خَمْسِينَ صَلَاةً كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ, قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لَا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ فَارْجِعْ فَلْيُخَفِّفْ عَنْكَ رَبُّكَ وَعَنْهُمْ, فَالْتَفَتَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى جِبْرِيلَ كَأَنَّهُ يَسْتَشِيرُهُ فِي ذَلِكَ, فَأَشَارَ إِلَيْهِ جِبْرِيلُ أَنْ نَعَمْ إِنْ شِئْتَ, فَعَلَا بِهِ إِلَى الْجَبَّارِ فَقَالَ وَهُوَ مَكَانَهُ: يَا رَبِّ خَفِّفْ عَنَّا فَإِنَّ أُمَّتِي لَا تَسْتَطِيعُ هَذَا, فَوَضَعَ عَنْهُ عَشْرَ صَلَوَاتٍ, ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مُوسَى فَاحْتَبَسَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُرَدِّدُهُ مُوسَى إِلَى رَبِّهِ حَتَّى صَارَتْ إِلَى خَمْسِ صَلَوَاتٍ. ثُمَّ احْتَبَسَهُ مُوسَى عِنْدَ الْخَمْسِ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ وَاللَّهِ لَقَدْ رَاوَدْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَوْمِي عَلَى أَدْنَى مِنْ هَذَا فَضَعُفُوا فَتَرَكُوهُ فَأُمَّتُكَ أَضْعَفُ أَجْسَادًا وَقُلُوبًا وَأَبْدَانًا وَأَبْصَارًا وَأَسْمَاعًا فَارْجِعْ فَلْيُخَفِّفْ عَنْكَ رَبُّكَ, كُلَّ ذَلِكَ يَلْتَفِتُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى جِبْرِيلَ لِيُشِيرَ عَلَيْهِ وَلَا يَكْرَهُ ذَلِكَ جِبْرِيلُ, فَرَفَعَهُ عِنْدَ الْخَامِسَةِ فَقَالَ: يَا رَبِّ إِنَّ أُمَّتِي ضُعَفَاءُ أَجْسَامُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ وَأَسْمَاعُهُمْ وَأَبْدَانُهُمْ فَخَفِّفْ عَنَّا, فَقَالَ الْجَبَّارُ: يَا مُحَمَّدُ, قَالَ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ. قَالَ: إِنَّهُ لَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ, كَمَا فَرَضْتُ عَلَيْكَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ. قَالَ فَكُلُّ حَسَنَةٍ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا فَهِيَ خَمْسُونَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ وَهِيَ خَمْسٌ عَلَيْكَ. فَرَجَعَ إِلَى مُوسَى فَقَالَ: كَيْفَ فَعَلْتَ؟ فَقَالَ: خَفَّفَ عَنَّا أَعْطَانَا بِكُلِّ حَسَنَةٍ عَشْرَ أَمْثَالِهَا, قَالَ مُوسَى: قَدْ وَاللَّهِ
رَاوَدْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ فَتَرَكُوهُ, ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَلْيُخَفِّفْ عَنْكَ أَيْضًا, قَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا مُوسَى قَدْ وَاللَّهِ اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِّي مِمَّا اخْتَلَفْتُ إِلَيْهِ. قَالَ فَاهْبِطْ بِاسْمِ اللَّهِ. قَالَ: وَاسْتَيْقَظَ وهو في المسجد الْحَرَامِ"1. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ بَعْدَ حَدِيثِ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ أَصْلُهُ, وَقَالَ نَحْوَ حَدِيثِ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ وَقَدَّمَ فِيهِ شَيْئًا وَأَخَّرَ وَزَادَ وَنَقَصَ, وَهَذَا السِّيَاقُ رِوَايَتُهُ لِحَدِيثِ ثَابِتٍ, قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ حَدَّثَنَا ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "أُتِيتُ بِالْبُرَاقِ, وَهُوَ دَابَّةٌ, أَبْيَضُ طَوِيلٌ فَوْقَ الْحِمَارِ وَدُونَ الْبَغْلِ يَضَعُ حَافِرَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهِ, قَالَ: فَرَكِبْتُهُ حَتَّى أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ. قَالَ فَرَبَطْتُهُ بِالْحَلْقَةِ التي يربط بها الْأَنْبِيَاءُ. قَالَ: ثُمَّ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَصَلَّيْتُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ خَرَجْتُ, فَجَاءَنِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ فَاخْتَرْتُ اللَّبَنَ فَقَالَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: اخْتَرْتَ الْفِطْرَةَ, ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ فَقِيلَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ. فَفُتِحَ لَنَا فَإِذَا أَنَا بِآدَمَ فَرَحَّبَ بِي وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ, ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ, فَقِيلَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ, فَفُتِحَ لَنَا فَإِذَا أَنَا بِابْنَيِ الْخَالَةِ عِيسَى بن مَرْيَمَ ويحيى بن زكريا صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا وَسَلَامُهُ, فَرَحَّبَا وَدَعَوَا لِي بِخَيْرٍ, ثُمَّ عَرَجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ فَقِيلَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ. فَفُتِحَ لَنَا فَإِذَا أَنَا
بِيُوسُفَ عليه السلام إذ هُوَ قَدْ أُعْطِيَ شَطْرَ الْحُسْنِ فَرَحَّبَ وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ. ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ. فَفُتِحَ الْبَابُ فَإِذَا أَنَا بِإِدْرِيسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَرَحَّبَ وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ, قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مَرْيَمَ: 57] ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الْخَامِسَةِ فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ, قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ. فَفُتِحَ لَنَا فَإِذَا أَنَا بِهَارُونَ عَلَيْهِ السَّلَامُ, فَرَحَّبَ وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ, ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ السَّادِسَةِ فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ, وَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ. فَفُتِحَ لَنَا فَإِذَا بِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَرَحَّبَ بِي وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ, ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ. فَفُتِحَ لَنَا فَإِذَا أَنَا بِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إِلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ, وَإِذَا هُوَ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ ملك ثم لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ, ثُمَّ ذَهَبَ بِي إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى, وَإِذَا وَرَقُهَا كَآذَانِ الفيلة وإذا تمرها كَالْقِلَالِ, قَالَ: فَلَمَّا غَشِيَهَا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ مَا غَشِيَ تَغَيَّرَتْ فَمَا أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنْعَتَهَا مِنْ حُسْنِهَا, فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيَّ مَا أَوْحَى, فَفَرَضَ عَلَيَّ خَمْسِينَ صَلَاةً فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ. فَنَزَلْتُ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ: مَا فَرَضَ رَبُّكَ عَلَى أُمَّتِكَ؟ قُلْتُ: خَمْسِينَ صَلَاةً, قَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ؛ فَإِنَّ أُمَّتَكَ لَا يُطِيقُونَ ذَلِكَ فَإِنِّي قَدْ بَلَوْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَخَبَرْتُهُمْ. قَالَ: فَرَجَعْتُ إِلَى رَبِّي فَقُلْتُ: يَا رَبِّ خَفِّفْ عَنْ أُمَّتِي فَحَطَّ عَنِّي خَمْسًا, فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقُلْتُ: حَطَّ عَنِّي خَمْسًا, قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ ذَلِكَ؛ فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ قَالَ: فَلَمْ أَزَلْ أَرْجِعُ بَيْنَ رَبِّي تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَبَيْنَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حَتَّى قَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّهُنَّ خَمْسُ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لِكُلِّ صَلَاةٍ عَشْرٌ فَذَلِكَ خَمْسُونَ صَلَاةً, وَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً, فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْرًا. وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا لَمْ تُكْتَبْ شَيْئًا, فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ سَيِّئَةً وَاحِدَةً. قَالَ: فَنَزَلْتُ حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ
السَّلَامُ فَأَخْبَرْتُهُ, فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَقُلْتُ: قَدْ رَجَعْتُ إِلَى رَبِّي حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ"1. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: بَابَ كَيْفَ فُرِضَتِ الصَّلَاةُ فِي الْإِسْرَاءِ. حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يُونُسَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ أَبُو ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: فُرِجَ عَنْ سَقْفِ بَيْتِي وَأَنَا بِمَكَّةَ فَنَزَلَ جِبْرِيلُ فَفَرَجَ صَدْرِي ثُمَّ غَسَلَهُ بِمَاءِ زَمْزَمَ ثُمَّ جَاءَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً وَإِيمَانًا فَأَفْرَغَهُ فِي صَدْرِي, ثُمَّ أَطْبَقَهُ, ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي فَخَرَجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا. فَلَمَّا جِئْتُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا قَالَ جِبْرِيلُ لِخَازِنِ السَّمَاءِ: افْتَحْ قَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قَالَ: هَلْ مَعَكَ أَحَدٌ؟ قَالَ: نَعَمْ, مَعِي مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَلَمَّا فَتَحَ عَلَوْنَا السَّمَاءَ الدُّنْيَا فَإِذَا رَجُلٌ قَاعِدٌ عَلَى يَمِينِهِ أَسْوِدَةٌ وَعَلَى يَسَارِهِ أَسْوِدَةٌ, إِذَا نَظَرَ قِبَلَ يَمِينِهِ ضَحِكَ وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ يَسَارِهِ بَكَى, فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالِابْنِ الصَّالِحِ, قُلْتُ لِجِبْرِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا آدَمُ وَهَذِهِ الْأَسْوِدَةُ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ نَسَمُ بَنِيهِ, فَأَهْلُ الْيَمِينِ مِنْهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ وَالْأَسْوِدَةُ الَّتِي عَنْ شِمَالِهِ أَهْلُ النَّارِ, فَإِذَا نَظَرَ عَنْ يَمِينِهِ ضَحِكَ وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ شِمَالِهِ بَكَى, حَتَّى عَرَجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ فَقَالَ لِخَازِنِهَا: افْتَحْ. فَقَالَ لَهُ خَازِنُهَا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُ فَفَتَحَ, قَالَ أَنَسٌ: فَذَكَرَ أَنَّهُ وجد في السموات آدَمَ وَإِدْرِيسَ وَمُوسَى وَعِيسَى وَإِبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ, وَلَمْ يُثْبِتْ كَيْفَ مَنَازِلُهُمْ غَيْرَ أَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُ وَجَدَ آدَمَ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَإِبْرَاهِيمَ فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ, قَالَ أَنَسٌ: فَلَمَّا مَرَّ جِبْرِيلُ بِالنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِإِدْرِيسَ قَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالْأَخِ الصَّالِحِ, فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا إِدْرِيسُ, ثُمَّ مَرَرْتُ بِمُوسَى فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالْأَخِ الصَّالِحِ. قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا مُوسَى, ثُمَّ مَرَرْتُ بِعِيسَى فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالْأَخِ الصَّالِحِ, قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا عِيسَى, ثُمَّ مَرَرْتُ بِإِبْرَاهِيمَ فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالِابْنِ الصَّالِحِ, قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ, قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَأَخْبَرَنِي
ابْنُ حَزْمٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَأَبَا حَبَّةَ الْأَنْصَارِيَّ كَانَا يَقُولَانِ: قَالَ النَّبِيُّ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ثُمَّ عَرَجَ بِي حَتَّى ظَهَرْتُ لِمُسْتَوًى أَسْمَعُ فِيهِ صَرِيفَ الْأَقْلَامِ". قَالَ ابْنُ حَزْمٍ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَفَرَضَ اللَّهُ عَلَى أُمَّتِي خَمْسِينَ صَلَاةً, فَرَجَعْتُ بِذَلِكَ حَتَّى مَرَرْتُ عَلَى مُوسَى فَقَالَ مَا فَرَضَ اللَّهُ لَكَ عَلَى أُمَّتِكَ؟ قُلْتُ: فَرَضَ خَمْسِينَ صَلَاةً قَالَ: فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَإِنَّ أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ ذَلِكَ, فَرَاجَعْتُ فَوَضَعَ شَطْرَهَا, فَرَجِعْتُ إِلَيْهِ فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَإِنَّ أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ ذَلِكَ, فَرَاجَعْتُهُ فَقَالَ: هِيَ خَمْسٌ وَهِيَ خَمْسُونَ لَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ, فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ: رَاجِعْ رَبَّكَ. فَقُلْتُ: اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِّي ثُمَّ انْطَلَقَ بِي حَتَّى انْتَهَى بِي إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى وَغَشِيَهَا أَلْوَانٌ لَا أَدْرِي مَا هِيَ, ثُمَّ أُدْخِلْتُ الْجَنَّةَ فَإِذَا فِيهَا جِبَالُ اللُّؤْلُؤِ وَإِذَا تُرَابُهَا الْمِسْكُ". وَافَقَهُ عَلَيْهِ مُسْلِمٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى1. وَلَهُ عَنْ مُرَّةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: لَمَّا أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- انْتَهِي بِهِ إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى وَهِيَ فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ إِلَيْهَا يَنْتَهِي مَا يُعْرَجُ بِهِ مِنَ الْأَرْضِ فَيُقْبَضُ مِنْهَا, وإليها يَنْتَهِي مَا يُهْبَطُ بِهِ مِنْ فَوْقِهَا فَيُقْبَضُ مِنْهَا, قَالَ: {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} [النَّجْمِ: 16] قَالَ فِرَاشٌ مِنْ ذَهَبٍ قَالَ: فَأُعْطِيَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثَلَاثًا: أُعْطِيَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ, وَأُعْطِيَ خَوَاتِيمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ, وَغُفِرَ لِمَنْ لَمْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ مِنْ أُمَّتِهِ شَيْئًا الْمُقْحِمَاتُ2. وَلَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي الْحِجْرِ وَقُرَيْشٌ تَسْأَلُنِي عَنْ مَسْرَايَ, فَسَأَلَتْنِي عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَمْ أُثْبِتْهَا, فَكُرِبْتُ كُرْبَةً مَا كُرِبْتُ مِثْلَهَا قَطُّ, قَالَ: فَرَفَعَهُ اللَّهُ لِي أَنْظُرُ إِلَيْهِ: مَا يَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أَنْبَأْتُهُمْ بِهِ" 3 الْحَدِيثَ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَجَابِرٍ وَمَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ وَأَبِي ذَرٍّ وَابْنِ
مَسْعُودٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي حَبَّةَ هِيَ مِنْ أَصَحِّ مَا وَرَدَ وَأَقْوَاهُ وَأَجْوَدَهُ وَأَسْنَدَهُ وَأَشْهَرَهُ وَأَظْهَرَهُ لِاتِّفَاقِ الشَّيْخَيْنِ عَلَى إِخْرَاجِهِمَا, وَعَنْ هَؤُلَاءِ رِوَايَاتٍ أُخَرَ لَمْ نَذْكُرْهَا اسْتِغْنَاءً عَنْهَا بِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ أُخَرُ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَذْكُرْ: عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعَلِيٌّ وَأَبُو سَعِيدٍ وَشَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ قُرَظٍ وَأَبُو لَيْلَى وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو وَحُذَيْفَةُ وَبُرَيْدَةُ وَأَبُو أَيُّوبَ وَأَبُو أُمَامَةَ وَسَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ وَأَبُو الْحَمَأِ وَصُهَيْبٌ الرُّومِيُّ وَأُمُّ هَانِئٍ وَعَائِشَةُ وَأَسْمَاءُ ابْنَتَا أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ الله عنهم أحمعين. ثُمَّ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ أَنَّ الْإِسْرَاءَ وَالْمِعْرَاجَ كَانَا يَقَظَةً لَا مَنَامًا, وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ مَا ذُكِرَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ فِي قَوْلِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ فَإِنَّ ذَلِكَ عِنْدَ أَوَّلِ مَا أَتَيَاهُ وَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ اسْتَمَرَّ نَائِمًا, وَلِذَا كَانَتْ رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَحَيَّا, وَلَكِنْ فِي سِيَاقِ الْأَحَادِيثِ مِنْ رُكُوبِهِ وَنُزُولِهِ وَرَبْطِهِ وَصَلَاتِهِ وَصُعُودِهِ وَهُبُوطِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أُسْرِيَ بِرُوحِهِ وَجَسَدِهِ يَقَظَةً لَا مَنَامًا, وَكَذَا لَا يُنَافِي ذَلِكَ رِوَايَةُ شَرِيكٍ "فَاسْتَيْقَظْتُ وَأَنَا بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ" فَإِنَّ رِوَايَةَ شَرِيكٍ فِيهَا أَوْهَامٌ كَثِيرَةٌ تُخَالِفُ رِوَايَةَ الْجُمْهُورِ عَنْ أَنَسٍ فِي أَكْثَرِ مِنْ عَشَرَةِ مَوَاضِعَ سَرْدُهَا فِي الْفَتْحِ, وَسِيَاقُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ بِالْمَعْنَى, وَصَرَّحَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ أَنَّهُ لَمْ يُثْبِتْهَا, وَتَصْرِيحُ الْآيَةِ {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الْإِسْرَاءِ: 1] شَامِلٌ لِلرُّوحِ وَالْجَسَدِ, وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ النَّجْمِ: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} [النَّجْمِ: 13] جَعَلَ رُؤْيَةَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِجِبْرِيلَ عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى مُقَابِلًا لِرُؤْيَتِهِ إِيَّاهُ فِي الْأَبْطُحِ, وَهِيَ رُؤْيَةُ عَيْنٍ حَقِيقَةً لَا مَنَامًا, وَلَوْ كَانَ الْإِسْرَاءُ وَالْمِعْرَاجُ بِرُوحِهِ فِي الْمَنَامِ لَمْ تَكُنْ مُعْجِزَةً وَلَا كَانَ لِتَكْذِيبِ قُرَيْشٍ بِهَا وَقَوْلِهِمْ كُنَّا نَضْرِبُ أَكْبَادَ الْإِبِلِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ شَهْرًا ذَهَابًا وَشَهْرًا إِيَابًا, وَمُحَمَّدٌ يَزْعُمُ أَنَّهُ أُسَرِيَ بِهِ إِلَيْهِ وَأَصْبَحَ فِينَا, إِلَى آخِرِ تَكْذِيبِهِمْ وَاسْتِهْزَائِهِمْ بِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَوْ كَانَ ذَلِكَ رُؤْيَا مَنَامًا لَمْ يَسْتَبْعِدُوهُ وَلَمْ يَكُنْ لِرَدِّهِمْ عَلَيْهِ مَعْنًى؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَرَى فِي مَنَامِهِ مَا هُوَ أَبْعَدُ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَلَا يُكَذِّبُهُ أَحَدٌ اسْتِبْعَادًا لِرُؤْيَاهُ, وَإِنَّمَا قَصَّ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَسْرَى حَقِيقَةٍ يَقَظَةً لَا مَنَامًا فَكَذَّبُوهُ وَاسْتَهْزَءُوا به استبعادا لذالك وَاسْتِعْظَامًا لَهُ, مَعَ نَوْعِ مُكَابَرَةٍ لِقِلَّةِ عِلْمِهِمْ بِقُدْرَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَأَنَّ اللَّهَ
هل رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- ربه ليلة المعراج؟
يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ وَلِهَذَا لَمَّا قَالُوا لِلصِّدِّيقِ وَأَخْبَرُوهُ الْخَبَرَ قَالَ: إِنْ كَانَ قَالَ ذَلِكَ لَقَدْ صَدَقَ, قَالُوا: وَتُصَدِّقُهُ بِذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ, إِنِّي لَأُصَدِّقُهُ فِيمَا هُوَ أَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ فِي خَبَرِ السَّمَاءِ يَأْتِيهِ, يَأْتِيهِ بُكْرَةً وَعَشِيًّا. أَوْ كَمَا قَالَ. [هَلْ رَأَى النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَبَّهُ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ] : وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ الصَّالِحُ هَلْ رَأَى نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَبَّهُ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ؟ فَرَوَى ابْنُ خُزَيْمَةَ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَتَعْجَبُونَ أَنْ تَكُونَ الْخُلَّةُ لِإِبْرَاهِيمَ وَالْكَلَامُ لِمُوسَى, وَالرُّؤْيَةُ لِمُحَمَّدٍ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ1؟ وَعَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ وَسُئِلَ هَلْ رَأَى مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَبَّهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَقُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: أَلَيْسَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} [الْأَنْعَامِ: 103] ؟ قَالَ: لَا أُمَّ لَكَ, ذَلِكَ نُورُهُ إِذَا تَجَلَّى بِنُورِهِ لَمْ يُدْرِكْهُ شَيْءٌ2. وَرَوَى عَنْهُ مِنْ طُرُقٍ لَا تُحْصَى كَثْرَةً قَالَ: رَأَى مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَبَّهُ3. وَعَنْهُ رَآهُ بِقَلْبِهِ4. وَفِي رِوَايَةٍ: رَآهُ بِفُؤَادِهِ مَرَّتَيْنِ5, رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ. وَلَهُ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ؟. قَالَ: نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ؟ وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: رَأَيْتُ نُورًا1. قَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي قَوْلِهِ: " نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ": هَذَا يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ عَلَى سِعَةِ لِسَانِ الْعَرَبِ: أَحَدُهُمَا الْإِثْبَاتُ وَمَعْنَاهُ إِنِّي أَرَاهُ, أَوْ كَيْفَ أَرَاهُ فَهُوَ نُورٌ أَوْ فإن ما أرى نُورٌ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا رِوَايَةُ "رَأَيْتُ نُورًا". الْمَعْنَى الثَّانِي النَّفْيُ قَالَ: وَالْعَرَبُ قَدْ تَقُولُ "أَنَّى" عَلَى مَعْنَى النَّفْيِ كَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا} [الْبَقَرَةِ: 247] الْآيَةَ, يُرِيدُونَ كَيْفَ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ, ثُمَّ رَوَى عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: رَآهُ بِقَلْبِهِ وَلَمْ يَرَهُ بِعَيْنِهِ2. وَلَهُ عَنْ عَبَّادِ بْنِ مَنْصُورٍ قَالَ: سَأَلْتُ الْحَسَنَ فَقُلْتُ: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} [النَّجْمِ: 8] مَنْ ذَا يَا أَبَا سَعِيدٍ؟ قَالَ: رَبِّيَ3. وَلَهُ عَنِ الْمُبَارَكِ بْنِ فَضَالَةَ قَالَ: كَانَ الْحَسَنُ يَحْلِفُ بِاللَّهِ لَقَدْ رَأَى مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَبَّهُ3. وَلَهُ عَنْ كَعْبٍ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَسَّمَ رُؤْيَتَهُ وَكَلَامَهُ بَيْنَ مُوسَى وَمُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا فَرَآهُ مُحَمَّدٌ مَرَّتَيْنِ وَكَلَّمَ مُوسَى مَرَّتَيْنِ5. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَبَّادِ بْنِ مَنْصُورٍ قَالَ: سَأَلْتُ عِكْرِمَةَ عَنْ قَوْلِهِ: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النَّجْمِ: 11] فَقَالَ عِكْرِمَةُ: تُرِيدُ أَنْ أُخْبِرَكَ أَنَّهُ قَدْ رَآهُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: قَدْ رَآهُ, ثُمَّ قَدْ رَآهُ6. وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ؟ قَالَ: "لَمْ أَرَهُ
بِعَيْنِي, وَرَأَيْتُهُ بِفُؤَادِي مَرَّتَيْنِ" ثُمَّ تَلَا {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} [النَّجْمِ: 8] 1. وَقَالَ الْبَغَوِيُّ: وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّهُ رَآهُ بِعَيْنِهِ, وَهُوَ أَنَسٌ وَالْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ قَالُوا: رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَقَوْلُ الْبَغَوِيِّ فِيهِ نَظَرٌ2. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: يَا أُمَّتَاهُ هَلْ رَأَى مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَبَّهُ؟ فَقَالَتْ: لَقَدْ قَفَّ شَعْرِيَ مِمَّا قُلْتَ, أَيْنَ أَنْتَ مِنْ "ثَلَاثٍ مَنْ حَدَّثَكَهُنَّ فَقَدْ كَذَبَ: مَنْ حدثك أن محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ كَذَبَ -ثُمَّ قَرَأَتْ {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الْأَنْعَامِ: 103] {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الشُّورَى: 51]- وَمَنْ حَدَّثَكَ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ فَقَدْ كَذَبَ. ثُمَّ قَرَأَتْ {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} [لُقْمَانَ: 34] وَمَنْ حَدَّثَ أَنَّهُ كَتَمَ فَقَدْ كَذَبَ. ثُمَّ قَرَأْتُ {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [الْمَائِدَةِ: 67] الْآيَةَ. وَلَكِنَّهُ رَأَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي صُورَتِهِ مَرَّتَيْنِ"3 هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ وَلَفْظُ مُسْلِمٍ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: كُنْتُ مُتَّكِئًا عِنْدَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقَالَتْ: "يَا أَبَا عَائِشٍ ثَلَاثٌ مَنْ تَكَلَّمَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ, قُلْتُ: مَا هُنَّ؟ قَالَتْ: مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ. قَالَ: وَكُنْتُ مُتَّكِئًا فَجَلَسْتُ فَقُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَنْظِرِينِي وَلَا تَعْجَلِينِي, أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ} [التَّكْوِيرِ: 23] {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النَّجْمِ: 13] فَقَالَتْ: أَنَا أَوَّلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: "إِنَّمَا هُوَ جِبْرِيلُ لَمْ أَرَهُ عَلَى صُورَتِهِ الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا غَيْرَ هَاتَيْنِ الْمَرَّتَيْنِ, مُنْهَبِطًا مِنَ السَّمَاءِ سَادًّا عِظَمُ خَلْقِهِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ".
فَقَالَتْ: أَوَ لَمْ تَسْمَعْ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الْأَنْعَامِ: 103] أَوَ لَمْ تَسْمَعْ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الشُّورَى: 51] قَالَتْ: وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَتَمَ شَيْئًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ وَاللَّهُ يَقُولُ: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [الْمَائِدَةِ: 67] قَالَتْ: وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يُخْبِرُ بِمَا يَكُونُ فِي غَدٍ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ, وَاللَّهُ يَقُولُ: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النَّمْلِ: 65] وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ -قَالَتْ: وَلَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَاتِمًا شَيْئًا مِمَّا أُنْزِلَ إِلَيْهِ لَكَتَمَ هَذِهِ الْآيَةَ {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الْأَحْزَابِ: 37] 1. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ مَسْعُودٍ فِي آيَةِ النَّجْمِ مِثْلَ قَوْلِ عَائِشَةَ2.
قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنِ خُزَيْمَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي قَوْلِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا "فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ" قَالَ: هَذِهِ لَفْظَةٌ أَحْسَبُ عَائِشَةَ تَكَلَّمَتْ بِهَا فِي وَقْتِ غَضَبٍ, كَانَتْ لَفْظَةٌ أَحْسَنَ مِنْهَا يَكُونُ فِيهَا دَرْكٌ لِبُغْيَتِهَا, كَانَ أَجْمَلَ بِهَا, لَيْسَ يَحْسُنُ فِي اللَّفْظِ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ أَوْ قَائِلَةٌ قَدْ أَعْظَمَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْفِرْيَةَ وَأَبُو ذَرٍّ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَجَمَاعَاتٌ مِنَ النَّاسِ الْفِرْيَةَ عَلَى رَبِّهِمْ, وَلَكِنْ قَدْ يَتَكَلَّمُ الْمَرْءُ عِنْدَ الْغَضَبِ بِاللَّفْظَةِ الَّتِي يَكُونُ غَيْرُهَا أَحْسَنَ وَأَجْمَلَ مِنْهَا, أَكْثَرُ مَا فِي هَذَا أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَأَبَا ذَرٍّ وَابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَأَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَدِ اخْتَلَفُوا: هَلْ رَأَى النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَبَّهُ؟ فَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: لَمْ يَرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَبَّهُ, وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ وَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: قَدْ رَأَى النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَبَّهُ, وَقَدْ أَعْلَمْتُ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كُتُبِنَا أَنَّ النَّفْيَ لَا يُوجِبُ عِلْمًا, وَالْإِثْبَاتَ هُوَ الَّذِي يُوجِبُ الْعِلْمَ. لَمْ تَحْكِ عَائِشَةُ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ خَبَّرَهَا أَنَّهُ لَمْ يَرَ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ1, وَإِنَّمَا تَلَتْ قَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الْأَنْعَامِ: 103] وَقَوْلَهُ: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا} [الشُّورَى: 51] وَمَنْ تَدَبَّرَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ وَوُفِّقَ لِإِدْرَاكِ الصَّوَابِ عَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي وَاحِدَةٍ مِنَ الْآيَتَيْنِ مَا يَسْتَحِقُّ مَنْ قال إن محمد رَأَى رَبَّهُ الرَّمْيَ بِالْفِرْيَةِ عَلَى اللَّهِ, كَيْفَ بِأَنْ يَقُولَ قَدْ أَعْظَمَ الْفَرْيَةَ عَلَى اللَّهِ, ثُمَّ قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى: فَقَدْ ثَبَتَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِثْبَاتُهُ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ رَأَى رَبَّهُ1, وَبِيَقِينٍ يَعْلَمُ كُلُّ عَالِمٍ أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنَ الْجِنْسِ الَّذِي يُدْرَكُ بِالْعُقُولِ وَالْآرَاءِ وَالْجَنَانِ وَالظُّنُونِ, وَلَا يُدْرَكُ مِثْلُ هَذَا الْعِلْمِ إِلَّا مِنْ طَرِيقِ النُّبُوَّةِ إِمَّا بِكُتَّابٍ أَوْ بُقُولِ نَبِيٍّ مُصْطَفًى, وَلَا أَظُنُّ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَتَوَهَّمُ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ رَأَى النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَبَّهُ بِرَأْيٍ وَلَا ظَنٍّ لَا وَلَا أَبُو ذَرٍّ وَلَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ. نَقُولُ كَمَا قَالَ مَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ لَمَّا ذُكِرَ اخْتِلَافُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: مَا عَائِشَةُ عِنْدَنَا أَعْلَمَ مِنَ ابْنِ عَبَّاسٍ, نَقُولُ عَائِشَةُ الصِّدِّيقَةُ بِنْتُ الصِّدِّيقِ حَبِيبَةُ حَبِيبِ اللَّهِ عَالِمَةٌ فَقِيهَةٌ, كَذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ابْنُ عَمِّ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ دَعَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَهُ أَنْ يُرْزَقَ الْحِكْمَةَ وَالْعِلْمَ. وَهَذَا الْمَعْنَى مِنَ الدُّعَاءِ وَهُوَ الْمُسَمَّى تُرْجُمَانُ الْقُرْآنِ, وَقَدْ كَانَ الْفَارُوقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَسْأَلُهُ عَنْ مَعَانِي الْقُرْآنِ فَيَقْبَلُ مِنْهُ وَإِنْ خَالَفَهُ غَيْرُهُ مِمَّنْ هُوَ أَكْبَرُ سِنًّا مِنْهُ وَأَقْدَمُ صُحْبَةً لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَإِذَا اخْتَلَفَا فَمُحَالٌ أَنْ يُقَالَ قَدْ أَعْظَمَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْفِرْيَةَ عَلَى اللَّهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَثْبَتَ شَيْئًا نَفَتْهُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا, وَالْعُلَمَاءُ لَا يُطْلِقُونَ هَذِهِ اللَّفْظَةَ, وَإِنْ غَلِطَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي مَعْنَى الْآيَةِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَوْ خَالَفَ سُنَّةً أَوْ سُنَنًا مِنْ سُنَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمْ تَبْلُغِ الْمَرْءَ تِلْكَ السُّنَنُ, فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ أَعْظَمَ الْفِرْيَةَ عَلَى اللَّهِ مَنْ أَثْبَتَ شيئا لم ينفعه كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ, فَتَفْهَمُوا هَذَا لَا تُغَالِطُوا. ثُمَّ قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَقَدْ كُنْتُ قَدِيمًا أَقُولُ إِنَّ عَائِشَةَ حَكَتْ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا كَانَتْ تَعْتَقِدُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمْ يَرَ رَبَّهُ جَلَّ وَعَلَا وَأَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَعْلَمَهَا ذَلِكَ وَذَكَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَأَبُو ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ رَأَى رَبَّهُ لَعَلِمَ كُلُّ عَالِمٍ يَفْهَمُ هَذِهِ الصِّنَاعَةَ أَنَّ الْوَاجِبَ مِنْ طَرِيقِ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ قَبُولُ قَوْلِ مَنْ رَوَى عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ رَأَى رَبَّهُ, إِذْ جَائِزٌ أَنْ تَكُونَ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا سَمِعَتِ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ لَمْ أَرَ رَبِّي قَبْلَ أَنْ يَرَى رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ, ثُمَّ يَسْمَعُ غَيْرُهَا أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُخْبِرُ أَنَّهُ قَدْ رَأَى رَبَّهُ بَعْدَ رُؤْيَتِهِ رَبَّهُ, فَيَكُونُ الْوَاجِبُ مِنْ طَرِيقِ الْعِلْمِ قَبُولَ خَبَرِ مَنْ أَخْبَرَ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَأَى رَبَّهُ2. انْتَهَى كَلَامُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ.
حديث الهجرة
حَدِيثُ الْهِجْرَةِ: وَبَعْدَ أَعْوَامٍ ثَلَاثَةٍ مَضَتْ ... مِنْ بَعْدِ مِعْرَاجِ النَّبِيِّ وَانْقَضَتْ أُوذِنَ بِالْهِجْرَةِ نَحْوَ يَثْرِبَا ... مَعَ كُلِّ مُسْلِمٍ لَهُ قَدْ صَحِبَا "وَبَعْدَ أَعْوَامٍ ثَلَاثَةٍ" وَقِيلَ خَمْسَةٍ, وَقِيلَ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ وَقِيلَ أَكْثَرُ, وَهَذَا الَّذِي فِي الْمَتْنِ هُوَ اخْتِيَارُ الشَّيْخِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الثَّلَاثَةِ الْأُصُولِ1, وَلَهُ فِيهِ سَلَفٌ, وَلَيْسَتْ مَسْأَلَةُ التَّارِيخِ اعْتِقَادِيَّةً فِي هَذَا الْبَابِ, وَالْإِسْرَاءُ وَالْمِعْرَاجُ ثَابِتٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ فَلَا تَأْثِيرَ لِاخْتِلَافِ أَهْلِ السِّيَرِ فِي تَارِيخِهِ وَتَعْيِينِ سُنَّتِهِ وَوَقْتِهِ. غَيْرَ أَنَّ الرَّاجِحَ فِيهِ كَوْنُهُ بَيْنَ عَاشِرِ الْبِعْثَةِ وَبَيْنَ هِجْرَتِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى الْمَدِينَةِ, وَعَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَدْرَكَتْ فَرِيضَةَ الصَّلَوَاتِ2 فَالْمِعْرَاجُ فِي سَنَةِ عَشْرٍ أَوْ قَبْلَهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ؛ لِأَنَّهَا تُوُفِّيَتْ هِيَ وَأَبُو طَالِبٍ فِي ذَلِكَ الْعَامِ3. "أُوذِنَ بِالْهِجْرَةِ" أَمَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا "نَحْوَ يَثْرِبَ" وَهِيَ الْمَدِينَةُ الْمُنَوَّرَةُ "مَعَ كُلِّ مُسْلِمٍ" فِي ذَاكَ الزَّمَنِ "لَهُ قَدْ صَحِبَا" عَلَى الْإِسْلَامِ, وَكَانَتْ هِجْرَةُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَعْدَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً مِنَ الْبَعْثَةِ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً. قَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدَّثَنَا مَطَرُ بْنُ الْفَضْلِ حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِأَرْبَعِينَ سَنَةً, فَمَكَثَ بِمَكَّةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً يُوحَى إِلَيْهِ, ثُمَّ أُمِرَ
بِالْهِجْرَةِ فَهَاجَرَ عَشْرَ سِنِينَ, وَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ1. وَقَالَ الْبَغَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي تَفْسِيرِ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الْأَنْفَالِ: 30] وَهَذِهِ الْآيَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى قَوْلِهِ: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ} وَاذْكُرْ {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ} وَأَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مَدَنِيَّةٌ, وَهَذَا الْمَكْرُ وَالْقَوْلُ إِنَّمَا كَانَ بِمَكَّةَ, وَلَكِنَّ اللَّهَ ذَكَرَهُمْ بِالْمَدِينَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} [التَّوْبَةِ: 40] وَكَانَ هَذَا الْمَكْرُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ التَّفْسِيرِ أَنَّ قُرَيْشًا فَرِقُوا لَمَّا أَسْلَمَتِ الْأَنْصَارُ أَنْ يَتَفَاقَمَ أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَاجْتَمَعَ نَفَرٌ مِنْ كِبَارِهِمْ فِي دَارِ النَّدْوَةِ لِيَتَشَاوَرُوا فِي أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَكَانَتْ رُءُوسُهُمْ عَتَبَةُ وَشَيْبَةُ ابْنَا رَبِيعَةَ وَأَبُو جَهِلَ بْنُ هِشَامٍ وَأَبُو سُفْيَانَ وَالْمُطْعَمُ بْنُ عَدِيٍّ وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وَالنَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ وَأَبُو الْبَخْتَرِيُّ بْنُ هِشَامٍ وَزَمْعَةُ بْنُ الْأَسْوَدِ وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ وَنَبِيهٌ وَمُنَبِّهُ بْنُ الْحَجَّاجِ وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ, فَاعْتَرَضَهُمْ إِبْلِيسُ لَعَنَهُ اللَّهُ فِي صُورَةِ شَيْخٍ, فَلَمَّا رَأَوْهُ قَالُوا: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: شَيْخٌ مِنْ نَجْدٍ سَمِعْتُ بِاجْتِمَاعِكُمْ فَأَرَدْتُ أَنْ أَحْضُرَكُمْ وَلَنْ تُعْدَمُوا مِنِّي رَأْيًا وَنُصْحًا. قَالُوا: ادْخُلْ فَدَخَلَ, فَقَالَ أَبُو الْبَخْتَرِيُّ: أَمَّا أَنَا فَأَرَى أن تأخذوا محمد وَتَحْبِسُوهُ فِي بَيْتٍ وَتَشُدُّوا وِثَاقَهُ, وَتَسُدُّوا بَابَ الْبَيْتِ, غَيْرَ كَوَّةٍ تُلْقُونَ إِلَيْهِ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَتَتَرَبَّصُوا بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ حَتَّى يَهْلَكَ فِيهِ كَمَا هَلَكَ مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الشُّعَرَاءِ, قَالَ: فَصَرَخَ عَدُوُّ اللَّهِ الشَّيْخُ النَّجْدِيُّ, وَقَالَ: بِئْسَ الرَّأْيُ رَأَيْتُمْ, وَاللَّهِ لَئِنْ حَبَسْتُمُوهُ فِي بَيْتٍ فَخَرَجَ أَمَرُهُ مِنْ وَرَاءِ الْبَابِ الَّذِي أَغْلَقْتُمْ دُونَهُ إِلَى أَصْحَابِهِ فَيُوشِكُ أَنْ يَثِبُوا عَلَيْكُمْ وَيُقَاتِلُوكُمْ وَيَأْخُذُوهُ مِنْ أَيْدِيكُمْ. قَالُوا: صَدَقَ الشَّيْخُ النَّجْدِيُّ, فَقَالَ هِشَامُ بْنُ عَمْرٍو مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ: أَمَّا أَنَا فَأَرَى أَنْ تَحْمِلُوهُ عَلَى بَعِيرٍ وَتُخْرِجُوهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِكُمْ فَلَا يَضُرُّكُمْ مَا صَنَعَ وَإِلَى أَيْنَ وَقَعَ إِذَا غَابَ عَنْكُمْ وَاسْتَرَحْتُمْ مِنْهُ. فَقَالَ إِبْلِيسُ لَعَنَهُ اللَّهُ: مَا هَذَا لَكُمْ بِرَأْيٍ تَعْتَمِدُونَهُ, تَعْمِدُونَ إِلَى رَجُلٍ قَدْ أَفْسَدَ أَحْلَامَكُمْ فَتُخْرِجُونَهُ إِلَى غَيْرِكُمْ فَيُفْسِدُهُمْ, أَلَمْ تَرَوْا إِلَى حَلَاوَةِ مَنْطِقِهِ
وَحَلَاوَةِ لِسَانِهِ وَأَخْذِ الْقُلُوبِ بِمَا تَسْمَعُ مِنْ حَدِيثِهِ. وَاللَّهِ لَئِنْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ لَيَذْهَبَنَّ وَلَيَسْتَمِيلَنَّ قُلُوبَ قَوْمٍ ثُمَّ يَسِيرُ بِهِمْ إِلَيْكُمْ فَيُخْرِجُكُمْ مِنْ بِلَادِكُمْ. قَالُوا: صَدَقَ الشَّيْخُ النَّجْدِيُّ, فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: وَاللَّهِ لَأُشِيرَنَّ عَلَيْكُمْ بِرَأْيٍ مَا أَرَى غَيْرَهُ؛ إِنِّي أَرَى أَنْ تَأْخُذُوا مِنْ كُلِّ بَطْنٍ مِنْ قُرَيْشٍ شَابًّا نَسِيبًا وَسِيطًا فَتِيًّا ثُمَّ يُعْطَى كُلُّ فَتًى مِنْهُمْ سَيْفًا صَارِمًا ثُمَّ يَضْرِبُونَهُ ضَرْبَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ, فَإِذَا قَتَلُوهُ تفرق دمه في الْقَبَائِلِ كُلِّهَا, وَلَا أَظُنُّ هَذَا الْحَيَّ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ يَقْوَوْنَ عَلَى حَرْبِ قُرَيْشٍ كُلِّهَا, وَإِنَّهُمْ إِذَا رَأَوْا ذَلِكَ قَبِلُوا الْعَقْلَ فَتُؤَدِّي قُرَيْشٌ دِيَتَهُ. فَقَالَ إِبْلِيسُ لَعَنَهُ اللَّهُ: صَدَقَ هَذَا الْفَتَى وَهُوَ أَجْوَدُكُمْ رَأْيًا, الْقَوْلُ مَا قَالَ لَا أَرَى رَأْيًا غَيْرَهُ, فَتَفَرَّقُوا عَلَى قَوْلِ أَبِي جَهْلٍ وَهُمْ مُجْمِعُونَ لَهُ, فَأَتَى جِبْرِيلُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ, وَأَمَرَهُ أَنْ لَا يَبِيتَ فِي مَضْجَعِهِ الَّذِي يَبِيتُ فِيهِ, فَأَذِنَ اللَّهُ لَهُ عِنْدَ ذَلِكَ بِالْخُرُوجِ إِلَى الْمَدِينَةِ, فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ أَنْ يَنَامَ فِي مَضْجَعِهِ وَقَالَ لَهُ: "اتَّشِحْ بِبُرْدَتِي هَذِهِ فَإِنَّهُ لَنْ يَخْلُصَ إِلَيْكَ مِنْهُمْ أَمْرٌ تَكْرَهُهُ" 1. ثُمَّ خَرَجَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَخَذَ قَبْضَةً مِنْ تُرَابٍ فَأَخَذَ اللَّهُ أَبْصَارَهُمْ عَنْهُ, فَجَعَلَ يَنْثُرُ التُّرَابَ عَلَى رُءُوسِهِمْ وَهُوَ يَقْرَأُ {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا} إِلَى قَوْلِهِ: {فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} [يس: 8] وَمَضَى إِلَى الْغَارِ مِنْ ثَوْرٍ هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ, وَخَلَّفَ عَلِيًّا بِمَكَّةَ حَتَّى يُؤَدِّيَ عَنْهُ الْوَدَائِعَ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَهُ, وَكَانَتِ الْوَدَائِعُ تُودَعُ عِنْدَهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِصِدْقِهِ وَأَمَانَتِهِ, وَبَاتَ الْمُشْرِكُونَ يَحْرُسُونَ عَلِيًّا فِي فِرَاشِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَحْسَبُونَ أَنَّهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلَمَّا أَصْبَحُوا سَارُوا إِلَيْهِ فَرَأَوْا عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالُوا: أَيْنَ صَاحِبُكَ؟ قَالَ: لَا أَدْرِي. فَاقْتَصُّوا أَثَرَهُ وَأَرْسَلُوا فِي طَلَبِهِ, فَلَمَّا بَلَغُوا الْغَارَ رَأَوْا عَلَى بَابِهِ نَسْجَ الْعَنْكَبُوتِ, فَقَالُوا: لَوْ دَخَلَهُ لَمْ يَكُنْ نَسْجُ الْعَنْكَبُوتِ عَلَى بَابِهِ فَمَكَثَ فِيهِ ثَلَاثًا ثُمَّ قَدِمَ الْمَدِينَةَ2, فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الْأَنْفَالِ: 30] وَبَسْطُ حَدِيثِ الْهِجْرَةِ مَا سَاقَهُ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ
بُكَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ قَالَ: ابْنُ شِهَابٍ فَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَتْ: "لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَيَّ قَطُّ إِلَّا وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ, وَلَمْ يَمُرَّ عَلَيْنَا يَوْمٌ إِلَّا يَأْتِينَا فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- طَرَفَيِ النَّهَارِ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً, فَلَمَّا ابْتُلِيَ الْمُسْلِمُونَ خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ مُهَاجِرًا نَحْوَ أَرْضِ الْحَبَشَةِ حَتَّى إِذَا بَلَغَ بِرْكَ الْغِمَادِ لَقِيَهُ ابْنُ الدَّغِنَةِ وَهُوَ سَيِّدُ الْقَارَةِ فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ يَا أَبَا بَكْرٍ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَخْرَجَنِي قَوْمِي فأريد أن أسبح فِي الْأَرْضِ وَأَعْبُدَ رَبِّي. قَالَ ابْنُ الدَّغِنَةِ: فَإِنَّ مِثْلَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ لَا يَخْرُجُ وَلَا يُخْرَجُ, إِنَّكَ تَكْسِبُ الْمَعْدُومَ وَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَحْمِلُ الْكَلَّ وَتَقْرِي الضَّيْفَ وتعين على النوائب الْحَقِّ. فَأَنَا لَكَ جَارٌ, ارْجِعْ وَاعْبُدْ رَبَّكَ بِبَلَدِكَ. فَرَجَعَ وَارْتَحَلَ مَعَهُ ابْنُ الدَّغِنَةِ, فَطَافَ ابْنُ الدَّغِنَةِ عَشِيَّةً فِي أَشْرَافِ قُرَيْشٍ فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ لَا يَخْرُجُ مِثْلُهُ وَلَا يُخْرَجُ, تُخْرِجُونَ رَجُلًا يُكْسِبُ الْمَعْدُومَ وَيَصِلُ الرَّحِمَ وَيَحْمِلُ الْكَلَّ وَيَقْرِي الضَّيْفَ وَيُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ. فَلَمْ تُكَذِّبْ قُرَيْشٌ بِجِوَارِ ابْنِ الدَّغِنَةِ. وَقَالُوا: لِابْنِ الدَّغِنَةِ مُرْ أَبَا بَكْرٍ فَلْيَعْبُدْ رَبَّهُ فِي دَارِهِ, فَلْيُصَلِّ فِيهَا وَلْيَقْرَأْ مَا شَاءَ, وَلَا يُؤْذِينَا بِذَلِكَ وَلَا يَسْتَعْلِنْ بِهِ, فَإِنَّا نَخْشَى أَنْ يَفْتِنَ نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا, فَقَالَ ذَلِكَ ابْنُ الدَّغِنَةِ لِأَبِي بَكْرٍ, فَلَبِثَ أَبُو بَكْرٍ بِمَكَةَ يَعْبُدُ رَبَّهُ فِي دَارِهِ وَلَا يَسْتَعْلِنُ بِصَلَاتِهِ, وَلَا يَقْرَأُ فِي غَيْرِ دَارِهِ. ثُمَّ بَدَا لِأَبِي بَكْرٍ فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ وَكَانَ يُصَلِّي فِيهِ وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ فَيَنْقَذِفُ عَلَيْهِ نِسَاءُ الْمُشْرِكِينَ وَأَبْنَاؤُهُمْ وَهُمْ يَعْجَبُونَ مِنْهُ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ, وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَجُلًا بَكَّاءً لَا يَمْلِكُ عَيْنَيْهِ إِذَا قَرَأَ, وَأَفْزَعَ ذَلِكَ أَشْرَافَ قُرَيْشٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ؛ فَأَرْسَلُوا إِلَى ابْنِ الدَّغِنَةِ فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ فَقَالُوا: إِنَّا كُنَّا أَجَرْنَا أَبَا بَكْرٍ بِجِوَارِكَ عَلَى أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ فِي دَارِهِ, فَقَدْ جَاوَزَ ذَلِكَ فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ فَأَعْلَنَ بِالصَّلَاةِ وَالْقِرَاءَةِ فِيهِ, وَإِنَّا قَدْ خَشِينَا أَنْ يَفْتِنَ نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا فَانْهَهُ فَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ فِي دَارِهِ فَعَلَ, وَإِنْ أَبَى إِلَّا أَنْ يُعْلِنَ بِذَلِكَ فَسَلْهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْكَ ذِمَّتَكَ, فَإِنَّا قَدْ كَرِهْنَا أَنْ نُخْفِرَكَ, وَلَسْنَا مُقِرِّينَ لِأَبِي بَكْرٍ الِاسْتِعْلَانَ. قَالَتْ عَائِشَةُ: فَأَتَى ابْنُ الدَّغِنَةِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ: قَدْ عَلِمْتَ الَّذِي عَاقَدْتُ لَكَ عَلَيْهِ, فَإِمَّا أَنْ تَقْتَصِرَ عَلَى ذَلِكَ وَإِمَّا أَنْ تَرْجِعَ إِلَيَّ ذِمَّتِي؛ فَإِنِّي لَا أُحِبُّ أَنْ تَسْمَعَ الْعَرَبُ أَنِّي
أُخْفِرْتُ فِي رَجُلٍ عَقَدْتُ لَهُ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَأَنَا أَرُدُّ إِلَيْكَ جِوَارَكَ وَأَرْضَى بِجِوَارِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ -وَالنَّبِيُّ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ بِمَكَّةَ- فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِلْمُسْلِمِينَ: "إِنِّي رَأَيْتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ ذَاتَ نَخْلٍ بَيْنَ لَابَتَيْنِ" وَهُمَا الْحَرَّتَانِ, فَهَاجَرَ مَنْ هَاجَرَ قِبَلَ الْمَدِينَةِ, وَرَجَعَ عَامَّةُ مَنْ كَانَ هَاجَرَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ. وَتَجَهَّزَ أَبُو بَكْرٍ قِبَلَ الْمَدِينَةِ, فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "عَلَى رِسْلِكَ فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ يُؤْذَنَ لِي" فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَلْ تَرْجُو ذَلِكَ بِأَبِي أَنْتَ؟ قَالَ: "نَعَمْ". فحبس أبو يكر نَفْسَهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِيَصْحَبَهُ, وَعَلَفَ رَاحِلَتَيْنِ كَانَتَا عِنْدَهُ وَرَقَ السَّمُرِ وَهُوَ الْخَبَطُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ. قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: قَالَ عُرْوَةُ: قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: فَبَيْنَمَا نحن في يوم جُلُوسٌ فِي بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ قَالَ قَائِلٌ لِأَبِي بَكْرٍ: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ مُتَقَنِّعًا فِي سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ يَأْتِينَا فِيهَا, فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فِدَى لَهُ أَبِي وَأُمِّي, وَاللَّهِ مَا جَاءَ بِهِ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ إِلَّا أَمْرٌ. قَالَتْ: فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَاسْتَأْذَنَ فَأُذِنَ لَهُ فَدَخَلَ, فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِأَبِي بَكْرٍ: "أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَكَ" فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّمَا هُمْ أَهْلُكَ بأبي أنت وأمي يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: "فَإِنِّي قَدْ أُذِنَ لِي فِي الْخُرُوجِ" فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: الصُّحْبَةُ بأبي أنت وأمي يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نَعَمْ" قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَخُذْ بأبي أنت وأمي يَا رَسُولَ اللَّهِ إِحْدَى رَاحِلَتَيَّ هَاتَيْنِ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بِالثَّمَنِ". قَالَتْ عَائِشَةُ: فَجَهَّزْنَاهُمَا أَحَثَّ الْجِهَازِ, وَصَنَعْنَا لَهُمَا سُفْرَةً فِي جِرَابٍ, فَقَطَعَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ قِطْعَةً مِنْ نِطَاقِهَا فَرَبَطَتْهُ عَلَى فَمِ الْجِرَابِ فَبِذَلِكَ سميت ذات النطاق. قَالَتْ: ثُمَّ لَحِقَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَبُو بَكْرٍ بِغَارٍ فِي جَبَلِ ثَوْرٍ, فَكَمَنَا فيه ثلاث ليالي يَبِيتُ عِنْدَهُمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ وَهُوَ غُلَامٌ شَابٌّ ثَقِفٌ لَقِنٌ, فَيُدْلِجُ مِنْ عِنْدِهِمَا بِسَحَرٍ فَيُصْبِحُ مَعَ قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ كَبَائِتٍ فَلَا يسمع أمرا يكادان بِهِ إِلَّا وَعَاهُ حَتَّى يَأْتِيَهُمَا بِخَبَرِ ذَلِكَ حِينَ يَخْتَلِطُ الظَّلَامُ, وَيَرْعَى عَلَيْهِمَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ مِنْحَةً مِنْ غنم فيريحها عليهم حِينَ تَذْهَبُ سَاعَةٌ مِنَ الْعِشَاءِ فَيَبِيتَانِ فِي رِسْلٍ, وَهُوَ لَبَنُ مِنْحَتِهِمَا وَرَضِيفِهِمَا حتى ينعق بهما عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ بِغَلَسٍ. يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ من تلك اليالي الثَّلَاثِ. وَاسْتَأْجَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَبُو بَكْرٍ رَجُلًا مِنْ بَنِي الدِّيلِ وَهُوَ مِنْ بَنِي عَبْدِ بْنِ
عَدِيٍّ هَادِيًا خِرِّيتًا, وَالْخِرِّيتُ الْمَاهِرُ بِالْهِدَايَةِ, قَدْ غَمَسَ حِلْفًا فِي آلِ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ السَّهْمِيِّ وَهُوَ عَلَى دِينِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ, فَأَمِنَاهُ فَدَفَعَا إِلَيْهِ رَاحِلَتَيْهِمَا وَوَاعَدَاهُ غَارَ ثَوْرٍ بَعْدَ ثَلَاثِ لَيَالٍ بِرَاحِلَتَيْهِمَا صُبْحَ ثَلَاثٍ, وَانْطَلَقَ مَعَهُمَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ وَالدَّلِيلُ فَأَخَذَ بِهِمْ طَرِيقَ السَّوَاحِلِ. قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَأَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَالِكٍ الْمُدْلِجِيُّ, وَهُوَ ابْنُ أَخِي سُرَاقَةَ بْنِ جُعْشُمٍ يَقُولُ: جَاءَنَا رُسُلُ كُفَّارِ قُرَيْشٍ يَجْعَلُونَ فِي رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَبِي بَكْرٍ دِيَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَنْ قَتَلَهُ أَوْ أَسَرَهُ, فَبَيْنَمَا أَنَا جَالِسٌ فِي مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ قَوْمِي بَنِي مُدْلِجٍ أَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْهُمْ حَتَّى قَامَ عَلَيْنَا وَنَحْنُ جُلُوسٌ, فَقَالَ: يَا سُرَاقَةُ إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ آنِفًا أَسْوِدَةً بِالسَّاحِلِ أُرَاهَا مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ, قَالَ سُرَاقَةُ: فَعَرَفْتُ أَنَّهُمْ هُمْ فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّهُمْ لَيْسُوا هُمْ, وَلَكِنَّكَ رَأَيْتَ فُلَانًا وَفُلَانًا, انْطَلَقُوا بِأَعْيُنِنَا يَبْتَغُونَ ضَالَّةً لَهُمْ. ثُمَّ لَبِثْتُ فِي الْمَجْلِسِ سَاعَةً ثُمَّ قُمْتُ فَدَخَلْتُ فَأَمَرْتُ جَارِيَتِي أَنْ تَخْرُجَ بِفَرَسِي وَهِيَ مِنْ وَرَاءِ أَكَمَةٍ فَتَحْبِسَهَا عَلَيَّ, وَأَخَذْتُ رُمْحِي فَخَرَجْتُ بِهِ مِنْ ظهر البيت فخططت بِزُجِّهِ الْأَرْضَ وَخَفَضْتُ عَالِيَهُ حَتَّى أَتَيْتُ فَرَسِي فَرَكِبْتُهَا فَرَفَعْتُهَا تُقَرِّبُ بِي حَتَّى دَنَوْتُ مِنْهُمْ, فَعَثَرَتْ بِي فَرَسِي فَخَرَرْتُ عَنْهَا, فَقُمْتُ فَأَهْوَيْتُ يَدِي إِلَى كِنَانَتِي فَاسْتَخْرَجْتُ مِنْهَا الْأَزْلَامَ فَاسْتَقْسَمْتُ بِهَا: أَأَضُرُّهُمْ؟ أَمْ لَا؟ فَخَرَجَ الَّذِي أَكْرَهُ, فَرَكِبْتُ فَرَسِي وَعَصَيْتُ الْأَزْلَامَ تُقَرِّبُ بِي, حَتَّى إِذَا سَمِعْتُ قِرَاءَةَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ لَا يَلْتَفِتُ, وَأَبُو بَكْرٍ يُكْثِرُ الِالْتِفَاتَ سَاخَتْ يَدَا فَرَسِي فِي الْأَرْضِ حَتَّى بَلَغَتَا الرُّكْبَتَيْنِ فَخَرَرْتُ عَنْهَا ثُمَّ زَجَرْتُهَا فَنَهَضَتْ. فَلَمْ تَكَدْ تُخْرِجُ يَدَيْهَا, فَلَمَّا استوت قائمة, إذ لِأَثَرِ يَدَيْهَا عُثَانٌ سَاطِعٌ فِي السَّمَاءِ مِثْلُ الدُّخَانِ, فَاسْتَقْسَمْتُ بِالْأَزْلَامِ فَخَرَجَ الَّذِي أَكْرَهُ, فَنَادَيْتُهُمْ بِالْأَمَانِ فَوَقَفُوا, فَرَكِبْتُ فَرَسِي حَتَّى جِئْتُهُمْ, وَوَقَعَ فِي نَفْسِي حِينَ لَقِيتُ مَا لَقِيتُ مِنَ الْحَبْسِ عَنْهُمْ أَنْ سَيَظْهَرُ أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ قَوْمَكَ قَدْ جَعَلُوا فِيكَ الدِّيَةَ, وَأَخْبَرْتُهُمْ أَخْبَارَ مَا يُرِيدُ النَّاسُ بِهِمْ, وَعَرَضْتُ عَلَيْهِمُ الزَّادَ وَالْمَتَاعَ, فَلَمْ يَرْزَآنِي وَلَمْ يَسْأَلَانِي إِلَّا أَنْ قَالَ: "أَخْفِ عَنَّا" فَسَأَلْتُهُ أَنْ يَكْتُبَ لِي كِتَابَ أَمْنٍ. فَأَمَرَ عَامِرَ بْنَ فُهَيْرَةَ فَكَتَبَ فِي رُقْعَةٍ مِنْ أَدِيمٍ. ثُمَّ مَضَى رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ ابْنُ شِهَابٍ فَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَقِيَ الزُّبَيْرَ فِي رَكْبٍ
مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا تُجَّارًا قَافِلِينَ مِنَ الشَّامِ, فَكَسَا الزُّبَيْرُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَبَا بَكْرٍ ثِيَابًا بِيضًا. وَسَمِعَ الْمُسْلِمُونَ بِالْمَدِينَةِ بِمَخْرَجِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ مَكَّةَ فَكَانُوا يَغْدُونَ كُلَّ غَدَاةٍ إِلَى الْحَرَّةِ فَيَنْتَظِرُونَهُ حَتَّى يَرُدَّهُمْ حَرُّ الظَّهِيرَةِ. فَانْقَلَبُوا يَوْمًا بَعْدَ ما أطالوا انتظاره فَلَمَّا أَوَوْا إِلَى بُيُوتِهِمْ أَوْفَى رَجُلٌ مِنْ يَهُودَ عَلَى أُطُمٍ مِنْ آطَامِهِمْ لِأَمْرٍ يَنْظُرُ إِلَيْهِ, فَبَصُرَ بِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَصْحَابِهِ مُبَيَّضِينَ يَزُولُ بِهِمُ السَّرَابُ, فَلَمْ يَمْلِكِ الْيَهُودِيُّ أَنْ قَالَ بِأَعْلَى صوته: يا معشر الْعَرَبِ؛ هَذَا جَدُّكُمُ الَّذِي تَنْتَظِرُونَ. فَثَارَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى السِّلَاحِ فَتَلَقَّوْا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِظَهْرِ الْحَرَّةِ, فَعَدَلَ بِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ حَتَّى نَزَلَ بِهِمْ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ, وَذَلِكَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ, فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ لِلنَّاسِ وَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صَامِتًا, فَطَفِقَ مَنْ جَاءَ مِنَ الْأَنْصَارِ مِمَّنْ لَمْ يَرَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُحَيِّي أَبَا بَكْرٍ, حَتَّى أَصَابَتِ الشَّمْسُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى ظَلَّلَ عَلَيْهِ بِرِدَائِهِ, فَعَرَفَ النَّاسُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عِنْدَ ذَلِكَ, فَلَبِثَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً, وَأَسَّسَ الْمَسْجِدَ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى, وَصَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثُمَّ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ فَسَارَ يَمْشِي مَعَهُ النَّاسُ حَتَّى بَرَكَتْ عند مسجد النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالْمَدِينَةِ وَهُوَ يُصَلِّي فِيهِ يَوْمَئِذٍ رِجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ, وَكَانَ مِرْبَدًا لِلتَّمْرِ لِسَهْلٍ وَسُهَيْلٍ غُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي حَجْرِ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ بَرَكَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ: "هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ الْمَنْزِلُ" ثُمَّ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْغُلَامَيْنِ فَسَاوَمَهُمَا بِالْمِرْبَدِ لِيَتَّخِذَهُ مَسْجِدًا, فَقَالَا: لَا, بَلْ نَهَبُهُ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَأَبَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يَقْبَلَهُ مِنْهُمَا هِبَةً حَتَّى ابْتَاعَهُ مِنْهُمَا, ثُمَّ بَنَاهُ مَسْجِدًا وَطَفِقَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَنْقُلُ مَعَهُمُ اللَّبِنَ فِي بُنْيَانِهِ, وَيَقُولُ وَهُوَ يَنْقُلُ اللَّبِنَ: " هَذَا الْحِمَالُ لَا حِمَالَ خَيْبَرْ ... هَذَا أَبَرُّ رَبَّنَا وَأَطْهَرْ وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنَّ الْأَجْرَ أَجْرُ الْآخِرَهْ ... فَارْحَمِ الْأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَهْ فَتَمَثَّلَ بِشِعْرِ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يُسَمَّ لِي.
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَلَمْ يَبْلُغْنَا فِي الْأَحَادِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَمَثَّلَ بِبَيْتِ شِعْرٍ تَامٍّ إِلَّا هَذَا الْبَيْتِ1. وَهَذَا الْكَلَامُ كَمَا تَرَى لَيْسَ مِنْ بَابِ الشِّعْرِ, وَلَا هُوَ فِي شَيْءٍ مِنْ بُحُورِهِ وَأَوْزَانِهِ, وَإِنَّمَا هُوَ كَلَامٌ مُنْتَثِرٌ اتَّفَقَتْ تَقْفِيَتُهُ لَا عَنْ قَصْدٍ كَمَا يَقَعُ كَثِيرًا. وَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: أَقْبَلَ نَبِيُّ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى الْمَدِينَةِ وَهُوَ مُرْدِفٌ أَبَا بَكْرٍ, وَأَبُو بَكْرٍ شَيْخٌ يُعْرَفُ وَنَبِيُّ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شَابٌّ لَا يُعْرَفُ, قَالَ: فَيَلْقَى الرَّجُلُ أَبَا بَكْرٍ فَيَقُولُ: يَا أَبَا بَكْرٍ مَنْ هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْكَ؟ فَيَقُولُ: هَذَا الرَّجُلُ يَهْدِينِي السَّبِيلَ. قَالَ: فَيَحْسَبُ الْحَاسِبُ أَنَّهُ إِنَّمَا يَعْنِي الطَّرِيقَ, وَإِنَّمَا يَعْنِي سَبِيلَ الْخَيْرِ. فَالْتَفَتَ أَبُو بَكْرٍ فَإِذَا هُوَ بِفَارِسٍ قَدْ لَحِقَهُمْ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا فَارِسٌ قَدْ لَحِقَ بِنَا, فَالْتَفَتَ نَبِيُّ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: "اللَّهُمَّ اصْرَعْهُ" فَصَرَعَهُ الْفَرَسُ, ثُمَّ قَامَتْ تُحَمْحِمُ, فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ مُرْنِي بِمَا شِئْتَ. قَالَ: فَقِفْ مَكَانَكَ لَا تَتْرُكَنَّ أَحَدًا يَلْحَقُ بِنَا. قَالَ: فَكَانَ أَوَّلَ النَّهَارِ جَاهِدًا عَلَى نَبِيِّ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَكَانَ آخِرَ النَّهَارِ مَسْلَحَةً لَهُ, فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جَانِبَ الْحَرَّةِ, ثُمَّ بَعَثَ إِلَى الْأَنْصَارِ فَجَاءُوا إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَبِي بَكْرٍ فَسَلَّمُوا عَلَيْهِمَا, وَقَالُوا: ارْكَبَا آمِنَيْنِ مُطَاعَيْنِ, فَرَكِبَ نَبِيُّ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَبُو بَكْرٍ وَحَفُّوا بِهِمَا بِالسِّلَاحِ, فَقِيلَ فِي الْمَدِينَةِ: جَاءَ نَبِيُّ اللَّهِ, جَاءَ نَبِيُّ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَشْرَفُوا يَنْظُرُونَ وَيَقُولُونَ: جَاءَ نَبِيُّ اللَّهِ, جَاءَ نَبِيُّ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَقْبَلَ يَسِيرُ حَتَّى نَزَلَ دَارِ أَبِي أَيُّوبَ فَإِنَّهُ لَيُحَدِّثُ أَهْلَهُ إِذْ سَمِعَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ وَهُوَ فِي نَخْلٍ لِأَهْلِهِ يخترف لهم, فجعل أَنْ يَضَعَ الَّذِي يَخْتَرِفُ لَهُمْ فِيهَا. فَجَاءَ وَهِيَ مَعَهُ, فَسَمِعَ مِنْ نَبِيِّ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثُمَّ رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ, فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَيُّ بُيُوتِ أَهْلِنَا أَقْرَبُ؟ " فَقَالَ أَبُو أَيُّوبَ: أَنَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكَ وَسَلَّمَ, هَذِهِ دَارِي وَهَذَا بَابِي. قَالَ: "فَانْطَلِقْ فَهَيِّئْ لَنَا مَقِيلًا" قَالَ: قُومَا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ تَعَالَى. فَلَمَّا جَاءَ نَبِيُّ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جَاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ فَقَالَ: أَشْهَدُ
أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ وَأَنَّكَ جِئْتَ بِحَقٍّ, وَقَدْ عَلِمَتْ يَهُودُ أَنِّي سَيِّدُهُمْ وَابْنُ سَيِّدِهِمْ, وَأَعْلَمُهُمْ وَابْنُ أَعْلَمِهِمْ فَادْعُهُمْ فَاسْأَلْهُمْ عَنِّي قَبْلَ أَنْ يَعْلَمُوا أَنِّي قَدْ أَسْلَمْتُ فَإِنَّهُمْ إِنْ يَعْلَمُوا أَنِّي قَدْ أَسْلَمْتُ قَالُوا فِيَّ مَا لَيْسَ فِيَّ. فَأَرْسَلَ نَبِيُّ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَقْبَلُوا فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ, وَيْلَكُمُ اتَّقُوا اللَّهَ فَوَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِنَّكُمْ لَتَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ حَقًّا وَأَنِّي جِئْتُكُمْ بِحَقٍّ فَأَسْلِمُوا" قَالُوا: مَا نَعْلَمُهُ قَالُوا لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَهَا ثَلَاثَ مِرَارٍ قَالَ: "فَأَيُّ رَجُلٍ فِيكُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ؟ قَالُوا: ذَاكَ سَيِّدُنَا وَابْنُ سَيِّدِنَا وَأَعْلَمُنَا وَابْنُ أَعْلَمِنَا. قَالَ: "أَفَرَأَيْتُمْ إِنْ أسلم؟ " قالوا: حاشا لِلَّهِ مَا كَانَ لِيُسْلِمَ. قَالَ: "أَفَرَأَيْتُمْ إِنْ أَسْلَمَ؟ " قَالُوا: حَاشَا لِلَّهِ مَا كَانَ لِيُسْلِمَ. قَالَ: "أَفَرَأَيْتُمْ إِنْ أَسْلَمَ؟ " قَالُوا: حَاشَا لِلَّهِ مَا كَانَ ليسلم. قال: "يابن سَلَامٍ اخْرُجْ إِلَيْهِمْ". فَخَرَجَ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ اتَّقُوا اللَّهَ, فَوَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِنَّكُمْ لَتَعْلَمُونَ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ, وَأَنَّهُ جَاءَ بِحَقٍّ, فَقَالُوا: كَذَبْتَ, فَأَخْرَجَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ1. وَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ حَدَّثَنَا شُرَيْحُ بْنُ مَسْلَمَةَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ يُحَدِّثُ قَالَ: ابْتَاعَ أَبُو بَكْرٍ مِنْ عَازِبٍ رَحْلًا فَحَمَلْتُهُ مَعَهُ, قَالَ فَسَأَلَهُ عَازِبٌ عَنْ مَسِيرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, قَالَ: أُخِذَ عَلَيْنَا بِالرَّصَدِ فَخَرَجْنَا لَيْلًا فَأَحْثَثْنَا لَيْلَتَنَا وَيَوْمَنَا حَتَّى قَامَ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ, ثُمَّ رُفِعَتْ لنا صخرة أتيناها وَلَهَا شَيْءٌ مِنْ ظِلٍّ. قَالَ فَفَرَشْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَرْوَةً مَعِي, ثُمَّ اضْطَجَعَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَانْطَلَقْتُ أَنْفُضُ مَا حَوْلَهُ فَإِذَا أَنَا بِرَاعٍ قَدْ أَقْبَلَ فِي غَنَمِهِ يُرِيدُ مِنَ الصَّخْرَةِ مِثْلَ الَّذِي أَرَدْنَا, فَسَأَلْتُهُ لِمَنْ أَنْتَ يَا غُلَامُ؟ فَقَالَ: أَنَا لِفُلَانٍ. فَقُلْتُ: هَلْ فِي غَنَمِكَ مِنْ لَبَنٍ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ لَهُ: هَلْ أَنْتَ حَالِبٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَأَخَذَ شَاةً مِنْ غَنَمِهِ, فَقُلْتُ لَهُ: انْفُضِ الضَّرْعَ, قَالَ: فَحَلَبَ كثبة من اللبن وَمَعِي إِدَاوَةٌ مِنْ مَاءٍ عَلَيْهَا خِرْقَةٌ قَدْ رَوَّأْتُهَا لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَصَبَبْتُ عَلَى اللَّبَنِ حَتَّى بَرَدَ أَسْفَلُهُ ثُمَّ أَتَيْتُ بِهِ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقُلْتُ: اشْرَبْ يَا رَسُولَ اللَّهِ, فَشَرِبَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى رَضِيتُ. ثُمَّ ارْتَحَلْنَا وَالطَّلَبُ فِي إِثْرِنَا. قَالَ الْبَرَاءُ: فَدَخَلْتُ مَعَ
أَبِي بَكْرٍ عَلَى أَهْلِهِ فَإِذَا عَائِشَةُ ابْنَتُهُ مُضْطَجِعَةٌ قَدْ أَصَابَتْهَا حُمَّى, فَرَأَيْتُ أَبَاهَا أَقْبَلَ وَقَالَ: كَيْفَ أَنْتِ يَا بُنَيَّةُ1؟ وَقَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدُرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَوَّلُ مَا قَدِمَ عَلَيْنَا مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَابْنُ أُمِّ مكتوم وكانوا يقرءون النَّاسَ, فَقَدِمَ بِلَالٌ وَسَعْدٌ وَعَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ, ثُمَّ قَدِمَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي عِشْرِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثُمَّ قَدِمَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَمَا رَأَيْتُ أَهْلَ الْمَدِينَةِ فَرِحُوا بِشَيْءٍ فَرَحَهُمْ بِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى جَعَلَ الْإِمَاءُ يَقُلْنَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَمَا قَدِمَ حَتَّى قَرَأْتُ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الْأَعْلَى: 1] فِي سُوَرٍ مِنَ الْمُفَصَّلِ2.
الإذن بالقتال
الْإِذْنُ بِالْقِتَالِ: وَبَعْدَهَا كُلِّفَ بِالْقِتَالِ ... لِشِيعَةِ الْكُفْرَانِ وَالضَّلَالِ حَتَّى أَتَوْا لِلدِّينِ مُنْقَادِينَا ... وَدَخَلُوا فِي السِّلْمِ مُذْعَنِينَا "وَبَعْدَهَا" أَيْ: بَعْدَ الْهِجْرَةِ "كُلِّفَ" أَيْ: أُمِرَ "بِالْقِتَالِ" فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ "لِشِيعَةِ" أَعْوَانِ "الْكُفْرِ" بِاللَّهِ وَمَا أَرْسَلَ اللَّهُ بِهِ رُسُلَهُ وَنَزَّلَ بِهِ كُتُبَهُ "وَالضَّلَالِ" عَنْ صِرَاطِهِ الْمُسْتَقِيمِ. وَكَانَ الْجِهَادُ بِمَكَّةَ بِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ وَالْبَيَانِ بِمَا يَتْلُوهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْقُرْآنِ مِنْ حِينِ أُنْزِلَ عَلَيْهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنْذِرْ} [الْمُدَّثِّرِ: 1] الْآيَاتِ, وَهِيَ أَوَّلُ مَا نَزَلَ بَعْدَ فَتْرَةِ الْوَحْيِ, وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ نُزُولِ الْآيَاتِ مِنْ صَدْرِ سُورَةِ الْعَلَقِ ثَلَاثُ سِنِينَ فِيمَا ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ رَحِمَهُ اللَّهُ1, وَذَلِكَ مُدَّةَ الْفَتْرَةِ, وَسَمَّى اللَّهَ تَعَالَى تِلَاوَةَ الْقُرْآنِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ جِهَادًا لَهُمْ, فَقَالَ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا، وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا، فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الْفُرْقَانِ: 51-52] . وَأَمَّا الْجِهَادُ الْمَحْسُوسُ بِالسَّيْفِ فَلَمْ يَكُنْ بِمَكَّةَ مَأْمُورًا إِلَّا بِالْعَفْوِ أَوِ الْإِعْرَاضِ عَنِ الْجَاهِلِينَ وَالصَّبْرِ عَلَى أَذَاهُمْ وَاحْتِمَالِ مَا يَلْقَى مِنْهُمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الْأَعْرَافِ: 199] الْآيَاتِ وَقَوْلِهِ: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الْحِجْرِ: 94] الْآيَاتِ, وَغَيْرَهَا. وَلِهَذَا قَالَ أَئِمَّةُ التَّفْسِيرِ: إِنِّ آيَاتِ الْإِعْرَاضِ عَنِ الْمُشْرِكِينَ نَسَخَتْهَا آيَاتُ السَّيْفِ, فَلَمَّا هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى الْمَدِينَةِ, وَصَارَتْ لَهُمْ دَارُ مَنَعَةٍ وَإِخْوَانُ صِدْقٍ وَأَنْصَارُ حَقٍّ, أَذِنَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ فِي الْجِهَادِ فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا
رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الْحَجِّ: 39-41] وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} [الْبَقَرَةِ: 190-193] الْآيَاتِ, وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} الْآيَاتِ. وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الْأَنْفَالِ: 38-40] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [التَّوْبَةِ: 111-112] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصَّفِّ: 4] إِلَى أَنْ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ
{أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} [الصَّفِّ: 10-14] الْآيَةَ. وَقَالَ النَّبِيُّ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ" 1 الْحَدِيثَ, وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بُعِثْتُ بِالسَّيْفِ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ حَتَّى يَعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ بِأَنْ يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ" 2, أَوْ كَمَا قَالَ, وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اغْزُوَا بِاسْمِ اللَّهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ" 3 الْحَدِيثَ. وَالْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ فِي الْجِهَادِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى, وَقَدْ أُفْرِدَتْ لَهَا مُصَنَّفَاتٌ مُسْتَقِلَّاتٌ. وَالْجِهَادُ ذُرْوَةُ سَنَامِ الْإِسْلَامِ, وَلَا يَقُومُ إِلَّا بِهِ, كَمَا أَنَّ بَيَانَ شَرَائِعِهِ لَا تَقُومُ إِلَّا بِالْكِتَابِ, وَلِهَذَا قَرَنَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَهُمَا فَقَالَ: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} [الْحَدِيدِ: 25] فَالْكِتَابُ لِبَيَانِ الْحَقِّ وَالْهِدَايَةِ إِلَيْهِ, وَالْحَدِيدُ لِحِمْلِ النَّاسِ عَلَى الْحَقِّ وَأَطْرِهِمْ عَلَيْهِ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ أَذِنَ اللَّهُ لَهُ بِالْقِتَالِ وَأَمَرَهُ بِهِ, شَمَّرَ عَنْ سَاعِدِ الِاجْتِهَادِ فِي شَأْنِهِ, وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ مَا كَانَ مِنَ الْوَقَائِعِ الْمَشْهُورَةِ وَالْغَزَوَاتِ الْمَذْكُورَةِ كَبَدْرٍ وأحد والخندق وخيبر وَالْفَتْحِ وَغَيْرِهَا فَوْقَ عِشْرِينَ غَزْوَةً وَفَوْقَ أَرْبَعِينَ سَرِيَّةً, وَنَصَرَهُ اللَّهُ بِالرُّعْبِ فِي قُلُوبِ أَعْدَائِهِ مَسَافَةَ شَهْرٍ, حَتَّى فَتَحَ
اللَّهُ بِهِ وَبِكِتَابِهِ وَأَنْصَارِهِ الْبِلَادَ وَالْقُلُوبَ وَعَمَّرَهَا, فَفَتَحَ الْبِلَادَ بِالسَّيْفِ وَالْقُلُوبَ بِالْإِيمَانِ وَعَمَّرَ الْبِلَادَ بِالْعَدْلِ وَالْقُلُوبَ بِالْعِلْمِ, فَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: بُعِثَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِأَرْبَعَةِ أَسْيَافٍ: سَيْفٌ لِلْمُشْرِكِينَ {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} [الْبَقَرَةِ: 191] وَسَيْفٌ لِلْمُنَافِقِينَ {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التَّوْبَةِ: 73] وَسَيْفٌ لِأَهْلِ الْكِتَابِ {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التَّوْبَةِ: 29] وَسَيْفٌ لِلْبُغَاةِ {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الْحُجُرَاتِ: 9] 1 وَقَدْ بَذَلَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَمْوَالَهُمْ وَأَنْفُسَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ, كَمَا وَصَفَهُمُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الْحُجُرَاتِ: 15] وَبَذَلَ الْمُشْرِكُونَ جُهْدَهُمْ وَمَجْهُودَهُمْ فِي عَدَاوَتِهِ وَقِتَالِهِ وَأَلَّبُوا وَتَحَزَّبُوا كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الْأَنْفَالِ: 36] الْآيَاتِ. وَقَالَ تَعَالَى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصَّفِّ: 8] فَقَدْ فَعَلَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى. "حَتَّى أَتَوْا لِلدِّينِ" دِينِ الْإِسْلَامِ, "مُنْقَادِينَا" الْأَلْفُ لِلْإِطْلَاقِ طَوْعًا وَكَرْهًا, "وَدَخَلُوا فِي السِّلْمِ" أى: الإسلام "مذعنين" مُسْتَسْلِمِينَ. وَكَانَ مُعْظَمُ ظُهُورِهِ بَعْدَ الْفَتْحِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ كَانُوا يَنْتَظِرُونَ بِإِسْلَامِهِمْ قُرَيْشًا لِأَنَّهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ هُمْ سَادَةُ الْعَرَبِ وَقَادَتُهَا, وَكَذَلِكَ هُمْ فِي الْإِسْلَامِ, فَلَمَّا أَسْلَمُوا
بَادَرَ كُلُّ قَوْمٍ بِإِسْلَامِهِمْ, وَتَوَاتَرَتِ الْوُفُودُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ, وَانْتَشَرَ الْإِسْلَامُ وَجَرَتْ أَحْكَامُهُ, وَانْتَشَرَتْ أَعْلَامُهُ فِي كُلِّ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَالنَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَيٌّ. وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النَّصْرَ: 1-3] وَلِهَذَا عَلَّمَ هُوَ وأصحابه أَنَّ ذلك أجله, أعلنه اللَّهُ بِهِ, كَمَا قَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ عُمَرُ يُدْخِلُنِي مَعَ أَشْيَاخِ بَدْرٍ, فَكَأَنَّ بَعْضَهُمْ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ فَقَالَ: لِمَ تُدْخِلُ هَذَا مَعَنَا وَلَنَا أَبْنَاءُ مِثْلُهُ؟ فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّهُ مِنْ حَيْثُ عَلِمْتُمْ. فَدَعَاهُ ذَاتَ يَوْمٍ فَأَدْخَلَهُ مَعَهُمْ فَمَا رَوَيْتُ أَنَّهُ دَعَانِي يَوْمَئِذٍ إِلَّا لِيُرِيَهُمْ قَالَ: مَا تَقُولُونَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النَّصْرِ: 1] فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أُمِرْنَا أَنْ نَحْمَدَ اللَّهَ وَنَسْتَغْفِرَهُ إِذَا نُصِرْنَا وَفُتِحَ عَلَيْنَا. وَسَكَتَ بَعْضُهُمْ فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا. فَقَالَ لِي: أكذاك تقول يابن عَبَّاسٍ؟ فَقُلْتُ: لَا, قَالَ فَمَا تَقُوُلُ: هُوَ أَجَلُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أُعْلِمَهُ, قَالَ: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النَّصْرِ: 1] وَذَلِكَ عَلَامَةُ أَجْلِكَ {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النَّصْرَ: 3] فَقَالَ عُمَرُ: مَا أَعْلَمُ مِنْهَا إِلَّا مَا تَقُولُ1. وَفَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ جَمِيعَ الْفَرَائِضِ الَّتِي لَمْ تُفْرَضْ مِنْ قَبْلُ, فَالْجِهَادُ فِي السَّنَةِ الْأُولَى, وَأُتِمَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ فِي الْأُولَى, وَشَرَعَ الْأَذَانَ وَالصِّيَامَ وَزَكَاةَ الْفِطْرِ وَزَكَاةَ النُّصُبِ وَتَحْوِيلَ الْقِبْلَةِ إِلَى الْكَعْبَةِ كُلَّهَا فِي الثَّانِيَةِ, وَشَرَعَ التَّيَمُّمَ سَنَةَ سِتٍّ, وَصَلَاةَ الْخَوْفِ سَنَةَ سَبْعٍ, وَالْحَجَّ فِي السَّادِسَةِ وَقِيلَ فِي التَّاسِعَةِ وَقِيلَ فِي الْعَاشِرَةِ وَفِيهَا حَجَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ وَهُوَ وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [الْمَائِدَةِ: 3] كَمَا قَدَّمْنَا الْحَدِيثُ فِي الصَّحِيحَيْنِ.
وفاته صلوات الله وسلامه عليه
وَفَاتُهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ: وَبَعْدَ أَنْ قَدْ بلغ الرساله ... واستنقذ الْخَلْقَ مِنَ الْجَهَالَةِ وَأَكْمَلَ اللَّهُ لَهُ الْإِسْلَامَا ... وَقَامَ دِينُ الْحَقِّ وَاسْتَقَامَا قَبَضَهُ اللَّهُ الْعَلِيُّ الْأَعْلَى ... سُبْحَانَهُ إِلَى الرَّفِيقِ الْأَعْلَى "وَبَعْدَ أَنْ قَدْ بَلَّغَ" الرَّسُولُ مُحَمَّدٌ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الرِّسَالَةَ" مِنَ الْقُرْآنِ وَبَيَانُهُ أَمْرًا وَنَهْيًا وَخَبَرًا وَوَعْدًا ووعيدا وقصصا "واستنقذ الْخَلْقَ" حَتَّى أَنْقَذَهُمُ اللَّهُ بِهِ "مِنَ الْجَهَالَةِ" مِنَ الشِّرْكِ وَمَا دُونَهُ "وَأَكْمَلَ اللَّهُ لَهُ الْإِسْلَامَا" بِجَمْعِ شَرَائِعِهِ ظَاهِرِهَا وَبَاطِنِهَا "وَقَامَ" ظَهَرَ "دِينُ الْحَقِّ" الَّذِي بَعَثَهُ اللَّهُ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ, "وَاسْتَقَامَا" اعْتَدَلَ فَلَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ غُبَارٌ وَلَا عَنْهُ مَعْدِلٌ, وَذَهَبَتْ عَنْهُ غَيَاهِبَ الشِّرْكِ وَظُلْمَ الْغَيِّ وَطَغَايَةَ الشُّبَهَاتِ, وَجَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الْإِسْرَاءِ: 81] {قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} [سَبَأٍ: 49] وَتَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ وَالشِّرْكُ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالصِّدْقُ مِنَ النِّفَاقِ وَالْيَقِينُ مِنَ الشَّكِّ وَسَبِيلُ النَّجَاةِ مِنْ سُبُلِ الشَّكِّ وَطَرِيقُ الْجَنَّةِ مِنْ طَرِيقِ جَهَنَّمَ {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الْأَنْفَالِ: 37] وَلَمْ يَبْقَ مِنْ خَيْرٍ آجِلٍ وَلَا عَاجِلٍ إِلَّا دَلَّ الْأُمَّةَ عَلَيْهِ, وَلَا شَرٍّ عَاجِلٍ وَلَا آجِلٍ إِلَّا وَحَذَّرَهُمْ مِنْهُ وَنَهَاهُمْ عَنْهُ حَتَّى تَرَكَ أمته على المحجة الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدَهُ إِلَّا هَالِكٌ, وَتَرَكَ فِيهِمْ مَا لَمْ يَضِلُّوا إِنْ تَمَسَّكُوا بِهِ كِتَابَ اللَّهِ, وَبَعْدَ هَذَا "قَبَضَهُ اللَّهُ الْعَلِيُّ" بِجَمِيعِ مَعَالِي الْعُلُوِّ ذَاتًا وَقَهْرًا وَقَدْرًا "الْأَعْلَى" بِكُلِّ تِلْكَ الْمَعَانِي, فَلَا شَيْءَ أَعْلَى مِنْهُ عَزَّ وَجَلَّ "سُبْحَانَهُ" وَكَانَ قَبْضُهُ إِيَّاهُ "إِلَى الرَّفِيقِ الْأَعْلَى" وَهِيَ أَعْلَى عِلِّيِّينَ, وَهِيَ الْوَسِيلَةُ الَّتِي هِيَ أَعْلَى دَرَجَةً فِي الْجَنَّةِ وَلَا تَنْبَغِي إِلَّا لَهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَدْ أَمَرَنَا أَنْ نَسْأَلَ اللَّهَ لَهُ ذَلِكَ, اللَّهُمَّ آتِ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ آمِينَ,
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ نَهَارَ الِاثْنَيْنِ بَعْدَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِفَوْقِ ثَمَانِينَ لَيْلَةً, قَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ} [آلِ عِمْرَانَ: 144-145] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 34] {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آلِ عِمْرَانَ: 185] وَقَالَ: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} [الزُّمَرِ: 31] . وَقَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ سُلَيْمَانَ الْأَحْوَلِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ ابْنُ عباس: يوم الخمس وَمَا الْخَمِيسِ, اشْتَدَّ بِرَسُولِ الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وجعه قال: "آتوني أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ أَبَدًا" فَتَنَازَعُوا وَلَا يَنْبَغِي عِنْدَ نَبِيٍّ تَنَازُعٌ, فَقَالُوا: مَا شَأْنُهُ, اسْتَفْهِمُوهُ فَذَهَبُوا يَرُدُّونَ عَلَيْهِ فَقَالَ: "دَعُونِي فَالَّذِي أَنَا فِيهِ خَيْرٌ مِمَّا تَدْعُونِي إِلَيْهِ". وَأَوْصَاهُمْ بِثَلَاثٍ قَالَ: "أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ, وَأَجِيزُوا الْوَفْدَ بِنَحْوِ مَا كُنْتُ أُجِيزُهُمْ" وسكت عن الثالة أَوْ قَالَ: "فَنَسِيتُهَا"1. وَلَهُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: دَخَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَنَا مُسْنِدَتُهُ إِلَى صَدْرِي وَمَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ سِوَاكٌ رَطْبٌ يَسْتَنُّ بِهِ, فَأَبَدَّهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَصَرَهُ, فَأَخَذْتُ السِّوَاكَ فَقَصَمْتُهُ وَنَفَضْتُهُ وَطَيَّبْتُهُ ثُمَّ دَفَعْتُهُ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَاسْتَنَّ بِهِ, فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اسْتَنَّ اسْتِنَانًا قَطُّ أَحْسَنَ, فَمَا عَدَا أَنْ فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَفَعَ يَدَهُ أَوْ إِصْبَعَهُ ثُمَّ قَالَ: "فِي الرَّفِيقِ الْأَعْلَى" ثَلَاثًا ثُمَّ قَضَى, وَكَانَتْ تقول: مات ورأسه بَيْنَ حَاقِنَتِي وَذَاقِنَتِي. وَفِي رِوَايَةٍ قَالَتْ: وَبَيْنَ يَدَيْهِ رَكْوَةٌ فِيهَا مَاءٌ فَجَعَلَ يُدْخِلُ يَدَيْهِ فِي الْمَاءِ فَيَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ
وَيَقُولُ "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ, إِنَّ لِلْمَوْتِ سَكَرَاتٍ" , ثُمَّ نَصَبَ يَدَهُ فَجَعَلَ يَقُولُ: "فِي الرَّفِيقِ الْأَعْلَى" حَتَّى قُبِضَ وَمَالَتْ يَدُهُ, وَفِي أُخْرَى قَالَتْ: فَجَمَعَ اللَّهُ بَيْنَ رِيقِي وَرِيقِهِ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنَ الدُّنْيَا وَأَوَّلِ يَوْمٍ مِنَ الْآخِرَةِ1. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَهَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقُلْتُ لَهَا: أَلَا تُحَدِّثِينِي عَنْ مَرَضِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟. قَالَتْ: بَلَى, ثَقُلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: "أَصَلَّى النَّاسُ"؟ قُلْنَا: لَا, وَهُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: "ضَعُوا لِي مَاءً فِي الْمِخْضَبِ" فَفَعَلْنَا فَاغْتَسَلَ, ثُمَّ ذَهَبَ لِيَنُوءَ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ ثُمَّ أَفَاقَ, فَقَالَ: "أَصَلَّى النَّاسُ"؟ قُلْنَا: لَا, وَهُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ, فَقَالَ: "ضَعُوا لِي مَاءً فِي الْمِخْضَبِ" فَفَعَلْنَا فَاغْتَسَلَ ثُمَّ ذَهَبَ لِيَنُوءَ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ, ثُمَّ أَفَاقَ فَقَالَ: "أصلى الناس"؟ فقلنا: لَا, وَهُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ, فَقَالَ: "ضَعُوا لِي مَاءً فِي الْمِخْضَبِ" فَفَعَلْنَا فَاغْتَسَلَ ثُمَّ ذَهَبَ لِيَنُوءَ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ, ثُمَّ أَفَاقَ فَقَالَ: "أَصَلَّى النَّاسُ"؟ فَقُلْنَا: لَا, وَهُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رسول الله قال: وَالنَّاسُ عُكُوفٌ فِي الْمَسْجِدِ يَنْتَظِرُونَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِصَلَاةِ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ, قَالَتْ: فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى أَبِي بَكْرٍ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ, فَأَتَاهُ الرَّسُولُ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَأْمُرُكَ أَنْ تُصَلِّيَ بِالنَّاسِ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَكَانَ رَجُلًا رَقِيقًا: يَا عُمَرُ صَلِّ بِالنَّاسِ. قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ: أَنْتَ أَحَقُّ بِذَلِكَ. قَالَتْ: فَصَلَّى أبو بكر بالناس تِلْكَ الْأَيَّامَ, ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَجَدَ مِنْ نَفْسِهِ خِفَّةً فَخَرَجَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا الْعَبَّاسُ لِصَلَاةِ الظُّهْرِ, وَأَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ, فَلَمَّا رَآهُ أَبُو بَكْرٍ ذَهَبَ لِيَتَأَخَّرَ فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ لَا يَتَأَخَّرَ, وَقَالَ لَهُمَا: "أَجْلِسَانِي إِلَى جَنْبِهِ". فَأَجْلَسَاهُ إِلَى جَنْبِ أَبِي بَكْرٍ, وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي وَهُوَ قَائِمٌ بِصَلَاةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلَاةِ أَبِي بَكْرٍ وَالنَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَاعِدٌ2. الْحَدِيثَ. وَفِيهِ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ يُصَلِّي لَهُمْ فِي وَجَعِ
رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ, حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ وَهُمْ صُفُوفٌ فِي الصَّلَاةِ كَشَفَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سِتْرَ الْحُجْرَةِ, فَنَظَرْنَا إِلَيْهِ وَهُوَ قَائِمٌ كَأَنَّ وَجْهَهُ وَرَقَةُ مُصْحَفٍ, ثُمَّ تَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ضَاحِكًا فَبُهِتْنَا وَنَحْنُ فِي الصَّلَاةِ مِنْ فَرَحٍ بِخُرُوجِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَنَكَصَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى عَقِبَيْهِ لِيَصِلَ الصَّفَّ, وَظَنَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَارِجٌ لِلصَّلَاةِ فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِيَدِهِ أَنْ أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ. قَالَ: ثُمَّ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَرْخَى السِّتْرَ, قَالَ: فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ يَوْمِهِ ذَلِكَ. وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: لَمْ يَخْرُجْ إِلَيْنَا نَبِيُّ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثَلَاثًا فَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَذَهَبَ أَبُو بكر يتقدم, فقال نَبِيُّ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالْحِجَابِ فَدَفَعَهُ, فَلَمَّا وَضَحَ لَنَا وَجْهُ نَبِيِّ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا نَظَرْنَا مَنْظَرًا قَطُّ كَانَ أَعْجَبَ إِلَيْنَا مِنْ وَجْهِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ وَضَحَ لَنَا1. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَخْبَرَتْهُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَقْبَلَ عَلَى فَرَسٍ مِنْ مَسْكَنِهِ بِالسُّنْحِ حَتَّى نَزَلَ فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ فَلَمْ يُكَلِّمِ النَّاسَ حَتَّى دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ, فَتَيَمَّمَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ مُغَشًّى بِثَوْبِ حِبَرَةٍ, فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ ثُمَّ أَكَبَّ عَلَيْهِ فَقَبَّلَهُ وَبَكَى, ثُمَّ قَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي, وَاللَّهِ لَا يَجْمَعُ اللَّهُ عَلَيْكَ مَوْتَتَيْنِ: أَمَّا الْمَوْتَةُ الَّتِي كُتِبَتْ عَلَيْكَ فَقَدْ مُتَّهَا. قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَحَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ خَرَجَ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يُكَلِّمُ النَّاسَ فَقَالَ: اجْلِسْ يَا عُمَرُ, فَأَبَى عُمَرُ أَنْ يَجْلِسَ, فَأَقْبَلَ النَّاسُ إِلَيْهِ وَتَرَكُوا عُمَرَ, فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أما بعد من كَانَ مِنْكُمْ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ, وَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} إِلَى قَوْلِهِ: {الشَّاكِرِينَ} [آلِ عِمْرَانَ: 144-145] وَقَالَ: وَاللَّهِ لَكَأَنَّ النَّاسَ لَمْ يَعْلَمُوا أن الله تعالى أَنْزَلَ هَذِهِ الْآيَةَ حَتَّى تَلَاهَا أَبُو بَكْرٍ, فَتَلَقَّاهَا النَّاسُ مِنْهُ كُلُّهُمْ, فَمَا أَسْمَعُ بَشَرًا مِنَ النَّاسِ إِلَّا يَتْلُوهَا. فَأَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: وَاللَّهِ مَا
هُوَ إِلَّا أَنْ سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ تَلَاهَا فعقرت حتى لا تُقِلُّنِي رِجْلَايَ, وَحَتَّى أَهْوَيْتُ إِلَى الْأَرْضِ حِينَ سَمِعْتُهُ قَالَهَا أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ مَاتَ1.
تبليغه صلوات الله عليه رسالة الله
تَبْلِيغُهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ رِسَالَةَ اللَّهِ: نَشْهَدُ بِالْحَقِّ بِلَا ارْتِيَابِ ... بِأَنَّهُ الْمُرْسَلُ بِالْكِتَابِ وَأَنَّهُ بَلَّغَ مَا قَدْ أُرْسِلَا ... بِهِ وَكُلَّ مَا إِلَيْهِ أُنْزِلَا "نَشْهَدُ بِالْحَقِّ" بِيَقِينٍ وَصِدْقٍ "بِلَا ارْتِيَابِ" بِدُونِ شَكٍّ "بِأَنَّهُ الْمُرْسَلُ بِالْكِتَابِ" بِالْقُرْآنِ إِلَى كَافَّةِ النَّاسِ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا. قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مُمْتَنًّا عَلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ بِبِعْثَةِ رَسُولِ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آلِ عِمْرَانَ: 164] وَقَالَ تَعَالَى: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الْجُمُعَةِ: 2-4] وَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التَّوْبَةِ: 128] يَمْتَنُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِأَجَلِّ نِعَمِهِ عَلَى عِبَادِهِ وَأَعْظَمِهَا وَأَعْلَاهَا وَأَتَمِّهَا وَأَكْمَلِهَا إِرْسَالِهِ فِيهِمْ مُحَمَّدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَسُولًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ, الَّذِي لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ, بِكَلَامِهِ الَّذِي هُوَ صِفَتُهُ, وَهُوَ كِتَابُهُ الْعَزِيزُ الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ؛ لِيَهْدِيَهُمْ بِهِ مِنَ الضَّلَالَةِ, وَيُبَصِّرَهُمْ بِهِ مِنَ الْعَمَى, وَيُنْقِذَهُمْ بِهِ مِنْ دَرَكَاتِ الرَّدَى, وَيُخْرِجَهُمْ بِهِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي
الْأَرْضِ} [إِبْرَاهِيمَ: 1] يَا لَهَا نِعْمَةً مَا أَعْظَمَهَا وَأَجَلَّهَا, وَمِنَّةً مَا أَكْمَلَهَا وَأَجْزَلَهَا {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [آلِ عِمْرَانَ: 164] أَكْمَلَ تِلْكَ النِّعْمَةَ وَأَتَمَّهَا وَزَادَهَا إِجْلَالًا بِكَوْنِ ذَلِكَ الرَّسُولِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ؛ يَعْرِفُونَ شَخْصَهُ وَنَسَبَهُ وَرَحِمَهُ, مَا مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ مِنَ الْعَرَبِ إِلَّا وَلَهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيهِمْ نَسَبٌ {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشُّورَى: 23] ثُمَّ جَعَلَ الرِّسَالَةَ بِلِسَانِهِمُ الَّذِي بِهِ يَتَحَاوَرُونَ, وَمِنْ جِنْسِ كَلَامِهِمُ الَّذِي فِيهِ يَتَفَاخَرُونَ, مُعْجِزًا بِالْفَصَاحَةِ الَّتِي فِي مَيْدَانِهَا يَتَسَابَقُونَ بِأَوْضَحِ الْمَبَانِي وَأَفْصَحِهَا, وَأَكْمَلِ الْمَعَانِي وَأَصَحِّهَا, مَعَ اتِّسَاقِ سِيَاقِهِ وَسَلَاسَةِ أَلْفَاظِهِ, وَانْتِسَاقِ تَرَاكِيبِهِ وَمَلَاحَةِ مُفْرَدَاتِهِ. ثُمَّ مَعَ هَذَا التَّالِي لَهُ مِنْ أَنْفُسِهِمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِمْ ثُمَّ هُوَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُؤَدٍّ لِتِلْكَ الْأَمَانَةِ مُبَلِّغٌ كَلَامَ رَبِّهِ كَمَا قَالَ رَبُّ الْعِزَّةِ, لَمْ يَقُلْهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالْمَعْنَى فَقَطْ بَلْ كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} الضَّمِيرُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ, لِيَسْمَعُوا لَذِيذَ خِطَابِهِ, وَيَتَأَمَّلُوا لِطَيْفَ عِتَابِهِ {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29] {وَيُزَكِّيهِمْ} يُطَهِّرُهُمْ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا حِسًّا وَمَعْنًى لِمَنِ الْتَزَمَهُ وَاتَّبَعَهُ, أَمَّا قُلُوبُهُمْ فَيُزَكِّيهَا بِالْإِيمَانِ مِنْ دَنَسِ وَرِجْسِ الشِّرْكِ وَرِجْزِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الْحَجِّ: 30] وَ {وَالرِّجْزَ فَاهْجُرْ} [الْمُدَّثِّرِ: 5] وَكَذَا يُطَهِّرُهُمْ بِمَحَاسِنِ الْأَخْلَاقِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ مِنْ مَسَاوِئِهَا, وَكَذَا يُطَهِّرُهُمْ مِنْ جَمِيعِ الذُّنُوبِ بِالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ, وَكَذَا يُطَهِّرُ ظَوَاهِرَهُمْ بِمَا أَمَرَهُمْ بِهِ وَأَرْشَدَهُمْ إِلَيْهِ مِنَ الطَّهَارَاتِ الْحِسِّيَّةِ مِنَ الْأَحْدَاثِ وَالْأَنْجَاسِ على اختلاف أضربها {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ} الْقُرْآنَ الْمَجِيدَ {وَالْحِكْمَةَ} السُّنَّةَ النَّبَوِيَّةَ الَّتِي هِيَ تِبْيَانُ الْقُرْآنِ وَتَفْسِيرُهُ وَتَوْضِيحُهُ, وَتَدُلُّ كما قال الله تَعَالَى لَهُ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النَّحْلِ: 44] وَقَالَ النَّبِيُّ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أُوتِيتُ الْقُرْآنَ مِثْلَهُ" 1 يَعْنِي السُّنَّةَ. {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ} إِرْسَالِهِ إِلَيْهِمْ وَبَعْثِهِ فِيهِمْ {لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} مِنَ الشِّرْكِ وَعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ, وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ السُّبُلِ الْمُضِلَّةِ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ
الْمُوجِبَةِ لِدُخُولِ جَهَنَّمَ, وَالْخُلُودِ فِي عَذَابِهَا الْأَلِيمِ الْمُقِيمِ, أَجَارَنَا اللَّهُ مِنْهَا. وَذَلِكَ تَأْوِيلُ دَعْوَةِ أَبِينَا إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذْ يَقُولُ فِيمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الْبَقَرَةِ: 129] فَاسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ تِلْكَ الدَّعْوَةَ الْمُبَارَكَةَ كَمَا قَضَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ذَلِكَ فِي الْأَزَلِ وَسَبَقَ عَلِمُهُ وَسَطَرَهُ فِي كِتَابِهِ, وَأَخَذَ عَلَى رُسُلِهِ الْمِيثَاقَ فِي الْإِيمَانِ بِهِ وَالْقِيَامِ بِنَصْرِهِ, كَمَا قَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [آلِ عِمْرَانَ: 81-82] وَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيمَا رَوَى التِّرْمِذِيُّ: "كُنْتُ نَبِيًّا وَآدَمُ مُنْجَدِلٍ فِي طِينَتِهِ" 1 وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى "وَآدَمُ بَيْنَ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ" 2 يَعْنِي وَجَبَتْ لَهُ فِي الْكِتَابِ, وَلِأَنَّ السَّائِلَ قَالَ لَهُ: مَتَى وَجَبَتْ لَكَ النُّبُوَّةُ؟ هَذَا مَعْنَى الْحَدِيثِ, وَقَالَ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنَا دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ وَبُشْرَى عِيسَى وَرُؤْيَا أُمِّي" 3 أَوْ كَمَا قَالَ, فَأَمَّا دَعْوَةُ إِبْرَاهِيمَ فَمَا فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ, وَأَمَّا بُشْرَى عِيسَى فَقَوْلُ اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصَّفِّ: 6] الْآيَةَ, وَأَمَّا رُؤْيَا أُمِّهِ فَإِنَّهَا رَأَتْ كَأَنَّهُ خَرَجَ مِنْهَا نُورٌ أَضَاءَ لَهُ قُصُورَ بُصْرَى مِنْ أَرْضِ الشَّامِ1, الْحَدِيثَ. وَقَدْ شَهِدَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَهُ بِالرِّسَالَةِ كَمَا شَهِدَ لِنَفْسِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ فَقَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} [الْمُنَافِقُونَ: 63] وَقَالَ تَعَالَى: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [النِّسَاءِ: 166] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} [الْبَقَرَةِ: 119] الْآيَاتِ, وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الْأَحْزَابِ 45] الْآيَاتِ, وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [النِّسَاءِ: 79] وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي عُمُومِ رِسَالَتِهِ إِلَى الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ وَالْجِنِّ وَالْإِنْسِ: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سَبَأٍ: 28] وقال تَعَالَى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الْأَعْرَافِ: 156-158] وَمَعْنَى كَوْنِهِ أُمِّيًّا: لَا يَقْرَأُ وَلَا يَكْتُبُ, وَكَذَلِكَ أَمَّتُهُ أُمَيَّةٌ لَا يَقْرَءُونَ وَلَا يَكْتُبُونَ, قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَمَا كُنْتَ
تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ} [الْقَصَصِ: 86] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [الْعَنْكَبُوتِ: 48] الْآيَاتِ, وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ} [الشُّورَى: 52] وَقَالَ تَعَالَى: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا} [هُودٍ: 49] وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَالَ تَعَالَى أَيْضًا فِي ذِكْرِ عُمُومِ رِسَالَتِهِ إِلَى أَهْلِ الشَّرَائِعِ مِنْ قَبْلِهِ: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الْمَائِدَةِ: 15-16] الْآيَاتِ, {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آلِ عِمْرَانَ: 64] وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الْبَقَرَةِ: 101] وَقَالَ: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [الْبَقَرَةِ: 89] وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَقَدْ أُعْطِيَ مِنَ الْآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ, وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيْتُ وَحْيًا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيَّ, فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ" 1, وَفِيهِ
عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: "وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ, لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ" 1 وَفِي حَدِيثِ الْخَصَائِصِ, "وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً" 2, وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا وَاتَّبَعْتُمُوهُ وَتَرَكْتُمُونِي لضللتم" 3 وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لوكان مُوسَى حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلَّا اتِّبَاعِي" 4 وَأَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ عِيسَى يَنْزِلُ حَكَمًا بِشَرِيعَةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُقِيمُ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-5 فَلَا نَاسِخَ وَلَا مُغَيِّرَ لِشَرِيعَتِهِ, وَلَا يَسَعُ أَحَدًا الْخُرُوجَ عَنْهَا. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. [اخْتِصَاصُهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِعُمُومِ الرِّسَالَةِ] : وَالْمَقْصُودُ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى اخْتَصَّهُ بِعُمُومِ الرِّسَالَةِ إِلَى الثَّقَلَيْنِ, وَلَمْ يَقْبَلْ مِنْ أَحَدٍ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا إِلَّا بِاتِّبَاعِهِ, وَلَا يَصِلُ أَحَدٌ دَارَ السَّلَامِ الَّتِي دَعَا اللَّهُ إِلَيْهَا عِبَادَهُ إِلَّا مِنْ طَرِيقِهِ, فَهُوَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَكْرَمُ الرُّسُلِ, وَأُمَّتُهُ خَيْرُ الْأُمَمِ, وَشَرِيعَتُهُ أَكْمَلُ الشَّرَائِعِ, وَكِتَابُهُ مُهَيْمِنٌ عَلَى كُلِّ كِتَابٍ أُنْزِلَ, لَا نَسْخَ لَهُ بَعْدَهُ وَلَا تَغْيِيرَ, وَلَا تَحْوِيلَ وَلَا تَبْدِيلَ وَأَيَّدَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْمُعْجِزَاتِ الظَّاهِرَةِ وَالْآيَاتِ الْبَاهِرَةِ الَّتِي
أَعْظَمُهَا هَذَا الْقُرْآنُ الَّذِي تَحَدَّى اللَّهُ بِهِ أَفْصَحَ الْأُمَمِ وَأَبْلَغَهَا وَأَقْدَرَهَا عَلَى الْمَنْطِقِ وَأَكْثَرَهَا فِيهِ اتِّسَاعًا وَأَطْوَلَهَا فِيهِ بَاعًا وَأَكْمَلَهَا عَلَى أَضْرُبِهِ وَأَنْوَاعِهِ اطِّلَاعًا, مَعَ عِظَمِ مُحَادَّتِهِمْ لَهُ وَمُشَاقَّتِهِمْ فِيهِ وَشَدَّةِ حِرْصِهِمْ عَلَى رَدِّهِ, وَهُوَ يُنَادِي عَلَيْهِمْ بِأَبْلَغِ عِبَارَةٍ وَأَوْجَزِهَا, وَأَمْتَنِهَا وَأَجْزَلِهَا {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} [الطُّورَ: 43] {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} [هُودٍ: 13] {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [الْبَقَرَةِ: 23- 24] ثُمَّ نَادَى عَلَيْهِمْ بِالْعَجْزِ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ فَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى شَيْءٍ مِنْهُ لَا مُجْتَمِعِينَ وَلَا مُتَفَرِّقِينَ, لَا فِي زَمَنٍ وَاحِدٍ وَلَا فِي أَزْمَانٍ فَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الْإِسْرَاءِ 88] وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَلِهَذَا لِمَا أَرَادَ مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ معارضته مكابرة ومباهاتة مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ الْبَتَّةَ فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى كَلَامَهُ أَسْمَجَ مَا يُسْمَعُ وَأَرَكَّ مَا يُنْطَقُ بِهِ, وَصَارَ أُضْحُوكَةً لِلصِّبْيَانِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ, حَتَّى أَنَّهُ لَا يُشْبِهُ كَلَامَ الْعُقَلَاءِ وَلَا الْمَجَانِينَ وَلَا النِّسَاءِ وَلَا الْمُخَنَّثِينَ, وَصَارَ كَذِبُهُ مَعْلُومًا عِنْدَ كُلِّ أَحَدٍ, وَوَسَمَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِاسْمِ الْكَذَّابِ فَلَا يُسَمَّى إِلَّا بِهِ, وَلَا يُعْرَفُ إِلَّا بِهِ, حَتَّى صَارَ أَشْهَرَ مَنْ عَلَيْهِ الْعَلَمُ, بَلْ لَا عَلَمَ لَهُ غَيْرُهُ أَبَدًا, وَيُرْوَى أَنَّ أَصْحَابَ الْفَيْلَسُوفِ الْكِنْدِيِّ1 قَالُوا لَهُ: أَيُّهَا الْحَكِيمُ اعْمَلْ لَنَا مِثْلَ هَذَا الْقُرْآنِ فَقَالَ: نَعَمْ أَعْمَلُ مِثْلَ بَعْضِهِ, فَاحْتَجَبَ أَيَّامًا كَثِيرَةً ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَقْدِرُ وَلَا يَطِيقُ هَذَا أَحَدٌ, إِنِّي فَتَحْتُ الْمُصْحَفَ فَخَرَجَتْ سُورَةُ الْمَائِدَةِ, فَنَظَرْتُ فَإِذَا هُوَ قَدْ نَطَقَ بِالْوَفَاءِ وَنَهَى عَنِ النَّكْثِ وَحَلَّلَ تَحْلِيلًا عَامًا, ثُمَّ اسْتَثْنَى
اختصاصه بعموم الرسالة إلى الثقلين وتأييده بالمعجزات الباهرة
بَعْدَ اسْتِثْنَاءٍ, ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْ قُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ فِي سَطْرَيْنِ, وَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ بِهَذَا. قُلْتُ: وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْفَيْلَسُوفُ مِقْدَارُ فَهْمِهِ وَمَبْلَغُ عِلْمِهِ, وَإِلَّا فَبَلَاغُةُ الْقُرْآنَ فَوْقَ مَا يَصِفُ الْوَاصِفُونَ, وَكَيْفَ يَقْدِرُ الْبَشَرُ أَنْ يَصِفُوا صِفَاتَ مَنْ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ. وَمِنْ ذَلِكَ انْشِقَاقُ الْقَمَرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [الْقَمَرِ: 1] الْآيَاتِ, وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "سَأَلَ أَهْلُ مَكَّةَ أَنْ يُرِيَهُمْ آيَةً فَأَرَاهُمُ انْشِقَاقَ الْقَمَرِ"1 وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: انْشَقَّ الْقَمَرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِرْقَتَيْنِ: فِرْقَةً فَوْقَ الْجَبَلِ وَفِرْقَةً دُونَهُ, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اشْهَدُوا", زَادَ فِي رِوَايَةٍ: وَنَحْنُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ2. وَمِنْهَا حَنِينُ الْجِذْعِ إِلَيْهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إِنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَقُومُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلَى شَجَرَةٍ أَوْ نَخْلَةٍ, فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ أَوْ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا نَجْعَلُ لَكَ مِنْبَرًا قَالَ: "إِنْ شِئْتُمْ" فَجَعَلُوا لَهُ مِنْبَرًا, فلما كان يوم الْجُمُعَةَ دُفِعَ إِلَى الْمِنْبَرِ فَصَاحَتِ النَّخْلَةُ صِيَاحَ الصَّبِيِّ, ثُمَّ نَزَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَضَمَّهَا إِلَيْهِ تَئِنُّ أَنِينَ الصَّبِيِّ الَّذِي يُسَكَّنُ, قَالَ: "كَانَتْ تَبْكِي عَلَى مَا كَانَتْ تَسْمَعُ مِنَ الذِّكْرِ عِنْدَهَا" 3. وَفِي رِوَايَةٍ "قَالَ: فَلَمَّا صُنِعَ لَهُ الْمِنْبَرُ وَكَانَ عَلَيْهِ فَسَمِعْنَا مِنْ ذَلِكَ الْجِذْعِ صَوْتًا كَصَوْتِ الْعِشَارِ, حَتَّى جَاءَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَوَضْعَ يَدَهُ عَلَيْهَا فَسَكَنَتْ"4.
فَيَا حَامِدًا مَعْنًى بصورة عاقل ... أمالك مِنْ قَلْبِ شَهِيدٍ وَلَا سَمْعِ يَحِنُّ إِلَيْهِ الْجِذْعُ شَوْقًا وَمَا لَنَا ... أَلَسْنَا بِذَاكَ الشَّوْقِ أَوْلَى مِنَ الْجِذْعِ وَمِنْهَا تَسْبِيحُ الطَّعَامِ وَتَكْثِيرُ الْقَلِيلِ بِإِذْنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ, وَنَبْعُ الْمَاءِ مِنْ أَصَابِعِهِ الشَّرِيفَةِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "كُنَّا نَعُدُّ الْآيَاتِ بَرَكَةً, وَأَنْتُمْ تَعُدُّونَهَا تَخْوِيفًا. كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي سَفَرٍ فَقَلَّ الْمَاءُ فَقَالَ: "اطْلُبُوا فَضْلَةً مِنْ مَاءٍ" فَجَاءُوا بِإِنَاءٍ فِيهِ مَاءٌ قَلِيلٌ, فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ ثُمَّ قَالَ: "حَيَّ عَلَى الطَّهُورِ الْمُبَارَكِ وَالْبَرَكَةُ مِنَ اللَّهِ" فَلَقَدْ رَأَيْتُ الْمَاءَ يَنْبُعُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلَقَدْ كُنَّا نَسْمَعُ تَسْبِيحَ الطَّعَامِ وَهُوَ يُؤْكَلُ" وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: أَتَى النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِإِنَاءٍ وَهُوَ بِالزَّوْرَاءِ فَوَضْعَ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ فَجَعَلَ الْمَاءُ يَنْبُعُ مِنْ أَصَابِعِهِ فَتَوَضَّأَ الْقَوْمُ, قَالَ: وَكَانُوا ثَلَاثَمِائَةٍ أَوْ زُهَاءَ ثَلَاثِمِائَةٍ"2. وَعَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: عَطِشَ النَّاسُ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ وَالنَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَيْنَ يَدَيْهِ رَكْوَةٌ فَتَوَضَّأَ, فَجَهِشَ النَّاسُ نَحْوَهُ فَقَالَ: "مَا لَكُمْ" قَالُوا: لَيْسَ عِنْدَنَا مَا نَتَوَضَّأُ وَلَا نَشْرَبُ إِلَّا مَا بَيْنَ يَدَيْكَ. فَوَضْعَ يَدَهُ فِي الرَّكْوَةِ فَجَعَلَ الْمَاءُ يَفُورُ بَيْنَ أَصَابِعِهِ كَأَمْثَالِ الْعُيُونِ, فَشَرِبْنَا وَتَوَضَّأْنَا. قُلْتُ: كَمْ كُنْتُمْ؟ قَالَ: لَوْ كُنَّا مِائَةَ أَلْفٍ لَكَفَانَا, كُنَّا خَمْسَ عَشْرَةَ مِائَةً"3, وَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كُنَّا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةً وَالْحُدَيْبِيَةُ بِئْرٌ فَنَزَحْنَاهَا حَتَّى لَمْ نَتْرُكْ فِيهَا قَطْرَةً, فَجَلَسَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى شَفِيرِ الْبِئْرِ فَدَعَا بِمَاءٍ فَمَضْمَضَ وَمَجَّ فِي الْبِئْرِ, فَمَكَثْنَا غَيْرَ بَعِيدٍ, ثُمَّ اسْتَقَيْنَا حتى روينا ورويت وَأَصْدَرَتْ رَكَائِبُنَا"4. وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ أَبُو طَلْحَةَ لِأُمِّ سُلَيْمٍ: لَقَدْ
سَمِعْتُ صَوْتَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ضَعِيفًا أَعْرِفُ فِيهِ الْجُوعَ, فَهَلْ عِنْدَكِ مِنْ شَيْءٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ. فَأَخْرَجَتْ أَقْرَاصًا مِنْ شَعِيرٍ ثُمَّ أَخْرَجَتْ خِمَارًا لَهَا؛ فَلَفَّتِ الْخُبْزَ بِبَعْضِهِ ثُمَّ دَسَّتْهُ تَحْتَ يَدِي, وَلَاثَتْنِي بِبَعْضِهِ, ثُمَّ أَرْسَلَتْنِي إِلَى رَسُولِ الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: فذهب بِهِ فَوَجَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الْمَسْجِدِ وَمَعَهُ النَّاسُ, فَقُمْتُ عَلَيْهِمْ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "آرْسَلَكَ أَبُو طَلْحَةَ"؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: "بِطَعَامٍ؟ " قُلْتُ: نَعَمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ مَعَهُ: "قُومُوا" فَانْطَلَقَ وَانْطَلَقْتُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ حَتَّى جِئْتُ أَبَا طَلْحَةَ فَأَخْبَرْتُهُ. فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: يَا أُمَّ سُلَيْمٍ, قَدْ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالنَّاسِ وَلَيْسَ عِنْدَنَا مَا نُطْعِمُهُمْ. فَقَالَتِ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ, فَانْطَلَقَ أَبُو طَلْحَةَ حَتَّى لَقِيَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَبُو طَلْحَةَ مَعَهُ, فَقَالَ رسول الله, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هلم يَا أُمَّ سُلَيْمٍ مَا عِنْدَكِ" فَأَتَتْ بِذَلِكَ الْخُبْزِ, فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَفُتَّ وَعَصَرَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ عُكَّةً فَأَدَمَتْهُ, ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ, ثُمَّ قَالَ: "ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ" فَأَذِنَ لَهُمْ فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا, ثُمَّ خَرَجُوا ثُمَّ قَالَ: "ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ" فَأَكَلَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ حَتَّى شَبِعُوا وَالْقَوْمُ سَبْعُونَ أَوْ ثَمَانُونَ رَجُلًا1. وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ أَبَاهُ تُوُفِّيَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ, فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقُلْتُ: إِنَّ أَبِي تَرَكَ دَيْنًا وَلَيْسَ عِنْدِي إِلَّا مَا يُخْرِجُ نَخْلُهُ, وَلَا يَبْلُغُ مَا يُخْرِجُ سِنِينَ مَا عَلَيْهِ, فَانْطِلَقْ مَعِي لِكَيْلَا يُفْحِشَ عَلَيَّ الْغُرَمَاءُ, فَمَشَى حَوْلَ بَيْدَرٍ مِنْ بَيَادِرِ التَّمْرِ, فَدَعَا ثَمَّ آخَرَ ثُمَّ جَلَسَ عَلَيْهِ فَقَالَ: "انْزِعُوهُ" فَأَوْفَاهُمُ الَّذِي لَهُمْ وَبَقِيَ مِثْلُ مَا أَعْطَاهُمْ2. وَفِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ الطَّوِيلِ فِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ: ثُمَّ دَعَا بِمِيضَأَةٍ كَانَتْ مَعِي فِيهَا شيء من مِنْ مَاءٍ فَتَوَضَّأَ مِنْهَا وَضَوْءًا دُونَ وُضُوءٍ, قَالَ: وَبَقِيَ مِنْهَا شَيْءٌ مِنْ مَاءٍ, ثُمَّ قَالَ لِأَبِي قَتَادَةَ: "احْفَظْ عَلَيْنَا مَيْضَأَتَكَ فَسَيَكُونُ لَهَا نَبَأٌ" الْحَدِيثَ, إِلَى أَنْ قَالَ: فَانْتَهَيْنَا إِلَى النَّاسِ حِينَ امْتَدَّ النَّهَارُ وَحَمِيَ كُلُّ شَيْءٍ وَهُمْ يَقُولُونَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ
هَلَكْنَا عَطِشْنَا فَقَالَ: "لَا هُلْكَ عَلَيْكُمْ" ثُمَّ قَالَ: "اطْلِقُوا لِي غُمْرِي" قَالَ: وَدَعَا بِالْمِيضَأَةِ فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَصُبُّ وَأَبُو قَتَادَةَ يَسْقِيهِمْ, فَلَمْ يَعْدُ أَنْ رَأَى النَّاسُ مَاءً فِي الْمِيضَأَةِ تَكَابُّوا عَلَيْهَا, فَقَالَ رَسُولُ اللِّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَحْسَنُوا الْمَلْءَ كُلُّكُمْ سَيُرْوَى" قَالَ: فَفَعَلُوا, فَجَعَلَ رَسُولُ الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يصب وأسقيهم حَتَّى مَا بَقِيَ غَيْرِي وَغَيْرِ رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال ثم صب رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ لِي: "اشْرَبْ" فَقُلْتُ: لَا أَشْرَبُ حَتَّى تَشْرَبَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: "إِنَّ سَاقِي الْقَوْمَ آخِرُهُمْ شُرْبًا" قَالَ: فَشَرِبْتُ وَشَرِبَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: فَأَتَى النَّاسُ الْمَاءَ جَامِّينَ رِوَاءً1. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِنْ كُنْتُ لَأَعْتَمِدُ بِكَبِدِي عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْجُوعِ, وَإِنْ كُنْتُ لَأَشُدُّ الْحَجَرَ عَلَى بَطْنِي مِنَ الْجُوعِ, وَلَقَدْ قَعَدْتُ يَوْمًا عَلَى طَرِيقِهِمُ الَّذِي يَخْرُجُونَ مِنْهُ, فَمَرَّ أَبُو بَكْرٍ فَسَأَلْتُهُ عَنْ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَا سَأَلْتُهُ إِلَّا لِيُشْبِعَنِي, فَمَرَّ وَلَمْ يَفْعَلْ, ثُمَّ مَرَّ بِي عُمَرُ فَسَأَلْتُهُ عَنْ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَا سَأَلْتُهُ إِلَّا لِيُشْبِعَنِي, فَمَرَّ وَلَمْ يَفْعَلْ, ثُمَّ مَرَّ بِي أَبُو الْقَاسِمِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَتَبَسَّمَ حِينَ رَآنِي وَعَرَفَ مَا فِي نَفْسِي وَمَا فِي وَجْهِي ثُمَّ قَالَ: "أَبَا هِرٍّ" قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: "الْحَقْ" وَمَضَى فَتَبِعْتَهُ فَدَخَلَ فَاسْتَأْذَنَ فَأَذِنَ لِي فَدَخَلَ فَوَجَدَ لَبَنًا فِي قَدَحٍ فَقَالَ: "مَنْ أَيْنَ هَذَا اللَّبَنُ؟ " قَالُوا: أَهْدَاهُ لَكَ فُلَانٌ أَوْ فُلَانَةٌ. قَالَ: "أَبَا هِرٍّ" قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: "الْحَقْ إِلَى أَهْلِ الصُّفَّةِ فَادْعُهُمْ لِي" قَالَ: وَأَهْلُ الصُّفَّةِ أَضْيَافُ الْإِسْلَامِ لَا يَأْوُونَ إِلَى أَهْلٍ وَلَا مَالٍ وَلَا عَلَى أَحَدٍ, إِذَا أَتَتْهُ صَدَقَةٌ بَعَثَ بِهَا إِلَيْهِمْ وَلَمْ يَتَنَاوَلْ مِنْهَا شَيْئًا وَإِذَا أَتَتْهُ هَدِيَّةٌ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ وَأَصَابَ مِنْهَا وَأَشْرَكَهُمْ فِيهَا, فَسَاءَنِي ذَلِكَ فَقُلْتُ: وَمَا هَذَا اللَّبَنُ فِي أَهْلِ الصُّفَّةِ, كُنْتُ أَحَقُّ أَنْ أُصِيبَ مِنْ هَذَا اللَّبَنِ شَرْبَةً أَتَقَوَّى بِهَا, فَإِذَا جَاءَ أَمَرَنِي فَكُنْتُ أَنَا أُعْطِيهِمْ, وَمَا عَسَى أَنْ يَبْلُغَنِي مِنْ هَذَا اللَّبَنِ, وَلَمْ يَكُنْ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ بُدٌّ, فَأَتَيْتُهُمْ فَدَعَوْتُهُمْ, فَأَقْبَلُوا فَاسْتَأْذَنُوا فَأَذِنَ لَهُمْ وَأَخَذُوا مَجَالِسَهُمْ مِنَ الْبَيْتِ. قَالَ: "أَبَا هِرٍّ" قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: "خُذْ فَأَعْطِهِمْ" قَالَ: فَأَخَذْتُ الْقَدَحَ فَجَعَلْتُ أُعْطِيهِ الرَّجُلَ فَيَشْرَبُ حَتَّى يُرْوَى ثُمَّ يَرُدُّ عَلَيَّ الْقَدَحَ, فَأُعْطِيَ
الرَّجُلَ فَيَشْرَبُ حَتَّى يُرْوَى ثُمَّ يَرُدُّ عَلَيَّ الْقَدَحَ, حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَدْ رُوِيَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ, فَأَخَذَ الْقَدَحَ فَوَضَعَهُ عَلَى يَدِهِ فَنَظَرَ إِلَيَّ فَتَبَسَّمَ فَقَالَ: "يَا أَبَا هِرٍّ" قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: "بَقِيتُ أَنَا وَأَنْتَ" قُلْتُ: صَدَقْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: "اقْعُدْ فَاشْرَبْ" فَقَعَدْتُ فَشَرِبْتُ, فَمَا زَالَ يَقُولُ: "اشْرَبْ" حَتَّى قُلْتُ: "لَا وَالَّذِي بَعَثَكُ بِالْحَقِّ مَا أَجِدُ لَهُ مَسْلَكًا" قَالَ: "فَأَرِنِي " فَأَعْطَيْتُهُ الْقَدَحَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَسَمَّى وَشَرِبَ الْفَضْلَةَ1. وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بن داود المهر حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: كَانَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ يُحَدِّثُ أَنَّ يَهُودِيَّةً مِنْ أَهْلِ خَيْبَرَ سَمَّتْ شَاةً مَصْلِيَّةً ثُمَّ أَهْدَتْهَا لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الذِّرَاعَ فَأَكَلَ مِنْهَا وَأَكَلَ رَهْطٌ مِنْ أَصْحَابِهِ مَعَهُ, ثُمَّ قَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ارْفَعُوا أَيْدِيَكُمْ" وَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى الْمَرْأَةِ فَدَعَاهَا فَقَالَ لَهَا: "أَسَمَمْتِ هَذِهِ الشَّاةَ" قَالَتِ الْيَهُودِيَّةُ: مَنْ أَخْبَرَكَ. قَالَ: "أَخْبَرَتْنِي هَذِهِ الَّتِي فِي يَدِي" وَهِيَ الذِّرَاعُ. قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ: "فَمَا أَرَدْتِ بِذَلِكَ" قَالَتْ: قُلْتُ إِنْ كُنْتَ نَبِيًّا فَلَنْ تَضُرَّكَ, وَإِنْ لَمْ تَكُنْ نَبِيًّا اسْتَرَحْنَا مِنْكَ. الْحَدِيثَ وَهُوَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي مَوَاضِعَ مُخْتَصَرًا وَمُطَوَّلًا2. لَكِنِ الشَّاهِدُ مِنْهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَصْرَحُ وَهُوَ قَوْلُهُ: "أَخْبَرَتْنِي هَذِهِ". لِلذِّرَاعِ. وَقَدْ رَوَاهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي عَامَّةِ الْأُمَّهَاتِ وَغَيْرِهَا. وَدَلَائِلِ نُبُوَّتِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَكْثَرَ مِنْ أَنْ تُحْصَى فِي الْأَسْفَارِ فَضْلًا عَنْ هَذَا الْمُخْتَصَرِ, وَقَدْ جُمِعَتْ فِيهَا التَّصَانِيفُ الْمُسْتَقِلَّاتُ مِنَ الْمُخْتَصَرَاتِ وَالْمُطَوَّلَاتِ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. وَكَذَا قَدْ صُنِّفَتِ التَّصَانِيفُ الْجَمَّةُ فِي صِفَاتِهِ الْخَلْقِيَّةِ وَالْخُلُقِيَّةِ وَسِيرَتِهِ وَشَمَائِلِهِ وَمُعَامَلَاتِهِ مَعَ الْحَقِّ وَمَعَ الْخَلْقِ, فَلْتُرَاجِعْ لَهَا مُصَنَّفَاتَهَا. وَكَذَا خَصَائِصَهُ
ما على الرسول إلا البلاغ وطاعتنا له -صلى الله عليه وسلم- طاعة لله عز وجل
الَّتِي انْفَرَدَ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الرُّسُلِ السَّمَاوِيِّينَ وَالْأَرْضِيِّينَ وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى مُهِمَّاتٍ مِنْ ذَلِكَ. "وَ" نَشْهَدُ "أَنَّهُ بَلَّغَ" إِلَى النَّاسِ كَافَّةً "مَا" أَيِ: الَّذِي "قَدْ أُرْسِلَا" بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ وَالْأَلِفُ لِلِاطِّلَاقِ "بِهِ" مِنْ رَبِّهِ "وَكُلَّ مَا إِلَيْهِ أُنْزِلَا" مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ. وَفِي هَذَا الْبَحْثِ مَسَائِلُ عَظِيمَةُ الْخَطَرِ جَلِيلَةُ الْقَدْرِ: الْأُولَى: أَنَّهُ أَيِ: الرَّسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُبَلِّغٌ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ, لَمْ يَقُلْ شَيْئًا مِنْ رَأْيِهِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّبْلِيغِ, بَلْ لَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا بَلَاغُ الرِّسَالَةِ مِنَ اللَّهِ إِلَى النَّاسِ, وَتِلَاوَةُ آيَاتِهِ عَلَى النَّاسِ, وَتَعْلِيمُهُمُ الْحِكْمَةَ وَالتِّبْيَانَ, وَذَلِكَ مَعْنَى كَوْنِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَسُولَ اللَّهِ فَأَمْرُهُ وَنَهْيُهُ تَبْلِيغٌ لِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ, وَأَخْبَارُهُ وَقَصَصُهُ تَبْلِيغٌ لِمَا قَصَّهُ اللَّهُ وَأَخْبَرَ بِهِ, وَلِذَا كَانَ طَاعَتُهُ طَاعَةً لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ, وَمَعْصِيَتُهُ مَعْصِيَةً لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ, وَتَكْذِيبُهُ تَكْذِيبًا لِإِخْبَارِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي أَنَّهُ رَسُولُهُ. قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [النِّسَاءِ: 79] وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} [الْأَنْفَالِ: 20-21] وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [الْمَائِدَةِ: 92] وَقَالَ تَعَالَى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [النُّورِ: 54] وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ} [الشُّورَى: 48] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرَّعْدِ: 7] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ} [فَاطِرٍ: 23] وَقَالَ: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [ص: 65] وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا} [الْكَهْفِ: 110] , وَقَالَ: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا
يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق: 45] وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [الْجِنِّ: 22] وَقَالَ: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذَّارِيَاتِ: 55] وَقَالَ تَعَالَى: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى} [الْأَعْلَى: 9] وَقَالَ تَعَالَى: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الْغَاشِيَةِ: 21] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الْحَشْرِ: 7] وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النَّجْمِ: 4] وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "لَيَدْخُلَّنَ الْجَنَّةَ بِشَفَاعَةِ رَجُلٍ لَيْسَ بِنَبِيٍّ مِثْلُ الْحَيَّيْنِ -أَوْ مِثْلُ أَحَدِ الْحَيَّيْنِ- رَبِيعَةَ وَمُضَرَ" فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا رَبِيعَةُ وَمُضَرَ؟ قَالَ: "إِنَّمَا أَقُولُ مَا أَقُولُ" 1, وَلَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ, وَقَالَ: كُنْتُ أَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ أَسْمَعُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أُرِيدُ حِفْظَهُ, فَنَهَتْنِي قُرَيْشٌ فَقَالُوا: إِنَّكَ تَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ تَسْمَعُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَتَكَلَّمُ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا, فَأَمْسَكْتُ عَنِ الْكِتَابِ حَتَّى ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: "اكْتُبْ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا خَرَجَ مِنِّي إِلَّا الْحَقُّ" 2, وَلَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: "لَا أَقُولُ إِلَّا حَقًّا". قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: فَإِنَّكَ تُدَاعِبُنَا. قَالَ: "إِنِّي لَا أَقُولُ إِلَّا حَقًّا" 3, وَلِلْبَزَّارِ
بلغ -صلى الله عليه وسلم- جميع ما أرسل به ولم يكتم منه حرفا
عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مَا أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَهُوَ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ" 1 وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ, وَيَكْفِي فِي ذَلِكَ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الْحَاقَّةِ: 44] الْآيَاتِ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَلَّغَ جَمِيعَ مَا أُرْسِلَ بِهِ لَمْ يَكْتُمْ مِنْهُ حَرْفًا وَاحِدًا, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [الْمَائِدَةِ: 67] . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذَاتَ يَوْمٍ فَذَكَرَ الْغُلُولَ فَعَظَّمَهُ وَعَظَّمَ أَمْرَهُ ثُمَّ قَالَ: "لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي. فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا, قَدْ أَبْلَغْتُكَ, لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ فَرَسٌ لَهُ حَمْحَمَةٌ فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي. فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا, قَدْ أَبْلَغْتُكَ. لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ شَاةٌ لَهَا ثُغَاءٌ يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي. فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا, قَدْ أَبْلَغْتُكَ. لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ نَفْسٌ لَهَا صِيَاحٌ فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي. فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا, قَدْ أَبْلَغْتُكَ. لَا أُلْفِيْنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ رِقَاعٌ تَخْفِقُ فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا, قَدْ أَبْلَغْتُكَ. لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ صَامِتٌ فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي. فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا, قَدْ أَبْلَغْتُكَ" 2. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ قَوْلُهُ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ كِتَابُ اللَّهِ, وَأَنْتُمْ تَسْأَلُونَ عَنِّي فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟ قَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ. فَقَالَ بِأُصْبُعِهِ السَّبَّابَةِ يَرْفَعُهَا إِلَى السَّمَاءِ
وَيَنْكُتُهَا إِلَى النَّاسِ: "اللَّهُمَّ اشْهَدْ اللَّهُمَّ اشْهَدْ" ثَلَاثَ مَرَّاتٍ1, الْحَدِيثَ. وَفِيهِمَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي ذَلِكَ الْجَمْعِ الْأَعْظَمِ حِينَ خَطَبَ: اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ2؟ وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ فِي تِلْكَ الْخُطْبَةِ أَيْضًا: "أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ" قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: "اللَّهُمَّ اشْهَدْ فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ فَرُبَّ مُبَلِّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ" 3 وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي جُحَيْفَةَ وَهْبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ السِّوَائِيِّ قَالَ: قُلْتُ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ مِنَ الْوَحْيِ مِمَّا لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ؟ فَقَالَ: "لَا وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ, إِلَّا فَهْمًا يُعْطِيهِ اللَّهُ رَجُلًا فِي الْقُرْآنِ, وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ" قُلْتُ: وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ؟ قَالَ: "الْعَقْلُ وَفِكَاكُ الْأَسِيرِ, وَأَنْ لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ"4, وَفِيهِ مِنْ رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: مَا عِنْدَنَا شَيْءٌ إِلَّا كِتَابُ اللَّهِ وَهَذِهِ الصَّحِيفَةُ عَنِ النَّبِيِّ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْمَدِينَةُ حَرَمٌ مَا بَيْنَ عَيْرٍ إِلَى كَذَا, مَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا أَوْ آوَى مُحْدِثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ والملائكة والناس أحمعين" 5 الْحَدِيثَ. وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: خَطَبَنَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى مِنْبَرٍ مِنْ آجُرٍ وَعَلَيْهِ سَيْفٌ فِيهِ صَحِيفَةٌ مُعَلَّقَةٌ فَقَالَ: "وَاللَّهِ مَا عِنْدَنَا مِنْ كِتَابٍ يُقْرَأُ إِلَّا كِتَابُ اللَّهِ, وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ. فَنَشَرَهَا فَإِذَا فِيهَا أَسْنَانُ الْإِبِلِ, وَإِذَا فِيهَا: الْمَدِينَةُ حَرَمٌ مِنْ عَيْرٍ إِلَى كَذَا, فَمَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ والملائكة والناس أحمعين, لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا. وَإِذَا فِيهِ: ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ, فَمَنْ أَخَفَرَ مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ والملائكة والناس أحمعين, لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا. وَإِذَا فِيهَا مَنْ وَالَى قَوْمًا بِغَيْرِ إِذَنْ مَوَالِيهِ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ والملائكة والناس أحمعين لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا"6, وَلِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ هَارُونَ بْنِ عَنْتَرَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنْتُ
الذي بلغه عن ربه هو جميع دين الإسلام كاملا محكما
عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ, فَجَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ أُنَاسًا يَأْتُونَ فَيُخْبِرُونَا أَنَّ عِنْدَكُمْ شَيْئًا لَمْ يُبْدِهِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِلنَّاسِ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [الْمَائِدَةِ: 67] وَاللَّهِ مَا وَرَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَوْدَاءَ فِي بَيْضَاءَ" وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ1. وَتَقَدَّمَ قَوْلُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ مُحَمَّدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَتَمَ شَيْئًا مِمَّا أُنْزِلَ عَلَيْهِ فَقَدْ كَذَبَ, وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [الْمَائِدَةِ: 67] " الْآيَةَ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ هَذَا الَّذِي بَلَّغَهُ الرَّسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ رَبِّهِ تَعَالَى هُوَ جَمِيعُ دِينِ الْإِسْلَامِ مُكْمَلًا مُحْكَمًا لَمْ يَبْقَ فِيهِ نَقْصٌ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ فَيَحْتَاجُ إِلَى تَكْمِيلٍ وَلَمْ يَبْقَ فِيهِ إِشْكَالٌ فَيَحْتَاجُ إِلَى حَلٍّ, وَلَا إِجْمَالٌ فَيَفْتَقِرُ إِلَى تَفْصِيلٍ, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الْأَنْعَامِ: 38] فَكَمَا أَنَّ الْإِمَامَ الْمُبِينَ قَدْ أَحْصَى كُلَّ مَا هُوَ كَائِنٌ, كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ, فَكَذَلِكَ هَذَا الْقُرْآنُ وَافٍ شَافٍ كَافٍ مُحِيطٌ بِجَمِيعِ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ وَفُرُوعِهَا وَأَقْوَالِهَا وَأَعْمَالِهَا وَسِرِّهَا وَعَلَانِيَتِهَا, فَمَنْ لَمْ يَكْفِهِ فَلَا كُفِيَ, وَمَنْ لَمْ يَشْفِهِ فَلَا شُفِيَ {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الْعَنْكَبُوتِ: 51] {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} وَكَمَا وَفَّى بِتَقْرِيرِ الدِّينِ وَتَكْمِيلِهِ وَشَرْحِهِ وَتَفْصِيلِهِ كَذَلِكَ هُوَ وَافٍ بِالذَّبِّ عَنْهُ وَبِرَدِّ كُلِّ شُبْهَةٍ تَرِدُ عَلَيْهِ, وَبِقَمْعِ كُلِّ مُلْحِدٍ وَمُعَانِدٍ وَمُشَاقٍّ وَمُحَادٍّ, وَبِدَمْغِ كُلِّ بَاطِلٍ وَإِزْهَاقِهِ {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الْفُرْقَانِ: 33] {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الْأَنْبِيَاءِ: 18] {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الْحِجْرِ: 9] ,
{إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمَّنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [فُصِّلَتْ: 40-44] . وَكَذَلِكَ السُّنَّةُ مِنْ جَوَامِعِ كَلِمِ الرَّسُولِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الَّتِي اخْتَصَّهُ اللَّهُ بِهَا, هِيَ رُوحُ الْمَعَانِي وَالْوَحْيُ الثَّانِي, وَالْحِكْمَةُ وَالْبَيَانُ وَتِبْيَانُ الْقُرْآنِ, وَالنُّورُ وَالْبُرْهَانُ. فَلَمْ يُتَوَفَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى بَيَّنَ الشَّرِيعَةَ أَكْمَلَ بَيَانٍ, وَلَمْ يَكُنْ لِيَتَوَفَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى قَبْلَ بَيَانِ مَا بِالنَّاسِ إِلَيْهِ حَاجَةً فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ وَآخِرَتِهِمْ, وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [النَّحْلِ: 64] وَيَقُولُ تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النَّحْلِ: 44] ثُمَّ يُخْبِرُ أَنَّهُ مَا أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِذَلِكَ, فَكَيْفَ يَتَوَفَّاهُ قَبْلَ إِنْفَادِ ذَلِكَ وَإِنْجَازِهِ, مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى لَهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلِأُمَّتِهِ كُلِّهِمْ: {وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [الْبَقَرَةِ: 151] فَكَيْفَ يَعِدُنَا تَعَالَى بِإِتْمَامِ النِّعْمَةِ وَإِكْمَالِ الدِّينِ ثُمَّ يَتَوَفَّى رَسُولَهُ قَبْلَ إِنْجَازِ ذَلِكَ وَهُوَ عَزَّ وَجَلَّ {لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} ؟ وَالَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا مَا تَوَفَّاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ حَتَّى بَلَّغَ مَا أَرْسَلَهُ اللَّهُ بِهِ أَكْمَلَ بِلَاغٍ وَبَيَّنَهُ أَتَمَّ بَيَانٍ وَفَصَّلَهُ أَوْضَحَ تَفْصِيلٍ وَأَكْمَلَ بِهِ الدِّينَ وَأَتَمَّ عَلَيْنَا النِّعْمَةَ وَلِهَذَا أَنْزَلَ عَلَيْهِ فِي آخِرِ مَا أَنْزَلَ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ الَّذِي اخْتُصَّ بِهِ هُوَ وَأُمَّتُهُ وَهَدَاهُمْ لَهُ فِي أَشْرَفِ مَوْقِفٍ وَأَفْضَلِ عَشِيَّةٍ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ وَهُوَ وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ فِي ذَلِكَ الْجَمْعِ الْأَعْظَمِ الَّذِي لَمْ يَتَّفِقْ وُقُوعُ مِثْلُهُ وَلَمْ يَتَّفِقْ أَكْثَرُ النَّاسِ بِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَعْدَهُ {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ
وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [الْمَائِدَةِ: 3] فَأَخْبَرَ فِيهَا بِإِكْمَالِ دِينِهِ الَّذِي وَعَدَنَا إِظْهَارَهُ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التَّوْبَةِ: 33] وَبِإِتْمَامِهِ النِّعْمَةَ كَمَا وَعَدَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ} وَتَقَدَّمَ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ فِي قَوْلِ الْيَهُودِيِّ لِعُمَرَ فِي شَأْنِهَا وَمَا رَدَّ عَلَيْهِ بِهِ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [الْمَائِدَةِ: 3] وَهُوَ الْإِسْلَامُ, أَخْبَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُ قَدْ أَكْمَلَ لَهُمْ شَرَائِعَ الْإِيمَانِ فَلَا يَحْتَاجُونَ إِلَى زِيَادَةٍ أَبَدًا, وَقَدْ أَتَمَّهُ فَلَا يَنْقُصُهُ أَبَدًا, وَقَدْ رَضِيَهُ فَلَا يُسْخِطُهُ أَبَدًا1. قُلْتُ: وَفِي ضِمْنِ هَذَا الْخِطَابِ مَعْنًى فَارْضَوْا بِهِ أَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ, وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَبِيًّا" 2 وَأَمَرَنَا بِهَذَا الذِّكْرِ فِي كُلِّ مَسَاءٍ وَصَبَاحٍ, وَقَالَ أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّيِّ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ يَوْمَ عَرَفَةَ وَلَمْ يَنْزِلْ بَعْدَهَا حَلَالٌ وَلَا حَرَامٌ, وَرَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَمَاتَ, قَالَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ: حَجَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تِلْكَ الْحَجَّةَ, فَبَيْنَمَا نَحْنُ نَسِيرُ إِذْ تَجَلَّى لَهُ جِبْرِيلُ, فَبَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى الرَّاحِلَةِ فَلَمْ تُطِقِ الرَّاحِلَةُ مِنْ ثِقَلِ مَا يُمِيلُهَا مِنَ الْقُرْآنِ فَبَرَكَتْ, فَأَتَيْتُهُ فَسَجَّيْتُ عَلَيْهِ بُرْدًا كَانَ عَلَيَّ3. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَعْدَ يَوْمِ عَرَفَةَ بِأَحَدٍ وَثَمَانِينَ يَوْمًا. رَوَاهُمَا ابْنُ جَرِيرٍ4, وَلَهُ عَنْ هَارُونَ بْنِ عَنْتَرَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} وَذَلِكَ يَوْمَ الْحَجِّ بَكَى عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ, فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا يُبْكِيكَ؟ " قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كُنَّا فِي زِيَادَةٍ مِنْ دِينِنَا فَأَمَّا إِذَا أُكْمِلَ فَإِنَّهُ لَمْ يَكْمُلْ شَيْءً إِلَّا نَقَصَ, فَقَالَ: "صَدَقْتَ" 5, وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الْفُرْقَانِ: 33] ، قَالَ وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ أَيْ بِمَا يَلْتَمِسُونَ بِهِ غَيْرَ الْقُرْآنِ وَالرَّسُولِ {إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ} الْآيَةَ أَيْ لِإِنْزَالِ جِبْرِيلَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِجَوَابِهِمْ1. وَمَا هَذَا إِلَّا اعْتِنَاءٌ وكبر شرف الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ كَانَ يَأْتِيهِ الْوَحْيُ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِالْقُرْآنِ صَبَاحًا وَمَسَاءً وَلَيْلًا وَنَهَارًا، سَفَرًا وَحَضَرًا، وَكُلُّ مَرَّةٍ كَانَ يَأْتِيهِ الْمَلَكُ بِالْقُرْآنِ لَا كَإِنْزَالِ الْكُتُبِ قَبْلَهُ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَهَذَا الْمَقَامُ أَعْلَى وَأَجَلُّ وَأَعْظَمُ مَكَانَةً مِنْ سَائِرِ إِخْوَانِهِ الْأَنْبِيَاءِ صلوات الله وسلامه عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، فَالْقُرْآنُ أَشْرَفُ كِتَابٍ أَنْزَلَهُ اللَّهُ، وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْظَمُ نَبِيٍّ أَرْسَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ لِلْقُرْآنِ الصِّفَتَيْنِ مَعًا: فَفِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى أُنْزِلَ جُمْلَةً وَاحِدَةً مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ إِلَى بَيْتِ الْعِزَّةِ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا، ثُمَّ أُنْزِلَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى الْأَرْضِ مُنَجَّمًا بِحَسَبِ الْوَقَائِعِ وَالْحَوَادِثِ2. {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا، وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الْفُرْقَانِ: 33] ، {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} [الْإِسْرَاءِ: 106] . وَكَمَا وَفَّى بِالرَّدِّ عَلَى كُلِّ مُشَاقٍّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مِنَ الْوَثَنِيِّينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَالْكِتَابِيِّينَ وغيرهم، وَنَزَلَ مُنَجَّمًا عَلَى حَسَبِ ذَلِكَ، فَكَذَلِكَ هُوَ وَافٍ بِرَدِّ شُبْهَةِ كُلِّ مُلْحِدٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، اقْرَأْ عَلَى مَنِ ادَّعَى النُّبُوَّةَ {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الْأَحْزَابِ: 40] ، وَعَلَى الدَّجَّالِ فَوَاتِحَ سُورَةِ الْكَهْفِ، وَعَلَى الْمُعَطِّلِ وَالْمُشَبِّهِ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} ، وَعَلَى النَّافِي لِلْقَدَرِ {مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الْأَنْعَامِ: 39] ، {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [الْقَمَرِ: 49] . وَعَلَى الْجَبْرِيَّةِ الْغُلَاةِ {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [الْبَقَرَةِ: 286] ، {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النِّسَاءِ: 165] ،
الدين الذي بلغه الرسول للناس لا يقبل زيادة عليه ولا نقصا منه ولا تبديلا
{قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} [الْأَنْعَامِ: 149] {فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الْأَنْعَامِ 149] وَعَلَى نُفَاةِ الرُّؤْيَةِ {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [الْقِيَامَةِ: 23] وَعَلَى الرَّافِضَةِ {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التَّوْبَةِ: 40] وَعَلَى النَّاصِبَةِ {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التَّوْبَةِ: 100] الْآيَةَ. {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الْأَحْزَابِ: 33] وَعَلَى الْفَرِيقَيْنِ {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الْحَشْرِ: 10] وَعَلَى كُلِّ ذِي بِدْعَةٍ مُطْلَقًا {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} إِلَى آخِرِهَا مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ} [آلِ عِمْرَانَ: 83] {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آلِ عِمْرَانَ: 85] . "الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ": أَنَّ هَذَا الدِّينَ التَّامَّ الْمُكَمِّلَ الَّذِي بَلَّغَهُ الرَّسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى النَّاسِ كَافَّةً لَا يَقْبَلُ زِيَادَةً عَلَى مَا شُرِعَ فِيهِ مِنْ أَصُولِ الْمِلَّةِ وَفُرُوعِهَا وَلَا نَقْصًا مِنْهَا وَلَا تَغْيِيرًا وَلَا تَبْدِيلًا وَلَا يُقْبَلُ من أحد دينا سِوَاهُ, وَلَا تُقْبَلُ لِأَحَدٍ عِبَادَةٌ لَمْ يَتَعَبَّدْهَا مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلَا أَصْحَابُهُ, وَلَا يُعْبَدُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَّا بِمَا شَرَعَ, وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ يَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي الْفَصْلِ الْأَخِيرِ, وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. "الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ": أَنَّ مُحَمَّدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَاتَمُ الرُّسُلِ فَلَا نَبِيَّ بَعْدَهُ, وَكِتَابُهُ خَاتَمُ الْكُتُبِ فَلَا كِتَابَ بَعْدَهُ, فَهُوَ مُحْكَمٌ أَبَدًا. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ هِيَ الْمُشَارُ إِلَيْهَا بِهَذَا الْبَيْتِ وَالَّذِي بَعْدَهُ: وَكُلُّ مَنْ مِنْ بَعْدِهِ قَدِ ادَّعَى ... نُبُوَّةً فَكَاذِبٌ فِيمَا ادَّعَى فَهُوَ خِتَامُ الرُّسُلِ بِاتِّفَاقٍ ... وَأَفْضَلُ الْخَلْقِ عَلَى الْإِطْلَاقِ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الْأَحْزَابِ: 40] وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ
محمد -صلى الله عليه وسلم- خاتم الأنبياء والرسل فلا نبي بعده
شَهِيدًا} [الْبَقَرَةِ: 143] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [آلِ عِمْرَانَ: 144] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النِّسَاءِ: 163] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ قَالَ: حَدَّثَنِي مَعْنٌ عَنْ مَالِكٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لِي خَمْسَةُ أَسْمَاءٍ: أَنَا مُحَمَّدٌ وَأَنَا أَحْمَدُ وَأَنَا الْمَاحِي الَّذِي يَمْحُو اللَّهُ بِي الْكُفْرَ, وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشُرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمِي, وَأَنَا الْعَاقِبُ" 1 وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ وَزَادَ "وَأَنَا الْعَاقِبُ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ نَبِيٌّ" 2 وَلَهُ عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُسَمِّي لَنَا نَفْسَهُ أَسْمَاءً فَقَالَ: "أَنَا مُحَمَّدٌ وَأَحْمَدُ وَالْمُقَفَّى وَالْحَاشِرُ وَنَبِيُّ التَّوْبَةِ وَنَبِيُّ الرَّحْمَةِ" 3. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: بَابَ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ حَدَّثَنَا سُلَيْمٌ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مِينَاءَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَثَلِي وَمَثَلُ الْأَنْبِيَاءِ كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى دَارًا فَأَكْمَلَهَا وَأَحْسَنَهَا إِلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ, فَجَعَلَ النَّاسُ يَدْخُلُونَهَا يَتَعَجَّبُونَ وَيَقُولُونَ: لَوْلَا مَوْضِعُ اللَّبِنَةٍ" 4. رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَزَادَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَأَنَا مَوْضِعُ اللَّبِنَةِ, جِئْتُ فَخَتَمْتُ الْأَنْبِيَاءَ" 5, وَقَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: "إِنْ مَثَلِي وَمَثَلُ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بَيْتًا فَأَحْسَنَهُ وَأَجْمَلَهُ, إِلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِنْ زَاوِيَةٍ, فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ بِهِ وَيَعْجَبُونَ لَهُ وَيَقُولُونَ: هَلَّا
وُضِعَتْ هَذِهِ اللَّبِنَةُ قَالَ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَأَنَا اللَّبِنَةُ وَأَنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ طُرُقٍ1, وَلَهُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَثَلِي وَمَثَلُ النَّبِيِّينَ" فَذَكَرَ نَحْوَهُ2. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ الْأَزْدِيُّ حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُقَيْلٍ عَنِ الطُّفَيْلِ بْنِ أُبِيِّ بْنِ كَعْبٍ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مَثَلِي فِي النَّبِيِّينَ كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى دَارًا فَأَحْسَنَهَا وَأَكْمَلَهَا, وَتَرَكَ فِيهَا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ لَمْ يَضَعْهَا, وَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ بِالْبُنْيَانِ وَيَعْجَبُونَ مِنْهُ وَيَقُولُونَ: لَوْ تَمَّ مَوْضِعُ هَذِهِ اللَّبِنَةِ. فَأَنَا فِي النَّبِيِّينَ مَوْضِعُ تِلْكَ اللَّبِنَةِ". وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي عَامِرٍ الْعَقَدِيِّ بِهِ وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ3. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ شُعْبَةَ عَنِ الْحَكَمِ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَرَجَ إِلَى تَبُوكَ وَاسْتَخْلَفَ عَلِيًّا, فَقَالَ: أَتَخْلُفُنِي فِي الصِّبْيَانِ وَالنِّسَاءِ؟ قَالَ: "أَلَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ نَبِيٌّ بَعْدِي" 4. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ مُصْعَبٍ هَذِهِ وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ: "أَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى إِلَّا أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي" قَالَ سَعِيدٌ: فَأَحْبَبْتُ أَنْ أُشَافِهَ بِهَا سَعْدًا فَلَقِيتُ سَعْدًا فَحَدَّثْتُهُ بِمَا حَدَّثَنِي بِهِ عَامِرٌ فَقَالَ: أَنَا سَمِعْتُهُ, فَقُلْتُ: أَنْتِ سَمِعْتَهُ؟ فَوَضَعَ إِصْبَعَيْهِ عَلَى أُذُنَيْهِ فَقَالَ: نَعَمْ وَإِلَّا سُكَّتَا5. وَتَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ ذِكْرِ الدَّجَّالِ قوله, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنه يبدئ فَيَقُولُ: إِنَّهُ نَبِيٌّ, وأنا خاتم النبين وَلَا نَبِيَّ بَعْدِي" 6 الْحَدِيثَ. وَفِي حَدِيثِ ثَوْبَانِ الطَّوِيلِ
عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ "وَأَنَّهُ سَيَكُونُ فِي أُمَّتِي كَذَّابُونَ ثَلَاثُونَ كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ, وَأَنَا خَاتَمُ النَّبِيِينَ وَلَا نَبِيَّ بَعْدِي" 1, وَلِلْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَهَذَا لَفْظُهُ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نَحْنُ الْآخِرُونَ وَنَحْنُ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ, بَيْدَ أَنَّ كُلَّ أُمَّةٍ أُوتِيَتِ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهُمْ, ثُمَّ هَذَا الْيَوْمَ الَّذِي كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْنَا هَدَانَا اللَّهُ لَهُ فَالنَّاسُ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ, الْيَهُودُ غَدًا وَالنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ" 2. وَفِي رِوَايَةٍ "وَكَذَلِكَ هُمْ تَبَعٌ لَنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ, نَحْنُ الْآخِرُونَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا وَالْأَوَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمُقَضَّى لَهُمْ قَبْلَ الْخَلَائِقِ" 3. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ صَحِيحِهِ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إِنَّمَا أَجْلُكُمْ فِي أَجَلِ مَنْ خَلَا مِنَ الْأُمَمِ مَا بَيْنَ صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى مَغْرِبِ الشَّمْسِ, وَإِنَّمَا مَثَلُكُمْ وَمَثَلُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى كَرَجُلٍ اسْتَعْمَلَ عُمَّالًا فَقَالَ: مَنْ يَعْمَلُ إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ عَلَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ؟ فَعَمِلَتِ الْيَهُودُ إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ عَلَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ. فَقَالَ: مَنْ يَعْمَلُ مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ إِلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ عَلَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ؟ فَعَمِلَتِ النَّصَارَى مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ إِلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ عَلَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ. فَقَالَ: مَنْ يَعْمَلُ مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى مَغْرِبِ الشَّمْسِ عَلَى قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ؟ قَالَ: أَلَا فَأَنْتُمُ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى مَغْرِبِ الشَّمْسِ عَلَى قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ, أَلَا لَكُمُ الأجر مرتين. فغضبت الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى, فَقَالُوا: نَحْنُ أَكْثَرُ عَمَلًا وَأَقَلُّ عَطَاءً. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: هَلْ ظَلَمَتُكُمْ مِنْ حَقِّكُمْ شَيْئًا؟ قَالُوا: لَا, قَالَ: فَإِنَّهُ فَضْلِي أُوتِيَهُ مَنْ شِئْتُ" 4. وَلَهُمَا عَنْ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: قَاعَدْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَمْسِينَ سِنِينَ سَمِعْتُهُ يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ
تَسُوسُهُمُ الْأَنْبِيَاءُ, كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَ نَبِيٌّ, وَإِنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي, وَسَيَكُونُ خُلَفَاءُ فَيَكْثُرُونَ". قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا؟ قال: "فوا بيعة الْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ, أَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ, فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَائِلُهُمْ عَمَّا اسْتَرْعَاهُمُ" 1 وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنِ الرِّسَالَةَ وَالنُّبُوَّةَ قَدِ انْقَطَعَتْ, فَلَا رَسُولَ بَعْدِي وَلَا نَبِيَّ" قَالَ: فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ, فَقَالَ: "وَلَكِنِ الْمُبَشِّرَاتُ" قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْمُبَشِّرَاتُ؟ قَالَ: "رُؤْيَا الرَّجُلِ الْمُسْلِمِ وَهِيَ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ" 2, وَلِلْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: "لم يببق مِنَ النُّبُوَّةِ إِلَّا الْمُبَشِّرَاتُ". قَالُوا: وَمَا الْمُبَشِّرَاتُ؟ قَالَ: "الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ" 3. وَقَالَ مُسْلِمٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ وَعَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ قَالُوا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ وَهُوَ ابْنُ جَعْفَرٍ عَنِ الْعَلَاءِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "فُضِّلْتُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ بِسِتٍّ: أُعْطِيْتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ, وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ, وَأُحِلَتْ لِيَ الْغَنَائِمُ, وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ طَهُورًا وَمَسْجِدًا, وَأُرْسِلْتُ إِلَى الْخَلْقِ كَافَّةً, وَخُتِمَ بِي النَّبِيُّونَ" 4. وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنِ الْعِرْبَاضِ ابن سَارِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنِّي عِنْدَ اللَّهِ لَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَإِنَّ آدَمَ لَمُنْجَدِلٌ فِي طِينَتِهِ" 5. وَلَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمًا كَالْمُوَدِّعِ فَقَالَ: "أَنَا مُحَمَّدٌ النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ "ثَلَاثًا" وَلَا نَبِيَّ بَعْدِي, أُوتِيْتُ فَوَاتِحَ الْكَلِمِ وَجَوَامِعَهُ وَخَوَاتِمَهُ" 6.
وَقَدْ وَرَدَتْ عِدَّةُ أَحَادِيثَ فِي صِفَةِ خَاتَمِ النُّبُوَّةِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ آيَةٌ بَاهِرَةٌ وَدَلَالَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ, لَا بَأْسَ أَنْ نَذْكُرَ مَا تَيَسَّرَ مِنْهَا؛ فَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنِ السَّائِبِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "ذَهَبَتْ بِي خَالَتِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ ابْنَ أُخْتِي وَقَعَ. فَمَسْحَ رَأْسِي وَدَعَا لِي بِالْبَرَكَةِ, وَتَوَضَّأَ فَشَرِبْتُ مِنْ وُضُوئِهِ, ثُمَّ قُمْتُ خَلْفَ ظَهْرِهِ فَنَظَرْتُ إِلَى خَاتَمٍ بَيْنَ كَتِفَيْهِ مِثْلَ زِرِّ الْحَجَلَةِ"1, وَلِمُسْلِمٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ شَمِطَ مُقَدَّمُ رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ وَكَانَ إِذَا ادَّهَنَ لَمْ يَتَبَيَّنْ, وَإِذَا شَعِثَ رَأْسُهُ تَبَيَّنَ, وَكَانَ كَثِيرَ شَعْرِ اللِّحْيَةِ. فَقَالَ رَجُلٌ: وَجْهُهُ مِثْلُ السَّيْفِ. قَالَ: بَلْ كَانَ مِثْلَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ, وَكَانَ مُسْتَدِيرًا, وَرَأَيْتُ الْخَاتَمَ عِنْدَ كَتِفِهِ مِثْلَ بَيْضَةِ الْحَمَامَةِ يُشْبِهُ جَسَدَهُ, وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: "رَأَيْتُ خَاتَمًا فِي ظَهْرِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَأَنَّهُ بَيْضَةُ حَمَامٍ"2, وَلَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَرْجِسَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَكَلْتُ مَعَهُ خُبْزًا وَلَحْمًا -أَوْ قَالَ ثَرِيدًا- قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: اسْتَغْفَرَ لَكَ النَّبِيُّ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: نَعَمْ, وَلَكَ ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} قَالَ: ثُمَّ دُرْتُ خَلْفَهُ فَنَظَرْتُ إِلَى خَاتَمِ النُّبُوَّةِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ عَنْ نَاغِضِ كَتِفِهِ الْيُسْرَى جُمْعًا عَلَيْهِ خِيلَانٌ كَأَمْثَالِ الثَّآلِيلِ"3, وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقلت: يا رسول اللَّهِ أَرِنِي الْخَاتَمَ. فَقَالَ: "أَدْخِلْ يَدَكَ" فَأَدْخَلْتُ يَدِي فِي جُرُبَّانِهِ, فَجَعَلْتُ أَلْمِسُ أَنْظُرُ إِلَى الْخَاتَمِ فَإِذَا هُوَ عَلَى نَغُضِ كَتِفِهِ مِثْلُ الْبَيْضَةِ, فَمَا مَنَعَهُ ذَاكَ أَنْ جَعَلَ يَدْعُو لِي وَإِنَّ يَدِي لَفِي جُرُبَّانِهِ. وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ4. وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي رِمْثَةَ التَّيْمِيِّ قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ أَبِي حَتَّى أَتَيْتُ رَسُولَ الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فرأيت رأسه رَدْعَ حِنَّاءٍ, وَرَأَيْتُ عَلَى كَتِفِهِ مِثْلَ التُّفَّاحَةِ, فَقَالَ أَبِي: إِنِّي طَبِيبٌ أَفَلَا أَطُبُّهَا لَكَ؟ قَالَ: "طَبِيبُهَا الَّذِي خَلَقَهَا". قَالَ: وَقَالَ
لِأَبِي: "هَذَا ابْنُكَ؟ " قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: "أَمَا إِنَّهُ لَا يَجْنِي عَلَيْكَ وَلَا تَجْنِي عَلَيْهِ" 1. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ قَالَ: "أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَلْقَى رِدَاءَهُ وَقَالَ: يَا سَلْمَانَ انْظُرْ إِلَى مَا أُمِرْتُ بِهِ؟ قَالَ: فَرَأَيْتُ الْخَاتَمَ بَيْنَ كَتِفَيْهِ مِثْلَ بَيْضَةِ الْحَمَامَةِ"2, وَرَوَى يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ بِإِسْنَادِهِ عَنِ التَّنُوخِيِّ الَّذِي بَعَثَهُ هِرَقْلُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ بِتَبُوكَ الْحَدِيثَ, وَفِيهِ "فَحَلَّ حَبْوَتَهُ عَنْ ظَهْرِهِ ثُمَّ قَالَ: هَهُنَا امْضِ لِمَا أُمِرْتَ بِهِ, قَالَ: فَجُلْتُ فِي ظَهْرِهِ فَإِذَا أَنَا بِخَاتَمٍ فِي مَوْضِعِ غُضْرُوفِ الْكَتِفِ مِثْلِ الْحَجْمَةِ الضَّخْمَةِ"3. وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ غِيَاثٍ الْبَكْرِيِّ قَالَ: كُنَّا نُجَالِسُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ بِالْمَدِينَةِ فَسَأَلْتُهُ عَنْ خَاتَمِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الَّذِي كَانَ بَيْنَ كَتِفَيْهِ فَقَالَ بِأُصْبُعِهِ السَّبَّابَةِ: هَكَذَا لَحْمٌ نَاشِزٌ بَيْنَ كَتِفَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ4. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ حَدَّثَنَا نَافِعُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "قَدِمَ مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَجَعَلَ يَقُولُ: إِنْ جَعَلَ لِي مُحَمَّدٌ مِنْ بَعْدِهِ -يَعْنِي الْأَمْرَ- تَبِعْتُهُ. وَقَدَّمَهَا فِي بِشَرٍ كَثِيرٍ مِنْ قَوْمِهِ, فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَمَعَهُ ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ وَفِي يَدِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قِطْعَةُ جَرِيدٍ حَتَّى وَقَفَ عَلَى مُسَيْلِمَةَ فِي أَصْحَابِهِ وَقَالَ: "لَوْ سَأَلْتَنِي هَذِهِ الْقِطْعَةَ مَا أَعْطَيْتُكَهَا, وَلَنْ تَعْدُوَ أَمْرَ اللَّهِ فِيكَ. وَلَئِنْ أَدْبَرْتَ لَيَعْقِرَنَّكَ اللَّهُ. وَإِنِّي لَأَرَاكَ الَّذِي أُرِيْتُ فِيكَ مَا رَأَيْتُ, وَهَذَا ثَابِتٌ يُجِيبُكَ عَنِّي" ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْهُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَسَأَلْتُ عَنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَإِنِّي لَأَرَاكَ الَّذِي أُرَيْتُ فِيكَ مَا رَأَيْتُ" فَأَخْبَرَنِي أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُ فِي يَدِي سُوَارَيْنِ مِنْ ذَهَبٍ,
أعظم معجزاته -صلى الله عليه وسلم- هذا القرآن
فَأَهَمَّنِي شَأْنَهُمَا, فَأُوحِيَ إِلَيَّ فِي الْمَنَامِ أَنِ انْفُخْهُمَا فَنَفَخْتُهُمَا فَطَارَا, فَأَوَّلْتُهُمَا كَذَّابَيْنِ يَخْرُجَانِ بَعْدِي أَحَدُهُمَا الْعَنْسِيُّ وَالْآخَرُ مُسَيْلِمَةُ" 1. حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ أُتِيتُ بِخَزَائِنِ الْأَرْضِ, فَوُضِعَ فِي كَفِّي سُوَارَانِ مِنْ ذَهَبٍ, فَكَبُرَ عَلَيَّ فَأُوحِيَ إِلَيَّ أَنِ انْفُخْهُمَا, فَنَفَخْتُهُمَا فَذَهَبَا فَأَوَّلْتُهُمَا الْكَذَّابَيْنِ اللَّذَيْنِ أَنَا بَيْنَهُمَا: صَاحِبَ صَنْعَاءَ, وَصَاحِبَ الْيَمَامَةِ" 2 وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ جِدًّا, وَفِيمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ كِفَايَةٌ. "فَهُوَ" مُحَمَّدٌ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "خِتَامُ الرُّسُلِ" فَلَا نَبِيَّ بَعْدَهُ, وَالرِّسَالَةُ مِنْ بَابِ أَوْلَى إِذْ لَا يُرْسَلُ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَتَنَبَّأَ, فَالنُّبُوَّةُ وحي مطلق مجردا, فَإِنْ أُمِرَ بِتَبْلِيغِهِ فَرِسَالَةٌ, فَكُلُّ رَسُولٍ نَبِيٌّ وَلَا عَكْسَ "بِاتِّفَاقٍ" مِنْ كُلِّ كِتَابٍ مُنَزَّلٍ وَكُلِّ نَبِيٍّ مُرْسَلٍ وَكُلِّ مُؤْمِنٍ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ "وَأَفْضَلُ الْخَلْقِ" كُلُّهُمْ "عَلَى الِاطِّلَاقِ" بِلَا اسْتِثْنَاءٍ, قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} [الْبَقَرَةِ: 253] . قَالَ أَئِمَّةُ التَّفْسِيرِ مِنَ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ: هُوَ مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ" 3. وَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى جَمِيعِ الرُّسُلِ الْمِيثَاقَ فِي الْإِيمَانِ بِهِ وَنُصْرَتِهِ وَبَشَّرَ بِهِ كُلُّ نَبِيٍّ قَوْمَهُ وَبُعِثَ إِلَى الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالْأَسْوَدِ وَالْأَحْمَرِ كَافَّةً, وَأُتِيَ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْمُعْجِزَاتِ مَا لَمْ يُؤْتَهُ نَبِيٌّ قَبْلَهُ مِنَ انْشِقَاقِ الْقَمَرِ وَحَنِينِ الْجِذْعِ إِلَيْهِ وَنَبْعِ الْمَاءِ مِنْ أَصَابِعِهِ وَتَسْلِيمِ الْأَشْجَارِ وَالْأَحْجَارِ عَلَيْهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. [أَعْظَمُ مُعْجِزَاتِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هَذَا الْقُرْآنُ] : وَأَعْظَمُ مُعْجِزَاتِهِ هَذَا الْقُرْآنُ مُعْجِزَةٌ خَالِدَةٌ أَبَدَ الْآبِدِينَ وَدَهْرَ الدَّاهِرِينَ, لَا
ظهور فضيلته ليلة الإسراء والمعراج بتقدمه على الأنبياء إماما لهم، وعلوه فوق الجميع
تَفْنَى عَجَائِبُهُ, وَلَا يُدْرَكُ غَايَةُ إِعْجَازِهِ, وَلَا يَنْدَرِسُ بِمُرُورِ الْأَعْصَارِ, وَلَا يُمَلُّ مَعَ التَّكْرَارِ. بَلْ يُجْلَى مَعَ ذَلِكَ وَيَتَجَلَّى وَيَعْلُو عَلَى غَيْرِهِ وَلَا يُعْلَى, وَكُلُّ مُعْجِزَةٍ قَبْلَهُ انْقَضَتْ بِانْقِضَاءِ زَمَانِهَا وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا تِذْكَارُهَا, وَهُوَ كُلَّ يَوْمٍ بَرَاهِينُهُ فِي مَزِيدٍ وَمُعْجِزَاتُهُ فِي تَجْدِيدٍ {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فُصِّلَتْ: 42] . وَقَدْ ظَهَرَتْ فَضِيلَتُهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي لَيْلَةِ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ بِتَقَدُّمِهِ عَلَيْهِمْ إِمَامًا, وَعُلُوِّهِ فَوْقَ الْجَمِيعِ مَقَامًا حَتَّى جَاوَزَ السَّبْعَ الطِّبَاقَ إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى إِلَى حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ, وَاخْتُصَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِأَشْيَاءَ أُخَرَ فِي سَمَاحَةِ شَرِيعَتِهِ, وَوَضْعِ الْآصَارِ عَنْ أُمَّتِهِ وَكَوْنِهِ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا, وَكَذَلِكَ يَبْدُو فَضْلُهُ فِي الْآخِرَةِ بِكَوْنِهِ أَوَّلَ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ, وَأَوَّلَ شَافِعٍ وَأَوَّلَ مُشَفَّعٍ وَأَوَّلَ مَنْ يَسْتَفْتِحُ بَابَ الْجَنَّةِ وَأَوَّلَ مَنْ يَدْخُلُهَا مِنَ الْأُمَمِ أُمَّتُهُ, وَلَهُ الْحَوْضُ الْمَوْرُودُ وَهُوَ الْكَوْثَرُ, وَهُوَ أَكْثَرُ الْأَنْبِيَاءِ وَارِدًا, وَلَهُ اللِّوَاءُ الْمَعْقُودُ وَهُوَ لِوَاءُ الْحَمْدِ تَحْتَهُ آدَمَ فَمَنْ دُونَهُ. وَلَهُ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ الَّذِي يَغْبِطُهُ بِهِ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ, وَيَرْغَبُ إِلَيْهِ كُلُّ الْخَلَائِقِ حَتَّى إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ الرَّحْمَنِ, وَهُوَ وَأُمَّتُهُ أَوَّلُ مَنْ يَجُوزُ الصِّرَاطَ وَهُمْ ثُلْثُ أَهْلِ الْجَنَّةِ؛ لِمَا جَاءَ أَنَّهُمْ ثَمَانُونَ صَفًّا وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْأُمَمِ أَرْبَعُونَ صَفًّا, وَهَذِهِ عِدَّةُ صُفُوفِ أَهْلِ الْجَنَّةِ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ صَفًّا, وَيَشْفَعُ الْوَاحِدُ مِنْ أُمَّتِهِ فِي مِثْلِ رَبِيعَةَ وَمُضَرَ, وَلَهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْوَسِيلَةُ وَهِيَ أَعْلَى دَرَجَةٍ فِي الْجَنَّةِ لَيْسَ فَوْقَهَا إِلَّا عَرْشُ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ, وَلَيْسَتْ هِيَ لِأَحَدٍ غَيْرَهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ مَقَامَاتِهِ الْعَلِيَّةِ الَّتِي لَا يَنَالُهَا غَيْرُهُ وَلَا يُدْرِكُهَا سِوَاهُ, وَهَذَا مَقَامٌ يَطُولُ ذكره ولا يقدر قدره. وَلَا يُحِيطُ بِغَايَتِهِ إِلَّا الَّذِي اصْطَفَاهُ لَهُ, وَأَكْرَمَهُ بِهِ. جَعَلَنَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِمَّنِ اقْتَدَى بِهِ وَاهْتَدَى بِهَدْيِهِ وَكَانَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جَاءَ بِهِ آمِينَ. مَسْأَلَةٌ: فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: بَيْنَمَا يَهُودِيٌّ يَعْرِضُ سِلْعَتَهُ أُعْطِيَ بِهَا شَيْئًا كَرِهَهُ, فَقَالَ: لَا, وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَى الْبَشَرِ. فَسَمِعَهُ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَامَ فَلَطَمَ خَدَّهُ وَقَالَ: تَقُولُ وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَى الْبَشَرِ
حديث "ما ينبغي لعبد أن يقول: أني خير من يونس بن متى"
وَالنَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَيْنَ أَظْهُرِنَا! فَذَهَبَ الْيَهُودِيُّ إِلَيْهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: أَبَا الْقَاسِمِ إِنَّ لِي ذِمَّةً وَعَهْدًا فَمَا بَالُ فُلَانٍ لَطَمَ وَجْهِي؟ فَقَالَ: "لِمَ لَطَمْتَ وَجْهَهُ؟ " فَذَكَرَهُ. فَغَضِبَ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حتى رؤي فِي وَجْهِهِ ثُمَّ قَالَ: "لَا تُفَضِّلُوا بَيْنَ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ, فَإِنَّهُ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَيَصْعَقُ من في السموات ومن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ, ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ أُخْرَى فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ بُعِثَ, فَإِذَا مُوسَى آخِذٌ بِالْعَرْشِ فَلَا أَدْرِي أَحُوسِبَ بِصَعْقَتِهِ يَوْمَ الطُّورِ أَمْ بُعِثَ قَبْلِي؟ وَلَا أَقُولُ إِنَّ أَحَدًا أَفْضَلُ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى" 1, وَلَهُمَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ إِنِّي خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى" 2. وَلَهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "لَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أن يقول أَنْ خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى" 3. وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ, يَعْنِي اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: "لَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ لِي" 4 الْحَدِيثَ. قَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تُفَضِّلُوا بَيْنَ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ" جَوَابُهُ مِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ. أحدها أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قاله قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ, فَلَمَّا عَلِمَ أَخْبَرَ بِهِ. وَالثَّانِي: قَالَهُ أَدَبًا وَتَوَاضُعًا. وَالثَّالِثُ: أَنَّ النَّهْيَ إِنَّمَا هُوَ عَنْ تَفْضِيلٍ يُؤَدِّي إِلَى تَنْقِيصِ الْمَفْضُولِ.
وَالرَّابِعُ: إِنَّمَا نَهَى عَنْ تَفْضِيلٍ يُؤَدِّي إِلَى الْخُصُومَةِ وَالْفِتْنَةِ كَمَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِي سَبَبِ الْحَدِيثِ. وَالْخَامِسُ: أَنَّ النَّهْيَ مُخْتَصٌّ بِالتَّفْضِيلِ فِي نَفْسِ النُّبُوَّةِ فَلَا تَفَاضُلَ فِيهَا, وَإِنَّمَا التَّفَاضُلُ بِالْخَصَائِصِ وَفَضَائِلَ أُخْرَى1. ذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَجْهًا أَنَّ التَّفْضِيلَ لَيْسَ إِلَيْكُمْ وَإِنَّمَا هُوَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ, وَعَلَيْكُمُ الِانْقِيَادُ لَهُ وَالتَّسْلِيمُ والإيمان به2. ا. هـ. قُلْتُ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ مِنْ كَلَامِ النَّوَوِيِّ ضَعِيفٌ, وَالثَّانِي وَالْخَامِسُ فِيهِمَا نَظَرٌ, وَالرَّابِعُ قَرِيبٌ. وَيَقْوَى عِنْدِي الْوَجْهُ الثَّالِثُ مَعَ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ كَثِيرٍ, فَلَيْسَ التَّفْضِيلُ بِالرَّأْيِ وَمُجَرَّدُ الْعَصَبِيَّةِ, وَلَا بِمَا يَلْزَمُ مِنْهُ تَنَقُّصُ الْمَفْضُولِ وَالْحَطُّ مِنْ قَدْرِهِ, كُلُّ هَذَا وَمَا فِي مَعْنَاهُ مُحَرَّمٌ قَطْعًا مَنْهِيٌ عَنْهُ شَرْعًا, وَهُوَ الَّذِي غَضِبَ مِنْهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلَوْ لَمْ يَقْصِدْهُ ذَلِكَ الْأَنْصَارِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ, فَغَضِبَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَنَهِيُهُ عَنْ ذَلِكَ تَعْلِيمٌ عَامٌّ لِلْأُمَّةِ وَزَجْرٌ بَلِيغٌ لِجَمِيعِهِمْ كَيْلَا يَقَعَ ذَلِكَ أَوْ يَصْدُرُ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ فَيَهْلَكُ. وَأَمَّا التَّفْضِيلُ بِمَا أَكْرَمَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَرَفَعَ بِهِ دَرَجَتَهُ وَنَوَّهَ فِي الْوَحْيِ بِشَرَفِهِ مِنَ الْفَضَائِلِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا شَهِدَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ وَرَسُولِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِمَّا ذَكَرْنَا وَمِمَّا لَمْ نَذْكُرْ فَهُوَ الَّذِي يَجِبُ اعْتِقَادُهُ وَالْإِيمَانُ بِهِ وَالتَّصْدِيقُ وَالِانْقِيَادُ لَهُ وَالتَّسْلِيمُ, فَلَا يُؤْخَذُ عِلْمُ مَا يَخْتَصُّ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَّا عَنِ اللَّهِ وَعَنْ رَسُولِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ وَبِهِ التَّوْفِيقُ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا قَالَهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي شَانِ يُونُسَ أَنَّهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ هَذَا زَاجِرًا عَنْ أَنْ يَتَخَيَّلَ أَحَدٌ مِنَ الْجَاهِلِينَ شَيْئًا مِنْ حَطِّ مرتبة يونس عليه السلام, مِنْ أَجْلِ مَا فِي الْقُرْآنِ مَنْ قِصَّتِهِ؛ قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَمَا جرى ليونس عليه السلام, لَمْ يُحِطَّهُ مِنْ دَرَجَةِ النُّبُوَّةِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَخُصِّصَ يُونُسُ بِالذِّكْرِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ ذِكْرِهِ فِي الْقُرْآنِ بِمَا ذُكِرَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ" فَالضَّمِيرُ قِيلَ يَعُودُ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقِيلَ يَعُودُ إِلَى الْقَائِلِ, أَيْ: لَا يَقُولُ ذَلِكَ بَعْضُ الْجَاهِلِينَ مِنْ
الْمُجْتَهِدِينَ فِي عِبَادَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْفَضَائِلِ, فَإِنَّهُ لَوْ بَلَغَ مِنَ الْفَضَائِلِ مَا بَلَغَ لَمْ يَبْلُغْ دَرَجَةَ النُّبُوَّةِ, وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ الرِّوَايَةُ الَّتِي فِيهَا قَوْلُهُ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى" وَاللَّهُ أَعْلَمُ1.
الفصل الثاني عشر: فيمن هو أفضل الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر الصحابة بمحاسنهم، والكف عن مساوئهم وما شجر بينهم، رضي الله عنهم
[[الفصل الثاني عشر: فيمن هو أفضل الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر الصحابة بمحاسنهم، والكف عن مساوئهم وما شجر بينهم، رضي الله عنهم]] فَصْلٌ: فِي مَنْ هُوَ أَفْضَلُ الْأُمَّةِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذِكْرِ الصَّحَابَةِ بِمَحَاسِنِهِمْ, وَالْكَفِّ عَنْ مُسَاوِيهِمْ وَمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: أَهَمُّ مَا فِي هَذَا الْفَصْلِ خَمْسُ مَسَائِلَ: الْأُولَى مَسْأَلَةُ الْخِلَافَةِ. وَالثَّانِيَةُ: فَضْلِ الصَّحَابَةِ وَتَفَاضُلِهِمْ بَيْنَهُمْ. وَالثَّالِثَةُ: تَوَلِّي أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَهْلِ بَيْتِهِ سَلَامُ اللَّهِ وَرَحْمَتُهُ وَبَرَكَتُهُ عَلَيْهِمْ وَمَحَبَّةُ الْجَمِيعِ وَالذَّبُّ عَنْهُمْ. الرَّابِعَةُ: ذِكْرِهِمْ بِمَحَاسِنِهِمْ وَالْكَفِّ عَنْ مُسَاوِيهِمْ. وَالْخَامِسَةُ: السُّكُوتِ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَهُمْ وَأَنَّ الْجَمِيعَ مُجْتَهِدٌ. فَمُصِيبُهُمْ لَهُ أَجْرَانِ: أَجْرٌ عَلَى اجْتِهَادِهِ وَأَجْرٌ عَلَى إِصَابَتِهِ, وَمُخْطِؤُهُمْ لَهُ أَجْرُ الِاجْتِهَادِ وَخَطَؤُهُ مَغْفُورٌ. [خِلَافَةُ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] : وَبَعْدَهُ الْخَلِيفَةُ الشَّفِيقُ ... نِعْمَ نَقِيبُ الْأُمَّةِ الصِّدِّيقُ ذَاكَ رَفِيقُ الْمُصْطَفَى فِي الْغَارِ ... شَيْخُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَهُوَ الَّذِي بِنَفْسِهِ تَوَلَّى ... جِهَادَ مَنْ عَنِ الْهُدَى تَوَلَّى "وَبَعْدَهُ" أَيْ: بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْخَلِيفَةُ" لَهُ فِي أُمَّتِهِ "الشَّفِيقُ" بِهِمْ وَعَلَيْهِمْ "نِعْمَ" فِعْلُ مَدْحٍ "نَقِيبُ" فَاعِلُ نِعْمَ, وَالنَّقِيبُ عَرِيفُ الْقَوْمِ وَأَفْضَلُهُمُ "الصِّدِّيقُ" هُوَ الْمَخْصُوصُ بِالْمَدْحِ وَهُوَ النِّقَابَةُ مِنْهُ لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ. وَهُوَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ عَامِرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ مُرَّةَ التَّيْمِيُّ, أَوَّلُ الرِّجَالِ إِسْلَامًا, وَأَفْضَلُ الْأُمَّةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ, فَلْنَسُقِ الْكَلَامَ أَوَّلًا فِي خِلَافَتِهِ, ثُمَّ فِي مَقَامَاتِهِ أَيَّامَ خِلَافَتِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. فَأَمَّا خِلَافَتُهُ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ فِي تَقْدِيمِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِيَّاهُ إِمَامًا فِي الصَّلَاةِ مَقَامَهُ أَيَّامَ مَرَضِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ طُرُقٍ عَنْ عَائِشَةَ بِأَلْفَاظٍ, وَعَنْ جَمَاعَةٍ
غَيْرِهَا مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا, مِنْهُمْ أَنَسٌ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَسَهْلُ بْنُ سَعْدٍ وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ. وَقَدْ رَاجَعَتْهُ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مِرَارًا وَهُوَ يُكَرِّرُ مِرَارًا عَدِيدَةً يَقُولُ: "مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ, مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ, مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ" وَلَمَّا أُشِيرَ بِغَيْرِهِ حَرَّكَ يَدَهُ وَقَالَ: "لِيُصَلِّ بِالنَّاسِ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ" 1. وَفِي رِوَايَةٍ "يَأْبَى اللَّهُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَّا أَبَا بَكْرٍ" رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: أَتَتِ امْرَأَةٌ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَمَرَهَا أَنْ تَرْجِعَ إِلَيْهِ, قَالَتْ: أَرَأَيْتَ إِنْ جِئْتُ وَلَمْ أَجِدْكَ؟ كَأَنَّهَا تَقُولُ الْمَوْتَ, قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنْ لَمْ تَجِدِينِي فَأْتِي أَبَا بَكْرٍ" 3. وَفِيهِمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "بَيْنَمَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُنِي عَلَى قَلِيبٍ عَلَيْهَا دَلْوٌ فَنَزَعْتُ مِنْهَا مَا شَاءَ اللَّهُ, ثُمَّ أَخَذَهَا ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ فَنَزَعَ مِنْهَا ذَنُوبًا أَوْ ذَنُوبَيْنِ وَفِي نَزْعِهِ ضَعْفٌ وَاللَّهُ يَغْفِرُ لَهُ ضَعْفَهُ, ثُمَّ اسْتَحَالَتْ غَرْبًا, فَأَخَذَهَا ابْنُ الْخَطَّابِ فَلَمْ أَرَ عَبْقَرِيًّا مِنَ النَّاسِ يَنْزِعُ نَزْعَ عُمَرَ حَتَّى ضَرَبَ النَّاسُ بِعَطَنٍ" 4. وَفِيهِمَا عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَ يُحَدِثُ: أَنَّ رَجُلًا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ فِي الْمَنَامِ ظُلَّةً تَنْطُفُ السَّمْنَ وَالْعَسَلَ, فَأَرَى النَّاسَ يَتَكَفَّفُونَ مِنْهَا فَالْمُسْتَكْثِرُ وَالْمُسْتَقِلُّ, وَإِذَا سَبَبٌ
وَاصِلٌ مِنَ الْأَرْضِ إِلَى السَّمَاءِ فَأَرَاكَ أَخَذْتَ بِهِ فَعَلَوْتَ. ثُمَّ أَخَذَ بِهِ رَجُلٌ آخَرُ فَعَلَا بِهِ, ثُمَّ أَخَذَ بِهِ رَجُلٌ آخَرُ فَيَنْقَطِعُ, ثُمَّ وُصِلَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَاللَّهِ لَتَدَعَنِّي فَأَعْبُرَهَا, فَقَالَ النَّبِيُّ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اعْبُرْهَا". قَالَ: أَمَّا الظُّلَّةُ فَالْإِسْلَامُ, وَأَمَّا الَّذِي يَنْطُفُ السَّمْنَ وَالْعَسَلَ فَالْقُرْآنُ حَلَاوَتُهُ تَنْطُفُ, فَالْمُسْتَكْثِرُ مِنَ الْقُرْآنِ وَالْمُسْتَقِلُّ. وَأَمَّا السَّبَبُ الْوَاصِلُ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ فَالْحَقُّ الَّذِي أَنْتَ عَلَيْهِ تَأْخُذُ بِهِ فَيُعْلِيكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ, ثُمَّ يَأْخُذُ بِهِ رَجُلٌ مِنْ بَعْدِكَ فَيَعْلُو بِهِ, ثُمَّ يَأْخُذُ بِهِ رَجُلٌ آخَرُ فَيَعْلُو بِهِ, ثُمَّ يَأْخُذُ به رجل آخر فَيَنْقَطِعُ ثُمَّ يُوصَلُ فَيَعْلُو بِهِ. فَأَخْبِرْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ أَصَبْتُ أَمْ أَخْطَأْتُ؟ قَالَ النَّبِيُّ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَصَبْتَ بَعْضًا وَأَخْطَأْتَ بَعْضًا". قَالَ: فَوَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَتُحَدِّثَنَّي بِالَّذِي أَخْطَأْتُ. قَالَ: "لَا تُقْسِمْ" 1. وَفِيهِمَا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- النَّاسَ وَقَالَ: "إِنِ اللَّهَ تَعَالَى خَيَّرَ عَبْدًا بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ, فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ". قَالَ: فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ, فَعَجِبْنَا لِبُكَائِهِ أَنْ يُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ عَبْدٍ خُيِّرَ, فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هُوَ الْمُخَيَّرُ, وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ أَعْلَمَنَا. فَقَالَ رسول الله عليه وسلم: "إِنَّ مِنْ أَمَنِّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبَا بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا غَيْرَ رَبِّي لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا, وَلَكِنْ أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ وَمَوَدَّتَهُ. لَا يَبْقَيَنَّ فِي الْمَسْجِدِ بَابٌ إِلَّا سُدَّ إِلَّا بَابَ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ" 2. وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي مَرَضِهِ: "ادْعِي لِي أَبَا بَكْرٍ أَبَاكِ وَأَخَاكِ حَتَّى أَكْتُبَ كِتَابًا, فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَتَمَنَّى مُتَمَنٍّ وَيَقُولَ قَائِلٌ أَنَا أَوْلَى, وَيَأْبَى اللَّهُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَّا أَبَا بَكْرٍ" 3. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَمْعَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا اسْتُعِزَ بِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَنَا عِنْدَهُ فِي نَفَرٍ مِنْ
الْمُسْلِمِينَ دَعَاهُ بِلَالٌ إِلَى الصَّلَاةِ فَقَالَ: "مُرُوا مَنْ يُصَلِّي لِلنَّاسِ". فَخَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَمْعَةَ فَإِذَا عُمَرُ فِي النَّاسِ, وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ غَائِبًا. فَقُلْتُ: يَا عُمَرُ قُمْ فَصَلِّ بِالنَّاسِ, فَتَقَدَّمَ فَكَبَّرَ, فَلَمَّا سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صَوْتَهُ وَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَجُلًا مُجْهِرًا قَالَ: "فَأَيْنَ أَبُو بَكْرٍ؟ يَأْبَى اللَّهُ ذَلِكَ وَالْمُسْلِمُونَ" فَبَعَثَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَجَاءَ بَعْدَ أَنْ صَلَّى عُمَرُ تِلْكَ الصَّلَاةَ فَصَلَّى بِالنَّاسِ"1. وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: "لَمَّا سَمِعَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صَوْتَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ ابْنُ زَمْعَةَ: خَرَجَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى أَطْلَعَ رَأْسَهُ مِنْ حُجْرَتِهِ ثُمَّ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا ,لَا ,لَا لِيُصِلِّ لِلنَّاسِ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ" 2. وَلَهُ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ: "مَنْ رَأَى مِنْكُمْ رُؤْيَا؟ " قُلْتُ: أَنَا رَأَيْتُ؛ كَأَنَّ مِيزَانًا نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ فَوُزِنْتَ أَنْتَ وَأَبُو بَكْرٍ فَرَجَحْتَ بِأَبِي بَكْرٍ, وَوُزِنَ عُمَرُ وَأَبُو بَكْرٍ فَرَجَحَ أَبُو بَكْرٍ, وَوُزِنَ عُمَرُ وَعُثْمَانُ فَرَجَحَ عُمَرُ, ثُمَّ رُفِعَ الْمِيزَانُ. فَرَأَيْنَا الْكَرَاهِيَةَ فِي وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"3. وَرَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ بِمَعْنَاهُ وَلَمْ يَذْكُرِ الْكَرَاهِيَةَ قَالَ: فَاسْتَاءَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَعْنِي فَسَاءَهُ ذَلِكَ فَقَالَ: "خِلَافَةُ نُبُوَّةٍ, ثُمَّ يُؤْتِي اللَّهُ الْمُلْكَ مَنْ يَشَاءُ" 4.
وَلَهُ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "أُرِيَ اللَّيْلَةَ رَجُلٌ صَالِحٌ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ نِيطَ بِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَنِيطَ عُمَرُ بِأَبِي بَكْرٍ وَنِيطَ عُثْمَانُ بِعُمْرَ" قَالَ جَابِرٌ: فَلَمَّا قُمْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قُلْنَا: أَمَّا الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَمَّا تَنَوُّطُ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ فَهُمْ وُلَاةُ هَذَا الْأَمْرِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ1. وَلَهُ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي رَأَيْتُ كَأَنَّ دَلْوًا دُلِّيَتْ مِنَ السَّمَاءِ, فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ بِعَرَاقِيهَا شَرِبَ شُرْبًا ضَعِيفًا, ثُمَّ جَاءَ عُمَرُ فَأَخَذَ بِعَرَاقِيهَا فَشَرِبَ حَتَّى تَضَلَّعَ, ثُمَّ جَاءَ عُثْمَانُ بِعَرَاقِيهَا فَشَرِبَ حَتَّى تَضَلَّعَ, ثُمَّ جَاءَ عَلِيٌّ فَأَخَذَ بِعَرَاقِيهَا فَانْتَشَطَتْ وَانْتَضَحَ عَلَيْهِ مِنْهَا شَيْءٌ"2. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إِنِّي لَأَرَى مَا بَقَائِي فِيكُمْ, فَاقْتَدُوا بِاللَّذِينَ مِنْ بَعْدِي" وأشار إلى أبا بَكْرٍ وَعُمَرَ, حَدِيثٌ حَسَنٌ3. وَلَهُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَنْبَغِي لِقَوْمٍ فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ أَنْ يَؤُمَّهُمْ غَيْرُهُ" 4, وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَسُئِلَتْ: مَنْ
كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُسْتَخْلِفًا لَوِ اسْتَخْلَفَهُ؟ قَالَتْ: أَبُو بَكْرٍ. فَقِيلَ لَهَا: ثُمَّ مِنْ بَعْدِ أَبِي بَكْرٍ؟ قَالَتْ: عُمَرُ, قِيلَ لَهَا: مِنْ بَعْدِ عُمَرَ؟ قَالَتْ: أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ1. وَصِفَةُ بَيْعَتِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِخِلَافَةِ النُّبُوَّةِ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَاتَ وَأَبُو بَكْرٍ بِالسُّنْحِ, فَقَامَ عُمَرُ يَقُولُ: وَاللَّهِ مَا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَتْ: وَقَالَ عُمَرُ وَاللَّهِ مَا كَانَ يَقَعُ فِي نَفْسِي إِلَّا ذَاكَ, وَلَيَبْعَثَنَّهُ اللَّهُ فَلَيَقْطَعَنَّ أَيْدِيَ رِجَالٍ وَأَرْجُلَهُمْ, فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ فَكَشَفَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَبَّلَهُ فَقَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي طِبْتَ حَيًّا وَمَيِّتًا. وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُذِيقُكَ اللَّهُ الْمَوْتَتَيْنِ أَبَدًا. ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ: أَيُّهَا الْحَالِفُ عَلَى رِسْلِكَ.. فَلَمَّا تَكَلَّمَ جَلَسَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ, فَحَمِدَ اللَّهَ أَبُو بَكْرٍ وَأَثْنَى عَلَيْهِ, وَقَالَ: أَلَا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ, وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ. وَقَالَ: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30] وَقَالَ: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آلِ عِمْرَانَ: 144] قَالَ: فَنَشَجَ النَّاسُ يَبْكُونَ, قَالَ: وَاجْتَمَعَتِ الْأَنْصَارُ إِلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ, فَقَالُوا: مِنَّا أَمِيرٌ وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ, فَذَهَبَ إِلَيْهِمْ أبو بكر الصديق وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ, فَذَهَبَ عُمَرُ يَتَكَلَّمُ فَأَسْكَتَهُ أَبُو بَكْرٍ وَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ: وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ بِذَلِكَ إِلَّا أَنِّي قَدْ هَيَّأْتُ كَلَامًا قَدْ أَعْجَبَنِي خَشِيتُ أَنْ لَا يَبْلُغَهُ أَبُو بَكْرٍ, ثُمَّ تَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ فَتَكَلَّمَ أَبْلَغُ النَّاسِ, فَقَالَ فِي كَلَامِهِ: نَحْنُ الْأُمَرَاءُ وَأَنْتُمِ الْوُزَرَاءُ, فَقَالَ حُبَابٌ: وَاللَّهِ لَا نَفْعَلُ, مِنَّا أَمِيرٌ وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا وَلَكِنْ نَحْنُ الْأُمَرَاءُ وَأَنْتُمِ الْوُزَرَاءُ إِنَّ قُرَيْشًا هُمْ أَوْسَطُ الْعَرَبِ دَارًا وَأَعْرَبُهُمْ أَحْسَابًا. فَبَايِعُوا عُمَرَ بْنَ الْخَطَابِ أَوْ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ. فَقَالَ عُمَرُ: بَلْ نُبَايِعُكَ أَنْتَ, فَأَنْتَ سَيِّدُنَا وَخَيْرُنَا وَأَحَبُّنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَخَذَ عُمَرُ بِيَدِهِ فَبَايَعَهُ وَبَايَعَهُ النَّاسُ, فَقَالَ قَائِلٌ: قَتَلْتُمْ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ, فَقَالَ عُمَرُ: قَتَلَهُ اللَّهُ. زَادَ فِي رِوَايَةٍ: فَمَا كَانَتْ مِنْ خُطْبَتِهِمَا مِنْ خُطْبَةٍ إِلَّا نَفَعَ اللَّهُ بِهَا,
لَقَدْ خَوَّفَ عُمَرُ النَّاسَ وَإِنَّ فِيهِمُ الْنِفَاقَ, فَرَدَّهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ, ثُمَّ بَصَّرَ أَبُو بَكْرٍ النَّاسَ الْهُدَى وَعَرَّفَهُمُ الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْهِمْ وَخَرَجُوا بِهِ يَتْلُونَ {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} إِلَى {الشَّاكِرِينَ} [آلِ عِمْرَانَ: 144] . وَفِيهِ أَيْضًا عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ خُطْبَتِهِ الطَّوِيلَةِ قَالَ: ثُمَّ إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ قَائِلًا مِنْكُمْ يَقُولُ: وَاللَّهِ لَوْ مَاتَ عُمَرُ بَايَعْتُ فُلَانًا. فَلَا يَغْتَرَّنَّ امْرُؤٌ أَنْ يَقُولَ إِنَّمَا كَانَتْ بَيْعَةُ أَبِي بَكْرٍ فَلْتَةً وَتَمَّتْ, أَلَا إِنَّهَا قَدْ كَانَتْ كَذَلِكَ. وَلَكِنَّ اللَّهَ وَقَى شَرَّهَا, وَلَيْسَ مِنْكُمْ مَنْ تُقْطَعُ الْأَعْنَاقُ إِلَيْهِ مِثْلُ أَبِي بَكْرٍ. مَنْ بَايَعَ رَجُلًا مِنْ غَيْرِ مَشُورَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يُبَايَعُ هُوَ وَلَا الَّذِي بَايَعَهُ تَغِرَّةً أَنْ يُقْتَلَا, وَإِنَّهُ قَدْ كَانَ مِنْ خَبَرِنَا حِينَ تَوَفَّى اللَّهُ نَبِيَّنَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّ الْأَنْصَارَ خَالَفُونَا وَاجْتَمَعُوا بِأَسْرِهِمْ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ وَخَالَفَ عَنَّا عَلِيٌّ وَالزُّبَيْرُ وَمَنْ مَعَهُمَا, وَاجْتَمَعَ الْمُهَاجِرُونَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقُلْتُ لِأَبِي بَكْرٍ: يَا أَبَا بَكْرٍ انْطَلِقْ بِنَا إِلَى إِخْوَانِنَا هَؤُلَاءِ مِنَ الْأَنْصَارِ, فَانْطَلَقْنَا نُرِيدُهُمْ فَلَمَّا دَنَوْنَا مِنْهُمْ لَقِيَنَا مِنْهُمْ رَجُلَانِ صَالِحَانِ فَذَكَرَا لَنَا مَا تَمَالَأَ عَلَيْهِ الْقَوْمُ, فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُونَ يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ؟ فَقُلْنَا: نُرِيدُ إِخْوَانَنَا هَؤُلَاءِ مِنَ الْأَنْصَارِ. فَقَالَ: لَا عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَقْرَبُوهُمْ, اقْضُوا أَمْرَكُمْ, فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَنَأْتِيَنَّهُمْ, فَانْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا سَقِيفَةَ بَنِي سَاعِدَةَ فَإِذَا رَجُلٌ مُزَمَّلٌ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ, فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالُوا: هَذَا سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ, فَقُلْتُ: مَا لَهُ؟ قَالُوا: يُوعَكُ. فَلَمَّا جَلَسْنَا قَلِيلًا تَشَهَّدَ خَطِيبُهُمْ فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَنَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ وَكَتِيبَةُ الْإِسْلَامِ, وَأَنْتُمْ مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ رَهْطٌ, وَقَدْ دَفَّتْ دَافَّةٌ مِنْ قَوْمِكُمْ فَإِذَا هُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يَخْتَزِلُونَا مِنْ أَصْلِنَا وَأَنْ يَحْضُنُونَا مِنَ الْأَمْرِ فَلَمَّا سَكَتَ أَرَدْتُ أَنْ أَتَكَلَّمَ وَكُنْتُ زَوَّرْتُ مَقَالَةً أَعْجَبَتْنِي أُرِيدُ أَنْ أُقَدِّمَهَا بَيْنَ يَدَيْ أَبِي بَكْرٍ, وَكُنْتُ أُدَارِي مِنْهُ بَعْضَ الْحَدِّ, فَلَمَّا أَرَدْتُ أَنْ أَتَكَلَّمَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: عَلَى رِسْلِكَ. فَكَرِهْتُ أَنْ أُغْضِبَهُ, فَتَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ فَكَانَ هُوَ أَحْلَمَ مِنِّي وَأَوْقَرَ, وَاللَّهِ مَا تَرَكَ كَلِمَةً أَعْجَبَتْنِي فِي تَزْوِيرِي إِلَّا قال في بديهه مِثْلَهَا وَأَفْضَلَ مِنْهَا, حَتَّى سَكَتَ فَقَالَ: مَا ذُكِرَ فِيكُمْ مِنْ خَيْرٍ فَأَنْتُمْ لَهُ أَهْلٌ, وَلَنْ يُعْرَفَ هَذَا الْأَمْرُ إِلَّا لِهَذَا الْحَيِّ مِنْ قُرَيْشٍ, هُمْ أَوْسَطُ الْعَرَبِ نَسَبًا وَدَارًا, وَقَدْ رَضِيتُ لَكُمْ أَحَدَ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ فَبَايِعُوا أَيَّهُمَا
شِئْتُمْ. فَأَخَذَ بِيَدِي وَبِيَدِ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ وَهُوَ جَالِسٌ بَيْنَنَا, فَلَمْ أَكْرَهْ مِمَّا قَالَ غَيْرَهَا. كَانَ وَاللَّهِ أَنْ أُقَدَّمَ تُضْرَبُ عُنُقِي وَلَا يُقَرِّبُنِي ذَلِكَ مِنْ إِثْمٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَتَأَمَّرَ عَلَى قَوْمٍ فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ, اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ تُسَوِّلَ إِلَيَّ نَفْسِي عِنْدَ الْمَوْتِ شَيْئًا لَا أَجِدُهُ الْآنَ. فَقَالَ قَائِلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ: أَنَا جُذَيْلُهَا الْمُحَكَّكُ وَعُذَيْقُهَا الْمُرَجَّبُ, مِنَّا أَمِيرٌ وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ. فَكَثُرَ اللَّغَطُ وَارْتَفَعَتِ الْأَصْوَاتُ حَتَّى فَرِقْتُ مِنَ الِاخْتِلَافِ. فَقُلْتُ: ابْسُطْ يَدَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ. فَبَسَطَ يَدَهُ فَبَايَعْتُهُ وَبَايَعَهُ الْمُهَاجِرُونَ ثُمَّ بَايَعَتْهُ الْأَنْصَارُ, وَنَزَوْنَا عَلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ فَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: قَتَلْتُمْ سَعْدَ بْنَ عِبَادَةَ. فَقُلْتُ: قَتَلَ اللَّهُ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ. قَالَ عُمَرُ: وَإِنَّا وَاللَّهِ مَا وَجَدْنَا فِيمَا حَضَرْنَا مِنْ أَمْرٍ أَقْوَى مِنْ مُبَايَعَةِ أَبِي بَكْرٍ خَشِينَا إِنْ فَارَقْنَا الْقَوْمَ وَلَمْ تَكُنْ بَيْعَةٌ أَنْ يُبَايِعُوا رَجُلًا مِنْهُمْ بَعْدَنَا, فَإِمَّا بَايَعْنَاهُمْ عَلَى مَا لَا نَرْضَى وَإِمَّا نُخَالِفُهُمْ فَيَكُونُ فَسَادًا, فَمَنْ بَايَعَ رَجُلًا عَلَى غَيْرِ مَشُورَةِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يُتَابَعُ هُوَ وَالَّذِي بَايَعَهُ تَغِرَّةً أَنْ يُقْتَلَا1. وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي صَائِفَةٍ مِنَ الْمَدِينَةِ, قَالَ: فَجَاءَ فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ فَقَبَّلَهُ وَقَالَ: فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي, مَا أَطْيَبَكَ حَيًّا وَمَيِّتًا, مَاتَ مُحَمَّدٌ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ. فَذَكَرَ الْحَدِيثَ, فَانْطَلَقَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَتَعَادَّانِ حَتَّى أَتَوْهُمْ, فَتَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ فَلَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا أُنْزِلَ فِي الْأَنْصَارِ أَوْ ذَكَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ شَأْنِهِمْ إِلَّا ذَكَرَهُ, وَقَالَ: لَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "لَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا وَسَلَكَتِ الْأَنْصَارُ وَادِيًا لَسَلَكْتُ وَادِيَ الْأَنْصَارِ" وَلَقَدْ عَلِمْتَ يَا سَعْدُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ وَأَنْتَ قَاعِدٌ: "قُرَيْشٌ وُلَاةُ هَذَا الْأَمْرِ فَبَرُّ النَّاسِ تَبَعٌ لِبَرِّهِمْ, وَفَاجِرُهُمْ تَبَعٌ لِفَاجِرِهِمْ" , فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ: صَدَقْتَ, نَحْنُ الْوُزَرَاءُ وَأَنْتُمُ الْأُمَرَاءُ2. وَلَهُ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عَنْ رَافِعٍ الطَّائِيِّ رَفِيقِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ السَّلَاسِلِ قَالَ: وَسَأَلَتُهُ عَمَّا قِيلَ فِي بَيْعَتِهِمْ فَقَالَ: وَهُوَ يُحَدِّثُ عَمَّا تَقَاوَلَتْ بِهِ الْأَنْصَارُ وَمَا كَلَّمَهُمْ بِهِ وَمَا كَلَّمَ بِهِ عُمَرُ بْنُ
الْخِطَابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْأَنْصَارَ وَمَا ذَكَّرَ بِهِ مِنْ إِمَامَتِي إِيَّاهُمْ بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي مَرَضِهِ, فَبَايَعُونِي لِذَلِكَ وَقَبِلْتُهَا مِنْهُمْ, وَتَخَوَّفْتُ أَنْ تَكُونَ فِتْنَةٌ بَعْدَهَا رِدَّةٌ1. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ سَمِعَ خُطْبَةَ عُمَرَ الْأَخِيرَةَ حِينَ جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَذَلِكَ الْغَدَ مِنْ يَوْمٍ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَبُو بَكْرٍ صَامِتٌ لَا يَتَكَلَّمُ قَالَ: كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَعِيشَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى يَدْبُرَنَا. يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنْ يَكُونَ آخِرَهُمْ, فَإِنْ يَكُ مُحَمَّدٌ قَدْ مَاتَ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ جَعَلَ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ نُورًا تهتدون به بما هَدَى اللَّهُ مُحَمَّدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَثَانِي اثْنَيْنِ وَإِنَّهُ أَوْلَى الْمُسْلِمِينَ بِأُمُورِكُمْ, فَقُومُوا فَبَايِعُوهُ, وَكَانَتْ طَائِفَةٌ قَدْ بَايَعُوهُ قَبْلَ ذَلِكَ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ, وَكَانَتْ بَيْعَةُ الْعَامَّةِ عَلَى الْمِنْبَرِ. قَالَ الزُّهْرِيُّ: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ سَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ يَوْمَئِذٍ لِأَبِي بَكْرٍ: اصْعَدِ الْمِنْبَرَ. فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَبَايَعَهُ عَامَّةُ النَّاسِ2. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ: لَمَّا بُويِعَ أَبُو بَكْرٍ فِي السَّقِيفَةِ وَكَانَ الْغَدُ جَلَسَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى الْمِنْبَرِ, وَقَامَ عُمَرُ فَتَكَلَّمَ قَبْلَ أَبِي بَكْرٍ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ, إِنِّي قَدْ كُنْتُ قُلْتُ لَكُمْ بِالْأَمْسِ مَقَالَةً مَا كَانَتْ وَمَا وَجَدْتُهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا كَانَتْ عَهْدًا عَهِدَهَا إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلَكِنِّي أَرَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَيُدَبِّرُ أَمْرَنَا -يَقُولُ يَكُونُ آخِرُنَا- وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَبْقَى فِيكُمْ كِتَابَهُ الَّذِي هَدَى بِهِ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَإِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ هَدَاكُمُ اللَّهُ لِمَا كَانَ هَدَاهُ اللَّهُ لَهُ, وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ جَمَعَ أَمْرَكُمْ عَلَى خَيْرِكُمْ صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَثَانِي اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ, فَقُومُوا فَبَايِعُوهُ. فَبَايَعَ النَّاسُ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَيْعَةَ الْعَامَّةِ بَعْدَ بَيْعَةِ السَّقِيفَةِ. ثُمَّ تَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ فَحَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ أَيُّهَا النَّاسُ فَإِنِّي قَدْ وُلِّيتُ عَلَيْكُمْ وَلَسْتُ بِخَيْرِكُمْ, فَإِنْ أَحْسَنْتُ فَأَعِينُونِي, وَإِنْ أَسَأْتُ فَقَوِّمُونِي. الصِّدْقُ أَمَانَةٌ وَالْكَذِبُ خِيَانَةٌ, وَالضَّعِيفُ مِنْكُمْ قَوِيٌّ عِنْدِي حَتَّى أُزِيحَ عِلَّتَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ, وَالْقَوِيُّ فِيكُمْ ضَعِيفٌ حَتَّى آخُذَ مِنْهُ الْحَقَّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. لَا
يَدَعُ قَوْمٌ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا ضَرَبَهُمْ بِالذُّلِّ, وَلَا يُشِيعُ قَوْمٌ قَطُّ الْفَاحِشَةَ إِلَّا عَمَّهُمُ اللَّهُ بِالْبَلَاءِ. أَطِيعُونِي مَا أَطَعْتُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ, فَإِذَا عَصَيْتُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَلَا طَاعَةَ لِي عَلَيْكُمْ. قُومُوا إِلَى صَلَاتِكُمْ يَرْحَمُكُمُ اللَّهُ1. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ خُزَيْمَةَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَاجْتَمَعَ النَّاسُ فِي دَارِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ وَفِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ, قَالَ: فَقَامَ خَطِيبُ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: أَتَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَخَلِيفَتَهُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ, وَنَحْنُ كُنَّا أَنْصَارُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَنَحْنُ أَنْصَارُ خَلِيفَتِهِ كَمَا كُنَّا أَنْصَارَهُ. فَقَالَ: فَقَامَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَقَالَ: صَدَقَ قَائِلُكُمْ, أَمَّا لَوْ قُلْتُمْ غَيْرَ هَذَا لَمْ نُبَايِعْكُمْ. وَأَخَذَ بِيَدِ أَبِي بَكْرٍ وَقَالَ: هَذَا صَاحِبُكُمْ. فَبَايِعُوهُ فَبَايَعَهُ عُمَرُ وَبَايَعَهُ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ. قَالَ: فَصَعِدَ أَبُو بَكْرٍ الْمِنْبَرَ فَنَظَرَ فِي وُجُوهِ الْقَوْمِ فَلَمْ يَرَ الزُّبَيْرَ, قَالَ: فَدَعَا بِالزُّبَيْرِ فَجَاءَ فَقَالَ: قُلْتَ ابْنَ عَمَّةِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَحِوَارِيَّهُ, أَرَدْتَ أَنْ تَشُقَّ عَصَا الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ: لَا تَثْرِيبَ يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَامَ فَبَايَعَهُ. ثُمَّ نَظَرَ فِي وُجُوهِ الْقَوْمِ فَلَمْ يَرَ عَلِيًّا, فَدَعَا بِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَجَاءَ فَقَالَ: قُلْتَ ابْنَ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَخَتَنَهُ عَلَى ابْنَتِهِ, أَرَدْتَ أَنْ تَشُقَّ عَصَا الْمُسْلِمِينَ. قَالَ: لَا تَثْرِيبَ يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَبَايَعَهُ2. وَرَوَى مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَرْسَلَتْ إِلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا تَسْأَلُهُ مِيرَاثَهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالْمَدِينَةِ وَفَدَكَ وَمَا بَقِيَ مِنْ خُمْسِ خَيْبَرَ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "لَا نُورَثُ؛ مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ, إِنَّمَا يَأْكُلُ آلُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي هَذَا الْمَالِ, وَإِنِّي وَاللَّهِ لَا أُغَيِّرُ شَيْئًا مِنْ
صَدَقَةِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ حَالَتِهَا الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهَا فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلَأَعْمَلَنَّ فِيهَا بِمَا عَمِلَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَأَبَى أَبُو بَكْرٍ أَنْ يَدْفَعَ إِلَى فَاطِمَةَ شَيْئًا فَوَجَدَتْ فَاطِمَةُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ فِي ذَلِكَ. قَالَ: فَهَجَرَتْهُ فَلَمْ تُكَلِّمْهُ حَتَّى تُوُفِّيَتْ, وَعَاشَتْ بَعْدَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سِتَّةَ أَشْهُرٍ, فَلَمَّا تُوُفِّيَتْ دَفَنَهَا زَوْجُهَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ لَيْلًا وَلَمْ يُؤْذِنْ بِهَا أَبَا بَكْرٍ وَصَلَّى عَلَيْهَا عَلِيٌّ. وَكَانَ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنَ النَّاسِ وُجْهَةٌ حَيَاةَ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا. فَلَمَّا تُوُفِّيَتِ اسْتَنْكَرَ عَلِيٌّ وُجُوهَ النَّاسِ, فَالْتَمَسَ مُصَالَحَةَ أبي بكر ومابيعته, وَلَمْ يَكُنْ بَايَعَ تِلْكَ الْأَشْهُرَ, فَأَرْسَلَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ أَنِ ائْتِنَا وَلَا يَأْتِينَا مَعَكَ أَحَدٌ -كَرَاهِيَةً أَنْ يَحْضُرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فَقَالَ عُمَرُ: لِأَبِي بَكْرٍ: وَاللَّهِ لَا تَدْخُلُ عَلَيْهِمْ وَحْدَكَ, فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَمَا عَسَاهُمْ أَنْ يَفْعَلُوا بِي, إِنِّي وَاللَّهِ لَآتِيَنَّهُمْ. فَدَخَلَ عَلَيْهِمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ, فَتَشَهَّدَ عَلِىُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ثُمَّ قَالَ: إِنَّا عَرَفْنَا يَا أَبَا بَكْرٍ فَضِيلَتَكَ وَمَا أَعْطَاكَ اللَّهُ, وَلَمْ نَنْفَسْ عَلَيْكَ خَيْرًا سَاقَهُ اللَّهُ إِلَيْكَ, وَلَكِنَّكَ اسْتَبْدَدْتَ عَلَيْنَا بِالْأَمْرِ, وَكُنَّا نَحْنُ نَرَى لَنَا حَقًّا لِقَرَابَتِنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلَمْ يَزَلْ يُكَلِّمُ أَبَا بَكْرٍ حَتَّى فَاضَتْ عَيْنَا أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ, فَلَمَّا تَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَرَابَةُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ أَصِلْ مِنْ قَرَابَتِي, وَأَمَّا الَّذِي شَجَرَ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ مِنْ هَذِهِ الْأَمْوَالِ فَإِنِّي لَمْ آلُ فِيهَا عَنِ الْحَقِّ, وَلَمْ أَتْرُكْ أَمْرًا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَصْنَعُهُ فِيهَا إِلَّا صَنْعَتُهُ. فَقَالَ عَلِيٌّ لِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: مَوْعِدُكَ الْعَشِيَّةَ لِلْبَيْعَةِ. فَلَمَّا صَلَّى أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَلَاةَ الظُّهْرِ رَقَى عَلَى الْمِنْبَرِ فَتَشَهَّدَ وَذَكَرَ شَأْنَ عَلِيٍّ وَتَخَلُّفَهُ عَنِ الْبَيْعَةِ وَعُذْرَهُ بِالَّذِي اعْتَذَرَ إِلَيْهِ, ثُمَّ اسْتَغْفَرَ وَتَشَهَّدَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَعَظَّمَ حَقَّ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ, وَأَنَّهُ لَمْ يَحْمِلْهُ عَلَى الَّذِي صَنَعَهُ نَفَاسَةً عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَلَا إِنْكَارًا لِلَّذِي فَضَّلَهُ اللَّهُ بِهِ, وَلَكِنَّا كُنَّا نَرَى لَنَا فِي الْأَمْرِ نَصِيبًا فَاسْتَبَدَّ عَلَيْنَا بِهِ فَوَجَدْنَا فِي أَنْفُسِنَا. فَسُرَّ بِذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ وَقَالُوا: أَصَبْتَ. فَكَانَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى عَلِيٍّ قَرِيبًا حِينَ رَاجَعَ الْأَمْرَ الْمَعْرُوفَ1.
وَهَذَا لَا يُنَافِي مَا ذُكِرَ فِي بَيْعَتِهِ إِيَّاهُ حِينَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ لَمَّا افْتَقَدَهُ لَيْلَةَ السَّقِيفَةِ أَوْ صُبْحَتَهَا, وَلَفْظَةُ "لَمْ يَكُنْ بَايَعَ تِلْكَ الْأَشْهُرَ" إِنْ كَانَ مِنْ قَوْلِ عَائِشَةَ فَلَعَلَّهَا لَمْ تَعْلَمْ بَيْعَتُهُ الْأُولَى الَّتِي أَثْبَتَهَا أَبُو سَعِيدٍ وَغَيْرُهُ؛ لِأَنَّ الرِّجَالَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَقْوَمُ وَأَعْلَمُ بِهَا إِذْ لَا يَحْضُرُهَا النِّسَاءُ, وَأَيْضًا فَقَدْ قَدَّمْنَا مِرَارًا أَنَّ مُجَرَّدَ النَّفْيِ لَا يَكُونُ عِلْمًا وَعِنْدَ الْمُثْبِتِ زِيَادَةُ عَلَمٍ انْفَرَدَ بِهَا عَنِ النافي, إذ فغاية مَا عِنْدَ النَّافِي أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ. وَلَعَلَّ عَائِشَةَ تَيَقَّنَتْ عَدَمَ حُضُورِهِ بَيْعَةَ السَّقِيفَةِ مِنَ الْعَشِيِّ وَلَمْ يَبْلُغْهَا حُضُورُهُ صُبْحَتَهَا فِي الْبَيْعَةِ الْعَامَّةِ. وَإِنْ كَانَ هَذَا كَلَامُ بَعْضِ الرُّوَاةِ فَهُوَ بِمُجَرَّدِ مَا فَهِمَهُ مِنَ الْبَيْعَةِ الْأُخْرَى ظَنَّ أَنَّهُ لَمْ يُبَايِعْ قبل ذلك. فقال مُصَرِّحًا بِظَنِّهِ: "وَلَمْ يَكُنْ بَايِعْ تِلْكَ الْأَشْهُرَ". وَإِنَّمَا كَانَتْ هَذِهِ الْبَيْعَةُ بَعْدَ مَوْتِ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لِإِزَالَةِ مَا كَانَ حَصَلَ مِنَ الْوَحْشَةِ وَالْمُشَاجَرَةِ بِسَبَبِ دَعْوَاهَا, وَيَشْهَدُ لذلك أن علي بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمْ يُفَارِقِ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ, وَلَا يَنْقَطِعُ فِي صَلَاةٍ مِنَ الصَّلَوَاتِ خَلْفَهُ, وَكَانَ خُرُوجُهُ مَعَهُ إِلَى ذِي الْقِصَّةِ حِينَ عَقَدَ أَلْوِيَةَ الْأُمَرَاءِ الْأَحَدَ عَشَرَ فِي حَيَاةِ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي الشَّهْرِ الثَّالِثِ مِنْ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَمَا رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَمَّا بَرَزَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى ذِي الْقَصَّةِ وَاسْتَوَى عَلَى رَاحِلَتِهِ, أَخَذَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِزِمَامِهَا وَقَالَ: إِلَى أَيْنَ يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَقُولُ لَكَ مَا قَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَوْمَ أُحُدٍ لُمَّ سَيْفَكَ وَلَا تُفْجِعُنَا بِنَفْسِكَ وَارْجِعْ إِلَى الْمَدِينَةِ" فَوَاللَّهِ لَئِنْ فَجُعْنَا بِكَ لَا يَكُونُ لِلْإِسْلَامِ نِظَامٌ أَبَدًا. فَرَجِعَ1. وَرَوَاهُ زَكَرِيَّا السَّاجِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ مُوسَى بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَالزُّهْرِيِّ أَيْضًا عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ
عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: خَرَجَ أَبِي شَاهِرًا سَيْفَهُ رَاكِبًا عَلَى رَاحِلَتِهِ إِلَى وَادِي الْقَصَّةِ فَجَاءَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَخَذَ بِزِمَامِ رَاحِلَتِهِ فَقَالَ: إِلَى أَيْنَ يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ؟ أَقُولُ لَكَ مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ: "لُمَّ سَيْفَكَ وَلَا تُفْجِعُنَا بِنَفْسِكَ" فَوَاللَّهِ لَئِنْ أُصِبْنَا بِكَ لَا يَكُونُ لِلْإِسْلَامِ نِظَامٌ أَبَدًا. فَرَجِعَ وَأَمْضَى الْجَيْشَ1. وَفِي الصَّحِيحِ خُرُوجُهُمَا إِلَى خَارِجِ الْمَدِينَةِ وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَجَدَ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ يَلْعَبُ مَعَ الصِّبْيَانِ فَحَمَلَهُ وَهُوَ يَقُولُ: بِأَبِي شَبِيهٌ بِالنَّبِيِّ ... لَيْسَ شَبِيهٌ بِعَلِيِّ وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَضْحَكُ2. وَمَنْ تَدَبَّرَ النُّصُوصَ فِي ذَلِكَ وَإِجْمَاعَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَأَهْلِ بَيْتِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَغَيْرِهِمْ ظَهَرَ لَهُ تَأْوِيلُ قَوْلِ الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَأْبَى اللَّهُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَّا أَبَا بَكْرٍ" 3. وَأَمَّا فَضْلُهُ فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [التَّوْبَةِ: 40] وَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [الزُّمَرِ: 33] وَقَالَ: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [اللَّيْلِ: 17-21] حَكَى
جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ1. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ الْهِجْرَةِ الطَّوِيلِ: فَارْتَحَلْنَا وَالْقَوْمُ يَطْلُبُونَنَا فَلَمْ يُدْرِكْنَا أَحَدٌ مِنْهُمْ غَيْرُ سُرَاقَةَ بْنِ مالك بن جشعم عَلَى فَرَسٍ لَهُ, فَقُلْتُ: هَذَا الطَّلَبُ, قَدْ لَحِقَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: "لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا" 2. وَفِيهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قُلْتُ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَنَا فِي الْغَارِ: لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ تَحْتَ قَدَمَيْهِ لَأَبْصَرَنَا, فَقَالَ: "مَا ظَنُّكَ يَا أَبَا بَكْرٍ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثَهُمَا" 3. وَفِيهِمَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "كُنَّا نُخَيِّرُ بَيْنَ النَّاسِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَنُخَيِّرُ أَبَا بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ثُمَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ" 4. وَفِي لَفْظٍ قَالَ: "كُنَّا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَا نَعْدِلُ بِأَبِي بَكْرٍ أَحَدًا ثُمَّ عُمَرَ ثُمَّ عُثْمَانَ, ثُمَّ نَتْرُكُ أَصْحَابَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَا نُفَاضِلُ بَيْنَهُمْ"5. وَفِيهِمَا وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُمَا سَمِعَا أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بَيْنَمَا رَجُلٌ يَسُوقُ بَقَرَةً لَهُ قَدْ حَمَلَ عَلَيْهَا الْتَفَتَتْ إِلَيْهِ الْبَقَرَةُ فَقَالَتْ: إِنِّي لَمْ أُخْلَقْ لِهَذَا وَلَكِنِّي إِنَّمَا خُلِقْتُ
لِلْحَرْثِ, فَقَالَ: النَّاسُ سُبْحَانَ اللَّهِ تَعَجُّبًا وَفَزَعًا أَبَقَرَةٌ تَكَلَّمُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَإِنِّي أُؤْمِنُ بِهِ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ" وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بَيْنَمَا رَاعٍ فِي غَنَمِهِ عَدَا عَلَيْهَا الذِّئْبُ فَأَخَذَ مِنْهَا شَاةً فَطَلَبَهُ الرَّاعِي حَتَّى اسْتَنْقَذَهَا مِنْهُ, فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ الذِّئْبُ فَقَالَ لَهُ: مِنْ لَهَا يَوْمَ السَّبُعِ, يَوْمَ لَيْسَ لَهَا رَاعٍ غَيْرِي. فَقَالَ النَّاسُ سُبْحَانَ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَإِنِّي أُؤْمِنُ بِذَلِكَ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ" 1, وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا "وَمِنْ ثَمَّ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ" وَلِمُسْلِمٍ "وَمَا هُمَا ثَمَّ"2. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ هَمَّامٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَمَّارًا يَقُولُ: "رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَمَا مَعَهُ إِلَّا خَمْسَةَ أَعْبُدٍ وَامْرَأَتَانِ وَأَبُو بَكْرٍ"3. وَفِيهِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذْ أَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ آخِذًا بِطَرَفِ ثَوْبِهِ حَتَّى أَبْدَى عَنْ رُكْبَتِهِ, فَقَالَ النَّبِيُّ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَمَّا صَاحِبُكُمْ فَقَدْ غَامَرَ" , فَسَلَّمَ وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ ابْنِ الْخَطَّابِ شَيْءٌ فَأَسْرَعْتُ إِلَيْهِ ثُمَّ نَدِمْتُ فَسَأَلْتُهُ أَنْ يَغْفِرَ لِي فَأَبَى عَلَيَّ فَأَقْبَلْتُ إِلَيْكَ. فَقَالَ: "يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ" ثَلَاثًا, ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَدِمَ فَأَتَى مَنْزِلَ أَبَا بَكْرٍ فَسَأَلَ: أَثَّمَ أَبُو بَكْرٍ؟ فَقَالُوا: لَا, فَأَتَى إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَجَعَلَ وَجْهُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَتَمَعَّرُ حَتَّى أَشْفَقَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاللَّهِ أَنَا كُنْتُ أَظْلَمَ. مَرَّتَيْنِ. فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ فَقُلْتُمْ كَذَبْتَ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ صَدَقْتُ واساني بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ, فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُو لِي صَاحِبِي؟ " مَرَّتَيْنِ. فَمَا أُوذِيَ بَعْدَهَا وَفِي -رِوَايَةٍ- فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُو لِي صَاحِبِي, هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُو لِي صَاحِبِي؟ إِنِّي قُلْتُ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَقُلْتُمْ كَذَبْتَ
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ صَدَقْتَ" 1. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ -هُوَ الْبُخَارِيُّ- سَبَقَ بِالْخَيْرِ. وَلَهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ مِنْ شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ دُعِيَ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ: يَا عَبْدَ اللَّهِ هَذَا خَيْرٌ, فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّلَاةِ, وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الْجِهَادِ, وَمَنْ كَانَ مَنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ, وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصِّيَامِ وَبَابِ الرَّيَّانِ". فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا عَلَى هَذَا الَّذِي يُدْعَى مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ مِنْ ضَرُورَةٍ. وَقَالَ: هَلْ يُدْعَى مِنْهَا كُلَّهَا أَحَدٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "نَعَمْ, وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ يَا أَبَا بَكْرٍ" 2. وَفِيهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَعَثَهُ عَلَى جَيْشِ ذَاتِ السَّلَاسِلِ, فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ: أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: "عَائِشَةُ" فَقُلْتُ مَنِ الرِّجَالِ؟ فَقَالَ: "أَبُوهَا" , قُلْتُ ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: "ثُمَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ" , فَعَدَّ رِجَالًا3. وَفِيهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: أَبُو بَكْرٍ. قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: عُمَرُ. وَخَشِيتُ أَنْ يَقُولَ عُثْمَانُ: فَقُلْتُ: ثُمَّ أَنْتَ؟ قَالَ: مَا أَنَا إِلَّا رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ4". وَفِيهِ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: قُلْتُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَخْبِرْنِي بِأَشَدِّ مَا صَنَعَ الْمُشْرِكُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُصَلِّي بِفَنَاءِ الْكَعْبَةِ إِذْ أَقْبَلَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ فَأَخَذَ بِمَنْكِبِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلَوَى ثَوْبَهُ فِي عُنُقِهِ فَخَنَقَهُ خَنْقًا شَدِيدًا, فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ بِمَنْكِبِهِ وَدَفَعَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَالَ:
أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ1. وَفِيهِمَا عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ تَوَضَّأَ فِي بَيْتِهِ ثُمَّ خَرَجَ فَقُلْتُ: لَأَلْزَمَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلَأَكُونَنَّ مَعَهُ يَوْمِي هَذَا, قَالَ فَجَاءَ الْمَسْجِدَ فَسَأَلَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالُوا: خَرَجَ وَوَجَّهَ هَهُنَا, فَخَرَجْتُ عَلَى إِثْرِهِ أَسْأَلُ عَنْهُ حَتَّى دَخَلَ بِئْرَ أَرِيسٍ فَجَلَسْتُ عِنْدَ الْبَابِ وَبَابُهَا مِنْ جَرِيدٍ, حَتَّى قَضَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَاجَتَهُ فَتَوَضَّأَ, فَقُمْتُ إِلَيْهِ فَإِذَا هُوَ جَالَسٌ عَلَى بِئْرِ أَرِيسٍ وَتَوَسَّطَ قُفَّهَا وَكَشَفَ عَنْ سَاقَيْهِ وَدَلَّاهُمَا فِي الْبِئْرِ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ ثُمَّ انْصَرَفْتُ فَجَلَسْتُ عِنْدَ الْبَابِ فَقُلْتُ لَأَكُونَنَّ بَوَّابَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْيَوْمَ, فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ فَدَفَعَ الْبَابَ فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: أَبُو بَكْرٍ. فَقُلْتُ: عَلَى رِسْلِكَ, ثُمَّ ذَهَبْتُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, هَذَا أَبُو بَكْرٍ يَسْتَأْذِنُ. فَقَالَ: "ائْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ" فَأَقْبَلْتُ حَتَّى قُلْتُ لِأَبِي بَكْرٍ: ادْخُلْ وَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُبَشِّرُكَ بِالْجَنَّةِ, فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ فَجَلَسَ عَنْ يَمِينِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَعَهُ فِي الْقُفِّ وَدَلَّى رِجْلَيْهِ فِي الْبِئْرِ كَمَا صنع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وكف عَنْ سَاقَيْهِ, ثُمَّ رَجَعْتُ فَجَلَسْتُ وَقَدْ تَرَكْتُ أَخِي يَتَوَضَّأُ وَيَلْحَقُنِي, فَقُلْتُ: إِنْ يُرِدِ اللَّهُ بِفُلَانٍ خَيْرًا -يُرِيدُ أَخَاهُ- يَأْتِ بِهِ, فَإِذَا إِنْسَانٌ يُحَرِّكُ الْبَابَ, فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ. فَقُلْتُ: عَلَى رِسْلِكَ. ثُمَّ جِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَقُلْتُ: هَذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَسْتَأْذِنُ. فَقَالَ: "ائْذَنْ لَهُ وَبِشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ" فَجِئْتُ فَقُلْتُ لَهُ: ادْخُلْ وَبَشَّرَكَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالْجَنَّةِ, فَدَخَلَ فَجَلَسَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الْقُفِّ عَنْ يَسَارِهِ وَدَلَّى رِجْلَيْهِ فِي الْبِئْرِ, ثُمَّ رَجَعْتُ فَجَلَسْتُ فَقُلْتُ: إِنْ يُرِدِ اللَّهُ بِفُلَانٍ خَيْرًا يَأْتِ بِهِ, فَجَاءَ إِنْسَانٌ يُحَرِّكُ الْبَابَ فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ. فَقُلْتُ: عَلَى رِسْلِكَ. فَجِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: "ائْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ عَلَى بَلْوَى تُصِيبُهُ" فَقُلْتُ لَهُ: ادْخُلْ وَبَشَّرَكَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالْجَنَّةِ عَلَى بَلْوَى تُصِيبُكَ, فَدَخَلَ فَوَجَدَ الْقُفَّ قَدْ مُلِئَ فَجَلَسَ وِجَاهَهُ مِنَ الشِّقِّ الْآخَرِ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: فَأَوَّلْتُهَا قُبُورَهُمْ2.
وَفِيهِمَا عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صَعِدَ أُحُدًا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ, فَرَجَفَ بِهِمْ فَقَالَ: "اثْبُتْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ نَبِيٌّ وَصَدِيقٌ وَشَهِيدَانِ" 1. وَلِلتِّرْمِذِيِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ: "أَنْتَ صَاحِبِي عَلَى الْحَوْضِ, وَصَاحِبِي فِي الْغَارِ" وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ2. وَلَهُ عَنْ عُمَرَ ابن الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ نَتَصَدَّقَ, وَوَافَقَ ذَلِكَ عِنْدِي مَالًا, فَقُلْتُ الْيَوْمَ أَسْبِقُ أَبَا بَكْرٍ إِنْ سَبَقْتَهُ يَوْمًا. قَالَ: فَجِئْتُ بِنِصْفِ مَالِي, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟ " قُلْتُ: مِثْلَهُ. وَأَتَى أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِكُلِّ مَا عِنْدَهُ فَقَالَ: "يَا أَبَا بَكْرٍ مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟ " قَالَ: أَبْقَيْتُ لَهُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. قُلْتُ: لَا أَسْبِقُهُ إِلَى شَيْءٍ أَبَدًا. هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ3. وَلِمُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ صَائِمًا؟ " قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا. قَالَ: "فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ جِنَازَةً؟ " قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا. قَالَ: "فَمَنْ أطعم منكم الْيَوْمَ مِسْكِينًا؟ " قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا. قَالَ: "فَمَنْ عَادَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مَرِيضًا؟ " قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ" 4. وَالْأَحَادِيثُ فِي الصِّدِّيقِ كَثِيرَةٌ جِدًّا, قَدْ أُفْرِدَتْ بِالتَّصْنِيفِ, وَفِيمَا ذُكِرُ كِفَايَةٌ فِي
التَّنْبِيهِ عَلَى مَا وَرَاءَهُ, وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ حَسَّانُ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِذَا تَذَكَّرْتَ شَجْوًا مِنْ أَخٍ ثِقَةٍ ... فَاذْكُرْ أَخَاكَ أَبَا بَكْرٍ بِمَا فَعَلَا خَيْرُ الْبَرِيَّةِ أَوْفَاهَا وَأَعْدَلَهَا ... بَعْدَ النَّبِيِّ وَأَوْلَاهَا بِمَا حَمَلَا وَالتَّالِيَ الثَّانِيَ الْمَحْمُودُ مَشْهَدُهُ ... وَأَوَّلُ النَّاسِ مِنْهُمْ صَدَّقَ الرُّسُلَا عَاشَ حَمِيدًا لِأَمْرِ اللَّهِ مُتَّبِعًا ... بِأَمْرِ صَاحِبِهِ الْمَاضِي وَمَا انْتَقَلَا1 [مَوَاقِفُهُ الْعَظِيمَةُ] : وَأَمَّا مَا مَنَحَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْمَوَاقِفِ الْعَظِيمَةِ مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ حِينِ بِعْثَتِهِ إِلَى أَنْ تَوَفَّاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ نُصْرَتِهِ وَالذَّبِّ عَنْهُ وَالشَّفَقَةِ عَلَيْهِ وَالدَّعْوَةِ إِلَى مَا دَعَا إِلَيْهِ وَمُلَازَمَتِهِ إِيَّاهُ وَمُوَاسَاتِهِ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ, وَتَقَدُّمِهِ مَعَهُ فِي كُلِّ خَيْرٍ, فَأَمْرٌ لَا تُدْرَكُ غَايَتُهُ, ثُمَّ لَمَّا تَوَفَّى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ نَبِيَّهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِهَذِهِ الْأُمَّةِ أَنْ وَلَّاهُ أَمْرَهُمْ بَعْدَ نَبِيِّهِ, وَجَمَعَهُمْ عَلَيْهِ بِلُطْفِهِ, فَجَمَعَ اللَّهُ بِهِ شَمْلَ الْعَرَبِ بَعْدَ شَتَاتِهِ, وَقَمَعَ بِهِ كُلَّ عَدُوٍّ لِلدِّينِ وَدَمَّرَ عَلَيْهِ وَأَلَّفَ لَهُ الْأُمَّةَ وَرَدَّهُمْ إِلَيْهِ, بَعْدَ أَنِ ارْتَدَّ أَكْثَرُهُمْ عَنْ دِينِهِ وَانْقَلَبَ الْغَالِبُ مِنْهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ كَافِرِينَ. حَتَّى قِيلَ: لَمْ يَبْقَ يُصَلَّى إِلَّا فِي ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ الْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ وَمَسْجِدِ الْعَلَاءِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ بِالْبَحْرَيْنِ, فَرَدَّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى الْحَقِّ طَوْعًا وَكَرْهًا وَأَطْفَأَ بِهِ كُلَّ فِتْنَةٍ فِي أَقَلِّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} [الْمَائِدَةِ: 54] الْآيَاتِ. قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَقَتَادَةُ: هُمْ أَبُو بَكْرٍ وَأَصْحَابُهُ الَّذِينَ قَاتَلُوا أَهْلَ الرِّدَّةِ وَمَانِعِي الزَّكَاةِ. وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمَّا قُبِضَ ارْتَدَّ عَامَّةُ الْعَرَبِ, إِلَّا أَهْلَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَالْبَحْرِينِ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ, وَمَنَعَ بَعْضُهُمُ الزَّكَاةَ1. وَهَمَّ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِقِتَالِهِمْ؛ فَكَرِهَ ذَلِكَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ, فَمَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلَّا بِحَقِّهِ وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ" عَزَّ وَجَلَّ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فَوَاللَّهِ لَأَقْتُلُنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ, فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ, وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهَا2. قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَرِهَتِ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قِتَالَ مَانِعِي الزَّكَاةِ, وَقَالُوا: أَهْلُ الْقِبْلَةِ. فَتَقَلَّدَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَيْفَهُ, وَخَرَجَ وَحْدَهُ. فَلَمْ يَجِدُوا بُدًّا مِنَ الْخُرُوجِ فِي أَثَرِهِ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: سَمِعْتُ أَبَا حَصِينٍ يَقُولُ: مَا وُلِدَ بَعْدَ النَّبِيِّينَ مَوْلُودٌ أَفْضَلُ مِنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ, لَقَدْ قَامَ مَقَامَ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فِي قِتَالِ أَهْلِ الرِّدَّةِ. وَكَانَ قَدِ ارْتَدَّ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثَلَاثُ فِرَقٍ: مِنْهُمْ بَنُو مَذْحِجٍ وَرَئِيسُهُمْ ذُو الْخِمَارِ عَبْهَلَةُ بْنُ كَعْبٍ الْعَنْسِيُّ وَيُلَقَّبُ بِالْأَسْوَدِ, وَكَانَ كَاهِنًا مُشَعْبِذًا فَتَنَبَّأَ بِالْيَمَنِ وَاسْتَوْلَى عَلَى بِلَادِهِ, فَكَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ
الْمُسْلِمِينَ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَحُثُّوا النَّاسَ عَلَى التَّمَسُّكِ بِدِينِهِمْ وَعَلَى النُّهُوضِ لِحَرْبِ الْأَسْوَدِ, فَقَتَلَهُ فَيْرُوزٌ الدَّيْلَمِيُّ عَلَى فِرَاشِهِ. قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فَأَتَى الْخَبَرُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنَ السَّمَاءِ فِي اللَّيْلَةِ الَّتِي قُتِلَ فِيهَا, فَقَالَ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قُتِلَ الْأَسْوَدُ الْبَارِحَةَ, قَتَلَهُ رَجُلٌ مُبَارَكٌ" قِيلَ: وَمَنْ هُوَ؟ قَالَ: "فَيْرُوزٌ, فَازَ فَيْرُوزٌ" 1, فَبَشَّرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَصْحَابَهُ بِهَلَاكِ الْأَسْوَدِ, وَقُبِضَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنَ الْغَدِ وَأَتَى خَبَرُ مَقْتَلِ الْعَنْسِيِّ الْمَدِينَةَ فِي آخِرِ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ بَعْدَ مَا خَرَجَ أُسَامَةُ وَكَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ فَتْحٍ جَاءَ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ2. وَالْفِرْقَةُ الثَّانِيَةُ بَنُو حَنِيفَةَ وَرَئِيسُهُمْ مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ, وَكَانَ قَدْ تَنَبَّأَ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي آخِرِ سَنَةِ عَشْرٍ وَزَعَمَ أَنَّهُ اشْتَرَكَ مَعَ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي النُّبُوَّةِ, وَكَتَبَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "مِنْ مُسَيْلِمَةَ رَسُولِ اللَّهِ, إِلَى مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الْأَرْضَ نِصْفُهَا لِي وَنِصْفُهَا لَكَ" وَبَعَثَ إِلَيْهِ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْلَا أَنَّ الرُّسُلَ لَا تُقْتَلُ لَضَرَبْتُ أَعْنَاقَكُمَا" ثُمَّ أَجَابَ "مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ, وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ" 3. وَمَرِضَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَتُوُفِّيَ, فَبَعَثَ أَبُو بَكْرٍ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ فِي جَيْشٍ كَثِيرٍ حَتَّى أَهْلَكَهُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْ وَحْشِيٍّ غُلَامِ مُطْعِمِ بْنِ عَدِيٍّ الَّذِي قَتَلَ حَمْزَةَ بْنَ عَبَدَ الْمُطَّلِبِ بَعْدَ حَرْبٍ شَدِيدَةٍ, وَكَانَ وَحْشِيُّ يَقُولُ: قَتَلْتُ خَيْرَ النَّاسِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَشَرَّ النَّاسِ فِي الْإِسْلَامِ4. وَالْفِرْقَةُ الثَّالِثَةُ بَنُو أَسَدٍ وَرَأْسُهُمْ طُلَيْحَةُ بْنُ خُوَيْلِدٍ, وَكَانَ طُلَيْحَةُ آخِرَ مَنِ ارْتَدَّ
ما منحه الله من المواقف العظيمة مع النبي -صلى الله عليه وسلم- من حين بعثته إلى أن توفاه الله 1144 ما أشارت إليه الآية {فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه}
وَادَّعَى النُّبُوَّةَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَوَّلَ مَنْ قُوتِلَ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ أَهْلِ الرِّدَّةِ, فَبَعَثَ أَبُو بَكْرٍ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ فَهَزَمَهُمْ خَالِدٌ بَعْدَ قِتَالٍ شَدِيدٍ, وَأَفْلَتَ طُلَيْحَةُ فَمَرَّ عَلَى وَجْهِهِ هَارِبًا نَحْوَ الشَّامِ, ثُمَّ إِنَّهُ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ1. وَارْتَدَّ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ حَتَّى كَفَى اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ أَمْرَهُمْ, وَنَصَرَ دِينَهُ عَلَى يَدَيْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَارْتَدَتِ الْعَرَبُ وَاشْرَأَبَّ النِّفَاقُ, وَنَزَلَ بِأَبِي ما لو نَزَلْ بِحَبَّارٍ لَهَاضَهَا. انْتَهَى مِنْ تَفْسِيرِ الْبَغَوِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ2. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54] قال الحسن: هُوَ وَاللَّهِ أَبُو بَكْرٍ وَأَصْحَابُهُ3. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ قَتَادَةَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ} [الْمَائِدَةِ: 54] وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ سَيَرْتَدُّ مُرْتَدُّونَ مِنَ النَّاسِ, فَلَمَّا قَبَضَ اللَّهُ نَبِيَّهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ارْتَدَّ عَامَّةُ الْعَرَبِ عَنِ الْإِسْلَامِ إِلَّا ثَلَاثَةَ مَسَاجِدَ: أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَأَهْلُ مكة وأهل جواثى مَنْ عَبْدِ الْقَيْسِ. وَقَالَ الَّذِينَ ارْتَدَوْا: نُصَلِّي الصَّلَاةَ وَلَا نُزَكِّي, وَاللَّهِ لَا تُغْصَبُ أَمْوَالُنَا. فَكُلِّمَ أَبُو بَكْرٍ فِي ذَلِكَ لِيَتَجَاوَزَ عَنْهُمْ, وَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُمْ لَوْ قَدْ فَقِهُوا أَدَّوُا الزَّكَاةَ. فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أُفَرِقُ بَيْنَ شَيْءٍ جَمَعَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ, وَلَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا مِمَّا فَرَضَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَيْهِ, فَبَعَثَ اللَّهُ عَصَائِبَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ فَقَاتَلُوا حَتَّى أَقَرُّوا بِالْمَاعُونِ وَهُوَ الزَّكَاةُ. قَالَ قَتَادَةُ: فَكُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّ هَذِهِ
الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ وَأَصْحَابِهِ {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [الْمَائِدَةِ: 54] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ1. وَلَا يُنَافِي هَذَا مَا وَرَدَ مِنْ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْيَمَنِ كَمَا أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ شُرَيْحِ بْنِ عُبَيْدٍ قَالَ: لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} [الْمَائِدَةِ: 54] الْآيَةَ, قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَا وَقَوْمِي يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "لَا بَلْ هَذَا وَقَوْمُهُ" يَعْنِي أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ2. وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُسْنَدِهِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنْ عِيَاضٍ الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [الْمَائِدَةِ: 54] قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: "هُمْ قَوْمُ هَذَا" وَأَشَارَ إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ3. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْحَاكِمُ فِي جَمْعِهِ لِحَدِيثِ شُعْبَةَ وَالْبَيْهَقِيُّ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: تُلِيَتْ عَلَى النَّبِيِّ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ} [الْمَائِدَةِ: 54] . الْآيَةَ فَقَالَ النَّبِيُّ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قَوْمُكَ يَا أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ؛ أَهْلُ الْيَمَنِ" 4.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي الْكُنَى وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ قَوْلِهِ: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ} [الْمَائِدَةِ: 54] الْآيَةَ. فَقَالَ: "هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ ثُمَّ كِنْدَةَ ثُمَّ السَّكُونِ ثُمَّ تُجِيبَ" 1. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: هُمْ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ ثُمَّ مِنْ كِنْدَةَ ثُمَّ مِنَ السَّكُونِ2. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُ قَالَ: هُمْ أَهْلُ الْقَادِسِيَّةِ3. قُلْتُ. وَكَانَ غَالِبُ أَهْلِ الْقَادِسِيَّةِ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ, بَلْ كَانَتْ بَجِيلَةُ رُبُعَ النَّاسِ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِمْ, وَكَانَ بَأْسُ النَّاسِ الَّذِي هُمْ فِيهِ, كَمَا رَوَاهُ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: وَكَانَ يَمُرُّ عمرو بن معديكرب الزُّبَيْدِيُّ فَيَقُولُ: يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ كُونُوا أُسُودًا, فَإِنَّمَا الْفَارِسِيُّ تَيْسٌ. وَقَدْ قَتَلَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَسْوَارًا فَارِسَ الْفُرْسِ وَأَبْلَى بَلَاءً حَسَنًا, وَكَانَتْ لَهُ الْيَدُ الْبَيْضَاءُ يَوْمَئِذٍ4. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي تَأْرِيخِهِ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ يَنْخُسْرَةَ قَالَ: أَتَيْتُ ابْنَ عُمَيْرٍ فَرَحَّبَ بِي ثُمَّ تَلَا {مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [الْمَائِدَةِ: 54] الْآيَةَ. ثُمَّ ضَرَبَ عَلَى مَنْكِبِي وَقَالَ: أَحْلِفُ بِاللَّهِ أَنَّهُ لَمِنْكُمْ أَهْلَ الْيَمَنِ. ثَلَاثًا5.
وَكُلُّ هَذَا لَا يُنَافِي مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ نُزُولِهَا فِي أَبِي بَكْرٍ أَوَّلًا, فَإِنَّ أَهْلَ الْيَمَنِ لَمْ يَرْتَدْ جَمِيعُ قَبَائِلِهِمْ يَوْمَئِذٍ, وَإِنَّمَا ارْتَدَّ كَثِيرٌ مِنْهُمْ مَعَ الْأَسْوَدِ وَثَبَتَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ مَعَ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَأَبِي مُوسَى وَفَيْرُوزَ الدَّيْلَمِيِّ وَغَيْرِهِمْ مِنْ عُمَّالِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَنَشَبَ بَيْنَ مُؤْمِنِهِمْ وَكَافِرِهِمْ قِتَالٌ عَظِيمٌ حَتَّى قَتَلَ اللَّهُ الْأَسْوَدَ عَلَى يَدِ فَيْرُوزَ, وَأَيَّدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ عَلَى عَدْوِهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ, وَلَكِنْ لَمْ يَرْجِعْ أَمْرُهُمْ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ قَبْلَ الْعَنْسِيِّ إِلَّا فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ, فَإِنَّهُ لَمْ يَزَلْ يُتَابِعُ الْكَتَائِبَ مَدَدًا لِمُؤْمِنِهِمْ عَلَى كَافِرِهِمْ حَتَّى رَاجَعُوا الْإِسْلَامَ وَكَانُوا مِنْ أَعْظَمِ أَنْصَارِهِ حَتَّى صَارَ رُؤَسَاءُ رِدَّتِهِمْ كعمرو بن معديكرب وَقَيْسِ بْنِ مَكْشُوحٍ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ وَأَشَدِّهِمْ بَلَاءً فِي أَيَّامِ الرِّدَّةِ وَالْفُتُوحِ, فَحِينَئِذٍ عَادَ الْمَعْنَى إِلَى أَبِي بَكْرٍ وَأَصْحَابِهِ وَهُمْ مِنْ أَصْحَابِهِ, وَكُلُّ هَذَا فِي شَأْنِ السَّبَبِ لِنُزُولِ الْآيَةِ, وَإِلَّا فَهِيَ عَامَّةٌ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ يُحِبُّ اللَّهَ وَيُحِبُّهُ وَيُوَالِي فِيهِ وَيُعَادِي فِيهِ وَلَا يَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ. وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ وَأَصْحَابُهُ أَسْعَدَ النَّاسِ بِذَلِكَ وَأَقْدَمَهُمْ فِيهِ وَأَسْبَقَهُمْ إِلَيْهِ وَأَوَّلَ مَنْ تَنَاوَلَتْهُ الْآيَةُ, رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ وَعَنْ أَنْصَارِ الْإِسْلَامِ وَحِزْبِهِ أَجْمَعِينَ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَاسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنَ الْعَرَبِ, قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ, فَمَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلَّا بِحَقِّهِ وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ" عَزَّ وَجَلَّ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاللَّهِ لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ, فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ, وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهِ. فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ رَأَيْتَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ شَرَحَ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ لِلْقِتَالِ فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ1. وَتَفَاصِيلُ مَوَاقِفِهِ الْعِظَامِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَشْهُورَةٌ مَبْسُوطَةٌ فِي كُتُبِ السِّيرَةِ
وَغَيْرِهَا, وَكَانَتْ مُدَّةُ خِلَافَتِهِ سَنَتَيْنِ وَثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ, وَكَانَتْ وَفَاتُهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ عَشِيَّةً, وَقِيلَ بَعْدَ الْمَغْرِبِ وَدُفِنَ مِنْ لَيْلَتِهِ وَذَلِكَ لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ بَعْدَ مَرَضِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا, وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُصَلِّي بِالْمُسْلِمِينَ, وَفِي أَثْنَاءِ هَذَا الْمَرَضِ عَهِدَ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ, وَكَانَ الَّذِي كَتَبَ الْعَهْدَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَقُرِئَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَأَقَرُّوا بِهِ وَسَمِعُوا لَهُ وَأَطَاعُوا, وَكَانَ عُمْرُ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمَ تُوُفِّيَ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ سَنَةً السِّنُّ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمَا فِي التُّرْبَةِ كَمَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي الْحَيَاةِ, فَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ, وَمِنْ جَمِيعِ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ دَعَاهُ, وَقَدْ فَعَلَ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
الكلام على خلافة الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه
خِلَافَةُ الْفَارُوقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ثَانِيهِ فِي الْفَضْلِ بِلَا ارْتِيَابٍ ... الصَّادِعُ النَّاطِقُ بِالصَّوَابِ أَعْنِي بِهِ الشَّهْمَ أَبَا حَفْصٍ عُمَرَ ... مَنْ ظَاهَرَ الدِّينَ الْقَوِيمَ وَنَصَرَ الصَّارِمَ الْمُنْكِي عَلَى الْكُفَّارِ ... وَمُوَسِّعَ الْفُتُوحِ فِي الْأَمْصَارِ "ثَانِيهِ": أَيْ ثَانِي أَبِي بَكْرٍ "فِي الْفَضْلِ" عَلَى النَّاسِ بَعْدَهُ فَلَا أَفْضَلَ مِنْهُ وَكَذَا هُوَ ثَانِيهِ فِي الْخِلَافَةِ بِالْإِجْمَاعِ "بِلَا ارْتِيَابٍ" أَيْ: بِلَا شَكٍّ "الصَّادِعُ" بِالْحَقِّ الْمُجَاهِرُ بِهِ الَّذِي لَا يَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ, وَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} [الْحِجْرِ: 94] فَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَذَلِكَ وَبِهِ سَمَّاهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَارُوقًا, "النَّاطِقُ بِالصَّوَابِ" وَالَّذِي وَافَقَ الْوَحْيَ فِي أَشْيَاءَ قَبْلَ نُزُولِهِ كَمَا سَيَأْتِي "أَعْنِي بِهِ" أَيْ: بِهَذَا النَّعْتِ "الشَّهْمَ" الذَّكِيَّ الْمُتَوَقِّدَ السَّيِّدَ الْمُطَاعَ الْحُكْمِ الْقَوِيَّ فِي أَمْرِ اللَّهِ الشَّدِيدَ فِي دِينِ اللَّهِ "أَبَا حَفْصٍ عُمَرَ" بْنَ الْخَطَّابِ بْنِ نُفَيْلِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ رِيَاحِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُرْطِ بْنِ رُزَاحِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ الْعَدَوِيَّ ثَانِي الْخُلَفَاءِ وَإِمَامَ الْحُنَفَاءِ بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا, وَأَوَّلَ مَنْ تَسَمَّى أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ "الصَّارِمَ" السَّيْفَ الْمَسْلُولَ "الْمُنْكِي" مِنَ النِّكَايَةِ "عَلَى الْكُفَّارِ" لِشِدَّتِهِ عَلَيْهِمْ وَإِثْخَانِهِ إِيَّاهُمْ حَتَّى إِنْ كَانَ شَيْطَانُهُ لَيَخَافُهُ أَنْ يَأْمُرَهُ بِمَعْصِيَةٍ كَمَا قَالَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "وَمُوَسِّعَ" مِنَ الِاتِّسَاعِ "الْفُتُوحِ" فَتُوحِ الْإِسْلَامِ
"فِي الْأَمْصَارِ" فَكَمَّلَ فُتُوحَ بِلَادِ الرُّومِ بَعْدَ الْيَرْمُوكِ ثُمَّ بِلَادِ فَارِسٍ حَتَّى مَزَّقَ اللَّهُ بِهِ مُلْكَهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ, ثُمَّ أَوْغَلَ فِي بِلَادِ التُّرْكِ كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي كُتُبِ السِّيَرِ وَغَيْرِهَا. تَقَدَّمَتْ إِشَارَاتُ النُّصُوصِ النَّبَوِيَّةِ إِلَى خِلَافَتِهِ قَرِيبًا مَعَ ذِكْرِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ, وَكَثِيرٍ مِنْ فَضَائِلِهِ أَيْضًا الَّتِي شَارَكَ فِيهَا أَبَا بَكْرٍ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "رَأَيْتُنِي دَخَلْتُ الْجَنَّةَ فَإِذَا أَنَا بِالرُّمَيْصَاءِ امْرَأَةِ أَبِي طَلْحَةَ, وَسَمِعْتُ خَشْخَشَةً فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: هَذَا بِلَالٌ, وَرَأَيْتُ قَصْرًا بِفَنَائِهِ جَارِيَةٌ, فَقُلْتُ: لِمَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: لِعُمْرَ, فَأَرَدْتُ أَنْ أَدْخُلَهُ فَأَنْظُرُ إِلَيْهِ فَذَكَرْتُ غَيْرَتَكَ" فَقَالَ عُمَرُ: بِأَبِي وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعَلَيْكَ أَغَارُ! 1. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذْ قَالَ: "بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُنِي فِي الْجَنَّةِ, فَإِذَا امْرَأَةٌ تَتَوَضَّأُ إِلَى جَانِبِ قَصْرٍ, فَقُلْتُ: لِمَنْ هَذَا الْقَصْرُ؟ فَقَالُوا: لِعُمَرَ, فَذَكَرْتُ غَيْرَتَهُ فَوَلَّيْتُ مُدْبِرًا" , فَبَكَى عُمَرُ وَقَالَ: أَعَلَيْكَ أَغَارُ يَا رَسُولَ اللَّهِ! 2. وَعَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ إِذْ رأيت قدحا أتيت بِهِ فِيهِ لَبَنٌ فَشَرِبْتُ مِنْهُ حَتَّى إِنِّي لَأَرَى الرَّيَّ يَجْرِي فِي أَظْفَارِي, ثم أعطيت فصلى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ" قَالُوا: فَمَا أَوَّلْتَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "الْعِلْمَ" 3.
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُ النَّاسَ عُرِضُوا عَلَيَّ وَعَلَيْهِمْ قُمُصٌ, فَمِنْهَا مَا يَبْلُغُ الثَّدْيَ, وَمِنْهَا مَا يَبْلُغُ دُونَ ذَلِكَ. وَعُرِضَ عَلَيَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ يَجْتَرُّهُ". قَالُوا: فَمَا أَوَّلَتْهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "الدِّينَ"1. وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: اسْتَأْذَنَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَعِنْدَهُ نِسْوَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ يُكَلِّمْنَهُ وَيَسْتَكْثِرْنَهُ عَالِيَةً أَصْوَاتُهُنَّ عَلَى صَوْتِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلَمَّا اسْتَأْذَنَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قُمْنَ فَبَادَرْنَ الْحِجَابَ, فَأَذِنَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَدَخَلَ عُمَرُ وَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَضْحَكُ. فَقَالَ عُمَرُ: أَضْحَكَ اللَّهُ سِنَّكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ, فَقَالَ النَّبِيُّ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "عَجِبْتُ مِنْ هَؤُلَاءِ اللَّاتِي كُنَّ عِنْدِي, فَلَمَّا سَمِعْنَ صَوْتَكَ ابْتَدَرْنَ الْحِجَابَ" فَقَالَ عُمَرُ: فَأَنْتَ أَحَقُّ أَنْ يَهَبْنَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ عُمَرُ: يَا عُدُوَاتِ أَنْفُسِهِنَّ, أَتَهَبْنَنِي وَلَا تَهَبْنَ رَسُولَ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقُلْنَ: نَعَمْ أَنْتَ أَفَظُّ وَأَغْلَظُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ رَسُولُ الله, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أيها يابن الْخَطَّابِ, وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا لَقِيَكَ الشَّيْطَانُ سَالِكًا فَجًّا قَطُّ إِلَّا سَلَكَ فَجًّا غَيْرَ فَجِّكَ" 2. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَقَدْ كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ رِجَالٌ يُكَلَّمُونَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونُوا أَنْبِيَاءَ, فَإِنْ يَكُنْ مِنْ أُمَّتِي مِنْهُمْ أَحَدٌ فَعُمَرُ" 3.
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ, جَاءَ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَعْطَاهُ قَمِيصَهُ وَأَمَرَهُ أَنْ يُكَفِّنَهُ فِيهِ, ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي عَلَيْهِ, فَأَخَذَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِثَوْبِهِ فَقَالَ: تُصَلِّي عَلَيْهِ وَهُوَ مُنَافِقٌ وَقَدْ نَهَاكَ اللَّهُ أَنْ تَسْتَغْفِرَ لَهُمْ؟ قَالَ: "إِنَّمَا خَيَّرَنِي اللَّهُ" -أَوْ أَخْبَرَنِي اللَّهُ- فَقَالَ: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التَّوْبَةِ: 80] فَقَالَ: سَأَزِيدُهُ عَلَى سَبْعِينَ" قَالَ: فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَصَلَّيْنَا مَعَهُ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التَّوْبَةِ: 84] 1 مُتَّفَقٌ عَلَى جَمِيعِهَا. وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا مَاتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيِّ بْنِ سَلُولَ دُعِيَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ, فَلَمَّا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَثَبْتُ إِلَيْهِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتُصَلِّي عَلَى ابْنِ أُبَيٍّ وَقَدْ قَالَ يَوْمَ كَذَا كَذَا وَكَذَا؟ قَالَ: اعْدُدْ عَلَيْهِ قَوْلَهُ, فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَالَ: "أَخِّرْ عَنِّي يَا عُمَرُ" فَلَمَّا أَكْثَرْتُ عَلَيْهِ قَالَ: "إِنِّي خُيِّرْتُ فَاخْتَرْتُ, لَوْ أَعْلَمُ أَنِّي إِنْ زِدْتُ عَلَى السَّبْعِينَ يُغْفَرُ لَهُ لَزِدْتُ عَلَيْهَا" قَالَ: فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثُمَّ انْصَرَفَ, فَلَمْ يَلْبَثْ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى نَزَلَتِ الْآيَتَانِ مِنْ بَرَاءَةٌ {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} إِلَى قَوْلِهِ {وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التَّوْبَةِ: 84] . قَالَ: فَعَجِبْتُ مِنْ جُرْأَتِي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ2. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ ابن عباس رصب اللَّهُ عَنْهُ فِي قِصَّةِ أَسَارَى بَدْرٍ بِطُولِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَلَمَّا أَسَرُوا الْأَسَارَى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ: "مَا تَرَوْنَ فِي هَؤُلَاءِ الْأَسَارَى؟ " فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: هُمْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ بَنُو الْعَمِّ وَالْعَشِيرَةِ, أَرَى أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُمْ فِدْيَةً, فَتَكُونُ لَنَا قُوَّةً عَلَى الْكُفَّارِ, فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُمْ لِلْإِسْلَامِ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ما ترى يابن الْخَطَّابِ؟ " قُلْتُ: لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ, مَا أَرَى الَّذِي رَأَى أَبُو بَكْرٍ, وَلَكِنِّي أَرَى أَنْ تَضْرِبَ أَعْنَاقَهُمْ فَتُمَكِّنَ عَلِيًّا مِنْ عَقِيلٍ فَيَضْرِبَ عُنُقَهُ, وَتُمَكِّنَّنِي مِنْ فُلَانٍ -نَسِيبًا لِعُمَرَ- فَأَضْرِبُ عُنُقَهُ, فَإِنَّ هَؤُلَاءِ أَئِمَّةُ الْكُفْرِ وَصَنَادِيدُهَا. فَهَوِيَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَلَمْ يَهْوَ مَا قُلْتُ. فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ جِئْتُ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَبُو بَكْرٍ قَاعِدَيْنِ يَبْكِيَانِ, قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي مِنْ أَيِّ شَيْءٍ تَبْكِي أَنْتَ وَصَاحِبُكَ, فَإِنْ وَجَدْتُ بُكَاءً بِكَيْتُ, وَإِنْ لَمْ أَجِدْ بُكَاءً تَبَاكَيْتُ لِبُكَائِكُمَا؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَبْكِي لِلَّذِي عُرِضَ عَلَيَّ فِي أَصْحَابِكَ مِنْ أَخْذِهِمِ الْفِدَاءَ, لَقَدْ عُرِضَ عَلَيَّ عَذَابُهُمْ أَدْنَى مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ" شَجَرَةٍ قَرِيبَةٍ مِنْ نَبِيِّ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} إِلَى قَوْلِهِ {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا} [الْأَنْفَالِ: 67-69] فَأَحَلَّ اللَّهُ الْغَنِيمَةَ لَهُمْ1. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَافَقْتُ اللَّهَ فِي ثَلَاثٍ -أَوْ وَافَقَنِي اللَّهُ فِي ثَلَاثٍ- قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوِ اتَّخَذْتَ مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [الْبَقَرَةِ: 125] وَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ يَدْخُلُ عَلَيْكَ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ فَلَوْ أَمَرْتَ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْحِجَابِ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ الْحِجَابِ, قَالَ: وَبَلَغَنِي مُعَاتَبَةُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَعْضَ نِسَائِهِ فَدَخَلْتُ عَلَيْهِنَّ, قُلْتُ: إِنِ انْتَهَيْتُنَّ أَوْ لَيُبَدِّلَنَّ اللَّهُ ورسوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَيْرًا مِنْكُنَّ. حَتَّى أَتَيْتُ إِحْدَى نِسَائِهِ قَالَتْ: يَا عُمَرُ مَا فِي رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا يَعِظُ نِسَاءَهُ حَتَّى تَعِظَهُنَّ أَنْتَ! فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ} [التَّحْرِيمِ: 5] 2.
وَعَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ السَّاعَةِ فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: "وَمَاذَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟ " قَالَ: لَا شَيْءَ إِلَّا أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ: "أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ" قَالَ أَنَسٌ: فَمَا فَرِحْنَا بِشَيْءٍ كَمَا فَرِحْنَا بِقَوْلِ النَّبِيِّ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ" قَالَ أَنَسٌ: فَأَنَا أُحِبُّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ, وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ بِحُبِّي إِيَّاهُمْ, وَإِنْ لَمْ أَعْمَلْ بِمِثْلِ أَعْمَالِهِمْ1. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا قَطُّ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ حِينِ قُبِضَ كَانَ أَجَدَّ وَأَجْوَدَ حَتَّى انْتَهَى مِنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ2. وَعَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ قَالَ: لَمَّا طُعِنَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَعَلَ يَأْلَمُ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَكَأَنَّهُ يُجَزِّعُهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَلَئِنْ كَانَ ذَلِكَ لَقَدْ صَحِبْتَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَحْسَنْتَ صُحْبَتَهُ, ثُمَّ فَارَقْتَهُ وَهُوَ عَنْكَ رَاضٍ. ثُمَّ صَحِبْتَ أَبَا بَكْرٍ فَأَحْسَنْتَ صُحْبَتَهُ, ثُمَّ فَارَقْتَهُ وَهُوَ عَنْكَ رَاضٍ, ثُمَّ صَحِبْتَ صُحْبَتَهُمْ, وَلَئِنْ فَارَقْتَهُمْ لَتُفَارِقَنَّهُمْ وَهُمْ عَنْكَ رَاضُونَ. قَالَ: أَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ صُحْبَةِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَرِضَاهُ فَإِنَّمَا ذَاكَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى مَنَّ بِهِ تَعَالَى عَلَيَّ, وَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ صُحْبَةِ أَبِي بَكْرٍ وَرِضَاهُ فَإِنَّمَا ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ذِكْرُهُ مَنَّ بِهِ عَلَيَّ, وَأَمَّا مَا تَرَى مِنْ جَزَعِي فَهُوَ مِنْ أَجْلِكَ وَأَجْلِ أَصْحَابِكَ, وَاللَّهِ لَوْ أَنَّ لِي طِلَاعَ الْأَرْضِ ذَهَبًا لَافْتَدَيْتُ بِهِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَبْلَ أَنْ أَرَاهُ3. وَفِيهِمَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: وُضِعَ عُمَرُ عَلَى سَرِيرِهِ, فَتَكَنَّفَهُ النَّاسُ يَدْعُونَ وَيُصَلُّونَ قَبْلَ أَنْ يُرْفَعَ وَأَنَا فِيهِمْ, فَلَمْ يَرُعْنِي إِلَّا رَجُلٌ آخِذٌ مَنْكِبِي فَإِذَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَتَرَحَّمَ عَلَى عُمَرَ وَقَالَ: مَا خَلَّفْتَ أَحَدًا أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ أَلْقَى اللَّهَ بِمِثْلِ عَمَلِهِ مِنْكَ. وَأَيْمُ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ لَأَظُنُّ أَنْ يَجْعَلَكَ اللَّهُ تَعَالَى مَعَ
صَاحِبَيْكَ, وَحَسْبُكَ أَنِّي كُنْتُ أَسْمَعُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ كَثِيرًا: "ذَهَبْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرَ, وَدَخَلْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرَ" زَادَ مُسْلِمٌ فِي آخِرِهِ أَيْضًا: فَإِنْ كُنْتَ لَأَرْجُوَ أَوْ لَأَظُنُّ أَنْ يَجْعَلَكَ اللَّهُ تَعَالَى مَعَهُمَا1. وَالْأَحَادِيثُ فِي فَضْلِهِ كَثِيرَةٌ جِدًّا قَدْ أُفْرِدَتْ بالتصنيف, وفيما ذكرنا كِفَايَةٌ. [قِصَّةُ اسْتِشْهَادِ الْفَارُوقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] : وَكَانَ قِصَّةُ اسْتِشْهَادِهِ مَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ حُصَيْنٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ قَالَ: رَأَيْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَبْلَ أَنْ يُصَابَ بِأَيَّامٍ بِالْمَدِينَةِ وَقَفَ عَلَى حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ وَعُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ وَقَالَ: كَيْفَ فَعَلْتُمَا؟ أتخافان أن تكون قَدْ حَمَّلْتُمَا الْأَرْضَ مَا لَا تُطِيقُ. قَالَا: حَمَّلْنَاهَا أَمْرًا هِيَ لَهُ مُطِيقَةٌ, مَا فِيهَا كَبِيرُ فَضْلٍ. قَالَ: انْظُرَا أَنْ تَكُونَا حَمَّلْتُمَا الْأَرْضَ مَا لَا تُطِيقُ. قَالَا: لَا. فَقَالَ عُمَرُ: لَئِنْ سَلَّمَنِي اللَّهُ تَعَالَى لَأَدَعَنَّ أَرَامِلَ أَهْلِ الْعِرَاقِ لَا يَحْتَجْنَ إِلَى رَجُلٍ بَعْدِي أَبَدًا. قَالَ: فَمَا أَتَتْ عَلَيْهِ رَابِعَةٌ حَتَّى أُصِيبَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. قَالَ: إِنِّي لَقَائِمٌ مَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ إِلَّا عَبْدَ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ غَدَاةَ أُصِيبَ وَكَانَ إِذَا مَرَّ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ قَالَ: اسْتَوُوا, حَتَّى إِذَا لَمْ يَرَ فِيهِنَّ خَلَلًا تَقَدَّمَ فَكَبَّرَ, وَرُبَّمَا قَرَأَ سُورَةَ يُوسُفَ أَوِ النَّحْلِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ في الركعة الأول حَتَّى يَجْتَمِعَ النَّاسُ, فَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ كَبَّرَ حَتَّى سَمِعْتُهُ يَقُولُ: قَتَلَنِي -أَوْ أَكَلَنِي- الْكَلْبُ حِينَ طَعَنَهُ, فَطَارَ الْعِلْجُ بِسِكِّينٍ ذَاتِ طَرَفَيْنِ لَا يَمُرُّ عَلَى أَحَدٍ يَمِينًا وَلَا شَمَالًا إِلَّا طَعَنَهُ, حَتَّى طَعَنَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا مَاتَ مِنْهُمْ سَبْعَةٌ, فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ طَرَحَ عَلَيْهِ بُرْنُسًا فَلَمَّا ظَنَّ الْعِلْجُ أَنَّهُ مَأْخُوذٌ نَحَرَ نَفْسَهُ, وَتَنَاوَلَ عُمَرُ يَدَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فَقَدَّمَهُ, فَمَنْ يَلِي عُمَرَ فَقَدْ رَأَى الَّذِي أَرَى وَأَمَّا نَوَاحِي الْمَسْجِدِ فَلَا يَدْرُونَ غَيْرَ أَنَّهُمْ فَقَدُوا صَوْتَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُمْ يَقُولُونَ: سُبْحَانَ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ, فَصَلَّى بِهِمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ صَلَاةً خَفِيفَةً, فَلَمَّا
انْصَرَفُوا قَالَ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ, انْظُرْ مَنْ قَتَلَنِي. فَجَالَ سَاعَةً ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: غُلَامُ الْمُغِيرَةِ فَقَالَ: الصَّنَعُ؟ قَالَ: قَاتَلَهُ اللَّهُ, لَقَدْ أَمَرْتُ بِهِ مَعْرُوفًا, الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَجْعَلْ مَنِيَّتِي بِيَدِ رَجُلٍ يَدَّعِي الْإِسْلَامَ, فَقَدْ كُنْتَ أَنْتَ وَأَبُوكَ تُحِبَّانِ أَنْ تَكْثُرَ الْعُلُوجُ بِالْمَدِينَةِ. وَكَانَ الْعَبَّاسُ أَكْثَرَهُمْ رَقِيقًا. فَقَالَ: إِنْ شِئْتَ فَعَلْتُ. أَيْ: إِنْ شِئْتَ قَتَلْنَا. قَالَ: كَذَبْتَ, بَعْدَمَا تَكَلَّمُوا بِلِسَانِكُمْ, وَصَلَّوْا قِبْلَتَكُمْ, وَحَجُّوا حَجَّكُمْ؟ فَاحْتُمِلَ إِلَى بَيْتِهِ فَانْطَلَقْنَا مَعَهُ وَكَأَنَّ النَّاسَ لَمْ تُصِبْهُمْ مُصِيبَةٌ قَبْلَ يَوْمَئِذٍ, فَقَائِلٌ يَقُولُ: لَا بَأْسَ, وَقَائِلٌ يَقُولُ: أَخَافُ عَلَيْهِ, فَأُتِيَ بِنَبِيذٍ فَشَرِبَهُ فَخَرَجَ مِنْ جَوْفِهِ, ثُمَّ أُتِيَ بِلَبَنٍ فَشَرِبَهُ فَخَرَجَ مِنْ جُرْحِهِ, فَعَلِمُوا أَنَّهُ مَيِّتٌ, فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ وَجَاءَ النَّاسُ يُثْنُونَ عَلَيْهِ, وَجَاءَ رَجُلٌ شَابٌّ فَقَالَ: أَبْشِرْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بِبُشْرَى اللَّهُ لَكَ مِنْ صُحْبَةِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَدَمٍ فِي الْإِسْلَامِ مَا قَدْ عَلِمْتَ, ثُمَّ وَلِيتَ فَعَدَلْتَ, ثُمَّ شَهَادَةٍ. قَالَ: وَدِدْتُ أَنَّ ذَلِكَ كَفَافٌ, لَا عَلَيَّ وَلَا لِي. فَلَمَّا أَدْبَرَ إِذَا إِزَارُهُ يَمَسُّ الْأَرْضَ, قَالَ: رَدُّوا عَلَيَّ الْغُلَامَ, قَالَ: ابْنُ أَخِي ارْفَعْ ثَوْبَكَ إِنَّهُ أَبْقَى لِثَوْبِكَ, وَأَتْقَى لِرَبِّكَ. يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ انْظُرْ مَا عَلَيَّ مِنَ الدَّيْنِ, فَحَسَبُوهُ فَوَجَدُوهُ سِتَّةً وَثَمَانِينَ أَلْفًا أَوْ نَحْوَهُ, قَالَ: إِنْ وَفَى لَهُ مَالُ آلِ عُمَرَ فَأَدِّهِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ, وَإِلَّا فَسَلْ بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ, فَإِنْ لَمْ تَفِ أَمْوَالُهُمْ فَسَلْ فِي قُرَيْشٍ وَلَا تَعْدُهُمْ إِلَى غَيْرِهِمْ, فَأَدِّ عَنِّي هَذَا الْمَالَ, وَانْطَلِقْ إِلَى عَائِشَةَ فَقُلْ: يَقْرَأُ عَلَيْكِ عُمَرُ السَّلَامَ, وَلَا تَقُلْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنِّي لَسْتُ الْيَوْمَ لِلْمُؤْمِنِينَ أَمِيرًا, وَقُلْ: يَسْتَأْذِنُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَنْ يُدْفَنَ مَعَ صَاحِبَيْهِ. فَسَلَّمَ وَاسْتَأْذَنَ ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهَا فَوَجَدَهَا قَاعِدَةً تَبْكِي فَقَالَ: يَقْرَأُ عَلَيْكِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ السَّلَامَ وَيَسْتَأْذِنُ أَنْ يُدْفَنَ مَعَ صَاحِبَيْهِ, فَقَالَتْ: كُنْتُ أُرِيدُهُ لِنَفْسِي وَلَأُوثِرَنَّ بِهِ الْيَوْمَ عَلَى نَفْسِي. فَلَمَّا أَقْبَلَ قِيلَ: هَذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ قَدْ جَاءَ, قَالَ: ارْفَعُونِي فَأَسْنَدَهُ رَجُلٌ إِلَيْهِ فَقَالَ: مَا لَدَيْكَ؟ قَالَ: الَّذِي تُحِبُّ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ, أَذِنَتْ. قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ, مَا كَانَ مِنْ شَيْءٍ أَهَمَّ إِلَيَّ مِنْ ذَلِكَ, فَإِذَا أَنَا قَضَيْتُ فَاحْمِلُونِي, ثُمَّ سَلِّمْ فَقُلْ: يَسْتَأْذِنُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَإِنْ أذنت لي فأذخلوني, وَإِنْ رَدَّتْنِي رَدُّونِي إِلَى مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ وَجَاءَتْ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ حَفْصَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَالنِّسَاءُ تَسِيرُ مَعَهَا, فَلَمَّا رَأَيْنَاهَا قُمْنَا, فَوَلَجَتْ عَلَيْهِ فَبَكَتْ عِنْدَهُ سَاعَةً, وَاسْتَأْذَنَّ الرِّجَالُ فَوَلَجَتْ دَاخِلًا
لَهُمْ فَسَمِعْنَا بُكَاءَهَا مِنَ الدَّاخِلِ فَقَالُوا: أَوْصِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ, اسْتَخْلِفْ. قَالَ: مَا أَجِدُ أَحَقُّ بِهَذَا الْأَمْرِ مِنْ هَؤُلَاءِ النَّفَرِ -أَوِ الرَّهْطِ- الَّذِينَ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ عَنْهُمْ رَاضٍ, فَسَمَّى عَلِيًّا وَعُثْمَانَ وَالزُّبَيْرَ وَطَلْحَةَ وَسَعْدًا وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ, وَقَالَ: لِيَشْهَدْكُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَلَيْسَ لَهُ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ -كَهَيْئَةِ التَّعْزِيَةِ لَهُ- فَإِنْ أَصَابَتِ الْإِمْرَةُ سَعْدًا فَهُوَ ذَاكَ, وَإِلَّا فَلْيَسْتَعِنْ بِهِ أَيُّكُمْ مَا أُمِّرَ, فَإِنِّي لَمْ أَعْزِلْهُ عَنْ عَجْزٍ وَلَا خِيَانَةٍ. وَقَالَ: أَوْصَى الْخَلِيفَةُ مِنْ بَعْدِي بِالْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ أَنْ يَعْرِفَ لَهُمْ حَقَّهُمْ, وَيَحْفَظَ لَهُمْ حُرْمَتَهُمْ, وَأُوصِيهِ بِالْأَنْصَارِ خَيْرًا الَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَنْ يَقْبَلَ مِنْ مُحْسِنِهِمْ وَأَنْ يَعْفُوَ عَنْ مُسِيئِهِمْ. وَأُوصِيهِ بِأَهْلِ الْأَمْصَارِ خَيْرًا فَإِنَّهُمْ رِدْءُ الْإِسْلَامِ وَجُبَاةُ الْمَالِ وَغَيْظُ الْعَدُوِّ وَأَنْ لَا يُؤْخَذَ مِنْهُمْ إِلَّا فَضْلُهُمْ عَنْ رِضَاهُمْ, وَأُوصِيهِ بِالْأَعْرَابِ خَيْرًا فَإِنَّهُمْ أَصْلُ الْعَرَبِ وَمَادَّةُ الْإِسْلَامِ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ حَوَاشِي أَمْوَالِهِمْ وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ, وَأُوصِيهِ بِذِمَّةِ اللَّهِ وَذِمَّةِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يُوَفِّي لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ وَأَنْ يُقَاتِلَ مِنْ وَرَائِهِمْ وَلَا يُكَلَّفُوا إِلَّا طَاقَتَهُمْ. فَلَمَّا قُبِضَ خَرَجْنَا بِهِ فَانْطَلَقْنَا نَمْشِي. فَسَلَّمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ قَالَ: يَسْتَأْذِنُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ, قَالَتْ: أَدْخِلُوهُ فَأُدْخِلَ, فَوَضَعَ هُنَالِكَ مَعَ صَاحِبَيْهِ. فَلَمَّا فُرِغَ مِنْ دَفْنِهِ اجْتَمَعَ هَؤُلَاءِ الرَّهْطُ, فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: اجْعَلُوا أَمْرَكُمْ إِلَى ثَلَاثَةٍ مِنْكُمْ, فَقَالَ الزُّبَيْرُ: قَدْ جَعَلْتُ أَمْرِي إِلَى عَلِيٍّ, فَقَالَ طَلْحَةُ: قَدْ جَعَلَتْ أَمْرِي إِلَى عُثْمَانَ. وَقَالَ سَعْدٌ: قَدْ جَعَلْتُ أَمْرِي إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ. فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: أَيُّكُمَا تَبَرَّأَ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ فَلَنَجْعَلُهُ إِلَيْهِ, وَاللَّهُ عَلَيْهِ وَالْإِسْلَامُ لَيَنْظُرَنَّ أَفْضَلَهُمْ فِي نَفْسِهِ؟ فَأُسْكِتَ الشَّيْخَانِ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: أَفَتَجْعَلُونَهُ إِلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى أَنْ لَا آلُو عَنْ أَفْضَلِكُمْ؟ قَالَا: نَعَمْ. فَأَخَذَ بِيَدِ أَحَدِهِمَا فَقَالَ: لَكَ مِنْ قَرَابَةِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالْقَدَمُ فِي الْإِسْلَامِ مَا قَدْ عَلِمْتَ, فَاللَّهُ عَلَيْكَ لَئِنْ أَمَّرْتُكَ لَتَعْدِلَنَّ, وَلَئِنْ أَمَّرْتُ عُثْمَانَ لَتَسْمَعَنَّ وَلَتُطِيعَنَّ. ثُمَّ خَلَا بِالْآخَرِ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ فَلَمَّا أَخَذَ الْمِيثَاقَ قَالَ: ارْفَعْ يَدَكَ يَا عُثْمَانَ, فَبَايَعَهُ وَبَايَعَ لَهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ, وَوَلِجَ أَهْلُ الدَّارِ فَبَايَعُوهُ, رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ1.
وَكَانَتْ مُدَّةُ خِلَافَةِ الْفَارُوقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَشْرَ سِنِينَ وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ, وَكَانَتْ وَفَاتُهُ عَلَى الْمَشْهُورِ لِثَلَاثٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ, وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ ثَلَاثٌ وَسِتُّونَ سَنَةً عَلَى الْأَشْهَرِ, وَهِيَ السِّنُّ الَّتِي تُوُفِّيَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثُمَّ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ, وَبُويِعَ لِعُثْمَانَ فِي ثَلَاثٍ مِنَ الْمُحَرَّمِ دُخُولَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ, وَأَوَّلُ مَنْ بَايَعَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ ثُمَّ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ثُمَّ بَقِيَّةُ أَصْحَابِ الشُّورَى ثُمَّ بَقِيَّةُ أَهْلِ الدَّارِ ثُمَّ بَقِيَّةُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ.
الكلام على خلافة ذي النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه
خِلَافَةُ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ثَالِثُهُمْ عُثْمَانُ ذُو النُّورَيْنِ ... ذُو الْحِلْمِ وَالْحَيَا بِغَيْرِ مَيْنِ بَحْرُ الْعُلُومِ جَامِعُ الْقُرْآنِ ... مِنْهُ اسْتَحَتْ مَلَائِكُ الرَّحْمَنِ بَايَعَ عَنْهُ سَيِّدُ الْأَكْوَانِ ... بِكَفِّهِ فِي بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ "ثَالِثُهُمْ" فِي الْخِلَافَةِ وَالْفَضْلِ كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ السَّابِقِ "عُثْمَانُ" بْنُ عَفَّانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ, مِنَ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ إِلَى الْإِسْلَامِ بِدَعْوَةِ الصِّدِّيقِ إِيَّاهُ, وَزَوَّجَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رُقْيَةَ ابْنَتَهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا, وَهَاجَرَ الْهِجْرَتَيْنِ وَهِيَ مَعَهُ, وَتَخَلَّفَ عَنْ بَدْرٍ لِمَرَضِهَا, وَضَرَبَ لَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِسَهْمِهِ وَأَجْرِهِ, وَبَعْدَ وَفَاتِهَا زَوَّجَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أُمَّ كُلْثُومٍ بِمِثْلِ صَدَاقِ رُقَيَّةَ عَلَى مِثْلِ صُحْبَتِهَا وَبِذَلِكَ تَسَمَّى "ذُو النُّورَيْنِ" لِأَنَّهُ تَزَوَّجَ ابْنَتَيْ نَبِيٍّ وَاحِدَةٍ بَعْدَ وَاحِدَةٍ وَلَمْ يَتَّفِقْ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. "ذَا الْحِلْمِ" التَّامِّ الَّذِي لَمْ يُدْرِكُهُ غَيْرُهُ "وَالْحَيَاءِ" الْإِيمَانِيِّ الَّذِي يَقُولُ فِيهِ النَّبِيُّ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ" 1, وَقَالَ: "أَشَدُّكُمْ حَيَاءً عُثْمَانُ" 2, "بَحْرُ الْعُلُومِ"
الْفَهْمُ التَّامُّ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى إِنْ كَانَ لَيَقُومُ بِهِ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ فَلَا يَرْكَعُ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ سُجُودِ الْقُرْآنِ1. "جَامِعُ الْقُرْآنِ" لَمَّا خَشِيَ الِاخْتِلَافَ فِي الْقُرْآنِ وَالْخِصَامَ فِيهِ فِي أَثْنَاءِ خِلَافَتِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَجَمَعَ النَّاسَ عَلَى قِرَاءَةٍ وَاحِدَةٍ وَكَتَبَ الْمُصْحَفَ عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأَخِيرَةِ الَّتِي دَرَسَهَا جِبْرِيلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- آخِرَ سِنِي حَيَاتِهِ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ حُذَيْفَةَ بْنُ الْيَمَانِ كَانَ فِي الْغَزَوَاتِ, وَقَدِ اجْتَمَعَ فِيهَا خَلْقٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامَ مِمَّنْ يَقْرَأُ عَلَى قِرَاءَةِ الْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ, وَجَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ مِمَّنْ يَقْرَأُ عَلَى قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي مُوسَى, وَجَعَلَ مَنْ لَا يَعْلَمُ بِجَوَازِ الْقِرَاءَةِ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ يُفَضِّلُ قِرَاءَتَهُ عَلَى قِرَاءَةِ غَيْرِهِ وَرُبَّمَا خَطَّأَهُ الْآخَرُ أَوْ كَفَّرَهُ, فَأَدَّى ذَلِكَ إِلَى خِلَافٍ شَدِيدٍ وانتشار الكلام السيئ بَيْنَ النَّاسِ؛ فَرَكِبَ حُذَيْفَةُ إِلَى عُثْمَانَ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَدْرِكْ هَذِهِ الْأُمَّةَ قَبْلَ أَنْ تَخْتَلِفَ فِي كِتَابِهَا كَاخْتِلَافِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي كُتُبِهِمْ, وَذَكَرَ لَهُ مَا شَاهَدَ مِنَ اخْتِلَافِ النَّاسِ فِي الْقِرَاءَةِ فَعِنْدَ ذَلِكَ جَمَعَ الصَّحَابَةَ وَشَاوَرَهُمْ فِي ذَلِكَ وَرَأَى أَنْ يَكْتُبَ الْمُصْحَفَ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ, وَأَنْ يَجْمَعَ النَّاسَ فِي سَائِرِ الْأَقَالِيمِ عَلَى الْقِرَاءَةِ بِهِ دُونَ مَا سِوَاهُ لِمَا رَأَى فِي ذَلِكَ مِنْ مَصْلَحَةِ كَفِّ الْمُنَازَعَةِ وَدَفْعِ الِاخْتِلَافِ, فَاسْتَدْعَى بِالصُّحُفِ الَّتِي كَانَ أَمَرَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ بِجَمْعِهَا فَكَانَتْ عِنْدَ الصِّدِّيقِ أَيَّامَ حَيَاتِهِ, ثُمَّ كَانَتْ عِنْدَ عُمَرَ فَلَمَّا تُوُفِّيَ صَارَتْ إِلَى حَفْصَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ. فَاسْتَدْعَى بِهَا عُثْمَانُ وَأَمَرَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيَّ أَنْ يَكْتُبَ وَأَنْ يُمْلِيَ عَلَيْهِ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ الْأُمَوِيُّ بِحَضْرَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ الْأَسَدِيِّ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ
ابن الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ الْمَخْزُومِيِّ, وَأَمَرَهُمْ إِذَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ أَنْ يَكْتُبُوهُ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ, فَكُتِبَ لِأَهْلِ الشَّامِ مُصْحَفًا, وَلِأَهْلِ مِصْرَ آخَرَ, وَبَعَثَ إِلَى الْبَصْرَةِ مُصْحَفًا, وَإِلَى الْكُوفَةِ بِآخَرَ, وَأَرْسَلَ إِلَى مَكَّةَ مُصْحَفًا, وَإِلَى الْيَمَنِ مِثْلَهُ, وَأَقَرَّ بِالْمَدِينَةِ مُصْحَفًا, وَيُقَالُ لِهَذِهِ الْمَصَاحِفِ "الْأَئِمَّةُ" ثُمَّ عَمَدَ إِلَى بَقِيَّةِ الْمَصَاحِفِ الَّتِي بِأَيْدِي النَّاسِ مِمَّا يُخَالِفُ مَا كَتَبَهُ فَحَرَقَهُ لِئَلَّا يَقَعَ بِسَبَبِهِ اخْتِلَافٌ1. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ وَأَبُو بَكْرِ بْنِ أَبِي دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيُّ عَنْ سُوَيْدِ بْنِ غَفْلَةٍ قَالَ: قَالَ لِي عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ حَرَقَ عُثْمَانُ الْمَصَاحِفَ: لَوْ لَمْ يَصْنَعْهُ هُوَ لَصَنَعْتُهُ2. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَيُّهَا النَّاسُ إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي عُثْمَانَ تَقُولُونَ حَرَقَ الْمَصَاحِفَ, وَاللَّهِ مَا حَرَقَهَا إِلَّا عَنْ مَلَأٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلَوْ وَلِيتُ مِثْلَ مَا وَلِيَ لَفَعَلْتُ الَّذِي فَعَلَ3. "مِنْهُ اسْتَحَتْ مَلَائِكُ الرَّحْمَنِ" كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَطَاءٍ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُضْطَجِعًا فِي بَيْتِي كَاشِفًا عَنْ فَخْذَيْهِ أَوْ سَاقَيْهِ, فَاسْتَأْذَنَ أَبُو بَكْرٍ فَأَذِنَ لَهُ وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ فَتَحَدَّثَ, ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عُمَرُ فَأَذِنَ لَهُ وَهُوَ كَذَلِكَ فَتَحَدَّثَ, ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عُثْمَانُ فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَسَوَى ثِيَابَهُ. قَالَ مُحَمَّدٌ -يَعْنِي ابْنُ أَبِي حَرْمَلَةَ الرَّاوِي عَنْهُمْ- وَلَا أَقُولُ ذَلِكَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ فَدَخَلَ فَتَحَدَّثَ, فَلَمَّا خَرَجَ قَالَتْ عَائِشَةُ: دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ فَلَمْ تَهْتَشَّ لَهُ وَدَخَلَ عُمَرُ وَلَمْ تُبَالِهِ, ثُمَّ دَخَلَ عُثْمَانُ فَجَلَسْتَ وَسَوَّيْتَ ثِيَابَكَ. فَقَالَ: "أَلَا أَسْتَحِي مِنْ رَجُلٍ تَسْتَحِي مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ" 4.
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَدَّثَاهُ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اسْتَأْذَنَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ مُضْطَجِعٌ عَلَى فِرَاشِهِ لَابِسٌ مِرْطَ عَائِشَةَ, فَأَذِنَ لِأَبِي بَكْرٍ وَهُوَ كَذَلِكَ فَقَضَى إِلَيْهِ حَاجَتَهُ ثُمَّ انْصَرَفَ, ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عُمَرُ فَأَذِنَ لَهُ وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ فَقَضَى إِلَيْهِ حَاجَتَهُ ثُمَّ انْصَرَفَ, قَالَ عُثْمَانُ: ثُمَّ اسْتَأْذَنْتُ عَلَيْهِ فَجَلَسَ وَقَالَ لِعَائِشَةَ: اجْمَعِي عَلَيْكِ ثِيَابَكِ فَقَضَيْتُ إِلَيْهِ حَاجَتِي ثُمَّ انْصَرَفْتُ. فَقَالَتْ عَائِشَةُ: يَا رسول الله ما لي لَمْ أَرَكَ فَزِعْتَ لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَمَا فَزِعْتَ لِعُثْمَانَ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ عُثْمَانَ رَجُلٌ حَيِيٌّ وَإِنِّي خَشِيتُ إِنْ أَذِنْتُ لَهُ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ أَنْ لَا يَبْلُغَ إِلَيَّ فِي حَاجَتِهِ" 1. "بَايَعَ عَنْهُ" حِينَ ذَهَبَ لِمَكَّةَ فِي حَاجَةِ الرَّسُولِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالْمُسْلِمِينَ "سَيِّدُ الْأَكْوَانِ" مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "بِكَفِّهِ" ضَرَبَ بِهَا عَلَى الْأُخْرَى, وَقَالَ: "هَذِهِ لِعُثْمَانَ فِي بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ" لَمَّا غَابَ عَنْهَا فِيمَا ذَكَرْنَا, وَكَانَ انْحِبَاسُهُ بِمَكَّةَ هُوَ سَبَبُ الْبَيْعَةِ كما قال محمدبن إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ فِي السِّيرَةِ, ثُمَّ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِيَبْعَثَهُ إِلَى مَكَّةَ لِيُبَلِّغَ عَنْهُ أَشْرَافَ قُرَيْشٍ مَا جَاءَ لَهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَخَافُ قُرَيْشًا عَلَى نَفْسِي, وَلَيْسَ بِمَكَّةَ مَنْ بَنِي عِدَيِّ بْنِ كَعْبٍ مَنْ يَمْنَعُنِي, وَقَدْ عَرِفَتْ قُرَيْشٌ عَدَاوَتِي إِيَّاهَا وَغِلَظِي عَلَيْهَا, وَلَكِنِّي أَدُلُّكَ عَلَى رَجُلٍ أَعَزُّ بِهَا مِنِّي, عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ, فَبَعَثَهُ إِلَى أَبِي سُفْيَانَ وَأَشْرَافِ قُرَيْشٍ يُخْبِرُهُمْ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ لِحَرْبٍ, وَأَنَّهُ إِنَّمَا جَاءَ زَائِرًا لِهَذَا الْبَيْتِ وَمُعَظِّمًا لِحُرْمَتِهِ. فَخَرَجَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى مَكَّةَ فَلَقِيَهُ أَبَانُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ حِينَ دَخَلَ مَكَّةَ أَوْ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَهَا فَحَمَلَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ ثُمَّ أَجَارَهُ حَتَّى بَلَّغَ رِسَالَةَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَانْطَلَقَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَتَّى أَتَى أَبَا سُفْيَانَ وَعُظَمَاءَ قُرَيْشٍ فَبَلَّغَهُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا أَرْسَلَهُ بِهِ فَقَالَ لِعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ فَرَغَ مِنْ رِسَالَةِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَيْهِمْ: إِنْ شِئْتَ أَنْ تَطُوفَ بِالْبَيْتِ فَطُفْ. فَقَالَ: مَا كُنْتُ لِأَفْعَلَ حَتَّى يَطُوفَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَاحْتَبَسَتْهُ قُرَيْشٌ عِنْدَهَا, فَبَلَغَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالْمُسْلِمِينَ أَنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَدْ قُتِلَ, قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ:
فَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ حِينَ بَلَغَهُ أَنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَدْ قُتِلَ: "لَا نَبْرَحُ حَتَّى نُنَاجِزَ الْقَوْمَ" وَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- النَّاسَ إِلَى الْبَيْعَةِ. فَكَانَتْ بَيْعَةُ الرِّضْوَانِ تَحْتَ الشَّجَرَةِ, فَكَانَ النَّاسُ يَقُولُونَ: بَايَعَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى الْمَوْتِ, وَكَانَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمْ يُبَايِعْهُمْ عَلَى الْمَوْتِ, وَلَكِنْ بَايَعْنَا عَلَى أَنْ لَا نَفِرَّ. فَبَايَعَ النَّاسَ وَلَمْ يَتَخَلَّفْ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ حَضَرَهَا إِلَّا الْجَدُّ بْنُ قَيْسٍ أَخُو بَنِي سَلَمَةَ, فَكَانَ جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: وَاللَّهِ لَكَأَنِيَ أَنْظُرُ إِلَيْهِ لَاصِقًا بِابِطَ نَاقَتِهِ قَدْ مَالَ إِلَيْهَا يَسْتَتِرُ بِهَا مِنَ النَّاسِ, ثُمَّ أَتَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّ الَّذِي كَانَ مِنْ أَمْرِ عُثْمَانَ بَاطِلٌ1. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ مَوْهَبٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ حَجَّ الْبَيْتَ فَرَأَى قَوْمًا جُلُوسًا فَقَالَ: مَنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ؟ قَالُوا: هَؤُلَاءِ قُرَيْشٌ, قَالَ: فَمَنِ الشَّيْخُ فِيهِمْ؟ قَالُوا: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عمر. قال: يابن عُمَرَ ,إِنِّي سَائِلُكَ عَنْ شَيْءٍ فَحَدِّثْنِي عَنْهُ, هَلْ تَعْلَمُ أَنَّ عُثْمَانَ فَرَّ يَوْمَ أُحُدٍ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: هَلْ تَعْلَمُ أَنَّهُ تَغَيَّبَ عَنْ بَدْرٍ وَلَمْ يَشْهَدْ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: هَلْ تَعْلَمُ أَنَّهُ تَغَيَّبَ عَنْ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ فَلَمْ يَشْهَدْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: تَعَالَ أُبَيِّنُ لَكَ, أَمَّا فِرَارُهُ يَوْمَ أُحُدٍ فَأَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ عَفَا عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ. وَأَمَّا تَغَيُّبُهُ عَنْ بَدْرٍ فَإِنَّهُ كَانَ تَحْتَهُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَكَانَتْ مَرِيضَةٌ, فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ لَكَ أَجْرَ رَجُلٍ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا وَسَهْمَهُ". وَأَمَّا تَغَيُّبُهُ عَنْ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ فَلَوْ كَانَ أَحَدٌ أَعَزُّ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ عُثْمَانَ لَبَعَثَهُ مَكَانَهُ, فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عُثْمَانَ فَكَانَتْ بَيْعَةُ الرِّضْوَانِ بَعْدَمَا ذَهَبَ عُثْمَانُ إِلَى مَكَّةَ, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِيَدِهِ الْيُمْنَى: "هَذِهِ يَدُ عُثْمَانَ" فَضَرَبَ بِهَا عَلَى يَدِهِ فَقَالَ: "هَذِهِ لِعُثْمَانَ" فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: اذْهَبْ بِهَا الْآنَ مَعَكَ2.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِبَيْعَةِ الرِّضْوَانِ كَانَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ, فبايع الناس, فقال رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَضَرَبَ بِإِحْدَى يَدَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى فَكَانَتْ يَدُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَيْرًا مِنْ أَيْدِيهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ, وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ, وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ1. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَدِيٍّ بْنِ الْخِيَارِ أَخْبَرَهُ أَنَّ الْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ قَالَا: مَا مَنَعَكَ أَنْ تُكَلِّمَ عُثْمَانَ لِأَخِيكَ الْوَلِيدِ فَقَدْ أَكْثَرَ النَّاسُ فِيهِ؟ فَقَصَدْتُ لِعُثْمَانَ حَتَّى خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ, قُلْتُ: إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً وَهِيَ نَصِيحَةٌ لَكَ. قَالَ: يَا أَيُّهَا الْمَرْءُ أُعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ, فَانْصَرَفْتُ فَرَجَعْتُ إِلَيْهِمْ إِذْ جَاءَ رَسُولُ عُثْمَانَ, فَأَتَيْتُهُ فَقَالَ: مَا نَصِيحَتُكَ؟ فَقُلْتُ: إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بَعَثَ مُحَمَّدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالْحَقِّ, وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ, وَكُنْتَ مِمَّنِ اسْتَجَابَ لِلَّهِ تَعَالَى وَلِرَسُولِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَهَاجَرْتَ الْهِجْرَتَيْنِ, وَصَحِبْتَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَرَأَيْتَ هَدْيَهُ, وَقَدْ أَكْثَرَ النَّاسُ فِي شَانِ الْوَلِيدِ. قَالَ: أَدْرَكْتَ رَسُولَ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قُلْتُ: لَا, وَلَكِنْ خَلُصَ إِلَيَّ مِنْ عِلْمِهِ مَا يَخْلُصُ إِلَى الْعَذْرَاءِ فِي سِتْرِهَا. قَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالْحَقِّ فَكُنْتُ مِمَّنِ اسْتَجَابَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَآمَنْتُ بِمَا بُعِثَ بِهِ وَهَاجَرْتُ الْهِجْرَتَيْنِ, كَمَا قُلْتَ وَصَحِبْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَبَايَعْتُهُ, فَوَاللَّهِ مَا عَصَيْتُهُ, وَلَا غَشَشْتُهُ, حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ, ثُمَّ أَبُو بَكْرٍ مِثْلُهُ, ثُمَّ عُمَرُ مَثَلُهُ, ثُمَّ اسْتُخْلِفْتُ, أَفَلَيَسَ لِي مِنَ الْحَقِّ مِثْلَ الَّذِي لَهُمْ؟ قُلْتُ: بَلَى. قَالَ: فَمَا هَذِهِ الْأَحَادِيثُ الَّتِي تَبْلُغْنِي عَنْكُمْ؟ أَمَّا مَا ذَكَرْتَ مَنْ شَانِ الْوَلِيدِ فَسَآخُذُ فِيهِ بِالْحَقِّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. ثُمَّ دَعَا عَلِيًّا فَأَمَرَهُ أَنْ يَجْلِدَهُ, فَجَلَدَهُ ثَمَانِينَ2.
وَفِي الْمُسْنَدِ وَالسُّنَنِ عَنْ عَمْرِو بْنِ جَاوَانَ قَالَ: قَالَ الْأَحْنَفُ: انْطَلَقْنَا حُجَّاجًا فَمَرَرْنَا بِالْمَدِينَةِ, فَبَيْنَا نَحْنُ فِي مَنْزِلِنَا إِذْ جَاءَنَا آتٍ فَقَالَ: النَّاسُ فِي الْمَسْجِدِ. فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَصَاحِبِي, فَإِذَا النَّاسُ مُجْتَمِعُونَ عَلَى نَفَرٍ فِي الْمَسْجِدِ, قَالَ: فَتَخَلَلْتُهُمْ حَتَّى قُمْتُ عَلَيْهِمْ, فَإِذَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَالزُّبَيْرُ وَطِلْحَةُ وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ, قَالَ: فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِأَسْرَعَ مِنْ أَنْ جَاءَ عُثْمَانُ يَمْشِي. فَقَالَ: هَهُنَا عَلِيٌّ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: هَهُنَا الزُّبَيْرُ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: هَهُنَا طَلْحَةُ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: هَهُنَا سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ, تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مَنْ يَبْتَاعُ مِرْبَدَ بَنِي فُلَانٍ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ" فَابْتَعْتُهُ, فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقُلْتُ: إِنِّي قَدِ ابْتَعْتُهُ, فَقَالَ: "اجْعَلْهُ فِي مَسْجِدِنَا وَأَجْرُهُ لَكَ" قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مَنْ يَبْتَاعُ بِئْرَ رُومَةَ" فَابْتَعْتُهَا بِكَذَا وَكَذَا, فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقُلْتُ: إِنِّي قَدِ ابْتَعْتُهَا -يَعْنِي بِئْرَ رُومَةَ- قَالَ: "اجْعَلْهَا سِقَايَةً لِلْمُسْلِمِينَ وَلَكَ أَجْرُهَا" قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَظَرَ فِي وُجُوهِ الْقَوْمِ يَوْمَ جَيْشِ الْعُسْرَةِ فَقَالَ: "مَنْ يُجَهِّزُ هَؤُلَاءِ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ" فَجَهَّزْتُهُمْ حَتَّى مَا يَفْقِدُونَ خِطَامًا وَلَا عِقَالًا. قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ. فَقَالَ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ, اللَّهُمَّ اشْهَدْ, اللَّهُمَّ اشْهَدْ, ثُمَّ انْصَرَفَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ1. وَرَوَى أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ ثُمَامَةَ بْنِ جَزْءٍ الْقُشَيْرِيِّ قَالَ: شَهِدْتُ الدَّارَ يَوْمَ أُصِيبَ عُثْمَانَ, فَاطَّلَعَ عَلَيْهِ اطلاعه, فقال: ادعو لِي صَاحِبَيْكُمُ اللَّذَيْنِ أَلَّبَاكُمْ عَلَيَّ, فَدُعِيَا لَهُ, فَقَالَ: أَنْشُدُكُمَا اللَّهَ, تَعْلَمَانِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ ضَاقَ الْمَسْجِدُ بِأَهْلِهِ فَقَالَ: "مَنْ يَشْتَرِي هَذِهِ الْبُقْعَةَ مِنْ خَالِصِ مَالِهِ فَيَكُونَ كَالْمُسْلِمِينَ وَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا فِي الْجَنَّةِ" فَاشْتَرَيْتُهَا مِنْ خَالِصِ مَالِي فَجَعَلْتُهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ, وَأَنْتُمْ تَمْنَعُونِي أَنْ أُصَلِّيَ فِيهَا رَكْعَتَيْنِ. ثُمَّ قَالَ: أَنْشُدُكُمُ اللَّهَ, أَتَعْلَمُونَ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ لَمْ يَكُنْ فِيهَا غَيْرُ بِئْرٍ يَسْتَعْذِبُ مِنْهُ إِلَا بِئْرَ رُومَةَ, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ يَشْتَرِيهَا مِنْ خَالِصِ مَالِهِ فَيَكُونُ دَلْوُهُ فِيهَا كَدِلَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا فِي الْجَنَّةِ" فَاشْتَرَيْتُهَا مِنْ خَالِصِ مَالِي, وَأَنْتُمْ تَمْنَعُونِي أَنْ أَشْرَبَ مِنْهَا, ثُمَّ قَالَ: هَلْ تَعْلَمُونَ أَنِّي صَاحِبُ جَيْشِ الْعُسْرَةِ؟ قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ1. وَلَهُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَبَّابٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: شَهِدْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ يَحُثُّ عَلَى جَيْشِ الْعُسْرَةِ, فَقَامَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَيَّ مِائَةُ بَعِيرٍ بِأَحْلَاسِهَا وَأَقْتَابِهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ, ثُمَّ حَضَّ عَلَى الْجَيْشِ فَقَامَ عُثْمَانُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله علي مائتي بَعِيرٍ بِأَحْلَاسِهَا وَأَقْتَابِهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ, ثُمَّ حَضَّ عَلَى الْجَيْشِ, فَقَامَ عُثْمَانُ فَقَالَ: عَلَيَّ ثَلَاثُمِائَةِ بَعِيرٍ بِأَحْلَاسِهَا وَأَقْتَابِهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ, فَأَنَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَنْزِلُ مِنْ عَلَى الْمِنْبَرِ وَهُوَ يَقُولُ: "مَا عَلَى عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ هَذَا, مَا عَلَى عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ هَذَا" 2. وَلَهُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: جَاءَ عُثْمَانُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِأَلْفِ دِينَارٍ فِي كُمِّهِ حِينَ جَهَّزَ جَيْشَ الْعُسْرَةِ فَنَثَرَهَا فِي حِجْرِهِ, فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُقَلِّبُهَا فِي حِجْرِهِ وَيَقُولُ: "مَا ضَرَّ عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بعد اليوم" مرتي. حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ3. وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ فِي
قِصَّةِ تَوَعُّدِهِمْ إِيَّاهُ بِالْقَتْلِ, قَالَ: وَلِمَ يَقْتُلُونَنِي؟ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: رَجُلٌ كَفَرَ بَعْدَ إِسْلَامِهِ, أَوْ زَنَى بَعْدَ إِحْصَانِهِ, أَوْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ". فَوَاللَّهِ مَا زَنَيْتُ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ قَطُّ, وَلَا تَمَنَّيْتُ بَدَلًا بِدِينِي مُنْذُ هَدَانِي اللَّهُ لَهُ, وَلَا قَتَلْتُ نَفْسًا. فَبِمَ يَقْتُلُونَنِي؟ 1. وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: أَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلَمَّا رَأَيْنَا إِقْبَالَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى عُثْمَانَ أَقْبَلَتْ إِحْدَانَا عَلَى الْأُخْرَى, فَكَانَ مِنْ آخِرِ كَلِمَةٍ أَنْ ضَرَبَ عَلَى مَنْكِبِهِ وَقَالَ: "يَا عُثْمَانُ, إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَسَى أَنْ يُلْبِسَكَ قَمِيصًا, فَإِنْ أَرَادَكَ الْمُنَافِقُونَ عَلَى خَلْعِهِ فَلَا تَخْلَعْهُ حَتَّى تَلْقَانِي" "ثَلَاثًا"2. وَرَوَى أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِتْنَةً فَقَالَ: "يُقْتَلُ فِيهَا هَذَا الْمُقَنَّعُ يَوْمَئِذٍ مَظْلُومًا" فَنَظَرْنَا فَإِذَا هُوَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ3. وَرَوَى أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "إِنَّكُمْ تَلْقَوْنَ بَعْدِي فِتْنَةً وَاخْتِلَافًا -أَوْ قَالَ- اخْتِلَافًا وَفِتْنَةً" فَقَالَ قَائِلٌ مِنَ النَّاسِ: فَمَنْ لَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "عَلَيْكُمْ بِالْأَمِينِ وَأَصْحَابِهِ, وَهُوَ يُشِيرُ إِلَى عُثْمَانَ بِذَلِكَ" 4.
وَلَهُ عَنْ مُرَّةَ الْبَهْزِيِّ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي طَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ الْمَدِينَةِ قَالَ: "كَيْفَ تَصْنَعُونَ فِي فِتْنَةٍ تَثُورُ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ كَأَنَّهَا صَيَاصِي الْبَقَرِ" قَالُوا: نَصْنَعُ مَاذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "عَلَيْكُمْ هَذَا وَأَصْحَابَهُ -أَوِ- اتَّبِعُوا هَذَا وَأَصْحَابَهُ" قَالَ: فَأَسْرَعْتُ حَتَّى عَيِيْتُ, فَأَدْرَكْتُ الرَّجُلَ فَقُلْتُ: هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "هَذَا" فَإِذَا هُوَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ, فَقَالَ: هَذَا وَأَصْحَابُهُ يَذْكُرُهُ1. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَوْلَا حَدِيثٌ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا تَكَلَّمْتُ. وَذَكَرَ الْفِتَنَ فَقَرَّبَهَا, فَمَرَّ رَجُلٌ مُتَقَنِّعٌ فِي ثَوْبٍ فَقَالَ: "هَذَا يَوْمَئِذٍ عَلَى الْهُدَى" فَقُمْتُ إِلَيْهِ فَإِذَا هُوَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ. فَأَقْبَلْتُ عَلَيْهِ بِوَجْهِهِ فَقُلْتُ: هَذَا؟ قَالَ: "نَعَمْ" ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَفِي الْبَابِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَوَالَةَ وَكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ2. وَرَوَى أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُمَا عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِتْنَةً فَقَرَّبَهَا وَعَظَّمَهَا, قَالَ: ثُمَّ مَرَّ رَجُلٌ مُقَنَّعٌ فِي مِلْحَفَةٍ فَقَالَ: "هَذَا يَوْمَئِذٍ عَلَى الْحَقِّ". قَالَ: فَانْطَلَقْتُ مُسْرِعًا -أَوْ مُحْضِرًا- وَأَخَذْتُ بِضَبْعَيْهِ فَقُلْتُ: هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "هَذَا" 3. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ بِإِسْنَادٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَوَالَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تَهْجُمُونَ عَلَى رَجُلٍ مُعْتَجِرٍ بِبُرْدَةٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ
يُبَايِعُ النَّاسَ" قَالَ: فَهَجَمْنَا عَلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ مُعْتَجِرًا يُبَايِعُ النَّاسَ1. وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي تُشِيرُ إِلَى خِلَافَتِهِ وَأَشْيَاءَ مِنْ فَضَائِلِهِ مَعَ ذِكْرِ صَاحِبَيْهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا, وَفِي فَضَائِلِهِ مُنْفَرِدًا وَمَعَ غَيْرِهِ مِنَ السَّابِقِينَ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ, وَفِيمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ كِفَايَةٌ. وَكَانَ الْاعْتِدَاءُ عَلَى حَيَاتِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِثَمَانِيَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ, وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً إِلَّا اثْنَيْ عَشَرَ يَوْمًا؛ لِأَنَّهُ بُويِعَ لَهُ فِي مُسْتَهَلِّ الْمُحَرَّمِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ. وَأَمَّا عُمْرُهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ قَدْ جَاوَزَ ثِنْتَيْنِ وَثَمَانِينَ سَنَةً2. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الكلام على خلافة أبي السبطين علي بن أبي طالب رضي الله عنه
خِلَافَةُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَالرَّابِعُ ابْنُ عَمِّ خَيْرِ الرُّسُلِ ... أَعْنِي الْإِمَامَ الْحَقَّ ذَا الْقَدْرِ الْعَلِيِّ مُبِيدَ كُلِّ خَارِجِيٍّ مَارِقٍ ... وَكُلِّ خَبٍّ رَافِضِيٍّ فَاسْقِ مَنْ كَانَ لِلرَّسُولِ فِي مَكَانِ ... هَارُونَ مِنْ مُوسَى بِلَا نُكْرَانِ وَلَا فِي نُبُوَّةٍ فَقَدْ قَدَّمْتُ مَا ... يَكْفِي لِمَنْ مِنْ سُوءِ ظَنٍّ سَلَّمَا "وَالرَّابِعُ" فِي الْفَضْلِ وَالْخِلَافَةِ "ابْنُ عَمِّ" مُحَمَّدٍ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "خَيْرُ الرُّسُلِ" أَكْرَمُهُمْ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ "أَعْنِي" بِذَلِكَ "الْإِمَامَ الْحَقَّ" بِالْإِجْمَاعِ بِلَا مُدَافَعَةٍ وَلَا مُمَانَعَةٍ "ذَا" صَاحِبَ "الْقَدْرِ الْعَلِيِّ" الرَّفِيعِ, وَهُوَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَبُو السِّبْطَيْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ. كَانَ أَبُو طَالِبٍ عَمَّ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَخًا شَقِيقًا لِأَبِيهِ عَبْدِ اللَّهِ وَأُمُّهُ فَاطِمَةُ بِنْتُ عَمْرٍو, كَفَلَ أَبُو طَالِبٍ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَعْدَ مَوْتِ جَدِّهِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِ سِنِينَ, وَلَمَّا بُعِثَ آوَاهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ وَحَمَاهُ, وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ, وَلِلَّهِ فِي ذَلِكَ حِكْمَةٌ, وَقَدْ حَرَصَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى هِدَايَةِ عَمِّهِ كُلَّ الْحِرْصِ, وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ حَتَّى
خَرَجَتْ رُوحُهُ وَهُوَ يَقُولُ: عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ, وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ تَعْزِيَةً لِنَبِيِّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [الْقَصَصِ: 56] وَقَالَ النَّبِيُّ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ" فَنَهَاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الِاسْتِغْفَارِ لَهُ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التَّوْبَةِ: 113] 1 الْآيَاتِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, هَلْ نَفَعْتَ أَبَا طَالِبٍ بِشَيْءٍ, فَإِنَّهُ كَانَ يَحُوطُكَ وَيَغْضَبُ لَكَ؟ قَالَ: نَعَمْ, هُوَ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ, وَلَوْلَا أَنَا لَكَانَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ" وَفِي لَفْظٍ "وَجَدْتُهُ فِي غَمَرَاتٍ مِنَ النَّارِ فَأَخْرَجْتُهُ إِلَى ضَحْضَاحٍ" 2. وَفِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذُكِرَ عِنْدَهُ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ فَقَالَ: "لَعَلَّهُ تَنْفَعُهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُجْعَلُ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ يَبْلُغُ كَعْبَيْهِ يَغْلِي مِنْهُ دِمَاغُهُ" 3. وَفِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "أَهْوَنُ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا أَبُو طَالِبٍ, وَهُوَ مُنْتَعِلٌ بِنَعْلَيْنِ يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ" 4. وَكَفَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ صَغِيرٌ, فَلَمَّا بُعِثَ آمَنَ بِهِ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِ سِنِينَ, وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ آمَنَ مِنَ الصِّبْيَانِ, كَمَا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَوَّلُ مَنْ آمَنَ بِهِ مِنْ
الرِّجَالِ, وَخَدِيجَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَوَّلُ مَنْ آمَنَ بِهِ مِنَ النِّسَاءِ, وَوَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَوَّلُ من آمن به مَنْ الشُّيُوخِ وَزَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَوَّلُ مَنْ آمَنَ بِهِ مِنَ الْمَوَالِي. وَبِلَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَوَّلُ مَنْ آمَنَ بِهِ مِنَ الْأَرِقَّاءِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَرَضِيَ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ. وَكَانَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَاحِبَ دَعْوَةِ قُرَيْشٍ حِينَ نزلت على الرسول اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشُّعَرَاءِ: 214] فَأَمَرَ عَلِيًّا أَنْ يَدْعُوَهُمْ لَهُ فَيَجْتَمِعُونَ لِلنِّذَارَةِ. وَهُوَ الَّذِي فَادَاهُ بِنَفْسِهِ فَنَامَ عَلَى فِرَاشِهِ لَيْلَةَ مَكْرِ الْمُشْرِكِينَ كَمَا قَدَّمْنَا فِي حَدِيثِ الْهِجْرَةِ. وَهُوَ الَّذِي أَدَّى الْأَمَانَاتِ عَنْهُ بَعْدَهَا. وَهُوَ الَّذِي بَرَزَ مَعَ حَمْزَةَ وَعُبَيْدَةَ لِخُصَمَائِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ وَكَانَ يَقُولُ: أَنَا أَوَّلُ مَنْ يَجْثُو لِلْخُصُومَةِ بَيْنَ يَدَيِ الرَّحْمَنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ1. وَشَهِدَ مَعَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَشَاهِدَ كُلَّهَا إِلَّا تَبُوكَ عَلَى مَا يَأْتِي. وَهُوَ صَاحِبُ عَمْرِو بْنِ وُدٍّ وَخَيْلِهِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ, وَفَتَحَ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ يَوْمَ خيبر بعد قتله فَارِسِهِمْ مَرْحَبٍ. وَكَانَ مَعَ حُمَاةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ أُحُدٍ. وَكَانَ صَاحِبَ النِّدَاءِ بِسُورَةِ بَرَاءَةٌ تَبْلِيغًا عَنِ الرَّسُولِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الْمَوْسِمِ, وَشَرِيكَهُ فِي هَدْيِهِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ, وَخَلِيفَتَهُ فِي أَهْلِهِ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ, وَصَاحِبَ تَجْهِيزِهِ حِينَ تُوُفِّيَ مَعَ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَقَدْ ثَبَتَ لَهُ فِي الْأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ وَالْحِسَانِ مِنَ الْفَضَائِلِ الْجَمَّةِ مَا فِيهِ كِفَايَةٌ وَغُنْيَةٌ عَنْ تَلْفِيقِ الرَّافِضَةِ وَخَرْطِهِمْ وَكَذِبِهِمْ عَلَيْهِ وَعَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَوْلِهِمْ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَقُلْ قَبَّحَهُمُ اللَّهُ. "مُبِيدَ" أَيْ: مُدَمِّرَ "كُلِّ خَارِجِيٍّ" نِسْبَةً إِلَى الْخُرُوجِ مِنَ الطَّاعَةِ, وَلَكِنْ صَارَ هَذَا الِاسْمُ عَلَمًا عَلَى الْحَرُورِيَّةِ الَّذِينَ كَفَّرُوا أَهْلَ الْقِبْلَةِ وَالْمَعَاصِي وَحَكَمُوا بِتَخْلِيدِهِمْ فِي النَّارِ بِذَلِكَ, وَاسْتَحَلُّوا دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ, حَتَّى الصَّحَابَةَ مِنَ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ وَغَيْرِهِمْ, حَتَّى عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَعَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ
وَخَبَّابَ وَأَقْرَانَهُمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ, ثُمَّ صَارَ هَذَا الِاسْمُ عَامًا لِكُلِّ مَنِ اتَّبَعَ مَذْهَبَهُمُ الفاسد وسلك طريقهم الْخَائِبَةَ. وَكُلُّ ذَنْبٍ يُكَفِّرُونَ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ فَهُوَ تَكْفِيرٌ لِأَنْفُسِهِمْ مِنْ وُجُوهٍ عَدِيدَةٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ: فَمِنْهَا أَنَّ تَكْفِيرَ الْمُؤْمِنِ إِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ كَفَرَ فَاعِلُهُ كَمَا فِي الْحَدِيثِ "أَيُّمَا امْرِئٍ قَالَ لِأَخِيهِ: يَا كَافِرُ, فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا إِنْ كَانَ كَمَا قَالَ, وَإِلَّا رَجَعَتْ عَلَيْهِ" 1. وَمِنْهَا أَنَّ مِنْ أَكْبَرَ الْكَبَائِرِ الَّتِي يُكَفِّرُونَ بِهَا الْمُؤْمِنِينَ قَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَهُمْ أَسْرَعُ النَّاسِ فِي ذَلِكَ يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِيمَانِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ. وَمِنْهَا أَنَّ الْمُؤْمِنَ وَإِنْ عَمِلَ الْمَعَاصِي فَهُوَ لَا يَسْتَحِلُّهَا وَإِنَّمَا يَقَعُ فِيهَا لِغَلَبَةِ نَفْسِهِ إِيَّاهُ وَتَسْوِيلِ شَيْطَانِهِ لَهُ وَهُوَ مُقِرٌّ بِتَحْرِيمِهَا وَبِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْحُدُودِ الشَّرْعِيَّةِ فِيمَا ارْتَكَبَهُ, وَهُمْ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ قَتْلَهَا إِلَّا بِالْحَقِّ, وَيَأْخُذُونَ الْأَمْوَالَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ أَخَذَهَا إِلَّا بِالْحَقِّ, وَيَفْعَلُونَ الْأَفَاعِيلَ الْقَبِيحَةَ مُسْتَحِلِّينَ لَهَا, وَالَّذِي يَعْمَلُ الْكَبِيرَةَ مُسْتَحِلًّا لَهَا أَوْلَى بِالْكُفْرِ مِمَّنْ يَعْمَلُهَا مُقِرًّا بِتَحْرِيمِهَا بَلْ لَا مُخَالِفَ فِي ذَلِكَ إِذْ هُوَ تَكْذِيبٌ بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ رُسُلَهُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ, وَإِنَّمَا تَوَقَّفَ الصَّحَابَةُ عَنْ تَكْفِيرِ أَهْلِ النَّهْرَوَانِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَأَوَّلُونَ فَحَكَمُوا أَنَّهُمْ بُغَاةٌ. "مَارِقٍ" اسْمُ فَاعِلٍ مِنَ الْمُرُوقِ وَهُوَ الْخُرُوجُ مِنْ جَانِبٍ غَيْرِ مَقْصُودٍ الْخُرُوجُ مِنْهُ, وَسُمِّيَ الْخَوَارِجُ "مَارِقَةً" لِقَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيهِمْ: "يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ" وَقَوْلُهُ: "تَمْرُقُ مَارِقَةٌ"2 الْحَدِيثَ. فَفِي الصَّحِيحِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَتَى رَجُلٌ
رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالْجِعْرَانَةِ مُنْصَرَفَهُ مِنْ حُنَيْنٍ, وَفِي ثَوْبِ بِلَالٍ فِضَّةٌ, وَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقْبِضُ مِنْهَا وَيُعْطِي النَّاسَ, فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ اعْدِلْ, قَالَ: "وَيْلَكَ وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ؟ لَقَدْ خِبْتَ وَخَسِرْتَ إِنْ لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ". فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: دَعْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَقْتُلُ هَذَا الْمُنَافِقَ, فَقَالَ: "مَعَاذَ اللَّهُ أَنْ يَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَنِّي أَقْتُلُ أَصْحَابِي, إِنَّ هَذَا وَأَصْحَابَهُ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ, يَمْرُقُونَ مِنْهُ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ" 1. وَفِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ في قصة الذهبية: فَجَاءَ رَجُلٌ كَثُّ اللِّحْيَةِ مُشْرِفُ الْوَجْنَتَيْنِ غَائِرُ الْعَيْنَيْنِ نَاتِئُ الْجَبِينِ مَحْلُوقُ الرَّأْسِ فَقَالَ: اتَّقِ اللَّهَ يَا مُحَمَّدُ, قَالَ: فَقَالَ رَسُولَ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ إِنْ عَصَيْتُهُ؟ أَيَأْمَنُنِي عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ وَلَا تَأْمَنُونِي! " قَالَ: ثُمَّ أَدْبَرَ الرَّجُلُ, فَاسْتَأْذَنَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ فِي قَتْلِهِ -يَرَوْنَ أَنَّهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ- فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا قَوْمًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ, يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ, يَمْرُقُونَ مِنَ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ, لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لَأَقْتُلَهُمْ قَتْلَ عَادٍ" وَفِي لَفْظٍ "ثَمُودَ"2 وَفِي لَفْظٍ: فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لِي فِيهِ أَضْرِبُ عُنُقَهُ, قَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "دَعْهُ فَإِنَّ لَهُ أَصْحَابًا يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ, يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ, يَمْرُقُونَ مِنَ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ, يُنْظَرُ إِلَى نَصْلِهِ فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ, ثُمَّ يُنْظَرُ إِلَى نَضِيِّهِ فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ وَهُوَ الْقِدْحُ, ثُمَّ يُنْظَرُ إِلَى قُذَذِهِ فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ, سَبَقَ الْفَرْثَ وَالدَّمَ, آيَتُهُمْ رَجُلٌ أَسْوَدُ إِحْدَى عَضُدَيْهِ مِثْلَ ثَدْيِ الْمَرْأَةِ أَوْ مِثْلُ الْبَضْعَةِ تَدَرْدَرُ, يَخْرُجُونَ عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ مِنَ النَّاسِ". قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَأَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتُ
هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَشْهَدُ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَاتَلَهُمْ وَأَنَا مَعَهُ, فَأَمَرَ بِذَلِكَ فَالْتُمِسَ فَوُجِدَ, فَأُتِيَ بِهِ حَتَّى نَظَرْتُ إِلَيْهِ عَلَى نَعْتِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الَّذِي نَعَتَ1. وَفِيهِ عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذَكَرَ قَوْمًا يَكُونُونَ فِي أُمَّتِهِ يَخْرُجُونَ فِي فِرْقَةٍ مِنَ النَّاسِ سِيمَاهُمُ التَّحَالُقُ قَالَ: "هُمْ شَرُّ الْخَلْقِ, أَوْ مِنْ أَشَرِّ الْخَلْقِ, يَقْتُلُهُمْ أَدْنَى الطَّائِفَتَيْنِ إِلَى الْحَقِّ" قَالَ: فَضَرَبَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَهُمْ مَثَلًا -أَوْ قَالَ قَوْلًا- الرَّجُلُ يَرْمِي الرَّمِيَّةَ أَوْ قَالَ الْفُوقَ فَيَنْظُرُ فِي النَّصْلِ فَلَا يَرَى بَصِيرَةً, وَيَنْظُرُ فِي النَّضِيِّ فَلَا يَرَى بَصِيرَةً, وَيَنْظُرُ فِي الْفُوقِ فَلَا يَرَى بَصِيرَةً. قَالَ: قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: وَأَنْتُمْ قَتَلْتُمُوهُمْ يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ1. وَفِيهِ عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تَمْرُقُ مَارِقَةٌ عِنْدَ فِرْقَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَقْتُلُهَا أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ" 3. وَفِي رِوَايَةٍ "يَكُونُ فِي أُمَّتِي فِرْقَتَانِ فَتَخْرُجُ مِنْ بَيْنِهِمَا مَارِقَةٌ يَلِي قَتْلَهُمْ أُولَاهُمْ بِالْحَقِّ" 4. وَفِي لَفْظٍ قَالَ: قَالَ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تَمْرُقُ مَارِقَةٌ فِي فِرْقَةٍ مِنَ النَّاسِ, فَيَلِي قَتْلَهُمْ أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ" 5. وَفِي رِوَايَةٍ "يَخْرُجُونَ عَلَى فِرْقَةٍ مُخْتَلِفَةٍ, يَقْتُلُهُمْ أَقْرَبُ الطَّائِفَتَيْنِ مِنَ الْحَقِّ" 6. وَفِيهِ عَنْ سُوَيْدِ بْنِ غَفْلَةَ قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "إِذَا حَدَّثَتْكُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلَأَنْ أَخِرَّ مِنَ السَّمَاءِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَقُولَ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَقُلْ, وَإِذَا
حَدَّثْتُكُمْ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ فَإِنَّ الْحَرْبَ خُدْعَةٌ. سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "سَيَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ أَحْدَاثُ الْأَسْنَانِ سُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ, يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ, يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ, يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ, فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ, فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا لِمَنْ قَتَلَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" 1. وَفِيهِ عَنْ عُبَيْدَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: ذَكَرَ الْخَوَارِجَ فَقَالَ: فِيهِمْ رَجُلٌ مُخْدَجُ الْيَدِ -أَوْ مُودَنُ الْيَدِ, أَوْ مَوْدُونُ الْيَدِ- لَوْلَا أَنْ تَطَرُوا لَحَدَّثْتُكُمْ بِمَا وَعَدَ اللَّهُ تَعَالَى الَّذِينَ يَقْتُلُونَهُمْ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: قُلْتُ: أَنْتَ سَمِعْتَ مِنْ مُحَمَّدٍ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: إِي وَرَبِّ الْكَعْبَةِ, إِي وَرَبِّ الْكَعْبَةِ, إِي وَرَبِّ الْكَعْبَةِ2. وَفِيهِ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّهُ كَانَ فِي الْجَيْشِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الَّذِينَ سَارُوا إِلَى الْخَوَارِجِ, فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "يَخْرُجُ قَوْمٌ مِنْ أُمَّتِي يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَيْسَ قِرَاءَتُكُمْ إِلَى قِرَاءَتِهِمْ بِشَيْءٍ, وَلَا صَلَاتُكُمْ إِلَى صَلَاتِهِمْ بِشَيْءٍ, وَلَا صِيَامُكُمْ إِلَى صِيَامِهِمْ بِشَيْءٍ, يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ يَحْسَبُونَهُ أَنَّهُ لَهُمْ وَهُوَ عَلَيْهِمْ, لَا تُجَاوِزُ صَلَاتُهُمْ تَرَاقِيَهُمْ, يَمْرُقُونَ مِنَ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ, لَوْ يَعْلَمُ الْجَيْشُ الَّذِينَ يُصِيبُونَهُمْ مَا قُضِيَ لَهُمْ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِمْ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَاتَّكَلُوا عَنِ الْعَمَلِ, وَآيَةُ ذَلِكَ أَنَّ فِيهِمْ رَجُلًا لَهُ عَضُدٌ وَلَيْسَ لَهُ ذِرَاعٌ, عَلَى رَأْسِ عَضُدِهِ مِثْلُ حَلَمَةِ الثَّدْيِ, عَلَيْهِ شَعَرَاتٌ بِيضٌ" فَتَذْهَبُونَ إِلَى مُعَاوِيَةَ وَأَهْلِ الشَّامِ وَتَتْرُكُونَ هَؤُلَاءِ يَخْلُفُونَكُمْ فِي ذَرَارِيِّكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ؟ وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْجُو أن يكونوا هؤلاءالقوم فَإِنَّهُمْ قَدْ سَفَكُوا الدَّمَ الْحَرَامَ, وَأَغَارُوا فِي سَرْحِ النَّاسِ, فَسِيرُوا عَلَى اسْمِ اللَّهِ" قَالَ سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ: فَنَزَّلَنِي زَيْدُ بْنُ وَهْبٍ مَنْزِلًا حَتَّى مَرَرْنَا عَلَى قَنْطَرَةٍ فَلَمَّا الْتَقَيْنَا وَعَلَى الْخَوَارِجِ
يَوْمَئِذٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ الرَّاسِبِيُّ فَقَالَ لَهُمْ: أَلْقُوا الرِّمَاحَ وَسُلُّوا سُيُوفَكُمْ مِنْ جُفُونِهَا فإني أخاف أنا يُنَاشِدُوكُمْ كَمَا نَاشَدُوكُمْ يَوْمَ حَرُورَاءَ, فَرَجَعُوا فَوَحَّشُوا بِرِمَاحِهِمْ وَسَلُّوا السُّيُوفَ وَشَجَرَهُمُ النَّاسُ بِرِمَاحِهِمْ, قَالَ: وَقُتِلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ, وَمَا أُصِيبَ مِنَ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ إِلَّا رَجُلَانِ. قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الْتَمِسُوا فِيهِمُ الْمُخْدَجَ فَالْتَمَسُوهُ فَلَمْ يَجِدُوهُ, فَقَامَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِنَفْسِهِ حَتَّى أَتَى نَاسًا قَدْ قُتِلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ, قَالَ: أَخِّرُوهُمْ. فَوَجَدُوهُ مِمَّا يَلِي الْأَرْضَ فَكَبَّرَ ثُمَّ قَالَ: صَدَقَ اللَّهُ وَبَلَّغَ رَسُولُهُ, قَالَ فَقَامَ إِلَيْهِ عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ, اللَّهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَسَمِعْتَ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ: أَيْ وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ. حَتَّى اسْتَحْلَفَهُ ثَلَاثًا وَهُوَ يَحْلِفُ لَهُ1. وَفِيهِ عن عبيد الله بْنِ أَبِي رَافِعٍ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّ الْحَرُورِيَّةَ لَمَّا خَرَجَتْ وَهُوَ مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالُوا: لَا حُكْمَ إِلَّا لِلَّهِ, قَالَ عَلِيٌّ: كَلِمَةُ حَقٍّ أُرِيدَ بِهَا بَاطِلٌ. إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَصَفَ لَنَا وَإِنِّي لَأَعْرِفُ صِفَتَهُمْ فِي هَؤُلَاءِ, يَقُولُونَ الْحَقَّ بِأَلْسِنَتِهِمْ وَلَا يَجُوزُ هَذَا مِنْهُمْ -وَأَشَارَ إِلَى حَلْقِهِ- مِنْ أَبْغَضِ خَلْقِ اللَّهِ إِلَيْهِ, مِنْهُمْ أَسْوَدُ إِحْدَى يَدَيْهِ طُبْيُ شَاةٍ أَوْ حَلَمَةُ ثَدْيٍ. فَلَمَّا قَتَلَهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: انْظُرُوا, فَنَظَرُوا فَلَمْ يَجِدُوا شَيْئًا, فَقَالَ: ارْجِعُوا فَوَاللَّهِ مَا كَذَبْتُ وَلَا كُذِبْتُ. مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا. ثُمَّ وَجَدُوهُ فِي خَرِبَةٍ فَأَتَوْا بِهِ حَتَّى وَضَعُوهُ بَيْنَ يَدَيْهِ, قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: وَأَنَا حَاضِرُ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِمْ, وَقَوْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيهِمْ2. وَفِيهِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ بَعْدِي مِنْ أُمَّتِي قَوْمًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَلَاقِيمَهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَخْرُجُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ ثُمَّ لَا يَعُودُونَ فِيهِ, هُمْ شَرُّ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ" 3 وَمِثْلُهُ عَنْ رَافِعِ بْنِ عُمَرَ الْغِفَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ4.
وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ, وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "سَيَكُونُ فِي أُمَّتِي اخْتِلَافٌ وَفُرْقَةٌ, قَوْمٌ يُحِبُّونَ الْقَتْلَ وَيُسِيئُونَ الْفِعْلَ, يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ, يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ, لَا يَرْجِعُونَ حَتَّى يَرْتَدَّ عَلَى فُوقِهِ, هُمْ شَرُّ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ, طُوبَى لِمَنْ قَتَلَهُمْ وَقَتَلُوهُ, يَدْعُونَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَلَيْسُوا مِنْهُ فِي شَيْءٍ, مَنْ قَاتَلَهُمْ كَانَ أَوْلَى بِاللَّهِ مِنْهُمْ" قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا سِيمَاهُمُ؟ قَالَ: "التَّحْلِيقُ"1. وَلَهُ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "سِيمَاهُمُ التَّحْلِيقُ وَالتَّسْبِيدُ, فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمْ فَأَيْتِمُوهُمْ" 2 قَالَ أَبُو دَاوُدَ: التَّسْبِيدُ اسْتِئْصَالُ الشَّعْرِ. وَالْأَحَادِيثُ فِي ذَمِّ الْخَوَارِجِ وَالْأَمْرِ بِقِتَالِهِمْ وَالثَّنَاءِ عَلَى مُقَاتِلِيهِمْ كَثِيرَةٌ جِدًّا وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ كِفَايَةٌ. "وَ" مُبِيدَ "كُلِّ خَبٍّ رَافِضِيٍّ فَاسِقٍ" الْخَبُّ الْخَدَّاعُ الْخَائِنُ, وَالرَّافِضِيُّ نِسْبَةٌ إِلَى الرَّفْضِ وَهُوَ التَّرْكُ بِازْدِرَاءٍ وَاسْتِهَانَةٍ, سُمُّوا بِذَلِكَ لِرَفْضِهِمُ الشَّيْخَيْنِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا3, وَزَعَمُوا أَنَّهُمَا ظَلَمَا عَلِيًّا وَاغْتَصَبُوهُ الْخِلَافَةَ وَمَنَعُوا فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَدَكَ, وَبِذَلِكَ يَحُطُّونَ عَلَيْهِمَا ثُمَّ عَلَى عَائِشَةَ ثُمَّ عَلَى غَيْرِهَا مِنَ الصَّحَابَةِ. وَهُمْ أَقْسَامٌ كَثِيرَةٌ لَا كَثَّرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى, أَعْظَمَهُمْ غُلُوًّا وَأَسْوَأَهُمْ قَوْلًا وَأَخْبَثَهُمُ اعْتِقَادًا بَلْ وَأَخْبَثَ مِنَ الْيَهُودِ والنصارى هم السبئية أَتْبَاعُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَبَأٍ الْيَهُودِيِّ قَبَّحَهُ اللَّهُ, كَانُوا يَعْتَقِدُونَ فِي عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْإِلَهِيَّةَ كَمَا يَعْتَقِدُ النَّصَارَى فِي عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ, وَهُمُ الَّذِينَ أَحْرَقَهُمْ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالنَّارِ, وَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ كَمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَالْمُسْنَدِ وَأَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ
عَنْ عِكْرِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: أُتِيَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِزَنَادِقَةٍ فَأَحْرَقَهُمْ, فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ: لَوْ كُنْتُ أَنَا لَمْ أَحْرِقْهُمْ لِنَهِيِ رَسُولِ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ" وَلَقَتَلْتُهُمْ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ" 1. حُكِيَ عَنْ أبي المظفر الإسفريني فِي الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ أَنَّ الَّذِينَ أَحْرَقَهُمْ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ طَائِفَةٌ مِنَ الرَّوَافِضِ ادَّعُوَا فِيهِ الْإِلَهِيَّةَ وَهُمُ السَّبَئِيَّةُ وَكَانَ كَبِيرُهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَبَأٍ يَهُودِيًّا, ثُمَّ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ وَابْتَدَعَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ. وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ فِي الْفَتْحِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَرِيكٍ الْعَامِرِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قِيلَ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إن هنا قوم عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ يَزْعُمُونَ أَنَّكَ رَبَّهُمْ, فَدَعَاهُمْ فَقَالَ لَهُمْ: وَيْلَكُمُ مَا تَقُولُونَ؟ قَالُوا: أَنْتَ رَبُّنَا وَخَالِقُنَا وَرَازِقُنَا قَالَ: وَيْلَكُمْ إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ مِثْلُكُمْ آكُلُ الطَّعَامَ كَمَا تَأْكُلُونَ وَأَشْرَبُ كَمَا تَشْرَبُونَ, إِنْ أَطَعْتُ اللَّهَ أَثَابَنِي إِنْ شَاءَ وَإِنْ عَصَيْتَهُ خَشِيْتُ أَنْ يُعَذِّبَنِي, فَاتَّقُوا اللَّهَ وَارْجِعُوا, فَأَبَوْا. فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ غَدَوْا عَلَيْهِ فَجَاءَ قَنْبَرٌ فَقَالَ: قَدْ وَاللَّهِ رَجَعُوا يَقُولُونَ ذَلِكَ الْكَلَامَ. فَقَالَ: أَدْخِلْهُمْ. فَقَالُوا: كَذَلِكَ, فَلَمَّا كَانَ الثَّالِثُ قَالَ: لَئِنْ قُلْتُمْ ذَلِكَ لَأَقْتُلَنَّكُمْ بِأَخْبَثِ قِتْلَةٍ. فَأَبَوْا إِلَّا ذَلِكَ, فَأَمَرَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يَخُدَّ لَهُمْ أُخْدُودٌ بَيْنَ الْمَسْجِدِ وَالْقَصْرِ, وَأَمَرَ بِالْحَطَبِ أَنْ يُطْرَحَ فِي الْأُخْدُودِ وَيُضْرَمَ بِالنَّارِ ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: إِنِّي طَارِحُكُمْ فِيهَا أَوْ تَرْجِعُوا. فَأَبَوْا أَنْ يَرْجِعُوا, فَقَذَفَ بِهِمْ حَتَّى إِذَا احْتَرَقُوا قَالَ: إِنِّي إِذَا رَأَيْتُ أَمْرًا مُنْكَرَا ... أَوْقَدْتُ نَارِي وَدَعَوْتُ قَنْبَرَا قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حُجْرٍ: إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ2.
وَمِنْهُمْ طَائِفَةٌ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا عَلِيٌّ, وَهُمُ النُّصَيْرِيَّةُ الَّذِينَ يَقُولُ شَاعِرُهُمُ الْمَلْعُونُ قَبَّحَهُ اللَّهُ: أَشْهَدُ أَلَا إِلَهَ إِلَّا ... حَيْدَرَةُ الْأَذْرُعُ الْبَطِينْ وَلَا سَبِيلَ إِلَيْهِ إِلَّا ... مُحَمَّدٌ الصَّادِقُ الْأَمِينْ وَلَا حِجَابَ عَلَيْهِ إِلَّا ... سَلْمَانُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينْ ومنهم مَنْ يَدَّعِي فِيهِ الرِّسَالَةَ وَأَنَّ جِبْرِيلَ خَانَهَا فَنَزَلَ بِهَا عَلَى مُحَمَّدٍ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَدَّعِي فِيهِ الْعِصْمَةَ, وَيَرَى خِلَافَةَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ بَاطِلَةٌ, وَيَشْتُمُونَ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ وَعَائِشَةَ وَيَرْمُونَهَا بِمَا رَمَاهَا بِهِ ابْنُ سَلُولٍ قَبَّحَهُمُ اللَّهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَدَّعِي أَنَّهُ رُفِعَ إِلَى السَّمَاءِ كَمَا رُفِعَ عِيسَى وَسَيَنْزِلُ كَمَا يَنْزِلُ عِيسَى وَهُمْ أَصْحَابُ الرَّجْعَةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَدَّعِي أَنَّهُ وَصَّى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِأُمَّتِهِ, وَأَنَّهُ عَهِدَ إِلَيْهِ مَا يَعْهَدُهُ إِلَى غَيْرِهِ وَبَلَّغَهُ مَا كَتَمَهُ النَّاسَ, وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ فِرَقِهِمُ الضَّالَّةِ وَشِيَعِهِمُ الْخَاطِئَةِ. وَأَمَّا الزَّيْدِيَّةُ الَّذِينَ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ وَأَتْبَاعِهِ فَهَؤُلَاءِ لَا يَشْتُمُونَ الشَّيْخَيْنِ وَلَا عَائِشَةَ وَلَا سَائِرِ الْعَشْرَةِ2, وَلَكِنَّهُمْ يُفَضِّلُونَ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَيُقَدِّمُونَهُ فِي الخلافة ثم أبو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرَ ثُمَّ يَسْكُتُونَ عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَيَحُطُّونَ عَلَى مُعَاوِيَةَ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ. هَذَا الذي وقفنا عليه فِي بَعْضِ رَسَائِلِهِمْ, ثُمَّ رَأَيْتُ فِي بَعْضِهَا السُّكُوتَ عَنْ
أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ, فَلَا يَذْكُرُونَهُمَا بِخَيْرٍ وَلَا شَرٍّ, وَلَا بِخِلَافَةٍ وَلَا غَيْرِهَا, ثُمَّ يَحْصُرُونَ الْخِلَافَةَ فِي عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَذُرِّيَّتِهِ, فَفِرْقَةٌ تَدَّعِي عِصْمَتَهُمْ, وَأُخْرَى لَا تَدَّعِي ذَلِكَ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُمْ فِرَقٌ كَثِيرَةٌ مُتَفَاوِتُونَ فِي أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ وَاعْتِقَادَاتِهِمْ وَأَخَفُّهُمْ بِدْعَةً الزَّيْدِيَّةُ. هَذَا في شأن أهل الْبَيْتِ طَهَّرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى, وَأَمَّا فِي مَسْأَلَةِ الصِّفَاتِ وَالْقُرْآنِ وَالْقَدَرِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَسَائِرِ الْمُعْتَقَدَاتِ فَقَدْ دَهَى كُلَّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ مَا دُهِيَ غَيْرُهُمْ مِنَ النَّاسِ, وَلَكِنَّ الْمَشْهُورَ مِنْ غَالِبِهِمُ الِاعْتِزَالُ وَاعْتِمَادُهُمْ كُتُبَ الْعَلَّافِ وَالْجِبَائِيِّ وَأَشْبَاهِهِ1. وَالزَّيْدِيَّةُ عُمْدَتُهُمْ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ كَشَّافُ الزَّمَخْشَرِيِّ وَقَدْ شَحَنَهُ بِقَوْلِ الْقَدَرِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ, وَهُمْ أَخَفُّ وَأَهْوَنُ مِمَّنْ يَكْفُرُ بِكَثِيرٍ مِنَ الْقُرْآنِ بِالْكُلِّيَّةِ نَعُوذُ بِاللَّهِ, وَمَحَلُّ بَسْطِ مَقَالَاتِهِمْ وَفَرِقِ ضَلَالَاتِهِمْ كُتُبُ الْمَقَالَاتِ. هَذَا وَقَدْ قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي تَفْضِيلِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَا قَدَّمْنَاهُ فِي الصَّحِيحِ, وَفِي كِتَابِ السُّنَّةِ عَنْ عَلْقَمَةَ فِي خُطْبَةِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى مِنْبَرِ الْكُوفَةِ: أَلَا إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ قَوْمًا يُفَضِّلُونَنِي عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا, وَلَوْ كُنْتُ تَقَدَّمْتُ فِي ذَلِكَ لَعَاقَبْتُ فِيهِ, وَلَكِنْ أَكْرَهُ الْعُقُوبَةَ قَبْلَ التَّقَدُّمِ. مَنْ قَالَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ مُفْتَرٍ, عَلَيْهِ مَا عَلَى الْمُفْتَرِي. وَخَيْرُ النَّاسِ كَانَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ ثُمَّ أَحْدَثْنَا بَعْدَهُمْ أَحْدَاثًا يَقْضِي اللَّهُ فِيهَا مَا شَاءَ2. وَهَذَا الْكَلَامُ مَشْهُورٌ عَنْهُ مِنْ طُرُقٍ لَا تُحْصَى؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ كَانَ يَجْهَرُ بِهِ وَيُظْهِرُهُ فِي الْمَحَافِلِ وَعَلَى الْمَنَابِرِ, وَيَذُمُّ الرَّافِضَةَ كَثِيرًا3, وَقَدْ جَلَدَ مَنْ قِيلَ لَهُ إِنَّهُ تَكَلَّمَ فِي عِرْضِ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا, جَلَدَهُ مِائَةً وَكَانَ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَلَى الرَّافِضَةِ وَأَسْطَاهُمْ بِهِمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
"مَنْ كَانَ" بِمَعْنَى صَارَ "لِلرَّسُولِ" صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "فِي مَكَانِ" أَيْ: مَنْزِلَةِ "هَارُونَ مِنْ مُوسَى" عَلَيْهِمَا السَّلَامُ فِي الِاسْتِخْلَافِ, فَمُوسَى اسْتَخْلَفَ هَارُونَ فِي مُدَّةِ الْمِيعَادِ, وَمُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اسْتَخْلَفَ عَلِيًّا فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ, فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى؟ " 1. وَفِيهَا مِنْ رِوَايَةِ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَرَجَ إِلَى تَبُوكَ وَاسْتَخْلَفَ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ, فَقَالَ: أَتَخْلُفْنِي فِي الصِّبْيَانِ وَالنِّسَاءِ؟ قَالَ: "أَلَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى, إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ بِنَبِيٍّ بَعْدِي" 2 هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ يُزِيلُ الْإِشْكَالَ مِنَ الرِّوَايَةِ الْأَوْلَى, وَيُخَصِّصُ عُمُومَ الْمَنْزِلَةِ بِخُصُوصِ الْأُخُوَّةِ وَالِاسْتِخْلَافِ فِي أَهْلِهِ فَقَطْ لَا فِي النُّبُوَّةِ كَمُشَارَكَةِ هَارُونَ لِمُوسَى فِيهَا إِذْ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لِمُوسَى: {اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} [طه: 31] وَقَالَ لَهُمَا: {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشُّعَرَاءِ: 16] وَلِهَذَا قُلْنَا: فِي الْمَتْنِ "لَا فِي نُبُوَّةٍ" لِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى فِيهَا, فَلَا تَتَوَهَّمْ ذَلِكَ مِنَ اقْتِصَارِي عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى, "فَقَدْ قَدَّمْتُ" فِي فَصْلِ النُّبُوَّةِ "مَا يَكْفِي" فِي هَذَا الْبَابِ "لِمَنْ مِنْ سُوءِ ظَنٍّ" بِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ "سَلَّمَا" وَهُوَ قَوْلِي: وَكُلُّ مَنْ مِنْ بَعْدِهِ قَدِ ادَّعَى ... نُبُوَّةً فَكَاذِبٌ فِيمَا ادَّعَى وَمَا بَعْدَهُ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الْحَجِّ: 19] عَنْ قَيْسِ بْنِ عَدِيٍّ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُقْسِمُ فِيهَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي حَمْزَةَ وَصَاحِبَيْهِ وَعُتْبَةَ وَصَاحِبَيْهِ, بَرَزُوا فِي يَوْمِ بَدْرٍ3.
وَفِيهِمَا عَنْهُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: أَنَا أَوَّلُ مَنْ يَجْثُو بَيْنَ يَدَيِ الرَّحْمَنِ لِلْخُصُومَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. قَالَ قَيْسٌ: وَفِيهِمْ نَزَلَتْ {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الْحَجِّ: 19] قَالَ: هُمُ الَّذِينَ بَارَزُوا يَوْمَ بَدْرٍ عَلِيٌّ وَحَمْزَةُ وَعُبَيْدَةُ, وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وَعُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وَالْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ1. وَفِيهِمَا عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ يَوْمَ خَيْبَرَ: "لَأُعْطِيَنَّ هَذِهِ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلًا يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ, يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ, وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ" قَالَ: فبات الناس يدوكون لَيْلَتَهُمْ أَيُّهُمْ يُعْطَاهَا, فَلَمَّا أَصْبَحَ النَّاسُ غَدَوْا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كُلُّهُمْ يَرْجُو أَنْ يُعْطَاهَا. فَقَالَ: "أَيْنَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ؟ " فَقِيلَ: هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ يَشْتَكِي عَيْنَيْهِ. قَالَ: "فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ". فَأْتِي بِهِ فَبَصَقَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي عَيْنَيْهِ وَدَعَا لَهُ فَبَرَأَ حَتَّى كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ وَجَعٌ, فَأَعْطَاهُ الرَّايَةَ, فَقَالَ عَلَيٌّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أُقَاتِلُهُمْ حَتَّى يَكُونُوا مِثْلَنَا. فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ, ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ, فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ" 2. وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ نَحْوُهُ مُخْتَصَرًا, وَنَحْوُهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَيْضًا. وَفِيهِمَا عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ فَقَالَ: هَذَا فُلَانٌ لِأَمِيرِ الْمَدِينَةِ يَدْعُو عَلِيًّا عِنْدَ الْمِنْبَرِ. قَالَ: مَاذَا يَقُولُ لَهُ؟ قَالَ: يَقُولُ أَبُو تُرَابٍ؟ فَضَحِكَ وَقَالَ: وَاللَّهِ مَا سَمَّاهُ إِلَّا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَمَا كَانَ لَهُ اسْمٌ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْهُ, فَاسْتَطْعَمْتُ الْحَلِيبَ سَهْلًا وَقُلْتُ: يَا أَبَا الْعَبَّاسِ كَيْفَ؟ قَالَ: دَخَلَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ عَلَى فَاطِمَةَ, ثُمَّ خَرَجَ فَاضْطَجَعَ فِي الْمَسْجِدِ, فَقَالَ النَّبِيُّ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَيْنَ ابْنُ عَمِّكِ؟ " قَالَتْ: فِي الْمَسْجِدِ. فَخَرَجَ إِلَيْهِ فَوَجَدَ رِدَاءَهُ قَدْ سَقَطَ عَنْ ظَهْرِهِ, وَخَلَصَ إِلَى ظَهْرِهِ, فَجَعَلَ يَمْسَحُ التُّرَابَ عَنْ ظَهْرِهِ, فَيَقُولُ: "اجْلِسْ يَا أَبَا تُرَابٍ مَرَّتَيْنِ" 1. وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: اسْتُعْمِلَ عَلَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ مِنْ آلِ مَرْوَانَ, قَالَ: فَدَعَا سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ فَأَمَرَهُ أَنْ يَشْتُمَ عَلِيًّا. قَالَ: فَأَبَى سَهْلٌ. فَقَالَ لَهُ: أَمَّا إِذَا أَبَيْتَ فَقُلْ لَعَنَ اللَّهُ أَبَا تُرَابٍ, فَقَالَ سَهْلٌ: مَا كَانَ لَعَلِيٍّ اسْمٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ أَبِي تُرَابٍ, وَإِنْ كَانَ لَيَفْرَحُ إِذَا دُعِيَ بِهِ. فَقَالَ لَهُ: أَخْبِرْنَا عَنْ قِصَّتِهِ أَسُمِّيَ أَبَا تُرَابٍ فَذَكَرَهُ"2. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عُبَيْدَةَ قَالَ: "جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَسَأَلَهُ عَنْ عُثْمَانَ, فَذَكَرَ مِنْ مَحَاسِنِ عَمَلِهِ وَقَالَ لَعَلَّ ذَلِكَ يَسُوءُكَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَأَرْغَمَ اللَّهُ بِأَنْفِكَ. ثُمَّ سَأَلَهُ عَنْ عَلِيٍّ فَذَكَرَ مَحَاسِنَ عَمَلِهِ وَقَالَ هُوَ ذَاكَ بَيْتُهُ أَوْسَطُ بُيُوتِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثُمَّ قَالَ: لَعَلَّ ذَاكَ يَسُوءُكَ؟ قَالَ: أَجَلْ. قَالَ: فَأَرْغَمَ اللَّهُ بِأَنْفِكَ, انْطَلِقْ وَأَجْهَدْ عَلَيَّ جَهْدَكَ3. وَفِيهِمَا عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلَامُ شَكَتْ مَا تَلْقَى مِنْ أَثَرِ الرَّحَى, فَأَتَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَبْيٌ, فَانْطَلَقَتْ فَلَمْ تَجِدْهُ فَوَجَدَتْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَأَخْبَرَتْهَا, فَلَمَّا جَاءَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَيْنَا وَقَدْ أَخَذْنَا مَضَاجِعَنَا فَذَهَبْتُ لِأَقْوَمَ, فَقَالَ: "عَلَى مَكَانِكُمَا" فَقَعَدَ بَيْنَنَا حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ قَدَمِيهِ عَلَى صَدْرِي وَقَالَ: "أَلَا أُعْلِّمُكُمَا خَيْرًا مِمَّا سَأَلْتُمَانِي؟ إِذَا أَخَذْتُمَا مَضَاجِعَكُمَا تُكَبِّرَانِ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ وَتَسْبَحَانِ ثَلَاثًا
وَثَلَاثِينَ وَتَحْمَدَانِ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمَا مِنْ خَادِمٍ" 1. وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ عُبَيْدَةَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "اقْضُوا كَمَا كُنْتُمْ تَقْضُونَ, فَإِنِّي أَكْرَهُ الِاخْتِلَافَ حَتَّى يَكُونَ النَّاسُ جَمَاعَةً أَوْ أَمُوتُ كَمَا مَاتَ أَصْحَابِي. فَكَانَ ابْنُ سِيرِينَ يَرَى أَنَّ عَامَّةَ مَا يُرْوَى عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْكَذِبَ" 2. قُلْتُ: وَأَكْثَرُ مَا يَكْذِبُ عَلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الرَّافِضَةُ الَّذِينَ يَدَّعُونَ مُشَايَعَتَهُ وَنَشْرَ فَضَائِلِهِ وَمَثَالِبِ غَيْرِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ, فَيُسْنِدُونَ ذَلِكَ إِلَيْهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ بَرِيءٌ مِنْهُمْ, وَهُمْ أَعْدَى عَدُوٌّ لَهُ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ طُرُقٍ عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تَكْذِبُوا عَلَيَّ فَإِنَّهُ مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ فَلْيَلِجِ النَّارَ" 3. وَفِي فَضَائِلِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ وَالْحِسَانِ مَا يُغْنِي عَنْ أَكَاذِيبِ الرَّافِضَةِ, وَهُمْ يَجْهَلُونَ غَالِبَ مَا لَهُ مِنَ الْفَضَائِلِ فِيهَا. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عامر بن سعد بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: أَمَرَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ سَعْدًا فَقَالَ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسُبَّ أَبَا تُرَابٍ؟ فَقَالَ: أَمَّا مَا ذَكَرْتَ فَثَلَاثٌ قَالَهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَأَنْ تَكُونَ لِي وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ, سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَهُ وَقَدْ خَلَفَهُ فِي مُغَازِيهِ فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ خَلَّفْتَنِي مَعَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى إِلَّا أَنَّهُ لَا نُبُوَّةَ بَعْدِي" وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ يَوْمَ خَيْبَرَ: "لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ رَجُلًا يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ" قَالَ: فَتَطَاوَلْنَا لَهَا قَالَ:
"ادْعُوَا لِي عَلِيًّا" فَأُتِيَ بِهِ أَرْمَدَ فَبَصَقَ فِي عَيْنَيْهِ وَدَفَعَ إِلَيْهِ الرَّايَةَ لَيْلَةَ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ. وَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ} [آلِ عِمْرَانَ: 61] دَعَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلِيًّا وَفَاطِمَةَ وَحَسَنًا وَحُسَيْنًا فَقَالَ: "اللَّهُمَّ هَؤُلَاءِ أَهْلِي" 1. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ زِرٍّ قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ, إِنَّهُ لَعَهْدُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَيَّ أَنْ لَا يُحِبَّنِي إِلَّا مُؤْمِنٌ وَلَا يُبْغِضَنِي إِلَّا مُنَافِقٌ2. وَالْأَحَادِيثُ فِي فَضْلِهِ كَثِيرَةٌ جِدًّا, وَقَدْ تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ فِي الْإِشَارَةِ إِلَى خِلَافَتِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي رُؤْيَا الرَّجُلِ الصَّالِحِ الدَّلْوَ التِّى شَرِبَ مِنْهَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ, ثُمَّ جَاءَ عَلِيٌّ وَأَخَذَ بِعَرَاقِيهَا فَانْتَشَطَتْ وَانْتَضَحَ عَلَيْهِ مِنْهَا شَيْءٌ, وَكَانَ تَأْوِيلُ ذَلِكَ مَا أَصَابَهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنَ اخْتِلَافِ النَّاسِ عَلَيْهِ وَالْفِتَنِ الْهَائِلَةِ وَالدِّمَاءِ الْمُهْرَقَةِ وَالْأُمُورِ الصِّعَابِ وَالْأَسْلِحَةِ الْمَسْلُولَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ بِسَبَبِ السَّبَئِيَّةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْأَمْصَارِ عَلَى قَتْلِ عُثْمَانَ, وَكَانَ غَالِبُهُمْ مُنَافِقِينَ, وَقَلِيلٌ مِنْهُمْ مَنْ أَبْنَاءِ الصَّحَابَةِ مَغْرُورُونَ, فَحَصَلَ مِنْ ذَلِكَ فِي يَوْمِ الْجَمَلِ وَصِفِّينَ وَغَيْرِهِمَا وَقَائِعُ يَطُولُ ذِكْرُهَا. فَأَمَّا وَقْعَةُ الْجَمَلِ فَكَانَتْ بِمَحْضِ فِعْلِ السَّبَئِيَّةِ قَبَّحَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ بِاخْتِيَارِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَا طَلْحَةَ وَلَا الزُّبَيْرِ وَلَا أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ, بَلْ بَاتَ الْفَرِيقَانِ مُتَصَالِحِينَ بِخَيْرِ لَيْلَةٍ, فَتَوَاطَأَ أَهْلُ الْفِتْنَةِ وَتَمَالَئُوا عَلَى أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ وَيُنْشِبُوا الْحَرْبَ بَيْنَ الْفِئَتَيْنِ مِنَ الْغَلَسِ, فَثَارَ النَّاسُ مِنْ نَوْمِهِمْ إِلَى السِّلَاحِ فَلَمْ يَشْعُرْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَّا بِالرُّءُوسِ تَنْدُرُ وَالْمَعَاصِمُ تَتَطَايَرُ مَا يَدْرُونَ مَا الْأَمْرُ حَتَّى عُقِرَ الْجَمَلُ وَانْكَشَفَ الْحَالُ عَنْ عَشَرَةِ آلَافِ قَتِيلٍ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَإِنَّمَا أَنْشَبَ أَهْلُ الْفِتْنَةِ الْحَرْبَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ لِعِلْمِهِمْ أَنَّهُمَا إِنْ تَصَالَحَا دَارَتِ الدَّائِرَةُ عَلَيْهِمْ وَأُخِذُوا بِدَمِ عُثْمَانَ وَأُقِيمَ عَلَيْهِمْ كِتَابٌ, فَقَالُوا نَشْغَلُهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ, وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا. وَأَمَّا فِي قِتَالِهِ أَهْلَ الشَّامِ فَكَانُوا هُمْ مَعَ مُعَاوِيَةَ, وَكَانَ هُوَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مُتَأَوِّلًا يَطْلُبُ بِدَمِ عُثْمَانَ وَيَرَى أَنَّهُ وَلِيَّهُ وَإِنَّ قَتَلَتَهُ فِي جَيْشِ عَلِيٍّ, فَكَانَ مَعْذُورًا فِي خَطَئِهِ بِذَلِكَ, وَأَمَّا عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَكَانَ مُجْتَهِدًا مُصِيبًا وَفَالِجًا مُحِقًّا يُرِيدُ جَمْعَ كَلِمَةِ الْأُمَّةِ حَتَّى إِذَا كَانُوا جَمَاعَةً وَخُمِدَتِ الْفِتَنُ وَطُفِئَتْ نَارُهَا أَخَذَ بِالْحَقِّ مِنْ قَتَلَةِ عُثْمَانَ, وَكَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَعْلَمَ بِكِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُطَالِبِينَ بِدَمِ عُثْمَانَ, وَكَانَ السَّبَئِيَّةُ يَخَافُونَهُ أَعْظَمَ مِنْ خُصَمَائِهِ, وَذَلِكَ الَّذِي حَمَلَهُمْ عَلَى مَا فَعَلُوهُ يَوْمَ الْجَمَلِ فَكَانَ أَهْلُ الشَّامِ بُغَاةً اجْتَهَدُوا فَأَخْطَئُوا وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُقَاتِلُهُمْ لِيَرْجِعُوا إِلَى الْحَقِّ وَيَفِيئُوا إِلَى أَمْرِ اللَّهِ, وَلِهَذَا كَانَ أَهْلُ بَدْرٍ الْمَوْجُودُونَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ كُلُّهُمْ فِي جَيْشِهِ, وَعَمَّارٌ قُتِلَ مَعَهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ فِي بِنَاءِ الْمَسْجِدِ؛ فَقَالَ: كُنَّا نَحْمِلُ لَبِنَةً لَبِنَةً وَعَمَّارٌ لِبِنَتَيْنِ فَرَآهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَيَنْفُضُ التُّرَابَ عَنْهُ وَيَقُولُ: "وَيْحَ عَمَّارًا تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ, يَدْعُوهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ وَيَدْعُونَهُ إِلَى النَّارِ" قَالَ: يَقُولُ عَمَّارٌ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْفِتَنِ1. فَقَتَلَهُ أَهْلُ الشَّامِ مِصْدَاقَ مَا أَخْبَرَهُمْ بِهِ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْجَمَاعَةِ وَالِائْتِلَافِ وَإِلَى طَاعَةِ الْإِمَامِ التِّى هِيَ مِنْ أَسْبَابِ دُخُولِ الْجَنَّةِ, وَيَدْعُونَهُ إِلَى الْفِتْنَةِ وَالْفُرْقَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَسْبَابِ دُخُولِ النَّارِ, وَكَانَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَسْعَدَ مِنْهُمْ وَأَوْلَاهُمْ بِالْحَقِّ لِقَتْلِهِ الْخَوَارِجَ بِالنَّهْرَوَانِ, وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تَقْتُلُهُمْ أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ كَمَا قَدَّمْنَا" 2. وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ عَنِ الْأَقْرَعِ مُؤَذِّنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: بَعَثَنِي عُمَرُ إِلَى الْأُسْقُفِّ فَدَعَوْتُهُ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: وَهَلْ تَجِدُنِي فِي الْكِتَابِ؟ قَالَ:
نَعَمْ. قَالَ: كَيْفَ تَجِدُنِي؟ قَالَ: أَجِدُكَ قَرْنًا, فَرَفَعَ عَلَيْهِ الدِّرَّةَ فَقَالَ: قَرْنٌ مَهْ؟ فَقَالَ: قَرْنٌ حَدِيدٌ, أَمِينٌ شَدِيدٌ. قَالَ: كَيْفَ تَجِدُ الَّذِي يَجِيءُ مِنْ بَعْدِي؟ فَقَالَ: أَجِدُهُ خَلِيفَةً صَالِحًا غَيْرَ أَنَّهُ يُؤْثِرُ قَرَابَتَهُ, قَالَ عُمَرُ: يَرْحَمُ اللَّهُ عُثْمَانَ "ثَلَاثًا". فَقَالَ: كَيْفَ تَجِدُ الَّذِي بَعْدَهُ؟ قَالَ: أَجِدُهُ صَدَأَ حَدِيدٍ, فَوَضْعَ عُمَرُ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ فَقَالَ: يَا دَفْرَاهُ يَا دَفْرَاهُ, فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّهُ خَلِيفَةٌ صَالِحٌ, وَلَكِنَّهُ يُسْتَخْلَفُ حِينَ يُسْتَخْلَفُ وَالسَّيْفُ مَسْلُولٌ وَالدَّمُ مُهْرَاقٌ"1. وَكَانَ الْأَمْرُ كَمَا أَخْبَرَ. وَكَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَيَّامَ خِلَافَتِهِ عَلَى طَرِيقِ الْحَقِّ وَالِاسْتِقَامَةِ وَالتَّمَسُّكِ بِكِتَابِ اللَّهِ وَهَدْيِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُجْتَهِدًا فِي جَمْعِ شَمْلِ الْأُمَّةِ وَاطْفَاءِ الْفِتَنِ وَالتَّذْفِيفِ عَلَى أَهْلِ الْبِدَعِ حَتَّى اعْتَدَى عَلَى حَيَاتِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الشَّقِيُّ ابْنُ مُلْجِمٍ الْخَارِجِيُّ قَبَّحَهُ اللَّهُ وَقَدْ فَعَلَ, وذلك يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي وَقْتِ الْفَجْرِ وَهُوَ يَقُولُ: الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ, فَمَكَثَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلَيْلَةَ السَّبْتِ, وَتُوُفِّيَ لَيْلَةَ الْأَحَدِ لِإِحْدَى عَشْرَةَ لَيْلَةً بَقِيَتْ مِنْ رَمَضَانَ سَنَةَ أَرْبَعِينَ عَنْ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ سَنَةٍ2, فَكَانَتْ مُدَّةُ خِلَافَتِهِ كُلِّهَا أَرْبَعَ سِنِينَ وَتِسْعَةَ أَشْهُرٍ إِلَّا لَيَالٍ, وَهُوَ يَوْمَئِذٍ أَفْضَلُ مَنْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ بِالْإِجْمَاعِ. وَذَلِكَ مِصْدَاقُ مَا رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُمَا عَنْ سَفِينَةَ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "الْخِلَافَةُ ثَلَاثُونَ سَنَةً, ثُمَّ تَكُونُ بَعْدَ ذَلِكَ مُلْكًا" قَالَ سَفِينَةُ: فَخُذْ سَنَتَيْ أَبِي بَكْرٍ وَعَشْرَ عُمَرَ وَاثْنَتَيْ عَشْرَةَ عُثْمَانَ وَسِتَّ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ3. قُلْتُ: سَفِينَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَذَفَ الزَّائِدَ وَالنَّاقِصَ عَنِ السِّنِينَ مِنَ الْأَشْهُرِ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ عَادَاتُ الْعَرَبِ فِي حَذْفِ الْكُسُورِ فِي الْحِسَابِ, وَعَلَى مَا قَدَّمْنَا ضَبْطَهُ
فَأَيَّامُ كُلٍّ مِنْهُمْ لَا تُكْمِلُ ثَلَاثِينَ إِلَّا بِخِلَافَةِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ, وَهِيَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ, ثُمَّ أَصْلَحَ اللَّهُ بِهِ الْفِئَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَوُلَّيَ مُعَاوِيَةُ بِذَلِكَ وَاجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَيْهِ وَكَانَ ذَلِكَ الْعَامُ يُسَمَّى "عَامَ الْجَمَاعَةِ" وَكَانَ مُعَاوِيَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَوَّلَ مُلُوكِ الْإِسْلَامِ وَخَيْرَهُمْ, وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَبَقَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَصَلَّى أَبُو بَكْرٍ, وَثَلَّثَ عُمَرُ, ثُمَّ خَبَطَتْنَا بَعْدَهُ فِتْنَةٌ فَهُوَ مَا شَاءَ اللَّهُ. وَفِي رِوَايَةٍ: يَقْضِي اللَّهُ فِيهَا مَا يَشَاءُ1. وَلَهُ عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَيُحِبُّنِي قَوْمٌ حَتَّى يَدْخُلُوا النَّارَ فِي حُبِّي, وَلَيَبْغَضُنِي قَوْمٌ حَتَّى يَدْخُلُوا النَّارَ فِي بُغْضِي2. وَلَهُ عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: يَهْلِكُ فِيَّ رَجُلَانِ: مُفْرِطٌ غَالٍ, وَمُبْغِضٌ قَالَ3. وَلَهُ عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: يَهْلِكُ فِيَّ رَجُلَانِ: مُحِبٌّ مُفْرِطٌ وَمُبْغِضٌ مُفْتَرٍ4. وَلَهُ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ: أَتَدْرِي مَا مَثَلُ عَلِيٍّ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ؟ قَالَ قُلْتُ: وَمَا مَثَلُهُ؟ قَالَ: مَثَلُهُ كَمَثَلِ ابْنِ مَرْيَمَ, أَحَبَّهُ قَوْمٌ حَتَّى هَلَكُوا فِي حُبِّهِ, وَأَبْغَضَهُ قَوْمٌ حَتَّى هَلَكُوا فِي بُغْضِهِ5. وَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ هَذَا الْمَعْنَى مُسْنَدًا عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: دَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: "إِنَّ فِيكَ مِنْ عِيسَى مثلا, أبغضته يهود حَتَّى بَهَتُوا أُمَّهُ, وَأَحَبَّتْهُ النَّصَارَى حَتَّى أَنْزَلُوهُ بِالْمَنْزِلِ الَّذِي لَيْسَ بِهِ, أَلَا وَإِنَّهُ يَهْلِكُ فِيَّ اثْنَانِ: مُحِبٌّ مُفْرِطٌ يُقَرِّظُنِي بِمَا لَيْسَ فِيَّ, وَمُبْغِضٌ مُفْتَرٍ يَحْمِلُهُ شَنَآنِي
عَلَى أَنْ بَهَتَنِي" , أَلَا وَإِنِّي لَسْتُ بِنَبِيٍّ وَلَا مُوصًى إِلَيَّ, وَلَكِنْ أَعْمَلُ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا اسْتَطَعْتُ, فَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ فَحَقٌّ عَلَيْكُمْ طَاعَتِي فِيمَا أَحْبَبْتُمْ وَكَرِهْتُمْ1. وَكَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُخْبِرُ أَصْحَابَهُ بِوِلَايَةِ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَيَقُولُ: لَا تَكْرَهُوا إِمَارَةَ مُعَاوِيَةَ, وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ أَنْ تَنْظُرُوا إِلَى جَمَاجِمِ الرِّجَالِ تَنْدُرُ عَنْ كَوَاهِلِهِمْ كَأَنَّهَا الْحَنْظَلُ إِلَّا أَنْ يُفَارِقَكُمْ مُعَاوِيَةُ2. وَكَانَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا يُحْفَظُ مِنَ الْفَضَائِلِ فِي الْأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ مَا يُحْفَظُ لَعَلِيٍّ, رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَجْمَعِينَ.
مناقب الستة بقية العشرة المبشرين بالجنة رضوان الله عليهم
مَنَاقِبُ السِّتَّةِ بَقِيَّةِ الْعَشَرَةِ الْمُبَشَّرِينَ بِالْجَنَّةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: فَالسِّتَّةُ الْمُكَمِّلُونَ الْعَشَرَهْ ... وَسَائِرُ الصَّحْبِ الْكِرَامِ الْبَرَرَهْ "فَـ" يَلِيهِمْ فِي الْفَضْلِ "السِّتَّةُ الْمُكَمِّلُونَ" عَدَدَ "الْعَشَرَةِ" الْمَشْهُودُ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ كَمَا فِي السُّنَنِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَخْنَسِ أَنَّهُ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ, فَذَكَرَ رَجُلٌ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلَامُ, فَقَامَ سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ فَقَالَ: أَشْهَدُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنِّي سَمِعْتُهُ وَهُوَ يَقُولُ: "عَشَرَةٌ فِي الْجَنَّةِ: النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الْجَنَّةِ, وَأَبُو بَكْرٍ فِي الْجَنَّةِ, وَعُمَرُ فِي الْجَنَّةِ, وَعُثْمَانُ فِي الْجَنَّةِ, وَعَلِيٌّ فِي الْجَنَّةِ, وَطَلْحَةُ فِي الْجَنَّةِ, وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ فِي الْجَنَّةِ, وَسَعْدُ بْنُ مَالِكٍ فِي الْجَنَّةِ, وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ
فِي الْجَنَّةِ" وَلَوْ شِئْتُ لَسَمَّيْتُ الْعَاشِرَ. قَالَ: فَقَالُوا: مَنْ هُوَ؟ فَسَكَتَ, قَالَ: فَقَالُوا: مَنْ هُوَ؟ فَقَالَ: هُوَ سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ. رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ1. وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِذَا ذُكِرَ يَوْمُ أُحُدٍ قَالَ: ذَاكَ يَوْمٌ كُلُّهُ لِطَلْحَةَ2. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ قَالَ: لَمْ يَبْقَ مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي بَعْضِ تِلْكَ الْأَيَّامِ الَّتِي قَاتَلَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- غَيْرَ طِلْحَةَ وَسَعْدٍ3. وَفِيهِ عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: رَأَيْتُ يَدَ طَلْحَةَ الَّتِي وَقَى بِهَا النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ شَلَّتْ4. وَفِيهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ الْأَحْزَابِ: "مَنْ يَأْتِينَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ؟ " فَقَالَ الزُّبَيْرُ: أَنَا. ثُمَّ قَالَ: "مَنْ يَأْتِينَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ؟ " فَقَالَ الزُّبَيْرُ: أَنَا. ثُمَّ قَالَ: "مَنْ يَأْتِينَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ؟ " فَقَالَ: الزُّبَيْرُ أَنَا. ثُمَّ قَالَ: "إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيًّا, وَحَوَارِيِّ الزُّبَيْرُ" 5. وَفِيهِ عَنْ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ قَالَ: أَصَابَ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رُعَافٌ شَدِيدٌ سَنَةَ الرُّعَافِ حَتَّى حَبَسَهُ عَنِ الْحَجِّ وَأَوْصَى, فَدَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ قَالَ:
اسْتَخْلِفْ. قَالَ: وَقَالُوهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: وَمَنْ؟ فَسَكَتَ. فَدَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ آخَرُ -أَحْسَبُهُ الْحَارِثَ- فَقَالَ: اسْتَخْلِفْ. فَقَالَ عُثْمَانُ: وَقَالُوا؟ فَقَالَ: نَعَمْ. قَالَ: وَمَنْ هُوَ؟ فَسَكَتَ, فَلَعَلَّهُمْ قَالُوا: الزُّبَيْرَ. قَالَ: نَعَمْ, أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهُ لَخَيْرُهُمْ مَا عَلِمْتُ, وَإِنْ كَانَ لَأَحَبَّهُمْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ1. وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ إِنَّكُمْ لَتَعْلَمُونِ أَنَّهُ خَيْرُكُمْ "ثَلَاثًا"2. وَفِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كُنْتُ يَوْمَ الْأَحْزَابِ جُعِلْتُ أَنَا وَعُمْرُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ فِي النِّسَاءِ, فَنَظَرْتُ فَإِذَا أَنَا بِالزُّبَيْرِ عَلَى فَرَسِهِ يَخْتَلِفُ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا, فَلَمَّا رَجَعْتُ قلت: يا أبتي رَأَيْتُكَ تَخْتَلِفُ. قَالَ: وَهَلْ رَأَيْتَنِي يَا بُنَيَّ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ يَأْتِي بَنِي قُرَيْظَةَ فَيَأْتِينِي بِخَبَرِهِمْ" فَانْطَلَقْتُ, فَلَمَّا رَجَعْتُ جَمَعَ لِي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَيْنَ أَبَوَيْهِ فَقَالَ: فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي3. وَعَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالُوا لِلزُّبَيْرِ يَوْمَ وَقْعَةِ الْيَرْمُوكِ: أَلَا شُدَّ فَنَشُدَّ مَعَكَ, فَحَمَلَ عَلَيْهِمْ, فَضَرَبُوهُ ضَرْبَتَيْنِ عَلَى عَاتِقِهِ بَيْنَهُمَا ضَرْبَةٌ ضَرَبَهَا يَوْمَ بَدْرٍ, قَالَ عُرْوَةُ: فَكُنْتُ أُدْخِلُ أَصَابِعِي فِي تِلْكَ الضَّرَبَاتِ أَلْعَبُ وَأَنَا صَغِيرٌ4. قُلْتُ: وَقَدِ اخْتَرَقَ صُفُوفَ الرُّومِ يَوْمَئِذٍ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ: مَرَّتَيْنِ دُخُولًا فِيهِمْ وَمَرَّتَيْنِ رُجُوعًا, وَكَانَتِ الضَّرْبَتَانِ فِي رَجْعَتِهِ مِنَ الْمَرَّةِ الْأُخْرَى, كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ مِنَ السِّيَرِ. وَفِي مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ عَلَى حِرَاءٍ هُوَ
وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَطِلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ, فَتَحَرَّكَتِ الصَّخْرَةُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اهْدَأْ فَمَا عَلَيْكَ إِلَّا نَبِيٌّ أَوْ صِدِّيقٌ أَوْ شَهِيدٌ" زَادَ فِي رِوَايَةٍ: "وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ"1. وَفِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: أُرِقَ رَسُولُ اللَّهِ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَقَالَ: "لَيْتَ رَجُلًا صَالِحًا مِنْ أَصْحَابِي يَحْرُسُنِي اللَّيْلَةَ" قَالَتْ: وَسَمِعْنَا صَوْتَ السِّلَاحِ, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ هَذَا؟ " قَالَ: سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ, جِئْتُ أَحْرُسُكَ. قَالَتْ عَائِشَةُ: فَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى سَمِعْتُ غَطِيطَهُ2. وَفِيهِمَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شداد قال: سمع عَلِيًّا يَقُولُ: مَا جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَبَوَيْهِ لِأَحَدٍ غَيْرَ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ, فَإِنَّهُ جَعَلَ يَقُولُ لَهُ يَوْمَ أُحُدٍ: "ارْمِ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي" 3. وَعَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جَمَعَ لَهُ أَبَوَيْهِ يَوْمَ أُحُدٍ, قَالَ: كَانَ رَجُلٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَدْ أَحْرَقَ الْمُسْلِمِينَ, فَقَالَ لِيَ النَّبِيُّ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ارْمِ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي" قَالَ: فَنَزَعْتُ لَهُ بِسَهْمٍ لَيْسَ فِيهِ نَصْلٌ, فَأَصَبْتُ جَنْبَهُ, فَسَقَطَ فَانْكَشَفَتْ عَوْرَتُهُ فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَظَرْتُ إِلَى نَوَاجِذِهِ4. وَفِيهِ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ نَزَلَتْ فِيهِ آيَاتٌ مِنَ الْقُرْآنِ قَالَ: حَلَفَتْ أُمُّ سَعْدٍ أَنْ لَا تُكَلِّمَهُ أَبَدًا حَتَّى يَكْفُرَ بِدِينِهِ وَلَا تَأْكُلَ وَلَا تَشْرَبَ. قَالَتْ: زَعَمْتَ أَنَّ اللَّهَ وَصَّاكَ بِوَالِدَيْكَ, وَأَنَا أُمُّكَ وَأَنَا آمُرُكَ بهذا. قال: مكثت ثَلَاثًا حَتَّى غُشِيَ
عَلَيْهَا مِنَ الْجَهْدِ, فَقَامَ ابْنٌ لَهَا يُقَالُ لَهُ عُمَارَةُ فَسَقَاهَا فَجَعَلَتْ تَدْعُو عَلَى سَعْدٍ, فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْقُرْآنِ هَذِهِ الْآيَاتِ {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي} [لُقْمَانَ: 15] وَفِيهَا {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لُقْمَانَ: 15] قَالَ: وَأَصَابَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- غَنِيمَةً عَظِيمَةً فَإِذَا فِيهَا سَيْفٌ, فَأَخَذْتُهُ فَأَتَيْتُ بِهِ الرَّسُولَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقُلْتُ: نَفِّلْنِي هَذَا السَّيْفَ, فَأَنَا مَنْ عَلِمْتَ حَالَهُ, فَقَالَ: "رُدَّهُ مِنْ حَيْثُ أَخَذْتَهُ" فَانْطَلَقْتُ حَتَّى إِذَا أَرَدْتُ أَنْ أُلْقِيَهُ فِي الْقَبْضِ لَامَتْنِي نَفْسِي فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ فَقُلْتُ: أَعْطِنِيهِ. قَالَ: فَشَدَّ لِي صَوْتَهُ "رُدَّهُ مِنْ حَيْثُ أَخَذْتَهُ" قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} [الْأَنْفَالِ: 1] قَالَ: وَمَرِضْتُ فَأَرْسَلْتُ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَتَانِي فَقُلْتُ: دَعْنِي أَقْسِمْ مَالِي حَيْثُ شِئْتُ. قَالَ: فَأَبَى. قُلْتُ: فَالنِّصْفَ. قَالَ: فَأَبَى. قُلْتُ: فَالثُّلُثَ. قَالَ: فَسَكَتَ. فَكَانَ بَعْدُ الثُّلُثُ جَائِزًا. قَالَ: وَأَتَيْتُ عَلَى نَفَرٍ مِنَ الْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرِينَ فَقَالُوا: تعال نطعمك ونسقيك خَمْرًا, وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تُحَرَّمَ الْخَمْرُ, قَالَ: فَأَتَيْتُهُمْ فِي حَشٍّ -وَالْحَشُّ الْبُسْتَانُ- فَإِذَا رَأَسُ جَزُورٍ مَشْوِيٌّ عِنْدَهُمْ وَزِقٌّ مِنْ خَمْرٍ, قَالَ: فَأَكَلْتُ وَشَرِبْتُ مَعَهُمْ, قَالَ: فَذَكَرْتُ الْأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرِينَ عِنْدَهُمْ فَقُلْتُ: الْمُهَاجِرُونَ خَيْرٌ مِنَ الْأَنْصَارِ, قَالَ: فَأَخَذَ رَجُلٌ أَحَدَ لَحْيَيِ الرَّأْسِ فضربني به فجرج بِأَنْفِي, فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَخْبَرْتُهُ, فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيَّ -يَعْنِي نَفْسَهُ- بِشَأْنِ الْخَمْرِ {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [الْمَائِدَةِ: 90] 1. وَعَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سِتَّةَ نَفَرٍ, فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اطْرُدْ هَؤُلَاءِ لَا يَجْتَرِئُونَ عَلَيْنَا. قَالَ: وَكُنْتُ أَنَا وَابْنُ مَسْعُودٍ وَرَجُلٌ مِنْ هُذَيْلٍ وَبِلَالٌ وَرَجُلَانِ لَسْتُ أُسَمِّيهِمَا, فَوَقَعَ فِي نَفْسِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقَعَ فَتَحَدَّثَ فِي نَفْسِهِ, فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الْأَنْعَامِ: 52] 2.
وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينًا وَإِنَّ أَمِينَنَا أَيَّتُهَا الْأُمَّةُ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ" 1. وَعَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ أَهْلَ الْيَمَنِ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالُوا: ابْعَثْ مَعَنَا رَجُلًا يُعَلِّمْنَا السُّنَّةَ وَالْإِسْلَامَ, قَالَ: فَأَخَذَ بِيَدِ أَبِي عُبَيْدَةَ قَالَ: "هَذَا أَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ" 2. وَعَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: جَاءَ أَهْلُ نَجْرَانَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ ابْعَثْ إِلَيْنَا رَجُلًا أَمِينًا. فَقَالَ: "لَأَبْعَثَنَّ إِلَيْكُمْ رَجُلًا أَمِينًا حَقَّ أَمِينٍ" قَالَ: فَاسْتَشْرَفَ لَهَا النَّاسُ, قَالَ: فَبَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ3. وَرَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ فِي قِصَّةِ خَالِدٍ مَعَ بَنِي جَذِيمَةَ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: عَمِلْتَ بِأَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ فِي الْإِسْلَامِ, فَقَالَ: إِنَّمَا ثَأَرْتُ بِأَبِيكَ, فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: كَذَبْتَ, قَدْ قَتَلْتَ قَاتِلَ أَبِي وَلَكِنَّكَ ثَأَرْتَ بِعَمِّكَ الْفَاكِهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ, حَتَّى كَانَ بَيْنَهُمَا شَرٌّ, فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: "مَهْلًا يَا خَالِدُ, دَعْ عَنْكَ أَصْحَابِي, فَوَاللَّهِ لَوْ كَانَ لَكَ أُحُدٌ ذَهَبًا ثُمَّ أَنْفَقْتَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا أَدْرَكْتَ غَدْوَةَ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِي وَلَا رَوْحَةً" 4. "وَسَائِرُ الصَّحْبِ" بَقِيَّتُهُمُ "الْكِرَامِ الْبَرَرَهْ" الَّذِينَ هُمْ خَيْرُ الْقُرُونِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ اخْتَارَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى لِصُحْبَةِ نَبِيِّهِ وَنُصْرَةِ دِينِهِ.
ثُمَّ هُمْ عَلَى مَرَاتِبِهِمْ: أَفْضَلُهُمُ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ, ثُمَّ مِنَ الْأَنْصَارِ, ثُمَّ أَهْلُ بَدْرٍ, ثُمَّ أَهْلُ أُحُدٍ, ثُمَّ أَهْلُ الثَّبَاتِ فِي غَزْوَةِ الْأَحْزَابِ الَّتِي نَجَمَ فِيهَا النِّفَاقُ, ثُمَّ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ, ثُمَّ مَنْ هَاجَرَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أَعْظَمُ دَرَجَةٍ مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى.
الكلام على أمهات المؤمنين وسائر أهل البيت رضي الله عنهم
أُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ وَبَقِيَّةُ أَهْلِ بَيْتِهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَأَهْلُ بَيْتِ الْمُصْطَفَى الْأَطْهَارُ ... وَتَابِعِيهِ السَّادَةُ الْأَخْيَارُ فَكُلُّهُمْ فِي مُحْكَمِ الْقُرْآنِ ... أَثْنَى عَلَيْهِمْ خَالِقُ الْأَكْوَانِ فِي الْفَتْحِ وَالْحَدِيدِ وَالْقِتَالِ ... وَغَيْرِهَا بِأَكْمَلِ الْخِصَالِ كَذَاكَ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ ... صِفَاتُهُمْ مَعْلُومَةُ التَّفْصِيلِ وَذِكْرُهُمْ فِي سُنَّةِ الْمُخْتَارِ ... قَدْ سَارَ سَيْرَ الشَّمْسِ فِي الْأَقْطَارِ "وَأَهْلُ بَيْتِ" الرَّسُولِ مُحَمَّدٍ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "الْمُصْطَفَى" تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ "الْمُخْتَارُ" اسْمُ مَفْعُولٍ مِنَ الِاخْتِيَارِ بِمَعْنَى التَّفْضِيلِ, وَهُنَّ زَوْجَاتُهُ اللَّاتِي هُنَّ أُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِنَّ: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الْأَحْزَابِ: 6] وَخَيَّرَهُنَّ اللَّهُ تعالى بين إرادة زِينَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَبَيْنَ إِرَادَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَاخْتَرْنَ اللَّهَ تَعَالَى وَرَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِنَّ: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الْأَحْزَابِ: 33] وَهُنَّ زَوْجَاتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. فَمِنْهُنَّ خَدِيجَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ الصِّدِّيْقَةُ الْأُولَى الَّتِي هِيَ أَوَّلُ مَنْ صَدَّقَهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيمَا بُعِثَ بِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ قَبْلَ كُلِّ أَحَدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا, وَقَرَأَ جِبْرِيلُ عَلَيْهَا السَّلَامَ مِنْ رَبِّهَا وَبَشَّرَهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ, لَا صَخَبَ وَلَا وَصَبَ1 وَمَا زَالَتْ
تُؤْوِيهِ وَتُسْكِنُ جَأْشَهُ وَتُعَاضِدُهُ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ حَتَّى تَوَفَّاهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَعَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا الصِّدِّيقَةُ بِنْتُ الصِّدِّيقِ حَبِيبَةُ حَبِيبِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْمُبَرَّأَةُ مِنْ فوق سبع سموات بِأَرْبَعَ عَشْرَةَ آيَةً تُتْلَى فِي الْمَحَارِيبِ وَالْكَتَاتِيبِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ, الَّتِي كَانَ يَنْزِلُ الْوَحْيُ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي حِجْرِهَا, وَتُوفِّيَ فِي حِجْرِهَا, وَقَدْ خُلِطَ رِيقُهَا بِرِيقِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي آخِرِ سَاعَةٍ مِنَ الدُّنْيَا وَأَوَّلِهَا مِنَ الْآخِرَةِ1, وَدُفِنَ فِي حُجْرَتِهَا, وَكَانَتْ مِنْ أَفْقَهِ الصَّحَابَةِ فِي الْحَدِيثِ وَالتَّفْسِيرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ, حَتَّى كَانَ الْأَكَابِرُ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَسْأَلُونَهَا عَنْ أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ فَيَجِدُونَ مِنْهَا عِنْدَهَا عِلْمًا, لَا سِيَّمَا مَا قاله الرسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَوْ فَعَلَهُ فِي الْحَضَرِ. أَقْرَأَهَا جِبْرِيلُ السَّلَامَ أَيْضًا كَمَا أَقْرَأَهُ عَلَى خَدِيجَةَ2. وَمِنْهُنَّ أُمُّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ذَاتُ الْهِجْرَتَيْنِ مَعَ زَوْجِهَا أَبِي سَلَمَةَ إِلَى الْحَبَشَةِ ثُمَّ إِلَى الْمَدِينَةِ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا نَبِيُّ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ, وَقَدْ رَأَتْ جِبْرِيلَ عِنْدَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي صُورَةِ دَحْيَةَ بْنِ خَلِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَمِنْهُنَّ زَيْنَبُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ الَّتِي زَوَّجَهُ اللَّهُ إِيَّاهَا مِنْ فوق سبع سموات, وَهِيَ أَطْوَلُهُنَّ يَدًا لِإِنْفَاقِهَا مِنْ كَسْبِ يَدِهَا, وَأَسْرَعُهُنَّ لُحُوقًا بِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَبِسَبَبِهَا نَزَلَ الْحِجَابُ. وَصْفِيَّةُ بِنْتُ حَيِيٍّ مِنْ وَلَدِ هَارُونَ بْنِ عِمْرَانَ رَسُولِ اللَّهِ وَأَخِي رَسُولِهِ مُوسَى الْكَلِيمِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ.
وَجُوَيْرِيَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ مَلِكِ بَنِي الْمُصْطَلَقِ الَّتِي كَانَتْ هِيَ السَّبَبُ فِي عِتْقِ السَّبْيِ مِنْ قَبِيلَتِهَا. وَسَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ الَّتِي كَانَتْ أَيْضًا مِنْ أَسْبَابِ الْحِجَابِ, وَلَمَّا كَبُرَتِ اخْتَارَتْ نَبِيَّ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ تَبَقَى فِي عِصْمَةِ نِكَاحِهِ, وَوَهَبَتْ يَوْمَهَا لِعَائِشَةَ تَسْتَحِقُّهُ مَعَ قَسْمِهَا. وَأُمُّ حَبِيبَةَ ذَاتُ الْهِجْرَتَيْنِ أَيْضًا. وَمَيْمُونَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ الْهِلَالِيَّةُ رضي الله عنها الَّتِي نَكَحَهَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ, وَهَمَا حَلَالَانِ عَلَى مَا حَدَّثَتْ بِهِ هِيَ وَالسَّفِيرُ بَيْنَهُمَا, وَكُلُّهُنَّ زَوْجَاتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ. وَيَدْخُلُ أَهْلُ بَيْتِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ بَابِ أَوْلَى بَلْ بِنَصِّ الْحَدِيثِ الْخَمْسَةُ الَّذِينَ جَلَّلَهُمُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِكِسَائِهِ كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: خَرَجَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- غَدَاةً وَعَلَيْهِ مِرْطٌ مُرَحَّلٌ مِنْ شَعْرٍ أَسْوَدَ فَجَاءَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ فَأَدْخَلَهُ ثُمَّ جَاءَ الْحُسَيْنُ فَدَخَلَ مَعَهُ, ثُمَّ جَاءَتْ فَاطِمَةُ فَأَدْخَلَهَا, ثُمَّ جَاءَ عَلِيٌّ فَأَدْخَلَهُ, ثُمَّ قَالَ: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الْأَحْزَابِ: 33] 1. وَيَدْخُلُ فِي أَهْلِ بَيْتِهِ آلِهِ الَّذِينَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الصَّدَقَةُ؛ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ يَزِيدَ بْنِ حَيَّانَ, قَالَ: انْطَلَقْتُ أَنَا وَحُصَيْنُ بْنُ سَبْرَةَ وَعُمَرُ بْنُ مُسْلِمٍ إِلَى زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ, فَلَمَّا جَلَسْنَا إِلَيْهِ قَالَ لَهُ حُصَيْنٌ: لَقَدْ لَقِيتَ يَا زَيْدُ خَيْرًا كَثِيرًا, رَأَيْتَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَسَمِعْتَ حَدِيثَهُ وَغَدَوْتَ مَعَهُ وَصَلَّيْتَ خَلْفَهُ, لَقَدْ لَقِيْتَ يَا زَيْدُ خَيْرًا كَثِيرًا, حَدِّثْنَا يَا زَيْدُ مَا سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: يابن أَخِي وَاللَّهِ لَقَدْ كَبُرَتْ سِنِّي وَقَدُمَ عَهْدِي وَنَسِيْتُ بَعْضَ الَّذِي كُنْتُ أَعِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَمَا حَدَّثْتُكُمْ فَاقْبَلُوا وَمَا لَا فَلَا تُكَلِّفُونِيهِ, ثُمَّ قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمًا فِينَا خَطِيبًا بِمَا يُدْعَى خُمًّا بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى
عَلَيْهِ وَوَعَظَ وَذَكَّرَ ثُمَّ قَالَ: "أَمَّا بَعْدُ, أَلَا أَيُّهَا النَّاسُ فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ رَسُولُ رَبِّي فَأُجِيبُ, وَأَنَا تَارِكٌ فِيكُمْ ثَقَلَيْنِ: أَوَّلُهُمَا كِتَابُ اللَّهِ فِيهِ الْهُدَى وَالنُّورُ, فَخُذُوا بِكِتَابِ اللَّهِ وَاسْتَمْسَكُوا بِهِ". فَحَثَّ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَغَّبَ فِيهِ, ثُمَّ قَالَ: "وَأَهْلُ بَيْتِي, أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي, أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي, أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي" فَقَالَ لَهُ حُصَيْنٌ: وَمَنْ أَهْلُ بَيْتِهِ يَا زَيْدُ؟ أَلَيْسَ نِسَاؤُهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ؟ قَالَ: نِسَاؤُهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ, وَلَكِنْ أَهْلُ بَيْتِهِ مَنْ حُرِمَ الصَّدَقَةَ بَعْدَهُ, قَالَ: وَمَنْ هُمْ؟ قَالَ: هُمْ آلُ عَلِيٍّ وَآلُ عَقِيلٍ وَآلُ جَعْفَرٍ وَآلُ عَبَّاسٍ. قَالَ: كُلُّ هَؤُلَاءِ حُرِمَ الصَّدَقَةَ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَفِي رِوَايَةٍ: "أَحَدُهُمَا كِتَابُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ هُوَ حَبْلُ اللَّهِ مَنِ اتَّبَعَهُ كَانَ عَلَى الْهُدَى وَمَنْ تَرَكَهُ كَانَ عَلَى ضَلَالَةٍ". وَفِيهِ فَقُلْنَا: مَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ نِسَاؤُهُ؟ قَالَ: لَا, وَايْمُ اللَّهِ, إِنَّ الْمَرْأَةَ تكون مع الرجل الْعَصْرَ مِنَ الدَّهْرِ ثُمَّ يُطَلِّقُهَا فَتَرْجِعُ إِلَى أَبِيهَا وَقَوْمِهَا, أَهْلُ بَيْتِهِ أَصْلُهُ وَعَصَبَتُهُ الَّذِينَ حُرِمُوا الصَّدَقَةَ بَعْدَهُ1. وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّمَا فَاطِمَةُ بِضْعَةٌ مِنِّي يُؤْذِينِي مَا آذَاهَا" 2. وَفِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: اجْتَمَعَ نِسَاءُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلَمْ يُغَادِرْ مِنْهُنَّ امْرَأَةً فَجَاءَتْ فَاطِمَةُ تَمْشِي كَأَنَّ مِشْيَتَهَا مِشْيَةُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: "مَرْحَبًا بِابْنَتِي" فَأَجْلَسَهَا عَنْ يَمِينِهِ أَوْ عَنْ شِمَالِهِ, ثُمَّ إِنَّهُ أَسَرَّ إِلَيْهَا حَدِيثًا فَبَكَتْ فَاطِمَةُ, ثُمَّ إِنَّهُ سَارَّهَا فَضَحِكَتْ أَيْضًا, فَقُلْتُ لَهَا: مَا يُبْكِيكِ؟ فَقَالَتْ: مَا كُنْتُ لِأُفْشِيَ سِرَّ رَسُولِ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقُلْتُ: مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ فَرَحًا أَقْرَبَ مِنْ حُزْنٍ. فَقُلْتُ لَهَا حِينَ بَكَتْ: أَخَصَّكِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِحَدِيثِهِ دُونَنَا ثُمَّ تَبْكِينَ, وَسَأَلْتُهَا عَمَّا قَالَ. فَقَالَتْ: مَا كُنْتُ لأفشي سر وسول اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. حَتَّى إِذَا قُبِضَ سَأَلْتُهَا. فَقَالَتْ: إِنَّهُ كَانَ حَدَّثَنِي أَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُهُ بِالْقُرْآنِ كُلَّ عَامٍ مَرَّةً, وَإِنَّهُ عَارَضَهُ بِهِ فِي الْعَامِ مَرَّتَيْنِ "وَلَا
أُرَانِي إِلَّا قَدْ حَضَرَ أَجَلِي, وَإِنَّكِ أَوَّلُ أَهْلِي لُحُوقًا, وَنِعْمَ السَّلَفُ أَنَا لَكِ" فَبَكَيْتُ لِذَلِكَ. ثُمَّ إِنَّهُ سَارَّنِي فَقَالَ: "أَلَا تَرْضَيْنَ أَنْ تَكُونِي سَيِّدَةَ نِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ أَوْ سيدة نساء هده الْأُمَّةِ؟ " فَضَحِكْتُ لِذَلِكَ1. وَفِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ لِحَسَنٍ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُ فَأَحِبَّهُ وَأَحْبِبْ مَنْ يُحِبُّهُ"2, وَنَحْوُهُ عَنْ بَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ3. وَفِيهِ عن أبي بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى الْمِنْبَرِ وَالْحَسَنُ إِلَى جَنْبِهِ يَنْظُرُ إِلَى النَّاسِ مَرَّةً وَإِلَيْهِ مَرَّةً يَقُولُ: "ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ" 4. وَفِيهِ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُهُ وَالْحَسَنَ وَيَقُولُ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُمَا فَأَحِبَّهُمَا" 5 أَوْ كَمَا قَالَ. وَلِلتِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ" 6, وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إِنَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ رَيْحَانَتَايَ مِنَ الدُّنْيَا"1. وَلِلتِّرْمِذِيِّ -وَقَالَ: حَسَنٌ- عَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَخْطُبُنَا إِذْ جَاءَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ عَلَيْهِمَا قَمِيصَانِ أَحْمَرَانِ يَمْشِيَانِ وَيَعْثُرَانِ, فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنَ الْمِنْبَرِ فَحَمَلَهُمَا وَوَضَعَهُمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ: "صَدَقَ اللَّهُ {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التَّغَابُنِ: 15] نَظَرَتُ إِلَى هَذَيْنِ الصَّبِيَّيْنِ يَمْشِيَانِ وَيَعْثُرَانِ فَلَمْ أَصْبِرْ حَتَّى قَطَعْتُ حَدِيثِي وَرَفَعْتُهُمَا"2. وَلَهُ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: الْحَسَنُ أَشْبَهُ بِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا بَيْنَ الصَّدْرِ إِلَى الرَّأْسِ وَالْحُسَيْنُ أَشْبَهُ بِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا كَانَ أَسْفَلَ مِنْ ذَلِكَ. هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ3.
الكلام على التابعين رضي الله عنهم
الْكَلَامُ عَلَى التَّابِعِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: "وَتَابِعِيهِ" تَابِعُو الرَّسُولِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَصْحَابِهِ "السَّادَةِ" مِنْ سَادَ يَسُودُ "الْأَخْيَارِ" عَلَى مَرَاتِبِهِمْ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ عَلَى التَّرْتِيبِ: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التَّوْبَةِ: 100] الْآيَةَ. وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْجُمُعَةِ فِي ذِكْرِ التَّابِعِينَ بَعْدَ ذِكْرِ الصَّحَابَةِ: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ
وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الْجُمُعَةِ: 2] هَذَا فِي الصَّحَابَةِ, ثُمَّ قَالَ فِي التَّابِعِينَ: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الْجُمُعَةِ: 3-4] وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَتَى الْمَقْبَرَةَ فَقَالَ: "السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ, وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ, وَدِدْتُ أَنْ قَدْ رَأَيْنَا إِخْوَانَنَا" قَالُوا: أَوَلَسْنَا إِخْوَانَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: "أَنْتُمْ أَصْحَابِي وَإِخْوَانُنَا الَّذِينَ لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ" 1 الْحَدِيثَ. وَفِي الْمُسْنَدِ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَدِدْتُ أَنِّي لَقِيتُ إِخْوَانِي" قَالَ: فَقَالَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَحْنُ إِخْوَانُكَ. قَالَ: "أَنْتُمْ أَصْحَابِي وَلَكِنَّ إِخْوَانِي الَّذِينَ آمَنُوا بِي وَلَمْ يَرَوْنِي" 2 إِسْنَادُهُ حَسَنٌ وَقَدْ صُحِّحَ. وَفِيهِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "طُوبَى لِمَنْ رَآنِي وَآمَنَ بِي, وَطُوبَى لِمَنْ آمَنَ بِي وَلَمْ يَرَنِي سَبْعَ مَرَّاتٍ" 3. وَرَوَى الْحَاكِمُ وَغَيْرُهُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ جُلُوسًا فَذَكَرْنَا أَصْحَابَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَمَا سَبَقُونَا بِهِ, فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: إِنَّ أَمْرَ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ بَيِّنًا لِمَنْ رَآهُ, وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ مَا آمَنَ أَحَدٌ قَطُّ إِيمَانًا أَفْضَلَ مِنْ إِيمَانٍ بِغَيْبٍ, ثُمَّ قَرَأَ {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ
يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} إِلَى قَوْلِهِ: {الْمُفْلِحُونَ} [الْبَقَرَةِ: 1-5] وَقَالَ: عَلَى شَرْطِهِمَا1. وَبِالْجُمْلَةِ فَكُلُّهُمْ فِي مُحْكَمِ الْقُرْآنِ ... أَثْنَى عَلَيْهِمْ خَالِقُ الْأَكْوَانِ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ "كَالْفَتْحِ" أَيْ: سُورَةِ الْفَتْحِ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا "وَ" سُورَةِ "الْحَدِيدِ" كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِيهَا: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الْحَدِيدِ: 10] الْآيَاتِ. "وَ" سُورَةِ "الْقِتَالِ" كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ} [مُحَمَّدٍ:2-3] الْآيَاتِ. "وَ" سُورَةِ "الْحَشْرِ" إِلَى آخِرِهَا, وَقَدْ رَتَّبَ تَعَالَى فِيهَا الصَّحَابَةَ عَلَى مَنَازِلِهِمْ وَتَفَاضُلِهِمْ, ثُمَّ أَرْدَفَهُمْ بِذِكْرِ التَّابِعِينَ فَقَالَ تَعَالَى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [الْحَشْرِ: 8-10] أخرج الله بهده الْآيَةِ وَغَيْرِهَا شَاتِمَ الصَّحَابَةِ مِنْ جَمِيعِ الْفِرَقِ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ غِلٌّ لَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ, وَلِهَذَا مَنَعَهُمْ كَثِيرٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْفَيْءَ وَحَرَّمُوهُ عَلَيْهِمْ.
"وَ" فِي سُورَةِ "التَّوْبَةِ وَ" سُورَةِ "الْأَنْفَالِ" بِكَمَالِهَا تَارَةً فِي الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ وَتَارَةً فِي تَحْذِيرِهِمْ مِنْ عَدُّوهِمِ وَوَصْفِ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُنَافِقِينَ بِأَنْوَاعِهِمْ وَسِمَاهُمْ لِيَحْذَرُوهُمْ, وَتَارَةً فِي حَثِّهِمْ عَلَى الطَّاعَةِ وَالْجَمَاعَةِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْإِثْخَانِ فِي الْكُفَّارِ وَالثَّبَاتِ لَهُمْ عِنْدَ لِقَائِهِمْ إِيَّاهُمْ وَعَدَمِ فِرَارِهِمْ مِنْهُمْ, وَوَعْدِهِ تَعَالَى إِيَّاهُمْ بِالنَّصْرِ عَلَى عَدْوِهِمْ, وَتَارَةً بِتَذْكِيرِهِمْ بِنِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَامْتِنَانِهِ عَلَيْهِمْ أَنْ هَدَاهُمْ لِلْإِسْلَامِ وَجَنَّبَهُمُ السُّبُلَ الْمُضِلَّةَ. وَأَلَّفَ بَيْنِ قُلُوبِهِمْ وَآوَاهُمْ وَأَيَّدَهُمْ بِنَصْرِهِ بَعْدَ إِذْ كَانُوا مُسْتَضْعَفِينَ أَذِلَّةً. وَتَارَةً يُخْبِرُهُمْ وَيُهَيِّجُهُمْ وَيُشَوِّقُهُمْ بِمَا أَعَدَ لَهُمْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ عَلَى قِيَامِهِمْ بِطَاعَتِهِ تَعَالَى وَطَاعَةِ رَسُولِهِ, وَجِهَادِهِمْ بِأَمْوَالِهِمْ فِي سَبِيلِهِ وَلَهُ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ, وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ سُوَرِ الْقُرْآنِ وَآيَاتِهِ "كَذَلِكَ فِي التَّوْرَاةِ" الْكِتَابِ الْمُنَزَّلِ عَلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ "وَ" فِي "الْإِنْجِيلِ" الْكِتَابِ الْمُنَزَّلِ عَلَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ "صِفَاتُهُمْ" الَّتِي جَعَلَهُمُ اللَّهُ عَلَيْهَا "مَعْلُومَةُ التَّفْصِيلِ" كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ} [الْفَتْحِ: 29] هُنَا تَمَّ الْكَلَامُ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الْفَتْحِ: 29] . وَتَقَدَّمَ قَوْلُ الْأُسْقُفِّ لِعُمَرَ وَصِفَةُ الْخُلَفَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ, وَغَيْرُ ذَلِكَ. "وَذِكْرُهُمْ" بِالْمَنَاقِبِ الْجَمَّةِ وَالْفَضَائِلِ الْكَثِيرَةِ "فِي سُنَّةِ الْمُخْتَارِ" مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عُمُومًا وَخُصُوصًا مِنَ الْأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ وَالْحِسَانِ "قَدْ سَارَ" انْتَشَرَ وَأُعْلِنَ "سَيْرَ الشَّمْسِ فِي الْأَقْطَارِ" تَمْثِيلًا لِشُهْرَةِ فَضَائِلِهِمْ وَوُضُوحِهَا لَا تُحْصِيهَا الْأَسْفَارُ الْكِبَارُ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: صَلَّيْتُ الْمَغْرِبَ مَعَ
رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثُمَّ قُلْنَا: لَوْ جَلَسْنَا حَتَّى نُصَلِّيَ مَعَهُ الْعِشَاءَ, قَالَ: فَجَلَسْنَا فَخَرَجَ عَلَيْنَا فَقَالَ: "مَا زِلْتُمْ هَهُنَا" قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّيْنَا الْمَغْرِبَ ثُمَّ قُلْنَا نَجْلِسُ حَتَّى نُصَلِّيَ مَعَكَ الْعِشَاءَ. قَالَ: "أَحْسَنْتُمْ" أَوْ "أَصَبْتُمْ" قَالَ: فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ؛ وَكَانَ كَثِيرًا مَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ: "النُّجُومُ أَمَنَةُ السَّمَاءِ, فَإِذَا ذَهَبَتِ النُّجُومُ أَتَى السَّمَاءَ مَا تُوعَدُ, وَأَنَا أَمَنَةٌ لِأَصْحَابِي فَإِذَا ذَهَبْتُ أَتَى أَصْحَابِي مَا يُوعَدُونَ, وَأَصْحَابِي أَمَنَةٌ لِأُمَّتِي فَإِذَا ذَهَبَ أَصْحَابِي أَتَى أُمَّتِي مَا يُوعَدُونَ" 1. وَفِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَغْزُو فِئَامٌ مِنَ النَّاسِ فَيُقَالُ لَهُمْ: فِيكُمْ مَنْ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ, فَيُفْتَحُ لَهُمْ, ثُمَّ يَغْزُو فِئَامٌ مِنَ النَّاسِ فَيُقَالُ لَهُمْ: فِيكُمْ مَنْ رَأَى مَنْ صَحِبَ رَسُولَ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ, فَيُفْتَحُ لَهُمْ, ثُمَّ يَغْزُو فِئَامٌ مِنَ النَّاسِ فَيُقَالُ لَهُمْ: هَلْ فِيكُمْ مَنْ رَأَى مَنْ صَحِبَ مَنْ صَحِبَ رَسُولَ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ, فَيُفْتَحُ لَهُمْ" 2. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ؟ قَالَ: "أَقْرَانِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ, ثُمَّ يَجِيءُ قَوْمٌ تَبْدُرُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ وَتَبْدُرُ يَمِينُهُ شَهَادَتَهَ" 3. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "خَيْرُ أُمَّتِي الْقَرْنُ الَّذِي بُعِثْتُ فِيهِ, ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ" وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَذَكَرَ الثَّالِثَ أَمْ لَا "ثُمَّ يَخْلُفُ قَوْمٌ يُحِبُّونَ السَّمَانَةَ, يَشْهَدُونَ قَبْلَ أَنْ يُسْتَشْهَدُوا" 4.
وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إِنَّ خَيْرَكُمْ قَرْنِي, ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ,ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ, ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ" قَالَ عِمْرَانُ: فَلَا أَدْرِي أَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَعْدَ قَرْنِهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا "ثُمَّ يَكُونُ بَعْدَهُمْ قَوْمٌ يَشْهَدُونَ وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ وَيَخُونُونَ وَلَا يُؤْتَمَنُونَ وَيُنْذِرُونَ وَلَا يُوَفُّونَ وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ" زَادَ فِي رِوَايَةٍ "وَيَحْلِفُونَ وَلَا يُسْتَحْلَفُونَ" 1. وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: سَأَلَ رَجُلٌ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ؟ قَالَ: "الْقَرْنُ الَّذِي أَنَا فِيهِ ثُمَّ الثَّانِي ثُمَّ الثَّالِثُ" 2. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي, فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ" 3. وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ بَيْنَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ وَبَيْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ شَيْءٌ فَسَبَّهُ خَالِدٌ, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تَسُبُّوا أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِي, فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَوْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ" 4. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قِصَّةِ كِتَابِ حَاطِبٍ مَعَ الضَّعِينَةِ -وَفِيهِ- فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّهُ قَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَدَعْنِي فَلْأَضْرِبْ عُنُقَهُ فَقَالَ: "أَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ" فَقَالَ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ إِلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ وَجَبَتْ لَكُمُ الْجَنَّةَ" أَوْ "فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ" فَدَمَعَتْ عَيْنَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ5.
وَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: حَدَّثَنِي أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا أَنَّهُمْ كَانُوا عِدَّةَ أَصْحَابِ طَالُوتَ الَّذِينَ جَاوَزُوا مَعَهُ النَّهْرَ: بِضْعَةَ عَشَرَ وَثَلَاثُمِائَةٍ, قَالَ الْبَرَاءُ: لَا وَاللَّهِ مَا جَاوَزَ مَعَهُ النَّهْرَ إِلَّا مُؤْمِنٌ1. وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الْفَتْحِ: 1] قَالَ: الْحُدَيْبِيَةَ, قَالَ أَصْحَابُهُ: هَنِيئًا مَرِيئًا فَمَا لَنَا؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [الْفَتْحِ: 5] 2 وَكُلُّ هَذَا فِي الصَّحِيحِ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَدْخُلِ النَّارَ أَحَدٌ مِمَّنْ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ" وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ3. وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ فِي فَضَائِلَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنْهَا عَامَّةٌ وَمِنْهَا خَاصٌّ بِالْمُهَاجِرِينَ وَمِنْهَا خَاصٌّ بِالْأَنْصَارِ وَمِنْهَا خَاصٌّ بِالْآحَادِ فَرْدًا فَرْدًا, وَمِنْهَا الْقَطْعُ لِأَحَدِهِمْ بِالْجَنَّةِ مُطْلَقًا, وَمِنْهَا الْقَطْعُ لِبَعْضِهِمْ بِمُجَاوَرَةِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الْجَنَّةِ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِهَا.
إجماع أهل السنة على وجوب السكوت عما كان بين الصحابة رضي الله عنهم
إِجْمَاعُ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى وُجُوبِ السُّكُوتِ عَمَّا كَانَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: ثُمَّ السُّكُوتُ وَاجِبٌ عَمَّا جَرَى ... بَيْنَهُمْ مِنْ فِعْلِ مَا قَدْ قُدِّرَا فَكُلُّهُمْ مُجْتَهِدٌ مُثَابٌ ... وَخَطَؤُهُمْ يَغْفِرُهُ الْوَهَّابُ أَجْمَعَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ الَّذِينَ يُعْتَدُّ بِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى وُجُوبِ السُّكُوتِ عَنِ الْخَوْضِ فِي الْفِتَنِ الَّتِي جَرَتْ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بَعْدَ قَتْلِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ, وَالِاسْتِرْجَاعِ عَلَى تِلْكَ الْمَصَائِبِ الَّتِي أُصِيبَتْ بِهَا هَذِهِ الْأُمَّةُ وَالِاسْتِغْفَارِ لِلْقَتْلَى مِنَ الطَّرَفَيْنِ وَالتَّرَحُّمِ عَلَيْهِمْ وَحِفْظِ فَضَائِلِ الصَّحَابَةِ وَالِاعْتِرَافِ لَهُمْ بِسَوَابِقِهِمْ وَنَشْرِ مَنَاقِبِهِمْ, عَمَلًا بِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} [الْحَشْرِ: 10] الْآيَةَ, وَاعْتِقَادِ أَنَّ الْكُلَّ مِنْهُمْ مُجْتَهِدٌ إِنْ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ: أَجْرٌ عَلَى اجْتِهَادِهِ وَأَجْرٌ عَلَى إِصَابَتِهِ, وَإِنْ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرُ الِاجْتِهَادِ وَالْخَطَأُ مَغْفُورٌ, وَلَا نَقُولُ: إِنَّهُمْ مَعْصُومُونَ بَلْ مُجْتَهِدُونَ إِمَّا مُصِيبُونَ وَإِمَّا مُخْطِئُونَ لَمْ يَتَعَمَّدُوا الْخَطَأَ فِي ذَلِكَ, وَمَا رُوِيَ مِنَ الْأَحَادِيثِ فِي مَسَاوِيهِمُ الْكَثِيرُ مِنْهُ مَكْذُوبٌ, وَمِنْهُ مَا قَدْ زِيدَ فِيهِ أَوْ نُقِصَ مِنْهُ وَغُيِّرَ عَنْ وَجْهِهِ, وَالصَّحِيحُ مِنْهُ هُمْ فِيهِ مَعْذُورُونَ. قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي مُعْتَقَدِ أَهْلِ السُّنَّةِ: وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ لَا يَعْتَقِدُونَ أَنْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مَعْصُومٌ عَنْ كَبَائِرِ الْإِثْمِ وَصَغَائِرِهِ, بَلْ يَجُوزُ عَلَيْهِمُ الذُّنُوبُ فِي الْجُمْلَةِ, وَلَهُمْ مِنَ السَّوَابِقِ وَالْفَضَائِلِ مَا يُوجِبُ مَغْفِرَةَ مَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ إِنْ صَدَرَ, حَتَّى إِنَّهُمْ يُغْفَرُ لَهُمْ مِنَ السَّيِّئَاتِ مَا لَا يُغْفَرُ لِمَنْ بَعْدَهُمْ. وَقَدْ ثَبَتَ بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُمْ خَيْرُ الْقُرُونِ, وَأَنَّ الْمُدَّ مِنْ أَحَدِهِمْ إِذَا تَصَدَّقَ بِهِ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ جَبَلِ أُحُدٍ ذَهَبًا مِنْ بَعْدِهِمْ, ثُمَّ إِذَا كَانَ قَدْ صَدَرَ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ ذَنْبٌ فَيَكُونُ قَدْ تَابَ مِنْهُ, أَوْ أَتَى بِحَسَنَةٍ تَمْحُوهُ أَوْ غُفِرَ لَهُ بِفَضْلِ سَابِقَتِهِ
أَوْ بِشَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الَّذِي هُمْ أَحَقُّ النَّاسِ بِشَفَاعَتِهِ, أَوِ ابْتُلِيَ بِبَلَاءٍ فِي الدُّنْيَا كَفَّرَ بِهِ عَنْهُ فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الذُّنُوبِ الْمُحَقَّقَةِ فَكَيْفَ بِالْأُمُورِ الَّتِي كَانُوا فِيهَا مُجْتَهِدِينَ إِنْ أَصَابُوا فَلَهُمْ أَجْرَانِ وإن أخطئوا فلم أَجْرٌ وَاحِدٌ وَالْخَطَأُ مَغْفُورٌ, ثُمَّ الْقَدْرُ الَّذِي يُنْكَرُ مِنْ فِعْلِ بَعْضِهِمْ نَزْرٌ مَغْفُورٌ فِي جَنْبِ فَضَائِلِ الْقَوْمِ وَمَحَاسِنِهِمْ مِنَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ, وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ وَالْهِجْرَةِ وَالنُّصْرَةِ, وَالْعِلْمِ النَّافِعِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ. وَمَنْ نَظَرَ فِي سِيرَةِ الْقَوْمِ بِعِلْمٍ وَبَصِيرَةٍ وَمَا مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِهِ مِنَ الْفَضَائِلِ عَلِمَ يَقِينًا أَنَّهُمْ خَيْرُ الْخَلْقِ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ لَا كَانَ وَلَا يَكُونُ مِثْلَهُمْ, وَأَنَّهُمُ الصَّفْوَةُ مِنْ قُرُونِ هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّتِي هِيَ خَيْرُ الْأُمَمِ وَأَكْرَمُهُمْ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي ذِكْرِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم وَفَضَائِلِهِمْ: وَأَمَّا الْحُرُوبُ الَّتِي جَرَتْ فَكَانَتْ لِكُلِّ طَائِفَةٍ شُبْهَةٌ اعْتَقَدَتْ تَصْوِيبَ نَفْسِهَا بِسَبَبِهَا, وَكُلُّهُمْ عُدُولٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَمُتَأَوِّلُونَ فِي حُرُوبِهِمْ وَغَيْرِهَا, وَلَمْ يُخْرِجْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ أَحَدًا مِنْهُمْ عَنِ الْعَدَالَةِ؛ لِأَنَّهُمْ مُجْتَهِدُونَ اخْتَلَفُوا فِي مَسَائِلَ مِنْ مَحَلِّ الْإِجْتِهَادِ كَمَا يَخْتَلِفُ الْمُجْتَهِدُونَ بَعْدَهُمْ فِي مَسَائِلَ مِنَ الدِّمَاءِ وَغَيْرِهَا, وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ نَقْصُ أَحَدٍ مِنْهُمْ. وَاعْلَمْ أَنَّ سَبَبَ تِلْكَ الْحُرُوبِ أَنَّ الْقَضَايَا كَانَتْ مُشْتَبِهَةً, فَلِشِدَّةِ اشْتِبَاهِهَا اخْتَلَفَ اجْتِهَادُهُمْ وَصَارُوا ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ ظَهَرَ لَهُمْ بِالِاجْتِهَادِ أَنَّ الْحَقَّ فِي هَذَا الطَّرَفِ وَأَنَّ مُخَالِفَهُ بَاغٍ فَوَجَبَ عَلَيْهِمْ نُصْرَتُهُ وَقِتَالُ الْبَاغِي عَلَيْهِ فِيمَا اعْتَقَدُوهُ, فَفَعَلُوا ذَلِكَ, وَلَمْ يَكُنْ يَحِلُّ لِمَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ التَّأَخُّرُ عَنْ مُسَاعَدَةِ إِمَامِ الْعَدْلِ فِي قِتَالِ الْبُغَاةِ فِي اعْتِقَادِهِ. وَقِسْمٌ عَكْسُ هَؤُلَاءِ ظَهَرَ لَهُمْ بِالْاِجْتِهَادِ أَنَّ الْحَقَّ فِي الطَّرَفِ الْآخَرِ فَوَجَبَ عَلَيْهِمْ مُسَاعَدَتُهُ وَقِتَالُ الْبَاغِي عَلَيْهِ. وَقِسْمٌ ثَالِثٌ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِمُ الْقَضِيَّةُ وَتَحَيَّرُوا فِيهَا وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُمْ تَرْجِيحُ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ فَاعْتَزَلُوا الْفَرِيقَيْنِ, فَكَانَ هَذَا الِاعْتِزَالُ هُوَ الْوَاجِبُ فِي حَقِّهِمْ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ الْإِقْدَامُ عَلَى قِتَالِ مُسْلِمٍ حَتَّى يَظْهَرَ أَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِذَلِكَ, وَلَوْ ظَهَرَ لِهَؤُلَاءِ رُجْحَانُ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ وَأَنَّ الْحَقَّ مَعَهُ لَمَا جَازَ لَهُمُ التَّأَخُّرُ عَنْ نُصْرَتِهِ فِي قِتَالِ
الْبُغَاةِ عَلَيْهِ فَكُلُّهُمْ مَعْذُورُونَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَلِهَذَا اتَّفَقَ أَهْلُ الْحَقِّ وَمَنْ يَعْتَدُّ بِهِ فِي الْإِجْمَاعِ عَلَى قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ وَرِوَايَاتِهِمْ وَكَمَالِ عَدَالَتِهِمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ, وَكَلَامُ الْأَئِمَّةِ فِي هَذَا الْبَابِ يَطُولُ, وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ إِمَامُ أَهْلِ السُّنَّةِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَقَدْ سُئِلَ عَنِ الْفِتَنِ أَيَّامَ الصَّحَابَةِ فَقَالَ تَالِيًا قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الْبَقَرَةِ: 134] .
"خاتمة" في التمسك بالكتاب والسنة، والرجوع إليهما عند الاختلاف
خَاتِمَةٌ: فِي وُجُوبِ التَّمَسُّكِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ, وَالرُّجُوعِ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ إِلَيْهِمَا, فَمَا خَالَفَهُمَا فَهُوَ رَدٌّ شَرْطُ قَبُولِ السَّعْيَ أَنْ يَجْتَمِعَا ... فِيهِ إِصَابَةٌ وَإِخْلَاصٌ مَعَا لِلَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ لَا سِوَاهُ ... مُوَافِقُ الشَّرْعِ الَّذِي ارْتَضَاهُ "شَرْطٌ" فِي "قَبُولِ" اللَّهِ تَعَالَى "السَّعْيَ" أَيِ: الْعَمَلَ مِنَ الْعَبْدِ وَخَبَرُ الْمُبْتَدَأِ "أَنْ يَجْتَمِعَا" الْأَلِفُ لِلْإِطَلَاقِ "فِيهِ" أَيْ: فِي السَّعْيِ, شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا "إِصَابَةٌ" ضِدُّ الْخَطَأِ, وَالثَّانِي "إِخْلَاصٌ" ضِدُّ الشِّرْكِ "مَعًا" أَيْ: لَمْ يَفْتَرِقَا, وَتَفْسِيرُهُ فِي الْبَيْتِ الَّذِي بَعْدَهُ, فَتَفْسِيرُ الْإِخْلَاصِ كَوْنُ الْعَمَلِ "لِلَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ" خَالِصًا "لَا" شِرْكَ فِيهِ لِـ"سِوَاهُ", وَهَذَا هُوَ مَعْنَى لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ, وَتَفْسِيرُ الْإِصَابَةِ كَوْنُهُ "مُوَافِقُ الشَّرْعِ" الثَّابِتِ عَنِ اللَّهِ "الَّذِي ارْتَضَاهُ" اللَّهُ تَعَالَى لِعِبَادِهِ دِينًا وَأَرْسَلَ بِهِ رُسُلَهُ إِلَيْهِمْ, وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ عَلَيْهِمْ, وَلَمْ يَقْبَلْ مِنْ أَحَدٍ دِينًا سِوَاهُ وَلَا أَحْسَنَ دِينًا مِمَّنِ الْتَزَمَهُ, وَقَدْ سَفِهَ نَفْسَهُ مَنْ رَغِبَ عَنْهُ. وَقَدْ جُمِعَ بَيْنَ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الْكَهْفِ: 110] وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْإِخْلَاصِ مُسْتَوْفًى فِي بَابِهِ. وَأَمَّا مَسْأَلَةُ التَّمَسُّكِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَنَذْكُرُ فِيهِ فُصُولًا: "الْفَصْلُ الْأَوَّلُ" فِي ذِكْرِ وُجُوبِ طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ
لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [آلِ عِمْرَانَ: 132] وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آلِ عِمْرَانَ: 32] وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النِّسَاءِ 65] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا} [السناء: 70] وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [النِّسَاءِ: 80] وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النِّسَاءِ: 59] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} [النِّسَاءِ: 13-14] وَقَالَ: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النِّسَاءِ: 105] وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [الْمَائِدَةِ: 92] وَقَالَ تَعَالَى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الْأَنْفَالِ: 1] وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الْأَنْفَالِ: 24] وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الْأَنْفَالِ: 46] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النُّورِ: 51-52] وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النُّورِ: 56] وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [النُّورِ: 54] وَقَالَ تَعَالَى: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النُّورِ: 63] . وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النُّورِ: 62] وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الْأَحْزَابِ: 71] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الْأَحْزَابِ 36] وَقَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الْأَحْزَابِ: 21] وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [مُحَمَّدٍ: 33] وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} [الْأَنْفَالِ: 20] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا} [الْفَتْحِ: 17] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الْحَشْرِ: 7] وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [التَّغَابُنِ: 12] وَقَالَ تَعَالَى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [الطَّلَاقِ: 11] وَقَالَ: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا
وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الْفَتْحِ: 8] وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ حَدَّثَنَا هِلَالُ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى" قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ يَأْبَى؟ قَالَ: "مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ, وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى" 1. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَادَةَ أَخْبَرَنَا يَزِيدُ حَدَّثَنَا سُلَيْمُ بْنُ حَيَّانَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مِينَاءَ حَدَّثَنَا -أَوْ سَمِعْتُ- جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: "جَاءَتْ مَلَائِكَةٌ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ نَائِمٌ" الْحَدِيثُ تَقَدَّمَ وَفِيهِ "فَمَنْ أَطَاعَ مُحَمَّدًا فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ عَصَى مُحَمَّدًا فَقَدْ عَصَى اللَّهَ, وَمُحَمَّدٌ فَرَّقَ بَيْنَ النَّاسِ" 2. وَلَهُ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: يَا مَعْشَرَ الْقُرَّاءِ اسْتَقِيمُوا فَقَدْ سَبَقْتُمْ سَبْقًا بَعِيدًا. وَإِنْ أَخَذْتُمْ يَمِينًا وَشِمَالًا لَقَدْ ضَلَلْتُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا3. وَلَهُ عَنْ أَبِي مُوسَى رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَتَى قَوْمًا فَقَالَ: يَا قَوْمُ إِنِّي رَأَيْتُ الْجَيْشَ بِعَيْنِي, وَإِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْعُرْيَانُ, فَالنَّجَاءَ. فَأَطَاعَهُ طَائِفَةٌ مِنْ قَوْمِهِ فَأَدْلَجُوا فَانْطَلَقُوا عَلَى مَهْلِهِمْ فَنَجَوْا, وَكَذَّبَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ فَأَصْبَحُوا مَكَانَهُمْ فَصَبَّحَهُمُ الْجَيْشُ فَأَهْلَكَهُمْ وَاجْتَاحَهُمْ, فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ أَطَاعَنِي فَاتَّبَعَ مَا جِئْتُ بِهِ, وَمَثَلُ مَنْ عَصَانِي وَكَذَّبَ بِمَا جِئْتُ بِهِ مِنَ الْحَقِّ" 4. وَفِيهِمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "دَعَوْنِي مَا تَرَكْتُكُمْ, إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِسُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ, وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأَتَوْا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ" 5.
وَفِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: صَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شَيْئًا تَرَخَّصَ فِيهِ وَتَنَزَّهَ عَنْهُ قَوْمٌ, فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَحَمِدَ اللَّهَ ثُمَّ قَالَ: "مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَتَنَزَّهُونَ عَنِ الشَّيْءِ أَصْنَعُهُ؟ فَوَاللَّهِ إِنِّي أَعْلَمُهُمْ بِاللَّهِ وَأَشَدُّهُمْ لَهُ خَشْيَةً" 1. وَفِيهِ عَنِ الْمُغِيرَةَ بْنِ شُعْبَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "لَا يَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ" 2. وَعَنْ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "مَنْ يُرِدِ اللَّهَ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهُهُ فِي الدِّينِ, وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ, ويعطي الله عزوجل, وَلَنْ يَزَالَ أَمْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ مُسْتَقِيمًا حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ, أَوْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى" 3. وَفِي الْمُسْنَدِ وَابْنِ مَاجَهْ وَغَيْرِهِمَا قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عند النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فحط خَطًّا هَكَذَا أَمَامَهُ فَقَالَ: "هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ" وَخَطَّيْنِ عَنْ يَمِينِهِ وَخَطَّيْنِ عَنْ شِمَالِهِ قَالَ: "هَذِهِ سَبِيلُ الشَّيْطَانِ" ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ فِي الْخَطِّ الْأَوْسَطِ ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الْأَنْعَامِ: 153] 4.
وَفِي الْمُسْنَدِ وَالتِّرْمِذِيِّ وَحَسَّنَهُ عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا, وَعَنْ جَنَبَتَيِ الصِّرَاطِ سُورَانِ فِيهِمَا أَبْوَابٌ مُفَتَّحَةٌ وَعَلَى الْأَبْوَابِ سُتُورٌ مُرْخَاةٌ وَعَلَى بَابِ الصِّرَاطِ دَاعٍ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ادْخُلُوا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا, وَدَاعٍ يَدْعُو مِنْ فَوْقِ الصِّرَاطِ, فَإِذَا أَرَادَ الْإِنْسَانُ أَنْ يَفْتَحَ شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ قَالَ: وَيْحَكَ لَا تَفْتَحْهُ فإنك إن تفتحه تَلِجْهُ. فَالصِّرَاطُ الْإِسْلَامُ, وَالسُّورَانِ حُدُودُ اللَّهِ, وَالْأَبْوَابُ الْمُفَتَّحَةُ مَحَارِمُ اللَّهِ, وَذَلِكَ الدَّاعِي عَلَى رَأْسِ الصِّرَاطِ كِتَابُ اللَّهِ, وَالدَّاعِي فَوْقَ الصِّرَاطِ وَاعِظُ اللَّهِ فِي قَلْبِ كُلِّ مُسْلِمٍ" 1. وَفِي جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ عَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ قَالَ: وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمًا بَعْدَ صَلَاةِ الْغَدَاةِ مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ, فَقَالَ رَجُلٌ: إِنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ, فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ, فَإِنَّهُ مَنْ يَعْشُ مِنْكُمْ يَرَ اخْتِلَافًا كَثِيرًا, وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتُ الْأُمُورِ فَإِنَّهَا ضَلَالَةٌ, فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَعَلَيْهِ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ, عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ" وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ2. وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَزَادَ "وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتُ الْأُمُورِ, فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ, وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ" 3 وَفِي رِوَايَةٍ. قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ هَذِهِ لَمَوْعِظَةٌ. فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا؟ قَالَ: "قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ" 4 وَفِي
رِوَايَةٍ "فَعَلَيْكُمْ بِمَا عَرَفْتُمْ مِنْ سُنَّتِي" 1. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مَا مِنْ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ فِي أُمَّةٍ قَبْلِي إِلَّا كَانَ لَهُ مِنْ أُمَتِهِ حَوَارِيُّونَ وَأَصْحَابٌ يَأْخُذُونَ بِسُنَّتِهِ وَيَقْتَدُونَ بِأَمْرِهِ, ثُمَّ إِنَّهَا تَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ وَيَفْعَلُونَ مَا لَا يُؤْمَرُونَ, فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ, وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ, وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ, وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الْإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ" 2. وَلِأَحْمَدَ عَنْ مُجَاهِدٍ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي سَفَرٍ بِمَكَانٍ فَحَادَ عَنْهُ, فَسُئِلَ لِمَ فَعَلْتَ؟ فَقَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَعَلَ هَذَا فَفَعَلْتُ3. وَلَهُ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ جَابِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ الْمِقْدَامَ بْنَ مَعْدِ يَكْرِبَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ خَيْبَرَ أَشْيَاءَ ثُمَّ قَالَ: "يُوشِكُ أَحَدُكُمْ أَنْ يُكَذِّبَنِي وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى أَرِيكَتِهِ يُحَدِّثُ بِحَدِيثِي فَيَقُولُ: بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ, فَمَا وَجَدْنَاهُ فِيهِ مِنْ حَلَالٍ, اسْتَحْلَلْنَاهُ وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَرَامٍ حَرَّمْنَاهُ, أَلَا وَإِنَّمَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِثْلَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ" 4. وَعَنْهُ أَيْضًا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ, أَلَا يُوشِكُ رَجُلٌ يَنْثَنِي شَبْعَانَ عَلَى أَرِيكَتِهِ يَقُولُ: عَلَيْكُمُ الْقُرْآنَ, فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ
تحريم القول على الله بلا علم
حَلَالٍ فَأَحِلُّوهُ وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ, أَلَا لَا يَحِلُّ لَكُمْ لَحْمُ الْحِمَارِ الْأَهْلِيِّ وَلَا كُلُّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ, أَلَا وَلَا لُقَطَةٌ مِنْ مَالِ مُعَاهِدٍ إِلَّا أَنْ يَسْتَغْنِيَ صَاحِبُهَا. وَمَنْ نَزَلَ بِقَوْمٍ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَقْرُوهُ, فَإِذَا لَمْ يَقْرُوهُمْ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يُعْقِبُوهُمْ بِمِثْلِ قِرَاهُمْ". وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ, وَإِسْنَادُ أَحْمَدَ جَيِّدٌ, وَسَكَتَ عَلَيْهِ أَبُو دَاوُدَ وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ1, وَلِأَحْمَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ نَحْوَهُ, وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ وَفِيمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ كِفَايَةٌ. "الْفَصْلُ الثَّانِي" فِي تَحْرِيمِ الْقَوْلِ عَلَى اللَّهِ بِلَا عِلْمٍ, وَتَحْرِيمِ الْإِفْتَاءِ فِي دِينِ اللَّهِ بِمَا يُخَالِفُ النُّصُوصَ: قَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الْأَعْرَافِ: 33] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الْأَحْزَابِ: 36] وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا} [الْإِسْرَاءِ: 36] وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الْحُجُرَاتِ: 1] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النِّسَاءِ: 105] وَقَالَ تَعَالَى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [الْأَعْرَافِ: 3] . وَقَالَ تَعَالَى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الْأَنْعَامِ: 57] وَقَالَ: {لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الْكَهْفِ: 26] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ
اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [الْمَائِدَةِ: 44] {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الْمَائِدَةِ: 45] {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الْمَائِدَةِ: 47] وَقَالَ تَعَالَى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ} [الْأَنْعَامِ: 156] الْآيَاتِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [الزُّخْرُفِ: 44] . وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي حَرْثٍ بِالْمَدِينَةِ وَهُوَ يَتَوَكَّأُ عَلَى عَسِيبٍ, فَمَرَّ بِنَفَرٍ مِنَ الْيَهُودِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: سَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تَسْأَلُوهُ لِئَلَّا يُسْمِعَكُمْ مَا تَكْرَهُونَ. فَقَامُوا إِلَيْهِ فَقَالُوا: يَا أَبَا الْقَاسِمِ حَدِّثْنَا عَنِ الرُّوحِ. فَقَامَ سَاعَةً يَنْظُرُ, فَعَرَفْتُ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ, فَتَأَخَّرْتُ عَنْهُ حَتَّى صَعِدَ الْوَحْيُ ثُمَّ قَالَ: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الْإِسْرَاءِ: 85] . وَفِيهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي قِصَّةِ الْمُتَلَاعِنِينَ لَمَّا جَاءَتْ بِهِ عَلَى النَّعْتِ الْمَكْرُوهِ فَقَالَ النَّبِيُّ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْلَا مَا مَضَى مِنْ كِتَابِ اللَّهِ لكان لي ولها شَأْنٌ" 2. وَفِيهِ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: مَرِضْتُ فَجَاءَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَعُودُنِي وَأَبُو بَكْرٍ وَهُمَا مَاشِيَانِ, فَأَتَانِي وَقَدْ أُغْمِيَ عَلَيَّ, فَتَوَضَّأَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثُمَّ صَبَّ وَضَوْءَهُ عَلَيَّ, فَأَفَقْتُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ أَقْضِي فِي مَالِيَ كَيْفَ أَصْنَعُ فِي مَالِي؟ قَالَ: فَمَا أَجَابَنِي بِشَيْءٍ حَتَّى نَزَلَتْ آيَةُ الْمِيرَاثِ3.
وَعَلَى هَذَا تَرْجَمَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: بَابَ مَا كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُسْأَلُ مِمَّا لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ الْوَحْيُ فَيَقُولُ: "لَا أَدْرِي", أَوْ لَمْ يُجِبْ حَتَّى يَنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ, وَلَمْ يَقْبَلْ بِرَأْيٍ وَلَا بِقِيَاسٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} الْآيَةَ. وَتَرْجَمَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: بَابَ مَا يُذْكَرُ مِنْ ذَمِّ الرَّأْيِ وَتَكَلُّفِ الْقِيَاسِ {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الْإِسْرَاءِ: 36] ثُمَّ ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَنْزِعُ الْعِلْمَ بَعْدَ أَنْ أَعْطَاهُمُوهُ انْتِزَاعًا, وَلَكِنْ يَنْتَزِعُهُ مِنْهُمْ مَعَ قَبْضِ الْعُلَمَاءِ بِعِلْمِهِمْ, فَيَبْقَى نَاسٌ جهال يستفتون فيفتون بِرَأْيِهِمْ فَيَضِلُّونَ وَيُضِلُّونَ" 1. وَحَدِيثُ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّهَمُوا رَأْيَكُمْ عَلَى دِينِكُمْ, لَقَدْ رَأَيْتُنِي يَوْمَ أَبِي جَنْدَلٍ لَوْ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَرُدَّ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَرَدَدْتُهُ2. الْخَبَرَ. وَفِي خُطَبِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا لَا يُحْصَى أَنْ يَقُولَ: "أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ, وَإِنَّ أَفْضَلَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا, وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ"3. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ يَزِيدِ بْنِ عَمِيرَةَ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: كَانَ لَا يَجْلِسُ مَجْلِسًا لِلذِّكْرِ حِينَ يَجْلِسُ إِلَّا قَالَ: اللَّهُ حَكَمٌ قِسْطٌ, هَلَكَ الْمُرْتَابُونَ. فَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ يَوْمًا: إِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ فِتَنًا يَكْثُرُ فِيهَا الْمَالُ وَيُفْتَحُ فِيهَا الْقُرْآنُ حَتَّى يَأْخُذَهُ الْمُؤْمِنُ وَالْمُنَافِقُ وَالرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ وَالصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ وَالْعَبْدُ وَالْحُرُّ, فَيُوشِكُ قَائِلٌ يَقُولُ: مَا لِلنَّاسِ لَا يَتْبَعُونِي وَقَدْ قَرَأْتُ الْقُرْآنَ؟ مَا هُمْ بِمُتَّبِعِي حَتَّى أَبْدَعَ لَهُمْ غَيْرَهُ. فَإِيَّاكُمْ وَمَا ابْتُدِعَ؛ فَإِنَّ مَا ابْتُدِعَ ضَلَالَةٌ. وَأُحَذِّرُكُمْ زَيْغَةَ الْحَكِيمِ
فَإِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَقُولُ كَلِمَةَ الضَّلَالَةِ عَلَى لِسَانِ الْحَكِيمِ، وَقَدْ يَقُولُ الْمُنَافِقُ كَلِمَةَ الْحَقِّ. قَالَ: قُلْتُ لِمُعَاذٍ: مَا يُدْرِينِي رَحِمَكَ اللَّهُ أَنَّ الْحَكِيمَ قَدْ يَقُولُ كَلِمَةَ الضَّلَالَةِ، وَأَنَّ الْمُنَافِقَ قَدْ يَقُولُ كَلِمَةَ الْحَقِّ؟ قَالَ: بَلَى اجْتَنِبْ مِنْ كَلَامِ الْحَكِيمِ الْمُشْتَهِرَاتِ الَّتِي يُقَالُ لَهَا مَا هذه, ولا يثنينك ذَلِكَ عَنْهُ فَإِنَّهُ لَعَلَّهُ أَنْ يُرَاجِعَ، وَتَلَقَّ الْحَقَّ إِذَا سَمِعْتَهُ فَإِنَّ عَلَى الْحَقِّ نُورًا1. وَلَهُ مِنْ طُرُقٍ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ قَالَ: كَتَبَ رَجُلٌ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ سَأَلَهُ عَنِ الْقَدَرِ، فَكَتَبَ: أَمَّا بَعْدُ أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالِاقْتِصَادِ فِي أَمْرِهِ, وَاتِّبَاعِ سُنَّةِ نَبِيِّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَتَرْكِ مَا أَحْدَثَ الْمُحْدِثُونَ بَعْدَمَا جَرَتْ بِهِ سُنَّتُهُ وَكُفُوا مُؤْنَتَهُ، فَعَلَيْكَ بِلُزُومِ السُّنَةِ فَإِنَّهَا لَكَ بِإِذْنِ اللَّهِ عِصْمَةٌ. ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ لَمْ يَبْتَدِعِ النَّاسُ بِدْعَةً إِلَّا قَدْ مَضَى مَا هُوَ دَلِيلٌ عَلَيْهَا أَوْ عِبْرَةٌ فِيهَا، فَإِنَّ السُّنَّةَ إِنَّمَا سَنَّهَا مَنْ قَدْ عَلِمَ، أَمَّا فِي خِلَافٍ مِنَ الْخَطَأِ وَالزَّلَلِ وَالْحُمْقِ وَالتَّعَمُّقِ فَارْضَ لِنَفْسِكَ مَا رَضِيَ بِهِ القوم لأنفسهم، فإنه عَلَى عِلْمٍ وَقَعُوا، وَبِبَصَرٍ نَافِذٍ كُفُّوا، وَلَهُمْ عَلَى كَشْفِ الْأُمُورِ كَانُوا أَقْوَى، وَبِفَضْلِ مَا كَانُوا فِيهِ أَوْلَى. فَإِنْ كَانَ الْهُدَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ لَقَدْ سَبَقُوكُمْ إِلَيْهِ. وَلَئِنْ قُلْتُمْ إِنَّمَا حَدَثَ بَعْدَهُمْ، مَا أَحْدَثَهُ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِهِمْ وَرَغِبَ بِنَفْسِهِ عَنْهُمْ، فَإِنَّهُمْ هُمُ السَّابِقُونَ فَقَدْ تَكَلَّمُوا فِيهِ بِمَا يَكْفِي، وَوَصَفُوا مِنْهُ مَا يَشْفِي، فَمَا دُونَهُمْ مِنْ مُقَصِّرٍ. وَمَا فَوْقَهُمْ مِنْ مُحْسَرٍ، وَقَدْ قَصَّرَ قَوْمٌ مِنْ دُونِهِمْ فَجَفَوْا، وطمح عليهم أقوام فَغَلَوْا، وَإِنَّهُمْ بَيْنَ ذَلِكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ، كَتَبْتَ تَسْأَلُ عَنِ الْإِقْرَارِ بِالْقَدَرِ، فَعَلَى الْخَبِيرِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَعْتَ، مَا أَعْلَمُ مَا أَحْدَثَ النَّاسُ مِنْ مُحْدَثَةٍ وَلَا ابْتَدَعُوا مِنْ بِدْعَةٍ هِيَ أَبْيَنُ أَثَرًا، وَلَا أَثْبَتُ أَمْرًا مِنَ الْإِقْرَارِ بِالْقَدَرِ. لَقَدْ كَانَ ذَكَرَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ الْجُهَلَاءُ. لَا يَتَكَلَّمُونَ بِهِ فِي كَلَامِهِمْ وَفِي شِعْرِهِمْ يُعَزُّونَ بِهِ أَنْفُسَهُمْ عَلَى مَا فَاتَهُمْ، ثُمَّ لَمْ يَزِدْهُ الْإِسْلَامُ بَعْدُ إِلَّا شِدَّةً. وَلَقَدْ ذَكَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي غَيْرِ حَدِيثٍ وَلَا حَدِيْثَيْنِ، وَقَدْ سَمِعَهُ مِنْهُمُ الْمُسْلِمُونَ فَتَكَلَّمُوا بِهِ فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ وَفَاتِهِ يَقِينًا وَتَسْلِيمًا لِرَبِّهِمْ وَتَضْعِيفًا لِأَنْفُسِهِمْ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ لم
عظم إثم من أحدث في الدين ما ليس منه
لَمْ يُحِطْ بِهِ عِلْمُهُ وَلَمْ يُحْصِهِ كتابه ولم يمضى فيه قَدَرُهُ، وَإِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ لَفِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ، مِنْهُ اقْتَبَسُوهُ وَمِنْهُ تَعَلَّمُوهُ. وَلَئِنْ قُلْتُمْ لِمَ أَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ كَذَا؟ وَلِمَ قَالَ كَذَا؟ لقد قرءوا منه مَا قَرَأْتُمْ، وَعَلِمُوا مِنْ تَأْوِيلِ مَا جَهِلْتُمْ، وَقَالُوا بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ: بِكِتَابٍ وَقَدَرٍ، وَكُتِبَتِ الشَّقَاوَةُ، وَمَا يُقْدَرُ يَكُنْ، وَمَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَلَا نَمْلِكُ لِأَنْفُسِنَا ضُرًّا وَلَا نَفْعًا، ثُمَّ رَغِبُوا بَعْدَ ذَلِكَ وَرَهِبُوا1. وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ جِدًّا. "الْفَصْلُ الثَّالِثُ" فِي عِظَمِ إِثْمِ مَنْ أَحْدَثَ فِي الدِّينِ مَا لَيْسَ مِنْهُ: قَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [النَّحْلِ: 25] وَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الْعَنْكَبُوتِ: 13] . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَيْسَ مِنْ نَفْسٍ تُقْتَلُ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْهَا، لِأَنَّهُ أَوَّلَ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ" 2. وَلِأَحْمَدَ وَمُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ سَنَّ سُنَّةَ ضَلَالٍ فَاتُّبَعَ عَلَيْهَا كَانَ عَلَيْهِ مِثْلُ أَوْزَارِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ مِثْلِ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ سُنَّةَ هُدًى فَاتُّبَعَ عَلَيْهَا كَانَ لَهُ مِثْلَ أُجُورِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ" 3. وَلِأَحْمَدَ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عَنْ حَبِيبِ بْنِ عُبَيْدٍ الْرَّحَبِيِّ عَنْ غُضَيْفِ بْنِ الْحَارِثِ
الثُّمَالِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: بَعَثَ إِلَيَّ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ فَقَالَ: يَا أَبَا أَسْمَاءَ إِنَّا قَدْ جَمَعْنَا النَّاسَ عَلَى أَمْرَيْنِ. قَالَ: وَمَا هُمَا؟ قَالَ: تُرْفَعُ الْأَيْدِي عَلَى الْمَنَابِرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَالْقَصَصُ بَعْدَ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ. فَقَالَ: أَمَّا إِنَّهُمَا أَمْثَلُ بِدْعَتِكُمْ عِنْدِي، وَلَسْتُ مُجِيبِكَ إِلَى شَيْءٍ مِنْهُمَا. قَالَ: لِمَ؟ قَالَ: لِأَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مَا أَحْدَثَ قَوْمٌ بِدْعَةً إِلَّا رُفِعَ مِثْلَهَا مِنَ السُّنَّةِ، فَتَمَسُّكٌ بِسُنَّةٍ خَيْرٌ مِنْ إِحْدَاثِ بِدْعَةٍ"1. وَفِي حَدِيثِ الْحَوْضِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ تَقَدَّمَ أَكْثَرُهُمْ قَالَ: "لَيَرِدَنَّ عَلَى الْحَوْضِ رِجَالٌ مِمَّنْ صَحِبَنِي وَرَآنِي حَتَّى إِذَا رُفِعُوا إِلَيَّ وَرَأَيْتُهُمْ اخْتَلَجُوا دُونِي فَلْأَقُولَنَّ: رَبِّي أَصْحَابِي، فَيُقَالُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ". وَفِي بَعْضِهَا زِيَادَةٌ "فَأَقُولُ: سُحْقًا سُحْقًا لِمَنْ بَدَّلَ بَعْدِي" 2. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: تَلَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هَذِهِ الْآيَةَ {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آلِ عِمْرَانَ: 7] قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سمى الله فاحذروهم" 3. وَعَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: جَاءَ نَاسٌ مِنَ الْأَعْرَابِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَيْهِمُ الصُّوفُ، فَرَأَى سُوءَ حَالِهِمْ؛ قَدْ أَصَابَتْهُمْ حَاجَةٌ، فَحَثَّ النَّاسَ على الصدقة، فأبطئوا عَنْهُ حَتَّى رُؤِيَ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ، قَالَ: ثُمَّ إِنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ جَاءَ بِصُرَّةٍ مِنْ وَرَقٍ، ثُمَّ جَاءَ آخَرُ، ثُمَّ تَتَابَعُوا حَتَّى عُرِفَ السُّرُورُ فِي وَجْهِهِ فَقَالَ:
كل ما خالف الوحيين مردود
رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ كُتِبَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا، وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ كُتِبَ عَلَيْهِ مِثْلُ وِزْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا، وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ" 1. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِلَفْظٍ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من سنة سُنَّةَ خَيْرٍ فَاتُّبِعَ عَلَيْهَا فَلَهُ أَجْرُهُ وَمِثْلُ أُجُورِ مَنِ اتَّبَعَهُ غَيْرَ مَنْقُوصٍ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، ومن سنة سُنَّةَ شَرٍّ فَاتُّبِعْ عَلَيْهَا كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَمِثْلُ أَوْزَارِ مَنِ اتَّبَعَهُ غَيْرَ مَنْقُوصٍ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا" 2. وَلَهُ عَنْ كَثِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ لِبِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ: "اعْلَمْ" قَالَ: أَعْلَمُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: "إِنَّهُ مَنْ أَحْيَا سُنَّةً مِنْ سُنَّتِي قَدْ أُمِيتَتْ بَعْدِي كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنِ ابْتَدَعَ بِدْعَةً ضَلَالَةً لَا يَرْضَاهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ كَانَ عَلَيْهِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ عَمِلَ بِهَا لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أَوْزَارِ النَّاسِ شَيْئًا " قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ3. وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ وَفِي هَذَا كِفَايَةٌ. "الْفَصْلُ الرَّابِعُ وَالْخَامِسُ" مَا فِي هَذِهِ الْأَبْيَاتِ: وَكُلُّ ما خالف الوحيين ... فَإِنَّهُ رَدٌّ بِغَيْرِ مَيْنِ وَكُلُّ مَا فِيهِ الْخِلَافُ نُصِبَا ... فَرَدُّهُ إِلَيْهِمَا قَدْ وَجَبَا فَالدِّينُ إِنَّمَا أَتَى بِالنَّقْلِ ... لَيْسَ بِالْأَوْهَامِ وَحَدْسِ الْعَقْلِ
"وَكُلُّ مَا" أَيُّ أَمْرٍ كان "خالف الوحيين" نُصُوصَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ وَحَيٌّ ثَانٍ أَيْضًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النَّجْمِ: 2-5] وَقَالَ النَّبِيُّ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أُوتِيَتُ الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ"1 الْحَدِيثَ. "فَإِنَّهُ" أَيْ: ذَلِكَ الْأَمْرَ الْمُخَالِفَ "رَدٌّ" أَيْ: مَرْدُودٌ عَلَى مُبْتَدِعِهِ مَنْ كَانَ "بِغَيْرِ مَيْنٍ" بِدُونِ شَكٍّ، قَالَ اللَّهُ تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آلِ عِمْرَانَ: 85] وَدِينُ الْإِسْلَامِ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ كِتَابَهُ عَلَى رَسُولِهِ لِيُبَيِّنَهُ لِلنَّاسِ، فَتَلَاهُ الرَّسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى أُمَّتِهِ وَبَيَّنَهُ لَهُمْ بِسُنَّتِهِ مِنْ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَتَقْرِيرَاتِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَتَقَدَّمَ فِي الْأَحَادِيثِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتُ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ"2. وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} [الْبَقَرَةِ: 130] , وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النِّسَاءِ: 125] ، وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [آلِ عِمْرَانَ: 83] وَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [الْأَعْرَافِ: 3] ، وَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الْجَاثِيَةِ: 18] الْآيَاتِ. وَقَالَ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الْعَنْكَبُوتِ: 51] وَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التَّوْبَةِ: 31] الْآيَةَ، وَقَالَ تَعَالَى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ}
[الشُّورَى: 21] الْآيَةَ. وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ" 1. وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: "مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمَرُنَا فَهُوَ رَدٌّ" 2. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَقَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْمَحَجَّةِ الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا، لَا يزيغ عنها بعدي إلا هلك" 3. وَفِي السُّنَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "افْتَرَقَتِ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى أَوِ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَتَفْتَرِقُ النَّصَارَى عَلَى إِحْدَى أَوِ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً" 4. وَفِيهَا عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: أَلَا إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَامَ فِينَا فَقَالَ: "أَلَا إِنَّ مَنْ قَبِلَكُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ افْتَرَقُوا عَلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً، وَإِنَّ هَذِهِ الْمِلَّةَ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ: ثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ وَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ وَهِيَ الْجَمَاعَةُ" زَادَ فِي رِوَايَةٍ "وَإِنَّهُ سَيَخْرُجُ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ تَتَجَارَى بِهِمْ تِلْكَ الْأَهْوَاءِ كَمَا يَتَجَارَى الْكَلْبُ لِصَاحِبِهِ" وَفِي لَفْظٍ "بِصَاحِبِهِ، لَا يَبْقَى مِنْهُ عِرْقٌ وَلَا مِفْصَلٌ إِلَّا دَخَلَهُ" 5.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَأْخُذَ أُمَّتِي بِأَخْذِ الْقُرُونِ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ" فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَفَارِسٍ وَالرُّومِ؟ فَقَالَ: "وَمَنِ النَّاسُ إِلَّا أُولَئِكَ" 1. وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قبلكم شبرا شِبْرًا وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَتَبِعْتُمُوهُ" قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: "فَمَنْ" 2. وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ.
البدع كلها مردودة، وهي بدع مكفرة، وبدع ملبس على أهلها
"الْبِدَعُ": ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْبِدَعَ كُلَّهَا مَرْدُودَةٌ لَيْسَ مِنْهَا شَيْءٌ مَقْبُولًا، وَكُلَّهَا قَبِيحَةٌ لَيْسَ فِيهَا حَسَنٌ، وَكُلَّهَا ضَلَالٌ لَيْسَ فِيهَا هُدًى، وَكُلَّهَا أَوْزَارٌ لَيْسَ فِيهَا أَجْرٌ، وَكُلَّهَا بَاطِلٌ لَيْسَ فِيهَا حَقٌّ. وَمَعْنَى الْبِدْعَةِ هُوَ شَرْعُ مَا لَمْ يَأْذَنِ اللَّهُ بِهِ وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَمْرُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلَا أَصْحَابِهِ، وَلِهَذَا فَسَّرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْبِدْعَةَ بِقَوْلِهِ: "كُلُّ عَمَلٍ لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا" 1. وَوَصَفَ الطَّائِفَةَ النَّاجِيَةَ مِنَ الثَّلَاثِ وَالسَّبْعِينَ فِرْقَةً بِقَوْلِهِ: "هُمُ الْجَمَاعَةُ"2, وَفِي رِوَايَةٍ "هُمْ مَنْ كَانَ مِثْلُ مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي"2. ثُمَّ الْبِدَعُ بِحَسَبِ إِخْلَالِهَا بِالدِّينِ قِسْمَانِ: مُكَفِّرَةٌ لِمُنْتَحِلِهَا. وَغَيْرُ مُكَفِّرَةٍ. فَضَابِطُ الْبِدْعَةِ الْمُكَفِّرَةِ: مَنْ أَنْكَرَ أَمْرًا مُجَمْعًا عَلَيْهِ مُتَوَاتِرًا مِنَ الشَّرْعِ مَعْلُومًا مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ مِنْ جُحُودِ مَفْرُوضٍ أَوْ فَرْضِ مَا لَمْ يُفْرَضْ أَوْ إِحْلَالِ مُحَرَّمٍ أَوْ تَحْرِيمِ حَلَالٍ أَوِ اعْتِقَادِ مَا يُنَزَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَكِتَابُهُ عَنْهُ مِنْ نَفْيٍ أَوْ إِثْبَاتٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَكْذِيبٌ بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلَ اللَّهُ بِهِ رُسُلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَسَلَّمَ كَبِدْعَةِ الْجَهْمِيَّةِ فِي إِنْكَارِ صفات الله عز وجل وَالْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، أَوْ خَلْقِ أَيْ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ، وَإِنْكَارِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا وَكَلَّمَ مُوسَى تَكْلِيمًا وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَكَبِدْعَةِ الْقَدَرِيَّةِ فِي إِنْكَارِ عِلْمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَأَفْعَالِهِ وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، وَكَبِدْعَةِ الْمُجَسِّمَةِ الَّذِينَ يُشَبِّهُونَ اللَّهَ تَعَالَى بِخَلْقِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَهْوَاءِ.
وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ مِنْهُمْ مَنْ عُلِمَ أَنَّ عَيْنَ قَصْدِهِ هَدْمُ قَوَاعِدِ الدِّينِ وَتَشْكِيكُ أَهْلِهِ فِيهِ فَهَذَا مَقْطُوعٌ بِكُفْرِهِ بَلْ هُوَ أَجْنَبِيٌّ عَنِ الدِّينِ مِنْ أَعْدَى عَدُوٍّ لَهُ. وَآخَرُونَ مَغْرُورُونَ مُلَبَّسٌ عَلَيْهِمْ، فَهَؤُلَاءِ إِنَّمَا يُحْكَمُ بِكُفْرِهِمْ بَعْدَ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ وَإِلْزَامِهِمْ بِهَا. وَالْقِسْمُ الثَّانِي الْبِدَعِ الَّتِي لَيْسَتْ بِمُكَفِّرَةٍ: وَهِيَ مَا لَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ تَكْذِيبٌ بِالْكِتَابِ وَلَا بِشَيْءٍ مِمَّا أَرْسَلَ اللَّهُ بِهِ رُسُلَهُ كَبِدَعِ الْمَرْوَانِيَّةِ الَّتِي أَنْكَرَهَا عَلَيْهِمْ فُضَلَاءُ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يُقِرُّوهُمْ عَلَيْهَا وَلَمْ يُكَفِّرُوهُمْ بِشَيْءٍ مِنْهَا وَلَمْ يَنْزِعُوا يَدًا مِنْ بَيْعَتِهِمْ لِأَجْلِهَا كَتَأْخِيرِهِمْ بَعْضَ الصَّلَوَاتِ إِلَى أَوَاخِرِ أَوْقَاتِهَا، وَتَقْدِيمِهِمُ الْخُطْبَةَ قَبْلَ صَلَاةِ الْعِيدِ، وَجُلُوسِهِمْ فِي نَفْسِ الْخُطْبَةِ فِي الْجُمُعَةِ وَغَيْرِهَا وَسَبِّهِمْ كِبَارَ الصَّحَابَةِ عَلَى الْمَنَابِرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ على اعتقاد شرعية، بَلْ بِنَوْعِ تَأْوِيلٍ وَشَهَوَاتٍ نَفْسَانِيَّةٍ وَأَغْرَاضٍ دُنْيَوِيَّةٍ. كَمَا رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: مَا أَعْرِفُ شَيْئًا الْيَوْمَ مِمَّا كُنَّا عَلَيْهِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: قُلْنَا: فأين الصلاة؟ قل: أَوَلَمْ تَصْنَعُوا فِي الصَّلَاةِ مَا قَدْ عَلِمْتُمْ1؟ وَلَهُ عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ بِإِسْنَادٍ نَيِّرٍ قَالَ: قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَا أَعْرِفُ فِيكُمُ الْيَوْمَ شَيْئًا كُنْتُ أَعْهَدُهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَيْسَ قَوْلَكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. قَالَ: قُلْتُ: يَا أَبَا حَمْزَةَ الصَّلَاةَ؟ قَالَ: قَدْ صَلَّيْتُ حِينَ تَغْرُبُ الشَّمْسُ، أَفَكَانَتْ تِلْكَ صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ2؟. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَخْرُجُ يَوْمَ الفطر والأضحى إلى الْمُصَلَّى فَأَوَّلُ شَيْءٍ يَبْدَأُ بِهِ
الصَّلَاةُ، ثُمَّ يَنْصَرِفُ فَيَقُومُ مُقَابِلَ النَّاسِ وَالنَّاسُ جُلُوسٌ عَلَى صُفُوفِهِمْ فَيَعِظُهُمْ وَيُوصِيهِمْ وَيَأْمُرُهُمْ، فَإِنْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَقْطَعَ بَعْثًا قَطَعَهُ أَوْ يَأْمُرَ بِشَيْءٍ أَمَرَ بِهِ ثُمَّ يَنْصَرِفُ. قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَلَمْ يَزَلِ النَّاسُ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى خَرَجْتُ مَعَ مَرْوَانَ وَهُوَ أَمِيرُ الْمَدِينَةِ فِي الْأَضْحَى أَوِ الْفِطَرِ فَلَمَّا أَتَيْنَا الْمُصَلَّى إِذَا مِنْبَرٌ بَنَاهُ كَثِيرُ بْنُ الصَّلْتِ فَإِذَا مَرْوَانُ يُرِيدُ يَرْتَقِيَهُ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ، فَجَبَذْتُ بِثَوْبِهِ، فَجَبَذَنِي فَارْتَفَعَ فَخَطَبَ قَبْلَ الصَّلَاةِ، فَقُلْتُ لَهُ: غَيَّرْتُمْ وَاللَّهِ، فَقَالَ: أَبَا سَعِيدٍ قَدْ ذَهَبَ مَا تَعْلَمُ. فَقُلْتُ: مَا أَعْلَمُ وَاللَّهِ خَيْرٌ مِمَّا لَا أَعْلَمُ. فَقَالَ: إِنَّ النَّاسَ لَمْ يَكُونُوا يَجْلِسُونَ لَنَا بَعْدَ الصَّلَاةِ فَجَعَلْتُهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ1. وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ مِنْهُ قُلْتُ: أَيْنَ الِابْتِدَاءُ بِالصَّلَاةِ؟ فَقَالَ: يَا أَبَا سَعِيدٍ قَدْ تُرِكَ مَا تَعْلَمُ، قُلْتُ: كَلَّا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَأْتُونَ بِخَيْرٍ مِمَّا أَعْلَمُ -ثَلَاثَ مَرَّاتٍ- ثُمَّ انْصَرَفَ2. وَرَوَى أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: أَخْرَجَ مَرْوَانُ الْمِنْبَرَ فِي يَوْمِ عِيدٍ فَبَدَأَ بِالْخُطْبَةِ قَبْلَ الصَّلَاةِ، فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا مَرْوَانُ خَالَفْتَ السُّنَّةَ، أَخْرَجْتَ الْمِنْبَرَ فِي يَوْمِ عِيدٍ وَلَمْ يَكُنْ يُخْرَجُ فِيهِ، وَبَدَأْتَ الْخُطْبَةَ قَبْلَ الصَّلَاةِ وَلَمْ يَكُنْ يُبْدَأُ بِهَا. فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: فُلَانُ ابن فُلَانٍ، فَقَالَ: أَمَّا هَذَا فَقَدَ قَضَى مَا عَلَيْهِ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "مَنْ رَأَى مُنْكِرًا فَاسْتَطَاعَ أَنْ يُغَيِّرَهُ بِيَدِهِ فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ" 3.
قُلْتُ: وَالْمَرْفُوعُ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي صَحِيحِ مسلم1، ولعل تغيير هَذَا الرَّجُلِ عَلَى مَرْوَانَ كَانَ تَارَةً أُخْرَى فِي غَيْرِ الْمَرَّةِ الَّتِي غَيَّرَ فِيهَا أَبُو سَعِيدٍ بِيَدِهِ وَلِسَانِهِ؛ لِأَنَّ تَغْيِيرَ أَبِي سَعِيدٍ كَانَ عِنْدَ أَوَّلِ مَا ابْتُدِعَ ذَلِكَ ابْتِدَاءً وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَخْطُبُ قَائِمًا ثُمَّ يَجْلِسُ، ثُمَّ يَقُومُ فَيَخْطُبُ قَائِمًا، فَمَنْ نَبَّأَكَ أَنَّهُ كَانَ يَخْطُبُ جَالِسًا فَقَدْ كَذَبَ، فَقَدَ وَاللَّهِ صَلَّيْتُ مَعَهُ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفَيْ صَلَاةٍ2. وَفِيهِ عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أُمِّ الْحَكَمِ يَخْطُبُ قَاعِدًا، فَقَالَ: انْظُرْ إِلَى هَذَا الْخَبِيثِ يَخْطُبُ قَاعِدًا، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} 3 [الْجُمُعَةِ: 11] . وَفِيهِ عَنْ عَمَّارِ بْنِ رُوَيْبَةَ قَالَ: رُؤِيَ بِشْرُ بْنُ مَرْوَانَ عَلَى الْمِنْبَرِ رَافِعًا يَدَيْهِ فَقَالَ: قَبَّحَ اللَّهُ هَاتَيْنِ الْيَدَيْنِ، لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا يَزِيدُ عَلَى أَنْ يَقُولَ بِيَدِهِ هَكَذَا، وَأَشَارَ بِأُصْبُعِهِ الْمُسَبِّحَةِ4. وَتَقَدَّمَ فِي فَضَائِلِ الصَّحَابَةِ نَصِيحَةُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَسَهْلِ بْنِ سَعْدٍ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الصَّحَابَةِ وَعِظَتُهُ إِيَّاهُمْ عَنْ سَبِّ الصَّحَابَةِ. وَعَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ رَأَى جَمَاعَةً عُكُوفًا عَلَى رَجُلٍ فَأَدْخَلَ رَأْسَهُ مِنْ بَيْنِ اثْنَيْنِ فَإِذَا هُوَ يَسُبُّ عَلِيًّا وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ, فَنَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ فَلَمْ يَنْتَهِ, فَقَالَ: أَدْعُو عَلَيْكَ، فَقَالَ الرَّجُلُ: تَتَعَهَّدُنِي كَأَنَّكَ نَبِيٌّ، فَانْصَرَفَ سَعْدٌ فَدَخَلَ دَارَ آلِ فُلَانٍ فَتَوَضَّأَ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ قَدْ سَبَّ أَقْوَامًا قَدْ سَبَقَ لَهُمْ مِنْكَ سَابِقَةَ الْحُسْنَى وَأَنَّهُ قَدْ أَسْخَطَكَ سَبُّهُ إِيَّاهُمْ فَاجْعَلْهُ الْيَوْمَ آيَةً وَعِبْرَةً. قَالَ فَخَرَجَتْ بُخْتِيَّةٌ نَادِرَةٌ مِنْ دَارِ آل فلان لا يَرُدُّهَا شَيْءٌ حَتَّى دَخَلَتْ بَيْنَ
والبدع: بدعة في العبادات، وبدعة في المعاملات
أَضْعَافِ النَّاسِ فَافْتَرَقَ النَّاسُ فَأَخَذَتْهُ بَيْنَ قَوَائِمِهَا فَلَمْ تَزَلْ تَتَخَبَّطُهُ حَتَّى مَاتَ، قَالَ: فَلَقَدْ رَأَيْتُ النَّاسَ يَسْتَعْدُونَ وَرَاءَ سَعْدٍ يَقُولُونَ: اسْتَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَكَ يَا أَبَا إِسْحَاقَ1. وَعَنْ مُصْعَبٍ نَحْوُهُ. وَرَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عَنْ سَعِيدِ الْمُسَيَّبِ نَحْوَهُ2، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ إِنْكَارِ الصَّحَابَةِ عَلَيْهِمْ، وَكَانَ الصَّحَابَةُ رضي الله عنهم لَا يَخَافُونَ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ. رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ آمِينَ. فَصْلٌ: ثُمَّ تَنْقَسِمُ الْبِدَعُ بِحَسَبِ مَا تَقَعُ فِيهِ إِلَى: بِدْعَةٍ فِي الْعِبَادَاتِ. وَبِدْعَةٍ فِي الْمُعَامَلَاتِ. فَالْبِدَعُ فِي الْعِبَادَاتِ قِسْمَانِ أَيْضًا: الْأَوَّلُ: التَّعَبُّدُ بِمَا لَمْ يَأْذَنِ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُعْبَدَ بِهِ الْبَتَّةَ، كَتَعَبُّدِ جَهَلَةِ الصُّوفِيَّةِ بِآلَاتِ اللَّهْوِ وَالرَّقْصِ وَالصَّفْقِ وَالْغِنَاءِ وَأَنْوَاعِ الْمَعَازِفِ، وَغَيْرِهَا مِمَّا هُمْ فِيهِ مُضَاهِئُونَ فِعْلَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ: {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} [الْأَنْفَالِ: 35] . وَالثَّانِي: التَّعَبُّدُ بِمَا أَصْلُهُ مَشْرُوعٌ وَلَكِنْ وُضِعَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، كَكَشْفِ الرَّأْسِ مَثَلًا هُوَ فِي الْإِحْرَامِ عِبَادَةٌ مَشْرُوعَةٌ، فَإِذَا فَعَلَهُ غَيْرُ الْمُحْرِمِ فِي الصَّوْمِ أَوْ فِي الصَّلَاةِ أَوْ غَيْرِهَا بِنِيَّةِ التَّعَبُّدِ كَانَ بِدْعَةً مُحَرَّمَةً، وَكَذَلِكَ فِعْلُ سَائِرِ الْعِبَادَاتِ الْمَشْرُوعَةِ فِي غَيْرِ مَا شُرِعَتْ فِيهِ كَصَلَوَاتِ النَّفْلِ فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ، وَكَصِيَامِ الشَّكِّ وَالْعِيدَيْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَنَسٍ فِي الرَّجُلِ الَّذِي رَآهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَمْشِي بَيْنَ ابْنَيْهِ فَقَالَ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنْ تَعْذِيبِ هَذَا نَفْسَهُ" 3.
وَفِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَرَّ وَهُوَ يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ بِإِنْسَانٍ يَقُودُ إِنْسَانًا بِخِزَامَةٍ فِي أَنْفِهِ فَقَطَعَهَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِيَدِهِ ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ يَقُودَهُ بِيَدِهِ1. وَفِيهِ عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: بَيْنَا النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يخطب إذ هُوَ بَرْجَلٍ قَائِمٍ فَسَأَلَ عَنْهُ فَقَالُوا: أَبُو إِسْرَائِيلَ، نَذَرَ أَنْ يَقُومَ وَلَا يَقْعُدَ وَلَا يَسْتَظِلَّ وَلَا يَتَكَلَّمَ وَيَصُومَ، فَقَالَ النَّبِيُّ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مُرْهُ فَلْيَتَكَلَّمْ وَلْيَسْتَظِلَّ وَلْيَقْعُدْ وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ" 2 فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِإِتْمَامِ الصَّوْمِ الَّذِي هُوَ عِبَادَةٌ مَشْرُوعَةٌ وُضِعَتْ فِي مَحَلِّهَا، وَإِلْغَاءِ قِيَامِهِ وَسُكُوتِهِ لِكَوْنِهِ وَإِنْ كَانَ عِبَادَةً فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ لَكِنْ لَيْسَ هَذَا مَحَلَّهُ، وَأَمَرَهُ بِالِاسْتِظْلَالِ لِكَوْنِ عَدَمِهِ لَيْسَ بِعِبَادَةٍ مَشْرُوعَةٍ. وَفِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا سُئِلَ عَنْ رجل نذر أن لا يَأْتِيَ عَلَيْهِ يَوْمٌ إِلَّا صَامَ فَوَافَقَ يَوْمَ الْأَضْحَى أَوِ الْفِطَرِ فَقَالَ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الْأَحْزَابِ: 21] لَمْ يَكُنْ يَصُومُ يَوْمَ الْأَضْحَى وَالْفِطَرِ وَلَا يَرَى صِيَامَهُمَا3. وَعَنْ زِيَادِ بْنِ جَبْرٍ قَالَ: كُنْتُ مَعَ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَسَأَلَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: نَذَرْتُ أَنْ أَصُومَ كُلَّ يَوْمِ ثُلَاثَاءَ أَوْ أَرْبِعَاءَ مَا عِشْتُ، فَوَافَقْتُ هَذَا الْيَوْمَ يَوْمَ النَّحْرِ، فَقَالَ: أَمَرَ اللَّهُ بِوَفَاءِ النَّذْرِ وَنُهِينَا أَنْ نَصُومَ يَوْمَ النَّحْرِ، فَأَعَادَ, فَأَعَادَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: مِثْلُهُ لَا يَزِيدُ عَلَيْهِ4.
وَالْمَعْنَى أَنَّ النَّذْرَ قُرْبَةٌ مِنَ الْقُرُبَاتِ إِذَا كَانَ مَشْرُوعًا كَصَوْمِ مَا لم ينه عن مِنَ الْأَيَّامِ، فَإِنَّ نَذَرَ صَوْمَ يَوْمٍ مَنْهِيٍّ عَنْهُ كَانَ نَاذِرًا مَعْصِيَةً لَا طَاعَةً، وَقَدْ قَالَ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ولا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ" 1 وَقَالَ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ" 2. وَعَنْ عَطَاءٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَرْسَلَ إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ فِي أَوَّلِ مَا بُويِعَ لَهُ: إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُؤَذَّنُ بِالصَّلَاةِ يَوْمَ الْفِطْرِ، وَإِنَّمَا الْخُطْبَةُ بَعْدَ الصَّلَاةِ. قَالَ ذَلِكَ رَدًّا لِبِدْعَةِ الْمَرْوَانِيَّةِ فِي ذَلِكَ3. وَفِيهِ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ أَوَّلَ مَا نَبْدَأُ فِي يَوْمِنَا هَذَا أَنْ نُصَلِّيَ، ثُمَّ نَرْجِعُ فَنَنْحَرُ. فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ أَصَابَ سُنَّتَنَا، وَمَنْ نَحَرَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَإِنَّمَا هُوَ لَحْمٌ قَدَّمَهُ لِأَهْلِهِ، لَيْسَ مِنَ النُّسُكِ فِي شَيْءٍ" 4 الْحَدِيثَ. وَفِيهِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إِلَى نِسَاءِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ؟ فَقَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ, وَلَا أُفْطِرُ, وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ, فَلَا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا, فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: "أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا؟ أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي" 5.
وَقَالَ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ" 1. وَقَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِلَّذِينِ صَامُوا بَعْدَ أَمْرِهِ بِالْإِفْطَارِ "أُولَئِكَ الْعُصَاةُ، أُولَئِكَ الْعُصَاةُ" 2، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ فِي هَذَا الْبَابِ، مَا لَا يُحْصَى، وهذا مثال يد عَلَى مَا بَعْدَهُ. ثُمَّ الْبِدْعَةُ الْوَاقِعَةُ في العبادة قد تَكُونُ مُبْطِلَةً لِلْعِبَادَةِ الَّتِي تَقَعُ فِيهَا لِمَنْ صَلَّى الرُّبَاعِيَّةَ خَمْسًا، أَوِ الثُّلَاثِيَّةَ أَرْبَعًا، أَوِ الثُّنَائِيَّةَ ثَلَاثًا، وَمَا شَابَهَ ذَلِكَ. وَقَدْ تَكُونُ مَعْصِيَةً وَلَا تُبْطِلُ الْعَمَلَ الَّذِي تَقَعُ فِيهِ كَالْوُضُوءِ أَرْبَعًا أَرْبَعًا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ فِي الْوُضُوءِ الْمَشْرُوعِ: "فَمَنْ زَادَ عَلَى هَذَا فَقَدْ أَسَاءَ وَتَعَدَّى وَظَلَمَ" 3 وَلَمْ يَقُلْ: فقد بطل وضوؤه، وَكَذَا قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا مَنْهِيٌّ عَنْهُ شَرْعًا وَلَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ. وَالْبِدْعَةُ فِي الْمُعَامَلَاتِ: كَاشْتِرَاطِ مَا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا فِي سُنَّةِ رَسُولِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: جَاءَتْ بَرِيرَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقَالَتْ: إِنِّي كَاتَبْتُ أَهْلِي عَلَى تِسْعِ أَوَاقٍ فِي كُلِّ عَامٍ أُوقِيَّةٌ فَأَعِينِينِي، فَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: إِنْ أَحَبَّ أَهْلُكِ أَعُدُّهَا لَهُمْ عَدَّةً وَاحِدَةً وَأُعْتِقُكِ فَعَلْتُ وَيَكُونُ وَلَاؤُكِ لِي، فَذَهَبَتْ إِلَى أَهْلِهَا؛ فَأَبَوْا ذَلِكَ عَلَيْهَا. فَقَالَتْ: عَرَضْتُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَأَبَوْا إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْوَلَاءُ لَهُمْ, فَسَمِعَ بِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَسَأَلَنِي فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: "خُذِيهَا فَأَعْتِقِيهَا وَاشْرُطِي لَهُمُ الْوَلَاءَ فَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ" فَقَالَتْ عَائِشَةُ: فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: "أَمَّا بَعْدُ فَمَا بَالُ رِجَالٍ مِنْكُمْ
يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَأَيُّمَا شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ، فَقَضَاءُ اللَّهِ حَقٌّ وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ. مَا بَالُ رِجَالٍ مِنْكُمْ يَقُولُ أَحَدُهُمْ: أَعْتِقْ يَا فُلَانُ وَلِي الْوَلَاءُ، إِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ" 1 وَأَمْثَالُهُ كَثِيرَةٌ.
كل ما وقع فيه الخلاف يحتكم فيه إلى الكتاب والسنة
كُلُّ مَا وَقَعَ فِيهِ الْخِلَافُ يُحْتَكَمُ فِيهِ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ: "وَكُلُّ مَا فِيهِ الْخِلَافُ" بَيْنَ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ "نَصَبَ" مِنْ فُرُوعِ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ "فَرَدُّهُ" أَيِ: الْمُخْتَلَفُ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ "إِلَيْهِمَا" أَيْ: إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ "قَدْ وَجَبَ" عَلَى الْمُعْتَبِرِ، قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النِّسَاءِ: 59] وَالرَّدُّ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى هُوَ الرَّدُّ إِلَى كِتَابِهِ وَإِلَى الرَّسُولِ إِلَى سُنَّتِهِ بَعْدَ انْقِطَاعِ الْوَحْيِ، فَمَا وَافَقَهُمَا قُبِلَ وَمَا خَالَفَهُمَا رُدَّ عَلَى قَائِلِهِ كَائِنًا مَنْ كَانَ "فَالدِّينُ" الْإِسْلَامُ وَشَرَائِعُهُ "إِنَّمَا أَتَى" حَصَلَ بَيَانُهُ "بِالنَّقْلِ" عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ "لَيْسَ" هُوَ "بِالْأَوْهَامِ" مِنْ آحَادِ الْأُمَّةِ "وَحَدْسِ" تَخْمِينِ "الْعَقْلِ"، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ أَرْجَحُ الْخَلَائِقِ عَقْلًا وَأَوْلَاهُمْ بِكُلِّ صَوَابٍ: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النِّسَاءِ: 105] الْآيَاتِ، وَلَمْ يَقُلْ بِمَا رَأَيْتَ. وَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الْإِسْرَاءِ: 36] وَقَالَ تَعَالَى لَهُ: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الزُّخْرُفِ: 43] وَأَمْثَالُ هَذَا مِنَ الْآيَاتِ مَا لَا يُحْصَى. وَتَقَدَّمَ فِي الْأَحَادِيثِ جُمْلَةً وَاحِدَةً. وَأَنَّهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَا يَقُولُ فِي التَّشْرِيعِ إِلَّا عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلِهَذَا لَمْ يُجِبِ الْيَهُودَ فِي سُؤَالِهِمْ إِيَّاهُ عَنِ الرُّوحِ، وَلَا جَابِرًا فِي سُؤَالِهِ عَنْ مِيرَاثِ الْكَلَالَةِ، وَالْمُجَادِلَةَ فِي سُؤَالِهَا عَنْ حُكْمِ الظِّهَارِ حَتَّى نَزَلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ بِتَفْصِيلِ ذَلِكَ وَبَيَانِهِ، وأمثال هذا كثير {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الْفُرْقَانِ: 33] وَفِي قِصَّةِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَفِيهِ قَالَ: فَعَمِلْتُ لِذَلِكَ أَعْمَالًا1.
وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ حُنَيْفٍ: اتَّهِمُوا الرَّأْيَ فِي دِينِكُمْ، لَقَدْ رَأَيْتُنِي يَوْمَ أَبِي جَنْدَلٍ وَلَوْ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَرُدَّ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَرَدَدْتُهُ1. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَوْ كَانَ الدِّينُ بِالرَّأْيِ لَكَانَ أَسْفَلُ الْخُفِّ أَوْلَى بِالْمَسْحِ مِنْ أَعْلَاهُ، وَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَمْسَحُ عَلَى ظَاهِرِ خُفِّهِ2. وَأَفْتَى عُمَرُ السَّائِلَ الثَّقَفِيَّ فِي الْمَرْأَةِ الَّتِي حَاضَتْ بَعْدَ أَنْ زَارَتِ الْبَيْتَ يَوْمَ النَّحْرِ أَنْ لَا تَنْفِرَ، فَقَالَ لَهُ الثَّقَفِيُّ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَفْتَانِي فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَرْأَةِ بِغَيْرِ مَا أَفْتَيْتَ بِهِ، فَقَامَ إِلَيْهِ عُمَرُ يَضْرِبُهُ بِالدِّرَّةِ وَيَقُولُ لَهُ: لِمَ تَسْتَفْتِينِي فِي شَيْءٍ قَدْ أَفْتَى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَفْتَى بِأَشْيَاءَ فَأَخْبَرَهُ بَعْضُ الصَّحَابَةِ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِخِلَافِهِ، فَانْطَلَقَ عَبْدُ اللَّهِ إِلَى الَّذِينَ أَفْتَاهُمْ فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ4. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العزيز: لا رأي لِأَحَدٍ مَعَ سُنَّةٍ سَنَّهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ5. وَالْآثَارُ فِي هَذَا عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَا تُحْصَى. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى أَنَّ مَنِ اسْتَبَانَتْ لَهُ سُنَّةٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَدَعَهَا لِقَوْلِ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ6. وَصَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَا قَوْلَ لِأَحَدٍ مَعَ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ7. وَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: إِذَا وَجَدْتُمْ فِي كِتَابِي
خِلَافَ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقُولُوا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَدَعُوا مَا قُلْتُ. وَفِي لَفْظٍ: فَاضْرِبُوا بِقَوْلِي عُرْضَ الْحَائِطِ1. وَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: إِذَا وَجَدْتُمْ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خِلَافَ قَوْلِي فَخُذُوا بِالسُّنَّةِ وَدَعُوا قَوْلِي فَإِنِّي أَقُولُ بِهَا2. وَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: كُلُّ مَسْأَلَةٍ تَكَلَّمْتُ فِيهَا صَحَّ الْخَبَرُ فِيهَا عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عِنْدَ أَهْلِ النَّقْلِ بِخِلَافِ مَا قُلْتُ فَأَنَا رَاجِعٌ عَنْهَا فِي حَيَاتِي وَبَعْدَ مَوْتِي3. وَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -وَرَوَى حَدِيثًا- فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: تَأْخُذُ بِهَذَا يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ؟ فَقَالَ: مَتَى رَوَيْتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَدِيثًا صَحِيحًا فَلَمْ آخُذْ بِهِ فَأُشْهِدُكُمْ أَنَّ عَقْلِي قَدْ ذَهَبَ. وَأَشَارَ بِيَدِهِ عَلَى رُءُوسِهِمْ4. وَسَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَأَفْتَاهُ وَقَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَذَا، فَقَالَ الرَّجُلُ: أَتَقُولُ بِهَذَا؟ قَالَ: أَرَأَيْتَ فِي وَسَطِي زُنَّارًا؟ أَتُرَانِي خَرَجْتُ مِنَ الْكَنِيسَةِ؟ أَقُولُ قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَتَقُولُ لِي أَقُولُ بِهَذَا!! أَرْوِي عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلَا أَقُولُ بِهِ5؟! وَفِي لَفْظٍ: فَارْتَعَدَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَاصْفَرَّ لَوْنُهُ وَقَالَ: وَيْحَكَ، أَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي وَأَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي إِذَا رَوَيْتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شَيْئًا فَلَمْ أَقُلْ بِهِ. نَعَمْ عَلَى الرَّأْسِ وَالْعَيْنَيْنِ6. وَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: مَا مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَتَذْهَبُ عَلَيْهِ سُنَّةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَتَعْزُبُ عَنْهُ، فَمَهْمَا قُلْتُ مِنْ قَوْلٍ وَأَصَّلْتُ فِيهِ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خِلَافَ مَا قُلْتُ فَالْقَوْلُ مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ قَوْلِي7. وَجَعَلَ يُرَدِّدُ هَذَا الْكَلَامَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَيْضًا: لَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا نَسَبَتْهُ الْعَامَّةُ أَوْ نَسَبَ نَفْسَهُ إِلَى عِلْمٍ يُخَالِفُ فِي أَنَّ فَرْضَ اللَّهِ تَعَالَى اتباع أمر سول اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالتَّسْلِيمَ لِحُكْمِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ لِأَحَدٍ بَعْدَهُ إِلَّا اتِّبَاعَهُ، وَأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ قَوْلُ رَجُلٍ قَالَ إِلَّا بِكِتَابِ اللَّهِ أَوْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَنَّ مَا سِوَاهُمَا تَبَعٌ لَهُمَا، وَأَنَّ فَرْضَ اللَّهِ عَلَيْنَا
وَعَلَى مَنْ بَعْدَنَا وَقَبْلَنَا فِي قَبُولِ الْخَبَرِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَاحِدٌ لَا يُخْتَلَفُ فِيهِ1. وَقَالَ الرَّبِيعُ سَأَلْتُ الشَّافِعِيَّ عَنِ الطِّيبِ قَبْلَ الْإِحْرَامِ بِمَا يَبْقَى رِيحُهُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ وَبَعْدَ رَمْيِ الْجَمْرَةِ وَالْحِلَاقِ وَقَبْلَ الْإِفَاضَةِ، فَقَالَ: جَائِزٌ وَأُحِبُّهُ وَلَا أَكْرَهُهُ، لِثُبُوتِ السُّنَّةِ فِيهِ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالْأَخْبَارِ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ. فَقُلْتُ: وَمَا حُجَّتُكَ فِيهِ؟ فَذَكَرَ الْأَخْبَارَ فِيهِ وَالْآثَارَ ثُمَّ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ سَالِمٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَنْ رَمَى الْجَمْرَةَ فَقَدْ حَلَّ لَهُ مَا حُرِّمَ عَلَيْهِ إِلَّا النِّسَاءَ وَالطِّيبَ. فَقَالَ سَالِمٌ وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: طَيَّبْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِيَدَيَّ. وَسُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَحَقُّ أَنْ تُتَّبَعَ2. قَالَ: وَهَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الصَّالِحُونَ وَأَهْلُ الْعِلْمِ، فَأَمَّا مَا تَذْهَبُونَ إِلَيْهِ مِنْ تَرْكِ السُّنَّةِ وَغَيْرِهَا, وَتَرْكِ ذَلِكَ لِغَيْرِ شَيْءٍ بَلْ لِرَأْيِ أَنْفُسِكُمْ فَالْعِلْمُ إِذًا إِلَيْكُمْ تَأْتُونَ مِنْهُ مَا شِئْتُمْ وَتَدَعُونَ مَا شِئْتُمْ. وَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: مَنْ تَبِعَ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَافَقْتُهُ، وَمَنْ خَلَّطَ فَتَرَكَهَا خَالَفْتُهُ. صَاحِبِي الَّذِي لَا أُفَارِقُ الْمُلَازِمُ الثَّابِتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَإِنْ بَعُدَ، وَالَّذِي أُفَارِقُ هُوَ مَنْ لَمْ يَقُلْ بِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَإِنْ قَرُبَ. وَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي خُطْبَةِ كِتَابِ "إِبْطَالِ الِاسْتِحْسَانِ": الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى جَمِيعِ نِعَمِهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ وَكَمَا يَنْبَغِي لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ بَعَثَهُ بِكِتَابٍ عَزِيزٍ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مَنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ، فَهَدَى بِكِتَابِهِ ثُمَّ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ، ثُمَّ أَنْعَمَ عَلَيْهِ وَأَقَامَ الْحُجَّةَ عَلَى خَلْقِهِ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ، وَقَالَ: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً} [النَّحْلِ: 89] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النَّحْلِ: 44] وَفَرَضَ عَلَيْهِمُ اتِّبَاعَ مَا أَنْزَلَ إِلَيْهِمْ وَسَنَّ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الْأَحْزَابِ: 36] فَاعْلَمْ أَنَّ مَعْصِيَتَهُ فِي تَرْكِ أَمْرِهِ وَأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُمْ إِلَّا اتِّبَاعَهُ، وَكَذَلِكَ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ} [الشُّورَى: 52-53] مَعَ مَا عَلَّمَ نَبِيَّهُ. ثُمَّ فَرَضَ اتِّبَاعَ كِتَابِهِ فَقَالَ: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ} [الزُّخْرُفِ: 43] وَقَالَ: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [الْمَائِدَةِ: 49] وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّهُ كَمَّلَ لَهُمْ دِينَهُمْ فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [الْمَائِدَةِ: 3] . إِلَى أَنْ قَالَ: ثُمَّ مَنَّ عَلَيْهِمْ بِمَا آتَاهُمْ مِنَ الْعِلْمِ فَأَمَرَهُمْ بِالِاقْتِصَارِ عَلَيْهِ وَأَنْ لَا يَقُولُوا غَيْرَهُ إِلَّا مَا عَلَّمَهُمْ فَقَالَ لِنَبِيِّهِ: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} [الشُّورَى: 52] وَقَالَ لِنَبِيِّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} [الْأَحْقَافِ: 9] وَقَالَ لِنَبِيِّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الْكَهْفِ: 23] ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَى نَبِيِّهِ أَنَّهُ غَفَرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ وَرِضْوَانَهُ عَنْهُ وَأَنَّهُ أَوَّلُ شَافِعٍ وَمُشَفَّعٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَسَيِّدُ الْخَلَائِقِ وَقَالَ لِنَبِيِّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الْإِسْرَاءِ: 36] وَجَاءَهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَجُلٌ فِي امْرَأَةِ رَجُلٍ رَمَاهَا بِالزِّنَا فَقَالَ لَهُ: يَرْجِعُ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ آيَةَ اللِّعَانِ فَلَاعَنَ بَيْنَهُمَا، وَقَالَ: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النَّمْلِ: 65] وَقَالَ: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} [لُقْمَانِ: 34] الْآيَةَ، وَقَالَ لِنَبِيِّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا} [النَّازِعَاتِ: 42] فَحَجَبَ عَنْ نَبِيِّهِ عِلْمَ السَّاعَةِ، وَكَانَ مَنْ عَادَى مَلَائِكَةَ الله المقربين وأنبيائه الْمُصْطَفِينَ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ أَقْصَرَ عِلْمًا مِنْ مَلَائِكَتِهِ وَأَنْبِيَائِهِ، وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَرَضَ عَلَى خَلْقِهِ طَاعَةَ نَبِيِّهِ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُمْ مِنَ الْأَمْرِ شَيْئًا. وَكَلَامُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرٌ مَشْهُورٌ مَذْكُورٌ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مِنْ تَحْكِيمِ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَطَرْحِ مَا خَالَفَهُمَا هُوَ الَّذِي نَطَقَا بِهِ وَصَرَّحَتْ
بِهِ نُصُوصُهُمَا وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ كَمَا حُكِيَ إِجْمَاعُهُمْ هُوَ وَغَيْرُهُ وَكَمَا هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ سِيرَتِهِمْ فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ، وَنُصُوصُهُمْ فِي هَذَا الْبَابِ مِلْءُ الدُّنْيَا، وَتَصَانِيفُهُمْ فِي ذَلِكَ قَدْ طَبَّقَتْ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا، وَلَوْ رَأَوْا مَا عَلَيْهِ مُقَلِّدُوهُمْ فِي هَذَا الْوَقْتِ لَتَبَرَّءُوا مِنْهُمْ وَمَقَتُوهُمْ أَشَدَّ الْمَقْتِ، فَإِنَّهُمْ لَيْسُوا عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ، وَلَا اهْتَدَوْا إلى ما أرشدوهم إِلَيْهِ، بَلِ اخْتَلَفُوا اخْتِلَافًا شَدِيدًا وَافْتَرَقُوا افْتِرَاقًا بَعِيدًا، وَكُلٌّ مِنْهُمْ يَحْصُرُ الْحَقَّ فِي إِمَامِهِ وَيَرَى مَا خَالَفَهُ بَاطِلًا، وَيَرَى سَائِرَ أَهْلِ الْعِلْمِ مَفْضُولِينَ وَإِمَامَهُ فَاضِلًا، وَإِذَا خالف مذهبه نصا ضَرَبَ لَهُ الْأَمْثَالَ، وَتَكَلَّفَ لَهُ التَّأْوِيلَ الْمُحَالَ، وَيُقَابِلُهُ الْآخَرُ بِمِثْلِ ذَلِكَ، فَهُمْ بَيْنَ رَادٍّ وَمَرْدُودٍ وَحَاسِدٍ وَمَحْسُودٍ، وَكَانَ فِيهِمْ شَبَهٌ مِنَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ: {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الرُّومِ: 32] ، وَلَمْ يَعْلَمْ هَؤُلَاءِ الْمَسَاكِينُ أَنَّ سَلَفَهُمُ الصَّالِحَ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ الِاقْتِدَاءَ بِهِمْ كَانُوا أَبْعَدَ مِنْ هَذِهِ الصِّفَةِ بُعْدَ مَا بَيْنَ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ، بَلْ كَانُوا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ أَجَلَّ شَأْنًا وَأَكْمَلَ إِيمَانًا مِنْ أَنْ يُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، بَلْ هُمْ تَبَعٌ لَهُ فِي أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ، وَلَنُصُوصُ الشَّرْعِ أَعْظَمُ عِنْدَهُمْ مِنْ أَنْ يُقَدِّمُوا عَلَيْهَا آرَاءَ الرِّجَالِ، وَهِيَ أَجَلُّ قَدْرًا فِي صَدُّورِهُمْ مِنْ أَنْ تُضْرَبَ لَهَا الْأَمْثَالُ، وَأَعْلَى مَنْزِلَةً مِنْ أَنْ تُدْفَعَ بِالْأَقْيِسَةِ وَالتَّأْوِيلِ الْمُحَالِ، وَإِنَّمَا الْمُقْتَدِي بِهِمْ عَلَى الْحَقِيقَةِ مَنِ اقْتَفَى أَثَرَهُمْ وَاتَّبَعَ سِيَرَهُمْ وَحَفِظَ وَصِيَّتَهُمْ وَأَحْيَا سُنَّتَهُمْ فِي طَلَبِ الْحَقِّ وَأَخْذَهُ أَيْنَ وَجَدَهُ، وَالْوُقُوفُ عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ رَسُولِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَمَا بَلَغَتْهُ، فَكَمَا كَانَ اجْتِهَادُ السَّلَفِ رَحِمَهُمُ الله في جمع الْأَدِلَّةِ وَاسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ مِنْهَا فَالْوَاجِبُ عِنْدَ الْخِلَافِ تَتَبُّعُ تِلْكَ الْأَدِلَّةِ وَالِاسْتِنْبَاطَاتِ وَالْأَخْذِ بِالْأَصَحِّ مِنْهَا مَعَ من كان وبيد من وجد، فَإِنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ لَا يُجَزِّئُهُ الِاخْتِلَافُ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أُولَئِكَ الْأَئِمَّةِ يَدْأَبُ فِي طَلَبِهِ جَادًّا مُجْتَهِدًا إِنْ أَصَابَهُ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِنْ أَخْطَأَهُ فَلَهُ أَجْرٌ وَالْخَطَأُ مَغْفُورٌ، وَهَذِهِ أَقْوَالُهُمْ مُدَوَّنَةٌ فِي كُتُبِهِمْ، كُلُّهَا تَذُمُّ الرَّأْيَ فِي الدِّينِ، وَتَحُثُّ مَنْ بَعْدَهُمْ عَلَى اقْتِفَاءِ أَثَرِهِمْ فِي طَلَبِ الْحَقِّ أَيْنَ مَا كَانَ، وَلَمْ يَدْعُ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَى تَقْلِيدِهِ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ مَعْصُومًا وَلَا ادَّعَى ذَلِكَ وَلَا قَالَ: إِنَّ الْحَقَّ مَعِي لَا يُفَارِقُنِي فَتَمَسَّكُوا بِمَا أَقُولُ وَأَفْعَلُ، وَلَا كَانَ لِأَحَدٍ مِنْهُمُ الْتِزَامُ قَوْلِ أَحَدٍ مِنْ آحَادِ الْأُمَّةِ لَا
مِمَّنْ هُوَ مِثْلُهُمْ وَلَا مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُمْ فَضْلًا عَمَّنْ هُوَ دُونَهُمْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يَلْتَزِمُوهُ فِيمَا خَالَفَ النَّصَّ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْهُ أَوْ لَمْ يَسْتَحْضِرْهُ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ خَيْرًا لَسَبَقُونَا إِلَيْهِ، بَلْ كَانَ إِمَامُ الْجَمِيعِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الَّذِي بَيَّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ، وَيَتَّبِعُونَ آثَارَهُ مِنَ الْأَفْعَالِ والأقوال والتقريرات يتلقنونها مِنْ حُفَّاظِهَا مَنْ كَانُوا وَأَيْنَ كَانُوا وَبِيَدِ مَنْ وَجَدُوهَا وَقَفُوا عِنْدَهَا وَلَمْ يَعْدُوهَا إِلَى غَيْرِهَا. وَكَانَتْ طَرِيقَتُهُمْ فِي تَلَقِّي النُّصُوصِ أَنَّهُمْ يَرُدُّونَ الْمُتَشَابِهَ إِلَى الْمُحْكَمِ وَيَأْخُذُونَ مَا يُفَسِّرُ لَهُمُ الْمُتَشَابِهَ وَيُبَيِّنُهُ لَهُمْ فَتَتَّفِقُ مَعَ دَلَالَةِ الْمُحْكَمِ وَتُوَافِقُ النُّصُوصُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَيُصَدِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَإِنَّهَا كُلُّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَلَا اخْتِلَافَ فِيهِ وَلَا تَنَاقُضَ، وَإِنَّمَا الِاخْتِلَافُ وَالتَّنَاقُضُ فِيمَا كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النِّسَاءِ: 82] .
نهاية الخاتمة لمتن "سلم الوصول" وشرحه "معارج القبول"
الْخَاتِمَةُ: ثُمَّ إِلَى هُنَا قَدِ انْتَهَيْتُ ... وَتَمَّ مَا بِجَمْعِهِ عُنِيتُ سَمَّيْتُهُ بِسُلَّمِ الْوُصُولِ ... إِلَى سَمَا مَبَاحِثِ الْأُصُولِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى انْتِهَائِي ... كَمَا حَمِدْتُ اللَّهَ فِي ابْتِدَائِي أَسْأَلُهُ مَغْفِرَةَ الذُّنُوبِ ... جَمِيعِهَا وَالسَّتْرَ لِلْعُيُوبِ ثُمَّ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَبَدَا ... تَغْشَى الرَّسُولَ الْمُصْطَفَى مُحَمَّدَا ثُمَّ جَمِيعَ صَحْبِهِ وَالْآلِ ... السَّادَةِ الْأَئِمَّةِ الْأَبْدَالِ تَدُومُ سَرْمَدًا بِلَا نَفَادِ ... مَا جَرَتِ الْأَقْلَامُ بِالْمِدَادِ ثُمَّ الدُّعَا وَصِيَّةُ الْقُرَّاءِ ... جَمِيعِهِمْ مِنْ غَيْرِ مَا اسْتِثْنَاءِ أَبْيَاتُهَا يُسْرٌ بعد الجمل ... تأريخها الْغُفْرَانُ فَافْهَمْ وَادْعُ لِي "ثُمَّ إِلَى هُنَا" الْإِشَارَةُ إِلَى آخِرِ الْكَلَامِ عَلَى الِاعْتِصَامِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَنَاسَبَ جَعْلُ ذَلِكَ هُوَ الْخَاتِمَةُ بِكَوْنِ الْآيَةِ الَّتِي فِيهَا الْإِشَارَةُ إِلَى ذَلِكَ هِيَ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلْ وهي قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [الْمَائِدَةِ: 3] بَلِ السُّورَةُ كُلُّهَا مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ، وَرُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ جُمْلَةً، وَمِنْ جِهَةِ أَنَّ الِاعْتِصَامَ بِهَا آخَرُ مَا أَوْصَى بِهِ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي خُطْبَتِهِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ ثُمَّ فِي خُطْبَتِهِ فِي غَدِيرِ خُمٍّ ثُمَّ كَانَ مِنْ آخِرِ مَا تَكَلَّمَ بِهِ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنَ الدُّنْيَا. "قَدِ انْتَهَيْتُ" أَيِ: اقْتَصَرْتُ عَلَى هَذَا الْقَدْرِ، وَفِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى كِفَايَةٌ "وَتَمَّ" أَيْ: قَضَى "مَا" أَيِ: الَّذِي "بِجَمْعِهِ" فِي نَظْمِي "عُنِيتُ" اهْتَمَمْتُ لَهُ. "سَمَّيْتُهُ" حِينَ تَمَّ "بِسُلَّمِ" أَيِ: الْمِرْقَاةِ الَّتِي يُصْعَدُ فِيهَا لِأَجَلِ "الْوُصُولِ إِلَى سَمَا" بِتَثْلِيثِ السِّينِ "مَبَاحِثِ" جَمْعُ مَبْحَثٍ وَهُوَ مَا يَحْصُلُ بِهِ فَهْمُ الحكم "الأصول" حمع أَصْلٍ وَهُوَ مَا يُبْنَى عَلَيْهِ, وَالْمُرَادُ بِهَا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ أُصُولِ الدِّينِ، وَهُوَ مَا يجب اعتقاده فيه وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا، وَأَمَّا إِذَا أُضِيفَتْ فَهِيَ بِحَسَبِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ: فَأُصُولُ الْحَدِيثِ عِلْمُ الِاصْطِلَاحِ الَّذِي يُبْحَثُ فِيهِ عَنْ تَفَاصِيلِ أَحْوَالِ السَّنَدِ وَالْمَتْنِ وَأَحْكَامِهَا. وَأُصُولُ الْفِقْهِ عِلْمٌ يُبْحَثُ فِيهِ عَنِ الدَّلِيلِ وَالْمَدْلُولِ وَحَالِ الْمُسْتَدِلِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَأُصُولُ الْعَرَبِيَّةِ وَالنَّحْوِ وَالصَّرْفِ وَالْمَعَانِي.
وَالْبَدِيعِ كُلٍّ بِحَسَبِهِ وَتَعْرِيفِهِ فِي فَنِّهِ. وَقَوْلُنَا: "سَمَا مَبَاحِثِ الْأُصُولِ" وَصْفٌ لَهُ بِالسُّمُوِّ وَهُوَ الْعُلُوُّ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ أَعْلَى الْعُلُومِ وَأَهُمُّهَا وَأَوْجَبُهَا وَأَلْزَمُهَا لِأَنَّهُ مَعْرِفَةُ مَا خَلَقَ اللَّهُ لَهُ الْخَلْقَ وَالدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ وَالْجَنَّةَ وَالنَّارَ، وَبِهِ أَرْسَلَ اللَّهُ الرُّسُلَ وَأَنْزَلَ الْكُتُبَ، وَفِيهِ وَلَهُ شُرِعَ الْجِهَادُ، وَعَلَيْهِ يُرَتَّبُ الْجَزَاءُ مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَحَقِيقٌ بِعِلْمِ هَذَا قَدْرُهُ أَنْ يَكُونَ هُوَ أَوَّلَ مَا يَهْتَمُّ بِهِ الْعَبْدُ وَأَعْظَمَ مَا يَبْذُلُ فِيهِ جُهْدَهُ وَيُنْفِقُ فِيهِ عُمْرَهُ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى ذَلِكَ. وَنَاسِبَ تَسْمِيَةَ الشَّرْحِ بِمَعَارِجِ الْقَبُولِ؛ لِأَنَّ الْعُرُوجَ هُوَ الصُّعُودُ وَالْمَعَارِجُ الْمَصَاعِدُ فَكَانَ الْقَارِئُ فِي هَذَا الشَّرْحِ يصعد في هذا السُّلَّمِ. وَأُضِيفَتِ الْمَعَارِجُ إِلَى الْقَبُولِ لِمُنَاسَبَةِ الْوُصُولِ؛ لِأَنَّ مَنْ لَمْ يُقْبَلْ لَمْ يَصِلْ بَلْ يُرَدُّ أَوْ يَنْقَطِعُ. "وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى" جَزِيلِ النِّعْمَةِ الَّتِي مِنْهَا أَنْ قَدَّرَ "انْتِهَائِي" أي: إتمامي هذا الْمَتْنَ الْمُشْتَمِلَ عَلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَدِينِهِ وَرَسُولِهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "كَمَا حَمِدْتُ اللَّهَ فِي ابْتِدَائِي" فِي نَظْمِهِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَذَلِكَ اقْتِدَاءٌ بِكَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى حَيْثُ افْتَتَحَ ذِكْرَ الْخَلْقِ بِالْأَمْرِ فَقَالَ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [الْأَنْعَامِ: 1] وَخَتَمَ ذِكْرَهُمْ فِيمَا يَنْتَهُونَ إِلَيْهِ مِنَ الدَّارَيْنِ بِالْحَمْدِ فَقَالَ: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يُونُسَ: 10] . "أَسْأَلُهُ" أَيْ: أَسْأَلُ اللَّهَ "مَغْفِرَةَ" أَيْ: مَغْفِرَتَهُ تَعَالَى "الذُّنُوبِ" ذُنُوبِي وَجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْمَغْفِرَةُ سَتْرُ الذَّنْبِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَالْعَفْوُ عَنْهُ وَعَدَمُ الْمُؤَاخَذَةِ بِهِ "جَمِيعِهَا" مِنْ صَغَائِرَ وَكَبَائِرَ، وَالِاسْتِغْفَارُ مِنْ أَعْلَى أَنْوَاعِ الذِّكْرِ "وَالسَّتْرَ" مِنْهُ تَعَالَى "لِلْعُيُوبِ" مِنِّي وَمِنْ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ. "ثُمَّ" عَطَفَ عَلَى الْحَمْدِ وَالِاسْتِغْفَارِ "الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ" تَقَدَّمَ مَعْنَاهُمَا "تَغْشَى الرَّسُولَ الْمُصْطَفَى مُحَمَّدَا" تَغْمُرُهُ مِنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ "ثُمَّ" تَغْشَى "جَمِيعَ صَحْبِهِ وَالْآلِ" تَقَدَّمَ تَعْرِيفَهُمَا "السَّادَةِ" جَمْعُ سَيِّدٍ وَهُوَ النَّقِيبُ الْمُقَدَّمُ "الْأَئِمَّةِ" الْمُقْتَدَى بِهِمْ فِي الدِّينِ "الْأَبْدَالِ" أَوِ الْأَوْلِيَاءِ لِلَّهِ تَعَالَى "تَدُومُ" مُتَوَاصِلَةٌ مُتَوَاتِرَةٌ "سَرْمَدًا" تَأْكِيدًا لِلدَّوَامِ يُفَسِّرُهُ "بِلَا نَفَادِ" فَنَاءٍ وَانْقِطَاعٍ "ما جرت الأقالم بالمداد" أَيْ: عَدَدُ مَا جَرَتْ بِهِ. "ثُمَّ الدُّعَا" لِجَامِعِ هَذَا الْعَقْدِ مَتْنًا وَشَرْحًا "وَصِيَّةَ" مِنْهُ يَلْتَمِسُهُ مِنَ "الْقُرَّاءِ" أَنْ يَدْعُوَ لَهُ بِخَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ "جَمِيعِهِمْ" شَاهِدِهِمْ وَغَائِبِهِمْ مُعَاصِرِيهِ وَمَنْ يَأْتِي بَعْدَ عَصْرِهِ "مِنْ غَيْرِ مَا" صِلَةٌ أَيْ: مِنْ غَيْرِ "اسْتِثْنَاءِ" إِخْرَاجِ أَحَدٍ مِنْهُمْ
مِنْ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ. "أَبْيَاتُهَا" أَيْ: عِدَّتُهَا رَمْزُ حُرُوفِ "يُسْرٌ" وَذَلِكَ مِائَتَانِ وَسَبْعُونَ "بِعَدِّ الْجُمَّلِ" الْحُرُوفِ الْأَبْجَدِيَّةِ الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعَرَبِ، وَبِمَا زِدْتُ فِيهَا أَقُولُ: "أَبْيَاتُهَا الْمَقْصُودُ" أَيِ: الَّذِي فِيهِ الْأَحْكَامُ وَالْمَسَائِلُ "يُسْرٌ فَاعْقِلِ" عَنِّي. "تَأْرِيخُهَا" الَّذِي أُلِّفَتْ فِيهِ رَمْزُهُ حُرُوفُ "الْغُفْرَانُ" وَذَلِكَ أَلْفٌ وَثَلَاثُمِائَةٍ وَاثْنَانِ وَسِتُّونَ، أَيْ: عَامَئِذٍ. نَسْأَلُ اللَّهَ الْغُفْرَانَ "فَافْهَمِ" مَا فِي ذَا الْمُعْتَقَدِ "وَادْعُ لِي" بِصَالِحِ الدَّعَوَاتِ فِي أَوْقَاتِ الْإِجَابَةِ كَمَا أَوْصَيْتُكَ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمَ الصَّدَقَاتِ {إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ} [يُوسُفَ: 88] . اللَّهُمَّ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، يا بديع السموات وَالْأَرْضِ، بِرَحْمَتِكَ نَسْتَغِيثُ. اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ نَرْجُو فَلَا تَكِلْنَا إِلَى أَنْفُسِنَا وَلَا إِلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِكَ طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَأَصْلِحْ لَنَا شَأْنَنَا كُلَّهُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ. اللَّهُمَّ مَغْفِرَتُكَ أَوْسَعُ مِنْ ذُنُوبِنَا، وَرَحْمَتُكَ أَرْجَى عِنْدَنَا مِنْ أَعْمَالِنَا، فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا إِنَّكَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. اللَّهُمَّ مَا كَانَ فِي هَذَا السَّفَرِ مِنْ حَقٍّ وَصَوَابٍ فَبِتَعْلِيمِكَ وَإِلْهَامِكَ، وَفَضْلِكَ وَإِنْعَامِكَ، أَنْتَ أَهْلُهُ وَمُوَلِّيهِ، فَلَكَ الْحَمْدُ كَمَا أَنْتَ أهله، فانفعنا الله بِتَفَهُّمِهِ، وَارْزُقْنَا الْعَمَلَ بِمَا عَلِمْنَا وَجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ, وَمَا كَانَ فِيهِ مِنْ خَطَأٍ وَزَلَلٍ فَمِنْ نَفْسِي وَشَيْطَانِي، فَأَلْهِمْنِي اللَّهُمَّ رُشْدِي، وَأَعِذْنِي مِنْ شَرِّ نفسي، وقيض له مَنْ يُصْلِحُهُ وَيَسُدُّ خَلَلَهُ، وَأَعِذْنِي أَنْ أَضِلَّ عَنْ سَوَاءِ صِرَاطِكَ الْمُسْتَقِيمِ، أَوْ يَضِلَّ بِخَطَئِي أَحَدٌ مِنْ عِبَادِكَ، وَاغْفِرْ لِي وَلِوَالِدِيَّ وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَصَلِّ اللَّهُمَّ عَلَى سيدنا ونبينا محمد عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ سَيِّدِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، وَخَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، وَقَائِدِ الْغُرِّ الْمُحَجَّلِينَ، وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْ آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ أَجْمَعِينَ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَعَنَّا مَعَهُمْ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ وَوَالِدَيْنَا وَإِخْوَانِنَا وَجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ آمِينَ. وَكَانَ الْفَرَاغُ مِنْ تَسْوِيدِهِ نَهَارَ الِاثْنَيْنِ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ السَّادِسَ عَشَرَ مِنْ جُمَادَى الأولى سنة 1366هـ لِلْهِجْرَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ عَلَى صَاحِبِهَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وأتم التسليم.